الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن، ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران) المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان الطبعة: الأولى 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- معترك الأقران في إعجاز القرآن السيوطي الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن، ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران) المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان الطبعة: الأولى 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران) المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى 911 هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 3 تنبيه: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مصدر الكتاب نسخة مصورة قام الشيخ الجليل نافع - جزاه الله خيرا - بتحويلها وقام الفقير إلى عفو ربه الكريم القدير بتصويبه والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. يقول عبيد الله سبحانه عبد الرحمن بن جال الدين السيوطي عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه أرحم الراحمين: الحمد لله الذي جعل معْجزَاتِ هذه الأمَّةِ عَقْلِيَّةً؛ لفَرْطِ ذَكائهم، وكمال أفهامهم، وفَضْلِهم على مَنْ تقدمهم، إذ معجزاتهم حِسيّة لبلاَدتهم، وقلَّةِ بَصِيرتهم، نَحْمَده سبحانه على قوله لرسوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وخَصّه بالإعانةِ على التبليغ فلم يقدر أحدٌ منهم على معارَضَتِه بعد تَحَدِّيهم، وكانوا أَفصحَ الفصحاءِ وأبلَغ البلغاء، وأمهلهم طولَ السنين فعجزوا. وقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) . فأخبر تعالى أَنَّ الكتابَ آية من آياتِه قائمٌ مقامَ معجزاتِ غيره من الأنبياء لفَنَائها بفَنَائهم. وكانوا أحرصَ الناسِ على إطفاء نُورِه، وإخفاء، أمْرِهِ، فلو كان في مقدرتهم معارضَتُه لعدلوا إليها تقويةً لحججهم، بل عَدلوا إلى العِنَادِ تارةً وإلى الاستهزاء أخرى، فتارةً قالوا: ساحِر، وتارة قالوا: أساطيرالأولين. كلّ ذلك مِنْ تَحَيّرِهم، ثم رضوا بتحكيم السَّيْفِ في أعناقهم، وسَبْيِ ذَرَارِيهم، وحُرمهم، واستباحة أموالهم، فنصب لهم الحَرْبَ ونصبوا له، وقتَل مِنْ عِلْيَتِهمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بأن يَاتُوا بسورةٍ واحدة وآياتٍ يسيرة، إذ هي أنْقَض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغُ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعِهِ مِنْ بَذْلِ نفوسهم وخروجهم من أوطانهم، مع أنهم أشدّ الخَلْق أَنَفَةً، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سَيِّدُ عملهم، فحين لم يجدوا حِيلَةً ولا حجًّة قالوا له: أنْتَ تعرف مِنْ حال الأمم ما لا نَعْرِف، فلذلك يمكنُك ما لا يمكننا. فقال لهم: هاتوها مفتريات لتَبْكِيتهم، فلم يرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر، ولا طبع منه أو تكلّفه، ولو تكلَّفَة لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد مَن يستجيره ويحميه، نصْرَةً لدِينهم، بل أظهر الله دينَه، وخرق العادةَ في أسلوبِ كلامهِ وبلاغته وحلاوتهِ، حتى التَذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهْوِ في لهوِهم، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِن الأنبياء نَبِيءٌ إلاّ أعطي من الآيات، ما مثْله آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي أوتيته وَحْياً أوْحَاه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعاً يَوْمَ القيامة ". فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي أدى الأمانةَ، ونصح أمّتَه إلى رشدهم وهدايتهم، فهو أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضِيَ الله تعالى عن أصحابه وأتباعِه الذين نَصَروة بأنفسهم وأموالهم. أما بعد فإنَّ إطلاقَ السَّلَفِ رضي الله عنهم على كلامِ اللهِ أنه محفوظ في الصّدور، مقروءٌ، بالألسنة، مكتوب في المصاحف هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليس يعنون بذلك حلولَ كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك، وإنما يريدون أنَّ كلامَه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان، وكلام الجَنَان، وكتابة البنَان، فهو موجود فيها حقيقة وعِلْماً لا مدلولاً، لأنَّ الشيءَ له وجودات أربع: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، ووجود في اللسان، ووجود بالبَنَان، أي بالكتابة بالأصابع، فالوجودُ الأول الذات الحقيقي، وسائر الوجَودات إنما هي باعتبار الدلالة والفَهْم. وبهذا تعرف أنَّ التلاوةَ غير المتلوّ، والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب، لأنَّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث، والثاني منها قديم لا نهاية له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وقد أفرد علماؤنا رضيَ الله عنهم بتصنيف إعجاز القرآن، وخاضوا في وجوهِ إعجازِه كثيراً، منهم الخطابي، والرمّاني، والزَّمْلَكاني، والإمام الرازي، وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقِلاني، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين. والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما. وقال الأصبهاني في تفسيره: اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين: أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه. والثاني بصرف الناس عن معارضته، فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه. أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم، قال تعالى: (قرْآناً عَرَبِيًّا) . (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ) . ولا بمعانيه، فإن كثيراً منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) . وما هو في القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد،والإخبار بالغيب، فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم، ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بالمغيب سواء كان بهذا النظم أو بغيره، مورَداً بالعربية أو بلغة أخرى، بعبارة أو إشارة، فإذاً فالنظم المخصوص صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصره، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالقرط والخاتم والسوار، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها، لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد، فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتماً،وإن كان العنصر مختلفاً. وإن اتخذ خاتم وقرْط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا. قال: فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المحصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وبيان كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لما عداه من النظم. فنقول: مراتب تأليف الكلام خمس: الأول: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف. والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض، فتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جيعأ في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام. والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مَبَادٍ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم. والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له السجع. والخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن، ويقال له الشعر. والمنظوم إما محاورة، ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة، فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص. والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم لشيء منها، يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم. ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظْم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى. قال: وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضاً إذا اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة كانت محمودة أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية واتفاقات فعلية، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مباشرتها، فيقبلها بانشراح صدر ويزاولها بقلبه. فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهياً صرفهم عن ذلك. وأيُّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة، مصروفة في الباطن عنها. فإن قلت: هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة أم لا؟ فالجواب ظهور ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذلك، ضرورة، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال. قال أبو الحسن الأشعري: والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ. فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله. فإن قلت: إنما وقع العجز في الإنس دون الجن؟ فالجواب أن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله تعالى: (قلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنْس وَالْجِنّ. .. ) تعظيما لشأنه، لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرِض إجماع الثقلين، وظاهر بعضهم بعضا، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز. وقال بعضهم: بل وقع للجن أيضاً والملائكة منويون في الآية، لأنهم لا يقدرون أيضاً على الإتيان بمثل القرآن. وقال الرُّماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر في الآية على ذكر الجن والإنس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فإن قلت: قد قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) . وقد وجدنا فيه اختلافا وتفاوتا في الفصاحة، بل نجد فيه الأفصح والفصيح. والجواب أنه لو جاء القرآن على غير ذلك لكان على غير النمَط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتم الحجة في الإعجاز، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلاً: أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري، لأنه يقول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادراً على النظر، وكان نظري أقوى من نظرك، فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح مني المعارضة. وقيل: إن الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون - مع أن الشعر الموزون من الكلام رتْبَته فوق رتبة غيره - إن القرآن منبع الحق، وجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخييل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق، وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عنه، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب: شِعْريّة. وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متَدَيِّن صادق اللهجة مُفْلق في شعره، وأما ما وجِد في القرآن مما صورته صورة الموزون فالجواب عنه أنْ ذلك لا يسمى شعراً، لأن من شرط الشعر القصد، ولو كان شعراً لكان من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعراً، فكان الناس كلهم شعراء، لأنه قل أن يخلو كلام أحد عن ذلك. وقد ورد ذلك على الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته والطعن عليه، لأنهم كانوا أحرص شيء على ذلك، وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصْوى في الانسجام. وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعراً. وأقل الشعر بيتان "فصاعدا. وقِيل الرجز لا يسمى شعراً أصلا. وقيل:أقل ما يكون من الرجز شعراً أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قال الغزالي: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه بعضه بعضاً، أو لا يشبه أوله آخره، أو بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، وهو مختلف النّظْم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منَزة عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم يناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق بمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفُهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمراسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، ثم في أصل الفصاحة، حتى يشتمل على الغَثّ والسمين، ولا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأغراض على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يذمون الجبْنَ ويسمونه ضَعْفاً، وتارة يمدحونه ويسمونه حزماً، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة، وتارة يذمونها ويسمونها تهوراً. ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض والأحوال. والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافاً في كلامه بالضرورة، فلا يصادَف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة - وفي مدة نزول القرآن - فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بشراً تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فإن قلت: هل يقال إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟ فالجواب ليس شيء من ذلك معجزاً في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب. وإنما لم يكن معجزاً لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز. وقد ذكر ابن جنيّ في الخاطريات في قوله تعالى: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) . أن العدول عن قوله: وإما أن نلقي لغرضين: أحدهما - لفظي، وهو المزاوجة لرؤوس الآي. والثاني - معنوي، وهو أنه تعالى أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم على موسى، فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منهم في إسنادهم الفعل إليه. تم أورد سؤالا، وهو أنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان، فنذهب بهم هذا المذهب من صنعَة الكلام. وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو معرَّب عن معانيهم، وليس هو بحقيقة ألفاظهم. ولهذا لا يشك أن قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) . إن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم. قال أبو حيان التوحيدي: سئل بُندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن، فقال: هذه مسألة فيها حَيْف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولكم موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقدت حقيقته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا ئشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوِله، وأهدى لقائله، وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده. فإذا علمت عَجْزَ الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟ لكنا نذكر بعضها تَطَفلآَ على من سبق، فإن كنتُ لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعَدّ من فرسانهم لعَمْرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن كانت بعض الأوجه لا تعد عن إعجازه فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك. فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه في دار كرامته بخلق سَمْع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم، فإنه منعه في هذه الحياة الدنيوية لذيذَ المناجاة له بسبب ذنوبه، مصداقه قوله تعالى: (سأصْرِف عَنْ آياتِي الّذِينَ يتَكَبَّرونَ فِي الْأرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) . وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى عليه السلام أنه كان يسد أذنيه لئلا يسمع كلام الخلق، إذ صار عنده أشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة، حتى لم يكن يستطيع سماعه بِحِدْثان ما ذاق من اللذات التي لا يحاطنها ولا تكيَّف عند سماع كلام من ليس كمثله شيء جل وعلا. ولولا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن أن يأنس إلى شيء من المخلوقات أبداً، ولما انتفع به أحد، فسبحانه من لطيف، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله! ومن أعجب الأمر في هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدماً محضاً عند اطلاعها من ذي الجلال عما اطلعت عليه، لولا أنه أثبتها وأمسكها، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر - وإن من الأبدال - أنه رأى مرة في نومه حوراء كلمته فبقي نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلاماً إلا تقيأه. فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذي هو من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الناس، إذ لا تجد من يتقيأ من سماع صوت الحمير أو الكلاب، ولو سمعته إثر سماعك أفصح كلام وأعذبه، فكيف نسبة كلام الخلق إلى كلام الخالق الذي جلّ عن المثل في ذاته وصفاته وأفعاله. وقال أيضاً رضي الله عنه: دخلت مسجد نبيء بالإسكندرية بالديمان، فوجدت النبيء المدفون هناك قائماً يصلي، عليه عباءة مخططة، فقال: تقدم فَصَلِّ! قلت له: تقدم أنت فَصَلِّ. قال: إنكم من أمة نبيء لا ينبغي لنا التقدم عليه. قال: قلت له: بحق هذا النبي - وقد وضع فمه على فمي إجلالا للفظة النبي كي لا تبرز في الهواء - قال: فتقدمت وصليت. فانظر إلى هذا المصاب الحالّ بنا في عدم احترامنا لذكر هذا الرسول والكتاب المنزل عليه، فقف به على قدم الاعتذار، واكشف رأس التَجَبّر والاستكبار، ونادِ بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ، لعلك تسمع كلامه إذ تشفعتَ إليه بكلامي فأنت من المقبولين، وتنال بذلك الفوز مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين، وحاشاك نسيان أخيك الجالب لك من أسرار كلامه تعالى ما تزيد فيه حلاوته والنظر فيه يزيدك لى محبة. ******* (من وجوه الإعجاز) الوجه الأول من وجوه إعجازه وكيف لا وقد احتوى على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة. قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكتَاب مِنْ شَيْء) . وقال: (وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتَابَ تِبْيَاناً لكلً شيْء) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: ستكون فتن. قيل: وما المخرج منها، قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. أخرجه الترمذي وغيره. وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن مسعود، قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال البَيْهَقِي: يعني أصول العلم. وأخرج البيهقي عن الحسن، قال: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع علومها أربعة منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة في الفرقان. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن. وقال أيضاً: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لا أحِلّ إلا ما أحلّ الله في كتابه، ولا أحَرِّم إلا ما حرم الله في كتابه ". أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم. وقال سعيد بن خبَيْر: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه إلا وجدتُ مِصْداقه في كتاب الله. وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقال الشافعي أيضاً: لَيْسَتْ تَنْزِل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل علي سبيل الهدى فيها. فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداءً بالسنة، قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة، لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفرض علينا الأخذ بقوله. وقال الشافعي مرة بمكة: سَلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر. وحدثنا سفيان عن مِسْرَ بن كِدَام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل المحرم الزنبور. وأخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشِمَة والمستوشمة، والمتنَمِّصَات والْمُتَفَلِّجات للحسن، المغَيًرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت له: بلغني أنك لعنت كيْتَ وكيت! فقال: ومالي لا ألعن مَنْ لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت: "قد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول". قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. وحكى ابن سرَاقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد، أنه قال: ما شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله عز وجل، فقيل: فأين ذكر الخانات، قال في قوله عز وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) . فهي الخانات. وقال ابن برّجَان: ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قَرب أو بعد، فَهمَه مَنْ فَهمَهُ، وعَمِيَ عنه من عمي، وكذا كل ما حكم أو قضى به، وإنما يدركه الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه. وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهّمه الله، حتى إن بعضهم استنبط عمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) . فإنها رأس ثلاث وستين سورة وأعقبها بالتغابن في فقده. وقال أبن أبي الفضل المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا واهبها والمتكلم بها، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خلا ما استأثر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، حتى قال: لو ضاع لي عِقَال بعير لوجدته في كتاب الله. ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك، من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه، فسمّوا القراء. واعتنى النحاةُ بالمعرب منه والمبنيِّ من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما تعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة. واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظا يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حُكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأعمل كلّ فكره، وقال بمقتضى نظره. واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وقِدَمه، وبقائه، وقدرته وعلمه، وتنزهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين. وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنبطوا منها أحكام اللغات من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار، والنص والظاهر والمجمل، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي، والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه. وأحكمت طائفة صحيحَ النظر وصادقَ الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرَّعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسناً، وسموه بعم الفروع وبالفقه أيضاً. وتَلَمَّحَتْ طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودوّنوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكْر الموت والْمَعَاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار، فصولاً من المواعظ، وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ. واستنْبَط قوم مما فيه من أصول التعبير مثْلَ ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمَان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عزّ عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فَمِنَ الْحِكَم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرْف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: (وَأمُرْ بِالْعُرْفِ) . وأخذ قوم ما في آية المواريث من ذكر السِّهَام وأربابها وغير ذلك، وسموه الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثَّمْن حسابَ الفرائض ومسائل العَوْل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحِكَم الباهرة، في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه المواقيت. ونظر الكتابُ والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحُسْن السياق، والمبادي والمقاطع، والخالص، والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أربابُ الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاماً اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور، والخوف، والهيبة، والأنس والوحشة، والقَبْض والبسط، وما أشبه ذلك - هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه. وقد احتوى على علوم أخَر من علوم الأوائل، مثل، الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك. أما الطبُّ فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة. وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله: (وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) . وعرّفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوثَ الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله: (شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) . ثم زاد على طلب الأجساد طِبَّ القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السماوات والأرض وما بثّ فيها في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة ففي قوله: (انْطَلِقُوا إلى ظِل ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ. ..) . وأما الجدَل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بالموجب والمعارضة، وغير ذلك، شيئاً كثيراً. ومناظرة إبراهيم نُمْرُود ومحاجّته قومه أصل في ذلك عظيم. وأما الجَبْر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مُدَد وأيام وأعوام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة الدنيا، وما مضى، وما بقي، مضروب بعضها في بعض. وأما النِّجامة ففي قوله: (أو أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) . وقد فسره بذلك ابن عباس. وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، كالخياطة في قوله: (وَطَفِقَا يخْصِفَان عليهما) . والحِدَادة: (آتُوني زُبَرَ الحديد) . (وَألَنَّا له الْحَديد) . والبناء في آيات. والنًجارة: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِاعْيُنِنا) . والغَزْل: (نقضَتْ غَزْلَها) . والنسج: (كمثَلِ العَنْكَبُوت اتًخَذَتْ بَيْتًا) . والفِلاَحة: (أفرأيْتُمْ مَا تَحْرُثون) . والصيد في آيات، والغَوْص: (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) . (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) . والصياغة: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) . والزّجَاجَة: (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) . (مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) . والفخارة: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) . والملاحة: (أما السفينة) . والكتابة: (علَّم بالقلم) . والْخَبْز: (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا) والطبخ: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) والغسل: (وثيابك فَطَهرْ) . والقِصَارة: (قال الحواريون) ، وهم القصّارون. والجزارة: (إلا ما ذَكَّيْتُمْ) . والبيع والشراء في آيات. ، الصبغ: (صِبْغَةَ اللهِ) . (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) . والحجارة: (وتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بيوتاً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والكيالة والوزن في آيات. والرّمْي: (وما رمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ) . (وأعِدُّوا لهم ما استطعتُمْ مِنْ قوة) . وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . انتهي من كتاب المرسي ملخصاً. وقال ابن سراقة في وجوه إعجاز القرآن: ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب والجمع والقسمة والضرب، والموافقة والتأليف، والمناسبة والتصنيف، والمضاعفة،ليعلم بذلك أهلُ العلم بالحساب أنه - صلى الله عليه وسلم - صادق في قوله: إن القرآن ليس من عنده، إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تَلَقَّى أهْلَ الحساب وأهلَ الهندسة. وقال الراغب: إن الله تعالى كما جعل نبوءة النبيين بنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - مختتمة وشرائعهم بشرعته من وجه مُنْتَسخة، ومن وجهٍ متممة مكملة جعل كتابه المنزل عليه متضمناً لثمرة كتبه التي أولها: أولئك على هُدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون. وقوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) . وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه - مع قلة الحجم - متضمن للمعنى الجم، بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلات الدنيوية عن استيفائه، كما نبه عليه بقوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) . فهو وإن كان لا يخلو الناظر فيه من نور ما يوريه ونفح ما يوليه: كالْبَدْرِ من حيث التفتَّ رَأيْتَه ... يُهْدِي إلى عينيك نوراً ثاقبا كالشمس في كَبِد السماء وضوءُها ... يَغشى البلاد مشارقاً ومغاربا وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم، قال: قيل لموسى عليه السلام: يا موسى، إنما مثل كتاب أحمد في الكتب المنزلة بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مَخَضْتَه أخرجت زُبْدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف، على عدد كَلِم القرآن مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة ظَهْر وبطن، وحد ومقطع. وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينهما من روابط، وهذا مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله. وأتم علوم القرآن ثلاثة: توحيد. وتذكير. وأحكام. فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات، وصرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله. والتذكير منه الوعد والوعيد، والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن. والأحكام منها التكاليف كلها، وتبيين النافع والضار، والأمر والنهي والندب، ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن، لأن فيها الأقسام الثلاثة. وسورة الإخلاص ثلثه، لاشمالها على أحد الأقسام الثلاثة، وهو التوحيد. قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في كتاب "الإمام في أدلة الأحكام" معظم آي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جليلة. ثم من الآيات ما صرح فيها بالأحكلام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط إما بأن ضَمّ إلى آية أخرى، كاستنباط صحة أنْكِحة الكفار من قوله: (وامرأتُه حَمَّالَةَ الحَطَب) . وصحة صوم الجُنب من قوله: (فَالآنَ بَاشِرُوهُن) ... إلى قوله: (حتى يتبيَّنَ لكم الْخَيْط ... ) الآية. وإما به كاستنباط أنَّ أقلَّ الحَمْلِ ستة أشهر من قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) . مع قوله: (وفِصَالُه في عاميْنِ) . قال: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر، وتارة بالإخبار مثل: (أُحلَّ لكم) . (حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ) . (كُتِبَ عليكم الصيام) . وتارة بما رتب عليها في العاجل والآجل من خير وشر، أو نفع أو ضر. وقد نوعّ الشارعُ ذلك أنواعاً كثيرة، ترغيبا لعباده، وترهيبا وتقريبا إلى أفهامهم، فكل فعل عظَّمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعِلَه لأجله، أو أحبّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أو أحب فاعله أو رَضي به، أو رَضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب، أو أقسم به أو بفاعله، كالإقسام بالشَّفْع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوّامة، أو نَصَبه سببا لذكره لعبده، أو لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنُصْرَة فاعله، أو ببشارته، أو وصف فاعله بالطيّب، أو وصف الفعل بكونه معروفاً، أو نَفَى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نَصبَ سبباً لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول لحصوله، أو وصفه بكونه قُرْبة، أو بصفة مدح، كالحياة والنور والشفاء - فهو دليل على مشروعيته المشركة بين الوجوب والندب. وكلّ فعل طلب الشارع تركه أو ذمه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقَت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله أو الرضا به، أو عن فاعله، أو شبّه فاعله بالبهائم أو الشياطين، أو جعله مانعاً من الهدَى، أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جُعِل سبباً لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس أو نجس، أو بكونه فِسْقا أو إثماً، أو سبباً لإثم أو رجس، أو لَعْن أو غضب، أو زوال نعمة أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة أو خِزْي، أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو الاستهزاء به أو سخريته، أو جعله للَه سبباً لنسيانه فاعله، أو وصَفَ نفسبما بالصبر عليه، أو بالحم، أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعِلَه بخبث أو احتقار، أو نسبَه إلى عمل الشيطان، أو تزيينه أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلماً أو بغياً، أو عدوانا أو إثماً، أو تَبَرَّأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سبباً لخيْبَة فاعله عاجلاً أو آجلاً، أو رتّب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعلَه بأنه عدوّ لله أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه: لا ينبغي هذا أو لا يكون، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أمره بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضادِّه أو بهجر فاعله، أو تلاعَنَ فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض، أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله في شيء أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سبباً للفلاح، أو جعله سبباً لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل: هل أنت منْتَهٍ، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعاداً أو طرداً، أو لفظة قُتل من فعله، أو قاتله الله، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله في الآخرة ولا ينظر إليه ولا يُزَكيه، ولا يصلح عمله ولا يهدي كيْده، أو قيّض له الشيطان، أو جعل سبباً لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل، فهو دليل على المنع من الفعل، ودلالتُه على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة. وتستفاد الإباحة من "لفظ الإحلال، ونفي الجناح والحَرَج والإثم وألمؤاخدة، ومن الإذن فيه والعفو عنه، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، ومن السكوت عن التحريم، ومن الإنكار على من حرم الشيء، ومن الإخبار بأنه خُلِق أو جُعل لنا، والإخبار عن فعل مَنْ قبلنا غير ذام لهم عليه، فإن اقترن بإخبار مَدْحٌ دل على مشروعيته وجوباً أو استحباباً. انتهى كلام الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وقال غيره: وقد يستنبط من السكوت. وقد استدل جماعة على أن القرآن غير مخلوق بأن الله ذبكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً وقال " إنه مخلوق"، وذكر القرآن في أربع وخمسين موضعاً ولم يقل إنه مخلوق. ولما جمع بينهما غاير، فقال: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) . فهذا أحد وجوه إعجازه. ******* الوجه الثاني من وجوه إعجازه كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروسا عن التبديل والتغيير على تطاول الأزمان، بخلاف سائر الكتب. قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . فلم يقدر أحد بحمد الله على التجاسر عليه. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الوجه الثالث من وجوه إعجازه حُسْن تأليفه، والتئام كلمه، فصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادةَ العرب الذين هم فرسانُ الكلام وأربابُ هذا الشأن. فجاء نطقه العجيب، وأسلوبه الغريب مخالفاً لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه، ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصلُ كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له. قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجوه إعجازه أنه بِنَظْمِهِ وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء علماً، وأحاط بالكلام كلِّه علماً، فإذا ترتبَت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أىَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره. والبشَرُ محل الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك، فلذلك جاء نظمُ القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيانُ بذلك، فصُرِفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقّح القصيدة أو الخطبة حَوْلاً، ثم ينظر فيها، ثم يغير فيها، وهلمّ جرّا. وكتابُ الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفَى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة. وقامت الحجةُ على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة، كما كانت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة. عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما تكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمان عيسى، والفصاحة في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه في جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا يقدِرُ عليه أحد من البشر. وكلام العرب ومَنْ تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعترض الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام ورونقهُ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه. قال الجَعْبَرِي: لمعرفة فواصل الآي طريقان: توقيفي وقياسي، أما التوقيفي فما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة. والوصلُ أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها. وأما القياسي فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا محذورَ في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فَصْل أو وصل. والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياسي إلى طريق تعرفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجع في النثر، وقافية البيت في الشعر. ومما يذكر من عيوب القافية من اختلاف المد والإشباع والتَّوْجيه، فليس بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة والقَرِينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيدة. ومن ثم ترى "يرجعون" مع "عليم" و"الميعاد" مع "الثواب"، و"الطارق" مع "الثاقب". والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة، ومِنْ ثمَّ أجمع العادُّون على تَرْك عَدّ: (ويَاْتِ بآخرين) النساء: 133. (ولا الملائكةُ الْمُقَرَّبُون) النساء: 172، و (كَذَّب بها الأوَّلُون) الإسراء: 59، و (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) : 97، بمريم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 و (لعلهم يتَّقون) 113، بطه - و (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) و (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : 11، 12، بالطلاق حيثُ لم ئشاكل طرفيه. وعلى ترك عَدّ: (أفَغَيْرِ دِين اللهِ يبْغُون) آل عمران: 83. (أفَحُكْمَ الجاهلية يبْغون) المائدة. وعدوا نظائرها للمناسبة، نحو: الأولي (الألباب) آل عمران: 190، بآل عمران. و (على اللهِ كَذِبا) الكهف: 15، بالكهف. و (السَّلْوَى) : 80، بِطَه. وقال غيره: تقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها. وهي الطريقة التيْ يبايِنُ القرآن بها سائر الكلام، وتسمى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل ما بينها وبين ما بعدها، وأخْذا من قوله تعالى: (كتاب فصِّلَتْ آيَاتُه) فصلت: 3. ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً، لأن الله تعالى لما سلب عنه اسْمَ الشعر وجب سلْبُ القافية عنه أيضاً، لأنها منه وخاصةٌ به في الاصطلاح. وكما يمتنع استعمال القافية فيه يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه. وهل يجوزُ استعمال السجع في القرآن، خلاف: الجمهور على المنع، لأن أصله من سجع الطّيْرُ، فَشُرفَ القرآن أن يستعار لشيء منه لفظ أصله مهمل، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في وصفه بذلك، ولأن القرآن من صفاته تعالى، فلا يجوز وصْفُه بصفة لم يرد الإذن بها. قال الرماني في إعجاز القرآن: ذهب الأشعرية إلى امتناع أن يقول في القرآن سجع، وفرَّقُوا بينهما بأن السجع هو الذى يقصد في نفسه ثم مجال المعنى عليه، والفواصل التي تَتْبَع المعاني، ولا تكون مقصودة في نفسها. قال: ولذلك كانت الفواصل بلاغة والسجع عيباً، وتبعه على ذلك أبو بكر الباقلاني. وقال الخفاجي في سر الفصاحة: قول الرماني: إن السجعَ عَيْب والفواصل بلاغة غلط، فإنه إن أراد بالسجع ما يَتْبَعُ المعنى - وهو غير مقصود فذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بلاغة، والفواصل مثله. وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له - وهو مقصود متكلف - فذلك عيب. والفواصل مثله. قال: وأظن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً - رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غَرَضٌ في التسمية قريب. والحقيقة ما قلناه. قال: والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل. قال: فإن قيل: إذا كان عندكم أن السجع محمود فَهلا وَرَدَ القرآنُ كله مسجوعاً، وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع، قلنا، إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى عُرْفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامُه كله مسجوعاً، لما فيه من أمارات التكللف والاستكراه لاستماع طول الكلام، فلم يَرِدْ كله مسجوعاً جرياً منهم على عُرْفِهم في اللطيفة الغالبة من كلامهم، ولم يخل من السجع، لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة. وقد ألف الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي كتاباً سماه " إحكام الراي في أحكام الآي " قال فيه: إن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يُرتكب بها أمور من مخالفة الأصول. قال : وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على ما ينيف على الأربعين حكماً: 1 - تقديم المعمول إما على العوامل نحو: (أهؤلاء إياكم كانوا يعْبُدون) قيل: ومنه: (وَإيّاك نستعين) . أو معمول آخر أصله التقديم، نحو: (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنَا الْكبْرَى) . إذا أعربنا (الكبرى) مفعول نرِي. أو على الفاعل، نحو: (ولقد جاء آل فرعون النّذُر) . ومنه تقديم خبر كان على اسمها، نحو: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 2 - تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو: (فَلِلّهِ الآخِرَةُ والاْولى) . ولولا مراعاة الفواصل لقُدمت " الأولى"، كقوله: (لهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة) . القصص: 70. 3 - تقديم الفاضل على الأفضل، نحو: (برَبِّ هَارون ومُوسى) . وتقدم ما فيه. 4 - تقديم الضمير على ما يفسره، نحو: (فأوْجَسَ في نَفْسِه خِيفَة مُوسى) . 5 - تقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد، نحو: (وَنُخْرجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا) . الإسراء: 13. 6 - حذف ياء المنقوص العرّف، نحو: (الكبِير المتعال) الرعد: 10. (يوم التناد) . المؤمن: 32. 7 - حذف ياء الفعل غير المجزوم، نحو: (واللّيْلِ إذَا يَسْرِ) . 8 - حذف ياء الإضافة، نحو: (فكيف كان عَذَابي ونُذُر) . القمر 18. (فكيف كان عقاب) الرعد: 32. 9 - حرف المد، نحو: الظنُونَا، والرسولا، والسبيلا. ومنه إبقاؤه مع الجازم، نحو: (لا تخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) أطه: 77. (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) .، على القول بأنه نَهْي. 10 - صرف ما لا ينصرف، نحو: (قَوَاريرا. قَوَاريرا) . الإنسان: 15. 16. 11 - إيثار تذكير الجنس، كقوله: (أعجاز نَخْلٍ مُنْقَعِرْ) . 12 - إيثار تأنيثه، نحو: (أعجاز نَخْل خَاوية) . الحاقة: 7، ونظيرُ هذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قوله في القمر: (وكلّ صَغِير وَكَبير مستَطِر) . القمر: 53. وفي الكهف: (لا يُغادِرُ صَغِيرة ولا كَبِيرة إِلاَّ أحصَاها) . الكهف: 49. 13 - الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرىء بهما في السبع في غير ذلك، كقوله: (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) الجن: 14) ، ولم يجئْ رشداً في السبع، وكذا: (وهَبْ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَدا) . الكهف: 10) ، فإن الفواصل في السورتين محركة الوسط، وقد جاء في: (وإن يَرَوْا سَبِيل الرّشْد) الأعراف: 146. وبهذا يبطل ترجيح الفارسي قراءة التحريك بالإجماع عليه فيما تقدم. ونظير ذلك قراءة: (تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَب) بفتح الهاء وسكونها، ولم يقرأ: (سيصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب) المسد: 3. إلا بالفتح لمراعاة الفاصلة. 14 - إيراد الجملة التي ورد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بالله وَباليَوْمِ الآخر ومَا هَمْ بمؤمِنين) البقرة: 8، لم يطابق بين قولهم " آمنّا" وبين ما ردّ به فيقول: لم يؤمنوا، أو ما آمَنوا لِذَلك. 15 - إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك، نحو: (فليعلمنَّ الله الذين صدقوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) العنكبوت: 3. ولم يقل الذين كذبوا. 16 - إيراد أحد جزأى الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من الجملة الأخرى، نحو: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتَّقُون) البقرة: 177. 17 - إيثار أغرب اللفظتين، نحو: (قِسْمَةٌ ضِيْزَى) . النجم: 22) ، ولم يقل جائرة. و (لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَة) . الهمزة: 4) ، ولم يقل جهنم أو النار. وقال في المدثر: (سَأصْليهِ سَقَر) . المدثر: 26. وفي سأل (إِنَّهَا لَظَى (15) . وفي القارعة: (فأمهُ هَاوِية) . لمراعاة فواصل كل سورة. 18 - اختصاص كل من المشتركين بموضع، نحو: (وليذكَّر أولو الألباب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي سورة طه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) . 19 - حذف المفعول، نحو: (فأمَّا مَنْ أعطَى واتَّقَى) . الليل: هـ. (ما وَدَّعَكَ ربُّكَ ومَا قَلَى) الضحى: 2. ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل، نحو: (يَعْلَم السَرَّ وأخْفَى) ، (خَيْر وأبقى) . 20 - الاستغناء بالإفراد عن التثنية، نحو: (فلا ئخْرِجَتكمَا من الجنة فتَشْقَى) . 21 - الاستغناء به عن الجمع، نحو: (واجْعَلْنَا للِمُتَّقِين إماماً) . ولم يقل أئمة، كما قال: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) ،: أي أنهار. 22 - الاستغناء بالتثنية عن الإفراد، نحو: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) . قال الفراء: أراد جنة، كقوله: (فإن الجنةَ هي المأوَى) . فثنى لأجل الفاصلة. قال: والقوافي تحتمل من الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام. ونظير ذلك قول الفراء أيضاً في قوله: (إذ انْبَعَثَ أشْقَاهَا) ، فإنهما رجلان فدَار وآخر معه ولم يقل أشقياها للفاصلة. وقد أنكر ذلك ابن قتيبة وأغلظ فيه، وقال: إنما يجوز في رؤوس الآي زيادة هاء السكت أو الألف أو حذف همزة أو حرف، فأما أن يكون الله وعد جنتين فيجعلهما جنة واحدة لأجل رؤوس الآى فمعاذ الله! وكيف هذا وهو يصفهما بصفات الاثنين. قال: (ذَوَاتَا أفْنَان) الرحمن: 48) ، ثم قال: " فيهما". وأما ابن الصائغ فإنه نقل عن الفراء أنه أراد جنات، فأطلق الاثنين على الجمع لأجل الفاصلة، ثم قال: وهذا غير بعيد. قال: وإنما أعاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية مراعاة للفظ، وهذا هو الثالث والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 24 - الاستغناء بالجمَع عن الإفراد، نحو: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) ، أى ولا خُلّة، كما في الأخرى، وجمع مراعاة للفاصلة. 25 - إجراء غير العاقل مجرى العاقل، نحو: (رَأيْتُهُمْ لي ساجدين) . (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) . 26 - إمالة ما لا يمال، كآى طه والنجم. 27 - الإتيان بصيغة المبالغة، كقدير، وعليم، مع ترك ذلك في نحو: (هو القادر) ، و (عالم الغيب) . ومنه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) . 28 - إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض، نحو: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) . أوثر على عجيب لذلك. 29 - الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) . 30 - إيقاع الظاهر موقع المضمر، نحو: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) . وكذا آية الكهف. 31 - وقوع مفعول موقع فاعل، كقوله: (حِجَابًا مَسْتُورًا (45) (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) . أي ساتراً، وآتياً. 32 - وقوع فاعل موقع مفعول، نحو (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) . (ماءٍ دافق) . 33 - الفصل بين الموصوف والصفة، نحو: (أخرج المرعَى فجعلَهُ غثَاءً أحْوَى) . الأعلى: 5، 6، إن أعْرِب أحوى صفة للمرعى، أي حالاً. 34 - إيقاع حرف مكان غيره، نحو: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) . والأصل إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 35 - تأخير الوصف غير الأبلغ عن الأبلغ. ومنه: الرحمن الرحيم. رؤوف رحيم، لأن الرأفة أبلغ من الرحمة. 36 - حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) . 37 - إثبات هاء السكت، نحو: مالِيَه. سُلْطَاييَه. مَا هِيَه. 38 - الجمع بين المجرورات، نحو: (ثم لا تَجِدُوا لكم عَلَيْنَا به تَبِيعا) ، فإن الأحسن الفصل بينهما، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت عدمه. 39 - العدول عن صيغة المضي إلى صيغة الاستقبال، نحو: (فَفَرِيقاً كذَّبتم وفريقاً تَقْتُلون) ، الأصل قتلتم. 40 - تغيير بنْية الكلمة، نحو: (وطورِ سينين) التين: 2. والأصل طور سيناء. قال ابن الصائغ: لا يمتنعُ في توجيه الخروج عن الأصل في الآيات المذكورة أمور أخرى مع وجه المناسبة، فإن القرآن العظيم - كما جاء في الأثر - لا تنقضي عجائبه. وقال ابن أبي الإصبع: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال. والتمكين - ويسمى ائتلاف القافية: أن يمهد الناثرُ للقرينة أو الشاعر للقافية تمهيداً تأتي به القافية أو القرينة متمكنة في أماكنها مستقرة في قرارها، مطمئنة في مواضعها، غير نافرة ولا قلقة، ومتعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقاً تاما، بحيث لو طُرِحَت لاختل المعنى واضطرب الفهم، وبحيث لو سكت عنها كمّله السامع بطبعه. ومن أمثلة ذلك قوله: (يا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تأمُرُكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال اقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الزتيب، لأن الحلم يناسب العبادات، والرشد يناسب الأموال. وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) ... إلى قوله: (أفلا يُبْصرُون) السجدة: 26، 27) . فأتى في الآية الأولى بـ يهْدِ لهم، وختمها بِ "يَسْمَعُون "، لأن الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون. وفي الثانية بـ يروا، وختمها بـ "يبصرون" لأنها مرئية. وقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) . فإن اللطيف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبير يناسب ما يدركه. وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ... إلى قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ، فإن في هذه الفاصلة التمكين التام المناسب لما قبلها. وقد بادر بعض الصحابة حين نزل أول الآية إلى ختمها بها قبل أن يسمع آخرها، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن زيد بن ثابت، قال: أمْلَى عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ... إلى قوله: خلقاً آخر - قال معاذ بن جبل: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له معاذ: مِمَّ ضحكْتَ يا رسول الله، قال: بها خُتِمت. وحكي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: " فإنْ زَللْتُمْ من بعد ما جاءتكم البيناتُ فاعلموا أن الله غفور رحيم ". ولم يكن يقرأ القرآن، فقال: إن هذا ليس بكلام الله، لأن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. تنبيهات الأول - قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ويخالف بينها، كأوائل النحل. فإنه تعالى تبدأ بذكر الأفلاك، فقال: (خلَقَ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثم ذكر خلق الإنسان (من نطْفَة) ، ثم ذكر خلق " الأنعام "، ثم عجائب النبات، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) الآية. فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر. ولما كان هنا مظنة سؤال، وهو أنه: لِمَ لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر، وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال - كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقياً، فأجاب عنه تعالى من وجهين: أحدهما - أن تغييرات العالم السفلي مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك الحركات كيف حصلت، فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك إقرار بوجود الإله تعالى، وهو المراد بقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) . فجعل مقطع هذه الآية العقل، وكأنه قيل: إن كنًت عاقلاً فاعلم أن التسلسل باطل، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون مُوجِدها غير متحرك، وهو الإله القادر المختار. والثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة - واحدة، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصولُ هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) . كأنه قال: اذكر ما يرسخ في عقلك أن الواجب بالطبع والذات لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع، بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر. ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فإن الأولى ختمت بقوله: (لعلكم تعقلون) والثانية بقوله: (لعلكم تذكرون) ، والثالثة بقوله: (لعلكم تتّقون) لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى، لأن الإشراك بالله لعدم استعمال العقل الدال على توحيده وعظمته. وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقلُ لسبق إحسانها إلى الولد بكل طريق. وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل. وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل، فحَسُنَ بعد ذلك يعقلون. وأما الثانية، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية، فإن من علم أن له أيتاماً يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامَل به أيتامه. ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بَخْس. وكذا من وعد له وعد لم يحب أن يُخْلَف، ومن أحب ذلك عامل الناس به ليعاملوه بمثله، فترك ذلك إنما يكون لغفلته عن تدبر ذلك وتأمله. فلذلك ناسب الختم بقوله: لعلكم تذكرون. وأما الثالثة فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية يؤدي إلى غضبه وإلى عقابه فحسُنَ (لعلكم تتقون) ، أى عقاب الله بسببه. ومن ذلك قوله تعالى في الأنعام أيضاً: (وهو الذي جعل لكم النّجومَ ... ) الآيات، فإنه ختم الأولى بقوله: (لقومٍ يعلمون) ، والثانية بقوله: (لقوم يَفْقَهون) ، والثالثة بقوله: (لقوم يؤمنون) . وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك، فناسب ختمه بـ يعلمون. وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى الدنيا ثم إلى حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه بـ يفقهون، لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة. ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) . حيث ختم الأولى بـ "تُؤْمِنُونَ" والثانية بـ "تَذَكَّرُونَ". ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحد، فقول من قال شعر عناد وكُفْر محض، فناسب ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) . وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تدبّر وتذكّر، لأن كلاًّ منهما نثر، فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحد كمخالفة الشعر، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة فحسن ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) . ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدَّث عنه واحد لنكتة لطيفة، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) . ثم قال في سورة النحل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) . قال ابن المنيِّر: كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا مُعْطيها، فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفارا، يعني لعدم وفائك بشكرها، ولي عند إعطائها وصفان، وهما أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء. وقال غيره: إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه، وسورة النحل بوصف النعم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان. وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته. ونظيره قوله في الجاثية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) . وفي فصّلَت ختم بقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) . ونكتةُ ذلك أن قبل الآية الأولى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ، فناسب الختام بفاصلة البعث، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قبله وصفهم بإنكاره. وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب، لأنه لا يضيّع عملاً صالحاً ولا يزيد على من عمل سيئا. وقال في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) . ثم أعادها وختم بقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) . ونكتة ذلك أن الأولى نزلت في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه، والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد. وقوله في المائدة: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) . ثم قال في الثانية: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) . ثم قال في الثالثة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) . ونكتته أن الأولى نزلت في حكام المسلمين. والثانية، في اليهود، والثالثة، في النصارى. وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله، والثانية فيمن خالفه مع علمه ولم ينكره، والثالثة، فيمن خالفه جاهلاً. وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد، عبّر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب التكرار. وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدَّث عنه مختلف، كقوله في سورة النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... إلى قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) . ثم قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) . التنبيه الثاني: من مشكلات الفواصل: قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . فإن قوله: "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" يقتضي أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم. وكذا نقلت عن مصحف أبيّ، وبها قرأ ابن شَنْبوذ، وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز أي الغالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والحكيم هو الذي يضع الشيء في محله. وقد يخفى وجهُ الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال فيتوهَّمُ أنه خارجِ عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حكيم حسن، وإنْ تغْفِرْ لهم مع استحقاقهم العذاب فلا يعترض عليك أحد في ذلك، والحكمةُ فما فعلته. ونظير ذلك في سورة التوبة قوله: (أولئك سيرحَمُهمُ الله إنَّ الله عزيز حكيم) . وفي سورة الممتحنة: (واغفر لنَا رَبّنَا إنّك أنْتَ العزيزُ الحكيم) . وفي النور: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . فإن باديَ الرأي يقتضي تواب رحيم، لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبّر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة. ومن خفيِّ ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة البقرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) . وفي آل عِمْران: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) . فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الخَتْمُ بالقدرة، وفي آل عمران الختم بالعلم. والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، وخلق السماوات خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، والخالقُ على الوصف المذكور يجب أن يكون عالماً بما فعله كلياً وجزئياً، جملاً ومفصّلاً - ناسب ختمها بصفة العلم. وآية آل عمران لما كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ناسب ختمها بصفة القدرة. ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) . فالختم بالحلم والمغفرة عقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تسابيح الأشياء غيْرُ ظاهر في بادي الرأي، وذكر في حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم بها مراعاةً للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث: لولا بهائم رُتّع، وشيوخٌ ركع، وأطفال رُضّع لَصُبَّ عليكم البلاء صبّا. وقيل: التقدير: حليما عن تفريط المسبحين غفوراً لذنوبهم. وقيل: حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا بالتأمل فما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه. التنبيه الثالث: من الفواصل ما لا نظير له في القرآن، كقوله عقب الغض في سورة النور: (إنَّ الله خَبيرٌ بما يَصْنَعُون) . وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة: (لعلهم يَرْشُدُون) . وفيه تعريض بليلة القدر حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان، أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها. وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية، ويسمى أيضأ رد العجز على الصدر. وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام: الأول: أن يوافق آخرُ الفاصلة آخر كلمة في الصدر، نحو: (أنزله بعلمه والملائكة ُ يشهدون وكفى بالله شهيدا) . النساء: 66. والثاني: أن يوافق أول كلمة منه، نحو: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) . (قال إني لِعملكمْ مِنَ القَالِين) الشعراء: 168. الثالث: أن يوافق بعض كلماته، نحو: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) . (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) . (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ... إلى قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأما التوشيح فهو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية. والفرق بينه وبين التصدير أن هذا دلالته معنوية، وذلك لفظية، كقوله تعالى: (إنّ اللهَ اصْطَفَى آدم ... ) . آل عمران: 33، الآية، فإن اصطفى يدلُّ على أن الفاصلة العالمين لا باللّفظ، لأن " العالمين " غير لفظ " اصطفى "، ولكن بالمعنى، لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختاراً على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفين "العالمين". وكقوله: (وآيةٌ لَهُمُ الليلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار ... ) الآية. قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظاً لهذه السورة متَفَطِّناً إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة " مظلمون "، لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم، أي دخل في الظلمة، ولذلك سمي توشيحا، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزّل المعنى منزلة الوشاح، ونُزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشْح اللذين يجول. عليهما الوشاح. وقسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام: مطرَّف، ومتَواز، ومتوازن، ومرصّع، ومتماثل. فالمطرف: أن تختلف الفاصلتان في الوزن ويتفقا في حروف السجع، نحو: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) . والمتوازي: أن يتفقا وزنا وتقفية، ولم يكن ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية في الوزن والتقفية، نحو: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) . والتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية، نحو: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) . والمرصع: أن يتفقا وزناً وتقفية، ويكون ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية وذلك، نحو: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) . (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والمتماثل: أن يتساويا في الوزن دون التقفية، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصّع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي، نحو: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) . فالكتاب والصراط متوازنان، وكذا المستبين والمستقيم، واختلفا في الحرف الأخير. (فصل) بقي نوعان بديعيان متعلقان بالفواصل: أحدهما التشريع، وسماه ابن أبي الإصبع التوأم، وأصله أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض، فإذا سقط منهما جزء أو جزآن صار الباقي بيتاً من وزن آخر، ثم زعم قوم اختصاصه وقال آخرون: بل يكون في النثر بأن يبني على سجعتين لو اقتصر على الأولى منهما كان الكلام تاماً مفيداً، وإن ألحقت به السجعة الثانية كان في التمام والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد في اللفظ. قال ابن أبي الإصبع: وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن، فإن آياتها لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) لكان الكلام تاماً مفيداً، وقد كمل بالثانية، فأفاد معنى زائداً من التقرير والتوبيخ. قلت: التمثيلُ غير مطابق، والأولى بأن يمثل بالآيات التي في أثنائها ما يصلح أن يكون فاصلة، كقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) . الثاني: الالتزام، ويسمى لزوم ما لا يلزم، وهو أن يُلتزم في الشعر أو النثر حرفٌ أو حرفان فصاعداً قبل شرط الروي بشرط عدم الكلفة، مثال التزام حرف: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) . التزم الهاء قبل الراء ومثله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) . الآي التزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فيها الراء قبل الكاف. (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) . التزم فيها النون المشددة قبل السين. (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) . ومثال التزام حرفين: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) . (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) . (بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) . ومثال التزام ثلاثة أحرف: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) . تنبيهات الأول: قال أهل البديع: أحسن السجع ما تساوت قرائنه، نحو: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) . ويليه ما طالت قرينته الثانية نحو: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) . والثالثة نحو: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) . وقال ابن الأثير: الأحسن في الثانية المساواة، وإلا فأطول قليلاً، وفي الثالثة أن تكون أطول. وقال الخفاجي: لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى. الثاني: قالوا: أحسن السجع ما كان قصيراً، لدلالته على قوة المنشىء، وأقله كلمتان نحو: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) . و (الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) . (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) . و (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والطويل - ما زاد على العشرة كغالب الآيات، وما بينهما متوسط كآيات سورة القمر الثالث: قال الزمخشري في كشافه القديم: لا تحسن المحافظةُ على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والقوافي، فأما أن تهمل المعاني ويُهتمّ بتحسين اللفظ وحده، غير منظور فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة، وبني على ذلك أنَّ التقديم في: (وبالآخرة هم يُوقِنون) - ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص. الرابع: مبنى الفواصل على الوقف، ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور، وبالعكس، كقوله: (إنا خلقناهم مِنْ طِين لاَزِب) ، مع قوله: (عَذَابٌ وَاصِبٌ) ، و (شَهَابٌ ثاقبٌ) ، وقوله: (بماءٍ منْهَمِر) ، مع قوله: (قَدْ قُدِرَ) (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) . وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) ، مع قوله: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) . الخامس: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون. وحكمته وجود التمكن مع التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهم إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون، لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا، وجاء القرآن على أسهل موقف وأعظم مقطع. السادس: حروف الفواصل إما متماثلة، وإما متقاربة، فالأول مثل: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) . والثاني مثل: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) . قال الإمام فخر الدين وغيره: إن فواصل القرآن لا تخرج عن هذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 القسمين، بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة، قال: وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب أبي حنيفة في عد الفاتحة سبع آيات من البسملة وجعل صراط الذين ... إلى آخرها آية، فإن مَنْ جعل آخر الآية: (أنعمت عليهم) مردود بأنه لا يشابه فواصل سائر آيات السورة لا بالمماثلة ولا بالمقاربة، ورعاية المتشابه في الفواصل لازمة. السابع: كثر في الفواصل التضمين والإيطاء، لأنهما ليسا بعيبين في النثر وإن كانا عيبين في النظم. فالتَّضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقاً بها، كقوله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) . والإيطاء تكرر الفاصلة بلفظها، كقوله تعالى: في الإسراء: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) . وختم بذلك الآيتين بعدها. ******* الوجه الرابع من وجوه إعجازه . مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني. وقد ألف عماؤنا في أسرارها تواليف كثيرة منهم العلامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتاب سمَّاه " البرهان " في مناسبة ترتيب سور القرآن. ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمَّاه نظم الدرر في تناسب الآي والسور. وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات مع ما تضمَّنه مرتباً من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في تناسب السور. وعلم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان كثير العلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئت عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بالمناسبة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط. ومَنْ ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نَيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربْطُ بعضه ببعض. وقال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وَهِمَ من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة. وفصلُ الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، وتأصيلاً، فالصحف على وفق اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجْه اتصالها بما قبلها وما سيقت له. وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومَنْ تفكر في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف، غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل: والنجم تستصغر الأبصارُ صورتَه ... والذنْبُ للطرف لا لِلنَّجْمِ في الصغَر المناسبة في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 علاقات التلازم الذهنيّ، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه. وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم التلائم الأجزاء فنقول: ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه في الأولى، فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل، وهذا القسم لا كلام فيه. وإما ألا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم، أو لا. فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) . وقوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) . للتضاد بين القبض والبصط، والولوج والخروج، والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض. ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة. وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً أو وعيدا. لتكون باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه، ليعلم عِظَم الآمر الناهي. وتأمَّلْ سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك. وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤْذن باتصال الكلام، وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط. وله أسباب: أحدها: التنظير، فإن إلحاق النَّظير بالنَّظير من شأن العقلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 كقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) - عَقِب قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضيَ لأمره في الغنائم على كُرْهٍ من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير أو القتال وهم له كارهون، والقصدُ أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم للخروج. وقد تَبَين في الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعزّ الإسلام. فكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا ويتركوا هَوَى أنفسهم. الثاني: المضادة، كقوله في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) . فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن، وأن من شأنه الهدايةَ للقوم الموصوفين بالإيمان. فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهميّ بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثاً عن المؤمنين بالعَرَض لا بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن، لأنه مفتتح القول. قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن، والعمل به، والحثّ على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) . - فرجع إلى الأول. الثالث: الاستطراد: كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) . قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ السَّوْءات، وخَصْف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العراء وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة. ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما. وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقَعْ منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع رداً كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول. وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) . وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله. وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) . فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: (ييَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) . وفي سورة الكهف حكى سدّ " ذو القرنين " بقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، فتخلَّص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور، وذكر الحَشْر، ووصف حال الكفار والمؤمنين. وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلص تركت ما كنتَ فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه. وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مروراً كالبرق الخاطف ثم تتركه إلى ما كنت فيه، كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضاً. قال: وبهذا يظهر أن ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص، لعَوْدِه في الأعراف إلى قصة موسى بقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ) . وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم. ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع مفصولاً بهذا كقوله في سورة ص - بعد ذكر الأنبياء: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) . قال: هذا القرآن نوع من الذكر لَمّا انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكر الجنة وأهلها، تم لما فرغ قال: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) . فذكر النار وأهلها. قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل هو أحسن من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر. ويقرب منه أيضاً حسن الطلب. قال الزنجاني والطيبي: وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدمة الوسيلة، كقولك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) . قال الطيبي: وما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله تعالى - حكاية عن إبراهيم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي) ... إلى قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قاعدة لبعض المتأخرين: الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبة الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرْب والبعْد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في مقدمات إلى ما تستتبعه من استشراف، نَفْس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المعين على حكم الربط بين جيع أجزاء القرآن، فإذا فعلْتَه بيَّن لك وجه النظم م فصل اً بين كل آية وآية في كل سورة وسورة. تنبيه : من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ به ... ) . القيامة: 16، الآيات، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسير جداً، فإن السورة كلها في أحوال القيامة، حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى زعم القَفّال فيما حكاه الفخر الرازي إلى أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل، في قوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) .. قال: يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً، فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا بيانَ أمرِ الإنسان وما يتعلق بعقوبته. وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانَه حالة نزول الوحي. وقد ذكر الأئمة لها مناسبات: منها: أنه تعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يقصّر عن العمل لها حبّ العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يعترِض على هذا المطلوب ما هو أجل منه، وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يراد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصدّ عن ذلك، فأمر بألا يُبادر إلى التحفظ، لأن تحفيظه مضمون على ربه، وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن يقضى، فيتّبع ما اشتمل عليه. ثم لما انقضت الجملةُ المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبدأ بذكره، ومن هو من جنسه، فقال: (كلا) . القيامة، 20، وهي كلمة رَدعْ، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عَجَل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة. ومنها أن عادة القرآن إذا ذكر الكلام المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ... ، إلى أن قال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) . وقال في طه: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) . إلى أن قال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) . ومنها أن أول سورة القيامة لما نزل إلى: (ولَوْ ألْقَى مَعَاذِيره) القيامة: 15، صادف أنه اعمط في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وتحرك به لسانه من عجلته خشيةً من تفلته، فنزل: لا تحرك به لسانك ... إلى قوله: ثم إن علينا بيانه، ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدىء به. قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مسألة فتشاغل الطالب بشيء عرض له، فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهم ما أقول. ثم كمل المسألة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسباً للمسألة بخلاف مَنْ عرف ذلك. ومنها أن " النفس" لما تقدم ذكرها في أول السورة عدل إلى ذكر نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المصطفى، كأنه قال: هذا شأن النفوس، وأنت يا محمد نفسك أشرف النفوس، فلتأخذْ بأكمل الأحوال. ومن ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الأهِلَّةِ) . فقد قيل: أي رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من أبوابها؟ وأجيب بأنه من باب الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان هذا من أفعالهم في الحج - كما ثبت في سبب نزولها - ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال على حد: سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيْتَته. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . فقد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله، وهو قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) . فقال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن الدهان يقول: وجه اتصاله هو أن تخريب بيت المقدس قد سبق، أي فلا يَجْرِمَنَّكم ذلك واستقبلوه، فإن لله المشرق والمغرب. فصل من هذا النوع مناسبة السور. وقد أفردت فيه جزءاً لطيفاً سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع. وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته، وقوله: (فلَنْ أكُونَ ظَهيراً لِلْمُجْرِمين) القصص: 17. وخروجه من وطنه. وختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يكون ظهيراً للكافرين، وتسليته عن إخراجه من مكة، ووعده بالعود إليها، لقوله في أول السورة: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) القصص: 7. قال الزمخشري: وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) . وأورد في خاتمتها: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) . فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وذكر الكَرْمَاني في العجائب مثله، وقال في سورة ص: بدأها بالذكر وختمها بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) . وفي سورة ن بدأها بقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) . وختمها بقوله: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) . ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به لفظاً، عما في: (فجعلهم كعَصْفٍ مَأكول) . (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) . فقد قال الأخفش: اتصالها به من باب قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) . وقال الكواشي في تفسير المائدة: لما ختم سورة النساء أمراً بالتوحيد والعدل بين العباد أكد ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . وقال غيره: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) . وكافتتاح سورة فاطر بالحمد أيضاً، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) . كما قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) . وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به. وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) . فإنه إشارة إلى الصراط في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم: ذلك الصراط المستقيم الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة. ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة التي قبلها، لأن السابقة وصف الله المنافق فيها بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر فيها في مقابلة البخل: إنا أعطيناك الكوثر، أي الخير الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة فصلِّ، أي فَدمْ عليها. وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس. وفي مقابلة منع الماعون وانْحَر، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي. وقال بعضهم: لترتيب وضع السور في الصحف أسباب تُطْلِعُ على أنه توقيفي صادر عن حكيم: أحدها: بحسب الحروف، كما في الخواتيم. الثاني: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة. الثالث: للوزان في اللفظ، كآخر " تبّت" وأول " الإخلاص ". الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة أخرى كالضحى و" ألم نشرح ". قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالرّبوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية. وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين. وآل عمران تكملة المقصود، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيه ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى. وأوجب الحج في آل عمران. وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور الكلية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميعُ الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بأهل الكتاب، يا بني إسرائيل، يا أيها الذين آمنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بيْنَ الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) . ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ. فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم بخلق زوجه منه، ثم بثّ منهما رجالاً كثيرا ونساء في غاية الكثرة. وأما المائدة فقد تضمنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود الرسول، وما أخذ على الأمة، وبهما تم الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كالوضوء، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال، وذكر فيها أن من ارتد عَوضَ الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على جمع القرآن، ووضعوا سورة " القَدْر " عقِبَ " العَلَق "، استدلوا بذلك على أن المراد بذلك الكناية في قوله: (إنا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) الإشارة إلى قوله اقْرَأ. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قال في البرهان: ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به، حتى لم تكن ترد آلم في موضع آلر ولا حم في موضع طس. قال: وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع " ق " موضع " ن "، لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة " ق " بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذلك القرآن، والخلق، وتكرير القول، ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد والرقيب، والسابق، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وحقوق الوعيد، وغير ذلك. وقد تكررت الراء في سورة يونس من الكلام الواقع فيها إلى مائتي كلمة أو أكثر، فلهذا افتتحت بالراء. واشتملت سورة " ص " على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار وقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) . ثم اختصام الخَصْميْن مع داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام المَلَأِ الأعْلَى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم. والم جمعت الخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها، وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والتوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي. وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة. وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) ، ولهذا قال بعضهم: معنى الص: ألم نشرح لك صدرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَزِيد في الرعد لأجل قوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ، ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما. واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن، كقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) . (نَزَّل عليكَ الكتابَ) . (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) . (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) . (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) . (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) . (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) . (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) . (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) . (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) . إلا في ثلاث سور: العنكبوت، والرّوم، ون، ليس فيها ما يتعلق به، وقد ذكرتُ حكمة ذلك في أسرار التنزيل. وقال الحرالي: في معنى حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر. وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. اعلم أن القرآن نزل عند انتهاء الخلق، وكمال كل الأمر بَدْءاً، فكان التخلق به جامعاً لانتهاء كل خلق، وكمال كل أمر، فكذلك هو قيم الكون، وهو الجامع الكامل، ولذلك كان خاتماً وكتابه كذلك. وبدأ المعاد من حين ظهوره، فاستوفى هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها، وتممت عنده غاياتها، بعثت لأتَمِّمَ مكارم الأخلاق، وهي صلاح الدين والمعاد التي جمعها قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي. وفي كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الجوامع الثلاثة ستة هي حروف القرآن الستة، ثم وهب حرفاً جامعاً شائعاً فردا لا زوج له، فتمت سبعة. فأدنى تلك الحروف هو صلاح الدنيا، فلها حرفان: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه، لبعده عن تقويمها. والثاني حرف الحلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الذي تصلح النفس والبدن عليه لوافقته تقويمها، أصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن. ويلي ذلك حَرْفَا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي لا تصلح الآخرة إلا عليه لتقاضيه لحسناها، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن. ويلي ذلك حرفا صلاح الدين: أحدها حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطابُ ربه، والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه، فالحروف الخمسة للاستعمال، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلهما، وتمامهما في القرآن. ويختص القرآن بالحرف السابع، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى. ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به القرآن، وجمع فيه جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد الشائع، والثانية تشتمل على حَرْفَي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بها الدنيا والرحيمية الآخرة. والثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدو أمرها في الدين. والرابعة تشتمل على حرفي الحكم في قوله: إيّاك نَعْبُد، والمتشابه في قوله: وإياك نستعين. ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة بالسادس المعجوز عنه، وهو المتشابه. انتهى كلام الحرالي. والمقصود منه هو الأخير. على أني أقول: المناسبة في ابتداء البقرة بـ "الم" أحسن مما قال، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد الذي لا يُعْذَر أحد في فهمه - ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيلة. ومن هذا النوع مناسبة أسماء السور لمقاصدها. وفي العجائب للكَرْماني: إنما سُميت السور السبع " حم " على الاشتراك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الاسم لما بينهنَّ من التَّشَاكُل الذي اختصت به، وهو أن كل واحدة منها استفتحت بالكتاب أو صِفَة الكتاب، مع تفاوت المقادير في الطول، والقِصَر، وتشاكل الكلام في النظام. ******* الوجه الخامس من وجوه إعجَازه افتتاح السور وخواتمها وهو من أحسن البلاغة عند البيانيين. وهو أنْ يتأتقَ فىِ أول الكلام، لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً قِبَل السامع قَبِلَ الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه، وإن كان في نهاية الحسن، فينبغي أن يُؤتى فيه بأعذب اللفظ وأرقّه، وأجزله وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأصحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملْبِس، أو الذي لا يناسب. قالوا: وقد أتت فواتح جميع السور على أحسن الوجوه وأكملها، كالتحميدات، وحروف النداء، والهجاء، وغير ذلك. ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتلكم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله، والعَلَم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن! فإنها مشتملة على جميع مقاصده، لأنه افتتح فيها فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن. وهذا هو الغاية فىِ براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة. وخواتم السور مثل الفواتح فىِ الحسن، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوّق إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا، وفرائض، وتحميد وتهليل ومواعظ، ووعد ووعيد، إلى غير ذلك، كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة، إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي السبّبة لغَضَبِ الله والضلال، ففصّل جملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ذلك بقوله: الذين أنعمت عليهم. والمراد المؤمنون، ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده ليتناول كلَّ إنعام، لأنَّ مَنْ أنعم الله عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة، لأنها مسببة لجميع النعم، ثم وصفهم بقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين. يعني أنهم جعوا بين النعم المطلقة - وهي نعمة الإيمان - وبين السلامة من غضب الله والضلال المتسبّبَيْن عن معاصيه وتعدي حدوده، وكالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، وكالوصايا التي ختمتنها سورة آل عمران، والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحَسُنَ الخَتْم بها لما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر كل امرئ حي، والآخر ما نزل من الأحكام وكالتبجيل والتعظيم الذقي خُتِمَتْ به المائدة. وكالوعد والوعيد الذي ختمت به الأنعام. وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به الأعراف. وكالحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختمت به الأنفال. وكوصف الرسول ومدحه والتهليل الذي ختمت به براءة. وتسليته عليه السلام التي ختم بها سورة يونس. ومثلها خاتمة هود. ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به يوسف. والرد على من كذّب يوسف والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد. ومن أوضح ما آذن بالختام خاتمة إبراهيم: (هذا بلاغ للناس) . ومثلها خاتمة الأحقاف، وكذلك خاتمة الحجر: (واعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأتيكَ اليَقين) ، وهو مُفَسّر بالموت، وهو في غاية البراعة. وانظر إلى سورة الزّلْزَلة كيف بدئت بأحوال القيامة، وختمت بقوله: (فَمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يرَه) . وانظر إلى براعة آخر آية نزلت، وهي قوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، وما فيه من الإشعار بالآخرية المستلزمة للوفاة. وكذا آخر سورة نزلت، وهي سورة النَّصْرِ، فيها الإشعار بالوفاة، كما قال ابن عباس، كأنه قال له: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) . فذلك علامة أجَلك. (فسبِّحْ بحمده رَبِّكَ واستَغْفِرْه إنه كان تواباً) ، ووافقه عمر على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فإن قلت: ما الحكمة في ختم هذا القرآن العظيم بالمعوّذتين؟ والجواب ما قاله ابن جرير في تفسيره عن شيخه ابن الزبير: لثلاثة أمور: الأول: لما كان القرآن العظيم من أعظم نعم الله على عباده، والنعم مظنّة الحسد، فختم بما يطفىء الحسد من الاستعاذة بالله. الثاني: إنما ختم بهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيهما: أنْزِلَتْ عليَّ آيات لم أرَ مِثْلَهن قط، كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم ير مثلهما، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام. ألا ترى أن الخطَب والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها. الثالث: أنه لما أمر القارىء أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ختم القرآن بالمعوذتين لتحصُلَ الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، ليكون القاريء محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ به من أول الأمر إلى آخره. قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، حدثنا محمد بن صالح بن هانيء، حدثنا الحسين بن الفضل، حدثنا عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومه منها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علم التوراة والإنجيل والزبور في الفرقان، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم جميع الكتب المنزلة. وقد وُجّه ذلك بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن وقامت بها الأديان أربعة: علم الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته، وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم. ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة بـ مالِكِ يوْم الدين. وعلم العبادات، وإليه الإشارة بـ إيّاكَ نَعْبد. وعلم السلوك، وهو حَمْلَ النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب البرية، وإليه الإشارة بإياك نستعين، اهْدِنا الصِّرَاط المستقيم. وعلم القصص، وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غَيْر المغضوب عليهم ولا الضالين. فنَبَّه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال - مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة. وكذلك أول سورة اقْرَأ لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة والبداءة فيها باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب، وإثبات ذاته وصفاته، من صفات ذات وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين. وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: (عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يعْلَمْ) . ولهذا قيل: إنها جديرة أن تُسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله. والكلام في هذا الوجه عريض، أفرده بالتأليف ابن أبي الإصبع في كتاب سماه " الخواطر السوانح في أسرار الفواتح "، وهأنا ألخص هنا ما ذكره مع زوائد من غيره، طالبا ممن نظر فيه دعوة خالصة في وقت استجابةٍ أن ينفعنا بهذا القرآن العظيم بجاه نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: اعلم أن الله تعالى افتتح القرآن بعثصرة أنواع من الكلام لا يخرج شيء من السور عنها: الأول: الثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح، ونفي وتنزيه عن صفات النقص. فالأول التحميد في خمس سور، و (تبارك) في سورتين. والثاني: التسبيح في سبع سور. قال الكِرْماني في متشابه القرآن: التسبيح كلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في بني إسرائيل، لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد والحشر، لأنه أسبق الزمانين، ثم بالضارع في الجمعة والتَّغَائن، ثم بالأمر في الأعلى، استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها. الثاني: حروف التهجي في تسع وعشرين سورة، وسيأتي الكلام عليها في وجه تشابهه، ومضى في وجه مناسبة سوره. الثالث: النداء في عشر سور، خمس بنداء الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الأحزاب، والطلاق، والتحريم، والمزَّمّل، والمدَّثّر. وخمس بنداء الأمة: النساء، والمائدة، والحج، والحجرات، والممتحنة. الرابع: الجمل الخبرية، نحو: (يسألونك عن الأنفال) . (برَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسولِه) . (أتى أمْر اللهِ) . (اقترب للناسِ حِسابهم) . (قد أفلح المؤمنون) . (سورَةٌ أنزلناها) . (تَنْزِيل الكتَاب) . (الذين كفَروا) . (إنَّا فَتَحْنَا) . (اقْتَرَبَتِ الساعة) . (الرحمن علَّم القرآن) . (قد سَمِع) (الحاقَّةُ) . (سأل سائل) . (إنا أرسلنا نوحاً) . (لا أقْسم) في موضعين القيامة، والبلد. (عبس) . (إنا أنزلناه) . (لم يكن) (القارعة) . (ألهاكم) . (إنا أعطيناك) . فتلك ثلاثٌ وعشرون سورة. الخامس: القَسَم في خمس عشرة سورة أقسم فيها بالملائكة وهي: والصافّات. وسورتان بالأفلاك: البروج، والطارق. وست سور بلوازمها: في النجم أقسم بالثريا. والفجر بمبدأ النهار. والشمس بآية النهار. والليل بشطر الزمان. والضحى بشطر النهار. والعصر بالشطر الآخر، أو بجملة الزمان. وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر: والذاريات، والمرسلات. وسورة بالتربة التي هي منها أيضاً، وهي الطور. وسورة بالنَّبَاتِ وهي: والتين. وسورة بالحيوان الناطق، وهي: والنازعات. وسورة بالبهائم، وهي: والعاديات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السادس: الشرط في سبع سور: الواقعة. والمنافقون. والتكوير. والانفطار. والانشقاق. والزّلْزَلَة. والنَّصْر. السابع: الأمر في ست سور: (قل أوحى) . (اقرأ) (قل يا أيها الكافرون) والإخلاص. والمعوِّذتين. الثامن: الاستفهام في ست: (هل أتى) . (عَمَّ يتساءلون) . (هل أتاك) (ألم نشرح) . (ألم تر) . (أرأيت) التاسع: الدعاء في ثلاث: (وَيْلٌ لِلْمُطَففِين) . (وَيْلٌ لِكلّ همزة) . (تَبَّتْ يَدَا) . العاشر: التعليل في: (لإيلَافِ فريش) . هكذا جمع أبو شامة، قال وما ذكرناه في قسم الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر، وكذا الثناء كله خبر إلا سبّح فإنه يدخل في قسم الأمر، وسبحان يحتمل الأمر والخبر، ثم نظم ذلك في بيتين: أثنى على نَفْسِهِ سبحانه بثبو ... ت الحمد والسلب لَمَّا استفتح السّوَرَا والأمرُ شرط النِّدا التعليل والقَسَم ال ... عما حروف التهجِّي استفهمِ الْخَبَرا وسئل الشيخ الإمام تاج الدين السبكي عن الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد. فأجاب بأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك. سبحان الله والحمد لله. وأجاب ابن الزَّمْلكاني بأن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي كذّب المشركون به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبه تكذيبٌ لله تعالى - أتى بسبحان لتنزيه الله عما نُسب إليه ولنَبِيِّه من الكذب. وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخير الوحي نزلت مبيّنَةً أنَّ الله تعالى لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة. وفي تفسير الحوفي: افتتحت الفاتحة بقوله: الحمد للهِ رب العالين، فوصف بأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مالك جميع المخلوقين. وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر لم يوصَف بذلك، بل بفرد من أفراد صفاته وهو خلقُ السماوات والأرض، والظلمات والنور في الأنعام، وإنزال الكتاب في الكهف، ومالك ما في السماوات وما في الأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر، لأن الفاتحةَ أمّ القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها. قال الأستاذ ابن الزبير: وأما مناسبة الوصف الوارد في سورة الأنعام فمن حيث ما وقع فيها من الإشارة إلى مَنْ عبد الأنوار، وأعاد سبحانه ذكر ما فيه الدلالة البينة على بُطلان مذهب مَنْ عَبد النَّيِّرات أو شيئاً منها في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية. فقال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) . ثم قال عليه السلام على جهة الفَرْض وإقامة الحجة على قومه: " هذا رَبّي " فلما أفل قال: لا أحِبُّ الآفلين. ثم قال في الشمس والقمر مستدلاّ بتغيُّرهما وتقلبهما في الطلوع والغروب على أنهما حادثين مربوبين مسخرين طالعين لموجدِهما المنَزّه عن سمات التغير والحدوث، فقال عليه السلام عند ذلك لقومه: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) . فأخبر عن حاله قبل هذا الاعتبار وبعده. قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) . وفي طيّ قوله: وما كان من المشركين تنزيهه عن عبادة النيرات وغيرها مما سواه تعالى، وبانَ من هذا كله ما افتتحت به السورة من انفراده تعالى بخلق السماوات والأرض، والظلمات والنور، فوضح التلازمُ والتناسب. وأما سورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أهل الكهف، ولقاء موسى عليه السلام والخضر، وما كان من أمرهما، وذكر الرجل الطّواف وبلوغه مطلع الشمس ومغربها، وبنيانه سدَّ يَأجُوج ومأجوج، وكل هذا إخبار بما لا مجال للعقل فيه، ولا تُعْرَف حقيقته إلا بالوحي والإنباء بالصدق الذي لا عِوَج فيه ولا امْتِراءَ ولا زيْغ - ناسب ذكر افتتاح السورة المعرّفة بذلك بالوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المقطوع به قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتَابَ ولم يجعل له عِوجاً) . والتناسب في هذا أوضح من أن يتوقف فيه. وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح سبحانه داود عليه السلام من تسخير الجبال والطير والريح وإلانةِ الحديد ناسب ما به افتتحت السورة من أن الكل ملكه وخلقه، فهو المسخّر لها والتصرف في الكل بما شاء، فقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) . وهذا أوضح التناسب. وأما سورة الملائكة فمناسبة وصفِه تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكره من خلق عامّ في السماوات من الملائكة وجعلهم رسلاً أولي أجنحة، وإمساكه السماوات والأرض أنْ تَزولا - أبْين شيء وأوْضَحه، وليس شيء من هذه الأوصاف العليّة بمناسب لغير موضعه لمناسبته موضعه الوارد منه. فقد بان مجيء كلّ منها في موضعه ملائماً لما اتصل به. والله أعلم. قال الكَرْمَاني في العجائب: إن قيل كيف جاء يسألون أربع مرات بغير واو. (يسألونك عن الأهِلَّةِ) . (يسألونك ماذا ينْفِقُون) . (يسألونك عن الشَّهْرِ الحَرَام) . (يسألونك عن الخمر) . ثم جاء ثلاث مراتٍ بالواو: (ويسألونك ماذا يُنْفقون) (ويسألونك عن اليَتَامَى) . (ويسألونك عن المحِيض) . قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأوَل وقع متفرقاً، وعن الحوادث الأخَر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك. فإن قيل: كيف جَاء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) ، وعادة القرآن مجيء قل في الجواب بلا فاء؟ أجاب الكرماني بأن التقدير لو سئلت عنها فَقُلْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فإن قيل: كيف جاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بِقُلْ. قلنا: حُذِفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء في أشرف المقامات، ولا واسطة بينه وبين مولاه. ورد في القرآن سورتان، أولهما يا أنها الناس في نصفه الأول، وهي تشتمل على شرح البدأ، والتي في النصف الثاني على شرح المعاد. ******* الوجه السادس من وجوه إعجازه (مُشْتَبِهات آياته) وذلك أن القصة الواحدة ترد في سوَرٍ شتَّى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في البقرة: (وادخُلُوا البَابَ سُجَّداً وقولُوا حِطَّة) . البقرة: 58. وفي الأعراف: (وقولوا حِطّة وادْخُلُوا البابَ سُجّداً) . الأعراف: 161. وفي البقرة: (وما أهِل بهِ لغَيْرِ اللهِ) وسائر القرآن: (وما أهِلّ لغَيْرِ الله به) . وفي موضع بزيادةٍ وفي موضع بدونها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) . وفي يس: (وَسَوَاء) . يس: 10، وفي البقرة: (ويَكونَ الدِّينُ للَهِ) البقرة: 163. وفي الأنفال: (كُلّه لله) الأنفال: 39. وفي موضع معرفاً وفي آخر منكراً. أو مفرداً وفي آخر جمعاً. أو بحرف وفي آخر بحرف آخر. أو مدغماً أو مفككاً. وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات. وقد أفرده بالتصنيف جماعة أولهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني كتابه "البرهان في متشابه القرآن". وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل" لأبي عبد الله الرازي (1) . وأحسن منها كلها "ملاك التأويل في متشابه التنزيل" لأبي جعفر بن الزبير. وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه "كشف المعاني عن متشابه المثاني". وفي كتابي أسرار التنزيل المسمى   (1) الراجح نسبة الكتاب إلى الخطيب الإسكافي رحمه الله، وقد نقل عنه الكرماني في "البرهان في متشابه القرآن" بعض الأجوبة، - ناسبا الكتاب - للخطيب الإسكافي، ومعلوم أن الكرماني متقدم على الرازي. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجمّ الغفير، لَكنَّا "نُشِير هنا إلى توجيه أمثلة منها تتميما للفائدة: قوله في البقرة: (هُدًى للمتَّقين) البقرة: 2) ، لأنه لما ذكر هنا جموع الإيمان ناسب المتقين، ولما ذكر في لقمان الرحمة ناسبه: هدى ورحمةً للمحسنين. وإنما ذكر في البقرة: (وكُلاَ) . البقرة: 35، بالواو، وفي الأعراف: (فَكُلاَ) . الأعراف: 19، - بالفاء، لأن المراد بالسكنى في البقرة الإقامة. وفي الأعراف اتخاذ المسكن، فلما ناسب القول إليه تعالى: (وقُلْنَا يَا آدَم) البقرة: 35، ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى والأكل، ولذا قال فيه رغداً، وقال: حيث شئتما، لأنه أعلم. وأتى في الأعراف: يا آدم، فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها، لأن الأكل بعد الاتخاذ، ومن حيث لا يعطي عموم " حيث شئتما ". قوله في البقرة: (ولا يُقْبَل منها شَفَاعَةٌ) ، وقال بعد ذلك: (ولا يقْبَلُ منها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُهَا شفاعةٌ) ، ففيه تقديم وتأخير، والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفي أخرى، وذكر في حكمته أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى، وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبيّن في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا تُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عَدْل، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بَذْل العدل عنها. وبيّن في الثانية أن النفس المطلوبة بجُرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها، ولا تنفعها شفاعة شافع فيها، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده، ولذلك قال في الأولى: لا يقبل منها شفاعة، وفي الثانية: ولا تنفعها شفاعة، لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع، وإنما تنفع المشفوع له. قوله تعالى في البقرة: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) . وفي إبراهيم: (وَيُذَبِّحُونَ) ، بالواو، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم فلم يعدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عليهم المحن تكريما في الخطاب. والثانية من كلام موسى فعددها في الأعراف: (يُقَتّلون) ، وهو من بديع الألفاظ المسمى بالتفنن. قوله تعالى: (وإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذه القَرْية) ، وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر النعم عليهم حيث قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) . فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله رغداً، لأن النعم به أتم، وناسب تقديم: وادخلوا الباب سجداً، وناسب خطايا، لأنه جمع كثرة، وناسب الواو في: وسنزيد الحسنين لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في فكلوا، لأن الأكل قريب من الدخول. وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم، وهو قوله: (اجعَلْ لنا إلهاً كما لَهُمْ آلهة) . الأعراف: 138. ثم اتخاذهم العجل، فناسب ذلك: وإذا قيل لهم، وناسب ترك " رَغَدا " والسكنى تجامع الأكل فقال: وكلوا، وناسب تقديم مغفرة الخطايا، وترك الواو في سنزيد. ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) ، ناسب تبعيض الظالمين بقوله: الذين ظلموا منهم، ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم. والإرسال أشد وقعاً من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة البقرة ذلك، وختم آية البقرة بـ يفسقون. ولا يلزم منه الظلم، والظلم يلزم منه الفسق، فناسب كل لفظ منها سياقه. كذا في البقرة " فانفجرت " وفي الأعراف: انبجست، لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء، فناسب ذكر النعم التعبير به. قوله تعالى في البقرة: (وقالوا لَنْ تَمَسّنَا إلا أيّاماً معدودةً) وفي آل عمران (معدودات) . قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود: إحداهما قالت إنما نُعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا. والأخرى قالت: إنما نُعذب أربعين يوماً، عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أيام عبادة آبائهم العجل، فآية البقرة تحتمل قَصْدَ الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران الفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة. وقال أبو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن. قوله في البقرة: (إنَّ هُدَى اللهِ هو الهدَى) . وفي آل عمران: (إنّ الهدَى هُدَى الله) ، لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة، وفي آل عمران المراد به الدّين، لتقدم قوله: " لِمَنْ تَبعَ دِينَكم"، ومعناهُ دين الإسلام. قوله تعالى في البقرة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) . وفي إبراهيم عرّفه، لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر وإسماعيل به وهو واد، فدعا بأن يصير بلدا. والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرْهم به ومصيره بلداً فدعا بأمنه. وقيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة. وقيل تقديره في البقرة: هذا البلد بلداً آمناً، فخذف البلد اكتفاء بالإشارة، فتكون الآيتان سواء، وهذا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء مرتين. والظاهر أنه مرة حكى لفظه فيها على وجهين. قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البقرة: 120، فجعل الذي مكان قوله فما بعد: (ما) ، وزاد (من) البقرة: 145، والرعد 37، لأن العلم في الآية الأولى علم بالكمال الذي ليس وراءه علم، لأن معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وصفاته، فكان لفظ الذي أليق به من لفظ " ما "، لأنه في التعريف أبلغ وفي الوصف أقعد، لأن " الذي " تعرّفه صلته ولا يتنكر قط، ويتقدمه أسماء الإشارة، نحو قوله: (أمَّن هذا الذي هُوَ جُنْدٌ لكم) ، (أمَّن هذا الذي يرْزُقكم) . فيكتنفه بيانان: الإشارة والصلة ويلزمه الألف واللام، ويثنى ويجمع، وليس لـ " ما " شيء من ذلك، لأنه يتنكر مرة ويتعرَّفُ اخرى، ولا يقع وصفاً لأسماء الإشارة، ولا يدخله الألف واللام، ولا يثنَّى ولا يجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وخص الثاني بما لأن المعنى من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة الله هي الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم. وزيد معه " من " التي هي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالكعبة، لأن القبلة الأولى نُسخت بهذه الآيات، وليس الأول موقتاً بوقت. وقال في سورة الرعد: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، فعبّر بما، ولم يزد من هنا لأن العلم ها هنا هو الحكم العرفي، أي القرآن، فكان بعضاً من الأول ولم يزد من لأنه غير موقت. وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران: (مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ من العلم) . قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) ، وفي آل عمران: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) . لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (قُلْ آمنّا بالله) ، و"إلى" ينتهى به من كل جهة، و"على" لا ينتهى به إلا من جهة واحدة وهي العلو. والفرقان يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم. وإنما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة العلو خاصة، فناسب قوله (علينا) ، ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلَى، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى. قوله تعالى في البقرة: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) . وحذف ما في آل عمران لأنه تقدم فيها ذكر ذلك: قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكم) . قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) . إنما كرر هذه الآيات ثلاث مرات، لأن الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: وإنه للْحَق مِنْ ربك. والثالثة للعلة وهي قوله: (لئلا يكونَ للناس عليكم حُجّة) . وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى مكان لا ترى أي الحالتين فيه سواء. قوله تعالى: (إلا الذينَ تَابوا وأصْلَحُوا) . البقرة: 160. إنما لم يزد هنا (من بعد ذلك) كما في غيرها. لأن قبله من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، فلو أعاده لالْتَبَسَ. قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، لأنه ذكر في البقرة الاتباع مَنْفِيّا بما هو دون العلم لتكون كل دعوى منفيا بما يُلائمه. ولما ذكر في المائدة، ادعاءهم النهاية بلفظ "حَسْبُنا" نفى ذلك بالعلم الذي هو أبلغ درجة من العقل، ولهذا جاز وصفه تعالى بالعلم، ولم يجز وصفه بالعقل، ولكن لما كان دعواهم في المائدة أبلغ لقولهم: (حَسْبُنَا ما وَجَدْنَا) ، وكذلك في سورة لقمان، لأن وجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، ومرة إلى مفعولين: وجدت زيداً جالساً، فأتى في آية البقرة بألفيت، لأنه يتعدى إلى مفعولين، تقول ألفيت زيدا قائما، وأتى في المائدة بما هو أعلم. قوله تعالى: (ومَا اهِلَّ يهِ لِغَيْرِ الله) البقرة: 173. فقدم ضمير المجرور في البقرة، وأخَّره في المائدة، والأنعام، والنحل، لأن تقديم الباء الأصل بأنه يجري مجرى الألف والتشديد في التعدي، فكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأول أوْلى بما هو الأصل، ليعم ما يقتضيه اللفظ. وأما ما عدا هذه السورة فأخّر به لأنه قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، وتقدم ما هو بالغرض أولى، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذي الحال، والظرف على العامل فيه، إذا كان أكثر الغرض في الإخبار، وزاد في هذه السورة: فلا إثم عليه، وفي السور الثلاث تضميناً، لأن قوله: " غفور رحيم " يدل على أنه لا إثم عليه. وإنما ختم في الأنعام بذكر الرب، لأنه تكرر فيها مرات. فكان لفظ الرب بها أليق. قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تقْرَبُوها) . البقرة: 187. وقال بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ذلك: (فلا تَعْتَدوها) ، لأن الأولى وردت بعد نواهٍ، فناسب النهي عن قربانها، والثانية بعد أوامر، فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها. قوله تعالى: (نَزّلَ عَلَيْكَ الكتَاب) آل عمران: 3. وقال: (وأنزل التوراةَ والإنْجِيل) آل عمران: 3) ، لأن الكتاب أنزل منجماً، فناسب الإتيان بنزل الدالة على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة واحدة. قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) . وفي الإسراء: (خَشْيَةَ إمْلاَق) ، لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين، أي لا تقتلوهم من فقركم، نحن نرزقكم ما يزول به إملاقُكم، ثم قال: وإياهم. والثانية خطاب للأغنياء، أي خشية فقر يحصل لكم بسببهم، ولهذا حسن: نحن نرزقهم وإياكم. قوله تعالى: (فاستَعِذْ باللهِ إنهُ سَمِيعٌ عَلِيم) الأعراف: 200. وفي فُصّلت: (السميع العليم) فصلت: 36) ، لأنها نزلت ثانيا فحسن التعريف، أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره عند نزوغ الشيطان. قوله تعالى: (المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم مِنْ بَعْض) . وقال في المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، وفي الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، وكان بعضهم يهوداً وبعضهم مشركين، فقال: من بعض، أي في الشك والنفاق. وكان المؤمنون متناصرين على دين الإسلام. وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) . فهذه أمثلة يستضاء بها، ويأتي منها كثير في وجه التقديم والتأخير، وتقدم في نوع الفواصل، وهذا بحر لا ساحل له، فلنرجع إلى المقصود. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الوجه السَّابع من وجوه إعجَازه (ووود مشكله حتى يوهم التعارض بين الآيات) وكلامه تعالى منزة عن ذلك، بل فيه إعجاز للكلام كما صنف في الحديث. وبيان ذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وقد تكلم في ذلك ابن عباس. وحكي عنه التوقف في بعضها. قال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن خبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت أشياء تختلف عليَّ من القرآن؟ فقال ابن عباس: ما هو، أشك، قال: ليس بشك، ولكنه اختلاف. قال: هات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) . وقال: (ولا يكتمون اللهَ حديثاً) . النساء: 42، فقد كتَمُوا. وأسمعه يقول: (فَلاَ أنْسَابَ بينهم يومئذٍ ولا يتَسَاءَلُون) المؤمنون: 101. ثم قال: (وأقْبَلَ بعضُهم على بعض يتساءلون) الصافات: 27. والطور: 25. وقال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، حتى بلغ: (طائِعين) ، ثم قال في الآية الأخرى: (أم السماء بنَاها) . ثم قال: (والأرض بعد ذلك دَحَاها) . وأسمعه يقول: (كان الله) ، ما شأنه يقول: (وكان الله) ؟ فقال ابن عباس: أما قوله: ثم لم تكن فتنتهم فإنهم لما رأوا العذاب يوم القيامة، وأن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: والله ربنا ما كُنَّا مشركين. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسَوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وأما قوله: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قوله: "خلق الأرض في يومين" فإن الأرضَ خُلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا فسواهنّ سغ سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها": يقول: جعل فيها جبالا، وجعل فيها أنهاراً، وجعل فيها أشجارا، وجعل فيها بحارا. وأما قوله: كان الله فإن الله كان ولم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم عليم قدير، ثم لم يزل كذلك، فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه ما ذكرْتُ لك، وإن الله لم ينزل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وأصله في الصحيح. قال ابن حجر في شرحه: حاصل ما فيه السؤال عن أربعة مواضع: الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها. الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه. الثالث: خلق السماء والأرض أيهما تقدم. الرابع: الإتيان بحرف " كان " الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة. وحاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المساءلة فيما قبل النفخة الثانية وإثبانها فما بعد ذلك. وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وأرجلهم. وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوّة، ثم خلق السماوات، فسوّاهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعن الرابع: بأن " كان " وإن كانت للمضي لكنها لا تستلزم الانقطاع، بل المراد أنه لم يزل كذلك. فأما الأول فقد جاء فيه تفسير آخر: إن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط، وإثباتها فما عدا ذلك، وهو منقول عن السدي. أخرجه ابن جرير من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى، وإثباتها بعد النفخة الثانية. وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر، وهو طلب بعضهم من بعض العفو، فأخرج ابن جرير من طريق زادان، قال: أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادى هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قِبلَه فليأت. قال: فتودُّ المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. ومن طريق آخر قال: لا يسأل يومئذ أحد بنسب شيئاً، ولا يتساءلون به ولا يمتّ برحم. وأما الثاني فقد ورد بأبسط منه فيما أخرجه ابن جرير عن الضحاك بن مُزَاحم: أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله: ولا يكتمون الله حديثاً، وقوله: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين. فقال: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم: آتي ابن عباس ألْقِي عليه متشابه القرآن، فأخبِرْهُم أن الله إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن اللهَ لا يَقْبَل إلا مِمَّنْ وحَّدَه، فيسألهم فيقولون: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين. قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم. ويؤيده ما أخرجه مسم من حديث أبي هريرة في أثناء حديث، وفيه: ثم يلقى الثالث فيقول: يا رب، آمنت بك وبكتابك ورسولك، ويثْني ما استطاع. فيقول: الآن نبعث عليك شاهداً، فيقول في نفسه: من الذي يشهد عليّ! فيختم على فيه وتنطق جوارحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وأما الثالث ففيه أجوبة أخر، منها: أن ثم بمعنى الواو، فلا إيراد. وقيل: المراد ترتيب الخبر لا المخبر به، كقوله: (ثم كان من الذين آمنوا) . وقيل على بابها، ولكي لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في الزمان. وقيل خلق بمعنى قَدَّر. وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه فيحتمل كلامه أنه أراد سَمّى نفسه غفوراً رحيما، وهذه التسميةُ مضَتْ، لأن التعلق انقضى. وأما الصفتان فلا تزالان كذلك لا تنقطعان، لأنه إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده، قاله الشمس الكرماني، قال: ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين: أحدهما أن التسمية هي التي كانت وانقضت، والصفة لا نهاية لها، والآخر أن معنى كان للدوام، فإنه لا يزال كذلك، ويحتمل أن يحمل السؤال على مسلكين والجواب على دفعهما، كأن يقال هذا اللفظ يُشعرِ بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم، وبأنه ليس في الحال كذلك لما يشعر به لفظ " كان ". والجواب عن الأول بأنه كان في الماضي تسمّى به. وعن الثاني بأن " كان " تعطي معنى الدوام. وقد قال النحاة: كان لثبوت خبرها ماضياً دائماً أو منقطعا. وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهودياً قال: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزا حكيماً، فكيف هو اليوم، فقال: إنه كان في نفسه عزيزاً حكيماً. موضع آخر توقف فيه ابن عباس: قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل عن أيوب. عن ابن أبي مُلَيْكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن (يَوْم كانَ مِقْدَاره ألف سنة) . وقوله: (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) . فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، والله أعلم بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه، وزاد: ما أدري ما هما، وأكره أن أقول فيهما ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلت على سعيد بن المسيب فَسُئل عن ذلك فلم يدر ما يقول. فقلت: ألاَ أخْبِرك بما حضرت عن ابن عباس. فأخبرته. فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس قد اتَّقَى أنْ يقول فيها، وهو أعلمُ مني. وروي عن ابن عباس أيضاً أن يوم الألف هو مقدار سَيْرِ الأمرِ وعروجه إليه، ويوم الألف في سورة الحج أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات. ويوم الخمسين ألفاً هو يوم القيامة، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً قال له: حدثني ما هؤلاء الآيات: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. (وإن يَوماً عند ربك كألْفِ سنة) . الحج: 47. فقال: يوم القيامة حساب الخمسين ألف سنة. والسماوات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) . قال ذلك مقدار السير. وذهب بعضهم إلى أن المراد بهما يوم القيامة، وأنه باعتبار حال المؤمن والكافر، بدليل قوله: يوم عسير على الكافرين غير يسير. فصل قال الزركشي في "البرهان": للاختلاف أسباب: أحدها: وقوع الخبر به على أحوال مختلفة وتطورات شتى، كقوله في خلق آدم مرة: (مِنْ ترَاب) آل عمران: 59) ، ومرةً: (مِنْ حَمَأ مَسْنون) الحجر: 26) ، ومرة: (مِنْ طِين لازِبِ) الصافات: 11) ، ومرة -: (مِنْ صَلْصَال كالفَخَّار) . الرحمن: 14) ، فهَذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة، ً لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكقوله: (فإذا هي ثعْبَانٌ) ، في موضع. وفي موضع: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، والجان الصغيرُ من الححَّاتِ، والثعبان الكبير منها، وذلك لأن خَلْقَهَا خلقُ الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وحركته وخفّته. الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) . وقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) . - مع قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) . قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل. والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوءات من شرائع الدين وفروعه. وحمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع: يسألون، وفي موضع آخر: لا يسألون. وقيل: إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة. وكقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، مع قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الآية الأولى على التوحيد، بدليل قوله بعدها: (ولا تموتنَ إلا وأَنْتمْ مسلمون) . والثانية على الأعمال. وقيل: بل الثانية ناسخة للأولى. وكقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) . مع قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) . فالأولى تفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه. والجواب أن الأولى في توفية الحقوق. والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة البشر. وكقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ، مع قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) . فالأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير. الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل، كقوله: (فَلَمْ تَقْتلوهم ولكنَّ اللهَ قتَلَهم وما رَمَيْتَ إذ رميت ولكنَّ اللهَ رمى) . فأضاف الفعل إليهم والرمي إليه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير. الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) . أي سكارى من الأهوال مجازاً، لَا منَ الشراب حقيقة. الخامس: بوجهين واعتبارين، كقوله: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) . مع قوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) . قال قطْرب: فبصرك اليوم، أي عِلْمك ومعرفتك بها قوية. من قوله: بَصرَ بكذا أي علم، وليس المراد رؤية العين. قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: (فكشَفْنَا عنكَ غطاءك) . وكقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) . مع قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) . فقد يظنّ أن الوجل خلاف الطمأنينة. وجوابه أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد. والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . وممّا استشكلوه قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين. وقال في آية أخرى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) . فهذا حصر آخر في غيرهما. وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة أن تأتيهم سنة الأولين من الخسف أو غيره، أو يأتيهم العذاب قبلاً في الآخرة. فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين. ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة. ومعنى الآية الثانية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب بعثه بشرا رسولاً، لأن قولهم ليس مانعاً من الإيمان، لأنه لا يصلح لذلك، وهو يدل على الاستغراب بالتزام، وهو المناسب للمانعية، واستغرابهم ليس مانعاً حقيقيا، بل عادياً، لجواز وجود الإيمان معه بخلاف عادة الله، فهذا حصر في المانع العادي، والأول حصر في المانع الحقيقي، فلا تنافي ... انتهى. ومما استشكل قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) . (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) . (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) . إلى غير ذلك من الآيات. ووجهه أن المراد هنا بالاستفهام النفي، والمعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً. وإذا كان خبراً وأخِذت الآيات على ظاهرها أدى إلى التناقض. وأجيب بأوجه: منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله. ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله. وكذا باقيها، وإذا تخصص بالصِّلات زال التناقض. ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لَمّا لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سِالكاً طريقهم، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ومنها - وادعى أبو حيان أنه الصواب: أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض، لأن فيها إثبات التسمية في الأظلمية، ثم لم يكن أحد وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى، وممن منع ونحوها، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر، كما إذا قلت لا أحد أفقه منهم ... انتهى. وحاصل الجواب أن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة. وقال بعض المتأخرين: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة، ولا نفيها عن غيره. وقال الخطابي: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج، قال: سأل رجل بعض العلماء عن قوله: (لا أقسم بهذا البلد) . فأخبر أنه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: (وهذا البلد الأمين) التين: 3) ، فقال: أيّهما أحبّ إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك، فقال: أقطعني ثم أجبْني. فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة رجال وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مَغْمَزا وعليه مطْعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا منه ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتاً. ومما استشكلوه أيضاً قوله تعالى في سورة سبحان: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) . وفي سورة فصلت: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) . ومن لوازم الإياس نفي مطلق الدعاء، وأثبته في سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقد رام بعض المتأخرين الجمع بينهما في تأليف بديع) ، مقتضاه أن الدعاء العريض في أول الأمر والإياس في ثاني الحال. تنبيه : قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع طلب التاريخ، وترك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا. وإن لم يعمل، وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها. قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين. قال غيره: وتعارض القراءتين بمنزلة تعارض الآيتين، نحو: (وَأَرْجُلَكُمْ) ، بالنصب والجر، ولهذا جمع بينهما بحمل النصب على الغسل، والجر على مسح الخف. وقال الصيرفي: جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صحّ أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض، وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة، ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبدا، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين. وقال القاضي أبو بكَر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار. وما يوجبه العقل. فلذلك لم يجعل قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . معارضا لقوله: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) . لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق له غير الله، فتعين تأويل ما عارضه. فيؤوّل تخلقون على تكذبون، وتخلق على تصور. وذكر الكرماني عند قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الاختلاف على وجهين: اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن. واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد. ******* الوجه الثامن من وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه) وهو مما خصت به هذه الأمة لِحكَم، منها التيسير. وقد أجمع المسلمون على جوازه! وأنكره اليهود ظنًّا منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له أنه باطل، لأنه بيان مدة الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة، وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بَدَاءً، فكذا الأمر والنهي. واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . قالوا: ولا يكون مثلَ القرآن وخيراً منه إلا قرآن. وقيل: بل ينسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) . وجعل منه آية الوصية الآتية. والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نَسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. حكاه ابن حبيب النيسابوري في كتابه التفسير. وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بسنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق القرآن والسنة. وقد بسطت هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول. وقد أفرد بالتصنيف في هذا الفن خلائق لا تحصى، منهم: أبو عبيد القاسم ابن سلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي. وابن العربي، وآخرون. لكن في هذا النوع مسائل: الأولى: يَرِد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه قوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) . وبمعنى التبديل، ومنه: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) . وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد. وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه. قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن. وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجّاً بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ. وأنه إنما يأتي بلفظ آخر. وقال السعيدي: يشهد لما قاله النحاس قوله: (إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كنتُم تَعْمَلُون) الجاثية: 29. وقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) . ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) . الثانية: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صُنْع من أدخل في كتاب النسخ كثيراً من آيات الإخبار والوعد والوعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الثالث: النسخ أقسام: أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة، كآية النجوى. الثاني: ما نُسخ مما كان شرعاً لمن قبلنا كآية شرع القصاص والدية. أو كان أمر به أمراً جملياً، كنسخ التوجه إلى بيت القدس بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، وإنما يسمى هذا نسخاً تجوزا. الثالث: ما أمِرَ به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر - حين القلة والضعف - بالصبر والصلح، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخاً، بل من قسم المنْسَأ، كما قال تعالى: (أو نُنْسِها) ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون. وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبه يضعف ما لَهجَ به كثيرون من أن الآيات في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورَدَ يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله. وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مُشعراً بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) محكم غير منسوخ، لأنه يؤجّل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه الرابعة: قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة: الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون. وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة، وثلاث بعدها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والحج، والنور، وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، وكوّرت، والعصر. وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ستة: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى. وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية، كذا قال. وفيه نظر يُعرف مما يأتي. الخامسة: قال مكي: الناسخ أقسام: فرضٌ نَسَخَ فَرْضاً، ولا يجوز العمل بالأول، كنسخ الحبس للزَّوَاني بالحد. وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصابرة. وفرض نسخ ندباً، كالقتال، كان ندباً ثم صار فرضا. وندب نسخ فرضاً، كالقيام نسِخَ بالقراءة في قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) . السادسة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نسخ تلاوته وحكمه معاً، قالت عائشة: كان فما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فما يقرأ من القرآن. ورواه الشيخان. وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك. وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن التلاوة نسخت أيضاً، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي وبعض الناس يقرؤها. قال أبو موسى الأشري: نزلت ثم رفعت. وقال مكي: وهذا المثال فيه المنسوخ غير المتلوّ، والناسخ أيضاً غير متلوّ، ولا أعلم له نظيراً. الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جداً، وإنْ أكثر الناس من تعديد الآيات فيه، فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي ميز ذلك وأتقنه. والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام: قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له علاقة بهما بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) . (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) . ونحو ذلك، قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك، بل هو باق. أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة، كالإعانة والضيافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة. والآية الثانية تصح كلها على الزكاة، وقد فسرت بذلك. وكذا قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8. قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة. وقوله في البقرة: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) . عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف. وقد غلطه ابن الحَصَّار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر، فلا نسخ فيه. فقس على ذلك. وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ. وقد اعتنى ابن العربي بتجريده، فأجاد، كقوله: (إنَّ الإنسان لفي خسْر. إلا الذين آمَنوا) (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) . (إلا الذين آمنوا) . الشعراء: 224، 227. (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) . وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) . قيل نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . وإنما هو مخصوص به. وقسم رَفع ما كان عليه من الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية القصاص، والدية، وحصر الطلاق في الثالث. وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجّحه مكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوْ عدّ في الناسخ لعد جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب. وقالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية ... انتهى. نعم النوع الآخر منه - وهو رافع ما كان في أول الإسلام - إدخاله أوجب من القسمين قبله. إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون من الجمّ الغفير مع آيات الصلح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم ينسخها، وبقي ما يصلح لذلك عدد يسير. وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محرراً: من البقرة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ) . قيل منسوخة بآية الميراث، وقيل بحديث: لا وصية لوارث. وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي. قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) . قيل منسوخة بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) . وقيل محكمة و" لا " مقَدّرَة. قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) . ناسخة لقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لأن مقتضاها الموافقة فما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم. ذكره ابن العربي، وحكى قولاً آخر أنه نسخٌ لما كان بالسنة. قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) . منسوخة بقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) . أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) . إلى قوله: (متاعاً إلى الحَوْلِ) . منسوخة بآية: (أربعة أشْهُر وعَشْراً) . والوصيةُ منسوخة بالميراث. والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث: ولا سكنَى. قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) . منسوخة بقوله بعده: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . ومن آل عمران قوله تعالى: (اتَقُوا الله حقَّ تُقَاته) . قيل إنه منسوخ بقوله: (فاتَقُوا اللَهَ ما استَطَعْتُمْ) . وقيل: لا، بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية. ومن النساء قوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) . منسوخة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) . قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) . منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) . منسوخة بآية النور. ومن المائدة قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) . منسوخة بإباحة القتال فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) . منسوخة بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) . قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) . منسوخ بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق: 2. ومن الأنفال قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ) . منسوخة بالآية بعدها. ومن بَرَاءَةَ قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) . منسوخة بآية العذر، وهي قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) . وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) ... . التوبة: 91، الاآيتين وبقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) . ومن النور قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) . منسوخ بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) . قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . قيل: منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. ومن الأحزاب قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) . منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) . ومن المجادلة قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) . منسوخة بما بعدها. ومن الممتحنة قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) . قيل منسوخ بآية السيف. وقيل بآية الغنيمة. وقيل محكم. ومن المزمل قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إلا قليلا) . المزمل: 2. منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلافٍ في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها. والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة. ويضم إليها قوله تعالى: (فأيْنَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) البقرة: 165. على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ السجدِ الحرام) . فتتم عشرين. وقد نظمتها فقلت: قد أكثر الناسُ في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آياً ليْسَ تنحصِرُ وهاك تحرير آي لا مزيدَ لها ... عشرينَ حرَّرَها الحُذّاقُ والكُبَرُ آي التوجّه حيث المرء كان وأن ... يُوصي لأهليه عند الموت محتَضر وحرمة الأكل بعد النوم مع رفَث ... وفدية لمُطيق الصوم مشتهر وحقّ تقواه فما صحّ في أثر ... وفي الحرام قتالٌ للألي كفروا والاعتداد بحَوْل مَعْ وصيتها ... وأن يدَان حديثُ النفس والفكر والحلف والحبس للزاني وترك ألي ... كُفر، وإشهادهم والصبر والنّفَر ومنع عقدٍ لزان أو لزانيةٍ ... وما على المصطفى في العقد محتظر ودفع مهر لمن جاءَتْ وآية نجـ ... واه كذاك قيامُ الليل مُسْتَطِرُ وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن حَضَرُوا فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم وإبقاء التلاوة، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الفرقان كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيُتلى لكونه كتاب الله، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة. والثاني: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف. فأبقيت التلاوة تذكيراً للرحمة ورفع الشقة. وأما ما ورد في القرآن ناسخاً لما كان عليه الجاهلية، أو كان في شرع من قبلنا، أو في أول الإسلام، فهو أيضاً قليل العدد، كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، في أشياء أخر حررتها في كتابي المشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلا والمنسويخ قبله في الترتيب إلا آيتين: آية العِدَّة في البقرة، وقوله: (لا يَحِلّ لكَ النساء) ، كما تقدم. وزاد بعضهم ثالثة، وهي آية الحشر في الفيء على رأي من قال إنها منسوخة بآية الأنفال: (واعْلَموا أنما غَنِمْتم مِنْ شَيْء) . وزاد قوم رابعة، وهي قوله: (خُذِ العَفْوَ) . الأعراف: 198، - يعني الفضْل من أموالهم على رأي من قال إنها منسوخة بآية الزكاة. وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها. وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذِ العَفْوَ) . فإن أولها وآخرها - وهو: وأعرض عن الجاهلين - منسوخ، ووسطه محكم، وهو: وأمر با لعرْف. وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، ولا نظير لها، وهي قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة: 105. - يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله: (عليكم أنفسكم) المائدة: 105. وقال السعدي: لم يمكث منسوخٌ مدة أكثر من قوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) . مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية. وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) . أن المنسوخ من هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الجملة وأسيراً، والمراد بذلك أسير المشركين، فقريء عليه الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبت. قال: وكيف، قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعَم ولا يقتل جوعا. فقال: صدقت. وقال شَيْذَلة في البرهان: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً، كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) . نسخها قوله: (فاقْتُلُوا المشركين) . ثم نسخ هذه بقوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ) . كذا قال، وفيه نظر من وجهين: أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه. والآخر أن قوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ) - مخصِّص للآية لا ناسخ، نعم يمثل له بآخر سورة المزمل، فإنه ناسخ لأولها منسوخ بفرض الصلوات الخمس. وقوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، ناسخ لآية الكفّ، منسوخ بآية العُذْر. وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبي ميسرة، قالا: ليس في المائدة منسوخ. ويشكل بما في المستدرك عن ابن عباس أن قوله: (فاحْكمْ بينهم أو أعْرِضْ عنهم) المائدة: 42، - منسوخ بقوله: (وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله) . وأخرج أبو عبيد وغيره، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه، قال: أول آية نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول. قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ. قال: وقد ذكر أنه وقع فيه في آيات، منه قوله تعالى في سورة غافر: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . غافر: 7. فإنه ناسخ لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) الشورى: هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قلت: أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقاً. تنبيه : قال ابن الحصّار: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي يقول: آيةُ كذا نسخت كذا. وقال: قد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التأويل، ليعلم المتقدم والمتأخر. قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صريح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد. قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقْبَلُ في النسخ أخبار آحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد. والصواب خلاف قولهما. الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه. وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً. وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلاّ أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟. وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والنائم أدنى طريق الوحي. وأمثلة هذا الضرب كثيرة، قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يقولَنَّ أحدكم قد أخذت القرآن كله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر. قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن أبي لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر إلا على ما هو الآن (1) . وقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن الفضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِرّ بن حبيش، قال: قال لي أبَيّ بن كعب: كأيّن تعد سورة الأحزاب، اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثاً وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كُنَّا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: وما آية الرجم، قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجوهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي امامة بن سهل - أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجوهما ألبتة بما قضيا من اللذة. وقال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي حميد، عن حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. وعلى الذين يصلون الصفوف الأول - قالت قبل أن يغيّر عثمان المصاحف. وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوحي إليه أتيناه فعلّمنا مما أوحي إليه. قال: فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا لأحب أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون له الثالث، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.   (1) رواية لا تصح ولا تثبت، وهي تتعارض مع قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وهل يعقل أن يتواطأ الصحابة على ترك كتابة بعض آيات القرآن، "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" وشتان بين نظم هذه الرواية وما يذكر بعدها من روايات، وبين نظم القرآن الكريم. فتأمل ولا تكن من الغافلين. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وأخرج الحاكم في المستدرك، عن أبيّ بن كعب، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومن بقيتها: لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه سأل ثانياً، وإن سأل ثانيا سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية السمحة غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره. وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حرب، عن أبي الأسود، عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، وخفظ منها: إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعري، قال: كُنَّا نقرأ سورة نشبِّهها بإحدى المسبِّحات، فأنسيناها، غير أنى حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألونَ عنها يَوْمَ القيامة. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عدي بن عدي، قال: قال عمر: كُنَّا نقرأ لا ترغبون عن آبائكم فإنه كفر بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: كذلك، قال: نعم. قال: وحدثنا - ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، حدثنا ابن أبي مليكة، عن المِسْوَر بن مَخْرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة، فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن. وقال: حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المُعَافِري، عن أبي سفيان الكَلاعي - أن مسلمة بن مخَلّد الأنصاري، قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 سعد بن مالك، فقال مسلمة، إن الذين آمنوا وهاجَروا وجاهَدُوا في سبيلِ اللهِ بأموالهم وأنفسهم، ألا فأبْشِروا أنتم أيها المفلحون. والذين آووْهم ونصَرُوهم وجادَلوا عنهم القوم الذين غَضِب اللَهُ عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفِيَ لهم من قرَّةِ أعْين جزاءً بما كانوا يعْمَلون. وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غادِيَيْنِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك له، فقال: إنها مما نسخ فالهوا عنها. وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا: وقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قاتليهم. قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفع: أنْ بلّغوا عنّا قَوْمَنا أن قد لقينا ربَّنا فَرَضِيَ عنَّا وأرْضَانَا. وفي المستدرك عن حذيفة، قال: ما تقرأون ربعها - يعني براءة. قال أبو الحسين بن المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ: ومما رفع رسمة من القرآن ولم يرفع حفظه من القلوب سورة القنوت في الوتر، وتسمى سورة الخلع والحفد. تنبيه : حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم، إنكار هذا الضرب، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لاحجة فيها. وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه. ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكَتْبه في الصحف. فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ولا يعرف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا توفي لا يكون مَتْلُوّاً من القرآن، أو يموت وهو متلو موجود بالرسم، ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانهم. وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. وقال في البرهان في قول عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها - يعني آية الرجم، ظاهره أن كتابتها جائزة، وإنما منعه قول الناس. والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب. وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعَرِّج على مقالة الناس، لأن مقال الناس لا يصلح مانعاً. وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد، والقرآن لا يثبت به وإن ثبت لا يحكم. ومن هنا أنكر ابن ظَفَر في " الينبوع " عدَّ هذا مما نسخ تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت به القرآن. قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ، وهما مما يلتبسان، والفرق بينهما أن المنْسَأَ لَفْظُه قد يعلم حكمه. انتهى. وقوله: لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصَّلْت، قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاصي يكتبان المصحف، فمرّا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنيا الشيخ والشيخة، فارجوهما ألبتّة. فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أكتبا، فكأنه كَرِهَ ذلك. فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رُجِمَ. قال ابن حجر في شرح البخاري: فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها. قلت: وخطر لي في ذلك نكتة حسنة، وهو أن سببه التخفيف على الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقياً، لأنه أثقل الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر. وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف، قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثَّيِّبَيْن يرجمان، وقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: وأنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم. قال: لا أستطيع. قوله: أكتبني، أي ائْذَنْ لي في كتابتها، ومكنّي من ذلك. وأخرج ابن الضرَيْس في فضائل القرآن، عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن أسلم، أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، وقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبيّ بن كعب، فقال: ألست أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدفعت في صدري وقلت تستقرىء آية الرجم وهم يَتَسَافَدون تسافُدَ الحمر. قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف. تنبيه: قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وجميع هذه الأوجه، مع علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول. قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. قال الخوَيِّي: علم التفسير علم غير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه. وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يُعلم إلا بأن يسمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد مستنبط بأمارات ودلائل. والحكمة فيه أن الله أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيّه بالتنصيص على المراد في جميع آياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقد كان الصحابة يتحاشون عن تفسير القرآن بالرأي، ويتوقّفون عن أشياء لم يبلغهم فيها شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ظهر لي تفصيلٌ حسن أخذته مما رواه ابن جرير عن ابن عباس، موقوفاً من طريق، مرفوعاً من أخرى: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعرفه أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فما كان عن الصحابة مما هو من الوجهين الأولين فليس بمرفوع، لأنهم أخذوه من معرفتهم بلسان العرب، وما كان من الوجه الثالث فهو مرفوع إذ لم يكونوا يقولون في القرآن بالرأي. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) . قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس - مرفوعاً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ. قال: القرآن. قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البَرُّ والفاجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتْني، لأني سمعت الله يقول: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) . قال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذّ الشِّعْرَ هذًّا. وأخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فِيْمَ أنْزلت، وما أراد بها. وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق، قال: لأنْ أعرب آية من القرآن أحب إليّ من أن أحفظ آية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وأخرج أيضاً عن عبد الله بن بُريدة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أعلم أني إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت. وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، قال: قال عمر: من قرأ القرآن وأعربه كان له عند الله أجر شهيد. قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتعبير، لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا يحتاجون إلى تعليمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته وقال بجواز أن يكون المراد الإعراب الصناعي، وفيه بعْدٌ. وقد يستدل له بما أخرجه السّلَفي في الطيوريات من حديث ابن عمر - مرفوعاً: أعربوا القرآن يدلكم على تأويله. وقد أجمعوا على أن التفسير من فروض الكفاية، وأجَلُّ العلوم الشرعية. قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك أن شرف الصنعة إما لشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميْتَة. وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة الكِنَاسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح. وإما بشدة الحاجة إليها، كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون من أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعضُ الناس في بعض الأوقات. إذ عُرِف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاثة، أما من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة. ومَعْدِنُ كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى. وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيويّ عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله. والكلام هنا عريض تكفّل بجمعه أئمتنا رضي الله عنهم. وإنما ذكرتُ في هذا المجموع بعض ما يحتاج إليه بعد تقرير قاعدة، وهي أن كل من وَضَع من البشر كتاباً فإنما وضعه ليُفْهَمَ بذاته من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشرُوح لأمور ثلاثة: أحدها: كمال فضيلة كلام المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عَسُرَ فَهْمُ مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية، ومن هاهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره. وثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسائل، أو شروط لها، اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبها. وثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز، والاشتراك، ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارحُ لبيان غرض المصنف وترجيحه. وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط، أو تكرار الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك. وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمان أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر، كسؤالهم لما نزل: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الأنعام: 82) ، فقالوا: وأينَا لم يظلم نفسه، ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرْك، واستدل عليه بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال: ذلك العرض. وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأسود والأبيض، وغير ذلك مما سألوا عن آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير. ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ وكشف معانيها. وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض. فإن قلت: قد قلتم إنه يقع النسخ إلى غير بدل. وقد قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . وهذا إخبار لا يدخله خلف. فالجواب ما قاله ابن الحصار: كل ما ثبت الآن من القرآن ولم ينسخ فهو بدل مما نُسخت تلاوته، فكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن فقد أبدله الله مما علمناه وتواتر إلينا لفطه ومعناه. ******* الوجه التاسع من وجوه إعجازه (انقسامه إلى محكم ومتشابه) فهو محكم لا يتطرق النقصُ إليه والاختلاف، ويشبه بعضُه بعضاً في الحق والصدق والإعجاز. وقد اختلف علماؤنا في التعبير عن المحكم والمتشابه على أقوال كثيرة، وألفوا فيه تواليف منيرة، وقصدنا في هذه النبذة اختصار ما فيها. فقيل: الحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقال الماوردي: المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً. والمتشابه بخلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان. وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا بردّه إلى غيره. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات:: (قل تَعَالَوْا) ، والآيتان بعدها. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: (فيه آيات محْكَمَات) . قال: من هاهنا: (قل تَعَالَوْا) إلى ثلاث آيات. من هاهنا: (وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاّ إياه) ، إلى ثلاث آيات بعدها. قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به. واختلف أيضاً هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا يعلمه إلا الله على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العلم يقولون) ، هل هو معطوف ويقولون حال، أو مبتدأ خبره يقولون والواو للاستئناف. وعلى الأول طائفة يسيرة، منهم مجاهد وهو رَاوِيهِ عن ابن عباس: فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) - قال: أنا ممن يعلمُ تأويله. وأخرج عبيد بن حميد عن مجاهد في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) - قال: يعلمون تأويله ... ويقولون آمنّا له. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله. ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه. واختار هذا القول النووي، فقال في شرح مسم: إنه الأصح، لأنه يَبْعُدُ أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم خصوصاً أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس. قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة. واختاره الغنيمي. قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة، لكنه سقط في هذه المسألة. قال: ولا غَرْو فإن لكل جَوَاد كبوة، ولكل عالم هفوة. قلت: ويدلّ لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس - أنه كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله. ويقول الراسخون في العلم آمنّا به، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف، لأن هذه الرواية وإن لم تثبتْ بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على مَنْ دونه. ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متّبِعي المتشابه، ووصفهم بالزَّيْغِ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحكى الفَرَّاء أن في قراءة أبي بن كعب أيضاً: ويقول الراسخون. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود: وإنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: (هو الذي أنزل عليكَ الكتاب ... إلى قوله: (أولو الألباب) ، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذرهم. وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أخاف على أمَّتي إلاّ ثلاث خِلاَل: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيَقْتَتِلوا. وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله ... الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأخرج ابن مَرْدَويه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به. وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلّوا حلاله وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: (آمنّا به كلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العَوْفيِّ، عن ابن عباس، قال: نُؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله. وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه. وأخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار - أن رجلا يقال له صَبِيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر - وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه. وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دَبِراً، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فأذن له إلى أرضه. وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين. وأخرج الدارمي، عن عمر بن الخطاب - أنه قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فهذه الآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله، وأن الخوض فيه مذموم، وسيأتي قريباً زيادة على ذلك. قال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه خلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أوْ لا. والثاني النص. والأول إما أن يكون دلالته على ذلك الغير أرجح أم لا، والأول هو الظاهر. والثاني إما أن يكون مساويه أم لا. والأول هو المجمل والثاني المؤول. فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك من المجمل، والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم موضع المتشابه، فالواجب أن يفسَّر الحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما يشاء، فقال أولاً: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ... إلى أن قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) . وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، لإتيان لفظ الرسوخ، لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع العام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طرق الرشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق. وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) . شاهداً على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) . وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) تام، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنه من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: " فاحْذَروهم ". وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، وكمن صنف كتاباً أجملَ فيه أحياناً فيكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والتشاغل به هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافاً بقصورها. وفي ختم الآية بقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ، تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين - يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من ذوي العقول، ومن ثم قال الراسخون: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... ) إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللَّدني بعد أن استغاثوا به من الزيغ النفساني. وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدها ما إذا رد إلى الحكم واعتُبر به عرف معناه. والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيظنون تأويله، ولا يبلغون كُنْهَه، فيرتابون به فيفْتَتِنون. وقال ابن الحصار: قسّمَ اللهُ آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب، لأنه إليها تردّ المتشابهات، وهي التي تُعتمد في فهم مراد الله من خلقه، أي في كل ما تعبّدهم به من معرفته وتصديق رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وبهذا الاعتبار كانت أمهات. ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه. ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات، ومراد الشارع منا التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين، ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك. ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التتبع إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والشروع، ومثَلُ هؤلاء من المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءو بها، ويظنون أنهم لو جاءتهم آياتٌ أخر آمنوا عندها جهلاً منهم، وما علموا أن الإيمان بإذن الله تعالى. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقال الراغب في مفردات القرآن: الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق. ومحكم من وجه ومتشابه من وجه. فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى فقط، ومن جهتهما. فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة. نحو: اللازب وينزفون. أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام، نحو: (وإن خِفْتمْ ألاَّ تقْسِطُوا في اليَتَامَى فانْكِحوا مَا طَابَ لكمْ مِنَ النساء) . وضَرْبٌ لبَسْطه، نحو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام، نحو: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) . تقديره: أنزل على عَبْدِه الكتاب قَيِّماً، ولم يجعل له عوجاً. والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو ليس من جنسه. والمتشابه من جهتها خمسة أضرب: الأول - من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، نحو: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . والثاني - من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والثالث - من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ، نحو: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) . والرابع - من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) ، (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) . فإن مَنْ لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية. والخامس - من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح. قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة، والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص بصرفته بعض الراسخين في العلم، ويَخفَى على مَنْ دونهم، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: اللهم فقِّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل. وإذا عرفت هذه الجملة عرفت أن الوقوف على قوله: (وما يَعْلَم تأويلَه إلا اللهُ) ، ووصله بقوله: (والراسخون في العِلْمِ) - جائزان، وأن لكل واحد منهما وجهاً حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. انتهى. وقال الإمام فخر الدين: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وهو إما لفظي وإما عقلي. والأول لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية، لأنه لا يكون قاطعا، لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المعروفة، وانتفاؤها مظنون، والموقوف على المظنون مظنون، والظني لا يكتفى به في الأصول. وأما العقلي فإنه يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالاً. وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل، لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن، والظن لا يعوَّل عليه في المسائل الأصولية القطعية فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - تركَ الخوض في تفسير التأويل. انتهى. وحسبك بهذا الكلام من الإمام. فصل من المتشابه آيات الصفات. ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، نحو: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . (كلّ شيء هالك إلا وجْهَه) . (يَدُ اللهِ فَوْقَ أيديهم) ، ونحوها. وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها. أخرج أبو القاسم اللّالكَائي من طريق في السنة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، قال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وأخرج أيضاً عن محمد بن الحسن، قال: اتفق الققهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه. وقال الترمذي في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة - مثل سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، وابن عيينة، ووَكيع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وغيرهم - أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن - بها، ولا يقال كيف، ولا نفسر ولا نتَوَهّم. وذهبت طائفة من أهل السنّة أنّا نؤوّلها على ما يليق بجلاله تعالى، وهذا مذهب الخلف. وكان إمام الحرمين يذهب إليه، ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها. وقال ابن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صَدْر الأمة وساداتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يَصْدف عنها ويأباها. واختار ابن بَرْهان مذهب التأويل، قال: ومنشأ الخلاف بين الفريقين: هل يجوز أن يكون في القرآن شيء لم يُعلم معناه أم لا، بل يعلمه الراسخون. وتوسّط ابن دَقِيق العيد، فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكَر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أرِيد به التنزيه. قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، مما في قوله: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) فنحمله على حق الله وما يجب له. وكذا استواؤه على العرش بالعدل والقهر، كقوله: (قائماً بالقِسْطِ) ، فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنه أعطى كل شيء خلقه موزوناً بحكمته المبالغة. وقد أكثر بعض الناس في جواب هذه الآية حتى أنهاه إلى عشرين حذفناها للإطالة. ومن ذلك قوله تعالى: (تعلم ما في نَفْسي) . خرج على سبيل المشاكلة، مراداً به الغيب، لأنه مستتر كالنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، أي عقوبته، وقيل إياه. وقال السُّهَيْلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد. وقد استعمل من لفظها النفاسة، والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه. وقال ابن اللبان: أوَّلَهَا العلماء بتأويلات، منها أن النفس عبّر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدي الفعل إليها بفي المفيد للظرفية محال عليه تعالى. وقد أوّلها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك. قال: وهذا حسن، لقوله آخر الآية: إنك أنْتَ علاّم الغيوب. ومن ذلك " الوجه "، وهو مؤَوَّل بالذات. وقال ابن اللبان - في قوله: (يريدون وَجْهَه) . (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) الدهر: 9. (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) . المراد إخلاص النية. وقال غيره في قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، أي الجهة التي أمر بالتوجه إليها. ومن ذلك "العَيْن"، وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك، بل قال بعضهم: إنها حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية العضو بها. وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، بها سبحانه ينظر للمؤمنين وبها ينظرون إليه. قال: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) . نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقاً لأنها المرادة المنسوبة إليه. وقال: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) قال: فقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) . أي بآياتنا تنظر إليها بنا وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن المراد بالأعين الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 كونها علّل بها الصبر لحكم ربه صريحاً في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) . قال: وقوله في سفينة نوح: (تجري بأعيننا) ، أي بآياتنا، بدليل قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) . وقال: و (لتُصْنَعَ على عَيْني) أي على حكم آيتي التي أوحَيْتُها إلى أمّك: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) . انتهى. وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته وحفظه. ومن ذلك اليد في قوله تعالى: (لما خَلَقْتُ بيديّ) . (يَدُ الله فوق أيديهم) ، (مما عملت أيدينا) . (وأن الفضل بيد الله) ، وهي مؤولة بالقدرة. وقال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) . ولم يمدحهم بالجوهار، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر. قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع. والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا أنها أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فإن في اليد تشريفاً لازماً. وقال البغوي في قوله: (بيديّ) : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وأنهما هنا صفتان من صفات ذاته. وقال مجاهد: اليد هاهنا صفة وتأكيد، لقوله: (ويَبقَى وَجْهُ رَبِّك) . قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صفة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزِيَّة على إبليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقال ابن اللبان: فإن قلت: فما حقيقة اليدين في خلق آدم، قلت: الله أعلم بما أراد، ولكن الذي استفسرته من تدبر كتابه أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ولنوره القائم بصفة عدله، ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله، قال: وصاحبة الفضل هي اليمين التي ذكرها في قوله: (والسماواتُ مَطْوِيًاتٌ بيمينه) . ومن ذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) . ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق. وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس - أنه سئل عن قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) . قال: إذا خَفِي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: اصبر عَنَاق إنه شَرّ باقْ ... قد سنَّ لي قَوْمُك ضَرْبَ الأعناقْ وقَامَتِ الحربُ بِنَا على ساقْ قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة. ومن ذلك صفة الفوقية في قوله: (وهو القاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) . (يخافُون رَبهُمْ مِنْ فَوْقهم) المراد بها العلو من غير جهة. وقد قال فرعون: (وإنا فَوْقَهُم قَاهِرون) . ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني. ومن ذلك صفة المجيء في قوله: (وجاء ربُّك) الفجر: 23. أو يأتي رَبُّك، أي أمره، لأن الملك مجيء بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: (وهم بأمره يَعْمَلُون) ، فصار كما لو صرح به. وكذا قوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) : أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقربه. ومن ذلك صفة الحب في قوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) . (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وصفة الغضب في قوله: (غَضِبَ اللَّهُ) . وصفة الرضا في قوله: (رضي اللَّهُ عنهم) . وصفة العجب في قوله: (بل عجِبْتُ ويَسْخَرُون) الصافات: 11، - بضم التاء (1) . وقوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) . وصفة الرحمن في آيات كثيرة. وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسَّر بلازمها. قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة، والفرح. والسرور، والغضب والحياء والكره والاستهزاء لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب، فإن أوله غليان القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار. وكذلك الحياء له أول، وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس. انتهى. وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه. وسئل الجنيد عن قوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فقال: إن الله لا يعجب من شيء. ولكن الله وافق رسوله، فقال: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) ، أي هو كما تقول. ومن ذلك لفظة "عند " في قوله: (عِنْدَ رَبِّك) الأعراف: 206. و (من عنده) المائدة: 52، ومعناها الإشارة إلى التمكين والزّلْفَى والرفعة. ومن ذلك قوله: (وهو معكم أين ما كُنْتُمْ) الحديد: 4) ، أي بعلمه. وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) . قال البيهقي: الأصح أن معناه أنا المعبود في السماوات وفي الأرض، مثل قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) . الزخرف: 84.   (1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي: واختلف في (عجبت) الآية 12 فحمزة والكسائي وخلف بتاء المتكلم المضمومة أي قل يا محمد بل عجبت أنا أو أن هؤلاء من رأى حالهم يقول عجبت لأن العجب لا يجوز عليه تعالى على الحقيقة لأنه انفعال النفس من أمر عظيم خفي سببه وإسناده له تعالى في بعض الأحاديث مؤول بصفة تليق بكماله مما يعلمه هو كالضحك والتبشبش ونحوهما فاستحالة إطلاق ما ذكر عليه تعالى محمولة على تشبيهها بصفات المخلوقين وحينئذ فلا إشكال في إبقاء التعجب هنا على ظاهره مسندا إليه تعالى على ما يليق به منزها عن صفات المحدثين كما هو طريق السلف الأسلم الأسهل وافقهم الأعمش والباقون بفتحها والضمير للرسول أي بل عجبت من قدرة الله تعالى هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك مما تريهم من آثار قدرة الله تعالى أو من إنكارهم البعث مع اعترافهم بالخالق. اهـ (إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر. 1/ 472) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقال الأشعري: الظرف متعلق بيعلم، أي عالم بما في السماوات والأرض. ومن ذلك قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . أي نقصد جزاءكم. قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) لأنه فسره بعده بقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) . تنبيهاً على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته، وجميع تصرفاته في مخلوقاته. ومن المتشابه أوائل السور. والمختار فيها أنها أيضاً من الأسرار التي انفرد الله بعلمها. وقد كثرت الأقوال فيها، ومرجعها كلها إلى قول واحد، وهو أنها حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى. والاكتفاء ببعض الكلمة معهود من العربية، قال الشاعر: قُلْت قِفِي فقالت قافْ أي وقفت. وقال: بالخير خيراتٍ وإن شرّا فا ... ولا أريدُ الشرَّ إلا أنْ تَا قالوا جميعاً كلهم ألا فا أراد ألا تركبوا ألا فاركبوا. وهذا القول اختاره الزجاج. وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التي هو منها. وقيل: إنها الاسم الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وكذا نقله ابن عطية. وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله الأعظم. قال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال ابن حَجَر: وهذا باطل لا يُعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عن عد " أبي جاد " والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور. وقد تحصّل لي فيها عشرون قولا، وأزيد، ولا أعرف واحدا يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم. والذي أقول إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً عندهم لا إنكار فيه. وقيل: هي تنبيهات كما في النداء - عده ابن عطية مغايراً للقول بأنها فواتح. والظاهر أنه معناه. قال أبو عبيدة: الم افتتاح كلام. وقال الحوفي: القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده غزيرة، فيريد أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم، والر، وحم، ليسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألاَ وأمَا، لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتي فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قَرْع سمعه. وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب وتلين الأفئدة. عدّ هذا جماعة ٌ قولاً مستقلاً. والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى. وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ألف، ب، ت، ث، فجاء بعضها مقطعاً مؤلفاً، ليدل القوم الذي نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعاً لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفوبها، ويبنون كلامهم عليها. وفي المحتسب لابن جنّي أن ابن عباس قرأ حم عسق، بلا عين ويقول: السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون. قال ابن جني: وفي هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء لله لم يجزْ تحريف شيء منها. وقال الكرْماني في غرائبه: في قوله: (الم: أحسِبَ الناس) ، الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها. فإن قلت: هل للمحكم على المتشابه مزية أم لا، فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع، أو بالأول فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة. وأجاب أبو عبد الله البكرَاباذِي بأن المحكم كالمتشابه من وجه، ويخالفه من وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع، وأنه لا يختار القبيح. ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد. فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال. والمتشابه محتاج إلى فكرة ونظر، ليحمله على الوجه المطابق، ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق، ولأن المحكم يعلم مفصلا، والمتشابه لا يعلم إلا مجملاً. فإن قلت: وقد أراد الحق البيانَ والهدى لعباده، وأمر بذلك رسوله في قوله: لئبَيِّنَ للناس ما نزَل إليهم. والجواب أن له فوائد: أحدها الحث للعلماء على النظر فيه الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب إن كان مما يمكن علمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وثانيها إظهار التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ لو كان القرآن كله محكماً لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد: منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوّقف فيه، والتفويض والتسليم، والتعبّد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه. وإقامة الحجة عليهم، لأنه لو أنزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وإفهامهم دل على أنه نزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف. وقال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالْجَبْرِي يتمسك بآيات الجبر، كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) . والقدري يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض الذم لهم في قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) . وفي موضع آخر: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) . ومنكر الرؤية يتمسك بقوله: (لا تدْرِكه الأبصار) . ومثبت الجهة يتمسك بقوله: (يخافون رَبهمْ مِنْ فَوْقهم) . (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . والنافي يتمسك بقوله: (ليس كَمِثْلِهِ شَيءٌ) . ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة له متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا. قال: والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فوائد لوجوه: منها أنه يوجب مزيد الشقة في الوصول إلى المراد منه، وزيادة المشقة توجب مزيدَ الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومنها أنه لو كان القرآن كله محكماً لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلاً لما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينَفِّر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فلما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله، ويتوصل إلى الحق. ومنها أن القرآن إذا كان مشتملاً على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة. ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ، وطبائع العوامّ تنفر في أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح. فالقِسْم الأول هو الذي يخاطبون به في أول الأمر من التشابهات. والقسم الثاني هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر من المحكمات. ******* الوجه العاشر من وجوه إعجازه (اختلاف ألفاظه في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما) وقد ألَّف الناس في هذا الفن تواليف كابن الجزري والشاطبي وغيرهما ممن لا نطوِّل بذكرهم. وبالجملة فالقراءات السبع متواترة عند الجمهور. وقيل: بل مشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال الزركشي: والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة. أما تواترها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه نظر، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نَقْل الواحد عن الواحد. قلت: في ذلك نظر لما سيأتي، واستثنى أبو شامة الألفاظ المختلف فيها عن القراء، واستثنى ابن الحاجب ما كان من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة. وقال غيره: الحق أن أصل المد والإمالة متواتر، ولكن التقدير غير متواتر للاختلاف في كيفيته، كذا قال الزركشي. قال: وأما أنواع تخفيف الهمزة فكلها متواترة. وقال ابن الجزري: لا نعلم أن أحداً تقدم ابنَ الحاجب إلى ذلك، وقد نص على تواتر ذلك كله أئمة الأصول، كالقاضي أبي بكر وغيره، وهو الصواب، لأنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر هيئة أدائه، لأن اللفظ لا يقوم إلا به، ولا يصح إلا بوجوده. قال الكواشي: من المهم صرفة توجيه القراءات، وفائدته أن يكون دليلاً على حسب المدلول عليه أو مرجحاً، إلا أنه ينبغي التنبيه على شيء، وهو أنه قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يسقطها، وهذا غير مرضِ لأن كلاًّ منهما متواتر. وقد حكى أبو عمر الزاهد في كتاب " اليواقيت " عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف إعرابان في القرآن لم أفضل إعراباً على إعراب، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضّلت الأقوى. وقال أبو جعفر النحاس: السلامة عند أهل الدين - إذا صحّت القراءتان - ألا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيَأثَم مَنْ قال ذلك، وإن كان رؤساء الصحابة ينكرون مثل هذا. وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين قراءة مالك ومَلِكِ حتى إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بعضهم يبالغ إلى حد يسقط وجْهَ القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين. انتهى. وقال بعضهم: توجيه القراءات الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة. تنبيهات : الأول: قال النخعي: كانوا يكرهون أن يقولوا قراءة سالم، وقراءة عبد الله، وقراءة أبيّ، وقراءة زيد، بل يقال فلان كان يقرأ بوجه كذا، وفلان كان يقرأ بوجه كذا. قال النووي: والصحيح أن ذلك لا يكرَهُ. الثاني: قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما ظن ذلك بعض أهل الجهل. وقال أبو العباس بن عمار: لقد فعل مُسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له. وأشكل هذا الأمر على العامة بإيهامه كل من قَلّ نظره أن هذه القراءات المذكورة في الخبر، وليته إذا اقتصر نَقَص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة. ووقع له أيضاً في اقتصاره عن كل إمام على راوِيَيْن - أنه صار مَنْ سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها، وقد تكون هي أشهر وأوضح وأظهر، وربما بالغ مَنْ لا يفهم فخطّأ أو كفّر. وقال أبو بكر بن العريي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها، كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش وغيرهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم، وكذا قال غير واحد، منهم: مكيّ، وأبو العلاء الهمذاني، وآخرون من أئمة القراء. وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومَنْ تبعه من القراءات المشهورة إلا النَّزْر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راوياً، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أنفس، فكيف يقتصر على السّوسي والدّوري، وليس لهما مزية على غيرهما، لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان، والاشتراك في الأخذ. قال: ولا أعرف لهذا سبباً إلا ما قضى من نَقْص العلم. وقال مكي: مَنْ ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كعاصم، ونافع، وأبي عمرو - أحد الحروف السبعة التي في الحديث - فقد غلط غلطاً عظيما. قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف ألا يكون قرآناً، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صَّنفوا في القراءات من الأئمة المتقدمين، كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل القاضي - قد ذكروا أضعاف هؤلاء، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو، ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة، وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. قال: والسبب في الاقتصار على السبعة - مع أن في أئمة القراء مَنْ هو أجَل منهم قدراً، ومثلهم أكثر من عددهم - أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا على ما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماماً واحداً، ولم يتركوا مع ذلك نقْلَ ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراء ولا القراءة به، كيعقوب، وأبي جعفر، وشَيْبَة، وغيرهم. قال: وقد صنّف ابن خبير المكي - قبل ابن مجاهد - كتاباً في القراءات. فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إماماً، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال: إنه وجّهَ لسبعة: هذه الخمسة، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين واليمن قارئين كمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد به الخبر، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة، ولم تكن له فطنة، فظن أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع. والأصل المعتمد عليه صحة المسند في السماع، واستقامة الوجه في العربية. وموافقة الرسم. وأصح القراءات سنداً نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي. وقال القَرّاب في الشافي: التمسك بقراءات سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنّة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر، وأوْهَمَ أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقلْ به أحد. وقال الكواشي: كل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، ومتى فقِدَ شَرط من الثلاثة فهو شاذ. وقد اشتد إنكار الأئمة في هذا الشأن على من ظن انحصار القراءات المشهورة في مثل ما في التيسير والشاطبية، وآخر مَنْ صرّح بذلك الشيخ تقي الدين السبكي، فقال في شرح المنهاج: قال الأصحاب: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة، وظاهر هذا يوهم أن غير السبع المشهورة من الشواذ. وقد نقل البغوي الاتفاقَ على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع المشهورة، وهذا القول هو الصواب. قال: واعلمْ أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم المصحف فلا شك في أنه لا تجوز قراءته لا في الصلاة ولا في غيرها. ومنه ما لا يخالف رسمَ المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طريق غريب لا يعَوَّل عليها، وهذا يظهر المنع من القراءة به أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديماً وحديثاً فهذا لا وَجْهَ للمنع منه، ومن ذلك قراءة يعقوب وغيره. وقال البغوي: أول من يعتمد عليه في ذلك، فإنه جامع للعلوم، قال: وهكذا التفصيل في شواذ السبعة، فإن عنهم شيئاً كثيراً شاذاً. انتهى. وقال ولده في منع الموانع: إنما قلنا في جمع الجوامع والسبع متواترة، ثم قلنا في الشاذ: والصحيح أنه ما وراء العشرة، ولم نقل والعشر متواترة، لأن السبع لم يختلف في تواترها، فذكرنا أولاً موضع الإجماع، ثم عطفنا عليه موضع الخلاف، فدل على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعْتبر قوله في الدين. قال: وهي لا تخالف رسم المصحف. قال: وسمعت أبي يشدّد النكير على بعض القضاة، وقد بلغه أنه منعه من القراءة بها، واستأذنه بعض أصحابنا مرة في إقراء السبع، فقال: أذِنْت لكَ أن تقرأ لي العشر. انتهى. وقال في جواب سؤال سأله ابن الجزري: القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف متواترةٌ معلومة من الدين ضرورة، وكل حرفٍ انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه قد قرئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل. الثالث: باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام، ولهذا بنَى الفقهاء نَقْض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءة في: (لمستم) ، و (لامَسْتم) النساء: 43) ، وجواز وطء الحائض عند الانقطاع قبل الغسل وعدمه على الاختلاف في (يَطْهُرْن) البقرة: 222. وقد حكوا خلافاً غريباً في الآية إذا قرئت بقراءتين، فحكى أبو الليث السَّمَرْقَنْدي في كتاب " البستان " قولين: أحدهما - أن الله تعالى قال بهما جميعاً. الثاني: أن الله تعالى قال بقراءة واحدة، إلا أنه أذن أن تقرأ بقراءتين، ثم اختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 توسطاً، وهو أنه إن كان تفسير يغاير الآخر فقد قال بهما جميعاً وتصير القراءاتان بمنزلة آيتين، مثل: حتى يطهرن. وإن كان تفسيرهما واحداً كالبُيوت والبِيوت فإنما قال بأحدهما، وأجاز القراءة لكل قبيلة بهما على ما تعوَّد لسانهم. قال: فإن قلتم إنه قال بإحداهما فأي القراءتين، قلنا: بلغة قريش. انتهى. وقال بعض المتأخرين: لاختلاف القراءة وتنوعها فوائد: منها التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة. ومنها إظهار فضلها وشرفها على سائر الأمم، إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلا على وجه واحد. ومنها إظهار أجْرها من حيث أنهم يفرغون جهدهم في تحقيق ذلك، وضبطه لفظة لفظة حتى مقادير المدَّات وتفاوت الإمالات، ثم في تتبّع معاني ذلك واستنباط الحكم أو الأحكام من دلالة كل لفظ، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح. ومنها إظهار سر الله في كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف، مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة. ومنها المبالغة في إعجازه بإيجازه، إذ تنوع القراءات بمنزلة الآيات، ولو جعلت دلالة كل لفظة آيةً على حدة لم يخْفَ ما كان من التطويل، ولهذا كان قوله: " وأرجلكم " منَزَّلاً لغسل الرجل والمسح على الخفّ، واللفظ واحد، لكن باختلاف إعرابه. ومنها أن بعض القراءات تبيّن ما لعله جمل في القراءة الأخرى، فقراءة يطهَّرن - بالتشديد - فبينة لمعنى قراءة التخفيف. وقراءة: (فامْضوا إلى ذِكْرِ اللهِ) الجمعة: 9، - تبيِّن أن المراد بقراءة " فاسعوا " الذهاب لا المشي السريع. وقال أبو عبيد في " فضائل القرآن ": القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 كقراءة عائشة وحَفْصة: (والصلاةِ الوسْطى صلاة العَصْر) . البقرة: 238. وقراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيْمانَهُمَا) . المائدة: 38. وقراءة جابر: (فإنَّ الله مِنْ بعد إكراههن لهنَّ غفور رحيم) النور: 23. قال: فهذه الحروفُ وما شاكلها قد صارت مفسِّرة للقرآن، وقد كان يروى مثلُ هذا من التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة! فهو الآن أكثر من التفسير، وأقوى، فأدنى ما يستتبط من هذه الحروف معرفةُ صحة التأويل. وقد اعتنيت في كتابي " أسرار التنزيل " ببيان كل قراءة أفادت معنى زائداً على القراءة المشهورة. الرابع: اختلف في العمل بالقراءة الشاذة، فنقل إمام الحرمين في البرهان عن ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يجوز، وتبعه أبو نصر القشيرى، وجزم به ابن الحاجب، لأنه نقله على أنه قرآن ولم يثبت. وذكر القاضيان: أبو الطيب والحسين، والرّويَاني، والرافعي - العمل بها تنزيلأ لها منزلةَ خبر الآحاد. وصححه ابن السبكي في جمع الجوامع وشرح المختصر. وقد احتج الأصحاب على قطع يمين السارق بقراءة ابن مسعود، وعليه أبو حنيفة أيضاً، واحتج على وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بقراءته: " متتابعات "، ولم يحتجّ بها أصحابنا لثبوت نسخها كما تقدم. ******* الوجه الحادي عشر من وجوه إعجازة (تقديم بعض ألفاظه وتأخيرها في مواضع) إما لكون السياق في كل موضع يقتضي ما وقع، كما تقدمت الإشارة إليه. وإما لقصد البداءة والختم به للاعتناء بشأنه. كما في قوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) . وإما لقصد التفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) . البقرة: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) . الأعراف: 161. وقوله: (إنَّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدًى ونُور) . المائدة: 44. وقال في الأنعام: (قل مَنْ أنزل الكتابَ الذي جاءَ بهِ موسى نُوراً وهُدًى للناس) الأنعام: 91. وهو قسمان: الأول: ما أشكل معناه بحسب الظاهر، فلما عرف أنه من باب التأخير والتقديم اتّضح، وهو جدير أن يُفرد بالتصنيف. وقد تعرّض السلف لذلك في آيات، فأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) - قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وأخرج عنه أيضاً في قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) . - قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما. وأخرج عن قتادة في قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) . قال: هذا من المقدم والمؤخر، أي رافعك إليّ ومتوفّيك. وأخرج عن عكرمة في قوله: (لهم عذابٌ شديد بما نَسوا يَوْمَ الحساب) . قال: هذا من التقديم والتأخير، يقول: لهم يوم القيامة عذاب شديد بما نسوا. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) . قال: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، إنما هي أذاعوا به إلا قليلاً منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. وأخرج عن ابن عباس في قوله: (فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال: إنهم إذا رأوا الله نفسه رأوه، إنما قالوا جهرة أرنا الله. قال: هو مقدم ومؤخر. قال ابن جرير: يعني أن سؤالهم كان جهرة. ومن ذلك: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) . قال البغوي: هذا أول القصة وإن كان مؤخراً في التلاوة. وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذَبْح البقرة، وإنما أخّر في الكلام لأنه لما قال تعالى: (إن الله يأمركم) ... الآية عَلِم المخاطبون أن البقرة لا تُذبح إلا للدلالة على قاتل خَفِيَتْ عَيْنُه عنهم، فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) فسألتم موسى فقال: إن اللهَ يأمركم أن تَذْبَحُوا بقرةً. ومنه: (أفرأيْتَ من اتَخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ) الجاثية: 23. والأصل هواه إلهَه، لأن من اتخذ إلهَهُ هواه غير مذموم، فقدم المفعول الثاني للعناية به. وقوله: (أخرج المرْعَى فجعله غُثَاءً أحْوَى) ، على تفسير الأحوى بالأخضر، وجعله نعتاً للمرعى، أي أخرجه أحوى فجعله غُثاء. وأخَره رعاية للفاصلة. وقوله: (وَغَرَابِيبُ سُودٌ) . والأصل سود غرابيب، لأن الغربيب الشديد السّوَاد. وقوله: (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاها) . أي بشرناها فضحكت. وقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) . قيل: المعنى على التقديم والتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها. وعلى هذا فالهمّ منفيّ عنه. الثاني: ما ليس كذلك. وقد ألف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كتابه " المقدمة في سر الألفاظ المقدمة "، قال فيه: الحكمة الشائعة الذائعة في ذلك الاهتمام، كما قال سيبويه في كتابه، كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهُمْ ببيانه أعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال: هذه الحكمة إجمالية. وأما أسباب التقديم وأسراره فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع: الأول: التبرك، كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن. ومنه قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) . وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) . الثاني: التعظيم، كقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) . (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) . (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) . الثالث: التشريف، كتقديم الذَّكَرِ على الأنثى في نحو: (إنَّ المسلمين والمسلمات) . والحر في قوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) . والحي في قوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) . (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) . والخيل في قوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) . والسمع في قوله: (وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) . (إنَّ السَمْعَ والبَصَر والفُؤاد) . وقوله: (إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ) . حكى ابن عطية - عن النقَّاش أنه استدل بها على تفضيل السمع على البصر، ولذا وقع في سمعه تعالى: (سميع بصير) ، بتقديم السمع. ومن ذلك تقديمه - صلى الله عليه وسلم - على نوح ومن معه في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) . وتقديم الرسول في قوله: (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) الحج: 52. وتقديم المهاجرين في قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) . وتقديم الإنس على الجن حيث ذُكرا في القرآن. وتقديم النبيين على الصديقين، والشهداء على الصالحين في آية النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وتقديم إسماعيل على إسحاق، لأنه أشرف بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولده وأسنّ. وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام، وقدم هارون عليه في سورة طه رعاية للفاصلة، وتقديم جبريل على ميكائيل في آية البقرة، لأنه أفضل. وتقديم العاقل على غيره في قوله: (يُسَبِّح له مَنْ في السّماواتِ والأرضِ والطيْرُ صَافّاتٍ) . وقوله: (متاعاً لكم ولأنعامكم) . وأما تقديم الأنعام في قوله: (تأكلُ منه أنعامُهم وأنفسُهم) ، فلأنه تقدم ذكر الزرع، فناسب تقديم الأنعام، بخلاف آية عبس فإنه تقدم فيها: فلينظر الإنسان إلى طعامه، فناسب تقديم لكم. وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع. وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال. والسماء على الأرض، والشمس على القمر حيث وقع إلا في قوله: (خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) . فقيل: لمراعاة الفاصلة، وقيل: لأن انتفاع أهل السماوات العائد عليهن الضمير به أكثر. وقال ابن الأنباري: يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل السماوات وظهره لأهل الأرض، ولهذا قال تعالى: فيهن، لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء. ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله: (عالِم الغَيْبِ والشهَادةِ) ، لأن علمه أشرف. وأما قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) . فأخر فيه رعاية للفاصلة. الرابع: المناسبة، وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام، كقوله: (ولكُم فيهَا جَمَال حِينَ تُرِيحُونَ وحين تسرحون) ، فإن الجَمَال بالجِمال وإن كان ثابتاً حالتي السراح والإراحة إلا أنها حالة إراحتها، وهو مجيئها من المرعى آخر النهار، يكون الجمال بها أفخر، إذ هي فيه بطان، وحالة سراحها للرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول، إذ هي فيه خماص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ونظيره قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) . قدم نفي السرف، لأن السرف في الإنفاق. وقوله: (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، لأن الصواعق تقع مع أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات. وقوله: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) . قدمها على الابن لما كان السياق في ذكرها في قوله: (والتي أحصنَتْ فَرْجَها) . ولذلك قدم الابن في قوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) . وحسّنه تقديم موسى في الآية قبله. ومنه قوله: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) . قدم الحكم - وإن كان العلم سابقاً عليه، لأن السياق فيه، لقوله في أول الآية: (إذ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ) . وأما مناسبة لفظ هو من التقدم أو التأخر، كقوله: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) . (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) . (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) . (بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) . ا (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) . (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) . (له الحَمْدُ في الأولى والآخرة) . وأما قوله: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) - فلمراعاة الفاصلة. وكذا قوله: (جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) . الخامس: الحث عليه والحضّ على القيام به حذراً من التهاون به، كتقديم الوصية على الدَّين في قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) . مع أن الدين مقدم عليها شرعاً. السادس: السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد، كتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ونوح على إبراهيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وإبراهيم كل موسى، وهو على عيسى، وداود على سليمان، والملائكة على البشر في قوله: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . وعاد على ثمود. والأزواج على الذرية في قوله: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) . والسنة على النوم في قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) . أو باعتبار الإنزال، كقوله: (صُحُفِ إبراهيم وموسى) . (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) . أو باعتبار الوجوب والتكليف، نحو: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) . (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) . (إنّ الصّفَا والمرْوَةَ مِن شعائر الله) . ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: نبدأ بما بدأ الله به. أو بالذات، نحو: (مَثْنَى وثُلاث ورْباع) . (مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) . وكذا جميع الأعداد، كلّ مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات. وأما قوله: (أنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وفُرَادى) - فللحثّ على الجماعة والاجتماع على الخير. السابع: السببية، كتقديم العزيز على الحكيم، لأنه عزَّ فحكم. والعليم عليه، لأن الإحكام والإتقان ناشيء عن العلم. وأما تقديم الحكيم عليه في سورة الأنعام، فلأنه مقام تشريع الأحكام. ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة، لأنها سبب حصول الإعانة. وكذا قوله: (يحب التوَّابين ويُحِبُّ المتَطَهِّرِين) ، لأن التوبة سبب للطهارة. (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) ، لأن الإفْكَ سبب الإثم. (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، - لأن البصر داعية إلى الفرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الثامن - الكثرة، كقوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، لأن الكفار أكثر. (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) . - قدم الظالم لكثرته ثم المقتصد، ثم السابق. قيل: ولهذا قدم السارق على السارقة، لأن السرقة في الذكور أكثر. والزانية على الزاني. لأن الزفنى فيهن أكثر. ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبا، ولهذا ورد: إن رحمتي غلبت غضي. وقوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) . قال ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج، لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء، ووقوع ذلك في الأزواج أكثر منه في الأولاد، وكان أقعد في المعنى المراد فقدّم، ولذلك قدمت الأموال في قوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) . لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة. (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) . وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها، فكان تقديمها أولى. التاسع - الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ) . بدأ بالأدنى لغرض الترقي، لأن اليد أشرفُ من الرجل، والعين أشرف من اليد، والسمع أشرف من البصر. ومن هذا النوع تأخير الأبلغ، وقد خُرِّج عليه تقديم الرحمن على الرحيم. والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي في قوله: (وكان رسولاً نبيّاً) . وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة. العاشر - التدلّي من الأعلى إلى الأدنى. وخُزج عليه: (لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً) . الكهف: 49. (لا تَأخذُه سِنَةٌ ولا نومٌ) . (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ) . هذا ما ذكره ابن الصائغ، وزاد غيره أسبابا أخر، منها كونه أدل على القدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وأعجب، كقوله: (فمنهم مَنْ يَمْشي على بَطْنِه) . وقوله: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) . قال الزمخشوي: قدم الجبال على الطير، لأن تسخيرها له وتسبيحها له أعجب، وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد، والطير حيوان ناطق. ومنها رعاية الفواصل كما تقدمت الأمثلة لذلك. ******* الوجه الثاني عشر من وجوه إعجازه (إفادة حصره واختصاصه) وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص. ويقال أيضاً إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكلّ منهما إما حقيقي وإما مجازي، مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقياً نحو ما زَيْد إلا كاتب، أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد، لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية، وعلى عدم تعذرها يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل. ومثاله مجازيّاً: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) ، أي مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي استعظموه، إنه شأن الإله. ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقياً: لا إله إلا الله. ومثاله مجازياً: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) . كما قال الشافعي فما تقدم نقله من أسباب النزول: إن الكفار لما كانوا يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلّ لغير الله به، وكانوا يحرمون كثيرا من المباحات، وكانت سجيَّتهم تخالف وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الشرع، ونزلت الآية مستوفية بذكر شبههم في البَحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي، وكان الغرض الرد عليهم والمضادة لا الحصر الحقيقي. وقد تقدم بأبسط مِنْ هذا. وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: قصر إفراد، وقصر قلب. وقصر تعيين: فالأول: يخاطَب به من يعتقد الشركة، نحو، (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . وخوطب به من يعتْقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية. والثاني: يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له، نحو: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) البقرة: 258. خوطب به نُمْرود الذي اعتقد أنه المحي المميت دونَ الله. (ألا إنهم هم السفهاء) . البقرة: 13. خوطب به من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم. (وأرسلْنَاكَ للناسِ رَسولاً) . خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته بالعرب. والثالث: يخاطب به من تساوى عنده الأمران، فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها. وطرق الحصر كثيرة، أحدها النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو غيرهما. والاستثناء بإلا أو غير، نحو: لا إله إلا الله. وما من إله إلا الله. (ما قلت لهم إلا ما أمَرْتنِي به) . ووجه إفادة الحصر أن الاستثناء المفرّغ لا بد أن يتوجه النفي فيه إلى مقدّر وهو مستثنى منه، لأن الاستثناء إخراج فيحتاج إلى مُخْرج منه. والمراد التقدير المعنوي لا الصناعي. ولا بد أن يكون عاماً، لأن الإخراج لا يكون إلا من عام. ولا بد أن يكون مناسباً للمستثنى منه في جنسه مثل ما قام إلا زيد، أي لا أحد. وما أكلت إلا تمراً، أي مأكولاً، ولا بد أنْ يوافقه في صفته، أي إعرابه، وحينئذ يجب القصر إذا أوجب منه شيء بإلا ضرورة بإبقاء ما عداه على صفة الانتفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وأصل استعمال هذا الطريق أن يكون المخاطب جاهلاً بالحكم. وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة الجهول لاعتبار مناسب، نحو: (وما محمدٌ إلا رسول) ، فإنه خطاب للصحابة، وهم لم يكونوا يجهلون رسالةَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه نَزّل استعظامهم له عن الموت منزلةَ من يجهل رسالته، لأن كل رسول فلا بد من موته، فمن استبعد موته فكأنه استبعد رسالته. الثاني: (إنما) الجمهور على أنها للحصر، فقيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم. وأنكر قوم إفادتها، منهم أبو حيان، واستدل مثبتوه بأمور: منها: قوله تعالى: (إنما حَرَّمَ عليكم الميتةَ) ، بالنصب، فإن معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع فإنها للقصر، فكذا قراءة النصب. والأصل استواء معنى القراءتين. ومنها أن إن للإثبات وما للنفي، فلا بد أن يحصل القصر للجمع بين النفي والإثبات، لكن تعقّب بأن " ما " زائدة كافة لا نافية. ومنها أن (إن) للتأكيد و (ما) كذلك، فاجتمع تأكيدان، فأفاد الحصر، قاله السكاكي. وتعقب بأنه لو كان اجتماع تأكيدين يفيد الحصر لأفاده نحو إن زيد القائم. وأجيب بأن مراده لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر. ومنها قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) . (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ) . (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) . فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب إذا كانت (إنما) للحصر ليكون معناها لا آتيكم به، إنما يأتيكم به الله إنْ شاء. ولا أعلمها إنما يعلمها الله. وكذا قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) . (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ... إلى قوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) . (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) . لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر. وأحسن ما يستعمل (إنما) في مواقع التعريض، نحو: (إنما يَتَذكر أولو الألباب) . الثالث،: (أنما) بالفتح: عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي. فقالا في قوله: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . - أنما لقَصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، نحو: إنما زيد قائم. وإنما يقوم زَيْد، وقد اجتمع الأمران في هذه الآية، لأن إنما يوحى إليّ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقصور على استئثار اللَه بالوحدانية. وصرح التَّنوحي في الأقصى القريب بكونها للحصر، فقال: كل ما أوجب إنما - بالكسر للحصر أوجب أنما - بالفتح للحصر، لأنها فرع عنها، وما ثبت للأصل ثبت للفرع ما لم يثبت مانع منه، والأصل عدمه. ورد أبو حيان على الزمخشري ما زعمه بأنه يلزمه انحصار الوحي في الوحدانية، وأجيب بأنه حصر مجازي باعتبار المقام. الرابع: العطف بلا أو بل، ذكره أهل البيان، ولم يحكوا فيه خلافا، ونازع فيه الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح، فقال: أي قصر في العطف بلا، إنما فيه نفي وإثبات، فقولك: زيد شاعر لا كاتب لا تعرُّض فيه لنفي صفة ثالثة، والقصر انما يكون بنفي جميع الصفات غير المثبتة حقيقة أو مجازا، وليس هو خاصا بنفي الصفة التي يعتقدها المخاطب. وأما العطف ببل فأبعد منه، لأنه لا يستمر فيها النفي والإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الخامس: تقديم المعمول نحو: (إيّاكَ نَعْبد) . (لَإلَى اللهِ تحْشَرون) . وخالف فيه قوم، وسيأتي بسط الكلام فيه قريباً. السادس: ضمير الفصل، نحو: (فالله هوَ الوَليّ) ، لا رب غيره. (وأولئك هم الْمُفْلِحُون) . (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) . (إن شانِئَك هو الأبْتَر) . وممن ذكر أنه للحصر البيانيون في بحث المسند إليه، واستدل له السّهَيْلي بأنه أتي به في كل موضع ادّعي فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله، ولم يُؤْتَ به حيث لم يدّع، وذلك في قوله: (وأنه هو أضْحَكَ وأبكى) . إلى آخر الآيات، فلم يؤت به في: (وأنه خلق الزّوْجَين) ، (وأنّ عليه النشأةَ الأخرى) . (وأنه أهلك عادًا الأولى) ، لأن ذلك لم يدّع لغير الله، وأتي به في الباقي لادِّعائه لغيره. قال في عروس الأفراح: وقد استنبطت دلالته على الحصر في قوله: (فلما توفَيْتَنِي كنْتَ أنتَ الرقيبَ عليهم) ، لأنه لو لم تكن للحصر لما حَسنَ، لأن الله لم يزل رقيباً عليهم، وإنما حصر بتوفيته أنه لم يبق لهم رقيب غير الله. ومن قوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) . فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء، وذلك لا يحسن إلا بأن يكون الضمير للاختصاص. السابع: تقديم المسنَد إليه على ما قال الشيخ عبد القاهر: قد يُقدم المسنَد إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي. والحاصل - على رأيه - أن لها أحوالاً. أحدها: أن يكون المسند إليه معرفة والمسند مثبتاً، فيأتي التخصيص، نحو: أنا قُمْتُ، وأنا سعَيْتُ في حاجتك، فإن قصِد به قصر الإفراد أكد بنحو: وحدي، أو قصر القلب أكد بنحو: لا غيري. ومنه في القرآن: (بل أنْتُمْ بِهَدِيّتِكم تفْرَحُون) . فإن ما قبله من قوله: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولفظ (بل) مشْعر بالإضراب - يقتضي بأن المراد بل أَنتم لا غيركم، فإن المقصود نفي فرحه هو بالهدية لا إثبات الفرح لهم بهديتهم. قاله في عروس الأفراح. قال: وكذا قوله: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، أي لا يعلمهم إلا نحن. وقد يأتي للتقوية والتأكيد دون التخصيص، قال الشيخ بهاء الدين: ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام. ثانيها: أن يكون المسند منفياً، نحو: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ في نفي الكذب من " لا تكذب " ومن لا تكذب أنت ". وقد يفيد التخصيص، ومنه: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ) . ثالثها: أن يكون المسند إليه نكرة مثبتاً، نحو: رجل جاءني، فيفيد التخصيص إما بالجنس، أى لا امرأة، أو الوحدة، أي لا رجلان. رابعها: أن يليَ المسند إليه حرف النفي فيفيده، نحو: ما أنا قلت هذا، أي لم أقله مع أن غيري قاله. ومنه: (وما أنْتَ علينا بعَزِيز) . أي العزيز علينا رهْطُك لا أنت، ولذا قال: (أرَهْطِي أعزُّ عليكم من الله) . هذا حاصل رأي الشيخ عبد القاهر، ووافقه السكاكي، وزاد شروطاً وتفاصيل بسطناها في شرح ألفية المعاني. الثامن: تقديم المسند، ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص. ورد صاحب الفلك الدائر بأنه لم يقل به أحد، وهو ممنوع، فقد صرح السكاكي وغيره بأن تقديم ما رُتْبته التأخير يفيده، ومثّلُوه بنحو: تميمي أنا. التاسع: ذكر المسند إليه، ذكر السكاكي أنه قد يُذكر ليفيد التخصيص. وتعقّبه صاحب الإيضاح، وصرح الزمخشري بأنه أفاد الاختصاص في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) . وفي قوله: (اللهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحديث) . وفي قوله: (واللهُ يَقُولُ الحقَّ وهو يهْدِي السبيلَ) . ويحتمل أنه أراد أن تقديمه أفاده، فيكون من أمثلة الطريق السابع. العاشر: تعريف الجزأين، ذكر الإمام فخر الدين في " نهاية الإيجاز " أنه يفيد الحصر حقيقة أو مبالغة، نحو: المنطلق زيد، ومنه في القرآن فما ذكر الزملَكاني في أسرار التنزيل: الحمد لله، قال: إنه يفيد الحصر، كما في إياك نعبد، أي الحمد لله لا لغيره. الحادي عشر: نحو: جاء زيد نفسه، نقل بعض شراح التلخيص عن بعضهم أنه يفيد الحصر. الثاني عشر: نحو: إن زيد القائم، نقله المذكور أيضاً. الثالث عشر: نحو: قائم - في جواب زيد إما قائم أو قاعد، ذكره الطيبي في شرح التبيان. الرابع عشر: قلب بعض حروف الكلمة، فإنه يفيد الحصر على ما نقله في الكشاف في قوله: (والَّذين اجتَنَبُوا الطاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها) . قال: القلب للاختصاص بالنسبة إلى الطاغوت، لأن وزنَه على فعلوت، من الطغيان، كملكوت ورحموت، قُلِب بتقديم اللام على العين، فوزنه فَلَعُوت، ففيه مبالغات: التسمية بالمصدر، والبناء بناء مبالغة، والقلب، وهو للاختصاص، إذ لا يطلق على غير الشيطان. تنبيه: كاد أهلُ البيان يطْبِقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر، سواء كان مفعولاً أو ظرفاً أو مجروراً، ولهذا قيل في: (إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاك نستعين) معناه نخصك بالعبادة والاستعانة. وفي: (لَإلَى اللهِ تُحْشَرون) . معناه إليه لا لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وفي: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) . أخرت الصلة في الشهادة الأولى، وقدمت في الثانية، لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم، وفي الثانية إثبات اختصاصهم بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم. وخالف في ذلك ابنُ الحاجب، فقال في شرح المفصّل: الاختصاص الذي يتوهّمه كثير من الناس من تقديم المعمول وَهْم، واستدل على ذلك بقوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) . (بل الله فاعْبد) . الزمر: 66. ورد هذا الاستدلال بأن (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أغنى عن إعادة الحصر، كما قال الله تعالى: (واعْبدوا رَبَّكم) . وقال: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) بل قوله: (بل اللهَ فاعْبُدْ) - أقوى من أدلة الاختصاص. فإن قبلها: (لئن أشركتَ ليَحْبَطَن عَملك) ، فلو لم يكن للاختصاص وكان معناها أعبد الله لما حصل الإضراب الذي هو معنى بل. واعترض أبو حيان على مدعي الاختصاص بنحو: (أفَغيرَ اللهِ تأمرونّي أعْبُد) . وأجيب بأنه لما كان مَنْ أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله كان أمْرُهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة. ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله: (كُلاًّ هَدْينَا ونُوحاً هدَينَا مِنْ قَبْلُ) . وهو من أقوى ما ردّ به. وأجيب بأنه لا يدعى فيه اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الغالب. قال الشيخ بهاء الدين: وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة، وهي (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ، فإن التقديم في الأولى قطعا ليس للاختصاص. وفي إياه قطعاً للاختصاص. وقال والده الشيخ تقي الدين في كتاب الاقتصاص بين الحصر والاختصاص: اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ذلك ويقول: إنما يفيد الاهتمام. وقد قال سيبويه في كتابه: وهم يقدّمون ما هم به أعْنى. والبيانيون على إفادة الاختصاص. ويَفْهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظةَ الحصر، وإنما عبّروا بالاختصاص. والفرق بينهما أن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور. والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه، وبيانُ ذلك أن الاختصاص افتعال من الخصوص: والخصوص مركب من شيئين: أحدها عام مشترك بين شئين أو أشياء. والثاني معنى مُنْضَمٌّ إليه يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه أخص من مطلق الضرب. فإذا قلتَ ضربت زيداً أخبرت بضرب عام وقع منك على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصّاً لما انضم إليه منك ومن زيد، وهذه المعاني الثلاثة، أعني مطلق الضرب، وكونه واقعاً منك، وكونه واقعاً على زيد، قد يكون قصدَ المتكلمُ لها ثلاثتها على السواء. وقد يرجّح قصده لبعضها على بعض، ويُعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم، فإذا قلت زيداً ضربت عُلِمَ أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود. ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصَد من جهة عمومه، وقد يقصَد من جهة خصوصه. والثاني هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادته السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره لإثباب ولا نَفْي، ففي الحصر معنى زائد عليه، وهو نفي ما عدا المذكور، وإنما جاء هذا في: (إيّاكَ نَعْبُد) ، للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله، ولذا لم يطرد في بقية الآيات. فإن قوله: (أفَغَيْرَ دين الله يَبْغُون) آل عمران: 83. لو جُعل في معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه - لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، وليس المراد. وكذلك: (آلهةً دونَ اللهِ تُرِيدون) الصافات: 86، المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقد قال الزمخشري في: (وبالآخِرَة هم يوقنون) البقرة: 4. في تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هُمْ تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه مَنْ آمَن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن. وقد اعترض عليه بعضهم، فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها. وهذا الاعتراض من قائله مبنيّ على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك. ثم قال المعترض: وتقديم هم أفاد أن هذا القصر يختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيماناً بغيرها حيث قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النارُ إلا أياماً معدودة) . البقرة:.8. وهذا منه أيضاً استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها. وهذا فهم عجيب ألجأه إليه فهمه الحصر، وهذا ممنوع. وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام: أحدها: بما وإلا، كقوله: ما قام إلا زيد - صريح في نفي القيام من غير زيد، ومقتضى إثبات القيام لزيد، قيل بالمنطوق، وقيل بالمفهوم، وهو الصحيح لكنه أقوى المفاهيم، لأن " إلا " موضوعة للاستثناء وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عَيْن القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك، فقال: إنه بالمنطوق. والثاني: الحصر بإنما، وهو قريب من الأول فما نحن فيه، وإن كان جانبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت: إنما قام زيد بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم. الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس على تقدير تسليمه مثل الحصر في الأوّلين، بل هو في قوة جملتين: إحداهما ما صُدّر به الحكم نفياً كان أو إثباتاً، وهو المنطوق. والأخرى ما فُهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق دون ما دل عليه من المفهوم، لأن المفهوم لا مفهوم له. فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك - أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) . - أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه بعده: (والزانية لا يَنْكحُهَا إلاّ زَان أو مُشْرِك) ، بياناً لما سكت عنه في الأولى، فلو قال: " بالآخرة يوقِنون " أفاد بمنطوقه إيقانهم بها، ومفهومه عند مَنْ يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصوداً بالذات. والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حَصْر مجازي، وهو دون قولنا: يُوقِنُون بالآخرة دون غيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره لا يوقنون إلا بالآخرة. إذا عرفت هذا فتقديم "هُمْ" أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم المعترض، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة. ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يُوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهومُ عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة، مثل ما وإلا، ومثل إنما، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقاً عن غيرهم، وهذا كله على تقدير تسليم الحصر، ونحن نمنع ذلك، ونقول: إنه اختصاص، وإن بينهما فرقاً. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الوجه الثالث عشر من وجوه إعجازه (احتواؤه على جميع لغات العرب وبلغة غيرهم من الفرس والروم والحبشة وغيرهم) وقد رأيت فيه تأليفاً مفرداً. وقد أفردث في هذا النوع كتاباً سميته " المهذب فما وقع في القرآن من العرّب ". وألخص هنا ما وقع تَتِمة لل فائدة ، ومن الله أرجو حسن العائدة، بعد أن أذكر اختلاف العلماء في وقوع المعرّب في القرآن. فالأكثرون، ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر، وابن فارس، على عدم وقوعه فيه، لقوله تعالى: (قرآناً عَرَبيّاً) . وقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) . وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك. وقال أبو عبيدة: إنما أنْزِل القرآن بلسان عربي مبِين، فَمَنْ زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول. ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول. وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهّم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وقال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن إنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد. وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت العرب من لغاتهم ألفاظاً غيرت بعضها بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان. وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. وقال آخرون: كل هذه الألفاظ عربية صرف، ولكن لغة العرب متسعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 جدا، ولا يبعد أن تخفى على أكابر إلجلّة. وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح. قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي. وقال أبو المعالي عزَيْري بن عبد الملك: إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب، لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً. ويجوز أن يكونوا سُبِقوا إلى هذه الألفاظ. وذهب آخرون إلى وقوعه فيه. وأجابوا عن قوله: (قُرآناً عَرَبيّاً) بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربياً. فالقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية. وعن قوله: (أأعجميّ وعربي) - بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منعَ صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة. وردّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل خلاف، فالكلام في غيرها. فَوِّجّه بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس. وأقوى ما رأيته للوقوع - وهو اختياري - ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي مَيْسرة التابعي الجليل، قال: في القرآن من كل لسان. وروي مثله عن سعيد بن جُبير، ووَهْب بن مُنَبه، فهذه إشارة إلى أن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن، لتتم إحاطته بكل شيء، فاختير من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب. وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِ) ، فلا بد أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قَوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو. وقد رأيت الحوفي وابن النقيب ذكره، وذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى، فقال: إن قيل إن " إستبرق " ليس بعربي، وغير العربي من الألفاظ دون العربي في الفصاحة والبلاغة، فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك. وذلك لأن الله تعالى إذا حثّ عباده علي الطاعة فإن لم يرغّبهم بالوعد الجميل ويخوّفهم بالعذاب الوبيل - لا يكون حثّه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب. ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء، وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة، ثم المآكل الشهية، ثم المشارب الهنيّة، ثم الملابس الرفيعة، ثم المناكح اللذيذة، ثم ما بعده مما تختلف فيه الطباع. فإذاً ذكْر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال مَنْ أمر بالعبادة ووُعد عليها بالأكل والشرب: إن الأكل والشرب لا التذاذ به، إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير وأما الذهب فليس مما يُنْسج منه ثوب. ثم إن الثوب الذي من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن والثقل. وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن. وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثمن، ولا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحثّ والدعاء. ثم إن هذا الواجب الذكر إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح أو لا يذكر بمثل هذا. ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى، لأنه أوجز وأظهر في الإفادة، وكذلك " إستبرق ". فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ، ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظا واحداً يدل عليه، لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس، ولم يكن لهم بها عَهْدٌ، ولا وُضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عَرَّبوا ما سمعوا من العجم، واستغنوا به عن الوضع، لقلة وجوده عندهم، ونَزرة لفظهم به. وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخلّ بالبلاغة، لأن ذكر لفظين لمعنًى يمكن ذكره بلفظٍ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ " إستبرق " يجب على كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فصيح أن يتكلم به في موضعه، ولا يجد ما يقوم مقامه. وأي فصاحة أبلغ من ألا يوجد غيره مثله، انتهى. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام - بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي مذهبٌ فيه تصديق القولين جميعاً. وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فَعَرّبَتْها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: عجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي، وابن الجوزي، وآخرون. وهذه الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة الحجاز. وأما ما وقع فيه بغير لغة العرب فنذكر تفسير الغريب على حروف المعجم. أخرج أبو عبيد من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (وأنْتمْ سامِدون) النجم: 161، قال الغناء. وهي لغة يمانية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هي بالحميرية. وأخرج أبو عبيد عن الحسن، قال: كُنَّا لا ندري ما الأرائك حتى لَقِيَنَا رجلٌ من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم هي الحجَلة فيها السرير. وأخرج عن الضحاك في قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) قال: ستوره بلغة أهل اليمن. وأخرج عن عكرمة في قوله: (وزوَّجْنَاهم بحورٍ عِين) . قال: هي لغة يمانية، وذلك أن أهل اليمن يقولون: زوجنا فلاناً بفلانة. قال الراغب في مفرداته: ولم يجيء في القرآن زوجناهم حوراً كما يقال زوجته امرأة، تنبيهاً على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فما بيننا بالمناكحة. وأخرج عن الحسن في قوله: (لو أردنا أنْ نتَّخِذَ لَهْواً) . قال: اللهو بلسان اليمن المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وأخرج عن محمد بن علي في قوله: (ونادَى نوح ابْنَه) . قال: هي بلغة طي ابن امرأته. قلت: وقد قرئ: ونادى نوح ابنها (1) . وأخرج عن الضحاك في قوله: (أعصرُ خَمْراً) . ي قال: عنباً بلغة أهل عمان، يسمون العنب الخمر. وأخرج عن ابن عباس في قوله: (أتَدْعُونَ بعْلاً) . قال: ربّاً بلغة أهل اليمن. وأخرج عن قتادة قال: بعلاً ربّاً - بلغة أزد شنوءة. وأخرج أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الوقف عن ابن عباس قال لي: الوزَر وَلَدُ الوَلد بلغة هذيل. وأخرج فيه عن الكل قال: المرجان صغار اللؤلؤ بلغة اليمن. وأخرج في كتاب الردّ على مَنْ خالف مصحف عثمان، عن مجاهد، قال الصواع الطَرْجِهَالَة بلغة حمير. وأخرج فيه عن أبي صالح في قوله: (أفلم ييْأسَ الذين آمنوا) . قال: أفلم يعلم بلغة هوازن. وقال الفراء: قال الكلبي بلغة النخع. وفي مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس: يغتِنكم: يُضِلّكم بلغة هوازن. وفيها: بوراً: هَلْكى بلغة عمان. وفيها: فنَقَّبُوا: هربوا بلغة اليمن. وفيها: لا يلِتْكلم: لا ينقصكم بلغة بني عبس. وفيها: مرَاغماً: منفسحاً، بلغة هذيل. وأخرج سعيد بن منصور في سُنَنه عن عمرو بن شرحبيل في قوله: "سَيْل العرَم" قال: المسنَّاة بلحن أهل اليمن. وأخرج في تفسيره، عن ابن عباس، في قوله: (في الكتاب مَسْطُوراً) قال: مكتوباً، وهي لغة حميرية، يسمون الكتاب أسطوراً. وقال أبو عبيد القاسم في الكتاب الذي ألفه في هذا النوع: في القرآن بلغة   (1) لا يخفى ما فيه من البعد البعيد، وصريح القرآن يغنينا عن هذه التكلف البعيد، ولقد عصم الله زوجات الأنبياء من الوقوع في الفاحشة - تكريما وإجلالا - لمكانتهم صلوات اللله وسلامه عليهم أجمعين وما ورد في شأن امراة نوح ولوط في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) محمول على إبطان الكفر وإظهار الإيمان، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 كنانة: السفهاء: الجهال. خاسئين: صاغرين. شَطر: تلقَاء. لا خَلاَق: لا نَصِيب. وجعلكم ملوكاً: أحرارا. قَبِيلاً: عياناً. مُعْجزين: سابقين. يَعزب: يغيب. تركنوا: تميلوا. فجْوة: ناحية. مَوئلاً: ملجأ. مُبْلسون: آيسون. دُحُوراً: طرداً. الخراصون: الكذّابون. أسفاراً: كتباً. أُقَتَتْ: جمعت. كَنُود: كَفُور للنعم. وبلغة هُذَيل: الرّجْز: العذاب. شَرَوْا: باعوا. عزموا الطلاق: حققوا. صَلْداً: نقياً. آناء الليل: ساعاته. فَوْرِهم: وجوههم. مِدْراراً: مُتَتابعاً. فُرقاناً: مخرجاً. حرض: حض. عَيْلَة: فاقة. وليجة: بطانة. انفروا: اغْزُوا. السائحون: الصائمون. العَنَت: الإثم. غُمَة: شبهة. ببَدَنك: بِدِرْعك. هامدة: مُغْبَرَّة. دلوك الشمس: زوالها. شاكِلَته: نا يته. رجْماً: ظنا. مُلْتَحَداً: مَلْجأ. يرجو: يخاف. هَضْماً: نَقْصاً. المبذّر: المسرف. واقصد في مَشْيِك: أسرع. الأجداث: القبور. ثاقب: مضيء. بالهم: حالهم. يهْجَعُون: ينامون. ذَنوباً: عذاباً. دُسُر: المسامير. تفاوت: عيب. أرجائها: نواحيها. أطواراً: ألواناً. بَرْداً: نوماً. واجفة: خائفة. مَسْغَبة: مجاعة وبلغة حمير: تَفْشَلوا: تَجْبنوا. عُثِرَ: اطَّلع. سفاهة: جنون. زيَّلْنَا: مَيَّزْنَا. مَرْجُوًّا: حقيراً. السقاية: الإناء. مسنون: منتن. إمام: كتاب. يُنْغِضُون: يحركون. حُسْباناً: بَرَداً. من الكبر عِتيّاً: نُحولاً. مآرب: حاجات. خَرْجاً: جعْلاً. غرا ماً: بلاءً. الصَّرْح: البيت. أنكر الأصوات: أقبحها. مرض: زنا. القطر: النحاس. محشورة: مجموعة. معكوفاً: محبوساً. يَتِركم: ينقصكم. مدينين: محاسبين. بجبّار: بمُسلّط. رابية: شديدة. وَبيلاً: شديداً. وبلغة جُرْهم: فباؤوا: استوجبوا. شقاق: ضلال. خيراً: مالاً. كدأب: أشباه. تعدلوا: تميلوا. يغنوا: يتمتعوا. شرِّد: نكِّل. أراذِلُنا: سفلتنا. عصيب: شديد. لفيفاً: جميعاً. محسوراً: منقطعاً. حَدَب: جانب. الخلال: السحاب. الودْق: المطر. شِرْذمة: عصابة. ريع: طريق. يَنْسِلون: يخرجون. الحبك: الطرائق. سور: الحائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وبلغة أزْد شنوءة: لا شية: لا وضح. العضْل: الحبْس. أمَّة: سنين. الرسّ: البئر. كاظمين: مكروبين. غِسْلين: الحار الذى تناهى حَرّه. لوَّاحة: حراقة. وبلغة مدلج: رفث: جماع. مُقيتا: مُقتدراً. بظاهر من القول: بكذب. الوصيد: الفناء. حقباً: دهراً. الخرطوم: الأنف. وبلغة خَثْعم: تُسِيمون: ترعون. مريج: منتشر. صَغَتْ: مالت. هَلُوعا: ضجوراً. شططاً: كذبا. وبلغة قيس عيلان: نِحْلة: فريضة. حرج: ضيق. لخاسرون: مضيَّعون. تفنَدون: تستهزئون. صياصيهم: حصونهم. تُحْبَرون: تنعمون. رجيم: ملعون. يلِتْكم: ينقصكم. وبلغة سعد العشيرة: حفدة: أخْتان. كل: عيال. وبلغة كندة: فجاجاً: طرقات. بُسَّت: فتتَتْ. تبتئس: تحزن. وبلغة عذرة: اخسئوا: اخزوا. وبلغة حضر موت: رِبّيون: رجال. دمرنا: أهلكنا. لغوب: إعياء. مِنْسأته: عصاه. وبلغة غسان: طفقاً: عمداً. بئيس: شديد. سيء بهم: كرههم. وبلغة مُزَينة: لا تَغْلُوا: لا تزيدوا. وبلغة لخم: إملاق: جوع. ولتعْلُنّ: تقهرن. وبلغة جُذام: فجاسوا خلال الديار: تخللوا الأزقَّة. وبلغة بني حنيفة: العقود: العهود. الجناح: اليد. والرهب: الفزع. وبلغة اليمامة: حَصِرت: ضاقت. وبلغة سبأ: تميلوا ميلاً عظيما: تخطئوا خطأ بيناً. تَبّرنا: أهلكنا. وبلغة سليم: نكلص: رجع. وبلغة عمارة: الصاعقة: الموت. وبلغة طي: ينعق: يصيح. رغدا: خصباً. سفه نفسه: خسرها. يس: يا إنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وبلغة خزاعة: أفيضوا: انفروا. والإفضاء: الجماع. وبلغة عمان: خبالاً: غيّا. نَفَقاً: سربا. حيث أصاب: أراد. وبلغة تميم: أمة: نسيان. بغيا: حسداً. وبلغة أنمار: طائره: عمله. أغطش: أظلم. وبلغة الأشعريين: لأحتَنِكَنَّ: لاستأصِلَنَّ. تارة: مرة. اشمازت: مالت ونفرت. وبلغة الأوس: لينة: النخلة. وبلغة الخزرج: ينفضَّوا: يذهبوا. وبلغة مدين: فاقض: فامض. انتهى ما ذكره أبو القاسم ملخصاً. وقال أبو بكر الواسطي في كتابه " الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم. والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرْهم، واليمن، وأزد شنوءة. وكندة، وتميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضر موت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومدلج، وخزاعة، وغَطَفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلبة، وطي، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبليّ، وعذْرة، وهوازن، والنمر، واليمامة. ومن غير العربية: الفرس، والنبط، والروم، والحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط. ثم ذكر في أمثلة ذلك كالب ما تقدم عن أبي القاسم، وزاد الزجر: العذاب بلغة طىء. طائف من الشيطان: نخسة، بلغة ثقيف. الأحقاف: الرمال بلغة ثعلبة. وقال ابن الجوزي في "فنون الأفنان": في القرآن بلغة همدان: الريحان: الرزق. والعيناء: البيضاء. والعبقري: الطنافس. وبلغة نصر بن معاوية: الختّار: الغَدّار. وبلغة عامر بن صعصعة: الحفدة: الخدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وبلغة ثقيف: العول: الميل. وبلغة عك: الصّور: القرن. وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": قول من قال: نزل القرآن بلغة قريش معناه عندي الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات، من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازيين إلا قليلاً، فإنه نزل بلغة التميميين، كالإدغام في: (ومَنْ يشاقّ اللهَ) الحشر: 4. وفي: (مَن يَرْتَدّ منكم عَن دِينه) المائدة: 54) ، فإن إدغام المجزوم لغة تميم. ولهذا قلّ. والفك لغة الحجاز، ولهذا كثر، نحو: (وليُمْلِل) (يُحْبِبكم الله) . (يمددْكم) (واشدد به أزْري) . (ومن يحلُلْ عليه غَضَبىِ) . قال: وقد أجمع القراء على نصب: (إلا اتبَاعَ الظن) ، لأن لغة الحجازيين التزام النصب في المنقطع، كما أجمعوا على نصب: (ما هذا بَشراً) يوسف: 31) ، لأن لغتهم إعمال ما. وزعم الزمخشري في قوله: (قل لا يعْلَمُ مَنْ في السماوات والأرض الغيب إلا اللَهُ) النمل: 65، - أنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم. فائدة قال الواسطي: ليس في القرآن حرف غريب من لغة قريش غير ثلاثة أحرف، لأن كلام قريش سهل، لين واضح، وكلام العرب وحشي غريب. فليس في القرآن إلا ثلاثة أحرف، غريبة: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) وهو تحريك الرأس: (مُقِيتًا) : مقتدرا. (فَشَرِّدْ بِهِمْ) : سمع. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الوجه الرابع عشر من وجوه إعجازه (عموم بعض آياته وخصوص بعضها) وهو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، وصيغته (كل) مبتدأة نحو: (كلّ مَنْ عليها فَان) الرحمن: 26. أو تابعة، نحو: (فسجد الملائكة ُ كلّهم أجمعون) الحجر: 30. والذي والتي وتثنيتهما وجعهما، نحو: (والذي قال لوَالِدَيه أف لكما) ، فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد (أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ في أمم) الأحقاف: 18. (والذين آمَنُوا وعَمِلوا الصالحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم فيها خالدون) . (للّذين أحسَنُوا الخسْنى وزِيادة) . (للّذين اتَّقوا عند ربِّهم جنّاتٌ) . (واللائي يَئِسْنَ من الحيض) . (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا) . (واللّذانِ يَأتِيَانِها منكم فآذُوهما) . وأي. وما. ومن - شرطاً أو استفهاماً أو موصولاً، نحو: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) . (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) . (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . والجمع المضاف، نحو: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) . والمعرَّف بأل، نحو: (قد أفلح المؤمنون) ، (واقتلوا المشركين) . واسم الجنس المضاف، نحو: (فليَحْذَرِ الذين يخالِفونَ عن أمره) . أي كلَّ أمرٍ لله. والصرَّف بأل نحو: (وأحلَّ اللهُ البَيْعَ) ، أي كل بيْع. (إن الإنسان لفي خُسْرٍ) ، أي كل إنسان، بدليل: (إلاَّ الذين آمنوا) . والنكرة في سياق النفي والنهي، نحو: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) . (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) . (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) . وفي سياق الشرط، نحو: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) . وفي سياق الامتنان، نحو: (وأنزلنا من السماء ماء طَهورا) . فصل العام على ثلاثة أقسام: الأول: الباقي على عمومه، قال القاضي جلال الدين البُلقيني: ومثاله عزيز، إذْ مَا مِنْ عامّ إلا ويتخيّل فيه التخصيص، فقوله: (يا أيها الناس اتَّقُوا ربكم) قد يخص منه غير المكلف. وحُرِّمَتْ عليكم الميتَة خص منه حالة الاضطرار وميتة السمك والجراد. وحرم الربا - خص منه العرايا. وذكر الزركشي في البرهان: أنه كثير في القرآن، وأورد منه: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) . (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) .. (اللهُ الذي خلقَكُمْ ثم رَزَقكُم ثم يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) . (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) . (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) . قلت: هذه الآيات كلها في غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البُلقيني أنه عزيز في الأحكام الفرعية. ولقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها. وهي قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) . فإنه لا خصوص فيها. الثاني: العام المراد به الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الثالث: العام المخصوص، وللناس بينهما فروق: منها: أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها. والثاني أريد عمومه وشمولُه لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم. ومنها أن الأول مجاز قطعاً لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي، بخلاف الثاني. فإن فيه مذاهب أصحها أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة، ونقَله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي. لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي اتفاقاً، فليكن هذا التناول حقيقياً أيضاً. ومنها أن قرينة الأول عقلية، والثاني لفظية. ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثاني تنفك عنه. ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقاً، وفي الثاني خلاف. ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) . والقائل واحد نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزَاعة، كما أخرج ابن مردويه من حديث أبي رافع، لقيامه مقام كثير في تثبيطه المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان. قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد: (إنّها ذَلِكم الشيطانُ) . فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينه، ولو كان المعنيُّ به جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. ومنها قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) . أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومنها قوله: (ثم أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ الناسُ) . أخرج ابن جرير من طريق الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ حَيْثُ أفاضَ الناسُ) ، قال إبراهيم: ومن الغريب قراءةُ سعيد بن جُبير: من حيث أفاض الناسي قال في المحتسب: يعني آدم، لقوله: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) . ومنها قوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) ، أي جبريل، كما في قراءة ابن مسعود. وأما المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام فيه إلا وقد خص، ثم المخصص له إما متصل، وإما منفصل، فالمتصل خمسة وقعت في القرآن: أحدها: الاستثناء، نحو: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) . النور: 4. (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) . (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) ... إلى قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) . (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . (كلّ شيء هالكٌ إلاَّ وَجْهَه) . الثاني: الوصف، نحو: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) . الثالث: الشرط، نحو: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) . (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) . الرابع: الغاية، نحو: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 (ولا تقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْن) . (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) . (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) . الخامس: بدل البعض من الكل نحو: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .. والمخصص آية أخرى في محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس. فمن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .، خص بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) . وبقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) . خص من الميتة السمك بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) . ومن الدم الجامد بقوله: (أو دَماً مَسفوحاً) . وقوله: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) . خص بقوله: (فلا جُنَاحَ عليهما فما افتدَتْ به) . وقوله: (الزَّانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائةَ جلدة) . خص بقوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) . وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . خص بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) . ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: (وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ) . خص منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة، بالسنّة. وحرم الربا. خص العرايا منه بالسنة. وآيات المواريث خص منها القاتل والمخالف في الدين بالسنة. وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة. وآية ثلاثة قروء خص منها الأمَة بالسنة. وقوله: ماءً طَهوراً، خص منه المتغير بالسنّة. وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) خص منهما مَنْ سرق دون ربع دينار بالسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومن أمثلة ما خص بالإجماع آية المواريث، خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع، ذكره مكي. ومن أمثلة ما خص بالقياس آية الزنا: (فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جَلْدَة) ، خص منه العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله: (فَعَليْهنّ نصْفُ ما على المحصَنَاتِ من العذاب) ، المخصص لعموم الآية، ذكره مكيّ أيضاً. فصل من خاص القرآن ما كان مخصصاً لعموم السنَّة، وهو عزيز. ومن أمثلته قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) . خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: أُمِرْتُ أنْ أقَاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله. وقوله: (حافِظُوا على الصَّلَوَاتِ والصلاةِ الوُسْطَى) . البقرة: 238. خص عموم نهيْه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في الأوقات المكروهة بإخراخ الفرائض. وقوله: (ومِنْ أصوافها وأوْبارها) . خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبين مِنْ حَيّ فهو ميتة. وقوله: (والعامِلِينَ عليها والمؤلَّفَةِ قلوبُهم) . خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلّ الصدقةُ لغَنِيّ ولا لذي مِرّة سويّ. وقوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) . خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا الْتَقَى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. (فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص) الأول: إذا سِيقَ العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه، فيه مذاهب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أحدها: نعم، إذ لا صارف عنه، ولا تنافي بين العموم وبين المدح أو الذم. والثاني: لا، لأنه لم يسَقْ للتعميم، بل للمدح أو الذم. والثالث: وهو الأصح: التفصيل، فيعم إن لم يعارضه عام آخر لم يُسق لذلك، ولا يعلم إن عارضه ذلك جمعاً بينهما. مثاله، ولا مُعَارِض، قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) . ومع المعارض قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) . فإنه سِيق للمدح، وظاهِرُهُ يعُمُّ الأخْتَيْن بملك اليمين جمعاً، وعارضه في ذلك: (وأن تَجْمَعوا بين الأختين) ، فإنه شامل لجمعهما بملك اليمين، ولم يُسَق للمدح، فحمل الأول على غير ذلك بأن لم يرد تناوله له. ومثاله في الذم: (والذين يَكنِزُونَ الذهبَ والفضّة) . الآية - فإنه سيق للذم، وظاهره يعم الحلي المباح. وعارضه في ذلك حديث جابر: ليس في الحلي زكاة، فحمل الأول على غير ذلك. الثاني: اختلف في الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم -، نحو: (يا أيها النبي) ، (يا أيها الرسول) ، هل يشمل الأمّة، فقيل: نعم، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفاً. والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصفة به. الثالث: اختلف في الخطاب ب (يا أيها الناس) ، هل يشمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مذاهب: أصحها: وعليه الأكثرون: نعم، لعموم الصفة له، أخرج ابن أبي حاتم عن الزهري، قال: إذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا افعلوا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم. والثاني: لا، لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، ولما له من الخصائص. والثالث: إن اقترن بقُلْ لم يشمله، لظهوره في التبليغ، وذلك قرينةُ عدم شموله، وإلا فيشمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الرابع: الأصح في الأصول أن الخطاب ب " يا أيها الناس " يشمل الكافر والعبد، لعموم اللفظ. وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه في الفروع، ولا العبد لصَرْف منافعه لسيده شرعاً. الخامس: اختلف في " مَنْ " هل يتناول الأنثى، فالأصح: نعم، خلافاً للحنفية، لأن قوله تعالى: (ومَنْ يعمَلْ من الصالحات مِنْ ذكر أو أنثى) - فالتفسير بهما دالّ على تناول (مَنْ) لهما. وقوله: (ومن يَقْنتْ مِنْكنّ للَهِ ورسوله) . واختلف في جمع المذكر السالم هل يتناولها، فالأصح لا. وإنما يدخلن فيه بقرينة. أما المكسّر فلا خلاف في دخولهن فيه. السادس: اختلف في الخطاب ب " يا أهل الكتاب "، هل يشمل المؤمنين. فالأصحًّ لا، لأن اللفظ قاصر على من ذكر. وقيل: إن شركوهم في المعنى شملهم وإلا فلا. واختلف في الخطاب ب " يا أيها الذين آمنوا " - هل يشمل أهل الكتاب. قيل: لا - بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع. وقيل: نعم -، واختاره ابن السمعاني. وقيل قوله: يا أيها الذين آمنوا خطاب تشريف لا تخصيص. ******* الوجه الخامس عشر من وجوه إعجازه (ورود بعض آياته مجملة وبعضها مبيّنة) وفي ذلك من حسن البلاغة ما يعجز عنه أولو الفصاحة، لكن هل يجوز بقاؤه مجملاً أم لا، أقوال. أصحها لا يبقى المكلف بالعمل به بخلاف غيره. وللإجمال أسباب: أحدها: الاشتراك، نحو: (والليل إذا عَسْعَس) . فإنه موضوع لأقبل وأدبر. (ثلاثة قُروء) ، فإن القُرْءَ موضوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 للْحَيْض والطهر. (أو يَعْفُو الذي بيده عُقدة النكاح) . يحتمل الزوج والوليّ، فإن كلاًّ منهما بيده عقدة النكاح. وثانيها: الحذف، نحو: (وترغَبونَ أنْ تنكحُوهنَّ) . يحتمل في، وعَنْ. وثالثها: اختلاف مرجع الضمير، نحو: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) . يحتمل عود ضمير الفاعل في يرفعه إلى ما عاد عليه ضميرُ إليه، وهو الله، ويحتمل عَوْده على العمل. والمعنى إن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب. ويحتمل عوده إلى الكلم الطيب، أي أن الكلم الطيب - وهو التوحيد - يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان. ورابعها: إجمال العطف والاستئناف، نحو: (إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) . وخامسها: غرابة اللفظ، نحو: (فلا تعْضُلُوهنّ) . وسادسها: عدم كثرة الاستعمال، نحو: (يلْقُونَ السَّمعَ) . أي يسمعون. (ثاني عِطْفِه) ، أي متكبِّراً. (فأصبح يقَلِّبُ كفَّيْه) ، أي نادماً. وسابعها: التقديم والتأخير، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) . أي: ولولا كلمة وأجَل مسمى لكان لزاماً. (يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها) ، أي يسألونك عنها كأنك حَفِيٌّ. وثامنها: قلب المنقول، نحو (طورِ سِيْنِين) ، أي: سيناء (على إلْ يَاسين) ، أي إلياس. وتاسعها: التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر، نحو: (للّذِينَ استضْعِفُوا لمن آمَنَ منهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فصل قد يقع التبيين متصلا، نحو: (من الفَجْر) . البقرة: 187، بعد قوله: (الخيْط الأبيض من الخيْطِ الأسود) . البقرة: 187. ومنفصلاً في آية أخرى، نحو: (فإنْ طلَّقَها فلا تحلَّ له مِنْ بعْدُ حتى تنْكحَ زَوْجاً غيره) ، بعد قوله: (الطلاقُ مرّتان) ، فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرّجْعة بعده، ولولاهما لكان الكل منحصراً في الطلْقَتَيْن. وقد أخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، وسعيد بن منصور وغيرهم، عن ابن سعيد الأسدي، قال: قال رجل: يا رسول الله، الطلاق مرتان، فأين الثالثة، قال: أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة، قال: (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) . وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمئذٍ ناضِرَةٌ، إلى ربّها ناظِرَةٌ) . دال على جواز الرؤية، ويفسر أن المراد بقوله: لا تدركه الأبصار: لا تحيط به دون لا تراه. وقد أخرج ابن جرير من طريق العَوْفي، عن ابن عباس، في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، قال: لا تحيط به. وأخرج عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أليس قد قال: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، فقال: أفلست ترى السماء أفكلها تُرى. وقوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) . فسره قوله: (حُرمَتْ عليكم الميْتَةُ) . وقوله: (مالك يوْمِ الدين) . فسره قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقوله: (فتلَقّى آدمُ مِنْ رَبِّهِ كلماتٍ) . فسره قوله: (قالا ربنا ظَلَمْنَا أنْفُسَنا) . وقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا) . فسره قوله في آية النحل: (بالأنثى) . وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) . قال العلماء: بيانُ هذا العهد قوله: (لئن أقَمْتُم الصلاةَ وآتيْتُم الزكاةَ وآمنتُم بِرُسلي) . فهذا عهده. وعهدكم: (لأكفرنّ عنكم سيِّئاتكم) . وقوله: (صراطَ الذين أنعمْتَ عليهم) . بيّنه قوله: (فأولئك مع الذين أنْعَمَ اللهُ عليهم من النبيين) . وقد يقع التبيينُ بالسنّة، مثل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ولله على الناس حِجّ البيت. وقد بينت السنّةُ أفعال الصلاة والحج ومقادير نُصب الزكاة في أنواعها. تنبيه: اختلف في آيات، هل هي من قبيل المجمل أم لا؟. منها السرقة، قيل: إنها مجملة في اليد، لأنها تطلق على العضو إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب. وفي القطع، لأنه يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، ولا ظهور لواحد من ذلك. وإبانة الشارع إلى الكوع تبيّن أن المراد ذلك. وقيل لا إجمال فيها، لأن القطع ظاهر في الإبانة. ومنها: (وامسحوا برؤوسكم) . قيل إنها مجملة، لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع الناصية مُبينٌ لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقيل: لا، وإنما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم ويفيده. ومنها: (حُرمَتّ عليكم أمهاتكم) . قيل: إنها مجملة، لأن إسناد التحريم إلى العين لا يصح، لأنه إنما يتعلق بالفعل، فلا بد من تقديره، وهو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها ولا مرجح لبعضها. وقيل: لا، لوجود المرجح، وهو العرف، فإنه يقْتضِي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطء أو نحوه، ويجري ذلك في كل ما يجري فيه التحريم والتحليل بالأعيان. ومنها: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) . قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم. وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعاً، فحمل على عمومه، ما لم يقم دليل التخصيص. وقال الماوردي: للشافعي في هذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنها عامة، فإن لفظها لفظُ عموم يتناول كل بيع، ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل. وهذا القول أصحها عند الشافعي وأصحابه، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز، فدل على أن الآية تناولت إباحةَ جميع البيوع إلا ما خص منها، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - المخصوص. قال: فعلى هذا في العموم قولان: أحدهما أنه عموم أريد به العموم وإن دخله التخصيص. والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص، قال: والفرق بينهما أن البيان في الثاني متقدم على اللفظ، وفي الأول متأخر عنه ومقترن به. قال: وعلى القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف فيها ما لم يَقُمْ دليل تخصيص. والقول الثاني أنها مُجْمَلة لا يعقل منها صحةُ بَيع مِنْ فساده إلا ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نُهي عنه من البيوع؟ وجهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها، لأن لفظ البيع اسم لغوي معناه معقول، لكن لما قام بإزائه من السنّة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلا ببيان السنة، فصار مجملاً لذلك دون اللفظ، أو في اللفظ أيضاً، لأنه لما لم يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم وكانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلاً أيضاً، وجهان. قال: وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلالُ بها على صحة بَيْع ولا فساده، وإن دلت على صحة البيع من أصله. قال: وهذا هو الفرق بين العموم والمجمل حيث جاز الاستدلال بظاهر العموم ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل. والقول الثالث أنها عامة جملة معاً، قال: واختُلِف في وجه ذلك على أوجه: أحدها: أن العموم في اللفظ، والإجمال في المعنى، فيكون اللفظ عاماً مخصوصاً، والمعنى مجملاً لَحِقَه التفسير. والثاني: أن العموم في: وأحلَّ اللهُ البَيْعَ، والإجمال في: وحرّم الربا. والثالث: أنه كان جملاً، فلما بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - صارَ عامًّا فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، وفي العموم بعد البيان، فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها. والقول الرابع: أنها تناولت بيعاً معهوداً، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعاً وحرم بيوعاً، فاللام للعهد، فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها. ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية، نحو: (وأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاة) . (فمن شهدَ منكم الشَّهْر فَلْيَصُمْه) . (وللهِ على الناس حِج البيتِ مَنِ استطاع إليه سبيلا) . قيل: إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قَصْد، والمراد بها لا تدل عليه اللغة، فافتقرت إلى البيان. وقيل: لا، بل تُحمل على كل ما ذكر إلا ما خص بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تنبيه: قال ابن الحصّار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد. والصواب أن المجمل المبهم الذي لا يُفهم المراد منه. والمحتمل اللفظ الواقع باللفظ الأول على معنيين مفهومين فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو في بعضها. فالفرق بينهما أن المجمل يدل على أمور معروفة، واللفظ مشترك متردد بينها. والمبهم لا يدل على أمر معروف مع القطع بأن الشارع لم يفْضِ لأحد ببيان المجمل، بخلاف المحتمل. ******* الوجه السادس عشر من وجوه إعجازه (الاستدلال بمنطوته أو بمفهومه) وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص، نحو: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد عليهم، قال: لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا وإن عزّ حصوله بوضع الصيغ رداً إلى اللغة فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية. انتهى. أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً، فالظاهر، نحو: (فَمَنِ اضْطُرّ غير باغ ولا عَادٍ) . فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب. ونحو: (ولَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ) ، َ فإنه يقال الانقطاع ظاهره الوضوء والغسل، وهو في الظاهر أظهر. وإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولاً، وهو كقوله: (وهو مَعَكمْ أيْنَ ما كنتُم) ، فإنه يستحيل حمل المعيّة على القُرب بالذات، فتعين صَرْفُه عن ذلك، وحمله على القدرة والعلم، أو على الحفظ والرعاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكقوله: (واخْفِض لهما جَنَاحَ الذّل من الرحمة) . على الظاهر، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة، فيُحمل على الخضوع وحسن الخلق. وقد يكون مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصلح حمله عليهما جميعاً. فيُحمل عليهما سواء، فلهذا قلنا هل يجوز استعمال اللفظ في معنييه أم لا، ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا ومن أمثلته أيضاً: (ولا يُضَارّ كاتِبٌ ولا شَهيد) ، فإنه يحتمل ولا يضار الكاتبُ والشهيد صاحبَ الحق بجوْرٍ في الكتابة والشهادة، ولا يضارر - بالفتح: أي لا يضرهما صاحبُ الحق بإلزام ما لا يلزم وإجبارهما على الكتابة والشهادة. ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمارٍ سميت دلالة اقتضاء، نحو: (واسأل القرية) ، أي أهلها، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما لم يقصد به سميت دلالة إشارة، كدلالة قوله تعالى: (أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرّفَث إلى نسائكم) - على صحة صَوْم من أصبح جُنُباْ، إذ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنباً في جزء من النهار. وقد حكي هذا الاستنباط عن محمد بن كعب القُرَظي. فصل والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وهو قسمان: مفهوم موافقة. ومفهوم مخالفة. فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق، فإن كان أولى سُمّي فحوى الخطاب. كدلالة: (فلا تَقُلْ لهما أفّ) - على تحريم الضرب لأنه أشد. وإن كان مساوياً سمّي لحن الخطاب، أي معناه، كدلالة: (إن الذين يأكلون أموالَ اليتامَى ظلْماً) - على تحريم الإحراق، لأنه مساوٍ للأكل في الإتلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال بيناها في كتبنا الأصولية. والثاني: ما يخالف حكمه المنطوق، وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتاً كان أو حالا أو ظرفاً أو عددا، نحو: (إنْ جَاءَكم فاسقٌ بِنَبَأ فَتَبيَّنُوا) . مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين في خبره، فيجب قبول خبر الواحد العدل. (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) . (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، أي فلا يصح الإحرام به في غيرها. (فاذكروا الله عند المشْعَرِ الحرام) ، أي فالذكر عند غيره ليس محصلاً للمطلوب. (فاجْلِدُوهم ثمانين جَلْدَةً) ، أي لا أقل ولا أكثر. وشرط نحو: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) . أي فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن. وغاية، نحو: (فلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حتى تنكحَ زَوْجاً غَيْرَه) ، أي فإذا نكحته تحل للأول بشرطه. وحصر، نحو: (لا إله إلا الله) . (إنما إلهكم إله واحد) ، أي فغيره ليس بإله. (فالله هو الولي) أي فغيره ليس بولي. (لَإلى اللهِ تُحْشَرُون) أي لا إلى غيره. (إياك نعبد) ، أي لا غيرك. واختلف في الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة. والأصح في الجملة أنها كلها حجة بشروط: منها: ألا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثَمّ لم يعتبر الأكثرون مفهومَ قوله: (ورَبَائِبكم اللاتي في حُجوركم) ، فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، فلا مفهوم له، لأنه إنما خُص بالذكر لغلبة حضوره في الذهن. وألا يكون موافقاً للواقع، ومن ثَمّ لا مفهوم لقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 (ومن يدْعُ مع اللهِ إلهاً آخَرَ لا برْهَانَ له) . وقوله: (لا يتَّخِذ المؤمنون َالكافرين أولياءَ مِنْ دون المؤمنين) . وقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) . والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول. فائدة قال بعضهم: الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها، أو بفَحْواها، أو بمفهومها، أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها، حكاه ابن الحصار، وقال: هذا كلام حسن. قلت: فالأول دلالة المنطوق. والثاني دلالة المفهوم. والثالث دلالة الاقتضاء. والرابع دلالة الإشارة. ******* الوجه السابع عشر من وجوه إعجازه (وجوه مخاطباته) وهي ثلاثة أقسام: قسم لا يصلح إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقسم لا يصلح إلا لغيره، وقسم يصلح لهما. قال بعض الأقدمين: أنزل القرآن على ثلاثين نحواً، كل نحو منه غير صاحبه. فمن عرف وجوهها ثم تكلم في الدين أصاب ووُفِّق، ومن لم يعرفها وتكلم في الدين كان الخطأ إليه أقرب، وهي: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والتقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والسبب والإضمار، والخاص والعام، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحدود والأحكام، والخبر والاستفهام، والأبّهة والحروف الصرفة، والإعذار والإنذار، والحجة والاحتجاج، والمواعظ والأمثال، والقسم. قال: والمكي مثل: (واهجُرْهم هجْراً جيلاً) . والمدني مثل: (وقاتلوا في سبيل الله) - والناسخ والمنسوخ واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والمحكم مثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) . (إن الذين يَأكُلُون أموالَ اليتامى ظُلْما) ، ونحوه مما أحكمه الله وبيَّنَه. والمتشابه مثل: ("يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تَدْخُلوا بيوتاً غَيْرَ بيوتِكم حتى تَسْتَأنِسُوا) . ولم يقل: (ومن يفعل ذلك عدْوَاناً وظلماً فسوف نُصْلِيه نارا) ، كما قال في المحكم. وقد ناداهم في هذه الآية بالإيمان ونهاهم عن المعصية ولم يجعل فيها وعيداً فشُبّه على أهلها ما يفعل الله بهم. والتقديم والتأخير مثل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) .، التقدير: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت. والمقطوع والموصول مثل: (لا أقسِمُ بيوم القيامة) . فلا مقطوع من لا أقسم، وإنما هو في المعنى أقسم بيَوم القيامة (ولا اقسم بالنَّفْسِ اللوَّامة) ، ولم يقسم. والسبب والإضمار، مثل: (واسْألِ القريةَ) ، أي أهل القرية. والخاص والعام، مثل: (يا أيها النبي) فهذا في المسموع خاصا - (إذا طلقَتُم النساءَ) ، فصار في المعنى عاما. والأمر وما بعده إلى الاستفهام، أمثلتها واضحة. والأبّهة نحو: (إنّا أرْسلنا) . القمر: 19، 31، 34. (نحن قسَمْنا) الزخرف: 32. عبّر بالصيغة الموضوعة للجماعة للواحد تعالى، تفخيما وتعظيما وأبهة. والحروف المصرفة، كالفتنة تطلق على الشرك، نحو: (حتى لا تكون فِتْنَة) . وعلى المعذرة، نحو: (ثم لم تكن فِتْنَتُهم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أي معذرتهم. وعلى الاختيار نحو: (قد فَتَنَّا قَوْمَك مِنْ بعْدِك) . والإعذار نحو: (فبما نَقْضِهم مِيثَاقَهم لَعَنَّاهم) . اعتذر أنه لم يفعل ذلك بهم إلاَّ بمعصيتهم. والبواقي أمثلتها واضحة. قال ابن الجوزي في كتابها "النفيس": الخطاب في القرآن على خمسة عشر وجهاً. وقال غيره: على أكثر من ثلاثين وجها. أحدها: خطاب العام، والمراد به العموم، كقوله: (الله الذي خلقَكُم) . والثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص، كقوله: (أكفَرْتُم بعد إيمانكم) . (يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ) . الثالث: خطاب العام والمراد به الخصوص، كقوله: (يا أيها الناسُ اتَّقوا ربكم) . لم يدخل فيه الأطفال والمجانين. الرابع: خطاب الخاص والمراد به العموم، كقوله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتُم) . افتتح الخطاب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد سائر مَنْ يملك الطلاق. وقوله: (يا أيها النبي إنَّا احْلَلْنَا لكَ أزواجك) . قال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له، فلما قال في الموهوبة: (خالصةً لكَ من دون المؤمنين) - علم أن ما قبلها له ولغيره. الخامس: خطاب الجنس، كقوله: (يا أيها الناس) . السادس: خطاب النوع، نحو: (يا بني إسرائيل) . السابع: خطاب العين، نحو: (يا آدم اسْكنْ أنْت وزَوْجكَ الجنَّةَ) . (يا نوح اهْبطْ) . (يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيَا) . (يا موسى لا تخَفْ) . (يا عيسى إني متَوَفِّيك) . ولم يقع في القرآن الخطاب بيا محمد. بل بـ يا أيها النبي، يا أيها الرسول، تعظيما له وتشريفا وتخصيصاً له بذلك عمَّن سواه وتعليما للمؤمنين ألا ينادوه باسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الثامن: خطاب المدح، نحو: (يا أيها الذين آمنوا) ، ولهذا وقع خطاباً لأهل المدينة: والذين آمنوا وهاجروا. أخرج ابن أبي حاتم عن خَيْثَمة قال: ما تقرأون في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) ، فإنه في التوراة يا أيها المساكين. وأخرج البيهقي وأبو عُبيد وغيرهما، عن ابن مسعود، قال: إذا سمعتَ الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) - فأوْعِها سَمْعَك، فإنه خير يأمر به أو شر ينْهَى والتاسع: خطاب الذم، نحو: (يا أيها الذين كفروا لا تعتَذِرُوا اليوم) (قل يا أيها الكافرون) . ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين. وكثر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا على الموَاجهة، وفي جانب الكفار جيء بلفظ الغيبة، إعراضاً عنهم، كقوله: (إنَّ الذين كفَرُوا) . (قل للذين كفروا) . العاشر: خطاب الكرامة، كقوله: (يا أيها النبي) . (يا أيها الرسول) . قال بعضهم: وتجد الخطاب بالنبي في محل لا يليقُ به الرسول، وكذلك العكس، كقوله في الأمر بالتشريع العام: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) . وفي مقام الخاص: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) . وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام، لكن مع قرينة إرادة التعميم. كقوله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتُم النساءَ) . ولم يقل طلقت. الحادي عشر: خطاب الإهانة، كقوله: (فإنّك رَجِيم) . (اخْسَئُوا فيها ولا تُكلمون) . الثاني عشر: خطاب التهكم، نحو: (ذُقْ إنّكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد، كقوله: (يا أيها الإنسانُ ما غَرّكَ بربك الكريم) . الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع، نحو: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... إلى قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) . فهو خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، إذ لا نبي معه ولا بعده، وكذا قوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا) . خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، بدليل قوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) . وكذا قوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل قوله: (قل فأتُوا) . وجعل منه بعضُهم: (قال رَبّ ارْجِعون) ، أي ارجعني. وقيل رب خطاب له تعالى، وارجعون للملائكة. وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب، فاختلط، فلا يدري ما يقول من الشطط، وقد اعتاد أمراً يقوله في الحياة مِنْ ردّ الأمر إلى المخلوقين. الخامس عشر: خطاب الواحد بلفظ الاثنين، نحو: (ألْقِيَا في جهنَّم) . والخطاب لمالك خازن النار، وقيل لخزنة جهنم والزبانية، فيكون من خطاب الجمع بلفظ الاثنين، وقيل للملكين الموكلين به في قوله: (وجاءَتْ كلُّ نَفْس معها سائق وشَهيد) . فيكون على الأصل. وجعل المهدوي من هذا النوع: (قال قد أجِيبَتْ دعوتكما) . قال: الخطاب لموسى وحده، لأنه الداعي. وقيل لهما، لأن هارون أمّن على دعائه والمؤمِّن أحد الداعين. السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد، كقوله: (فمَنْ ربُّكما يا موسى) ، أي ويا هارون. وفيه وجهان: أحدهما: أنه أفرده بالنداء لإدْلاله عليه بالتربية. والآخر: أنه صاحب الرسالة والآيات، وهارون تَبَع له، ذكره ابن عطية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وذكر في الكشاف آخر، وهو أن هارون لما كان أفصح لساناً من موسى نكب فرعون عن خطابه حذراً من لسانه. ومثله: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) . قال ابن عطية: أفرده بالشقاء لأنه المخاطب أولاً، والمقصود في الكلام. وقيل: لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في جانب الرجال. وقيل إغضاء عن ذكر المرأة، كما قيل من الكرم سَتْرُ الحرم. السابع عشر: خطاب الاثنين بلفظ الجمع، كقوله: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) الثامن عشر: خطاب الجمع بلفظ الاثنين، كما تقدم في " ألْقِيَا ". التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد، كقوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) . قال ابن الأنباري: جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومثله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتم النساء) . العشرون: عكسه نحو: (وأقيموا الصلاة) . (وبَشِّر المؤمنين) . الحادي والعشرون: خطاب الاثنين بعد الواحد، نحو: (أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ) . الثاني والعشرون: عكسه، نحو: (فمن رَبُّكما يا موسَى) . الثالث والعشرون: خطاب العَيْن، والمراد به الغير، نحو: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) . الخطاب له - صلى الله عليه وسلم -، والمرَاد أمته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان تقيًّا، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الكفار. ومنه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) . والمراد بالخطاب التعريض بالكفار. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: لم يشك - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومثله: (واسالْ مَنْ أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسلنا) . (فلا تكوننَّ من الجاهلين) ، وأنحاء ذلك. الرابع والعشرون: خطاب الغير والمراد به العين، نحو: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) . الخامس والعشرون: الخطاب العام الذي لم يُقصد به مخاطب معين، نحو: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) . (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) . ولم يُقصد بذلك خطاب معين، بل كل أحد، وأخرج في صورة الخطاب لقصد العموم، يريد أن حالهم تناهت في الظهور بحيث لا يختص بها راءٍ دون راء، بل كل من أمكن منه الرؤية داخلٌ في ذلك الخطاب. السادس والعشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره، نحو: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ، خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال للكفار: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل: (فهَلْ أنتُم مسلمون) . ومنه: (إنّا أرْسَلنَاكَ شاهداً) إلى قوله: (لِتُؤْمِنُوا بالله) الفتح: 8، 9. إن قرئ بالفوقية. السابع والعشرون: خطاب التلوين، وهو الالتفات. الثامن والعشرون: خطاب الجمادات خطابَ مَنْ يعقل، نحو: (فقال لَهَا ولِلأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً) . التاسع والعشرون: خطاب التهييج، نحو: (وعلى الله فتوكَّلُوا إنْ كنتُم مُؤمنين) . الثلاثون: خطاب التحنّن والاستعطاف، نحو: (يا عبادِىَ الذين أسْرَفوا على أنْفُسِهم) . الحادي والثلاثون: خطاب التحبّب، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) . (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) . الثاني والثلاثون: خطاب التعجيز، نحو: (فأتُوا بسورةٍ) . الثالث والثلاثون: خطاب التشريف، وهو كل ما في القرآن مخاطبة بقل. فإنه تشريف منه تعالى لهذه الأمة بأن يخاطبها بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة. الرابع والثلاثون: خطاب المعدوم، ويصح ذلك تبعاً لموجود، نحو: (يَا بَنِي آدَمَ) ، فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل مَنْ بعدهم. قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد مَلِكًا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّةُ الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عباده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع. ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور، نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذَرّة إلا بإذنه، ولا تسقط من ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغّبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوِّعُ الأدلة والبراهين، ويجيب عن شُبَه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقُبْحها وألمها، ويذكّر عباده فقرهم إليه، ولشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنيّ بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرةً من الخير فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ونشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك يقيل عثراتهم، ويغفر زَلّاتهم، ويقبل أعذارهم، ويصلح فسادهم. والمدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليُّهم الذي لا ولي سواه، فهو مولاهم الحق. وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير. وإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكاً عظيما رحيما جليلاً هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه أشهى عندها من رضا كل مَنْ سواه، وكيف لا تلهج بذكره، وتصيِّر حُبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها، وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بهياكلها. ******* الوجه الثامن عشر من وجوه إعجازه (ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات) وما لم يكن وما لم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، كقوله: (لَتَدْخُلُنَّ المسجِدَ الحرامَ إنْ شاء اللهُ آمِنين) . وقوله: (وهم من بَعْدِ غَلَبِهم سيَغْلِبُون في بِضْعِ سنين) . وقوله: (ليُظْهرَهُ على الدِّين كله) . وقوله: (وعَدَ اللَّهُ الذين آمنوا منكم وعمِلُوا الصالحات) . وقوله: (إذا جاء نَصْرُ اللَهِ والفَتْح) . الخ، فكان جميع هذا كما قال، فَغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناسُ في الإسلام أفواجاً، فما مات عليه السلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الإسلام، واستخلف المؤمنين في الأرض، ومكن لهم فيها دينهم، وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، كما قال عليه السلام: زُوِيت لي الأرضُ فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي منها ما زُوي لي منها. وقوله: (قاتِلُوهم يُعَذَبهم الله بأيديكم) . وقوله: (أرسل رسولهُ بالهُدَى) . وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) . فكان كل ذلك. وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم بذلك، كقوله: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) . وقوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) . وقوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) . ولما نزلت بشَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بأن الله كفاهم إياهم، وكان المستهزئون ينفّرون الناس عنه ويؤذونه، فهلكوا. وقوله: (واللَه يَعْصِمُك من الناس) ، فكان كذلك على كثرة منْ رام ضرّه وقصد قتله، والأخبار بذلك معروفة معلومة. ******* الوجه التاسع عشر من وجوة إعجازه (إخباره بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الداثرة) مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه. وإن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا بمثاقبة، ولم يغب عنهم ولا جهل حاله أحدٌ منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيراً ما يسألونه عد عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه، كقصص الأنبياء مع قومهم، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزَّبور، وصحف إبراهيم وموسى مما صدّقه فيه العلماء بها ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك، فمَنْ وفق آمن بما سبق له من خير، ومن شقي فهو معاند حاسد، ومع هذا فلم يُحك عن واحد من اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والنصارى على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له عليه السلام وتعنيتهم إياه -، عن أخبار أنبيائهم، وأسار علومهم، ومستودعات سيرهم، وإعلامهم بمكنون شرائعهم، ومضمّنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرجم، وما حَرَّم إسرائيل على نفسه، وما حرم عليهم من الأنعام، ومن طيبات كانت أحلت لهم، فحرمَتْ عليهم ببغيهم. وقوله: (ذَلكَ مَثَلُهم في التّوْرَاة ومَثَلُهم في الإنجيل) . وغير ذلك من أمورهم التي نزل بها القرآن فأجابهم وعرفهم بها أوحي إليه من ذلك - أنه أنكر ذلك أو كذب، بل أكثرهم صرح بصحة نبوءته، وصدق مقاله، واعترف بعناده مع حسدهم إياه، كأهل نَجْرَان، وابن صوريا، وابن أخطب، وغيرهم. ومَنْ باهت في ذلك بعض المباهتة، وادعى أن فيها عندهم لما حكاه مخالفة دُعي إلى دليل، وإقامة حجة، وكشف دعوته، فقيل له: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) . إلى قوله: (الظالمون) ، فقرع ووبخ، ودعا إلى إخبار ممكن غير ممتنع، فمن معترف ما جحده، ومتواقح باق على فضيحته من كتابة يده، ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلافَ قوله من كتبه، ولا بدأ بدْءاً صحيحاً ولا سقيما من صحفه، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) . ******* الوجه العشرون من وجوه إعجازه (الروعة التي تلحق قلوبَ سامعيه وأسماعهم عند سماعه) ، والهيْبَة التي تعْتَريهم عند تلاوته لقوة حاله وإبانة خطره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفوراً، كما قال تعالى، ويودّون انقطاعه لكراهتهم له، ولذا قال عليه السلام: إن القرآن صعب مستَصْعَب على من كرهه وهو الحكم. وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً، وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) . وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) . ويدل على هذا شيء خُصّ به أنه يعتريه من لا يفهم معانيه، ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي، فقيل له: مِمّ بكيت، قال: للشجاعة والنظم. وهذه الروْعة قد اعترف بها جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهْلة وآمن به، ومنهم من كفر، فحكي في الصحيح عن جُبير بن مطعم، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: والطور ... ) فلما بلغ هذه الآية: (أم خُلِقُوا من غَيْرِ شيء أمْ هُمُ الخالقون) ... إلى قوله: (المصيطرون) . كاد قلبي أن يطير. وفي رواية: وذلك أول ما دخل الإيمانُ قلبي. وعن عتبة بن ربيعة، أنه علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من خلاف قومه، فتلا عليهم. (حم فصلت) ... إلى قوله: (صاعقة مثْلَ صاعقةِ عادٍ وثمود) . فأمسك عُتبة بيده على في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وعتبة مُصْغ ملْق يديه خلف ظهره معتمداً عليهما حتى انتهى إلى السجدة، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم، وقال: لقد كلمني بكلام والله ما سمعَتْ أذُنَاي بمثله قط، فما دريتُ ما أقول له. وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه أعترته روعة وهيبة كفَّ بها عن ذلك. فروي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه، وشرع فيه، فمر بصبي يقرأ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) . فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر. وكان أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكيم الغزال بليغَ الأندلس في زمنه، فحكي أنه رام شيئاً من هذا، فنظر في سورة الإخلاص، ليحذو على مثالها وينسج - بزعمه - على منوالها، قال: فاعترتني خشيةٌ ورقَّة حملتني على التوبة والأوبة. وحكي عن بعضهم أنه كان إذا أخذ المصحف بيده يغشى عليه من هيبته. ******* الوجه الحادي والعشرون من وجوه إعجازه (أن سامِعَه لا يمجه وقارئه لا يَملة فتلذ له الأسماع وتشغف له القلوب) فلا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام - ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه - يمَلّ مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، لأن إعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد، وكتابنا بحمد الله يستلذّ به في الخلوات، ويؤنس به في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث لها أصحابها لحوناً وطربا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن بأنه لا يَخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تَفْنَى عجائبه، ليس بالهزل، لا يشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنْتَه الجن حين سمعته أن قالوا: (إنّا سمعْنَا قرآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرشْدِ فآمَنّا به) . مَنْ قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجِر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحَبْل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، ولا يعوج فيقوَّم، ولا يزيغ فيستعتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ونحوه عن ابن مسعود، وقال فيه: ولا يختلف ولا يُتَشَانأ، فيه نبأ الأولين والآخرين. وفي الحديث: قال الله لمحمد عليه السلام: إني مُنَزل عليك توراةً حديثة، تفتَحُ به أعْيُناً عمياً، وأذُنآ صُمًّا، وقلوباً غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة. ******* الوجه الثاني والعشرون من وجوه إعجازه (تيسيره تعالى حفظه وتقريبه على متحفظيه) قال تعالى: (ولقد يسّرْتا القرآنَ للذِّكْر) ، وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحدُ منهم، فكيف الجمّ على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة، حتى إن منهم من حفظه في المنام. وحكي أنه رفع إلى المأمون صبي ابن خمس سنين وهو يحفظ القرآن. قال ابن عطية: يسّر بما فيه من حسن النظم، وشرف المعاني، فله لَوْطة بالقلوب، وامتزاج بالعقول، وهذا مشاهد بالعيان، فلا يحتاج فيه إلى برهان. وأعظم من هذا أن الله يُقْدِرُ بعض خلقِه على خَتْمه في آن واحد مرات كثيرة. قال بعضهم: كنت أستغربه حتى شاهدت بعضهم خَتَمَهُ في دورة الطواف بالبيت الحرام، فحققته مشاهدة. قال الشيخ ولي الله المرجاني: وذلك أن الله أطلق كل شعرة في الجسد لقراءته. والله أعلم. وهذ، أحوال يهبها الله لمن يشاء من عباده. قال أبو عمران: من الناس من أقدره الله على أن يختم القرآن في الليلة الواحدة أربع مرات ثم يغتسل. وكان من الصحابة من يختمه مرة، ومنهم من يختمه مرتين، ومنهم من يختمه ثلاثاً. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الوجه الثالث والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الحقائق والمجاز فيه) وقد أنكر قوم وقوع المجاز فيه، وقالوا: إنه أخو الكذب، والقرآنُ منزّه عنه، وإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى. وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شَطْرُ الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن عن المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكنية القصص وغيرها. وقد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين بن عبد السلام، ولخصته مع زيادات كثيرة في كتاب سميته " مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن ". وهو قسمان: الأول: المجاز في التركيب، ويسمى مجازَ الإسناد، والمجاز العقلي، وعلاقته الملابسة، وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسته له، كقوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .: نسبت الزيادة، وهي فعل الله تعالى، إلى الآيات لكونها سببا لها. (يُذَبِّح أبناءهم) (يا هَامَانُ ابْنِ لي) ، نسب الذبح، وهو فعل الأعوان، إلى فرعون، والبناء وهو فعل العملة، إلى هامان، لكونهما آمرين به. وكذا قوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) . نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به. ومنه قوله تعالى: (يَوْماً يجعلُ الوِلْدَان شِيبا) . نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه. (عِيشَةٍ راضية) . أي مرضيّة. (فإذا عزم الأمر) : أي عزم عليه، بدليل: (فإذا عزَمْتَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وهذا القسم أربعة أنواع: أحدها: ما طرفاه حقيقيان، كالآية المصدّر بها، وكقوله: (وأخرجَتِ الأرضُ أثقالَها) . والثاني: مجازيان، نحو: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ، أي ما ربحوا فيها. وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز. ثالثها ورابعها: ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر، إما الأول أو الثاني. كقوله: (أم أنْزَلنَا عليهم سُلْطاناً) ، أى برهاناً. (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) . فإن الدعاء من النار مجاز. وكقوله: (حتى تضَعَ الحرْبُ أوْزَارَها) . (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) . (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) ، فاسم الأم هاوية مجاز، أى أن الأم كافلة لولدها ملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع. القسم الثاني: المجاز في المفرد، ويسمى المجاز اللغوي، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، وأنواعه كثيرة: أحدها، الحذف، وسيأتي مبسوطاً في نوع الإيجاز، فهو به أجدر، خصوصاً إذا قلنا: إنه ليس من أنواع المجاز. الثاني: إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ، أي ذاته. (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، أي ذواتكم، إذ الاستقبال يجب بالصدر. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) . عبّر بالوجوه عن جميع الأجساد، لأن التنعم والنصب حاصل لكليهما. (ذلك بما قدَّمَتْ يدَاكَ) . (فَبِما كسبَتْ أيديكم) ، أى قدمتم وكسبتم. نسب ذلك إلى الأيدى، لأن أكثر الأعمال تتناول بها. (قُمِ اللَّيْلَ) ، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) . (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) . (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) . أطلق كلاًّ من القراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والقيام والركوع والسجود على الصلاة وهو بعضها. (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) ، أي الحرم كله، بدليل أنه لا يذبح فيها. الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) ، أي أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارةُ إلى إدخالها على غير المعتاد، مبالغة من الفرار، فكأنهم جعلوا فيها الأصابع. (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) ، أي وجوههم، لأنه لم ير جملتهم. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) . أطلق الشهر، وهو اسم لثلاثين ليلة، وأراد جزءاً منه، كذا أجاب به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزء إنما يكون بعد تمام الشرط، والشرط أن يشهد الشهر، وهو اسم لكله حقيقة، فكأنه أمر بالصوم بعد مضي الشهر، وليس كذلك. وقد فسره علي وابن عباس وابن عُمر على أن المعنى من شهد أول الشهر فليصم جميعه، وإن سافر في أثنائه. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، وهو أيضاً من هذا النوع، ويصلح أن يكون من نوع الحذف. تنبيه : ألحق بهذين النوعين شيئان: أحدهما: وصف البعض بصفة الكل، كقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) . والخطأ صفة الكل، وُصف به الناصية. وعكسه: كقوله: (إنّا منكم وَجِلُون) ، والوجل صفة القلب. (ولَمُلِئْتَ مِنْهُم رُعْبا) . والرعب إنما يكون في القلب. والثاني: إطلاق لفظ بعض مرادا به الكل، ذكره أبو عبيدة وخرّج عليه قوله: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، أي كله. (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وتعقب بأنه لا يجب على النبي بيان ما اختلف فيه، بدليل الساعة والروح ونحوهما، وبأن موسى كان وعدهم بعذاب ذكره في الدنيا والآخرة، فقال: يصبكم بعذاب في الدنيا - وهو بعض الوعيد - من غير نفي عذاب الآخرة. ذكره ثعلب. قال الزركشي: ويحتمل أيضاً أن يقال: إن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه. فكيف بعضه، ويؤيد ما قاله ثعلب قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) . الرابع: إطلاق اسم الخاص على العام، نحو، (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) . الخامس: عكسه، نحو: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، أي للمؤمنين، بدليل قوله: (ويستَغْفِرُون للَّذِين آمنوا) . السادس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم. السابع: عكسه، نحو: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً) ، أي هل يفعل - أطلق اسم الاستطاعة على الفعل، لأنها لازمة له. الثامن: إطلاق السبب على السبب، نحو: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) . (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) ، أي مطراً يتسبب عنه الرزق واللباس. (لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) ، أي مؤونة من مَهْرٍ ونفقةٍ وما لا بد للمتزوج منه. التاسع: عكسه، وهو نحو: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ، أي القبول والعملَ به، لأنه متسبب عن السمع. تنبيه : من ذلك نسبةُ الفعل إلى سبب السبب، كقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) . (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، فإن المخرج في الحقيقة هو الله، وسبب ذلك أكل الشجرة، وسبب الأكل وسوسةُ الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 العاشر: تسمية الشيء باسم ما كان عليه، نحو: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) ، أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يُتمْ بعد البلوغ. (فلاَ تَعْضُلُوهنَّ أنْ يَنْكحْنَ أزواجَهنّ) ، أي الذين كانوا اْزواجهن. (من يأتِ ربَّه مُجْرِماً) . سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام. الحادي عشر: تسميته باسم ما يؤول إليه، (إني أراني أعْصِرُ خَمْراً) . أي عنباً يؤول إلى الخمرية. (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) ، أي صائراً إلى الكفر والفجور. (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) . سماه زوجاً لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال كونها زوجاً. (فبشّرْنَاه بغُلام حليم) . (نُبَشِّرُكَ بغلام عَليم) . وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم. الثاني عشر: إطلاق اسم الحال على المحل، نحو: (فَفِي رَحْمَةِ الله هم فيها خالدون) ، أي في الجنة، لأنها محل الرحمة. (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ، أي في الليل. (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) ، أي عيْنك، على قول الحسن. الثالث عشر: عكسه، نحو: (فليَدع نادِيَه) ، أى أهل ناديه، أي مجلسه. ومنه التعبير باليد عن القدرة، نحو: (بِيَدِهِ الملْك) . وبالقلب عن العقل، نحو: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) ، أي عقول. وبالأفواه عن الألسن، نحو: (وتقولون بأفْوَاهِكم) . وبالقرية عن ساكنيها، نحو: (واسألِ القريةَ) . وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، فإن أخذَ الزينة غير ممكن، لأنها مصدر، فالمراد محلّها، فأطلق عليه اسم الحال. وأخذها للمسجد نفسه لا يجب، فالمراد به الصلاة، فأطلق اسم المحل على الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الرابع عشر: تسمية الشيء باسم آلته، نحو: (واجعلْ لي لسانَ صِدْق في الآخِرين) ، أى ثناء حسناً، لأن اللسان آلته. (وما أرسلنا مِنْ رسولٍ إلاَّ بِلِسانِ قَوْمه) ، أى بلغة قومه. الخامس عشر: تسمية الشيء باسم ضده، نحو: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، والبشارة حقيقة في الخبر السار. ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه، ذكره السكاكي وخرَّج عليه قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) . يعني ما دعاك إلى ألا تسجد. وسَلِمَ بذلك من دعوى زيادة لا. السادس عشر: إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيهاً، نحو: (جِدَاراً يُريدُ أن يَنقَضَّ) ، وصفَه بالإرادة، وهي من صفات الحي تشبيهاً لميله للوقوع بإرادته. السابع عشر: إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته، نحو: (فإذا بَلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمْسكوهُنّ) ، أي تاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده، وهو في قوله: (فبلغْنَ أجلهنّ فلا تَعْضُلُوهنّ) - حقيقة. (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) ، أي فإذا قرب مجيئه. وبه يندفع السؤال المشهور فيها: إنه عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير. (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي لو قاربوا أن يتركوا خافوا. لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات. (إذا قُمْتُم إلى الصّلاَة فاغْسِلوا) ، أي أردتم القيام. (فإذا قرأتَ القرآنَ فاسْتَعِذْ) ، أي أردت القراءة، لتكون الاستعاذة قبلها. (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ، أى أردنا إهلاكها، وإلا لم يصح العطف بالفاء. وجعل منه بعضهم قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ، أي من يرد الله هدايته، وهو حسن جداً لئلا يتحد الشرط والجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الثامن عشر: القلب، وهو إما قلب إسناد، نحو: (إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) ، أى لتَنوء العصبةُ بها. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) . أي لكل كتاب أجل. (وحرَّمْنَا عليه المراضِعَ من قبْلُ) ، أي حرمناه على المراضع. (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ، أي تعرض النار عليهم، لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار. (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) . أي وإن حبه للخير. (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) ، أي يريد بك الخير. (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ، لأن المتلقي حقيقة هو آدم، كما قرئ بذلك أيضاً. أو قلب عطف، نحو: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ) ، أي فانظر ثم تولَّ. (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) .، أي تدلى فدنا، لأنه بالتدلي مال إلى الدنو. أو قلب تشبيه، وسيأتي في نوعه. التاسع عشر: إقامة صيغة مقام أخرى، وتحته أنواع كثيرة: منها: إطلاق المصدر على الفاعل، نحو: (فإنهم عَدُو لي) ، ولهذا أفرده. وعلى المفعول، نحو: (ولا يُحِيطون بشيء من عِلْمِه) ، أي من معلومه. (صُنْعَ اللهِ) ، أي مصنوعه. (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ، أي مكذوب فيه، لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام. ومنه إطلاق البُشرى على المبشّر به، والهوى على المهوي، والقول على القول. ومنها إطلاق الفاعل على المصدر، نحو: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) ، أي تكذيب. وإقامة المفعول مقام المصدر، نحو: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي الفتنة، على أن الباء غير زائدة. ومنها: إطلاق فاعل على مفعول، نحو: (مَاءٍ دَافِقٍ) ، أي مدفوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي لا معصوم. (جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) ، أي مأموناً فيه. وعكسه، نحو: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ، أي آتياً. (حِجَابًا مَسْتُورًا) ، أي ساتراً. وقيل: هو علي بابه، أي مستوراً عن العيون لا يحس به أحد. ومنها: إطلاق فعيل بمعنى مفعول، نحو: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) . ومنها: إطلاق واحد من المثنى والمفرد والجمع على آخر منها. مثال إطلاق المفرد على المثنى، نحو: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) . أي يرضوهما، فأفرد لتلازم الرضاءين. وعلى الجمع (إن الإنسانَ لفي خُسْر) ، أي الأناس، بدليل الاستثناء منه. (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) ، بدليل: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) . ومثال إطلاق المثنى على المفرد: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) ، أي ألق. ومنه كل فعل نُسب إلى شيئين، وهو لأحدهما فقط، نحو: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العَذْب. ونظيره: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ) ، وإنما تخرج الحلية من الملح. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .، أي في إحداهن. (نَسِيَا حُوتَهما) ، والناسي يوشع. بدليل قوله لموسى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) ، وإنما أضيف النسيان إليهما معاً. لسكوت موسى عنه. (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) . والتعجيل في اليوم الثاني. (عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) . قال الفارسي: أي من إحدى القريتين. وليس منه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) . وإن المعنى جنة واحدة، خلافاً للفراء. وفي كتاب " ذا القدّ " لابن جنّي: أن منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) . وإنما المتخذ إلهاً عيسى دون مريم. ومثال إطلاقه على الجمع: (ثم ارْجع البَصَر كرَّتين) ، أي كرات، لأن البصر لا يحسر إلا بها. وجعل منه بعضهم: (الطلاقُ مرَّتان) . ومثال إطلاق الجمع على المفرد: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ، أي ارجعني. وجعل منه ابن فارس: (فناظِرةٌ بِمَ يَرْجع المرسلون) . والرسول واحد، بدليل: ارجع إليهم. وفيه نظر، لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم، لا سيما وعادة الملوك جارية ألا يرسلوا واحداً. وجعل منه: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) . (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) ، أي جبريل. (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) . والقاتل واحد. ومثال إطلاقه على المثنى: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ف. (قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) . (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، أي أخوان. (فقد صَغَتْ قلوبُكما) ، أي قلباكما. (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) ... إلى قوله: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) . ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه، لمحو: (أتى أمْرُ اللَهِ) ، أي الساعة، بدليل: (فلا تستعجلوه) . (ونُفِخَ في الصّورِ فصعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ) . (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) . (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) . (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ) . وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار، فكأنه وقع واستمر، نحو: (أتأمُرون الناسَ بالبِرِّ وتنْسَوْنَ أنفُسَكم) . (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي قلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 (ولقد نعْلَمُ) ، أي علمنا. (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي علم. (فلِمَ تقتلونَ أنبياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي قَتلْتُم. وكذا: (فريقاً كذَّبْتُم وفريقاً تقْتُلون) . (ويقول الذين كفروا لسْتَ مُرْسلاً) ، أي قالوا. ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول، لأنه حقيقة في الحال لا في الاستقبال، نحو: (وإنّ الدينَ لواقع) . (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) . ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمراً أو نهياً أو دعاء، مبالغة في الحث عليه. حتى كأنه وقع وأخبر عنه. قال الزمخشري: ورودُ الخبر، والمراد به الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر أو النهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال، وأخبر عنه، نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) . (والمطققَاتُ يتربَّصن) . (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) - على قراءة الرفع. (وما تُنْفِقون إلا ابتغًاءَ وجْه الله) ، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. (لا يمسّه إلا المطَهّرون) . (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) ، أي لا تعبدوا، بدليل قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) . (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) ، أي اللهم اغفر لهم. وعكسه، نحو: (فليَمْدُدْ له الرْحمنُ مَدًّا) ، أي يمد. (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) ، أي ونحن حاملون، بدليل: (وإنهم لكاذِبون) . والكذِبُ إنما يرِدُ على الخبر. (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) . وقال الكواشي في الآية الأولى: الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر، لتضمّنه اللزوم، نحو: إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم. وقال ابن عبد السلام: لأن الأمر للإيجاب فأشبه الخبرية لإيجابه (1) .   (1) قال العلامة الدمياطي: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وكذا أبو جعفر ويعقوب () فلا رفث ولا فسوق () بالرفع والتنوين وافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن وقرأ أبو جعفر ولا جدال كذلك بالرفع والتنوين وافقه الحسن ووجه رفع الأولين مع التنوين أن الأول اسم لا المحمولة على ليس والثاني عطف على الأول ولا مكررة للتأكيد ونفي الاجتماع وبناء الثالث على الفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج لأن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام فرفع الخلاف بأن أمروا أن يقفوا كغيرهم بعرفة وأما الأول فعلى معنى النهي أي لا يكونن رفث ولا فسوق وقرأ الباقون الثلاثة بالفتح بلا تنوين على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل أن مركبة مع اسمها كما لو انفردت. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. 1 / 176 ـ 177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ومنها: وضع النداء موضع التعجب، نحو: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) . قال الفراء: معناه يا لها من حسرة. وقال ابن خالويه: هذه من أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا تنادى، وإنما ينادى الأشخاص، لأن فائدته التنبيه، ولكن المعنى على التعجب. ومنها: وضع مجموع القلة موضع الكثرة، نحو: (وهم في الغُرفَاتِ آمِنُون) . وغرف الجنة لا تحصى. (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) . ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة. (يتوفى الأنْفُس) ، (أياماً مَعْدُودات) . ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين. وعكسه، نحو: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) . ومنها: تذكير المؤنث على تأويله بمذكر، نحو: (فمن جاءه موعظةٌ من ربه) ، أي وعظ. (وأحْيَيْنَا به بلدةً مَيْتاً) ، على تأويل البلدة بالمكان. (فلما رأى الشمس بازِغَة قال هذا ربي) ، أى الشمس أو الطالع. (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) . قال الجوهري: ذُكّرت على معنى الاستحسان. وقال الشريف المرتضى قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) : إن الإشارة للرحمة، وإنما لم يقل " ولتلك " لأن تأنيثها غير حقيقي، ولأنه يجوز أن يكون في تأويل أن يرحم. ومنها: تأنيث المذكر، نحو: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) . أنث الفردوس - وهو مذكر - حملاً على معنى الجنة. (مَنْ جاءَ بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، أنث عشراً حيث حذف الهاء مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر، فقيل لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات، فاكتسب منها التأنيث. وقيل: هو من باب مراعاة المعنى، لأن الأمثال في المعنى مؤنثة، لأن مثل الحسنة حسنة، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها. وسيأتي في آخر الكتاب في القواعد المهمة قاعدة في التذكير والتأنيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومنها: التغليب، وهو إعطاء شيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين، نحو: (وكانت من الْقَانتين) . (إلا امرأته كانتْ مِن الغابرين) . والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من الذكر بحكم التغليب. (بل أنتم قومٌ تجْهَلون) ، أتى بتاء الخطاب تغليباً لجانب أنتم على جانب قوم. والقياس أن يؤتى بياء الغيبة، لأنه صفة لقوم، وحسَّن العدول عنه وقوع الموصوف خبراً عن ضمير المخاطبين. (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) ، غّلب في الضمير المخاطبين وإن كان (منْ تبعك) يقتضي الغيبة، وحسنّه لأنه لما كان الغائب تبعا للمخاطب في المعصية والعقوبة جُعل تبعاً له في اللفظ أيضاً. وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، غلّب غير العاقل حيث أتى "بما" لكثرته. وفي آية أخرى عبّر بمَنْ، فغلب العاقل لشرفه. (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) . أدخل شعيب في "لَتَعُودُنَّ" بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود فيها. وكذا قوله: (إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم) . (فسجد الملائكة ُ كلهم أجمعونَ إلا إبليس) . عُدّ منهم بالاستثناء تغليبا لكونه كان بينهم. (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) ، أي الشرق والمغرب. قال ابن الشجري: وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين. (مَرجَ البَحْرَيْنِ) ، أي الملح والعذب، والبحر خاص بالملح، فغلّب لكونه أعظم. (ولكل درجاتٌ) ، أي من المؤمنين والكفار، والدرجات للعلو والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليباً للأشرف. قال في البرهان: وإنما كان التغليب من باب المجاز، لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وُضع له، وكذا باقي الأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ومنها: استعمال حروف الجر في غير معانيها الحقيقية كما تقدم. ومنها: استعمال صيغة أفعل لغير الوجوب وصيغة " لا تفعل" لغير التحريم. وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور أو التصديق، وأدوات التمني والترجي والنداء لغيرها، كما سيأتي. ومنها: التضمين، وهو إعطاء الشيء معنى الشىء، ويكون في الحروف والأفعال والأسماء، وسيأتي في حروف الجر. وأما الأفعال فإنه تضمين فعل معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين معاً، وذلك بأن يأتي الفعل متعدياً بحرفٍ ليس من عادته التعدي به، فيحتاج إلى تأويله أو تأويل الحرف ليصح التعدي به، الأول تضمين الفعل، والثاني تضمين الحرف. واختلفوا أيهما أولى، فقال أهل اللغة وقوم من النحاة: التوسع في الحرف. وقال المحققون: التوسع في الفعل، لأنه في الأفعال أكثر، مثاله: (عَيْناً يشربُ بها عبادُ الله) . فيشرب إنما يتعدى بمن، فتعديتُه بالباء إما على تضمينه معنى يروى ويلتذ، أو بتضمين الباء معنى من. (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) . فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمين معنى الإفضاء. (هل لك إلى أنْ تزكّى) . والأصل في، أو تضمين معنى أدعوك. (يقْبَلُ التوبةَ عن عباده) . عُدّيت بعَنْ لتضمينها معنى العفو والصفح. وأما في الأسماء فإنه تضمين اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين معاً، نحو (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، ضمّن (حَقِيقٌ) معنى حريص، ليفيد أنه محقوق يقول الحق وحريص عليه، وإنما كان التضمين مجازا، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، فالجمع بينهما مجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فصل في أنواع مختلف في عدها من المجاز وهي ستة: أحدها: الحذف، فالمشهور أنه من المجاز، وأنكره بعضهم، لأن المجاز استعمال اللفظ في غير موضعه، والحذف ليس كذلك. وقال ابن عطية: حذف المضاف هو عين المجاز ومعظمه، وليس كل حذف مجازاً. وقال الفراء: في الحذف أربعة أقسام: قسم يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه من حيث الإسناد، نحو (واسأل القَرْيَة) ، أي أهلها، إذ لا يصح إسناد السؤال إليها. وقسم يصح بدونه، لكن يتوقف عليه شرعا كقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . أي فأفطر فعدة. وقسم يتوقف عليه عادة لا شرعًا، نحو: (اضرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَق) . أي فضربه. وقسم يدل عليه دليل غير شرعي ولا هو عادة، نحو: (فقبضْتُ قبضةً من أثر الرسول) ، دلّ الدليل على أنه إنما قبض قبضة من أثر حافر فرس الرسول. وليس في هذه الأقسام مجاز إلا الأول. وقال الزنجاني في المعيار: إنما يكون مجازًا إذا تغير حكم، فأما إذا لم يتغير كحذف خبر المبتدأ المعطوف على جملة فليس مجازًا، إذ لم يتغير حكم ما بقي من الكلام. وقال القزويني في الإيضاح: من تغيَّر إعراب الكلمة بحذف أو زيادة فهو مجاز، نحو: (واسأل القرية) . (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فإن كان الحذف والزيادة لا يوجب تغيُّر الإعراب، نحو: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) ، (فَبِمَا رحمةٍ) ، فلا توصف الكلمة بالمجاز. الثاني: التأكيد، زعم قوم أنه مجاز، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده الأول. والصحيح أنه حقيقة. قال الطرطوسي في العمدة: ومَنْ سماه مجازاً قلنا له: إذا كان التأكيد بلفظ الأول، نحو: عجل عجل ونحوه، فإن جاز أن يكون الثاني مجازاً جاز في الأول، لأنهما في لفظ واحد، إذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه، لأنه مثل الأول. الثالث: التشبيه: زعم قوم أنه مجاز، والصحيح أنه حقيقة. قال الزنجاني في " المعيار ": لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقلُ اللفظ عن موضوعه. وقال عز الدين: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذف فهو مجاز بناء على أن الحذف من باب المجاز. الرابع: الكناية، وفيها أربعة مذاهب: أحدها: أنها حقيقة. قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر، لأنها استعملت فيما وضعت له، وأريد به الدلالة على غيره. الثاني: أنها مجاز. الثالث: أنها لا حقيقة ولا مجاز، وإليه ذهب صاحب التلخيص لمنعه في المجاز أن يراد المعنى الحقيقي مع المجازي وتجويزه ذلك فيها. الرابع: وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي أنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز، فإن استعملْتَ اللفظ في معناه مراداً منه لازم المعنى أيضاً فهو حقيقة، وإن لم يرد المعنى، بل عبّر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز لاستعماله في غير ما وُضع له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والحاصل أن الحقيقة منها أن يُستعمل اللفظ فيما وضع له ليفيد غير ما وضع له، والمجاز منها أن يريد بها غير موضوعها استعمالاً وإفادة. الخامس: التقديم والتأخير: عده قوم من المجاز، لأن تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل - نقْلٌ لكل واحد منهما عن رتبته وحقه. قال في البرهان: والصحيح أنه ليس منه، فإن المجاز نقل ما وضع إلى ما لم يوضع له. السادس: الالتفات، قال الشيخ بهاء الدين السبكي: لم أر مَنْ ذكر هل هو حقيقة أو مجاز. قال: وهو حقيقة حيث لم يكن معه تجريد. فصل فيما يوصف بأنه حقيقة أو مجاز باعتبارين هو الموضوعات الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فإنها حقائق بالنظر إلى الشرع مجازات بالنظر إلى اللغة. فصل في الواسطة بين الحقيقة والمجاز قيل بها في ثلاثة أشياء -: أحدها: اللفظ قبل الاستعمال، وهذا القسم مفقود في القرآن، ويمكن أن يكون منه أوائل السور على القول بأنها للإشارة إلى الحروف التي يتركب منها الكلام. ثانيها: الأعلام. ثالثها: اللفظ المستعمل في المشاكلة، نحو: (ومَكرُوا ومَكر الله) ، (وجَزَاء سيِّئةٍ مِثْلها) . ذكر بعضهم أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 واسطة بين الحقيقة والمجاز، قال: لأنه لم يوضع فيما استعمل فيه، فليس حقيقة، ولا علاقة معتبرة، فليس مجازًا، كذا في شرح بديعية ابن جابر لرفيقه. قلت: والذي يظهر أنها مجاز، والعلاقة المصاحبة. خاتمة لهم مجاز المجاز، وهو أن يُجْعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر، فيتجوّز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما، كقوله تعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، فإنه مجاز عن مجاز، فإن الْوَطْء تجوز عنه بالسر، لكونه لا يقع غالبا إلا في السر، وتجوز به عن العقد، لأنه مسبب عنه، فالمصحح للمجاز الأول الملازمة والثاني السببية. والمعنى لا تواعدوهن عقد نكاح. وكذا قوله: (ومَنْ يكفر بالإيمانِ فقد حَبِطَ عَمَله) ، فإن قول: (لا إله إلا الله) مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ، والعلاقة السببية، لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان، والتعبير بلا إله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه. وجعل منه ابن السيد قوله: (أنزلنا عليكم لِبَاساً) ، فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس، بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس. ******* الوجه الرابع والعشرون من وجوه إعجازه (تشبيهه واستعاراته وهو من أشرف أنواع البلاغة وأعلاها) قال المبرد في الكامل: لو قال قائل هو أكثر كلام العرب لم يبعد. وقد أفرد تشبيهات القرآن بالتصنيف أبو القاسم بن البندار البغدادي في كتاب سماه " الجمان ". وعرفه جماعة منهم السكاكي بأنه الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقال ابن أبي الإصبع: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر. وقال غيره: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه. وقال بعضهم: هو أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به. والغرض منه تأنيس النفس بإخراجها من خفيّ إلى جَلِيّ، وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا. وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار. وأدواته حروف وأسماء وأفعال: فالحروف: الكاف، نحو (كرَمَادٍ) . وكأنّ، نحو: (كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . والأسماء: مثل، وشبه، ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة. قال الطيبي: ولا تستعمل مثل إلا في حال أو صفة لها شأن وفيها غرابة، نحو: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) . والأفعال، نحو: (يَحْسَبه الظَّمْآنُ ماءً) . (يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهم أنها تَسْعَى) . قال في التلخيص - تبعاْ للسكاكي: وربما يُذكر فعلٌ يُنْبئ عن التشبيه فيؤتى بالتشبيه القريب، بنحو: علمت زيداً أسداً الدال على التحقيق. وفي البعد بنحو: حسبتُ زيدأ أسداًا لدال على الظن وعدم التحقيق. وخالفه جماعة منهم الطيبي فقالوا في كون هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه نوع خفاء. والأظهر أن الفعل ينبئ عن حال التشبيه في القرب والبعد، وأن الأداة محذوفة مقدَّرة لعدم استقامة المعنى بدونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ذكر أقسامه ينقسم التشبيه باعتبارات: الأول: باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما إما حسيّان، أو عقليان، أو المشبه به حسي والمشبه عقلي، أو عكسه. مثال الأول: (والقمرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عادَ كالْعُرْجونِ القديم) ، (كأنَّهم أعجازُ نَخْل مُنْقَعِر) . ومثال الثاني: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) . وكذا مثَّل به في البرهان، وكأنه ظن أن التشبيه واقع في القسوة وهو غير ظاهر، بل هو واقع بين القلوب والحجارة، فهو من الأول. ومثال الثالث: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) . ومثال الرابع لم يقع في القرآن، بل منعه الإمام أصلاً، لأن العقل مستفاد من الحس، فالمحسوس أصل للمعقول، وتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً، وهو غير جائز. وقد اختلف في قوله تعالى: (هُن لِبَاسٌ لكم وأنتُم لِبَاس لهُنَّ) . الثاني: ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب، والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله: (كمثَلِ الحِمَارِ يحملُ أسفاراً) ، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب في استصحابه. وقوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ... ) إلى قوله: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، فإنَّ فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضّيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بها - بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها. وظنوا أنها مسلَّمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس. وقال بعضهم: وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تغررت، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به، فكذلك الدنيا. والثاني: أن الماء إذا أطبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا. وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) . شبه نورهُ الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة إما بوضعه في مشكاة - وهي الطاقة التي لا تنفذ، وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر. وقد جُعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدُّرِّي في صفائها، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقوداً، لأنه من زيت شجرة في وسط السراج، لاشرقية ولا غربية، فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل تصيبها الشمس أعدل إصَابة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمن، ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) ، والآخر: (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) . وهو أيضاً تشبيه مركب. الثالث: ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام: أحدها: تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، اعتمادا على معرفة النقيض والضد، فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة، كقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . شبّه بما لا يُشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الثاني: عكسه، وهو تشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه، كقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) . أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس وهو السراب. والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة. الثالث: إخراج ما لا تجري العادة به إلى ما جرت، كقوله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) . والجامع بينهما الارتفاع في الصورة. الرابع: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها، كقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . والجامع العظم، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة. الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، كقوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) . والجامع فيهما العظم، ولفائدته إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء، وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة، وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان، فتضمّن ذلك نبأ عظيما من الفخر وتعداد النعم، وعلى هذه الأوجه الخمسة تجرى تشبيهات القرآن. الرابع: ينقسم باعتبار آخر إلى مؤكد، وهو ما حذفت فيه الأداة، نحو: (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) ، أي مثل مر السحاب. (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) . (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) . ومرسل، وهو ما لم يحذف، كالآيات السابقة. والمحذوف الأداة أبلغ، لأنه نُزّل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قاعدة الأصل دخول أداة التشبيه على المشبَّه به، وقد تدخل على المشبه، إما لقصد المبالغة فيُقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل، نحو: (قالوا إنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الربا) ، كان الأصل أن يقولوا إنما الربا مثل البيع، لأن الكلام في الربا لا في البيع، فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلا ملحقاً به البيع في الجواز، وأنه الخليق بالحِلِّ. ومنه قوله تعالى: (أفَمَنْ يخْلُقُ كمَنْ لا يخْلُقُ) ، فإن الطْاهر العكس، لأن الخطاب لعبدة الأوثان الذين سموها آلهة تشبيهاً بالله سبحانه، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم، لأنهم بالغوا في عبادتهم، وغلوا حتى صارت عندهم أصلاً في العبادة، فجاء الرد على وفق ذلك. وإما لوضوح الحال، نحو: (وليس الذَّكَرُ كالأنثَى) . فإن الأصل: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن الأصل، لأن المعنى: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهبت. وقيل: لمراعاة الفواصل، لأن قبله: إني وضعتها أنثى. وقد تدخل على غيرهها اعتمادا على فَهْم المخاطب، نحو: (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) . المراد كونوا أنصار الله حالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا. قاعدة أخرى القاعدة في الذم تشبيه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى. وفي المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، لأن الأعلى ظاهِرٌ عليه، فيقال في المدح: حصى كالياقوت. وفي الذم: ياقوت كالزجاج، وكذا في السلب. ومنه، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) ، أي في النزول لا في العلو. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أي في سوء الحال، أى لا نجعلهم كذلك. نعم أورد على ذلك: (مثَلُ نُورِهِ كمِشْكَاةٍ فيها مِصْبَاحٌ) . شبه فيه الأعلى بالأدنى لا في مقام السلب. وأجيب بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين، إذ الأعلى من نوره مشبه به. فائدة قال ابن أبي الإصبع: لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين ولا أكثر من ذلك، وإنما وقع فيه تشبيه واحد بواحد. زُوِّج المجاز بالتشبيه فتولد بينهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة. ويقال في تعريفها: اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي. والأصح أنها مجاز لغوى، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما، فـ "أسد" في قوله: رأيت أسداً يرمى - موضوع للأسد لا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما، كالحيوان الجريء مثلاً، ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما. وقيل مجاز عقلي، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوى، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، فكأن استعمالها فيما وُضعت له فتكون حقيقة لغوية، ليس فيها غير نقل الاسم وحده. وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، فلم يبق إلا أن يكون مجازاً عقلياً. وقال بعضهم: حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجليّ، أو حصول المبالغة، أو المجموع، مثال إظهار الخفي: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعير لفظ الأم للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئياً، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان. ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليّاً: (واخْفِضْ لهما جنَاحَ الذّل مِنَ الرحْمَة) ، فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة، فاستعير للذل أولاً جانب ثم للجانب جناحاً. وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لها جناح الذل، أي اخفض جانبك ذلاَّ. وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئياً لأجل حسن البيان. ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يُبقي الولد من الذل لها والاستكانة ممكناً احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن مَنْ مَال جانبه إلى جانب السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه. والمراد خفضٌ يلصق الجنب بالأصل ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر. ومثال المبالغة: (وفَجَّرْنَا الأرضَ عُيوناً) . وحقيقته: وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيوناً. فرع أركان الاستعارة ثلاثة: مستعار، وهو اللفظ المشبه به. ومستعار منه، وهو اللفظ المشبه. ومستعار له، وهو المعنى الجامع. وأقسامها كثيرة باعتبارات، فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام: أحدها: استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، نحو: (واشْتَعَلَ الرأس شَيْباً) ، فالمستعار منه هو النار، والمستعار له الشيب، والوجه هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وكل ذلك محسوس. وهو أبلغُ مما لو قيل: اشتعل شيب الرأس، لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس. ومثله: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) . أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة. والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه من الكثرة. (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ، استعير خروج النفَس شيئاً فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، بجامع التتابع على طريق التدريج. وكل ذلك محسوس. الثاني: استعار محسوس لمحسوس بوجه عقلي، قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف من الأولى، نحو: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) . فالمستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد عن الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله، كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل. والترتب أمر عقلي. ومثله: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) . أصل الحصيد النبات، والجامع الهلاك، وهو أمر عقلي. الثالث: استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي. قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف الاستعارات، نحو: (مَنْ بعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) . المستعار منه الرقاد، أي النوم، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والكل عقلي. ومثله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) . والمستعار السكوت، والمستعار منه الساكت، والمستعار له الغضب. الرابع: استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي أيضاً، نحو: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) . استعير المس، وهو حقيقة في الأجسام، وهو محسوس، لمقاساة الشدة، والجامع اللحوق، وها عقليان. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) . فالقذف والدمْغ مستعاران، وها محسوسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 والحق والباطل مستعار لهما، وهما معقولان. (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) . استعير الحبل المحسوس للعهد وهو معقول. (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) . استعير الصدع، وهو كسر الزجاجة، وهو محسوس، للتبليغ وهو معقول. والجامع التأثير وهو أبلغ من بلِّغ، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا" يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزما. (واخفِضْ لهما جناحَ الذل) . قال الراغب: لما كان الذل على ضربين: ضرب يَضَع الإنسان، وضرب يرفعه، وقصد في هذا المكان إلى ما يرفع استعير لفظ الجناح، فكأنه قيل استعمل الذل الذي يرفعك عند الله. وكذا قوله: (الذينَ يَخوضُون في آياتنا) . (فَنَبَذُوه ورَاء ظُهورِهم) . (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) . (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) . (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) . (فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) . (ولا تجعَلْ يَدَك مغلولةً إلى عُنقك) . كلها من استعارة المحسوس للمعقول. والجامع عقلي. الخامس: استعارة معقول لمحسوس، والجامع عقلي أيضاً، نحو: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) . المستعار منه التكبر وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء وهو حسي، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضاً. ومنه: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) . (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) . وتنقسم باعتبار اللفظ إلى: أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية: بحبل الله. من الظلمات إلى النور. في كل وَادٍ. وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس، كالفعل والمشتقات، كسائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الآيات السابقة، وكالحروف، نحو: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) . شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة الغائية عليه، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به. وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحَة، ومجَرَّدة، ومطلَقة: فالأولى: وهي أبلغها - أن تقترن بما يلائم المستعار منه، نحو: (أولئكَ الذين اشتَرَوُا الضلالةَ بالهُدَى فما رَبِحَتْ تجارتُهم) . استعير الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قُرن بما يلائمه من الربح والتجارة. والثانية: أن تقترن بما يلائم المستعار له، نحو: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) . استعير اللباس للجوع، ثم قُرن بما يلائم المستعار له من الإذاقة، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، لكن التجريد أبلغ لما في لفظ الإذاقة من المبالغة في الألم باطناً. والثالثة: ألا تقترن بواحد منهما. وتنقسم باعتبار آخر إلى: تحقيقية، وتخييلية، ومكنية، وتصريحية: فالأولى: ما تحقق معناها حساً، نحو: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) . أو عقلا، نحو: (وأنزَلْنَا إليكم نُوراً) . أى بياناً واضحاً وحجة دامغة. (اهْدِنا الصراطَ المستقيم) . أى الدين الحق، فإن كلاًّ منهما متحقق عقلاً. والثانية: أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يَثْبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، ويسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه. ويقابله التصريحية. ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 استعارة تخييلية، لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه وقوامه في وجه الشبه، لتخيل أن المشبَّه من جنس المشبه به. ومن أمثلة ذلك: (الذين ينقضُونَ عَهْدَ اللَهِ مِنْ بعْدِ ميثاقِه) . شبه العهد بالحبل، وأضمر في النفس، فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه سوى العهد المشبه، ودل عليه بإثبات النقيض الذي هو من خواص المشبه به، وهو الحبل. وكذا ة (واشتعل الرأسُ شَيْبا) . طوى ذكر المشبه به وهو النار، ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال. (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ) . شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع عليه الإذاقة. (ختم اللهُ على قلوبهم) . شبهها في ألا تقبل الحق بالشيء الموثوق المختوم، ثم أثبت لها الختم. (جِدَاراً يُريدُ أنْ ينْقَضَّ) . شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء. ومن التصريحية آية: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) . (مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا) . وتنقسم باعتبار آخر إلى وفاقية، بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكناً، نحو: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاً فهديناه. استعير الإحياء من جعل الشيء حياً - للهداية التي هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء. وعنادية، وهي ما لا يمكن اجتماعهما في شيء، كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم نفعه، واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع. ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو: (فبَشِّرْهُم بعذابٍ أليم) ، أي أنذرهم. استُعيرت البشارة وهي في الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء، ونحو: (إنَّكَ لأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيد) . عنوا الغوى السفيه تهكماً. (ذُقْ إنكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وتنقسم باعتبار آخر إلى: تمثيلية، وهي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعاً من متعدد، نحو: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) . شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكاره باستمساك الواقع في مَهْوَاةٍ بحبل وثيق مدَلَّى من مكان مرتفع يؤمَن انقطاعه. تنبيه قد تكون الاستعارة بلفظين، نحو: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) . يعني تلك الأواني ليست من الزجاج ولا من الفضة، بل وصفاء القارورة وبياض الفضة. (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) . فالصب كناية عن الدوام، والسوط عن الإيلام، فالمعنى عذبهم عذاباً دائماً مؤلما. فائدة أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز، وقوم إطلاقها في القرآن، لأن فيها إيهاماً للحاجة، ولأنه لم يرد في ذلك إذْنٌ من الشرع، وعليه القاضي عبد الوهاب المالكي. وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها، وإن امتنعوا امتنعنا، ويكون هذا من قبيل أن الله عالم، والعلم هو العقل، ثم لا نَصِفُه به لعدم التوقيف. انتهى. فائدة ثانية تقدم أن التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها. واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه، لأنها مجاز وهو حقيقة، والمجاز أبلغ، فإذاً الاستعارة أعلى مراتب الفصاحة، وكذا الكناية أبلغ من التصريح. والاستعارة أبلغ من الكناية كما قال في عروس الأفراح: إنه الظاهر، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة، ولأنها مجاز قطعاً. وفي الكناية خلاف. وأبلغ أنواع الاستعارة التمثيلية، كما يؤخذ من الكشاف، ويليها المكنية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 صرح به الطيبي لاشتالها على المجاز العقلي. والترشيحية أبلغ من المجردة والمطلقة. والتخييلية أبلغ من التحقيقية. والمراد بالأبلغية إفادة زيادة التأكيد والمبالغة في كمال التشبيه، لا زيادة في المعنى لا توجد في غير ذلك. خاتمة من المهم تحرير الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة، نحو: زيد أسد، قال الزمخشري في قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) . فإن قلت: فهل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه. والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة، لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون، وإنما تطلق الاستعارة حيث يُطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خِلْوا عنه صالحاً لأن يراد المنقول عنه والمنقول له لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام. ومن ثَمَّ ترى المفْلِقين المهرة يتناسَوْن التشبيه، ويضربون عنه صفحاً. وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة إمكانَ حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتنَاسي التشبيه، و" زيد أسد" لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز أن يكون استعارة. وتابعه صاحب الإيضاح. وقال في عروس الأفراح: وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر. قال: بل لو عكس ذلك، وقال: لا بد من صلاحيته لكان أقرب، لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، فإن لم تكن له قرينة امتنع صرفُه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة: إما لفظية أو معنوية، نحو: زيد أسد. فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته. قال: والذي نختاره في نحو " زيد أسد " أنه قسمان: تارة يُقصد به التشبيه. فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدّرة، ويكون الأسد مستعملاً في حقيقته، وذكر " زيد " والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قرينة - صارفة إلى الاستعارة دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تكن فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها. ومِمّن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة، وكذا قال حازم: الفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه. ******* الوجه الخامس والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الكناية والتعريض) وقد قدمنا آنفاً أن الكناية أبلغ من التصريح، وها من أنواع البلاغة وأساليبِ الفصاحة. وعرّفها أهل البيان بأنها لفظ أريد به لازم معناه. وقال الطيبي: ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم، فينتقل منه إلى الملزوم. وأنكر وقوعها في القرآن من أنكر المجاز فيه بناء على أنها مجاز. وقد تقدم الخلاف في ذلك. وللكناية أسباب: أحدها: التنبيه على عظم القدرة، نحو: (هو الذي خلقكم مِنْ نفْس واحدة) ، كناية عن آدم. وثانيها: ترك اللفظ إلى ما هو أجل، نحو: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) ، فكنى بالنعجة عن المرأة (1) كعادة العرب في ذلك، لأن ترك التصريح بذكر المرأة أجل منه، ولهذا لم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم. قال السهيلي: وإنما ذُكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة، وهي أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ.   (1) فيه نظر لأنه ينبني عليه أقاويل وافتراءات على نبي الله داوود - عليه السلام - مردها جميعا إلى أساطير وأباطيل بني إسرائيل. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالفرس والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر، فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرّح الله باسمها، ولو لم يكن تأكيدا للعبودية التي هى صفة لها، وتأكيدا، لأن عيسى لا أب له وإلا لنُسب إليه. ثالثها: أن يكون الصريح مما يستقبح ذكره، ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة، والإفضاء والرفَث، والدخول، والسر في قوله: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) . والغشيان في قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني. وأخرج عنه، قال: إنَّ الله كريم يكني ما شاء، وإن الرفَث هو الجماع. وكنى عن طلبه بالمراودة في قوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) وعنه أو عن المعانقة باللباس في قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ، وبالحرث في قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) . وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) . وأصله المكان المطمئن من الأرض. وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها: (كانا يأكُلاَنِ الطعام) . وكنى عن الأستاه بالأدبار في قوله: (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) . أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يعني أستاههم. ولكن الله يكني ما شاء. وأورد على ذلك التصريح بالفَرْج في قوله: (والتي أحصنَتْ فَرْجَها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأجيب بأن المراد به فرج القميص، والتعبير به من لطيف الكنايات وأحسنها، أي لم يعلق ثوبها ريبة، فهي طاهرة الثوب، كما يقال نقيُّ الثوب، وعفيف الذيل - كناية عن العفة. ومنه: (وثِيَابَك فَطَهِّرْ) . وكيف يظن أن نفخ جبريل وقع في فرجها، وإنما نفخ في جيبِ درْعها. ونظيره أيضا: (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) . قلت: وعلى هذا ففي الآية كناية عن كناية، ونظيره ما تقدم من مجاز المجاز. رابعها: قصد المبالغة والبلاغة، نحو: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) . كنى عن النساء بأنهنّ ينشّأن في الترفّه والتزيّنَ والشواغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك، والمراد نفي ذلك عن الملائكة. وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) . كناية عن سعة جوده وكرمه جداً. خامسها: قصد الاختصار، كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ " فعل "، نحو: (لَبِئْسَ ما كانوا يَفْعَلُون) . (فإنْ لم تَفْعَلوا ولَنْ تَفْعلوا) . أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله. سادسها: التنبيه على مصيره، نحو: (تَبّتْ يَدَا أبي لَهَب) . أي جهَنّمي مصيره إلى اللهب. حَمّالة الحطب في جيدها حبل، أي نَمّامة، مصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم في جيدها غُل. قال بدر الدين بن مالك في المصباح: إنما يعدل عن الصريح إلى الكناية لنكتة، كالإيضاح، أو بيان حال الموصوف، أو مقدار حاله، أو القصد إلى المدح أو الذم، أو الاختصار، أو الستر أو الصيانة، أو التعمية أو الإلغاز، أو التعبير عن الصعب بالسهل، أو عن المعنى القبيح باللفظ الحسن. واستنبط الزمخشري نوعاً من الكناية غريبا، وهو أن تعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر، فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فتعبّر بها عن المقصود، كما تقول في نحو: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) . إنه كناية عن الملك. فإن الاستواء على السرير لا يكون إلا مع الملك، فجعل كناية عنه. وكذا قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، - كناية عن عظمته وجلاله من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين: حقيقة ومجاز. تذنيب من أنواع البديع التي تشبه الكناية الإرداف، وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبِّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بدلالة الإشارة، بل بلفظ يرادفه، كقوله تعالى: (وقُضِيَ الأمْرُ) . والأصل: وهلك من قضى الله هلاكه، ونجا من قضى الله نجاته، وعدل عن لفظ ذلك إلى الإرداف، لما فيه من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع، وقضاء من لا يُرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمراً، فقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وقهره، وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضّان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص. وكذا قوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) . حقيقة ذلك: جلست، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه، لما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس. وكذا: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) . عفيفات، وعدل عنه للدلالة على أنهن مع العفة لا تطمح أعينهن إلى غير أزواجهن، ولا يشتهين غيرهم. ولا يؤخذ ذلك من لفظ العفة. قال بعضهم: والفرق بين الكناية والإرداف أن الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم. والإرداف من مذكور إلى متروك. ومن أمثلته أيضاً: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 عدل في الجملة الأولى عن قوله "بالسوءى" مع أن فيه مطابقة كالجملة الثانية - إلى بما عملوا، تأدّباً أن يُضاف السوء إلى الله تعالى. " فصل " للناس في الفرق بين الكناية والتعريض عبارات متقاربة، فقال الزمخشرى: الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له. والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره. وقال ابن الأثير: الكناية ما دل على معنى يجوز حملُه على الحقيقة والمجاز بوصفٍ جامع بينهما. والتعريض: اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي كقول مَنْ يتوقع صلة: والله إني محتاج، فإنه تعريض بالطلب، مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً، وإنما فهم من عُرض اللفظ، أي جانبه. وقال السبكي في كتاب الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض: الكناية لفظ استعمل في معناه مراداً منه لازم المعنى، فهو بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوّز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد منها المعنى، بل يعبَّر بالملزوم عن اللازم، وهي حينئذ مجاز. ومن أمثلته: (قُلْ نارُ جَهَنَّم أشد حَرًّا) . فإنه لم يقصد إفادة ذلك، لأنه معلوم، بل إفادة لازمه وهو أنهم يرِدونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا. وأما التعريض فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره، نحو: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) . نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، كأنه غضب أن تُعْبَد الصغار معه، تلويحاً لعابديها بأنها لا تصلح أن تكون آلهة لما يعلمون - إذا نظروا بعقولهم - من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزًا، فهو حقيقة أبداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وقال السكاكي: التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن يخاطَب واحد ويُراد غيره، وسمي به لأنه أمِيل الكلام إلى جانب مشاراً به إلى آخر، يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي جانبه. قال الطيبي: وذاك يفعل إما لتنويه جانب الموصوف، ومنه: (ورَفَع بَعْضَهم درَجاتٍ) ، أي محمداً - صلى الله عليه وسلم - إعلاء لقدره، أي أنه العلم الذي لا يشتبه. وإما التلطّف به واحترازاً عن المخاشنة، نحو: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ،: أي وما لكم لا تعبدون، بدليل قوله: (وإليه ترجعون) . وكذا قوله: (أأتَّخِذُ مِنْ دُونِه آلهة) . ووجهُ حسنه إسماع من يقصد خطابه الحقَّ على وجه يمنع غضبه، إذ لم يصرح بنسبته للباطل، والإعانة على قبوله، إذ لم يرد له إلا ما أراد لنفسه. وإما لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، ومنه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ) . خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأريد غيره، لاستحالة الشرك عليه شرعاً. وإما للذمّ، نحو: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فإنه تعريض بذم الكفار، وأنهم في حكم البهائم الذين لا يتذكرون. وإما للإهانة والتوبيخ، نحو: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) . فإن سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه. قال السبكي: التعريض قسمان: قسم يراد به معناه الحقيقي، ويشار به إلى المعنى الآخر المقصود كما تقدم. وقسم لا يراد، بل يضرب مثلاً للمعنى الذي هو مقصود التعريض، كقول إبراهيم: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) . ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الوجه السادس والعشرون من وجوه إعجازه (إعجازه في آية وإطنابه في أخرى) وهما من أعظم أنواع البلاغة واختلف، هل بينهما واسطة - وهي المساواة - أوْ لاَ، وهي داخلة في قسم الإيجاز، فالسكاكي وجماعة على الأول، لكنهم جعلوا المساواة غير محمودة ولا مذمومة، لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة، وفسروا الإيجاز بأداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف. والإطناب أداؤه بأكثر منها لكون المقام حقيقاً بالبسط. وابن الأثير وجماعة على الثاني، فقالوا: الإيجاز التعبير عن المراد بلفظ غير زائد. والإطناب بلفظ أزيد. وقال القَزْويني: الأقرب أن يُقال إن القبول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله، إما بلفظ مساو للأصل المراد، أو ناقص عنه واف، أو زائد عليه لفائدة. والأول المساواة، والثاني الإيجاز، والثالث الإطناب. واحترز بواف عن الإخلال، وبقوله لفائدة - عن الحشو والتطويل، فعنده ثبوت المساواة واسطة، وأنها من قسم القبول. فإن قلت: عدمُ ذكرك المساواة في الترجمة لماذا؟ هل هو لرجحان نَفْيِها، أو عدم قبولها، أو لأمر غير ذلك؟ قلت: لهما، ولأمر ثالث، وهو أن المساواة لا تكاد توجد خصوصاً في القرآن. وقد مثّل لها في التلخيص بقوله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) . وفي الإيضاح بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) . وتُعقب بأن في الآية الثانية حذف موصوف الذين، وفي الأولى إطناب بلفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الشيء، لأن لفظ المكر لا يكون إلا سيئًا، وإيجاز بالحذف إن كان الاستثناء غير مفرغ، أي بأحد، وبالقِصَر في الاستثناء وبكونها حاثَّة على كف الأذى عن جميع الناس، محذرة عن جميع ما يؤدي إليه، وبأن تقديرها يضر بصاحبه مَضَرة بليغة، فأخرج الكلام مخرج الاستعارة التبعية الواقعة على سبيل التمثيلية، لأنَّ يحيق بمعنى يحيط فلا يستعمل إلا في الأجسام. تنبيه: الإيجاز والاختصار بمعنى واحد، كما يؤخذ من المفتاح، وصرح به الخطيب. وقال بعضهم: الاختصار خاص بحذف الجمل فقط، بخلاف الإيجاز. قال الشيخ بهاء الدين: وليس بشيء. والإطناب قيل بمعنى الإسهاب، والحق أنه أخص منه، فإن الإسهاب التطويل لفائدة أو لغير فائدة، كما ذكره التنوخي وغيره. فصل الإيجاز قسمان: إيجاز قصر، وإيجاز حذف فالأول هو الوجيز بلفظه. قال الشيخ بهاء الدين: الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاماً يعطي معنى أطول منه فهو إيجاز قصر. وقال بعضهم: إيجاز القصر هو تكثير المعنى بتقليل اللفظ. وقال آخر: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة. وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أوتِيتُ جوامعَ الكلم. وقال الطيبي في التبيان: الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أحدها: إيجاز القصر، وهو أن يُقصر اللفظ على معناه، كقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) . جمع في أحرف العنوان والكتاب والحاجة. وقيل في وصف بليغ: كانت ألفاظه قوالبَ معناه. قلت: وهذا رأي من يدخِل، المساواة في الإيجاز. الثاني: إيجاز التقدير، وهو أن يقدر معنى زائداً على المنطوق، ويسمى بالتضييق أيضاً، وبه سماه بدر الدين بن مالك في الصباح، لأنه نقص من الكلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه، نحو: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) ، أي خطاياه غُفرت، فهي له لا عليه. (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، أي الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى. الثالث: الإيجاز الجامع، وهو أن يحتويَ اللفظُ على معان متعددة، نحو: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . فإن العدل هو الصراط المستقيم التوسطَ بين طرفي الإفراط والتفريط المؤدي به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية. والإحسان هو الإخلاص في واجبات العبودية لتفسيره في الحديث بقوله: أنْ تَعْبدَ اللهَ كأنكَ ترَاه، أي تعبده مخلصاً في نيتك، وواقفاً في الخضوع، آخذاً أهْبَة الحذر إلى ما لا يُحصى، " وإيتاءِ ذي القُرْبى " هو الزيادة على الواجب من النوافل، هذا في الأوامر. وأما النواهي فـ "بالفحشاء" الإشارة إلى القوة الشهوانية، وبالمنكر إلى الإفراط الحاصل من آثار الغضبية أو كل محرم شرعاً، وبالبغي إلى الاستعلاء الفائق من ألوهيته. قلت: ولهذا قال ابن مسعود: ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية. أخرجه في المستدرك. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه قرأها ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير والشر كله في آية واحدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فوالله ما ترك العدلُ والإحسان من طاعة الله شيتاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا إلا جمعه. وروي أيضاً عن ابن شهاب في معنى حديث الشيخين: بُعثت بجوامع الكلم، قال: بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع لكم الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكُتُب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك. ومن ذلك قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) . فإنها جامعة لمكارم الأخلاق، لأن في أخذ العفو التساهل والتسامح في الحقوق، واللين والرفق في الدعاء إلى الدين. وفي الأمر بالعرف كفُّ الأذى وغضَّ البصر وما شاكلها من المحرمات. وفي الإعراض الصبر والحلم والتُّؤدة. ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) . فإنه نهاية التنزيه. وقد تضمنت الرد على نحو أربعين فرقة، كما أفردها بالتصنيف بهاء الدين بن شداد. وقوله: (أخرج منها ماءَها ومَرْعَاها) . دلّ بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعا للأنعام من العشب والشجر، والحب والثمر، والعصف والحطب، واللباس والنار والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء. وقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) . جمع فيه عيوب الخمر من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب. وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . أمر فيها ونَهَى، وأخبر ونادى، ونعت وسمَّى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شُرِح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام. وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وفي العجائب للكِرْماني: أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية بعد أن فتَّشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، وحسن نظمها، وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال. وقوله: (يا أيُّها النَّمْلُ ادخُلُوا مَساكِنَكم) . جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنساً من الكلام، نادت وكنَتْ، ونبّهت وسمت، وأمرت وقصَّت، وحذَّرت، وخصَّت وعمَّت، وأشارت وأعذرت. فالنداء يا. والكناية أي. والتنبيه ها. والتسمية النمل. والأمر ادخلوا. والقصص مساكنكم. والتحذير لا يحطمنَّكم. والتخصيص سليمان. والتعميم جنوده. والإشارة وهم. والعذر لا يشعرون. فأدت خمسة حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق جنود سليمان. وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) . جمع فيها أصول الكلام: النداء، والعموم، والخصوص، والأمر، والإباحة، والنهي، والخبر. وقال بعضهم: جمع الله الحكمة في شطر آية: (كلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفوا) . وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) . قال ابن العربي: هي من أعظم آي القرآن في الفصاحة، إذ فيها أمران ونهيان، وخبران وبشارتان. وقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) . قال ابن أبي الإصبع: المعنى صرِّح بجميع ما أوحي إليك، وبلغ كل ما أمِرت ببيانه، وإن شقَّ بعضُ ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهةُ بينهما فما يوثره التصريح في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار أو الاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة، فانظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إلى جليل هذه الاستعارة، وعظيم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة. وقد حُكي عن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وقوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) . قال بعضهم: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الْخَلقُ كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه. وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) . قال: معناه كثير، ولفظه يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتل قُتِلَ به كان ذلك داعيا إلى ألا يقْدِم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعضٍ، وكان ارتفاع القتل حياة لهم. وقد فُضِّلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنْفَى للقتل - بعشرين وجهاً أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أفهامهم فيما يظهر لهم من ذلك. الأول: أن ما يُناظره من كلامهم، وهو قوله: (الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أقلّ حروفاً، فإن حروفها عشرة، وحروف: القتل أنفى للقتل - أربعة عشر. الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصَّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه. الثالث: أن تنكير حياة تفيد تعظيما، فتدل على أن القصاص في حياة متطاولة، كقوله: (ولتجدنَّهم أحْرَصَ الناسِ على حياةٍ) . ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء. الرابع: أن الآية مطردة بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، وإنما ينفيه قتلٌ خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبداً. الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ " القَتْل " الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلاَّ بالفصاحة. السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن فيه حذف " من " التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصاً مع القتل الأول وظلماً مع القَتْل الثاني، والتقدير: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من تركه. السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص مشعر بضد الحياة، بخلاف القتل. الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفَناء والموت محلاًّ ومكاناً لضده الذي هو الحياة، واستقرارُ الحياة في الموت مبالغة عظيمة، ذكره في الكشاف وعبّر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه. التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة، وهو السكون بعد الحركة وذلك مستَكرَه، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت فصاحته بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فجثت ثم تحركت فجثت لا يتبين انطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة. العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر، لأن الشيء لا ينفي نفسه. الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الوجب للضغط والشدة، وبُعدها عن غُنَّة النون. الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 غير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسنُ من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبُعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق. الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء. الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشْعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة. فإن الطباع أقْبل له من لفظ القتل. الخامس عشر: أن لفظ القصاص مُشْعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل. بخلاف مطلق القتل. السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات والمثَل على النفي، والإثباتُ أشرف، لأنه أول، والنفي ثان عنه. السابع عشر: أن المثل لا يكاد يُفْهَم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة. وقوله: (ولكم في القصاص حياة) مفهوم من أول وَهْلة. الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة التاسع عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافياً للقتل، ولكن القصاص أكثر نفياً، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك. العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجرح معاً لشمول القصاص لها. والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء، لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل. ثم في أول الآية: (ولكمْ) . وفيها لطيفة، وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمَنْ سواهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 تنبيهات الأول: ذكر قُدامة من أنواع البديع الإشارة، وفَسَّرَها بالإتيان بكلام قليل ذي معان جمَّة، وهذا هو إيجاز القِصر بعينه، لكن فرق بينهما ابن أبي الإصبع بأن الإيجاز دلالته مطابقة، ودلالة الإشارة إما تضمين أو التزام، فعُلم منه أن المراد به ما تقدم في مبحث المنطوق. الثاني: ذكر القاضي أبو بكر في إعجاز القرآن أن من الإيجاز نوعاً يسمى التضمين، وهو حصول معنى في لفظ من غير ذكرٍ له باسم أو صفة هي عبارة عنه، قال: وهو نوعان: أحدها ما يُفهم من البنية، كقولك: معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم. والثاني من معنى العبارة، كـ بسم الله الرحمن الرحيم. فإنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم للهِ والتبرك باسمه. الثالث: ذكر ابن الأثير وصاحب عروس الأفراح وغيرها أن من أنواع إيجاز القِصَر باب الحصر، سواء كان بإلا أو بإنما أو غيرها من أدواته، لأن الجملة فيها نابت مناب جملتين. وباب العطف، لأن حرفه وضع للإغناء عن إعادة العوامل. وباب النائب عن الفاعل، لأنه دل على الفاعل بإعطائه حكمه. وعلى المفعول بوضعه. وباب الضمير، لأنه وضع للاستغناء عن الظاهر اختصاراً. ولهذا لا يُعْدل إلى المنفصل مكان المتصل. وباب علمت أنك قائم، لأنه محل لاسم واحد سدَّ مَسَدَّ المفعولين من غير حذف. ومنها باب التنازع إذا لم تقدر على رأي الفراء. ومنها طرح المفعول اختصاراً على جَعْل المتعدي كاللازم، وسيأتي تحريره. ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط، فإنَّ " كم مالك "، يغني عن قولك: أهو عشرون أم ثلاثون، وهكذا إلى ما لا يتناهى. ومنها الألفاظ الملازمة للعموم كأحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومنها لفظ التثنية والجمع، فإنه يغني عن تكرير المفرد، وأقيم الحرفُ فيها مقامه اختصاراً. ومما يصلح أن يعد من أنواعه المسمى بالاتساع من أنواع البديع، وهو أن يأتي بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه من المعاني، كفواتح السور، ذكره ابن أبي الإصبع. القسم الثاني من قسمي الإيجاز إيجاز الحذف، وله فوائد . ذكر أسبابه: منها: مجرّد الاختصار والاحتراز عن العبث لظهوره. ومنها: التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره يُفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء، وقد اجتمعا في قوله: (ناقةَ اللهِ وسُقْيَاها) ، فناقة الله تحذير بتقدير ذَرُوا، وسقياها إغراء بتقدير الزموا. ومنها: التفخيم والإعظام لما فيه من الإيهام. قال حازم في " منهاج البلغاء ": إنما يحسن الحذفُ لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء، فيكون في تعدادها طولٌ وسآمة، فيحذف ويكتفى بدلالة الحال وتُتْرك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها. قال: ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل على النفوس. ومنه قوله في وصف أهل الجنة: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) . فحذف الجواب إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجُعِل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه وتَرْك النفوس تقدر ما شاءته، ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك. وكذا قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، أي لرأيت أمرأ فظيعاً لا تكاد تحيط به العبارة. ومنها: التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، كما في حذف حرف النداء، نحو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) . ونون لم يك، والجمع السالم. ومنه قراءة: (والمقيمي الصلاة) . وياء: (واللَّيْل إذا يَسْرِ) . وسأل المؤرَج السدوسي الأخفش عن هذه الآية، فقال: عادة العرب أنها إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يَسْرِى، وإنما يُسرى فيه، نقص منه حرف، كما قال تعالى: (وما كانت أمّكِ بغيّا) . الأصل بغية، فلما حوّل عن فاعل نقص منه حرف. ومنها: كونه لا يصلح إلا له، نحو: (عالم الغَيْبِ والشهادة) ، (فعال لما يُرِيد) . ومنها: شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء، قال الزمخشري: وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطؤ من لسان المقال، وحمل عليه قراءة حمزة: (تَسَاءَلونَ بهِ والأرْحَامِ) ، لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار، فقامت الشهرة مقام الذكر. ومنها: صيانته عن ذكره تشريفاً، كقوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) . حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع قبل ذكر الرب، أى هو رب. والله ربكم. والله رب المشرق، لأن موسى استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال فأضمر اسم الله تعظيما وتفخيما. ومثله في عروس الأفراح: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، أي ذاتك. ومنها: صيانة اللسان عنه تحقيراً له، نحو: (صم بكم) . أي هم، أو المنافقون. ومنها: قصد العموم، نحو: (وإياك نستعين) ، أي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 العبادة وعلى أمورنا كلها. (والله يَدْعُو إلى دار السّلام) ، أي كل واحد. ومنها رعاية الفاصلة، نحو: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) . أى وما قلاك. ومنها: قصد البيان بعد الإبهام، كما في فعل المشيئة، نحو: (فلَوْ شاء لهدَاكم) ، أي فلو فاء هدايتكم، فإنه إذا سمع السامع (فلو شاء) تعلّقت نفسه بما شاء، انْبهَم عليه، لا يدرى ما هو. فلما ذكر الجواب استبان بعد ذلك. وأكثر ما يقع ذلك بعد أداة شرط، لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها. وقد يكون مع غيرها استدلالاً بغير الجواب، نحو: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) . وقد ذكر أهل البيان أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكر إلا إذا كان غريباً أو عظيما، نحو: (لمن شاء منكم أنْ يَسْتَقِيم) . (لو أرَدْنا أن نتَّخذ لَهواً) . وإنما اطرد أو كثر حذدث مفعول المشيئة دون سائر الأفعال، لأنه لا يلزم من وجود المشيئة وجود المشاء، فالمشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مشيئة الجواب، ولذلك كانت الإرادة مثلها في اطراد حذف مفعولها. ذكره الزملكاني والتنوخي في الأقصى القريب، قالوا: إذا حذف بعد (لو) فهو المذكور في جوابها أبداً. وأورد في عروس الأفراح: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) . فإن المعنى لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل الملائكة، لأن المعنى معين على ذلك. فائدة قال الشيخ عبد القاهر: ما من اسم حُذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحَذْفه أحسن من ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وسمى ابن جِنّي الحذف شجاعة العربية، لأنه يشجع على الكلام. قاعدة في حذف المفعول اختصارًا واقتصارًا قال ابن هشام: جرت عادة النحويين أن يقولوا بحذف المفعول اختصاراً واقتصاراً، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل، وبالاقتصار الحذف لغير دليل، ويمثلونه بنحو: (كُلوا واشْرَبوا) ، أي أوقعوا هذيْنِ الفعلين. والتحقيق أن يقال: يعني كما قال أهل البيان: تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين مَنْ أوقعه ومن أوقع عليه، فيجاء بمصدره مسنداً إلى فعل كون عام، فيقال حصل حريق أو نهب. وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفعل للفاعل، فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى، إذ المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفاً، لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول معه، ومنه: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) . (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . (وكُلوا واشربوا ولا تسْرِفُوا) . (وإذا رأيتَ ثَمَّ) . إذ المعنى ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة. وهل يستوي مَنْ يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم، وأوْقِعوا الأكل والشرب وذَروا الإسر اف. وإذا حصلت منك رؤية. ومنه: (ولما ورَد ماءَ مَدْيَن) . ألا ترى أنه عليه السلام رحمهما إذ كانتا على صفة الذياد وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنما ومسقيّهم إبلاً، وكذلك المقصود من " لا نسقي " السقي لا السْقِيّ. ومن لم يتأمل قدر: يسقون إبلهم، وتذودان غنمهما، ولا نسقي غنما. وتارة يُقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله، فيذكران، نحو: لا تَأكُلُوا الربا) ، (ولا تقْرَبوا الزنا) . وهذا النّوْع الذي إذا لم يذكر محذوفه قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 محذوف، وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجود تقديره، نحو: (أهذا الذي بَعثَ اللهُ رسولا) . (وكُلاًّ وعدَ اللهُ الحُسْنَى) . وقد يشتبه الحال في الحذف وعدمه، نحو: (قل ادْعُوا اللهَ أو ادْعُوا الرحمن) . قد يتوهم أن معناه نادوا فلا حذف، أو سمّوا فالحذف واقع. ذكر شروطه هي ثمانية: أحدها: وجود دليل إما حاليّ، نحو: (قالوا سلاما) . أي سلمنا سلاماً. أو مقاليّ، نحو: (وقيل للذين اتَّقَوْا ماذا أنزل ربُّكم قالوا خيراً) . أى أنزل خيراً. (قال سلامٌ قومٌ مُنْكَرُون) . أي سلام عليكم، أنتم قوم منكرون. ومن الأدلة العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف. ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه، بل يستفاد التعيين من دليل آخر، نحو! (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) . فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة، لأن التحريم لا يضاف إلى الإحرام، وإنما هو والحل مضافان إلى الأفعال، فعُلم بالعقل حذف شيء. وأما تعيينه وهو التناول فمستفاد من الشرع، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما حرم أكلُه لأن العقل لا يدرك محل الحرام ولا الحرمة. وأما قول صاحب التلخيص إنه من باب دلالة العقل أيضاً فتابَعَ فيه السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة. وتارة يدل العقل أيضاً على التعيين، نحو: (وجاءَ ربك) ، أي أمره، بمعنى عذابه، لأن العقل دل على استحالة مجيء الباري، لأنه من سمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الحادث، وعلى أن الجائي أمره. (أوفوا بالعقود) . (وأوْفُوا بعَهْدِ الله) . أي بمقتضى العقود وبمقتضى عهد الله، لأن العقد والعهد قولان قد دخلا في الوجود وانقضيا، فلا يتصور فيهما وفاء ولا نَقْض، وإنما الوفاء والنقض بمقتضاهما وما ترتب عليهما من أحكامهما. وتارة يدل على التعيين العادةُ، نحو: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) . دلَّ العقل على الحذف، لأن يوسف لا يصح ظرفا للوم، ثم يحتمل أن يقدر لمتنني في حبه، لقوله: قد شغَفَها حبّاً، أو في مراودته، لقوله: (تُرَاوِد فَتَاها) . والعادةُ دلت على الثاني، لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه عادة. لأنه ليس اختيارياً، بخلاف المراودة للقدرة على دفعها. وتارة يدل عليه التصريح به في موضع آخر، وهو أقواها، نحو: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) أي أمره، بدليل: أو يأتي أمر ربك. (وجنّة عرضها السماوات) . أي كعرض، بدليل التصريح به في آية الحديد. (رسول من الله) ، أي من عند الله بدليل: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) . ومن الأدلة على أصل الحذف العادة، بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف، نحو: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) ، أي مكان قتال، والمراد مكاناً صالحاً للقتال، وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، ويتعيرون بأن يتفوهوا بأنهم لا يعرفونه. فالعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقةَ القتال، فلذلك قدّره مجاهد مكان قتال. ويدل عليه أنهم أشاروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يخرج من المدينة. ومنها الشروع في الفعل، نحو: (بسم الله) . فيقدر ما جعلت التسميةُ مبدأ له، فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت أقرأ، أو الأكل قدرت آكل. وعلى هذا أهلُ البيان قاطبة، خلافًا لقول النحاة: إنه يقدر ابتدأت، أو ابتدائي كائن بسم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) . وفي الحديث: باسمك اللهم وضعت جَنْي. ومنها الصناعة النحوية، كقولهم في لا أقسم: التقدير لأنا أقسم، لأن فعل الحال لا يقسم عليه. وفي: (تاللهِ تَفْتَأ) : التقدير لا تفتأ، لأنه لو كان الجواب مثبتاً لدخلت اللام والنون كقوله: (وتاللهِ لأكِيدَنّ أصنامَكم) . وقد توجب الصناعة التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه، كقولهم في لا إله إلا الله: إن الخبر محذوف، أي موجود. وقد أنكره الإمام فخر الدين، وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير. وتقدير النحاة فاسد، لأن نفي الحقيقة مطلقة أتم من نفيها مقيدة، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلاً على سلب الماهية مع القيد. وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر. ورد بأن تقديرهم موجود يستلزم نفي كل إله غير الله قطعاً، فإن العدم لا كلام فيه، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة. ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أو مقدر، وإنما يقدر النحويُّ ليعطي القواعد حقَّها وإن كان المعنى مفهوماً. تنبيه: قال ابن هشام: إنما يشترط الدليل فما إذا كان المحذوف الجملة بأسرها، أو أحد ركنيها، أو يفيد معنى فيها هي مبنية عليه، نحو: (تاللهِ تَفْتَأ) ، أما الفضلة فلا يشترط لحذفها وجدان دليل، بل يشترط ألا يكون في حذفها ضرر معنوي أو صناعي. قال: ويشترط في الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف. ورد قول الفراء في (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إن التقدير: بل ليحسبنا قادرين، لأن الحسبان المذكور بمعنى الظن، والمقدر بمعنى العلم، إذ التردد في الإعادة كفر، فلا يكون مأمورا به. قال: والصواب فيها قول سيبويه: إن (قادرين) حال، أي بلى نجمعها "قادرين" لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان، ولأن (بلى) لإيجاب المنفي، وهو فيها فعل الجمع. الشرط الثاني: ألا يكون المحذوف كالجزء، ومن ثم لم يحذف الفاعل ولا نائبه، ولا اسم كان وأخواتها. قال ابن هشام: وأما قول ابن عطية في: (بئس مَثَلُ القوم) . إن التقدير بئس المثل مثل القوم. فإن أراد هذا الإعراب، وأن الفاعل لفظ المثل محذوفاً فمردود، وإن أراد تفسير المعنى وأن في بئس ضمير المثل مستتر فسهل. الثالث: ألا يكون مؤكداً، لأن الحذف مناف للتأكيد، إذ الحذف مبني على الاختصار والتأكيد مبني على الطول، ومن ثم رد الفارسي على الزجاج في قوله: (إنْ هَذَانِ لساحِرَان) - إن التقدير: إن هذان لهما ساحران. فقال: الحذف والتوكيد باللام متنافيان. وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما، لأن المحذوف لدليل كالثابت. الرابع: ألا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر، ومن ثم لم يُحذف اسم الفعل لأنه اختصار للفعل. الخامس: ألا يكون عاملاً ضعيفاً، فلا يحذف الجار والناصب للفعل والجازم إلا في مواضع قَوِيت فيها الدلالة، وكثر فيها استعمال تلك العوامل. السادس: ألا يكون عوضاً عن شيء، ومن ثم قال ابن مالك: إن حرف النداء ليس عوضاً من أدعو، لإجازة العرب حذفه، ولذا أيضاً لم تحذف التاء من إقامة واستقامة. وأما: (وإقامَ الصلاة) ، فلا يقاس عليه، ولا خبر كان، لأنه عوض أو كالعوض من مصدرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السابع: ألا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ولا إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي، ومن ثم لم يقس على قراءة: (وَكُلّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) . فائدة اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن، ولهذا قال في قوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) . إن الأصل لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر فصار تجزيه، فحذف الضمير فصار تجزي. وهذه ملاطفة في الصناعة. ومذهب سيبويه أنهما حذفا معاً. قال ابن جني: وقول الأخفش في النفس أوفق وآنس من أن يحذف الحرفان معاً في وقت واحد. قاعدة الأصل أن يقدر الشيء في مكانه الأصلي، لئلا يخالف الأصل من وجهين: الحذف، ووضع الشيء في غير محله، فيقدر المفسر في نحو: زيداً رأيته، مقدما عليه. وجوّز البيانيون تقديره مؤخراً عنه، لإفادة الاختصاص، كما قاله النحاة إذا منع منه مانع، نحو: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) . إذ لا يلي أما فعل. قاعدة ينبغي تقليل المقدر ما أمكن، لتقل مخالفة الأصل، ومن ثم ضعف قول الفارسي في: (واللائي لم يحِضْنَ) إن التقدير فعدتهن ثلاثة أشهر. والأوْلى أن يقدر كذلك. قال الشيخ عز الدين: ولا يقدر من المحذوفات إلا أشدها موافقة للغرض وأفصحها، لأن العرب لا يقدِّرون إلا ما لو لفظوا به لكان أنسب وأحسن لذلك الكلام، كما يفعلون ذلك في الملفوظ به، نحو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 (جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرأمَ قِياماً للناس) . قدَّر أبو علي جعل الله نُصْبَ الكعْبَة. وقدر غيره حرْمةَ الكعبة وهو أولى، لأن تقدير الحرمة في الهدْي والقلائد والشهر الحرام لا شك في فصاحته، وتقدير النصب فيها بعيد من الفصاحة. قال: ومهما تردد المحذوف بين الحَسَن والأحسن وجب تقدير الأحسن، لأن الله وصف كتابه بأنه أحسن الحديث، فليكن محذوفه أحسن المحذوفات، كما أن ملفوظه أحسن الملفوظات. قال: ومتى تردد بين أن يكون مجملاً أو مبيناً فتقدير المبين أحسن، نحو: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) . لك أن تقدر " في أمر الحرث " و" في تضمين الحرث "، وهو أولى لتعينه، والأمر مجمل لتردده بين أنواع. قاعدة إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلاً والباقي فاعلاً، وكونه مبتدأ والباقي خبراً، فالثاني أولى، لأن المبتدأ عين الخبر فالمحذوف عين الثابت، فيكون حذفه كلا حذف. فأما الفعل فإنه غير الفاعل، اللهم إلا أن يعتضد الأول برواية أخرى في ذلك الموضع، أو بموضع آخر يشبهه، فالأول كقراءة: (يسَبَّح له فيها بالغُدوِّ والآصال) - بفتح الباء. (كذلك يُوحَى إليك وإلى الذين مِنْ قبلك الله) - بفتح الحاء، فإن التقدير يسبحه رجال، ويوحيه الله، ولا يقدّران مبتدأين حُذف خبرهما لثبوت فاعلية الاسمين في رواية منْ بنى الفعل للفاعل. والثاني، نحو: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فتقدير " خلقهم الله " أولى من " الله خلقهم " لمجيء: خلقهنَّ العزيز العليم. قاعدة إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولاً أو ثانياً فكونه ثانياً أولى. ومن ثَمَّ رجح أن المحذوف في نحو: (أتُحَاجّونّي في الله) - نون الوقاية لا نون الرفع. وفي: (ناراً تَلَظَّى) التاء للتأنيث لا تاء المضارعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وفي: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) . أن المحذوف خبر الثاني لا الأول. وفي نحو: (الحجّ أشهر) . أن المحذوف مضاف للثاني أي حج أشهر، لا إلى الأول، أي أشهر الحج. وقد يجب كونه من الأول، نحو: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) . وفي قراءة من - رفع ملائكته، لاختصاص الخبر بالثاني، لوروده بصيغة الجمع. وقد يجب كونه من الثاني، نحو: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) . أي بريء أيضاً، لتقدم الخبر على الثاني. فصل الحذف على أنواع أحدها: ما يسمى بالاقتطاع، وهو حذف بعض أحرف الكلمة. وأنكر ابن الأثير ورود هذا النوع في القرآن. ورد بأن بعضهم جعل منه فواتح السور على القول بأن كل حرف منها من اسم من أسمائه تعالى كما تقدم. وادعى بعضُهم أن الباء في قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ، أول كلمة " بعض " ثم حذف الباقي. ومنه قراءة بعضهم: " ونادَوْا يا مَالِ" بالترخيم، ولما سمعها بعض السلف، قال: ما أغْنَى أهلَ النَار عن الترخيم. وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة. ويدخل في هذا النوع حذف همزة " أنا " في قوله: (لكنَّا هُوَ اللهُ رَبّي) . إذ الأصل " لكن أنا "، حذفت همزة أنا تخفيفاً وأدغمت النون في النون. ومثله: ما قرىء: ويمسك السماء أن تقع علَّرْض. بما أنزِلّيك، فمن تعجّل في يومين فلَثْم عليه. إنها لحْدَى الكُبَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 النوع الثاني: ما يسمّى بالاكتفاء، وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفى بأحدها عن الآخر لنكتة. ويختص غالباً بالارتباط العطفي، كقوله تعالى: (سَرَابِيل تَقِيكلم الحرَّ) . أي والبرد، وخصص الحر بالذكر، لأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم عندهم، لأنه أشد من البرد. وقيل لأن البرد تقدم ذكر الامتنان بوقايته صريحاً في قوله، (ومِنْ أصوافها وأوْبارِها وأشعارِها أثاثاً) . وفي قوله: (وجعل لكم مِنَ الْجِبَال أكناناً) . وفي قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) . ومن أمثلة هذا النوع: (بِيَدِك الخير) . أي والشر، وإنما خص الخير بالذكر، لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم، أو لأنه أكثر وجوداً في العالم، أو لأن إضافة الشر إلي الله تعالى ليس من باب الآداب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: والشر ليس إليك. ومنها: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) . أي وما تحرك، وخص السكون بالذكر، لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون. ومنها: (الذين يُؤْمِنون بالغيب ويُقِيمون الصلاةَ) . أي والشهادة، لأن الإيمان بكل منهما واجب، وآثر الغيب، لأنه أمدح، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس. ومنها: (ورَبُّ المشارق) ، أي والمغارب. ومنها: (هدًى للمتقين) ، أى وللكافرين، قاله ابن الأنباري. ويؤيده قوله تعالى: (هُدى للناس) . ومنها: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) . أي ولا والد، بدليل أنه وجب للأخت النصف، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب لأنه يسقطها. النوع الثالث: ما يسمى بالاحتباك ، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وقلَّ مَنْ تنبّه له أو نبّه عليه من أهل البلاغة، ولم أره إلا في شرح بديعية الأعمى لرفيقه الأندلسي، وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم، بل سماه الحذف المقابلي، وأفرده بالتصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي الأندلسي في شرح البديعية، قال: من أنواع البديع الاحتباك، وهو نوع عَزِيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، كقوله تعالى: (ومَثَل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِقُ) . التقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، والذي يُنْعَق به، فحذف من الأول الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه. وقوله: (وأدْخِلْ يَدكَ في جَيْبِك تخرج بيضاء) . التقدير: تدخل غير بيضاء وأخرجها تخرج بيضاء، فخذف من الأول تدخل غير بيضاء. ومن الثاني: وأخرجها. وقال الزركشي: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كل واحد منهما مقابله، لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35. التقدير: إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم بريء منه، وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون. وقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . التقدير: ويعذب المنافقين فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم. وقوله: (ولا تقربُوهُنَّ حتى يطْهُرْنَ فإذا تطَهَّرْنَ فأتُوهُنَّ) . أي حتى يَطْهرن من الدم ويَطَّهرن بالماء، فإذا طهرن وتطهَّرن فأتوهن. وقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) . أي عملاً صالحاً بِسَيء وآخر سَيِّئًا بصالح. قلت: ومن لطيفه: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت. وفي الغرائبِ لِلْكَرْمَاني: في الآية الأولى التقدير: مثل الذين كفَرُوا معك يا محد كمثل الناعِق مع الغنم، فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر. وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام. انتهى. ومأخَذُ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشد والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فحبك الثوب سدّ ما بين خيوطه من الثوب وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق. وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفُرج من الخيوط. فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه، فوضع الحذوف موضعه، كان حابكا له، مانعاً من خلل يطرقه، فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق. النوع الرابع: ما يسمى بالاختزال ، وهو ما ليس واحدا مما سبق. وهو أقسام، لأن المحذوف إما كلمة اسم، أو فعل، أو حرف، أو أكثر. أمثلة حذف الاسم: حذف المضاف: وهو كثير جداً في القرآن حتى قال ابن جنَيّ: في القرآن منه زهاء ألف موضع، وقد سردها الشيخ عز الدين في كتابه المجاز على ترتيب السور والآيات، ومنه: (الحجّ أشهر) ، أي حج أشهر، أو أشهر الحج. (ولكن البِرَّ مَنْ آمَنَ) ، أي ذا البر، أو بر من. (حرِّمَت عليكم أمّهَاتُكم) النساء: 23) ، أي نكاح أمهاتكم. (لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) ، أي ضعف عذاب. (وفي الرِّقَابِ) ، أي وفي تحرير الرقاب. حذف المضاف إليه: يكثر في ياء المتكلم، نحو: (وَبّ اغْفِرْ لي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وفي الغايات، نحو: (للَهِ الأمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ) أي من قبل الغلب ومن بعده. وفي أيّ، وكلّ، وبعض، وجاء في غيرهن كقراءة: (فلا خوف عليهم) - بضم بلا تنوين، أي فلا خوف شيء عليهم. حذف المبتدأ: يكثر في جواب الاستفهام، نحو: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) . أي هي نار. وبعد فاء الجواب، نحو: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) ، أي فعمله لنفسه، (ومَنْ أساء فعلَيْها) ، أي فإساءته عليها. وبعد القول، نحو: (قالوا أساطِيرُ الأوَّلين) . (قالوا أضغاثُ أحلام) . وبعد ما الخبر صفة له في المعنى، نحو: (التائِبُون العابدون الحامِدُون) . ونحو: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) . ووقع في غير ذلك، نحو: (لا يغرنَّك تقَلّبُ الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليل) . (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) ، أي هذا. (سورةٌ أنْزَلْنَاها) ، أي هذه. ووجب في النعت المقطوع إلى الرفع حذف الخبر، نحو: (أكُلُهَا دائم وظلُّها) ، أي دائم. ويحتمل الأمرين: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، أي أجمل، أو فأمري صبر. (فتحرِيرُ رقَبَةٍ) ، أي عليه، أو فالواجب. حذف الموصوف: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ، أي حور قاصرات. (أن اعْمَلْ سابغَاتٍ) ، أي دروعاً سابغات. (أيّها المؤمنون) ، أَي القوم المؤمنون. حذف الصفة: (يَأخذ كلَّ سفينةٍ) ، أي صالحة، بدليل أنه قرىء كذلك، " وأنْ تعيبها " لا يخرجها عن كونها سفينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 (الآن جئتَ بالحق) ، أي الواضح، وإلا لكفروا بمفهوم ذلك. (فلا نُقيم لهم يوْمَ القيامة وَزْنا) ، أي نافعاً. حذف المعطوف عليه: (أن اضْرِبْ بعصاك البحر فانْفَلَق) ، أي فضرب فانفلق. وحيث دخلت واو العطف على لام التعليل ففي تخريجه وجهان: أحدهما: أن يكون تعليلاً معلله محذوف، كقوله: (وليُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً حسناً) . فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك. والثاني: أنه معطوف على علة أخرى مضمرة لتظهر صحةُ العطف، أي فعل ذلك ليذيق الكافرين بأسه وليبلي. حذف المعطوف مع العاطف: (لا يستوي منكم مَنْ أنفقَ من قَبْل الفَتْحِ وقاتل) ، أي ومن أنفق بعده. (بِيَدِكَ الخير) ، أي والشر. حذف الْمُبْدل منه: وخرِّج عليه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) . أي لا تصفه، والكذب بدل من الهاء. حذف الفاعل: لا يجوز إلا في فاعل المصدر، نحو: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) ، أي دعائه الخير. وجوزه الكسائي مطلقاً لدليِل، وخرج عليه: (إذا بلغت التَّرَاقِي) ، أي الروح. (حتّى توَارَتْ بالحِجَاب) ، أي الشمس. حذف المفعول: تقدم أنه كثير في مفعول المشيئة والإرادة، ويرد في غيرها. نحو: (إنَّ الذين اتخذوا العِجْلَ) ، أي إلهاً. (كلاَّ سوف تعلمون) ، أي عاقبة أمركم. حذف الحال: يكثر إذا كان قولاً، نحو: (والملائكة يَدْخلُونَ عليهم مِنْ كل باب سلام) ، أي قائلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 حذف المنادى: "ألاَ يَاسجُدُوا". النمل: 15، أى يا هؤلاء. "يا ليت"، أى يا قوم. حذف العائد: يقع في أربعة أبواب: الصلة، نحو: (أهذا الذى بعث اللَهُ رَسُولاً) ، أى بعثه. والصفة، نحو: (واتَّقُوا يوماً لا تجْزِى نفْسٌ عن نَفْس) ، أي فيه. والخبر، نحو: (وكلاًّ وَعدَ اللهُ الحسنَى) ، أى وعده. والحال. حذف مخصوص نعم: نحو: (إنا وجدْنَاه صَابراً نِعْمَ العَبْدُ) . (فَقَدَرْنَا فنِعْمَ القادِرُون) ، أي نحن. (ولَنِعْمَ دارُ المتقين) ، أي الجنة. حذف الوصول: (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ، أي والذى أنزل إليكم، لأن الذي أنزل إلينا ليس هو الذى أنزل إلى مَنْ قبلنا. ولهذا أعيدت ما في قوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) . أمثلة حذف الفعل: يطّردُ إذا كان مفسراً، نحو: (وإنْ أحَدٌ من المشركين استجارَكَ) أالتوبة: 6، (إذا السماء انشقّت) . (قل لو أنتم تملكون) . ويكثر في جواب الاستفهام، نحو: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ، أي أنزل. وأكْثَر منه حذفُ القَوْل، نحو: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، أى يقولان ربنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال أبو علي: حذف القول من حد: حدّث عن البحر ولا حَرَج. ويأتي في غير ذلك، نحو: (انْتَهو خَيْراً لكم) ، أي وأتوا. (والذين تبوَّءُوا الدارَ والإيمان) ، أي وألفوا الإيمان واعتقدوه. (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، أي وليسكن زوجك. (وامرأته حَمّالَةَ الحطَب) ، أي أذم. (والْمقِيمينَ الصّلاَةَ) ، أي أمدح. (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) ، أي كان. (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) ، أي يوفوا أعمالهم. قال ابن جني في المحتسب: أخبرنا أبو على، قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس، لأن الحروف إنما دخلت الكلام لضَرْبِ من الاختصار. فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصراً لها هي أيضاً، واختصار المختصَر إجحاف به. حذف همزة الاستفهام: قرأ ابن محيصن. (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) . وخرّج عليه: (هذا ربّي) في المواضع الثلاثة. (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا) ، أي وتلك. حذف الموصول الحرفي: قال ابن مالك: لا يجوز إلا في أن، نحو: (ومِنْ آياته يُريكم البَرْقَ) . وحذف الجارّ يطّرِد مع أنْ وأنَّ، نحو: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) . (أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) . (أيَعِدكم أنكم) ، أي بأنكم. وجاء مع غيرها، نحو: (قَدّرْنَاهُ مَنَازِل) ، أي قدرنا له. (ويبْغونَهَا عِوَجاً) ، أي لها. (يخوِّفُ أوْلياءَه) ، أي يخوفكم بأوليائه. (واختار موسى قَوْمَه) ، أي من قومه. (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) ، أي على عُقْدَة النِّكَاحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 حذف العاطف: خرج عليه الفارسي: (ولا على الذين إذا ما أتوْكَ لِتَحْمِلَهُم قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عليه تولَّوْا) ، أي وقلت. حذف فاء الجواب: خَرّج عليه الأخفش: (إنْ ترَكَ خيراً الوصِيَّةُ للوالدين والأقْرَبِين) . حذف حرف النداء كثير: (ها أنتم أولاء) . (يوسُف أعْرِضْ عن هذا) . (قال رَبِّ إني وَهَن العَظْمُ مني) . (فاطرِ السماواتِ والأرض) . وفي العجائب للكَرْماني: كثر حذف " يا " في القرآن من الرب، تنزيهاً وتعظيما، لأن في النداء طرفاً من الأمر. حذف " قد " في الماضي إذا وقع حالاً، نحو: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) . (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) . حذف لا النافية: يطرد في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً، نحو: (تاللهِ تَفْتأ) ، وورد في غيره، نحو: (وعلى الذين يُطِيقُونَه فِدْيةٌ) . أي لا يطيقونه. (وألْقَى في الأرض رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بكم) . أي لئلاَّ تميد. حذف لام التوطئة: (وإن لم يَنْتَهُوا عمّا يقولُونَ لَيَمَسَّنَّ) . (وإن أطَعْتُموهم إنكم لمُشْرِكون) . حذف لام الأمر: خُرّج عليه: (قل لِعَبادِي الذين آمَنُوا يُقيموا الصلاةَ) . أي ليقيموا. حذف لام لقد: يحسن مع طول الكلام، نحو: (قد أفْلَح مَنْ زَكّاها) . حذف نون التوكيد: خرج عليه قراءة: (ألم نشرح) ، بالنصب. حذف نون الجمع: خرج عليه: (وما هم بضَارِّين به مِنْ أحد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 حذف التنوين: خرج عليه قراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . (ولا الليلُ سابِقُ النهارَ) - بالنصب. حذف حركة الإعراب والبناء، خرج عليه: (فتوبُوا إلى بارِيْكم) ، (ويأمُرْكم) . (وبعُولَتْهُنَّ أحقّ) - بسكون الثلاثة. وكذا: (أو يَعْفُو الذي بيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح) . (فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي) . و (مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) . حذف مضافين: (فإنّها مِنْ تَقْوَى القلوبِ) ، أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. (فقبَضْتُ قَبْضَةً من أثَر الرَّسُولِ) . أي من أثر حافر فرس الرسول. (تَدُور أعينُهم كالَّذِي يُغْشَى عليه) ، أي كدوران عين الذي. (وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم) ، أي بدل شكر رزقكم. حذف ثلاثة متضايفات: (فكان قابَ قَوْسَين) ، أي فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب، فحذف ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها. حذف مفعولي باب ظن: (أيْنَ شُرَكائي الذين كنْتُم تزْعمون) ، أي تزعمونهم شركاء. حذف الجار مع المجرور: (خلَطُوا عمَلاً صالحاً) ، أي بسَيِّءٍ. (وآخر سيئاً) ، أي بصالح. حذف العاطف مع المعطوف: تقدم. حذف حرف الشرط وفعله، يطَّرد بعد الطلب، نحو: (فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُم الله) ، أي إن اتبعتموني. (قُلْ لِعِبَادِي الذين آمَنُوا يُقِيمَوا الصلاةَ) ، أي إن قلت لهم يقيموا. وجعل منه الزمخشري: (فلن يُخْلِف اللهُ عَهْدَه) ، أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف. وجعل منه أبو حيان: (فَلِمَ تَقْتُلونَ أنبياءَ اللهِ مِن قَبْل) ، أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 حذف جواب الشرط: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ) ، أي فافعل. (وإذا قِيل لهم اتّقُوا ما بين أيديكم وما خَلْفكم لعلكم تُرْحَمُون) ، أي أعرضوا، بدليل ما بعده. (أئِن ذُكَرْتُم) ، أي تطيّرتم. (ولو جِئْنا بمثْلِه مَدَداً) ، أي لنفد. (ولو ترى إذ الجرمون تاكِسُو رؤُوسهم) ، أىِ لرأيت أمراً عظيما. (ولولا فَضْلُ اللهِ عليكم ورحمتُه وأنَّ اللهَ رءوفٌ رَحِيم) ، أي لعذبكم. (لولا أنْ رَبَطْنَا على قَلْبِها) .، أي لأبدت به. (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) ، أي لسلطكم على أهل مكة. حذف جملة القسم: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) ، أي والله. حذف جوابه: (والنازعات غَرْقاً) ، أي لتبعثنَّ. (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ، أي إنه لمعْجز. (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ، أي ما الأمر كما زعموا. حذف جملة مسَبَّبَة عن المذكور، نحو: (لِيُحِقَّ الحقَّ ويُبْطلَ الباطل) ، أي فعل ما فعل. حذف جُمَل كثيرة: (فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) ، أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، ففعلوا، فأتاه، فقال له: يا يوسف. خاتمة تارة لا يُقام شيء مقام المحذوف كما تقدم، وتارة يقام ما يدل عليه، نحو: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ، فليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم، وإنما التقدير: فإن تولوا فلا لوم علي، أي فلا عذر لكم لأني أبلغتكم. (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أي فلا تحزن واصبر. (وإنْ يَعُودوا فقد مضَتْ سُنّةُ الأوَّلين) ، أي يصيبهم مثل ما أصابهم. فصل كما انقسم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف، كذلك انقسم الإطناب إلى بسط وزيادة. فالأول الإطناب بتكثير الجمل، كقوله: (إنَّ في خَلْقِ السماواتِ والأرْضِ) . في سورة البقرة، أبلغ في إطنابها لكون الخطاب مع الثقَلين وفي كل عصر وحين، للعالم منهم والجاهل، والموافق والمنافق. وقوله: (الذين يَحْمِلُون العَرْشَ ومَنْ حوله يُسبّحون بحَمْدِ ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون) . فقوله: (ويُؤمنون به) إطناب، لأن إيمان حملة العرش معلوم وحسَّنه إظهار شرف الإيمان ترغيباً فيه. (وَويْل للمشركين الذين لا يُؤتُونَ الزكاة) ، وليس من المشركين مُزَكٍّ، والنكتةُ الحثّ للمؤمنين على أدائها، والتحذير من المنع منها حيث جعلها من أوصاف المشركين. والثاني يكون بأنواع: أحدها: دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد الآتية في نوع الأدوات. وهي: إنَّ، وأنَّ، ولام الابتداء، والقسم، وألا الاستفتاحية، وأما، وها التنبيه، وكأن في تأكيد التشبيه، ولكن في تأكيد الاستدراك، وليت في تأكيد التمني، ولعل في تأكيد الترجي، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وإما في تأكيد الشرط، وقد، والسين، وسوف، والنونان في تأكيد الفعلية، ولا التبرئة، ولن ولمَّا في تأكيد النفي. وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطَب بها منكراً أو متردداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه، كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى: (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) . فأكد بأن، واسمية الجملة. وفي المرة الثانية: (رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) . فأكد بالقسم، وإن، واللام، واسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في الإنكار، حيث قالوا: (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) . وقد يؤكد بها والمخاطب به غَيْرُ منكر، لعدم جَرْيه على مقتضى إقراره. فينزل منزلةَ المنكر. وقد يترك التأكيد وهو معه منكر، لأن معه أدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن إنكاره، وعلى ذلك يخرج: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) . أكد الموت تأكيدين، وإن لم ينكر، لتنزيل المخاطبين - لتماديهم في الغفلة - تنزيل من ينكر الموت. وأكد إثبات البعث تأكيداً واحداً وإن كان أشد نكيراً، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر، حثاً لهم على النظر في أدلته الواضحة. ونظيره قوله تعالى: (لا رَيْبَ فيه) . نفى عنه الرَّيْبَ بلا على سبيل الاستغراق، مع أنه ارتاب فيه المرتابون، لكن نزل منزلة العدم، تعويلاً على ما مرّ به من الأدلة الباهرة، كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك. قال الزمخشري: بولغ في تأكيد الموت، تنبيهاً للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقُّبه، فإن مآله إليه، فكأنه أكد جملته ثلاث مرات لهذا المعنى، لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غايةَ السعي حتى كأنه يخلد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ولم يؤكد جملة البعث إلا بأن أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يَقْبل إنكارا. وقال التاج بن الفركاح: أكد الموت ردا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف، واستغنى عن تأكيد البعث هنا، لتأكيده، والرد على منكره - في مواضع، كقوله تعالى: (بَلَى وربّي لتبْعَثنَّ) . وقال غيره: لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغني عن إعادة اللام لذكرها في الأول. وقد يؤكد بها للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوّح بالخبر، فاستشرفت نفسه إليه، نحو: (ولا تُخاطِبْنَي في الذين ظَلموا) أي لا تَدْعني يا نوح في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحاً، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكوماً عليهم بذلك أم لا. فقيل: إنهم مغرقون - بالتأكيد. وكذا قوله: (يا أيّها الناس اتَّقوا ربكم) . لما أمرهم بالتقوى، وظهور ثمرتها، والعقاب على تركها محله الآخرة، تشوّفت نفوسهم إلى وصف حال الساعة، فقال: (إنّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيء عظيم) - بالتأكيد، ليتقرر عليه الوجوب. وكذا قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) ، فيه تحيير للمخاطب، وتردد في أنه كيف لا يبريء نفسه، وهي بريئة زكية ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء، فأكده بقوله: (إنّ النَّفْسَ لأمَّارَة بالسّوء) . وقد يؤكد لقصد الترغيب، نحو: (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أكد بأربع تأكيدات، ترغيباً للعباد في التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وسيأتي الكلام في أدوات التأكيد ومعانيها ومواقعها في حروف المعجم. فائدة إذا اجتمعت إنَّ واللام كان بمنزلة تكرير الجملة ثلاثَ مرات، لأن إنَّ أفادت التكرير مرتين، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثاً. وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر، وإنَّ لتوكيد الاسم، وفيه تجوز، لأن التوكيد للنسبة، لا للاسم ولا للخبر، وكذلك نون التوكيد الشديدة بمنزلة تكرير الفعل ثلاثاً، والخفيفة بمنزلة تكريره مرتين. وقال سيبويه - في نحو: " يا أيها ": الألف والهاء لحقت " أيّا " توكيداً. فكأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم تنبيهاً. هذا كلامه، وتبعه الزمخشري. فائدة قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) . قال الجرجاني في نظم القرآن: ليست اللام فيه للتأكيد، فإنه منكر. فكيف يحقق ما ينكر، وإنما قاله حكاية لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الصادر منه بأداة التأكيد، فحكاه، فنزلت الآية على ذلك. النوع الثاني: دخول الأحرف الزائدة : قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى. وقال الزمخشري في كشافه القديم: الباء في خبر ما وليس لتأكيد النفي، كما أن اللام لتأكيد الايجاب. وسئل بعضهم عن التأكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاطه لا يخل بالمعنى. فقال: هذا يعرفه أهل الطباع، يجدون من زيادة الحرف معنًى لا يجدونه بإسقاطه. قال: ونظيره العارف بوزن الشعر طبعا إذا تغيّر عليه البيت بنقص أنكره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال: أجد في نفسي خلافَ ما أجدها في إقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع بنقصانها ويجد في نفسه بزيادنها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانها. ثم باب الزيادة للحروف وزيادة الأفعال قليل، والأسماء أقل. أما الحروف فيزاد منها إنْ، وأنْ، وإذ، وإذا، وإلى، وأم، والباء، والفاء. وفي، واللام، ولا، وما، ومن، والواو، وستأتي في حروف المعجم مشروحة. وأما الأفعال فزِيْدَ منها " كان "، وخرّج عليه: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) . وأصبح، وخرج عليه: (فأصْبَحُوا خاسرين) . وقال الرُّماني: العادة أن من به علة تزاد في الليل أن يرجوَ الفرج عند الصباح، فاستعمل أصبح، لأن الخسران حصل في الوقت الذي يرجو فيه الفرج، فليست زائدة. وأما الأسماء فنصَّ أكثر النحويين على أنها لا تزاد، ووقع في كلام المفسرين الحكم عليها بالزيادة في مواضع، كلفظ " مثل " في قوله: (فإنْ آمَنُوا بمثْلِ ما آمنْتُم به) ، أي بما. النوع الثالث: التأكيد الصناعي ، وهو أربعة أقسام: أحدها: التوكيد المعنوي بكلّ، وأجمع، وكِلاَ، وكِلْتا، نحو: (فسجد الملائكة ُكلّهم أجمعون) . وفائدته رفع توهُّم المجاز وعدم الشمول، وادَّعى الفراء أن (كلهم) أفادت ذلك، وأجمعون أفادت اجتماعهم على السجود، وأنهم لم يسجدوا متفرقين. ثانيها: التأكيد اللفظي، وهو تكرار اللفظ الأول إما بمرادفه، نحو: (ضَيِّقًا حَرِجاً) . - بكر الراء. (غَرَابيبُ سودٌ) . وجعل منه الصفّار: (فيما إنْ مَكناكم فيه) ، على القول بأن كليهما للنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وجعل منه غيره: (قِيل ارْجِعُوا وراءكم فالتَمِسُوا نورا) . فوراء ليست ها هنا ظرفًا، لأن لفط ارجعوا ينبئ عنه، بل هو اسم فعل بمعنى ارجعوا، فكأنه قال: ارجعوا ارجعوا. وإما بلفظه، فيكون في الاسم والفعل والحرف والجملة. فالاسم نحو: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ) (دَكًّا دَكًّا) ، (صَفًّا صَفًّا) . والفعل، نحو: (فَمَهِّلِ الكافرين أمْهلهم روَيدا) . واسم الفعل، نحو: (هيهاتَ هيهاتَ لما توعَدون) . والحرف، نحو: (ففِي الجنَّةِ خالدِين فيها) . (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) . والجملة، نحو: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . والأحسن اقتران الثانية بثمَّ، نحو: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) . (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) . ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، نحو: (اسْكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنة) . (اذهَبْ أنْتَ ورَبُّك) . (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) . ومنه تأكيد المنفصل بمثله: (وهم بالآخرة هم كافرون) . ثالثها: تأكيد الفعل بمصدره، وهو عوض من تكرار الفعل مرتين، وفائدتُه رفع توهم المجاز في الفعل، بخلاف التوكيد السابق، فإنه لرفع توهم المجاز في المسند إليه كذا فرق به ابن عصفور وغيره. ومن ثم رد بعض أهل السنة على بعض المعتزلة في دعواهم نفي التكليم حقيقة بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) . لأن التوكيد رفع المجاز في الفعل. ومن أمثلته: (وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) . (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) . (جزَاؤكم جزاءً مَوْفورا) . وليس منه: (وتظنّون باللهِ الظنونا) ، بل هو جمع ظن، لاختلاف أنواعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وأما (إلاَّ أنْ يشاءَ رَبّي شيئاً) ، فيحتمل أن يكون منه، وأن يكون الشيء بمعنى الأمر والشأن. والأصل في هذا النوع أن يُنعت بالوصف المراد، نحو: (اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً) . (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) . وقد يضاف وصفُه إليه، نحو: (اتَقُوا اللهَ حقَّ تُقَاتِه) . وقد يؤكد بمصدر فعل آخر، أو اسم عين نيابة عن المصدر، نحو: (وتَبَتَّل إليه تبْتيلا) . والمصدر تبتلا، والتبتيل مصدر بتَّل. (أنْبتَكم من الأرض نباتاً) ، أي إنباتاً، إذ النبات اسم عَيْن. رابعها: الحال المؤكدة، نحو: (ويَوْم أبْعَثُ حَيّا) . (ولا تَعْثَوْا في الأرض مُفْسِدين) . (وأرسلْنَاكَ للناسِ رَسُولا) . (ثم تولَّيْتُم إلا قليلاً منكم وأنْتُم مُعْرِضُون) . (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) . وليس منه: (ولَّى مُدْبِراً) ، لأن التولي قد لا يكون إدباراً، بدليل قوله: (فَولِّ وجْهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرام) ولا: (فتَبَسَّم ضاحكا) ، لأن التبسم قد لا يكون ضحكاً. ولا: (وهو الحقُّ مصَدِّقا) ، لاختلاف المعنيَيْن، إذ كونه حقا في نفسه غير كونه مصدقاً لما قبله. النوع الرابع: التكرير ، وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة. خلافاً لبعض من غلط. وله فوائد: منها: التقرير، وقد قيل: إن الكلام إذا تكرر تقرر، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر القصص والإنذار بقوله: (وصزرفْنَا فيه منَ الوَعيد لعلهم يتَقون أو يُحْدِثُ لهم ذِكْرا) . ومنها: التأكيد. ومنها: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقّي الكلام بالقبول، ومنه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فإنه كرر فيه النداء لذلك. ومنها: إذا طال الكلام وخُشي تناسي الأول أعيد ثانياً تطرية له وتجديداً لِعَهْدِه، ومنه: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) . (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) . (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) . (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) . (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) . ومنها: التعظيم والتهويل، نحو: الحاقة ما الحاقة. القارعة ما القارعة. وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. فإن قلت: هذا النوع أحد أقسام النوع قبله، فإن منها التوكيد بتكرار اللفظ، فلا يحسن عدّه نوعا مستقلاً. قلت: هو يجامعه ويفارقه، ويزيد عليه وينقص عنه، فصار أصلاً برأسه. فإنه قد يكون التأكيد تكراراً كما تقدم في أمثلته، وقد لا يكون تكراراً كما تقدم أيضاً. وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى. ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده، نحو: (اتّقُوا اللهَ ولْتَنْطرْ نَفْسٌ ما قدمَتْ لغَدٍ واتقُوا اللهَ) . (إن الله اصْطفَاكَ وطهَّركَ واصْطَفَاك على نساء العالمين) . فالآيتان من باب التكرير، لا التأكيد اللفظي الصناعي. ومنه الآيات المتقدمة في التكرير للطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ومنه ما كان لتعدد المتعلق، بأن يكون المكرر ثانياً متعلقاً بغير ما تعلق به الأول. وهذا القسم يسمى بالترديد، كقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) . وقد وقع فيها الترديد أربع مرات. وجعل منه قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة الرحمن. فإنها تكررت نيفاً وثلاثين مرة، كلُّ واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان عائداً على شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها، قاله ابن عبد السلام وغيره. وإن كان بعضها ليس بنعمة فذكرُ النقمة للتحذير نعمة. وقد سئل: أي نعمة في قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، فأجاب بأجوبة أحسنها النقلةُ من دار الهموم إلى دار السرور، وإراحة المؤمن من الكافر، والبار من الفاجر. وكذا قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، في سورة المرسلات، لأنه تعالى ذكر قصصاً مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، كأنه قال عقب كل قصة: ويل للمكذب بهذه القصة. وكذا قوله في سورة الشعراء: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) . كررت ثمان مرات، كل مرة عقب كل قصة، فالإشارة في كل واحدة بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر. وبقوله (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قومه خاصة، ولما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصفي العزيز الرحيم، للإشارة إلى أن العزة على من لا يؤمن منهم والرحمة لمن آمن. وكذا قوله في سورة القمر: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) . قال الزمخشري: كرر ليجدِّدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظاً وتنبيهاً، وأن كلاًّ من تلك الأنباء مستحق لاعتبار يختص به، وأن يتنبهوا كي لا يغلبهم السرورُ والغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال في عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس بإطناب، بل هي ألفاظ، كل أرِيد به في ما أريد بالآخر. قلت: إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ولكن كرر ليكون نصّاً فيما يليه وظاهرا في غيره. فإن قلت: يلزم التأكيد. قلت: والأمر كذلك، ولا يَرِد عليه أن التأكيد لا يزاد عليه عن ذلك، لأن ذلك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. انتهى. ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) . قال: فإن قيل: ما وَجُْ تكرار قوله: (وَلِلَّهِ ما في السماواتِ وما في الأرض) في آيتين إحداهما في أثر الأخرى؟. قلت: لاختلاف معنى الخبرين عما في السماوات والأرض، وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذِكْر حاجته إلى بارئه، وغِنَى بارئه عنه، وفي الأخرى حفظُ بارئه إياه، وعلمه به وبتدبيره. قال: فإن قيل: أفلا قيل: وكان الله غنياً حميداً، وكفى بالله وكيلا؟. قيل: ليس في الآية الأولى ما يصلح أن تُخْتم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. انتهى. وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) . قال الراغب: الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 (فَوَيْل للّذِين يكتبون الكتابَ بأيديهم) . والكتاب الثاني التوراة. والثالث لجنس كتب الله كلها، أى ما هو من شيء من كتب الله وكلامه. ومن أمثلة ما يُظن أنه تكرار وليس منه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) . فإن لا أعبد ما تعبدون أي في المستقبل، ولا أنتم عابدون أي في الحال، ما أعبد في المستقبل، ولا أنا عابد أي في الحال. ما عبدتم في الماضي. ولا أنتم عابدون، أي في المستقبل. ما أعبد أي في الحال. والحاصل أن القَصْد نفيُ عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة، وكذا: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) . ثم قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) . ثم قال: (واذكرُوا الله في أيام مَعْدوداتٍ) . فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر، فالأول الذكر بالمزدلفة عند الوقوف بقُزَح، وقوله: (واذكرُوه كما هَداكُمْ) إشارة إلى تكرره ثانيا وثالثاً. ويحتمل أن يراد به طوافُ الإفاضة، بدليل تعقيبه بقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) . والذكر الثالث إشارة إلى رَمْي جمرة العقبة. والذكر الأخير لرمي أيام التشريق. ومنه تكرير حرف الإضراب في قوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) . وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) . ومنه قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) . ثم قال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) . فكرر الثاني ليعم كل مطلقة، فإن الآية الأولى في المطلقات قبل الفَرْض والمسيس خاصة. وقيل: لأن الأولى لا تشعر بالوجوب، ولهذا لما نزلت، قال بعض الصحابة: إن شئت أحسنت وإن شئت فلا، فنزلت الثانية، قاله ابن جرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ومن ذلك تكرير الأمثال، كقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ. وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة، بالمستَوتقدِين نارا، ثم ضربه بأصحاب الصّيِّب، قال الزمخشري: والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فَرْط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، قال: ولذلك أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. ومن ذلك تكرير القصص، كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء. قال بعضهم: ذكر الله موسى في كتابه في مائة وعشرين موضعًا. وقال ابن العربي في القواصم: ذكر الله قصةَ نوح في خمسة وعشرين موضعاً. وقصة موسى في تسعين آية. وقد ألف البَدْرُ بن جماعة كتاباً سماه المقتنص في فوائد تكرير القصص. وذكر في فوائده: أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة، وهذه عادةُ البلغاء. ومنها: أن الرجل كان يسمع القصةَ من القرآن، ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور مَنْ بعدهم، فلولا تكرار القصص لوقعت قصةُ موسى إلى قوم وقصةُ عيسى إلى آخرين، وكذا سائر القصص. فأراد الله اشتراكَ الجميع فيها، فيكون فيه إفادةٌ لقوم وزيادة تأكيد لآخرين. ومنها: أنَ في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. ومنها: أن الدواعيَ لا تتوفر على نَقْلها كتوفرها على نقل الأحكام، فلهذا كررت القصص دون الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومنها: أنه تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثله، ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرَّرَ ذكر القصة في مواضع إعلاماً بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا وبأي عبارة عبّروا. ومنها: أنه لما تحداهم قال: (فأتُوا بسورة من مِثْله) . فلو ذُكرت القصة في موضع واحد، واكتفى بها لقال العربي: ائتونا أنتم بسورة من مثله، فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعاً لحجتهم من كل وجه. ومنها: أن القصة الواحدة لما كُررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادةٌ ونقصان، وتقديم وتأخير، وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج الأمر الواحد في صورة متباينة في النظم، وجذب النفوس إلى سماعهم لما جُبلت عليه من حب التنقل بين الأشياء المتجددة، واستلذاذها بها، وإظهار خاصة القرآن، حيث لم يحصل - مع ذلك التكرير فيه - هُجْنةٌ في اللفظ، ولا مَلَل عند سماعه، فبايَنَ بذلك كلام المخلوقين. وقد سئل: ما الحكمةُ في عدم تكرير قصة يوسف، وسَوْقها مساقاً واحداً في موضع واحد دون غيرها من القصص، وأجيب بوجوه: أحدها: أن فيها تشبيبَ النسوة به، وحالَ امرأةٍ ونسوة افتتنوا بأبدع الناس جمالاً، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر. وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثَ النهي عن تعليم النساء سورة يوسف. ثانيها: أنها اختصت بحصول الفَرَج بعد الشدة، خلاف غيرها من القصص. فإن مآلها إلى الوبال، كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم، فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقْلها لخروجها عن سِمَةِ القصص. ثالثها: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفَرايني: إنما كرر الله قصص الأنبياء، وساق قصةَ يوسف مساقاً واحداً إشارة إلى عجز العرب، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلته في سائر القصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قلت: وظهر لي جواب رابع، وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم، كما رواه الحاكم في مستدركه، فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة، وترويح النفس بها، والإحاطة بطرفيها. وجواب خامس، وهو أقوى ما يجاب به: أنَّ قصص الأنبياء إنما كُررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كَذَّبوا رسلهم، والحاجةُ داعية إلى ذلك لتكرير تكذيب الكفار للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما كذّبوا أنزلت قصة مُنْذرة بحلول العذاب، كما حل على المكذبين، ولهذا قال تعالى في آيات: (فقد مضَتْ سنَّة الأولين) . (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) . وقصة يوسف لم ئقصد منها ذلك، وبهذا أيضاً يحصل الجواب عن حكمة عدم تكرير قصة أهل الكهف، وقصة ذي القَرْنين، وقصة موسى مع الخضر، وقصة الذّبيح. فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين، وليست من قَبِيل ذلك؟ قلت: الأولى في سورة كهيعص، وهي مكية أنزلت خطاباً لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران، وهي مدنية أنزلت خطاباً لليهود ولنصارى نجران حين قدموا، ولهذا اتصل بها ذكر الحاجّة والمباهلة. النوع الخامس: الصفة . وترِد لأسباب: أحدها: التخصيص في النكرة، نحو: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) . الثاني: التوضيح في المعرفة، أي زيادة البيان، نحو: (ورَسولِه النبي الأمّيِّ) . الثالث: المدح والثناء، ومنه صفات الله تعالى، نحو: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) . ومنه: (يَحْكُمُ بها النبيُّون الذين أسْلَمُوا) . فهذا الوصف للمدح، وإظهار شرف الإسلام والتعريض باليهود، وأنهم بعدوا عن ملّة الإسلام الذي هو دينُ الأنبياء كلهم، وأنهم بمعزل عنها، قاله الزمخشري. الرابع: الذم، نحو: (فاستَعِذْ باللهِ من الشيطانِ الرجِيم) . الخامس: التأكيد لرفع الإيهام، نحو: (لا تَتَخِذُوا إلهين اثنين) . فإن إلهين للتثنية، فاثنين بعده صفة مؤكدة للنهي عن الإشراك، ولإفادة أن النهي عن اتِّخاذ إلهين، إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط، لا لمعنى آخر من كونهما عاجزين أو غير ذلك، ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد. وتطلق ويراد بها نفيُ العدة بالتثنية باعتبارها. فلو قيل: لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهى عن اتخاذ جنسين آلهة. وإن جاز أن نتخذ من نوع واحد عدداً آلهة، ولهذا أكد بالوحدة قوله: (إنما هُوَ إله واحد) . ومثله: (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) - على قراءة تنوين كل. وقوله: (إذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحدةٌ) . فهو تأكيد لرفع توهُّم تعدد النفخة، لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة بدليل: (وإن تَعدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحْصُوها) . ومن ذلك قوله: (فإنْ كانَتَا اثْنَتَيْن) . فإن لفظ (كانتا) يفيد التثنية، فتفسيره باثنتين لم يفِدْ زيادة عليه. وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسي بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة، لأنه قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات، فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط، وهذه فائدة لا تحصل من ضمير المثنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقيل: أراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا، فعبّر بالأدنى عنه وعما فوته اكتفاءً. ونظيره: (فإنْ لم يكونا رجلَيْنِ فرجل وامْرأتان) . والأحسنُ - فيه أن الضمير عائد علىْ الشهيدين المطلقين. ومن الصفات المؤكدة قوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) . فقوله: يطير - لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته، فقد يطلق مجازاً على غيره. وقوله: بِجَنَاحَيْهِ، لتأكيد حقيقة الطيران، لأنه يطلق مجازًا على شدة العَدْوِ والإسراع في المشي. ونظيره: (يقولون بألسنتهمِ) ، لأن القول - يُطلق مجازًا على غير اللساني، بدليل: (ويقولون في أنفسهم) . وكذا: (ولكنْ تَعْمَى القلوبُ التي في الصدور) ، لأن القلب قد يطلق مجازاً على العين، كما أطلقت العينُ مجازاً على القلب في قوله: (الّذين كانَتْ أعْينُهم في غِطاء عن ذِكرِي) . قاعدة الصفة العامة لا تأتي بعد الخاصة، لا يقالَ رجل فصيح متكلم، بل متكلم فصيح. وأشكل على هذا قوله تعالى في إسماعيل: (وكان رَسولاً نبِياً) . وأجيب بأنه حال لا صفة أي مرسلاً في حال نبوته. وقد تقدم في وجه التقديم والتأخير أمثلة من هذا. قاعدة إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولها عدَد جاز إجراؤها على المضاف وعلى المضاف إليه، فمن الأول: (سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً) . ومن الثاني: (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فائدة إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن إن تباعد معنى الصفات العطفُ، نحو: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ، وإلا ترْكه، نحو (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) . فائدة قطعُ النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها. قال الفارسي: إذا تكررت صفات في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالَف في إعرابا، لأن المقام يقتضي الإطناب، فإذا خُولف في الإعراب كان المقصود أكمل، لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعاً واحدا، مثاله في المدح: (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) . (ولكنَّ البِرَّ مَنْ آمنَ بالله واليوم الآخر) ... إلى قوله: (والموفُونَ بعَهْدِهم إذا عاهَدُوا والصابرين) . وقرىء شاذا: الحمد لله رب العالمين - برفع رب ونصبه. ومثاله في الذم: (وامرأتُه حَمّالَةَ الْحَطَبِ) . النوع السادس - البدل : والقصد به الإيضاح بعد الإبهام. وفائدته البيانُ والتأكيد. أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيداً أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير. وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل، فكأنه من جملتين، ولأنه دل على ما دل عليه الأول، إما بالمطابقة في بدل الكل، وإما بالتضمين في بدل البعض. أو بالاشتمال في بدل الاشتمال. مثال الأول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ) . (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) . ومثال الثاني: (وَلِلَّهِ على الناسِ حجُّ البيْتِ مَنِ استطاعَ إليه سبيلاً) . (ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهم ببعض) . ومثال الثالث: (وما أنْسَانِيهُ إلا الشَّيْطان أنْ أذْكُرَه) . (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) . (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) . (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) . وزاد بعضهم بدل الكل من البعض، وقد وجدت له مثالاً في القرآن، وهو قوله: (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ) . فجنات عدن بدل من الجنة التي هي بعض. وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة. وقال ابن السيد: وليس كل بدل يقصد به رفْعُ الإشكال الذي يعرض في البدل منه، بل من البدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنياً عنه، كقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) . ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثاني لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نصّ سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد. انتهى. وجعل منه ابن عبد السلام: (وإذ قال إبراهيمُ لأبِيه آزَر) . - قال: ولا بيان فيه، لأن الأب لا يلتبس بغيره. ورُدّ بأنه قد يطلق على الجد، فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة. النوع السابع: - عطف البيان : وهو كالصفة في الإيضاح، لكن يفارقها في أنه وُضع ليدل على الإيضاح باسم مختص به، بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وفَرّقَ ابن كَيْسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود، وكأنك قررته في موضع المبدل منه، وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود. وقال ابن مالك في شرح الكافية: عطف البيان يجري مجرى النعت في تكميل متبوعه، ويفارقه في أن تكميله بشرح وتبيين، لا بدلالة على معنى في المتبوع أو سببيه، ومجرى التوكيد في تقوية دلالته، ويفارقه في أنه لا يفارقه توهم مجاز، ومجرى البدل في صلاحيته للاستقبال، ويفارقه في أنه غير منويّ الاطراح. ومن أمثلته: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) . (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) . وقد يأتي لمجرد المدح والإيضاح. ومنه: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) فالبيت الحرام عطف بيان للمدح والإيضاح. النوع الثامن: عطف أحد المترادفين على الآخر : والقصد منه التأكيد أيضاً، وجعل منه: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) . (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا) ، (فلا يخافُ ظُلْماً ولا هَضْماً) . (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) . (لا تَرَى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً) . قال الخليل: العِوَج والأمْتُ بمعنى واحد. (سِرَّهُم ونَجْواهُم) . (شرْعةً ومِنْهاجاْ) . (لا تُبْقِي ولا تَذَر) . (إلا دُعَاءً ونِدَاءً) . (أطعْنَا سادتَنا وكُبَراءَنا) . (لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) . فإن نَصِب كلغب وزناً ومعنى - (صلواتٌ من رَبّهم ورحْمَةٌ) 157. (غذْراً أو نُذْراً) . قال ثعلب: هما بمعنى واحد. وأنكر المبرد وجود هذا النوع في القرآن، وأوَّل ما سبق على اختلاف المعنيين. وقال بعضهم: الملخص في هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يحصِّل معنى لا يوجد عند انفرادها، فإن التركيب يحدث معنى زائدا. وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ. النوع التاسع: عطف الخاص على العام : وفائدته ال تنبيه على فَضْله، حتى كأنه ليس من جنس العام، تنزيلاً للتَّغَاير في الوصف منزلة التغاير في الذات وحكى أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: هذا العطف يسمَّى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة، وأفرد بالذكر تفصيلاً. ومن أمثلته: (حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوُسطَى) . (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) . (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) . وإنما إقامتها من جملة التمسك بالكتاب، وخُصَّت بالذكر إظهاراً لرتبتها، لكونها عماد الدين. وخص جبريل بالذكر رداً على اليهود في دعواهم عداوته. وضم إليه ميكائيل، لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد، كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح. وقيل: إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولاً، كما أن الأمير لا يدخل في مسمى الجند. حكاه الكرماني في العجائب. ومن ذلك: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) . (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) . بناء على أنه لا يختص بالواو، كما هو رأي ابن مالك فيه وفيما قبله. وخصَّ المعطوف في الثانية بالذكر تنبيهاً على زيادة قبحه. تنبيه المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملاً للثاني لا المصطلح عليه في الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 النوع العاشر: عطف العام على الخاص : وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ. والفائدة فيه واضحة، وهو التعميم. وأفرد الأول بالذكر اهماماً بشأنه. ومن أمثلته: (إن صَلاَتِي ونسُكِي) . والنسك العبادة فهو أعلم. (آتيناك سَبْعاً من المثاني والقرآن العظيم) . (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) . (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) . وجعل منه الزمخشري: (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) . - بعد قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) . النوع الحادي عشر: الإيضاح بعد الإبهام : قال أهل البيان: إذا أردت أن تبْهم ثم توضِّح فإنك تطنب. وفائدته إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام، والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكناً زائداً لوقوعه بعد الطلب، فإنه أعز من المنساق بلا تعب، أو لتكمل لذة العلم به، فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوفت النفس للعلم به من باقي وجوهه، وتأملت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة. ومن أمثلته: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) . فإن (اشرح) يفيد طلب شرح شيء ما له، وصدري يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك: (يَسِّرْ لي أمْرِي) . والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤْذِن بتلقي الشدائد، وكذلك: (ألم نشرَحْ لك صَدْرَكَ) . فإن المقام يقتضي التأكيد، لأنه مقام امتنان وتفخيم. وكذا: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ومنه التفصيل بعد الإجمال، نحو: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) . وعكسه، كقوله: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) . أعيد ذكر العشرة لدفع توهم أن الواو في (وَسَبْعَةٍ) بمعنى " أو " فتكون الثلاثة داخلة فيها، كما في قوله: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، ثم قال: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ) ، فإن من جلتها اليومين المذكورين أولاً، وليست أربعة غيرهما. وهذا أحسن الأجوبة في الآية، وهو الذي أشار إليه الزمخشري، ورجحه ابن عبد السلام، وجزم به الزملكاني في أسرار التنزيل. قال: ونظيره: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) . - فإنه رافعٌ لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة. قال ابن عسكر: وفائدة الوعد بثلاثين أولاً ثم بعشر، ليتجدد له قرب انقضاء المواعدة، ويكون فيه متأهباً، مجتمع الرأي، حاضر الذهن، لأنه لو وعد بالأربعين أولاً كانت متساوية، فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام، وتجدّد بذلك عزم لم يتقدم. وقال الكرماني في العجائب: في قوله: (تلك عشرة كاملة) ثمانية أجوبة: جوابان من التفسير، وجواب من الفقه، وجواب من النحو، وجواب من اللغة، وجواب من المعنى، وجوابان من الحساب، وقد سقْتها في أسرار التنزيل. النوع الثاني عشر: التفسير : قال أهل البيان: وهو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيأتي بما يزيله ويفسّره. ومن أمثلته: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) . فقوله: (إذا مَسَّه ... ) الخ تفسير - للهلوع، كما قال أبو العالية وغيره. (الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال البيهقي في شح الأسماء الحسنى: قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) ... الخ تفسير للقيَّوم. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ) . فيذبحون وما بعده تفسير للسوء. (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) . فَخَلَقه وما بعده تفسير للمثل. (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) . فُتْلقُون ... الخ تفسير لاتخاذهم أولياء. (الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) . قال محمد بن كعب القرظي: (لَمْ يَلِدْ) ... الخ تفسير للصّمد. وهو في القرآن كثير. قال ابن جنّي: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها، لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمّم له، وجار له مجرى بعض أجزائه. النوع الثالث عشر: وضع الظاهر موضع المضمر : ورأيت فيه تأليفاً مفرداً لابن الصائغ، وله فوائد: منها: زيادة التقرير والتمكين، نحو: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . (وبالحق أنزلنَاهُ وبالحق نزل) . (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) . (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . ومنها: قصد التعظيم، نحو: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) . (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) . (وقرآنَ الفَجْرِ إنَّ قرآنَ الفجْرِ كان مشهوداً) . (ولِبَاسُ التَقْوَى ذلك خير) . ومنها: قصدُ الإهانة والتحقير، نحو: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) . ومنها: إزالة اللبس حيث يوهم الضمير أنه غير الأول، نحو: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) . لو قال تؤتيه أوْهَم أنه الأول، قاله ابن الخشاب: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) . لأنه لو قال: عليهم دائرته لأوهم أن الضمير عائد على الله. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) . لم يقل منه، لئلا يتوهم عودُ الضمير إلى الأخ، فيصير كأنه مباشر يطلب خروجَها، وليس كذلك، لما في المباشرة من الأذى الذي تأباه النفوس الأبية، فأعيد لفظ الظاهر، لنفي هذا. ولم يقل من وعائه، لئلا يتوهم عَوْدُ الضمير إلى يوسف، لأنه العائد إليه ضمير استخراجها. ومنها: قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك، كما تقول: الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا. ومنه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) . (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . ومنها: قَصْدُ تقوية داعية الأمور، ومنه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) . ومنها: تعظيم الأمر، نحو: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)) . (قل سيرُوا في الأرض فانْظُروا كيفَ بدأ الْخَلق) . (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) . ومنها: الاستلذاذ بذكره، ومنه: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) . ولم يقل منها، ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ومنها: قصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، ومنه: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) ، بعد قوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ، ولم يقل: فآمِنُوا باللَه ربي، ليتمكنَ من إجراء الصفات التي ذكرها، ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وُصِف بِهذه الصفات، ولو أتى بالضمير لم يمكن ذلك لأنه لا يوصف. ومنها: التنبيه على عِلِّيَّة الحكم، نحو: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) . (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا) . (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) . ولم يقل لهم، إعلاماً بأن مَنْ عادى هؤلاء فهو كافر، وإن الله إنما عاداه لكفره. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) . (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) . (إنَّ الذين آمنُوا وعمِلُوا الصالحاتِ إنا لا نُضِيع أجْرَ مَنْ أحسنَ عملاً) . ومنها: قصد العموم، نحو: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) . ولم يقل إنها، لئلا يتوهم تخصيص ذلك بنفسه. (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) . (وأعْتَدْنَا للكافرين عذَاباً مُهيناً) . ومنها: قصد الخصوص، نحو: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) . لم يقل لك تصريحاً بأنه خاص به. ومنها: الإشارة إلى عدم دخول الجملة الأولى، نحو: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) الشورى: 24. فإنَّ (وَيَمْحُ اللَّهُ) استئناف لا داخل في حكم الشرط. ومنها: مراعاة الجناس، ومنه: (قل أعوذُ بربِّ الناسِ) . ذكره الشيخ عز الدين، ومثَّله ابن الصائغ بقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثم قال: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) . فالمراد بالإنسان الأول الجنس، وبالثاني آدم، أو من يعلم الكتابة، أو إدريس، وبالثالث أبو جهل. ومنها: مراعاةُ الترصيع وتوازن الألفاظ في التركيب، ذكره بعضهم في قوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) . ومنها: أن يتحمل ضميرا لا بد منه، ومنه: (أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) . لو قال استطعماها لم يصح، لأنها لم يستطعما القرية، أو استطعماهم فكذلك، لأن جملة استطعما صفة لقرية النكرة لا لأهل، فلا بد أن يكون فيها ضميرٌ يعود إليها، ولا يمكن إلا مع التصريح بالظاهر، كذا حرره السبكي في جواب سأله الصلاح الصفدي في ذلك، قال الصفَدي: أَسَيِّدَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ وَمَنْ إذَا ... بَدَا وَجْهُهُ اسْتَحْيَا لَهُ الْقَمَرَانِ وَمَنْ كَفُّهُ يَوْمَ النَّدَى وَمِداده ... عَلَى طِرْسِهِ بَحْرَانِ يَلْتَقِيَانِ وَمَنْ إنْ دَجَتْ فِي الْمُشْكِلَاتِ مَسَائِلُ ... جَلَاهَا بِفِكْرٍ دَائِمِ اللَّمَعَانِ رَأَيْت كِتَابَ اللَّهِ أَكْبَرَ مُعْجِزٍ ... لِأَفْضَلَ مَنْ يَهْدِي بِهِ الثَّقَلَانِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِعْجَازِ كَوْنُ اخْتِصَارِهِ ... بِإِيجَازِ أَلْفَاظٍ وَبَسْطِ مَعَانِ وَلَكِنَّنِي فِي الْكَهْفِ أَبْصَرْت آيَةً ... بِهَا الْكُفْرُ فِي طُولِ الزَّمَانِ عَنَانِي وَمَا هِيَ إلَّا "اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا" فَقَدْ ... يُرَى اسْتَطْعَمَاهُمْ مِثْلَهُ بِبَيَانِ فَأَرْشِدْ عَلَى عَادَاتِ فَضْلِك حَيْرَتِي ... فَمَالِي بِهَا عِنْدَ الْبَيَانِ يَدَانِ *** تنبيه: إعادةُ الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، كما مر في آيات: (إنا لا نُضِيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملا) . (إنا لا نُضِيع أجرَ المصلحين) ، ونحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومنه: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) . فإن إنزال الخير مناسب للربوبية وأعاده بلفظ الله، لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية، لأن دائرة الربوبية أوسع. ومنه: (الحمدُ لله الذي خلق السماوات والأرض) ، إلى قوله: (ثم الذين كفَروا بربِّهم يَعْدِلُون) . وإعادته في جملة أخرى أحسنُ منه في الجملة الواحدة لانفصالها، وبعد الطول أحسن من الإضمار، لئلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه فيفوته ما شرعَ فيه، كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) . - بعد قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) . النوع الرابع عشر: الإيغال : وهو الإمعان، وهو خَتمْ الكلام بما يفيد نكتة يتم - المعنى بدونها. وزعم بعضهم أنه خاص بالشعر، ورُدّ بأنه وقع في القرآن، من ذلك قوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) . فقوله بعده: " وهم مهتدون " إيغال، لأنه يتم المعنى بدونه، إذ الرسول مهتد لا محالة، لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على اتباع الرسل والترغيب فيه. وجعل ابنُ أي الإصبع منه: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) . فإن قوله: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) زائد على المعنى، مبالغة في عدم انتفاعهم. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) . فإن قوله: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) زائد على المعنى لمدح المؤمنين، - والتعريض بالذم لليهود، وأنهم بعيدون عن الإيمان. (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) . فقوله: (مِثْلَ مَا) . إيغال زائد على المعنى لتحقيق هذا الوعد، وأنه واقع معلوم ضرورة لا يرتاب فيه أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 النوع الخامس عشر - التذييل : وهو أن يؤتى بجملة عَقِبَ جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من فهمه، نحو: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) . (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) . (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) . (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) . النوع السادس عشر: الطرد والعكس : قال الطيبىّ: وهو أن يأتي بكلامين يقرر الأولُ بمنطوقه مفهومَ الثاني. وبالعكس، كقوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . إلى قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ، فمنطوقُ الأمر بالاستئذان في تلك الأوقات خاصة مقرر لمفهوم رَفْعِ الجناح فيما عداها، وبالعكس. وكذا قوله: (لا يعْصُون اللهَ ما أمرهم ويفعلونَ ما يُؤمرون) . قلت: وهذا النوع يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك. النوع السابع عشر: التكميل : ويسمى بالاحتراس، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلافَ المقصود بما يدفع ذلك الوهم، نحو: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) . فإنه لو اقتصر على أذلة لتوهم أنه لضعفهم، فرفعه بقوله: (أعزة) . ومثله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، فإنه لو اقتصر على أشداء لتوهم أنه لغلظهم. (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) . (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) . فقوله: (وهم لا يشعرون) - احترايس لئلا يتوهَّم نسبة الظلم إلى سليمان. ومثله: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) . وكذا: (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فالجملة الوسطى احتراس لئلا يتوهم أن التكذيب في نفس الأمر. قال في عروس الأفراح: فإن قلت: كلّ من ذلك أفاد معنى جديداً، فلا يكون إطنابا. قلت: هو إطناب لما قبله من حيث رفع توهّم غيره، وإن كان له معنى في نفسه. النوع الثامن عشر: التتميم : وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم غير المراد بفَضْلةٍ تفيد نكتة، كالمبالغة في قوله: (ويُطعِمُون الطعامَ على حُبِّه) ، أي مع حب الطعام أي اشتهائه، فإن الإطعام حينئذ أكثر أجراً. ومثله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) . (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، فقوله: (وهو مُؤمِن) تتميم في غاية الحسن. النوع التاسع عشر: الاستقصاء : وهو أن يتناول المتكلم معنى يستقصيه، فيأتي بجميع عوارضه ولوازمه بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية، بحيث لم يترك بعده فيه مقالاً، كقوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ) . فإنه لو اقتصر على قوله: (جَنَّةٌ) لكان كافياً، فلم يقف عند ذلك حتى قال في تفسيرها: (مِنْ نخيل وأعناب) ، فإنَّ مصاب صاحبها بها أعظم، ثم زاد: تجري من تحتها الأنهار - متمماً لوصفها بذلك، ثم كمل وصفها بعد التتميمين، فقال: (لهُ فيها مِنْ كلِّ الثمرات) ، فأتى بكل ما يكون في الجنان ليشتد الأسفُ على إفسادها. ثم قال في وصف صاحبها: وأصابه الكبر، ثم استقصى المعنى في ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر: (وله ذُرّيةٌ ضُعَفاء) . ولم يقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 عند ذلك حتى وصف الذرية بالضعف، ثم ذكر استئصال الجنة التي ليس لهذا المصاب غيرها بالهلاك في أسرع وقت، حيث قال: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) . ولم يقتصر على ذكره للعلم بانه لا يحصل به سرعةُ الهلاك، فقال: (فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) . ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر باحتراقها، لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفي بإحراقها لما فيها من الأنهار ورطوبة الأشجار، فاحترس عن هذا الاحتمال بقوله: (فَاحْتَرَقَتْ) . فهذا أحسنُ استقصاء وقع في كلام وأتمه وأكمله. قال ابنُ أبي الإصبع: والفرقُ بين الاستقصاء والتتميم والتكميل أن التتميم يَرِدُ على المعنى الناقص ليتم. والتكميل يرد على المعنى التام فيكمل أوصافه. والاستقصاء يرِدُ على المعنى التام الكامل فيستقصي لوازمَه وعوارضه وأسبابه وأوصافه حتى يستوعب جميع ما تقع الخواطر عليه فلا يبقى لأحد فيه مساغ. النوع العشرون: الاعتراض : وسماه قُدامه التفاتاً، وهو الإتيان بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب أثناء كلام أو كلامين اتصلا معنى لنكتة غير رَفْع الإيهام، كقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) . فقوله: (سبحانه) اعتراض لتنزيه الله عن البنات والشناعة على فاعليها. وقوله تعالى: (لتدخلنَّ المسجدَ الحرامَ إنْ شاء اللهُ آمنين) . فجملة الاستثناء اعتراض للتبرك. ومن وقوعه بأكثر من جملة: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) . فقوله: (نِسَاؤُكُمْ) متصل بقوله: فأتوهن، لأنه بيان له، وما بينهما اعتراض للحثّ على الطهارة وتجنب الأدبار. وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . فيه اعتراض بثلاث جمل، وهي (وَغِيضَ الْمَاءُ) ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قال في الأقصى القريب: ونكتته إفادة أن هذا الأمرَ واقع بين القولين لا محالة، ولو أتى به آخراً لكان الظاهر تأخيره، فبتوسُّطه ظهر كونه غير متأخر، ثم فيه اعتراض في اعتراض، فإن: (وقُضِي الأمر) معترض بين وغيض. واستوت، لأن الاستواء يحصل عقب الغَيْض. وقوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) . إلى قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ) فيه اعتراض بسبع جمل إذا أعرب حالا منه. ومن وقوع اعتراض في اعتراض: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) . اعترض بين القسم وجوابه بقوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) ، وبين القسم وصفته بقوله: (لَوْ تَعْلَمُونَ) ، تعظيما للمقسَم به، وتحقيقاً لإجلاله، وإعلاماً لهم بأن له عظمةً لا يعلمونها. قال الطيبي في التبيان: ووجه حسن الاعتراض حسنُ الإفادة مع مجيئه مجيء ما لا يُترقب، فيكون كالحسنة تأتيك من حيث لا تحتسب. النوع الحادي والعشرون: التعليل : وفائدته التقرير والأبلغية، فإن النفوس أبعثُ على قبول الأحكام المعلَّلة من غيرها، وغالبُ التعليل في القرآن على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى، وحروفه: اللام، وإنَّ، وأنَّ، وإذ، والباء، وكي، ومن، ولعل. وتأتي إن شاء الله في حروف المعجم. ومما يقتضي التعليل لفظ الحكمة، كقوله: (حِكمَةٌ بالغة) . وذكر الغاية من الخلق، نحو: (جعل لكمُ الأرضَ فِراشاً والسماءَ بِنَاءً) . (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) . ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه) وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي نوع. وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة. وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل والمناسبات والفواتح والخواتم وفي الوَجْه الذي قبل هذا ما لا مزيدَ لذكره. ونذكر هنا بعضَها لتطَّلِع بذلك على أسرار هذا الكلام الذي أعجز عقول ذوي الأفهام عن إدراك عجائبه التي لا تنقضي، لأنه في أحسن نظام، فإن أيقظ المتكلم به أحدَ هذه الأمة المحمدية للنظر في هذا الكتاب فلا يغفل عن أجرة الدلال الموصل له هذه الذخائر التي يعجز عنها كثير من الطلاب - بالدعاء له بمجاورة الموصّل لنا هذا بعد الصلاة والسلام عليه وعلى جميع الآل والأصحاب. وإن لم يفتح الله له جملة - وهذا ظني لوصف الخلق بأوصاف البَطَلة - فنرده إلى الله ورسوله، ونسأله بمعاقد العز مِنْ عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه واسمه الأعظم أن يجعله لنا وجميع ما ألَّفْنا وقاية وشفيعا من جميع المكلاره ديناً ودنيا، لأنه وليّ ذلك والقادر عليه. فمن ألقاب علوم البديع: الإيهام: ويدعى التّورية: أن يُذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك، أو التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز: أحدهما قريب والآخر بعيد، وئقصد البعيد وئورّى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع في أول وهلة. قال الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطفَ من التورية، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله. قال: ومن أمثلته: (الرحمنُ على العرش اسْتَوَى) ، فإنَّ الاستواء على معنيين: الاستقرار في المكان - وهو المعنى القريب المورَّى به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والثاني الاستيلاء والملك، وهذا المعنى البعيد المقصود الذي ورّى عنه بالقريب المذكور. انتهى. وهذه التورية تسمى مجردة، لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورَّى به ولا المورَّى عنه. ومنها ما تسمى مرشَّحة، وهي التي ذُكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا. كقوله تعالى: (والسماء بَنَيْنَاها بأيْدٍ) ، فإنه يحتمل الجارحة وهو المورَّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البُنْيان. ويحتمل القدرة والقوة، وهو البعيد المقصود. وقال ابن أبي الإصبع في كتابه الإعجاز: ومنها: (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي ضَلاَلِكَ القديم) . فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمله أولادُ يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب. (فاليَوْمَ ننَجِّيك بِبَدَنِكَ) . على تفسيره بالدرع، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد البعيد وهو الجسد، قال: ومن ذلك قوله تعالى - بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) . ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت النصارى إلى المشرق كانت قبلةُ الإسلام وسطاً بين القبلتين، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، أي خياراً، فظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين - صدق على لفظة " وسط " ها هنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين. ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية. قلت: وهي مرشحة بلازم الموري عنه، وهو قوله: (لتكونوا شهداءَ على الناس) ، فإنه من لوازم كونهم خِيَاراً، أى عدولا، والإتيان قبله من قسم المجردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وفي ذلك قوله: (والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَان) ، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا ساق له من النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية. ونقلتُ من خط شيخ الإسلام ابن حَجَر أن التّوْرِية في القرآن قوله تعالى: (وما أرسلْنَاكَ إلاَّ كافةً للناس) ، فإن كافة بمعنى مانع، أي يكفُّهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد جامعة، أي جميعاً، لكن منع مِنْ حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول رأيت جميعاً الناس لا تقول رأيت كافة الناس. ومنها الاستخدام، وهو والتورية أشرفُ أنواع البديع، وهما سيّان، بل فضَّله بعضهم عليها، وله فيه عبارتان: إحداهما: أن ئؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى بضميره مرادآَ به المعنى الآخر، وهذه طريقة السكاكي وأتباعه. والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يُفهم من أحدهما أحد المعنيين. ومن الآخر الآخر، وهذه طريقةُ بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليه ابن أبي الإصبع، ومثّل له بقوله تعالى: (للِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) . فلفظ كتاب يحتمل الأمَدَ المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظُ (أجل) يخدم المعنى الأول، " ويمحو " يخدم المعنى الثاني. ومثّل غيره بقوله تعالى: (لا تقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى) . فالصلاةُ يُحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها. وقوله تعالى: (حتى تعلَمُوا ما تَقُولون) ، يخدم الأولى، و (إلاَّ عابِري سبيل) يخدم الثاني. قال: ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي. قلت: وقد استخرجتُ بفكري آيات على طريقته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 منها قوله: (أتَى أمْرُ اللهِ) . فأمر الله يُراد به قيام الساعة والعذاب وبعثة - صلى الله عليه وسلم -، وقد أريد بلفظه الأخير، كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: (أتى أمْرُ اللهِ) - قال: محمد، وأعيد الضمير عليه في (تستعجلوه) مُراداً به قيام الساعة والعذاب. ومنها - وقد أريد بلفظه أظهرها - قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) .، فإن المراد به آدم، ثم أعيد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) . ومنها قوله تعالى: (لا تسألُوا عن أشياءَ إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال. (قد سألها قوم مِنْ قَبْلكم) . أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سألوا عنها، فَنُهُوا عن سؤالها. ومنها الالتفات ، وهو نقل الكلام من أسلوب، إلى آخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور. وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فما حقُّه التعبير بغيره. وله فوائد، منها: تَطْرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجَر والملل، لِمَا جُبِلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على مِنْوَال واحد. هذه فائدته العامة. ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله كما سنبيِّنُه. مثالُه من التكلم إلى الخطاب، ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالواجهة - قولُه تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) . الأصل: وإليه أرجع. فالتفت من التكلُّم إلى الخطاب. ونكتته أنه أخرج الكلام في موضع مُنَاصحته لنفسه، وهو يريد نُصْحَ قومه تلطفاً وإعلاماً أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت لكونهم في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا جعلوا هذه الآية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الالتفات، وفيه نظر، لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبارَ عن نفسه في كلا الجملتين، وهنا ليس كذلك، لجواز أن يريد بقوله: (وإليه ترجعون) المخاطبين لا نفْسه. وأجيب بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكارى، لأن رجوع العَبْد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يُعيده غير ذلك الراجع، فالمعنى كيف لا أعبد من إليه رُجوعي، وإنما عدل عن "وإليه أرجع" إلى: (وإليه ترجعون) . لأنه داخل فيهم، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي تنبيههم على أنه مثلُهم في وجوب عبادة مَنْ إليه الرجوع. ومن أمثلته أيضاً قوله: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ) . ومثاله من التكلم إلى الغَيْبَةِ - ووَجْهه أن يفهم السامع أن هذا غلَطَ المتكلم وقَصْده من السامع حضر أو غاب، وأنه في كلامه ليس ممن يتلوّن ويتوجه ويبدي في الغيبة خلافَ ما يبديه في الحضور - قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) . والأصل ليغفر لك. (إنا أعطيناكَ الكوْثَر فصَل لربِّك) والأصل لنا. (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) . والأصل منا. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . والأصل وبي، وعدل عنه لنُكتَتين: إحداهما دفْعُ التهمة عن نفسه بالعصبية لها. والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتّباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوّة. ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثَّل له بعضهم بقوله: (فاقْضِ ما أنْتَ قاض) . ثم قال: (إنا آمنّا بربِّنا) . وهذا المثال لا يصح، لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحداً. ومثاله من الخطاب إلى الغيبة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) . والأصل بكم، ونكتةُ العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجّبُ من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل: ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، فلو كان: وجَرَيْن بكم للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص. قلت: ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكسَ ذلك، وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - قال: ذكر الحديثَ عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجَرَيْنَ بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجَرَيْن بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته. فلله درُّ السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يَدْأب المتأخرون فيها زماناً طويلاً، ويُفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أنْ يحومُوا حول الحمى. ومما ذُكر في توجيههم أيضاً أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاكَ وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورُهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية. ومن أمثلته أيضاً: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) . (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ) . والأصل عليكم، ثم قال: (وأنْتُم فيها خالدون) ، فكرر الالتفات. ومثاله من الغَيْبَة إلى التكلم: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ) . (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ... إلى قوله: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَ) . ثم التفت ثانياً إلى الغيبة فقال: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . وعلى قراءة الحسن ليريه - بالغيبة يكون التفاتاً ثانياً من (باركنا) . وفي آياتنا التفات ثالث، وفي إنه التفات رابع. قال الزمخشري: فائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد. ومثاله من الغيبة إلى الخطاب: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) . (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) . (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً) . (إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) . ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة، فإنَّ العَبْدَ إذا ذكر الله تعالى وحْدَه، ثم ذكر صفاته التي كلُّ صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها: (مالكِ يوْم الدين) ، المفيد أنه مالك للأمر كله في يوم الجزاء - يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دَفعه على خطاب مَنْ هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات. وقيل: إنما اختير لفظُ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة، لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده، فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب، لينسبَ إلى العظيم حالَ المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة، وذلك على طريق التأدب. وعلى نحوٍ من ذلك جاء آخر السورة. فقال: (الذين أنعمْتَ عليهم) ، مصرِّحاً بذكر المنْعِم وإسناد الإنعام إليه لفظاً، ولم يقل صراط المنعم عليهم. فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظاً، وجاء باللفظ منحرفاً عن ذكر الغاضب، فلم يقل: غير الذين غضبت عليهم، تأدباً عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة. وقيل: إنه لما ذكر الحَقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 رب العالمين، ورحماناً ورحيما، ومالكا ليوم الدين - تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبوداً دون غيره، مستعاناً به، فخُوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة، تعظيما لشأنه، حتى كأنه قيل: إياك يا مَنْ هذه صفاته نَخُص بالعبادة والاستعانة، لا غيرك. قيل: ومن لطائفه التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبةُ منهم عنه سبحانه. وقصوركم عن محاضرته ومخاطبته، وقيامُ حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له وتوسّلوا للقرب بالثناء عليه، وأقرّوا بالمحامد له، وتعبَّدوا له بما يليق بهم - تأهلوا لمخاطبته ومناجاته، فقالوا: إياكَ نعبدُ وإياك نستعين. تنبيهات : الأول: شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقَل إليه عائداً في نفس الأمر إلى المنْتَقل عنه، وإلا يلزم عليه أن يكون في: أنت صديقي - التفات. الثاني: شرطه أن يكون في جملتين، صرح به صاحب الكشاف وغيره. الثالث: ذكر التنوخي في الأقصى القريب، وابن الأثير وغيرهما، نوعاً غريباً من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه، كقوله: (غير المغضوب عليهم) بعد (أنعمتَ) ، فإن المعني غير الذين غضبتَ عليهم. وتوقّف فيه صاحب عروس الأفراح. الرابع: قال ابن أبي الإصبع: جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جدّاً لم أظفر في الشعر بمثاله، وهو أن يقدم المتكلم في كلامه مذكورين مرتين، ثم يخبر عن الأول منهما، وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني، ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، كقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) . انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربه تعالى، ثم قال منصرفاً عن الإخبار عن ربه إلى الإخبار عن نفسه: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قال: وهذا يحسن أن يسمَّى التفات الضمائر. الخامس: يقرب من الالتفات نَقْلُ الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى الخطاب الآخر، ذكره التنوخي وابن الأثير، وهو ستة أقسام أيضاً: مثاله من الواحد إلى الاثنين: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) . وإلى الجمع: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) . ومن الاثنين إلى الواحد: (فمَنْ ربُّكما يا موسى) . (فلا يُخْرِجنّكُمَا مِنَ الجنة فتَشْقَى) . وإلى الجمع: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) . ومن الجمع إلى الواحد: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) . وإلى الاثنين: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) ... إلى قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . السادس: ويقرب منه أيضاً - الالتفات من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر: مثاله من الماضي إلى المضارع: (أرْسل الريَاحَ فتُثِير سَحَاباً) . (خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْ) . (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) . وإلى الأمر: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) الحج: 130. ومن المضارع إلى الماضي: (ويوم يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزع) . (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وإلى الأمر (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) . ومن الأمر إلى الماضي: (واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهيم مُصلى وعَهدْنا) . وإلى المضارع: (وأنْ أقِيمُوا الصلاَةَ واتَّقُوه وهو الذي إليه تُحْشَرون) . الإطراد وهو أن يذكر المتكم أسماء آباء المدوح مرتبة على حكم ترتيبها في الولادة. قال ابنُ أبي الإصبع: ومنه في القرآن قوله تعالى - حكاية عن يوسف: (واتّبعْتُ ملّةَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ) - قال: وإنما لم يأت به على الترتيب الألوف، فإن العادة الابتداء بالأب ثم بالجد ثم الجد الأعلى، لأنه لم يُرد هنا مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة، ثم بمن أخذها عنه أولاً فأولاً على الترتيب. ومثله قول أولاد يعقوب: (نَعْبُد إلهكَ وإلهَ آبائك إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاق) . الانسجام هو أن يكون الكلام لخلوّه عن العَقَدةِ متحدّراً كتحدّر الماء المنسجم، ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقّةْ. والقرآن كله كذلك. قال أهل البديع: وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة بلا قصد، لقوة انسجامه. ومن ذلك ما وقع في القرآن موزوناً، فمنه من بحر الطويل: (فَمنْ شاءَ فليُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فلْيَكفُر) . ومن المديد: (واصْنَعِ الفُلكَ بأعْيُننا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ومن البسيط: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) . ومن الوافر: (ويُخْزِهم ويَنْصُرْكُم عليهم ويَشْفِ صدُورَ قوم مُؤْمنين) . ومن الكامل: (واللهُ يَهْدِي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم) . ومن الهزَج: (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) . ومن الرَّجَز: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) . ومن الرمَل: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) . ومن السريع: (أو كالّذِي مَرّ على قَرْيةٍ وهي خاوِيةٌ على عُروشها) . ومن المنْسَرح: (إنّا خلَقْنَا الإنسانَ مِنْ نُطْفَة أمْشَاج نَبْتَلِيه) . ومن الخفيف: (لا يَكَادُون يَفْقَهُون حديثاً) . ومن المضارع: (يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) . ومن المقتضب: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) . ومن الْمُجْتَث: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) . ومن المتقارب: (وأُمْلِي لهم إنَّ كَيْدِي مَتِين) . الإدماج قال ابن أبي الإصبع: هو أن يدمج المتكلم غرضاً في غرض، أو بديعاً في بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين، كقوله: (وله الحَمْدُ في الأولى والآخِرة) . أدمجت المطابقة في المبالغة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لأن انفراده تعالى بالحمد في الآخرة - وهي الوقت الذي لا يُحْمد فيه سواه - مبالغةٌ في الوصف بالانفراد بالحمد، وهو وإنْ خرج مخرج المبالغة في الظاهر فالأمرُ فيه حقيقة في الباطن، فإنه ربّ الحمد والمنفرد به في الدارين. انتهى. قلت: والأوْلى في هذه أن يقال: إن الآية من إدماج غرض في غرض، فإن الغرض منها تفرّده تعالى بوصف الحمد، فأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء. الافتنان هو الإتيان في كلام بفتنين مختلفين، كالجمع بين الفخر والتعزية في قوله (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) . فإنه تعالى عزَّى جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وسائر أصناف ما هو قابل للحياة، وتمدّح بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر لفظات، مع وصفه تعالى ذاتَه وانفراده بالبقاء بالجلال والإكرام سبحانه. ومنه: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) . جمع فيها بين هناء وعزاء. الاقتدار هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور، اقتداراً منه على نظم الكلام وتركيبه، وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض، فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة، وتارة في صورة الإرداف، وحينا في مخرج الإيجاز، ومرة في قالب الحقيقة. قال ابن أبي الإصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن، فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة وقوالبَ من الألفاظ متعددة، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولا بد أن تجد الفرقَ بين صورها ظاهراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى الأول: أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضاً، بأن يقرَن الغريب بمثله. والمتداوَل بمثله، رعاية الفاصلة لحسن الجواب والمناسبة. والثاني: أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخما كانت ألفاظه فخمة، أو جزلاً فجزلة، أو غريباً فغريبة، أو متداولة فمتداولة، أو متوسطاً بين الغرابة والاستعمال فكذلك. فالأول كقوله تعالى: (تاللهِ تَفْتَأ تذكرُ يوسفَ حتى تكونَ حَرَضاً) . أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالاً، وأبعدُ من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن " تزال " أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً منها، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض، فاقتضى حسنُ الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة تَوَخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم. ولما أراد غير ذلك قال: (وأقسموا باللهِ جهْدَ أيمانهم) . فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها. ومن الثاني قوله تعالى: (ولا ترْكَنُوا إلى الّذينَ ظلمُوا فَتَمَّسكُم النارُ) . لما كان الركون إلى الظالم، وهو الميل إليه، والاعتماد عليه، دون مشاركته في الظلم. وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظالم، فأتى بالمَسّ الذي هو دون الإحراق والاصطلام. وقوله: (لها ما كَسَبَتْ وعَليها ما اكتسبَت) . أتى بلفظ الاكتساب المشْعِر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها. وكذا قوله: (فكبْكبُوا فيها هم والغَاوُونَ) ا. فإنه أبلغ من كبّوا للإشارة إلى أنهم يكبون كَبّاً عنيفاً فظيعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (وهم يَصْطَرِخُون فيها) . فإنه أبلغ من يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا منكراً خارجاً عن الحدّ المعتاد. (أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر) . فإنه أبلغ من قادر، للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة، وأنه لا رادّ له ولا معقّب. ومثل ذلك: (واصْطَبِرْ) ، فإنه أبلغ من اصبر. و (الرحمن) أبلغ من الرحيم، فإنه مشعر باللطف والرفق، كما أن الرحمن مشعر بالفخامة والعظمة. ومنه الفرق بين سقى وأسقى، فإن سقى لما لا كُلْفة معه في السقيا، ولذا أورده تعالى في شراب الجنة، فقال: (وسقَاهم رَبّهم شرَاباً طَهُوراً) . وأسقى لما فيه كلفة، ولهذا أورده تعالى في شراب أهل الدنيا، فقال: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) . (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) . لأن السقي في الدنيا لا يخلو من كلفة أبدًا. الاستدراك والاستثناء شرط كونهما من البديع أن يتضمّنا ضرباً من المحاسن زائداً على ما يدل عليه المعنى اللغوي، مثال الاستدراك قوله تعالى: (قالت الأعرابُ آمَنَّا قل لم تؤْمِنُوا ولكن قولُوا أسلَمْنَا) . فإنه لو اقتصر على قوله: (لم تُؤمنوا) لكان منفِّراً لهم، لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقاد إيمانا، فأوجبت البلاغة ذكْرَ الاستدراك، ليعلم أن الإيمان موافقة القلب اللسان، وإن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما، ولا يسمى إيماناً. وزاد ذلك أيضاً بقوله: (ولَمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم) . فلما تضمّن الاستدراك إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الإشكلال عُدَّ من المحاسن. ومثال الاستثناء: (فلَبِثَ فيهم ألْفَ سنةٍ إلا خمسين عاما) ، فإن الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة يمهد عذر نوح في دعائه على قومه بدعوةٍ أهلكتهم عن آخرهم، إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً لم يكن فيه من التهويل ما في الأول، لأن لفظة الألف في الأول أولُ ما يطرق السمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام. وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعد ما تقدمه وَقْعٌ يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف. الاقتناص ذكره ابن فارس: وهو أن يكون كلامٌ في سورة مقتنصا من كلام في سورة أخرى أو تلك السورة، كقوله تعالى: (وآتيْنَاه أجْرَهُ في الدنيا وإنّه في الآخرة لمِنَ الصَّالحين) . والآخرةُ دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتنصٌ من قوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) . ومنه: (ولولا نِعْمَةُ رَبّي لكنْتُ من الْمُحضَرين) . مأخوذ من قوله: (فأولئك في العذاب مُحْضَرون) . وقوله: (ويوم يقومُ الأشهاد) .، - مقتنص من أربع آيات. لأن الأشهاد أربعة: الملائكة في قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) .، والأنبياء في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) . وأمة محمد في قوله: (لتكونُوا شُهَدَاء على الناس) . والأعضاء في قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) . وقوله: (ويوم التَّنَادِ) . قرىء مخففا ومشدداً، فالأول مأخوذ من قوله: (ونادَى أصحابُ الجنةِ أصحَاب النار) . والثاني من قوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) . الإبدال هو إقامة بعض الحروف مقام بعض، وجعل منه ابن فارس: (فَانْفَلَقَ) . أي فانفرق، ولذا قال: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) . فالراء واللام يتعاقبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وعن الخليل - في قوله: (فجَاسوا خِلاَلَ الديار) . أنه أريد فحاسوا، فقامت الجيم مقام الحاء، وقد قرىء بالحاء أيضاً. وجعل منه الفارسي: (إنيْ أحبَبْتُ حُبَّ الخير) ، أي الخيل. وجعل منه أبو عبيدة: (إلاّ مُكاءً وتَصْدِية) .، أي تصددة. تاكيد المدح بما يشبه الذم قال ابن أبي الإصبع: هو في غاية العِزَّة في القرآن. قال: ولم أجد منه إلا آية واحدة، وهي قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) . فإن الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان - يوهم أن ما يأتي بعده مما يوجب أن ينقم على فاعله، مما يُذَم به، فلما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مَدْحَ فاعله كان الكلام متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم. قلت: ونظيرها قوله: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) . وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) . فإن ظاهر الاستثناء أن ما بعده حق يقتضي الإخراج. فلما كان صفةَ مدح تقتضي الإكرام لا الإخراج كان تأكيداً للمدح بما يشبه الذم. وجعل منه التنوخي في الأقصى القريب: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) . استثنى (سَلَامًا سَلَامًا) الذي هو ضد اللغو والتأثيم، فكان ذلك مؤكداً لانتفاء اللغو والتأثيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 التفويف هو إتيان المتكلم بِمَعَان شتى، من المدح، والوصف، وغير ذلك من الفنون. كلّ فن في جملة منفصلةٍ عن أختها، مع تساوي الجمل في الزِّنَة، ويكون في الجمل المتوسطة والطويلة والقصيرة. فمن الطويلة: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) . ومن المتوسطة: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) . قال ابن أبي الإصبع: ولم يأت المركب من الجمل القصيرة في القرآن. التقسيم هو استيفاء أقسام الشيء الموجودة، لا الممكنة عقلاً، نحو: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) . إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. وقوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) ، فإن العالم لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة، إما عاص ظالمَ لنفسه. وإما سابق مبادر للخيرات، وإما متوسط بينهما مقتصد فيهما. ونظيرها: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) . وكذا قوله تعالى: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) . استوفى أقسام الزمان، ولا رابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) . استوفى أقسام الْخَلْق في المشي. وقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) . استوفى جميع هيئات الذاكرين. وقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) . استوفى جميع أحوال المتزوجين، ولا خامس لها. التدبيج هو أن يذكر المتكمُ ألواناً يقصد التوريَة بها والكناية، قال ابن أبي الإصبع: كقوله: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) . قال: المراد بذلك - والله أعلم - الكنايةُ عن المشتبه والواضح من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جداً، وهي أوضح الطرق وأبْينُها، ودونها الحمراء، ودون الحمراء السوداء، كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الوضوح والظهور. ولما كانت هذه الألوانُ الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور والبياض، والطرف الأدنى في الخفاء والسواد، والأحمر بينهما على وَضْع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل عَلَم نصب للهداية منقسماً هذه القسمة - أتت الآية الكريمة منقسمةً كذلك، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم. التنكيت هو أن يقصد المتكم إلى شيء بالذكر دون غيره، مما يسد مسدَّه، لأجل نكتة في المذكور ترجِّح مجيئه على سواه، كقوله تعالى، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) . - خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وهو تعالى ربُّ كل شيء، لأن العربَ كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أي كبْشَة عَبَد الشًعْرَى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فانزل الله: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) .، التي ادَّعيتَ فيها الربوبية. التجريد هو أن ينتزع من أمرٍ ذي صفة آخر مثله، مبالغة في كمالها فيه، نحو: لي من فلان صديق حميم. جرّد من الرجل الصديق آخر مثله متّصفا بصفة الصداقة. ونحو: مررتُ بالرجل الكريم، والنَّسمة المباركة. جرَّدوا من الرجل الكريم آخر مثله متصفاً بصفة البركة، وعطفوه عليه، كأنه غيره، وهو هو. ومن أمثلته في القرآن: (لهم فيها دَارُ الْخُلْدِ) . ليس المعنى أن الجنة فيها غير دار الخلد، ودار الخلد، بل نفسها دار الخلد، فكأنه جرَّد من الدار داراً - ذكره في المحتسب. وجعل منه: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ، على أن المراد بالميت النطفة. قال الزمخشري: وقرأ عبيد بن عُمَيْر: (فكانَتْ وردةٌ كالذهان) بالرفع، بمعنى حصلت منها وردة. قال: وهو من التجريد. وقرئ أيضاً: (يرِثُني وارِثٌ مِنْ آل يَعْقُوب) . قال ابن جني: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهَبْ لي من لدنك وَلِيّاً يرثني منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثاً. التعديد هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد، وأكثرُ ما يوجد في الصفات. كقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) . الاَوة وقوله: (التائبُون العابدُون الحامِدون) . وقوله: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الترديد هو أن يورد أوصافَ الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يُدْخل فيها وصفاً زائداً، ومثَّله عبد الباقي اليمني بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا) . وبقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) . التضمين يطلق على أشياء: أحدها: إيقاع لفظٍ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز تقدم فيه. الثاني: حصول معنى فيه من غير ذكرٍ له باسم هو عبارة عنه، وهذا نوع من الإيجاز تقدم أيضاً. الثالث: تعلُّق ما بعد الفاصلة بها، وهذا مذكور في نوع الفواصل. الرابع: إدراج الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى، أو ترتيب النظم. وهذا هو النوع البديعي. قال ابن أبي الإصبع: ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا في موضعين تضمَّنا فصلين من التوراة والإنجيل: قوله: (وكتَبْنَا عليهم أن النفْسَ بالتفْسِ) . وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) . ومثلَّه ابن النقيب وغيره بإبداع حكايات المخلوقين في القرآن، كقوله تعالى - حكاية عن الملائكة: (أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماءَ) . وعن المنافقين: (أنُؤْمِن كما آمَنَ السفهاء) .. وقالت اليهود، وقالت النصارى. قال: وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الجناس هو تَشَابهُ اللفظين في اللفظ، قال في كنز البراعة: وفائدته الميل إلى الإصغاء إليه، فإن مناسبة الألفاظ تُجَدّد ميلاً وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حُمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه. وأنواع الجناس كثيرة، منها التام: بأن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئتها، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) . قيل: ولم يقع منه في القرآن سواه. واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعاً آخر، وهو: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) . وأنكر بعضهم كَوْنَ الآية الأولى من الجناس، وقال: الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، بل يكونان حقيقتين، وزمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة، فإطلاقُ الساعة على القيامة مجاز، وعلى الآخر حقيقة، وبذلك يخرج الكلام عن التجنيس، كما لو قلت: لقيت حماراً وركبت حماراً - تعني بليداً. ومنها: المصحَّف، ويسمى جناسَ الخط، بأن تختلف الحروف في النقط. كقوله: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) . ومنها: المحرّف، بأن يقع الاختلافُ في الحركات. ، كقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . ولقد اجتمع التصحيف والتحريف في قوله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ومنها: الناقص، بأن يختلفا في عدد الحروف، سواء كان الحرف المزيد أولاً أو وسطاً أو آخراً، كقوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) . (كلِي مِن كل الثَّمَرَاتِ) . ومنها: المذَيل بأن يزيد أحدهما أكثر من حرف في الآخر أو الأول، وسمى بعضهم الثاني بالمتوَّج، كقوله: (وانْظُرْ إلى إلهكَ) . (ولكنَّا كُنّا مُرْسِلين) . (مَنْ آمَنَ باللهِ) . (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) . (مُذَبْذَبِين بَيْنَ ذَلك) . ومنها: المضارع، وهو أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج، سواء كان في الأول أو الوسط أو الآخر، كقوله تعالى: (وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأَون عنه) . ومنها: اللاَّحق، بأن يختلفا بحرف غير مقارب فيه، كقوله تعالى: (ويلٌ لكلِّ هُمَزةٍ لُمَزة) . (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) . (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) . (وإذا جاءهم أمْرٌ من الأمْنِ) . ومنها: المرْفُوّ، وهو ما تركب من كلمة وبعض أخرى، كقوله: (جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ) . ومنها: اللفظي، بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية، كالضاد والظاء، كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . ومنها: تجنيس القلب، بأن يختلفا في ترتيب الحروف، نحو: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) . ومنها: تجنيس الاشتقاق، بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق، ويسمى المقتضب. نحو: (فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ) . (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) . (وجَّهْتُ وَجْهيَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومنها: تجنيس الإطلاق، بأن يجتمعا في المشابهة فقط، كقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) . (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) . (لِيُرِيَه كيف يوَارِي) . (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) . (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى ... إلى قوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) . تنبيه: لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترِك عند قوة المعنى، كقوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) . قيل: ما الحكمة في أنه لم يقل وما أنت بمصدِّق، فإنه يؤدي معناه مع رعاية التجنيس؟ وأجيب بأن في مؤمن لنا من المعنى ما ليس في مصدق، لأن معنى قولك: فلان مثلاً مصدّق لي: قال لي صدقتَ. وأما مؤمن فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن، ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن، فلذلك عبّر به. وقد زلَّ بعض الأدباء فقال في قوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) . لو قال: وتَدَعون لكان فيه مجانسة. وأجاب الإمام فخر الدين: بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكليفات، بل لأجل قوة المعاني، وجزالة الألفاظ. وأجاب غيره بأن مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ. ولو قيل: أتَدْعون وتَدَعون لوقع الالتباس على القاريء، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفاً. وهذا الجواب غير ناضج. وأجاب ابن الزّمَلْكاني بأن التجنيس تحسين، وإنما يستعمل في مقام الوعد والتوعد والإحسان لا في مقام التهويل. وأجاب الخويّي بأن " يَدع " أخص من يذَر، لأنه بمعنى ترك الشيء مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 اعتنائه بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يُختار لها مَنْ هو مؤتمن عليها. ومن ذلك الدَّعة بمعنى الراحة. وأما تذر فمعناه الترك مطلقاً، والترك مع الإعراض والرفض الكليّ. قال الراغب: يقال فلان يذَرُ الشيء: أي يقذفه لقلة الاعتداد به. ومنه الوَذْرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد بها. ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، فأريد هنا تشنيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض. انتهى. الجمع هو أن يجمع بين شيئين أو أشياء - متعددة في حكم، كقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . جمع المال والبنون في الزينة. وكذا قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) . الجمع والتفريق هو أن يجمع بين شيئين في معنى واحد ويفرق بين جهتي الإدخال. وجعل منه الطيبي قوله تعالى: (اللَهُ يَتَوفى الأنْفسَ حِيْنَ مَوْتها) . جمع النفسين في حكم التوفي، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى الأنفس التي تُقْبَض والتي لم تُقْبَض، ويمسك الأولى، ويرسل الأخرى. الجمع والتقسيم وهو جمع متعددٍ تحت حكم، ثم تقسيمه، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الجمع والتفريق والتقسيم كقوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) . فالجمع في قوله: (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، لأنها متعددة معنى، إذ النكرة في سياق النفي تعم. والتفريق في قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) . والتقسيم في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) . (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) . جع المؤتلف والمختلف هو أن يريد التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحها. ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا يُنقص الآخر، فيأتي لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) . سوَّى في الحكم والعلم، وزاد في فَضْل سليمان بالفهم. حسن النسق وهو أن يتكلم المتكلم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منها قامت بنفسها، واستقل معناها بلفظها، ومنه قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . فإنها جمل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوبِ أهل السفينة، من الإطلاق من سِجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك، من دَفْع أذاه بعد الخروج، ومنع إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقضاء المادتين الذي هو متأخر عنه قطعاً، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك مَنْ قدّر هلاكه ونجاة من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها، وخروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف، وحصول الأمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين، لإفادة أن الغرق وإن علم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه. عتاب المرء نفسه ومنه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) . وقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) . العكس هو أن يُؤْتى بكلام يقدَّم فيه جزء ويؤخَّر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، كقوله تعالى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) . (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) . (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) . (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) . (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) . وقد سئل عن الحكمة في عكس هذا اللفظ، فأجاب ابن المنيِّر بأن فائدته الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب: الحقُّ أن كل واحد من فعل المؤمنة والكافر منفيّ عنه الحل، أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة، وأما فعل الكافر فنفي عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة، فليس الكفار مورد الخطاب، بل الأئمة، ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد، فاتضح أن المؤمنة نفي عنها الحل باعتبارٍ، والكافر نفي عنه الحل باعتبارٍ. قال ابن أبي الإصبع: ومن غريب أسلوب هذا النوع: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى، لتقديم العمل في الأولى عن الإيمان، وتأخيره في الثانية عن الإسلام. ومنه نوع يسمى القلب والمقلوب المستوي، وما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن تُقرأ الكلمة من أولها إلى آخرها، كما تُقرأ من آخرها إلى أولها، كقوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) . (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) . ولا ثالث لهما في القرآن. العنوان قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غَرَض، فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جداً، وهو عنوان العلوم، بأن يُذْكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها، فمن الأول قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) . فيها عنوان قصة بلعام. ومن الثاني قوله تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) . فيها عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، فإذا نُصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكلماً بهم. وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . فيها عنوان علم الكلام، وعلم الجَدَل، وعلم الهيئة. الفرائد وهو مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها - تدل على عظم فصاحة هذا الكلام وقوة عارضته، وجزالة منطقه، وأصالة عربيته، بحيث لو أسقطت من الكلام عزّتْ على الفصحاء. ومنه: حَصْحَصَ الحقّ - في قوله: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والرفث في قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) . ولفظة "فُزِّعَ" في قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) . وخائنة في قوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) . وألفاظ كقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) . وقوله: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) . القسم هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له، أوتعظيم، أو تنويه لقدره، أو ذمٌّ لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والترقق، أو خارجاً مخرج الموعظة والزهد، كقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) . أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . أقسم سبحانه بحياة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيما لشأنه وتنويهاً بقدره. وسيأتي في وجه الأقسام أشياء تتعلق بذلك. اللف والنشر هو أن يُذكر شيئان أو أشياء إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالاً. بأن يؤتى بلفظة تشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من التقدم، ويفوّض إلى عقل السامع ردّ كل واحد إلى ما يليق به. فالإجمالي كقوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. وإنما سوع الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة. فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس. وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قلت: وقد يكون الإجمال في اللف لا في النشر، بأن يُؤْتى بمتعدد، ثم بلفظٍ يشتمل على صفة تصلح لهما، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) . على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. وقد بيّنْتهُ في أسرار التنزيل. والتفصيلي قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللفظ، كقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار. وقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) . فاللوم راجع إلى البخل، ومحسوراً راجع إلى الإسراف، لأن معناه منقطعا لا شيء عندك. وقوله: (ألم يَجِدْكَ يَتِما) ... الآيات. فإن قوله: (فأمَّا اليتيمَ فلا تقْهَر) - راجع إلى قوله: (ألم يَجدْكَ يتما فآوَى) . وقوله: (فأما السائل فلا تنهر) - راجع إلى: (ووجدَك ضالاَّ) ، فإن المراد السائل عن العلم، كما فسره مجاهد وغيره. (وأما بنعمة ربك فحدِّث) راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى) . رأيت هذا المثال في شرح الوسيط للنووي المسمى بالتنقيح. والثاني: أن يكون على عكس ترتيبه، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ... الآيات. وجعل منه جماعة قوله تعالى: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) . قالوا: متى نَصْر الله: قَوْلُ الذين آمنوا، و (ألا إن نَصْرَ الله قريب) قول الرسول. وذكر الزمخشري له قسماً آخر، كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) . قال: هذا من باب اللف، وتقديره: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار. إلا أنه فصَل بين منامكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وابتغاؤكم بالليل والنهار، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء وقع مع إقامة اللف على الاتحاد. المشاكلة ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديرا، فالأول كقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . (ومكَروا ومكَرَ اللَهُ) . فإطلاق النفس والمكر في جانب الباري تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه. وكذا قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) .. لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة. (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) . (الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) . (فيَسْخَرونَ مِنهم سَخِر اللَهُ منهم) . (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . ومثال التقديري: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) . فقوله: صبغة الله أي تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة. المزاوجة أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أو ما جرى مجراهما، كقوله: إذا ما نهى الناهي فلجّ بِيَ الْهَوَى ... أصاخَتْ إلى الواشي فلجّ بها الهجْر ومنه في القرآن: (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 المبالغة أن يذكر المتكلم وصفاً يزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده، وهي ضربان: مبالغة في الوصف، بأن يخرج إلى حد الاستحالة. ومنه: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) . و (لا يدخلون الجنّةَ حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخِياطِ) . ومبالغة في الصيغة، وصيغ المبالغة فَعْلان، كالرحمن. وفَعِيل، كالرّحيم. وفَعَّال، كالتوّاب والغَفّار والقَهّار. وفَعول، كغَفور، وشَكور، ووَدود. وفَعِل، كحذِر وأَشِر وفَرِح. وفعَال بالتخفيف، كعجاب، وبالتشديد ككلبّار. وفُعَل كلُبَد وكبَر. وفُعْلى كالعُليا، والحسنى، والشورى، والسُّوأى فائدة الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل، ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم. وفسره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف، فكأن البناء تضاعف فيه الصفة. وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن. ورجحه ابن عسكر بتقديم الرحمن عليه، وبأنه جيء به على صيغة الجمع، كعبيد، وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قُطرب إلى أنهما سواء. فائدة ذكر البرهان الرشيدي أن صفات الله تعالى التي على صفة المبالغة كلها مجاز. لأنها موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهيةٌ في الكمال لا تمكن المبالغة فيها. وأيضاً فالمبالغة تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 في صفاتٍ تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك. واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي. وقال الزركشي في البرهان: التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان: أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل. والثاني: بحسب تعدد المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين، وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى، ويرتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم - في " حكيم ": معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع. وقال في الكشاف: المبالغة في التوّاب للدلالة على كثرة مَن يتوب عليه من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزّل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه. ، قد أورد بعض الفضلاء سؤالاً على قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وهو أن قديرًا من صيغ المبالغة، فيستلزم الزيادة على معنى قادر. والزيادةُ على معنى قادر محال، إذ الإيجاد من وجد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد. وأجيب بأن المبالغة لما تعذَّر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى جموع الأفراد التي دل السياق عليها، فهي بالنسبة إلى كثرة التعلق لا الوصف. المطابقة وتسمى الطباق: الجمع بين المتضادين في الجملة، وهو قسمان: حقيقي. ومجازي. والثاني: يسمى التكلافؤ، وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق إيجاب أو سلب. فمن أمثلة ذلك: (فليضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيرا) . (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) . (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) . ومن أمثلة المجازي: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاَ فهديناه. ومن أمثلة طباق السلب: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) . ومن أمثلة المعنوي: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) . معناه إن ربنا يعلم إنا لصادقون. (جعل لكم الأرضَ فِرَاشاَ والسماء بِنَاءً) . قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رافعاً للمبنيّ قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء. ومنه نوع يسمى الطباق الخفيّ، كقوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين الماء والنار. قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن. وقال ابن المعتز: مِنْ أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: (ولكم في القِصَاصِ حَيَاة) .، لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة. ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام، وهو اقتران الشيء بما يجتمع معه في قَدْر مشترك، كقوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) . جاء بالجوع مع العري، وبابه أن يكون مع الظمأ، وبالضحَى مع الظمأ، وبابه أن يكون مع العري، لكن الجوع والعري اشتركا في الخلو، فالجوع خُلوّ البطن من الطعام. والعري خلو الظاهر من اللباس. والضحى والظمأ اشتركا في الاحتراق، فالظمأ احتراق الباطن من العطش. والضَّحى احتراق الظاهر من حر الشمس. ومنه نوع يسمى المقابلة، وهو أن يُذكر لفظان فأكثر ثم أضدادها على الترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قال ابن أبي الإصبع: والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين: أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا في ضدين فقط. والمقابلة لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة. والثاني: أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وبغيرها. قال السكاكي: ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط في الأول أمرا شرط في الثاني ضده، كقوله تعالى: (فأمّا مَنْ أعطى واتَّقَى وصدَّق بالحسنى) . قابل بين الإعطاء والبخْل، والاتقاء والاستغناء، والتصديق والتكذيب، واليسرى والعسرى، ولا جعل التيسير في الأول مشتركاً بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده - وهو التعسير - مشتركاً بين أضدادها. وقال بعضهم: المقابلة إما لواحد بواحد، وذلك قليل جدّا، كقوله تعالى: (لا تأخذه سِنَة ولا نَوْم) . أو اثنين باثنين كقوله تعالى: (فلْيَضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيراً) . أو ثلاثة بثلاثة كقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) . (واشْكُروا لي ولا تَكْفرون) . أو أربعة بأربعة كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) . أو خمسة بخمسة كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) . قابل بين بعوضة، فما فوقها. وبين فأمَّا الذين آمَنُوا والذين كفروا. وبين يضل ويهدي، وبين ينقضون وميثاقه، وبين يقطعون وأن يوصل. أو ستة بستة، كقوله تعالى: (زيًنَ للناس حبَّ الشهواتِ من النساء والبنين) . الآيات، ثم قال: (قل أونبّئكم بِخَيْر مِنْ ذلكم) . قابل الجنّات، والأنهار، والخلد، والأزواج، والتطهير، والرضوان، بإزاء النساء، والبنين، والذهب، والفضة، والخيل المسوَّمة، والأنعام، والحرث. وقسّم آخر المقابلة ثلاثة أنواع: نظيري، ونقيضي، وخلافي، مثال الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مقابلة السنَة بالنوم في الآية الأولى، فإنهما جميعاً من باب الرقاد المقابَل باليقظة في آية، (وتَحْسَبهم أَيقاظاً وهم رقود) . وهذا مثال الثاني، فإنهما نقيضان. ومثال الثالث مقابلة الشر بالرشد في قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) . فإنهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير، والرشد الغي. المواربة براء مهملة وباء موحدة: أن يقول المتكلم قولاً يتضمن الإنكار عليه، فإذا حصل الإنكار استحضر بحذْقه وجهاً من الوجوه يتخلص به، إما بتحريف كلمة، أو تصحيفها، أو زيادة أو نقص. قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى حكاية عن أكبر أولاد يعقوب: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ، فإنه قُرِئ إن ابنك يسرِّق ولم يسرق، فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرها. المراجعة قال ابن أبي الإصبع: هي أن. يحكي المتكلم مراجعةً في القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة، وأعدل سَبك، وأعذب ألفاظ، ومنه قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) . جمعت هذه القطعة - وهي بعض آية - ثلاث مراجعات فيها معاني الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، بالمنطوق والمفهوم. قلت: أحسن من هذا أن يُقال جمعت الخبر والطلب، والإثبات والنفي، والتأكيد والحذف، والبشارة والنذارة، والوعد والوعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 النزاهة هي خلوص ألفاظ الهجاء من الفحْش حتى يكون - كما قال أبو عمرو بن العلاء - وقد سئل عن أحسن الهجاء: هو الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها. ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) . ثم قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) . فإن ألفاظ ذم هؤلاء الخْبَر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقع في الهجاء من الفحش. وسائر هجاء القرآن كذلك. الإبداع بالباء الموحَّدة: وهو أن يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع. قال ابن أبي الإصبع: ولم أر في الكلام مثل قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . فإن فيها عشرين ضرباً، وهي سبع عشرة لفظة، وذلك للمناسبة التامة في (ابلعي) و (أقلعي) ، والاستعارة فيهما، والطباق بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: (يَا سَمَاءُ) ، فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في: وغيض الماء، فإنه عبر به عن معان كثيرة، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فينقص الحاصل على وَجْه الأرض من الماء. والإرداف في: (واستوت) ، والتمثيل في: (وقضي الأمر) . والتعليل، فإنَّ (غِيضَ الْمَاءُ) عِلّة الاستواء. وصحة التقسيم، فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، والماء النابع من الأرض، وغَيْض الماء الذي على ظهرها. والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهَّم أن الغرق لعمومه شمل مَن لا يستحق الهلاك، فإنَ عَدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق. وحسن النسق، وائتلاف اللفظ مع المعنى. والإيجاز، فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة. والتسهيم، لأن أول الآية يدل على آخرها. والتهذيب، لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الحروف، عليها رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب. وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء منه. والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في محلها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا مستدعاة، والانسجام. هذا ما ذكره ابن أبي الإصبع. وفي بديعة الصفيّ منها مائة وخمسون، فتأملها. ******* الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه (احتواؤه على الخبر والإنشاء) وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما، وأنه ليس له قسم ثالث. وادعى قوم انقسامه إلى خبر وطلب وإنشاء، قالوا: لأن الكلام إما أن يحتمل التصديق والتكذيب أم لا: الأول الخبر، والثاني إن اقترن معناه بلفظه فهو الإنشاء، وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهو الطلب. والمحققون على دخول الطلب في الإنشاء، وأن معنى " اضْرِبْ " مثلاً - وهو طلب الضرب - مقترن بلفظه. وأما الضرب الذي يوجد بعد ذلك فهو متعلق الطلب لا نفسه. وقد اختلف الناس في حد الخبر، فقيل: لا يحد لعسْره. وقيل: لأنه ضروري، لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة، ورجَّحه الإمام في المحصول. والأكثر على حدّه، فقال القاضي أبو بكر والمعتزلة: الخبر الذي يدخله الصدق والكذب، فأورِد عليه خبر الله تعالى، فإنه لا يكون إلاَّ صادقاً. ، أجاب القاضي بأنه يصح دخوله لغة. وقيل: الذي يدخله التصديق والتكذيب، وهو سالم من الإيراد المذكور. وقال أبو الحسن البصري: كلام يفيد بنفسه نسبة، فأورِد عليه نحو: قمْ، فإنه يدخل في الحد، لأن القيام منسوب والطلب منسوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وٍ قيل: الكلام المفيد بنفسه إضافةَ أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتا. وقيل: القول المقتضي بتصريحه نسبةَ معلوم إلى معلوم بالنفي أو الإثبات. وقال بعض المتأخرين: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام، والخبر خلافه. وقال مَنْ جعل الأقسام ثلاثة: الكلام إن أفاد بالوضع طلباً فلا يخلو إما أن يطلب ذكر الماهية، أو تحصيلها، أو الكفّ عنها، والأول الاستفهام. والثاني الأمر. والثالث النهي. وإن لم يفِدْ طلباً بالوضع فإن لم يحتمل الصدق والكذب سمِّيَ تنبيهاً وإنشاء، لأنك نبَّهْتَ به على مقصودك، وأَنشأته، أي ابتكرته، من غير أن يكون موجوداً في الخارج، سواء أفاد طلباً لازماً، كالتمنّي والترجّي والنداء والقسم، أم لا، كأنتِ طالق، وإن احتملهما من حيث هو فهو الخبر. فصل القصد بالخبر إفادة المخاطب. وقد يرد بمعنى الأمر، نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) . (والمطَلَّقاث يَتَرَبّصْنَ) . وبمعنى النهي، نحو: (لا يمَسّه إلا المطَهَّرون) . وبمعنى الدعاء، نحو: (وإياك نَستَعِين) . ومنه: (تَبتْ يَدَا أبي لهَب) ، فإنه دعاء عليه. وكذا: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) . (غلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قَالوا) . وجعل منه قوم: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) . قالوا: هو دعاء عليهم بضيق صدورهم عن قتال أحَد. ونازع ابن العريي في قولهم: إن الخبر يرد بمعنى الأمر أو النهي، فقال في قوله تعالى: (فلا رَفَثَ ولا فسوق) ، - ليس نفياً لوجود الرفث، بل لنفي مشروعيته، فإن الرفث يوجد من بعض الناس، وأخبار الله لا يجوز أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً، كقوله: (والمطَلَّقَات يترتصْنَ) ، ومعناه مشروعاً لا محسوساً. فإنا نجد مطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسّي. وكذا: (لا يمسهُ إلا المطهَّرون) ، أي لا يمسه أحد منهم شرعاً، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع. قال: وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء، فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي وما وُجِد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة متباينان وضعاً. انتهى. فرع من أقسامه على الأصح التعجب. قال ابن فارس: وهو تفضيل لشيء على أضرابه. وقال ابن الصائغ: استعظام صفة، خرج بها المتعجَّب منه عن نظائره. وقال الزمخشري: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقال الرّماني: المطلوب في التعجب الإبهام، لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لم يُعرف سببه، فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن. قال: وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه. والصيغة الدالة عليه تسمى تعجباً مجازاً، قال: ومن أجل الإبهام لم تعمل " نعم " إلا في الجنس من أجل التفخيم، ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر. تم قد وضعوا للتعجب صيغاً من لفظه، وهي ما أفعل، وأفعل به، وصيغاً من غير لفظه، نحو (كَبر) ، كقوله تعالى: (كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم) . (كبر مَقْتاً عند الله) . (كيف تكفرونَ بالله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قاعدة قال المحققون: إذا ورد التعجب من الله صرِف إلى المخاطب، كقوله تعالى: (فما أَصْبَرَهم على النار) ، أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم. وإنما لا يوصف تعالى بالتعجب، لأنه استعظام يصحبه الجهل، وهو تعالى منزه عن ذلك، ولهذا تُعَبِّر جماعة بالتعجيب بدله، أي أنه تعجيب من الله للمخاطبين. ونظير هذا مجيء الدعاء والترجي منه تعالى، إنما هو بالنظر إلى ما تفهمه العرب، أي هؤلاء مما يجب أن يقال لهم: عندكم هذا. ولهذا قال سيبويه في قوله تعالى: (لعله يتذكّر أو يَخْشَى) . المعنى اذهبا على رجائكما وطمعكما. وفي قوله: (وَيْلٌ للمطفّفين) . (ويْلٌ يومئذٍ للمكذِّبين) . لا نقول هذا دعاء، لأن الكلام بذلك قبيح، ولكن العرب إنما تكلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنونه، فكأنه قيل لهم: "ويل للمطففين "، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلَكة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة. فرع من أقسام الخبر الوعد والوعيد، نحو: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) . (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . وفي كلام ابن قتيبة ما يوهم أنه إنشاء. فرع من أقسام الخبر النفي، بل هو شطر الكلام كله. والفرق بينه وبين الجَحْد أن النافي إن كان صادقاَ سمّي كلامه نفياً، ولا يسمى جحداً. وإن كان كاذباً سمي نفياً وجحداً أيضاً، فكل جحد نفي، وليس كل نفي جحداً. ذكره أبو جعفر النحاس وابن الشجَري وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 مثال النفي: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) . ومثال الجَحْد نفي فرعون وقومه آيات موسى، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . وأدوات النفي: لا، ولات، وليس، وما، وإنْ، ولم، ولمَّا، وستأتي في حروف المعجم. ونورد هنا فائدة زائدة، قال الخُوَيّي: أصل أدوات النفي لا، وما، لأن النفي إما في الماضي وإما في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبدًا، ولا أخفّ من ما، فوضعوا الأخف للأكثر. ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيًا واحدًا مستمرا، أو نفياً فيه أحكام متعددة، وكذلك النفي في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام. واختاروا له أربع كلمات: ما، ولم، ولن، ولا، فأما إن ولمّا فليسا بأصلين، فما ولا في الماضي والمستقبل متقابلان. ولم كأنه مأخوذ من لا وما، لأن لم نفي للاستقبال لفظا والمضِيّ معنى، فأخذ اللام من لا التي هي لنفي المستقبل والميم من " ما "التي هي لنفي الماضي، وجمع بينهما إشارة إلى أن في "لم " إشارة إلى المستقبل والماضي، وقدم اللام على اليم إشارة إلى أن " لا " هي أصل النفي، ولهذا يُنفى بها في أثناء الكلام، فيقال لم يفعل زيد ولا عمرو. أما لما فتركيب بعد تركيب، كأنه قال: لم وما لتوكيد معنى النفي في الماضي. وتفيد الاستقبال أيضاً، ولهذا تفيد لما الاستمرار. تنبيهات الأول: زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصافِ النفي عنه بذلك الشيء، وهو مردود بقوله: (وما ربّك بغافل عما يعملون) . (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) . (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ، ونظائره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا. وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه. الثاني: نفي الذاتِ الموصوفة قد يكون نفيًا للصفة دون الذات، وقد يكون نفياً للذات أيضاً. من الأول: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) . أي بل هم جسد يأكلونه. ومن الثاني: (لا يسألونَ النَّاسَ إلحافاً) . أي لا سؤال لهم أصلاً، فلا يحصل منهم إلحاف. (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) . أي لا شفيع لهم أصلاً. (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) . أي لا شافعين لهم تنفعهم شفاعتهم، بدليل: (فما لنا من شافعِين) . ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه. وعبارة ابن رشيق في تفسيره: أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفي ما هو من سببه، كوصفه، وهو المنفي في الباطن. وعبارة غيره: أن تنفي الشيء مقيداً والمراد نفيه مطلقاً مبالغة في النفي وتأكيداً له. ومنه: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ، فإن الإله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، فإن قَتْلهم لا يكون إلا بغير حق. (رفَع السماواتِ بغير عَمَدٍ ترونها) . فإنها لا عمد لها أصلاً. الثالث: قد ينفي الشيء أصلاً لعدم كمال وصفه، أو انتفاء ثمرته، كقوله في صفة أهل النار: (لا يموت فيها ولا يحيىَ) . فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة. (وتَرَاهم ينْظُرون إليكَ وهم لا يُبْصرون) . فإن المعزلة احتجّوا بها على نفي الرؤية، فإن النظر في قوله: (إلى رَبِّها نَاظِرة) ، لا يستلزم الإبصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وردّ بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) . فإنه وصفهم أولاً بالعلم على سبيل التوكيد القَسَمِي، تم نفاه آخراً عنهم لعدم جريهم على موجب العلم، قاله السكاكي. الرابع: المجاز. قالوا: يصح نفيه بخلاف الحقيقة. وأشكل على ذلك: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) . فإن المنفي فيه الحقيقة. وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتَّب عليه، وهو وصوله إلى الكفار، فالوارد عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة، والتقدير: وما رميت خلقاً إذ رميت كسباً. أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداءً. الخامس: نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان، وقد يراد به نفي الامتناع، وقد يراد به الوقوع بمشقَّة وكلفة. من الأول: (فلا يستطيعون تَوْصِيَةً) . (فلا يستطيعون ردَّها) . (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) . ومن الثاني: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) . على القراءتين، أي هل يفعل، أو هل تجيبنا إلى أن نسأل، فقد علموا أنَ الله قادر على الإنزال، وأن عيسى قادر على السؤال. ومن الثالث: (إنك لن تَسْتَطِيع مَعِي صَبْرا) . قاعدة نفى العام يدل على نفي الخاص، وثبوتُه لا يدل على ثبوته، وثبوث الخاص يدل على ثبوت العام، ونفيه لايدل على نفيه. ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسنَ من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام. فالأول كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 (فلمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذهب اللَّهُ بِنورِهم) ، ولم يقل بضوئهم بعد قوله: أضاءت، لأن النور أعم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير. ولذلك قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) . ففي الضوء دلالةٌ على النور، فهو أخص منه، فعدمه يوجب عدم الضوء بخلاف العكس. والقصدُ إزالة النور منه أصلاً، ولذلك قال عَقِبَه: (وتركهم في ظلمات لا يُبْصِرون) . ومنه: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) ، ولم يقل ضلال، كما قالوا: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) . لأنها أعم منه، فكان أبلغ في نفي الضلال. وعبَّر عن هذا بأن نَفْيَ الواحد يلزم منه نفي الجنس ألبتَّة، وبأن نفي الأدنى يلزم منه نفي الأعلى. والثاني كقوله: (وجَنَّةٍ عَرْضها السماوات والأرضُ) . - ولم يقل طولها، لأن العرض أخصّ، إذ كلّ ما له عَرْض فله طول ولا ينعكس. ونظير هذه القاعدة أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل. وقد أشكل على هذا آيتان: قوله تعالى: (وما رَبُّكَ بظلاَّمٍ للعَبِيد) . وقوله: (وما كان ربك نَسِيًّا) . م وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة: أحدها: أن ظلاّماً، وإن كان لِلْكثرة، جيء به في مقابلة العبيد الذي هو جَمْع كثرة، ويرشّحه أنه تعالى قال: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، فقابل صيغة فعَّال بالجمع. وقال في آية أخرى: (عَالِم الغَيْبِ) - فقابل صيغة فاعل الدال على أصل الفعل بالواحد. الثاني: أنه نفَى الظلم الكثير، فينتفي القليلُ ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نَفْعه فلأن يترك القليل أولى. الثالث: أنه على النسبة، أي بذي ظلم. حكاه ابنُ مالك عن المحققين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الرابع: أنه أتى بمعنى فاعل لا كثرة فيه. الخامس: أن أقلَّ القليل لو ورد منه تعالى لكان كثيراً، كما يقال: زَلّة العالم كبيرة. السادس: أنه أراد ليس بظالم، ليس بظالم، تأكيدا للنفي، فعبّر عن ذلك بقوله: ليس بظلام. السابع: أنه أراد جواباً لمن قال: ظلاَّم، والتكرار إذا ورد جواباً لكلامٍ خاصّ لم يكن له مفهوم. الثامن: أن صيغة المبالغة وغيرها من صفات الله سواء في الإثبات، فجرى النفي على ذلك. التاسع: أنه قصد التعريض بأن ثَمَّ ظلاّماً للعَبِيد مِنْ وُلاَة الْجَوْر. ويجاب عن الثانية بهذه الأجوبة، وبعاشر - وهو مناسبة رؤوس الآيات. فائدة قال صاحب الياقوتة: قال ثعلب والمبرد: العرب إذا جاءت بين الكلامين بجَحْدَيْن كان الكلام إخباراً، نحو: (وما جعَلْنَاهمْ جَسداً لا يأكلونَ الطَّعَامَ) . المعنى إنا جعلناهم جسداً يأكلون الطعام. وإذا كان الجحد في أول الكلام كان جَحْدا حقيقياً، نحو: ما زيد بخارج. وإذا كان في أول الكلام جَحدان كان أحدهما زائداً، وعليه: (فِيمَا إنْ مكنّاكم فيه) ، في أحد الأقوال. فصل من أقسام الإنشاء الاستفهام، وهو طلب الْفَهم، وهو بمعنى الاستخبار. وقيل الاستخبار ما سيق أولاً ولم يفهم حقَّ الفهم، فإذا سألت عنه ثانياً كان استفهاماً، حكاه ابن فارس في فقه اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأدواته: الهمز ة، وهل، وما، ومَنْ، وأيّ، وكم، وكيف، وأين، وأنّى، ومتى، وأيّان، وستأتي في حروف المعجم. قال ابن مالك في المصباح: وما عدا الهمزة نائب عنها، ولكونه طلب ارتسام صورة ما في الخارج في الذهن لزم أن يكون حقيقة من شاكّ مصدق بإمكان الإعلام، فإن غير الشاكّ إذا استفهم يلزم عليه تحصيلُ الحاصل، وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت عنه فائدة الاستفهام. قال بعض الأئمة: وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام فإنما يقع في خطاب الله تعالى على معنى أن المخاطَبَ عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل. وقد تُستعمل صيغة الاستفهام في غيره مجازاً. وألّف في ذلك العلامة شمس الدين بن الصائغ كتاباً سماه " روض الأفهام في أقسام الاستفهام ". قال فيه: قد توسّعَتِ العرب فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعان أو أشْرَبَتْة تلك المعاني. ولا يختص التجوُّز في ذلك بالهمزة خلافاً للصفّار. الأول: الإنكار، والمعنى فيه على النفي، وما بعده منفي، ولذلك تصحبه " إلا "، كقوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) . (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) . وعطف عليه المنفي كقوله: (فمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضلَّ اللَّهُ وما لهم مِنْ ناصِرين) ، أي لا يهدي. ومنه: (أَنؤْمِن لك واتّبعك الأرْذَلون) . (أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْن مِثلنا) . أي لا نؤمن. (أمْ لَهُ البناتُ ولكمُ البَنُون) . (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) . أي لا يكون هذا. (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، أي ما شهدوا ذلك. وكثيراً ما يصحبه التكذيب، وهو في الماضي بمعنى لم يكن، وفي المستقبل بمعنى لا يكون، نحو: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) . أي لم يفعل ذلك. (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) . أي لا يكون هذا الإلزام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الثاني: التوبيخ، وجعله بعضهم من قبيل الإنكار، إلا أن الأول إنكار إبطال، وهذا الإنكار توبيخ. والمعنى أن ما بعده واقع جدير بأن يُنفى، فالنفي هنا قصديّ، والإثبات قصدي، عكس ما تقدم. ويعبر عن ذلك بالتقريع أيضاً، نحو: (أفعصَيْتَ أمْرِي) . (أتَعْبُدونَ ما تنْحِتُون) . (أتَدْغونَ بَعْلاً وتَذَرُون أحسنَ الخالقين) . وأكثر ما يقع التوبيخ في أمر ثابت وبِّخَ على فعله، كما يقع على ترك فعل ينبغي أن يقع، كقوله: (أوَلمْ نعَمِّرْكم ما يَتَذكّر فيه مَنْ تَذَكَّر) . (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) . الثالث: التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده. قال ابن جني: ولا يستعمل ذلك بهل، كما يستعمل بغيرها من أدوات الاستفهام. وقال الكندي: ذهب كثير من العلماء في قوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إلى أنَّ (هل) تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ، إلا أني رأيت أبا عليٍّ أنكر ذلك، وهو معذور، فإن ذلك من قبيل الإنكار. ونقل أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بهل، إنما يستعمل في الهمزة. ثم نقل عن بعضهم أن (هل) تأتي تقريراً كما في قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) . والكلام مع التقرير موجب، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب، ويعطف على صريح الموجب. فالأول: كقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) . (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) . (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) . والثاني: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ، على ما قرره الجرجاني من جعلها مثل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار. والإنكار تفْيٌ، وقد دخل على النفي، ونفي النفي إثبات. ومن أمثلته: (ألَيْسَ الله بكافٍ عَبْدَه) . (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) . وجعل منه الزمخشري: (ألم تعلم أنَّ اللهَ على كل شيء قدير) . الرابع: التعجب أو التعجيب، نحو: (كيف تَكْفرونَ باللَّهِ) . (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) . وقد اجتمع هذا القِسْم وسابقاه في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) . قال الزمخشري: الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. ويحتمل التعجبَ والاستفهام الحقيقي: (ما وَلاَّهم عن قِبْلَتِهمْ) . الخامس: العتاب، كقوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) . قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامهم وبين أن عوتبوا بهذه الآية إلا أربع سنين. أخرجه الحاكم. ومن ألطف ما عاتب الله به خَيْرَ خلقه بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، ولم يتأدّب الزمخشريُّ بأدب الله في هذه الآية على عادته في سوء أدبه. السادس: التذكير. وفيه نوع اختصار، كقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) . (ألم أَقلْ لكم إني أعلم غَيْبَ السماواتِ والأرضِ) . (هل علمْتم ما فعلْتم بيوسف وأخيه) . السابع: الافتخار، نحو: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) . الثامن: التفخيم، نحو: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 التاسع: التهويل والتخويف، نحو: (الحاقّة ما الحاقة) . (القارعةُ ما القارِعة) . العاشر: عكسه، وهو التسهيل والتخفيف، نحو: (وماذَا عليهم لو آمَنُوا) . الحادي عشر: التهديد والوعيد، نحو: (ألم نُهْلِكِ الأوّلين) . الثاني عشر: التكثير، نحو: (فكأيِّن مِنْ قَرْيةٍ أهلكناها) . الثالث عشر: التسوية، وهو الاستفهام الداخل على جملة يصح حلول الصدر محلها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) . الرابع عشر: الأمر، نحو: (أأسْلَمْتُم) ، أي أسلموا. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، أي انتهوا. (أتصبرون) ، أي اصْبِروا. الخامس عشر: التنبيه، وهو من أقسام الأمر، نحو: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ، أي انظر. (ألم تَرَ أن الله أنزل من السماء ماء فتُصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) . ذكره صاحب الكشاف عن سيبويه، ولذلك رفع الفعل في جوابه. وجعل منه قوم: (فأين تذهبون) ، للتنبيه على الضلال، وكذا: (ومَنْ يَرْغَبُ عن ملّة إبراهيم إلاَّ مَنْ سفِهَ نَفْسَه) . السادس عشر: الترغيب، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يُقْرِضُ اللَهَ قَرْضاً حَسَناً) . (هل أدلكم على تجارةٍ تنْجِيكم) . السابع عشر: النهي، نحو: (أتَخْشَوْنَهُم فاللَهُ أحقّ أن تَخْشوه) . بدليل قوله ة (فلا تخْشَوا الناسَ واخْشَونِ) . (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ، أي لا تغتر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الثامن عشر: الدعاء، وهو كالنهي، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى، نحو: (أتهْلِكنَا بما فعل السّفَهَاءُ منّا) ، أي لا تهلكنا. التاسع عشر: الاسترشاد، نحو: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) . العشرون: التمني، نحو: (فهل لنا مِنْ شفَعاء) . الحادي والعشرون: الاستبطاء، نحو: (متى نَصْرُ الله) . الثاني والعشرون: العرض، نحو: (ألا تحِبّونَ أن يَغْفِرَ الله لكم) . الثالث والعشرون: التحضيض، نحو: (ألا تقَاتلون قَوْماً نَكَثوا أيْمَانَهم) . الرابع والعشرون: التجاهل، نحو: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) . الخامس والعشرون: التعظيم، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يَشْفَعُ عنده إلا بإذنه) . السادس والعشرون: التحقير، نحو: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) . (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) . ويحتمله وما قبله قراءة: (مَنْ فِرْعَوْن) . السابع والعشرون: الاكتفاء، نحو: (أليْسَ في جهَنَّم مَثْوًى للمتَكبِّرِين) . الثامن والعشرون: الاستبعاد، نحو: (أنَّى لهم الذِّكْرَى) . التاسع والعشرون: الإيناس، نحو ة (وما تلْكَ ييَمِينكَ يا موسى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الثلاثون: التهكم والاستهزاء، نحو: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) . (أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) . الحادي والثلاثون: التأكيد لما سبق من معنى أداة الاستفهام قبله، كقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) . قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: أي مَنْ حقّ عليه كلمة العذاب فإنك لا تنْقِذه فَمنْ للشرط، والفاء جواب الشرط، والهمزة في أفأنت معادة مؤكَّدة لطول الكلام. وهذا نوع من أنواعها. قال الزمخشري: الهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد. الثاني والثلاثون: الإخبار، نحو: (أفِي قلُوبهم مَرَضٌ أم ارْتَابُوا) . (هل أتى على الإنسان) . تنبيهات الأول: هل يقال إن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجود وانضم إليه معنى آخر، أو تجرّد عن الاستفهام بالكلية. قال في عروس الأفراح: محل نظر. والذي يظهر الأول. قال: ويساعده قول التنوخي في الأقصى القريب: إن لعل تكون للاستفهام مع بقاء الترجّي. قال: ومما يرجحه أن الاستبطاء في قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أعلم عدده، والعادة تقضي بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثُر فلم يعلمه، وفي طلب فَهْم عدده ما يُشعر بالاستبطاء. وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر، فمن تعجَّب من شيء فهو بلسان الحال سائل عن سببه، وكأنه يقول: أي شيء عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد، وقد صرح في الكشاف ببقاء الاستفهام في هذه الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأما التنبيه على الضلال فالاستفهام فيه حقيقي، لأن المعنى أين تذهب. أخبرني إلى أي مكان تذهب، فإني لا أعرف ذلك. وغاية الضلال لا يُشْعَر بها إلى أين تنتهي. وأما التقرير فإن قلنا: المراد به الحكم بثبوته فهو خبر بأنّ المذكور عَقِب الأداة واقع، أو طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم، فهو استفهام يقرر المخاطَب، أي يطلب منه أن يكون مقرًّا به، وفي كلام أهل الفن ما يقتضي الاحتمالين. والثاني أظهر. وفي الإيضاح تصريح به ولا بِدْعَ في صدور الاستفهام، ممن يعلم المستفهم منه، لأنه طلب الفهم، إما طلب فَهْم المستفهم أو وقوع فهم لمن لم يفهم كائنا من كان. وبهذا تنحلُّ إشكالات كثيرة في مواقع الاستفهام ويظهر بالتأمل بقاء معنى الاستفهام مع كل أمر من الأمور المذكورة. انتهى ملخصاً. الثاني: القاعدة أن المبهم يجب أن يَليَ الهمزة. وأشكل عليها قوله تعالى: (أَفأَصفَاكمْ رَبُّكمْ بِالْبَنِين) . فإن الذي يليها هنا الإصفاء بالبنين، وليس هو المنكر، وإنما المنكر قولهم: إنه اتخذ من الملائكة إناثا. وأجيب بأن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم، أو بأن المراد مجموع الجملتين، وينحلُّ منهما كلام واحد. والتقدير أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات. وأشكل منه قوله تعالى: (أتأمرونَ الناسَ بالبِرّ وَتنْسَوْنَ أنفسكم) . ووجْهُ الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط، كما تقتضيه القاعدة المذكورة، لأن أمر البر ليس مما ينكر، ولا نسيان النفس فقط، لأنه يصير ذكْر أمر الناس بالبر لا مدخل له، ولا مجموع الأمرين، لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر، ولا نسيان النفس بشرط الأمر، لأن النسيان منكر مطلقاً، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشدَّ منه حال عدم الأمر، لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها للطاعة، لأن جمهور العلماء على أن الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بالبِرّ واجب، وإن كان الإنسان ناسياً لنفسه وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف معصية نسيان النفس، ولا يأتي الخير بالشر. قال في عروس الأفراح: ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش. لأ بها تجعل حال الإنسان كالتناقض، وتجعل القول كالمخالف للفعل، ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل. قال: ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها مع جنسها، فيه دقَّة. فصل من أقسام الإنشَاء الأمْرُ وهو طلب فعل غير كفّ، وصيغته افعَلْ وليِفْعل. وهي حقيقة في الإيجاب، نحو: (أقيموا الصلاة) (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) . وترد مجازاً لمعان أخر، منها: الندب: نحو: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) . والإباحة، نحو: (فكاتِبوهم) . نصّ الشافعيّ على أن الأمر فيه للإباحة. ومنه: (وإذا حلَلْتمْ فاصطَادوا) . والدعاء من السافل للعالي، نحو: (رَبِّ اغْفِرْ لي) . والتهديد، نحو: (اعْمَلُوا ما شِئْتم) ، إذ ليس المرادُ الأمر بكل عمل شاءوا. والإهانة، نحو: (ذقْ إنكَ أنْتَ العزير الكريم) . والتسخير، أي التذليل، نحو: (كونوا قِردةً) . وعبَّر به عن نَقْلهم من حالة إلى حالة إذلالاً لهم، فهو أخص من الإهانة. والتعجيز، نحو: (فأتُوا بسورة منْ مِثْله) . إذ ليس المراد طلب ذلك منهم، بل إظهار عجزهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والامتنان، نحو: (كلوا مِنْ ثَمَرِه إذا أثمر) . ا والعجب، نحو: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ) . والتسوية، نحو: (فاصْبِروا أو لا تصْبِروا) . والإرشاد، نحو: (وأشْهدوا إذا تبايعْتم) . والاحتقار، نحو، (ألقوا ما أنتم مُلْقُون) . والإنذار، نحو: (قل تمتَّعوا) . والإكرام، نحو: (ادخلُوها بسلام) . والتكوين - وهو أعم من التسخير، نحو: (كن فيَكون) . والإنعام، أي تذكير النعمة، نحو: (كلُوا ممّا رزقكم الله) . والتكذيب، نحو: (قل فأتوا بالتّوْرَاةِ فاتْلُوهَا) . (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا) . والمشورة، نحو: (فانْطرْ ماذا تَرَى) . والاعتبار، نحو: (انطروا إلى ثَمَره إذا أثمر) . والتعجب، نحو: (أسْمِعْ بهم وأبْصِر) . ذكره السكاكي في استعمال الإنشاء بمعنى الخبر. فصل ومن أقسامه النهي وهو طلب الكف عن فِعْل. وصيغته " لا تَفْعَل "، وهي حقيقة في التحريم. وترد مجازاً لمعان، منها: الكراهة: نحو: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والدعاء، نحو: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) . والإرشاد، نحو: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) . والتسوية، نحو: (فاصْبِروا او لا تَصْبِروا) . والاحتقار والتقليل، نحو: (ولا تَمدَّنّ عينَيْكَ) . أي فهو قليل حقير. وبيان العاقبة، نحو: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) . أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت. واليَأس، نحو: (لا تَعتَذِروا اليومَ) . والإهانة، نحو: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) . فصل ومن أقسامه التمني وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة، ولا يشترط إمكان التمنَّى بخلاف المترجَّى، لكن نُوزع في تسمية تَمَنِّي المحال طلباً، بأن ما لا يتوقَّع كيف يُطلب. قال في عروس الأفراح: فالأحسن ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمني والترجي والنداء والقسم ليس فيها طلب، بل هو تنبيه. ولا بِدْع في تسميته إنشاء. انتهى. وقد بالغ قوم فجعلوا التمنَي من أقسام الخبر، وأن معناه النفي، والزمخشري ممن جزم بخلافه، تم استشكل دخول التكذيب في جوابه في قوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ... إلى قوله: (وإنَّهم لكاذِبون) . وأجاب بتضمّنه معنى العِدة فتعلق به التكذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال غيره: التمني لا يصح فيه الكذب، وإنما الكذب في التمنَّى الذي يترجح عند صاحبه وقوعه، فهو إذاً وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن، وهو خبر صحيح. قال: وليس المعنى في قوله: (وإنهم لكاذبون) أن ما تمتوا ليس بواقع، لأنه ورد في معرض الذم لهم، وليس في ذلك التمنى ذم، بل التكذيب. ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون. وحرف التمني الموضوع له (ليت) ، نحو: (يا ليتنا نُرَدُّ) . (يا ليْتَ قَوْمي يعْلَمون) . (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)) . وقد يتمنّى بهل حيث يُعْلَم فَقْدُهُ، نحو: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) . أَو بـ لَو، نحو: (فلو أنَّ لنا كَرّة فنكون) . ولذا نصِب الفعل في جوابها. وقد يُتَمنّى بـ لعل في البعيد، فيعطي حكم ليت في نَصْبِ الجواب: نحو: (لَعَلِّي أبلُغُ الأسبابَ أسبابَ السماوات فأطَّلِعَ. ومن أقسامه الترجّي نقل القَرافي في " الفُروق " الإجماع على أنه إنشاء، وفرّق بينه وبين التمني بأنه في الممكن، والتمني فيه وفي المستحيل، وبأن الترجي في القريب، والتمني في البعيد، وبأن الترجي في المتوقَّع والتمني في غيره، وبأن التمني في المعشوق للنفس، والترجي في غيره. وسمعت شيخنا الكافيجي يقول: الفرق بين التمني وبين العَرْض هو الفرق بينه وبين الترجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وحرف الترجي: لعل، وعسى، وقد ترِد مجازا لتوقع محذور، ويسمى الإشفاق، نحو: (لعل الساعةَ قَرِيب) . فصل ومن أقسامه النداء وهو طلب إقبال المدعوّ على الداعي بحرفٍ نائب مناب أدعو، ويصحب في الأكثر الأمر والنهي. والغالب تقدمه، نحو: (يا أيُّها الناسُ اعبدوا ربَّكم) . (يا عِبَادِ فاتّقون) . (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) . (ويا قَوْم استَغْفروا ربّكم) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . وقد يتأخّر، نحو: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) . وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر، نحو (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) . الحج: 73. (يا قَوْم هذه ناقةُ اللهِ لكم آيةً فذَرُوها) . وقد لا تعقبها، نحو: (يا عباَدِ لا خَوْفٌ عليكم) . (يا أيها الناس أنْتُم الفُقَرَاء) . ف (يا أبت هذا تأوِيلُ رُؤياي) . وقد تصحبه الاستفهامية، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) . (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) . (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) . وقد ترد صورة النداء لغيره مجازًا، كالإغراء والتحذير، وقد اجتمعا في قوله: (ناقةَ اللهِ وسقْيَاها) . ا والاختصاص، كقوله: (رحمةُ اللهِ وبركاتهُ عليكم أهْلَ البيت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 والتنبيه، كقوله: (أَلاَّ يسجدوا) . والتعجب، نحو: (يا حسرة على العبادِ) . والتحسّر، كقوله: (يا ليتني كنْتُ ترَابا) . قاعدة أصل النداء بـ يا أن يكون للبعيد حقيقة أو حكماً، وقد ينادى بها القريب لنكتة، منها إظهار الحرص في وقوعه على إقبال المدعوّ، نحو: (يا موسى أَقْبِل ولا تَخَفْ) . ومنها كون الخطاب المتلوّ معتنًى به، كقوله: (يا أيها الناسُ اعبُدوا ربَّكم) . ومنها قصد تعظيم شأن المدعوّ، نحو: (يا ربِّ) . وقد قال تعالى: (فإنّي قَرِيب) . ومنها قصد انحطاطه، كقول فرعون: (وإني لأظنّك يا موسى مَسْحُورا) . فائدة قال الزمخشري وغيره: كرر في القرآن النداء ب " يا أيها " دون غيره، لأن فيه أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة. منها ما في " يا " من التأكيد والتنبيه وما في " ها " من التنبيه، وما في التدرج من الإبهام في " أي " إلى التوضيح، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، " لأن " كل ما نادى الله عباده من أوامره ونواهيه، وعِظَاته وزوَاجره، ووعْدِه ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك مما أنطق الله به كتابه أمور عظام وخطوبٌ جسام، ومعان واجب عليهم أن يتيقَّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فصل ومن أقسامه القَسَم نقل القَرَافي الإجماع على أنه إنشاء، وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها عند السامع. ومن أقسامه الشرط. ******* الوجه التاسع والعشرون من وجوه إعجازه (إقسامه تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها) وقد أفرده ابن القيم في مجلد سماه " التبيان ". فإن قلت: ما معنى القسم منه تعالى، فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدِّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده. وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمراً، حتى جعلوا مثل: (والله يشهَد إنَّ المنافقين لكَاذِبون) . - قَسماً، وإن كان فيه إخبار بشهادة، لأنه لما جاء توكيداً للخبر سمي قسماً. قال أبو القاسم القشَيْري: وذلك لأن الحكم يفصَل باثنين، إما بالشهادة. وإما بالقَسَم، فذكر تعالى في كتابه النوعين، حتى لا تبقى لهم حجة، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) . وقال: (قل إي ورَبّي إنه لَحَقُّ) . وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) . صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين. ولا يكون القسم إلا باسم معظّم. وقد أقسم اللَّهُ تعالى بنفسه في القرآن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 سبعة مواضع: الآية المذكورة، بقوله: (قلْ إي ورَبّي) . (قل بلى ورَبي لتبْعَثنَّ) . (فَوَرَبِّك لنحشرَنّهمْ والشياطِينَ) . (فَوَرَبِّكَ لنسأَلَنَّهم أجمعين) . (فلا ورَبِّك لا يؤْمِنون) . (فلا اقسم بربِّ المشارِقِ والمغارب) . والباقي كله قَسَم بمخلوقاته، كقوله: (والتين والزيتون) . (والصافّات) . (والليل) . (والشمس) . (والضَّحى) . (فلا أقسم بالخنس) . فإن قيل: كيف أقسم بما يَخْلُق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟ قلت: أجيب عنه بأجوبة: أحدها: أنه على حذف مضاف، أي ورب التَين، ورب الشمس، وكذا الباقي. الثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقْسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون. الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو محبه، وهو فوقه، والله تعالى ليس شيء فوقه. فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على أنه بارئ صانع. قال ابن أبي الإصبع - في أسرار الفواتح: القَسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول من غير فاعل. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يُقسم إلا بالله. وقال العلماء: أقسم الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لَعَمْرُكَ) ، ليعرف الناس عظمتَه عند الله ومكانته لديه. أخرج ابن مَرْدويه عن ابن عباس، قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أكرم عليه من محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا سمعت الله أقسم بحياة مخلوق غيره، قال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . وقال أبو القاسم القشيري: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة، أو لمنفعة، فالفضيلة كقوله: (وطور سِينِينَ، وهذا البَلَد الأمين) والمنفعة. نحو: (والتين والزيتون) . وقال غيره: أقسم تعالى بثلاثة أشياء: بذاته كالآيات السابقة، وبفِعْله نحو: (والسماء وما بَنَاهَا، والأرْضِ وما طَحَاها، ونفس وما سوّاهَا) . وبمفعوله نحو: (والنجْم إذا هوى) . (والطور. وكتابٍ مسطور) . والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة. وإما مضمر، وهو قسمان: قَسَم دلّت عليه اللام نحو: (لتبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم) . وقسم دل عليه المعنى، نحو: (وإنْ منكم إلاَ وَارِدها) . تقديره: والله. وقال أبو علي الفارسي: الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان: أحدهما ما تكون كغيرها من الألفاظ التي ليست بقَسم، فلا تجاب بجوابه. كقوله: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) . البقرة: 63. (فيَحْلِفون له كما يَحْلِفون لكم) . وهذا ونحوه يجوز أن يكون قسماً، وأن يكون حالاً لخلوّه من الجواب. والثاني ما يتلقى بجواب القَسَم في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) . (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) . وقال غيره: أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو. فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل، كقوله: (وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم) . (يحلِفُونَ بالله) . ولا تجد الباء مع حذف الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ومِن ثَمَّ كان خطأ مَنْ جعل قسماً باللَه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) . (ادع لنا ربكَ بما عهِد عِنْدَك) . (بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) . وقال ابن القيّم: اعلم أنه سبحانه يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامُه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته. فالقَسَم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: (فَوَرَبِّ السماء والأرض إنَّه لَحق) . وإما على جملة طلبية، كقوله: (فوَرَبِّك لَنَسْألنَّهمْ أجمعين) . مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم، فالقسم عليه يُراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما نحن فيه، وذلك كالأمور الغائبة الخفيّة، إذا أقسم على ثبوتها. فأما الأمور المشهودة الظاهرة، كالشمس، والليل، والنهار، والسماء، والأرض - فهذه يقسم بها ولا يُقْسَم عليها. وما أقسم عليه الرب فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسَماً به، ولا ينعكس. وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، ويحذفه أخرى كما يحذف جواب " لو " كثيراً للعلم. ولما كان القسم يكثر في الكلام اختصر، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء، تم عوّض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة، والتاء في اسم الله، كقوله: (وتاللهِ لأَكيدَنَّ أصْنَامَكم) . قال: ثم هو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق صرفتها، وتارة يقسم على التوحيد، وتارة يُقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة على حال الإنسان. فالأول كقوله: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) ... إلى قوله: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والثاني كقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) والثالث كقوله: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) . (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) . والرابع كقوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) . (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) . والخامس كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) . (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) . (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) . (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) . (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) . قال: وأكثر ما يُحْذف الجواب إذا كان في نفس المقْسم به دلالة على القسم عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذْف المقسم عليه أبلغ وأوجز. كقوله: (ص، والقرآن ذي الذِّكر) ، فإن في المقْسَم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر - ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقاً من عند الله غير مفْتَرًى كما يقوله الكافرون، ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحقّ، وهذا مطَّرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله: (ق، والقرآن المجيد) . وقوله: (لا أقسم بيوم القيامة) ، فإنه يتضمن إثبات المعاد. وقوله: (والفجر ... ) الآيات، فإنها أزمان تتضمن أفعالاً عظيمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة لله، وذلٌّ وخضوعٌ لعظمته، وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال: ومن لطائف القسم قوله: (والضحى. والليل إذا سجَى) . أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له، وذلك متضمِّن لتصديقه له، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 قسم على صحة نبوءته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوءة والمعَاد. وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته. وتأمّل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي هو يوافي بعد ظلام الليل للمقسَم - عليه، وهو نور الوَحْي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه. ******* الوجه الثلاثون من وجوه إعجازه (اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة) وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد يبْنَى من كليات العلومات المعقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين، لأمرين: أحدهها: بسبب ما قاله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) . والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأَقلّون، ولم يكن ملْغِزاً، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خَلْقه في أجلى صورة، ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتَفْهَم الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء. وقد أفرد جدل القرآن بالتصنيف نجم الدين الطوفي. قال ابن أبي الإصبع: زعم الجاحظ أن المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن، وهو مشحون به، وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجةٍ تقطع المعاندة فيه على طريقة أرباب الكلام. ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أنَّ من أول سورة الحج إلى قوله: (وأنَّ اللَهَ يبعث مَنْ في القبور) - خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) ، لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظماً لها، وذلك مقطوع بصحته، لأنه خبر أخبر به مَنْ ثبت صِدقه عمن ثبتت قدرته، منقول إلينا بالتواتر، فهو حق، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فهو الولي. وأخبر تعالى أنه يحي الموتى، لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي يعلمها الله مِنْ أجلهم. وقد ثبت أنه قادر على كل شيء، ومن الأشياء إحياء الموتى، فهو يحي الموتى. وأخبر تعالى أنه على كل شيء قدير، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين، ومن يجادل في الله بغير علم - يذِقْه من عذاب السعير، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير، فهوعلى كل شيء قدير. وأخبر أن الساعة آتيةٌ لا رَيْبَ فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله: (لكيْلاَ يَعْلَمَ مِن بعد علم شيئاً) . وضرب لذلك مثلاً بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتزّ وتَرْبو، وتنْبِت من كل زَوْج بَهِيج. ومن خَلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت، ثم يعيده بالبعث، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمَحْل، تم أحياها بالخصب، وصدق خَبَره في ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على التوقع الغائب، حتى انقلب الخبر عيانا - صدق خبره في الإتيان بالساعة، ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث مَنْ في القبور، لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة، فهي آتية لا ريب فيها، وهو سبحانه يَبْعَث مَنْ في القبور. وقال غيره: استدل سبحانه على المعاد الجسماني بضروب: أحدها: قياس الإعادة على الابتداء، قال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) . (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى، قال: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر) . ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات. رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر. وقد روى الحاكم وغيره أن أبي بن خلف جاء بعَظْمٍ ففَتَّه، فقال: أَفَيحِيي اللهُ هذا بعد ما بليَ ورَمَّ، فأنزل الله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) . فاستدل سبحانه بردِّ النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث. ثم زاد في الحجاج بقوله: (الذي جعل لكم من الشّجَر الأخضر ناراً) . وهذه في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليها. خامسها: في قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) . وتقريرها أن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلابَ الحق في نفسه، وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه، والحقُّ في نفسه واحد، فلما ثبت أن ها هنا حقيقة موجودة لا محالة، وكان لا سبيل لنا في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفاً يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف، إذ كان الاختلاف مركوزا في فِطَرِنا، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجِبِلّة، ونقلها إلى صورة غيرها - صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة، فيها يرتفع الاختلاف والعناد، وهذه هي الحالة التي وعد الله بالمصير إليها، فقال: (ونَزَعْنَا ما في صدورِهم مِنْ غِلّ إخوانا) . فقد صار الخلاف الموجود، كما ترى، أوضح دليل على كَوْن البعث الذي ينكره المنكرون، كذا قرره ابن السيّد. ومن ذلك الاستدلال على أنَّ صانع العالم واحد، بدلالة التمانع المشار إليها في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفَسَدَتا) . لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 العَجْز يلحقهما أو أحدهما، وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض، لاستحالة تجزيء الفعل إن فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف، وإما ألا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عَجْزه، والإله لا يكون عاجزاً. فصل من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل السّبْر والتقسيم. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) . فإن الكفار لما حَرَّموا ذكورَ الأنعام تارة وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السَّبْر والتقسيم، فقال: إن الخلق لله، خلق من كل زَوْج مما ذكر ذكرأ وانثى، فمِمَّ جاء تحريم ما ذكرتم، وما علته، لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، أو لا يدرى له علة، وهو التعبّدي، بأنْ أخذ ذلك عن الله، والأخذ عن الله إما بوحْي، أو إرسال رسول، أو سماع كلامه ومشاهدة تلقّي ذلك عنه، وهو في معنى قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا) .. فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وَجْهٍ منها: والأول: يلزم عليه أن تكون جميع المذكور حراماً. والثاني: يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراماً. والثالث: يلزم عليه تحريم الصنفين معاً، فبطل ما فعلوه من تحريم بعضٍ في حالة وبعضٍ في حالة، لأن العلة، على ما ذكر، تقتضي إطلاق التحريم، والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدَّعوه، وبواسطة رسول كذلك، لأنه لم يأت إليهم رسولٌ قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدَّعَى، وهو أن ما قالوه افتراء على الله وضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ومنها القول بالموجب، قال ابن أبي الإصبع: وحقيقته ردّ كلام الْخصم من فحوى كلامه. وقال غيره: هو قسمان: أحدهما: أن تقع صفةٌ في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حُكم، فيثبتها لغير ذلك الشيء، كقوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) . فالأعزّ وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية عن فريق المؤمنين، وأثبت المنافقون لفريقهم إخراجَ المؤمنين من المدينة، فأثبت الله في الرد عليهم صفةَ العزة لغير فريقهم، وهو اللَّهُ ورسوله والمؤمنون، وكأنه قيل: صحيح ذلك ليخرجنَّ الأعز منها الأذل، لكن هم الأذل المخْرَج، والله ورسوله الأعز المُخْرِج. والثاني: حَمْل لفظٍ واقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله، بذكد متعلَّقه، ولم أر مَنْ أورد له مثالاً من القرآن. وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) . ومنها التسليم، وهو أن يفرض الْمُحال إما منفيًّا أو مشروطاً بحرف الامتناع، ليكون المذكور ممتنعَ الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلَّم وقوع ذلك تسليما جَدَلياً، ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه، كقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) . المعنى ليس مع الله من إله، ولو سلِّم أن مع الله إلهاً لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلوّ بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله. والواقع خلاف ذلك، ففَرض إلهين فصاعداً محال، لا يلزم عليه من المحال. ومنها الإسْجَال، وهو الإتيان بألفاظ تسجِّل على المخاطب وقوعَ ما خوطب به، نحو قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 (رَبّنا وأَدْخلهم جنَّاتِ عَدْن التي وعَدْتَهمْ) . فإن في ذلك إسجالاً بالإيتاء والإدخال، حيث وصِفا بالوعد من الله الذي لا يخْلِف وَعْدَه. ومنها الانتقال، وهو أن ينتقل المستدلّ إلى استدلال غير الذي كان آخذاً فيه، لكَوْن الخصم لم يفهم وَجْهَ الدلالة من الأول، كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له: (رَبِّي الذي يُحْيى ويميت) ، فقال الجبار: أنا أحيي وأميت، ثم دعا بمَنْ وجب عليه القَتْل فأعتقه، ومن لا يجب عليه القتل فقتله، فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء والإماتة، أو علم بذلك وغالط بهذا الفعل، فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد له الجبار وجهاً يتخلص به منه، فقال: (إنّ اللَهَ يَأتي بالشَّمْسِ من الْمَشْرِق فأتِ بها من المغرب) . فانقطع الجبار وبهِت، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن من هو أسنّ منه يكذبه. ومنها المناقضة، وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه. كقوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) . ومنها مجاراة الخصم ليَعثُرَ، بأن يسلم بعض مقدماته حيث يراد تبكيته وإلزامه، كقوله تعالى: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا) . فقوله: (إن نحن إلا بَشر مثلكم) فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية، فكأنهم سلموا انتفاءَ الرسالة عنهم، وليس مراداً، بل هو من مجاراة الخصم ليعثر، فكأنهم قالوا: ما ادّعيتم مِن كوننا بَشَراً حقّ لا ننكره، ولكن هذا لا ينافي أن يَمُنَّ الله علينا بالرسالة. ******* الوجه الحادي والثلاثون من وجوه إعجازه (ضَرْب الأمثَالِ فيهِ ظاهرة ومضْمَرة) وقد أفرده بالتصنيف الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله تعالى. قال تعالى: (ولقد صَرَّفْنَا للناس في هذا القرآن مِنْ كلِّ مثَلٍ) . وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وأخرج البيهقي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال. قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام. وقال غيره: وقد قال الشافعي: مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن معرفةُ ما ضُرِب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته، البينة لاجتناب معصيته. وقال الشيخ عز الدين: إنما ضَرَب الله الأمثال في القرآن تذكيراً ووعظاً، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه - فإنه يدل على الأحكام. وقال غيره: ضَرْبُ الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير. والوعظ، والحث والزجر، والاعتبار والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصوَر المعاني بصورة الأشخاص، لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس. ومن ثمَّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليِّ، والغائب بالمشاهد. وتأتي أمثال القرآن مشتملةً على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمرٍ أو إبطاله، قال تعالى: (وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمثال) ، فامتَنَّ علينا بذلك، لما تضمنت من الفوائد. قال الزركشي في البرهان: ومن حكمته تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة. وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء التوهّم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن كان صغيراً كان المتمثل به كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقال الأصبهاني: لضَرْب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثالَ والنظائر، شيء ليس بالخفيّ في إبراز خفيّات الدقائق، ورَفْع الأستار عن الحقائق، تريك به المتخيل في صورة المتحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنه مشاهد، وفي ضَرْب الأمثال تبكيتٌ للخَصْمِ الشديد الخصومة، وقمع لسَوْرَةِ الجامح الأبيّ، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكَثْرَ الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورةٌ تسمى سورة الأمثال. وفشَتْ في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كلام الأنبياء والحكماء. أمثال القرآن، قسمان: ظاهر مصرّح به، وكامِن لا ذِكْر للمثَل فيه، فمن أمثلة الأول: (مَثَلُهم كَمَثَلِ الذي استَوقَد ناراً) . ضرب الله فيها للمنافقين مثلين، مثلاً بالنار، ومثلاً بالمطر. أخرج ابن أبي حاتم وغيره، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز، كما سُلب صاحب النار ضوءه. (وتركهم في ظلمات) يقول: في عذاب. أو كصَيِّبٍ - وهو المطر - ضرب مثله في القرآن. فيه ظلماتٌ - يقول ابتلاء، ورَعْد وبرق، وتخويف. يكاد البرق يخطف أبصارهم، يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. كلما أضاء لهم مشوا فيه، يقول: كلما أصاب المنافقون في الإسلام عِزَا اطمأنّوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر. كقوله: (ومِنَ الناس مَنْ يعبُدُ اللهَ على حَرْف) . ومنها قوله تعالى: (أَنزل مِنَ السماءِ ماءً فسالَتْ أَوْدِية بِقَدَرِها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس، قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأمَّا الزَّبد فيذهب جفَاء وهو الشك، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهو اليقين، كما يجْعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار، كذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. وأخرج عن عطاء، قال: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. وأخرج عن قتادة قال: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثَل واحد، يقول: كما اضمحل هذا الزَّبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترْجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمْرَعَتْ ونمت بركَته، وأخرجت نباتها، وكذلك الذهب والفضة حين أدخل النار، وذهب خبثه، كذلك يبقى الحق لأهله. وكما اضمحل خبث هذا الذهب والفضة حين أدخل النار كذلك يضمحل الباطل عن أهله. ومنها قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) . أخرج ابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس، قال: هذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب وعملة طيب، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب. والذي خبث ضرِب مثلاً للكافر، كالبلد السبخة المالحة، والكافر هو الخبيث وعمله خبيث. ومنها قوله تعالى! (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) . أخرج البخاري، عن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيمن تَرَوْن نزلت هذه الآية: (أيَودّ أحدكم) ، قالوا: الله ورسوله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعم أو لا نعم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء. فقال: يا بن أخي، قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضرِبَتْ مثَلا لعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قال عمر: أي عمل، قال ابن عباس: لعملِ رَجل غنيّ يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله. وأما الكامنة فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل، فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: " خَيْرُ الأمور أوساطها "، قال: نعم. في أربعة مواضع: قوله: (لا فَارِضٌ ولا بِكْر عَوانٌ بيْنَ ذلك) . وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) . وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) . وقوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) . قلت: فهل تجد في كتاب الله: "مَن جهل شيئاً عاداه "، قال: نعم، في موضعين: (بل كذَّبوا بما لم يحِيطُوا بعلْمِه) . (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) . قلت: فهل تجد في كتاب الله: " احذَرْ شَرَّ من أحسنْتَ إليه "، قال: نعم: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) . قلت: فهل تجد في كتاب الله: " ليس الخبر كالعيان "، قال: في قوله: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . قلت: فهل تجد: " في الحركات البركات "، قال: في قوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) . قلت: فهل تجد: " كما تَدِين تدَان "، قال: في قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . قلت: فهل تجد فيه قولهم: " حين تَقْلِي تدري "، قال: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قلت: فهل تجد فيه: " لا يلدغ المؤمِن من جحْر مرّتين "، قال: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) . قلت: فهل تجد فيه: "من أعان ظالما سلّط عليه "، قال: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) . قلت: فهل تجد فيه قولهم: " لا تلد الحية إلا الحيَّة"، قال: (ولا يَلِدوا إلا فاجراً كَفّارا) . قلت: فهل تجد فيه قولهم: " للحيطان آذان "، قال: (وفيكم سمَّاعونَ لهم) . قلت: فهل تجد فيه قولهم: " الجاهل مرزوق والعالم محروم "، قال: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) . قلت: فهل تجد فيه: " الحلال لا يأتيك إلا قوتاً، والحرام يأتيك جُزَافاً ". قال: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) . فائدة عقد جعفر بن محمد شمس الخلافة في كتاب "الآداب " باباً في ألفاظ من القرآن جارية مَجرى المثل، وهذا هو النوع البديعي المسمَّى بإرسال المثل، وأورد من ذلك قوله سبحانه: (ليس لها مِنْ دونِ اللهِ كاشفَةٌ) . (لَنْ تنالوا البرَّ حتى تُنفقوا مما تحِبّون) . (الآن حَصْحَصَ الحقُّ) . (وضرب لنا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) . (ذلكَ بما قَدّمَتْ يَدَاك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) . (أَلَيْسَ الصّبْحُ بقَرِيب) . (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) . (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) . (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) . (قلْ كلِّّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِه) . (وعسى أنْ تكرهُوا شيئاً وهو خَيْرٌ لكم) . (كلّ نَفْسٍ بما كسبَتْ رَهِينَة) . (ما على الرسول إلاّ البلاغ) . (ما على المحسنين مِنْ سَبيل) . (هل جزَاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) . (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) . (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) . (تحسَبُهم جميعاً وقلوبُهم شتّى) . (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) . (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) . (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) . (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) . (لا يكلَفُ اللهُ نَفساً إلاَّ وُسعَها) . (لا يستوي الخبيثُ والطّيِّب) . (ظَهَرَ الفساد في البر والبحر) . (ضَعُفَ الطالبُ والمطْلُوب) (لمِثْل هذا فلْيَعْمَلِ العامِلُون) . (وقلِيلٌ ما هُمْ) . (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) . في ألفاظ أخر. ******* الوجه الثاني والثلاثون من وجوه إعجازه (ما فيه من الآيات الجامعة للرَّجاء والعدْل والتَخْويف) فتارة يرجّي وتارة يخوّف قال السِّلَفي في المختار من الطيوريات: عن الشعبي، قال: لقي عُمر بن الخطاب رَكْباً في سفر فيهم ابن مسعود، فأمر رجلاً يُناديهم من أين القوم، قالوا: أقبلنا من الفَجّ العَمِيق نريد البيت العتيق. فقال عمر: إن فيهم لعالماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فأمر رجلاً أن يناديهم: أيّ القرآن أفضل، فأجاب عبد الله: (الله لا إلهَ إلا هو الحيّ القَيّوم) . قال: نادهم أي القرآن أحكم، فقال ابن مسعود: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . قال: نادِهم أيّ القرآن أجمع، قال: (فمن يَعْمًلْ مِثْقال ذَرّة خيرا يرَه، ومَنْ يعمل مثقالَ ذَرّةٍ شرّاً يَرَه) . قال: فنادهم أي القرآن أحزن، فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . قال: فنادهم أي القرآن أَرْجَى، فقال: (قل يا عبادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقْنَطوا من رَحْمَةِ اللهِ) . فقال: أفيكم ابن مسعود، فقالوا: نعم. أخرجه عبد الرزاق في تفسيره بنحوه. وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن ابن مسعود، قال: أعدل آية في القرآن: (إنَّ اللَهَ يأمر بالعَدْل والإحسان) . وأحكم آية: (فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خيراً يَره) . وأخرج الحاكم أنه قال: إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن للخير والشر: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . وأخرج الطبراني عنه، قال: ما في القرآن آية أعظم فَرَجا من آيةٍ في سورة الغرَف: (قلْ يا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم) . وما في القرآن آية أكثر تفويضاً من آيةٍ في سورة النساء القصْرى: (ومَن يتوكَلْ عَلَى الله فهو حَسْبه) . وأخرج أبو ذرّ الهروي في فضائل القرآن، من طريق يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ أعظم آية في القرآن: (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ) . وأعدل آية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . وأخوف آية: (فمن يَعمَلْ مثقالَ ذَرَّة خيراً يَرَه) . وأرجى آية: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) . وقد اختلف في أَرْجَى آيةٍ في القرآن، فقيل: هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وقال ابن عباس: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . قال: فرضي منه بقوله: بلى، فهذا لما يعترض في الصَّدْر مما يوسوس به الشيطان. وقال أبو نعيم في الحِلْية، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) . ، لكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: (ولسوفَ يعْطِيك رَبك فتَرْضَى) . وهي الشفاعة. وأخرج الواحدي، عن علي بن الحسين، قال: أشد آية على أهل النار: (فذوقوا فلَنْ نزِيدَكم إلاَّ عذَاباً) . وأرجى آية في القرآن لأهل التوحيد: (إن اللَهَ لا يَغْفِر أن يُشرَكَ به) . وأخرج مسلم في صحيحه، عن ابن المبارك، أيّما آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) ، إلى قوله: (ألا تحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لكم) ، لأنه أَوصى بالإحسان إلى القاذف، وعاتب حبيبه على عدم الإحسان إليه، فقال: (ألا تحِبّون أن يغفر اللَّهُ لكم) ، أي كما تحبون أن يغفر الله لكم كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم. ولما نزلت قال أبو بكر: إني لأحب أن يغفر الله لي، ثم ردَّ النفقة التي كان ينفق على مِسْطَح إليه، وكفَّر عن يمينه. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، عن أبي عثمان النَّهْدي، قال: ما في القرآن أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ) ، لأن عسى من الله لما يُرجى أن يتحقق وقوعُه. وقال أبو جعفر النحاس: إن قوله تعالى: (فهل يهْلَكُ إلاَّ القَوْم الفاسِقون) . أرجى آية، إلا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) ، ولم يقل على إحسانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وروى الهروي في مناقب الشافعي، عن ابن عبد الحكم، قال: سألت الشافعيّ أي آية أرجى، قال: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) . وسألتُه عن أرجى حديث للمؤمن، قال: إذا كان يوم القيامة يدفع لكل مسلم رجلٌ من الكفار فِدَاؤه. وحكى الكَرْمَاني في كتاب العجائب أن أرجى آية: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) . وحكى النووي - في رؤوس المسائل - أن أرجى آية: (قل كلّ يعمَل على شاكلته) . (وهَلْ نجازِي إلاَّ الكَفُور) . (وما أصابَكمْ مِنْ مُصيبةٍ فَبِمَا كسبَت أيديكم ويَعْفو عن كَثير) . وفي مسند أحمد عن علي بن أبي طالب، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) . وسأفسرها لك يا عليٌّ: ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثنّي العقوبة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عَفْوه. وقال الشبْلي: أرجى آية: (قل للذين كَفَروا إنْ ينْتَهوا يُغْفَرْ لهم ما قَدْ سلَف) ، لأنه إذا أذن للكافر بدخول الباب إذا أتى بالتوحيد والشهادة أفتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها. وقيل: إن قوله تعالى: (غافر الذَّنْب وقَابل التَّوْب شديد العقاب ذي الطَوْل) . لتعقيب هذا الوعيد العظيم بوعد كريم، وهكذا رحمة الله عزّ وجَلّ تغلب غضبه. وهذه كالآية الأخرى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وحكى الثعلي عن أهل الإشارة أنه تعالى غافر الذنب فَضْلاً، وقابل التوب وَعْداً، شديد العقاب عَدْلاً. فإن قلت: ما بال الواو في قوله: (وقابل التَّوْب) ، قلت: فيها نكتة جليلة. وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تُقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها ممحاة للذنوب كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. وحكى الطبري عن أبي عيّاش أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه، فقال: إني قتلتُ نفساً فهل لي من توبة، فقال: نعم، افعل ولا تيأس. ثم قرأ هذه الآية إلى قوله: (غافر الذنب وقابل التَّوْب) . وروي أنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل: له تتابع في هذا الشراب. فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذّنْبِ وقَابلِ التَّوْب) ... إلى قوله: (إليه المَصِير) . وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر مَنْ عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني. قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذّرَني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع، وحسنتْ توبته. فلما بلغ عمر أمْرُه قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه، ووقِّفوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه. أخذ ذلك من الحديث الذي أمر - صلى الله عليه وسلم - برجمه فقالوا: أخزاه الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: هَلاَ قلتم اللهم اغفر له! لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم. وقيل: أرجى آيةٍ آية الدَّيْن، ووجهه أنَّ اللهَ أرشد عبادَه إلى مصالحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الدنيوية، حتى انتهت العنايةْ بمصالحهم إلى أمرهم بكتابة الدين الكثير والحقير، فمقتضى ذلك ترجّي عَفْوه عنهم، لظهور العناية العظيمة بهم. قلت: ويلحق بهذا ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن مسعود، أنه ذكر عنده بنو إسرائيل وما فضّلهم الله به، فقال: كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح وقد كتبت كفّارته على أسكفَّةِ بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولاً تقولونه، تستغفرون الله فيغفر لكم. والذي نفسي به، لقد أعطانا الله آية لهي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) . وما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن ابن عباس، قال: ثماني آيات في سورة النساء هنَّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: أولهن: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) . والثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) . والثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) . والرابعة: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) . والخامسة: (إنَّ الله لا يظلم مِثْقالَ ذَرّة) . والسادسة: (ومنْ يَعْمَل سُوءاً أَؤ يَظْلِم نَفْسَه ثم يستَغْفر اللهَ) . والسابعة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . والثامنة: (والذين آمَنُوا بالله ورسله ولم يفرِّقُوا بين أحدٍ منهم) . وما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: سئل ابن عباس: أيّ آية أرخص في كتاب الله، قال: قوله تعالى: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا) . أشد آية: أخرج ابن راهويه في مسنده، أخبرنا أبو عامر العَقَدي، حدثنا عبد الجليل بن عطية، عن محمد بن المنتشر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: إني لأعرف أشد آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدِّرّة، فقال: مالك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فنَقّبْت عنها حتى علمتها، ما هي، قال: (مَنْ يعمل سوءاً يُجْزَ به) . فما منّا أحد يعمل سوءاً إلا جوزي به. فقال عمر: لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب، حتى أنزل الله بعد ذلك ورخّص: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: سألت أبا بَرْزَة الأسلمي عن أشدّ آية في كتاب الله على أهل النار، قال: (فذوقوا فلَنْ نَزيدكم إلا عَذَاباً) . وفي صحيح البخاري، عن سفيان، قال: ما في القرآن آية أشد على عباده من: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) . وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن أشد توبيخاً من هذه الآية: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) . وأخرج ابن المبارك، في كتاب الزهد، عن الضحاك بن مزاحم في قول الله: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) . قال: والله ما في القرآن آية أَخوف عندي منها. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: ما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية كانت أشد عليه من قوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) . وأخرج ابن المنذر، عن ابن سيرين، قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وعن أبي حنيفة: أخوف آية في القرآن: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) . وقال غيره: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . ولهذا قال بعضهم: لو سمعتُ هذه الكلمة من خفير الحارة لم أنم. وفي النوادر لأبي زيد: قال مالك: أشدّ آية على أهل الأهواء قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) . وتأوَلها على أهل الأهواء. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما على مَن يجادل في الله: (ما يجادِل في آيات الله إلا الذين كفروا) . (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شِقَاق بَعِيد) . وقال بعضهم: إن الله تعالى أنزل على نبيه خمس آيات لو لم تكن إلا واحدة لكان ينبغي لنا ألا نأكل ولا نشرب، أولها قوله تعالى: (أمْ حَسِب الذين اجتَرَحُوا السيِّئات) . والثانية قوله تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . والثالثة: (أفمَنْ كان مؤمناً كمَنْ كان فاسِقاً) . والرابعة: (أفَحَسِبْتُم أنما خَلَقْناكم عَبَثا) . والخامسة: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . وقال السعيدي: سورة الحجً من أعاجيب القرآن، فيها مكيّ ومدنيّ. وحضري وسفري، وليلي ونهاري، وحربي وسلمي، وناسخ ومنسوخ. فالمكيّ من رأس الثلاثين إلى آخرها، والمدني من رأس خمس عشرة إلى رأس الثلاثين، والليلي خمس آيات من أولها، والنهاري من رأس تسع آيات إلى رأس اثنتي عشرة آية. والحضري إلى رأس العشرين. قلت: والسفري أولها. والناسخ: (اذِن للّذِين يقَاتلون بأنهم ظُلِمُوا) . والمنسوخ: (الله يحكمُ بينكم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 نسختها آية السيف. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) . نسختها: (سنُقْرِئك فلا تَنْسى) . وقال الكرماني: ذكر المفسرون أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهَادةُ بينكم) . مِنْ أشكل آية في القرآن حكماً ومعنى وإعراباً. وقال غيره: قوله تعالى: (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زِينتكم عند كلّ مَسجد) . جعت أصولَ أحكام الشريعة كلها: الأمر والنهي، والإباحة والخبر. وقال الكرماني في العجائب في قوله تعالى: (نحن نقصّ عليكَ أحسنَ القصص) . قيل هو قصة يوسف، وسماها أحسن القصص لاشتمالها على ذكر حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحَبْس وإطلاق، وسجن وخلاص، وخصب وجَدْب، وفيها مما يعجز عن بيانها طوق الخَلْق. وقال: ذكر أبو عبيدة عن رؤبة: ما في القرآن أغرب من قوله: (فاصْدَعْ بما تُؤْمَر) . وقال ابن خالويه في كتاب " ليس ": ليس في كلام العرب لفظ جمع لغات ما النافية إلا حرف واحد في القرآن جمع اللغات الثلاث، وهي قوله تعالى: (ما هنَّ امَّهاتِهم) قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ بعضهم بالرفع، وقرأ ابن مسعود ما هن بأمهاتهم - بأبناء. قال: وليس في القرآن لفظ على افعوعل إلا في قراءة ابن عباس: (ألا إنهم تثْنَوْني صدورهم) هود: هـ. وقال بعضهم: أطول سورة في القرآن البقرة، وأقصرها الكوثر، وأطول آية فيه آية الدَّين، وأقصر آية فيه: والضحى، والفجر. وأطول كلمة فيه رسما فأَسْقَيْنَاكموه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفي القرآن آيتان جمعت كلّ منهما حروف العجم: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) .. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . وليس فيه حاء بعد حاء بلا حاجز إلا في موضعين: (عقدة النكاح حتى) ، (لا أبرح حَتَّى) . ولا كَافَانِ كذلك إلا: (ما سَلَكَكم) ، (مناسككم) . ولا غينان كذلك إلا: (ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دينا) . ولا آية فيها ثلاث وعشرون كافاً إلا آيةَ الدَّين. ولا آيتان فيهما ثلاثة عشر وقفا إلا آية المواريث. ولا ثلاث آيات فيها عشر واوات إلا: والعصر ... إلى آخرها. ولا سورة إحدى وخمسون آية فيها اثنان وخمسون وقفاً إلا سورة الرحمن. ذكر أكثر ذلك ابن خالويه. وقال أبو عبد الله الخَبّازي المقرئ: أول ما وردت على السلطان محمود بن ملكشاه سألني عن آية أولها غين. فقلت: ثلاث: (غافر الذنب) . وآيتان بخلف: (غير المغضوب عليهم) و (غُلِبت الروم) . ونقلت من خط شيخ الإسلام ابن حَجر في القرآن أربع شدات متواليات: في قوله: (نَسِيّا. رَبّ السماوات) (في بَحْرِ لُجِّي يَغْشَاه مَوْج) . (قولاً مِنْ ربٍّ رَحيم) (ولقد زينّا السماء) . ******* الوجه الثالث والثلاثون من وجوه إعجازه (ورود آيات مُبهمة يحِيرُ العقل فيها) وقد أفرده بالتأليف السهَيْليّ، ثم ابن عسكر، ثم القاضي بدر الدين ابن جماعة، ولي فيه تأليف لطيف، وكان من السلف من يعتني به كثيراً: ومرجعه للنقل المحض، وسأذكر ما يَسّر الله بعد أن تعلم أن للإبهام أسباباً: أحدها: الاستغناء ببيانه في موضع آخر، كقوله: (صِرَاطَ الذين أنعمتَ عليهم) ، فإنه مبيّن في قوله: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الثاني: أن يتعين لاشتهاره، كقوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) . ولم يقل حوّاء، لأنه ليس له غيرها. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) . فالمراد نُمْرود لشهرة اسمه، لأنه المرسل إليه. وقد ذكر الله في القرآن فرعون باسمه ولم يسم نُمْزود، لأن فرعون أذكى منه، كما يؤخذ من أجوبته لموسى. ونمرود كان بليداً، ولهذا قال: (أنا أحي وأمِيت) ، وفعل ما فعل من قتل شخص والعفو عن آخر، وذلك غاية البلادة. الثالث: قَصْد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه، نحو: (ومِنَ الناسِ مَنْ يعجِبك قوله في الحياة الدُّنيا) . وهو الأخْنس بن شَرِيق، وقد أسلم بعد وحسن إسلامه. الرابع، ألا يكون في تعيينه كبير فائدة، نحو: (أوْ كالّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيةٍ) . (واسألْهم عن القرية) . الخامس: التنبيه على العموم، وأنه غير خاصّ، بخلاف ما لو عيِّن، نحو: (ومَنْ يَخْرج مِنْ بَيْتهِ مهَاجِرا إلى الله ورَسُولِه) . قال عِكْرِمة: طلبته أربع عشرة سنة. السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم، نحو: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) . (والذي جاء بالضَدْق وصَدّقَ به) . (إذ يقول لصاحبه) . والمراد الصّدَيق في الكل. السابع: تحقيره بالوصف الناقص، نحو: (إنّ شانِئكَ هو الأبْتَر) . قال الزركشي في البرهان: لا أبحث عن مبْهم أخبر الله باستئثاره بعلمه. كقوله: (وآخَرِين مِنْ دونهم لا تَعلمونهم اللَّهُ يَعْلَمُهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قال: والعجب ممّن تجرّأ وقال: إنهم قُريظة، أو من الجنّ. قلت: ليس في الآية ما يدل على أن جنسهم لا يعلم، وإنما المنفي علم أعيانهم، ولا ينافيه العلم بكونهم من قريظة أو من الجن، وهو نظير قولهم في المنافقين: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) . فإن المنفيّ عِلْم أعيانهم، ثم القول في أولئك إنهم قريظة أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، والقول بأنهم من الجن أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن غريب عن أبيه، مرفوعاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا جرأة. ذِكرُ ما أبهم من رجل أو امرأة أو ملَك أو جِنّي أو مثَنى أو مجموع عرف أسماء كلهم، أو مَنْ، أو الذي إذا لم يرد به العموم: قوله تعالى: (إنّي جاعلٌ في الأرْضِ خليفة) . هو آدم وزوجه حوّاء بالمد، لأنها خلقت منه. (وإذْ قَتَلْتم تفْساً) . اسمه عاميل. (وابْعَثْ فيهم رَسُولا مِنْهُم) ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم - (ووصى بها إبراهيم بَنِيه) ،: هم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمْران وسرح ونفش ونفشان وأميم وكَيْسان وسَوْرَح ولوطان ونافش. " الأسباطُ " أولاد يعقوب اثنا عشر رجلاً: يوسف، وروبيل، وشمعون. ولاوي، ويهوذا، وحابي، ونَفْتَالي - بفاء ومثناة، وكاد وأشير وايساجر وريالون وبنيامن. (ومِنَ الناسِ مَنْ يُعْجِبكَ قوله) ،: هو الأخنس بن شَرِيق. (ومِنَ الناس مَنْ يَشْرِي نفْسَه) ،: هو صهَيْب. (إذ قالوا لنَبّي لهم) ، هو شمعون. وقيل يوشع. (مِنْهمْ مَنْ كلّم الله) ،: قال مجاهد: موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - (الذي حَاجَّ إبراهيمَ في ربّه) ، نُمرود بن كنعان. (أو كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَة) ، عُزير. وقيل أرمياء: وقيل حَزْقيل. (امرأة عِمْران) ،: حنّة بنت فاخوذ. (وامرأَتي عاقِر) ،: هي أشياع أو أشيع بنت فاخوذ. (مُنَادِياً يُنَادي للإيمان) ،: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. (الطاغوت) ، قال ابن عباس: هو كعب بن الأشرف، أخرجه أحمد. (وإن مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) ،: هو عبد الله بن أبيّ. (ولا تَقولُوا لِمَنْ ألقَى إليكم السّلاَم) ،: هو عامر بن الأضبط الأشجعي. وقيل مرداس. والقائل ذلك نفر من المسلمين فيهم أبو قَتَادة والمحلم بن جَثّامَة. وقيل إنَّ الذي باشر القول محلم. وقيل: إنه الذي باشر قتله أيضاً. وقيل قتله المِقْداد بن الأسود، وقيل أسامة بن زيد. (ومَنْ يخرُجْ من بَيْتِهِ مُهَاجِرا) ،: هو ضَمْرة بن جنْدب. وقيل ابن العِيص. وقيل رجل من خزاعة. وقيل أبو ضمرة بن العِيص. وقيل اسمه سَبْرة. وقيل هو خالد بن حزام، وهو غريب جداً. (وبعثنا منهم اثْنَي عشر نَقِيبا) ،: هم شموع بن زكور من سبط روبيل، وشوقط بن حورا من سبط شمعون، وكالب بن يوفنّا من سبط يهوذا، وبعرك بن يوسف من سبط اشاجرة، ويوشع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، وبلطا بن روفا من سبط بنيامن، وكرابيل بن سوط من سبط زبالون، وكدا بن سوسان من سبط منشا بن يوسف، وعماييل بن كسل من سبط دان، وسَتُور بن ميخاييل من سبط أشير، ويوحنا بن وقوس من سبط نفتالي، وإيل بن نوخا من سبط كاذلوا. (قال رَجُلاَن) ،: هما يوشع وكالوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 (نبأ ابني آدَم) : هما قابيل وهابيل، وهو المقتول. (الذي آتيْنَاه آياتِنا فانْسلخَ منها) ،: بلعم، ويقال بلعام ابن آير. ويقال باعر، ويقال باعور. وقيل هو أميَّة بن الصلت. وقيل صيفي بن الراهب. وقيل فرعون، وهو أغْرَبُها. (وإنّي جارٌ لكمْ) ،: عَنَى سراقة بن جُعْشم. (فقاتلوا أئمةَ الكفْر) ، قال قتادة: هم أبو سفيان، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. (إذ يقولُ لصاحبه) ،: هو أبو بكر. (وفيكم سمّاعون لهُمْ) ، قال مجاهد: هم عبد الله بن أبيّ بن سَلُول، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قَيْظيّ. (ومنهم مَنْ يقولُ ائْذِنْ لي) ،: هو الجدّ بن قيس. (ومنهم مَنْ يَلْمِزُكَ في الصدقات) ،: هو ذو الخُوَيصِرة. (إن نَعفُ عن طائفة منكم) ،: هو مَخْشيّ بن حمير. (ومنهم مَن عاهد الله) ،: هو ثعلبة بن حاطب. (وآخرون اعترفوا بذُنوبهم) ، قال ابن عباس: هم سبعة: أبو لبابة وأصحابه. وقال قتادة: سبعة من الأنصار: أبو لُبَابة، وجد بن قيس. وخذام، وأوس، وكردم، ومِرْداس. (وآخرون مُرْجَوْن) ،: هم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهم الثلاثة الذين خُلِّفوا. (الَّذِينَ اتخَذوا مَسْجِداً ضِرَاراً) ، قال ابن إسحاق: اثنا عشر من الأنصار: جِذَام بن خالد، وثعلبة بن حاطب، وهزال بن أمية. ومعتّب بن قُشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه جمّع وزيد، ونَبتل بن الحارث، وبَحزَج، وبجَاد بن عثمان، ووداعة بن عاتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 (لِمَنْ حارب اللهَ ورسوله) ،: هو أبو عامر الراهب. (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ،: هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. (ويَتْلوه شَاهِدٌ منه) أهود: 17،: هو جبريل. وقيل أبو بكر. وقيل عليٌّ. (ونادى نوح ابْنَه) : اسمه كنعان. وقيل يام. (وامرأتة قائمة) ،: اسمها سارة. (بنات لوط) ،: ريثا ورغوثا. (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) ،: هو بنيامين شقيقه. (قال قائلٌ منهم) ،: هو روبيل، وقيل يهوذا، وقيل شمعون. (فأرْسَلوا وَارِدَهم) ،: مالك بن دعر. (وقال الذي اشْتَرَاه) ،: هو قطفير أو إطفير. (لامرأته) هى راعيل، وقيل زليخا. (ودخل معه السجْنَ فَتَيان) ، هما مجلث ونبو الساقي. وقيل راشان ومرطش، وقيل شرهم وسرهم. (لِلذي ظنَّ أنه ناج) ،: هو الساقي. (عند ربك) : هو ريّان بن الوليد. (بأخ لكم) ، هو بنيامن، وهو المتكرر في السورة. (فقد سق أخٌ له) ،: عنوا يوسف. (قال كَبِيرهم) ،: هو شمعون. وقيل روبيل. (آوَى إليه أبَوَيْهِ) ، هما أبوه وخالته ليّا. وقيل أمه واسمها راحيل. (ومَنْ عِنْدَه عِلْم الكتاب) ،: هو عبد الله بن سلام. وقيل جبريل. (أسكنْت مِنْ ذريتي) ، هو إسماعيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 (ولِوَالِديّ) ، هو أبوه تارح. وقيل آزر. وقيل يازر. واسم أمه مثاني. وقيل نوفا. وقيل ليوثا. (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) . قال سعيد بن خبير: هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن قيس، والأسود ابن عبد يغوث. (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) ،: هو أسيد بن أبي العيص. (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ، عثمان بن عفان. (كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) ، هي ريطة بنت سعيد بن زيد مناة ابن تميم. (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، عنوا به عبد الله بن الحَضْرمي، واسمه مِقْيَس. وقيل عَبْدَين له: يسار، وجبر. وقيل عنوا قَيْنا بمكة اسمه بلعام. وقيل سلمان الفارسي. (أصحاب الكهف) ،: تمليخا رئيسهم، والقائل: (رَبّكم أعلم بما لبِثْتم) ، وتكسلمينا، وهو القائل: (كم لبثْتم) ومرطوش وبواشق وأيونس واريسطانس وشلططْيَوش. (فابْعَثوا أحَدَكم بوَرِقكمْ) ،: هو تمليخا. (مَنْ أغفَلْنَا قَلْبَه) ، هو عيينة بن حصْن. (واضْرِبْ لهم مثلاً رَجلين) ، هما تمليخا - وهو الخيِّر. وفرطوس، وهما المذكوران في سورة الصافات. (قال موسى لفَتَاه) .،: هو يوشع بن نون. وقيل أخوه يثربي. (فوجدا عَبْداً) ، واسمه بليا. (لَقِيا غلاَماً) ،: واسمه جيسور بالجيم - وقيل بالحاء. (فناداها مِنْ تحْتِها) ، قيل عيسى. وقيل جبريل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 (ويقول الإنسان) ،: هو أبيّ بن خلف. وقيل أمية بن خلف. وقيل الوليد بن المغيرة. (أفرأيْتَ الذي كَفَر بآياتِنا) ،: هو العاصي بن وائل. (وقَتَلْتَ نفساً) ، هو القبطي، واسمه فاقون. (السامريّ) ، اسمه: موسى بن ظفر. (من أَثَرِ الرسول) ، هو جبريل. (ومِنَ الناسَ من يجادل) ، هو النضر بن الحارث. (هذَان خَصْمَان) ،: أخرج الشيخان، عن أبي ذر، قال: نزلت هذهَ الآية في حَمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب، وعُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) ،: قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أنيس. (الذين جاءوا بالإفْكِ) ،: هم حسان بن ثابت، ومِسْطح بن أثاثة، وحَمْنة بنت جَحْش، وعبد الله بن أبيّ، وهو الذي تولى كِبْره. (ويوم يعَضّ الظّالم) ،: هو عقبة بن أبي معَيط. (لم أَتخِذْ فلاناً) .،: هو أمية بن خلَف، وقيل أبي بن خلف. (وكان الكافر) ، قال الشعبي هو أبو جهل. (امرأة تملِكهم) ، وهي بلقيس بنت شرحبيل. (فلما جاء سلَيمانَ) ، اسم الجائي منذر. (قال عِفْرِيت) ،: اسمه كَوْزَن. (الذي عنده علم) .، وهو آصف بن برخيا كاتبه. وقيل هو رجل يقال له ذو النور. وقيل أسطور. وقيل تمليخا. وقيل بلخ. وقيل هو ضبّة أبو القبيلة. وقيل جبريل. وقيل ملك آخر. وقيل الخضر. (تِسْعَة رَهْط) ، هم دعما، ودعيم، وهرمي وهريم وداب وصواب ورياب، ومسطح، وقدَار بن سالف عاقر الناقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ،: اسم الملتقط طابوث. (امرأة فرعون) ،: آسية بنت مزاحم. (أم موسى) ، بحانة بنت يصهر بن لاوي. وقيل ياء وخاء. وقيل أباذخت. (وقالت لأخْتهِ) ،: اسمها مريم. وقيل كلثوم. (هذا مِنْ شِيعَتِه) ، هو السامري. (وهذا مِنْ عَدوّه) ، اسمه مايوان. (وجاء رجل من أقصا المدينة) ، هو مؤمن آل فرعون، واسمه شمعان. وقيل شمعون: وقيل جبر. وقيل حبيب. وقيل حزقيل. (امرأتَيْن تَذودَان) ، هما ليّا وصفوريا، وهي التي نكحها. وأبوهما شعيب. وقيل يغرون بن أبي شعيب. (قال لقمان لابنه) : اسمه باران بالموحدة. وقيل داران. وقيل أنعم. وقيل مِشْكم. (مَلَك الموْتِ) ، اشتهر على الألسنة أن اسمه عزراييل. ورواه أبو الشيخ ابن حبان عن وهب. (أفمَنْ كان مُؤمناً كمن كان فَاسِقاً) ، نزلت في علي بن أبي طالب، والوليد بن عقبة. (ويستأذِن فريق) ، قال السدّي: هما رجلان من بني حارثة: أبو عَرابة بن أَوس، وأوس بن قَيْظي. (قل لأزْوَاجك) ، قال عكرمة: كان تحته يومئذ تسع نسوة: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سلمَة، وصفية، وميمونة،وزينب بنت جحش، وجُويرية. وبناته: فاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 (أهل البَيْت) ،: قال - صلى الله عليه وسلم -: هم علي، وفاطمة، والحسن، والحسين. (للذي أنْعَم اللَهُ عليه وأنعَمْتَ عليه) ، هو زَيد بن حارثة. (وحمَلَهَا الإنسانُ) ، قال ابن عباس: هو آدم. (أرْسَلْنَا إليهمُ اثْنَيْن) ، هما شمعون ويوحنا، والثالث بولس. وقيل: هم صادق وصدوق وشلوم. (وجاء مِنْ أقصَا المدينةِ رجل) ، هو حبيب النجار. (أولم يَرَ الإنسانُ) ، هو العاص بن وائل. وقيل أبي بن خلف. وقيل أمية بن خلف. (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) ، هو إسماعيل، أو إسحاق، قولان شهيران (1) . (نبَأ الخَصْمِ) ، هما ملكان، قيل جبريل وميكاييل. (جَسَداً) ، هو شيطان يقال له أسِيد (2) . وقيل ضَمْرة. وقيل حبقيق. (مَسَّنِي الشيطان) ، قال نوف: الشيطان الذى مسه يقال له مسقط (3) . (والذي جاء بالصِّدْق) ، هو محمد، (وصدق به) محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل أبو بكر. (اللّذَيْن أضَلاّنا) ، إبليس، وقابيل. (رَجلٌ مِنَ القَرْيَتَيْن) ،: عَنَوا الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقيل عروة بن مسعود من الطائف. (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) ، الضارب له عبد الله بن الزبعرَى.   (1) الراجح عند المحققين أنه إسماعيل عليه السلام وهو الذبيح. والله أعلم. (2) فيه نظر فقد روى البخاري برقم: 6148 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ. (2) قول منكر، ويحمل المس في الآية الكريمة على الوسوسة، والنصب على المجاهدة. والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 (طعام الأَثِيم) ، قال ابن جبَيْر. هو أبو جهل. (وشَهد شاهدٌ من بني إسرائيل) ، هو عبد الله بن سلاَم. (أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ،: أصحّ الأقوال أنهم: نوح، وإبرا هيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. (ينَادِي المنَادِي) ، إسرافيل. (ضَيْفِ إبراهيمَ المكرَمِين) ، قال عثمان بن محصن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وروفاييل. (وبَشَّروه بغلاَم عليم) ، قال الكِرمَاني: أجمع المفسرون على أنه إسحاق، إلا مجاهد، فإنه قال: هو إسماعيل. (شَدِيد القوَى) ،: جبريل. (أفرأيْتَ الذي تَوَلّى) ، هو العاصي بن وائل. وقيل الوليد بن المغيرة. (يَوْمَ يدعُ الدَّاعِي) ، هو إسرافيل. (قَوْلَ التي تجَادِلك) ، هي خَوْلة بنت ثعلبة (في زوجها) ، هو أوس بن الصامت. (لِمَ تحَرم ما أحلَّ اللَّهُ لكَ) ، هي سريته مارية. (إذ أسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حديثاً) ، هي حفصة. (نَبَّأتْ به) ، هي عائشة. (تَتوبَا) ، و (تظاهرا) : هما عائشة وحفصة. (وصالح المؤمِنين) هما أبو بكر وعمر، أخرجه الطبراني في الأوسط. (امرأة نوح) ، والهة. (وامرأة لوط) والعة. وقيل وائلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 (ولا تُطِعْ كلَّ حلافٍ) ، نزلت في الأسود بن عبد يغوث. وقيل: الأخنس بن شَرِيق. وقيل: الوليد بن المغيرة. (سأل سائل) ، النضر بن الحارث. (رَبِّ اغْفِرْ لي ولوالديّ) ، اسم أبيه لمك بن متُّوشلخ، وأمه شمنحا بنت أنوش. (سفِيهنَا على الله شَطَطا) ، إبليس. (ذَرْنِي ومَنْ خَلَقتُ وحِيدا) ، هو الوليد بن المغيرة. (فَلا صَدَّق ... ) ، الآيات. نزلت في أبي جهل. (هل أتى على الإنسان) ، هو آدم. (ويقول الكافر يا ليتني كنتُ ترَابا) ، هو إبليس. (أنْ جاءَه الأعمَى) ، هو عبد الله ابن أمّ مَكتوم. (أمَّا مَنِ استَغنَى) ، هو أميّةُ بن خلف. وقيل عُتبة بن ربيعة. (لَقَول رَسول كَرِيم) ، هو جبريل. وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -. (فأَمّا الإنسان إذا ما ابتَلاَه) . نزلت في أمية ابن خلف. (ووالدٍ) ، هو آدم. (فقال لهم رسول الله) ، هو صالح. (الأشقَى) ، هو أمية بن خلف. (الأتقَى) ، هو أبو بكر الصديق. (الذي يَنهَى عَبْداً) ، هو أبو جهل. والعبد هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إنّ شَانِئَكَ) ، هو العاصي بن وائل. وقيل أبو جهل. وقيل عقبة بن أبي معيط. وقيل أبو لهب. وقيل كعب بن الأشرف. (وامرأتُه حَمَّالة الحطَب) ، أم جميل العَوْرَاء بنت حَرْب بن أمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ذكر المجموع من المبهمات الذين عرف أسماء بعضهم (قال الّذين لا يَعْلَمونَ لولا يكَلمنا الله) البقرة: 118) ، سمِّي منهم رافع بن حُرَيملة. (سيَقولُ السفهاءُ) ، سمَي منهم رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن حريملة، والحجاج بن عمرو، والربيع بن أبي الحقيق. (وإذا قيل لهم اتّبعوا) ، سمي منهم مالك بن عوف، ورافع. (يسألونك عن الأهِلّة) ، سمي منهم معاذ بن جَبَل، وثعلبة بن غنم. (يسألونك ماذا ينْفِقون) ، سمي منهم عمرو بن الجموح. (يسألونك عن الخَمْر) ، سمي منهم عمر، ومعاذ، وحمزة. (ويسألونكَ عن اليَتَامَى) ، سمي منهم عبد الله بن رَواحة. (ويسألونك عن المحيض) ، سمي منهم ثابت بن الدحداح، وعباد بن بشر، وأسيد بن الخضَير. (ألم تَرَ إلى الذين أوتوا نَصِيباً) ، سمي منهم النعمان بن عمرو، والحارث بن يزيد. (الحَوارِيّون) ، سمي منهم فطرس، ويعقوبس. ويحنّس، والورايلس، وفيلس، وابن تيما، ومنتا، وتَوْماس، ويعقوب بن خلفيا،وجداوسميس، وماديواس، ودرمايوطا، وسرجس، وهو الذي ألقي عليه شبهه. (وقالت طائفة مِنْ أهْلِ الكتاب) ، هم اثنا عشر من اليهود. سمي منهم عبد الله بن الصيّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 (كيفَ يَهْدِي الله قَوْماً كفَروا بعد إيمانهم) ، قال عكرمة: نزلت في اثني عشر رجلاً، منهم: أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن أسلم. زاد ابن عسكر: وطعيمة بن أبيْرِق. (يقولون هل لنا من الأمر مِنْ شيء) ، سمي من القائلين عبد الله بن أبيّ بن سلُول، ومعتّب بن قشَيْر. (وقيل لهم تعالَوْا قَاتِلُوا) ،: القائل ذلك عبد الله، والد جابر بن عبد الله الأنصاري. والمقول لهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. (الذين استَجَابوا للهِ) ،: هم سبعون، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وابن عوف، وابن مسعود الأشجعي. (الذين قالُوا إنَّ الله فَقير) ، قال ذلك فنحاص. وقيل حيي بن أخطب. وقيل كعب بن الأشرف. (وإنَّ مِنْ أهل الكتَاب لَمنْ يؤمِن باللهِ) ، نزلت في النجاشي. وقيل في عبد الله بن سلام وأصحابه. (وبَثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء) ، قال ابن إسحاق: أولاد آدم لصلبه أربع وعشرون بطناً، كلّ بطن ذكر وأنثى، وسمي من بَنِيه قابيل، وهابيل، وإيماد، وشبونة، وهند، وضرابيس، ومخور، وسند، وبارق، وشيث. وعبد المغيث، وعبد الحارث، وودّ، وسواع، ويغوث، ويَعوق، ونَسْرا. ومن بناته: أقليمة، وأشوف، وجزوزة، ويمن، وعز، ورا، وأمة المغيث. (ألم تَرَ إلى الذين أوتُوا نَصيباً من الكتاب يَشتَرُون الضّلالة) . قال عكرمة: نزلت في رفاعة بن يزيد بن التابوت، وكردم بن زيد. وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبي رافع، وحيي بن أخطب. (ألم تَرَ إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) ، سمي منهم عبد الرحمن بن عَوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 (إلاَّ الذين يَصِلُون إلى قَوْم) ، قال ابن عباس: نزلت في هلال بن غويم الأسلمي، وسُراقة بن مالك المدلجي، وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف. (ستَجِدُون آخَرين) ، قال السدي: نزلت في جماعة منهم نُعَيْم بن مسعود الأشجعي. (إن الّذِين توفّاهُم الملائكةُ ظالمِي أنْفُسهم) ، سمَّى منهم عِكْرمة: علي بن أمية بن خلف، والحارث بن زمعة، وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا العاص بن المنبه بن الحجاج، وأبا قيس بن الفاكِه. (إلا المستَضْعَفين) ، سمي منهم ابن عباس، وأمه أمّ الفضل، وعيّاش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام. (الذين يَخْتَانون أنْفُسهم) ، بنو أبيرق: بشر، وبشير، ومبشّر. (لَهَمّتْ طائفة منهم أنْ يضِلّوك) ،: أسَيْد بن عُروة وأصحابه. (ويستَفْتونَك في النساء) ، سمى من المستفتين خَوْلَة بنت حكيم. (يَسألك أهْل الكتاب) ، سمي منهم ابنُ عسكر: كعب بن الأشرف، وفِنْحاصا. (لكن الرَّاسخون في العلم) ، قال ابن عباس: هم عبد الله بن سلام. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) ، سمي منهم الحُطَم بن هند البكري. (يسألُونَكَ ماذا أُحِلّ لهم) ، سمي منهم عدي بن حاتم، وزيد ابن مهلهل الطائيان، وعاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعدي بن ساعدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 (إذ هَمّ قومٌ أنْ يَبْسطوا) ،: سمي منهم كعب بن الأشرف، وحييِّ بن أخطب: (ولَتَجِدَنّ أقربَهم مَودّة) ، الآيات، نزلت في الوفد الذين جاءوا من عند النجاشي، وهم اثنا عشر. وقيل ثلاثون. وقيل سبعون. وسمي منهم: إدريس، وإراهيم، والأشرف، وتميم، ودريد. (وقالوا لولا أنزل عليه مَلَك) ،: سمي منهم زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كلَدة، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل. (ولا تَطردِ الذين يَدْعون رَبّهم) ، سمي منهم: صُهَيب، وعمّار، وخبّاب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وسلمان الفارسي. (إذ قالوا ما أنزل اللَّهُ على بشَرٍ مِنْ شَيْء) ، سمي منهم فِنْحاص، ومالك بن الصيّف. (قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) ، سمي منهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة. (يسألونَكَ عن الساعة) ، سمي منهم حمل بن قشير، وشمويل بن زيد. (يسألونك عن الأنفال) ، سمي منهم سعد بن أبي وقاص. (وإنّ فَرِيقاً من المؤمنين لكارهون) ، سمي منهم أبو أيوب الأنصاري. ومن الذين لم يكرهوا المقداد. (إن تسْتَفْتِحوا) ، سمي منهم أبو جهل. (وإذ يمكر بكَ الّذِين كَفَروا) ، هم أهل دار الندوة، سمي منهم عتْبة وعتيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وأبو جهل، وجُبير بن مطعم، وطعيمة بن عدي، والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأمية بن خلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 (وإذ قالوا اللهم إنْ كان هذا هو الحقَّ مِنْ عِنْدِكَ) . سمي منهم أبو جهل، والنضر بن الحارث. (إذ يقول المنافِقون والذين في قلوبهم مَرَض غَرَّ هؤلاء دِيْنُهم) . سمي منهم عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس بن الفاكه. والحارث بن زمعة، والعاصي بن منبه. (قل لِمَن في أيديكم من الأسْرَى) ، كانوا سبعين، منهم: العباس، وعَقِيل، ونَوْفل، والحارث، وسهل ابن بيضاء. (وقالت اليهود عزَيْر ابن اللهِ) ، سمي منهم سلام بن مِشْكم ونعمان بن أوفى، ومحمد بن دحية، وشلأس بن قيس، ومالك بن الصيّف. (الذين يلْمِزونَ المطَّوِّعين) ، سمي من المطوّعين عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي. (والذين لا يَجِدون إلا جهْدَهم) ، أبو عقيل، ورفاعة بن سعد. (ولا على الذين إذا ما أتوْكَ لِتَحْمِلهم) ، سمي منهم العِرباض بن سارية، وعبد الله بن مغَفّل المزني، وعمرو المزني، وعبد الله بن الأزرق الأنصاري، وأبو ليلى الأنصاري. (فيه رجال يحِبّون أن يتَطَهَّروا) ، سمي منهم عُويم بن ساعدة. (إلاّ مَنْ أكره وَقَلْبه مطمئنّ بالإيمان) ، نزلت في جماعة، منهم: عمّار بن ياسر، وعباس بن أبي ربيعة. (بَعَثْنَا لكم عِبادا لنا) ، هم جالوت وأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 (وإنْ كادوا ليَفْتِنونَك) ، قال ابن عباس: نزلت في رجال من قريش، منهم: أبو جهل، وأميّة بن خلف. (وقالوا لن نؤمِنَ لك حتى تُفَجِّر لنا) ، سمى ابن عباس مِنْ قائلي ذلك: عبد الله بن أمية، وذريته. وسمى من أولاد إبليس: ثور، والأعور، وزنبور، ومِسْوَط، وداسر. (وقالوا إن نَتّبع الهدَى معك) ، سمي منهم الحارث بن عامر بن نوفل. (أحسِبَ الناس أن يتْرَكوا) ، هم المؤذَوْن على الإسلام. سمي منهم عمار بن ياسر. (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبِعوا سبيلَنا) ، سمي منهم الوليد بن المغيرة. (ومِنَ الناس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الحدِيث) ، سمي منهم النضر ابن الحارث. (فمنهم مَنْ قضى نَحْبَه) ، أنس بن النضر. (قالوا الحق) ، أول من يقوله - جبريل، فيتبعونه. (وانطلق الملأ منهم) ، سمي منهم عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث. (وقالوا ما لَنَا لا نرى رِجَالا) ، سمي من القائلين أبو جهل. ومن الرجال: عمار، وبلال. (نَفَرا من الجِنّ) ، سمي رشهم زوبعة، وحَسْي، ومسي. وشاصو، وماصو، والأزد، وانيان، والأحقم، وسرّق. (إنّ الذين ينَادونَك مِنْ وَرَاء الحجرات) ، سمي منهم الأقرع بن حابس، والزّبرقان بن بدر، وعيينة بن حِصْن، وعمرو بن الأهتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 (ألم تَرَ إلى الّذِين تَولَّوا قَوْماً) ، نزلت في عبد الله بن نبْتَل من المنافقين. (لا ينْهاكم اللَّهُ عن الّذين لم يقَاتِلُوكم) ، نزلت في قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر. (إذا جاءكم المؤمنات) ، سمي منهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيْط، وآسية بنت بشر. (يقولون لا تُنفِقوا) . (يقولون لئن رَجَعْنَا) . سمي منهم عبد الله بن أبَيّ. (ويَحْمِل عَرْشَ رَبك) . سمي من حملة العرش إسرافيل، ولونان وروفيل. (أصحاب الأخدود) ، ذو نواس: زرعة بن أسعد الحميري وأصحابه. (أصحاب الفيل) ، هم الحبشة، قائدهم أبرهة الأشرم، ودليلهم أبو رغَال. (قل يا أيها الكافِرون) ، نزلت في الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف. (النفّاثَات) ، بنات لَبِيد بن الأعصم. وأما مبْهمات الأقوام والحيوانات والأمكنة والأزمنة، ونحو ذلكَ فقد استوفيت الكلام عليها في تأليفنا المشار إليه. تنبيه: قال قيس عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله، قال: قال علي: ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية. قيل له: فما نزل فيك، قال: (ويَتْلوه شاهِدٌ منه) . وأخرج الإمام أحمد، والبخاري في الأدب، عن سعد بن أبي وقاص، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 نزلت فيّ أربعُ آيات: (يسألونك عن الأنفال) . (ووَصيْنَا الإنسانَ بوالديْه حُسْنا) . وآية تحريم الخمر، وآية الميراث. وأخرج ابن أبي حاتم، عن رفاعة القرظيّ، قال: نزلت: (ولقد وصَّلْنا لهم القَوْلَ) ، في عشرةٍ، أنا أحدهم. وأخرج الطبراني، عن أبي جمعة جنيد بن سبع، وقيل حبيب بن سباع، قال: فينا نزلت: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) ، وكنا تسعة نفر، سبعة رجال وامرأتين. ******* الوجه الرابع والثلاثون من وجوه إعجازه (احتواؤها على أسماء الأشياء والملائكة والكُنى والألقاب وأسماء القبائل والبلاد والجبال والكواكب) أما أسماء الأنبياء فسيأتي ذكرهم إن شاء الله على حروف المعجم في أول كل حرف ما يناسبه، وذلك خمس وعشرون، هم مشاهيرهم. وأما الكنى فليس منها فيه غير أبي لهب، واسمه عبد العُزَّى، ولذلك لم يذكر باسمه لأنه حرام شرعاً. وقيل للإشارة إلى أنه جهنّمي. والألقاب تأتي في حروف المعجم. وأما أسماء القبائل: فيأجوج ومأجوج، وعاد، وثمود، وقريش، ومدين. والروم. وأسماء البلاد يأتي ذكرها مع أسماء الجبال. وأما أسماء الكواكب: فالشمس والقمر، والطارق، والشعرى. وفيه من أسماء الأماكن الأخروية: الفرْدَوس، وهو أعلى مكان في الجنة. وَِعليون: قيل هو أعلى مكان في الجنة. وقيل اسم لما دون فيه أعمال صالحي الثَّقلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والكَوْثر هو نهر في الجنَّة، كما في الأحاديث المتواترة. وسَلْسَبِيل، وتَسْنيم: عينان في الجنة. وسِجّين: اسم لمكان أرواح الكفار. وصَعود: جبل في جهنم، كما أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً. ومَوْبق، وغَيّ، وأثام، ووَيْل، والسَّعير، وسائل، وسحْق: أودية في جهنم، وستأتي كلها في الحروف. قال بعضهم: سَمّى الله في القرآن عشرة أجناس من الطير: السلوى. والبعوض، والذباب، والنحل، والعنكبوت، والجراد، والهدهد، والغراب، وأبابيل، والنمل، والطير، لقوله في سليمان: (عُلِّمْنا مَنْطِق الطير) . وقد فهم من كلامها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول. وروي أن سليمان عليه السلام سمعه، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال، وذلك أنها لا يسمعها البشر إلاَّ مَنْ خصَّه الله بذلك. وروي أنه قال لها: لم قلت للنمل: (ادخلوا مساكِنَكم) ، أخِفْتِ عليها مني ظلماً؟ قالت: لا، يا نبي الله، ولكن خشيت أن يُفْتنوا بما يرون من جمالك وزينتك، فيشغلهم ذلك عن طاعة ربهم. وقيل: إنها قالت: خفت عليهم من كثرة رؤية النعم، فيكفرون بنعمة اللَه عليهم. فتأمل إحساس البهائم وما لنا حسّ، ملأنا بطوننا من الحرام، فغلبت علينا سَكْرة المنام، وتراكمت على قلوبنا سحائب المخالفة، فادعينا الدعاوى الباطلة، وعن قريب ينكشف السحاب، فتهب علينا نسائم الأسف والحزن، ونقول: يا حسرتنا على ما فَرَّطْنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فبالله أيُّهَا الأخ، قُمْ على قدم الاعتذار، واكشف رأس الاستغفار، وناد بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظلَمْنَا أنفسنا وإنْ لم تغْفِرْ لنا وتَرْحَمْنَا لنكونَنَّ من الخاسرين) . قال بعضهم: بتّ ليلة ألوم نفسي، وأعدّد عليها، ثم نمت، فرأيت كأن القيامة قد قامت، والناس جَمْع، فجئتُ إلى قوم عليهم ثياب حسنة، ورائحة طيبة، فأردتُ الجلوس معهم، فأخذ بيدي شخص فأزالني، وقال: أين أنت، وما أنت منهم، أين حالك من حالهم، أين نورك من نورهم، فلم أزَلْ اصرف من جمع إلى جمع حتى انتهيت إلى قوم عليهم أطمار رثَّة، ووجوههم مغبرة، فلما رَأوْني قالوا: تقدم إلينا، فأنت من أصحابنا، فعلمت ذُلّي ومقامي، فلزمت الحزن إلى يوم ألقاه. اللهم إنك أنعمت على هذا العبد بإلزام الحزن قلبه، اخلع علينا بُرد حزن. حتى أقوم على ساق سبق توبة تكابد الحزن إلى يوم ألقاك بجاه مَنْ أنزلت عليه هذا الكتاب الشافع المشفّع، الماحل المصدق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ******* الوجه الخامس والثلاثون من وجوة إعجازه (ألفاظه المشتركة) وهذا الوجه من أعظم إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجهاً، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر. وقد صنّف في هذا النوع وفي عكسه - وهو ما اختلف لفظه واتحد معناه - كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم ابن الجَوْزِي، وابن أبي المعالي، وأبو الحسين محمد بن عبد الصمد المصري، وابن فارس، وآخرون. قال مقاتل بن سليمان في صدر كتابه المصنف في هذا المعنى حديثاً مرفوعاً: لا يكون الرجل فقيهاً كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قلت: هذا أخرجه ابن سعد وغيره عن أبي الدرداء موقوفاً، ولفظه: لا يفقه الرجل كل الفقه. وقد فسره بعضهم بأن المراد أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد. وأشار آخرون إلى أن المراد به استعمال الإشارات الباطنة، وعدم الاقتصار على التفسير الظاهر. وقد أخرجه ابن عساكر من طريق حماد بن زيد عن أيوب، عن أبي قِلاَبة. عن أبي الدرداء، قال: إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً. قال حماد: فقلت لأيوب: أرأيت قوله حتى ترى للقرآن وجوها، أهو أن يرى وجوهاً فيها بالإقدام عليه، قال: نعم، هو هذا. وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب. أنه أرسله إلى الخوارج، قال: اذهب إليهم وخاصمهم، ولا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. وفي وجه آخر قال له: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله في بيوتنا نزل. قال: صدقت، ولكن القرآن حمَّال في وجوه: تقول ويقولون، ولكن حاجّهم بالسُّنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فاخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجة. وقد مَنَّ الله علينا في جَلْبِ بعض ألفاظٍ في هذا المعنى، وكان هو السبب في هذا المبنى، فاشْدد بكلتا يديك على هذا الكتاب المسمّى بإعجاز القرآن ومعترك الأقران، مع أني - علم الله - لست من فرْسان هذا الميْدان، ولا من يجول في هذا الشأن، لكني تطفَّلت على المتقدمين، رجاء أن يضمني جميل الاحتمال معهم، ويسعني من حسن التجاوز ما وسعهم، وأنا أرغب ممن وقع بيده هذا الكتاب أن يدعو للساعي له فيه، لأنه يجد فيه ما لا يجده في كثير من المطولين الصعاب، وكيف لا يذكره عند ربه وقد استخرجْته له منهم سهْلَ المرام، فخفَّ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 حَمْله وثمنه، وقرَّبْت عليه الفهم باختصار الكلام، وأيْم الله لو أراد الاستغناء به عن النظر في غيره لكفاه، مع أني زِدت مع اللفظ المشترك تفسيرَ مفردات لا بد له منها، ليتم له معناه. وأعقبت كل حَرْفٍ بحروف تشاكلها منها من الأسماء والظروف، لأن معرفة ذلك من الهمات المطلوبة، لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) . فاستعْمِلَت "على" في جانب الحق و" في " في جانب الضلاَل، لأن جانب الحق كأنه مستَعْلٍ يصرِّف نظره كيف شاء، وصاحب الباطل كأنه في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجه. وقوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) . عطف الجمل الأولى بالفاء، والأخيرة بالواو لما انقطع نظام الرّتب، لأن التلطّف غير مرتب على الإتيان بالطعام، كما كان الإتيان به مرتبا على النظر فيه، والنظر فيه مرتباً على التوجه في طلبه، والتوجه في طلبه مرتباً على قطع الجدال في المسألة عن مدة اللبث وتسليم العلم له تعالى. وقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) . عَدَل عن اللام، إلى " في " في الأربعة الأخيرة، إيذاناً بأنهم أكثر استحقاقاً للتّصدّق عليهم ممن سبق ذكره باللام، لأن " في " لِلْوعَاء، فنبَّه باستعمالها، على أنهم أحقّ بأن يجعلوا مظنّة لوضع الصدقات بهم، كما يُوضع الشيء في وعائه مستقرّاً فيه. وقال الفارسي: إنما قال: " في الرقاب) ولم يقل للرقاب، ليدل على أن العبد لا يملك. وعن ابن عباس قال: الحمد للهِ الذي قال: (عن صلاتهم ساهون) ، ولم يقل في صلاتهم. فقد علمت من هذا أنه لا بد مِنْ ذكر معاني هذه الأدوات وتوجيهها. وقد أفردها بالتصنيف خلائق من المتقدمين والمتأخرين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 كالهروي، وابن أم قاسم، وابن هشام، وأنفعها هذا الكتاب البديع المثال، المنيع المقال، بنيت لك مصاعد ترتقي عليها إلى مقاصد، وتطَّلع فيه على فهم الكتاب المنزل، وفتحت لك من كنوزه كل باب مقفل. فخُذْه كقرصة نِقْي منقى من كل خلط رديء، وكلْ إنْ كنت آكلاً، وإلا فلا تمنعه من الناقل إن لم تكن ناقلاً. على أني ليس لي فيه مزيَّة، وإنما الفضل لمتقدمي علماء الأمة المحمدية، ملأ اللَه قبورَهم نوراً، وزاد قلوبهم حبوراً، وأفاض من بركاتهم يوم نُلقَّى كتابنا منشوراً، فنظرنا إليه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا خفيّة محرفة عندنا إلا عَدَّها واستقصاها، وأسمعنا تعالى عظيم كلامه، وخاطبنا بعِتابه ومَلاَمه. وقال: عبدي، ادنُ مني، فدنوت منه بقَلْبٍ خافق وَجِل، فيقول: عبدي طالماً أمرتُك فعصيتني، وأمهلتُك فا راعيتني، وخوّفتك عقابي فما خِفْتَني، وتسترتَ بالقبيح عن عبادي، وبه بارزتَني. ألم أكن على قلبك وجوارحك رقيبا. أقرأ كتابَك كفَى بنفسك الْيَوْمَ عليك حسيباً. فهناك يخرس اللسان، وتطيش العقول والأذهان، ولا تطيق من الهيبة البيان. بل تشهد جوارحُ الإنسان. اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مَنْ ينقذني مِن والد علم ولا وَلَدِ علم في ذلك الموقف العظيم غير الاشتغال بخدمة كتابك، واستخراج زُبَده ودُرَره، واقتطاف ثمره وأزهاره. فاجعله لنا شافعا مشفّعاً، وخصوصاً هذا الكتاب، فإني أودعت فيه فنون العلوم على تنوُّعها، ومررْتُ على رياض التفاسير على كثرة عددها، وختمته بأقوال كلية، فخلصت سبائكها، وفوائد مهمة سبكت تِبْرَها، وأقوال محمدية على بعض آياتك رجاء بركتها، لأن بركة الكتاب خَتْمه. فختمته بما صحَّ من التفسير عن نبيك البشير النذير، السراج المنير، راجياً منك حُسْنَ الخاتمة على دينك المستقيم، فلا تُزغْ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتَنَا على صراطك القويم، بجاه سيدنا ومولانا الفاتح الخاتم منقذنا من العذاب الأليم. صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأمته أفضل صلاة وأزكى تسليم. تم الجزء الأوَّل، ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوَّله حرف الهمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران) المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى 911 هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م الجزء الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَرَف الهمزة (آدم) أبو البشَر، ذكر أنه أفعل مشتق من الأدمَة، لذا مُنع صرفه. قال الجواليقي: أسماء الأنبياء كلها أعجمية، إلا أربعة: آدم، وصالح. وشعيب، ومحمد. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي الضحى عن ابن عباس. قال: إنما سمِّي آدم، لأنه خُلق من أدِيم الأرض. وقال قوم: هو اسم سرياني أصله آدام، بوزن خاتام، عُرِّب بحذف الألف الثانية. وقال الثعلبي: التراب بالعبرانية آدام فسمي آدم به. قال ابن أبي خيثمة: عاش تسعمائة وستين سنة. وقال النووي في تهذيبه: اشتهر في كتب التاريخ أنه عاش ألف سنة. (إدريس) : قيل إنه قَبْل نوح. قال ابن إسحاق: إدريس أوَّلُ بني آدم. أعطي النبوءة، وهو أخنوخ بن يَرْد بن مهائيل بن أنُوش بن قينان بن شيث بن آدم. وقال وهب بن منبه: إدريس جدّ نوح الذي يقال له خنوخ، وهو اسم سياني، وقيل عربي مشتق من الدراسة لكثرة درسه الصحف. وفي المستدرك بسند رواه الحسن عن سمرة، قال: كان في اللهِ إدريس أبيض طويلاَ ضخم البطن، عريض الصدر، قليل شعر الجسد، كثير شعر الرأس. وكان إحدى عينيه أعظم من الأخرى، وفي صدره نكتة بياض من غير بَرَص. فلما رأى الله من جَوْر أهل الأرض واعتدائهم رفعه إلى السماء السادسة، وهو حيث يقول: (ورَفَعنَاه مَكَاناً عَلِيًّا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وذكر ابن قُتيبة أنه رُفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، وفي صحيح ابن حبان: كان نبِيّاً رَسولاً، وأنه أول من خطّ بالقلم. وفي المستدرك عن ابن عباس. قال: كان فما بين نوح وإدريس ألفٌ. (إبراهيم) قال الجواليقي: هو اسم قديم ليس بعربيّ، وقد تكلمت به العربُ على وجوه، أشهرها إبراهيم، وقالوا إبراهام، وقرئ به في السبع، وإبراهم بحذف الياء، وإبْرَهَم، وهو اسم سرياني، معناه أبٌ رحيم، وقيل مشتقّ من البرهمة وهي شدّةُ النظر، حكاه الكرماني في عجائبه، وهو ابن آزر واسمه تارح - بمثناة وراء مفتوحة وآخره حاء مهملة - ابن ناحور - بنون ومهملة مضمومة - ابن شاروخ - بمعجمة وراء مضمومة وآخره خاء معجمة - ابن راكو بغين معجمة - ابن فالَغ - بفاء ولام مفتوحة ومعجمة، ابن عابر - بمهملة وموحدة - ابن شالخ - بمعجمتين - ابن أرْفَخشَد بن سام بن نوح. قال الواقدي: ولد إبراهيم على رأس ألفي سنة من خَلق آدم. وفي المستدرك من طريق ابن المسيّب عن أبي هريرة، قال: اختتن إبراهيم بعد عشرين ومائة سنة، ومات ابن مائتي سنة. وحكى النووي وغيره قولا إنه عاش مائة وخمسة وسبعين. (إسماعيل) قال الجواليقي: ويقال بالنون آخره. قال النووي وغيره: هو أكبر ولد إبراهيم. (إسحاق) وُلد - بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة، وعاش مائة وثمانين سنة. وذكر أبو علي بن مسكويه في كتابه الفريد: إن معنى إسحاق بالعبرانية الضحاك. (أيوب) قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه أبيض. وقال ابن جرير: هو أيوب بن موسى بن رَوح بن عيص بن إسحاق. وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط، وأن أباه ممن آمن بإبراهيم، وعلى هذا فكان قبل موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وقال ابن جرير: كان بعد شعيب. وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان ابْتلِي وهو ابن سبعين، وكانت مدة بلائه سبع سنين، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ثلاث سنين. وحكى الطبراني أن مدةَ عمره كانت ثلاثاً وتسعين سنة. (إلياس) قال ابن إسحاق في المبتدأ: هو ابن ياسين بن فنحاص بن العَيْزَار ابن هارون أخي موسى بن عمران. وقال ابن عسكر: حكى القتبيّ أنه من سبط يوشع. قال ابن وهب: إنه عُمِّر كما عُمر الخضر، وإنه يبقى إلى آخر الدنيا. وعن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس. وإلياس بهمزة قَطْع: اسم عبراني. وقد زيد في آخره ياء ونون في قوله: (سَلَام عَلَى إليَاسِين) ، كما قالوا في إدريس إدرايسين. ومن قرأ آل ياسين فقيل المراد آل محمد. (اليسع) قال ابن جرير: هو ابن أخطوب بن العجوز. قال: والعامة تقرؤه بلامٍ واحدة مخفضة. وقرأ بعضهم: واللِّيسع بلامين وبالتشديد، فعلى هذا هو أعجمي، وكذا على الأول. وقيل عربي منقول من الفعل، من وسع يسع. (إسرائيل) لقب يعقوب، ومعناه عبد الله. وقيل صَفْوة الله. وقيل سريّ الله، لأنه أسَرى لما هاجر. أخرج ابن جرير من طريق عمير عن ابن عباس أن إسرائيل كقولك عبد الله. وأخرج عَبْد بن حُميد في تفسيره عن أبي مِجْلَز، قال: كان يعقوب رجلاً بطيشاً فلقي ملكاً فعالجه، فصرعه الملك، فضرب على فخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به بطش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تسَمَيَني باسم، فسمَاه إسرائيل (1) . قال أبو مجلز: ألا ترى أنه من أسماء الملائكة. وفي لغات أشهرها بياء بعد الهمزة ولام، وقرئ إسراييل بياء بلا همز. قال: ولم يخاطَب اليهود في القرآن إلا بـ يا بَنِي إسرائيل دون يا بني يعقوب   (1) لا يخفى ما فيه من بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 لنُكتة، وهي أنهم خوطبوا بعبادةِ اللهِ، وذكروا بدين أسلافهم موعظةً لهم وتنبيهاً من غفلتهم، فسمّوا بالاسم الذي فيه تذكرة باللهِ، فإن إسرائيل اسم مضاف إلى الله في التأويل، ولما ذكر موهبته لإبراهيم وتبشيره به قال يعقوب - وكان أولى من إسرائيل، لأنها موهبة بمعقِّب آخر، فناسب ذكر اسم يشعر بالتعقيب. (أحمد - صلى الله عليه وسلم -) نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وله أسماء كثيرة حتى أنهاها إلى مائة وخمسة وعشرين. قال الراغب: وخص لفظ أحمد فيما بُشِّر به عيسى، تنبيهاً على أنه أحمد منه، ومن الذي قبْلَه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: خمسة سموا قبل أن يكونوا: محمد، و (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) . ويحيى: (إنّا نبَشِّرُكَ بِغلاَم اسمه يحيى) . وعيسى: (مُصَدقاً بكلمةٍ من اللَه) . وإسحاق ويعقوب: (فبَشّرْنَاهَا بإسحاقَ ومِنْ وَرَاءِ إسحاقَ يَعقوب) . (أباريق) حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية. وقال الجواليقي: الإبريق فارسي معرب، ومعناه طريق الماء، أو صبّ الماء على هِينَة. (أبّ) قال بعضهم: هو الحشِيش بلغة أهل الغرب، حكاه شَيْذَلة. (ابلَعِي) أخرج ابن أبي حاتم، عن وهب بن مُنبِّه في قوله: (ابْلَعِي ماءَكِ) ، - قال بالحبشية أرْدِميه. وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اشربيه - بلغة الهند. (أخلَد) قال الواسطي في الإرشاد: " أخلَد إلى الأرض ": ركن بالعبرانية. (الأرائك) حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان: أنها السِّدْر بالحبشية.. (آزَر) عُدَّ في المعرب على قول أنه ليس بعم لأبِ إبراهيم ولا الصنم. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يقرأ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) .، - يعني بالرفع: أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وقال بعضهم هي بلغتهم يا مخطىء. (أسباط) حكى أبو الليث في تفسيره أنهم بلغتهم كالبساتين بلغة العرب. (استَبْرَق) أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه الدّيباج الغليظ بلغة العجم. (أسفَار) قال الواسطي في الإرشاد: هي الكتب بالسريانية. وأخرج ابنُ أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية. (إصْرِي) قال أبو القاسم في لغات القرآن: معناه عَهْدي بالنبطية. (أكواب) حكى ابن الجَوزي أنها الأكواز بالنبطية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنها بالنبطية الجِرَار ليس لها عُرى. (إل) بكسر الهمزة - قال ابن جنى: ذكروا أنه اسم الله تعالى بالنبطية. (أليم) حكى ابن الجوزي أنه الموجع بالزنجية. وقال ابن شَيْذلة: بالعبرانية. (إناه) نُضجه بلسان المغرب، ذكره شيذلة. وقال أبو القاسم بلغة البربر. وقال في قوله: حميم - إنه هو الذي انتهى حره بها. وقال في قوله: (مِنْ عين آنِيَةٍ) ، أي حارّة بها. (أوَّاه) أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن عكرمة عن ابن عباس قال: " الأوَّاه ": الموقن بلسان الحبشة. وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن مجاهد وعكرمة. وأخرج عن عمرو بن شرحبيل قال: الرحيم - بلسان الحبشة. وقال الواسطي: الأوَّاه الدعاء بالعبرانية. (أوَّاب) أخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن شرحبيل قال: الأوَّاب المسبّح بلسان الحبشة. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: (أوِّبِى معه) ، قال: سبحي بلسان الحبشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 (الأولى) الآخرة، قال في قوله الجاهلية الأولى، أي الآخرة في الملة. (الآخرة) أي الأولى بالقبطية. والقبط يسمون الآخرة الأولى، والأولى الآخرة، حكاه الزركشي في البرهان. (آية) له معنيان: أحدهما عبرة وبرهان، والثاني آية من القرآن، وهي كلام متّصل إلى الفاصلة. والفواصل هي رؤوس الآيات. (أتى) بقصر الهمزة، معناه جاء، ومضارعه يَأتِي، ومصدره إتيان، واسم الفاعل منه آت، واسم المفعول مَأتِي. ومنه قوله تعالى: (إنه كان وَعدهُ مَاتيًّا) . (وآتى) بمد الهمزة معناه أعطى، ومضارعة يُؤتي، ومصدره إيتاء، واسم الفاعل مؤتي، ومنه: (والمؤتون الزّكاة) . (أبَى) أي امتنع. (أثَر) الشيء: بقيّته وأمارته، وجمعه آثار. والأثر أيضاً الحديث، وأثَارة من علم: بقيّته. وأثاروا الأرض: حرثوها. وآثر الرجل بالشيء يؤثره: أي فضّله. (إثْم) ذَنب، ومنه آثِم وأثِيم: مذنب. (أجر) ثواب. وبمعنى الأجرَة، ومنه: (استَأجرْه) . (وعلى أن تَأجرَني) . (ويُجِرْكم مِنْ عذاب أليم) . و (لن يجيرني من الله) . (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ) . فذلك كلّه من الجوار بمعنى التأمين. (آمن) إيماناً: أي صدق. والإيمان في اللغة التصديق مطلقاً، وفي الشرع التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. والمؤمن في الشرع المصدّق بهذه الأمور. والْمؤمِن اسم الله تعالى إذ هو المصدق لنفسه. وقيل: إنه من الأمن، أي يُؤمِّن أولياءه من عذابه. وأمِن - بكسر الميم وقصر الألف - أمناً، وأمِنْت ضدّ الخوف. وأمن أيضاً من الأمانة، وأمَّنَ غيره من التأمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 (إمام) له أربعة معان: القُدوَة، والكنَف، والطريق، وجمع آم، أي تابع. وهو (اجعلنَا للمتّقين إمَاما) . (الأجَل) عبارة عن الوقت الذي تنقطع به الحياة، فإذا قيل: أجل الحياة وأجل الموت، فالمراد به الوقت الذي يحلّ فيه الدَّين وتنقطع به الحياة، خلافاً للمعتزلة القائلين بأنّ المقتول لو لم يقتل لبقي، وهذا باطل للآية: (فإذا جاء أجلُهم لا يستَأخِرون ساعةً ولا يستقدمون) . (أُمِّيّ) لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك وُصِف العرب بالأميين. (أُمّ) له معنيان: الوالدة، والأصل. وأمُّ القرى: مكة. (آل) له معنيان: الأهل، ومنه: آل لوط. والأتباع والجنود، ومنه آل فِرْعون. (أمْس) اليوم الذي قبل يَوْمِك. والزّمان الماضي. (إنَاه) وقتُه، وجمعه آناء، ومنه: آناء الليل. (أمر) له معنيان: أحدهما طَلب الفعل على الوجوب أو النّدب أو الإباحة. وقد قدَّمنَا صيغ الأمر، كالتهديد، والتعجيز، والتعجب، والخبر. والثاني بمعنى الشأن والصفة، وقد يراد به العذاب. ومنه: (جاءَ أمْرنَا) . (إيَاب) رجوع، ومنه: (إنَّ إلينا إيَابَهم) . (وإليه مآب) . (إفْك) أشدّ الكذب. والأفَّاك الكذاب. وأفك عنه، أي صرف، ومنه: تؤفكون. (أوى) الرجل إلى الوضع بالقصر، وآواه غيره - بالمد. ومنه الْمَأوَى. (أفّ) كلمة شَرّ. (آلاء الله) نععَمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 (أسف) له معنيان: الحُزن والغَضب. ومنه: (فلما آسَفُونا) . (أسوة) بكسر الهمزة وضَمّها: قدوة. (أسِي) الرجل يَأسى أسًى، أي حزن. ومنه: (فلا تأسَ علي القَوْم الكافرين) . (فكَيْفَ آسَى) . (أذان) بابقصر: إعلام الشيء. ومنه الأذان بالصلاة، والآذان بالمد: جمع أذن. (إذن الله) يأتي بمعنى العلم، والأمر، والإرادة، والإباحة. وأذِنتُ بالشيء علمت به - بكسر الذال. وآذَنتُ به غيري - بالمد. (أُكُل) بضم الهمزة: اسم للمأكول. ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها. والأَكل - بفتح الهمزة: المصدر. (أيْكة) غَيْضَة. (أثاثا) متاع البيت. (أجَاج) مُرٌّ. (آنيَة) له معنيان: جمع إناء، ومنه: (بآنِيَةٍ من فِضَّة) ، وشديد الحر، ومنه: (عَيْنٌ آنِية) . ووَزْن الأول أفعلة، والثاني فاعلة، ومذكرُه آن، ومنه (حَمِيمٍ آن) . (أأنذرتهم) أعلمتهم بما تحذّرهم منه، ولا يكون الْمُعْلِم مُنْذراً حتى يحذِّر بإعلامه، فكلّ منذر مُعلم، وليس كل مُعلم منذراً. (أنْدَاداً) أمثالاً ونُظَراء، واحدها ند (أزَلَّ) : أي نحّى. يقال: أزلَلته فزَلّ، ومنه: (فأزَلهما الشيْطَان) . (أمَاني) جمع أمنية، وهي التلاوة. ومنه: (ألقَى الشيطان في أمْنِيّته) أي في تلاوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 والأماني الأكاذيب أيضاً. ومنه قول عثمان: ما تمنّيْت منذ أسلمت. ومنه قول بعض العرب لابن دَأب وهو يحَدّث: أهذا شيء روَيتَه أم شيء تمنّيْته، أي افتعلته. والأماني أيضاً: ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. (أيّدناه) قوّيناه. (الأبُ) من له ولادة، والعرب تجعل العمّ أباً والخالة أمًّا. ومنه: (ورفع أبَوَيْهِ عَلَى العرْش) . (أسباب) وصلات، الواحد سبب ووصلة، وأصل السبب الحبْل يشدّ بالشيء فيجذب به، ثم جعل لكل ما جرَّ شيئاً سبباً. (أصْبَرهم) وصبَّرهم واحد. ويقال: (ما أصبرهم على النار) ، أي ما أجرأهم عليها. (ألْفَيْنَا) وجدنا. (أهِلَّة) جمع هلال، يقال له هلال إلى أن يكمل نوره إلى سبع ليال، ثم قمر، ثم بدر لاستدارته، وقيل لمبادرته الشمس بالطلوع إذا غرب. (أفَضْتم) دفعتم بكثرة. (أيام معلومات) أيام التشر يق. والمعلومات: شوّال، وذو القعدة، وعشرين من ذي الحجة، أي خذوا في أسباب الحج وتهيئوا له في هذه الأوقات من التلبية وغيرها. (الأشهر الحرم) رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، واحد فَرْد وثلاثة سرد. (ألَدّ الخصَام) أي شديد الخصومة. (أَفْرِغ) اصببْ، ومنه: (أفْرِغْ عَليْنَا صَبْراً) . (أقسِطْ) أعدل. (آتت أكُلَها ضِعفَيْن) ، أي ضعفي غيرها من الأرضين أسلَمْتُ وَجهي) ، أخلصت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 (أقلامهم) قِدَاحهم، يعني سِهَامهم التي كانوا يجيلونها عند العزم على الأمر، ويكتبون اسم الخصم على القلم، ويُلْقُونه في الماء، فإذا جرى القَلم على الماء عُلم أنه حق، وإذا رسب في الماء عُلِم أنه باطل. كما أن القربان كان حاكم آدم عليه السلام، فمن احترق قربانه علم أنه حقّ، ومَنْ لم يحزق قربانه علم أنه باطل. والسفينة كانت حاكم نوح، فمن وضع يده على السفينة ولم تتحرك علم أنه حق، ومن وضع يده عليها وتحركت علم أنه باطل. والسلسلة كانت حاكم داود عليه السلام، فمن مدّ يده إليها وأخذها فهو حق، ومن لم يقدر على أخذها فهو باطل. والنار كانت حاكم إبراهيم عليه السلام، فمن وضع يده على النار فلم تحرقه فهو على الحق، ومن وضع يده عليها وأحرقته فهو على الباطل. والصّاع كانت حاكِمَ يوسف عليه السلام، فمن وضع يده عليه وسكت فهو حق، ومن وضع يده على الصاع وصاح وصوّت فهو باطل. والحفرة التي كانت في صَوْمعة سليمان عليه السلام كانت حاكمه، فمن وضع رِجلَه فيها ولم تأخذه وخرجت علم أنه حق، ومن وضع رِجْله فيها وانضمّت عليه علم أنه باطل. فإن قلت: كان أوْلَى بهذه الخواصّ نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما باله مُنعها؟ والجواب أنه أعطي البيِّنة على المدعي واليمين على المنكر لئلا يهتك سترَ مَنْ كذب في دَعواه في الدنيا، فكيف يهتك ستر مَنْ يشهد الشهادة في القربى. وفي الحديث: إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى كل نبي أن يحاسبَ مع أمّته، ويقول: يا محمد، ألا تحاسب مع أمّتك! فيناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربّه، ويقول: إلهي لا تفضَحْني في أمتي، واجعل حسابهم في يدي حتى لا يطلع على مساويهم غيري. فيقول: يا محمد، أنت تريد ألَّا يطلع على مساويهم غيرك، وأنا لا أريد أن يطلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 على مساويهم أنت ولا غيرك، لأني أرفق بهم منك. اللهم كما أنعمت علينا به وشرفتنا بشرفه، اقبَلْ من مُحْسننا وتجاوَز عن مُسيئنا، ولا تشف فينا الأعداء، إنكَ ذو الفضل العظيم. (الأكْمَه) الذي يُولَد أعمى. (أحَسَّ) علم ووجد. (أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) : أحقّهم به. (الإيناس) الرؤية، والعلم بالشيء، والإحساس به، ومنه: (فإنْ آنسْتُم منهم رُشْداً) . و (آنسْتُ ناراً) . (أذَاعوا به) أفشوه. (أرْكَسَهم) نكسهم وردّهم في كُفْرِهم. (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) أي عامدين. وأما في الدعاء فتخفف الميم وتمدّ وتقصر، وتفسيره: اللهم استجب. ويقال (آمين) اسم من أسماء الله عزّ وجل. (الأزلام) : القِدَاح التي كانوا يَضرِبونها على الميْسر، واحدها زَلَم وزُلَم. (أجْل ذلك) أي من سببه، ويقال: من أجل ذلك، ومن جرَّاءِ ذلك بالمد والقَصْر. (أغرَيْنَا بَينَهم) هيَّجْنا. ويقال أغرينا: ألصقنا بهم. وأصل ذلك - من الغِراء. والعداوة تباعد القلوب والنيات. والبغضاء: البغض. (الأوليان) واحدها الأولى: والجمع الأوَّلون. والأنثى الأوَّلة، والجمع الأوَّلات. (أكنَّة) أغطية، واحدها كنان. (أساطير) أباطيل وتُرَّهَات، واحدها أسطورة وإسطَارة. (أوْزَارها) آثامها، ومنه: (وهم يَحمِلُون أوْزَارَهُم @11 لأنعام: 31) . وأصل الوِزر ما حمَل الإنسان، فسمّي السلاح أوزاراً، لأنه يحمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وأما قوله: (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى) ، أي لا تُؤخَذ نَفسٌ بذنبِ غيرها. (أفَل) غاب. (أكابر) عظماء. (الأعراف) سُورٌ بين الجنّة والنار، وسُمِّيَ بذلك لارتفاعه. ومنه سمي عُرْف الديك، ويستعمل في الشرف والمجد، وأصله في البناء. (أقَلّتْ) حملت، وإنما سُميت الكيزان قلالاً لأنها تُقَل بالأيدي فيُشرب فيها. (أنفال) غنائم. والنَفْل: الزيادة على الفرض، ويقال لولد الناقة نافلة، لأنه زيادة على أمه. وأما قوله تعالى: (ووهَبْنَا له إسحاق ويعقوب نافلةً) ، أي دعا بإسحاق، فاستُجيب له وزيد يعقوب، كأنه تفضّل من الله عز وجل، وإن كان كلٌّ بتفضله. (أمْطرْنَا عليهم) ، - بالهمزة: معناه العذاب، وللرحمة مطرنا. (أقاموا الصلاة) حافظوا عليها بشروطها، يقال: قام بالأمر، وأقاموا به: إذا جاء به مُعْطٍ لحقوقه. (أسلَفَت) قدّمت. (أخْبَت) تواضع وخشع. والخَبْت: ما اطمأن من الأرض. (الأراذل) ،: الناقص القدر والقيمة. (أوْجَس) أحسَّ في نفسه خوفاً. (أسرى) من سُرى الليل، يقال سرى وأسرى - لُغتان. (أدْلى دَلْوَه) : أرسلها ليملأها. ودلاّها: أخرجها. (أشُدَّه) منتهى شبابه وقوته، واحدها شَدّ، مثل فَلْس وأفْلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 قال مجاهد: ثلاثاً وثلاثين سنة. واستوى: قال أربعين سنة. وأشدُّ اليتيم: قالوا ثمان عشرة سنة. (أكبَرْنَهُ) أعظَمْنَهُ. (أَصبُ إليهنَّ) ، أمِلْ إليهن، ويقال أصباني فصبوت، أي حملني على الجهل، وعلى ما يفعل الصبي، ففعلت. (أضْغاث أحلام) ،: أخلاط، مثل أضغاث الحشيش. واحدها ضِغث، وإنما قالوا أضغاث أحلام بالجمع وكانت واحدةً، لأنه كقولهم: فلان يركب الخيل وإن رَكِبَ فرساً واحداً. (استَبَقَا الباب) ، من السابقة، معناه: سابق كلّ واحد منهما صاحبه إلى الباب، فقصد هو الخروج والهروب منها، وقصدَت هي أن تردّه. فإن قلت: لِمَ قال هنا الباب بالإفراد، وقد قال: وغلِّقَت الأبواب بالجمع؟ فالجواب أن المراد هنا الباب البَرَّاني الذي هو المخرج من الدار. (آثرك اللهُ) ، أي فضَّلك. ويقال على أثْرَة: أي فَضْل. (أصنام) جمع صنم، وهو ما كان مصوّراً من حجر أو صُفر أو نحو ذلك. والوثَن ما كان من غير صورة. وقد سمى الله تعالى في كتابه أسماء الأصنام التي كانت أسماء لأناس: ودّ، وسواع، ويَغوث، ويَعوق، ونسْر. وهي أصنام قوم نوح. واللاّت، والعُزَّى، ومَنَاة. وهي أصنام قريش. وكذا الرّجز فيمن قرأه بضم الراء، ذكره الأخفش في كتاب الواحد والجمع على أنه اسم صَنَم. (أصْفَاد) أغلال، واحدها صفَد. (أسقَيْنَاكُموه) يقال لما كان مِنْ يدك إلى فمه سقيته، فإذا جعلت له شربا وعرضته لأن يشرب أو لزَرْعه قلت أسقيته. ويقال سقى وأسقى بمعنى واحد. (أرْذَل العُمُر) الهرم الذي يُنقِص قوّته وعقله، ويصيِّرُه إلى الخرف ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 (أكنَاناً) جمع كِنّ، وهو ما سَتَر ووقى من حر البرد. (أمَّرنا) بالتشديد: جعلناهم أمراء. (أرْبَى) أي أزيد عددا. ومن هذا سمي الرِّبا. (أجلِبْ عليهم) جَمّع عليهم. (أعثَرنا) أطلعنا. (أسَاور) جمع أسورة -، وأسورة جمع سوَار، وهو الذي يُلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قُلب، وجمعه قِلَبة، وإن كان من قَرْن أو عاج فهو مَسَكة، وجمعها مِسَك. (أهشّ بها على غَنَمِي) ، أضرب بها الأغصان ليسقط ورقُها على غنمي فتأكله، وإنما سأله تعالى ليريه عظم ما يفعَلُه في العصا من قلبها حيَّة، فمعنى السؤال تقرير أنها عصا ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن يقلبها. وقيل: إنما سأله ليؤنِسَه ويبسطه بالكلام. (أزْرِي) عِزّي وظَهْري. ومنه: (فآزره) ، أي أعانه. (أمثَلُهم طريقةً) أي أعدَلهم طريقة وقَوْلاً عند نفسه. (أمْتاً) ارتفاعاً وهبوطاً. (أتْرَفناهم) نعّمناهم، والترف التقلب في لين العيش. (أحَاديث) أي عِبَراً يتمثّل بهم في الشر، ولا يقال جعلته حديثاً في الخير. (الأيِّم) الذي لا زوج لها، ويقال للرجل والمرأة. (أشْتاتاً) فِرَقاً، واحد هم شت. (أصيل) ما بين العَصْرِ إلى الليل، وجمعه أُصُل، ثم أصائل جمع الجمع. (أنَاسي) جمع إنسي، وهو واحد الإنسان، جمعه على لفظه، مثل كرسي وكراسي، والإنس جمع الجنس يكون بطرح ياء النسب، مثل رومي وروم. ويحوز أن يكون أنَاسي جمع إنسان، وتكون الياء بدلاً من النون، لأن الأصل أناسين بالنون، مثل سراحين جمع سرحان، فلما ألغيت النون من آخره عوضت الياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 (أزْلَفْنَا) أي جمعناهم في البحر حتى غرقوا، ومنه ليلة المزْدَلفة، أي ليلة الاجتماع. ويقال: أزلفنا: قربنا، أي قربناهم من البحر. ومنه: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) . (أعْجَمِين) جمع أعجم، وأعجمي أيضاً إذا كان في لسانه عُجمة، وإن كان من العرب. ورجل عجمي منسوب إلى العَجَم وإن كان فصيحا، ورجل أعرابيّ إذا كان بدوياً وإن لم يكن من العرب. ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدوياً. وقال الفراء: العجمي منسوب إلى نفسه من العجمة، كما قيل للأحمر أحمري، وكقوله: "والدّهْرُ بالإنسان دوّاري". إنما هو دوّار، وقد نسب الله في كتابه إلى الأماكن: (الأمِّي) قيل إنه نسبةٌ إلى أم القرَى: مكة. وعبقري قيل إنه منسوب إلى عَبْقر: موضع للجن ينسب إليه كل نادر. والسامريّ قيل منسوب إلي أرض يقال لها سامرون وقيل سامرة. والعربي قيل منسوب إلى عَرَبة، وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام، وأنشد: وعَرْبَة أرض ما يحل حرامها ... من الناس إلا اللّوْذَعيّ الحُلاحِل يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أوْزِعْنِي) ألْهمْنِي، يقال فلان مُوزعَ بكذا ومُولع ومغرى بمعنى واحد. (أهْوَن عليه) أي هيّن، كما تقول فلان أوحد أي وحيد، وإني لأرجل أي رجل. وفيه قول آخر: أي وهو أهون عليه عندكم أيها المخاطبون، لأنَّ الإعادة عندكم أسهل من الابتداء. وأما قوله: الله أكبر - فالمعنى الله أكبر من كل شيء. (أنْكر الأصوات) أقبحها، وإنما يُكْرَة رَفع الصوت في الخصومة والباطل. ورفع الصوت محمود في مواطن، كالتلبية والأذان. (أدْعيَاءَكم) .، جمع دَعِيّ، وهو الذي يُدعى ولد فلان وليس بولده. وسببها أمر زيد بن حارثة، وذلك أنه كان فتى من كلب فسباه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 بعض العرب وباعه من خديجة، فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتبنّاه، فكان يقال له: زيد ابن محمد، حتى نزلت هذه الآية. فسبحان من قاده بسلاسل العناية: واحد من كلب، وآخر من الحبشة، وآخر من الروم، وآخر من فارس، وأبو طالب واقف على الباب ينصره ويذبّ عنه، وحرم من الدخول، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا أنت. (أقْطَارها) جوانبها، وقُرِئ بالتاء، وهو بمعنى واحد. الواحد فطْر وقُتْر. (أشِحَّةً) عليكم: جمع شحيح، أي بخيل. (أسَلْنَا) ، أذَبْنا، من قولك: سال الشيء وأسلته. قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس يصنع منها ما أحب. والمعنى أن الله أذاب له النّحاس بغير نار، كما صنع بالحديد لداود، فطلب من الله أن يعمل منها صور رجال يقاتل بها أعداءه، ويستعين بهم في خدمته لأنهم أقوى. فأجابه إلى ذلك، ونفخ فيهم الروح، فكان يستعين بهم في حوائجه، فهذا هو الملك العظيم (1) ، ومع هذا سماه رُخَاء ليتنبَّه العبد على أن جميع ما في الدنيا لا عِبْرَةَ به عنده. (أثْل) شجر يشبه الطَّرْفَاء، إلا أنه أعظم منه. (أسَرّوا) أظهروها، وقيل كتموها، يعني كتمها العظماء من السفلة الذين أضلُّوهم، فهو من الأضداد. (أذْقَان) جمع ذَقَن، وهو مجتمع اللّحْيَيْنِ. (أجداث) قبورهم، واحدها جدَث، يعني أنهم ينسلون من قبورهم عند النفخة الثانية. (الأحزاب) الذين تحزَّبوا على أنبيائهم، وصاروا فرقاً. (الخَيْر) : الخيل، سميت بذلك لما فيها من المنافع.   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وفي الحديث: الخير معقود في نواصي الخيل. وقيل المال. وهذا يختلف بحسب الاختلاف في القصة. فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيْل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة. فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال: الأول وهو الذي قدمناه. وأحببت بمعنى آثرت، أو بمعنى فِعْلٍ يتعدى بعَنْ، كأنه قال: آثرت حب الخير فشغلني عن ذكر ربي. والآخر أن الخيل هنا يراد به المال، لأن الخيل وغيرها مال، فهو كقوله تعالى: (إنْ ترَكَ خَيْراً) ،: أي مالا. والثالث أن المفعول محذوف وحب الخير مصدر، والتقدير أحببت هذه الخيل مثل حب الخير، فشغلني عن ذِكر ربي. وأما الذين قالوا إنه كان يصلِّي فعُرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها، فالمعنى أنه قال: أحببت حبَّ الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، فشغلني ذلك عن النظر إلى الخيْل. (أكفِلْنيها) ضُمَّها إليّ، واجعلني كافلها، أي تلزم نفسي حياطتها، وأصله اجعلها في كفالتي. وقيل اجعلها كِفْلي، أي نصيبي. (أتْرَاب) أقران، واحدها ترْب، يعني أن أسنان الآدميات وأسنانَ أزواجهنّ سواء، من سن ثلاثين سنة والطول ستين ذراعا. وأما الحور العين فعلى حسب ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين. (أشرقت الأرض) أضاءت. (أمَتّنَا اثنَتَيْن وَأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْن) ، هذا كقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) . فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدماً، أو كونهم في الأرحام، أو في الأصلاب. والموتة الثانية الموتة المعروفة. والحياة الأولى حياة الدنيا. والحياة الثانية حياة البعث في القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وقيل الحياة الأولى حياة الدنيا، والثانية الحياة في القبر. والموتة الأولى الموتة المعروفة، والموتة الثانية بعد حياة القبر. وهذا قول فاسد، لأنه لا بد من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاث مراتب. فإن قيل: كيف اتصال قولهم: أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله. فالجواب أنهم كانوا في الدنيا يكفرون بالبعث، فلما دخلوا النار مقَتوا أنفسهم على ذلك، فأقرّوا به حينئذ ليرى الله إقرارهم بقولهم: " أمتّنا اثنتين وأحْيَيْتَنا اثنتين "، إقراراً بالبعث على أكمل الوجوه، طمعا منهم أن يخرجوا عن المقْتِ الذي مقتهم الله، إذ كانوا يُدْعَون إلى الإيمان فيكفرون. (أقْوات) أرزاق بقدر ما يحتاجون إليه. وقيل يعني أقواتَ الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض. والأول أظهر. (أرْدَاكم) ، أهلككم. (أكمامها) أوعيتها التي كانت فيها مستترة قبل تفطّرها، واحدها كِم. وقوله: (والنخل ذات الأكمام) ، أي الطّلع قبل أن ينفَتِقَ. (أكواب) : أباريق، لا عرى لها ولا خراطيم، واحدها كوب. (أبْرموا) أحكموا. (آنِفاً) أي الساعة، من قولك: استأنفْت الشيء: ابتدأته. (أحقاف) : جمع حِقْف، وهو الكدْس من الرمل. واختلف أين كانت! فقيل بالشام. وقيل: بين عمان وحضرموت. والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن. (أثخَنتموهم) : أكثرتم فيهم القَتل والأسر. (آسِن) ، متَغَيِّر الرائحة والطعم. (أشراطها) : علاماتها، ويقال أشرط نفسه الأمر إذا جعل نفسَه علماً فيه. ولهذا سمي أصحاب الشّرَط، للبسهم لباساً يكون علامةً لهم. والشرط في البَيْع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 علامة بين المتبايعين، والذي كان قد جاء من أشراط الساعة مَبْعثُ مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قال: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين. (أمْلَى لهم) : أي مَدَّ لهم في الأماني والآمال. والفاعل هو الشيطان. وقيل الله تعالى. والأول أظهر، لتنَاسب الضميرين الفاعلين في سوَّل وأملَى. (أضْغَانهم) أحقادهم، ويراد به هنا النفاق والبغْض في الإسلام وأهله. (ألقَى السّمْع وهو شهيد) ، أى استمع كتابَ الله وهو شاهد القَلْب والفهم، ليس بغافل ولا ساهٍ. (ألقِيَا في جهنم) ، خطاب للملكين السائق والشهيد. وقيل: إنه خطاب للواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة، ثم أبدل منها ألفاً، على أن يكون معناه ألقِ ألْق، فثَنَّى مبالغة وتأكيداً، وعلى أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقَولهم: خليليّ وصاحبي. وهذا كله تكلف بعيد. ومما يدل على أن الخطاب للاثنين قوله: (فألْقِيَاهُ في العذابِ الشديد) . (أدْبَار السّجود) جمع دُبُر. والإدبار مصدر أدبر. قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: الركعتين بعد المغرب. وقال ابن عباس: هي النوافل بعد الفرائض، وقيل الوتْر. (اللاّت والعزى) أصل اللات رجل كان يلتّ السويق للحاجّ. والعُزَّى كانت صخرة بالطائف، مؤنثة الأعز. وقيل، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد فقطع شجرة يقولون لها العُزَّى، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعْرها تَدْعو بالوَيْل والثبور، فضربها بالسيف حتى قتلها. وهذه مخاطبة لمن كان يعبدها من العرب على جهة التوبيخ لهم. (أكدَى) أي قطع العطاء، وأمسك، مأخوذ من كُدْيّة الركيّة، وهو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 يحفر الحافر فيبلغ إلى الكُدْية، وهي الصلابة من حجر أو غيره، فلا يعمل مِعْوَلُه شيئاً فييأس وينقطع عن الحفر. (أقْنَى) ،: أكسبَ عبادَه المال، فهو من كَسْب المال وادخاره. وقيل معنى أقنى أفقر، وهذا لا تقتضيه اللغة. وقيل معناه أرضى. وقيل أقنع عبْدَه. (أزِفت) ، أي قربت، سميت بذلك لقربهها، يقال: أزف شخص فلان أي قرب. وقوله: (وأنْذِرْهم يَوْمَ الآزِفَة) ، يعني القيامة. (أعْجاز نخل) : أصول نخل منقَعر. وأعجاز نخل منقلع. وأعجاز نخل خاوية، أي بالية. شبّه اللَّهُ عاداً لما هلكوا بذلك، لأنهم طوال عِظَام الأجسام، كان طول أحدهم مائة ذراع كالنخل (1) . وقيل: كانت الريح تقلعهم حتى حفروا حفراً يمتنعون بها من الرّيح فهلكوا فيها، فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت في حُفرها. أَبَشَرًا) ،: هو صالح عليه السلام، وانتصب بفعل مضمر. والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشراً، وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم جماعة كثيرون. (أشِر) ، أي بطر، متكبر، وربما كان للمدح من النشاط. (الأنام) : الخَلْق كلهم، وقيل الحيوان كله. (الأعلام) : الجبال، شبه السّفن بها، وإنما سمّاها منشآت لأن الناس ينشئونها. (أفنَان) : أغصان، واحدها فَنَن وهو الغصن. أو جمع فن، وهو الصنف من الفواكه وغيرها. (أول الحَشْر) ، في معناه أربعة أقوال:   (1) كلام فيه نظر لما أخرجه البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أحدها: أنه حَشْر القيامة، أي خروجهم من حصونهم أول الحشر، والقيام من القبور آخره. وروي في هذا المعنى أنالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: امضوا، هذا أول الحشر وأنا على الأثر. الثاني: أن المعنى لأول موضع الحشر، وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النَّضير - خرجوا إلى الشام، وقد جاء في الأثر أن حَشْرَ القيامة إلى الشام. وروي في هذا المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبني النَّضِير: اخرجوا، قالوا: إلى أين، قال: إلى أرض الحشر. الثالث: أن المراد بالحشر في الدنيا. هو الجلاء والإخراج، فإخراجهم من حصونهم أول الحشر، وإخراج أهل خَيْبَر آخره. الرابع: أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول الحشر لقتالهم، لأنه قال قاتلهم. قال الزمخشري: اللام في قوله (لأوَّل) بمعنى عند، كقولك: جئت لوَقْتِ كذا. (أَوْجَفْتم) ، من الإيجاف، وهو السير السريع. والمعنى أنَّ ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يَمْشِ المسلمون إليه بخيْل ولا رِكاب، ولا تَعِبوا فيه ولا حصَّلوه بقتال، ولكن حصلوه بتسليط رسوله - صلى الله عليه وسلم - على بني النضير، فأعلم الله في هذه الآية أن ما أخذ لبني النضير وما أخذ من فَدَك، فهو خاصّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل فيه ما شاء، لأنه لم يوجف عليها ولا فوتلت كبير قتال، بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - لنفسه من أموال بني النضير قوتَ عياله، وقسَّم سائرها في المهاجرين، ولم يعطِ الأنصارَ شيئاً، غير أن أبا دجانَة وسهْل بن حُنَيْف شكواً فاقةً فأعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. هذا قول جماعة. وقال عمر ين الخطاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِق منها على أهله نفقةَ سنة، وما بقي جعله في السلاح والكرَاع عدة في سبيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 قال قوم من العلماء: وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة يأخذون منه حَاجتهم، ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين. (أفاء الله) ، من الفَيء. ويعني أن الله جعل فيئاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (الذي) ، واحد الألى والذين جميعا. واللاّتي واحدها التي. (أرجائها) : نواحيها وجوانبها، واحدها رَجَا - مقصور. يقال ذلك لِحَرْف البِئر وَلِحَرف القَبر وشبهها. والضمير يعود على السماء، لأنها إذا وهت، وقفوا على أطرافها. وقيل يعود على الأرض، لأن المعنى يقتضيه وإن لم يتقدم ذكرها. وروي في ذلك: إن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفاً على جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر. (أوسطهم) : أعدلهم وأفضلهم. ومنه: (أمّة وَسطاً) . (أوعَى) ، يقال: أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعائه، فالمعنى جمع المالَ وجعله في وعاء. وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير حِلّه. ووضعوه في غير محله. (أصَرّوا) : أقاموا على المعصية. (أطواراً) ، أي طَوْراً بعد طَوْرٍ، يعني أن الإنسان كان نُطْفةً، ثم عَلَقة، ثم مُضْغة إلى سائر أحواله. وقيل: الأطوار الأنواع المختلفة، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم وألسنتهم وأخلاقهم وغير ذلك. (أقْوَم قِيلا) : أصحّ قولاً، لهدأة الناس وسكون الأصوات. والمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر فيه. (أَنكلالا) : جمع نِكْل وهو القَيْد من الحديد. وروي أنها قيودٌ سود من نار لو وضع قَيْد منها على الأرض لأحرقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 (أسفر) : أضاء، ومنه الإسفار بصلاة الصبح. (أمشاج) : أي أخلاط، واحدها مَشَج - بفتح اليم والشين. وقيل مَشْج بوزن عدل. وقال الزمخشري: ليس أمشاج بجمع، وإنما هو مفرد، كقولهم: بُرْمَة أعشار. ولذلك وقعَ صفةً للمفرد. واختلف في معنى الاختلاط هنا، فقيل اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء. وقيل اختلاط ماء الرجل والمرأة. وروي أن عظام الإنسان وعَصَبه من ماء الرجل، وأن لحمه وشحمه من ماء المرأة. وقيل معناه أطوار، وألوان: أي يكون نطفة ثم علقة. .. الخ. (أَسْرَهم) : خلقتهم. وقيل المفاصل والأوصال. وقيل القوة. (ألْفافاً) : ملتفّة من الشجر، وهو جمع لُف - بضم اللام. وقيل بالكسر. وقيل لا واحد له. (أفواجا) : جماعات. يعني بعد نَفْخَةِ القيامة من القبور. (أحقاباً) : جمع حقبة أو حُقْب وهي المدّة الطويلة من الدهر غير محدودة. ثم اختلف في مقدارها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ثلاثون سنة. وقال ابن عباس: ثمانون سنة. وقيل ثلاثمائة. وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقاباً كلما انقضى حقب جاء آخر إلى غير نهاية. وقيل: إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي، ثم نسخ بقوله: (فذوقوا فلَنْ نَزِيدَكم إلاَّ عذَابا) ، وهذا خطأ، لأن الأخبار لا تنسخ. وقيل هي في عصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله: (وكَذبوا بآياتنَا كِذَّابا) . وقيل معناه أنهم يبقون أحياناً لا يذوقون لا بَرْدا ولا شراباً، ثم يبَدَّل لهم نوع آخر من العذاب، وهذا أليق. (أَغْطَش ليلها) : أي جعله مظلماً. يقال غَطَش الليل إذا أظلم، وأغطشه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 (أقْبَره) : جعله ذا قَبْرٍ، يقال قبرت الميِّتَ إذا دفنْته. وأقبرته إذا أمرت أن يُدْفن. (أنْشَرَه) : أي بعثه من قبره يوم القيامة. (أذِنَتْ لربّها) ،: أي استمعت، وهو هنا عبارة عن طاعتها لربها، وإنما انقادت إليه حين أراد انشقاقها، وكذلك طاعة الأرض لمَّا أراد مَدَها وإلقاءَ ما فيها، وحق لها أن تَنْشق من أهوال يوم القيامة. أقال عثراتنا. (أَفْلح) ،: نجا، يعني ظَفِرَ مَن طهَّر نفسه بالعمل، وجانَبَ الظفر مَن أهملها بالكفر والمعاصي. (أهَانَن) : يعني لم يحسن إليَّ. وقد أنكر الله على الإنسان قوله عند النعماء أكْرَمني، ويقول عند الضرر به (أهَانَنِ) ، على وجه التشكي من الله وقلّة التسليم لقضائه، فاعتبر هذا العبد الدنيا، وجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة، وليس الأمر كذلك، فإن الله يبسط الرزق لأعدائه، ويضيِّقه لأوليائه، ولم يكن في زمان موسى أكرَم على الله منه، وقد قطع الشوك رجليه من الحَفَا، وكان يرى على بطنه أثر البقول. وفرعون حينئذٍ يدَّعي الربوبية، وقد أمر الله نبيه بالإعراض عن زَهْرَة الدنيا، والنظر إليها في قوله: (ولا تَمدَّن عَيْنَيْكَ) . وأخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع، قال: أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَيْفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أنْ أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب. فقال: لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: والله إني لأمين مَنْ في السماء أمين من في الأرض، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية: (لا تَمدّنّ عينيك إلى ما متّعْنَا به أزواجاً منهم) . فإن قلت: قد أثبت اللَّهُ تعالى في قوله: (ربي أكرمنِ) ؟ فالجواب من ثلاتة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أحدها: أنه لم ينكر عليه ذكره الإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر والخُيلاء، وقلّة الشكران، ومن اعتبار الدنيا دون الآخرة. الثاني: أنه أنكر عليه قوله: رب أكْرَمَنِ إذ اعتقد أن إكرام الله باستحقاقه الإكرام على وجه التفضّل والإنعام، كقول قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) . الثالث: أن الإنكار إنما هو لقوله: رَبِّي أهَانَنِ، لا لقوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، فإن قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) اعتراف بنعمة الله، وقوله: (رَبِّي أَهَانَنِ) شكاية من فِعْل الله. (أنْقَض ظَهْرَك) : النِّقْض البعير الذي قد أتعبه السفر والعمل فنقض لحمه، فيقال له حينئذ نِقْص، وهو هنا عبارة عن ثقل الوِزْر المذكور وشدته عليه. قال الحارث المحاسبي: إنما وُصفت ذنوب الأنبياء بالثقل وهي مغفورة لهم لو صَدَرَت منهم، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله، وهي عند الله خفيفة. وهذا كما جاء في الأثر أن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبَه كالذبابة تطير فوق أنفه. وعلى هذا قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء. أو على أن ذنوبه كانت قبل النبوة. والصحيح أن الوِزْر هي أثقال النبوة وتكاليفها، فأعانه عليها. (أثقالها) : جمع ثقْل، وإذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقيل هي الكنوز، وهذا ضعيف، لأن إخراجها للكنوز وقت الدجّال. والمراد إخراج الموتى الذين في جوفها عند النفخة الثانية في الصور. (أَوْحَى لها) : أوحى إليها، إما بكلام أو إلهام. وقيل معناه أوحى إلى الملائكة من أجلها، وهذا بعيد. وفي التفسير أوحى إليها أمرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 (أَلْهَاكم التكاثر) : أي شغلكم التكاثر في الدنيا للمباهاة بكثرة الأموال والأولاد عن محاسبة أنفسكم، ستعلمون ما يحلُّ بكم. وإنما كرر (كلا سوف تعلمون) ، للتأكيد والتهويل، وعطفه " بثمَّ " إشارة إلى أن الثاني أعظم من الأول، وإنما حذف معمول (تعلمون) لقَصْدِ التهويل. فيقدر السامع أعظم ما يَخْطر بباله. (أبابيل) : جماعات متفرقة، شيئاً بعد شيء. قال الزمخشري: واحدها إبَّالَة. وقال جمهور الناس: هو جمع لا واحد له من لفظه. وقصتهم أنَّ اللَهَ أرسل على أصحاب الفيل طيوراً سوداً وقيل خضراً، عند كل طائر ثلاثة أحجار في مِنْقاره ورِجْلَيْه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان الحجر يقتل مَنْ وقع عليه. وروي أنه كان يدخل في رأسه ويخرج من دبره، ووقع في سائرهم الجدْريّ والأسقام وانصرفوا، فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل، وتقطع أبرهةُ أنمَلة أنملة. وروي أن كلَّ حجر منها فوق العدسة ودون الحمّصة. وقال ابن عباس: أدركت عند أم هانىء نحو قَفِيز من هذه الحجارة، وأنها كانت مخطّطة مجمرة. وروي أنه كان على حجر اسم مَنْ يقَع عليه مكتوب. (الأبْتر) : هو الذي لا عقب له، ونزلت هذه الآية في العاصي بن وائل: وقيل في أبي جهل على وجه الردّ عليه، قال: إن محمداً أبْتَر، لا ولد له، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر، وإن كان له أولاد، لأنه مبتور من رحمة الله، أي مقطوع عنها، وأنه لا يُذْكَر - إذا ذكِرَ - إلا باللَّعْنة، بخلاف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ ذكره خالد إلى آخر الدهر بالصلاة والسلام، مرفوع على المنابر والصوامع، مقرون بذكر الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (الفَلَق) : قيل الصبح. ومنه: (فَالِق الإصباح) الزمخشري: هو فَعَل بمعنى مفعول. وقيل: إنه كلّ ما يفعله الله، كفلق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر والحَبّ والنَّوَى، وغير ذلك وقيل: إنه جبٌّ في جهنم. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -. (أهِلَّ) بضم الهمزة: ذكر عند ذَبْحه اسمٌ غي الله، وأصل الإهلال رفع الصوت. (اضْطرَّ) : ألجئ، وهو مشتقّ من الضرورة، ووزنه افتعل، وأبدل التاء طاء واختلف في حدّ الاضطرار، والصحيح أنه ثلاثة أيام، والحكمة فيه أن الميتة حرمت لسمّها وضرّها، والآدميّ إذا خلت معدته من الطعام نشأ منها سمٌّ قاتل، يغلب على سم الميتة، فلذا أبيح أكلها. (أمَّة) : يرد لمعان: جماعة، ومنه: (وَجَد عليه أمة) ورجل جامع للخير، ومنه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ، ودين وملّة، كقوله: (إنّا وجَدْنَا آباءنا على أمَّةٍ) وحين وزمان كقوله تعالى: (إلى امَّةِ معدودة) .، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي نسيان. (وأمَّةٌ قائمة) يقال فلان حسن الأمة، أي قائمة. وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث زيد بن عمرو بن نفَيل أمة وحده. وأمة: أم، يقال هذه أمّة زيد، أي أمه. (أحْصِرتم) : منعتم. والمشهور في اللغة أحصره المرض بالألف، وحصره العدو. وقيل بالعكس. وقيل هما بمعنى واحد، فقال مالك: أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدْي ولم يوجبه - على من حصره العدو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقال الشافعي وأشهب: يجب الهدْي على من حصره العدوّ، وحمَلَا الآية على ذلك، واستدلّا بِنَحْرِ الْهَدْي بالحديْبية. وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصَر بعدو وبمرض. (اخْراكم) : آخركم، وفيه مدْحٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الآخر هو موقف الأبطال يرفع جريحهم، ويقوِّي منهزمهم. (أجورهنَّ) : مهورهن وصداقهنّ، يعني إذا استَمْتَعْتم بالزوجة بالوَطْء فيجب إعطاء الصداق كاملاً. (أُبْسِلوا) : ارتهنوا وأسلموا للهلكة. (استَهْوَته) ، أي ذهبت به الشياطين في مَهَامِه الأرض، وأخرجته عن الطريق، فهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها. وقال الفارسي: استهوى بمعنى أهوى، مثل استزل بمعنى زل. (أُمْلي لهم) ، أي أطيل لهم المدة، وأتركهم ملاوة من الدهر مع إرادة العقوبة، فظاهره إحسان وباطنه خذلان. (أُذُن) ، يعني يقبل كلَّ ما قيل له ويصدقه. ورُوي أن قائل هذه المقالة نَبْتَل بن الحارث، وكان من مردة المنافقين. وقيل عتّاب بن قيس فردّ الله عليه قوله بأنه يسمع الخير والحق ويؤمن للمؤمنين. (اجتُثَّت) ، معناه استؤْصلت واقتلعت، وحقيقة الاجتثاث أخْذ الجثَّة. وهذا في مقابلة قوله: (أصلهَا ثابت) . (أُخْفِيها) ،: أسترها وأظهرها أيضاً، فهو من الأضداد. قال ابن عطية: هذا قولٌ مختلّ، وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال أخفى بالألف من الإخفاء، وخفى بغير ألف بمعنى أظهر، فلو قال بمعنى الظهور لقال أخفيها بفتح الهمزة في المضارع. وقد قرئ بذلك في الشاذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغة أخفى بمعنى خفى، أي ظهر، فلا يكون هذا القول مخْتلاًّ على هذه اللغة. والصحيح أن الله أبْهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحدًا حتى كاد أن يحفى وقوعها لإبهام وقتها، ولكنه لم يخفها إذ أخبر بوقوعها، فالإخفاء على معناه في اللغة، " وكاد " على معناها من مقاربة الشيء دون وقوعه، وهذا هو اختيار المحقِّقين. (اضْمم) (واسْلكْ) ، بمعنى الدخول. (اغْضُضْ) : أنْقِص منه. ومنه: (قل للمؤمنين يغضُّوا مِنْ أبصارهم) ، أي ينقصوا من نظرهم عما حرم الله عليهم، فقد أبيح لهم ما سوى ذلك. (ارْكُضْ) برجلك: اضرب الأرض. والتقدير قلنا له ارْكض الأرْضَ. فضَرب الأرض برجله، فنبعَتْ له عَيْنٌ باردة صافية، فشرب منها، فذهب كلُّ مرض كان في جسده. وروي أنه ركض الأرض مَرّتين فنبع له عَيْنان، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. (أمُّ الكتاب) : أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي كتبَ اللَّهُ فيه مقاديرَ الأشياء كلها. (أولو العزم من الرسل) : نوح وإبراهيم وعيسى وموسى. وقيل هم الثمانية عشرة المذكورون في سورة الأنعام بقوله: (فبِهدَاهمْ اقْتَدِهْ) ، وقيل كلّ مَنْ لقي مِنْ أمًته شدةً. وقيل الرسل كلّهم أولو عزم. (ازْدجر) : انتهر وشُتم، وقالوا له: (لئن لم تنْتَه يا نوحُ لتكوننّ من الْمَرْجومين) . (أُجِّلَتْ) : أخِّرت: وهو من الأجل، كالتوقيت من الوقت، وفيه توقيف يراد به تعظيم لذلك اليوم، ثم بيّنه بقوله: (وما أدرَاكَ ما يَوْم الفَصْل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 (إبليس) : إفعيل من أبْلَس أي يئس. وقد كان اسمه أولاً عزرائيل. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان اسم إبليس عزرائيل. وقال السدّي: إبليس هو عزرائيل. وقال ابن عسكر: قيل اسمه قِتْرَة. وقيل أبو مرّة، وقيل أبو لُبَيْنى، حكاه السهيلي في " الرّوض الأنف ". (استوقد) ، أي أوقد. وقيل طلب الوقود على الأصل في استفعل. (ارهبونِ) : خافوني. وإنما حذفت الياء لأنها في رأس آية، ورؤوس الآيات بَنَوا الوقوف عليها، والوقوف على الياء يُسْتَثْقَل، فاستغنوا عنها بالكسرة. (ادّارَأْتُم) ، أي اختلفتم، وهو من المدارأة أي المدَافعة. وأصله تدارأتم، أي تدافعْتم، أي ألْقَى بعضُكم على بعض، فأدغمت التاء في الدال لأنهما من مخرج واحد، فلما ادغمت سكنت، فاجتلبت لها ألف الوصل للابتداء، وكذلك (ادّارَكوا) .، فيها و (اثّاقَلْتم) . (ابْتَلى) ، أي اختبر، أي اختبره بما تعبّدَه به من السنن. وقد اختلف فيها اختلافاً كثيرا، فقيل خصال الفِطْرة. وقيل مناسك الحج. وقيل ثلاثون خصلة، عشرة ذكرت في (براءة) من قوله: (التّائِبون ... ) . التوبة: 112) ، وعشرة في الأحزاب من قوله: (إنّ المسلمين والمسلمات. ..) . وعشرة في المعارج من قوله: (إلا الْمصَلِّين) . (الإمام) الذي يؤمّ الناس إليه في الطريق ويتبعونه، ويقال للطريق إمام. ومنه قوله: (وإنهما لَبِإمَام مُبين) ، أي بطريق واضح يمرون عليها في أسفارهم - يعني الَقُرْيَتين المهلكتين: قريتي قوم لوط، وأصحاب الأيْكة، فيرونهما، ويعتبر بهما مَنْ خاف وعيد الله تعالى. والإمام الكتاب، ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، والإمام كل ما ائتممتَ به واقتديت به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 (اصطفى) : اختار. (استجاب) : أجاب. (اعتمر) ، أي زار البيت، ومنه سمِّيت العُمْرة، لأنها زِيارة للبيت. ويقال: اعتمر، أي قصد (استَيْسَر) ، أي تيسّر وسهل، وذلك شاة. (انْفِصَام) : انقطاع. (إعْصَار) : رِيح عاصف، تَرْفَع ترابا إلى اسماء كأنه عمود نار فيه سَمُوم محْرقة. (إلحافاً) : إلحاحاً في السؤال. والمعنى أنهم إذا سألوا يتلطّفون ولا يلِحُّون. وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف معاً. (ائذَنُوا بحَرْبٍ) : اعلموا ذلك واسمعُوه وكونُوا على إذْن منه، ومن قرأ: (فآذِنُوا) . البقرة: 379) ، أي فأعلِموا ذلك غيركم. ولما نزلت قالت ثَقِيف: لا طاقة لنا بحَرْبِ اللهِ ورسوله. (إنجيل) : إفعيل من النجل، وهو الأصل. والإنجيل أصل العلوم. ويقال: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. والإنجيل مستخرج به علوم وحكم. (اسْتَكانُوا) : خضعوا. قال بعض النحاة: استكان مشتق من السكون، ووَزْنه افتعلوا، أشْبعت فتحة الكاف فحدث عن شبعها ألف، وذلك كالإشباع، وقيل إنه من كان يكون فوزنه استفعلوا، وهذا تعريض بما صدر من بعض الناس يوم أحد. (إسرافنا) : إفراطنا. (انفَضّوا) ، أي تفرقوا، وأصل النفض الكسر. (ادرءوا) : ادفعوا. والمعنى رَدَّ عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 (إناثاً) ،: مَوَاتاً. واختلف ما المراد بقوله، فقيل: هي الأصنام، لأن العرب كانت تسمّي الأصنام بأسماء مؤنثة، كاللَّات والعزى. وقيل المراد الملائكة لقول الكفار إناث، وكانوا يعبدونهم، فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد. وقيل المراد الأصنام، لأنها لا تعْقِل فيُخْبَر عنها كما يُخْبَر عن المؤنث. (إمْلاق) : فَقْر، وإنما نهى عن قَتْل الأولاد لأجل الفاقة، لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب، فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه. (افْتِراء) الافتراء الكذب، وذلك أنهم كانوا قد قسموا أنعامهم وقالوا هذه أنْعامٌ ... الخ ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذباً، ونصبه على الحال أو مفعول من أجله أو مصدر مؤكد. (ادَّارَكوا) ، تلاحقوا واجتمعوا. والمراد بأولهم الرؤساء والقادة وآخرهم الأتباع والسفلة. والمعنى أن أخْراهم طلبوا من الله أن يضَاعِف العذاب لأولاهم، لأنهم أضلوهم. وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم. إنما هو كقولك: قال لفلان كذا، أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به. (افْتَحْ بيننا) ، أي احكم. (استرْهَبوهم) ، أي خوّفوهم بما أظهروا لهم مِنْ أنواع السحر. (إلهتك) - بكسر الهمزة في قراءة مَنْ قرأها - معناها عبادتك. (انْسَلخَ منها) ، أي خرج، كما تخرج الحبة من القشر. والانسلاخ من الثياب. وقد اختلف في هذا المُنْسلِخ، فعند ابن مسعوْد هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مَدْين، فرشاه الملك على أن يترك دين موسى ويُتَابع الملك على دينه، ففعل، وأضل الناسَ بذلك. وقال ابن عباس: هو بَلْعَام الذي دعا على موسى، فالآيات التي أعطيها على هذا القول هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 اسم الله الأعظم. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هو أمية بن أبي الصَّلْت. وكان قد أوتي علماً وحكمة، وكان قد أسلم قبل غَزْوَة بَدْر، ثم رجع عن ذلك، ومات كافراً، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -: كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم. فالآيات على هذا ما كان عنده. وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة. وقيل ما كان عنده من صحف إبراهيم. (إلاَّ ولَا ذِمّة) ، قد قدمنا أن " إل " على خمسة أوجه: بمعنى الله، والعهد، والقرابة، والحلف، والجوار. (اقْتَرَفْتموها) : اكتسبتموها. ْ (إحْدى الحُسْنَيَيْن) : الصبر والظفر، أو الموت في سبيل الله. وكلّ واحدة من الأمرين حَسن. (إرصادا) يقال رصدت وأرصدت في الخير والشر جميعاً، وهو الترقّب والانتظار. ومعناه هنا أن بني عمرو بن عَوْف من الأنصار بَنَوْا مسجد قبَاء. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه ويصلي فيه، فحسدهم على ذلك قومهم بنو غَنْم بن عَوْف وبنو سالم بن عوف، فبنوا مسجداً آخر مجاوراً له، ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قبَاء، فذلك هو الضِّرار الذي قصدوا. وسألوا من رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -أن يأتيَه ويصلي لهم فيه، فنزلت عليه هذه الآية. والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاسق، وكان من أهل المدينة، فلما قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاهر بالكفْر والنِّفاق، ثم خرج إلى مكة فحزَبَ الأحزاب من المشركين، فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام ليستنصر بِقَيْصَر، فهلك هنالك. وكان أهل مسجد الضرَار يقولون: إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد. والإشارة بقوله (مِنْ قَبْل) إلى ما فعل مع الأحزاب. (إيْ ورَبّي) ، إيْ توكيد للإقسام. المعنى نعم وربي. (اقضوا إليَّ) ، أي أمْضوا ما في أنفسكم ولا تؤَخِّروه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 كقوله: (فاقضِ ما أنت قاضٍ) ، أي أمض ما أنت مُمْض. ومعناه أَن نوحاً عليه السلام قال لقومه: إن صَعُب عليكم دُعائي لكم إلى الله فامضوا في غاية ما تريدون، فإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله وثِقَتي به سبحانه. (اطمِسْ) ، أي امْحُه، من قولك: طُمِس الطريقُ إذا عفا ودَرَس. (إجرامي) ، مصدر أجْرَمْتُ إجراماً، أي أذنبت. (اعْتَرَاك) : قصدك. ومعناه ما نقول إلا أنَّ بعض آلهتنا أصابَتْك بجنون، لأنك سَبَبتَها ونهَيْتَنَا عن عِبَادتها. (استعمركم) ، أي جعلكم تعمرونها، فهو من العمران للأرض. وقيل هو من العمْر، أي استبقاكم. (ارتقبوا) ، أي انتظروا. ومعناه التهديد والتخويف. (اسْتَعْصَم) ، أي طلب العصمة وامتنع مما أرادت منه من الفاحشة. (استيئسوا) ، أي يئسوا. (اصدع) ، أظهر، أخذ من الصديعِ وهو الصبح. قال الشاعر: كأنَّ بياضَ لَبَّتِهِ صَدِيع (الْمُقْتَسِمين) : اختلف فيهم، فقيل هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فاقتسموه إلى قسمين. وقيل: هم قُريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كلُّ واحد منهم على باب، يقول أحدهم هو شاعر، ويقول الآخر ساحر. والكاف من قوله (كما) ، متعلقة بقوله: (أنا النَّذِير المبين) ، أي انذر قريشاً عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل يتعلّق بقوله: (ولقد آتينَاكَ) ، أي أنزلنا عليك كتابا كما أنْزَلنا على المقتسمين. (استَفْزِز) ، أي اخدع بدعائك إلى أهل المعاصي، واستخف بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 (ارْتَدّا على آثارهما) ، أي رجعا في طريقهما يَقُصّان أثَرَهمَا الأول، لئلا يخرجا عن الطريق. (إِمْرًا) : عجباً، ويقال داهية. (انْتَبَذَتْ من أهلها) اعتزلتهم ناحية. يقال: قعد نَبْذَةً وَنُبْذَةً: أي ناحية. (إلْحَادٍ) ، أي ميل عن الحق. (أسْمِعْ بهم) أي ما أسمعهم، وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين. (اخسئوا) : كلمة تستعمل في زجر الكلاب، ففيها إهانة وإبعاد. وفي الحديث أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: اخْسَأْ فلن تَعدوَ قَدْركَ. (إفْك) أشدّ الكذب، ونزلت الآيات الست من قوله تعالى: (إن الذين جاءُوا بالإفْك عصْبةٌ منكم ... ) ، إلى قوله تعالى: (لهم مغفرة ورِزْقٌ كَرِيمٌ) - في شأن عائشة وبراءتها مما رماها أهل الإفك، وذلك أن الله برّأَ أربعة بأربعة: برّأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثَوْبه. وبرأ مريم بكلام وَلَدِها في حِجْرِها. وبرأ عائشة من الإفك بنزول القرآن في شأنها. ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية العظمى في الاعتناء بها، والكرامة لها. والتشديد على من قذفها. وقد خرّج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما. واختصاره أن عائشةَ رضي الله عنها خرجت مع رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني الْمصْطَلق، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس، فجاء رجلٌ يقال له صَفْوان بن المعطِّل، فرآها فنزل عن ناقته، وتَنَحَّى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما بال رجال رمَوْا أهلي! والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد رموا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وسأل جارية عائشة، فقالت: واللَه ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ عن الذهب الأحمر. ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة، وهم: عبد اللَه ابن أبىّ بن سلول رأس المنافقين، وحَمْنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت. وقيل: إن حسان لم يكن معهم. (الإرْبَة) ، الحاجة إلى الوطء. وشرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطان: أحدهما أن يكونوا تابعين، ومعناه أن يتبع لشيء يعْطَاه، كالوكيل والمتصرّف، ولذلك قال بعضهم: هو الذي يَتْبعك وهمّتُه بَطْنه. والآخر ألا يكون لهم إرْبَة في النساء، كالخصِيّ، والمخنث، والشيخ الهرم. والأحمق. فلا يجوز رؤْية النساء إلا باجتماع الشرطين. واختلف هل يجوز أن يراها عَبْد زَوْجها وعَبْد الأجنبي أم لا، على قولين. وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي. والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة. والجوازُ بشرط أن يكون العَبْدُ وغداً وهو مذهب مالك، واحْتَج بهذه الآية. (اطَّيَّرْنَا) ،: أصله تَطَيَّرْنَا، ومعناه تَشَاءَمْنَا، وكانوا قد أصابهم القَحْط، فَنَسَبوا ما أصابهم إلى صالح، فلذلك جاوبهم بقوله: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) ، أي السبب الذي يحدث عنه خَيْرًا وشَرًّا هو عند الله، وهو قضاؤه وقَدَره. (اقْصِدْ في مَشْيِك) : أي اعتدل فيه، فلا تسرع فيه إسراعاً يدل على الطَّيْش والخِفَّة التي تذهب ببهاء الوجه، ولا تبطئ لأنه يدل على النخوة والكبْر. والْقَصْد: ما بين الإسراف والتقصير. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمشي مُتَواضعاً لا متَبَخْتِرا ولا كسلاً، وكان بين ذلك قَوَاماً. (امْتَازوا) أي انْفَرِدوا عن المؤمنين وكونوا على حدة، لتأخذكم الزَّبَانية. (اصْلَوْها) : ذوقوا حَرَّها. ويقال صليت النار إذا نالك حرُّها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 (استَفْتِهم) سَلْهم. والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار، أي اسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زَعموا من أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للَه الإناث ولأنفسهم الذكور، وتلك قسمة ضِيْزَى. (إلْيَاسِين) ، يعني إلياس وأهل دينه، جمعهم بغير إضافة بالياء والنون على العدد، كأنّ كلَّ واحدٍ منهم اسمه إلياس. وقال بعض العلماء: يجوز أن يكون إلياس وإلياسين بمعنى واحد، كما يقال ميكايل وميكال. وتقرأ على آل ياسين، أي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن أبي حاتم بسنَدٍ حسن عن ابن مسعود، قال: إلياس هو إدريس. وقراءته: وإن إدريس لَمِنَ المرْسلين. سلاَمٌ على إدْرَاسين. وفي قراءة أبيّ: وإن إلياس ... سلام على إلْيَسِين. وقيل إنه لقب إدريس. وقد أخطأ مَنْ قال إنه إلياس المذكور في أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (اشئمأزتْ) معناه نفرت، والمشمئزُّ النافر. ومعنى الآية أن الكفار يكرهون توحيد الله، ويحبّون الإشراك به، ونزلت حين قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، فألقى الشيطان. .. حسبما ذكر في الحج، فاستبشر الكفَّار من ذكر اللات والعزى (1) ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمازُّوا. (اصْفَح) : أعرض. وأصل الصفح أن تنحرف عن الشيء، فتولِيه صفحةَ وجهك، وهذا الإعراض منسوخٌ بآية السيف كما قدمنا. (الغوا) ، من اللّغَا، وهو الهجْر والكلام الذي لا نَفْع فيه. ورُوي أن قائل هذه المقالة أبو جهل لعنه الله، وقال لهم: تشاكلوا عند قراءته بِرَفعِ الأصوات وإنشاد الشعر، وشِبْه ذلك حتى لا يسمعه أحد. وقيل المعنى: قَعُوا فيه وعِيبوه. (اعتِلوه) ، أي سُوقوه بتَعْنيف إلى سَوَاءَ الجحيم، يعني وسطها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 واختلف على مَنْ يعود الضمير، فقيل على أبي جهل. وقيل على العموم، وهو الأظهر. (انشزوا) ، معناه ارتفعوا عن مواضعكم حتى تُوَسِّعوا لغيركم واختلف في هذا النشوز الأمور به، فقيل إذا دعوا إلى قتال أو صلاةٍ أو فعلِ طاعةٍ. وقيل: إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يحب الانفراد أحياناً، وربما جلس قومٌ حتى يُؤمَروا بالقيام. وقيل المراد القيام في المجلس للتوسع. (استحوذ) ، أي غلب عليهم الشيطان وتملّك نفوسهم. واستحوذ مما خرج على الأصل ولم يُعَلّ. ومثله اسْتَرْوَح، واستَنوَق الجمل، واستَصْوَب رأيه. (اسعوا) : امضوا إلى ذِكْر الله بالهيئة والجدّ، ولم يرد الغدو والإسراع. للحديث: لا تَأتُوا الصلاة وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار. وأمر في هذه الآية بالسعي إلى الجمعة، وذلك عند جلوس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنين في الأذان. (وائتمروا) خطاب للرجال والنساء. والمعنى أن يأمرَ كلُّ واحد صاحبَه بخير، من المسامحة، والرِّفق، والإحسان. وقيل: معنى ائتمروا تشاوروا. ومنه: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) . (استَغشَوْا ثيابَهم) : جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه ولئلا يراهم. ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم. فانظر نصْحَه صلى الله على نبينا وعليه وسلم، ذكر أولاً أنه دعاهم بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهاراً، ثم ذكر أنه جمع بين الجَهْر والإسرار، وهذه غايةُ الجد في النصيحة، وتبليغ الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 (التَفّتِ السّاقُ) ، هذه عبارة عن شدَّةِ كَرْب الموت وسكَرَاته، أي التفّت ساقه إلى ساقه الآخر عند السباق. وقيل مجاز، كقولك: كشفت الحَرْب عن ساقها، إذا اشتدّت. وقيل معناه ماتت ساقه فلا تحمله. وقيل التفت، أي لفَّها الكفَن إذا كُفِّن. (انكدرت) ، أي تساقطت من مواضعها. وقيل تغيرت. والأول أرجح، لأنه موافق لقوله: (وإذا الكواكب انْتَثَرَتْ) . (اتَّسق) القمر إذا تمَّ وامتلأ ليلة أربع عشرة. ووزن اتسق افتعل، وهو مشتق من الوسق. ويقال: اتسق استوى. (إرَم) هي قبيلة عاد، سُمِّيت باسم أحد أجدادها، كما يقال هاشم لبني هاشم. وإعرابه بدل من عاد، أو عطف بيان. وفائدته أنَّ المراد عاد الأولى، فإنّ عادا الثانية لا يسمَّون بهذا الاسم. وقيل إرم اسمُ مَدِينتهم، فهو على حذف مضاف، تقديره بعاد عاد إرم. ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعادِ إرم على الإضافة من غير تنوين عاد، وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث. (اقتحم العَقَبة) ، الاقتحام: الدخول بشدة ومشقّة. والعقبة عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة. وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل، لأنها تصعد ويشق صعُودها على النفوس. وقيل هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلاّ مَنْ عمل هذه الأعمال، ولا هنا تحضيض بمعنى هلا. وقيل هي دعاء. وقيل: هي نافية. واعترض على هذا القول بأن " لا " النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها. وأجاب الزمخشري: بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا فَكَّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً. (انْبَعَثَ) يعني خرج إلى عَقْرِ الناقة بسرعة ونشاط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 و (أشْقَاهَا) ، أُحَيْمر ثمود قُدَار بن سَالفٍ عاقر الناقة. ويحتمل أن يكون أشقاها واقعاً على جماعة، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته يستوي فيه الواحد والجمع. والأول أظهر. (انْحَرْ) : اذبح. ويقال انحر: ارفع يديك بالتكبير إلى نحرك. والأول أظهر، لأن الله أمره بالصلاة على الإطلاق. وبِنَحْرِ الهدْي والضحايا. وقيل إنه عليه الصلاة والسلام كان يضحي قبل صلاة العيد، فأمره أنْ يُصَلًي ثم ينحر، فالمقصود على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة. وقيل: إن الكفار كانوا يصلون (مكَاء وتَصْديةً) ، وينحرون للأصنام، فقال الله لنبيه: صل لربك وحده، وانحر له، أي لوجهه لا لغيره، فهو على هذا أمر بالتوحيد والإخلاص. (الهمْزة) تأتي على وجهين: أحدها الاستفهام، وحقيقته طلب الإفهام. وهي أصل أدواتها، ومن ثَمَّ اختصت بأمور: أحدها: جواز حذفها. الثاني: تأتي لطلب التصوّر والتصديق، بخلاف هل، فإنها للتصديق خاصة. وسائر الأدوات للتصور خاصة. ثالثها: أنها تدخل على الإثبات، نحو: (أكان للناس عَجَبا) . (آلذَكَرَيْنِ حَرّم) . وعلى النفي نحو: (ألَمْ نَشْرَحْ) . وتفيد حينئذ معنيين: أحدها التذكير والتنبيه، كالمثال المذكور، وكقوله: (ألم تَر إلى رَبِّك كَيْفَ مَدّ الظًلَّ) . والثاني التعجب من الأمر العظيم، كقوله تعالى: (ألم تر إلى الَّذِين خَرَخوا مِنْ ديَارِهم وهم ألوفٌ حَذَر الموت) . وفي كلا الحالتين هو تحذير، نحو: (ألم نهْلِك الأولين) . رابعها: تقدمها على العاطف تنبيهاً على أصالتها في التصدير، نحو: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 (أفَأمِنَ أهْل القرَى) . (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ) . وسائر أخوانها متأخّر عنه، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو: وكيف تكفرون. فأين تذهبون. فأنَّى تؤْفَكون. فهل يهلك. فأيّ الفريقين. فما لكم في المنافقين. خامسها: أنه لا يُستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه. بخلاف هل فإنه لما لا يترجَّح عنده نَفْيٌ ولا إثبات، حكاه أبو حيان عن بعضهم. سادسها: أنها تدخل على الشرط. نحو: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) . (ولئن متّمْ أو قُتِلتم) . (أفَإن ماتَ أوْ قُتِل انقَلبْتم) ، بخلاف غيرها. وتخرج عن الاستفهام الحقيقي فتأتي لمعانٍ قدمناها في الخبر والإنشاء. فائدة إذا دخلت على " رأيت " امتنع أن تكون من رؤية البصر أو القَلب، وصارت بمعنى أخبرني. وقد تبدل هاء، وعلى ذلك قراءة قنْئل: (هأنتم) ، هؤلاء - بالقصر. وقد تقَع في القسم، ومنه: (ولا نكتم شهادةً آلله) ، بالتنوين، آلله بالمد. الثاني: من وجهي الهمزة أن تكون حرفاً ينَادَى به القريب، وجعل منه الفراء قوله تعالى: (أمَنْ هو قَانِت آناء الليل) - على قراءة تخفيف الميم. أي يا صاحب هذه الصفات. قال ابن هشام: ويبعده أنه ليس في التنزيل نداءٌ بغير ياء، ويقربه سلامته من دَعوى المجاز، إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته، ومن دَعوى كثرة الحذف، إذ التقدير عند مَنْ يجعلها للاستفهام: أمّنْ هو قانت خَيْرٌ أم هذا الكافر، أي المخاطب بقوله تعالى: (قل تَمَتّع بكفْركَ قليلاً) . فحُذف شيئان: معادل الهمزة والخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 (أحَد) قال أبو حاتم في كتاب الزينة: هو اسمٌ أكمل من واحد، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان فأكثر. بخلاف قولك لا يقوم له أحد. وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار واحد، فيجوز أن يكون من الدواب والطير والوحوش والإنسان، فيعمّ الناس وغيرهم، بخلاف ليس في الدار أحد، فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم. قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الأول وبمعنى الواحد، فيستعمل في الإثبات وفي النفي، نحو: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أي واحد، وأوَّل. (فابْعَثوا أحدَكم بِوَرِقِكمْ) ، وبخلافهما فلا يستعمل إلا في النفي، تقول: ما جاءني من أحد. ومنه: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) . (أيحسب أنْ لم يَرَه أحد) . (فما منكم من أحد) . (ولا تُصَلّ على أحد منهم) . وواحد يستعمل فيها مطلقاً. وأحد يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى: (لستُنّ كأحدٍ مِنَ النساء) ، بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدةٍ. وأحد يصلح للإفراد والجمع. قلت: ولهذا وُصِف به في قوله تعالى: (فما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ عنه حَاجِزين) . بخلاف الواحد. والأحد له جمع مِنْ لفظه، وهو الأحد والآحاد، وليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال وحد، بل اثنان وثلاثة. والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب. بخلاف الواحد. انتهى ملخصا. وقد تحصَّلَ من كلامه أن بينهما سبعة فروق. وفي أسرار التنزيل للبارزي في سورة الإخلاص: فإن قلت المشهور في كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 العرب أن الأحد يستعمل بعد النفي والواحد بعد الإثبات، فكيف جاء أحد هنا بعد الإثبات؟. قلت قد اختار أبو عبيد إنهما بمعنى واحد وحينئذٍ فلا يختص أحدهما بمكان دون الآخر، وإن غلب استعمال أحد في النفي. ويجوز أن يكون للعدول هنا عن الغالب رعاية للفواصل. وقال الراغب في مفردات القرآن: أحد تستعمل على ضربين: أحدهما في النفي فقط، والآخر في الإثبات. فالأول لاستغراق جِنْسِ الناطقين، ويتناول القليل والكثير، ولذلك صح أن يُقال ما من أحد فاضلين، كقوله: (فما مِنْكمْ من أحَدٍ عنه حَاجِزين) . والثاني على ثلاثة أوجه: الأول: المستعمل في العَدَد مع العشرات، كأحد عشر وأحد وعشرين. والثاني: المستعمل مضافاً أو مضافاً إليه بمعنى الأول، نحو: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) . والثالث: المستعمل وصفا مطلقاً، ويختص بوصف الله تعالى، نحو: " قل هو الله أحد ". وأصله وَحد، إلا أن وَحد يستعمل في غيره. *** فوائد مهمة (إذْ) ترِد على أوجه: أحدها أن تكون اسماً للزمان الماضي، وهو الغالب، ثم قال الجمهور: لا تكون إلا ظرفاً، نحو: (فقد نصره الله إذْ أخرجهُ الّذِين كَفَرُوا) . ومضافاً إليها الظرف: (بَعْدَ إذْ هدَيتَنا) . (يومئذ تُحَدّثُ) . (وأنتم حينئذ تَنْظُرون) . وقال غيرهم: تكون مفعولاْ به، نحو: (واذكرُوا إذا أنتُم قَلِيل) . وكذا المذكورة في أوائل القصص كلها مفعول به، بتقدير اذكر. أو بدلاً منه نحو: (واذْكُرْ في الكتاب مَرْيَم إذِ انْتَبَذَتْ) ، فإنها بدل اشتمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 من مريم على وجه البدل في: (يسألونكَ عن الشهر الحرام قِتَال فيه) . (اذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ جعل فيكم أنبياءَ) . أي اذكروا النعمةَ التي هي الجَعْل المذكور، فهي بدل كل من كل. والجمهور يجعلونها فيَ الأول ظرفاً لمفعول محذوف، أي واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم قليلاً. وفي الثاني ظرفاً لمضاف إلى مفعول محذوف، أي واذكر قصة مريم. ويؤيّد ذلك التصريح به في: (واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداءً) . وذكر الزمخشري أنها تكون مبتدأ، وأخرج عليه قراءة بعضهم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا) . قال التقدير " مَنه " إذ بعث، فإذْ محل رفع كإذا قولك: أخطَب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، أي لقد مَنّ الله على المؤمنين وقت بعْثه. قال ابن هشام: ولا نعلم بذلك قائلاً. وذكر كثير أنها تخرج عن المضي إلى الاستقبال، نحو: (يومئذ تحَدث أخبَارَها) . والجمهور أنكروا ذلك وجعلوا الآية من باب: (ونفخَ في الصُّور) - يعني من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة الماضي الواقع. واحتج المثبتون - ومنهم ابن مالك - بقوله: (فسوف يعلمون إذ الأغلالُ في أعناقهم) . قال: يعلمون مستقبلٌ لفظاً ومَعْنًى، لدخول حرف التنفيس عليه، وقد عمل في إذ، فيلزم أن تكون بمنزلة إذا. وذكر بعضهم أنها تَأتي للحال نحو: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) . فائدة أخرج ابن أبي حاتم من طريق السديّ عن أبي مالك، قال: كل ما كان في القرآن (إنْ) - بكسر الألف - فلم يكن، وما كان إذ فقد كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الوجه الثاني: أن تكون للتعليل، نحو: (ولن يَنفَعكم اليَوْمَ إذ ظَلَمْتُم أنكم في العذاب مشتَرِكون) ، أي ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظُلمكم في الدنيا. وهل هي حرف بمنزلة لام العلة، أو ظرف بمعنى وقت، والتعليل مستفاد من قوة الكلام لا من اللفظ، قولان، المنسوب إلى سيبويه الأول، وعلى الثاني في الآية إشكال، لأن إذ لا تُبْدَل من اليوم لاختلاف الزمانَيْنِ، ولا تكون ظرفاً لينفع، لأنه لا يعمل في ظرفين، ولا "مشتركون"، لأن معمول خبر أن وأخواتها لا يتقدم عليها، ولأن معمول الصِّلَة لا يتقدم على الموصول، ولأن اشتراكهم في الآخرة لا في زمن ظلمهم. ومما حُمل على التعليل: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) . (و إذ ا عْتَزَلتُموهم وما يعْبدونَ إلاَّ الله فَأوُوا إلى الكهْفِ) . وأنكر الجمهور هذا القِسْم، وقالوا: التقدير: بعد إذ ظلمْتُم. وقال ابن جني: راجَعْتُ أبا عليٍّ مِرَاراً في قوله: (ولن ينفعكم اليوم ... ) الآية. مستشكلا إبدال إذ من اليوم. فآخِر ما تحصّل منه أنَّ الدنيا والآخرة متصلتان، وأنهما في حكم الله سواء، فكأن اليوم ماض. الوجه الثالث: التوكيد، بأن تُحْمَل على الزيادة، قاله أبو عُبيدة، وتبعه ابن قتيبة، وحملا عليه آيات منها: (إذ قال ربكَ للملائكة) . الرابع: التحقيق كقد، وحملت عليه الآية المذكورة، وجعل منه السّهَيلي قوله: (بعد إذ أنتم مُسلمون) . قال ابن هشام: وليس القولان بشيء. مسألة تلزم إذ الإضافة إلى جملة إمَّا اسمية، نحو: (واذكروا إذ أنتُم قَليلٌ) . أو فعلية فعلها ماض لفظا أو معنى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 نحو: (وإذ قال رَبك للملائكة) . (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) . أو معنًى لا لفظاً، نحو: (وإذ تَقُولُ للّذِي أنعم اللهُ عليه وأنعَمْتَ عليه) . وقد اجتمعت الثلاثة في قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) . وقد تحذف الجملةُ للعلم بها ويعوض عنها التنوين. وتكسر الذال لالتقاء الساكنين، نحو: (يومئذٍ يَفرَحُ المؤمنون) . (وأنتم حينئذٍ تنظرون) . وزَعم الأخفش أن " إذ " في ذلك معربة، لزوال افتقارها إلى الجملة، وأن الكسرة إعراب، لأن اليوم والحين مضافٌ إليها. ورُدَّ بأن بناءها لوضعها على حرفين، وبأنَ الافتقار باق في المعنى. كالموصول تُحْذَف صلته. (إذا) على وجهين: أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختصّ بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: (فألقَاها فإذا هي حيَّةٌ تَسْعَى) . (فلمَّا أنجَاهُم إذا هم يَبْغون) . (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) . قال ابن الحاجب: ومعنى المفاجأة حضورُ الشيء معك في وصْفٍ من أوصافك الفعلية، تقول: خرجت فإذا الأسد في الباب، ومعناه حضورُ الأسد معك في زَمن وصْفِك بالخروج، أو في مكان خروجك، وحضورُه معك في مكان خروجبن ألصقُ بك من حضوره في زمن خروجك، لأن المكان يخصك دون ذلك الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 واختلف في إذا هذه، فقيل إنها حرف، وعليه الأخفش، ورجّحه ابن مالك. وقيل ظرف مكان، وعليه المبرد، ورجّحه ابن عصفور. وقيل ظرف زمان، وعليه الزجاج، ورجّحه الزمخشري، وزعم أن عاملها فعل مقدَّر مشتقّ من لفظ المفاجأة. قال: التقدير: ثم إذا دعاكم ... فاجأتم الخروج في ذلك الوقت. قال ابن هشام: ولا يعرف ذلك لغيره، وإنما يعرف ناصبها عندهم الخبر المذكور أو المقدَّر. قال: ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرّحاً به. الثاني: أن تكون لغير المفاجأة، والغالب أن تكون ظرفاً للمستقبل تضمّنت معنى الشرط. وتختصّ بالدخول على الجمل الفعلية، وتحتاج لجوابٍ، وتقَع في الابتداء، عكس الفجائية، والفعل بعدها إما ظاهر، نحو: (إذا جاء نصْر اللهِ) . وإما مقدَّر، نحو: (إذا السماء انشَقَّت) . وجوابها إما فعل، نحو: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) . أو جملة اسمية مقرونة بالفاء، نحو: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) . (فإذانفِخَ في الصُّورِ فلا أنسابَ بَينَهم) . أو فعلية طلبية كذلك، نحو: (فسبِّح بحمدِ ربك) . أو اسمية مقرونة بإذا المفاجأة، نحو: (إذا دَعَاكم دَعْوةً من الأرض إذا أنتم تَخرجون) . (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) . وقد يكون مقدَّراً لِدَلالة ما قبله عليه، أو لدلالة المقام، كما تقدم في أنواع الحذف. وقد تخرج إذا عن الظرفية، قال الأخفش - في قوله تعالى: (حتى إذا جاءوهَا) .: إن إذا جرّ بـ حتى. وقال ابن جني في قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) ، - فيمن نصب خافضة رافعة: إن إذا الأولى مبتدأ والثانية خبر. والمنصوبان حالان. وكذا جملة ليس ومعمولاها. والمعنى وقت وقوع الواقعة خافضة لقوم رافعة لآخرين، وهو وقت رَج الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 والجمهور أنكروا خروجها عن الظرفية، وقالوا - في الآية الأولى: إن حتى حرف ابتداء دخل على الجملة بأسرها، ولا عمل له. وفي الثانية إن إذا الثانية، بدل من الأولى والأولى ظرف، وجوابها محذوف لفَهْمِ المعنى، وحسَّنَه طول الكلام. وتقديره بعد إذا الثانية، أي انقسمتم انقساماً، وكنتم أزواجاً ثلاثة. وقد تخرج عن الاستقبال فترد للحال، نحو: (والليل إذا يغْشَى) . فإنّ الغشيان مقارِنٌ لليل. - (والنهار إذا تَجَلَّى) . (والنجم إذا هوى) . وللماضي، نحو: (وإذا رأوْا تجارة أو لَهْواً) . فإن الآية نزلت بعد الرؤية والانفضاض. وكذا قوله تعالى: (ولا على الّذِين إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم) . (حتى إذا بَلَغَ مَطْلعَ الشّمْسِ) . (حتى إذا ساوَى بين الصدَفَيْنِ) . وقد تخرج عن الشرطية، نحو: (وإذا ما غَضِبوا هم يغْفِرُون) . (والذين إذا أصابهم البَغْى هم يَنتَصِرون) ، فإذا في الآيتين ظرف للمبتدأ بعدها، ولو كانت شرطية والجملة الاسمية جواب قرنت بالفاء. وقول بعضهم: إنه على تقديرها مردودٌ بأنها لا تحذف إلا ضرورة. وقول آخر: إن الضمير توكيد مبتدأ، وإن ما بعده الجواب - تعسُّف. وقول آخر إن جوابها محذوف مدلولٌ عليه بالجملة بعدها تكلفٌ من غير ضرورة. تنبيهات الأول - المحققون على أن ناصب (إذا) شرْطها، والأكثرون أنه ما في جوابها مِنْ فعلٍ أو شبهه. الثاني - قد تستعمل إذا للاستمرار في الأحوال الماضية والحاضرة والمستقبلة. كما يستعمل الفعل المضارع لذلك. ومنه: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أي هذا شأنهم أبداً. وكذا قوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) . الثالث - ذكر ابن هشام في المغني إذا ولم يذكر إذا ما، وقد ذكرها الشيخ بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح في أدوات الشرط، فأمّا إذ مَا فلم تقع في القرآن. ومذهب سيبويه أنها حرف. وقال المبرد وغيره: إنها باقية على الظرفية وأما " إذَا ما " فوقعت في القرآن في قوله: (وإذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون) . (إذا ما أتَوكَ لتَحملهم) . ولم أجِد مَنْ تعرّض لكونها باقيةً على الظرفية أو محولة إلى الحرفية. ويحتمل أن يجري فيها القولان في إذ ما. ويحتمل أن يُجزم ببقائها على الظرفية، لأنها أبعد عن التركيب بخلاف " إذ ما " الرابع: تختص " إذا " بدخولها على المتيقَّن، والمظنون، والكثير الوقوع. بخلاف إن فإنها تستعمل في الشكوك والوهوم والنادر، ولهذا قال تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) . ثم قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) . فأتى بإذا في الوضوء لتكرُّره وكثرة أسبابه، وبإنْ في الجنابة لقلَّة وقوعها بالنسبة إلى الحدث. وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا) . (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) . أتى في جانب الحسنة بـ إذا لأنَّ نِعَمَ الله على العباد كثيرة ومقطوع بها، وبـ إن في جانب السيئة لأنها نادرة الوقوع ومشكوك فيها. نعم أشكل علىِ هذه القاعدة آيتان الأولى: (ولئن مِتُّم) ، (أفإنْ متَّ) ، مع أن الموت محقّق الوقوع. والأخرى قوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) . فأتى بـ إذا في الظرفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فأجاب الزمخشري عن الأولى بأن الموت لما كان مجهول الوقت أُجرِيَ مجرى غير المجزوم. وأجاب السكاكي عن الثانية بأنه قصد التوبيخ والتقريع، فأتى بإذا ليكون تخويفاً لهم، وإخبارا بأنهم لابد أن يمسَّهم شيء من العذاب، واستفيد التقليل من لفظ المس، وتنكير ضر. أما قوله: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) . فأجيب عنه بأن الضمير في (مَسَّهُ) للمعرض المتكبر لا لمطلق الإنسان، ويكون لفظ (إذا) للتنبيه على أن مثل هذا المعرض يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعاً. وقال الحوفي: الذي أظنه أن (إذا) يجوز دخولُها على المتيقّن والمشكوك. لأنها ظرف وشرط، فبالنظر إلى الشرط تدخل على المشكوك، وبالنظر إلى الظرف تدخل على المتيقَّن، كسائر الظروف. الخامس - خالفت (إذا) (إن) في إفادة العموم. قال ابن عصفور: فإذا قلت إذا قام زيد قام عمرو أفادت أنه كلما قام زيد قام عمرو، وهذا هو الصحيح. وفي أن المشروط بها إذا كان عدماً يقع الجزاء في الحال. وفي " إن " لا يقع الجزاء حتى يتحقّق اليأس من وجوده. وفي أن جزاءهَا متعقب لشرطها على الاتصال، ولا يتقدم ولا يتأخّر. بخلاف إن، وفي أن مدخولها لا تجزمه لأنها لا تتمحّض شرطاً. خاتمة قيل: قد تَأتي (إذا) زائدة، وخرج عليه: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ، أي انشقت السماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 (إذن) قال سيبويه: معناها الجواب والجزاء، فقال الشَّلَوْبين: في كل موضع. وقال الفارسي في الأكثر. والأكثر أن تكون جواباً لـ إن أو لو، ظاهرتين أو مقدرتين. قال الفراء: وحيث جاءت بعدها اللام فقبْلَها (لو) مقدرة إن لم تكن ظاهرة، نحو: (إذاً لَذَهَبَ كلُّ إلهٍ بما خلَق) . وهي حرف يَنْصِب المضارع بشرط تصديرها واستقباله واتصالها أو انفصالها بالقَسَم أو بلا النافية. قال النحاة: وإذا وقعت بعد الواو والفاء جاز فيها الوجهان، نحو: (وإذاً لا يلْبثون خِلاَفَك إلّا قليلاً) . (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) ، وقرئ شاذًّا بالنصب فيهما. وقال ابن هشام: التحقيق أنه إن تقدمها شرط وجزاء وعطفت فإن قدرْتَ العطف على الجزاء جزمَت وبطل عمل إذن لوقوعها حشواً، أو على الجملتين جميعاً جاز الرفع والنصب، وكذا إذا تقدمها مبتدأ خبره فعل مرفوع إن عطفت على الفعلية رفعت أو على الاسمية فالوجهان. وقال غيره: إذن نوعان: الأول: أن تدل على السببية والشرط، بحيث لا يُفهم الارتباط من غيرها. نحو: أزورك، فتقول: إذن أكرمَك، وهي في هذا الوجه عاملة تدخل على الجمل الفعلية فتنصب المضارع المستقبل المتصل إذا صدّرت. والثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهةً على سبب حصل في الحال، وهي حينئذ غير عاملة، لأن المؤكدات لا يُعْتَمد عليها، والعامل يعتمد عليه، نحو: إن تَأتني إذأ أتيتك. وواللَه إذن لأفعلنّ. ألا ترى أنها لو سقطت لفهم الارتباط. وتدخل على الاسمية فتقول: إذن أنا أكرمك. ويجوز توسطها وتأخيرها. ومن هذا قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا) . فهي مؤكدة للجواب مرتبطة بما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 تنبيهان الأول: سمعت شيخنا العلامة الكافيجي يقول في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) - ليست إِذًا هذه الكلمة المعهودة، وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تض اف إليها، وعُوِّض عنها التنوين، كما في يومئذٍ. وكنت أستحسن هذا جدًّا، وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك. ثم رأيت الزركشي قال في البرهان - بعد ذكره لإذَنْ المعنيين السابقين: وذكر لها بعضُ المتأخرين معنى ثالثاً، وهو أن تكون مركبة من (إذا) التي هي ظرف زمان ماض، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكن حذفت الجملة تخفيفا، وأبدل منها التنوين، كما في قولهم: حينئذ. وليست هذه الناصبة للمضارع، لأن تلك تختص به، ولذا عملت فيه، ولا يعمل إلا فيما يختص، وهذه لا تختص به، بل تدخل على الماضي، كقوله: (وإذاً لآتيْنَاهم) . (إذاً لأمسكْتم خشيةَ الإنْفَاق) . (إذاً لأذَقناك) . وعلى الاسم، نحو: (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال: وهذا المعنى لم يذكره النحاة، ولكنه قياس ما قالوه في إذ. وفي التذكرة لأبي حيان: ذكر لي علم الدين القعنبي أن القاضي تقي الدين بن رَزِين كان يذهب إلى أن إذن عوض من الجملة المحذوفة، وليس هذا قول نحوي. وقال الحوفي: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك: إذاً أكرمك - بالرفع - على معنى إذا أتيتني أكرمك، فحذفت أتيتني وعوضت التنوين عن الجملة فسقطت الألف لالتقاء الساكنين. قال: ولا يقدح في ذلك اتفاق النحاة على أن الفعل في مثل هذا المثال منصوب بإذن، لأنهم يريدون بذلك ما إذا كانت حرفاً ناصباً له، ولا ينفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ذلك رفع الفعل بعدها إذا أريد بها إذا الزمانية معَوَّضاً من جلتها التنوين، كما أن منهم مَنْ يجزم ما بعد " من " إذا جعلها شرطية، ويرفعه إذا أريد بها ال موصولة. فهؤلاء قد حاموا حول ما حام الشيخ إلا أنه ليس أحد منهم من المشهورين بالنحو، وممن يعتمد قولُه فيه. نعم ذهب بعض النحاة إلى أن أصل إذا الناصبة اسم، والتقدير في إذن أكرمك - إذا جئتني أكرمك، فحذفت الجملة وعوّض عنها التنوين وأضمرت إن. وذهب آخرون إلى أنها أحرف مركبة من إذ وإن. حكى القولين ابن هشام في المغني. التنبيه الثاني: الجمهور على أن إذا يوقف عليها بالألف المبدلة من النون. وعليه إجماع القراء، وجوّز قوم منهم المبرد والمازني في غير القرآن الوقوف عليها بالنون كـ إن وأن. وينبني على الخلاف في الوقف عليها كتابتها، فعلى الأول تكتب بالألف كما رُسمت في المصاحف. وعلى الثاني بالنون. وأقول: الإجماع في القرآن على الوقوف عليها، وكتابتها بالألف - دليل على أنها اسم منوّن لا حرف آخره نون، خصوصاً أنها لم تقع فيه ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه الشيخ ومَنْ سبق النَقْل عنه. ( أف ّ) قد قدمنا أنها كلمةٌ تستعمل عند الضجر. وقد حكى أبو البقاء في قوله تعالى: (فلا تَقل لهما أفّ) - قولين أحدهما أنه اسم لفعل الأمر، أي كفَّا وَاتْركَا. والثاني أنه اسم لفعل ماض، أي كرهت وتضجَّرت. وحكى غيره ثالثاً: أنه اسم لفعل مضارع، أي أتضجَّر منكما. وأما قوله في سورة الأنبياء: (أفٍّ لكمْ) . فأحاله أبو البقاء على ما سبق في الإسراء، ومقتضاه تساويهما في المعنى. وفَسَّر صاحب الصحاح أفّ بمعنى قذر. وقال في الارتشاف: أتضجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وفي البسيط معناه التضجّر. وقيل الضجر. وقيل تضجرت. ثم حكى فيها تسعاً وثلاثين لغة. قلت: قرئ منها في السبع أف بالكسر - بلا تنوين. وأف - بالكسر والتنوين. وأفَّ - بالفتح بلا تنوين. وفي الشاذِّ أفٌّ - بالضم منوناً. وأفْ - بالتخفيف. أخرج ابنُ أبي حاتم عن مجاهد في قوله: فلا تَقُل لهما أف. قال: لا تقذرهما. وأخرج عن أبي مالك قال: هو الرديء من الكلام. (الْ) على ثلاثة أوْخهٍ: أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الذي وفروعه، وهي الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين، نحو: (إنّ المسلمينَ والمسلمات..) إلى آخر الآية. (التّائِئون العابدون) . وقيل هي حينئذ حَرْف تعريف. وقيل موصول حَرْفي. الثاني: أنْ تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عَهْديّة وجنْسية، وكلٌّ منهما ثلاثة أقسام، فالعَهْدِية إما أن يكون مصحوبُهَا معهوداً ذِكرِيًّا، نحو: (كما أرْسَلْنَا إلى فرعون رسولاً فَعَصى فِرْعَون الرَّسولَ) . (فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) . وضابطُ هذه أن يسدَّ الضمير مسدها مع مصحوبها. أو معهوداً ذِهنيّا، نحو: (إذ همَا في الغار) . (إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) . أو معهوداً حضوريا، نحو: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) . (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) . قال ابن عصفور: وكذا كل واقعة بعد اسم الإشارة، أو أيْ في النداء، أو إذا الفجائية، أو في اسم الزمن الحاضر، نحو: الآن. والجنسية إما لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها " كلّ " حقيقة، نحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 (وخُلِق الإنسان ضعيفاً) . (عالمُ الغَيْبِ والشهادةِ) . ومن دلائلها صحةُ الاستثناء من مدخولها، نحو: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) . ووصفه بالجمع، نحو: (أوِ الطفلِ الذين لم يظَهروا) . وإمّا لاستغراق خصائص الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) مجازاً، نحو: (ذلك الكتاب) ، أي الكتاب الكامل في الهداية، الجامع لصفات جميع الكتب المنزلة وخصائصها. وإما لتعريف الماهية والحقيقة والجنس، وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقة ولا مجازاً، نحو: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) . قيل: والفرق بين المعرَّف بأل هذه وبين اسم الجنس النكرة هو الفرق بين المقيَّد والمطلق، لأن المعرف بها يدل على الحقيقة لا باعتبار قيد. الثالث: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة كالتي في الموصولات على القول بأن تعريفها بالصلات، وكالتي في الأعلام المقارنة لنقلها، كاللات والعزّى. أو لغلبتها كالبيت للكعبة، والمدينة لطيْبَة، والنجم للثريّا. وهذه في الأصل للعهد. أخرح ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: (والنجم إذا هوى) . - قال: الثريا. وغير لازمة في الحال، وخرّج عليه قراءة بعضهم: (ليَخْرجنَّ الأعَزّ منها الأذل) - بفتح الياء، أي ذليلاً، لأن الحال واجبة التنكير، إلا أن ذلك غير فصيح، فالأحسن تخريجه على حذف مضاف، أي خروج الأذل" كما قدَّره الزمخشري. مسألة اختلف في (أل) في اسم الله، فقال سيبويه، هي عوض من الهمزة المحذوفة بناء على أن أصله إله، دخلت (أل) فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، ثم أدغمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 قال الفارسي: ويدل على ذلك قَطْعُ همزها ولزومها. وقال آخرون: هي مزيدة للتعريف تفخيمًا وتعظيمًا، وأصله إِلاَه أو وِلَاه. وقال قوم: هي زائدة لازمة لا للتعريف. وقال بعضهم: أصله هاء الكناية، زيدت فيه لام الملك، فصار له، ثم زيدت أل تعظيما، وفخَّموه توكيداً وقال الخليل، وخلائق: هي من بنْيَة الكلمة، وهي أصلُ علَم لا اشتقاق له ولا أصل. خاتمة أجاز الكوفيون وبعضُ البصريين وكثير من المتأخرين نيابة " ال " عن الضمير المضاف، وخرجوا على ذلك: (فإن الجنّةَ هي الْمَأوَى) . والمانعون يقدرون له. وأجاز الزمخشري نيابتها عن الظاهر أيضاً. وخرّج عليه: (وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها) . قال: وأصل الأسماء المسميات. *** (ألَا) - بالفتح والتخفيف - وردت في القرآن على أوجه: أحدها: التنبيه، فتدل على تحقيق ما بعدها. قال الزمخشري: ولذلك قلَّ وقوع الجمل بعدها إلا مصدّرةً بنحو ما يُتلقى به اسم القسم، وتدخل على الاسمية والفعلية، نحو: (ألاَ إنهم هم السفهاءُ) . (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) . قال في المغني: ويقول المعربون فيها: حرف استفتاح فيبيِّنون مكانها ويُهملون معناها. وإفادتها التحقيق من جهة تركبها من الهمزة، ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) . الثاني والثالث: التحضيض والعرض، ومعناها طلب الشيء، لكن الأول طلب بحثّ، والثاني طلب بلين، وتختص فيهما بالفعلية، نحو: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) . (قومَ فرعونَ ألا يتّقُون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 (ألَا تَأكلون) . (ألا تحِبُّون أنْ يغفر الله لكم) *** (ألاَّ) - بالفتح والتشديد: حرف تحضيض، لم يقع في القرآن هذا المعنى فما أعلم، إلا أنه يجوز عندي أن يخرج عليه: (ألاَّ يسجدوا للهِ) النمل: (35) . وأما قوله: (ألا تَعْلوا عليَّ) النمل: (31) ، فليست هذه، بل هي كلمتان: (أن) الناصبة، و (لا) النا فية، أو (أن) المفسرة و (لا) الناهية. *** (إلاَّ) - بالكسر والتشديد على أوجه: أحدها - الاستثناء، متصلاً، نحو: (فَشِربوا منه إلا قليلاً منهم) ، (ما فعلوه إلا قليلٌ منهم) . أو منقطعاً، نحو: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) . (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) . الثاني: بمعنى (غير) ، فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه، ويعرب الاسم الواقع بعدها بإعراب (غير) ، نحو: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفَسَدَتَا) . فلا يجوز أن تكون هذه الآية للاستثناء، لأن (آلهة) جمع منكر في الإثبات، فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه، ولأنه يصير المعنى حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وهو باطل باعتبار مفهومه. الثالث: أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك، ذكره الأخفش والفراء وأبو عبيدة، وخرّجوا عليه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ) . (لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) . أي ولا الذين ظلموا ولا مَنْ ظلم. وتأولها الجمهور على الاستثناء المنقطع. الرابع: بمعنى بل، ذكره بعضهم وخرَّج عليه: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) . أي بل تذكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الخامس: بمعنى (بدل) ، ذكره ابن الصائغ، وخرج عليه: آلهة إلا الله، أي بدل الله أو عِوَضه، وبه يخرج عن الإشكال المذكور في الاستثناء وفي الوصف بإلا من جهة المفهوم. وغلط ابن مالك فعدَّ من أقسامها، نحو: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) ، وليست منها، بل هي كلمتان: إن الشرطية، ولا النافية. فائدة قال الرماني في تفسيره: معنى (إلا) اللازم لها الاختصاص بالشيء دون غيره، فإذا قلت: جاءني القوم إلا زيداً فقد اختصصت زيداً بأنه لم يجىء. وإذا قلت: ما جاءني القوم إلا زيداً فقد اختصصته بالمجيء، وإذا قلت: ما جاءني زيد إلا راكبا فقد اختصصتَه بهذه الحال دون غيرها من الشي والعَدو ونحوه. *** (الآن) اسم للزمان الحاضر، وقد تستعمل في غيره مجازًا. وقال قوم: هي حدّ للزمانين، أي ظرف للماضي، وظرف للمستقبل. وقد يُتجوّزنها عما قرب من أحدهما. وقال ابن مالك: لوقت حضر جميعه، كوقت فعل الإنشاء حالَ النطق به. أبو بعضه، نحو: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) . (فمَنْ يَسْتَمِع الآن يَجِد لَة شِهَابا رَصداً) . قال: وظرفيته غالبة لازمة. واختلف في (ال) التي فيه، فقيل للتعريف الحضوري، وقيل زائدة لازمة. *** (إلى) حرف جَرّ، وله معنيان: أشهرهما انتهاء الغاية زماناً، نحو: (أتِمّوا الصيَام إلى الليل) . أو مكاناً نحو: (إلى المسجدِ الأقصَا) . أو غيرهما، نحو: (والأمرُ إليكِ) . ولم يذكر لها الأكثرون غير هذا المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وزاد ابن مالك وغيره تبعاً للكوفيين معانيَ أخر، منها المعيّة كمع، وذلك إذا ضممتَ شيئاً إلى آخر في الْحكم به أو عليه أو التعلّق، نحو: (مَن أنصَارِي إلى الله) . (وأيديكم إلى المرافق) . (ولا تأْكلوا أموالَهم إلى أموالكم) . قال الرضي: والتحقيق أنها للانتهاء، أي مضافة إلى المرافق وإلى أموالكم. وقال غيره: ما ورد من ذلك يُؤَول على تضمين العامل وإبقاء (إلى) على أصلها. والمعنى في الآية الأولى من يُضيف نصرته إلى نصرة الله، أو من ينصرني حال كوني ذاهباً إلى الله. ومنها الظرفية كَـ فِي، نحو: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . أي فيه. وقوله: (إلى أن تَزَكّى) ، أي في أن. ومنها مرادفة اللام، وجعل منه: (والأمرُ إليكِ) ، أي لك. وتقدم أنه من الانتهاء. ومنها التبيين، قال ابن مالك: وهي المبيِّنَة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبًّا أو بغضاً، من فعل تعجب، أو اسم تفضيل! نحو: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) . ومنها التوكيد - وهي الزائدة نحو: (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ، - في قراءة بعضهم بفتح الواو: أي تهواهم، قاله الفراء. وقال غيره: هو على تضمين تهوى معنى تميل. حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري: أن " إلى " تستعمل اسماً، فيقال: انصرفت مِن إليك، كما يقال غدوت مِنْ عليه. وخرج عليه من القرآن قوله تعالى: (وَهُزِّي إليك) ، وبه يندفع إشكال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 أبي حيَّان فيه بأن القاعدة المشهورة أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير متصل بنفسه أو بالحرف، وقد رفع المتصل وهو لمدلول واحد في غير باب ظن. *** (اللهمَّ) المشهور أن معناه يا الله، حذفت ياء النداء، وعوِّض منها الميم المشددة في آخره. وقيل: أصله يا الله أمنا بخير، فركب تركيب حَيَّهَلا. وقال أبو رجاء العطاردي: الميم تجمع تسعين اسماً من أسمائه. وقال ابن ظفَر: قيل إنها الاسم الأعظم، واستدل لذلك بأن الله دالٌّ على الذات، والميم دالة على الصفات التسعة والتسعين، ولهذا قال الحسن البصري: اللهم تجمع الدعاء. وقال النضْر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا اللهَ بجميع أسمائه. *** (أم) حرف عطف، وهي نوعان: متصلة، وهي قسمان: الأول: أن يتقدم عليها همزة التسوية، نحو: (سواءٌ عليهم أأنذَرتَفم أم لم تنْذِرْهم) . (سواء علينا أجَزِعنَا أم صَبَرنَا) . (سواءٌ عليهم أستَغْفَرْتَ لهم أمْ لم تَسْتَغْفِر لهم) . والثاني: أن يتقدم عليها همزة يُطلب بها وبأم التعيين، نحو: (آلذَّكَرَين حَرّم أم الأتْثيَيْن) . وسمِّيت في القسمين متصلة، لأن ما قبلها وما بعدها لا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمى أيضاً معادلة، لمعادلتها الهمزة في إفادتها التسوية في القسم الأول والاستفهام في الثاني. ويفترق القسمان من أربعة أوجه: أحدها وثانيها أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جواباً، لأن المعنى معها ليس على الاستفهام. وأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب، لأنه خبر، وليست تلك كذلك، لأن الاستفهام معها على حقيقته. والثالث والرابع أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 ولا تكون الجملتان معها إلا في تأويل المفردَيْن، وتكون الجملتان فعليتين واسميتين ومختلفتين، نحو: (سواء عليكم أدَعَوْتُموهم أم أنتم صَامِتُون) . وأم الأخر تقع بين المفردين، وهو الغالب فيها، نحو: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) . وبين الجملتين ليسا في تأويلهما. النوع الثاني: منقطعة، وهي ثلاثة أقسام: مسبوقة بالخبر المحض، نحو: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) . ومسبوقة بالهمزة لغير الاستفهام، نحو: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) ، إذ الهمزة في ذلك للإنكار، فهي بمنزلة النفي. والمتصلة لا تقع بعده. ومسبوقة باستفهام بغير الهمزة، نحو: (هل يَسْتَوِي الأعمى والبَصير أم هل تَسْتَوِي الظّلمات والنَّور) . ومعنى أم المنقطعة التي لا يفارقها الإضراب، ثم تارة تكون له مجردة، وتارة تضمّن مع ذلك استفه اماً إنكارياً أو استفهاماً طلبياً، فمن الأول: (أم هل تستوي الظلماتُ والنور أم جعلوا لله شرَكاء) ، لأنه لا يدخل الاستفهام على استفهام. ومن الثاني: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ، تقديره: بل أَله البنات، إذ لو قدرت الإضراب المحضَ لزم المحال. تنبيهان الأول: قد ترد أم محتملة الاتصال والانفصال، كقوله تعالى: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ، قال الزمخشري: يجوز في أم أن تكون معادلة بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الثاني: ذكر أبو زيد أنَ أمْ تقع زائدة، وخرج عليه قوله تعالى: (أفلا تُبْصِرُون أَم أنَا خَيْرٌ) ، قال: التقدير: أفلا تبصرون أنا خير. *** (أمَّا) - بالفتح والتشديد - حرف شرط وتفصيل وتوكيد، أما كونها شرطاً فبدليل لزوم الفاء بعدها، نحو: (فأمَّا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصالحات فيوفِّيهم أجورَهم) . (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) . وأما قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) ، - فعلى تقدير القول، أي فيُقال لهم أَكفرتم، فحذف القول استغناء عنه بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف. وكذا قوله: (وأما الّذِين كفروا أفَلَمْ تكنْ آياتي) . وأما التفصيل فهو غالب أحوالها، كما تقدم، وكقوله: (أمَّا السفينةُ فكانت لمسَاكينَ) . (وأما الغلامُ فكان) . (وأما الجِدَار فكان) . وقد يُتْرَكُ تكريرها استغناءً بأحد القسمين عن الآخرين، وقد تقدم في أنواع الحذف. وأما التوكيد، فقال الزمخشري: فائدة أما في الكلام أنْ تُعطيه فضْلَ توكيد. تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب، ولذلك قال سيبويه في تفسيرها: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. ويفصَل بين أمّا والفاء إما بمبتدأ كالآيات السابقة، أو خبر، نحو: أما في الدار فزيد، أو جملة شرط، نحو: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ) ، الآيات. أو اسم منصوب بالجواب، نحو: (فأمَّا اليَتِيمَ فلا تَقْهَر) . أو اسم معمول لمحذوف يفسِّرُه ما بعد الفاء، نحو: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) - في قراءة بعضهم بالنصب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 تنبيه ليس من أقسام أمّا - أمَّا التي في قوله تعالى: (أمَّاذَا كنْتُم تعملون) . بل هي كلمتان: (أم) المنقطعة، و (ما) الاستفهامية. *** (إمَّا) بالكسر والتشديد - تَرِد لمعان: الإبهام، نحو: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) . والتخيير، نحو: (إما أنْ تُعذِّبَ وإما أنْ تَتَخِذَ فيهم حُسْناً) . (إما أنْ تُلْقِيَ وإما أنْ نكونَ أوّلَ من ألْقَى) . (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) . والتفصيل، نحو: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . تنبيهات الأول: لا خلاف في أن إما الأولى في هذه الأمثلة ونحوها غير عاطفة. واختلف في الثانية: فالأكثرون على أنها عاطفة، وأنكره جماعة منهم ابن مالك، لملازمتها غالباً الواو العاطفة. وادعى ابن عصفور الإجماع على ذلك، قال: وإنما ذكروها في باب العطف لمصاحبتها لحرفه. وذهب بعضهم إلى أنها عطفت الاسم على الاسم، والواو عطفت إما على إما، وهو غريب. الثاني: ستأتي هذه المعاني لـ أوْ، والفرق بينهما وبين (إما) إما لأنَّ (إما) ينبني الكلامُ معها من أول الأمر على ما جيء بها لأجله، ولذلك وجب تكرارها، وأو يُفتْتَح الكلام معها على الجزم ثم يطرأ الإبهام، أو غير ذلك. ولهذا لم تتكرر. الثالث: ليس من أقسام إمَّا التي في قوله تعالى: (فإمَّا تَرَين من البشر أحداً) ، بل هي كلمتان: إن الشرطية، وإما الزائدة. *** (إنْ) بالكسر والتخفيف - على أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الأول: أن تكون شرطية، نحو: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) . وإذا دخلت على لم فالجزم بلم لا بها، نحو: (وإن لم تَفْعَلُوا) . وعلى لا فالجزم بها لا بلا، نحو: (وإلاّ تَغْفِر لي وترْحَمْني) . (إلا تَنْصُروه) . والفرقُ أن لم عاملٌ يلزم معموله، ولا يفصل بينهما بشيء، و (إنْ) يجوز الفصل بينها وبين معمولها بعدوله، و (لا) لا تعمل الجزم إذا كانت نافية، فأضيف العملُ إلى (إن) . الثاني: أن تكون نافية، وتدخل على الاسمية والفعلية، نحو: (إن الكافرون إلا في غُرور) . (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) . (إن أرَدنا إلا الحُسْنَى) . (إن يَدْعُون مِنْ دونِه إلا إنَاثا) . قيل: ولا تقع (إن) إلا وبعدها إلا كما تقدم، أو لمَّا المشددة، نحو: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) - في قراءة التشديد. ورد بقوله: (إن عندكُمْ مِنْ سُلطَانٍ بهذا) . (وإنْ أدرِي لعله فتنَةٌ لكم) . ومما حمل على النافية قوله: (إنْ كُنَّا فاعِلين) . (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) . وعلى هذا فالوقف هنا. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) . وقيل هي زائدة، ويؤيد الأول قوله: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ، وعدل عن ما لئلا يتكرر فيثقل اللفظ. قلت: وكونها للنفي هو الوارد عن ابن عباس كما تقدم. وقد اجتمعت الشرطية والنافية في قوله: (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وإذا دخلت النافية على الاسمية تعمل عند الجمهور، وأجاز الكسائي والمبرد إعمالها عمل ليس، وخرج عليه قراءة سعيد بن جبير: (إنَّ الذين تَدْعون مِن دون الله عبادٌ أمثالكم) . فائدة أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كل شيء في القرآن إن فهو إنكار. الثالث: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتدخل على الجملتين، ثم الأكثر إذا دخلت على الاسمية إهالها، نحو: (وإن كلُّ ذلك لَمَّا مَتَاعُ الحياةِ الدنيا) . (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) . (إن هذَان لَسَاحِرَان) - في قراءة حفص وابن كثير. وقد تعمل، نحو: (وإن كلاًّ لما لَيوَفِّيَنَّهُم) - في قراءة الحرميين. وإذا دخلت على الفعل فالأكثر كونه ماضياً ناسخاً، نحو: (وإن كانت لكبيرة) . (وإن كادُوا لَيَفتِنونَك) . (وإن وَجَدْنَا أكثَرهم لَفَاسقين) . ودونه أن يكون مضارعاً ناسخا، نحو: (وإن يكادُ الذين كفروا) . (وإن نَظنّك لَمِنَ الكاذبين) . وحيث وجدت إن وبعدها اللام المفتوحة فهي المخفّفة من الثقيلة. الرابع: أن تكون زائدة، وخرج عليه: (فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) . الخامس: أن تكون للتعليل كـ إذ، قاله الكوفيون وخرجوا عليه: (واتّقُوا اللهَ إن كنتم مؤمنين) . (لتَدْخُلنّ المسجدَ الحرام إن شاءَ الله آمِنين) . (وأنتم الأعلَون إن كنتم مُؤمنين) . ونحو ذلك مما الفعل فيه محَقق الوقوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وأجاب الجمهور عن هذه المشيئة بأنه تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخْبَرُوا عن المستقبل، وبأن أصل ذلك الشرطُ، ثم صار يُذكر للتبرك. أو بأن المعنى لتدخلن المسجد جميعاً إن شاء الله ولا يموت منكم أحد قبل الدخول. وعن سائر الآيات بأنه شرط جيء به للتهييج والإلهاب، كما تقول لابنك: إن كنت ابني فأطِعْني. السادس: أن تكون بمعنى قد، ذكره قُطرب، وخرج عليه: (فَذَكر إن نَفَعَتِ الذِّكرى) ، أي قد نفعت. ولا يصح معنى الشرط فيه، لأنه مأمور بالتذكير على كل حال. وقال غيره: هي للشرط، ومعناه ذَمّهم واستبعاد لنَفْع التذكير فيهم. وقيل التقدير: وإن لم تنفع، على حد قوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) . فائدة قال بعضهم: وقع في القرآن إنْ بصيغة الشرط، وهو غير مراد في ستة مواضع: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) . (واشكروا نعمةَ الله إن كنتم إيَّاه تعبُدُون) . (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) . (إن ارتَبْتُم فعدتُهن) . (أن تَقصروا من الصلاة إن خِفْتُم) (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) . *** (أنْ) بالفتح والتخفيف - على أوجه: الأول: أن تكون حرفا مصدريّا ناصباً للمضارع، وتقع في موضعين: الابتداء، فتكون في محل رفع، نحو: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) 1. (وأن تعفُوا أقْرَبُ للتقوَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وبعد فعل دالٍّ على معنى غير اليقين، فتكون في محل رفع، نحو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) . (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) . ونصب، نحو: (نَخْشَى أن تُصِيبَنَا دائرةٌ) . (وما كان هذا القرآن أن يُفْتَرَى) . (فأرَدتُ أن أعِيبها) . وخفض، نحو: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا) . (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) . وأن هذه موصول حرفي، وتوصل بالفعل المتصل: مضارعاً كما مر. وماضياً، نحو: (لولا أن مَنَّ اللهُ علينا) . (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) . وقد يرفع المضارع بعدها إهمالاً لها، حملاً على (ما) أختها، كقراءة ابن محيصن: (لِمَنْ أرادَ أن يَتِم الرضاعةُ) (1) . الثاني: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتقع بعد فعل اليقين، أو ما نزِّل منزلته. نحو: (أفلا يَرَوْنَ ألا يرجعُ إليهم قَوْلاً) . (علم أن سيكون) . (وحسبوا ألا تكون فتنة) - في قراءة الرفع. الثالث: أن تكون مفسرة بمنزلة أي، نحو: (فأوحينا إليه أن اصنَعِ الفلْكَ بأعيننا) ، (ونودوا أن تلكم الجنة) . وشرطها أن تسبق بجملة، فلذلك غَلِطَ مَنْ جعل منها: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وأن يتأخر عنها جملة، وأن يكون في الجملة السابقة معنى القول. ومنه: (وانطلق الملأ منهم أن امْشوا واصبِروا) . إذ ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألَسنتهم بهذا الكلام. كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف، بل الاستمرار على المشي. وزعم الزمخشري أن التي في قوله: (أنِ اتخِذِي من الجبال بُيوتاً) - مفسرة.   (1) - بفتح الياء من يتم ورفع الرضاعة وهي قراءة ابن محيصن. انظر إتحاف فضلاء البشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ورُدَّ بأن قوله: (وأوْحَى ربّك إلى النَّحْل) ، والوحْيُ هنا إلهام باتفاق، وليس في الإلهام معنى القول، وإنما هي مصدرية، أي باتخاذ الجبال. وألا يكون في الجملة السابقة أحرف القول، وذكر الزمخشري في قوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) - أنه يجوز أن تكون مفسرة بالقول على تأويله بالأمر، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن اعبدوا الله. قال ابن هشام: وهو حسن. وعلى هذا فيقال في الضابط: ألَّا يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره. قلت: وهذا من الغرائب كونهم يشترطون أن يكون فيها معنى القول، فإذا جاء لفظه أوّلوه بما فيه مع صريحه، وهو نظير ما تقدم من جعلهم (ال) في الآن زائدة مع قولهم بتضمنه معناها وألا يدخل عليها حرف جر. الرابع: أن تكون زائدة، والأكثر أن تقع بعد لما التوقيفية، نحو: (ولما أنْ جاءَتْ رسلُنا لوطاً) . وزعم الأخفش أنها قد تنصب المضارع وهي زائدة، وخرج عليه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) ، قال: فهي زائدة، بدليل: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) . الخامس: أن تكون شرطية كالمكسورة، قاله الكوفيون، وخرج عليه: (أنْ تضِلَّ إحداهما) . (أن صَدّوكم عن المسجدِ الحرام) . (صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) . قال ابن هشام: ويرجِّحه عندي تواردهما على محل واحد والأصل التوافق. وقد قُرِئ بالوجهين في الآيات المذكورة، ودخول الفاء بعدها في قوله: (فتذكر) . السادس: أن تكون نافية، قاله بعضهم في قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) : أي لا يؤتى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 والصحيح أنها مصدرية، أي ولا تؤمنوا أن يؤتى، أي بإيتاء أحد. السابع: أن تكون للتعليل كـ إذ، قاله بعضهم في قوله: (بل عَجِبوا أنْ جاءَهم منْذِرٌ منهم) . (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا) . والصواب أنها مصدرية وقبلها لام التعليل مقدرة. الثامن: أن تكون بمعنى لئلا، قاله بعضهم في قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، أي لئلا تضِلوا. والصواب أنها مصدرية، والتقدير كراهة أن تضلوا. *** (إنَّ) بالكسر والتشديد - على أوجه: أحدها: التأكيد والتحقيق، وهو الغالب، نحو: (إن اللهَ غَفورٌ رحيم) . (إنا إليكم لَمرْسلون) . قال عبد القاهر: والتأكيد بها أقوى من التأكيد باللام. قال: وأكثر مواقعها بحسب الجواب لسؤال ظاهر أو مقدر إذا كان للسائل فيه ظن. الث اني: التعليل، أثبته ابن جني وأهل البيان، ومثّلوه بنحو: (واستَغْفِروا اللهَ إن اللَهَ غفورٌ رحيم) . (وَصَلِّ عليهم إن صَلاتَك سكَنٌ لهم) . (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) . وهو نوع من التأكيد. الثالث: معنى نعم، أثبته الأكثرون، وخرَّج عليه قوم: (إن هذان لساحِرَان) . *** (أنَّ) بالفتح والتشديد - على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف تأكيد. والأصحّ أنها فرع المكسورة، وأنها موصول حرفِيّ تؤوَّل مع اسمها وخبرها بالمصدر، فإن كان الخبر مشتقاً فالمصدر المؤول به من لفظه، نحو: (لِتَعْلَموا أنَّ اللهَ على كل شيء قَدِير) .، أي قدرته. وإن كان جامداً قدِّر بالكوْن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وقد استشكل كونها للتأكيد بأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك لم يُفد توكيداً. وأجيب بأن التأكيد للمصدر المنحل، وبهذا لم يفرق بينها وبين إن المكسورة، لأن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين. الثاني: أن تكون لغة في لعل، وخرج عليها: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) - في قراءة الفتح، أي لعلها. *** (أنَّى) اسم مشترك بين الاستفهام والشرط، فأما الاستفهام فترِد فيه بمعنى كيف، نحو: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) . (فأنَّى يؤفَكون) . ومن أين، نحو: (أنّى لكِ هذا) ، أي مِنْ أين. (قُلْتم أفى هذا) ، أي من أين جاءنا. قال في عروس الأفراح: والفرق بين أيْن ومِنْ أين أن أين سؤال عن المكان الذي حلّ فيه الشيء. ومن أين سؤال عن المكان الذي برز منه الشيء، وجعل من هذا المعنى ما قُرِئ شاذاً: (أنَّى صبَبْنَا الماءَ صَبّاً) . وبمعنى متى، وقد ذكرت المعاني الثلاثة في قوله تعالى: (فأتوا حَرْثَكم أنَّى شِئْتم) ، فأخرج ابن جرير الأول من طريق ابن عباس. وأخرج الثاني عن الربيع بن أنس واختاره، وأخرج الثالث عن الضحاك، وأخرج قولاً رابعاً عن ابن عمر وغيره: أنها بمعنى حيث شئتم. واختار أبو حيان وغيره أنها في الآية شرطية، وحذِف جوابها لدلالة ما قبلها عليه، لأنها لو كانت استفهامية لاكتفت بما بعدها كما هو شأن الاستفهامية أن يكتفى بما بعدها وأن يكون كلاماً يحسنُ السكوت عليه أو اسماً أو فعلاً. *** (أو) حرف عطف ترد لمعان: الشك من المتكلم، نحو: (قالوا لَبِثْنَا يوماً أو بَعْضَ يوم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 والإبهام على السامع، نحو: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) . والتخيير بين المعطوفين بأن يمتنع الجمع بينهما. والإباحة بألا يمتنع الجمع. ومثل الثاني بقوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) الآية. ومثل الأول بقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) . وقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) . واستشكل بأن الجمع في الآيتين غير ممتنع. وأجاب ابن هشام بأنه ممتنع بالنسبة إلى وقوع كلِّ كفارة أو فِدْية، بل تقع واحدة منهن كفّارة أو فدية. والثاني قربة مستقلة خارجة عن ذلك. قلت: وأوضَح من هذا التمثيل قوله: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) . على قول مَنْ جعل الخيرة في ذلك إلى الإمام، فإنه يمتنع عليه الجمع بين هذه الأمور، بل يفعل منها واحداً يؤدي اجتهاده إليه. والتفصيل بعد الإجمال، نحو: (وقالوا كونوا هوداً أو نَصَارى تَهْتَدوا) . (قالوا ساحر أو مَجْنون) ، أي قال بعضهم كذا، وقال بعضهم كذا. والإضراب كَـ بَلْ، وخرِّج عليه قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) . (فكان قَابَ قَوْسَيْن أو أدنى) . وقراءة بعضهم: (أوْ كلَّما عاهَدوا عَهْداً) - بسكون الواو. ومطلق الجمع كالواو، نحو: (لعلَّه يتذكّر أو يخشَى) . (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 والتقريب، ذكره الحريري وأبو البقاء، وجعل منه: (وما أمْرُ الساعةِ إلا كلَمْح البصر أو هو أقْرَبُ) . ورُدّ بأن التقريب مستفاد من غيرها. ومعنى إلا في الاستثناء، ومعنى إلى، وهاتان ينصب المضارع بعدهما بـ أن مضمرة، وخرج عليه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) . فقيل: إنه منصوب لا مجزوم بالعطف على "تَمَسُّوهُنَّ"، لئلا يصير المعنى: لا جناح عليكم فما يتعلق بمهور النساء إن طلقتموهنَّ في مدة انتفاء أحدِ هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس لزم مهر المثل، وإذا انتفى السيس دون الفرض لزم نص@ السقَى. فكيف يصح رَفْعُ الجناح عند انتفاء أحد الأمرين، ولأن المطلقات المفروض لهنَّ قد ذكر ثانياً بقوله: (وإنْ طلقتموهنَّ) . وترك ذِكْر الممسوسات بما تقدم من المفهوم. ولو كان (تفرضوا) مجزوماً لكانت الممسوسات والمفروض لهن مستوياتٍ في الذكر. وإذا قدرت (أو) بمعنى إلا خرجت المفروض لهن عن مشاركة الممسوسات في الذكر، وكذا إذا قدرت بمعنى (إلى) وتكون غاية لنفي الجنَاح لا لنفي المسيس. وأجاب ابن الحاجب عن الأول بمنع كون المعنى مدَة انتفاء أحدهما، بل مدة لم يكن واحد منهما، وذلك ينفيهما جميعا، لأنه نكرة في سياق النفي الصريح. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن ذكر المفروض لهن إنما كان لتعيّن النصف لهن لا لبيان أن لهن شيئاً في الجملة. ومما خرج على هذا المعنى قراءة أُبَيّ: (تقاتلونهم أو يسْلِمون) . تنبيهات الأول: لم يذكر المتقدمون لـ (أوْ) هذه المعاني، بل قالوا: هي لأحد الشيئين أو الأشياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 قال ابن هشام: وهو التحقيق، والمعاني المذكورة مستفادة من القرائن. الثاني: قال أبو البقاء: أو في النهي نقيضة أو في الإباحة، فيجب اجتنابُ الأمرين، كقوله: (ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كَفُورا) ، فلا يجوز فعل أحدهما، فلو جمع بينهما كان فاعلاً للمنهي عنه مرّتين، لأن كل واحد منهما كان منهيّاً عنه لا أحدهما. وقال غيره: (أو) في هذا بمعنى الواو تفيد الْجَمع. وقال الخطيب: الأوْلى أنها على بابها، وإنما جاء التعميم فيها من النهي الذي فيه معنى النفي، والنكرة في سياق النفي تعمُّ، لأن المعنى قبل النهي: تطيع آثماً أو كفورا ، أي واحدًا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً، فالمعنى لا تطع واحداً منهما، فالتعميم فيها من جهة النفي، وهي على بابها. الثالث: لكَوْن مبناها على عدم التشريك عاد الضمير إلى مفردها بالإفراد. بخلاف الواو. وأما قوله: (إنْ يكنْ غنيّاً أو فقيراً فاللَهُ أوْلى بهما) . فقيل إنها بمعنى الواو. وقيل المعنى إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين. فائدة أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن فيه (أو) فهو مخيّر، فإذا كان ممن لم يخير فهو الأول فالأول. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن جريج. قال: كل شيء في القرآن فيه (أو) فالتخيير إلا قوله: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) .، ليس بمخيَّر فيهما. قال الشافعي بهذا أقول. (أوْلَى) في قوله: (أوْلَى لكَ فأولى) . وفي قوله: (فأوْلى لهم) ، قال في الصحاح: قولهم: أوْلى لك، كلمة تهدد ووَعيد، قال الشاعر: " فأوْلَى ثم أوْلى ثم أولى " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. قال الجوهري: ولم يقل أحد فيها أحسن مما قاله الأصمعي. وقال قوم: هو اسم فعل مبني، ومعناه أولى لك شر بعد شر، ولك تبيين. وقيل: هو عَلَم للوعيد غير معروف، ولذا لم ينون، وإن محله رفع على الابتداء ولك الخبر، ووزنه على هذا فَعْلى للإلحاق. وقيل افعل. وقيل معناه الويل لك، وإنه مقلوب منه. والأصل أويل، فأخّر حرف العلة. ومنه قول الخنساء: همَمْت بنفسي بعض الهموم ... فأولى لِنَفْسِيَ أوْلى لها وقيل معناه الذم لكَ أوْلى مِنْ تَرْكه، فحذف المبتدأ لكثرة دوَرانه في الكلام. وقيل المعنى أنتَ أولى وأجدر بهذا العذاب، كأنه يقول: قد وليت الهلاك. أو قد دانيت الهلاك. وأصله من الْولْيِ وهو القرب، ومنه قوله تعالى: (قاتِلُوا الذين يَلونَكمْ من الكفار) ، أي يقربون منكم. وقال النحاس: العرب تقول أوْلى لك، أي كدتَ تهلك، وكأنّ تقديره أولى لك الهلكة. *** (إيْ) بالكسر والسكون - حرف جواب بمعنى نعم، فتكون لتصديق المخبر ولإعلام المستخبر، ولوَعْدِ الطالب. قال النحاة: ولا تقع إلا قبل القسم. قال ابن الحاجب: وإلا بعد الاستفهام، نحو: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي) . *** (أيّ) بالفتح والتشديد - على أوجه: الأول: أن تكون شرطية، نحو: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) . (أيّا ما تدْعُوا فَلَه الأسماءُ الْخسنَى) . الثاني: استفهامية، نحو: (أيّكمْ زَادَتْه هذه إيماناً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وإنما يُسأل بها عما يميز أحدَ المتشاركين في أمر يعمهما، نحو: (أيُّ الفريقين خَيْرٌ مَقَاماً) ، أنحن أم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: موصولة، نحو: (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) . وهي في الأوجه الثلاثة معربة. وتبنى في الوجه الثالث على الضم إذا حذف عائدها وأضيفت كالآية المذكورة. وأعربها الأخفش في هذه الحالة أيضاً، وخرَّج عليه قراءة بعضهم بالنصب. وأول قراءة الضم على الحكاية، وأوّلها غيره على التعليق للفعل. وأوّلها الزمخشري على أنها خبر مبتدأ محذوف. وتقدير الكلام لننزعنّ بعض كل شيعة، فكأنه قيل مَنْ هذا البعض؟ ، فقيل: هو الذي بالمكر أشدّ، فحذف المبتدآن ثم المكتَنِفَان لـ أي. وزعم ابن الطراوة على أنها في الآية مقطوعة عن الإضافة مبنية، وأيهم أشدّ مبتدأ وخبر. ورُد برسم الضمير متصلاً بأي، وبالإجماع على إعرابها إذا لم تضَفْ. الرابع: أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل، نحو: يا أيها الناس. يا أيها النبي. *** (إيَّا) زعم الزَّجاج أنه اسم ظاهر. والجمهور أنه ضمير. ثم اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه كله ضمير هو وما اتصل به. والثاني: أنه وحده ضمير، وما بعده اسم مضاف له يفسّره ما يراد به من تكلُّم أو غيبة أو خطاب، نحو: (فإيّايَ فارْهَبون) . (بل إياه تدْعون) . (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) . والثالث: أنه وَحْده ضمير وما بعده حروف تفسر المراد. والرابع: أنه عماد وما بعده هو الضمير. وقد غلط من زعم أنه مشتق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وفيه سبع لغات - وقرئ بها: تشديد الياء، وتخفيفها مع الهمزة، وإبدالها هاء مفتوحة ومكسورة. هذه ثمانية يسقط منها فتح الهاء مع التشديد. *** (أيَّان) اسم استفهام، وإنما يُستفهم به مع الزمان المستقبل، كما جزم به ابن مالك وأبو حيان، ولم يذكرا فيه خلافاً. وذكر صاحب إيضاح المعاني مجيئها للماضي. وقال السكاكي: لا تستعمل إلا في مواضع التفخيم وغيره. وقال بالأول من النحاة علي بن عيسى الرّبَعي، وتبعه صاحب البسيط، فقال: إنها تستعمل في الاستفهام عن الشيء المعظّم أمره. وفي الكشاف: قيل إنها مشتقة من أيّ، فَعْلان منه، لأن معناه أي وقت. وأي فعل، من أويت إليه، لأن البعض أوى إلى الكل ومتساند له، وهو بعيد. وقيل أصله أي آن. وقيل أي أوان، حذفت الهمزة من أوان والياء الثانية من أي، وقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء الساكنة فيها. وقرئ بكسر همزتها. *** (أيْنَ) اسم استفهام عن المكان، نحو: (فأين تَذْهَبون) . ويَرد شرطاً عامًّا في الأمكنة. وأيمنا أعَمُّ منها، نحو: (أيْنمَا يوَجِّهْه لا يَأت بخير) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 (حرف الباء - المفردة) (بَطَائِنها) ، أي ظواهرها بالقبطية، قاله الزركشي وابن شَيْذَلة. (بلاء) على ثلاثة معان: نِعْمة، واختبار، ومكروه، ومنه: ابْتَلَى ونبلُوكم. (بارئكم) خالقكم. وإنما خص هنا اسم البارىء لأن فيه توبيخاً للذين عبدوا العِجْل، كأنه يقول: كيف عبدتم غير الذي برأكم. وروي أن من لم يعبد العجل قَتل مَنْ عبده حتى بلغ القتل سبعين ألفاً، فعفا الله عنهم. (باءُوا) انصرفوا بذلك. ولا يقال (باء) إلا بشّرٍ. ويقال باء بكذا إذا أقرَّ به. والضمير في هذه الآية راجع إلى بني إسرائيل، فتارة دعاهم بالملاطفة. وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخفيف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذِكر العقوبات التي عاقبهم بها. فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: (إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) . (وإذْ فَرَقْنَا بكم البَحْرَ) . (بعثناكم من بعد موتكم) ، (وظَلّلْنَا عليكمُ الغَمام وأنْزَلْنَا عليكم المنّ والسَّلْوَى) . (وعفونا عنكم) . (فتاب عليكم) . (ويغفر لكم) . (آتيْنَا مُوسى الكتابَ والفُرْقَان لعلكم تَهْتدون) . (فانفجرت منه اثنتا عشرة عَيْنا) . وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء، قولهم: (سمِعْنَا وَعَصيْنا) . (ثم اتخذْتُم العِجْل) . وقولهم: (أرِنَا اللهَ جَهْرة) ، (فبَدّلَ الذين ظلمُوا) ، (لن نصبر على طعام واحد) . (ويحرِّفونه) ، وتوَلّيتُم من بعْد ذلك) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 (وَقَسَتْ قلوبُكم) . (وكفْرهم بآيات الله) . (وقتلهم الأنبياء بغير حق) . وذكر من عقوبتهم عشرة أشياء: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) . (يعطوا الجزية) ، (واقتلوا أنفسكم) ، (كونوا قِرَدةً) . (فأرْسلْنَا عليهم رِجْزاً من السماء) . (وأخذتهم الصاعقة) . (حَرَّمْنَا عليهم طَيِّبَاتٍ أحلَّتْ لهم) . وهذا كله جزاءٌ لآبائهم المتقدمين. وخوطب به المعاصرون لمولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد وُبِّخ المعاصرون له توبيخا آخر، وهي عشرة: كتمانهم أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - مع معرفتهم به و (يحرِّفُون الكلِمَ) ، ويقولون هذا من عند الله، (وتَقْتلون أنفسكم) و (يخرِجون فريقاً مِنْ دِيَارهم) . وحرصهم على الحياة وعَدَاوتهم لجبريل. وإثباتهم للسحر. وقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، (يَدُ اللهِ مغلولة) . (بديع) : مخترع، وخالق. (بثَّ فيها) : أي فرَّق. (باغ) : طالب. وقوله: (غير باغ ولا عَادٍ) ، أي لا يبغي الميتة، أي لا يطلبها وهو يَجِدُ غيرها، ولا عادٍ في تجاوزه على الشبع، ولهذا لم يُجزِ الشافعي الشبع من الميتة. وقال مالك: بل يشبع ويتزوّد، فإن استغنى عنها طرحها، ولم يرخّص - في رواية عنه - للعاصي بسفره أن يأكل الميتة. والمشهور عنه الترخيص له. (باشِرُوهُنَّ) : المشهور أنه كناية عن الجماع، سمّي بذلك لمسّ البشرة البشرةَ، والبشرة: ظاهر الجلدة. والأدمة: باطنها، وفيها تحريمٌ للمباشرة حين الاعتكاف. (بَسْطة) : أي سعة، من قولك: بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ووسّعته، ووصف في آية البقرة، طالوت بزيادته على قومه زيادة علمه بالحروب وقيل بالعلم، وكان أطول رجل يصل إلى منكبيه. قال وهب بن مُنَبه: أوحى اللَّهُ إلى نبيهم إذا دخل عليك رجلٌ فنَشّ الدهن الذي في القَرَن فهو ملكهم. وقال السدّي: أرسل الله إلى نبيهم شمويل وقيل شمعون، وقال له: إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم، فكان ذلك طالوت. وقوله في الأعراف: (وزادَكمْ في الخلق بَصْطَة) ، فمعناه طول قوم عاد كما قدمنا أنَّ طول أحدهم مائة ذراع. وكان الظبي يبيض ويفرخ في عين أحدهم. (بَكَّة) هي مكة، والباء بدل من الميم. وقيل: مكة الحرم كله، وبَكة المسجد وما حوله، وسمِّيَتْ بذلك لاجتماع الناس فيها من كل أفق. وقيل: تَمَككْت العظم: أي اجتذبت ما فيه من المخ. وتمكلك الفَصيل ما في ضَرْع الناقة، فكأنها تجذب لنفسها ما في البلاد من الأقوات ببركة دعاء إبراهيم. وقيل: إنها تمكُّ الذنوب أي تذهبها. وقيل لقلة مائها، لأنها في بطن واد، تمكك الماء من جبالها عند نزول المطر، وتنجذب إليها السيول. وقيل الأصل الباء، ومأخذه من البكّ، لأنها تَبكّ أعناق الجبابرة، أي تكسرهم فيذلّون لها ويخضعون حُفاة عراة. وقيل من التباكّ وهو الازدحام، لازدحام الناس فيها في الطواف. (بيِّنات) يعني أن في مكة آياتٍ كثيرة، منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البِنَاء ارتفع الحجر في الهواء حتى أكمل البناء وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق في الحجر إلى اليوم. ومنها أن الطير لا تعلوه. ومنها هلاك الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونَبْع زمزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 لهَاجر أمّ إسماعيل بهمز جبريل بعقبه. وحفر عبد المطلب لها بعد دثور مائها. وأن ماءها ينفع لما شرِب له، إلى غير ذلك. وكان أول مَنْ بنى المسجد الحرام آدم عليه السلام، فجعل طوله خمسة وعشرين ذراعاً وعَرْضه عشرين، وحج إليه من الهند على قدميه سبعين حجة. وقيل إنه دفن فيه. ورُد بأن طوله ستون ذراعاً. فقيل: ما فضل منه فهو خارج عن البيت. وقيل: إنه دوّر بالبيت. وهذا فيه ضعف، ثم بناه إبراهيم عليه السلام ثم العمالقة مِنْ بعده، ثم قريش حين كان - صلى الله عليه وسلم - ينقل الحجر على عاتقه: وهو الذي وضع الحجر الأسود بتحكيم قريش عنده، ثم بناه الحجاج بعد أن هَدَم بعضه عبد الله بن الزبير. (بيَّت) ، أي قدم رأيه بالليل، ومنه قوله: (فجاءها بَأسنا بَيَاتا) ، وكذلك بيّتهم العدوّ. (بَهيمة) : كلّ ما كان من الحيوان غير ما يعقل. ويقال: البهيمة ما استبهم من الجواب، أي استغلق. (بَحِيرة) : إذا نتجت الناقة خمسة أبطن فإن كان الخامس ذَكرا نَحَروه. فأكله الرِّجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بَحَروا أذنها، أي شقّوها. وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها. فإذا ماتت حلّت للنساء. ولما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم كتعظيم الكعبة والْهَدْي، أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئاً لعباده من هذه البدائع التي كانت عندهم، وإنما جعلوا الكفَّار ذلك. (بَغْتَة) ، أي فجأة، وفيه تنبيه على الاستعداد لها والتفكر في أمرها. (بازغاً) : طالعاً. والضمير في الآية يعود على القمر الذي رآه إبراهيم قبل البلوغ والتكليف، وذلك أنْ أمَّه ولدَتْه في غَارٍ خَوْفاً من نمرود، إذ كان يقتل الأطفال، لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صعبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم، وهذا أرجح، لقوله بعد ذلك: (إني بريءٌ مما تشْرِكون) . ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار، لأن ذلك يقتضي محاجَّة وردًّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم. ويرْشِدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحد منها إلهاً لقيام الدليل على حدوثها، وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغرونها وأفولها وانتقالها هو الواحد المنفرد. فإن قلت: لم احتجَّ بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الأفول أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. (بَيْنكم) :، وَصْلكم. ومن قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الطرْف، واستعمله استعمال الأسماء، أو يكون البين بمعنى الفرْقَة، أو بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد. ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف تقديره تقطّع الاتصال بينكم. (بَصَائر) ، جمع تصِيرة، وهي نور القلب، والبَصر نور العين، وهذا الكلام على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (وما أنا عليكم بحَفِيظ) . (بَوَّأكمْ) : أنزلكم، والضمير لقوم صالح، وكانت أرضهم بين الحجاز والشام، وقد دخلها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال لهم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا وأنتم باكون مخافةَ أن يصيبكم مثل الذي أصابهم. (بأساً) : شدة. ويقال أيضاً: بؤس، أي فقر وسوء حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 (بنَان) : أصابع، واحدتها بنانة. (براءة) : خروج من الشيء ومفارقته. والمراد التبرّي من المشركين. (بوَّأْنا) ، أي أنزلنا. والمراد أن الله أنزل بني إسرائيل منزلاً حسناً، وهو مصر والشام. ويقال جعلناهم مبَوّأ، وهو المنزل الملزوم. (بادي الرأي) : أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبر. وبادي منصوب على الظرفية، أصله وقت حدوث أول رأيهم. والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال. والمعنى اتبعك الأراذِل، وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهْلاً منهم، واعتقادا أن الشرف بالمال والجاه، وليس الأمر كما اعتقدوا، بل المؤمنون كانوا أشرفَ منهم على حال فَقْرِهم وخمولهم في الدنيَا، وهذه عادة الله في أتباع الرسل، لا يتبعهم إلا الضعفاء، لأَن المال يُورِث التجبّر على الله ووسله. وقيل: إنهم كانوا حاكَة ونجّامين. واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم أرذالٌ في أفعالهم، لقول نوح: وما علمي بما كانوا يعملون. ويحتمل أن يكون بادي الرأي بغير همز، أي ظاهر الرأي. أي ظهر لهؤلاء صلاح رأيهم فتهكَّفوا بهم. (بَعْلاً) : ربًّا، بلغة اليمن. وأما قوله في الصافّات: (أتدْعونَ بَعْلاً) ، فهو اسم صنم كان لقوم إلياس. وروى البخاري عن ابن عباس قال: ودّ، وسوَاع، ويغوث، ويعوق. ونَسْرا، وبعلاً، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعْبد، حتى إذا هلك أولئك وتفسخ العلم عبدت. (بَعِير) قال مقاتل: هو كل ما يحمل عليه بالعبرانية. وأخرج البزار عن مجاهد في قوله: (كَيْل بَعير) ، أي كيْل حمار على وجه الجعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 (بِقَيَّة الله) ، أي ما أبقاه الله لكم من الحلال فلا نحرمه عليكم، فيه مقنع ورضا عن الحرام. (بَعِدَت) ، أي هلكت. والضمير يعود على قوم صالح. (بَخْس) : نقصان، وإنما نهاهم عن البخس لأنهم كانوا ينقصون في الكيل والوَزْنِ، فبعث الله شعيباً لينهاهم عن ذلك. (بثِّي) : أي شدّة حُزْني، وإنما ردّ يعقوب شَكواه إلى الله لتفنيدهم، أي إنما أشكوا إلى الله لا لكم ولا لغيركم. والحزن: أشدُّ الهمِّ. فالمعنى أنه لا يصبر عليه صاحبه حتى يشكوه. (بَصِيرة) : إشارة إلى شريعة الإسلام، أي أدعو الناس إلى عبادة الله وأنا على بصيرة من أمري وحجَّةٍ واضحة. (بشير) المراد به في قصة يوسف يهوذا، لأنه الذي جاء بقميص الدم. فقال لإخوته: إني ذهبت إليه بقميص التَّرْحَة، فدَعوني أذهب إليه بالفرحة. وهو من البشارة والإعلام بالخير قبل وروده. وقد تكون للشر إذا ذكر معها كقوله: (فبَشِّرْهم بعذابٍ أليم) - تهكماً بهم. ويجوز في الفعل التشديد والتخفيف. ومنه الْمبشِّر والبشير، واستبشر بالشيء إذا فرح به. (بعثناهم) : أحييناهم من قبورهم. ويقال: بعث الرسل إلى قومهم ساروا إليهم. (الباقيات الصالحات) : هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. هذا قول الجمهور. وقد روي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل الصلوات الخمس، وقيل الأعمال الصالحة على الإطلاق. (بارزة) : ظاهرة لزوال الجبال عنها، فليس فيها ظلٌّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 ولا فَيء، وقد وصفها - صلى الله عليه وسلم - في الحديث كقرصة النَّقْي ليس فيها عَلَم لأحد، ويقال للأرض الظاهرة البَرَاز. (بَغِيًّا) البَغِي: المرأة المجاهرة بالزِّنى، ووَزْن بَغي فَعول. ومنه: (ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتكم عَلَى البِغَاء) . وكان لعبد الله بن أبيّ بن سَلول جاريتان، فكان يأمرهما بالزنى لتكتسبا ويولد لهما، ويضربهما على ذلك، فشكتا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فِعْله. (بَهيج) : حسن، أي يبهج مَنْ يَرَاة ويسرّه. والبهجة السرور أيضاً. (بيت عَتِيق) : المراد بالبيت، المسجد الحرام، وسُمِّي عتيقاً لأنه أقدم ما في الأرض ولم يملك. وقيل إن الله يعتق من دخله من النار إذا توفَّاهم على توحيده وما عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقيل العتيق: الكريم، كقولهم فَرَس عتيق. (بادٍ) : أي قادم عليه. والمعنى أن الناس سواء في المسجد الحرام، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها ملك. (بَرْزَخ) ، أي حاجز. والمراد به مكان المؤمنين في المدة التي بين الموت والقيامة، وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. وأما قوله في الفرقان: (وجل بينهما بَرْزَخا) ، أي فاصلاً يفصل ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان. وقيل هذا البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر. (بَغَى عليهم) : تكبّر وطَغى. والضمير لقارون، وذلك أنه كفَر بموسى للمال الذي أعطاه الله، فدعا عليه فخسف الله به وبداره الأرض لئلا تقول بنو إسرائيل إنما دعا عليه ليرث ماله، لأنه كان ابن عمِّ موسى، وقيل عمه. (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، شبّه الجواري بالبَيْض بياضا وملاسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وصفاءَ لون، وهي أحسن منه، وإنما وقع التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي، وهو المكنون، أي المصون تحت القشر الأول. (بَطْشة) أخذه بشدة، والمراد بها في آية الدخان، يوم بَدْر. وقال ابن عباس: هي يوم القيامة. (بَدْر) : قرية قرب المدينة. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كانت بدر لرجل من جهينة يسمى بدراً فسمِّيَتْ به. قال الواقدي: فذكر ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأَنْكرا ذلك. وقالا: فلأي شيء سُمِّيت الصفراء ورابغ. هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. وأخرج الضحاك قال: بَدْر ماء بين مكة والمدينة. (البيت العمور) ،: بيت في السماء الرابعة حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه، وبهذا عُمْرانه. وقيل البيت المعمور الكعبة، وعمرانها بالحجاج والطائفين، فلا يخلو منهما أبداً إن لم تكن من البشر كانت من الملائكة. والأولُ قول عليٍّ وابن عباس. (بَرَقَ البصر) ، بفتح الراء، معناه لمع وصار له بريق. وقرئ بكسر الراء، ومعناه تحيَّر من الفزع. وقيل معناه شخص، فيتقارب معنى الفتح والكسر. وهذا إخبارٌ عن يوم القيامة. وقيل عن حالة الموت، وهذا خطأ، لأن القمر لا يخْسَف عند موت أحد، ولا يجمع بينه وبين الشمس. (بَاسِرة) : متكرهة، أي تظهر عليها الكراهة، والبسور أشدُّ من العبوس. (برْداً) ، أي نوماً. وليس بصحيح، وإنما هو البرد، يعني أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 لا يذوقون فيها برودة تخفف عنهم حرَّ النار. وقيل: لا يذوقون ماءً باردًا. (البلد الأَمين) ، هو مكة باتفاق. والأمين من الأمانة، أو من الأمْن لقوله: (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) . وقوله: (أو لَمْ نمَكن لهم حَرَماً آمِناً) ، أي لا يغَارُ عليه. (بريّة) ، خلق، مأخوذ مِنْ برأ الله الخَلْق، فترك همزها. ومنهم مَنْ يجعلها من البَرَى، وهو التراب لخلق آدم عليه السلام من التراب. وتخفيف الهمز أكثر استعمالاً عند العرب. (بَصِيرة) من البصر، يقال أبصرته وبصرت به. والبصائر: البراهين، جمع بَصِيرة وقوله: (بل الإنسان عَلَى نفْسِه بَصيرة) . أي من الإنسان على نفسه عَيْن بصيرة، أي جوارِحه يشهدن عليه بجميع عمله. وقيل معناه الإنسان بصير على نَفسه. والهاء دخلت للمبالغة كما دخلت في عَلاَّمة ونَسَّابة. ونحو ذلك (مُبْلسون) ، جمع مُبْلس، وهو البائس، وقيل الساكت الذي انقطعت حجته، وقيل الحزين النادم. ومنه يبلس، ومنه اشتقَّ إبليس. (بات) معروف، ومصدره بَيَات (بُكمٌ) : خرْس، والضمير راجع للمنافقين، وليس المراد به فَقْد الحواس. وإنما هذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم. (برهانكم) : حجَّتكم، وإنما طلب منهم الحجة على وجه التعجيز والرد عليهم. يقال: بَرْهَن على الشيء إذا بيَّنَه بحجةٍ. (فبُهتَ الذي كفر) : أي انقطع وقامت عليه الحجة. والضمير يعود على نمرود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فإن قيل: انتقل إبراهيم عن الدليل الأول من الإحياء والإماتة إلى الثاني،والانتقال علامة الانقطاع. فالجواب أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأول وهو الإحياء كان له حقيقة، وهو فعل الله، ومجاز وهو فعل غيره، فتعلق نمرود بالمجاز غلطاً منه أو مغالطة، فحينئذٍ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني، لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه. (بُروج) : حصون، واحدها بُرْج. وبروج السماء من الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً تقطعها الشمس في سنةٍ. وقيل هي النجوم العظام، لأنها تتبرَّج أي تَظْهر. (بُورًا) : هَلْكى. (بكيًّا) ، جمع باك، ووزنه فعول، فأدغمت الواو في الياء وكسرت الكاف فصارت بكياً. (بُدْن) : جمع بَدَنة، وهي ما جعل في الأضحى للنّذْر والنّحر وأشباه ذلك، فإذا كانت للنحر على كل حال فهي جزور. (بُسَّتِ الْجِبَالُ) ، أي فتِّتَتْ. وقيل سيِّرَتْ حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس، أي المبلول. (بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، لاصق بعضه ببعض لا يغادِر منه شيء منه شيئا، ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظة. (بِرّ) ، ومنه، (ولكن البِرّ مَنْ آمن بالله) . فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. (بطانَة) : دخلاً، وبطانة الرجل أهل سِرّه ممن يسكن إليه ويثق بموَدّته. ومعنى الآية، نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وقيل لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلاً من النصارى لا أحد أحسن خطًّا منه، أفلا يكتب عنك، فقال: إذاً أتّخِذُ بطانةً من دون المؤمنين. (بِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) : معناه مبادرة لكبرهم، يعني أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر. وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية بـ بداراً، أو على المفعول من أجله تقديره مخافة أن يكبروا. (بضاعة) : قطعة من المال يُتَّجَر فيها. (بِضْعَ سنين) : من الثلاثة إلى العشرة. وقيل إلى التسعة. وقيل إلى السبعة. ورُوي أن يوسف عليه السلام سُجن خمس سنين أولاً، ثم سُجن بعد قوله ذلك سبع سنين. (بِيَع) : جمعِ بيعة النصارى، وهي كنائسهم. قال الجواليقي في كتاب المعرب: البِيعة والكنيسة جعلهما بعض العلماء فارسيين معربين. والمعنى لولا دفاعُ الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم. ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهَدَموا مواضع عبادتهم. (بِدْعاً) من الرّسل. البديع من الأشياء: ما لم يُرَ مثله، أي ما كنتُ أولَ رسول ولا جئتُ بأمر لم يجئ به أحد قبلي، بل جئتُ بما جاء به قبلي ناس كثيرون، فلأي شيء تنكرون عليَّ. *** (الباء حرف جر) ، له معان: أولاً: الإلصاق، ولم يذكر له سيبويه غيره. وقيل: إنه لا يفارقها، قال في شرح اللب: وهو تعلُق أحد المعنيين بالآخر. ثم قد يكون حقيقة نحو: (وامسحوا برءوسكم) ، أي ألصقوا المسح برءوسكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 (فامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم منه) ، وقد يكون مَجَازاً، نحو: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) ، أي بمكان يقربون منه. الثاني: التعدية كالهمزة، نحو: (ذهب الله بِنُورِهم) . (ولو شاء الله لذهب بِسَمْعهم) ، أي أذهبه، كما قال: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) . وذهب المبرد والسهيلي أن بين تعدية الباء والهمزة فَرْقاً، وأنك إذا قلت ذهبت بزيد كنت مصاحباً له في الذهاب، وردّ في الآية. الثالث: الاستعانة، وهي الداخلة على آلة الفعل، كباء البَسْمَلة. الرابع: السببيّة، وهي التي تدخل على سبب الفعل، نحو: (فكلاَّ أخَذْنَا بذَنْبِه) . (ظلمْتُم أنْفُسَكم باتّخَاذِكم العِجْلَ) . ويعبّر عنها أيضاً بالتعليل. الخامس: المصاحبة، كمع، نحو: (اهْبِطْ بسلام) . (جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) ، (فسبِّح بِحَمْدِ ربك) . السادس: الظرفية، كَـ فِي زَمَاناً ومكاناً، نحو: (نجيناهم بِسَحَر) . (نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) . السابع: الاستعلاء كـ عَلى، نحو: (إنْ تَاْمَنْه بِقِنْطَارٍ) ، أي عليه. الثامن: المجاوزة كعن، نحو: (فَاسْألْ بِهِ خَبِيراً) ، أي عنه، بدليل: يسألون عن أنبائكم. ثم قيل: تختصّ بالسؤال، وقيل لا، نحو: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) ، أي وعن أيمانهم. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) ، أي عنه. التاسع: التبعيض كمِنْ، نحو (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) ، أي منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 العاشر: الغاية كـ إلى، نحو: (وقد أحسن بي) ، أي إليَّ. الحادي عشر: المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، نحو: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . وإنما لم نقدِّرها بالسببية كما قالت المعتزلة. لأن المعطي بِعوض قد يُعطي مجاناً. وأما المسبّب فلا يوجد بدون السبب. الثاني عشر: التوكيد، وهي الزائدة، فتزاد في الفاعل وجوباً، نحو: (أسْمِعْ بهم وأَبصر) .. وجوازاً غالباً، نحو: (وكفَى باللهِ شَهيدا) ، فإنَّ الاسم الكريم فاعل. و (شهيداً) نصب على الحال أو التمييز، والباء زائدة، ودخلت لتأكيد الاتصال، لأن الاسم في قوله: (كفى باللَه) - متصل بالفعل اتصالَ الفاعل. قال ابن الشَّجَري: وفعل ذلك إيذانا بأنّ الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في عظْم المنزلة، فضوعف لفظها لتضاعف معناها. وقال الزجاج: دخلت لتضمّن كفي معنى اكتفى. قال ابن هشام: وهو من الحُسْنِ بمكان. وقيل: الفاعل مقدّر. والتقدير كفى الاكتفاء بالله، فخذف المصدر وبقي معموله دالاًّ عليه، ولا تزَاد في فاعل كفى بمعنى وقى، نحو: (فسيكفيكهم الله) . (وكفى الله المؤمنين القتال) . وفي المفعول، نحو: (ولا تلْقوا بأيديكم إلى التّهْلُكة) . (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) . (فَلْيَمْددْ بسببِ إلى السماء) . (ومَنْ يرد فيه بإلْحَادٍ) . وفي المبتدأ، نحو: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي أيكم. وقيل: هي ظرفية، أي في أي طائفة منكم. وفي اسم ليس في قراءة بعضهم: (وليس البِرَّ بأن تأتوا) ، - بنصب البر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وفي الخبر النفي، نحو: (وما الله بغافِل) آ. قيل: والموجَب، وخرّج عليه: " جزاء سيئة بمثلها ". وفي التوكيد، وجعل منه: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) . فائدة اختلف في الباء من قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ، فقيل للإلصاق. وقيل للتبعيض. وقيل زائدة. وقيل للاستعانة، وإن في الكلام حذفاً وقلباً، فإن مسح يتعدَّى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء، فالأصل امسحوا رءوسكم بالماء. *** (بل) : حرف إضراب إذا تلاها جملة. ثم تارة يكون معنى الإضراب الإبطال لما قبلها، نحو: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) . أي هم عباد مكْرَمون. (أم يقولون به جِنَّة بل جاءهم بالحق) . وتارة يكون معناها الانتقال من غرض إلى آخر، نحو: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) . فما قبل (بل) فيه على حاله. وكذا قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) . وذكر ابن مالك في شرح كافيته أنها لا تقع في القرآن إلا على هذا الوجه. ووهّمه ابن هشام. وسبق ابن مالك إلى ذكر ذلك صاحب البسيط، ووافقه ابن الحاجب، فقال في شرح المفصل: إبطال الأول وإثبات الثاني إن كانت في الإثبات من باب الغلط، فلا يقع مثله في القرآن. أما إذا تلاها مفرد فهي حرف عطف ولم يقع في القرآن كذلك. *** (بلى) : حرف أصلي الألف. وقيل: الأصل بل، والألف زائدة. وقيل هي للتأنيث بدليل إمالتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ولها موضعان: أحدهما أن تكون ردّاً لِنَفْي يقع قبلها، نحو: (ما كنّا نَعْمَلُ مِنْ سوءٍ بلى) ، أي عملتم السوء. (لا يبعَثُ اللَّهُ مَنْ يموت بلى) ، أي يبعثهم. (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) . (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) . ثم قال: (بلى) ، أى عليهم سبيل. (وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الجنّةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى) ، ثم قال: (بلى) ، أي يدخلها غيرهم. (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) . ثم قال: (بلى) ، أي تمسّهم ويخلدون فيها. الثاني: أن تقع جواباً لاستفهام دخل على نَفْي فتفيد إبطاله. سواء كان الاستفهام حقيقة، نحو: أليس زيد بقائم، فتقول: بلى. أو توبيخاً، نحو: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى) . (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى. أو تقريريّاً، نحو (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) . قال ابن عباس وغيره: لو قالوا: نعم ... كفَروا، ووجهه أن (نعم) تصديق للخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم قالوا: لست ربنا، بخلاف بلى، فإنها لإبطال النفي، فالتقدير أنتَ ربّنا. ونازع في ذلك السهيلي وغيره بأن الاستفهام التقريري خبر موجَب، ولذلك منع سيبويه مَنْ جعل أم متصلة في قوله: (أفلا تبصرون أم أنا خير)) ، لأنها لا تقع بعد الإيجاب. وإذا ثبت أنه إيجاب فنَعَمْ بعد الإيجاب تصديق له. قال ابن هشام: ويُشْكل عليه أن (بلى) لا يُجاب بها عن الإيجاب اتفاقاً. *** (بئس) : لإنشاء الذم لا يتصرف. وقرئ بالهمز وتركه. وقرئ على وزن فيعل وعلى وزن فيعيل، وكلها من معنى البؤس. *** (بين) : قال الراغب: موضوع للخَلَل بين الشيئين ووسطهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 قال تعالى: (وجعلنا بينهما زَرْعا) ، وذلك أن أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر وَرِثا مالاً فاشترى الكافر بماله جنتَيْن، وأنفق المؤْمِنُ ماله في طاعة الله حتى افتقر، فعيَّره الكافر بفقره فأهلك الله مالَ الكافر. وتارة تستعمل " بين " ظرفاً، وتارة اسماً، فمن الظرف: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) . (فاحْكمْ بيننا بالحقِّ) . ولا تستعمل إلا فيما له مسافة نحو: بين البلدان، أو له عدد مَّا اثنانِ فصاعدًا، نحو: بين الرجلَيْن، وبين القوم. ولا تضَاف إلى ما يقتضي معنى الوحدة إلا إذا كرّر، نحو: (ومِنْ بيْنِنَا وَبَينِكَ) . وقرئَ قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالنصب على الظرف، وبالرفع على أنه مصدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 (حرف التّاء المثناة) (تَلَقَّى آدَمُ) ، أي أخذ، وقبل، على قراءة الجماعة. وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذه من اللقاء. (تَوَّاب) : من أسماء الله. والتوَّاب من العبْد: كثير التوبة. (تاب) ، إذا رجع. وتاب الله على العبد: ألهمه التوبة، أو قبل توبتَه. (تَجْزي) : تقضي وتغْنِي. ومنه: (لا تجْزِي نَفْسٌ عن نَفْسٍ شيئاً) . يقال جزاه فلان دَيْنَه إذا قضاه. وتجازى فلان ديْن فلان: أي تقاضاه. والمتجازي: المتقا ضي. (تَتْلون) : تقرؤون. (تنسون) : تتركون. (تَلبِسون) ،: تخلطون. (تَعْثَوا) : تفسدوا. (تعقلون) العاقل الذي يحبس نفسَه ويردها عن هواها. ومن هذا قولهم: اعتقل لسان فلان، إذا حبس ومنع من الكلام. (تَسْفِكون) تصبّون. (تَظَاهَرون) : تتعاونون. (تقتلون أنفسَكم) في هذا وفيما بعدها جاء مضارعاً مبالغة، لأنه أريد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لولا أن الله عَصَمه. وضمير هذه الآية لقرَيظة، لأنهم كانوا حلفاء الأوس، والنَضير حلفاء الخزرج، وكان كلّ فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، وينفيه من موضعه إذا ظفر به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 (تَهْوَى أنفسكم) ، أي تميل. ومنه: (أفرأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاه) ، أي ما تميل إليه نفسه. (تشابهت قلوبُهم) ، الضمير للذين لا يعلمون والذين من قبلهم، وتشابُة قلوبهم في الكفر، وفي طلب ما لا يصح أن يُطْلب. وهو قولهم يكلِّمنا الله. (تصريفِ الريَاحِ) ،: تحويلها من حال إلى حال جنوباً وشمالاً ودَبُّوراً وصَباً وما بينها بصفات مختلفة، فمنها ملقِحَةٌ للشجر، وعقيم وصر، وللنصر وللهلاك، كأنه تعالى يقول: خلقت الخفاش من الريح، وحفظت ملك سليمان فوق الريح، وأهلكت قوم عادٍ بالريح، ولقحت الشجر بالريح، ونحتّ ورَقها بالريح. ونظيره: أخرجت ناقة صالح من الحجر، وأدخلت ولدها في الحجر. وأهلكت قوم لوط بالحجر. ونظيره: خلقت إبليس من النار، وحفظت إبراهيم في النار، وعذّبت الكفار في النار. ونظيره: خلقت آدَم من التراب، وحفظت أصحاب الكهف في التراب. وأهلكت قوم عاد بالتُّراب، كلُّ ذلك إشارة لكم أنه ملك قادر وصابر قاهر. (تَهْلُكة) : هلاك. قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد. وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العَيْلة. وقيل: لا تقْنَطوا من الغربة. وقيل: لا تقتحموا الهالك. (تَرَبُّص أربعةِ أشهر) .، أي تمكث. والآية في الإيلاء، إلا أنَّ مالكاً جعل مدة إيلاء العبْد شهرين، خلافاً للشافعي. ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافاً للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهُه أنها اليمين الشرعية. ولا يكون مُوليآ عند مالك والشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر. وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا. فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف. ولفظ الآية يحتمل القولين. (تَختَانونَ أنفسَكم) ، أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان. (تَعْضُلُوهُنَّ) : تمنعوهن من التزويج. وأصله من عضلت المرأة إذا نشب ولدُها في بطنها وعند خروجه. (تَيَمَّموا) ، أي تقصدوا الرديء للنفقة. (تَسْأموا) : تملَّوا من الكتابة إذا ترددت وكثرَت، سواء كان الحق صغيراً أوكبيرا. (تَرْتَابوا) : تشكّوا. (توراة) معناه الضياء والنور. (تأويل) : مصير ومَرْجع وعاقبة. يقال فلان تأوَّل الآية، أي نظر إلى ما يؤول معناها إليه. وقد قدمنا الأخبار عن انفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن وذَمَّه لمن طلب عِلْمَ ذلك من الناس، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته. (تَخْلق من الطِّين) ، أي تقدِّر، يقال لمن قدر شيئاً فأصلحه قد خلقه، فأما الخَلْق الذي هو الإحداث فهو لله وحده. قيل إن عيسى لم يخلق غير الخفاش. (تَقْوى) : مصدر مشتقّ من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف. والتزام طاعةِ الله، وتَرْك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير. (تَهنُوا) : تضعفوا، وفيه تقوية للمؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 (تَفرَّقوا) ، من الفرقة، وهي القطيعة، فنهى المؤمنين عن التدابُر والتقاطع. إذ كان الأوس والخَزرَج يقتتلان لما رأى اليهود إيقاعَ الشر بينهم. (تَمنَّوْن الموت) ، من التمنِّي. وخُوطب به قوم فاتتهم غزوة بَدْرٍ فتمنَّوْا حضورَ قتال الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد، وهو سبب الموت. فإن قلت: قد صح النهي عن تمَنِّي لقاء العدو. فالجواب: إنما نهي عن تمني لقائهم مع العدد القليل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "وسَلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا للقائهم، وتمنَّوا الشهادة في سبيل الله لنصرَةِ دينه". (تَحُسُّونَهُمْ) ، تقتلونهم قتلاً ذَرِيعاً، يعني في أول الأمر. (تنَازَعْتم) ، يعني وقع التنازع بين الرّماة، فَثبت بعضُهم كما أمِروا، ولم يثبت بعضهم، فعفا الله عنهم بفضله ورحمته. (تَعُولوا) ،: تميلوا. وفي الآية إشارة إلى الاقتصار على الواحدة. والمعنى أن ذلك أقرب إلى أن تَعولوا. وقيل: يكثر عيالكم، وهذا غير معروف في اللغة. (تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، تجاوزوا الحدَّ، وترتفعوا عن الحق. وهذا الخطاب للنصارى، لأنهم غلوا في عيسى حتى قالوا ابن الله. (تَسْتَقْسِموا) : تستفعلوا، وهو طلب ما قسم له، وذلك أنهم كانوا يكتبون على الأزلام - وهي السِّهَام - على أحدها: افْعَلْ، وعلى الآخر: لا تَفْعَلْ، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يفعل أمراً جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج الذي فيه " افعل " فعل، وإن خرج الذي فيه " لا تفعل " تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب. ومن هذا المعنى أخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الفأل في المصحف والقرعة وزَجْر الطير، ونحوها مما لا يجوز فعله. وقد شدَّدَ ابن العربي في النظر في شيء منها حتى جعلها من الكفر والعياذ بالله، مستدلاًّ بالآية: (ذلكم فِسْقٌ) . وإنما حرّمه الله وجعله فِسْقاً لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها لما يُرام به من الاطلاع على الغيوب. (تَنْقِمون منَّا) : أي تُنكرون منّا إلا إيماننَا بالله، وبجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يُعاب. ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذين يؤمن بهم، فتلا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية. فلما ذكر عيسى قالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به. (تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : أي تنصرف بإثمي إذا قتلتني، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قُرْبانك. أو بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي. وإنما تحمَّل القاتل الإثمين لأنه ظالم، فذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: المستبان ما قالاَ فهو على البادي. وقيل بإثمي، أي تحمل عنّي سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه في يوم القيامة ذنوب المظلوم. (تُصغي) : تميل. ومنه: (فقد صَغَت قلوبُكما) . (تَلقَف) ، وتلقَم وتلهم بمعنى تبتلع. ويقال: تلقّفه والتَقَفَهُ، إذا أخذه أخذاً سريعا. وروي أن الثعبان أكَلَ ما صوَّروا من كذبهم، ملء الوادي، من حبالهم وعصيِّهم، ومدَّ موسى يده إليه فصار عصاً كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحْرِ، وليس في قُدْرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام. (تجلّى) ، أي ظهر وبان، أما تجلّي الرب للجَبَل فإنما كان ذلك لأجل موسى، لأنه سأل رُؤيته، فقال له: لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلّى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد، فإن استقر وأطاق الصبْر لرؤيتي ولهَيْبَتي أمكنَ أنْ ترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 أَنتَ، وإن لم يُطقْ فأحرى ألاَّ ترى أنتَ، فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالاً لموسى. وقال قوم: المعنى سأتجلَّى لك على الجبل، وهو ضعيف، يبطله قوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) . وروِيَ أن طائرين ذكراً وأنثى كانا في الجبل، فلما سمعا طلبَ موسى الرؤية قال لها الذَّكَر: نَفِرُّ من هذا الجبل، لأنَّا لا نقدر على رؤية الحق. فقالت له: نقرُّ فيه لنفوز بحظ الرؤية، فيكون لنا فَخْر على سائر الطيور. فقال لها الذكر: إذاً فيكون ذلك لك. فلما تجلى الحقُّ للجبل تفتَّتَ حتى صار غبارا، وساخ في الأرض، وأفضَى إلى البحر، ولهذا كان رأي الأنثى فاسداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: شاوِروهنّ وخالفوهن. (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) : أعلم. وتَفَعّل يأتي بمعنى أفعل، كقولهم أوعدني وتوعّدني. (تَغَشَّاها) : علاها بالنكاح. فسبحانَ مَنْ خاطب العرب بلغاتهم، إذ كانوا يتصرّفون بالتسمية لمسمى واحد، كالجماع، فتارة كنى عنه سبحانه بالسر والقُرْب والنكاح. وكانوا يوسعون في التسمية لاختلاف أحواله بأسماء، كتسمية طِفْلِ بني آدم ولدا، ومن الخيل فَلُوًّا وفهْراً، ومن الإبل حواراً وفَصِيلاً، ومن البقر عِجْلاً، ومن الغنم سَخْلة، ومن الأرْنَب خِرْنقا، ومن الغزال خَشْفاً، ومن الكلب جَروا، إلى غير ذلك. ويداً تلوّثَتْ بلحم غَمِرة، وبطين لثِقَة، وبطيب عَبِقة، وبوسخ وَضِرَة، إلى غير ذلك. وكطعنته بالرمح، وضربته بالسيف، ورميته بالسهم، ووكَزْتُه بالعصا وباليد، وَركَلْته بالرِّجل، إلى غير ذلك. ويدل علي اتِّساع اللغة وكثرة فنونها أنهم قد جعلوا بألفاظها شبهاً بمعنى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 فقالوا: خَلاَ، ولِمَا كثرَت حلاوته احْلَوْلَى، وللخشن إذا زادت خشونته اخشَوْشَن. ولثوبٍ خلقٍ إذا زاد رثاثةً اخلَوْلَق. ولحائط مَيْل - بإسكان وسطه ليكون ميله ثابتاً، وحرّكوه فيما يتحرك كشجرة مَيل، وكالنّزَوَان وكالرَمَلان والْغَلَيان ليشبه لفظه معناه. وبدائع اللغة كثيرةٌ، وحكمها وإعجازها في القرآن، ولا يحيط بجميعها إلا نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (تَصْدِية) : تصْفيق بإحدى يديه على الأخرى، فيخرج بينهما صوتٌ، وكانوا يفعلونها عند البيت إذا صلَّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم. (تَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) : تجْبنوا وتذهب دولتكم، وهو استعارة. (تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) : تظفر بهم، والضمير عائد على بني قرَيظة، لأنهم نقضوا العهد. (تَفْتِنِّي) ، أي تؤثمني. وقائل هذه المقالة الجَدُّ بن قَيْس، وكان من المنافقين لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غَزوة تَبوك، فقال: ائذن لي في القعود ولا تفْتِنِّي برؤية بني الأصفر، فإني لا أصبر على النساء. (تزهَق أنفسهم) ، أي تهلك، وهذا إخبار بأنهم يموتون على الكفر. (تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ، أي تميل عن الحقّ. وهذا الضمير راجع إلى من اتّبعه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة العُسْرة لما رأوا من الضّيق والمشقّة، فتاب الله عليهم عما كانوا يفعلون فيه. (تَفِيض مِنَ الدمْعِ) ، أي تبكي وتسيل أعينهم بالدموع حين قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد ما أحملكم عليه في غزوة تبوك. وفي هذا مدح لبني مُقرن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وقيل سبعة نَفَر مِنْ بطون شتى، ويكفيك وصفهم بالإحسان ونصْحهم لله ولرسوله. (تَبْلو) : تختبر ما قدمت من الأعمال. وقرئ تتلو - بتاءين، بمعنى تتبع، أو تقرؤه في المصاحف. (تَغْنَ بالأمْس) : تعمر. والغاني: النازل التي يعمرها الناس بالنزول. (تَرْهقهم) : تغشَاهم. والضمير للذين كسبوا السيئات فلا يعصمهم أحد من عذاب الله. ومنه قولهم: غلام مُرَاهِق، أي غشي الاحتلام. (تَبْدِيل) : تغيير الشيء عن حاله، والإبدال جعل الشيء بمكان شيء. وقد استدل ابن عمر بهذه الآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدِّله. (تَخْرُصون) ،: تحدسون وتحزرون. (تلْفِتَنا) ، أي تصرفنا وتردَّنا عن دين آبائنا. (تَزْدَري أعْيُنكم) ، أي تحتقر. والمراد من قولك زريت على الرجل عبته. والضمير في (لكم) عائد على ضعفاء المؤمنين. (تَتْبِيب) : تخسير، أي كلما دعوتكم إلى هذا ازددتم تكذيباً، فزادت خسارتكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن خبير في قوله: (ولِيُتبِّروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) . قال: تبره بالنبطية. (تَرْكَنوا) ، أي تركنوا إليهم وتسكنوا إلى كلامهم. ومنه قوله: (لقد كِدْتَ ترْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً) . وفي الحديث: يُجَاءُ بالظَّلَمَةِ ومَنْ بَرَى لهم قلماً أو أَلَانَ لهم دواة فيلقون في توابيت مِنْ نارٍ فيلقى بهم في النار. وانظر كيف عطف عدمَ نصرتهم بـ ثمَّ لبُعْد النصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 على عدم نصرتنا لدين الله وشَرَهنا لموالاة الظلمة، وجمعنا لجِيَفهم كالكلب الشره لها، ولم تعلموا أنه كالنفظ في جوف خشبة الجسم، فإذا هبَّتْ عواصفُ المنون التهب وفات التدارك، اللهم إنا عاجزون عن إصلاح أنفسنا، فمُنَّ علينا بهداية تجبر بها حالنا المظلمة، لأنك لا تحب الظالمين، ورحمتك قريب من المحسنين. (تَعْبُرون) ، أي تعرفون تأويل الرؤيا، يقال عبرت الرؤيا - بتخفيف الباء. وأنكر بعضهم التشديد، وهو مسموع من العرب. (تأويل الأحاديث) : تفسير الرؤيا (تركْتُ مِلّةَ قَوْم) ، أي رغبت عنها. والتركُ على ضربين: أحدهما - مفارقة ما يكون الإنسان عليه. والآخر - ترك الشيء رغبة عنه من غير دخولٍ كان فيه. ويحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلاً لما قبله من قوله: (علمني ربي) . أو يكون استئنافاً. (تَبْتَئِس) : تحزن، وهو من البؤس. (تَفَتأ) : أي لا تفتأ، والمعنى لا تزال. وحذف حرف النفي، لأنه تلبَّس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتاً لكان مؤكداً باللام والنون. (تثرِيب) ، أي تعيير وتوبيخ. والمراد عفو جميل. وقوله (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه، وهو يتعلق بالتثريب، أو بالمقدَّر في (عليكم) من معنى الاستقرار. وقيل: إنه يتعلق بـ يغفر، وذلك بعيد، لأنه تحكم على الله. وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: (لا تَثرِيبَ عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقَّه. (تَحَسَّسُوا) - بالمهملة والمعجمة: طلبُ الشيء بالحواس السمع والبصر، أي تعرفوا يوسف وأخيه، وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختياراً منه. لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه. (تَيْئَسوا) : تقنطوا. (تَغِيض الأرحام وما تَزْدَاد) ، أي تنقص، وتزداد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الزيادة، فقيل: إن الإشارة إلى دم الحيض، فإنه يقل ويكثر. وقيل للولد، فالغيض السقط أو الولادة لأقل من تسعة أشهر. والزيادة البقاء أكثر من تسعة أشهر. ويحتمل أن تكون " ما " في قوله ما تحمل وما تغيض وما تزداد موصولة أو مصدرية. (تَهْوِي إليهم) : تقصدهم بجد وإسراع، ولهذه الدعوة حبّب الله حَبَّ البيت إلى الناس، على أنه قال: (من الناس) بالتبعيض. قال بعضهم: لو قال أفئدة الناس لحجَّته فارس والروم. (تَسْرَحون) ، أي حين ترُدُّونها بالغداة إلى الرعي. (وتريحون) ، حين تردُّونها بالعَشِيِّ إلى المنازل، وإنما قدم تريحون لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر، لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة. (تَمِيد) ، تتحرك، وهو في موضع مفعول من أجله. والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض. وروي أن الله لما خلق الأرض جعلت تَفور، فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهرها أحد، فأصبحت وقد أُرسيت بالجبال. (تَخَوُّفٍ) ، فيه وجهان: أحدهما: أنَّ معناه على تنقّص، أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئاً بعد شيء حتى يهلكوا من غير أن يُهلكلهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، لأن الأخذ هكذا أخفّ من غيره. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذَيل: التخوف التنقص في لغتنا. الوجه الثاني: أنه من الخوف، أي يهلك قوماً قَبْلَهم فيتخَوَّفوا همْ ذلك فيأخذهم بعد أن توقَّعوا العذاب وخافوه، وذلك خلاف قوله: وهم لا يشعرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 (تَقْفُ) ، المعنى: لا تقل ما لم تعم من ذمِّ الناس، وشبه ذلك. واللفظ مشتقّ من قفوته إذا تبعته. (تَبْذِيراً) : تفريقاً. ومنه قولهم: بذرت الأرض، أي فرّقت البذر فيها. أي الحب. والتبذير في النفقة الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. والإخوة في قوله: (إخوان الشياطين) ، للمشاركة والاجتماع في الفعل، كقولك: هذا الثوب أخو هذا، أي يشبهه. ومنه قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) . أي من التي تشبهها وتواخيها. (تَخْرِقَ الْأَرْضَ) : تقطعها وتبلغ آخرها. وقيل معناه: لا تقدر أن تشقَّ في جميعها بالمشي. والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيَلاء. أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خَرْق الأرض ولا على مطاولة الجبال، فكيف تتكبَّر وتختال في مشيك، وإنما الواجب عليك التواضع (تَبِيعاً) ، أي طالباً مطالبا. (تَزَاوَرُ) : أي تميل وتَمُور، ولهذا قيل للكذب لأنه أميل عن الحق. (تقْرضهم) : تخلِّفُهم وتجاوزهم، وهو من القرض بمعنى القطع، ومعنى هذا أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرِّها، فقيل: إن ذلك كرامة من الله لهم، وخَرْقُ عادة. وقيل: كان باب الكهف شمالياً يستقبل بنات نَعْش، فلذلك لا تصيبهم الشمس. والأول أظهر، لقوله: ذلك مِنْ آياتِ الله. والإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة، وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بالجملة. (تحسبهم) ، أي يظنهم من يراهم أيقاظاً. (تَعْدُ عَيْنَاكَ) ، أي تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 قال الزمخشري: عَدَّاه إذا جاوزه، فهذا الفعل يتعدى بنفسه، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمّن معنى نَبَت عينه عن الرجل إذا احتقره. (تَذْروه الرِّياح) ، أي تفرقه. ومعنى المثل تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضْرته. (تَخِذْت) : بمعنى اتخذت، أي أخذت طعاما تأكله. (تَنْفَد) ،: تفنى. وفي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى. والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، فمعنى الآية: لو كتِبَ عِلْم اللَهِ بمداد البحر لنفِدَ البحر ولم يَنْفَد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله، وذلك أن البحر متَنَاه وعلم الله غير متَناه. (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ،: أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي. والإشارة إلى الكفر، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. (تَجْهر) : تعلن. ومنه: (ولا تَجْهَرْ بصلاتك) . وأما قوله تعالى: (وإن تَجْهَرْ بالقول) ، فطابق الشرط جوابه، كأنه يقول: إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك، لأنه يعلم السر وأخفى. (تذكرة) ، نصب على الاستثناء المنقطع. وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من موضع (لتشقى) ، إذ هو في موضع مفعول من أجله، ومنع ذلك الزمخشري، لاختلاف الجِنْسَين. ويصح أن ينصب بفعلٍ مضمر تقديره أنزلناه تذكرة. (تنزيلاً) نصب على المصدرية، والعامل فيه مضمر. وأما أنزلنا في لفظ السورة بلفظ المتكلم في قوله: ما أنزلنا، ثم رجع إلى الغيبة في قوله (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) ... الآية، فذلك هو الالتفات. (تَسْعى) : تعمل. ومنه: (لسعْيها راضية) . (تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 (تَعلو) من العلو، وهو الكبر والتجبُّر. (تَرْدَى) ، تهلك، وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنك) . (تَنِيَا) : أي تضعفا أو تقصرا. والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها. (تَظْمَأ) : تعطش. (تضْحَى) : تبرز للشمس. (تَشْقَى) : تتعب. وخص آدم بهذا الخطاب، لأنه كان المخاطب به أولاً، والمقصود بالكلام. وقيل: إن الشقاء في معيشة الدنيا مختصٌ بالرجال. (تَبْهَتُهُمْ) ، أي تفجؤهم. وهذا الخطاب لمن استعجل القيامة أو نزولَ العذاب. وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (تَقَطَّعوا أمْرَهم) : أي اختلفوا فيه، وهو استعارة من جَعْل الشيء قطعاً. والضمير لجميع الناس، أو المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى إنما بعثت الأنبياء المذكورين بما أمرت به من الدين، لأن جميع الرسل متفقين في العقائد فلم تقطعتم. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، يعني الزيت، وقرئ تنبت بفتح التاء. فالمجرور على هذا في موضع الحال، كقولك جاء زيد بسلاحه. وقرئ بضم التاء وكسر الباء، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أن أنبت بمعنى نبت. والثاني حذف المفعول، تقديره تنبت ثمرتها بالدهن. والثالث زيادة الباء. (تَتْرَا) ، وزنه فَعْلى، ومعناه التواتر والتتابع، وهو موضوع موضعَ الحال، أي متواترين واحداً بعد واحد، فمن قرأه بالتنوين فألفه للإلحاق. ومن قرأه بغير تنوين فألفه للتأنيث ولم ينصرف وتأنيثه لأن الرسل جماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 والتاء الأولى فيها بدل من واو، وهي فاء الكلمة. ويجوز في قول الفراء أن تقول في الرفع تترا، وفي الخفض تترا، وفي النصب تترا، الألف بدل من التنوين. (تَجْأرُونَ) : ترفعون أصواتكم بالدعاء. ويحتمل أن يكلون هذا القول حقيقة أو يكون بلسان الحال. (تَنْكِصُونَ) ، أي ترجعون إلى وراء، وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن. (تَهْجُرُونَ) : مَنْ قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجْرَ بضم الهاء، وهو الفحشاء من الكلام. ومَنْ قرأ بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء، أي تهجرون الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. أو من قولك: هجر المريض إذا هَذَى، أو يقولون اللغو من القول. (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) ، أي يأخذه بعضكم من بعض. وخاطب بهذا الكلام معَاتبا لمن خاض في الإفْك، وإن كانوا لم يُصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلِّية، فعاتبهم على ثلاثة أشياء، وهي تلقِّيه بالألسنة، أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول. والثاني قولهم ذلك. والثالث أنهم حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم. وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن الحديث كان باللسان دون القلب، إذ كانوا لم يعلموا ذلك حقيقة بقلوبهم. وقرئ تلْقونه من الإلقاء، وهو استمرار اللسان بالكذب. (تَبَارَك) ، تفاعل، من البركة، وهي الزيادة والنّمَاء والكثرة والاتساع، أي البركة تُكتَسبُ وتُنالُ بذكره. ويقال تبارك تقدَّس، أي تطهَّر. ويقال تبارك تعاظم، وهو فِعْلٌ مختص بالله تعالى لم ينْطق له بمضارع. (تشقَّق السماء) : تتفطَّر. (تَغَيّظا) ، التغيظ: الصوت الذي يُهَمْهم به المتغايظ، والتغيظ لا يُسمع، وإنما يُسمع أصوات تدل عليه، ففي لفظه تجوُّزٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 (تَبَسَّمَ) التبسم: أول الضحك الذي لا صوتَ له، وتبسّمه كان لأحد أمرين: إما سروره لما أعطاه الله، أو لثناء الله عليه وعلى جنوده، فإن قولها: (وهم لا يشعرون) وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضَرّة الحيوان. (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) : معطوف على ضمير المفعول في قوله " يراك ". والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد. وقيل معناه: يرى صلاتك مع المصلين. وفي ذلك إشارة إلى الصلاة في الجماعة. وقيل: يرى تقلُّب بصرك في المصلين خَلْفك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى من وراء ظهره. (تحتَك) : أي تحت رجليك. وأما قوله: (فنادَاهَا مَنْ تحتها) - بفتح الميم وكسرها - فقد اختلف على القراءتين هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل. قيل: إنه كان تحتها كالقابلة لها. وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها. قال أبو القاسم في لغات القرآن: فناداها من تحتها، أي بطنها بالنبطية ونقل الكرماني في العجائب مثله عن مؤرّج. (تقَاسَموا باللهِ) : أي حلفوا به. وقيل: إنه فعل ماض، وذلك ضعيف. والصحيح أنه فعل مضارع، والضمير يعود على قوم صالح، أي قال بعضهم لبعض وتعاقدوا عليه لنقتلنِّه وأهله بالليل. وهذا الفعل الذي حلفوا عليه. (تَأْجُرَنِي) : تكون أجيراً لي. وهذا الخطاب كان من شُعيب لموسى عليهما السلام حين زوَّجه بنته صَفورا على أن يخدمه ثمانية أعوام. قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أوّل الأمَد، وجعل المهر إجارة. وهذا لا ينهض، لأن التعيين يحتمل أن يكون عند عَقْد النكاح بعد هذه المراودة. وقد قال الزمخشري: إن كلامه معه لم يكن عَقْدَ نكاح، وإنما كان مواعدة. وأما ذِكْز أوّل الأمد فالظاهر أنه كان من حين العقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وقرره شَرْعُنَا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: قد زوجتكما بما معك من القرآن أي على أن تعلِّمَهَا ما معك من القرآن. وقد أجاز النكاحَ بالإجارة الشافعيّ وابن حنبل وابن حبيب للآية والحديث. ومنعه مالك، وقال: هذه قضية عينية. (تذُودَان) : أي تمنعان الناس عن غنمهما. وقيل: تذودان غنَمهماَ عن الماء حتى يسقِيَ الناس. وهذا أظهر، لقولهما: (لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) ، أي كانت عادتهما لا يسقيان غَنَمهما إلا بعد الناس، لقوة الناس، أو لضعفهما، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس. (تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ، أي جلس في ظل سَمُرة لشدة ما نزل به من الجوع والتعب الذي لحقه في سَقْي الغنم، وأكثَرُ ما يستعمل الذَّوْد في الغنم والإبل، وربما استعْمِل في غيرهما. ويقال: سنَذودكم عن الجهل علينا، أي سنَكفَّكم ونمنعكم. وفي حديث الحوض: إني على الحوض أنتظر مَنْ يرد عليّ منكم فيجيء ناس ويُذادون عنه، فأقول: يارب، أمَّتي، أمَّتي، فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك! إنهم ارتدّوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا همل النعم. وروى الترمذي عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، قال: قال لي رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -: أعيذك باللهِ يا كعب بن عُجْرة من أمراء يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يَرِدُ عليَّ الحوض. ومن غشي أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض. يا كعب بن عُجرة، الصلاة برهان، والصبر جُنّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عُجرة، لا يربو لهم نبت من سُحْت إلا كانت النار أولى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 (تَصْطَلون) : معناه تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفتعلون، وهو مشتق من صَلِيَ بالنار، والطاء فيه بدل من تاء. (تَنُوء بالعُصْبة) : معناه تثقل. يقال: ناء به الجبل إذا أثقله. وقيل: معنى تنوء تنهض بتحمّل وتكلف. والوجه على هذا أن يقال إن العصْبة تنوء بالمفاتح، لكنه قَلْب، كما جاء قَلْبُ الكلام عن العرب كثيراً، ولا يحتاج إلى قَلْب على القول الأول. (تَفْرح) الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطُّغيان. ولذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، أي الأشِرين. وأما الفرح بمعنى السرور فيما يجوز فليس بمكروه. (تَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، هو من الخلقة، يريد نَحْتَ الأصنام. فسماه خِلْقَه على وَجْه التجاوز. وقيل: هو من اختلاق الكذب. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) : أي ترتفع. والمعنى يتركون مَضَاجِعهم بالليل من كثْرة صلاتهم للنوافل. ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فتد أخذ حظّه من هذا إن شاء الله. (تطَئوهَا) ، هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد وطئوها حينئذ، وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر، فأورث الله المسلمين جميعَ ذلك وما وراءها إلى أقصى المغرب. ويحتمل عندي أن يريد به أرض قرَيظة، لأنه قال أورثكم بالفعل الماضي، وهي التي كانوا قد أخذوها. وأما غيرهما من الأرضين فإنما أخذوها بعد ذلك، فلو أرادها لقال يورِثكم، وإنما كررها بالعطف ليصفها بقوله: لم تطئوها، أي لم تدخلوها قبل ذلك. (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) : وهو إظهار الزينة، فنهى الله نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلن مثْلَ ما كان نساء الجاهلية يفعلن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الانكشاف والتعرض للنظر، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام. وقيل الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح. وقيل ما بين موسى وعيسى. (تَنَاوُشُ) - بالواو، والتناول أخوان، إلاَّ أنَّ التناوش تناوُل سهل لكان قريب. وقرئ بهمز الواو. ويحتمل أن يكون المعنى واحداً، أو يكون المهموز بمعنى الطلب. ومعنى الآية استِبْعاد وصولهم إلى مرادهم، والمكان البعيد عبارة عن تَعذّر مقصودهم، فإنهم يطلبون ما لا يكون، أو يريدون أن يتناولوا ما لا يكون. وهو رجوعهم إلى الدنيا، أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ. (تَسَوَّروا) : نزلوا من ارتفاع، ولا يكون التسوُّر إلا من فوق. وجاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام، تنبيهاً للمخاطب، ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة التي ينبغي أن يُلْقى البال لها. وجاء بضمير الجمع لأن التسوِّر للمحراب اثنان فقط، ونفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، وأقلّ الجمع اثنان. ويحتمل أنه جاء مع كل واحد من الخصمين جماعة ٌ، فيقع على جميعهم. والمحراب: الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد. وروي أنهما جبريل وميكاييل، بعثهما الله ليضرب بهما المثل لداود، وهي نازلة وقع هو في مثلها، فأفتى بفُتْيَا هي واقعة عليه في نازلته. ولما فهم المراد أناب واستغفر. (تَوَارَتْ بالحِجَاب) : الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذِكْرها. ولكنها تفهم من سياق الكلام، وذكْرُ العشيّ يقتضيها. والمعنى حتى غابت الشمس. وقيل الضمير للخيل. والمعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها. والأوّل أظهر وأشهر. (تَرَكْنَا عليهِ في الآخِرين) ، يعني أبقينا له ثناء جميلاً في الناس إلى يوم القيامة. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) : تنقَبضُ. والضمير راجع للقرآن المتقدِّم الذكر لفصاحته وعدم اختلافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 (تلِين جلودهم) ، أي تميل وتطمئن إلى ذكر الله. فإن قيل: كيف يتعدَّى تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمَّن معنى فِعْلٍ يتعدى بإلى، كأنه قال: تسكن قلوبهم إلى ذكر الله. فإن قيل: لِمَ ذَكَر الْجلود أولاً وحدها، ثم ذكر " قلوبهم " بعد ذلك معها؟ فالجواب أنه لما قال أولاً (تقشعر) ذكر الجلود وحدها، لأن القَشْعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها. ولما قال ثانياً، (تلين) ، ذكر الجلود والقلوب. لأن اللين توصف به القلوب والجلود. أما لين القلوب فهو ضد قسوتها، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها، فاقشعرتْ أولاً من الخوف، ثم لانت بالرجاء. (تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) : أي تصرّفهم فيها للتجارة. وفي هذا تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، كأَنه قال له: لا يحزنك يا محمد تصرّفهم وأمْنهم وخروجهم من بلد إلى بلد، فإن الله محيط بهم قادر عليهم. (تَخْتَصمون) : يعتي الاختصام في الدماء. وقيل في الحقوق. والأظهر أنه اختصام النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار في تكذيبهم له، فيكون مِنْ تمام ما قبله. ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من التظالم وغيرها. ولما نزلت قال بعض الصحابة: أوَ تعاد علينا الخصومة يوم القيامة. قال: نعم، حتى يُقَادَ للشاة الْجَلحَاء من الشاة القَرْنَاء. (تلاق) : اللقاء، ومنه: (لينذرَ يوم التّلاَق) . والمراد به يوم القيامة. وسمِّي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه. وقيل: لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: لأنه يلتقي الخَلْق مع ربهم. والفاعل بينذر ضمير يعود على من يشاء، أو على الروح، أو على الله. (تَنَاد) ، بالتشديد - من نَدّ البعير إذا مضى على وجهه. وبالتخفيف من التنادي، وهو يوم يَتَنَادَى فيه أهل الجنة وأهل النار: أن قد وجَدْنا ما وعدنا ربّنَا حقّا. وأن أفيضوا علينا من الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسماهم. وينادي المنادي الناس. ومنه قوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) . (تَغَابن) : نقْص في المعاملة والمبايعة والْمقَاسمة. وأما يوم التغابن فهو يَوْم يغْبن أهل الجنة أهل النار، لأنهم غبنوهم في منازلهم التي كانوا ينزلون فيها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونها بين اثنين، كقولك تضارب وتقابل، إنما هي فعل واحد، كقولك: تواضع، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء، ونزول الأشقياء منازل السعداء والتغابن على هذا بين اثنين. قال: وفيه تهكُّم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن السعداء. (لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) : تصْرِفنا عنها. (تضَعَ الْحَرْبُ أوزارَها) : الأوْزَار في اللغة الآثام، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين. واختلف في الغاية المرادة هنا، فقيل حتى يسلم الجميع، وحينئذ تضع الحرب أوزارها. وقيل: حتى تقتلوهم وتغلبوهم. وقيل: حتى ينزل عيسى ابن مريم. قال ابن عطية: ظاهر اللفظِ أنها استعارة يُرَاد بها التزام الأمر أبداً، كما تقول: إنما أفعل ذلك إلى يوم القيامة. (تَعْساً) ، أي هلاكاً وعثارا، وانتصابه على المصدريّة، والعامل فيه فِعلٌ مضمر، وعلى هذا الفعل عطف قوله: وأضلّ أعمالهم. ويقال التعس أن يخرّ على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. (تَزَيَّلُوا) ، أي تَمَيزوا عن الكفار. والضمير للمؤمنين المستورين الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذّبْنَا الكفار. (تَفِيء) : ترجع إلى الحق، وأمَرَ الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية، وذلك إذا تبين أنها باغية، فأما الفتن التي تقَع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أحدهما: أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال. هذا مذهب سعد بن أيي وقاص وأبي ذَرٍّ وجماعة من الصحابة، وحجّتهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: قِتَال المسلم كفْر. وأمره عليه السلام بكسر السيوف في الفتن. والقول الثاني: أن النهوضَ فيها واجب، لتكفَّ الفئة الباغية. وهذا مذهب عليٍّ وطلحة وعائشة وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء. وحجتهم هذه الآية، فإذا فرّعنا على القول الأول فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فعليه دَفْعُه عن نفسه، وإن أدّى ذلك إلى قتله، لقوله عليه الصلاة والسلام: مَنْ قتل دون نفسه وماله فهو شهيد. وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفِتَن، فقيل مع السواد الأعظم. وقيل مع العلماء. وقيل مع مَنْ يرى أن الحقّ معه. وحكم القتال في الفتن أَلا يُجهز على جريح، ولا يُطْلَب هارب، ولا يقتل أسير، ولا يقسم فَيء. (تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : اللَّمْز العيْب، سواء كان بقولِ أو إشارة أو غير ذلك. (تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) : أي لا يَدعُ أَحدٌ أحدًا بلقبٍ. وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة. ولم يقصد النقص والاستخفاف. (تَجَسَّسُوا) ، قد قدمنا أنه بالحاء المهملة والمعجمة. وقيل بالمعجمة في الشر، وبالهملة في الخير. وقيل بالمعجمة هو للمكان وبالمهملة الدخول والاستعلام. (تَمُورُ السَّمَاءُ) : تجيء وتذهب. وقيل: تدور، وقيل تشقق. وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي معرّب. (تسير الجبال) : أي تسير مما يسير السحاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ومنه: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) . ومرورها يكون في أول أحوال القيامة تم ينسفها اللَّهُ خلالَ ذلك فتكون كالعِهْنِ، ثم تصير هباءً منبثّا. (تَأثيم) : أي لَغْو الكلام الساقط. والتأثيم الذنب، فهو بخلاف خَمر الدنيا. (تَمَارَوا) : تشككوا. والضمير عائد على قوم لوط. (تجرِي بأعيننا) ، قد قدّمنا أنه عبارة عن حفظ الله ورَعْيه للسفينة. (تَرَكْناها آية) : الضمير لقصة قَوْم نوح، أو الفعلة للسفينة. وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. (تَنْزع الناسَ) : أي تقلع الريح قومَ عاد من مواضِعِهم. (تَطْغوا في الميزان) : تجاوزوا القدر والعدل، وإنما كرر الميزان اهتماماً بأمره. وقيل: أراد العمل. (تحرثون) : أي إصلاح الأرض بالحرث وإلقاء البذر فيها. (تَخْلُقُونَهُ) هذا توقيف يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق. (تعلمون) : معناه ننشئكم في خِلْقَةٍ لا تعلمونها على وجهٍ لا تصل عقولكم إلى فهمه، فمعنى الآية أن الله قادر على أن يُهلكهم وعلى أن يبعثهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث، ولذا ختمها بقوله: (فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) . وحض على التذكر، والاستدلال بالنَّشْأَةِ الأولى على النشأة الآخرة، وفي هذا دليل على صحة القياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 (تزْرَعُونه) ، المراد بالزراعة هنا إنبات مما يُزرع، وتمام خلقته، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يَدّعيه غيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقولنّ أَحَدكم زرعت، ولكن يقول حرثت. وقد يقال لهذا زَارع". ومنه قوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) . (تَفَكَّهون) ، أي تطرحون الفاكهة، وهي المسرّة، يقال: رجل فكه، إذا كان مسروراً منْبَسط النّفس. ويقال تفكه إذا زالت عنه الفاكهة فصار حزيناً، لأن صيغة تفعل تأتي لزوال الشيء، كقولهم: تحرّج وتأثّم إذا جانب الحرج والإثْم، فالمعنى صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حُطَاماً. وقد عبّر بعضهم عن تفكهون بأن معناه تفجعون. وقيل: تندمون. وقيل تعجبون. وهذه معان متقاربة. والأصل ما ذكرناه. (تَذْكرة) ، أي تذكِّرُ بنار جهَنمّ. (تجعلون رِزْقَكم) : قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنَوْءِ كذا وكذا، فالمعنى تجعلون شكرَ رزقكم التكذيبَ، فحذف شكراً لدلالة المعنى عليه. وقرأ علي بن أبي طالب: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون. وكذا قرأ ابن عباس، إلا أنه قرأ تكذبون - بضم التاء والتشديد، كقراءة الجماعة. وقراءة علي بن أبي طالب بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب، أي يكذبون في قولهم: نزل المطر بِنَوْءَ كذا. ومن هذا المعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي مؤمن بالكوكب، فأما مَن قال مُطِرنا بفضل اللَه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما مَنْ قال مُطِرْنا بِنَوْء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب. والنهيّ عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكواكب تأثيرا في المطر، وأما مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بَأْسَ به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نشأت تجرية ثم تشاءمت فتلك عَيْن غدَيْقَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وقال عمر للعباس - وهما في الاستسقاء: كم بقي من نَوْء الثريا، فقال العباس: العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد. سقوطها سبعاً. قال ابن المسيَّب: فما مضت سبع حتى مطروا. وقيل: إن معنى الآية تجعلون سببَ رزقكم تكذيبكم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يقولون إن آمنّا حرمنا اللهُ الرزق، كقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا، فأنكر الله عليهم ذلك. وإعراب " أنكم " على هذا القول مفعول بتجعلون على حَذْفِ مضاف، تقديره تجعلون رزقكم حاصلاً من أجل أنكم تكذبون. وأما على القول الآخر فإعراب أنكم تكذّبون مفعولاً لا غير. (تشتكي إلى الله) : ضمير المؤنث يعود على خَوْلة بنت حَكِيم على أحد الأقوال لمَا ظاهر منها أَوس بن الصامت الأنصاري، وكان الظِّهَارُ في الجاهلية يوجب تحريماً مؤبَّدا، فلما فعل جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أوْساً أكل شبابي، ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهَرَ منّي. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أراكِ إلاَّ قد حَرُمْتِ عليه. فقالت: يا رسول الله، لا تفعَلْ فإني وحيدة ليس لي أهْلٌ سواه. فراجعها - صلى الله عليه وسلم - بمثْلِ مَقَالته، فرجعت إلى الله. وقالت: اللهم إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفَقْري. وقيل: إنها قالت اللهم إن لي منه صبيةً صغاراً إن ضَمَمْتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا. فأنزل الله كفّارة الظهار. وهكذا عادته سبحانه في كل ملهوف يرجع إليه يفرج عنه. (تَحَاوُرَكما) ، أي مراجعتكما. وضمير التثنية يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخَولة. قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان مَنْ وسِعَ سمعه الأصوات! لقد كنْتُ حاضرةً، وكان بعض كلام خَولة يخفى عليَّ، وسمع الله كلامها، ونزل القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 في ذلك، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب زوجها، وقال له: أَتعتق رَقبةً، فقال: واللَه ما أملكها. فقال: أتصوم شهرين متتابعين، فقال: والله ما أقدر. فقال: أتطْعِمُ ستين مسكيناً، فقال: لا أجِد إلا أنْ يُعينني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعونة وصلاةٍ - يريد الدعاء، فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعاً، ودعا له، فكفّر بالإطعام، وأمسك زوجه. (تَفَسَّحوا) : توسعوا، ونزلت الآية بسبب ازْدِحَام الناس في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرصهم على القرْبِ منه. وقيل نزلت في مقاعد الحرب والقتال. وقيل: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً من مَجلسه ليُجلِسَ أشياخاً من أهل بدر في مواضعهم، فنزلت الآية. تم اختلف: هل هي مقصورة على مجلسه - صلى الله عليه وسلم - أوْ هي عامَّةٌ في جميع المجالس. فقال قوم: إنها مخصوصة، ويدل على ذلك قراءة " المجلس " بالإفراد. وذهب الجمهور إلى أنها عامة، ويدلّ على ذلك قراءة " المجالس " بالجمع. وهذا هو الأصحّ، ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس. والتَّفَسّح المأمور به هو التوسع دون القيام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يَقوم أحدٌ من مجلسه، ثم يجلس الرجلُ فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وقد اختلف في هذا النَّهْي عن القيام من المجلس لأحَدٍ، هل هو على التحريم أو الكراهة. (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، أي عتْقها، وجعل الله الكفّارةَ في الظهار ثلاثة أنواع مرتبةً، لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجزَ عن الأول، ولا ينتقل إلى الثالث حتى يعجز عن الثاني. والرقبة ترجمة عن الإنسان، ولا يشترط فيها الإيمان، بخلاف القَتْل واليمين. (تَبَؤءُوا الدَّارَ) : لزموها واتخذوها مسكناً. والدار: المدينة، والضمير يعود على الأنصار، لأنها كانت بلدهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فإن قيل: كيف تُبَوَّأُ الدارُ والإيمان، وإنما تتَبوَّأ الدارُ، أي تسكن ولا يُتَبَؤأ الإيمان؟ فالجواب من وجهين - الأول: أن معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، فهو كقوله: عَلَفْتهَا تبناَ وماءً بَارِداً، تقديره علفتها تِبنا وسقيْتها ماء باردا. الثاني أن المعنى أنهما جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك. فإن قيل: قوله: (من قبلهم) - يقتضي أن الأنصار سبقهوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سَبْقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه، لأنها، كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أَسلَموا قبل الأنصار. فالجواب مِنْ وجهين: أحدهما أنه أراد بقوله: (مِنْ قبلهم) : مِنْ قبل هجرتهم. والآخر أند أراد تَبؤءوا الدار مع الإيمان معاً، أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بنزول الدار، فيكون الإيمانُ على هذا مفعولاً معه. وهذا الوجه أحسنُ، لأنه جواب عن السؤال. وعن السؤال الأول بأنه إذا @حان الإيمان مفعولاَ به لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلْزَم إلا إن كان الإيمان معطوفا على الدار. (تعاسَرتم) ، أي تضايقْتُم. والمعنى إن تشطّطت الأم علىِ الأب في أجرة الرضاع، وطلبَتْ منه كثيراً فللأبِ أنْ يستَرضع لولده امرأةً أخرى بما هو أَرْفَق به إلاَّ ألاَّ يقبل الطفل غير ثَدْيِ أمِّه فتُجْبَر حينئذ على رضاعه بأجْرَة مثلها، ومثل الزوج، فلا تضيع الزوجة ولا يكلّف هو ما لا يطيق. وفي هذه الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف الناس، وهو مذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مالك، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر الكفاية. ومَنْ عجز عَنْ نفقة امْرَأتِه فمذهب مالك دون الشافعي أنها تطلّق عليه خلافاً لأبي حنيفة، وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب. (تَفاوُت) : أي مِنْ قلَّةِ تناسُب وخروج عن الإتقان. والمعنى أن خلقة السماوات في غاية الإتقان، بحيث ليس فيها ما يَعيبها من الزيادة والنقصان والاختلاف. وقيل: أراد خِلْقَة جميع المخلوقات. ولا شك أن جميع المخلوقات متقنةٌ، ولكن تخصيص الآية بخلقة السماوات والأرض لورودها بعد قوله: (خلق سبْعَ سَموات طِبَاقا) ، فكأن قوله: " ما ترى في خَلْق الرحمن من تفَاوت " بَيَان وتكميل لما قبله. والخطاب في قوله: ما ترى، وارجع البصر، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر. (تكاد تَمَيَّز من الغَيْظ) ،: أي تكاد جهنم تنفصل بعضها من بعض لشدة غَيظها على الكفَّار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غَيظَ الزبانية. والأول أظهر، لأن حال الزبانية يُذْكر بعد هذا. وغيظُ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراكٍ يخلقه الله لها، أو يكون عبارة عن شدتها. (تَعِيهَا أذنٌ وَاعِيَةٌ) : الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير " لنجعلها "وهذا يقَوِّي أن يكون للفعلَةِ. والأذُن الواعية: هي التي تحفظ ما تسمَعُ وتفهمه. يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبَّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله. ورُوِي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ بن أبي طالب: إني دعوتُ الله أن يجعلها أذنك يا عليّ. قال عليٌّ: فما نسيت بعد ذلك شيئاً سمعْته. قال الزمخشري: إنما قال: أذن واعية - بالتوحيد والتنكير للدلالة على قِلَّةِ الوُعاة، ولتوبيخ الناس بقلة مَنْ يَعِي منهم، وللدلالة على أنَّ الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله فهي المعْتَبرة عند الله دون غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 (تَرْجون للَهِ وَقاراً) فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنَّ الوقَار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا تَرْجون أن يوقَركم الله في دار ثوابه. قال ذلك الزمخشري. وقوله: " لله " على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفةً لوقارا. والثاني: أن الوقار بمعنى التُّؤَدة والتثبيت. والمعنى ما لكم لا ترجون للهِ تعالى متثبتين حتى تتمكّنوا من النظر بوقارا. وقوله " لله " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت لزيد، فإعراب " وقارا " على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة. والسلطان، فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمةَ الله وسلطانه، وللَه على هذا صفة للوقار في المعنى. الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك وقَر في المكان إذا استقرّ فيه. والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو في النار. (تحرَّوا رشَدا) : أي قصدوا الرشد. واختار ابن عطيَّة أن يكون هذا ابتداءً لكلام الله، لا من كلام الجنّ. (تَبَتَّلْ) : أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه. وقيل التبتل رفْض الدنيا. وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - فكان قليلَ الأمل كثير العمل لم يشقق نهراً، ولا شيّد قصراً، ولا غرس نَخْلاً، ولم يضرب قطّ بيده إلا في سبيل الله وقام لله حتى توَرَّمتْ قدماه، فمن شاهد أحواله، وسمع أخلاقه وأفعاله وآدابه وبدائع تدبيره لصالح الخَلْق، ومحاسن إشارته في تفضيل ظاهر الشَّرْع المعجز للعلماء عن درك أوائل دقائقها طولَ أعمارهم لم يَبْقَ عنده رَيْبٌ في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وأنه لا يتصور إلا بتأييد سماوي، إذ لا صمح لملبس، لأن شمائله - صلى الله عليه وسلم - شواهد قاطعة بصدقه، فسبحان من أعطى وأثنى بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل صلاة وأزكى تسليم. (ترجفْ الأرضُ والجِبَالُ) : أي تَهْتَزّ وتتزلزل، وذلك يوم القيامة المتقدم الذكر. (تَتقُون إن كَفرتم) : أي كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم. وقيل: هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم. وقيل: هو ظرف: أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة! ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوفاً تقديره اذكروا. (تصدَّى) : أي تعرَض له. (تَلَهَّى) : تشتغل عنه بغيره، من قولك: لَهِيتُ عن الشيء إذا تركته. ورُوِي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأدَّبَ بما أدَّبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير، ولا تعرَّضَ لِغَنيٍّ، وكذلك اتبعه الفضَلاء من أصحابه. وانظر كيف كان الفقراء في مجلس سفيان كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنَّون أن يكونوا فقَراء. ونحن عكسنا في القضية، وصرنا إلى أسوأ حال، لمخالفتنا الشريعة المحمدية. (تذكرة) : فيها وجهان: أحدها - أن هذا الكلام المتقدم تذكرة، أي موعظة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا ينبغي أن يُؤْثر فيه أحد على أحد. وهذا أرجح، لأنه يناسبه. (تَرْهَقها) : تغشاها. والضمير يعود على وجوه الكفَّار. (تَنَفَّسَ) ، أي استطار واتسع ضوؤه. والضمير يعود على الصبح، وهو استعارة. (تَسنيم) : اسم عَلَم - لعَيْنٍ في الجنة يشرب به المقَرَّبون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 صرفا، ويخرج منه الرحيق الذي يَشْرب منه الأبرار، فدلّ ذلك على أن درجات المقربين فوق درجات الأبرار، فالمقربون هم السابقون، والأبرار أصحاب اليمين. ويقال: تسنيم عينٌ تجري مِنْ فوقهم تَتَسَنّمفمْ في منازلهم، تنزل عليهم من عال. يقال تسنّم الفحل الناقة إذا علاها. (تَخَلت) : تفعلت، من الخلوة. (تَرَائب) ، عظام الصدر، واحدها تَريبة. وقيل هي الأطراف كاليدين والرجلين. وقيل: هي عصارة القَلب. ومنه يكون الولد. وقيل: هي الأضلاع التي أسفل الصّلب. والأول هو الصحيح المعروف في اللغة، ولذلك قال ابن عباس: هي موضع القِلاَدَةِ ما بين ثديي المرأة. ، يعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها. وقيل: أراد صلب الرجل وترائب المرأة. (تَزَكى) : تتطهر من الذنوب بالعمل الصالح. (تردّى) : تميل وتسقط في القبر أو في جهنم، أو تردّى بأكفانه من الرداء. وقيل هذا الكلام في أبي سفيان بن حرب، وهذا ضعيف، لقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك. والصحيح أنه لم يخل بذلك الإطلاق. (تَلَظَّى) : تلتهب - وأصله تتَلظى، فأسقصْ إحدى التاءين استثقالا لهما في صدر الكلمة. ومثله: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. (تنزل الملائكة) ، أي إلى الأرض. وقيل إلى سماء الدنيا، وهو تعظيم لليلة القدر. وقي رحمة للمؤمنين القائمين فيها. (تَقْهر) : أي على ماله وحقه لأجك ضعفه، أو لا تقهره بالمنع من مصالحه. ووجوه القهر كثيرة، والنهي يَعمُّ جميعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 (تَنهَر) : من الانتهار والزجر، فالنهى عنه أمر بالقول الحسن والدعاء للسائل، كما قال: فقُلْ لهم قولاً ميسورا. (تَبَتْ) : أي خسرت. (تُغْمضوا) : من قولك أغْمَض فلان عن بعض حقّه إذا لم يستوفه. وأغمض بصره. ومعنى الآية: لستم بآخذين الخبيث من الأموال ممن لكم قبَله حقَّّ إلاَّ عَلَى إغماض أو مسامحة، فلا تؤدوا في حق الله ما لا ترضون مثله من كرمائكم. ويقال تغمضوا فيه، أي ترخصوا فيه. ومنه قول الناس للبائع: أغْمض وغَمّض، أي لا تستنقص، وكن كأنك لم تبصر. (تبْدُوا ما في أنفسكم أو تُخْفُوه) : الإبداء الظهور، والإخفاء ضده. ومقتضى الآية المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب سواء أبدوه أو أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن شاء الله، أو الغفران لمن شاء الله. وفي ذلك إشكال لمعارضته للحديث: إن الله تجاوز لأمي ما حدَّثت به أَنْفُسها. ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه لما نزلَتْ شقّ ذلك على الصحابة. وقالوا: هلكنا إنْ حُوسِبْنَا بخواطر أنْفُسنا. فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمِعْنا وأطَعْنَا". فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: (لا يُكلِّف الله نَفْسا إلا وُسْعَها) ، فكشف عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية. وقيل: هي في معنى كتْم الشهادة وإبدائها، وذلك مُحَاسَب به. وقيل يحاسب الله الخَلْق على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذِّبُ الكافرين والمنافقين. والصحيح التأويل الأول لوروده في الصحيح. وقد ورد أيضاً عن ابن عباس وغيره. فإن قيل: الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. فالجواب أنَّ لفظ الآية خبَرٌ ومعناها حكم. (تُولج اللَّيْلَ) : تدخل هذا في هذا، فما زاد في واحد نقص من الآخر مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، أي الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر. وقيل: يعني الحيوان. قال ابن مسعود: هي النّطْفة تخرج من الرجل ميّتةً وهو حَيّ، ويخرج الرجل منها حيّاً وهي ميتة. وقال عكرمة: البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة. وعلى كل فالحياة والموت على هذا استعارة. (تؤَاخِذنا) من المؤاخذة بالذنب، وقد كان يحقّ أن يؤاخذ الله بالنسيان، وهو الذهول الغالب على الإنسان والخطأ غير العمد، لولا أن الله رفعه فلم يبقَ إلا مَحْضُ التلفّظ بالآية على وجه العبادة. وأما الاعتقاد فهو عدم المؤاخذة، للحديث: رفع عن أمتِي الخَطَأ والنسيان. (تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ، في هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يُطاق، لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقَع. ثم إنَّ الشرع رفع وقوعه. وتحقيق ذلك أن ما لا يطاق أربعة أنواع: عقلي محض، كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤْمِن، فهذا جائز ووقع باتفاق. والثاني عادِيّ كالطَّيَران في الهواء. والئالث عقلي وعاديّ كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه. والرابع تكليف ما يشقّ ويصعب، فهذا جائز اتفاقاً. وقد كلّفه الله مَنْ تقدم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمة المحمدية لحُرْمَةِ نبيِّها عنده. (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي تهىّء لهم المصافّ لقتال أعداء الله، وذلك يوم السبت في غَزْوَة أحد. وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف، لأنه لا يقال غدوة فما بعد الزوال إلاَّ عَلَى وجْهِ المجاز. وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وذلك ضعيف، لأنه لم يبَوّأ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه يبَوِّئهم بالتدبير حين المشاورة. (تُصْعِدون ولا تَلْوون على أحد) : الإصعاد: الابتداء في السفر. والانحدار: الرجوع. ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام. وقرئ شاذاً: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد - بضم الحاء. (تبسَلَ نَفْسٌ) : معناه تحبس. وقيل تفضح. وقيل تهلك. وهو في موضع مفعول من أجله، أي كرهه كراهة أن تُبْسَل نَفْسٌ بما كسبت. (تشِمت بي الأعْدَاءَ) : تسرهم، والشماتة: السرور بمكاره الأعداء. (تُرْهِبون) : تخوفون به الأعداء. (تفيضون) : تدفعون فيه بكثرة. (تحْصِنون) : تخزنون وتَجْنُون. (تُفَنِّدُون) : أي تلومونني، أو تردون عليَّ قولي. معناه تقولون ذهب عقلُك، لأن الفند هو الخَرَف. يقال أفند الرجل إذا خرف، وتغيَّرَ عقلُه، ولم يحصل كلامه. ثم قيل: فند الرجل إذا جهل. والأصل ذلك. (تسِيمون) : ترعون أنعامكم. وقد قدمنا أن تريحون تردّونها بالعشيّ إلى المنازل. (تُخَافِتْ بها) : تخْفِها. وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهر في القراءة في الصلاة فسمعه المشركون فَسَبُّوا القرآن ومَنْ أنزله، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالتوسط بين الجهر والإسرار، ليسمع أصحابه الذين يصلّون معه، ولا يسمع المشركون. وقيل المعنى: لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، واجعل منها سرّاً وجَهْراً، حسبما أحكمته السنَّة. وقيل الصلاة هنا الدعاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 (تمَارِ) ، من المِرَاء، وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج. ومعنى الآية: لا تمار أصل الكتاب في عدّة أصحاب أهل الكهف إلا مراءً ظاهرا، أي غير متعمقٍ فيه، من غير مبالغة ولا تَعْنيف في الردّ عليهم. (تستَفْت) : تَسْأل، أي لا تسأل أحداً من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف، لأنَّ اللهَ قد أوْحَى إليك في شآنهم ما يغنيك عن السؤال. (تصْنَع عَلَى عَيني) ، أي ترَبى ويحسن إليك بِمرْأى مِنّي وحفظ، والعامل في لتصنع محذوف. (تعذَبهم) : أي تمتهنهم، والضمير لبني إسرائيل، لأن فرعون كان يستعبدهم ويُذلّهم. (تخبتَ له قلوبهم) ، أي تخضع وتطمئن. والمخبت: الخاضع المطمئن إلى ما دعي إليه. والخبْت: المطمئن من الأرض. (تُسْحَرُونَ) : أي تخدعون عن الحق، والخادع لهم الشيطان، وذلك شبيهٌ لهم بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل، ورتبت هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج، فقال أولاً: (أفلا تذكَّرُون) . ، قال ثانياً: (أفلا تَتَقون) . وذلك أبلغ، لأن فيه زيادة تخويف. ثم قال ثالثاً: (فأنّى تُسحرون) . وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره. (تلْهيهم تجَارةٌ ولا بَيْع) ، أي تشغلهم، ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سَمِعُوا الندَاء بالصلاة تركوا كل شغل وبادرا إليها. والبيع: من التجارة، ولكن خصَّه بالذكر تجريداً، كقوله: (فيها فاكهة ونخل ورمّان) أو أراد بالتجارة الشراء. (تَتَقَلَّبُ) ، أي تضطرب من شدة الهول والخوف. وقيل تَفهْقَه القلوب وتبيض الأبصار بعد العمى، لأن الحقائق تنكشف حينئذ. والأول أصح، كقوله (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 (تُصَعِّرْ خَدَّكَ للناس) ، أي تُعْرِض بوجهك عنهم. والصعَر ما يأخذ البعير في رأسه فيقلب رأسه في جانب، فيشبّهُ الرجل الذي يتكبَّرُ على الناس به. (تكنّ صدُورهم) ، أي تخفي صدورهم. (تحيّتُهم يَوْمَ يلقَوْنَه سلام) ، قيل يوم سلام. قيل: يوم القيامة. وقيل: في الجنة، وهو الأرجح، لقوله: وتحيتهم فيها سلام. ويحتمل أن يُرِيد تسليم بعضهم على بعض، أو قول الملائكة لهم سلام عليكم. (تُرْجِي مَنْ تَشَاء منهنَّ وتُؤْوِي إليكَ من تشاء) - أي تؤخر وتبعد، وتضم وتقرب. واختلف ما المراد بهذا الإرجاء والإيواء، فقيل: إن ذلك في القسمة بينهنّ، أي تُكثر لمن شئْتَ وتقلِّلُ لمن شئت. وقيل: إنه في الطلاق، أي تمسك مَنْ شئت وتطلق من شئت. وقيل معناه تتزوج من شئت. والمعنى على كل قول توسعة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإباحة له أن يفعل ما يشاء. وقد اتفق الباقون على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل في قسمته بين نسائه أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له. والضمير في قوله (منهن) يعود على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أو على كل ما أحِلّ له على حسب الخلاف المتقدم. (تُشْطِطْ) ، أى تجاوز في الحكم. يقال أشطّ الحاكم إذا جار. وقرئ في الشاذ: ولا تشطَط - بفتح الطاء، أي لا تبعد عن الحق. يقال شَطّ إذا بَعُد. (تُمَارُوته) ، أي تجادلونه. والضمير عائد على قريش لمّا كذبته - صلى الله عليه وسلم - في قوله: أُسرِي بي. والذي رأى جبريلُ على هيئته التي قد خلقه الله عليها، قد سد الأفق. وقيل الذي رأى ملكوت السماوات والأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 والأول أرجح لقوله: (ولقد رآه تزْلَةً أخْرَى) . وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى. وقد أنكرت ذلك عائشة. وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك، فقال: نورا أنَّى أراه. (تخْسِروا الميزان) ، تنقصون الوزن. وقرئ بفتح التاء بمعنى لا تخسروا الثوَابَ الموزون يوم القيامة. (تمْنون) ، من المنيّ، وهو الماء الدافق الذي يكون منه الولد، رائحته كرائحة الطلع، أحد درجات التمر، لشبهها بخلقة الإنسان فأشبهت الرائحة الأصل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: أكرموا عماتكم النخلة، وهذا يتضمّن إقامةَ برهان على الوحدانية وعلى البعث، ويتضمن وعيداً وتعديد نعم. (تورون) ، أي تقدحونها من الزناد. والزناد قد يكون من حجرين، ومن حجر وحديدة، ومن شجر، وهو الرّخّ والعَفَار. ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر قال الله لهم: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ، أي الشجرة التي يَزْند النار منها. وقيل: أراد بالشجرة نفس النار، كأنه يقول نوعها أو جنسها، فاستعار الشجرة لذلك. (تدْهِنُ) ، من المداهنة وهو النّفاق. والإدهان الإبقاء، وترك المناصحة والصدق، ومنه قوله: (أفَبِهَذَا الحديثِ أنْتُم مُدْهِنُون) . معناه متهاونون. وأصله لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن. وروي أنَّ الكفار قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو عبدت آلهتنا لعبَدْنا إلهك، فنزلت الآية. (ترَاث) ،: ما يورث عن الميِّت من المال. والتاء فيه بدل من واو. (تِلْقَاءَ أصحابِ النّار) : تجاه أصحاب النار، ونحو أهل النار، وكذلك تلقاء مَدْيَن. وقوله: من تلقاء نفسي، أي من عِنْد نفسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 (تِبْيان) ، تِفْعال من البيان. (تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) . منها خروج يده بيضاء، والعصا، والسنون، ونقص الثمرات والطوفان، والجراد، والقمَّل والضفادع. والدم. وحلّ العقدة من لسانه، وفرق البحر، ورفع الطور فوقهم، وانفجار الماء من الحجر عند قوم. وروي أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال " ألا تشركو بالله شيئا، ولا تَسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفْسَ التي حرم الله، ولا تسعو ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم الزّحْف، وعليكم خاصة اليهود أْلا تعتدوا في السبت ". (التِّين والزيتون) : جَبَلاَن بالشام ينْبِتَانِ التِّين والزيتون يقال لهما طور تينا وطور زيتا بالسريانية، وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى - صلى الله عليه وسلم - أو مسكنه، فكأنه قال: ومنابت التين والزيتون، وهذا أظهر الأقوال، لأن الله ذكر بعد هذا الطّور الذي كلم عليه موسى - صلى الله عليه وسلم -، والبلد الذي بعث منه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الآية نظير ما في التوراة، أن اللهَ جاء من طور سينا وطلع من ساعير، وهو موضع عيسى - صلى الله عليه وسلم - وظههر من جبال فَارَان وهي مكة، وأقسم الله: بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين. وقيل: إنه التين الذي يؤْكل والزيتون الذي يعْصر، أقسم الله بهما لفضيلتهما على سائر الفواكه. وروِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل مع أصحابه تيناً، فقال: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت هذه: لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوه فإنه " يقطع البوَاسير، وينفع من النقرس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم السّوَاك الزيتون من الشجرة المباركة، هي سِواكي وسواك الأنبياء من قبلي ". (التاء حرْف جرّ) معناه حرف القسم يختص بالتعجّب، وباسم الله تعالى. قال في الكشاف في قوله تعالى: (تاللهِ لأكِيدَنَّ أصْنَامَكم) : الباء أصل أحرف القسم، والواو بدل منها، والتاء بدل من الواو، وفيها زيادة معنى التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد علىَ يديه وتأتِّيه مع عتو نمرود وقَهْره. (تبارك) قد قدمنا أنه فعل لا يستعمل إلا بلفظ الماضي، ولا يستعمل إلا للَه تعالى، أي لا يتصرف. ومن ثم قيل إنه اسم فعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 (حَرف الثّاء المثلثة) (ثَقِفْتموهم) : ظفرتم بهم. (ثقلَتْ في السماوات والأرْضِ) : أي خفي عِلْمها على أهل السماوات والأرض، وإذا خَفِيَ الشيء ثقل. وقيل ثقلت على أهل السماوات والأرض لهيْبَتها عندهم وخوفهم منها. وقيل ثقلت عليهم لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض. (ثمود) : قبيلة من العرب الأقدمين، هذا على أنه غير منصرف. وأما من صرفه فهو على وَزْن فعول من الثمد، وهو الماء القليل. (ثَبطهم) : حبسهم، أي كسر عزمهم، وجعل في قلوبهم الكسل. (الثَّرى) : التراب النَّدِيّ، والمراد به في الآية الأرض. (ثَانيَ عِطْفهِ) ، أي عادلاً جانبه. والعِطْف: الجانب، يعني مُعْرِضاً متكبِّراً. واختلف على من يعود الضمير، فقيل على الأخْنَس بن شَرِيق. وقيل في النّضر بن الحارث، بدليل: (له في الدنيا خِزْي) . فالخِزْي أسْرُه ثم قتله. (ثاوِيًا) : مقيما. (ثلاث عَوْرَات) ، جمع عَوْرة من الانكشاف، كقوله تعالى: (إنّ بيوتَنَا عَوْرَة) . ومن رفع ثلاث فهو خبر مبتدأ مضمر، تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، أي تنكشفون فيها. ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 ومعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات، وهي قبل الصبح، وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الآخرة، لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متَجَردين للنوم في غالب الأمر، وهذه الآية محكمة. وقال ابن عباس: ترك الناس العمل بها، وحملها بعضهم على النّدْب. (ثاقِب) : مضيء كثيراً. (ثَجَّاجاً) : سيالا، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحبُّ العمل إلى اللَه العجّ والثّجّ، فالعَجّ التلبية ورفع الصوت بها وبذكر الله تعالى. والثجّ: إسالة الدماء من النَّحر والذبح. (ثُبَاتٍ) : جمع ثبَة، أي جماعات في تفرقة، أي حلقة حلقة كل جماعة منها ثبَة، ووزنها فَعلة بفتح العين ولامها محذوفة. وقيل إن الثبة ما فَوْق العشرة. (ثُعْبان) : حية عظيمة الجسم. (ثَمَر) ، جمع ثمار، ويقال الثّمر - بضم الثاء: المال. والثَّمر - بفتح الثاء: جمع ثمرة من ثمار المأكول. (ثُبورا) ،: أي هَلاَكاَ. ومعنى دعائهم ثبوراً لأنهم يقولون يا ثبوراه، كقول القائل يا حسرتى، يا أسفي، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبوراً وادْعوا ثبورا كثيراً. (ثلّة من الأوّلين) : أي جماعة من هذه الأمة وجماعة من آخرها. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الفرقتان من أمَّتِي ". وفي ذلك ردٌّ على من قال: إنهما من غير هذه الأمة. وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، بخلاف السابقين، فإنهم قليل في الآخرين، وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 منهم في آخرها لفضيلة السلف الصالح. وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها (ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) : يقال ثوّبه وأثابه. وأصله إيصال النفع إلى المكلف على طريق الجزاء. قال تعالى: (مَثُوبةً عند اللهِ مَنْ لَعَنَهُ الله) . وأما المثيب فهو مَنْ فعل الثواب. وأما المُثَاب فهو من فُعِل الثواب به. وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع معمول ينظرون فتوصل مع ما قبلها، أو تكون توقيفا فيوقف قبلها - ويكون معمول ينظرون محدوفاً. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) : فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه حقيقة في التطهبر للثيات من النجاسة. واختلف على هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون إزالة النجاسة واجبةً، أو على الندب فتكون سعة، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب، فالثياب على هذا مجاز. الثالث أن معناه لا تلبس من مكسب خبيث. (ثُمَّ) حرف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم والترتيب والمهلة، وفي كل خلاف: أما التشريك فزعم الكوفيّون والأخفش أنه قد يتخلّف بأن تقع زائدة، فلا تكون عاطفة ألبتة، وخرجوا على ذلك قراءة: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) . وأجيب بأن الجواب فيها مقدّر. وأما الترتيب والمهلة فخالف قوم في اقتضائها إياهما تمسُّكاً بقوله: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زَوْجَها) (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ) . (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) . والاهتداء سابِق على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) . وأجيب على الكلِّ بأن ثم فيه لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم. قال ابن هشام: وغير هذا الجواب أنْفَع منه، لأنه يصحح الترتيب فقط لا المهلة، إذ لا تراخي بين إخبارهن. والجواب المصحح لهما ما قيل في الأولى إن العطف على مقدَّر، أي من نفس واحدة أنشأها، ثم جعل منها زوجها. وفي الثانية إن سواه عطف على الجملة الأولى لا الثانية. وفي الثالثة إن المراد ثم دام على الهداية. فائدة أجرى الكوفيون ثُم مجرى الفاء والواو في جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشرط. وخرِّج عليه قراءة الحسن: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بنصب يدركه. (ثَمَّ) - بالفتح: اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو: (وأزلَفنَا ثَم الآخرين) . وهو ظرف لا يتصرف) ، فلذلك غلط، من أعربه مفعولاً لرأيت في قوله: (وإذا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ) . وقرئ: (فإلينا مَرْجِعْهم ثَمّ اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون) ، بدليل: (هنالك الولاية للهِ الحق) . وقال الطبري في قوله: (أثُمّ إذا ما وقع آمَنْتُم) : معناه هنالك، وليست العاطفة. وهذا وَهْم اشتبه عليه المضمومة بالمفتوحة. وفي التوشيح لخطاب: ثم ظرف فيه معنى الإشارة إلى حيث إلا أنه هو في المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 (حَرف الجِيم) (جَنَفا) : مَيْلاً وعدولاً عن الحق، يقال جَنِفَ عليَّ، أي مال علي. (جار) في قوله: (والجار ذِي القرْبَى) ، هو القريب النسب. والجار الْجنب هو الأجنبي. وقيل ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب: البعيد المسكن منك. وحدُّ الجوار عند بعضهم أربعون ذراعاً من كل ناحية. وقيل أربعون باباً. والصاحب بالْجَنْب: الرفيق في السفر. وابن السبيل: الضعيف. (جَوَارِح) : كواسب، وسميت الكلاب جوارح لأنها تكسب لأهلها. ولا خلاف في جواز الصْيد بالكلاب. واختلف فيما سواها. ومذهب الجمهور الجواز للأحاديث الواردة. ومنعَ بعضهم ذلك، لقوله: (مكلِّبين) ، فإنه مشتق من الكلب. ونزلت الآية بسبب عدي بن حاتم، فإنه كان له كلاب يصطاد بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل من الصيد. (جَبَّارين) : أقوياء، عظام الأجسام بقيّة من العمالقة. والجبار: من أسماء الله، معناه القهَّار. والجبَّار المسلَّط، كقوله: (وما أنْتَ عليهم بِجَبّارٍ) ، أي بمسلط. والجبار: المتكبر، كقوله: (ولم ي َجْعَلْ ني جَبَّاراً شَقِيّا) . والجبار: القتّال، كقوله: (وإذا بطشْتم بَطشتم جبّارين) ، أي قتالين. والجبار: الظالم. (جَرَحْتم) : كسبتم، ومنه: (اجتَرَحوا السِّيئات) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 (جَنَّ) : أظلم وغَطَى، يقال: جنّه وأجنّه، ومنه سمي الجنون، أي لتغطية عقله. (جَعل الليل سكَنا) ، أي يسكن فيه عن الحركات. (جعل) لها أربعة معان: صيّر، وألفى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا. (جَنَاح) الطائر: معروف. وجناح الإنسان إبطيه، كقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ) . ولا جناح: لا إثم، فمعناه إباحة. وجنَح للشيء: مال إليه. (جَاثمين) : باركين على الركَب بعضهم على بعض. والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير. (جَوَابَ قَوْمِه) : أي قوم صالح لم يكن لهم جواب إلا قولهم: (أخرجوهم مِنْ قَرْيَتِكم) . (جَنَحوا للسَّلم) : أي مالوا للصلح. والآية منسوخة بآية السيف في براءة، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز. (جَهَّزَهمْ) ، أي أصلح لهم ما احتاجوا إليه من زادٍ وغيره. والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم يوسف. (جَاسوا خِلاَلَ الدِّيَار) ، أي عاثوا وقتلوا، وكذلك حاسوا وهاسوا وداسوا. زوي أنهم قتلوا علماءهم، وأحرقوا التوراة، وأخربوا المساجد، وسبَوْا منهم سبعين ألفاً. واختلف على من يعود الضمير، فقيل: لجالوت وجنوده. وقيل بُخْت نصّر ملك بابل. (جاء وَعْدُ أولاهما) ، يعني إفسادهم في المرة الأولى. (جَنِيًّا) : الذي طاب وصلح لأن يجتنى. ويقال جنيّ طَرِي. (جانٌّ) ، يعني من الحيات، لأنهم على أصناف شتّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 (جَلاَبيب) : ملاحف، واحدها جلباب، وكان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال إليهن، فأمرهن الله بإدناء الجلباب، وهو ثوبٌ أكبر من الخمار، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا ينظر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقيل: أن تَلْوِيه حتى لا يظهر إلا عيناها. وقيل: أن تُغَطِّي نصف وجهها. (جَوَاب) : جمع جابِية، وهي البركة التي يجتمع فيها الماء. (الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) : سفن في البحر كالجبال. الواحدة جارية، ومنه قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) ، يعني سفينة نوح. (جَاثِية) : باركة على الركب، وهي جلسة المخاصم والمجادل. ومنه قول علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله. (جَدَلاً) : أي يقصد الإنسان أن يغلب مَنْ يُنَاظره سواء عليه بحق أوْ بباطل، فإن ابن الزبعْرَى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى: (حَصَب جهنم) ، ولكنهم أرادوا المخالطة فوصفهم بأنهم ما ضربوا لرسول الله هذا المثل إلاَّ عَلَى وجه الجدل. وهذا كقوله: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) . (ويَعْلَمَ الذين يُجَادِلُون في آياتِنَا ما لهم مِنْ مَحِيص) . (جَنَى الجنَّتَيْنِ) : قد قدمنا أن الجني ما يُجتنى من الثمار. ورُوي أن الإنسان يجتني الفاكهة في الجنة على أي حال كان من قيام وقعود واضطجاع، لأنها تتدلى له إذا رآها، فتقول له كُلْني يا ولي الله، هذا هو النعيم المقيم. وكيف لا - ونبينا فيها نديم، والثواب عظيم، والبقاء فيها قديم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم، والمضيف فيها كريم، نعيمها مؤبد، ومقامها مخلّد، وبقاؤها سَرْمَد، وفرشها منضود، ومرافقها ممهد، وحورها منهد، وقصورها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 مشيد، وظلها ممدود، وفيها جنة الفردوس نُزُولاً لمن لم يجعل لمولاه شريكا ولا مثيلاً وأخلص له في دنياه قولاً وعملاً وفعلا، ولم يزل على عصيانه خائفاً وَجلا، ولم يطلب الأعواض على أعماله فاتخذه موئلاًْ (جَدُّ رَبِّنا) ، أي عظمته. وقيل غناه، من قولك: فلان مجدود إذا استغنى. ويقال: جَدّ فلان في الناس أي عظم في عيونهم، وجَلَّ في صدورهم. ومنه قول أنيس: كان الرجل إذا قرأ البقرِة وآل عمران جَدّ فينا. أي عَظتم. (جَابوا الصخْرَ بالْوَاد) ، أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتاً. والوادي: ما بيْنَ الْجَبَلَيْن، وإنْ لم يكن فيه ماء. وقيل أراد وادي القرى. والضمير يعود على ثمود المتقدم الذكر. وقد فَسَّرتها الآيهّ: (وتَنْحِتون من الجبال بيوتا) . (جَمًّا) : شديداً كثيرا، وهو ذمُّ الحرص على المال، وشدة الرغبة فيه. (جُنُباً) : الذي أصابته الجنابة، يقال جَنُبَ الرجل وأجنب. واجتنب وتجنبه. والجنب: الغريب. وجنّب: بعد. (جَهَنّم) : اسم لأحَدِ طبقاتها. وقيل: إنه عَلَم على سائر النار. ، قيل: إنها عجمية. وقيل فارسية. وقيل عبرانية (جُرُفٍ) : ما تجرف السيول من الأودية. (جُهدَهم) : وسعهم وطاقتهم، والضمير يعود على الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به، ونزلت في أبي عقيل تصدق بصِاعٍ مِنْ تمر، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا. (جُودِيّ) : جبل بالموصل. وروي أن الله أوْحَى إلى الجبال أني فرْس هذه السفينة، فتطاولت لها الجبال كلها إلا هذا الجبل (1) .   (1) هذه الرواية فيها نظر فشأن جميع المخلوقات المبادرة إلى طاعة الخالق المقتدر - عز وجل - إلا عاصي الجن والإنس. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فإنه لم يَرَ تفْسه أهْلاً لذلك، فاستَوَتْ عليه واستقرَّتْ، وهكذا شأنه لا يرتفع شيء في الدنيا إلا وضعه، مصداقه الحديث: مَنْ تواضَعَ لله رَفعه الله. (جُب) : ركية لم تطْوَ، فإذا طوِيت فهي في بئر. (جُفَاء) : يجفاهُ السَّيْل، أي يرمي به إلى جنباته. ويقال: جفأتِ القِدْر بزبدها إذا ألْقَتْه عنها. (جُرز) - بالضم والفتح والكسر: الأرض الغَليظة اليابسة التي لا نَبْتَ بها. ويقال الجرز التي تَجْرُز ما فيها من النبات وتبطله، يقال جَرزَت الأرض إذا ذهب نباتها، فكأنها قد أكلته، كما يقال رجل جروز إذا كان يأتي على كلِّ مأكول لا يُبْقي منه شيئاً، وسيف جراز يقطَع كل شيء يقَع عليه فيهلكه، وكذلك السنة الجروز. وأما قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) ، فمعناه العطشانة. (جذَاذا) ، أي فُتَاتا. ويجوز فيه الضم والفتح والكسر. وهو من الجذّ بمعنى القطع. ويقال جذَّ الله دَابِرَهم، أي استَأصلهم. (جُدَد) : جمع جدَّة، وهي الخطط والطرائق في الجبال. (جُزْءاً) : أي نَصِيباً. وقيل إناثاً. وقيل بنات. ويقال اأجزأت المرأة إذا ولدت أنثى. وجاء التفسير: أن مشْرِكي العرب قالوا إن الملائكة بنات. وقالوا إنهم إناث، فردَّ الله عليهم بقوله: (أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) . (أَشَهدُوا خَلْقَهم) ، يعني أنهم لم يشهدوا خَلْق الملائكة، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم. (جِبِلًّا) - بالضم والفتح والكسر: خلقا. (جُنَّة) .، ترْس وما أشبهه مما يُتَسَتَّر به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 واستعمل في آية المجادلة وغيرها استعارة، لأنه كانوا يظهرون الإيمان لتعْصَم دماؤهم وأموالهم. (جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : أي في إذهاب ضوئهما. وقيل يجمعان حيث يُطلعهما الله من المغرب. وقيل يجمعان يوم القيامة ثم يُلقى بهما في النار. (جِبْت) : فيه أقوال والصحيح أنه كلُّ ما عُبِد من دون الله ويقال الجِبْت السِّحْر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت اسم الشيطان بالحبشية. وأخرجه أيضاً عبد الرحمن عن عكرمة، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: الجبت الساحر، بلسان الحبشية. (جِزْية) : خراج مجعول على كل رأس. وسميت جزية أهل الكتاب، لأنها قضاء منهم لما عليهم. ومنه قوله: (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ، أي لا تقضي ولا تغْنِي. ويلتحق بأهْل الكتاب المجوس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سنّوا بهم سنَّةَ أهل الكتاب ". واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين. ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين، وقَدْرُها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورِق. فإن قلت: قد اتفَق العلماء على قبول الجزية مع بقائهم على كفْرِهم، فما الفَرْق بينها وبين أخْذِ مال على البقاء على المعصية كالزنى وشبهه. فالجواب: أن بقاء أهل الكفر على دينهم متحقّق ممّن أسلم منهم أو منْ ذرِّيتهم، بخلاف البقاء على المعصية. وقد جعل القرافي لهذه القاعدة فَرْقاً في فروقه، فليتأمل هناك. (جِدَاراً) : حائطاً، وجمعه جُدُر. (جَذْوَة) - بضم الجيم وفتحها وكسرها: قطعة غليظة من الحطب فيها نار ولا لهب لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 (جِفَان) : قصاع كبار، واحدها جفنة وقَصْعَة، وقد قدمنا أنها كانت كالحياض في كبرها، لأنه كان يطبخ كل يوم ألْف جزور، وأربعة آلاف رأْس بقر، وثمانية ألاف رأس غنم، وكانت له قدورٌ راسيات يطبخ فيها الجزور من غير تفريق أعضائها. (جِمَالَتٌ صُفْرٌ) : فيها قولان: أحدهما أنه جمع جمال، شبّه به الشرر. وصفر على ظاهره، لأن لون النار يضرب إلى الصفرة. وقيل: صفر هنا بمعنى سود يقال جمل أصفر، أي أسود. وهذا ألْيَق بوصف جهنم. الثاني أن الجِمَالات قِطَع النحاس الكبار، فكأنه مشتقّ من الجملة. وقرئ جُمالات - بضم الجيم هي قلوس السّفن، وهي حبالها العظام. (جيدِها) : عنقها. والضمير يعود على أم جميل بنت حَرْب ابن أميَّة، وهي أخت أبي سفيان وعمَّة معاوية. وفي المراد به ثلاثة أقوال: الأول: أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا، وفي ذلك تحقير لها وإظهار لخساسة حالها. والآخر أن حالها في جهنم يكون كذلك، أي يكون في عنقها حبل. الثالث: أنها كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنّهَا على عداوة محمد. فأخبر عن قلادتها بحبل المسدِ على جهة التفاؤل أو الذم لها بتبرّجها. (جِنَّة) : جن، كقوله: (من الجِنَّة والناس) . وهذا بيان لجنس الوسواس، وأنه يكون من الجن ومن الإنس. وجنة جنون، كقوله عز وجل: (ما بِصَاحبكم مِنْ جِنَّة) . (جعل) قال الراغب: فعل عام في الأفعال كلها، وهو أعمّ من فَعَل وصنع وسائر أخواتها، وتتصرف على خمسة أوجه: تجرتي مجرى صار وطفق، ولا تتعدى، نحو جعل زيدٌ يقول كذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 والثاني - مجرى أوْجد فتتعدّى لمفعول واحد، تحو: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) . والثالث في إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه، نحو: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) . (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) . والرابع في تصيير شيء على حالة دون حالة، نحو: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) . (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) . الخامس الحكم بالشيء على الشيء حقّا كان، نحو: (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، أو باطلا، نحو: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) . (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 (حَرف الحاء المهملة) (حمد) هو الثّنَاء، سواء كان عن نعمة أو ابتداء، والشّر إنما يكون جزاء، فالحمد من هذا الوجه أعمّ. والشكر باللسان والقلب والجوارح، ولا يكون الحمد إلا باللسان، فالشكر من هذا الوجه أعم. وحميد اسم الله تعالى محمود. والحمد بمعنى الشكر لا يصح على الله سبحانه، لأنه ليس بِمنْعَم عليه. وإنما هو المنعم على الخلق، فلا يصحّ منه الْحَمد الذي هو بمعنى الشكر. والحمد الذي هو بمعنى الثناء على ضربين: قديم ومحدث، فالقديم ثناؤه على أنبيائه والمؤمنين من عبيده، وذلك كلامه وهو قديم. والحمد الْمحْدَث هو كلام الْخَلْقِ وشكرهم له سبحانه. (حَظّ) : نصيب. (حَنِيفاً) : موحّداً. وقيل حاجّا. وقيل مُخْتتناً، وجمعه حُنَفَاء. والحَنيف اليوم المسلم. وقيل: إنما سمي إبراهيم حنيفاً لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة إلى عبادة الله، أي عدل عن ذلك ومال. وأصل الحنَف مَيْلٌ من إبهامي القدمين كل واحدة منهما على صاحبتها. (حجُّ البيْتِ) : أي قصده، وسمِّي السفر إلى البيت حَجّاً دون ما سواه. والحج - بالفتح والكسر لغتان. ويقال الحَج: القصد. والحِج الاسم. وقوله تعالى: (إلى الناس يَوْمَ الحجّ الأكبر) : هو يوم النَّحْرِ. ويقال يوم عَرَفَة، وكانوا يسمون العمرة الحج الأصغر. واختلف هل وجوب حج البيت على الفور أو على التراخي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على مِلَّةِ إبراهيم. قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجّوا البيْتَ الذي بنَاه إبراهيم، ودعَا الناسَ إليه. (حَصُوراً) : على ثلاثة أوجه: الذي لا يَقْرَب النساء. والذي لا يولد له. والذِي لا يخرج مع الندامى، وأتى وصف السيد يحيى بذلك. فإنه كان يمسك نفسه، لا أنه خلق كذلك، لأنه نقص في الخلقة. والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كاملون. (حَوَاريّون) : هم صَفْوَة الأنبياء عليهم السلام الذين خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم. وقيل: إنما سموا حواريين بالنبطية لتَبْيِيضهم الثياب، ثم صار هذا الاسم مستعملا فيمن أشبههم من المصدقين. وقيل: كانوا صيّادين. وقيل: كانوا ملوكا. ونداء الحواريين لعيسى باسمه دليل على أنهم لم يكونوا يعظّمونه كتعظيم المسلمين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا لا ينَادونه باسمه، وإنما يقولون، يا رسول الله، يا نبي الله. وقولهم: ابن مريم - دليلٌ على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح مِنْ نِسْبَتِه إلى أمٍّ دون وَالد، بخلاف ما اعتقده النصارى. (حَبْل) : عَهْد، والمراد بحبْل الله القرآن. وقيل الجماعة، مستعار من الحبل الذي يشدّ عليه اليد. (حَسْرة) : ندامة واغْتِمام على ما فات، ولم يمكن ارتجاعه. (حَسْبنا الله) : أي كافينا، وهي كلمةٌ يدفع بها ما يخاف ويُكره، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألْقِيَ في النار. (حبطَتْ) : بطلت. (حَرِيق) : نار تلتهب. (حَلائل) : جمع حليلة، وهي الزَّوْجة. وإنما قيل لها حليلة، لأنه يحلّ معها وتحلّ معه. ويقال حليلة بمعنى محلّة، لأنه يحل لها وتحل له، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 خص الابن من الصلبِ ليخرجَ عنه زوجةُ الابن الذي يتبنّاه الرجل وهو أجنبي عنه، كتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش أمرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يُقَال له زيد ابن محمد. (حَسِيبا) : فيه أربعة أقوال: - كافيا، وعالماً، ومقتدرا. ومحسباً. (حَصرَت صدُورُهم) : معناه ضاقت عن القتال وكرهته. ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى السليمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهَم وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم، ثم نسخ أيضا ذلك بالقتل. (حاقَ بهم) : أحاط بهم. (حَميم) : على أوجه: ماء حارّ، وقد قدمناه. والحميم: القريب في النسبة، كقوله عن رجل: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) . أي قريب قريبا. والحميم أيضاً الخاص، يقال: دُعينا في الحامّة لا في العامة. والحميم أيضاً: الغريق. (حَشرناهم) : جمعناهم، قال الزمخشري: إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله، " نُسَيَر"، للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال. (حَيْرَان) : أي ضالّ عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته. (حَمولَةً) ، وهي الإبل التي تطيق الْحَملَ. قال المفسرون: الْحَمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، وكلما حُمِلَ عليه. (حَوَايا) : جمع حويّة، على وزن فعيلة، فوزنُ حوايا على هذا فعائل، كصحيفة وصحائف. وقيل وزنها حاوية على وزن فاعلة، فحوايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 على هذا فواعل كضاربة وضوارب. وهو معطوف على ما في قوله: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) ، فهو من المستثنى من التحريم. وقيل عطف على الظهور. فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وهي المباعير، وقيل المصارين والحشْوة ونحوهما مما يتحوَّى في البطن. وقيل عطف على الشحوم، فهو من المحرم. (حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، أي نهى. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: حرم: وجب بالحبشية. والخطاب لجميع الْخلْق. أمر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو جميعهم إلى سماع تلاوة ما حرّم الله علهيم، وذكر في آيات الأنعام المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع، ولم تنسخ قط في ملَّة. وقال ابن عباس: هي الكَلمات العشر التي أنزل الله على موسى. (حَرْث) : الأرض مصدر، ثم استعمل بمعنى - الأرض والزَّرع والجنات. (حثيثا) : - سريعاً. والجملة في موضع الحال من الليل، أي يطلب النهار فيدركه. (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، من قرأ (عليَّ) بالتشديد على أنها ياء المتكلم، فالمعنى ظاهر. وهو أن موسى قال: حقيق عليه ألاَّ يقول على الله إلا الحق. وموضع (أَنْ لَا أَقُولَ) على هذا رفع، على أنه خبر حقيق. وحقيق مبتدأ أو بالعكس. ومَنْ قرأ (عَلَى) بالتخفيف فموضع (أَنْ لَا أَقُولَ) خفض بحرف الجرِّ، وحقيق صفة لرسول. وفي المعنى على هذا وجهان: أحدهما أن على بمعنى الباء، فمعنى الكلام رسول حقيق بألا أقول على الله إلاَّ الحق. والثاني أن معنى حقيق حريص، ولذلك تعدَّى بعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 (حَفِيٌّ عنها) : أي مهتبل بها معْتَنِ بشأنها. والمعنى يسألونك كأنّكَ حَفِيّ بعلمها. وقيل المعنى: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين القولين يتعلق بـ يسألونك. وقيل المعنى يسألونك كأنك حفيّ بالسؤال عنها. والحفى السؤال باستقصاء. (حملت حَمْلاً خَفِيفاً) ، أي خفّ عليها ولم تَلْقَ ما يلقى بعض الْحَبَالى من حملهنَّ من الأذى والكرب. وقيل الحمل الخفيف المنيّ في فَرْجها. والضمير عائد على حوّاء حين تَغَشَّاهَا آدم. (حرض) ، وحثّ وحضّ بمعنى واحد، وهو الحث على الشيء. (حَنِيذ) : مشويّ في حر الأرض بالرضف، وهي الحجارة المحماة. وفعيل هنا بمعنى مفعول. (حَصْحَص الحق) ، أي تبيَّن وظهر. (حَرَضا) : وهو الذي قد أدى به الحزن أو العشق إلى سقم وفناء. (حَمأ مَسْنون) ، الحمأ: الطين الأسود. والمسْنون: المتغِّير الْمنْتِن. وقيل: إنه من أسنَ الماء إذا تغيَّر. والتصريف يردُّ هذا القول. وموضع حمأ صفة لصلصال، من صَلْصَال كائن من حمأ. (حفَدة) : خدم. وقيل: أخْتَان. وقيل أصْهار. ابن عباس: هم أولادُ البنين. وقيل البنات، لأنَّ لفظ البنين المذكّر لا يدل عليهن. (حاصباً) : يعني حجارة أو ريحاً شديدة تَرْمي بالحصباء. وهي الحصا الصغار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 (حَفَفْناهما بنَخْل) : أطبقناها من جوانبهما. والحفاف: الجانب، وجمعه أحفّة. والضمير راجع للجنتين المذكورتين. (حَمِئة) ، وحَامِية وحَمِيَة: حارَّة. وقرئ بالهمز على وزن فعلة، أي ذات حمأة. وقرئ بالياء على وزن فاعلة، وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فبعثا إلى كَعْبِ الأحبار ليخبرهما بالأمر، فقال: أمَّا العربية فأنتما أعْلَمُ بها منِّي، ولكن أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين، فوافق ذلك قراءة ابن عباس. ويحتمل أن تكون بمعنى حمية، ولكن سهلت همزته فيتفق معنى القراءتين. وقد قيل يمكن أن يكون فيها حمأة وتكون حارة لحرارة الشمس. فتكون جامعةً للوَصْفَيْن، ويجتمع معنى القراءتين. (حنانا) : رحمة. وقال ابن عباس: لا أدري ما الحَنان. (حَصِيدا خامدين) : معناه - والله أعلم - أنهم حصِدوا بالسَّيْفِ والموْت كما يحْصَد الزرع، فلم تَبْقَ بقية منهم. وشُبِّهوا في هلاكهم بالزرع المحصود. ومعنى خامدين مَوْتَى، وهو تشبيه بخمود النار. وقوله: (منها قائم وحصيد) ، قد امَّحَى أثَره. (حَدَب) : مرتفع. (حَصَبُ جهنَّم) ، كل شيء ألقَيْتَه في نارٍ فقد حصبْتها به. وقرأ علي بن أبي طالب: حطب. وقرئت بالضاد المعجمة وهي ما هيجت به النار وأوقدته. والمرادُ بكلٍّ أن ما عبِدَ من دون الله يُحرق بالنار توبيخاً لمن عبدها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: حَصَب جهنم - قال: حطب جهنم - بالزنجية. (حَسِيسَها) : صوتها. (حمل) : الْحَمْل - بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على رَأس شجرة. والحِمْل - بالكسر: ما كان على ظهر أو رأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 (حَذِرُونَ) : الحذر المتيقظ. (حَاذِرُونَ) : مؤدون، أي ذوو أداة، أي ذوو سلاح، والسلاح آلات الحرب. (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) : بساتين ذات حسن، واحدتها حديقة. والحديقة: كل بستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة. (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي وجبت عليهم الحجة، فوجب العذاب. ومثله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي وجبت. والحق له أربعة معانٍ: الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب. والحق اسم الله تعالى، أي واجب الوجود. ومنه الحديث: "السحرُ حقٌّ". يعني أنه موجود لا أنه صواب والعين حق، يعني يصيب الشيء، وليس معناه أنه حسن، وقد يعبر به عن كلامه سبحانه حيث يقول: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ) . ومنه (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ، يعني بالقول، وهو قوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . فسمى القول حقا - يعني صدقا. وقد يعبر به عن الإسلام، نحو قوله (يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) : يعني الإسلام. وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ، أي وجبت. وقد يعبر عنه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) . (حيوان) . كل ذي روح، ويراد به أيضا الحياة، كقوله تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) ، أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها. ولفظ الحيوان: مصدر كالحياة. (حناجر) جمع حنجرة وحنجور، وهي الحلق، وبلوغ القلوب إليها في آية الأحزاب مجاز وعبارة عن شدة الخوف. وقيل هي حقيقة، لأن الرِّئَة تنتفخ من شدهة الخوف فتَرْبو يرتفع الحلق بارتفاعها إلى الحنجرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 (حَرور) : ريح حارة تهب بالليل. وقد تكون بالنهار. وآية فاطر تمثيل للثواب والعقاب. وقيل: الظل الجنة، والحَرور النار (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) ، أي محدقين به، دائرين حوله ومنه حفَّ به الناسَ، أي صاروا في جوانبه. (حَرْثَ الْآخِرَةِ) : عبارة عن العمل لها وكذلك: (حَرْثَ الدُّنْيَا) ، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحارثَ يعمل وينتظر المنفعةَ مما عمل. (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) .: الأنفَة والغضب. وذلك أنهم منعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من العمرة، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله، وقولهم لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. (حَبَّ الْحَصِيدِ) : هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد. وهو مما أضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. (حَبْلِ الْوَرِيدِ) : هو عِرْق كبير في العنق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وهذا مثل في فرط القرب. والمراد به قرب علم الله واطلاعه على عبده. وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك مسجد الجامع، أو يُراد بالحبل العاتق. (حَقُّ الْيَقِينِ) : معناه الثابت من اليقين، وقيل: إنَّ " الحقّ " و " اليقين " بمعنى واحد، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه. واختار ابن عطية أن يكون كقولك في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين، أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب. (حَادَّ اللَّهَ) . شاقّه، أي عاداه، وخالفه. (حاجة) : فقْر ومِحنة. والحاجة أيضا: الحسد، ومنه: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) . ويحتمل أن يكون بمعنى الاحتياج، على أصلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 (حَسير) : كَلِيل أدركه التَّعب. ومعنى هذا أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقاً أو خَلَلاً رجع بصرُك ولم تر شيئاً من ذلك، فكأنه ناس لاَهٍ لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل. وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التَّأمل. (حَرْد) : فيه أربعة أقوال: المنع، والقصد، والغضب. وقيل: إن الحرد اسم علم للجنة، ويقال: حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر. (حاقة) : يعني القيامة، وسميت بذلك لأنها تحقّ. أي يصح وجودها ولا رَيْبَ في وقوعها، أو لأنها حقّت لكل أحد جزاء عمله، أو لأنها تبْدِي حقائق الأمور. (حافرة) : رجوع إلى أول الأمر. ويقال رجع فلان في حافرته. وقول الكفار: (أئنّا لَمَرْدودونَ في الحافرة) . إنكار منهم لذلك، ولذلك اتفق القرّاء على قراءته بهمزتين، إلا أنَّ منهم مَنْ سهّل الثانية. ومنهم من حقّقها. واختلفوا في: (أإذا كنّا عظاماً نَخِرة) ، فمنهم من قرأه بهمزة واحدة، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم. والمعنى أئنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت. وقيل: إن الحافرة الأرض، بمعنى المحفورة. فالمعنى أئنّا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدَّفْنِ في القبور، وقيل: إن الحافرة النار. (حمّالة الحَطَب) ، في وصف أم جميل بحمّالة الحطب أربعة أقوال: أحدها: أنها كانت تحمل حَطباً وشَوْكا فتلْقِيه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - لتؤذيه. الثاني: أن ذلك عبارة عن مشيها بالنميمة، يقال: فلان يحمل الحطب بين الناس في أي يوقد بينهم نار العداوة بالنمائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 الثالث: أنه عبارة عن سعيها بالمضَرة على المسلمين، يقال فلان يحطب على فلان إذا قصد الإضرارَ به. الرابع: أنه عبارة عن ذنوبها وسوء أعمالها. (حدود الله) : ما حَدّها لهم من امتثالِ أوامره واجتناب نواهيه، لأنَّ الحدَّ هو النهاية التي إذا بلغها الحدود له امتنع. (حُوبا) - بالضم - الاسم. والحَوْب - بالفتح: المصدر. ومعناه أثم إثماً عظيما. قال ابن عباس: هو الإثم بلغة الحبشة. (حُرُم) : محرمين، واحدهم حرام، ومنه: (وحرّمَ عليكم صَيد الْبَرِّ ما دمْتم حرماً) . كل (حكم، حكمة) يقال حكم وحكمة، وذل وذِلّة، ونِحَل ونِحْلَة، وخبز وخبزة، وقل وقلة، وعُذْر وعُذرة، وبغض وبغضة، ووقر ووقرة. (حُسبانا) : حسابا، ويقال جمع حساب، مثل شهاب وشُهْبان. فأما في الأنعام، فالمراد بها أن الله تعالى جعل الشّمْسَ والقمرَ يُعْلَمُ بهما حساب الأزمان والليل والنهار. وأما آية الكهف، فالمراد أن يرسل عليها عذاب حسبان، وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك كالصِّرّ والبرد ونحو ذلك. (حُبُك) : طرائق تكون في السماء من آثار الغَيْم، واحدتها حَبِيكة وحِبَاك. والحبك أيضاً الطرائق التي تراها في الماء القائم إذا ضربته الريح. وكذلك حُبُك الرمل الطرائق التي تراها فيه إذا هبت عليه الريح. ويقال شَعْره حبك إذا كان متَكسِّرا جعودته طرائق. (حُطاما) : متَفَتِّتاً يابسا، وشبه الله الدنيا بالزرع الذي ينبته الزارع في سرعة تغيره بعد حُسنه، وتحطمه بعد ظهوره. (حُور) .: جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين في شدة سواد سوادها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 (حُسُوماً) : ابن عباس: معناه متتابعة كاملة لم يتخللها غير ذلك. وقيل: معناه شُؤْماً ونحساً. وقيل: هو جمع حاسم، من الحسم، وهو القطع، أي قطعتهم بالإهلاك. وحسوم على القولين مصدر في موضع الحال، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله. (حُطَمَة) : هي جهنَّم، وسميت بذلك لأنها تحطِّمُ ما يلقى فيها وتلتهمه، وقد عظمها بقوله: (وما أدراكَ ما الحُطَمة) . فإذا كان العظيم يعظم شيئاً هل يدرك حقيقته غَيْرُه، عصمنا الله منها بجاه نَبِيهِ - صلى الله عليه وسلم -. والحطَمة: السنَة الشديدة أيضاً. (حين) : غاية ووقت وزمان غير محدود. وقد يجيء محدوداً. وأما الحين المذكور في الإنسان فهو الحال الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه الروح، وضعّف لوجهين: أحدهما: قوله: (إنّا خَلَقْنَا الإنسانَ مِنْ نُطفةٍ) وهو هنا جنس باتفاق، إذ لا يصح هذا في آدم. والآخر أنَّ مقصد الآية تحقيرِ الإنسان. (حِطّة) : مصدر حط عنا ذنوبنا حطة. والرفع على تقدير إرادتنا حطة، ومسألتنا حطة. ويقال الرفع على أنهم أمِروا بهذا اللفظ بعينه فبدَّلوا حنطة. وروي حبّة في شعرة. وقيل معناه: قولوا صواباً بلغتهم. وقيل معناه بالعبرانية لا إله إلا الله. (حلّ) : حلال، و (حرم) : حرام. وقرئت: (وحِرْمٌ على قرية) ، أي واجب. والمعنى واحد. وقوله: (وأنتَ حِلّ بهذا البلد) ، أي حلال. ويقال حل حال: أي ساكن، أي لا أقسم به بعد خروجك منه، لأن السورة نزلَتْ والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وقيل: إنَّ المعنى تسْتَحل حُرْمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قَتْلُ صيْد ولا بشر، ولا قطْع شجر. وعلى هذا قيل لا أقسم نفي، أي لا أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذَاية. وقيل معنى حل حلال يجوز لك في هذا ما شئْتَ من قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، لم يحل لأحد قبلي، ولا يحِلَّ لأحد بعدي، وإنما أحِلَّ لي ساعةً من نهار - يعني يوم فتح مكة ". وفي ذلك اليوم أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَل، وهو مُتَعَلقٌ بأستار الكعبة، ولا يحل قتْل من تعلق بها. وهذه خصوصية له عليه السلام، لأنه كان يؤذي الله ورسوله. فإن قيل: السورة مكية وفتح مكة كان ثمانية من الهجرة؟ فالجواب: أن هذا وَعْد بفتح مكة، كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم، تعني فيما يستقبل. وقيل: إن السورة على هذا مدنيّة، نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف. (حِنْث) : شرك، ومنه: (وكانوا يُصِرون على الحِنْث العظيم) . وقيل: الحنث في اليمين: أي اليمين الغَمُوس. وقيل الإثم. (حكمة) : اسم للعقل، وإنما سُمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل. ومنه حَكمة الدابة، لأنها ترد من غَرْبها وإفسادها. (حِوَلا) ، أي تحوّلاً وانتقالاً. (حِجْراً مَحْجوراً) : أي حراماً محرماً عليكم. والحِجْر: ديار ثمود، ومنه: (ولقد كذّب أصحابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِين) . والحجر: العقل، كقوله: (هَلْ في ذلك قَسَم لِذِي حِجْر) . والحجر: حجر الكعبة، وهو ما حولها في أحد جهاتها. والحجر الفرس الأنثى. وحِجر القميص وحَجره لغتان مشهورتان. والفتح أفصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 (حاشا) : اسم بمعنى التنزيه في قوله: (حاشَاِ لله ما عَلِمْنَا عليه مِنْ سوء) . (حاشا لله ما هذا بَشَرا) . لا فعلٌ ولا حرفٌ، بدليل قراءة بعضهم حاشاً بالتنوين، كما يقال براءة من الله. وقراءة ابن مسعود: حاشَ اللهِ، بالإضافة، كمعاذ الله، وسبحان الله، ودخولها على اللام في قراءة السبعة، والجار لا يدخل على الجار. وإنما ترك التنوين في قراءتهم لبنائها، لشبهها بحاش الحرفية لفظاً. وزعم قوم أنها اسم فعل معناه: أتبرأ وتبرأت لبنائها. ورد بإعرابها في بعض اللغات. وزعم المبرد وابن جني أنها فعل، وأن المعنى في الآية جانبَ يوسفُ المعصية لأجل الله. وهذا التأويل لا يتأتى في الآية الأخرى. وقال الفارسي: حاشا فعل من الحشَى، وهو الناحية، أي صار في ناحيةٍ، أي بَعد مما رُمِي به وتنحَّى عنه فلم يَغْشه ولم يلابسه، ولم يقع في القرآن حاشا الاستثنائية. (حتى) : حرف لانتهاء الغاية، كإلى، لكن يفترقان في أمور، فتنفرد حتى بأنها لا تجر إلا الظاهر، وإلا الآخر المسبوق بذي أجزاء أو الملاقي له، نحو: (سَلامٌ هي حتى مَطْلَعِ الفَجْرِ) . وأنها لإفادة تقضِّي الفعل قبلها شيئاً فشيئاً. وأنها لا يقابَل بها ابتداء الغاية. وأنها يقَع بعدها المضارع المنصوب بأن المقدرة ويكونان في تأويل مصدر مخفوض مرادفة إلى، نحو: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يَرْجعَ إلينا موسى) ، أي إلى رجوعه. ومرادفة) كي التعليلية، نحو: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) . (لا تُنْفِقُوا على مَنْ عند رسول اللهِ حتى ينفضُّوا) . وتحتملهما: (فقاتِلُوا التي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ الله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ومرادفة إلا في الاستثناء، وجعل منه ابن مالك وغيره: (وما يعلمان مِنْ أحَدٍ حتى يقُولاَ) . مسألة متى دلَّ دليلٌ على دخول الغاية التي بعد إلى وحتى في حكم ما قبلها أو عدم دخوله فواضح أنه يعمل به، فالأول نحو قوله: (وأيدِيكم إلى الْمَرَافق) . (وأرجلكم إلى الكعبين) . دلت السنة على دخول المرافق والكعبين في الغسل. الثاني نحو: (ثمّ أتِمّوا الصيامَ إلى الليل) . دل النهيُ عن الوصال على عدم دخول الليل في الصيام. (فَنِظرَة إلى ميسرة) ، فإن الغايةَ لو دخلت هنا لوجب الإنظار حال اليسار أيضاً، وذلك يؤدي إلى عدم المطالبة وتَفْويت حق الدائن. وإن لم يدل دليل على واحد منهما ففيه أربعة أقوال: أحدها - وهو الأصح - تدخل مع حتى دون إلى حَمْلا على الغالب في البابين، لأن الأكثر مع القرينة عدم الدخول مع إلى والدخول مع حتى، فوجب الحمل عليه عند التردد. والثاني: تدخل فيهما. والثالث: لا تدخل فيهما، واستدل القولان في استوائهما بقوله: (فمَتَّعْنَاهم إلى حين) . وقرأ ابن مسعود حتى حين. تنبيه: حتى تَرِد ابتدائية، أي حرفاً يبتدأ بعده الجمل، أي تستأنف، فيدخل على الاسمية والفعلية المضارعة والماضية، نحو: (حتى يقولُ الرسولُ) بالرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 (حتى عفَوْا وقالوا) . (حتى إذا فشلْتم وتنازَعتم) ، وادعى ابن مالك أنها في الآيات جارّة لإذا، ولأن مضمرة، كما في الآيتين الأوليين. والأكثر على خلافه. وترد عاطفة، ولا أعلمه في القرآن، لأن العطف بها قليل جداً. ومِنْ ثَمّ أنكره الكوفيون ألبتة. (حيث) : ظرف مكان. قال الأخفش: وترِد للزمان مبنيةً على الضم تشبيهاً بالغايات، فإنَّ الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، ولهذا قال الزجاج - في قوله تعالى: (من حيث لا تَرَوْنَهم) : ما بعد حيث صلة لها. وليست بمضافة إليه، يعني أنها غير مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصلة لها، أي كالزيادة، وليست جزءاً منها. وفهم الفارسي أنه أراد أنها موصولة. ورد عليه. ومن العرب من يعربها، ومنهم مَنْ يبنيها على الكَسْرِ لالتقاء الساكنين، وعلى الفتح للتخفيف، وتحتملهما قراءة مَنْ قرأ: (مِنْ حيثِ لا يعلمون) بالكسر. (الله يَعْلَم حيْثَ يجعَل رِسالاته) - بالفتح. والمشهور أنها لا تتصرف. وجوَّز قوم في الآية الأخيرة كونها مفعولاً على السعة، قالوا: ولا تكون ظرفاً، لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان، ولأنه يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة لا شئاً في المكان، وعلى هذا فالناصب لها يُعلم محذوفاً مدلولاً بأعلم لا به، لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إلا إنْ أوَّلْتَه بعالم. وقال أبو حيان: الظاهر إقرارها على الظرفية المجازية وتضمين أعلم معنى ما يتعدّى إلى الظرف، فالتّقْدِير: الله أنفذ عِلْماً حيث يجعل، أي هو نافذ العلم في هذا الموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 (حَرف الخاء المعجَمة) (خلق) : له معنيان: من الخلقة، ومنه الخالق اسم الله، والخلاق. وخلق الرجل: كذب. ومنه: (وتخلقون إفكا) . واختلاق كذب. (ختم الله على قلوبهم) : أي طبع عليها، وهذا تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز، وقيل حقيقة، وإن القلب كالكف يقبض مع زيادة الضلال أصبعاً أصبعاً حتى يختم عليه. والأول أظهر. (خالدون) : باقون بقاءً لا آخر له. وبه سميت الجنة دار الخلد. وكذلك النار. وتعلق المعتزلة بقوله تعالى: (خالدا فيها) : أن العصاة من المؤمنين مخلدون في النار. وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار. (خاشعين) : متواضعين. وقوله تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن) ، أي خفتت، ويراد به السكون. ومنه: (وترى الأرضَ خاشعة) . (خير) : ضد الشر، وله أربعة معان: العمل الصالح، والمال، ومنه: (إنْ ترك خَيْرًا الوصيّة) ، والخيرة، والتفضيل بين شيئين. (لا خَلاق) ،: لا نَصِيب. (الخيْط الأبيض) : بَيَاض النهار، (والخيط الأسود) سواد الليل. (خاوِية) : خالية حيْث وردت. (خَبَالاً) : فسادا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 (خائبين) : فاتهم الظَّفَر. (خطأ) : ضد الصواب. وهو عَدَم الإصابة، وهو فيمن قتل مؤمناً خطأ بمعنى السهو، كقوله تعالى: (ليس عليكم جنَاح فيما أخطأتُمْ به) . وقد يعَبَّر به عن الباطل، كقوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نسينا أو أخَطأنَا) ، ففرَّق بين الخطأ والنّسيان. وأما المخطىء فهو المبطل. والخاطىء نقيض العامد. وقيل المخطىء: ما كان في الدِّين خاصة، والخاطىء ما كان في غيره. وقيل: هما سواء، يقال: خطأ وأخطأ بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة. (خَلِيل) : صديق، وهو فعيل من الخُلّة، وهي الصداقة والمودّة. (خَصِيم) : جيِّد للخصومة. (خائنة) : مصدر بمعنى الخيانة، والهاء للمبالغة، كما قالوا: رجل علامة. (خَسِروا أنفسهم) : غبنوها وأهلكوها. (خَوّلنَاكم) : ملكناكم من الأموال والأولاد. (خلفْتُموني مِنْ بعْدِي) ، أي قمتم مقامي. والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العِجْل مع السامريّ في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل، كهارون عليه السلام حيث لم يكفّر الذين عبدوا العجل. (خالفين) : متخلّفين عن القوم الذاهبين إلى الجهاد. وأما قوله تعالى: (رَضُوا بأنْ يكونوا مع الخَوَالف) ، أي مع النساء والصبيان. (خَرَقوا له بنين وبناتٍ بغَيْر علم) ، أي اختلقوا وزَوَّروا، والبنين: قولُ النصارى في المسيح، واليهود في عزير. والبنات قولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 العرب في الملائكة. وإنما قرأه ابن عباس بالتشديد مبالغة في قولهم ذلك مرةً بعد أخرى. (خلائفَ الأرض) : يخلفُ بعضهم بعضاً في سكناها. واحدهم خليفة. (خاطئين) : قال أبو عبيدة: خطأ وأخطأ بمعنى. وقيل أخطأ في كل شيء إذا سلك سبيلا خطأ عامداً وغيْر عامد. (خَطْبُكُنَّ) : أمركن، والضمير للنسوة اللاتي جمعهنّ الملكُ وامرأة العزيز معهنّ، فسألهن عن قصة يوسف، وأسند المراودة إلى جميعهن، لأنه لم يكن عنده علم بأنَّ امرأة العزيز هي التي راوَدَتْه وحْدَها. (خَلَصوا نَجِيًّا) : أي انفردوا عن غيرهم يُنَاجي بعضُهم بعضا. والنّجِيُّ يكون بمعنى المنادي مصدراً. (خَرّوا له سجّداً) : كان السجودُ عندهم تحيةً وكرامة لا عبادةً. (خَبَتْ زِدْنَاهمْ سَعِيرا) : أي سكن لهبُ النار. ومعناها كلما أكلَتْ لحومَهم فسكن لهيبها بُدِّلوا أجساداً أخر، ثم صارت ملتهبةً أكثر مما كانت. وهذه الآية كالتي في النساء: (كلما نَضِجَتْ جلودهُم بَدَّلْنَاهم جُلوداً غيرها) . (خَرْجاً) : جِبَاية. ويقال فيه خراج. وقُرِىء بهما. فعرضوا على ذي القرنين أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها السد، فقال: ما مكنِّي فيه رَبَي خير. وقيل: إن المخرج أخَصّ من الخراج. يقال: أدِّ خرج رَأسِك، وخراج مدينتك. وأما قولُه تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) - فمعناه أم تسألهم أجراً على ما جئت به فأجْرُ ربك وثوابه خير، لأنه يرزقك ويغنيك عنهم. وهذا كقوله: أم تسألهم أجْرًا، فيثقل عليهم اتَبَاعُك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 (الخبيثات للخَبِيثين) : معناه أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ففي ذلك ردٌّ على أهل الإفْكِ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطيب الطيبين وزوجته أطيب الطيبات. وقيل: إن الخبيثات مِنَ الأعمال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس. وفيه أيضاً ردّ على أهل الإفك، لأن عائشةَ لا يليق بها إلا الطيبات من الأعمال، بخلاف ما قاله أهل الإفك. وقيل الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك، أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم. (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) : أي اختلاقهم وكذبهم. وفرِئت خلق للأولين، أي عادتهم. (خَبْء) : مستتر. وقيل معناه في الآية: الغيب. وقيل يخرج النبات من الأرض. واللفظ يَعمّ كل خفي. وبه فسره ابن عباس. (خَتّار) : غدّار. والْخَتر أكبر الغدر، وأكبر الغَدْر جحدان نعم الله. (خاتم النبيين) : من أسماء نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقرئ بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم. وبالفتح بمعنى أنهم ختِموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم. فإن قلت: كيف كان خاتمهم، وهذا عيسى ينزل في آخر الزمان؟ فالجواب أنه عليه السلام ينزل مجدداً لهذه الشريعة المحمدية، كالمهدي الذي يكون قبله، وكما جرت الحكمة في أنه لا ينصر الرجلَ ولا يذبّ عنه إلا مَنْ كان من قرابته، يبعث الله المهدي من ذريته عليه السلام، كما قال: اسمه كاسمي، ونسبه كنسبي، ويمكث في الأرض خمس سنين أو سبعا على اختلاف الروايات، ثم يأتي بعده عيسى عليه السلام ليجدِّدَ شريعته، ويلتقي مع المهديّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 بالشام فيموت المهدي، ويجدد عيسى عليه السلام هذه الشريعة المحمدية، لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتزوّج أمَّه مريم في الجنة، فيكون عيسى ربيباً لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك يقال لعيسى: تقدم للصلاة، فيقول: إمامُكم منكم، يشير إلى أنه لم ياتِ بشريعةٍ أخرى. وقيل: إنه عليه السلام طلب مِنَ اللهِ أنْ يكون من هذه الأمة المحمدية لما علم مِنْ فَضْلِها، فأعطاه الله ذلك، وبعثه في آخرهم. فهنيئاً لكم يا أمَّةَ محمد بما خَوّلكم الله مِنَ الفَضْلِ، وخَصكم بهذا النبي الكريم، عليه أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليم. (خَرَّ مِنَ السماء) : معناه سقط، لأنه تمثيل للشِّرْكِ بمَنْ أهلك نَفسه أشد الهلاك. (الْخَلْف) : الرديء من الناس. ويقال) عقب الخير خلَف - بفتح اللام، وفي عقب الشر خَلْف - بالسكون، وهو المعني هُنَا. واختلف مَن المعنيّ بذلك، فقيل: النصارى، لأنهم خلفوا اليهود. وقيل: كل من كَفَر وعَصَى بعد بني إسرائيل. (خَمْط) : الْخَمْط: شَجَرُ الأرَاك. وقيل: كلُّ شجرة ذات شوك. (خَطِف الْخَطْفَة) ، أي خطفوه بسرعة واستلاب. والمعنى لا تسمع الشياطينُ أخبارَ السماء إلاَّ الشيطان الذي خَطِف الْخَطفة. (خَوَّلَه) : أعطاه. (خيرات) : يريد خيّرات - بالتشديد، جمع خيرة. وقال الزمخشري وغيره: أصله خيرات - بالتشديد، ثم خُفف، كميت. قالت أم سلمة: أخبرني يا رسول اللَه عَنْ قوله تعالى: (خيرات حسان) . قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه. (خافضة رَافِعة) : تقديره هي خافضة رافعة، فينبغي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 يوقف على ما قبله لبيان المعنى. والمراد بالخفض والرفع أنها ترفع أقواماً إلى الجنة، وتخفض أقواماً إلى النار. وقيل ذلك عبارة عن هَوْلها، لأن السماءَ تنشق، والأرض تزلزل وتمتد. والجبال تنسف - فكأنها تخفض بعضَ هذه الأجرام وترفع بعضها. (خَصاصة) : حاجة وفقر. وأصل الخصاصة الخلل والفُرج، ومنه خَصَاص الأصابع، وهي الفرج التي بينها. وفي هذه الآية مَدْحٌ للأنصار، لأنهم كانوا يؤثرون غيْرَهم بالمال على أنفسهم، ولو كانوا في غاية الاحتياج. وروي أن سبب نزولها أن رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما قَسّم هذه القُرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودِيَاركم. وشارَكْتُموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا. فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة. وروي أن سببها أن رجلاً من الأنصار أضاف رجلاً من المهاجرين، فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله، فقالت له زوجه: والله ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال لها: نوِّمِي صبيانك، وأطفئِي السِّرَاج، وقَدمي ما عندك للضيف. ونوهمه نحن أنّا نَأكل، ولا نأكل، ففعلا ذلك. فلما غَدَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " عَجِب الله مِنْ فِعلكما البارحة "، وتلا عليه الآية. (خَسَفَ الْقَمَر) : بالخاء والكاف بمعنى ذهاب ضوئه ويقال خسف هو، وخسفه الله. وقيل: الكسوف ذَهَاب بَعْضِ الضوء، والخسوف ذهاب جميعه. (خَاسِئا) : هو النقر عن الشيء الذي طلبه. (خاب مَنْ دَسَّاها) ، أي حقرها بالكُفْرِ والمعاصي. وأصله دسس بمعنى أخفَى، فكأنه أخفى نفسه لما حقرها، وأبدل من السين الأخيرة حرف علة، كقولهم: قصّيت أظفاري، وأصله قصصت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : آثاره. (خُلّة) . - بضم الخاء: موَدة، ومنه الخليل، وجمعه أخلاَّء. والخلَّة الحاجة. وأما قوله: (ولا خلّة) ، فالمراد بها الدار الآخرة، لأن كل أحد يومئذ مشغولٌ بنفسه. (خُوَار) .: صوت البقر، وكان السامِريُّ قد قبض قبْضة من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل، فصار له خُوار. وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل، فيصيح فيه فيُسْمَع له خوار. (خُمُرِهنَّ) : جمع خمار، وهي الْمِقْنَعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمَّر بها، أي يغطى، وكل شيء غطيته فقد خَمَّرته. والخمَر: ما واراك من شَجر. (خلطاء) : شركاء. (خشب مُسَنَّدة) ، جمع خشبة، وشبَّه المنافقين بالخشب المسنَّدَة في قلّة إفهامهم، فكان لهم منظر بلا مخبر، ولما كانت الخشب المسندة لا منفعة فيها كانوا كأنها هم، بخلاف الخشب السقف بها أو المغروسة في جدار فلها منفعةٌ حينئذ. وقيل: كانوا يستندون في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشبههم بالخشب المسنَّدة. (الْخُنَّس) : يعني الدراري السبعة، وهي الشمس، والقمر، وزُحَل، وعطارد، ومريخ، والمشتري، والزهرة، وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جَرْيها، أي تتقهقر، فيكون النَّجْم في البرج فيكر راجعاً، وهي في جوار الفلك. (خُطبة) - بالضم: حمد وتصلية ودعاء. وبالكسر: تزويج. وفي قوله تعالى: (لا جناح عليكم فما عرَّضتم به مِنْ خِطبةِ النِّساءَ) البقرة:: غير المعتدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وأما المعتدّةُ فيجوز لها التعريض، كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وكقوله: إن الله يفعل معكم خيراً، وشبه ذلك. (خِلاَف) : مخالفة. ومنه: (فَرِحَ الْمخَلَّفُون بمقْعَدِهم خِلاَفَ رسولِ الله) . (وإذاً لا يلبثون خلاَفك إلا قليلاً) ، أي بعدك: وأما قوله تعالى: (أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خِلاَف) فمعناه أن تقطع يَده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرُّسْغ، وَقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة. (خِزْي) : هَوَان وهَلاَك أيضاً. (أخْدَان) : جمع خِدْن، وهو الخليل. (خطب) : خبر. والخطب أيضاً: الأمر العَظِيم. (خُفْيَة) ، من الإخفاء. وقرئ - خيفة، من الخوف. (خَوْفاً وطمعاً) ، جمعَ اللَّهُ الخوفَ والطمَعَ، ليكون العبد خائفاً راجياً، كما قال تعالى: (يَرْجونَ رَحْمَتَه ويخافونَ عذابَه) ، فإنَّ موجِبَ الْخَوْفِ معرفة عقاب اللهِ وشدة سطْوَته، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) . ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عقابه خافه، ولذلك جاء في الحديث: " لو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعْتَدلا "، إلا أنه يستحَبّ أن يكون طول عمر العبد يغلب عليه الخوف، ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرّجاء عند حضور الموت، للحديث: " لا يموتَنّ أحدًا إلا وهو يُحْسِن الظن باللهِ ". واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الأولى: أن يكون ضعيفاً يخطر على القلب ولا يؤثّر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم. والثاني: أن يكون قوياً فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة. والثالث: أنْ يشتدَّ حتى يبْلغ إلى القنوط واليأس، وهذا لا يجوز. وخيْرُ الأمورِ أوساطها. والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخَوْف العامَّةِ من الذنوب. وخَوْف الخاصَّةِ من الخاتمة. وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها. والرجاء على ثلاث درجات: الأولى: رجاءُ رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعته، وترك معصيته، فهذا. هو الرجاء المحمود. والثاني: الرجاء مع التفريط والعصيان، فهذا غرور. والثالثة: أن يَقْوَى الرجاء حتى يبلغ إلى الأمْنَ، فهذا حرام. والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله. ومقام الخاصة رجاء رضوان الله. ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبًّا فيه، وشَوْقاً إليه. (خِلاَلَ الدِّيَارِ) : أزِقَّتها. وخلال: مخالفة أيضاً، كقوله تعالى: (لا بَيْع فيه ولا خِلاَل) وخلال السحاب وخللها: الذي يخرج منه المطر. (خِلْفة) : أي يخلف هذا هذا. وقيل: هو من الاختلاف، لأن هذا أبيض وهذا أسود. والخلفة: اسم للهيئة كالرِّكبة والجِلْسة، فالأصل جعلهما (ذَوِي خلفة) . (لمن أراد أن يَذّكر) ، أي يعتبر في الصنوعات. وقيل: يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل فيستدركه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 بالنهار، أو فاته بالنهار فيستدركه بالليل، وهو قَوْلُ عُمَرَ بن الخطاب وابن عباس. (خِتَامه مِسْك) : أي آخر خاتمته وعاقبته إذا شُرب، أي يوجد في آخره كشم السك ورائحته -، يقال للعطار إذا اشترى منه الطيب اجعل خاتمه مسكا. وقيل: إنه يمزج الشراب بالمسك، وهذا خارج عن الاشتقاق. وقيل: إنه من الختم على الشيء بمعنى جعل الطابع عليه. والمعنى أنه ختم على فَمِ الإناء الذي هو فيه بالمسك كما يُخْتم على أفواه آنية الدنيا بالطِّين إذا قُصد حِفْظُها وصيانتها. وقرئ خاتمه، بألف بعد الخاء، وبفتح التاء وكسرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 (حَرف الدال المهمَلة) (داود) هو ابن إيْشا - بكسر الهمزة وسكون التحتية وبالشين المعجمة - ابن عَرْبد - بوزن جعفر بمهملة وموحدة ابن باعر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن نحشون بن عمي بن يارب - بتحتية وآخره موحَّدة ابن رام بن حضرون - بمهملة ثم معجمة - ابن فارص - بفاء وآخره مهملة ابن يهوذا بن يعقوب. وفي الترمذي أنه كان أعْبَدَ البَشَر، ولهذا لا قال: يا رب، كن لسليمان كما كنت لي. فقال له: قل لسليمان يكون لي كما كنتَ لي أكن له كما كنت لك. وكان يقول: يا رب، كيف تغفر لمن عصاك وقد تجرَّأ عليك، فلما وقع له من " الخصمان " ما أخْبَر اللَّهُ به قال: إلهي اغفر لمن عصاك لعلي أن ألحق بهم. قال كعب: كان أحْمرَ اللَّوْن، سبْط الرأس، أبيض الجسم، طويل اللحية. فيها جعودة، حسن الخلق والصوت، وجمع الله له النبوءة والملك، وكان يأمر أن تسْرَجَ فَرَسه فيوحَى له قراءة الزبور فيقرأه قبل أن يركب. وقد قدمنا أن الله هيّأ لهذه الأمة المحمدية مثل ذلك في قراءة هذا القرآن العظيم. قال النوويّ: قال أهل التاريخ: عاش مائة سنةٍ، مدة ملْكه منها أربعون سنة. وكان له اثنا عشر ابنا. (دابَّة) : كل ما يَدِبّ على الأرض من حيوان وغيره. وأما قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ، فهي تقويةٌ لقلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 المؤمنين إذا خافوا الجوع والفَقْرَ في الهجرة إلى بلاد الإسلام، أي كما يرزق اللَه الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلادكم. (دَأْب آل فرعون) : أي عادتهم. وفي تشبيه الآية تهديد، أي دأب هؤلاء كدأب آل فرعون. (دَرَجات عند الله) ، أي منازل بعضها فَوْقَ بعض. والمعنى تفاوت ما بين منازِلِ أهْل الرضْوان وأهل السخط، أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان، فإنَّ بعضَهم فوق بعض، فكذلك درجات أهل السخط. وكما أنَّ أهل الجنة على درجات فكذلك أهل النار على دركات بعضها أسفل من بعض. ومنه: (إنَّ المنَافِقين في الدَّرْكِ الأسفَلِ من النار) ، وفي الآية دليلٌ على أنهم أسفل من الكفار. قال ابن عباس: الدرك الأسفل توابيت من حديد مبْهَمة عليهم - يعني - أنها لا أبواب لها. (دَابرَ القَوْم) ، أي آخرهم، وذلك عبارة عن استئصالهم بالكلية. (دارست) بالألف، أي دارست العلماء وتعلمت منهم ودَرَست، بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآية ودثرت. ومعناه قرأت بلغة اليهود، ومنه بيت المدارس، أي القراءة. (دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) ، أي أزلّهما إلى الأكل من الشجرة، وغَرَّهما بحلفه لهما وقَسَمه أنه من الناصحين، لأنهما ظنا أنه لا يحلف كاذباً، فلما أكلا منها بدت لهما سَوْءَاتهما، أي زال عنهما اللباس، وظهرت عَوْراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا لأحدهما من الآخر. وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النَظر. (دكًّا) : مدكوكا من الأرض، فهو مصدر بمعنى مفعول، كقولك: ضرب الأمير. والدَّكُّ والدق: أخوان، وهو التفتّت. وقرىء دَكَّاء - بالمد والهمز، أي أرْضاً دَكاء ملساء. وناقة دكاء، وهي المفترشة السنام في ظهرها، أو المجبوبة السنام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 (دَار السلام) : يعني الجنة، وسميت بذلك لأنها سالمةٌ من الفناء والتعب. وقيل السلام هو اسم الله، وأضافها إليه لأنها ملكه وخلقه. ودوائر السلام التي تأتي مرةً بخير ومرة بشر. يعني ما أحاط الإنسان منه. وقوله: (عليهم دائرة السَّوْءِ) ، أي يدور عليهم من الدهر ما يَسوؤهم. ويحتمل أن يكون خيراً أو دعاء. (دَعْوَاهم فيها) : أي يكون دعاؤهم في الجنة سبحانك. والدعاء الادّعاء أيضاً. (أدْنى) له معنيان: أقرب فهو من الدنو، وأقَلّ فهو مِنَ الدنىء الحقير. (دَأَبا) ، قد قدّمنا أن معناه عادة وجدّ. ومعناه أيضاً الملاَزمة. ومنه سبع سنين دَأَبا - بسكون الهمزة وفتحها، مصدر دأب على العمل إذا داوم عليه. (دَاخِرون) ، صاغرون أذِلاَّء، وجمِعَ بالواو لأن الدّخور من أوصاف العقلاء. (دَخَلا بينكم) ، أي دغلاً وخيانة، وهذه الآية فيمَنْ بايَع النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، ثم رجع. وفي قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) - استعارةٌ في الرجوع مِنَ الخيْرِ إلى الشر، وإنما أفرد القدم ونكَّرَها لاستعظام الزّلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة؟! (دَرَكا) : إلحاقاً، أي لا تخاف أنْ يُدْرِكَك فرعون وقومه، ولا تخشى الغَرق في البحر. (داحِضَة) : باطلة زائلة، وكذلك: (ليدْحِضوا به الحقَّ) ، أي ليزيلوا به الحقّ، ويذهبوا به. ويقال: مكان دحْض، أي مزل مزلق، ولا يثبت فيه قَدَمٌ ولا حافر. (دهر) : مرور السنين والأيام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 (ديَّارا) : من الأسماء المستعملة في النفي، يقال: ما في الدار ديَّار، أي ما بها أحد. وزْنه فَيْعال، وكان أصله دَيوار، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وليس وزنه فعَّال، لأنه لو كان كذلك لقيل دوار، لأنه مشتقّ من الدوَرَان. وروي أن نوحاً عليه السلام لم يَدْع على قومه بهذا ال دعا ء إلا بعد أن يئس من إيمانهم، وبعد أن أخرج الله كل مؤمِن من أصلابهم. (أَدْبر) في قوله: (والليل إذا أدبر) . وقرئ دَبر بغير ألف. والمعنى واحد - يقال دبر الليل والنهار، أي جاء في دبره، وأدبر. (دَحَاها) : بسطها، وبهذا استدلَّ مَنْ قال: إنَّ الأرض بسيطة غير كروية، ولكن يفهم من هذه الآية أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السماء. وفي آية فصلت السماء قبْلها، والجمع بينهما أن الله خلقها قبل السماء، ثم دحاها بعد ذلك. فإن قلت: لِمَ قال: أخرج - بغير حرف العطف؟ فالجواب: أن هذه الجملة في موضع الحال، أو تفسير لما قبلها، قاله الزمخشري. (دَسَّاها) : أي أخْفَاها بالفجور والمعاصي. والأصل دسّسها فقُلِبَتْ إحدى السينين ياء، كما قيل تظنّيت. (دمْدمَ عليهم ربُّهم) : عبارة عن إنزال العذاب بقوم صالح. وفيه تهويل عليهم وعلينا، إذ لا يؤَاخَذ أحَدٌ إلاَّ بسبب ذنبه، بل يؤخذ به البريء والفاعل، كما قالت عائشة: أنهلك يا رسول الله وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثر الخبث. قوله: (فسَوَّاها) : قال ابن عطية: معناه فسوَّى القبيلة في الهلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وقال الزمخشري والضمير للدمدمة، أي سواها بينهم. اللهم لا تسو هذه الأمة بإنزال العذاب عليها بحرمة نبيها وشفيعها - صلى الله عليه وسلم -. (دَعا) ورد على أوجه: العبادة: (ولا تَدْع مِنْ دون اللَهِ ما لا يَنْفَعكَ ولا يَضرّك) . والاستعانة: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) . والسؤال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) . والقول: (دَعْواهم فيها سبحانَك اللهم) . والنداء: (يوم يدعوكم) . والتسمية: (لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ بينكم) . (دلوك الشمس) : هو زَوَالها إلى أن تغيب، والإشارة بهذا لصلاة الظُّهْرِ والعَصْر. (دريّ) - بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدُّرِّ، لبياضه وصفائه، أو يكون مسهّلاً من الهمز. وقرئ بالهمز وكسر الدال وبالضم والهمز، وهو مشتق من الدَّرْء بمعنى الدّفع. وشبه الزّجاجة في إنارتها بكوكب دري، لأنها تضيء بالصباح الذي فيها. وحكى أبو القاسم شَيْذلة أنَّ معنى الدّري المضيء بالحبشية. (دحُوراً) : أي طَرْداً وإهانة وإبعاداً، لأن الدَّحْر الدفع بعُنْف. وإعرابه مفعول من أجله، أو مصدر من (يقذفون) على المعنى، أو مصدر في موضع الحال، تقديره مدحورين. (دُخَان) ، روي أنه كان العرش علي الماء، فأخرج الله من الماء دخانا، فَارْتفَع فَوْقَ الماء، فأيبس الماء، فصار أرضاً، واشْتَدَّ يَبس الأرضِ، فصار حجرا، ثم خلق الله السماء فجعلها سبعة أجزاء، جزءاً منها ماء، وجزءاً قطرا، وجزءا حديداً، وجزءاً فضة، وجزءاً ذهباً، وجزءا لؤلؤاً، وجزءاً ياقوتاً أحمر، فخلق سماء الدنيا من الماء، ومن القِطر الثانية، والثالثة من الحديد، والرابعة من الفضة، والخامسة من الذهب، والسادسة من اللؤلؤ، والسابعة من الياقوت، ثم فتقها فجعل بين كل واحد منها مسيرة خمسمائة عام (1) .   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 نكتة: خلق من دخان واحد سَبْعَ سموات لا تشْبِة إحداها الأخْرَى. وأعجب من هذا أنه أنزل من السماء ماءً فأحْيَا به الأرْضَ بعد موتها فأخرج من قطرة المطر أنواع النَّبَات، بعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود، وبعضها حُلْو، وبعضها مرّ، قال تعالى: (ونفَضِّل بَعْضَها على بَعْضٍ في الأكل) . وأعجب مِنْ هذا نطفة وقعَتْ في رَحِم امرأةٍ فصيَّرها عَلَقة، وصيّر العَلقة مضْغَةً، وخلق المضْغة عِظاماً، وخلَق من نطفة ذَكَراً، ومن أخرَى أنثى، ومن نطفة مؤمناً، ومن أخرى كافراً، ومن نطفة صالحاً، ومن أخرى طالحاً، ومن نطفة موفّقاً، ومن أخرى منافقاً، ومن نطفة موحِّداً، ومن أخرى معانداً، ومن نطفة سعيداً، ومن أخرى شقِياً، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) . وأما قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) . ففيه قولان: أحدهما قول عليٍّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما، إنَّ الدّخَان يكون قبل يَوْم القيامة يصيب المؤمِنَ منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين، وهو من أشراط الساعة. وروى حذَيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ أَوَّلَ الآيات الدخان ". والثاني قول ابن مسعود: إنَّ الدخان عبارة عما أصاب قريشاً حين دعا عليهم رسول الله بالجَدْبِ، فكان الرجل يرى دخاناً بينه وبين السماء من شدة الجوع. قال ابن مسعود: خَمْسٌ قد مَضَيْنَ: الدخان، واللِّزام، والبَطْشَة، والقمر. والرّوم. وقيل: إنه يقال للجدب دخان ليبس الأرض وارتفاع الغبَار. فشبه ذلك بالدخان. وربما وضَعَتِ العَرب الدخان في موضع الشرِّ إذا علَا، فتقول كان بيننا أمرٌ ارتفع له دخان. (دُسر) : مسامير، واحدها دسار. وقيل: مقادم السفينة. وقيل أضلاعها، والأول أشهر. والدسار: أيضاً الشرط التي تشد بها السفينة. (دُولة) - بالضم والفتح: ما يدول الإنسان، أي يدور عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ويحتمل أن يكون من المداولة، أي كي لا يتداول ذلك المالَ الأغنيا بينهم. وهو الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى، ويبْقَى الفقراء بلا شيء، وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسّم أمْوَال بني النَّضِير على المهاجرين، فإنهم كانوا حينئذ فقراء. ولم يُعط الأنصارَ منها شيئاً، لأنه كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سَهْمنا مِنْ هذا الفَيْء، فأنزل الله الآية. ويقال الدُّولة في المال بالضم. والدَّولة في الحرب بالفتح. ومنه الحديث: إنهم يدَالون كما تنصرون. ويقال الدولة - بالضم: اسم الشَّيْءِ الذي يتَداول بعينه. والدَّولة بالفتح: الفعل. (دِين) : له خمسة معان: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر. قال تعالى: (إنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإسلام) . (مالك يوم الدين) . (ما كان ليَأخذَ أخاه في دِين الملك) ، أي في حكم الملك. (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) (يومئذ يُوَفّيهم الله دِينَهم الحقَ) ، أي الحساب. والدّين بمعنى الدينونة والمذهب، يقال دين فلان. قال عليه السلام: " كما تَدِين تُدَان ". (دُكَّت الأرْض) : أي دقّت جِبَالها حتى استوت مع وجه الأرض. (دِفْء) ، ما استدفىء به من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب. (دِهَان) : جمع دهن. وأما قوله تعالى: (فكانَتْ وَرْدَةً كالدهان) ، - فإنما شبّه السماءَ يوم القيامة به لأنها تذوب من شدة الهول. وقد شبّه لمعانها بلمعان الدُّهن. وقيل: إن الدّهن هو الجلد الأحمر. (دينار) ، حكى الجواليقي وغيره أنه فارسي. (دِهَاقا) : أي ملأى. وقيل صافية، والأول أشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 (دونَ) : ترد ظرفاً نقيض فَوْق فلا تنصرف على المشهور. وقيل: تنصرف، وبالوجهين قرئ: ومنا دون ذلك بالرفع والنصب. وتَرِد اسماً بمعنى غير، نحو: (اتخَذوا مِنْ دونِه آلهةً) ، أي غيره. وقال الزمخشري: معناه أدْنى مكان من الشيء، وتستعمل للتفاوت في الحال، نحو: زيد دون عمر، أي في الشرف والعلم. واتّسع فيه فاستعمل في تجاوز حدٍّ إلى حد. نحو: (أولياء من دون المؤمنين) ، أي لا تجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 (حَرف الذال المعجمة) (ذو الكفْل) : قيل: هو ابن أيّوب. وفي المستدرك عن وهب - أنَّ الله بعث بعد أيوب ابنه، واسمه بشر بن أيوب نبيئاً، وسماه ذا الكفْل وأمَرَهُ بالدعاء إلى توحيده، وكان مقما بالشام عُمْره حتى مات وعُمْزه خمس وسبعون سنة. وفي العجائب للكرماني: قيل: هو إلياس. وقيل يوشع بن نون. وقيل هو نبي اللَه ذو الكفل. وقيل كان رجلاً صالحاً تكفل بأمور فوفَّى بها. وقيل: هو زكرياء في قوله: (وكَفَّلَهَا زكريّا) . وقال ابن عسكر: هو نبىء تكفّلَ الله له في عمله بضِعْفِ عمل غيْرِه من الأنبياء. وقيل: لم يكن نبياً، وأن اليسع استخلفه فتكفّل له أن يصوم النهار ويقوم الليل. وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة. وقيل هو اليسع، وإن له اسمين. (ذو القرنين) : اسمه إسكندر. وقيل: عبد الله بن الضحاك بن سعد. وقيل هو المنذر بن ماء السماء. وقيل: الصعب بن قرين بن الهمال، حكاه ابن عسكر. ولُقَبَ ذا القَرْنَيْن، لأنه بلغ قَرْنَي الأرض المشرق والمغرب. وقيل: لأنه ملك فارس والروم. وقيل: كان على رأسه قَرْنان، أي ذؤَابتان. وقيل: كان له قرنَان من ذهب. وقيل: لأنه ضرِب على قرنه فمات، ثم بعثه الله فضربوه على قرنه الآخر. وقيل: لأنه كان كريم الطرفين. وقيل: لأنه انقرض في وقْته قَرْنَان من الناس، وهو حيّ. وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن. وقيل: لأنه دخل النور والظلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 (ذَلول) : أي ذللت للحرث، والمراد بها بقرة بني إسرائيل - يعني أنها غير مذَللة للعمل. (ذَكّيْتُم) : قطعتم أوداجَه، ونَهَرْتم دمَه، وذكرتم اسم الله عليه. وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء، ومن ذلك ذكاء السن، أي تمام السن. أي النهاية في الشباب. والذكاء في الفهم أن يكون فهماً تامّاً سريع القبول. وذكّيت النار: أتممت إشعالها. وقوله: (إلاَّ ما ذَكَّيْتم) ، أي أدركتم ذَبْحَه على التمام. قيل: إنه العِرْق المنقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة ونحوها ما مات من الاختناق، والوقذ والتردّي والنطح وأكل السبع. والمعنى حرمت عليكم هذه: الأشياء لكن ما ذَكَّيْتم من غَيْرِها فهو حلال. وهذا القول ضعيف، لأنها إذا ماتت بهذه الأسباب فهي مَيْتة، فقد دخلت في عموم الميتة، فلا فائدة لذِكْرِها بعدها. وقيل: إنه استثناء متّصل، وذلك إن أريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب، وأدركت ذكاته. والمعنى على هذا: إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال. ثم اختلف أهل هذا القول: هل يشترط أن تكون لم ينفذ مقاتلها أم لا. وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب فذكاته جائزة باتفاق. (ذات الصّدور) : حاجاتها وما يخطر لها (ذَرَأكم) : خلقكم. ومنه: (ولقد ذَرَأنا لجهنَّمَ) . (ذَنوب) - بفتح المعجمة: نصيب. ومنه: (ذَنوباً مثل ذَنوب أصحابهم) . ويريد به هنا نصيبا من العذاب. وأصل الذَّنوب الدَّلْو، والمراد بالضمير كفّار قريش وأصحابهم ممّنْ تقدم ذِكْرهم. (ذَرْغها سبعون ذِرَاعاً) ، أي طولها، ومبلغ كيلها. واختلف في مبلغ هذا الذراع، فقيل: إنه الذراع المعروف. وقيل: بذراع الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وقيل: سبعون باعاً كل باع كما بَيْنَ مكّةَ والمدينة. وللَه دَر الحسن البَصْري في قوله: الله أعلم بأي ذراع هي، فإن السبعين من الأعداد التي تَقْصِد بها العَرب التكثير. ويحتَمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحدٍ مِنْ أهل النار، أو تكون بين جميعهم. وروي أن هذه السلسلة تدخل في فَمِ الكافر، وتخرج من دبره. فاسلكوه على هذا من المقلوب في المعنى، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رَأسي. وروي أنها تُلْوَى عليه حتى تلمّه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه، وهو السلوك فيها. وإنما قدّم قوله: في سلسلة - على: " اسلكوه " لإرادة الحصْرِ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، وكذلك قدّم الجحيم على صَلّوه لإرادة الحَصْرِ أيضاً. (ذُلُلًا) : جمع ذلول، وهو السهل اللين الذي ليس بصعب. ومنه: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) - يعني الطرق في الطيران. وأضافها إلى الرَّبِّ لأنها ملكه وخَلْقه. ويحتمل أن يكون قوله: ذللاً - حالاً من السّبل. قال مجاهد: لم يتوعّر قط على النحل طريق. أو حالاً من النحل، أي منقادة لما أمرها الله به. (ذرّية) : فعلية من الذَّر، لأن الله تعالى أخرج الْخَلْقَ مِنْ صلْبِ آدم كالذّر. وقيل: أصل ذرية ذرّورة على وزن فُعْلُولة، فلما كثر التصريف أبدلت الراء الأخيرة ياء فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية، وهم أولاد الرجل وأولاد الأولاد وإنْ بَعَدوا. وقيل: ذرية فعلية أو فعيلَة من ذرأ الله الخلق فأبدلت الهمزة ياء، كما أبدلت في نبيٍّ. وذكر في العقد لابن عبد ربه أن الحجاج عتب على يَحْيى بن يعمر فقال له: أنت الذي تقول إنَّ الحسَيْن ابن رسول الله، فقال: نعم. قال: والله لئن لم تَأتني بالمخرج لأضْربَنّ عنقك. فقال: قال تعالى: (وتلك حجَّتنَا آتيْنَاها إبراهيمَ على قَوْمِه ... ) . 83،، إلى قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) . فقال له: فمن أَبْعَدُ؟ عيسى عليه السلام من إبراهيم أم الحسين من محمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فقال الحجاج: واللَه ما كأني قَرَأتها. ثم وَلّاه قضاء بلدِه، فلم يزل بها قاضياً حتى مات. وتأمّلْ هذا، فإنَّ النزاع إنما هو في تسمية ابن البنْتِ ابناً، وغاية ما في هذه الآية أنه جعل عيسى من الذرية، لأن عيسى ليس له أَب فهو ابن بنت نوح. ولا شك أن الابن أخص من الذرية. والنص في القضية قوله عليه السلام: إن ابني هذا سيِّد ... الحديث. وقوله تعالى: (وحلَائل أبنائِكم) ، فإن اللخميّ وغيره حكى الإجماع في مذهب مالك وغيره على دخول ابن البنت فيها. (ذِلَّة) : صغار ومسكنة. (ذِكْرى لهم) : فيها وجهان: أحدهما: أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار، ولكن عليهم تذكير لهم ووعظ، وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر، تقديره يذكروا ذكرى. أو رفع على المبتدأ تقديره عليهم ذكرى. والضمير في لعلهم عائد على الكفَّار، أي تذكرونهم رجاء أن يتّقوا، أو عائد على المؤمنين، أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تَقْوى الله. والثاني: أن المعنى ليس نهي المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أنَّ عليهم من حسابهم شيئاً، وإنما هو ذكرى للمؤمنين. وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضْمر، تقديره: ولكن نهيه ذكرى. أو مفعول من أجله، تقديره إنما نهوا ذِكرى. والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير. (ذكر) : وَرَدَ على أوْجه: ذكر اللِّسان: (فاذْكروا اللهَ كذِكْرِكُمْ) . وذكر القلب: (ذكَروا اللَهَ فاستَغْفَروا لذنوبهم) . والحفظ: (واذْكُروا ما فيه) . والطاعة والجزاء: (فاذْكروني أذْكركم) . والصلوات الخمس: (فإذا أمِنْتم فاذْكرُوا الله) . والعظمة: (فلما نسوا ما ذكّروا به) . والبيان: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 والحديث: (اذكرْني عند ربِّك) ، أي حدثه بحالي. والقرآن: (ومَنْ أعرض عن ذِكْري) . (ما يَأتيهم من ذِكْر من ربهم) . والتّوْراة: (فاسْألوا أهل الذكر) . والخبر: (سأتْلُو عليكم منه ذِكْرا) . والشرف: (وإنّه لذِكْرٌ لك ولقومك) . والعيب: (أهذا الذي يذكر آلهتكم) . واللوح المحفوظ: (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) . والثناء: (وذكروا الله كثيرا) . والوحي: (فالتاليات ذِكرا) . والرسول: (ذكْراً. رسولاً) . والصلاة: (ولَذِكر اللَه أكبر) . وصلاة الجمعة: (فاسْعَوا إلى ذِكْر الله) . وصلاة العصر: (عن ذِكْرِ رَبي) . (ذِمَّة) : عهد. وقيل: الذمة التذمّم ممن لا عَهْدَ له، وهو أن يلزمَ الإنسان ذماً أي حقائق واجبة عليه، مجري مَجْرَى المعاهدة من غير معاهدة ولا تحالف. (ذبحٌ عظيم) : اسم لما يذْبح، وأراد به الكَبْشَ الذي ذبحه ولَد آدم، وفدّى الله إسماعيل من الذبح، ولذلك وصفه بعظيم، لأنه تَقَبّلَه اللَه منه وربّاه في الجنة. وفي القصص: إن الذبيح قال لإبراهيم: اشدد برباطي لئلا أضطرب، واصرِفْ بصرك عئي لئلا ترحمني. فلما أمَرَّ الشفْرة على حَلْقه ولم تقطع، لأن المراد الوصل لا القطع، كأنه يقول: يا إبراهيم امتثل، ويا سكّين لا تقطع، لأن لي في أمره سرا وتدبيرا. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية تركناه لطوله وعدم صحته. فإن قلت: كيف قال: (ونادَيْنَاه أنْ يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيَا) ولم يذبح؟ فالجواب: أنه فعل ما قَدر عليه، ونِيَّتُه امتثال الأمر ولو لم يفْدِه الله. لذبحه، وامتناع الذّبح إنما كان من عند الله. والمدْحُ إنما يكون على النية، ونيّة المؤمن خيْر من عمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 (ذَرْ) حيثما ورد في القرآن بمعنى اترك، وهي منسوخةٌ بآية السيف. وقيل: تهديد، فلا متاركة ولا نسخ فيها. (ذَكِّرْ به) ، الضمير عائد على الدين، أو على القرآن. (ذُو) : بمعنى صاحب، وضِعَ للتوصل إلى وصف الذوات بأسماء الأجناس، كما أن الذي وُضعت وصلة إلى وصف المعارف بالجمل. ولا يستعمل إلا مضافاً، ولا يضَاف إلى ضمير ولا مشتق. وجوَّزَه بعضهم، وخرج عليه قراءة ابن مسعود: (وفَوْق كلِّ ذِي عَالم عليم) . وأجاب الأكثرون عنها بأن العالم هذا مصدر كالباطل، أو بأن ذي زائدة. قال السهيلي: والوصف بذو أبْلَغ من الوصف بصاحب. والإضافة لأنها أشْرَف، فإن ذو يضاف للتابع وصاحب يضاف - إلى المتبوع، تقول أبو هريرة صاحب النبي، ولا تقول النبي صاحب أبي هريرة. وأما ذو فإنك تقول: ذو المال وذو الفرس، فتجد الاسم الأول متبوعاً غير تابع، وبُنِي على هذا الفرق أنه قال تعالى في سورة الأنبياء: (وذا النُّون) . فأضافه إلى النون، وهو الحوت. وقال في سورة ن: (ولا تَكنْ كصَاحِب الحوت) . قال: والمعنى واحد، ولكن بين اللفظين تَفَاوُت كبير في حُسْنِ الإشارة إلى الحالين، فإنه لما ذكره في معرض الثناء عليه أتى بذي، فإن الإضافة بها أشرف، وبالنون، لأنه لفظ أشرف من لفظ الحوت، لوجوده في أوائل السور، وليس في لفظ الحوت ما يشرفه لذلك، فأتى به وبصاحبٍ حين ذكره في معرض النهي عن اتباعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 (حَرف الراء المهملة) (رَبّ) له أربعة معان: الإله. والسيّد. والمالك للشيء. والمصْلِح للأمر. وكلها تصلح في رَبّ العالمين، إلا أن الأرْجحَ معنى الإله، لاختصاصه باللهِ تعالى، كما أن الأرجح في العالمين أن يُراد به كل موجودٍ سوَى الله تعالى، فيعمّ جميع المخلوقات. (رحمن) ، ذو الرحمة، ولا يوصف به غَيْر الله. (رحيم) : عظيم الرحمة. (رسول) : قد ذكرنا أن الرسالة والإرسالَ بمعنى واحد. والرسول: المتحمِّل للرسالة إلى الأمة، فكلّ رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالرسول الذي يأتيه جبريل بالوحي من عند الله لإنذار الخَلْق. وأما من أوحي إليه في النام فليس برسول. وقد اجتمع أنواع الوحي في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، وكلها اجتمعت في نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (رَيْب) : شك. ومنه: (ارْتَا بُوا) . ومريب، (ورَيْبَ المنُون) : حوادث الدهر. فإن قلت: هَلّا قدم قوله تعالى: (لا رَيب فيه) ، كقوله تعالى (لا فيها غَوْل) ؟ فالجواب أنه إنما قصد نفي الرَّيب عنه، ولو قدم (فيه) لكان إشارةً إلى أن ثَمَّ كتاباً آخر فيه رَيْب، كما أن (لا فيها غَوْل) إشارة إلى أن خَمْر الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فيها غول. وهذا المعنى يبعد قَصْده، فلم يقدم الخبر، وإنما نفى الشك عنه أنه من عند الله في اعتقاد أهل الحق، وفي نفس الأمر. وأما اعتقاد أهل الباطل فلا عبرة وقد قيل: إنَّ خبر لا في قوله: (فيه) ، فيوقف عليه. وقيل خبرها محذوف فيوقف على لا رَيْب. والأول أرجح لتعيّنه في قوله: لا رَيْب فيه في مواضع أخر. (رَغَدا) : كثيرا واسعاً بلا غنى. (رَفَث) ،: نكاح. ويقال أيضاً للإفصاح بما يجب أن يكنى عنه مِنْ ذكر النكاح. ويقال أيضاً: للفحش من الكلام. (رَؤوف) : شديد الرحمة. (رَاسِخون في العلم) : هم الذين رسخ إيمانهم، وثبت، كما يرسخ النخل في منابته. (رَاعِنَا) : أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس، قال: راعنا - سبّ بلسان اليهود، وكان المسلمون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: راعنَا، وذلك من المراعاة، أي راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء. فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وما قصده اليهود، فالنَّهى سَدٌّ للذريعة. وأمروا أن يقولوا: (انْطرْنَا) ، لخلوِّه عن ذلك الاحتمال الملزوم، وهو من النظر، أو الانتظار. وقيل: إنما نهي المسلمون عنها لما فيه من الجفاء وقلة التوقير. (رَمْزا) : إشارة باليد أو بالرّأس أو غيرهما، فهو استثناء منقطع. قال ابن الجوزي في فنون الأفنان: من المعرّب. وقال الواسطي: هو تحريك الشفتين بالعبرانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 (رَبَّانِيِّين) : جمع ربانيّ، وهو العالم. وقيل الذي يربّ الناس بصغار العلم قبل كبره. قال الجواليقي: قال أبو عبيدة: العرب لا تعرف الربانيين، وإنما يعرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وأحسب الكلمة ليست بعربية، وإنما هي عبرانية أو سريانية. وجزم أبو القاسم بأنها سريانية. قال محمد ابن الحنفية حين مات ابن عباس: اليوم مات ربانيّ هذه الأمة. وقال أبو العباس ثعلب: إنما قيل للفقهاء ربّانيّون، لأنهم يربّون العلم، أي يقومون به. (رَابِطوا) : أقيموا في الثّغُورِ مُرَابطين، واربطوا خَيْلَكم مستعدين للجهاد. وقيل: هو مرابطة العبْد فيما بينه وبين الله تعالى، أي معاهدته على فعل الطاعات وترك المعصية. والأول أظهر وأشهر، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رِبَاط يَوْمٍ في سبيل الله خَيْرٌ من صيام شهرٍ وقيامه ". وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في انتظار الصلاة: فذلكم الرِّباط - فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لِعظَم أجْره. والمرابط عند الفقهاء: هو الذي يسكن الثغور ليرَابط فيها، وهي غَيْر موطنه. وأما سكناها دائماً للمعاش فليسوا بمرابطين، ولكنهم حماة. حكاه ابن عطية. وقال غيره: إذا سكن بأهْلِه بقَصْد إعفافه وقيامها بشؤونه فيعد منهم. وفضل الله أوْسع. (ربُّكم) : أي مرَبّيكم بالنعم. قال الطيبي بعد كلام نَقَله: الفرق بين قوله اعبدوا الله - وبين قوله: اعبدوا ربكم - أن في الثاني إيجاب العبادة بواسطة النعمة التي بها قوامهم، وفي: اعبدوا إيجاب عبادته لمراعاته عز وجل من غير واسطة، فحيث ذكر الناس بقوله: (يا أيها الناس) ذكر الربوبية، كقوله: يا أيها الناس اتَّقوا ربكم. وحيث ذكر الإيمان، بقوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله. (رَقِيباً) ، أي حافظا، وهو من أسماء الله. وإذا تحقَّقَ العَبْد بهذا الاسم العظيم وأمثاله استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شَرِيف، أصله علم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وحال، ثم يثمر حالين، أما العِلْم: فهو معرفة العبد بأن الله مطَّلع عليه، ناظِرٌ إليه، يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، وكلّ ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال. فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين الحياء من الله - وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي، والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند الْمقَرّبين المشاهدة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الإحسان أن تَعْبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، إشارة إلى الثمرة الثانية وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكاً عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة. وقوله: فإنْ لم تَكنْ تَرَاه فإنّه يَرَاك، إشارة إلى الثمرة الأولى. ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك، فإنه من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعْلَى رأى أن كثيراً من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر. واعْلَم أَنَ المراقبةَ لا تستَقِيم حتى تتقدَّم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة. فأما المشارطة: ففي اشتراطِ العَبْد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي. وأما المرابطة: فهي معاهدة العبد لربِّه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أَوَّلِ الأمر تكون المراقبة إلى الرب. وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإنْ وجد نفسه قد وفّى بما عاهد عليه الله حَمِد الله، وإنْ وجد نفسه قد حلّ عَقْد المشارطة، ونقض عقد المرابطة - عاقب النفس عقاباً بأن يزجرها عن العَوْدَة إلى مثل ذلك. ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، تم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون العبد مع ربه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 (رَبائبكم) : بنات نسائِكم من غيركم، الواحدة رَبِيبة. وسميت بذلك لأنّه يربّيها، فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة. (رَجْفة) : حركة الأرض، بمعنى الزلزلة الشديدة حيث وقعت، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صَيْحةً بين السماء والأرض، فمات منها قَوْم صالح. (رَحُبت) : أي ضاقت على كثرة اتساعها. (روع) : فَزع. (رَعْدا) : اسم ملك، وصَوْته المسموع تسبيح. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يُنْشيءُ السحابَ، فينطق أحْسنَ النطق، ويضحك أحسن الضحك، فمنطقه الرّعد، وضحكه التبسم ". وقد جاء في الأثر أن صوته زجر للسحاب، فعلى هذا يكون تسبيحه غير ذلك. وقال أهل اللغة: الرَّعْد: صوت السحاب. والبرق: نور وضِيَاء يصحبان السحاب. (رَابيا) : عالياً على الماء، ومنه الربْوَة. (رَدَّوا أَيْدِيَهم في أفواههم) : فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضمائر لقوم الرُّسل. والمعنى أنهم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم غَيْظاً على الرسل، كقوله تعالى: (عَضّوا عليكم الأناملَ مِنَ الغَيْظِ) ، واستهزاء وضحكاً، كمن غلبه الضحك، فوضع يده على فيه. الثاني: أن الضمائر لهم - والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم، إشارةً على الأنبياء بالسكوت./ @م والثالث: أنهم ردُّوا أيديهم في أفواه الأنبياء، تَسْكيتا لهم ودفْعاً لقولهم. (رَجِلِك) : جمع رَاجِل، وهو الذي يمشي على رجليه. لتقدم الخيل. وقيل: هو مجاز واستعارة، فهو بمعنى افعل جهدك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وقيل: إن له من الشيطان خَيْلاً ورجلاً. وقيل: المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر. (رَقِيم) : لوح كتب فيه خبر أهل الكهف، ونصبه على باب الكهف. وقيل: كتاب فيه شرعهم ودينهم. وقيل: هي القرية التي كانت بإزاء الكهف. وقيل: الجبل الذي فيه الكهف. وقيل: اسم كلبهم. قال الأصمعي: كنت لا أدري ما الرَّقيم حتى مررت بولد أعرابي، وهو يقول: يا أبت تعلق الرقِيم بالأديم، فطردته فتبارك الجبل، أي ارتفع. وقال ابن عباس: لا أدري ما الرَّقيم. (رَتْق) : مصدر وصف به، ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صَدعْ فيه ولا قبح. (ربَتْ) : ارتفعَتْ. (رحمةً للعالمين) : المراد به نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانتصاب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول. والمعنى على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الرحمة. ويحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال من ضمير الفاعل، تقديره أرسلناكَ راحماً للعالمين. أو يكون مفعولاً من أجله. والمعنى على كلِّ وَجْهٍ: أن الله رحم العالمين بإرسال هذا النبي الرحيم إليهم. لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيراتِ الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلَّمهم بعد الجهالة، وهداهم بعد الضلالة. فإن قلت: رحمة للعالمين عموم، والكفار لم يرحموا به؟. فالجواب من وجهين: أحدهما - أنهم كانوا معرَّضين للرحمة به لو آمنوا، فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها. والآخر - أنهم رُحموا به لكونهم لم يعاقَبوا بمثل ما عُوقب به الكفّار المتقدمون، من الطوفان والصيحة وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 (رَبْوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ ومَعِين) - بضم الراء وفتحها وكسرها: الأرض المرتفعة. والقرار المستوي من الأرض، فمعناه أنها بسيطة يتمكَّن فيها الحرث والغراسة. وقيل: القرار هنا الثمار والحبوب. والعين: الماء الجاري، فقيل: إنه مشتقّ من العين، فالميم زائدة ووزْنه مفعول. واختلف في موضع هذه الرّبْوة، فقيل، بيت القدس، وقيل: بغُوطة دمشق. وقيل: فلسطين. (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) : من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، مُشْتَقَّان من أسماء الله، وقد اشتق له من اسمه نحو السبعين اسماً، وهذه خصوصية له - صلى الله عليه وسلم -، كالكريم، والخير، والحق البين، والشا هد، والشهيد، والعظيم، والجبّار، والفاتح، والشكور، وغير ذلك مما يطول ذكرها. (رَكوبُهم) - بفتح الراء: هو الركوب. (رَسّ) : معدن، وكل ركيّة لم تُطْوَ فهي رَسّ. وفي العجائب للكرماني: أنه أعجمي، ومعناه البئر. (رَدِفَ لكم) : أي تبعكم، واللام زائدة، أو ضُمّن معنى قَرب، فتعدى باللام. ومعنى الآية: أنهم استَعْجَلوا العذاب بقولهم: متى هذا الوَعْد، فقيل لهم: عسى أن يكون قَرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون، وهو قتلهم يوم بَدْر. (رَمِيم) : بالية متفتّتة. (راغ إلى آلِهَتِهم) : أي مال إليها، فقال لهم: ألا تَأْكلون! على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام. فإن قلت: ما وَجْهُ دخولِ الفاء في آية الصافّات وحذفها من الذاريات؟ فالجواب: إنما أدخلها في الصافّات لأنها لم تتكرر، فقالها للأصنام على جهة التوقيف على الأكل والنطق والمخاطبة للأصنام، والقصدُ الاستهزاء بعابديها، إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 كانوا يتركون في بيوت الأصنام طعاماً، ويعتقدون أنها تصيب منه سيئا، ونحو هذا من المعتقدات الباطلة، ثم كان خدَمة البيت يأكلونه. وحذَفَها في الذاريات لتكررها قبله. ويحتمل أن تكون حثًا على الأكل، أو تكون الهمزة للإنكار دخلت على لا النافية. (روَاكدَ على ظَهْرِه) ، أي سواكِنَ. ومعناه لو أراد الله أن يسكن الرياح، أو تهديد بإسكانه. (رَهْوًا) ، أي ساكناً على هيئته بالسريانية. وقيل: يابساً. وروي أن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه فانْفَلق، فقال الله له: اتركه كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا. وقيل: معنى (رَهْوًا) سهلاً. وقيل: منفرجاً. وروي أن الله أوحى إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات يضطرب من خَوْفِ الله وفرحاً بخطابه، وأنتَ يا عبد الله خاطبك بكلامه. وأكرمك بأمْرِه ولا تمتثل! بئس العبد، ولنعم الرب! (رَقٍّ مَنْشور) : الصحائف التي تخرج إلى بني آدم يوم القيامة. والرّقّ في اللغة: الصحيفة. وخصّصت في العُرْف بما كان من جِلْد. والنشور: خلاف الْمَطْوِي. (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) : مشرقي الصيف والشتاء ومغربيها. وقيل مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. (رَوْح ورَيْحان) : الروح الاستراحة، وقيل الرحمة. وروي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: فروحٌ - بضم الراء، ومعناه الرحمة. وقيل: الخلود، أي بقاء الروح. وأما الريحان فقيل: إنه الرزق. وقيل: الاستراحة. وقيل: الطيب. وقيل، الريحان المعروف في الدنيا يلقاه المؤمن في الجنة. وهو قوله: (رَوْح وريحان) ضَرْب من ضروب التجنيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 (رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) ، أي بيّنْه وتمهّل في قراءته بالمدِّ وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن. بخلاف الهذّ الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقطع في قراءته حرفاً حرفاً ولا يمر بآية رحمة إلاَّ وقف وسأل، ولا بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ. وقام بآية من القرآن ليلة: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا) . وكان يصعق لبعض الآيات. وقد أفرد الناس في آداب تلاوته تواليف كالنّووي والغزالي وغيرهما. وسنذكر منها الإشارة إلى بعضها: أخرج من حديث عبيدة المالكي مرفوعاً وموقوفاً: يا أهل القرآن لا تتوسَّدُوا القرآن، واتلُوه حقَّ تلاوته آناء الليل والنهار، وأَفْشُوه وتدبَروا ما فيه لعلكم تفلحون. وقد كان للسلف في قَدْر القراءة عاداتٌ، فأكثر ما ورد في قراءة القرآن مَنْ كان يختم في اليوم والليلة ثمان مرات، أربعاً في الليل، وأربعا في النهار. ويليه مَنْ كان يختم في اليوم والليلة أربعاً، ويليه ثلاثاً، ويليه ختمتين، ويليه ختمة. ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من كان يختم في كل ثلاث، وهو حَسَن. وكره جماعة الختم في أقل من ذلك، لما روى أبو داود والتِّرمذي - وصحّحه، من حديث عبد اللَه بن عمر - مرفوعاً: لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث. ويليه من ختم في أرْبع، ثم في خمس، ثم في ست، ثم في سبْع، وهذا أوسطُ الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم. ويلي ذلك مَنْ ختم في ثمان، ثم في عشرة، ثم في شهر، ثم في شهرين. أخرج ابن أبي داوود، عن مكحول، قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأون القرآن في سبع. وبعضهم في شَهْرٍ. وبعضهم في شهرين. وبعضهم في أكثر من ذلك. وقال أبو الليث - في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرَّتيْن إن لم يقدر على الزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرَّتْين فقد أدَّى حقَّه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين. وقال غيره: يُكْرَه تأخير خَتْمِه أكثر من أربعين يوماً بلا عذْر. وقال النووي في الأذكار: المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص. فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقْتَصِرْ على قَدْرٍ يحصل له كمالُ فَهْم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولاً بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله. وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حَدّ الملل أو الهذْرَمة في القراءة. ونِسْيَانُه من أَعْظَمِ الذنوب، كما صحَّ: عرِضت عليَّ ذنوبُ أمتي فلم أرَ ذَنْبًا أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجلٌ فنسيها. ويستحب الوضوء لقراءته. وإذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حتى يستتم خروجها. وكذلك إن كان يكتبه. ويطيِّب فمه ما أمكنه، ويجلس مستقبلاً متخشّعاً خائفاً وَجِلاً، مطرقاً رأسه حياء ممنْ هو يخاطبه. ويتعوَّذ باللهِ من الشيطان الرجيم. وليحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة. ولا يحتاج إلى نيّة إلا إذا نذرها خارج الصلاة، فلا بد من نية الفرض أو النذْر. وقال في شرح المهذب: واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، قالوا: وقراءة جُزْءٍ بترتيل أَفضل من قراءة جزءين في قَدْرِ ذلك الزمان بلا ترتيل. وفي النشر: اختلف هل الأفضل الترتيل، وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها، وأحسنَ بعض أئمتنا فقال: إن ثوابَ قراءة الترتيل أجلّ قدراً، وثواب الكثرة أكثر عدداً، لأن بكل حرف عشر حسنات. ويستحبّ البكاء عند تلاوته، والتباكي لمن لا يقدر عليه، والحزن والخشوع، قال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 ويستحب تحسينُ الصّوْت بالقراءة، للحديث: زَيِّنوا أصواتكم بالقرآن. وأما القراءة بالألحان المطربة بحيث ألا يفرط في المدّ وفي إشباع الحركات حتى يتولَّد من الفتحة ألف، ومن الضمة واو، ومن الكسرة ياء، ويدغم في غير موضع الإدغام - فلا بأس. وإن انتهى إلى هذا الحدّ فحرامٌ يفسقُ به القارئ. ويَأْثَم به المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم. ولا بَأْسَ باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بإدارتها، وهي أن يقرأ بعضُ الجماعة قطعةً ثم البعض قطعةً بعدها. وتستحَبّ قراءته بالتفخيم، لحديث الحاكم: نزلَ القرآن بالتفخيم. قال الحليمي: ومعناه أن يقرأه على قراءة الرجال، ولا يُخْضِع الصوت فيه ككلام النساء. قال: ولا يدخل في هذا كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء. وقد يجوز أن يكون نزل القرآن بالتفخيم، فيرخص مع ذلك في إمالة ما تحسن إمالته. ووردت أحاديثُ باستحباب رَفْعِ الصوت بالقراءة، وأحاديث تقْتَضِي الإسرار وخَفْض الصوت. وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن الْمسِرَّ قد يملّ فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكلّ فيستريح با لإسرار. والقراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه، لأنه أبْعَد من الرياء. وأجمع للفكر، والنظر فيه عبادة مطلوبة. قال النَّوَوِي: ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص فيُختار القراءة فيه لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة فيه ومن الحفظ. ويختار القراءة من الحفظ لمن يكمل بذلك خشوعه، ويزيد على خشوعه وتدبّره لو قرأ من المصحف - لكان هذا قولاً حسناً. وإذا أرْتج على القارئ فلم يَدْرِ ما بعد الموضع الذي انتهى إليه، وسأل عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 غيره، فينبغي أن يتأدب بما جاء عن ابن مسعود والنخعي وبشير بن أبي مسعود، قالوا: إذا سأل أحَدُكم أخاه عن آية فليقرأْ ما قبلها ثم يسكت، ولا يقول: كيف كذا وكذا، فإنه يلبّس عليه. وقال مجاهد: إذا شك القارئ في حَرْفٍ، هل هو بالتاء أو - بالياء فليقرأه بالياء، فإن القرآن مذكّر. وإن شكَّ في حرف هل هو مهموز أو غير مهموز فليترك الهمز. وإن شك في حَرْفٍ هل يكون موصولاً أو مقطوعاً فليقرأه بالوصل. وإن شك في حَرْفٍ هل هو ممدود أو مقصور فليقرأه بالقصر. وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور فليقرأه بالفتح، لأن الأول غير لَحْن في بعض المواضع، والثاني لحن في بعض المواضع. ويكره قطعُ القراءة لمكالة أحد. قال الحليميّ: لأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره. وأيّدَه البيهقي بما في الصحيح: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغَ منه. ويكره أيضاً: الضحك، والعبَث، والنظرُ إلى ما يُلْهي. ولا تجوز قراءته بالعجميّة مطلقاً، سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة أو خارجها. وعن أبي حنيفة أنه يجوز مطلقا، لكن في شرح البرذدويّ أنَّ أبا حنيفة رجع عن ذلك. ووجه الْمَنْعِ أنه يُذهب إعجازه المقصودَ منه. وعن القفّال من أصحابنا: أن القراءة بالفارسية لا تتَصَوَّر. قيل له: فإذَنْ لا يقدر أحَذ أنْ يفسّر القرآن. قال: ليس كذلك، لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مرادِ الله، ويعجز عن البعض. أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مرَاد الله. لأنّ الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، وذلك غَيْر ممكن، بخلاف التفسير. والأوْلى أن يقرأ على ترتيب المصحف، لأنه لحكمة فلا يتركها. فلو فَرَّق السور أو عكسها جاز، وترك الأفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وقال في شرح المهذب: وأما قراءة السّوَر مِنْ آخرها إلى أولها فمتَّفَقٌ على منْعِه، لأنه يذهب ببعض نَوْعِ الإعجاز، ويزيل حكمةَ الترتيب. وأخرج الطبراني بسند جيّد عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً. قال: ذلك منكوس القَلْب. وأما خَلْط سورة بسورة فعن الحليميّ: تَرْكه من الآداب، لما أخرجه أبو عبيد عن سعيد بن المسيَّب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ ببلال وهو يقرأ القرآن من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: ما هذا، قال: أخْلِط الطيب بالطيب. فقال: اقرأ القراءة على وجهها، أو نحوها. مرْسل صحيح. وأخرج عن ابن مسعود، قال: إذا ابتدأت في سورة فأردتَ أن تتحوّل منها إلى غيرها فتحوَّل إلى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. فإذا ابتدأت فيها فلا تتحول منها حتى تختمها. ونقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة. قال البيهقي: وأحسن ما يحتجُّ به أن يُقال: إنَّ هذا التأليف لكتاب اللَه مأخوذٌ من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذَه عن جبريل، فالأولى بالقارئ انْ يقرأه على التأليف المنقول. وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خَيْرٌ من تأليفكم. قال الحليمي: ويستحبُّ استيفاءُ كلِّ حرف أثبته قارئ ليكون قد أتى على جميع ما هو قرآن. قال ابن الصلاح والنووي: إذا ابتدئ بقراءة أحد من القُرّاء فينبغي ألاَّ يزال على تلك القراءة ما دام الكام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فَلَه أن يقرأ بقراءة آخر. والأولى دوامه على هذا في هذا المجلس. وقال غيرهما بالمنع مطلقا. قال ابن الجزري: والصواب أن يقال: إن كانت إحدى القراءتين مرتبة على الأخرى منع ذلك مَنْع تحريم، كمن يقرأ فتلَقَّى آدم من ربه كلمات. برفعهما أو بنصبهما، أخذ رفع آدم من قراءة ابن كثير، ورفْع كلمات من قراءته، ونحو ذلك مما لا يجوز في العربية واللغة. وما لم يكن كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 فرق فيه بين مقام الرواية وغيرها، فإن كان على سبيل الرواية حرم أيضاً، لأنه كذِبٌ في الرواية وتخليط. وإن كان على سبيل التلاوة جاز. وأفضل القراءة ما كان في الصلاة ثم الليل ثم نصفه الأخير، وما بين المغرب والعشاء محبوبة لفراغ القَلْبِ من أشغال الدنيا. وأفْضَل النهار بعد الصبح. ولا تُكْرَهُ في شيء من الأَوْقَات. وأفضلُ الذكر القرآن إلا فيما شرع فيه من الأذكار، كأذكار الليل والنهار. وعند الأكل والشرب، ودخول المنزل والمسجد، وغير ذلك. وأما ما رواه ابن أبي داود عن مُعَان بن رفاعة، عن مشايخه أنهم كرهوا القراءة بعد العصر، وقالوا: هو دراسة يهود، فَغَيْرُ مقبول، ولا أصل له. ويُخْتار من الأيام يوم عرفة ثم الجمعة ثم الإثنين والخميس، ومن الأعشار العشر الأخير من رمضان، والأول من ذي الحجة. ومن الشهور رمضان. ويُختار لابتدائه يوم الجمعة وليلتها. ولختمه يوم الخميس أو ليلته. والأفضل الختم أول النهار أَوْ أَوَّل الليل، لما رواه الدارمي بسند حسن عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: إذا وافق ختْم القرآن أول الليل صلّت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه آخر الليل صلَّت عليه الملائكة حتى يُمْسِي. قال في الإحياء: ويكون الختم أول النهار في ركعتي الفجر، وأول الليل في ركعتي سنّة المغرب للوقت المبارك. ويستحبّ الختم في الشتاء أول الليل. وفي الصيف أول النهار. ويستحبّ صَوْم يوم الختم وإحضار أهله وولِده وأصدقائه ودعائه لهم لأنه مستجاب، كما صح. وأخرج عن مجاهد، قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، ويقولون عنده تنزل الرحمة. ويستحب التكبير من الضحى إلى آخر القرآن. قال الحليميّ: ونكتته التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدّته يكبّر، فكذا هنا يكبّر إذا أكمل عدّة السور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 قال: وصفته أن يَقِفَ بعد كلّ سورة وقفةً ويقول: الله أكبر، وكذا قال سليم الرازي من أصحابنا في تفسيره: يكبِّر بين كل سورتين، ولا يصل آخر السورة بالتكبير، بل يفصل بينهما بسكتة. قال: ومَنْ لا يُكَبِّر من القراء خجتهم أن في ذلك ذريعةً إلى الزيادة في القرآن، بأن يدَاوِمَ عليه فَيتَوَهّم أنه منه. وإذا فرغ من الختمة يشرع في أخرى لحديث الترمذي وغيره: أحبُّ الأعمال إلى الله الحالُّ المرتحل، الذي يقرأ من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل. ومنع الإمام أحمد تكرير سورة الإخلاص عند الختم، لكن عمل الناس على خلافه. قال بعضهم: الحكمة فيه ما ورد أنها تعدل ثلث القرآن، فيحصل بذلك ختمة. فإن قيل: فكان ينبغي أن يقرأ أَربعاً، لتحصل ختْمتان. قلنا: المقصود أن يكَون على يقين من حصول ختمة، إمّا التي قرأها، وإمّا التي حصل ثوابها بتكرير السورة. قلت: وحاصِل ذلك يرجع إلى جبر ما لعلَّه حصل في القراءة من خلَل. وكما قاس الحليمي التكبير عند الختم على التكبير عند إكمال رمضان، فينبغي أن يقَاس تكريره سورة الإخلاص على إتْبَاع رمضان بستّ من شوال. ويكره اتخاذ القرآن معيشة يتكسَّب بها، للحديث: مَنْ قرأ القرآن فليسأل اللَه، فإنه سيأتي قومٌ يقرأون القرآن يسألون الناس به. وروى البخاري في تاريخه الكبير بسنَدٍ صالح حديث: من قرأ القرآن عند ظالم ليرفع منه لعِنَ بكل حَرْفٍ عشر لعنات. ويكره أن يقول نسيت آية كذا، بل أنسيتها، للحديث الصحيح في النهي عن ذلك. والأئمة الثلاثة عَلَى وصولِ ثَوَاب القراءة للميِّت. ومذهبنا خلافه، للآية: (وأنْ لَيْس للإنسانِ إلاَّ مَا سَعَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقد طوَّلنا الكلام هنا فلنرجع إلى المقصود لأن هذا الكتاب لا يسع ذلك. وقد أودعنا أكثره في كتابنا الإتقان في علوم القرآن. (رَاق) : صاحب رقْية، يعني قال أهل المريض مَنْ يرقيه حتى يشفيه الله. وقيل إن الملائكة تقول: من يرقى ب روح ه حتى يصعد بها إلى السماء، فالأولى من الرقية وهو أشهر، والثاني مِن الرقي إلى العلو. (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) . قيل الراجفة النفخة الأولى في الصّور. والرادفة النّفْخة الثانية، لأنها تتبعها، ولذلك سماها رادفة، من قولك: ردفت الشيء إذا تبعته. وفي الحديث: أن بينهما أربعين يوماً. وقيل الراجفة الموت، والرادفة القيامة. وقيل الراجفة الأرض، من قولك ترجف الأرض والجبال. والرادفة السماء، لأنها تنشقُّ يومئذ. والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر، تقديره لتبعثنّ يَوْمَ ترجف الراجفة، وإنْ جَعَلْنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى قوله: (قلوبٌ يومئذ واجفة) ، ويكون تتبعها الرادفة في موضع الحال. ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها. (رَانَ على قلوبهم) ، أي غلب على قلوبهم كسْبُ الذنوب، كما ترين الخمر على عَقْل السكران. والضمير راجعٌ على من يكسب السيئات، يطمس اللَّهُ بصائرهم حتى لا يعرفون الرشد من الغيّ، لأن المعاصي بريد الكفر. وفي الحديث: إنَّ العَبْدَ إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه، فإذا زاد ذنباً آخر زاد السوَاد، فلا يزال كذلك حتى يتغطّى، وهو الرّين. (رَحِيق) ، خالصٌ من الشراب. وقيل العتيق منه. (رحمة) وردت على أوجه: الإسلام: (يختَصّ برحمته مَنْ يشاء) . والإيمان: (وآتانِي رحمةً من عنده) . والجنة: (ففي رَحْمَةِ الله هم فيها خالدون) . والمطر: (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 والنعمة: (ولولا فَضْل الله عليكم ورحمته) . والرزق: (خزائن رحمة رَبّي) . والنصر والفتح: (إنْ أرَادَ بكمْ سوءاً أو أراد بكم رحمة) . والعافية: (أو أرَادَني برحْمَة) . والمودّة: (رأفة ورحمة) . والمغفرة: (كَتَب على نفسه الرحمةَ) . والعصمة: (لا عاصمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ إلّا مَنْ رَحِم) . (روح) : ورد على أوجه: الأمر: (وروح منه) . والوحي: (ينزل الملائكة بالرّوح) . والقرآن: (أوْحَيْنَا إليكَ روحاً من أمرنا) . والرحمة: (وأيّدهم بروح منه) . والحياة: (فَروح ورَيْحان) . وجبريل: (فأرْسَلْنَا زوحنا) . (نزل به الرّوح الأمين) . وملك عظيم: (يوم يقوم الرُّوحُ) . وجنْس من الملائكة: (تنزَّل الملائكة والروح فيها) . وروح البدن: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ، أي من علم ربي لا نَعْلَمه نحن ولا أنتم، لأنه من الأمور التي استأئر الله بها، ولم يطلِعْ عليها خلْقَه، وكانت اليهود قد قالت لقريش: سَلوه عن الروح فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبيٌّ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمها. وقال ابن بريدة: لقد مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف الروح، ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح حتى أنهوه إلى خمسمائة قول، وليس فيها ما يعوَّل عليه. (رُكْبَان) : جمع راكب، أي صلُّوا كيف ما كنتم ركوباً أو غيره، وذلك في صلاة المسايفة، ولا ينقص فيها عن ركعتين في السفر وأربع في الحضَر. (رُحَماء بَيْنهم) : وصفٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه من أصحابه. واختار ابن عطية أن يكون الوصف بالشدّةِ والرحمة مختصًّا بالصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أخصه بالوصف بذلك، لأن الله تعالى قال فيه: (بالمؤمنين رءوف رحيم) . وقال له: (جاهِدِ الكفَّارَ والمنافقين واغلُظْ عليهم) ، فهذا هو الوصف على الكفار والرحمة بالمؤمنين. وهذه الآية كقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) . (ركام) : بعضهم على بعض. (رُفَاتا) : هو الذي بلي، حتى صار غُباراً. ومعنى الآية إنكارهم للبَعْثِ، واستبعادهم أن يخلقهم الله خلقاً جديداً بعد فنائهم. (رَجْماً بالغَيْب) ، أي ظنًّا، وهو مستعارٌ من الرّجْم بمعنى الرمي. ومعنى الآية أن اليهود وغيرهم ممن تكلّم في أصحاب الكهف اختلفوا في عددهم كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأنهم ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وهم من أهل الكتاب. وقال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، لأنه قال في الثلاثة والخمسة رجماً بالغيب، ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم. قال الزمخشري: وفائدتها التوكيد والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنَتْ بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدّقوا وأخبروا بحق، بخلاف الذين قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، والذين قالوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال ابن عطية: دخلت الواو في آخر إخْبَارٍ عن عددهم، لتَدل أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. (روم) : اسم عجمي لهذا الجيل من الناس، قاله الجواليقي: وسمِّيَتْ باسم جدهم، وهو روم بن عيْصو بن إسحاق بن إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 (رُخَاءً) : يعني ليّنة طيبة. وقيل مطيعة له، وحيث أصاب: أي قصد وأراد. فإن قلت: قد وصفها في الأنبياء، أنها عاصفة، أي شديدة بالجمع؟ فالجواب: أنها كانت في نفسها ليّنة طيّبة، وكانت تسْرع في جريها كالعاصف، فجمعت الوصفين. وقيل: كانت رخاءً في ذهابه وعاصفة في رجوعه إلى وطنه، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع. وقيل: كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته. ومعنى الأرض التي باركنا فيها أرض الشام، وكانت مسكنه وموضع ملكه. فخص في الآية الرجوع إليها لِيَدلَّ على الانتقال منها، فمن يقدر على وصف هذا الملك التي كانت الريح مركبه والإنس والجن جنوده، والطير معِينة ومحدّثه، والوحش مسخرة، والملائكة رسوله، وكان له ميدان لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وكان عسكره مائة فرسخ، وكان منزله شهراً، وكانت الجن نسجت له بساطاً من ذهب وفضة فيها اثنا عشر ألف محراب، في كل محراب كرسيّ من ذهب وفضة، على كل كرسيّ عالم من علماء بني إسرائيل، ومع ذلك لم يشغله هذا الملك عن عبادة مولاه، ولذا قال له: (هذا عطاؤنا فامْننْ أو أمْسِك بغير حساب) . (رُجَّتِ الْأَرْضُ) : زلزلت وحرِّكَتْ تحريكاً شديداً، وذلك يوم القيامة. (رُجْعَى) : أي مرجعا، وهذا تهديد لأبي جهل وأمثاله. (رِبا) : هو في اللغة الزيادة، ومنه: (يُرْبي الصدقاتِ) . واستعمل في الشرع في بيوعات ممنوعة أكثرها راجعةٌ إلى الزيادة، فإن غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم أتَقْضِي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال ويَجْبر الطالب عليه. ثم إن الرِّبا على نوعين: ربا النَّسِيئة وربا التفاضل، وكلاهما يكون في الذهب والفضة، وفي الطعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 فأما النسيئة فَتحْرم في بَيْعِ الذهب بالذهب، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف. وفي بيع الطعام بالطعام مطلقا. وأمَّا التفاضل فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنْسه من النقدين ومن الطعام. ومذهب إمامنا أنه يحرم في كل طعام. ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في المقْتَات المدَّخر من الطعام. ومذهب أبي حنيفة أنه محرم في المكيل والموزون من الطعام وغيره. (رِبِّيّون) : جماعات كثيرة. وقيل علماء مثل ربّانيين. وذكر أبو حاتم أحمد بن حمدان اللغوي في كتاب الزّينة أنها سريانية. (رِيشا) : واحده رياثس، وهو ما ظهر من اللباس، مستعار من ريش الطير. والرياش أيضاً: الخصب والمعاش. (رِجْز) : عذاب، كقوله: (فلما كشَفْنَا عنهم الرجْزَ) ، أي العذاب، وكانوا مهما نزل بهم أمر من الأمور المذكورة عاهدوا موسَى على أن يؤْمنوا به إن كشفَه الله عنهم، فلما كشفه عنهم نَقَضوا العهد، وتمادوا على كفْرهم. ورجز الشيطان لطخه وما يدعو إليه من الكفر، وسميت الأصنام رجْزاً في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، لأنها سبب الرجز، أي سبب العذاب. وقرئ بضم الراء وكسرها. ويبْدَل الزَّاي سيناً ومعناهما واحد، كقوله تعالى: (فَزَادَتْهمْ رِجْساً إلى رِجسهم) ، أي كفْركم إلى كفرهم، فيتجدَّد عليهم العذاب بسبب كفرهم. وأما قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) ، فهو تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غَزْوَة بَدْر قبل وصولهم إليها - وقيل بعد وصولهم - فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأوْدِية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر به وتوضأ سائرهم، وكانوا قبله ليس عندهم ماءٌ للطّهور ولا للوضوء. وكان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَسْوَسةً بسبب عدمهم للماء، فقالوا: " نحن أولياء اللهِ وفينا رسوله "، فكيف نَبْقَى بلا ماءٍ، فأنزل الله المطر وأزال عنهم وسوسة الشيطان. (رِفد) : يرَادُ به العطاء، والعَوْن، ومنه قوله: (بئس الرِّفدُ الْمَرْفُود) ، أي العطيّة المعْطاة. ويُقَال: بئس عون المعان رضوا به. قد قدمنا أن الرضا من الله هو إرادة تنعيم المؤمنين وثوابهم وإيصال النفع لهم، وسخطه إرادة العقاب لأعدائه وإضرارهم. (رِئْياً) : بهمزة ساكنة قبل الياء. ما رأيت عليه من شارة وهَيْئة، وبغير همز بمعناه أيضا. ويجوز أن يكون من الرئي، أي منظرهم مرئيّ من النعمة. وقرئ: زيًّا - بالزاي - يعني هيئة ومنظراً. (رِكْزا) : صوت خَفِيّ. والمعنى أنهم لم يبق منهم أثر. وفي ذلك تهديد لقريش. (رِيع) : المرتفع من الأرض. وقيل: الطريق، وجمعه أرْياع وريعي. (رِعَاء) : جمع راع. (رِدْءا) ، بغير همز وبهمز على التسهيل من المهموز، بمعنى مُعِيناً، أو يكون من أرديت، أي زدت. (رِزْقَكم أنكم تكَذِّبُون) : قد قدمنا أنها توبيخ للقائلين مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا، فجعلوا شكر الرزق التكذيب. (ركاب) : إبل، ومنه قوله تعالى: (فما أوْجفْتُم عليهِ مِنْ خَيْل ولا رِكاب) . (رُحْم) : جمع رحم، وهو فرج المرأة، ويستعمل أيضاً في القرابة. (رُوَيْد) : اسم لا يتكلم به إلا مصغَّراً مأموراً به، تصغير رود، وهو المهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 (رُبَّ) : حرف في معناها ثمانية أقوال: أحدها: أنها للتقليل دائماً، وعليه الأكثرون. الثاني: للتكثير دائماً، كقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ، فإنهم يكثر منهم تَمنّيِ ذلك. وقال الأولون: هم مشغولون بغمرات الأهوال فلا يفيقون بحيث يتمنّوْنَ ذلك إلا قليلا. الثالث: أنها لهما على السواء. الرابع: للتعليل غالبا والتكثير نادراً، وهو اختياري. الخامس: عكسه. السادس: لم توضع لواحد منهما، بل هي حرف إثبات لا يدل على تقليل ولا تكثير، وإنما يفعل ذلك من خارج. السابع: للتكثير في موضع المباهاة والافتخار. وللتقليل فيما عداه. الثامن: لمبْهَمِ العدد تكون تقليلاً وتكثيراً، وتدخل عليهما فتكفّهما عن عمل الجرّ. وتدخل على الجمل، والغالب حينئذ دخولها على الفعلية - الماضي فعلها لفظاً ومعنى، ومن دخولها على المستقبل الآية السابقة. وقيل: إنه على حدّ (ونُفِخَ في الصّورِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 (حرف الزاي المعجمة) (زكرياء) : كان مِنْ ذرّيَّةِ سليمان بن داود عليهما السلام، وقتل بعد قَتْلِ ولده يحيى، وذلك أنه هرب من اليهود، فقفوا أثره، فلما دَنوْا منه رأى شجرةَ فقال لها: اكتميني، فانشقت الشجرة، فدخل فيها، ثم التأمت عليه فجاءوا فلم يجدوه، فقال لهم إبليس: هو في هذه الشجرة فأتَوْا بِمِنْشَارٍ وشقّوها على نصفين، فلما بلغ النشار إلى أمِّ رَأْسِه صاح وتأوّه، فتزلزل الملكوت فنزل عليه جبريل، وقال: يا زكرياء، إنَّ الله تعالى يقول لك: لئن قلْتَ آه مرةً أخرى لأمْحونّك من ديوان الأنبياء، فعضَّ زكرياء على شفتيه حتى شقّوه بنصفين (1) . فليتأمل العاقِل هذا التهديد والوعيد الهائل مع أنبيائه وأصفيائه، فكيف بنا الذين عميت بصائرنا، وأظلمت سرائرنا، وليعلم أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. قال أبو يزيد البسطامي: كنت أمشي في البادية فرأيت أربعين شابًّا من أصحاب الطريقة ماتوا عطاشاً جياعاً. فقلت: إلهي، كم تقتل الأحباب، وكم تريق دم الأصحاب، فسمِعْت قائلاً يقول: يا أبا يزيد، اقتل النفس، وأعط ديتها. فقلت: ما دية هؤلاء، فسمعت هاتفاً يقول: دية مقتول الخلق الدنيا، ودية مَقْتول الحقّ رؤية الجبَّار. وروي أنَ يحيى بن معاذ الرازي ناجى ربه في ليلة. فقال: إلهي، إن طلبتك أتعبتني، وإن هربت منك أحرقتني، وإن أحببتك قتلتني، فلا منك فرار، ولا عنك قرار.   (1) من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وكان لزكرياء - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بُشَر بولده اثنان وسبعون سنة. وقيل: تسع وتسعون سنة. وقيل: مائة وعشرون. وزكياء اسم أعجمي، وفيه خمس لغات: أشهرها المد. والثانية القَصْر، وقرئ بهما في السبع. وزكريا - بتشديد الياء وتخفيفها. وزكَر - كقلَم. (زَكى، وَزَكاة) : طهارة ونماء أيضاً. وإنما قيل لما يجب في الأموال صدقة، لأنها تطهّر الأموال مما يكون فيها من الإثم والحرام إذا لم يؤدَّ حقّ الله منها، وتنميها وتزيد فيها بالبركة، وتقيها من الآفات. وتأتي بمعنى الثناء. ومنه قوله: (وحَنَاناً مِنْ لَدنّا وزَكاةً) ، كما يزكى الشاهد. وزكا هو - مخففاً: أي صار زكياً. (زَيْغ) : ميل حيثما وقع. ومنه: (وأمَّا الذين في قلوبهم زَيْغ) ، ونزلت في نصارى نَجْران، فإنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه، قال: نعم. قال: فَحَسْبنَا إذاً، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه. وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي. ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مُبْتَدع أو جاهل يَتْبَعُ المتشابه من القرآن. (زَبور) : فعول بمعنى مفعول، من زبرت الكتاب، أي كتبته. والزبور الذي أعطيه داود عليه السلام، وهو من الكتب المنَزَّلة على الأنبياء، وعددها مائة وأربعة. وقيل وأربعة عشر. (زَحْفاً) : حال من الذين كفروا، أو من الفاعل في لقيتم. ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص. وأصل الزحف الاندفاع. (زَيَّلْنَا بينهم) : فَرَّقْنا. (زَفِير) : إخراج النفس من الصدر، وهو أول نهيق الحمار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 (زَعِيم) : بمعنى كفيل وضامن وحميل وصبير، وهذا من كلام المنادي الذي جعل لهم حِمْل بعير لمن ردَّ الصَّاعَ. (زَهَق الباطل) : ذهابه. ومن هذا زهوق النفس، وهو بطلانها. والمعنى أن الإيمان يُبْطِل الكُفْو. (زللا) : هو الذي لا يثبت القدم عليه، يعني أنه لا تثبت أشجاره ونباته. (زاكية) : ليس له ذنب لعدم بلوغه. وقيل: إنه بلغ، ولكنه لم ير له ذنباً. وقرئ (زكيَّة) . قال أبو عمرو: الصواب زكية في الحال، وزَاكية في غد، والاختيار زكِيت. مثل ميت ومائت، ومريض ومارض، وقوله: (ما زَكَى منكم من أحد) . أي لم يكن زاكياً. (زَهْرةَ الحياة الدّنيا) : بالفتح والزاي والهاء: نَوْرُ النبات. وبضم الزاي وفتح الهاء: النجم. وبنو زهرة بتسكين الهاء. وشبَّه نعم الدنيا بالزهرة، لأن الزَّهْرَ له منظر حسن - ثم يضمحلّ. وفي نَصْب زهرة خمسة أوجه: أن ينتصب بفعل مضمر على الذّم، أو يضمَّن متّعنا معنى أعطينا، ويكون زهرة مفعول ثان له، أو يكون بدلاً من موضع الجار والمجرور، أو يكون بدلاً من أزواج على تقدير ذوي زهرة، أو ينتصب على الحال. (زَجْرة واحدة) : قدمنا أن الزجرة معناها الصيحة بشدة وانتهار. وأما قوله: (فالزَّاجِرَات زَجْراً) - فمعناها الملائكة تزجر السحب وغيرها. وقيل الزاجرون بالواعظ من بني آدم. وقيل: هي آيات القرآن المتضمنة الزجر عن المعاصي. والمراد هنا النَّفْخ في الصّور للقيام من القبور. (زَوَّجْنَاهم) : قرنَّاهم بالحور، وليس في الجنة تزويج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 كتزويج الدنيا، وإنما هو القارنة بين الرجل والمرأة، والصاحب والصاحبة. وقد يأتي بمعنى الصنف والنوع، كقوله تعالى: (ثمانية أزواج) . (أزواجاً من نبات شتّى) . (من كل زَوْجٍ كَرِيم) . (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) ، يعني أصناف المخلوقات، ثم فسرها بقوله: مما تنْبِت الأرْض ومن أنفسهم ومما لا يعملون. (من) في المواضع الثلاثة للبيان. (زنيم) : معلّق بالقوم وليس منهم. وقيل: هو ولد الزِّنى. وقيل: هو الذي في عنقه زَنَمة الشاة التي تعلَّق في حلقها. وقيل: معناه مريب قبيح الأفعال، وقيل: ظلوم. واختلف من الموصوف بهذه الصفة الذميمة، فقيل: لم يقصد بها شخص معيّن، بل كل من اتصَف بها. وقيل: المقصود بها الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بأنه (ذو مال وبنين) ، وكان كذلك. وقيل أبو جهل. وقيل الأخنس بن شريق. ويؤيد هذا أنه كانت له زَنَمة في عنقه. قال ابن عباس: عرفناه بزنمته، وكان أيضاً من ثقيف. ويعَدّ في بني زهرة فيصح وصفه بِزَنيم على القولين. وقيل: الأسود بن عبد يغوث. (زَنْجَبيل) : معروف. والعرب تذكره في أشعارها، وتستطيب برائحته. وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسيّ. (زَرَابي) : بسط فاخرة. وقيل: الطنافس، واحدها زَرْبِيَّة. (زَبانِية) : واحدهم زبْنِيّ، مأخوذ من الزّبْن، وهو الدَّفْع. كأنهم يدفعون أهل النار إليها. ونزلت الآيَة بسبب قول أبي جهل: أيتوعد محمد، فوالله ما بالوادي أعظم زَبْناً مني. فنزلت الآية، تهديداً وتعجيزاً له. والمعنى فلْيَدعُ أَهْلَ نادِيه لنصْرَته إن قدروا على ذلك، ثم أوْعد بأن يدعو له زبانية جهنم، وهم من الملائكة الموكَّلون بالعذاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً. (زلزلوا) ، بالتخويف والشدة. والآية خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد، أي لا تدخلون الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من قَبْلكم من الأمم. (زحْزح عن النار) : أي أبعد عنها. (زُخْرفَ القَوْل) : أي ما يُزَيِّنه من القول والباطل. والزخرف أيضاً الذهب. ومنه قوله تعالى: (أوْ يكون لك بَيْتٌ مِنْ زخْزفٍ) . (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا) . وأما قوله تعالى (أخَذَتِ الأرْض زخْزفَها وازَّينَتْ) - فهو تمثيل للعروس إذا زيِّنَتْ بالثّياب والحلي، تزف إلى زَوْجها فلا يصلحها، كذلك الدنيا إذا ظن أهلها أنهم متمكنون من الانتفاع بها أتتْها بعض الجوائح، كالريح والصِّر، وغير ذلك (زلَفاً من الليل) : المراد به المغرب والعشاء. وزلف الليل ساعاته، واحدها زلْفة. (زبرَ الحديد) : واحدتها زُبْرة. (زلْفَى) : قرْبى، فهو مصدر من يُقرِّبونا، أي يقول الكفار ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقَرِّبونَا إلى الله ويشفعوا لنا عنده. ويعني بذلك الكفَّار الذين عَبَدوا الملائكة أو الأصنام أو عيسى أو عُزيراً، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. (زمرا) ، في الموضعين جمع زمرة، وهي الجماعة من الناس، قال - صلى الله عليه وسلم -: أول زمْرة يدخلون الجنةَ على صورة القمر ليلة البدر. والزمرة الثانية على صورة أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 (زِينةَ الله) : هي ما شرعه لعباده من الملابس والمآكل، وكان بعض العرب إذا حَجّوا يجردون من الثياب ويطوفون عُرَاة، ويحرمون الشحم واللبن، فنزل ذلك ردًّا عليهم وإنكاراً لتحريمها. (زلْزَالها) : مصدر، وإنما أضِيفَ إلى الأرض تهويلاً، كأنه يقول: الزلزال الذي يليق بها على عظمة جِرْمها. (زَعم الذين كفروا) : كناية عن كَرْبهم. (زَيْد) : هو ابن حارثة الذى تبنّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر في القرآن أحَدٌ من الصحابة غيره تعظيما له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 (حرف الطاء المهملة) (طاغوت) : من الجن والإنس شياطينهم، ويكون واحداً وجمعا، وجَمَعه في آية البقرة، وأفرده في غيرها، لأنه اسم جنْس لما عُبِدَ مِنْ دون الله. (طالوت) : هو الذي بعثه الله لقتال جالوت، وكان ملكاً وأعطى بِنْته لداود. (طَلّ) : مَطَر ضعيف خفيف، والمعنى أنه يكفى هذه الجنة لكرم أرضها. (طيِّبَاتِ ما كسبتم) : الجيد غير الرديء، ويُراد به الحلال. وهو المراد في كل موضع. وزاد، كقوله: (كُلوا من طيِّبات ما رَزَقْنَاكم) . (كلوا من الطيبات) . لكن اختلف في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفِقُوا مِنْ طَيِّبَات ما كسبتم) ، فقيل إنها في الزكاة، فيكون واجباً. وقيل: في التطوع، فيكون مندوبا لا واجبا، لأنه كما يجوز التطوع في القليل يجوز في الرديء. (طَوْعاً) : انقياداً بسهولة حيث ما وقع. (طبعَ اللَّهُ على قلوبهم) ، أي ختم عليها. (طَوْلاً) : هو السعة في المال. وأباح الله في هذه الآية تزوُّجَ الفتيات، وهن الإماء، للرجال إذا لم يجدوا طولاً للمحصنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وذهب مالك وأكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز للحُرِّ نكاح أمَةٍ إلا بشرطين: أحدهما عدم الطول، وهو عدم الوجود بما يتزوَّج به امرأة. والآخر خوف الزنى وهو العنت، لقوله تعالى بعد ذلك: (ذلك لمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ منكم) . وأجاز بعضهم نكاحهنَّ دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يُعْتبر. واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمَة التي تتزوج، لقوله: (من فتياتكم المؤمنات) ، إلا أهل العراق فلم يشترطوه. وإعراب (طولاً) مفعول بالاستطاعة. وأن ينكح بدلاً منه، فهو في موضع نصب، بتقدير إلا أن ينكحن. ويحتمل أن يكون طولاً نصب على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكحن على هذا مفعول بلاستطاعة أو بالمصدر. (طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) : الضمير يعود على قابيل، وذلك أنه كان صاحب زَرْع، فقرّب أرْذَلَ زَرْعِه، وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كَبْش عنده. وقد قدمنا أن النار كانت حاكم آدم، فقام هابيل يصلّي، فنزلت النار وأخذت كبشه، وتركت زرع قابيل، فحسده على قَبول فرْبانه، فقتله، وإنما حسده على نكاح أخته، لأن الله أوحى إلى آدم أن زوّج ذميما من قابيل واقلما من هابيل، فأخبرهما آدم بوحْيِ الله فَرَضِيَ هابيل وأبى قابيل. وقال: إن أختي أحسن، وكانت وُلدت معه. فقال آدم: يا بني، لا تخالف أمر الله. فقال: لَمْ يَأمرك الله، ولكن أنت تحبُّ هابيل وتزَوِّجه أحسن بناتك. فقال آدم: اذهبا وتحاكما إلى الله، فوقع منهما ما أخبر الله به بقوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) . كأنه تعالى يقول: أحرقت قربان سائر الأمم، ولم أجوز أنْ أحرق قربانَ حبيبي، فأمرتهم بإطعام الفقير، فإذا لم أجوز إحراق القربان فكيف أحرق من قرأ القرآن، فلما فقد هابيل سأل عنه جميع أولاده. فقالوا لا ندري أين هو، فاغْتَمَّ غَمّاً شديداً على فَقْده، وبات مهموما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فرأى في منامه هابيل وهو يناديه من بعيد: يا أبت، الغَوْث! الغَوْث! فانتبه من نومه مَذْعورا، وبكى حتى غُشِي عليه، فنزل جبريل ورفع رأسه. فلما أفاق قال: يا جبريل، أين ولدي هابيل، فقال: الله يعظِّم أجْرَكَ فيه، قتَله قابيل. فقال آدم: أنا بريء منه. فقال له جبريل: والله بريء منه. ثم قال آدم: يا جبريل، أرِنيه، فأراه له تحت التراب وإذا هو ملطّخ بالدم، فصاح يَا حَسْرتاه! يا ويلتاه! يا ابناه! وبكى حتى بكَتِ الملائكةُ لبكائه، وقالوا: إلهنا، بكى آدم ثلاثمائة سنة ولم يسترح إلاَّ مدة يسيرة، ثم اشتغل بالبكاء، فقال تعالى: الدنيا دار البكاء والعَنَاء، ودار البَلاَء والفناء. (فَطَوَّعت) : فعَّلت من الطوع، يقال. : طاع له كذا، أي أتاه طَوْعا. ولساني لا يطوع بكذا، أي لا يَنْقَاد. (طفِقَا) : أي جعلا، تقول: طفق يفعل كذا، وجعل يفعل كذا، قال بعضهم: معناه قصد بالرومية، حكاه شَيْذَلة، وضمير التثنية على آدم وحواء. (طائِفٌ من الشيطان) : معناه لَمَّة منه، كما جاء: إن للشيطان لمَّة، وللملك لَمَّة. ومَنْ قرأ طَيْف - بياء ساكنة - فهو مصدر، أو تخفيف من طيّف المشدد، كميِّت وميْت. ومن قرأ طائف - بالألف - فهو اسم فاعل. (طَرَفَي النهار) : أوله وآخره، فالأول الصبح، والطرف الثاني الظهر والعصر. (طائره في عُنقِهِ) : أي عمله. والمعنى أنه لازم له ما قدّر له وعليه من خير أو شر، يعني أن كل ما يَلْقَى الإنسان قد سبق به القضاء، وإنما عَبَّر عن ذلك بالطائر، لأن العرب كانت عادتها التيمّن والتشاؤم بالطير، وإنما عَبَّر بالعنق، لأنه لا ينفك عنه. ويقال لكل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وهذا لك في عنقي. ومثله: (ألا إنَّمَا طائِرهم عند الله) . أي حظّهم ونصيبهم الذي قُدِّرَ لهم. ومقصود الآية الرد عليهم فما نسبوا إلى موسى من الشؤم. (طه) : من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل معناه: يا رجل. وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: طه - قال: هو كقولك يا محمد، بلسان الحبَشة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس، قال: طه - بالنبطية. وأخرج عن عكرمة قال: طه: يا رجل، بلسان الحبشة. (طغَى) : ترفَّعَ وعلا حتى جاوز الحدَّ أو كاد. ومنه قوله تعالى: (لما طغَى الماءُ حَمَلْنَاكم في الجارية) ، أي كثر، فيحتمل أنه طغى على أهل الأرض أو على خزَّانه، يعني وقت طوفان نوح عليه السلام. (بطريقتكم المُثْلَى) : أي سيرتكم الحسنة، وهذا من كلام فرعون يخاطب قومه أن هذا يذهب بدينكم، وما أنتم عليه. والمثْلَى تأنيث الأمثل. (طَهورا) : أي نظيفا يطهر به من توضأ واغتسل من جنابته. والطهور: مبالغة في طاهر، ولهذا المعنى يقول الفقهاء: ماء طهور، أي مطهِّر، وكل مطهِّر طاهر، وليس كل طاهر طهورا. (طَوْد) : الجبل، وروِيَ أنه صار في البحر اثنا عشر طريقأ لكل سبْط من بني إسرائيل طريق. (طَلْعُها هَضِيم) : أى منضم قبل أن ينشقّ ويخرج من الكم. والهضيم: اللين الرطب، فالمعنى أن طَلْعَها يتمُّ ويرطب. وقيل: هو الرخص أول ما يخرج. وقيل: الذي ليس فيه ندى. فإن قيل: لم ذكر النخل بعد ذكر الجنّات، والجنات تحتوي على النخل؟ فالجواب: أن ذلك تحديدٌ، كقوله تعالى: (فاكِهَةٌ وَتخْلٌ ورُمّان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 ويحتمل أنه أراد الجنّات التي ليس فيها نخل، ثم عطف عليها النخل. (طَلْغ نَضِيد رِزْقاً لِلعباد) : النَّضِيد هو المنضد، كحب الرمان، فما دام بعضْة ببعض فهو نضِيد، فإذا تفرق فليس بنضيد. (طَمَسْنَا أعْينَهم) : الضمير راجع لقَوْم لوط لما راودوه عن ضَيْفه لِظَنِّهمِ أنهم من بني آدم، وأرادوا منهم الفاحشة، فطمس جبريل على أعينهم، فاستوَتْ مع وجوههم. وقيل: إن هذا الطمس عبارةٌ عن عدم رُؤيتهم لهم، وإنهم دخلوا منزل لوط فلم يَرَوْا فيه أحدًا. والمطموس الذي لا يكون بين جفنيه شق طرف خفيّ، ويحتمل أن يريد به العين، أو يكون مصدراً. وفيه قولان: أحدهما أنه عبارة عن الذل، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة. والآخر أنهم يحشرون عُمْيا، فلا ينظرون بأبصارهم، وإنما ينظرون بقلوبهم. واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري. (طَلْح) : شجر عِظَام كثيرات الشوك، قاله ابن عطية. وحُكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس، وقرأ علي بن أبي طالب: وطَلْع منضود - بالعين، فقيل له إنها بالحاء، فقال: ما للطلح والجنّة. فقيل له: أنصْلِحها في المصحف، فقال، المصحف اليوم لا يغيَّر. وقال الزمخشري: والطلح هو شَجَر الموز. (طاغية) : طغيان، مصدر كالعاقبة والواهية وأشباههما من المصادر. (طَرَائق قِدَداً) ، الطرائق: المذاهب والسير وشبهها. والقدد: المختلفة، وهو جمع قِدّة، وهذا بيانٌ للقسمة المذكورة قَبْل، وهو على حذف مضاف، أي كُنَّا ذوي طرائق، أو كُنَّا في طرائق. (الطامَّة الكبرى) : هي القيامة. وقيل: النفخة الثانية، واشتقاقها من قولك، طمّ الأمر إذا علا وغلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 (طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) : الطبق في اللغة له معنيان: أحدهما ما طابق غيره، يقال هذا طبق لهذا إذا طابقه. والآخر جَمْع طبقة، فعلى الأول يكون المعنى لتركبنَّ حالاً بعد حال، كل واحدة منهما مطابقة للأخرى. وعلى الثاني يكون المعنى لتركَبنّ أحوالا بعد أحوال، هي طبقاتٌ بعضُها فوق بعض. ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال، وفي قراءة: تركبنّ: فأَما من قرأه بضم الباء فهو خطابٌ لجنس الإنسان، وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال. أحدها: أنها شدائد الموت، ثم البعث، ثم الحساب، ثم الجزاء. والآخر: أنها كون الإنسان نطفة ثم علَقة إلى أن يخرج إلى الدنيا إلى أن يَهْرم ثم يموت. والثالث: لتركبنّ سنَنَ مَنْ كان قبْلكم. وأما من قرأ تركبَنَّ - بفتح الباء - فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا. وقيل: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم اختلف القائلون على هذا، فقيل لتركبنّ مكابدة الكفَّار حالاً بعد حال. وقيل: لتركبن فَتْحَ البلاد شيئاً بعد شيء. والآخر لتركبنَّ السماوات في الإسراء سماءً بعد سماء. وقوله: (عن طَبَق) في موضع الصِّفَة لطبق، أو في موضع حال من الضمير في تركبن، قاله الزمخشري. (طارق) : هو في اللغة ما يطرق، أي يجيء ليلاً. وقد فسره الله في الآية بأنه النجم الثاقب. وهو يطلع ليلاً. ومعنى الثّاقب المضيء أو المرتفع. فقيل: أراد جِنْسَ النجوم. وقيل: الثريا، لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم. وقيل، زحل، لأنه أرفع النجوم، إذ هو في السماء السابعة. (طَحَاها) : مدّها أو بسطها. (بطَغْوَاها) : هو مصدر بمعنى الطغْيَان، قلِبَتْ فيه الياء واواً على لغة من يقول: طغيت. والباء الخافضة كقولك: كتبت بالقلم، أو سببية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 والمعنى بسبب طغيانها. وقال ابن عباس: معناه كذبت ثمود بعذابها. ويؤيده قوله: (فأمّا ثمود فأُهْلِكوا بالطاغية) . (طغْيَانهم) ،: غيّهم وكفْرهم. (طور) : جبل بالسريانية، قاله مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه بالنبطية. وذلك أن موسى لما جاء بالتوراة أبوا أن يقبلوها، فرفع الجبل فوقهم كأنه ظلَّة. وقيل لهم: إن لم تأخذوها وضع عليكم.. (طُوفَان) : سَيْلٌ عظيم، والطوفان: الموت الذَّريع. وطوفان الليل: شدة سَوَادِه. والطوفان المبعوث على بني إسرائيل كان مطراً شديدا دائماً مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة. (طوبَى) : مصدر من طاب، كبشرى، ومعناها أصبت شيئاً طيباً. وقيل شجرة في الجنة. وإعرابها مبتدأ. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: طوبى اسم الجنة بالحبشية. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن خبير، قال: بالهندية. طوبى في معناه قولان: أحدهما أنه اسم الوادي، وإعرابه على هذا بَدَل. ويجوز تنوينه على أنه مكان، وترْك صرْفه على أنه بقْعة. والثاني أن معناه مرتين، فإعرابه على هذا مصدر، أي قدس الوادي مرة بعد أخرى، أو نودي موسى مرة بعد مرة. وفي العجائب للكرماني: هو معرّب (ليلاً) ، وقيل: هو رجل بالعبرانية. (طِبْتم) : أي من الذنوب والمعاصي، لأنها مَخَابث في الناس، فإذا أراد الله أن يدخلهم الجنة غفر لهم، فطابوا لدخولها. ومن هذا قول العرب: طاب لي هذا، أي فارقته المكاره، وطاب له العَيْش. (طائفين) : من الطواف بالبيت جمع طائف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 (حرف الظاء - المعجمة) (ظهر أمْر الله) : بدا. وأظهره غيره: أبْدَاه. (ظلْتَ عليه عَاكِفا) : أصله ظَلِلت فحذِفت إحدى اللامين. والأصل في معنى ظلّ أقام بالنهار، ثم استعمل في الدؤوب على الشيء ليلاً ونهارا. وهذا الخطاب من موسى للسامريِّ على وجه التهديد. (ظَلّتْ أعناقهم لها خَاضِعين) : الأعناق: جمع عُنق، وهي الجارحة المعروفة، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء، لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء، أو لأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء. وقيل: الأعناق الرؤساء من الناس، شُبِّهوا بالأعناق، كما يقال لهم رؤوس وصدور. وقيل: هم الجماعات من الناس، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل. (ظَهير) : معين. (ظَنِ ين) : والضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن من قرأ بالضاد. فمعناه بخيل، أي لا يبخل بأداء ما أُلْقِيَ عليه من الغَيْب، وهو الوحي. ومن قرأ بالظاء، فمعناه مُتَّهم، أي لا يتهم على الوَحْيِ، بل هو أَمين عليه. ورجّح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوه - صلى الله عليه وسلم - إلى البخل بالوحي، بل اتهموه، فنفى عنه ذلك. (يَظْهَروه) : ظهرت على الغيب: أي ارتفعت عليه. ومنه: (فما اسْطَاعوا أنْ يَظْهَروه) . وأصله استطاعوا، حذفت التاء تخفيفاً، وضمير (يظهروه) للسدّ. المعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون على الصعود على السد، لارتفاعه، ولا ينقبونه لقوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 (ظن) : له ثلاثة معان: التحقيق. وغلبة أحد الاعتقادين، والتهمة. ومنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) . قيل معنى الإثم هنا الكذب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الظن أكذَبُ الحديث، لأنه قد لا يكون مطابقاً للأمر. وقيل: إنما يكون إثماً إذا تكلم به. وأما إذا لم يتكلم فهو في فسحة، لأنه لا يقدر على دفع الخواطر، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سدّ الذرائع في الشرع، لأنه أمر باجتناب أكثر الإثم احترازاً من الوقوع في البعض الذي هو إثْمٌ. (ظَمَأ) : عطش. (ظلم) : يقع في القرآن على ثلاثة معان: الكفر، والمعاصي، وظلم الناس، أي التعدّي عليهم. والجور والسفَه والظلم والتعدي بمعنى واحد، ولا يوصف سبحانه بها، لأنه لا رَاحِمَ فوقه ولا زاجر، فأفعالُه تعالى لا يقارنها نهي، وإنما يتصوَّر ذلك في حقوقنا المقارنة النهي لأفعالنا النهي عنها. (ظِلاَل) : جمع ظلة، وهو ما عَلاَك من فوق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال، وإن كان للهِ فهو من المتشابه. والغمام: السحاب. وقوله تعالى: (فأخذهم عذَابُ يوم الظّلَّة) - فهي سحابة من نار أحرقت قَوْم شعيب، فأهلك اللَّهُ مَدْين بالصَّيْحَة، وأهلك الأيكة بالظلة. فإن قلت: لم كرّر الآية في الشعراء مع كل قصة؟ فالجواب أن ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشد تنبيهاً للقلوب، وأيضاً فإن كل قصة منها كلام قائم مستقل بنفسه، فخُتمت بما ختمت به صاحبتها. فإن قلت: الظلل إنما تكون من فوق، فلم قال: (ومِنْ تحتهم ظُلل) ؟ فالجواب إنما سماها ظلة لمن تحتهم، لأن جهنم طبقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقيل إنما سماه ظلة لأنه يتلهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم. (ظلمات بعضها فوق بعض) : هذا تمثيلٌ للكفَّار في حيرتهم وضلالهم، فالظلمات أعمال الكفار والبحر اللجِّيّ صدره، والموج جَهْله. والسحاب الغطاء الذي على قَلْبهِ. وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة. وفي وصف هذه الظلمة بهذه الأوصاف مبالغة، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة. وأما قوله تعالى - حكاية عن يونس عليه السلام: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) - فهي ظلمة المشيمة، وظلمة الرَّحم، وظلمة البطن، وظلمة الليل، وظلمة البحر، ففي هذه الآية توحيد، ثم تنزيه، ثم اعتراف. وفيها ثلاث ظلمات، وثلاثة مفاتيح ظلمة، وثلاث هبات، وثلاثة علوم، وثلاثة أذكار. وقد وعد سبحانه بنجاة مَنْ قالها. وروى أنَس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يونس عليه السلام حين نادى في الظلمات ارتفع نداؤه إلى العرش، فقالت الملائكة: هذا صَوْت ضعيف، مِنْ مَوْضِع غرْبة فأغِثْه. فقال الله تعالى: قد أجبتكم فيه. قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) . وروي أن قارون سمعه، فقال: يا رب، ما هذا الصوت الغريب، فأخبر بذلك، فبكى رحمة عليه لرحمِه منه، فخفف الله عنه العذاب (1) . تنبيه: اجعل أيها العبد دارَ دنيَاكَ كبطن حوت يونس له، فلا تنس فيها ذكر مولاك، لعله ينْقذك من بحْرِ هواك، لأن يونس كان في ثلاثة غموم، فدعا مرة أَنجَاه الله منها، فكيف لا ينجيك أيها المحمدي إن دعوت به مرارا من غم القيامة، وغم العقاب والحساب. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبدٍ دعا بهذا في مرضه إلا غفر الله له. وإذا تأملت قوله: لا إله إلا أنت - تفهم منه قرْبَ مولانا منه   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 مع بعْدِ مكانه في قعر البحور. وقول نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء: لا إله إلا الله، فخاطبه بالغيبة مع قُرْبه منه كان ذلك دليلاً على أنه لا يقرب أحد منه إلا بتقريبه له، وهو معكم أين ما كنتم. (ظِلاَلهم بالغُدو والآصَال) : معطوف على معنى السجود. والمعنى أن الظلال تسجد غدوةً وعشيّة، وسجودها انقيادها لمشيئة الله. وقيل: سجودها فيها بالمشي. (ظلالِ على الأرائك) : جمع ظُلّة مثل قلَّة وقِلاَل. وقرئ بالضم. والأرَائك جمع أريكة، وهي السرير. (ظلّ ممدود) : أي دائم، لا تنسخه الشمس. قال - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. واقرأوا إن شئتم: (وظلّ ممدود) . فإن قلت: قد قلتم: إن الجنة لا شَمْسَ فيها، فما معنى هذا الظل؟ فالجواب أنه على تقدير أن تكون هناك، وإنما ظلهم كما بين طلوع الشمس، فهي نورانية شعشعانية لا حَرَّ فيها ولا قر. (ظل مِنْ يحْموم) : يعني أسود، وهو الدخان في قول الجمهور. وقيل: سرادق النار الحيط بأهله، فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم. وقيل: هو جَبَل في جهنم. (ظلّ ذي ثلاثِ شُعَب) ، يعني دخان جهنم يتشعّب على ثلاث، فيقال للمكذبين حين يطلبون الظلَّ الذي يرَوْنَ المؤمنين مستظلين به في ظلّ العرش: انطلقوا، فلا يغنيهم شيئاً، كما قال تعالى: (لا ظَلِيل ولا يغْنِي مِنَ اللَّهَب) . فَنَفَى عنهم أن يظلهم كما يُظلّ العرش المؤمنين، ونفى أيضاً أن يمنع عنهم. (ظِهْريًّا) : أي ما يطرح وراء الظهور، ولا يُعْبَا به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب، وهذا من قول شعيب عليه السلام، لقومه حين قالوا له: (وَلوْلاَ رَهْطُك لَرَجَمْنَاك) - بالحجارة، أو بالسب. فقال لهم: (يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ، على وجه التوبيخ لهم. فإن قلت: إنما وقع كلامهم فيه وفي رهطه، وأنهم هم الأعزَّةُ دونه، فكيف طابَقً جوابه كلامهم؟ فالجواب أن تهاونهم به - وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تهاونُهم بالله. (ظن) أصلها الاعتقاد الراجح، كقوله: (إنْ ظَنَّا أنْ يقيمَا حدودَ الله) . وقد تستعمل في اليقين، كقوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) . أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين. وهذا مشكل بكثير من الآيات لم يستعمل فيها بمعنى اليقين، كالآية الأولى. وقال الزركشي في البرهان: الفرق بينهما في القرآن ضابطان: أحدهما أنه حيث وجد الظن محموداً مثاباً عليه فهو اليقين. وحيث وجد مذموماً متوعداً عليه بالعقاب فهو الشكّ. والثاني أن كل ظن يتصل بعده أن الخفيفة فهو شك نحو: (بل ظنَنْتُم أنْ لَنْ يَنقَلِبَ الرسولُ والمؤمنون) . وكل ظن يتصل به أن المشددة فهو يقين، كقوله: (إنّي ظنَنْتُ أنّي مُلاَق حِسَابِيَه) . وظَنّ أنّه الفِرَاق) . وقرئ: وأيقن أنه الفراق. والمعنى في ذلك أن المشددة للتأكيد، فدخلت على اليقين. والخفيفة بخلافها فدخلَتْ في الشك، ولهذا دخلت الأولى في العلم، نحو: (فاعْلَم أنه لا إله إلا الله) . (وعلم أنَّ فيكم ضَعْفاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 والثانية في الحسبان، نحو: (وَحَسِبوا ألا تكون فتنة) - ذكر ذلك الراغب في تفسيره. وأوْرد على هذا الضابط: (وظَنوا أنْ لا مَلْجَأ من الله) . وأجيب بأنها اتصلت بالاسم. وفي - الأمثلة السابقة اتصلت بالفعل، ذكره في البرهان، قال: فتمسَّك بهذا الضابط، فهو من أسرار القرآن. وقال ابن الأنباري: قال ثعلب: العَرَبُ تجعل الظن علماً وشكا وكذبا، فإن قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإن اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشكّ فالظن شك، وإن زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله: (إنْ هم إلاَّ يَطنون) ، أى يكذبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 (حرف الكاف) (كافر) : له معنيان: من الكفر، وهو الجحود بوجود الله المضاد لمعرفته. وقد يحكم بكفْرِ الشخص مع كَوْنِه عالماً بالله من طريق الشرع، وهو إذا قال: إن الخمر حلال، والظُّهر غير واجب. وقيل الكافر هو المكذّب، مثل قوله تعالى: (فكفَروا وتَوَلَّوْا) . وبمعنى الزرع، وهو قوله تعالى: (أعجب الكفارَ نباته) ، أي الزرَّاع. وتكفير الذنوب: غفرانها. (كافَّة) : الهاء للمبالغة، ومنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) . - بفتح السين المهملة. والمراد به ها هنا عقد الذمة بالجِزْية، فالأمر على هذا لأهل الكتاب. وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة. وقيل: هو الإسلام. وكذلك هو بكسر السين، فيكون الخطاب لأهل الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام. وقيل: إنها نزلت في قَوْم من اليهود أسلَموا، وأرادوا أن يعظِّمُوا السَّبْتَ كما كانوا، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه. ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه والدخول في جميع شرائعه من الأمر والنهي. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) . أي تكفّهم وتردعهم، لأنه كما بعث إلى الإنس والجن. (كفَلها زَكرِيَّا) : أي ضمها وحصّنها. ومنه أكْفِلْنِيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 والضمير يعود على مريم، وزكريا كان زوج خالتها. وقيل: زوج أختها. وقرئ كفَّلها - بتشديد الفاء ونصب زكرياء، أي جعله الله كافلها. (كَرّة) : أي رجعة. ومنه: (لو أنَّ لنا كرّةً) . وقوله: (ثم ردَدْتا لكم الكَرّة عليهم) ، أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم. ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل، واستنقاذ أسراهم، وقتل بخت نصّر. وقيل قتل داود جالوت. (كاظِمين الغَيْظَ) : حابسين الغَيْظَ. (كبِر) - بكسر الباء - يكبَر - بالفتح - في المضارع. وكَبر الأمْر - بالضم - في الماضي والمضارع. وكُبَر بضم الكاف وفتح الباء جمع كبْرى. وكباراً - بالضم والتشديد: كبير، مبالغة. والكِبْر: التكبّر. وكُبْر الشيء - بكسر الكاف وضمها: معظمه. والكبرياء: الملك والعظمة. والمتكبِّر: اسم الله تعالى، وبمعنى العظمة. وكان لامرأة زكرياء ثمان وتسعون سنة، فاستبعد ذلك في العادة مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك، واستبعده، لأنه نادر في العادة وقيل: سأله وهو شاب، وأجيب وهو شيخ، فاستبعده لذلك (1) . (كذلك الله) : أي مثل هذه الفعلة العجيبة يفعل ما يشاء، فالكاف لتشبيه أفعاله العجيبة بهذه الفعلة، والإشارة إلى هبة الولد لزكرياء. واسم الله مرفوع بالابتداء، و (كذلك) خبره، فيجب وصله معه. وقيل: إن الخبر يفعل ما يشاء. ويحمل (كذلك) على وجهين: أحدها - أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمر كذلك، أو أنْتُما كذلك. وعلى هذا يوقف على كذلك. والأول أرجح، لاتصال الكلام، وارتباط قوله: (يفعل ما يشاء) مع ما قبله، ولأن له نظائرَ كثيرة في القرآن، منها قوله: (وكذَلِك أخْذ رَبِّكَ) .   (1) استبعاد مثل ذلك شك في قدره الله تعالى - وهو كفر لا يليق بالأنبياء - والذي عليه المحققون أنه قال ذلك تعجبا من باهر قدرة العلي القدير. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 (كلاَلَة) : هي انقطاع عمودي النسب، وهي خلوّ الميت عن ولد أو والد. ويحتمل أن يُطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة، أو على المال، فإن كانت للميت فإعرابها خبر كان، ويورَث في موضع الصفة. أو يورث خبر كان وكَلاَلة حال من الضمير في يورث. أو تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وكلالة حال من الضمير. وإن كانتْ للورثة فهي خبر كان على حذْفِ مضاف، تقديره ذا كلالة، أو حال على حَذْف مضاف أيضاً. وإن كانت للوراثة فهي مصدر في موضع الحال. وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله، تقديره يورث من أجل القربى. وإن كانت للمال فهي مفعول ثان لـ يورث. وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة ويورث في موضع الصفة، أو تكون ناقصة ويورث خبرها. (كَظِيم) : قيل: إنه فعيل بمعنى فاعل، أي شديد الحزن على أولاده. أو كاظم لحزنه لا يظهره لأحد، ولا يَشكو إلا لله. وقيل بمعنى مفعول، كقوله: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) . أي مملوء القلْبِ بالحزن أو بالغيظ على أولاده. (كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) : يريدون بعير أخيه، إذ كان يوسف لا يعطي إلاَّ كَيْلَ بعير من الطعام لإنسان، فأعطاهم عشرة أبعرة ومنعهم الحادي عشر لغيْبَة صاحبه، حتى يأتي. وإن كانت الإشارة بذلك إلى الأحمال فالمعنى أنها قليلةٌ لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير. وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير فالمعنى أنه يسيرٌ على يوسف، أي قليل عنده، أو سهل عليه، فلا يمنعهم منه. (كَلٌّ على مَوْلاَه) : أي ثقيل، يعني أنه عِيال على وليِّه أو سيده، وهو مثال للأصْنَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 (كَأس) : إناء بما فيه من الشراب. (كَهْف) : غار واسع، دخله الفِتْية الذين قصّ الله علينا خبرهم، ولنذكر من قصتهم ما لا غنَى عنه، إذْ أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نَقَلُوا: وذلك أنهم كانوا قوماً مؤمنين، وكان ملكُ بلادهم كافراً يقتل كل مؤمن. ففرّوا بدينهم ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه، ويختفوا من الملك وقومه، فأمر الملك باتباعهم، فانتهى المتَّبعون لهم إلى الْغَار، فوجدوهم، وعرَّفُوا الملك بذلك، فوقف عليه بجنوده، وأمر بالدخول عليهم، فهاب الرجال ذلك وقالوا له: دَعْهُم يموتوا عطشاً وجوعاً، وكان قد ألقى الله عليهم قبل ذلك نَوْماً ثقيلاً، فبقوا كذلك مدة طويلة. ثم أيقظهم الله، وظنوا أنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً بدراهم كانت لهم، فعجب منها البيَّاع، وقال: هذه الدراهم من عَهْدِ فلان الملك في قديم الزمان، فمن أين جاءتْك، وشاع الكلام بذلك في الناس، فقال الرجل: إنما خرجتُ أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهْف. فقال الناس: هم الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم، فَمَشوْا إليهم فوجدوهم مَوْتى. وأمَّا مَوْضِع كهفهم فقيل: إنه بمقربة فلسطين. وقال قوم: إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وفيه موتى ومعهم كلب. وقد ذكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد. وقريب منهم بناء يقال له: الرَّقيم - قد بقي بعض خدْرانه. وروي أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دِقْيَنوس، وفي تلك الجهة آثار مدينةٍ يقال لها مدينة دِقْيَنُوس. والله أعلم. ومما يبعد ذلك ما روي أن معاوية مر عليهم، وأراد الدخول إليهم، فقال له ابن عباس: لا تستطيع ذلك، قد قال الله لمن هو خير منك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) . فبعث ناساً إليهم، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقتهم. ولم يدخل معاوية الأندلس قط. وأيضاً فإن الموتى الذين في غار لوشة يراهم الناس، ولا يدرك أحداً الرعب الذي ذكر الله في كتابه. (كَبُرَتْ كَلِمَةً) : انتصب على التمييز، وقيل على الحال، يعني بالكلمة قولهم: (اتخذ اللهُ وَلَداً) . وعلى ذلك يعود الضمير في كبرت. وأما قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عند الله) ، فانتصب على التمييز. و" أن تقولوا " فاعل كبر. وقيل الفاعل محذوف تقديره: كبر فِعْلُكم مَقْتاً، وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر مبتدأ مضمر، وكان بعضُ الناس يستحي أن يعظَ الناس لأجل هذه الآية، ويقول: أخاف من مَقْت الله. والمقت: هو البغض لريبة أو نحوها. (كلْبُهم باسِطٌ ذِرَاعَيْه) : قيل إنه كان كلب الراعي، فمروا عليه فصحبهم وتبِعهم فطردوه فأبى إلاَّ صحْبَتَهم، فبِصحْبتهم خلَّدَ الله ذكره في كتابه، لأن لصحبة الصالحين آثاراً، ألاَ تَرى ذَوْدَ البَقْلَ أخْضر، ومَنْ ناسب شيئاً انجذب إليه، وظهر وصفه عليه. وأعمل اسم الفاعل، وهو بمعنى المضي، لأنه حكاية حال. (كمِثْلِهِ شَيْء) ، أي كهو، والعرب تُقيم المثل مقام النفس، فتقول: مِثْلِي لا يقول كذا وكذا، أي لا أقول كذا وكذا. ومثلي لا يقال له كذا. وفيه تَنْزِيهٌ للهِ تعالى عن مشابهة المخلوقين. وقال بعضهم: إن الكاف زائدة. قال الطبري وغيره: ليست بزائدة، ولكن وضع (مثله) موضع هو. والمعنى ليس كهو شيء. قال الزمخشري: هذا كما تقول: مثلك لا يبخل. والمراد أنتَ لا تبخل، فنفى البخل عن مثله. والمراد نفيه عن ذاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 (كَنْزٌ لَهُمَا) : قيل مال عظيم. وقيل: كان عِلْما في صحف مدفونة. والأول أظهر. وضمير التثنية يعود على الغلاَمَيْن. وذكر الجواليقي وغيره أن لفظ الكنز فارسي. (كفر عنهم سَيئَاتِهم) : أي غفرها لهم. قال ابن الجوزي: معناه امْحُ عنّا - بالنبطية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله: كفَّر عنهم سيئاتهم - قال - بالعبرانية: محا عنهم. (كما تَأكلُ الأنعام) : عبارة عن كثرة أكلهم، أو عن غفلتهم عن النظر كالبهائم. (كأيّن مِنْ قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً مِنْ قَرْيتِك) : يعني مكة وخروجه - صلى الله عليه وسلم - منها وقْتَ الهجرة. ونَسب الإخراج إلى القرية والمراد أهلها، لأنهم آذوه حتى خرج. (كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) . أو: (كمن هو خالدٌ في النار) : تقديره: أمثل أهل الجنة المذكورة قَبْلُ كمن هو خالدٌ في النار، فحذف هذا التقدير المراد به النفي، وإنما حذفه لدلالة التقدير المتقدم عليه. (كيف إذا تَوَفَّتْهم الملائكة يضربون) : ضمير الفاعل للملائكة. وقيل: إنه الكفَّار، أي يضربون وجوه أنفسهم، وذلك ضعيف، أي كيف يكون فعل هؤلاء، والعربُ تكتفي بكيف عن ذِكْرِ الفعل معها لكثرة دورانها في الكلام. (كفَّ أيْدِي الناسِ عنكم) : أي كفَّ أهْلَ مكة عن قِتَالكم في الْحُدَيْبِية. وقيل: كفَّ اليهود وغيرهم عن الإضرار بنسائكم وذرّيتكم حين خرجتم إلى الحديبية. (كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم) : رُوِيَ أنَّ جماعة ً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فِتْيَان فريش خرجوا إلى الْحديبية ليصيبوا من عَسْكرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليهم - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين، فهزموهم وأسَروا منهم قوماً، وساقوهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، فأطلقهم، فكفُّ أيدِي الكفَّار هو أن هزِموا وأُسِروا. وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسْرِ وسلامَتهم من القتل. وقوله: (مِنْ بعد أنْ أظفركم عليهم) يعني من بعدما أخذتموهم أسارى. (كلمة التَّقْوى) : هي لا إله إلا الله عند الجمهور، للحديث. وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر. وهذه كلّها متَقَارِبة. وقيل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ التي أبى الكفار أن تكتب، بل قالوا: اكتب اسمك. (كانوا أحَق بها وأهْلَها) ، أي المسلمون المذكورون. وقيل: أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم. وقيل: أحق بها من اليهود والنصارى. (كَفى باللهِ شَهيدا) : أي شاهدا بأن محمداً رسول الله، أو شاهدا بإظهار دينه. (كزَرْعٍ أخْرَج شَطْأه) : هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ثم قوي وظهر. وقيل: الزرع مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه بُعِث وحده. فكان الزرع حبةً واحدة، ثم كثر المسلمون. (كَثِيبا) : أي كدْس الرَّمل، يعني أن الجبال فتِّتَت من زلزلتها حتى صارت كالرمل المذري. (كصاحب الحوتِ) : قد قدمنا أنه يونس عليه السلام. وسببها أنه - صلى الله عليه وسلم - همّ أن يدعو على الكفار، فنهاه الله أن يكون مثله في الضجر والاستعجال، لأنه ذهب مغاضباً لَمّا خالفه قَوْمه، فدعا عليهم، وأجيب وأَعلمهم بالعذاب، فلما رأى قومه مخايل الهلاك تابوا وآمنوا، فتاب الله عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وصرفه عنهم، وإنما أبقَ من قومه لخوفه من القتل، وسمي أبّاقاً في قوله تعالى: (إذْ أبقَ إلى الفُلْكِ الْمَشْحُون) . وقيل: إنه لما وعد قومه بالعذاب ولم يُصبهم بسبب إيمانهم أخَذَتْه غضْبَةٌ كما ذكر الله عنه. والأول أصح. فانظر قدرك، يا محمديّ، عند ربك، واشكره إذ هداك للإيمان بهذا النبي الكريم. وفي الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال: يا ربّ، أمرتني أن أعاملَ أمتي بخلاف سائر الأمم، فعامِلْهُم أنت كذلك. فأوحى الله إليه: هم أمتُك، وهم عبيدي، وقد أعطيتك الشفاعة فيهم، فكيف تضِيع أمةٌ أنتَ شفيعها وأنا رحيمها، فالحمد للَه الذي جعلنا من هذه الأمة، وخصنا بهذا النبي الكريم. (كوَاعِبَ أتْرَابا) : الكاعِب الجارية التي خرج ثديها، وهي أحبّ إلى الرجل لصغرها. (كافُورا) : أي في طيب رائحته، كما تمدح طعاما فتقول: هذا مسك. وذكر الجواليقي وغيره أنه فارسي. (كَالُوهم) : بمعنى كالوا لهم. يقال: كلتك وكِلْتُ لك، ووزنتك ووزنت لك، بمعنى واحد. وحذف المفعول الثاني وهو المكيل والموزون. وهم ضمير المفعول للناس، فالمعنى إذا كالوا للناس، أو وزنوا لهم طعاماً أو غيره مما يكال أو يوزن بخسوهم حقوقهم. وقيل إنَّ "هم" في قوله: كالوهم ووزنوهم تأكيد للضمير الفاعل. وقد رُوي عن حمزة أنه كان يقفُ على كالوا ووزنوا، ثم يبتدىء ب "هم" ليبين هذا المعنى، وهو ضعيف من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد الواو في كالوا ووزنوا، فدل ذلك على أنَّ همْ ضمير المفعول. والآخر أن المعنى على هذا أنَّ المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا. وليس ذلك بمقصود، لأن الكلام واقع في الفعل لا في المباشر، ألا ترى أن اكتالوا على الناس معناه قبضوا منهم، وكالوهم ووزنوهم معناه دفعوا لهم، فقابل القبض بالدّفْعِ، وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن المقصود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 قال ابن عطية: ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائع، وليس ذلك بالجليّ. قال: وصدر الآية في المشترين، فهم الذين يستوفون، أي يشاحّون ويطلبون الزيادة. وقوله: إذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري. (كمِشْكَاةٍ فيها مِصْبَاح) : المشكاة هي الكُوَّة غير النافذة تكون في الحائط، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل: المشكاة الذي يكون المصباح على رأسه، والأول أصح وأشهر. والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفَةِ مِشْكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإضاءة، وإنما شبهه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غايةُ ما يدركه الناس من الأنوار، فضرب المثل لهم بما يوصل إلى إدراكه. وقيل الضمير في نوره عائد على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل على القرآن. وقيل على المؤمنين. وهذه الأقوال كلها ضعيفة، لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير. فإن قيل: كيف يصحّ أنْ يقال: (الله نور السماوات والأرض) ، فأخبر أنه هو النور، ثم أضاف النور إليه في قوله: (مَثَل نوره) ، والمضاف غير المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدّمناه، أي الله ذو نور السماوات والأرض، أو كما تقول زيد كريم، ثم تقول: يعيش الناس بكرمه. (كادح) : الكدح في اللغة هو الجِدّ والاجتهاد والسرعة. فالمعنى أنك في غاية الاجتهاد في السيبر إلى ربك، لأن الزمان يطير وأنت في كل لحظة تقطع خطا من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرع إلى الموت ثم تلاَقِي رَبَّك. فانظر فيما تصرف عمْرَك، فإن أنفقته فيما فيه رضاه رضي عنك، وإن كان في غيره غضب عليك، ولا يقوم لغضبه شيء. وقيل: المعنى أنك ذو جد فيما تعمل من خير أو شر، ثم تلْقى ربك فيجازيك به. والأول أظهر، لأن (كادح) تعدّى بإلى لما تضمَّن من معنى السير. ولو كان بمعنى العمل لقال لربك. (كنود) : كَفور للنعمة. والتقدير إن الإنسان لنعمة ربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 لكفور. والإنسان جنس. وقيل الكنود العاصي. وقال بعض الصوفية: الكنود الذي يعبد الله على عِوض. (كَيْدهم) : مكرهم وحيلتهم، والضمير لأصحاب الفيل القاصدين هَدْم الكعبة، فرَدّ اللَّهُ عليهم كَيْدَهم. (في تضليل) : أي في إبطال وتخسير. (كعَصْفٍ مأكول) : العصف: ورق الزرع وتبْنه. والمراد أنهم صاروا رَمما، وفي تشبيههم به ثلاثة أوجه: الأول: أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثَتْه، وجُمع للتلف والخسارة، ولكن الله كنى عن هذا على حسب أدب القرآن. الثاني: أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدوابّ. الثالث: أنه أراد كعَصْفٍ مأكول زَرْعُه وبقي هو لا شيء. (كَوْثر) أي الكوثر: بناء مبالغة من الكثرة. وفي تفسيره سبعة أقوال: الأول: أنه حَوْض النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني: أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس. وتممَه سعيد بن جبير بأن قال: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه. فالمعنى أنه من العموم. الثالث: أن الكوثر القرآن. الرابع: أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس: أنه التوحيد. السادس -: أنه الشفاعة. السابع: أنه نور وضعه اللَّهُ في قلبه. ْوالصحيح أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن المراد بالكوثر الذي ترِدُه أمَّته. آنيَته على عدد نجوم السماء، طوله ما بين عمان إلى صنعاء، هكذا فسره - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو سعيد القرشي: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الإسراء: 57، - قال - صلى الله عليه وسلم -: " اتَّخَذْتَ إبراهيم خليلاً، وموسى كليما، فماذا خَصَصْتَني؟ فأنزل الله تعالى: (ألَمْ نَشْرَح لك صَدْرك) . فلم يكتف بذلك وحقّ له ألا يكتفي، لأن السكون إلى الحال سبب قطع المزيد، فأنزل الله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) . فقال له جبريل: إن الله تعالى يقْرِئك السلام ويقول لك: إن كنتُ اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليما - فقد اتخذتك حبيباً. وعزتي وجلالي لأفضلنَّ حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن. وهذا من أجلّ الرضا، لأن هذه هي الدلالة، والرضا للحبيب والانبساط للخليل، ألا ترى إلى قول إبراهيم: وجاءته البشْرى وهو على الانبساط. فإن قلت: قد وردت تحديدات من الشارع في عرض هذا الكوثر وطوله يفهم منها التضادّ؟ فالجواب أنها ليست بمختلفة، وإنما تحدث به - صلى الله عليه وسلم - مرات عديدة، وذَكَر فيها تلك الألفاظ المختلفة بحسب اختلاف الطوائف من العرب، فخاطب كل أحد بما كان يعرف من المسافة. والمعنى المقصود أنه حوض كبير متَّسِع الجوانب والزوايا. قال السّهيلي في الرَّوْضِ الأنف: عن عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعطاني نَهْرا يقال له الكوْثر، لا يشَاء أحَد من أمَّتي يسمع خَرِيرَه إلاَّ سمع ". قلت: يا رسول الله، وكيف، قال: أدخلي إصبعيك في أذُنَيْكِ وشدّي. قالت: قد فعلت يا رسول الله. قال: هذا الذي تسمعين هو من خرير الكوثر. تنبيه: قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن لحَوْضِي أربعة أركان، فالركن الأول في يَدِ أبي بكر، والثاني في يد عمر، والثالث في يد عثمان، والرابع في يد عليٍّ، فمن أبغض أحدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 منهم حرمه الباقون. وأوَّل من يرده فقراء المهاجرين الدَّنسُو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يتزوجون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السُّدُود، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبَرّهُ ". فانظر يا مسكين هل بيننا من هذه الأوصاف شيء، نعم، قد اتّصفنا بأضدادها، فأنَّى لنا باللحوق بهم غير الصلاة والسلام على نبينا والرضا عن أصحابه الكرام. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، أي فرِض، وإن كان على الأعيان فنسخه: (وما كان المؤمنون لِيَنْفِزوا كافّة) . فصار القتال فَرْضَ كفايةٍ، وإن كان على الكفاية فلا نسخ. و (كرْه) : مصدر كره، للمبالغة، أو اسم مفعول كالخبر بمعنى المخبور. وأما قوله تعالى: (كُتب عليكم القِصَاص) ، فليس بمعنى فرض، بل شرع، لأن وليّ المقتول مُخَيّر بين القصاص والدية والعفو. وقيل بمعنى فرض، أى فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول ألاَّ يتعدّاه إلى فعل غيره، كفعل الجاهلية، وعلى الحكام التمكين من القصاص. (كتِب عليكم الصيامُ) : المقصود بهذه الآية وبقوله تعالى: (أيّاما معدودات) - تسهيل الصيام على المسلمين، وكأنه اعتذار عن كَتْبه عليهم، وملاطفة جميلة. والذي كتب على من قبلنا الصيام مطلقاً. وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه. (كَفَّار أثيم) : أي من يجمع بين الكفْرِ والإثْمِ، وهذا يدلّ على أن الآية في الكفار. (كريم) : من الكرم، وهو الحَسَب والجلالة والفضل. وكريم: اسم اللَه تعالى، أي محسن. وأما قول بلقيس: (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) ، - فلأنه من سليمان، أو لأن فيه اسمَ الله، أو لأنه مختوم، كما جاء في الحديث: كرم الكتاب خَتمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 فإن قُلْتَ: إنما كانت تعرف سليمان لا الخالق، ولذا كانت تسجد للشمس؟ فالجواب إنما عظَّمت الكتاب لوجوهٍ، منها أنه لم يلْقِه لها بشر ولم يأمرها فيه إلا بملاطفة، ولذا بدأ سليمان بذكْره على اسم الله غيرةً منه أنْ يقع منها في اسم الجلالة نقص أو خلل. (كفْرَان لسَعْيِه وإنّا له كاتِئون) : أي - لا إبطال لثواب عمله، لأنَّا نكتب عمله في صحيفته. (كالِحون) : الكلوح: انطباق الشفَتَيْن عن الأسنان. وكثيراً ما يجري ذلك للكلاب، وقد يجري للكلاب إذا شويت رؤوسها. وفي الحديث: إن شفَةَ الكافر ترتفع بالنار حتى تبلغ وسط رأسه. وفي ذلك عذاب وتشويه. وفي الحديث: ضرس الكافر أو نَابُه في النار مثل أُحُد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث. (كبْكبوا فيها) : أصله كُبُّوا فيها على رؤُوسهم في جهنم مرةً بعد مرة، وكررت حروفُه دلالة على تكرير معناه. والضمير للأصنام. (كنَّا لَفِي ضَلاَل مُبين) : هذا قول المشركين المكبوبين. (كذَّبَتْ قَوْمُ نوح الْمرْسلين) : أسند الفعل إلى القوم، وفيه علامة التأنيث لأن القوم في معنى الجماعة والأمة. فإن قلت: كيف قال المرسلين بالجمع، وإنما كذبوا نوحاً؟ فالجواب من وجهين: أحدها أنه أراد الجنس، كقولك: فلان يركب الخيْل، وإن لم يركب إلا فَرَساً واحدا. والآخر أن مَنْ كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذّب جميع الأنبياء، لأن قولهم واحد، ودعوتهم سواء، وكذلك الجواب في: كذبت عاد المرسلين، وغيره. (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي أهلكوا. وقيل: لُعِنوا. وقيل كُبِت الرجل إذا بقي خَزْيَان، ونزلت الآية في المنافقين واليهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 (كَرَّتيْن) ، أي انظر نظراً بعد نظر للتثبت والتحقق. وقال الزمخشري: معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصةً، كقولهم لبَّيْك، فإن معناه إجابات كثيرة. (كان مِقْداره خمسين ألف سنة) . اختلف في هذا اليوم على قولين: أحدهما: أنه يوم القيامة. والآخر: أنه في الدنيا. والصحيح أنه يَوْم القيامة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مانع الزكاة: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّة لا يؤَدّي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نارٍ، يكوَى بها جبينه وجَنْبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين العباد. ثم اختلف هل مقداره خسون ألف سنة حقيقة، وهذا هو الأظهر. أو هل وصف بذلك لشدة أهواله، كما يقال: طويل، إذا كانت فيه مصائب وهموم. وإن قلنا: إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة. وقيل الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا والملائكة تنزل وتعرج في هذه المدة. وهذا كله على أن يكون قوله: (في يوم) صفة للعذاب، فيتعيّن أن يكون اليوم يوم القيامة. والمعنى على هذا مستقيم. (كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) . شبَّه السماء بالمهل، وهو درْدِيّ الزيت، في سوادها، وانكدار أنوارها يوم القيامة، أو هو ما أذيب من الفضة وشبهها، شبه السماء به في تلوّنه، وشبّه الجبال بالعهن وهو الصُّوف المصبوغ ألواناً، فيكون التشبيه في الانتفاش وفي اختلاف الألوان، لأن الجبال منها سود ومنها بيض. (كبَّاراً) - بتشديد الموحدة أبلَغ من الكبار بالتخفيف. والكبَار المخفف أبلغ من الكبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 (كَثِيباً مَهيلا) : معناه أن الجبال تصير إذا نُسفت يوم القيامة مثل الكثيب، وهو كُدْسُ الرمل. والمهيل: الليّن الرِّخْو نشرته الرياح، ووزنه مفعول. (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) . اللام للعهد، والرسول إلى فرعون موسى. (الكبَر) ،: جمع كبْرى. وقال ابن عطية: جمع كبيرة. والأول هو الصحيح، والمراد بها إما جهنم، أو الآيات والنذَارَة. (كوِّرت) : ذهب ضَوْؤُها. وقيل كوِّرَت كما تكور العِمَامة. وأخرج ابن أبي جرير عن سعيد بن جبير، قال: كوِّرت: غورت بالفارسية. (كشِطَت) : أي قُشرت كما يقشر جلد الشاة حين تُسلخ، وكَشْط السماء، هو طيُّها كطيِّ السجل، قاله ابن عطية. وقيل معناه كشفت. وهذا أليق بالكشط. (كنّس) : من قولك كَنس الوحش إذا دخل كناسه وهو موضعه. والمراد بها الدراري السبعة، لأنها تَكْنِس في جريها أو في أبراجها وتَخْفَى بضوء الشمس. وقيل: يعني بقر الوحش، فالخنّس على هذا من خَنس الأنف. والكنس من سكناها في كناسها. (كفُواً) : مثلاً. (كَهْلاً) : هو الذي انتهى شبابه. والمعنى أن عيسى عليه السلام يكلِّمُ الناسَ في الْمَهد وكَهلاً. (أكبَّ) الرجل على وجهه فهو مكب، وكبّه غيره بغير ألف. (كِسَفاً) : بفتح السين - جمع كِسْفة، وهي القطعة. وقرئ بالإسكان، ومنه قوله: (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 (كِفْلٌ منها) : أي نصيب، ومنه كِفْلَيْن من رحمته، أي نصيبين. ومنه الحديث: يُؤْتون أجْرَهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ... الحديث. وقد نظم بعض المتأخرين الذين يؤْتون أجْرَهم مرَّتين: ثلاث وعشر في المثبت فضّلوا ... أمَنْ يرفع الأخبار قد جاء مطلقا فأزْواج خَيْرِ المرسلين ومؤْمن ... من أهل الكتاب اليوم بالحقّ صَدَّقا كذا العبد إن يَنْصَحْ مَوَاليه دائما ... ويلزم باب الله بالدّين والتَّقَى وذو أمَة تأديبها كان محُسناً ... فصار لها زَوْجاً وقد كان اعْتَقا ومجتهد في الحق صادفَ رَأْيه ... ومَنْ حاول القرآن بالجهد والشّقا ومَنْ غسلُة ثنْتَين حَالَ وضوئه ... وعامٍ يسد الصفَّ مهما تَفَرَّقا ومَنْ يشكر النعماء إن كان ذا غِنًى ... ومن خصّ في الأرحام فيما تصدّقا ومَنْ سنَ خيراً والجبان إذا رمى ... بنفس على الكفَّار واقتحم اللّقا كذلك من صلَّى بفرض تيَمّم ... وبعد وجود الماء عاد وحقّقا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري، قال: كفْلَيْن ضعفيْن - بالحبشية. (كَيْدهُنَّ) : قد قدمنا أن الكيد من الخَلْق احتيال، ومن اللَه مشيئته أمرا ينزل بالعبد من حيث لا يشعر. وأما قوله تعالى: (كذلك كِدْنَا ليوسف) ، فمعناه فعلنا له ذلك، لأنه كان في شرعه أو عادته أن يضرب السارق، ويضاعف عليه الغُرْم، ولكن حكم في هذه القضية بحكم آل يعقوب. (كتمَ شهادةً عِنده مِنَ الله) : يعني الشهادة بأنّ الأنبياء على الحنفية. و (مِنَ الله) يتعلق بـ (كتم) أو بعنده، كأنّ المعنى شهادة تخلصت له من الله. (أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوه) : جمع كِنَان، وهو الغطاء. (وأن يفقهوه) مفعول من أجله، تقريره كراهة أن يفقهوه، وهذه كلها استعارات في إضلالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وأكناناً في قوله تعالى: (وجعلَ لَكمْ مِنَ الجِبَال أكنانا) . جمع كِنّ، وهو ما يقي من الحر والبرد والريح وغير ذلك. ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال. (كِبْرَه) - بفتح الكاف وكسرها لغتان: أي معظمه. وأما قوله تعالى: (إلاَّ كبْرٌ ما همْ بِبَالِغيه) ، أي تكبّر. وقوله: (وتَكونَ لكما الكبْرِياء في الأرض) ، أي الملك. والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام، وإنما سمي الْملْك كبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. (كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ) . الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرَاد غيره. وقيل ذلك كقول القائل لابنه: إن كنت ابني فبرّني مع أنه لا يشكّ أنه ابنه، ولأن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم، فأمره بسؤالهم. قال ابن عباس: لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسأل. وقال الزمخشري: ذلك على وجه الفرض والتقدير، أي - إن فرضت أنْ تقع في شكٍّ فاسأل. والمنزول عليه القرآن والشرع بجملته، وهذا أظهر. وقيل: يعني ما تقدم من أنَّ بني إسرائيل ما اختلفوا إلاَّ من بعد ما جاءهم الحق. والذين يقرأون الكتاب هم عبد الله بن سلام، ومن أسلم من الأحبار، وهذا بعيد، لأن الآية مكية. وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة فحَمْل الآية على الإطلاق أولى. (كِفَاتاً) : من كفِت، إذا ضمّ وجمع. والمعنى أن الأرض تكفِت الأحياء، لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع، فكأنه قال جامعة أحياء وأمواتا. ويجوز أن يكون المعنى تكفتهم أحياءً وأمواتاً، فيكون نصبهما على الحال من الضمير، وإنما نكّر أحياءً وأمواتاً للتفخيم، ودلالة على كثرتهم، وكانوا يسمون بَقِيع الغَرْقَد كَفْتَة، لأنها مقبرة تضم الموتى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 (كِذَّابا) : بالتشديد، مصدر بمعنى تكذيب. وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة، وهي تكذيب بعضهم لبعض. (الكاف) : حرف جَرّ له معان، أشهرها التشبيه، نحو: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) . والتعليل: (كما أرْسلْنَا فيكم) . قال الأخفش: أي لأجل إرْسالنا فيكم رَسولاً منكم. (واذكرُوه كما هَدَاكم) ، أي لأجل هدايته إياكم. (وَيْكَأنّه لا يفْلح الكافرون) ، أي أعجب لعدم فَلاَحهم. (اجعَلْ لنا إلهاً كما لهم آلهة) . والتأكيد، وهي الزائدة، وحمل عليه الأكثرون: (لَيْسَ كَمِثْلِه شَيء) . أي ليس مثله شيء، ولو كانت غير زائدة لزم إثبات المثل، وهو محال. والقصد بهذا الكلام نَفْيُه. قال ابن جني: وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل، لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا. وقال الراغب: إنما جمع بين الكاف والمثل لتأكيد النفي ، تنبيه اً على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف، فنفى بـ ليس الأمرين جميعاً. وقال ابن فورَك: ليست زائدة. والمعنى ليس مثله مثل شيء، وإذا نَفيْتَ التماثل عن المثل فلا مثل لله في الحقيقة. وقال الشيخ زين الدين بن عبد السلام: مثل يُطلق ويراد بها الذات. كقولك: مثلك لا يفعل، أي أنت لا تفعله. كما قال: ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فَرْداً بلا مشْبِه وقد قال تعالى: (فإنْ آمنوا بمثْلِ ما آمَنْتم به فقد اهْتَدوا) . أي بالذي آمنتم به إياه، لأَن إيمانهم لا مثل له، فالتقدير في الآية ليس كذاته شيء. وقال الراغب: المِثْل ها هنا بمعنى الصفة، ومعناه: ليس كصفته صفةٌ، تنبيهاً على أنه وإن كان وُصِف بكثير مما وصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر، وله المثَل الأعْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 تنبيه: ترد الكاف اسماً بمعنى مثل، فتكون في محلّ إعراب، ويعود عليها الضمير. قال الزمخشري: في قوله: (كهَيْئَةِ الطير فأنفخ فيه) - إن الضمير في فيه للكاف في كهيئة، أي أنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيصير كسائر الطيور. مسألة الكاف في (ذلك) ونحوه حرف خطاب لا محل له من الإعراب. وفي إيّاك قيل حرف، وقيل اسم مضاف إليه. وفي: (أرَأيْتك) قيل حرف، وقيل اسم، في محل رفع، وقيل نصب. والأول أرجح. (كاد) : فعل ناقص أتى منه الماضي والمضارع فقط، له اسم مرفوع وخبر مضارع مجرد من أن، ومعناها قارب. فنفيها نفي للمقاربة، وإثباتها إثبات للمقاربة. واشتهر على ألسنة كثير أن نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقولك: كاد زيد يفعل - معناه لم يفعل، بدليل: (وإنْ كادوا لَيَفْتِنُونَك) . وما كاد يفعل، معناه فعل، بدليل: (وما كادوا يفعلون) . أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن وإن كادوا وكَاد ويكاد فإنه لا يكون أبداً. وقيل: إنها تفيد الدلالة على وقوع الفعل بعسر. وقيل: نفي الماضي إثبات، بدليل: (وما كادوا يفعلون) ، ونفي المضارع نفي بدليل: (لم يَكَدْ يرَاها) ، مع أنه لم ير شيئاً. والصحيح الأول، وأنها كغيرها، نفيها نفي وإثباتها إثبات، فمعنى كاد يفعل قارب الفعل ولم يفعل. وما كاد يفعل ما قارب الفعل، فضلاً عن أن يفعل، فنفي الفعل لازم من نفي المقاربة عقلا. وأما آية: (فذبحوها وما كادُوا يَفْعلون) ، فهو إخبار عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولاً بعَداء من ذبحها، وإثبات الفعل إنما فهم من دليل آخر، وهو قوله: فذبحوها. وأما قوله تعالى: (لقد كِدْتَ تَرْكَن) - مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يركن لا قليلاً ولا كثيراً فإنه مفهوم من جهة أن " لَوْلا " الامتناعية تقتضي ذلك. فائدة ترد كاد بمعنى أراد. ومنه: (كذَلِكَ كِدْنا ليوسف) . و (أكَاد أخْفيها) . وعكسه، كقوله تعالى: (جِدَاراً يريد أنْ يَنْقَضَّ) ، أي يكاد. (كان) : فعل ناقص متصرِّف، يرفع الاسم وينصب الخبر، معناه فى الأصل المضيّ والانقطاع، نحو: (كانوا أشدً منكم قوةً وأكثر أموالاً وأوْلادا) . وتأتي بمعنى الدَّوام والاستمرار، نحو: (وكان الله غفوراً رحيما) . (وكنَّا بكل شيء عالمين) ، أي لم نزل كذلك. وعلى هذا المعنى تتخرج جميع الصفات الذاتية المقترنة بكان. قال أبو بكر الرازي: كان في القرآن على خمسة أوجه: بمعنى الأزل والأبَد، كقوله: (وكان الله عَلِيما حكيما) . وبمعنى المضيّ المنقطع، وهو الأصل في معناها، نحو: (وكان في المدينة تسْعة رَهْطٍ) . وبمعنى الحال، نحو: (كنْتم خَيْرَ أمَّة أخْرِجَتْ للناس) . (إنَ الصلاةَ كانَتْ على المؤمنين كتاباً مَوْقوتاً) . وبمعنى الاستقبال، نحو: (يخافون يَوْما كان شَرُّه مُسْتَطيراً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وبمعنى صار، نحو: (وكان من الكافرين) . قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدِّيِّ، قال: قال عمر بن الخطاب: لو شاء اللَه لقال: أنتم، فكنَّا كل نا، ولكن قال: كنتم في خاصة أصحاب محمد. وترد (كان) بمعنى ينبغي، نحو: (ما كان لكم أنْ تُنْبِتُوا شجرها) ، (ما يكون لنا أن نتكلَّم بهذا) . وبمعنى حضر أو وجد، نحو: (وإن كان ذو عسْرَةٍ فَنظِرَةٌ إلى ميسرة) . (إلاَّ أنْ تكونَ تجارةً حاضرةً) . (وإنْ تَك حَسَنَةً) . وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وجعل منه: (وما عِلْمي بما كانُوا يَعْمَلون) . (كَأنَّ) - بالتشديد: حرف للتشبيه المؤكد، لأن الأكثر على أنه مركّب من كاف التشبيه، وأن المؤكدة. والأصل في كأن زَيْدا أسدٌ - إن زيداً كأسد. قدم حرف التشبيه اهتماماً به، ففُتحت همزة أن لدخول الجار. قال حازم: وإنما تستعمل حيث يقوى التشبيه حتى يكاد الرَّائي يشك في أن المشبَّه هو المشبّه به، ولذلك قالت بلقيس: (كأنه هو) . قيل: وترد للظن والشك فيما إذا كان خبرها غير جامد. وقد تخفَّف، نحو: (كأن لم يَدْعنا إلى ضرٍّ مَسَّه) . (كأين) : اسم مركب من كاف التشبيه وأيّ المنونة للتكثير في العدد، نحو: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) . وفيه لغات، منها كائن بوزن بائعِ، وقرأها ابن كثير حيث وقعت. وكأيِّن بوزن كعيّن، وقرئ بها. وكأيّن من نبي قَاتَل. وهي مبنيَّة لازمة الصدر، ملازمة لإبهام، مفتقرة إلى تمييز، وتمييزها مجرور بمن غالباً - وقال ابن عصفور: لازماً. (كذا) : لم ترد في القرآن إلا للإشارة، نحو: (أهكذا عَرْشك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 (كل) : اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر المضاف هو إليه، نحو: (كلُّ نَفْس ذائقة الموت) . والمعرّف المجموع، نحو: (وكلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدا) . (كلّ الطَّعَام كان حِلاًّ لبني إسرائيل) . وأجزاء المفرد المعَرّف، نحو: (يَطْبَع اللَّهُ على كلّ قَلْبِ متَكبِّرِ جَبّار) ، بإضافة قلب إلى متكبر، أي على كل أجزائه. وقراءة التنوين لعموم أفراد القلوب. وترد باعتبار ما قبلها وما بعدها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون نعتاً لنكرة أو معرفة، فتدل على كماله، وتجب إضافتها إلى اسم ظاهر تمَاثِله لفظاً ومعنى، نحو: (ولا تَبْسطْها كلَّ الْبَسْط) ، أي بسطا كل البسط، أي تاماً. (فلا تَمِيلوا كلَّ الميْلِ) . ثانيها: أن تكون توكيداً لمعرفةٍ، ففائدتها العموم، وتجب إضافتها إلى ضمير راجع للمؤكد، نحو: (فسجَدَ الملاَئكة كلّهم أجمعون) . وأجاز الفَرّاء والزمخشري قطعها حينئذ عن الإضافة لفظاً، وخرّج عليه قراءة بعضهم: (إنّا كلاًّ فيها) . ثالثها: ألا تكون تابعة، بل تالية للعوامل، فتقع مضافةً إلى الظاهر، وغير مضافة، نحو: (كل نفْس بما كسبَتْ رَهِينَة) . (وكُلاًّ ضَرَبْنَا لَه الأمثال) . وحيث أضيفت إلى منكَّر وجب في ضميرها مراعاة معناها، نحو: (وكلّ شَيْءٍ فَعَلوه) . (وكلَّ إنسان ألْزَمْنَاه) . (كلُّ نَفْس ذَائِقَة الموْتِ) . (كلُّ نَفْس بما كسبت رَهينة) . (وعلى كلِّ ضَامِر يَأتيْن) . أو إلى معرفة جاز مراعاة لفظها في الإفراد والتذكير، ومراعاة معناها، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 اجتمعا في قوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) . أو قطعت فكذلك، نحو: (كلّ يَعْمَل على شَاكلَتهِ) . (فكلًا أخَذْنا بذَنْبِه) . (وكلٌّ كانوا ظَالِمين) . وحيث وقعت في حَيًز النفْي بأن تقدمت عليها أداته أو الفعل المنفي فالمنفي يوجَّه إلى الشمول خاصة، ويفيد بمفهومه إثبات الفعل لبعض الأفراد. وإن وقع النفي في حيزها فهو موجّه إلى كل فرد، هكذا ذكره البيانيون. وقد أشكل على هذه القاعدة: (واللَه لا يحِب كلَّ مخْتَال فَخور) ، إذ يقتضي إثبات الحب لمن فيه أحد الوصفين. وأجيب بأن دلالة المفهوم إنما يعوّل عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود إذ دل الدليل على تحريم الاختيال والفخر مطلقا. مسألة تتصل (ما) بكلّ، نحو: (كلَّمَا رزِقوا مِنْهَا من ثَمَرَةٍ رِزْقا) . وهي مصدرية، لكنها نابت بصلتها عن ظرف زمان، كما ينوب عنه المصدر الصريح. والمعنى: كلّ وقت، ولهذا تسمَّى (ما) هذه المصدرية الظرفية، أي النائبة عن المصدر، لا أنها ظرف في نفسها، و (كل) من (كلما) - منصوب على الظرفية بإضافته إلى شيء هو قائم مقامه، وناصبه الفعل الذي هو جوابٌ في المعنى. وقد ذكر الفقهاء والأصوليون أن كلما للتكرار. قال أبو حيان: وإنما ذلك من عموم ما، لأن الظرفية مرادٌ بها العموم. و (كل) أكدته. (كلاَ وكِلْتَا) : اسمان مفردان لفظاً مثنيان معنى مضَافَان أبدًا لفظاً ومعنى إلى كلمة واحدة معرّفة دالة على اثنين. قال الراغب: وهما في التثنية ككلّ في الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قال تعالى: (كلتا الجنَّتين آتتْ أكلها) ، (أحدهما أو كلاَهما) . (كَلّا) : مركب عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية، شددت لامُها لتقوية المعنى، ولدفع توهّم بقاء معنى الكلمتين. وقال غيره: بسيطة، فقال سيبويه والأكثرون: حرف معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم أبداً يجيزون الوقْفَ عليها والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعتَ (كَلاَّ) في سورة فاح كم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد. وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتوّ كان بها. قال ابن هشام: وفيه نظر، لأنه لا يظهر معنى للزجر في نحو: (ما شاء رَكّبَك. كَلّا) ، (يوم يَقوم الناس لربّ العالمين، كَلَا) . (ثم إنَّ علينا بَيَانَه كلا) . وقولهم: انْتَهِ عن تَرْكِ الإيمان بالتصوير في أيّ صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن تَعسّف، إذ لم يتقدم في الأوليين حكاية نَفْي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين كلا، وذكر العجلة. وأيضاً فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العَلَق، ثم نزل: (إنَّ الإنسان ليَطْغَى) ، فجاءت في افتتاح الكلام. ورأى آخرون أن معنى الرّدعْ والزجر ليس مستمرًّا فيها، فزادوا معنى ثانياً يصح عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى. قال الكسائي: تكون بمعنى حقا. وقال أبو حاتم: بمعنى ألاَ الاستفتاحية. وقال النَّضْر ابن شُميل: حرف جواب بمنزلة أي ونعم، وحملوا عليه: (كَلاَّ والقمر. واللَّيل إذا أدْبر) . وقال الفراء وابن سعدان: بمعنى سوف، حكاه أبو حيان في تذكرته. قال مكي: وإذا كانت بمعنى حقاً فهي اسم. وقرِئ: (كَلاًّ سيَكفرونَ بعبادتهم) ، بالتنوين. ووجِّه بأنه مصدر كَلَّ إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 أعيا، أي كَلوا في دعواهم، وانقطعوا، أو من الكل وهو الثقل، أي حملوا كلاًّ. وجَوّز الزمخشري كونه حرف الردع ونوّن كما في (سلاسلا) . وردَّة أبو حيان بأن ذلك إنما صح في (سلاسلا) ، لأنه اسم أصلُه التنوين. فرجع به إلى أصله للتناسب. قال ابن هشام: وليس هذا التوجيه منحصراً عند الزمخشري في ذلك، بل جَوّزَ كون التنوين بدلاً من حرف الإطلاق المزيد في رأس الآية، ثم إنه وُصل بنية الوقف. (كم) : اسم مبنيّ لازم الصدر مبْهم مفتقر إلى التمييز. وترِد استفهامية ولم تقع في القرآن. وخبرية بمعنى كثير، وإنما تَقَع غالباً في مقام الافتخار والمباهاة، نحو: (وكم مِنْ مَلَكٍ في السماوات) . (وكم مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها) . (وكم قَصَمْنَا مِنْ قرية) . وعن الكسائي أنَّ أصلها كما، فحذفت الألف مثل بِمَ ولِمَ، حكاه الزجاج. ورُد بأنه لو كان كذلك لكانت مفتوحة الميم. (كَيْ) : حرف له معنيان: أحدهما: التعليل، نحو: (كَيْ لَا يكونَ دُولَة بين الأغنياءِ منكم) . والثاتي: معنى أنْ المصدرية، نحو: (لكيلا تأسَوْا) ، لحلول أن محلها، ولأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل. (كيف) : اسم يرِد على وجهين: الشرط، وخرج عليه: (يُنْفِق كيف يشاء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) . (فيبسطه في السماء كيف يشاء) . وجوائها في ذلك كلِّه محذوف، لدلالة ما قبلها. والاستفهام، وهو الغالب، ويستفهم بها عن حال الشيء لا عَنْ ذاته. قال الراغب: وإنما يُسْألُ بها عما يصح أن يُقال فيه شبيه وغير شبيه، ولهذا لا يصح أنْ يقال إن الله كيف. وكلما أخبر الله بلفظ "كيف" عن نفسه فهو استخبار على طريق التنبيه للمخاطب، أو التوبيخ، نحو: (كيف تكفرون) . (كيف يَهْدِي الله قَوْماً كفَرُوا بَعْدَ إيمانهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 (حرف اللام) (لعنهم) : طردهم وأبْعَدَهم. وأما قوله تعالى: (ويَلْعَنُهم اللاَّعِنُون) ، فيراد به الملائكة والمؤمنون. وقيل المخلوقات إلا الثَّقَلَيْن. وقيل البهائم لما يصيبهم من الجَدْب بسبب ذنوب بني آدم. (لمستم، ولامستم) : بمعنى النكاح. (لَغْو اليمين) : ساقطه، وهو: والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قَصْد، هكذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وقال ابن عباس: اللغو: الحلف حين الغَضَب. وقيل: اللغو اليمين على المعصية. والمؤاخذة العقاب. أو وجوب الكفارة. واللَّغو أيضاً: الشيء المسقط الْمقى، تقول: ألقيت الشيء، أي طرحته وأسقطته. وأما قوله عز وجل: (وإذا مَرّوا باللّغْوِ مَروا كِرَاما) . فمعناه الإعراض عن قبيح الكلام، والاستحياء من الدخول مع أهله، تنزيهاً لأنفسهم عن ذلك. (لَبَسْنَا عَلَيْهم) : أي خلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضُعفائهم، فإنهم إذا رأوا الملَك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان، وليس بملك. (لقضِيَ الأمْر ثم لا يُنْظَرون) ، قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا مَلَكاً فكفروا بعد ذلك لعُجِّل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وقضي الأمر على هذا تعجيل أخْذِهم. وقيل المعنى: لو أنزلنا مَلَكا لماتوا من هَوْل رؤيته، فقضاء الأمر على هذا: موتهم. (ليَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القيامة لا رَيْبَ فيه) : مقطوع مما قبله، وهو جواب لقسم محذوف. وقيل: هو تفسير للرحمة المذكورة، تقديره إن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب. وقيل (إلى) هنا بمعنى في، يعني في يوم القيامة. وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها. (لواقِحَ) : بمعنى ملاقح جمع ملْقَحة، أي تلقح الشجر والسحاب، كأنها تنتجه. ويقال لواقح حوامل، جمع لاقح، لأنها تحمل السحاب وتقلبه وتصرفه، ثم تحلّه فينزل. ومما يوضِّح هذا قوله تعالى: (يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) ، أي حملت. (لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) : لوما: عرض وتحضيض، والضمير لكفّار قريش. وذلك أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالملائكة، فأخبر الحق بأنهم لو رأوا أعظم آية لقالوا: إنها تحيّل أو سحر. (لها سَبْعَة أبواب) : يعني جهنم. روي أنها سبع طبقات في كل طبقةٍ بابٌ، فأعلاها للمذنبين من المسلمين. والثانية لليهود. والثالثة للنصارى. والرابعة للصابئين. والخامسة للمجوس. والسادسة للمشركين. والسابعة للمنافقين. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) : هذا قسم. والعمْر: الحياة. وفيه كرامةٌ له - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أقسم بحياته ولم يقسم بحياة غَيْره. وقيل: هو من قول الملائكة لِـ لُوط، وارتفاعه بالابتداء، وخبره محذوف. تقديره: لعمرك قسمي، واللام للتوطئة. وسكرتُهم: ضلالهم وجهلهم. (لَنَسألَنَّهمْ أجمعين) : هذا السؤال المثبت على وجه الحساب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 والسؤال المنفي في قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ، على وجه الاستفهام المحْض، لأن الله يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى السؤال عنها. (لا يلبثون خِلَافَك إلا قَلِيلاً) ، أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك من مكة إلاَّ قليلاً. فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً من مكة لم يبقوا بعد ذلك إلا قليلاً، وقتلوا بعد ذلك يوم بدر. (لَيَسْتَفِزّونك) : الضمير لقريش، كانوا قد هَمّوا أن يخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وذلك قبل الهجرة، فالأرض هنا يراد بها مكة، لأنها بلده. (لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) : أي ضعف عذابهما، لو ركنْتَ إليهم، ولم يركن إليهم - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوءة، فكيف بعدها؟! (لنذهبنَّ بالذي أوْحَيْنَا إليك) : أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن فمحَوناه من الصّدور والمصاحف، وهذه الآية متصلة المعنى بقوله: (وما أُوتِيتم مِنَ العِلْمِ إلا قليلاً) ، أي في قدرتنا أنْ نذهب بالذي أُوحي إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. (لنْ نؤمِنَ لكَ حتى تفَجِّرَ لنا من الأرْضِ ينْبُوعا) . الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش، طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من خوارق العادات، وضروباً من المعجزات، وهي التي ذكرها الله في كتابه، وهذه منها. واليَنبوع: العين، قالوا له: إن مكة قليلة الماء ففجِّرْ لنا فيها عيناً من ماء. وقيل: إن الذي قال عبدُ الله بن أبي أمية بن المغيرة، وكان ابن عمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم بعد ذلك. (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 معناها لو كان أهل الأرض ملائكةً لكان الرسول إليهم مَلكاً ولكنهم بشر، فالرسول إليهم بشر من جنسهم. (لو أنْتم تَمْلِكون خَزَائِنَ رحمةِ رَبِّي إذاً لأمسكْتمْ خشْيَةَ الإنفاق) ، أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن العطاء خشية الفقر. فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق، وهو الفقر. ومفعول (أمسكتم) محذوف. وقال الزمخشري: لا مفعول له، لأن معناه بخلتم. من قولهم للبخيل: ممْسك. ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح، وخوف الفقر، بخلاف وصف الله تعالى بالجود والغنى. (لَفِيفاً) : جميعاً مختلطين. (لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) : يعني دروعا، تكون واحداً، وتكون جمعا، وأول من صنعها داود عليه السلام. وسببها أنه عليه السلام كان يتجسس عن أخباره وسيرته من الناس، فلقي يوما ملكاً، فقال له: ما تقول في داود، فقال: نعْمَ الرجل لو كان يأكل من كَدّ يده، فطلب من الله صنعة يتقوّت منها، فألاَن له الحديد، وعلمه جبريل صنعة الدروع. قال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح. وقال الزمخشري: اللبوس: اللباس. وقرئ: لتحْصِنَكم - بالتاء والياء والنون، فالنون لله تعالى، والتاء للصنعة. والياء لداود. واللبوس واللباس: الشدة. (لَهْوَ الحديث) : باطله، وهو الغناء. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " شراء المغَنّيَات وبيعهن حرام ". وقيل نزلت هذه الآية في قرَشي اشترى جارية مغنّية تغني بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالشرا على هذا حقيقة. وقيل: نزلت في النَّضْر بن الحارث، وكان قد تعلم أخبارَ فارس، فذكر لَهْوَ الحديث، وشراء لهو الحديث استحبابه، وقوله، وسماعه، فالشراء على هذا مجاز. وقيل لهو الحديث الباطل. وقيل: الشرك. ومعنى اللفظ يعمّ ذلك كله. وظاهر الآية أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 لفظ إلى كبر واستخفاف بالدين، لقوله: (ليضِلَّ عن سبيل الله ... ) الآية. وأن المراد شخص معيّن لوصفه بعد ذلك بجملة أوْصاف. (ليلةٍ مبَاركة) ، يعني ليلة القَدْرِ من رمضان. وكيفية إنزال هذا القرآن العظيم فيها أنه أنزل إلى السماء جملة واحدة، ثم نزل به جبريل مفَرَّقاً في عشرين سنة، أَو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة، قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) . وأخرج الحاكم وابن أبي شيبة من طريق حسان بن حُريث عن سعيد بن جبَيْر، عن ابن عباس، قال: فصِلَ القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم. أسانيدها كلها صحيحة. وأخرج الطبراني من وجْهٍ آخر عن ابن عباس، قال: أنْزِل القرآن في ليْلة القَدْرِ في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملةً واحدة، ثم أنزل نجوماً. إسناده لا بَأْسَ به. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي عن محمد ابن أبي المجالد، عن مِقْسم، عن ابن عباس - أنه سأله ابن عطية الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك! قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزِل فيه القرآن) وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) . وهذا نزّل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القَدْر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم، رَسَلاً في الشهور والأيام. قال أبو شامة: قوله: رسلا، أي رِفقاً، وعلى مواقع النجوم، أي على مثل مساقطها، يريد أنزل مفَرَّقاً يَتْلو بعضه بعضاً على تؤدة ورفق. وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وذلك باطل، للآية: (إنا أنزلناه ... ) . وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 قيل: السرّ في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا تفخيم أمره وأمر مَنْ نزل عليه. وذلك بإعْلام سكان السماوات السبع أنَّ هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لِأشْرف الأمم. وقد قربناه إليهم لننزله إليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصولَه إليهم منجما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باينَ بينه وبينها، فجعل له الأمْرَيْن: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرَّقاً، تشريفاً للمنزل عليه. ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز. وقال الحكيم التِّرْمذي: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمةُ بفتح الباب جاءت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدِّ الدنيا، وؤضعت النبوة في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وجاء جبريل بالرسالة ثم الْوَحْي، كأنه أراد تعالى أن يسلّم هذه الرحمة التي كانت حظَّ هذه الأمة مِنَ اللهِ إلى الأمة. وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريمُ بني آدم. وتعظيمُ شأنهم عند الملائكة، وتعريفُهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيِّعَ سورةَ الأنعام، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمَرَ جبريل بإملائه على السّفَرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له. قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى ا@ في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في إنزاله عليه منجّماً ليحفظه. قال أبو شامة: فإن قلت فقوله تعالى: (إنَّا أنْزَلْنَاه في ليلة القَدْر) . من جملة القرآن الذي أنزل جملة أم لا، فإن لم يكن منه فما نُزل جملة، وإن كان منه فما وَجْهُ صحة هذه العبارة؟ قلت له وجهان: أحدهما: أن يكون معنى الكلام إنا حكمْنَا لإنزاله في ليلة القَدْر، وقضينا به وقدّرناه في الأزَل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 والثاني: أن لفظه لفظُ الماضي ومعناه الاستقبال، أي نزل جملة في ليلة القدر. قال أبو شامة: الظاهر أن نزولَه جملة إلى السماء الدنيا بعد ظهورِ نبوءته - صلى الله عليه وسلم -. قال: ويحتمل أن يكون قبلها. قلت: الظاهر هو الثاني، وسياقُ الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه. وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشّعَب عن واثلة بن الأسْقَع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خَلَتْ منه، والزبور لثمان عشرة منه. والقرآن لأربع وعشرين خلت منه. وفي رواية: وصحف إبراهيم لأول ليْلة، قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنْزِلَ فيه القرآن) . ولقوله: (إنا أنْزَلنَاهُ في ليلة القَدْرِ) فيُحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض: (اقرأ باسم ربك) . قلت: لكن يُشْكِلُ على هذا ما اشتهر من أنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث في شهر ربيع. ويُجَاب عن هذا بما ذكروه أنه نُبيء أولاً بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أوحي إليه في اليقظة. ذكره البيهقي وغيره. نعم، يشكل على الحديث السابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قِلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان. الثالث: قال أبو شامة: فإن قيل: ما السرُّ في نزوله منَجَّماً، وهلاّ نزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤالْ قد تولى الله جوابَه، فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) . يعْنُون كما أنزل على مَنْ قبْله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: (كَذَلِكَ) - أي أنزلناه كذلك مفرّقا - (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) ، أي لنقوِّيَ به قلبك، فإن الوحْي إذا كان يتجدد في كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 حادثة كان أقوى للقلب، وأشدَّ عناية بالمرسل إليه. ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل. وقيل معنى (لنثبِّتَ به فؤادَكَ) ، أي لنحفظه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أمِّياً لا يقرأ ولا يكتب، ففرِّق عليه ليثبت عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتباً قارئاً، فيمكنه حفْظُ الجميع. قال ابن فُورك: قيل أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب - وهو موسى - وأنزل الله القرآن مفرَّقاً، لأنه نزل غير مكتوب على نبي أميّ. وقال غيره: إنما لم ينزّل جملة واحدة، لأنَّ منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتَّى ذلك إلا فيما نزل مفرقاً. ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قِيل أو فعل فُعِل. وقد تقدّمَ ذلك في قول ابن عباس، ونزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم، وفَسّر به قوله: (ولا يأتونك بِمَثَل إلاَّ جئْنَاك بالحقّ وأحسنَ تفسيراً) . أخرجه عنه ابن أبي حاتم. فالحاصل أن الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرقاً. تذنيب ما تقدم في كلام هؤلاء من أنَّ سائر الكتب أنزلت جملة ً هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعا. وقد رأيتُ بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل عليه، بل الصواب أنها نزلت مفرقات كالقرآن. وأقول: الصواب الأول، والدليل على ذلك آيةُ الفرقان السابقة. أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة، كما أنزلت التوراة على موسى. فنز لت. وأخرجه من وجهٍ آخر عنه - بلفظ: قال المشركون. وأخرج نحوه عن قَتَادة والسدّي. فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثُبوت قَوْلِ الكفار. قلت: سكوتُه تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعُدُوله إلى بيان حكمته دليلٌ على صحته، ولو كانت الكتبُ كلها مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنةُ الله في الكتب أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك عن قولهم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) ، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) . وقولهم: (أبعثَ اللهُ بَشراً رسولاً) . وقال: (وما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إلاَّ رجالاً نُوحي إليهم) . وقولهم: كيف يكون رسولا ولا له همٌّ إلا النساء، فقال: (ولقد أرْسلنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وجعَلْنَا لهم أزواجاً وذُريّة ... ) . الآية. إلى غير ذلك. ومن الأدلة على ذلك أيضاً قولُه تعالى - في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) . (وألْقَى الألْوَاحَ) . (ولما سكتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أخذ الألْوَاح، وفي نسختها هُدًى ورحمةٌ) . (وإذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فوقَهُمْ كأنه ظلَّةٌ وظنوا أنه واقعٌ بهم خذُوا ما آتينَاكم بقوَّة) . فهذه الآيات كلها دالّة على إتيانه التوراة جملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس، قال: أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زَبرْجد، فيها تِبْيان لكل شيء وموعظة، فلما جاء بها ورأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العِجْل رمى بالتوراة من يده فتحطمت، فرفع الله منها ستةَ أسباع وأبقى سبعاً. وأخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده - رفعه، قال: الألواحُ التي أنزلت على موسى كانت من سِدْر الجنة، كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج، قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبُر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل، فأخذوه عن ذلك. فهذه آثار صحيحة في إنزال التوراة جملة، يؤخذ من الأثر الأخير منها حكمةٌ أخرى لإنزال القرآن مفرّقاً، فإنه أدْعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي. ويوضّح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة، قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورةٌ من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: " لا تشربوا الْخَمْرَ " - لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل: " لا تَزْنوا " لقالوا لا نَدَع الزنى أبداً. ثم رأيتُ هذه الحكمة مصرحا بها في الناسخ والمنسوخ لمكيّ. وأخرج البيهقي في الشّعَب، من طريق أبي خَلَدة عن عمر، قال: تعلَّمُوا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - خمساً خمساً. ومعناه - إن صح - إلقاؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القَدْر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله خاصة بهذا القدر. ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار، قال، قال أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 تنبيه: اتفق أهل السنّةِ والجماعة على أن كلام الله تعالى منزّل. واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال إظهار القراءة، ومنهم من قال إن الله تعالى ألْهم كلامَه جبريل، وهو في السماء، وهو عال من المكان. وعلَّمه قراءته، ثم إن جبريل أدَّاه في الأرض، وهو يهبط في المكان. وفي التنزيل طريقان: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل من صورة البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل. والثاني: أن الملك انخلع إلى البشريّة حتى يأخذ الرسول منه. والأول أصعب الحالين. وقال الطيبي: لعلّ نزول القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقَّفه الملَك من الله تَلَقُّفاً رُوحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويُلقيه عليه. وقال القطب الرازي في حواشي الكشّاف: التنزيل لغة بمعنى الإيواء، وبمعنى تحريك الشيء من عُلْو إلى سفل، وكلاَهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائمٌ بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ. ومَنْ قال القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ. وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن أول المعنيين اللغويين. ويمكن أن يراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا يناسب المعنى الثاني. والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقّفاً روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ، وينزل بها فيلقيها عليهم. وقال غيره: في المنزَّل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح الحفوظ ونزل به. وذكر بعضهم أن أحْرفَ القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها بقدر جَبَل قاف، وأن تحت كلّ حرف منها معان لا يحيط بها إلا الله تعالى. والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - علم تلك المعاني، وعبَّر عنها بلغة العرب، وتمسَّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) . والثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى، وأنه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك. وقال البيهقي - في معنى قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) . يريد - والله أعلم: إنا أسمعنا الملك وألهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقِلاً به من علو إلى سفل. قال أبو شامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قِدَمَ القرآن، وأنه صفة قائمة بذات اللَه تعالى. قلت: ويؤيد أن جبريل تلقَّفه سماعاً من الله تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النَّواس بن سمعان مرفوعاً: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهلُ السماء صُعقوا وخَرُّوا سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا، قال: الحق. فينتهي به حيث أمر. وأخرج ابن أبي مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: إذا تكلم الله بالوحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 سمع أهل السماوات صلصلةً كصلصلة السلسلة على الصَّفْوان، فيفزعون، ويرون أنه مِنْ أمر الساعة وأصل الحديث في الصحيح. وفي تفسير علي بن سهل النيسابوري: قال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة ً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بَيْب يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل، وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله، فمرّ بهم جبريل، وقد أفاقوا، فقال: ماذا قال ربكم، قالوا: الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - فأتى به جبريل إلى بيت العِزّة فأمْلاه على السفَرة الكرام - يعني الملائكة، وهو معنى قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) . وقال الْجُوَيني: كلام الله المنَزل قسمان: قسم قال الله لجبريل: قلْ للنبي الذي أنت مرْسل إليه: إن الله يقول افعل كذا وكذا، ومُرْ بكذا وكذا. ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قاله ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جنْدَك للقتال، فإن قال الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند يتفرّق، وحث على المقاتلة - لا ينسب إلى كذب، وتقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغَيِّر منه كلمة ولا حرفاً. قلت: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنّة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أدَّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى، لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبَحْ له إيحاؤه بالمعنى. والسرّ في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظٍ يقوم مقامه، وإنَّ تحتَ كل حرف منه معاني لا يحيط بها كثرة. فلا يقدر أحد أن يأتي ببدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يَرْوونه بلفظه الْموحَى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يرْوَى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤْمن التبديل والتحريف، فتأَمل. وقد رأيت عن السلف ما يعضّد كلام الجويني، فأخرج ابن أبي حاتم، من طريق عقيل، عن الزّهري - أنه سئل عن الوحي فقال: الوحي ما يوحِي الله إلى نبي من أنبيائه، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله. ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكن يحدِّث به الناس حديثاً، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه. فصل وقد ذكر العلماء للوحي كيفيّات: إحداها: أن يأتِيَه الملَك في مثل صلصلة الجرس، كما صح في مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تحسّ بالوحي، فقال: أسمع صلاصل. ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقْبض. قال الخطابي: والمراد أنه صوت متداول يسمعه ولا يتبيّنه أولّ ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل: هو صوت خَفْق أجنحة الملَك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه للوحي، فلا يُبقي فيه مكاناً لغيره. وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. الثانية: أن ينفُثَ في روعه الكلام نَفْثاً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن روحَ القُدس نَفث في روعي ". أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها. بأن يأتي في أحد الكيفيتين وينفث في رُوعه. الثالثة: أن يأتيه في صفة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح: وأحياناً يتمثَّلُ لي الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول - زاد أبو عَوَانة في صحيحه: وهو أهونُه عليَّ. الرابعة: أن يأتيه الملَك في النوم. وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر، كما رَوَى مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذ أغْفَى إغفاءةً ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليَّ آنفا سورة الكوثر ... الخ. وقال الإمام الرافعي في أماليه: ففهموا من الحديث أنها نزلت في تلك الإغفاءة. وقالوا: مِنَ الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن روْيا الأنبياء وحي. قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل في اليقظة، وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزّلة في اليقظة، أو عُرِض عليه الكوْثَر الذي وردت فيه السورة، فقرأها عليهم، وفسرها لهم. قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه. وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تَعْتَريه عند نزول الوحي. ويقال لها بُرَحاء الوحي. قلت: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي كنتُ أميل إليه قبل الوقوف عليه. والتأويل الأخير أصح من الأول، لأن قوله إنما يدفع في كونها نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة، وليست الإغفاءة إغفاءةَ نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة - كما في ليلة الإسراء، أو في النوم. كما في حديث معاذ: أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى ... الحديث. وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم، يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم، وبعض سورة الضحى، و (ألم نشرح) ، فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن حاتم، قال، قال - صلى الله عليه وسلم -: " سألتُ ربي مسألة، ووددت أني لم أكن سألته، قلت: أي ربي، اتخذتَ إبراهيم خليلاً، وكلمتَ موسى تكليما. فقال: يا محمد، ألم أجدك يتما فآويتك، وضالاً فهديتك، وعائلا فأغنيتك. وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وِزْرك، ورفعت لك ذكرك، ولا أُذكر إلاَّ ذُكرتَ معي ". فوائد : الأولى: أخرج الإمام أحمد في تاريخه، من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوءة، وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوءته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوءته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. قال ابن عسكر: والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الملك الموكل بالصُّور الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة، ونبوءته عليه الصلاة والسلام مؤذنة بقرْب الساعة وانقطاع الوحي، كما وُكل بذي القرنين رونيافل الذي يطوي الأرض، وبخالد بن سنان مالك خازن النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط، قال: في أمّ الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة، فوكل ثلاثة بحفظه من الملائكة، فوكل جبريل بالوحي. والكتب إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً. ووكل ميكائيل بالقَطْر والنبات، ووكل ملك الموت بقَبْض الأنفس، فإذا كان يوم القيامة وعارضوا بين حفظه وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب، قال: أول من يحاسب جبريل، لأنه كان أمينَ الله إلى رسله. الثانية: أخرخ البيهقيّ والحاكم عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن بالتفخيم كهيئة: (غذْرا أو نُذْراً) . و (الصَّدَفَيْنِ) ، (ألاَ لَه الْخَلْقُ والأمْر) ، وأشباه هذا. قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، فبيَّن أن المرفوع منه: أنزل القرآن بالتفخيم فقط، وأن الباقي مدرجٌ من كلام عمّار بن عبد الملك أحد رواة الحديث. الثالثة: أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثَّوْري، قال: لم ينزل وحْيٌ إلا بالعربية، ثم تَرْجم كلّ نبي لقومه. الرابعة: أخرج ابن أبي سعد عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه، ويتربَّدُ وجهه، ويجد برداً في ثناياه، ويعرق حتى يتحدّر منه مثل الْجُمان. الخامسة: قال البغوي في شرح السنّة: يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضَة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأها عليه، وكان يقْرئ الناس بها حتى مات. وكذلك عليه اعتمد أبو بكر وعمر في جمعه، وولاَّه عثمان كتب المصاحف. (لَحْن القَوْل) ، أي مقصده وطريقته. وقيل اللَّحْن هو الخفيّ المعنى، كالكناية والتعريض. والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - سيعرفهم من دلائل كلامهم، وإن لم يعرّفْه الله بهم على التعيين. فانظر هذا اللطف العظيم في ستر الله عليهم، وعلى أقاربهم من المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وروي أن الله لم يذكر له واحداً منهم باسمه، وهذا كما صح عن قوم مُوسى أنهم خرجوا للاستسقاء فلم يسقوا، فقال موسى: يا ربّ، لِمَ لم تجِبهم، فقال: يا موسى، إن فيهم نَمّاماً. فقال: يا رب، مَنْ هو، فقال: أنهى عن النَّمِيمة وأكون نماماً! ولكن ليتوبوا بأجمعهم، فتابوا، وسقاهم الله. (لَذَّة للشاربين) : أي لذيذة، لا كلذَّةِ الدنيا. (اللَّمَم) . فيه أربعة أقوال: الأول: أنه صغائر الذنوب، فالاستثناء على هذا في الآية منقطع. الثاني: أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفَلْتَة والسقْطَة دون دوام عليها. الثالث: أنه ما ألَمّوا به في الجاهلية من الشركِ والمعاصي. الرابع: أنه الهمّ بالذنب، وحديث النفس به دون أن يفعل. (ليس للإنْسان إلاَّ ما سعَى) : السعي هنا بمعنى العمل. وظاهرُها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام. واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعِتْق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره، ويصل نَفْعُها إلى مَنْ فُعِلَتْ عنه. واختلفوا في الأعمال البدنيّة، كالصلاة، والصيام. وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: (ألْحَقْنَا بهم ذريتَهمْ) . والصحيح أنها مُحْكَمة، لأنها خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. وفي تأويلها ثلاثة أقوال: الأول - أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا، فلا يلزم في شريعتنا. الثاني: للإنسان ما عمل بحق، وله ما عمل له غيره بهبة العاملِ له، فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الثالث: أنها في الذنوب. وقد اتّفق على أنه لا يحمل أحد ذَنْبَ أحد، ويدل على هذا قوله قبلها: (ألاَّ تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) ، كأنه يقول: لا يؤخَذ أحد بذنب غيره، ولا يؤخذ إلا بذنب نفسه. (لظَى) : اسم علم مشتقّ من اللظى بمعنى اللهب. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر) : معنى اللَّوَّاحة مغَيِّرة. يقال لاَحَهُ السّفَر: غَيَّره. والبشَر جمع بَشَرة، وهي الجِلْدة. فالمعنى أنها تحْرِق الجلود. وقيل تسَوِّدها. وقيل لوّاحة مِنْ لاح يعني ظهر، والبشر الناس، أي تلوح للناس. قال الحسن: تلوح لهم من مَسِيرة خمسمائة عام لا يخافون الآخرة، أي هذه العلة والسبب في إعراض مَنْ تقدَّم ذكرهم. (لَوَّامَة) : هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب، أو التقصير في الطاعة، فإن النفوس على ثلاثة أنواع، فخيرها النَّفْس المطمئنة، وشَرُّها النَّفْس الأمَّارة بالسوء، وبينهما النفس اللوَّامَة. وقيل اللوّامة المذمومة الفاجرة، وهذا بعيد، لأن الله لا يقْسم إلا بما يعظم من المخلوقات. ويستقيم إن كان لا أقسم نفياً للقسم. قال بعضهم: ليس من نفس بَرَّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها يوم القيامة، إن كانت عملت خيرا: هَلاَّ ازدادت منه، وإن كانت عملت سوءاً: لم عملته. (لَيَال عَشْرٍ) : هي عشر ذي الحجة عند الجمهور. وقيل: العشر الأول من المحرم. وفيها يوم عاشوراء. وقيل العشر الأخر من رمضان. وقيل العشر الأول منه. (لَمًّا) : الجمع، واللّفّ، فالتقدير أكْلاً ذا لَمّ، وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعْطون من الميراث أنْثَى ولا صغيراً، بل ينفرد به الرجال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 (لا يُنَازِعُنَّكَ في الأمْرِ) ، ضمير المنازعة للكفار، والمعنى أنهم لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق قد ظهر بحيث لا ينازع أحد فيه. فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي. وقيل المعنى: لا تنازعهم فيُنَازِعُوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. ويحتمل أن يكون نَهيْاً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ. والمراد بالأمر الدين والشريعة، أي في الدين والذبائح. (لُدًّا) : جمع ألدّ، وهو الشديد الخصومة والمجادلة. والمرادُ بذلك قُرَيش. وقيل معناه فُجَّاراً. (لوط) : قال ابن إسحاق: هو لوط بن هاران بن آزر. وفي المستدرك عن ابن عباس قال: لوط ابن أخي إبراهيم. (لُقْمان) :: قيل إنه كان نبياً. والأكثر على خلافه. أخرج ابنُ أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: كان لقمان عبداً حبشياً اختار الحكمة على النبوءة، فأعطاها الله له، فكان ينطق بها. لم يكن لقمان نبيئاً، ولكن عبدا أحسن اليقين، أحبَّ الله فأحبه فمنّ عليه بالحكمة. وروي أنه ابنُ أخت أيوب، أو ابن خالته. وروي أنه كان قاضيا لبني إسرائيل. واختلف في صنعته، فقيل: كان نجارا. وقيل خياطاً. وقيل راعي غنم. وكان ابنه كافراً، فما زال يوصيه حتى أسلم. (لُجيٍّ) : منسوب إلى اللجّ، وهو معظم الماء. وذهب بعضهم إلى أنَّ أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء المثَّل به، فالظلمات أعمال الكافر، والبحرُ اللجيّ صَدْره، والموجُ جهله، والسحابُ الغطاء الذي على قلبه. وذهب بعضهم إلى أنه تمثيلٌ بالجملة من غير مقابَلة. وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغةٌ، كما أن في وصف النور، المكرر قبلها مبالغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 (لُغُوب) : الإعياء والتعب. ورُوِي أن اليهود أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أخبرنا عما خلق الله في الأيام السبعة: فقال - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله السماوات والأرض يوم الأحد، والجبال يوم الإثنين، والدوابَّ يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والجنةَ والنار يوم الخميس، وآدم وحواء يوم الجمعة "، فقالوا: أصَبْتَ لو أتممت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما إتْمَامُها، " فقالوا: لما فرغ الله مِنْ خَلْق السماوات والأرض استَلْقَى على قَفَاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى واسَتراح، وكان ذلك يوم السبت الذي اتخذناه عِيدا واستراحة. فاغْتمّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَمّاً شديداً، فأنزل الله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) . وإنما يَلْغُب مَنْ يعمل بالآلات والجوارح، وإني أخلق الشيء إذا أردتُ وجودَه، أقول له كنْ فيكون. فظنَّ اليهود أن السبتَ لهم يوم الراحة، فصار يوم المحنة، وظنوا أنه يوم فَرَح، فصار يوم ترَح، فقال عليه السلام: السبت لليهود، والجمعة لكم، فلا تخالفوا فيها أمر الله تعالى كما خالف اليهود والنصارى، فصار المخالفون منهم قِرَدة. نكتة: إن اليهود لما خالفوا في يومهم مسخَهُم الله تعالى وغَيَّر شخصهم، والمؤمنون إذ أطاعوا الله وأدّوا صلاة الجمعة غيّرت صورة ذنوبهم حسنات، كما قال تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . إن اليهود لم يُمسخوا لصيْد السَّمكة، بل لتركهم تعظيم أمْر الله وارتكابهم لنَهْيه، ألاَ ترى أن آدم وحوّاء أكَلا من شجرة الخُلْد فبدَتْ لها سوءاتها. والنَحْل أكل من ورق أشجار الجنّة فصار في بطنه عسلاً، لأن آدم أكل بغير إذن، والنحل أكل بإذن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وأعجب من هذا أن الدودة التي أكلت جسم أيوب عليه السلام فصار لحمه في بطنها إبْريسماً (1) ، يا عجباً، إن آدميّاً يأكلُ سمكة فيغضب عليه الربُّ فيجعله قرداً، ودودة تأكل النبي فيرضى عنها الربّ، فيجعل رَوْثها إبْرَيْسماً، لأن هذه أكلَتْ بأمره، وذلك أكل بغير أمره. دودة أطاعت الرب فاستحقت الخِلْعَة. والمؤمن المخلص إذا أطاع أمر الله فكيف لا يستحق الرحمة والقُربَة والكرامة. (لبَداً) : كثيراً، من التلبيد، كأنه بعضه على بعض. (لمَزَة) : هو الذي يَعِيب الناس باللّسان. واختلف هل الهمَزة واللّمَزة سواء، واشتقاقه من الهمْزِ واللمز، وصيغة فُعلَة للمبالغة. ونزلت السورة في الأخنس بن شَرِيق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس. وقيل في أميّة بن خلف. وقيل في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك على العموم في كل مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات. (لِيوَاطِئُوا عِدَّةَ ما حرّمَ اللَهُ) ، أى ليوافقوا عددَ الأشهر الحرم، وهي أربعة. يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم يبالوا أن يحلّوا الحرام ويحرموا الحلال. (لِوَاذًا) ، يعني الذين ينصرفون عن حَفْر الخندق. واللّوَاذ: الروغان والمخالفة. وقيل الانصراف في خِفْية. وفي هذا وعيد وتهديد لمن خالف أمر الله ورسوله. (لِسَانَ صِدْق) : ثناء حسناً. (لِيْنَة) : نخلة، وجمعها لِيْن، وهي ألْوَانُ النَّخْل ما لم تكن العَجْوَة والبَرْنيّ. قال الكلبي: لا أعْلَمها إلا بلسان يهود. وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل على حصون بني النضير قَطَع المسلمون بعض نخلهم، وأحرقوا بعضها، فقال بَنُو النَّضِير: ما هذا الإفساد يا محمد، وأنت تنهى عن الفساد، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع وإحراق، فإن الله أذن للمسلمين في ذلك.   (1) ما روي من أكل الدود لجسد نبي الله أيوب - عليه السلام - أثناء مرضه من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 (لِيُخْزِي الْفَاسِقين) : بني النَّضِير. واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل مجتهد له مصيب، فإن الله قد صوّب فعل من قطع النخل، ومن تركها. واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم، فأجازه الجمهور. لهذه الآية، ولإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريق نخل بني النضير، وكرهه قَوْمٌ لوصية أبي بكر الصديق الجيشَ الذي وجّهَهم إلى الشام ألاَّ يَقْطَعوا شجَراً مُثْمِرا. (لله خمسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القرْبَى ... ) ، الآية. اختلف في قسم الخمس وهو خمس المغانم، فقال قوم: يصرف على ستة أسهم: سَهْم للَه في عمارة الكعبة، وسهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مصالح المسلمين. وقيل للوالي بعده. وسهم لِذَوِي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن لسبيل. وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهماً مختصاً، وإنما بدأ عنده باللَه، لأن الكل ملكه. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل خاصة. وقال مالك: الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته، ويصرف الباقي في المصالح. (ليَميزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطيّب) : الخبيث: الكفَّار، والطيب: المؤمنون. وقيل: الخبيث ما أنْفَقَه الكفَّار، والطيّب: ما أنفقه المؤمنون. واللام في (ليميز) - على هذا يتعلق ب (يغْلبون) وعلى الأول ب (يحْشَرون) . ومعنى يميز: يَفْرق بين الخبيث والطيب. (لله الأسماءُ الحسْنَى) ، لا لغيره، ولا نهاية لعددها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وإنما أخبر الشارع بالتسعة والتسعين في قوله: إن للهِ تسعة وتسعين اسماً مَنْ أحصاها دخل الجنة. وسبب نزول الآية أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية، مبيّنةً أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمّى واحد. والحسنى: مصدر وصف بها، وتأنيث أحسن. وحسْن أسماءَ الله أنها صفات مَدْحٍ وتعظيم وتحميد، فمنها ما هو للتعلّق، ومنها ما هو للتخلق، فينبغي الاعتناء بتبين معانيها، وبأخذ كل واحد منها حظاً ونصيباً. (لِلَّذينَ أحْسَنوا الحسْنى وزِيادة) : الحسنى الجنة، والنظر إلى وجه الله. وقيل الحسنى جزاء الحسنة بعَشْرة أمثالها، والزيادة التضعيف فَوْق ذلك إلى سبعمائة. والأول أصح، لوروده في الحديث، وكثرة القائلين به. (لولا نزلت سؤرة) ، بالهمز، من أسأرت أي أفضلت من السؤر، وهو ما بقي من الشراب في الإناء، كأنها قطعةٌ من القرآن. ومَنْ لم يهمزها جعلها من المعنى المتقدم، وسهَّل همزتها. ومنهم من شبهها بسورة البناء، أي القطعة منه، أي منزلة بعد منزلة. وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت في السور. ومنه السِّوَار لإحاطته بالساعد. وقيل: لارتفاعها، لأنها كلام الله. والسورة المنزلة الرفيعة، وكان المؤمنون يقولون هذا الكلام على وجه الحِرصِ على نزول القرآن والرغبة فيه، لأنهم كانوا يفرحون ويستوحشون من إبطائه. تنبيه: قال الجَعْبَري: حَدّ السورة قرآن يشتمل على آي ذي فاتحة وذي خاتمة. وأقلها ثلاث آيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وقال غيره: السورة الطائفة المترجمة توقيفاً، أي المسمّاةُ باسم خاصّ بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبتت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبيًنْتُ ذلك. ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، وسورة العنكبوت - يستهزئون بها، فنزل: (إنا كفَيْناكَ المستَهْزِئين) . وقد كره بعضهم أن يُقال سورة كذا لما رواه الطبراني والبَيْهقي مرفوعاً، عن أنس: لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذلك القرآن كله. وإسناده ضعيف، بل ادَّعَى ابن الجَوْزي أنه موضوع. وقال البيهقي: إنما يُعرف موقوفاً عن ابن عمر، ثم أخرجه عنه بسند صحيح. وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها عنه - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. ومن ثَمَّ لم يكرهه الجمهور. وقد يكون للسورة اسمٌ واحد وهو كثير، وقد يكون لها اسمان فأكثر، من ذلك: الفاتحة، وقد وقفت لها على نيِّفٍ وعشرين اسماً، وذلك يدل على شرفها، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى. قال بعضهم: وكما سمِّيت السورة الواحدة بأسماء سمِّيَت سورة باسم واحد. كالسور المسماة بـ الم والر، على القول بأن فواتح السور أسماء لها. قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسماء، هل هو توقيفيّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 أو بما يظهر من المناسبات، فإن كان الثاني فلن يعدم الفَطِن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة يقتضي اشتقاقها اسماً لها، وهو تعبيد. قال: وينبغي النظر في اختصاص كل سورة بما سُمِّيَتْ به. ولا شكَّ أنَّ العرب ترَاعِي وكثير من المسميات أخْذَ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه أو يكون معها أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرأي للمسمى. ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جَرَتْ سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة قصة البقرة المذكورة فيها، وعجيب الحكمة فيها. وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردَّد فيها شيء كثير من أحكام النساء. وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها، إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: (ومِنَ الأنْعَام حَمُولَةً وفَرْشاً ... ) ، إلى قوله: (أمْ كنْتم شهَداءَ إذْ وَصّاكم اللة بهذا) . لم يردْ في غيرها، كما ورد ذِكْر النساء في سور، إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة النساء، وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها، فسميت بما يخصها. فإن قيل: في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى. فلم خصَّتْ باسم هود وَحْدَه، مع أن قصة نوح فيها أوعب وأطول؟ قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء بأوْعَب مما ورد في غيرها، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور اسم هود كتكرّره في سورته، فإنه تكرر فيها في أربعة مواضع، والتكرار من أقْوَى الأسباب التي ذكرنا. فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فيها في ستّةِ مواضع. قيل: لما أفْرِدت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة بِرَأسِها فلم يقع فيها غير ذلك، كانت أوْلى بأن تسمَّى باسمه من سورة تضمّنَتْ قصتَه وقصة غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قلت: فلك أن تسأل وتقول: قد سميت سورة جَرَتْ فيها قصص أنبياء بأسمائهم، كسورة نوح، وسورة هود، وسورة إبراهيم، وسورة يونس، وسورة آل عمران، وسورة طس سليمان، وسورة يوسف، وسورة محمد صلى الله على جميع الأنبياء، وسورة مريم، وسورة لقمان، وسورة المؤمن. وسورة أقوام: كسورة بني إسرائيل، وسورة أصحابِ الكَهْف، وسورة الحِجْر، وسورة سبأ، وسورة الملائكة، وسورة الجِن، وسورة المنافقين، وسورة المطَفّفين. ومع هذا لم يفْرَدْ لموسى سورة تسمّى به، مع كثرة ذكره في القرآن، حتى قال بعضهم: كاد القرآن أن يكون كله موسى، وكان أولى سورة تسمى به سورة طه أو القصص أو الأعراف لبسط قصته في الثلاثة مما لم تبْسط في غيرها. وكذلك قصة آدم ذكرَتْ في عِّدةِ سوَر، ولم تسمّ به سورة كأنه اكتفي بسورة الإنسان. وكذلك قصة الذَّبيح من بدائع القصص، ولم تسَمّ به سورة الصافات. وقصة داوود ذكرت في (ص) ولم تسم به، فانظر في حكمة ذلك. على أني رأيت بعد ذلك في جمال القراء للسخَاوي أن سورة طه تسمى سورة الكلِيم، وسماها الهُذَلي في كماله سورة موسى. وأن سورة ص تسمى سورة داود. ورأيت في كلام الجعبري أن سورة الصافّات تسمى سورة الذبيح، وذلك يحتاج إلى مستند من الرأي. (ليس على الأعْمى حَرَج) : اختلف والمعنى الذي رفع الله به الحرج عن الأعرج والأعمى والمريض هذه الآية، فقيل: هو في هذه الآية الغزو، أي لا حَرَجَ عليهم في تأخرهم عنه، وحكمهم عام في كل جهاد إلى يوم القيامة إلا أن يحزب حازب في حصرةٍ ما، فواجب عليهم بحسب الوسْع. فإن قلت: أما رَفْع الحرج عن هؤلاء في هذه الآية فمفهوم تعقيبه به في عَتْب المتخلّفين من القبائل، وأما ذكرهم في سورة النور، فلم أفهم له معنى؟ فالجواب: إنما ذكرهم في سورة النور لأنهم كانوا إذا نهضوا إلى الغَزْو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وخلّفوا أهلَ هذه الأعذار في بيوتهم، فكانوا يتجنّبون أكل مال الغائب، فنزلت في ذلك. وقيل: إن الناس كانوا يتجنبّون الأكل معهم تقذَّرا، فنزلت الآية. وهذا ضعيف، لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم. والصواب أن يقال: إن الحرج مرفوع عن هؤلاء الثلاثة في كل ما يمنعهم منه أعذارهم من الجهاد وغيره، ألا ترى أنه أباح الأكل للإنسان في هذه البيوت المذكورة في الآية، من الآباء والأبناء والأخوات وغيرهم. فإن قلت: إذا رفع الحرج عن هؤلاء فما معنى الآية: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) . فالجواب: أنه اختلف في الخفيف والثقيل، من هو، على أقوال: فقيل الخفيف الغنيّ، والثقيل الفقير. وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ. وقيل الخفيف النشيط، والثقيل الكسلان. وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفّة. وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (ليس على الضّعَفَاء ولا عَلَى المرْضَى) . وعلى كلِّ تقديرٍ فجائز لأصحاب الأعذار الغَزْو، وأجرهم فيه مضاعف، لأن الأعرج قد يكون أجرأ الناس بالصبر وألاَّ يفر. وقد غزا ابن أمِّ مكتوم، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرّج النسائي في بعض هذا المعنى. وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله. (للفقراء) : هذا بدل من قوله (لذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل) ، ليبين أن المراد بذلك (المهاجرين) ، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها ديارهم وأمْوالهم. (لقد زَيّنّا السماء الدّنيا بِمَصابِيح) . السماء الدنيا -: هي القريبة منا. والمصابيح يراد بها النجوم، فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال. وإن كانت في غيرها من السماوات فقد زينت السماء الدنيا، لأنها ظاهرة فيها لنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها، على أن القَوْلَ بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يَرِدْ في الشريعة. (لَطيف) : اسم الله تعالى. قيل معناه رفيق، وقيل: خبير بِخَفِيَّات الأمور. (لؤلؤ) : كبار الجَوهَر. (لِمَنْ خافَ مقامَ رَبه جنَّتَان) : مقام ربه: القيام بين يديه للحساب. ومنه: (يوم يقُوم النَّاس لرَبِّ العَالَمين) . وقيل قيام الله عليه بأعماله. ومنه: (أفَمَنْ هو قائم على كلِّ نَفْس بما كَسبَتْ) . وقيل لمن خاف مقام ربه، وأبهم المقام، كقولك: خفت جانب فلان. واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراد، أو لصنْفِ الخائفين، وذلك مبني على قوله: لمن خاف، هل يراد به واحد أو جماعة. وقال الزمخشري: إنما قال جنتان، لأنّه خطاب الثَّقَلين، فكأنه قال جنة للإنسان وجنة للجن. (لب) : عقل، من قولهم: لب في المكان إذا أقام به. ومنه: لأولي الألباب. (ليس له اليوم هاهنا حَمِيم. ولا طعام إلاَّ من غِسْلين) ، أي ليس له صديق. وقيل ليس له شراب ولا طعام إلاَّ من غِسْلين، فإنّ الحميم الماء الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل شجر يأكله أهل النار. وقال اللغوِيّون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت، وهو فعلين من الغسل. فإن قلت: قد قال في الغاشية: (ليس لهم طَعَام إلا مِن ضَرِيع) ، وهو مناقض لما هنا؟ فالجواب: أن الضريع لقوم والغسلين لقوم، أو يكون أحدهما في حال والآخر في حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 (لقَوْل رَسولٍ كَرِيم) : هذا جواب قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) . والضمير للقرآن. والرسول الكريم قيل جبريل. وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأقْسَمَ تعالى بجميع الأشياء، لأنها تنقسم إلى ما يبْصَر وإلى ما لا يبصر، كالدنيا والآخرة، والإنس والجنّ، والأجسام والأرواح، وغير ذلك. (لأخَذْنَا مِنْه باليَمِين) : أي بالقوة. ومعناه لو تقوّلَ علينا محمد ما لم نَقلْه، أو نسب إلينا قولاً لأخذناه بقوّتنا. وقيل هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن: أُخِذ بيده وبيمينه. وقَال الزمخشري: معناه لو تقوّل علينا لقتلناه، ثم صوّرَ صورة القَتْلِ ليكون أهول. وعبَّر عن ذلك بقوله: لقطعنا منه الوَتين، وهو العِرْق الذي في عنقِ الإنسان. والسيَّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جيده أخذه بيده اليمين ليكون ذلك أشدّ عليه لنظره إلى السيف. (لِلشَّوَى) : هي أطراف الجسد، وقيل جِلْد الرأس. والمعنى أن النار تنزعها ثم تعاد. (لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) : هذا تهديد للكفّار بإهلاكهم وإبدال مَنْ هوَ خير منهم. (لا تَرْجون للهِ وَقارا) : فيه أربعة تأويلات: أحد ها: أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا تَرْجون أن يوقركم الله في دَارِ ثَوَابِه. قال ذلك الزمخشري. وقوله: "لله" على هذا بيان للموقر، ولو تأخّر لكان صفة لوقار. الثاني: أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبّت، والمعنى ما لكم لا ترجون لله تعالى متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم. وقوله " للَه " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت لزيد. وإعراب وقاركم على هذا مصدر في موضع الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة والسلطان. فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه. (ولله) على هذا صفة للوقار في المعنى. الرابع: أن الرجاء بمعنى الخَوْف، والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك: وَقَر في المكان إذا استقرّ فيه، والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار، إما في الجنة وإما في النار. (لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) : هذا إخبار عما حدث عندْ مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من مَنعِْ الجنّ من استراق السمعْ في السماء ورَجْمهم بالنجوم. واللمس: المسّ. واستعِير هنا للطلب. والحَرَس: اسم مفرد في معنى الحرّاس كالخدم في معنى الخدام. ولذلك وصف بشديد، وهو مفرد. ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس أو النجوم الحارسة. وكرر الشهب لاختلاف اللفظ. (لِنَفْتِنَهم فيه) : يحتمل أن يكون الضمير للمسلمين، أو للقاسطين المذكورين قبل، أو لجميع الجنّ، أو الجن الذين استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لجميع الخَلْق. ومعنى الفتنة الاختبار، هل يشكرون أم لا، هذا إن كانت الطريقة المذكورة، بمعنى الإيمان، وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الاستضلال والاستدراج. (لِبَدًا) : جماعة واحدها لِبْدَة. والمعنى يكاد الكفار من الناس يجتمعون على الرد عليه وإبطال أمره، أو يكاد الجنّ الذين استمعوا هذا القرآن يجتمعون عليه لاستماعه والتبرك به. ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفْرَش بعضها على بعضها. (لِيَسْتَيْقِنَ الذين أوتوا الكتاب) : أي يعلم أهل التوراة والإنجيل أن ما أخبر به نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن عدد ملائكة النار حق، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 موافق لما في كتبهم. ولما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: أيعجز عشرةٌ منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به، فنزلت الآية. ومعناها أنهم ملائكة لا طاقةَ لكم بهم. ورُوِي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار، فجعل الله هذا العدد لفِتْنَةِ الكفَّار ولئلا يشكّ المؤمنون والذين أوتوا الكتاب. فإن قلت: كيف نفى عنهم الشكّ بعد أن وصفهم باليقين، والمعنى واحد فهو تكرار؟ فالجواب: أنه لما وصفهم باليقين نفَى عنهم أن يشكّوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال. وقال الزمخشري: ذلك مبالغة وتأكيد. (ليَقولَ الَّذِين في قلوبهم مَرَض) : المرض عبارة عن الشكّ، وأكثر ما يُطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين، كقوله: (في قلوبهم مَرَضٌ) . فإن قلت: هذه السورة مكيّة، ولم يكن حينئذ منافقون بالمدينة؟ فالجواب من وجههين: أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدّثوا، ففيه إخبار بالغيب. والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك، وقولهم: (ماذا أرادَ اللَهُ بهذا مَثَلاً) ، فهو استبعاد لأن يكون هذا من عند الله. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) . فيه توقيف يراد به تعظيم ذلك اليوم، ثم بينه بقوله: (وما أدْرَاك ما يَوْم الفَصْلِ) . (اللام) : على أربعة أقسام: جارّة، وناصبة، وجازمة، ومهملة غير عاملة. فالجارةُ مكسورة مع الظاهر، وأما قراءة بعضهم: الحمد لله، فالضمة عارضة للاتباع، مفتوحة مع المضمر إلا الياء. ولها معان: الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو: (الحمد لله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 (الملك لله) . (للهِ الأمر) . الروم: 4. (ويل لِلمطفِّفين) . (لهم في الدنيا خِزْيٌ) . (وللكافرين النارُ) ، أي عذابها. والاختصاص، نحو: إن لَه أباً، كان له إخوةٌ. والملك، نحو: (لَه ما في السماوات وما في الأرض) . والتعليل، نحو: (إنه لِحبِّ الخَيْرِ لَشَدِيد) ، أي وإنه من أجل حبِّ المال لَبَخِيل. (وإذْ أخذَ اللَّهُ مِيثاقَ النبيين لِمَا آتيْتكم من كتابِ وحِكْمَة ... ) . في قراءة حمزة، أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب والحكمة، ثم لمجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقاً لما معكم لتؤمِننّ به، ولتنصرنه، فما مصدرية واللام تعليلية. وقوله: (لإيْلاَفِ قريش) . وتعلقها بـ (يعبدوا) . وقيل بما قبله، أي فجعلهم كعَصْف مأكول، لإيلاف قريش. ورجَح بأنههما في مصحف عثمان سورة واحدة. وموافقة إلى، نحو: (بأن ربَّك أوحى لها) . (كلّ يَجْرِي لأجَلٍ مسَمًّى) . وعلى، نحو: (ويَخرّون لِلأذْقَان) . (دَعَانَا لِجنبِهِ) . (وَتَلّهُ لِلْجَبين) . (وإن أسَاتم فَلها) . (لهم اللعنة) ، أي عليهم، كما قال الشافعي. وفي، نحو: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) . (لاَ يُجَلِّيهَا لوَقْتِها إلاَّ هو) . (يا لَيْتَنِي قدّمْت لِحَياتي) ، أي في حياتي. وقيل هي فيها للتعليل، أي لأجل حياتي في الآخرة. و (عند) في قراءة الجَحْدَري: (بل كذّبوا بالحقّ لما جاءهم) . وبعد، نحو: (أقِم الصلاةَ لدلوكِ الشمس) . وعن، نحو: (قال الذين كفروا للذِين آمَنوا لو كَان خيراً ما سبَقونا إليه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 أي عنهم وفي حقّهم، لأنهم خاطبوا به المؤمنين. وإلا لقيل ما سبقْتمونا. والتبليغ، وهي الجارّة لاسم السامع لقول أو ما في معناه، كالإذْن. والصيرورة، وتسمى لام العاقبة، نحو: (فالْتَقَطَه آل فِرْعَوْن ليكون لهم عَدواً وحَزناً) ، فهذا عاقبة التقاطهم لا علّته، إذ هي التبني. ومنع قوم ذلك، وقالوا: هي للتعليل مجازاً، لأن كونه عدوا لما كان ناشئاً عن الالتقاط وإن لم يكن غَرَضاً لهم، فنزّل منزلة الغرض على تقدير المجاز. وقال أبو حيان: الذي عندي أنها للتعليل حقيقة، وأنهم التقطوه ليكون لهم عدواً، وذلك على حذف مضاف تقديره لمخافة أن يكون، كقوله: (يتيِّن الله لكم أنْ تَضِلوا) ، أي كراهة أن تضلوا. والتأكيد، وهي الزائدة أو القوية للعامل الضعيف لفرعية أو تأخير، نحو: (رَدِفَ لَكم) . (يريد الله ليبيِّن لكم) . (وأمِرْنا لِنسْلِمَ) . (فَعّال لِمَا يريد) . (إن كنْتم للرؤيا تَعْبرون) . (وكنّا لِحكْمِهم شاهِدين) . والتبيين للفاعل أو المفعول، نحو: (فَتعْساً لهم) . (هيهات لِما توعدون) . (هَيْت لك) . والناصبة هي لام التعليل، وادعى الكوفيون النصب بها. وقال غيرهم بأن مقدرة في محل جر باللام. والجازمة هي لام الطلب، وحركتها الكسر. وسُلَيم يفتحونها، وإسكانها بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها، نحو، (فلْيَستَجِيبوا لي وليؤمِنوا بي) . وقد تسكن بعد ثمّ، نحو: (ثمّ ليقْضوا تفَثَهم) . وسواء كان الطلب أمراً، نحو: (لِينْفِقْ ذو سَعَةٍ) . أو دعاء، نحو: (ليَقْضِ علينا ربّك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وكذا لو خرجت إلى الخبر، نحو: (فَلْيَمْددْ له الرَّحْمن مَدًّا) . (ولْنَحْمِل خطاياكم) . أو التهديد، نحو: (فمَنْ شاء فليؤمِنْ ومَنْ شاء فَلْيَكْفر) . وجزمها فعلَ الغائب كثير، نحو: (فَلْتَقُمْ طائفةٌ منهم معكَ وليَأخذوا أسلحتَهم) . (فليكونوا من وَرَائكم ولتأت طائفةٌ) . فلْيُصَلوا معك) . وفعل المخاطب قليل، ومنه: (فبذلك فلْتَفْرَحوا) - في قراءة التاء. وفعل التكلم أقل، ومنه: (ولنَحْمِلْ خطاياكم) . *** وغير العاملة أربع : لا م الابتداء، وفائدنها أمران: توكيد مضمون الجملة، ولهذا زَحْلقوها في باب إن من صدر الجملة كراهة توالي مؤكَدين. وتخليص المضارع للحال. وتدخل في المبتدأ، نحو: (لأنْتمْ أشدُّ رَهْبَةً في صدورهم من الله) . وفي خبر إن، نحو: (إنّ رَبي لسميع الدعاءَ) . (إنّ ربك ليَحْكم بينهم) . (وإنّكَ لعَلَى خلق عظيم) . واسمها المؤخر، نحو: (إنّ علينا لَلْهدَى وإن لنا للآخِرَة) . واللام الزائدة في خبر أن المفتوحة، كقراءة سعيد بن جبير: (إلاَّ أنهم ليَأكلونَ الطعامَ) . والمفعول، كقوله تعالى: (يَدْعو لمن ضرَّه أقْرَبُ مِنْ نَفْعِه) . ولام الجواب للقسم أو "لو" أو لولا، نحو: (تَاللَهِ لَقَدْ آثركَ الله عَلَيْنَا) . (تَاللهِ لأكِيدَنّ أصنامَكم) . (لو تَزَيَّلوا لعذَّبْنَا) (ولولا دفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرْض) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 واللام الموطّئة، وتسمى المؤذِنة، وهي الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبنيّ على قَسم مقدَّر، نحو: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) . وخرّج عليه قراءة قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكمْ مِنْ كتابٍ وحِكمة) . (لا) : على أوجه: أحدها أن تكون نافية، وهي أنواع: أحدها: أن تعمل عمل إنَّ، وذلك إذا أريد بها الجنس على سبيل التنصيص، وتسمى حينئذ تبرئة، وإنما يظهر نصبها إذا كان اسمها مضافاً أو شبهه، وإلا فيركّب معها، نحو، لا إله إلّا الله. (لا ريب فيه) . فإن تكرّرَتْ جاز التركيب والرفع، نحو: (فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جدَال) . (لا بيْعٌ فيه ولا خُلّة ولا شَفَاعة) . (لا لغْو فيها ولا تاثيم) . ثانيها: أن تعمل عمل ليس، نحو: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبْرَ إلّا في كتابٍ مُبِين) . ثالثها ورابعها: أن تكون عاطفة أو جوابية. ولم يقَعَا في القرآن. خامسها: أن تكون على غير ذلك، فإن كان ما بعدها جملة اسمية صدرها معرفةٌ أو نكرة ولم تعمل فيها، أو فعلاً ماضياً لفظا أو تقديرا وجب تكرارها، نحو: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) . (لا فيها غَوْل ولا هُمْ عنها يُنزَفون) . (فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى) . أو مضارعا لم يجب، نحو: (لا يُحِبّ الله الجَهْرَ بالسّوءَ مِنَ القَوْلِ إلَّا منْ ظلم) . (قُلْ لا أسالُكم عليه أجراً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وتعترض (لا) هذه بين الناصب والمنصوب، نحو: (لئلا يكون للناس) . والجازم والمجزوم، نحو: (إلّا تَفْعَلوه) . والوجه الثاني: أن تكون لطلب التّرْك، فتختص بالمضارع، وتقتضي جَزْمه واستقباله، سواء كان نهياً، نحو: (لا تتّخذوا عَدوي) . (لا يَتّخِذِ المؤمنون الكافرين) . (ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بينكم) . أو دعاء، نحو: (لا تؤاخِذنا) . الثالث: التأكيد، وهي الزائدة، نحو: (ما مَنعكَ ألاَّ تسجد) . (ما منعكَ إذ رأيتَهم ضَلُّوا ألَّا تَتّبِعَنِ) . (لئلاّ يعْلم أهْل الكتاب) ، أي ليعلموا. قال ابن جني: لا هنا مؤكّدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى. واختلف في قوله: (لا أقسِم بيَوْم القيامة) ، فقيل زائدة، فائدتها مع التوكيد التمهيد لنفي الجواب، والتقدير: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركون سدى. ومثله: (فَلاَ وَربّكَ لا يؤمنون حتى يحَكَموك) ، ويؤيده قراءة "لأقسم". وقيل: لا نافية لا تقدم عنهم من إنكار البعث، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم. قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولذا يذْكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى نحو: : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) . (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) . وقيل: منفيّها أقسم على أنه إخبار لا إنشاء. واختاره الزمخشري، قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، بدليل: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) . فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي أنه يستحق إعظاماً فوق ذلك. واختلف في قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، فقيل نافية. وقيل ناهية. وقيل زائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وفي قوله: (وحَرَامٌ على قَرْيةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون) ، فقيل: زائدة. وقيل نافية والمعنى ممتنع عدم رجوعهم إلى الآخرة. تنبيه: تَرِد (لا) اسماً بمعنى غير، فيظهر إعرابُها فيما بعدها، نحو: (غَيْرِ المغضوب عليهم ولا الضالّين) ، (لا مقطوعة ولا ممنوعةٍ) ، (لاَ فَارِضٌ ولا بِكرٌ) . فائدة قد تحذف ألفُها، وخرَّج عليه ابنُ جني: (واتقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنّ الذين ظَلَمُوا منكم خَاصة) . (لات) : اختلف فيها، فقال قوم: فعل ماض بمعنى نقص. وقيل أصلها ليس، تركت الياء فقُلبت ألفاً لانفتاح ما قبلها، وأبدلت السين تاء. وقيل هي كلمتان: لا النافية زيدت عليها التاء لتأنيث الكلمة، وحركت لالتقاء الساكنين، وعليه الجمهور. وقيل هي لا النافية والتاء زائدة في أول الحين. واستدل له أبو عبيدة بأنه وجدها في مصحف عثمان مختلطة بحين في الخط. واختُلف في عملها، فقال الأخفش: لا تعمل شيئاً، فإن تلاها مرفوع فمبتدأ وخبر، أو منصوب فبِفِعْل محذوف، فقوله تعالى: (ولاتَ حينُ) - بالرفع، أي كائن لهم. وبالنصب أى لا أرى حيْنَ مناص. وقيل تعمل عمل إن. وقال الجمهور: تعمل عمل ليس، وعلى كل قول لا يُذكر بعدها إلا أحد المعمولين، ولا تعمل إلا في لفظ الحين. قيل: أو ما رَادَفَهُ. قال الفراء: وقد تستعمل حرف جر لأسماء الزمان خاصة. وخرّج عليه - قراءة: ولات حينٍ - بالجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 (لا جَرَم) : وردت في القرآن في خمسة مواضع: الأول في هود، وثلاثة في النحل، والخامس في غافر، متلوّة بأنّ واسمها ولم يجئ بعدها فعلٌ. واختلف فيها، فقيل: لا نافية لما تقدّم، و" جَرَم " فعل معناه حق، وأن مع ما في حَيّزها فاعله. وقيل: زائدة، و " جرم " معناه كسب، أي كسب لهم عملهم الندامة، وما في حيّزها في موضع نصب. وقيل: هما كلمتان، رُكِّبتَا وصار معناها حقاً. وقيل معناها لا بد، وما بعدها في موضع نصب بها بإسقاط حرف الجرّ. (لكنَّ) - مشدّدة النون: حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر. ومعناه الاستدراك، وفُسِّرَ بأن ينسب لما بعدها حكماً مخالفا لحكم ما قبلها، ولذلك لا بد أن يتقدمها كلامٌ مخالف لما بعدها أو مناقض له، نحو: (وما كفر سُلَيْمان ولكنَّ الشياطينَ كفَروا) . وقد ترد للتوكيد مجرداً عن الاستدراك، قاله صاحب البسيط، وفسر الاستدراك برفع ما توهّم ثبوته، نحو: ما زيد شُجاع، لكنه كريم، لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فَنفي أحدهما يوهم نَفْي الآخر. ومثَّل للتوكيد بنحو: لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ، فأكدت ما أفادته (لو) من الامتناع. واختار ابن عصفور أنها لهما معاً، وهو المختار، كما أن كأنَّ للتشبيه المؤكد، ولهذا قال بعضهم: إنها مركبة من لكن أن فطُرِحَت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين. (لكنْ) - مخففة: ضربان: أحدهما: مخفَّفة من الثقيلة، وهي حرف ابتداء لا تعمل، بل لمجرد إفادة الاستدراك، وليست عاطفة لاقترانها بالعاطف في قوله: (ولكنْ كانُوا هُم الظالمين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 والثاني: عاطفة إذا تلاها مُفرد، وهي أيضاً للاستدراك، نحو: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) النساء: 1166. (لكنِ الرسولُ) . (لكنِ الذين اتَقوْا ربَّهم) . ويأتي لدي، ولدن، عند حرف العين في (عند) . (لَعلَّ) حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر. وله معان، أشهرها التوقع، وهي الترجي في المحبوب، نحو: (لعَلَّكم تفْلحون) . والإشفاق في المكروه، نحو: (لعلّ الساعةَ قَرِيب) . وذكر التَّنوخي أنها تفيد توكيد ذلك. الثاني: التعليل، وخرّج عليه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) . الثالث: الاستفهام، وخرّج عليه: (لا تدْرِي لعلَّ اللهَ يحْدِث بَعْدَ ذلك أمْراً) . (وما يُدْرِيكَ لعلهُ يزَّكى) ؛ ولذا علق (يدري) . قال في البرهان: وحكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من (لعلَّ) فإنها للتعليل، إلا قوله تعالى: (لعلكم تَخْلُدون) . قال: وكونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، ووقع في صحيح البخاري في قوله: (لعلكم تَخْلُدون) - أن لعل للتشبيه. وذكر غيره أنها للرجاء المحض، وهو بالنسبة إليهم. قلت: أخرج ابن أبي حاتم من طريق السديّ عن أبي مالك، قال: (لعلكم) في القرآن بمعنى (كي) ، غير آية في الشعراء: (لعلكم تخْلُدون) ، بمعنى كأنكم تَخْلُدون. وأخرج عن قتادة قال: كان في بعض القراءة: "وتَتخِذونَ مصانعَ كأنكم خالدون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 (لم) : حرف جزم لن في المضارع وقلْبه ماضياً، نحو: (لم يَلِدْ ولم يُولَدْ) . والنصب بها لغة - حكاه اللحياني. وخرَّج عليه قراءة: ألم نشرحَ. (لمَّا) : على أوجه: أحدها: أن تكون حرف جزم، فتختصّ بالمضارع وتنفيه وتقلبه ماضياً، كـ لم، لكن يفترقان من أوجه: أحدها: أنها لا تقترن بأداة شرط، ونفيها مستمر إلى الحال أو قريب منه. ومتوقع ثبوته. قال ابن مالك في: (لما يَذُوقُوا عَذَاب) : المعنى لم يذوقوه، وذَوْقه لهم متوقع. وقال الزمخشري في: (ولَمَّا يَدْخُل الإيمانُ في قلوبكم) ، - ما في (لَمَّا) بمعنى التوقع، دالٌّ على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ، وأن نفيها آكد من نفي لم، فهي لنفي قد فُعل، ولم لنفي فَعَل، ولهذا قال الزمخشري في الفائق تبعاً لابن جني: إنها مركبة من (لم) و (ما) ، وإنهم لما زادوا في الإثبات (قد) زادوا في النفي (ما) ، وإن منفيّ لما جائز الحذف اختياراً. بخلاف لم، وهي أحسنُ ما يخرج عليه: (وإنْ كُلاًّ لمَا ليُوَفيَنَّهُم ربك أعمالهم) ، أي لما يُهملوا أو يتركوا، قاله ابن الحاجب. قال ابن هشام: ولا أعرف وجهاً في الآية أشبه من هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده، لأن مثله لم يقع في التنزيل. قال: والحق لا يُستبعد، لكن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم، أي أنهم إلى الآن لم يوفوها وسيوفّوها. الثاني: أن تدخل على الماضي، فتقتضي جملتين، وُجدت الثانية عن وجود الأولى، نحو: (فلما نَجّاكُمْ إلى البر أعْرَضْتُم) . ويقال فيها حرف وجود لوجود. وذهب جماعة إلى أنها حينئذ ظرف بمعنى حين. وقال ابن مالك: بمعنى إذْ، لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وجواب هذه يكون ماضياً كما تقدم، وجلة اسمية بالفاء أو بإذا الفجائية، نحو: (فلما نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ فمنهم مُقْتَصِد) . (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) . وجوّز ابن عصفور كونه مضارعاً، نحو: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا) . وأوّله غَيْره بـ (جادَلَنَا) . الثالث: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الاسمية والماضية، نحو: (إنْ كُلّ نَفْسٍ لمَا عَلَيْهَا حافِظٌ) - بالتشديد، أي (إلَّا) . (وإنْ كلّ ذلك لما متَاع الحياة الدنيا) . (لن) : حرف نصب ونفْي واستقبال. والنفي بها أبلغُ من النفي بلا، فهي ْلتأكيد النفي، كما ذكره الزمخشري وابن الخباز، حتى قال بعضهم: إن منعه مكابرة، فهي لنفي (إني أفعل) ، و (لا) لنفي (أفعل) ، كما في (لم) ، و (لا) . قال بعضهم: العرب تنفي المظنون بِلن والمشكوك بلا. ذكره ابن الزَّملكانيّ في التبيان، وادّعى الزمخشري أيضاً أنها لتأبيد النفي، كقوله تعالى: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) ، (ولن تَفْعَلوا) . قال ابن مالك: وحمله على ذلك اعتقاده في (لن تَرَاني) أنَّ الله لا يُرى. وردّه غيره بأنها لو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيها باليوم في: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، ولم يصح التوقيت في: (لن أبْرحَ الأرض حتى يأذن لي أبي) . (لن نَبْرَح عليه عَاكِفين حتى يرجعَ إلينا موسى) . ولكان ذكر الأبد في: (لن يتمنَوْه أبداً) - تكرار. والأصل عدمه. واستفادة التأبيد في: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) . ونحوه، من خارج. ووافقه على إفادة التأبيد ابن عطية. وقال في قوله: (لن تراني) : لو أبقينا على هذا النفي لتضمن أن موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة، لكن ثبت في الحديث المتواتر أن أهل الجنة يرونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وعكس ابن الزملكاني مقالة الزمخشري، فقال إن (لن) لنفي ما قرب وعدم امتداد النفي، و (لا) يمتد معها النفي. قال: وسِرّ ذلك أن الألفاظ مشاكلةٌْ للمعاني، ولأن آخرها الألف فاللام يمكن امتداد الصوت بها بخلاف النون، فطابق كلّ لفظ معناه. قال: ولذلك أتى بلن حيث لم يرد به النفي مطلقاً، بل في الدنيا حيث قال: (لن تراني) ، وبلا في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) حيث أراد نفي الإدراك على الإطلاق. وهو مغَاير للرؤية. وتَرِد للدعاء، وخرج عليه: (ربِّ بما أنعمْتَ عليَّ فَلَنْ أكونَ ظَهيراً للمجْرِمين) . (لو) : حرف شرط في المضي تصْرِف المضارعَ إليه، بعكس (إن) الشرطية. واختلف في إفادتها الامتناع، وكيفية إفادتها إياه على أقوال: أحدها: أنها لا تفيده بوجه، ولا تدل على امتناع الشرط ولا امتناع الجواب، بل هي لمجرد رَبْطِ الجواب بالشرط دالة على التعليق في الماضي، كما دلت إن على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت. قال ابن هشام: وهذا القول كإنكار الضروريات: إذ فَهْم الامتناع منها كالبديهي، فإن كل من سمع " لو فعل " فَهمَ عدم وقوع الفعل من غير تردد، ولهذا جاز استدراكه، فتقول: لو جاء زيد لأكرمته لكنه لم يجئ. الثاني: وهو لسيبويه، قال: إنها حرف لِمَا سيقع لوقوع غيره، أي تقتضي فعلاً ماضياً كان يتوع ثبوته لثبوت غيره، والمتوقع غير واقع، فكأنه قال: حرف يقتضي فعلاً امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته. الثالث: وهو المشهور على ألسنة النحاة ومشى عليه المعربون - أنها حرف امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: " لو جئت لأكرمتك " دالٌّ على امتناع الإكرام لامتناع المجيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 واعترض بعدم امتناع الجواب في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) . (ولو أسمعهم لتَولَّوْا وهم معْرِضون) ، فإن عدم النفاد عند فَقْد ما ذكر، والتولِّي عند عدم الإسماع أولى. الرابع: وهو لابن مالك - أنها حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه من غير تعرّض لنفي التالي، قال: فقيام زيد في قولك: لو قام زيد لقام عمرو محكوم بانتفائه، وبكونه مستلزماً ثبوته لثبوت قيام عَمْرو. وهل لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد أو ليس له، لا تعرّض لذلك. قال ابن هشام: وهذه أجود العبارات. فوائد الأولى: أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن (لو) فإنه لا يكون أبداً. الثانية: تختص (لو) المذكورة بالفعل. وأما نحو: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) ، فعلى تقديره. قال الزمخشري: وإذا أوقعت أن بعدها وجب كَوْن خبرها فعلاً، ليكون عوضاً عن الفعل المحذوف. وردّه ابن الحاجب بآية: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) . وقال: إنما ذلك إذا كان مشتقاً لا جامداً. ورده ابن مالك بقوله: لو أنَّ حيّاً مدرك الفلاح ... أدركه ملاعِب الرّماح قال ابن هشام: وقد وجدث آيةً في التنزيل وقع فيها الخبر اسماً مشتقاً ولم ينتبه لها الزمخشري، كما لم ينتبه لآية لقمان، ولا ابن الحاجب، وإلا لما منع ذلك، ولا ابن مالك وإلّا لما استدل بالشعر، وهي قوله تعالى: (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ووجدث آيةً الخبر فيها ظرف، وهي: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ) . وردّ ذلك الزركشي في البرهان وابن الدماميني - بأنّ (لو) في الآية الأولى للتمني، والكلام في الامتناعية. وأعجب من ذلك أن مقالة الزمخشري سبقه إليها السِّيرافيّ. وهذا الاستدراك وما استدرك به منقول قديما في شرح الإيضاح لابن الخباز، لكن في غير مظنته، فقال في باب " إنَّ وأخواتها ": قال السِّيرافي تقول: لو أن زيدا قام لأكرمته. ولا يجوز لو أن زيداً حاضر لأكرمته، لأنك لم تلفظ بفعل يسد مسدَّ ذلك الفعل. هذا كلامه. وقد قال الله تعالى: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) . فأوقع خبرها صفة، ولهم أن يفرقوا بأن هذه للتمني فأجريت مجرى ليت، كما تقول ليتهم بادون. انتهى كلامه. وجواب لو إما مضارع منفي، أو ماض مثبت أو منفي بما. والغالب على المثبت دخول اللام عليه، نحو: (لو نشاء لجعلناه حُطَاماً) . ومِنْ تجرده: (لو نَشاء جعلناه أجَاجاً) . والغالب على المنفي تجرّده، نحو: (ولو شاء رَبُّكَ ما فَعَلوه) . الثالثة: قال الزمخشري: الفرق بين قولك: لو جاءني زيد أكرمته. ولو زيد جاءني لكسوته، ولو أن زيداً جاءني لكسوته - أن القصد في الأول مجرد ربط الفعلين وتعليق أحدهما بصاحبه لا غير، مِنْ غَيْرِ تعرض لمعنى زائد على التعلق الساذج. وفي الثاني انضم إلى التعلق أحد معنَيين، إما نَفي الشك والشبهة، وأن المذكور مكسو لا محالة. وإما بيان أنه هو المختص بذلك دون غيره. ويخرّج عليه آية: (قل لو أنتم تملِكون) . وفي الثالث مع ما في الثاني زيادة التأكيد الذي تعطيه (أن) ، وإشعار بأن زيدا كان حقه أن يجيء وأنه بتركه المجيء قد أغفل حظّه. ويخرج عليه: (ولو أنهم صَبَروا) . ونحوه، فتأمل ذلك. وخرج عليه ما وقع في القرآن من أحد الثلاثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 تنبيه: ترد (لو) شرطية في المستقبل، وهي التي يصلح موضعها إنْ، نحو: (ولو كَرِهَ المشركون) . (ولو أعجبكَ حُسنُهُنَّ) . ومصدرية، وهي التي يصلح موضعها أنَّ المفتوحة، وأكثر وقوعها بعد (ودَّ) ونحوه، نحو: (وَدّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم) ، (يود أحَدهم لو يعَمَّرُ ألْفَ سنة) . (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) . أي يود التعمير والافتداء. وللتمني، وهي التي يصلح موضعها ليْت، نحو: (فلو أنَّ لنا كَرَّه فنكونَ) . ولهذا نصب الفعل في جوابها. والتعليل، وخرج عليه: (ولَوْ عَلَى أنفسكم) . (لولا) على أوجه: أحدها: أن تكون حرف امتناع لوجود، فتدخل على الجملة الاسمية ويكون جوابها فعلاً مقروناً باللام إن كان مثبتأ، نحو: (فلولا أنّه كان من المسَبِّحِين. للبث) . ومجرداً منها إنْ كان منفياً، نحو: (لولا فَضْل اللَهِ عليكم ورَحْمَته ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً) . وإن وليها ضمير فحقّه أن يكون ضمير رَفْع، نحو: (لولا أنْتُم لكنّا مؤمنين) . الثاني: أن تكون بمعنى هلاّ، فهي للتحضيض والعَرْض في المضارع أو ما في تأويله، نحو: (لولا تستغفِرونَ اللهَ لعلّكم ترْحَفون) . (لولا أخَّرْتَني إلى أجَلٍ قَرِيب) . وللتوبيخ والتنديم في الماضي، نحو: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 (ولولا إذ سمِعْتُموه قلْتُم) . (فلولا إذ جاءهم بَأْسنَا تَضَرَّعوا) . (فلولا إذا بلغَت الحلْقوم) . (فلولا إنْ كُنْتُم غَيْرَ مَدِينين) . الثالث: أن تكون للاستفهام، ذكره الهروي، وجعل منه: (لولا أخَّرْتَني) ، (لولا أُنْزِلَ عليه مَلَك) . والظاهر أنها فيهما بمعنى هلاّ. الرابع: أن تكون للنفي، ذكره الهروي أيضاً، وجعل منه: (فلولا كانت قريةٌ آمنَتْ فنفَعها إيمانُها) ، أي فما آمنت قرية، أي أهلها عند مجيء العذاب فنفَعَها إيمانها. والجمهور لم يُثبتوا ذلك، وقالوا: المراد في الآية التوبيخ على ترك الإيمان قبل مجيء العذاب. ويؤيِّده قراءة أبيّ: فَهَلاَّ. والاستثناء حينئذ منقطع. فائدة نقِل عن الخليل أن جميع ما في القرآن من (لولا) فهي بمعنى هلا، إلا: (فلولا أَنه كانَ مِنَ المسَبِّحين) . وفيه نظر لما تقدّم من الآيات. وكذا قوله: (لولا أنْ رأى برْهَانَ رَبّه) ، (لولا) فيه امتناعية جوابها محذوف، أي لهَمَّ بها، أو لواقعها. وقوله: (لولا أنْ مَنَّ اللَّهُ علينا لخسفَ بنا) . وقوله: (لولا أنْ رَبطْنَا على قَلْبِها) ، أي لأبْدَتْ به، في آيات أخرى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى الْخَطْمِي، حدثنا هارون بن أبي حاتم، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، قال: كل ما في القرآن (فلولا) فهو: (فهلاَّ) ، إلا حَرْفَين: في يونس: (فلولا كانَتْ قريةٌ آمنَتْ فنفَعَها إيمانها) ، يقول: فما كانت قرية. وقوله: (فلولا أنَّه كان من المسبِّحين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وبهذا يتضح مراد الخليل، وهو أن مراده (لولا) المقرونة بالفاء. (لَوْمَا) : بمنزلة لولا. قال تعالى: (لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) . المالقي: لم ترد إلاَّ للتحضيض. (ليت) : حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، معناه التمني. وقال التنوخي: إنها تفيد تأكيده. (ليس) : فعل جامد، ومن ثَمَّ ادَّعى قوم حرفيته، ومعناه نفي مضمون الجملة في الحال، وينفي غيره بالقرينة. وقيل: هي لنفي الحال وغيره. وقَوَّاة ابن الحاجب بقوله تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) ، فإنه نفي للمستقبل. قال ابن مالك: وترد للنفي العامّ المستغرق المراد به الجنس، كلا التبرئة. وهو مما يُغفل عنه، وخرَّج عليه: (ليس لهم طعامٌ إلاَّ مِنْ ضَرِيع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 (حرف الميم) نبينا ومولانا (محمد - صلى الله عليه وسلم -) : سمَّاه الله في القرآن بأسماء كثيرة، وقد قدمنا أن تعالى اشتق له من اسمه سبحانه نحو السبعين، واختلف هل تُحْصَى أسماؤه. والصحيح: لا تحصى أسماء الله وأسماء رسوله، لأن كمالاتهما لا حَصْرَ لها. ومِنْ أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - القرآن الْمعْجِز للخلْق عن الإتيان بمثله، فعلومه منه أجمع، ورثت أمته من علومه ما هو أوفر وأسطع، فأجورهم وأنوارهم مِنْ بركته - صلى الله عليه وسلم - لامعة، وقد ستر الله عليهم ما لم يقبل من عملها، ولم تُعَاجل عصاتُها، فهم خير أمة وأقل عملاً، وصفوتهم كالملائكة، وهم ثلثا أهل الجنة، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب، ومع كل واحد منهم سبعون ألفا وثلاثة حثَيَاتٍ تفضّلاً منه وامتناناً، وهذه لا يدْرَى ما عددها، وهم أوَّلُ مَنْ يقضى لهم، ويدخل الجنة، نسأل الله بجاهه أن يهب لنا الحياة بسنته والوفاة على مِلَّته. واعلم أن كل كمال في الخلق ظاهرًا أو باطناً فقد جمعه - صلى الله عليه وسلم - بأكمل مزيد مع ما تفرَّد به، ورؤيته - صلى الله عليه وسلم - بمنام تعريف منه تعالى بمثال له شكلٌ ولَوْنٌ وصورةٌ، والروح منزَّه عن ذلك. وكل من تراه في المنام إنما هو مثال محسوس لا رُوحه وجسده، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من رآني في المنام فقد رآني، أي كأنه. وفي رواية في الصحيح: فكأنما رآني. فالرؤيا واسطة بينه وبين أمَّته تعريفاً منه تعالى. قيل للأرواح قوة التشكل كالملائكة والجن بما لا يخفى، نحو: (فتمَثَّلَ لها بَشَرًا سَوِيّا) . وكتمثّل جبريل عليه السلام بصورة دِحْية الكلبي، وهذا للخاصة ولغيرهم تعريف بمثال، ولا يجب العمل بمنام لعدم ضبط الرائي، ومتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 صدقت الرؤيا فحقّ، وحقيقة تعبيرها هو نظر في المناسبات، كتمثيل السلطان في المنام بالشمس والسبع، والوزير بالقمر لنوع مناسبة، فافهم. فإن قلت: أين تكون روح جبريل حين يَلْقَى نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، هل في الجسد الذي يشبه دِحْيَة، أو في الجسد الذي خُلق عليه، وله ستمائة جناح، فإن كانت في الجسد الأعظم فمن الذي أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمن جهة روحه أو من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دِحْية فهل يموت الجسد الذي له ستمائة جناح كموت الأجساد التي فارقتها الأرواح، أم يبقى خالياً من الروح المنتقل منه إلى الجسد المشبه بجسد دِحْية الكلبي؟ قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته، فيبقى. لأن موت الأجسام بمفارقة الأرواح ليس واجباً عَقْلاً كذلك الجسد، حتى لا ينقص من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح المؤمنين إلى أجْوَافِ الطير الخضر، إذ ليس موتُ الأجساد بمفارقة الأرواح واجباً في العقل، وإنما هو بعَادة مُطَّرِدة أجراها اللهُ تعالى في أرواح بني آدم، وانتقالُ أرواح الشهداء إلى أَجواف الطير الْخُضْر مشتبه بما يقوله أهل التناسخ. والأرواح كلّها تنتقل يوم القيامة إلى هذه الأجساد، لكنها تعظم حتى يصير ضِرْسُ الكافر مثل أحُد، وغِلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، ومقعده كما بين مكة إلى المدينة، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعاً في السماء، فما الديار الديار، ولا الخيام الخيام. (موسى عليه السلام) : هو ابن عِمْران بن يصْهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام، لا خلاف في نسبه، وهو اسم سُرْياني. وأخرج أبو الشيخ، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: إنما سمي موسى لأنه ألْقِي بين شجر وماء، فالماء بالقبطية مُو، والشجر سا. وفي الصحيح أنه وصف بأنه آدم طوال، كأنه مِنْ رجال شنوءة. قال الثعلبى: عاش مائة وعشرين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 (الْمَغضُوبِ عليهم) : هم اليهود. (ولا الضالين) : النصارى. بهذا فسّره - صلى الله عليه وسلم -. وسيأتي ذِكْرُ ذلك. وتكرار (لا) في قوله: (ولا الضالين) - دليل على تغاير الطائفتين. وإن الغضبَ صفة اليهود في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: (وَبَاؤوا بغَضب مِنَ اللهِ) . والضلال صفة النصارى، لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولقول الله فيهم: (قد ضَلَّوا من قَبْلُ وأضَلوا كثيراً وضَلّوا عن سَواء السبيل) . (مرض) : يحت مل أ ن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازاً للشكّ أو الحسد. ويقال أصل المرض الفتور، فالمرض في القَلْبِ فُتُورٌ عن الحق. وفي الأبدان فتورُ الأعضاء. وفي العيون فُتور عن النَّظَر. (مَنّ) : شِبْه العَسَل. وقيل خُبْز النَّقِيّ. والسلوى طائر. وقيل: إنه كان يسقط في السحر على شجَرِهم فيَجْتَنونه ويَأْكلونه. وقيل: المن التَّرَنْجَبِين. والمنّ أيضاً ذِكْرُ الإنعام والعطية. ومنه: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) . والمنّ أيضاً: القطع. ومنه: (لهم أجْر غَيْرُ مَمْنُون) . (مَسْكنَة) : الفاقة، وقيل الجزية. وقيل: المسكنة فَقْرُ النَّفْسِ، لا يوجد يهودي مُوسِر ولا فقير غنيّ النفس أبداً، وإن تعمل لإزالة ذلك عنه (مَجُوس) : هم الذين يعبدون النارَ، ويقولون: إن الخير من النور والشرّ من الظلمة، تعالى الله عن قولهم. وذكر الجواليقي أنه أعجمي. (مَتَ - صلى الله عليه وسلم -: أي ما يتمتَّع به إلى حين الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 (مَثُوبَة) : من الثواب، وهو جواب (لو أنهم) ، وإنما جاء جوابها بجملة اسمية، وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره. وقيل الجواب محذوف. (مَثَابة) : اسم مكان، من قولك: ثاب، إذا رجع، لأنَّ الناس يرجعون إليه عاماً بعد عام. ويقال: ثاب جسم فلان إذا رجع بعد نحولِه. (مَنَاسِكَنَا) : أي شعائرنا، واحدها مَنْسِك، ومَنْسَك. وأصل المنسك من الذّبح، ويقال: نسكت، أي ذبحت. والنسيكة الذَّبيحة الْمتَقَرَّبُ بها إلى الله تعالى، ثم اتسعوا فيه حتى جعلوه لموضع العبادة والطاعة. ومنه قيل للعابد: ناسك. (مَشْعَر) : مَعْلم لتعبّد من متعبداته، وجمعه مشاعر. والْمَشْعَر الحرام: هو مزْدلفة، ويسمى أيضاً جمع، والوقوف بها سنّة. (مَيْسر) .: قمار، وكان ميسر العرب بالقِدَاح في لحم الْجَزُور، ثم يدخل في ذلك النَّرْد، والشِّطْرَنْج، وغيرهما. وروي أن السائل عنه حمزة بن عبد الطلب. (مَحِلَّه) : مَنْحره، يعني الوضع الذي يحلّ فيه نَحره. (مَحِيض) ، وحيض واحد. والسائل عن ذلك عبّاد بن بشر وأسَيْد بن حضَير، قَالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألاَ نجامِع نساءَنا في الْمَحِيض خلافاً لليهود، فأخبر الله رسوله بأنه أذًى يجْتَنَب، وعليهم اجتنابه، وقد فسر ذلك في الحديث بقوله: لتشدّ عليها إزارها وشأنك بأعلاها. (مَنْ ذَا الذِي يقْرِضُ اللهَ) : استفهام يرادُ به الطَّلَب والحضّ على الإنفاق. وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام، لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظِر المسلف ردَّ ما أسلف. وروي أن الآية نزلت في أبي الدَّحْدَاح حين تصدق بحائط لم يكن له غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 (مَلَأ) : اشتقاقه من ملأت الشيء، وفلان مليء إذا كان متكثرا. ومعنى الملأ حيثما ورد في القرآن هم الأشراف والوجوه الذين يملأون العيْن والقَلْب. ومنه الحديث: أولئك الملَأ من قُريش. وأما قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) - فالمراد بها رؤية قلب، وكانوا قوماً قَدْ نَالَتْهم الذِّلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال، فلما أمروا به كرهوه. (مَسّ) : جنون. يقال رجل ممسوس، أي مجنون. والمسُّ باليد أيضاً. (موعظة) : تخويف سوء العاقبة. والمعنى أن من أخذ الربا قبل نزول التحريم فانتهى وتاب فله ما سلف، وأمره إلى الله. ، والضمير عائد على صاحب الربا، يعني أن الله يحكم فيه يوم القيامة فلا يؤاخذ به في الدنيا. وقيل الضمير عائد على الربا، والمعنى أمر الربا أتى الله في تحريمه أو غير ذلك. (مَوْلانا) : وَلِيُّنَا وناصرنا. والولى على ثمانية أوجه: المعتِق، والْمعْتَق، والوليّ، والأوْلى بالشيء، وابن العم، والصهر، والجار، والحليف. (أمَانيّ) : جمع أمنية، ولها ثلاثة معان: ما تتمناه النفس، والتلاوة، والكذب. وكذلك تمنَّى لها هذه المعاني الثلاثة. (مَآب) مرجع. (مَفَازة) : مَنْجَاة، مَفْعلة من الفَوْز، يقال: فاز، أي نجا، والفوز أيضاً: الظفر. ومنه: (إنَّ للمتَّقين مَفَازا) ، يعني الجنة، لأنهم يظفرون فيها بما يريدون. (مَثْنَى وثُلاَث ورُبَ - صلى الله عليه وسلم -: لا ينصرف للعدل والوصف، وهي حالٌ من (ما طاب) . وقال ابن عطية: بدل، وهي معدولة عن أعداد مكررة. ومعنى التكرار فيها أنَّ الخطابَ لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرر الناس. والمعنى انكحوا اثنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 أو ثلاثاً أو أربعاً. وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوّج ما زاد على الأربع. وقال قوم: لا يعبأ بقولهم إنه يجوز الجمع بين تسع، لأن مثنى وثلاث ورباع مجتمع منه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع. ولو أراد الجمع لقال " تسع "، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقلّ بياناً. وأيضاً قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة. فإن قلت: هل الزيادة لحكمة أم لا؟ فالجواب أن الله تعالى أباح لمن تقدم من اليهود ستا، وأباح للنصارى اثنتين، فجعل الله لهذه الأمة الأربع، لأنهم خيْر الأمم، وخير الأمور أوساطها. هذا لمن قَدَر على العدد، وأما من لم يقدر فالاقتصار على الواحدة، وما ملكت اليمين أولى، رغبة في العدل، كما قال تعالى: (ذَلِكَ أدْنَى ألاَّ تَعولوا) . (مَقْتاً) : بغْضاً. ومنه قوله تعالى: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، فمقتوا أنفسهم، واعترفوا بذنوبهم. وجعل كل واحد يلوم صاحبه، فتناديهم الملائكة وتقول: "لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ" اليوم، فقوله: لَمَقْتُ اللَّهِ - مصدرٌ مضاف إلى الفاعل، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه، وقوله: (إذْ تدْعون) - ظرف للعامل فيه مقت الله من طريق المعنى، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو، لأن مقت الله مصدر، فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته، فيحتاج أن يقدّر للظرف عامل، وعلى هذا أجاز بعضهم الوقْف على قوله: أنفسكم، والابتداء بالظرف، وهذا ضعيف، لأن المراعى المعنى. وقد جعل الزمخشري مَقْتَ اللهِ عاملاً في الظرف ولم يعتبر الفصل. وأما قوله تعالى: (إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سَبِيلاً) . فكانت العرب إذا تزوّج الرجل امرأة أبيهِ فأولدها يقولون للولد مَقْتِيّ، ولذا زاد المقت في هذه الآية، لأن هذا المقت أقْبَح من الزنى. (ما أصابكَ مِنْ حسنَةٍ فَمِنَ اللهِ وما أصابكَ مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نَفْسِك) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 هذه الآية خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان: أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله والسيئة إلى النفس تأدباً مع الله، وإن كان كل شيء منه في الحقيقة، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والخير كلّه بيدك، والشرّ ليس إليك ". وأيضاً فنسبة السيئة إلى العَبْدِ لأنها بسبب ذنوبه، لقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، فإنها من العبد بتسبّبه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع. والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل. والتقدير يقولون كذا، فمعناها كمعنى التي قبلها. (ما قَد سلَف) ، المعنى إلا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية وانقطع بالإسلام، فقد عفا عنكم، ولا تؤاخذون به. هذا في أرجح الأقوال. (ما مَلكَتْ أيْمَانكم) : يريد السبايا في أشهر الأقوال. والمعنى أن المرأة الكافرة إذا كان لها زَوْجٌ ثم سُبِيَتْ جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها. وسبب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشاً إلى أوْطاس فأصابوا سبياً من العدوّ، ولهنّ أزواج من المشركين، فتأثَّم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مبِيحةً لذلك. (مُدخَلاً كَرِيما) : اسم مكان، وهو هنا الجنة. (مَغَانم) ، ومَغْنم، وغنْم: ما أصيب من أمْوَال المحاربين. وفي هذه الآية وَعْد وتزهيد في مال من أعلنوا الإسلام. وأما المحاربون فقد أباح الله لهذه الأمة أخْذَها. وهي من خصائص نبيهم عليه الصلاة والسلام. (مَوْقوتاً) : أي محدوداً بالأوقات. وقال ابن عباس: فرضاً مفروضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 (مَرِيدًا) : يعني إبليس، ومعناه أنه قد عدم من الخير. وظهر شرّه، من قولهم: شجرة مَرْدَاء إذا سقط ورَقها، وظهرت عيدانها. ومنه غلام أمرد، إذا لم يكن في وجهه شَعر. (مَحِيصا) : أي مَعْدَلا ومهرباً. (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . دخلت (من) للتبعيض رِفْقاً بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر، واشترط مع فعلها الإيمان، لأنه لا يقبَل عملٌ إلا به. (مَسِيح) - بالحاء الهملة: لقب لعيسى ابن مريم، ومعناه الصديق، وقيل الذي لرجله أخْمَص. وقيل الذي لا يمسح ذا عاهة إلا برئ. وقيل الجميل. وقيل الذي يمسح الأرْضَ، أي يقطعها. وبالخاء المعجمة: الدجّال، لعنه الله. وقيل بالحاء المهملة. (موْقوذة) : هي المضروبة بعصا أو حجر وشبْه ذلك، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة. (مَخْمَصَةٍ) : مجاعة. (مَكنَّاهمْ في الأَرْض) : ثَبَّتناهم فيها وملكناهم، والضمير عائد على القَرْن، لأنه في معنى الجماعة. (ما المسيح ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسول) : في هذه الآية رَدّ على النصارى الذين غَلوا فيه، وقالوا: إنه ابن الله. فردَّ اللَّهُ عليهم بأنه عبده، وكلمته التي هي كنْ من غير واسطة أبٍ ولا نطفة. (ورُوحٌ منه) ، أي ذو روح منه، فمِنْ هنا لابتداء الغاية. والمعنى من عنده، وجعلَه من عنده، لأنه أرسل به جبريل إلى مريم عليها السلام. (مائدة) : هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خِوَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 فإن قلت: ظاهر سؤالهم نزول المائدة من عيسى عليه السلام يقتضي شكهم في قُدْرةِ اللهِ على إنزالها؟ والجواب أنهم لم يشكُّوا في قُدْرَةِ الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربُّك هذا، وهل تقع منه إجابة إلينا، لأن الله أثنى على الحواريّين في مواضع من كتابه، مع أن في اللفظ بشاعةً تُنْكر. وقد قرئ: تستطيعُ ربَّك - بالنصب، أي هل تستطيع سؤال ربّك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكّوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بِرَبّهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أن ينزِّلَ علينا مائدة من السماء، فموضع (أن) مفعول بقوله: يستطيع، على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء. (وَمَا تأْتيهم مِنْ آيةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهم) : (مِنْ) الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو لبيان الجنس، وهذا الخطاب للكفار. (مَلَكوتَ السَّمَواتِ والأرْضِ) : قال عِكْرِمة: هو الملك، ولكنّه بكلام النبطيّة ملكوت. وقال الواسطي في الإرشاد: هو الملك بلسان القبط، ومعناه أن الله فرج له السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يفتقر لصحة نَقْل. وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقَعْ لأهل زمانه. وقيل إنما ابْتلِي بِذَبْحِ وَلَدِه، لأنه رأى في هذا الكَشْف عاصياً، فدعا الله بهلاكه، وكذلك ثان وثالث، فقال الله: احجبوه. وابتلاه بذبح ولده، فقال: يا ربّ صبِّرْني، فإنك ابتليتني بما لم تبتل به أحداً قبلي، فنزل عليه جبريل، وقال له: يا إبراهيم، أما تذكر يوم كَشفَ الله لك الملكوت، ودعوت على عباد الله بالهلاك، أهلكْتَ له ثلاثاً، وهو طلب منك واحداً، فقال: يا جبريل، وهل تبلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 رحمته بعباده كرحمتي بولدي، فقال: الله أرحمُ بِعَبْدِه منك بولدك. فبكى إبراهيم ففدَّاه الله بذبح عظيم (1) . والواو والتاء في ملكوت زائدتان مثل الرَحموت من الرحمة، والرَهبوت من الرهبة، تقول العرب رَهَبوت خَيْرٌ من رَحَموت، أي أن ترهب خير من أن ترحم. (مَعْرُوشات) : مرفوعات على دعائم وشِبْهها. وغير معروشات: متروكات على وجه الأرض. وقيل: المعروشات ما غَرسه الناس في العمار. وغير معروشات ما أنْبَتَه الله في الجبال والبراري. (مَنْ تكون لَه عاقِبةُ الدَّارِ) : يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية، أو استفهامية في مَوْضِعِ رَفْع بالابتداء، والمراد بـ (عاقبة الدارِ) الآخرة، وهو الأصح، لقوله: (عُقْبَى الدَّارِ جنّات عَدْن) . (مَكانَتِكم) : أي تمكنكم. والأمر هنا في قوله: (اعملوا) ، للتهديد. (مَسْفوحاً) : مصبوبا. (مَعَايش) : بغير همز، لأنها مفاعل من العَيْش، واحدها معيشة، والأصل معيشة على مَفْعلة، وهي ما يعَاش به من النبات والحيوان وغير ذلك. (مَذْموماً مَدْحُوراً) : من ذأمه بالهمز إذا ذمّه. والمدحور: المطرود حيث وقع. والمراد به إبليس لعنه الله، لأن الله أبعده. (ما سبَقَكمْ بها مِنْ أحَدٍ مِنَ الْعَالَمين) ، أي لم يفعلها أحد من العالمين قَبْلكم. ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس -. (وَمَا كان جوابَ قَوْمِه) : يعني أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله.   (1) لا يخفى ما في هذا الكلام من بعد بعيد، فهو يتنافى تماما مع ما ذكره القرآن عن شخصية الخليل - عليه السلام - وأين هو من قوله تعالى على لسان الخليل - عليه السلام - (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؟؟!!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 (مَدْين) : اسم أرض قوم شُعيب، كانوا يبْخَسونَ الكيْلَ والوَزْنَ، فبعث الله لهم شعَيباً ليَنْهاهم عن ذلك. فإن قلت: هل المراد به الأيكة المذكورة في الشعراء، ومعناها الغَيْضَة، ولم قال في الأعراف أخوهم كما قال في قصة نوح وحذفه من الشعراء، فدل على أنهم قبيلتان؟ والجواب أنه بُعث إلى مَدْيَن، وكان من قبيلتهم، فنسبه إلى إخوتهم، وبعث أيضاً إلى أصحاب الأيكة، ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيب على هذا مبعوثاً إلى القبيلتين. وقيل: إن أصحَاب الأيكة مَدْين، ولكن قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلهم، ولم يقلْ أخوهم حين نسبَهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهاً لشعَيْبِ عن النسبة إليها. وقرئ الأيكةِ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحِجْرَ، و (ق) ، ومعناه الغَيْضَة كما قدمنا. وقرئ في الشعراء بفتح اللام والتاء، فقيل: إنه مسهَّل من الهمز. وقيل إنه اسمُ بلدهم. ويقَوِّي هذا على القول إن هذه القراءة بفتح التاء غير منصوب، فدلّ ذلك على أنه اسم علم. وضَعَّفَ ذلك الزمخشري، وقال: إنَّ " ليكة " اسم لا يُعْرف. (ما قَدَرُوا اللَهَ حَقَّ قدْرِه) : أي ما عرفوه حقَّ معرفته في اللّطْف بعباده والرحمة لهم، إِذْ أنكروا بعثةَ الرُّسل وإنزاله الكتب. والقائلون: (ما أنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْء) ، هم اليهود، بدليل ما بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ورُوِي أنَّ الذي قالها منهم مالك بن الصَّيْف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به، وهو إنزال التوراة على موسى. وقيل القائلون قريش وألزموا ذلك، لأنهم كانوا مقرين بالتوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 (مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) : أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختباراً لهم في الحالتين. (ما وَجَدْنَا لأكْثَرِهم مِنْ عَهْد) : الضمير لأهل القرى. والمعنى وجدناهم ناقضين العهود. ومِصْداق ذلك أني سميتهم بشراً فتلا الاسم شر. (مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا) : أي ما تعيب منا إلا إيماننا بموسى. وهذا قول السحَرة لما شاهدوا ما أعجز البشر. وروي أنهم انطلقو إلى قبور أشياخهم يطلبون منهم تَبْيِين الحال، وقالوا لهم: انظروا إلى العصا، فإن رأيتموها ضامرةً فاعلَموا أنها من عند الله، وإن رأيتموها مجوّفة بعد بلعها لسحركم فليست هي من عند الله (1) . (مَهْمَا تَأْتِنَا به مِنْ آيةٍ) : الضمير عائد على مهما، وإنما قالوا من آية على تسمية موسى لها بآية، أو على وجه التهكم. (مَشارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَها) : المراد بها مصر والشام فقط. (ما كانوا يَعْرِشون) : أي يبنون، وقيل الكروم وشبهها، فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش. (فمثَله كمَثَلِ الْكلْب) : المثل له أربعة معان: الشبيه والنَّظِير، ومنه المثل الضروب، وأصله من التشبيه. ومثل الشيء حاله وصفته. والمثل الكلام الذي يتمثّل به، ومثل الشيء بكسر الميم شبهه، والضمير عائد على الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها. وقد قدمنا الخلاف فيمن نزلت. وهذا المثل في غاية الخسّة والرداءة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ". (مَثَل القَوْمِ الذين كذَّئوا بآيَاتِنَا) ، أي صفة المكذّبين كصفة الكلب في لهثه، أو كصفة الرجل المشبّه به، لأنهم إن أتوها لم يهتدوا.   (1) كلام فيه بعد، فالسحرة بادروا بالسجود كما يفهم ذلك من تعبير القرآن بالفاء - التي تفيد الترتيب والتعقيب - في قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وإن تركوها لم يهتدوا. وشبّههم بالرجل، في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات. (مَتِين) : شديد، وسمى الله فعله بهم كَيْدا، لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان. (ما يصاحبهم مِنْ جِنَّة) : يعني بالصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. فنفى عنه ما نسبه المشركون له من الجنون. ويحتمل أن يكون قوله: (ما بصاحبهم مِنْ جِنَّة) معمولاً لقوله: (أوَلمْ يتفَكّروا) ، فيعلموا أن ما بصاحبهم من جِنَّة. ويحتمل أن يكون الكلام قد تَمَّ في قوله: أو لم يتفكروا، ثم ابتدأ إخباراً. مستأنفاً بقوله: (ما بصاحبكم من جِنّة) . والأول أحسن. (ما خلَقَ اللَّهُ) .: عطف على الملكوت، ويعني بقوله: (مِنْ شيء) . جميع المخلوقات، إذ جميعها دليل على وَحْدَانيَّة خالقها. (ما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ) : الخطاب بهذا لنبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه أخذ يوم بَدْرٍ قبضةً من ترَابٍ أو حصا، ورمى بها في وجوه الكفار، فانهزموا. وفي الآية إخبار أن ذلك من الله في الحقيقة، وأنه ليس في قدرة البشر قَتْل من قتل، كما قال: (فَلَمْ تَقتلوهم ولكنَّ اللهَ قَتَلهم) . (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) . في هذه الآية إكرام لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخبار بأنهم لو آمنوا واستَغْفَروا لأمِنوا من العذاب. قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب، وهما وجوده - صلى الله عليه وسلم -، والاستغفار. فلما مات ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وقيل الضمير في ليعذبهم للكفار، وفي: وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظْهرِهم. فعليك بكثرة الاستغفار تُمَحَى صحيفتك من الأوزار. قال - صلى الله عليه وسلم -: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً. وفي الأحاديث القدسية: يقول الله تعالى فيمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا: امْحوا لعَبْدِي ما بين طرفي الصحيفة. (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) : المعنى أي شيء يمنعهم من العذاب وهم يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام، والجملة في موضع الحال. (مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ) : الضمير للمسجد الحرام، أو لله. (ما كانَ صَلاَتُهم عِنْدَ البيت) : قد قدمنا في حرف التاء معنى هذه الآية، والضمير عائد على قريش. (مَضَتْ سنَّة الأوّلين) : تهديد بما جرى لهم يوم بدر، أو بما جرى للأمم السالفة. (غَنِمْتم مِنْ شَيْءٍ) : لفظه عام، يراد به الخصوص، لأن الأموال التي تؤخذ من الكفَّار منها ما يخْمَس، وهو ما أخذ على وجه الغَلَبة بعد القتال، ومنها ما لا يخْمس، بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه مَنْ كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدوّ خوف الغرق، ومنها ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ويصرف سائره في مصالح المسلمين، وهو الفيء الذي لم يوجف عليه بِخَيْلٍ ولا رِكاب. (ما أنزلنا على عَبْدِنا يوم الفرْقَان يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَان) . يعني بالعبد نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وَالذي أنْزِل عليه: القرآن والنصر. والمراد بالفرقان التفرقة بين الحقّ والباطل. والجَمْعَان يعني به المسلمين والكفار. (مَنَامِكَ) : نومك، كقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) . والخطاب بها لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد رأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الكفارَ في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم. ويقال منامك عيْنك، لأن العيْنَ موضع النوم. (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) : لما أخذ - صلى الله عليه وسلم - الأَسرى يوم بَدْر أشار أبو بكر الصديق بحياتهم، وأشار عمر بقَتْلهم، فنزلت الآية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر. (ما كان للمشركين أنْ يَعْمُروا مساجدَ اللهِ) : أي ليس لهم ذلك بالحق الواجب، وإن كانوا قد عمروها تغليباً وظلْماً. ومن قرأ مساجد - بالجمع - أراد جميع المساجد. ومن قرأ مسجد - بالإفراد - أراد المسجد الحرام. (ما لكم إذا قيل لكم انْفِرُوا في سبيل الله) : هذه الآية عتاب لمن تخلَّفَ عن غَزْوَة تَبوك. (مَرْصَد) : طريق، والجمع مَرَاصد. (ما زادوكم إلاَّ خَبَالاً) : أي شَرّاً وفساداً. والضمير راجع لعبد الله بن أبيّ بن سَلُول، والجدّ بن قيس، وأصحابهما. (مع الْقَاعِدِين) : مع النساء والصبيان وأهل الأعذار، وفي ذلك ذمّ لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء. (ما منَعهم أنْ تقْبَلَ منهم نَفَقَاتهم إلاَّ أنهم كَفَرُوا باللهِ وبرسوله) ، تعليل لعدم قَبُول نفقاتهم بكفرهم. ويحتمل أن يكون (أنهم كفروا) فاعل ما منعهم، أو في موضع المفعول من أجله، والعامل (الله) . (مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) : أي ما يلجأون إليه من المواضع، ومغارات في الجبال، ووَزْن مدّخل مفتعل من الدخول، ومعناه (سَرَباً في الأرض. (ما على المحسنين مِنْ سَبِيل) : وصفهم بالمحسنين، لأنهم نصحوا الله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 (مَرَدوا على النفَاق) : أي أقاموا عليه. (ما كان للنبي والذِين آمَنوا أن يَستَغْفِرُوا للمشركين) . نزلت في شأن أبي طالب لا امتنع من الإيمان عند موته. قال - صلى الله عليه وسلم -: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية. وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربَّه في أن يستغفر لأمِّه، فنزلت الآية. وهذا القول يردّه حكاية السهيلي في أن الله أحيا له أباه وأمه، فأسلما. وأما أبو طالب فالاعتقاد أن الله خفَّف عنه العذاب، كما صح أنه في ضَحْضَاح من نارٍ لِذبهِ عنه - صلى الله عليه وسلم - وبرِّه به. (ما كان الله ليضِلَّ قَوْماً تعْدَ إذْ هَدَاهم) . نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تَأنيساً لهم، أي ما كان ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكم المنع من ذلك. (مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) : يعني تزيغ من الثبات على الإيمان، أو عن الخروج في تلك الغَزْوَة، لما رأوْا من الضيق والمشقّة. وفي كاد ضمير الأمر والشأن، أو ترتفع به القلوب. (مَغْرَما) : أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقلَ المغْرم الذي ليس بحقٍّ عليه. (مع الصادقين) : يحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، إذ كان هؤلاء الثلاثة الذي تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك. ويحتمل أن يكون أعلم من صدق اللسان، وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزم، والمراد بالصادقين المهاجرين، لقول الله في الحشر: (للفقَراء المهاجرين ... إلى قوله: (أولئك هم الصادقون) . وقد احتجَّ بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السَّقِيفة، فقال: نحن الصادقون. وقد أمرم الله أن تكونوا معنا، أي تابعين لنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 (مع الذين أنْعم اللَّهُ عليهم ... ) الآية هذه مفسِّرة لقوله: (صِرَاط الذين أنْعَمْتَ عليهم) . والصدّيق فعّيل من الصدق أو من التصديق. والمراد بها المبالغة. والصدّيقون أرْفَع الناس درجة بعد الأنبياء. كالغريق وصاحب الهدْم، حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة. (وما لكم لا تقَاتِلون في سبيل الله) : تحريض على القتال. وما مبتدأ والجار والمجرور خبره، ولا تقاتلون في موضع الحال. (متاعُ الدّنْيَا قَلِيل) : هذه الآية تحقير للدنيا، وفيها الردّ على من يكرَة الموتَ، ولا يبذل نفسه في مرضاة الله وفاءً بالعهد الذي عاهد عليه الله. (مَا لِهؤلاءِ الْقَوم) : توبيخ على قلةِ فَهْمهم. (ما أرسلناك عليهم حَفِيظاً) : أي من أعرض عن طاعتك يا محمد، فما أنت عَلَيْهِ حفيظ، تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله. (إنْ عليكَ إلاَّ البلاغ) . وفي هذا متاركة وموَادعة منسوخة بالقتال. (ما كان لأهْلِ المدينة ... ) ، الآية: عتاب لمن تخلَّف عن غَزْوَة تَبوك من أهل يَثْرب، ومَنْ جاورها من قبائل العرب. (ما كان المؤمنون ليَنْفِروا كافَّة) . قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في التفاوت في الخروج إلى الغَزْوِ والسرايا، أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه، فالآية الأولى في الخروج معه - صلى الله عليه وسلم -، وهذه في السرايا التي كان يبعثها. وقيل هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهو دليل على أن الجهاد فَرْض كفايةٍ لا فرض عَيْن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وقيل: هي في طلب العلم على البعض، لأنه فرض كفاية. (ما مِنْ شَفِيِع إلاَّ مِن بعد إذْنِه) : أي لا يشفع إليه أحد إلا مِنْ بعد أنْ يأذن له في الشفاعة. وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفَع لهم. (ما خلق الله ذلك إلا بالحقّ) ، أي بدء الخلق، وضياء الشمس، ونور القمر، وسيره في المنازل، وجميع ما خلق إنما هو لحكلمة لا لعَبَث. (ما تَلَوْتُهُ عليكم) ، أي ما تلوْته إلا بمشيئة الله، لأنه من عنده لا من عندي. (ما لهم مِنَ اللهِ من عَاصِم) : الضمير يعود على من كسب السيئات، يعني أنه لا يعصمهم أحد من عذاب الله. (ما جِئْتم به السِّحْر) : ما موصولة مرفوعة بالابتداء والسحر الخبر - وقرئ آلسِّحْر - بالاستفهام، فما على هذا استفهامية والسحر خبر ابتداء مضمَر. (ما آمَنَ لموسَى إلا ذرّيةٌ مِنْ قَوْمِه) : الضمير عائد على موسى، ومعنى الذرية شبّان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوفهم من فرعون. وقيل: إن الضمير عائد على فرعون. وروي في هذا أنها امرأة فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه. وهذا بعيد، لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية، ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور. (ما اختَلَفوا حتّى جاءهم العِلْم) : قيل يريد اختلافَهم في دينهم. وقيل اختلافهم في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -. (وما تغْنِي الآياتُ والنّذر عن قَوْم لا يؤمِنون) ، يعني مَنْ قضى الله عليه أنه لا يؤمن. وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 (مَنْ كان يريد الحياةَ الدّنْيَا وزِينَتَها) الآية. نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، إذ هم لا يصدقون بها. وقيل نزلت في أهل الرِّبا من المؤمنين الذين يُريدون بأعمالهم الدنيا حسبما ورد في الحديث: في الغازي والمنفق والمجاهد الذين أرادوا أن يقال ذلك لهم: أوَّل مَن تسعّر به النار. والأول أوضح، لتقدم ذكر الكفَّار المناقضين للقرآن. وإنما قصد بهذه الآية أولئك. (ما كانوا يَسْتَطِيعونَ السَّمْعَ ... ) الآية. ما نافية، والضمير للكفّار. والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون، كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) . وقيل غير ذلك، وهو بعيد. (مَثَل الذين ينْفِقون أموالَهم في سَبِيلِ الله) : ظاهره الجهاد. وقد يُحْمل على جميع وجوه البِرِّ، فمثّل الله بهذه الآية أنَّ الحسنة بسبعمائة، كما جاء في الحديث: إن رجلاً جاء بناقة فقال: هذه في سبيل الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة" (وما أنْفَقْتمْ مِنْ نَفَقَةٍ أو نذَرْتم مِنْ نَذْرٍ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُه) : ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرّعاً، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه بالنذر. وفي قوله: (فإن اللهَ يَعْلَمه) وعْد بالثواب. وفي قوله: (وما للظالمين مِنْ أنصار) . وعِيد لمن يمنع الزكاة، أو ينْفِق لغير الله. (وما تنْفِقوا مِنْ خَيْرٍ فلأنْفسكم) الآية: يعني منفعته لكم. وقيل: إنه خبر عن الصحابة، أي أنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله، ففيه تزكيةٌ لهم، وشهادة بفضلهم. وقيل: ما تنفقون نفقةً تقبل منكم إلا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حَضّ على الإخلاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 (مَثَلُ الفَرِيقين كالأعمى والأصَمّ والبصِير والسَّمِيع) : شبَّه الكافر في هذه الآية بالأعمى وبالأصم. وشبه المؤمن بالسميع وبالبصير، فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثلين. وقيل: التقدير كالأعمى والأصم والبصير والسميع. قالوا: ولعطف الصفات فهو على هذا تمثيل للمؤمن بمثال واحد، وهو مَنْ جمع بين السمع والبصر، وتمثيل للكافر بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصَّمَم. (ما آمَنَ مَعَه إلا قليل) : قيل كانوا ثمانين. وقيل عشرة. وقيل ثمانية. والضمير لنوح. فتأمّل الفعل الربّاني في طول بقائه معهم، وقلّة مَنْ آمن منهم. (مَوْجٍ كالجِبَال) : روِي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض، فصار الكلُّ كالبحر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الماء الجبال. (مَعْزِلٍ) : أي في ناحية، فناداه نوح: يا بنيّ، اركَب معنا ولا تكن مع الكافرين، فلم يلتفت له، فنادى نوح ربه إن ابني من أهلي، وإنَّ وَعْدَك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. فقال: فلا تسْألْنِ ما ليس لكَ به عِلْم. هل هو صواب أو غير صواب حتى تقف على كُنْهه. فإن قلت: لِمَ سمّي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟ فالجواب أنه تضمَّن السؤال، وإن لم يصرّح به، ولما أجابه الله بقوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين - بكى أربعين سنة على هذه الكلمة (1) . فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تكُونَنَّ مِن الْجَاهلين) . فالجواب أنَّ نوحا كان كبيراً ونَبِيُّنا كان شابّاً، فقال له ذلك لحداثة سنّه. وأيضاً فنوح كان صفيّاً ومحمد حبيباً، ولإفراط المحبة فيه تكون الغيرة عليه أعظم، ولا أحد أعظم غيرة من الله. وينبغي أن يكون الحبيب أكثر اجتهاداً وحِرْصاً على طاعة محبوبه. وعلى ذلك جرى الخطاب معه في القرآن (2) .   (1) لا يخفى ما فيه من بعد وهو أقرب إلى الإسرائيليات. والله أعلم. (2) قد يجاب عن ذلك بأن شدة حرص رسول (صلى الله عليه وسلم) على هداية قومه ونجاتهم من النار كانت أكثر من حرص نوح ـ عليه السلام ـ على نجاة ابنه يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة الكهف {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) } وقوله تعالى فى سورة الشعراء {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) } والمعنى والله أعلم: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا لعدم إيمان القوم. وفى صعيد القيامة لا يذكر أحد أحداً وجميع الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بما فيهم نوح ـ عليه السلام ـ يقول كل واحد منهم: نفسى نفسى ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أمتى أمتى. لذا كان الفرق بين خطاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى فى سورة الأنعام {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وخطاب نوح ـ عليه السلام ـ بقوله تعالى فى سورة هود {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) } والله أعلم. اهـ (الحاوي في تفسير القرآن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 (ما جئْتَنا ببيًنةٍ) ، أي بمعجزة، وذلك كذبٌ من قول قوم هود وجحودٌ. أو يكون معناه تضطرنا إلى الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية. (ما مِن دابةٍ إلاَّ هو آخِذٌ بنَاصيتها) ، أي في قبضته، وتحت قَهْرِه، والأخْذ بالناصية تمثيل لذلك. وهذه الجملة تعليل لقوله: (توكَّلْتُ على الله ربي وربكم) . (مَجِيدٌ) : هو من المجد، وهو العلو، أو الشرف، من قولك: امْجِدْ الدابة علفاً، أي أكثر وزد. (مَالَنَا في بنَاتِك مِن حَقّ) : هذا من قول قَوْم لوط لما عرض بناته للزواج عليهم لِيَقِيَ أضْيافه بهنّ، فأعرضوا عنه، وقالوا لهَ: لا أرب لنا إلا في إتْيَان الرجال. (مَنْضُود) : أي مضموم بعضه فوق بعض. (ما هِيَ من الظالمين بِبَعِيد) : الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين كفَّارُ قريش، فهذا تهديد لهم، أي ليس الرَّمْيُ بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم. وقيل الضمير للمدائن، فالمعنى ليست ببعيد منهم، فلا يعتبرون بها، كقوله تعالى: (ولقد أتَوْا عَلَى القَرْيَةِ التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْء) . وقيل: أراد الظالمين على العموم. (مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) : يقال: خالفني فلان إلى كذا، إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. (فما لكم في المنافقين فِئَتَيْن) : ما استفهامية بمعنى التوبيخ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 والخطاب للمسلمين. ومعنى فئتين أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال. والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغْنَمُوا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون. وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحُد. فاختلف الصحابة في أمرهم. ويرد هذا: حتى يهاجروا. (مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ، أي لا تكسبنّكم عَدَاوتي أن يصيبكم مثل عذابِ الأمم المتقدمة، وإنما قَرُب قوم لوط منهم لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكة إليهم. ويحتمل أن يريد في البلاد. (ما أغْنَتْ عنهم آلِهتهم التي يَدْعُون من دونِ الله مِنْ شي) . حجة على التوحيد، ونفي للشرك، لو عقلوا. (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) : فيه وجهان: أحدهما - أن يُراد بها سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة أبدًا. والآخر أن يكون عبارة عن "التأبيد، كقول العرب: ما لاح كوكب، وما ناح الحمام، وشبه ذلك، مما يُقصد به الدوام. وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقوال: قيل: إنه على طريق التأدّب مع الله، كقولك: إن شاء الله، وإن كان الأمر واجباً. وقيل المراد زمان خروج المذْنبين من النار، ويكون (الذين شَقُوا) ، على هذا يعُمُّ الكفار والمذنبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقيل استثني مدة كونه في الدنيا وفي البرزخ. وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه القول الأول والثالث دون الثاني. (مَجْذُوذ) : مقطوع. يقال جذذت وحذَذْتُ، أي قطعت. (ما يَعْبُدونَ إلاَّ كما يَعْبُدُ آباؤهم من قَبْلُ) ، أي هم متَّبِعون لآبائهم تقليداً من غير برهان، كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) . (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) : أي لِمَ تخاف عليه منا. وقرأ السبعة تَأمنّا بالإدغام والإشمام، لأن أصله بضم النون الأولى. (ما أنْتَ بمُؤْمن لَنا) : أي بمُصَدِّق لمقالنا، ولو كنّا صادقين، فكيف وأنت تتهمنا. وقيل: معناه لا تصدقنا ولو كُنَّا صادقين في هذه المقالة، فذلك على وجه المغالطة منهم. والأول أظهر. (مَثْوَاهُ) : مقامه. (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) : هذا من قول زليخا لما رأت الفضيحة عكست القضية وادّعَتْ أنَّ يوسف راوَدها عن نفسها، فذكرت جزاء مَنْ فعل ذلك على العموم، ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم، وبناء على أن الذّنْبَ ثابت عليه بدعواها لصدقها عنده. ويحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية. (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) : هذا من قول النسوة اللواتي عظَّمْنَ شأنَه وجماله حتى قطَّعن أيديهن، وهن لا يشعرن، كما يقطع الطعام. (رَأوُا الآياتِ) : أي الأدلة على براءته من شهادة الصبي وغير ذلك. وضمير الجمع يعود على الزوْج والمرأة ومن تشاور معهما على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً) . وقع الأسماء هنا موقع المسميات. والمعنى سميتم آلهةً ما لا يستحق الإلهية ثم عبدتموها. (ما نَحْن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين) : إما أن يريد تأويل الأحلام الباطلة، أو تأويل الأحَلام على الإطلاق، وهو أظهر. (ما قَدَّمْتُم لَهنَّ) ، أي يأكن فيها ما اختزنتم من الطعام في سنْبله، وإسناد الأكل إلى السنين على جهة المجاز. (ما عَلِمْنا عليه مِنْ سوء) : هذا كلام النسوة اللاتي نزَهْنَ يوسف عن مراودته لهن، أو لامرأة العزيز. (مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) : اختلف هل هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف، فإن كان من كلامها فهو اعتراف بعد الاعتراف، وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما همّ به على وجه خطوره على قلبه، لا على وجه العزم والقصد. أو قاله في عموم الأقوال على وجه التواضع. (ما رَحِمَ ربي) : استثناء من النفْس، إذ هي بمعنى النفوس، أي إلا النفس المرحومة، وهي المطمئنة، فما على هذا بمعنى الذي. ويحتمل أن تكون ظرفية، أي إلى حين رحمة الله. (مَكين أمِين) : تأمّل حسْن السياسةِ من هذا الملك في قوله: (أَستَخْلِصه لنفسي) . فلما كلّمه وظهَر له وفور عقله، وحسن كلامه قال له: إنّكْ لَدَيْنَا مَكين أمين، مَكين من التمكن، والأمين من الأمانة، فهكذا ينبغي ألاَّ يصطفي الإنسان لنفسه صاحباً إلاَّ بعد الاختبار والامتحان، إذ بعدهما يعزّ المرء أو يهان. يشهد لذلك الحديث: هل سافرت معه، هل بايعته، هل شاريته. (مَكنَّا ليوسفَ في الأرض) : إشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنْع الله به. ورُوي أن الملكَ أسند إليه جميع الأمور حتى تغلّب على جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الأمور، وأن امرأة العزيز شابت وافتقرت فتزوَّجها يوسف. ورد الله عليها جمالها وشبابها، وأنه باع من أهل مصر في أعوام القَحْط في السنة الأولى بالدنانير والدراهم حتى لم يَبْقَ لهم شيء منها، ثم بالحلي ثم بالدوابّ ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى تملَّكهم جميعا، ثم أعتقهم ورد أملاكهم عليهم. تنبيه : على قدر النعمة تكون النِّقْمة، لم يصل يوسفُ عليه السلام إلى هذا حتى امتحن بفراق أبَوَيْه، وبالجُبِّ وبالسجن، واللوم والتعيير، فكيف تطمع باللحوق إلى منزل الكرامة الباقية دون امتحان رسول الله: بقي في السجن بقوله: اذكرني عند ربك - سبع سنين، فكيف حال مَنْ عصى مولاه سبعين سنة، فإن لم تمتحن نفسك بطاعة مولاك فلا بد لك أن تخرج من سجن الدنيا إلى ظُلمة القبر وهول المحشر وتطاير الصحف والحساب والميزان والجواز على الصراط - على مَتْنِ النار، وعليه كلاليب مثل شَوْك السَّعْدان، وكلّ مارّ عليه يذهل عن الأهل والإخوان، وكيف لا والأنبياء يقولون اللهم سلِّم سلِّم، فإن عفا عنك مولاك جعل دار كرامته مَأوَاك، وإلاَّ فتسقط فيها لأنها مَثْوَاك، وبئْس مَثْوَى المتكبرين. اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين. (مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) : ما استفهامية، ونبغي بمعنى نطلب. والمعنى أي شيء نطلب بعد هذه الكرامة، وهي رد البضاعة مع الطعام. ويحتمل أن تكون ما نافية، ونبغي من البغي، أي لا نتعدى على أخينا ولا نكذب على الملك. (ما كان يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ من شيء) : جواب (لما) . والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضى الله. (ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض) : استشهدوا بعلمهم لما ظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 من ديانتهم في دخولهم أرضهم حين كانوا يجعلون الأكمّة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس. (ما كان لِيَأخُذَ أخاهُ في دِين الملِك) : في شرعه وعادته. (مَعَاذ الله) : وعَوْذه وعياذه بمعنى واحد، أي أستجير بالله. (ما شهدْنَا إلا بما عَلِمْنَا وما كنّا للغَيْبِ حافظين) : أي قولنا لك إنَّ ابْنَكَ سرق إنما هي شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى، ولا نعلم الغيب هل ذلك حقّ في نفس الأمر أم لا، إذ يمكن أن دسُّ الصاعُ في رحله من غير علمه. وقال الزمخشري: المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقنّاه، لأن الصاع استخرج من وعائه. (وما كُنّا للغَيْبِ حافظين) : أي ما علمنا أنه يسرق حين أعطيناك الميثاق. وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري، والقراءة بالضم تعضد القول الأول. (ما فَعَلْتُم بيوسفَ وأخيه) : لما شكلوا إليه رَقَّ لهم وعرَّفهم بنفسه. ورُوي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لِثَام، ثم أزال اللثام ليعرفوه، وأراد بقوله: (ما فَعَلْتم بيوسف وأخيه) التفريق بينهما في الصغر، ومضرتهم ليوسف، وإذاية أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه. (فلما دخلوا على يوسف) : هنا محذوفات يدل عليها الكلام، وهي فرحل يعقوب، وترك أهله حين بلغه أمر يوسف ... (ما كنْتَ لدَيْهم) : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً لمحبته. والضمير لإخوة يوسف. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أي لا يؤمن أكثر الناس ولو حرصْتَ على إيمانهم. ولست تسألهم أجراً على الإيمان فيثقل عليهم بحسب ذلك. وهكذا معناه حيث وقع. (ما يؤْمِن أكثرهم إلاَّ وهم مُشْرِكُون) : نزلت في كفار العرب الذين يقِرّونَ بالله ويعبدون معه غيره. وقيل في أهل الكتاب لقولهم: (عُزَير ابن الله) . (ما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) : رد على من أنكر أن يكون النبي من البشر. وقيل فيه إشارة إلىْ أنه لم يبعث رسولاً من النساء. واختلف في مريم والصحيح أنها صدّيقة. (ما كان حديثاً يُفْتَرى) : يعني القرآن، وهذا أحد أسمائه. قال الجاحظ: سَمَّى اللَّهُ كتابَه اسماً مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل، سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية. وقال أبو المعالي عَزِيزي بن عبد الملك المعروف بشَيْذَلة في كتاب البرهان: إن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً: كتاباً، ومبيناً في قوله: (حم والكتابِ المبِين) . وقرآناً وكريماً في قوله: (إنه لقرآنٌ كَرِيم) . وكلاماً: (حتى يَسْمَعَ كلاَمَ الله) . ونوراً: (وأنزلنَا إليكم نوراً مبِينا) . وهدى ورحمة في قوله: (وهدًى ورَحْمةً للمحْسنين) . وفرْقاناً: (نَزَّلَ الفرْقَان على عَبْده) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وشفاء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) . وموعظة: (قد جاءَتْكم موعظةٌ من رَبكم وشِفَاء لِمَا في الصّدور) . وذِكْراً ومباركا: (وهذا ذكْرٌ مُبَارَك أنزلناه) . وعَلِيًّا: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) . وحكمة: (حِكْمَة بالغة) . وحكيما: (تلك آيات الكتابِ الحكيمِ) . ومهَيْمِناً ومصدّقاً: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) . وحبْلاً: (واعتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعا) . وصِرَاطاَ مستقيما: (وَأَنّ هذا صِرَاطِي مستقيما) . وقَيِّماً: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) . وقَوْلاً وفصلاً: (إنّة لقَوْل فَصْل) . ونَبَأ عظيما: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) . وأحسن الحديث، ومَثَاني، ومتَشابهاً: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) . وتنزيلاً: (وإنّه لتَنْزِيل رَبِّ العالَمِين) . ورُوحاً: (أوْحَيْنَا إليك رُوحاً مِنْ أمْرِنا) . ووَحْياً: (إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) . وعربيّاً: (قرآناً عَربيّاً) . وبصائر: (هذا بَصَائر للناس) . وبياناً: (هذا بيان للناس) . وعِلماً: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) . وحقًّا: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وهادياً: (إنَّ هذا القرآن يَهْدِي) . وعجباً: (قرآنا عَجَبا) . وتذكرة: (وإنّه لَتَذْكرةٌ) . والعروة الوثقى: (فقد استَمْسكَ بالعُرْوَةِ الؤثْقى) . وصدقاً: (والذى جاء بالصدْق) . وعدلاً: (تَمَّتْ كَلِمة ربِّك صِدقا وعَدْلاً) . وأمْراً: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) . ومنادياً: (إنَّنَا سَمِعْنَا منادياً للإيمان) . وبشرى: (هدًى وبشْرَى) . ومَجِيداً: (بل هو قرْآنٌ مَجيد) . وزَبوراً: (ولقَدْ كتَبْنَا في الزَّبور مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) . وبشيراً ونذيراً: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا) . وعزيزاً: (وإنه لَكتَابٌ عَزِيز) . وبلاغاً: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ) . وقَصصاً: (أحسن القصص) . وسماه أربعةَ أسماء في آية واحدة: (في صحفٍ مكرَّمَةٍ. مرفوعة مطَهَّرة) . فأما تسميته كتاباً فلِجَمْعِه أنواع العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه. والكتاب لغة الجمع. والمبين، لأنه أبان الحق من الباطل، أي أظهره. وأما القرآن فاختلف فيه، فقال جماعة: هو اسم علَم غير مشتقّ خاصّ بكلام اللَه، فهو غير مهموز، وبه قرأ ابن كثير. وهو مرويّ عن الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وأخرج الخطيب والبيهقي وغيرهما عنه أنه كان يهمز قرأت ولا يهمز القرآن. ويقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسمٌ لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل. وقال قوم منهم الأشعري: هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء، إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمي به لقران السور والآيات والحروف فيه. وقال الفراء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً. وهي قرائن. وعلى القولين هو بلا همز ونونه أصلية. وقال الزجاج: هذا القول سهو. والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف. ونَقْل حركة الهمز إلى الساكن قبلها. واختلف القائلون بأنه مهموز، فقال قوم منهم الجياني: هو مصدر لقرأت. كالرّجْحَان والغفْران، سمي به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول بالمصدر. وقال آخرون منهم الزجاج: هو وصف على فُعْلان، وهو مشتقّ من القَرْء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته. قال أبو عبيدة: وسمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض. وقال الراغب: لا يُقال لكل جَمْع قرآن، ولا لجَمْعِ كلِّ كلام قرآن، قال: وإنما سمي قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة. وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها. وحكى قطْرب قولاً: إنه سمِّي قرآناً لأن القارئ يظهره ويبَيِّنُه من فيه أخْذا من قول العرب: ما قرأت الناقةُ سلّى قطّ، أي ما أسقطت ولداً، أي ما حملت. والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرآناً. قلت: المختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وأما الكلام فمشتق من الكلْم بمعنى التأثير، لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم تكن عنده. وأما النور فلأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام. وأما الهدى فلأن فيه الدلالة على الحق، وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل مبالغة. وأما الفرقان فلأنه فرق بين الحق والباطل. وجّهه بذلك مجاهد، كما أخرجه ابن أبي حاتم. وأما الشفاء فلأنه يشفي من الأمراض القلبية، كالكُفْر والجهل والغل. والبدنية أيضاً. وأما الذكْر فَلِمَا فيه من المواعظ وأخبار الأمم الماضية. والذكر أيضاً الشرف، قال الله تعالى: (وإنَّه لَذِكْرٌ لَكَ ولقَوْمِك) ، أي شرف، لأنه بلغتهم. وأما الحكمة فلأنه نزل على القانون المعتبر من وَضعْ كل شيء في محله، أو لأنه مشتمل على الحكمة. وأما الحكيم فلأنه أحكمت آياته بعجيب النظم وبديع المعاني، وأحكمت عن تطرّق التحريف والتبديل، والاختلاف والتباين. وأما المهيمن فلأنه شاهدٌ على جميع الكتب والأمم السالفة. وأما الحَبْل فلأنه مَنْ تمسك به وصل إلى الجنة أو الهدى. والحبل: السبب. وأما الصراط المستقيم فلأنه طريق إلى الجنّة قويم لا عوج فيه. وأما المثاني فلأن فيه بيان قصص الأمم الماضية، فهو ثان لما تقدمه. وقيل لتكرار القصص والمواعظ فيه. وقيل: لأنه نزل مرة بالمعنى ومرة باللفظ والمعنى: لقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) . حكاه الكرماني في عجائبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وأما المتشابه فلأنه يشبه بعضه بعضاً في الصدق. وأما الرّوح فلأنه تحيى به القلوب والأنفس. وأما الجيد فلِشَرفه. وأما العزيز فلأنه يعزّ على مَنْ يروم معارضته. وأما البلاغ فلأنه أبلغ به الناس ما أمروا به ونهوا عنه، أو لأن فيه بلاغاً وكفاية عن غيره. قال السّلَفِيّ في بعض أجزائه: سمعت أبا الكرم النحوي، سمعت أبا القاسم التنوخي يقول، سمعت أبا الحسن الرماني يقول - وقد سئل: كل كتاب له ترجمة، فما ترجمة كتاب الله، فقال: هذا بلاغ للناس، ولِيُنْذِزوا به. وذكر أبو شامة وغيره في قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) - أنه القرآن. فائدة حكى المظفري في تاريخه، قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سمّوه. فقال بعضهم: سموه إنجيلاً، فكرهوه. وقال بعضهم: سموه السِّفْر، فكرهوه من اليهود. فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف، فسموه بذلك. قلت: أخرج ابن أشْتَه في كتاب المصاحف من طريق عيسى بن عقبة عن ابن شهاب، قال: لما جعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسماً. فقال بعضهم: السِّفْر. وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف. وكان أبو بكر أوّل من جمع كتاب الله وسماه المصحف. ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة. وذكر ابن الضُّرَيس وغيره، عن كعب، قال: في التوراة: يا محمد، إني منزّل عليك توراةً حديثة، تفتح أعيناً عُمْياً، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلْفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة، قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب. إني أجِد في الألواح أمَّة أناجِيلُهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. ففي هذين الأثرين تسمية القرآن توراة وإنجيلاً. ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك. وهذا كما سميت التوراة فرقاناً في قوله: (وإذ آتيْتَا موسى الكتابَ والفرقان) ، وسمى - صلى الله عليه وسلم - الزبور قرآناً في قوله: خفَّف على داود القرآن. (مَدَّ الأرض) : يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهو ظاهر الشريعة، وقد يرتب لفظ المد والبسط مع التكوير، لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض. وقال الشيخ عبد الخالق: وكنت أسمع من الشيوخ أن في الأرض خمسة أقوال: قيل كروية. وقيل بسيطة. وقيل: إنها شبه مكب. وقيل بمنزلة - حَمِيلة السيف الذي يتقلد به، وإنها شبه حلقة محيطة بهذا العالم، كإحاطة الحميلة. وقيل شبه سمكة. ومن أجل ذلك وضعوا الاصطرلاب الحوتي الجنوبي. قال: والصحيح عندهم أنها كورية، وأن السماء كورية. وقال ابن عرفة: استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ الأرض بسيطة ولا دليل له في ذلك، لأن إقليدس الهندسي قال الكرة الحقيقية لا يمكن إقامة الزوايا والخطوط عليها بوجه، ونحن نجد الأرض تقام عليها الخطوط وغير ذلك. ونراها مستوية، وذلك من أدل دليل على أنها وإن كانت كروية فليست كالكرة الحقيقية، بل أعلاها مستو كبعض الكُوَر التي أعلاها يكون بسيطاً مستوياً. (مَثلاَت) : جمع مثلة، على وزن سمرة، وهي العقوبةُ العظيمة التي تجعل الإنسان يضرب به المثل، ولذلك وقعت الأمثال في القرآن، لأنه بالمثال يتبين الحال، أفلا يخاف الإنسان أن يحل به ما حل بمن قبله إذا فعل مثل فعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 (من أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهر به) : المعنى أن الله يسمع كل شيء، فالجهر والإسرار عنده سواء، ولذلك أتى به بعد قوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) . فإن قلت: قوله تغيض الأرحام قرينة في الخصوص؟ فالجواب أنَّ الفخر والآمدي قالا: إن العامَّ إذا عقب بصنف من أصنافه فمذهب مالك والشافعي بقاؤه على عمومه. وقال الثوري: هو مقصور على ذلك الصنف، فقوله: (وما تغيض الأرحام) - وإن كان لا يصدق إلا من الآدميات لا يخصِّصه. وذكر المؤرخون أنه كان في بلد " سَلاَ " عشرة ملوك ولِدوا من بطن واحدة. قال ابن عطية: وقع لمالك ما يدلُّ على أنَّ الحامل عنده لا تحيض. ومذهب ابن القاسم أنها تحيض. قيل لابن عرفة: يلزم من قولكم إنها تحيض ألا يكون الحيض دليلاً على براءة الرَّحم، فكيف جعلتموه دليلاً على براءة الرحم في العدّة والاستبراء، فقال: إنما حكمنا بالمظنة. فقلنا: هو مظنة لبراءة الرحم، فتخلفه في بعض الأحيان لا يقدح، كما أن الغَيْمَ وزمن الشتاء مظنّة لنزول المطر. وقد يتخلَّف. فإن قلت: لم قدم النقص على الزيادة؟ فالجواب لأن الأصل عدم الزيادة. فإن قلت: (سواء) ، مصدر في الأصل، وهو خبر عن قوله: مَنْ أسَّر القول، والمصادر لا تكون أخباراً عن الجثة، فهل هو كقولك: زيد عدل. قال الكوفيون: أي ذو عدل، وجعله البصريون نفس العدالة مبالغة ومجازاً. والجواب أنه ليس مثله، وإنما جاز الإخبار هنا لأنّه ليس خبراً عن الذات. بل عن المجموع. قيل لابن عرفة: هلاَّ قال سواءٌ عنده ولم يقل منكم، ليعمَّ الكلام الإنسان والجن. بل ذكر الجن كان يكون أوْلى، لأنهم أجهل وأشد مكراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 واختفاء، أو الشياطين منهم. فقال: الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف يُرَى ما في باطنه من ظاهره بخلاف الناس، فإن أجسامهم كثيفة، فكان العلم بما في قلوبهم أبلغ، فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم بأسرار الجن من باب أحْرى. (مسْتَخْفٍ بالليْلِ وسَارِبٌ بالنهار) .: المسْتَخْفِي بالليل هو الذي لا يظهر. والسارب: المنصرف في سَرْبه - بفتح السين، وقصد في هذه الآية التسوية بينهما في اطِّلاَع الله عليهما مع تَبَاين حالهما. وقيل: إنهما صفتان لموصوف واحد، يستخفي بالليل ويظهر بالنهار. ويعضد هذا كونه قال: وسارب بالنهار - بعطفه عطف الصفات، ولم يقل ومَنْ هو ساربٌ بتكرار مَنْ، كما قال: (من أسَّر القول ومَنْ جهر به) ، إلا أنَّ جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به، فيكمل التقسيم إلى أربعة. وعلى هذا يكون قوله: (وسَارِبٌ) عطف على قوله: مَنْ هو مستَخْفٍ، لا على مستخف وَحْدَه. (معَقَبَاتٌ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفه) : أي جماعات تعتقب في حفظه وكلاءته. وقيل: أذكار وتسبيحات ودعوات. وردَّه ابن عرفة بأن المجموع بالألف والتاء إذا كان مكسرا يشترط فيه العقل إذا لم تكسِّرْه الرب كجماعات، ولهذا حكى الزمخشريّ فيه معاقيب. فإن قلت: الوارد في الحديث أن الحفظة مَلك عن اليمين وملك عن الشمال فكيف قال: من بين يديه ومن خلفه؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن من لابتداء الغاية، فينزلون من أمامه ومن خلفه لعمارة يمينه وشماله بالحفظة الأول، ثم تصعد الحفظة الأوَل ويستقرّون هم عن يمينه وشماله. الثاني: أن الضرر اللاحق للإنسان من أمامه وخلفه أصعب عليه وأشقُّ، فما هو من أمامه يأتيه مصادرة وإليه يهرب. ألا ترى قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 (قل إنَّ الْمَوْتَ الذي تَفِرّونَ منه فإنّه ملاَقِيكم) . وما هو من خلفه يأتيه من حيث لا يشعر فحِفْظُ هاتين الجهتين آكد من غيرهما. فإن قلت: هل هؤلاء المعقّبات للجنّ والإنس أو للإنْس خاصة؟ فالجواب أن الضمير يعود على من أسرَّ القولَ ومَنْ جهر، ومن استَخْفَى وظهر، يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم واستغفارهم. (مَنْ في السماواتِ والأرْض) : لا تقع (مَنْ) إلَّا عَلَى مَنْ يعقل، فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن. (ما لهم مِن دونه مِنْ وَال) : أي من شفيع في رفع العذاب عنهم، فهو تأسيس. وقوله: (فلا مردّ له) ، أي لا دافع عنه ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم يرفعه عنهم بعد وقوعه. (مَنْ رَبّ السماواتِ والأرض) : أمره الله أن يقول لهم هذا القول، لأنهم لا يجدون بدًّا من قولهم: الله، كما قال تعالى: (ولئن سألْتَهُمْ مَن خلقهم ليقولُنَّ الله) ، ولذا حصل تبْكِيتهم بقوله تعالى: (قل أفاتَّخَذْتم مِن دونِه أوْلياءَ) . والمعطوف عليه مقدَّر، أي كفَرْتم فاتخذتم. فإن قلت: لِمَ قال من دونه، وهم اتخذوهم شركاء مع الله؟ والجواب: إنا إن نظرنا إلى نفس اتخاذهم وليًّا وناصراً بالنوع فلا شك أنهم شركاء في وصف النصرة والولاية بين الله وغيره، وإن نظرنا إلى اتخاذهم وليّا وناصرا بالشخص فلا شك أن هذا لا يصحّ فيه الشركة. وقد ذكر ابن التلمساني في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة أن الواحد بالشخص لا يصح انقسامه إلى مأمور ومنهيّ، والواحد بالجنس أو النوع يصح فيه ذلك. ومثّلَه بالسجود للهِ والسجود للصنم. فإن قلت: لِمَ قدم المجرور على أولياء، والأصلُ تقديم المرفوع ثم المنصوب ثم المجرور؟ والجواب لأنه أضِيفَ إلى ضمير الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 فإن قلت: لم قال: (أولياء) ، ولم يقل أرباباً؟ والجواب أن الأولياء أعمُّ من الأرباب، لأن الولي والناصر قد يكون ربًّا وقد لا يكون، فهم وُبِّخوا على الوصف الأعم، وهو طلبهم النصرة من غير الله، فيلزم منه الذمّ على الوصف الأخص، وهو اتخاذهم أرباباً من دون الله من باب أحرى. ولو قال اتخذتم من دونه أرباباً لأفاد التوبيخ على هذا الوصف الأخص، لا على ما دونه، وهو مطلق النصرة " (ماء فسالَتْ أودِيةٌ بِقَدَرِها فاحتمل السَّيْل زَبَداً رَابِيا) : هذا مثل ضربه الله للحقّ وأهله، والباطل وحزبه، فمثل الحقً كالماء الذي ينزل من السماء فتَسِيل به الأوْدِية، وتنتفع به الأرض، وبالذهب والفضة والحديد والصُّفْر وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس. وشبَّه الباطل في سرعة اضْمِحْلَالِه وزَواله بالزّبد. الذي يرمي به السيْل وبزبد تلك المعادن التي يطفو فوقها إذا اذيبت، وليس في الزَّبد منفعة، وليس له دوام. وقال ابن العربي في قانون التأويل: ضربه الله مثلاً للحق والباطل، فإنه خلق الماء لحياة الأبدان، كما أنزل القرآن لحياة القلوب، وضرب امتلاء الأودية بالماء مثالاً لامتلاء القلوب بالعلم، وضرب الأودية الجامعة للماء مثالاً للقلوب الجامعة للعلم. وضرب قدر الأودية في احتمال الماء، بسعتها وضيقها، وصغرها وكبرها. مثالاً لقَدْرِ القلوب في انشراحها وضيقها. بالحرج، وضرب حمل السيلِ الحصيدَ والهشيم، وما يجري به ويدفعه مثلا لما يدفعه القرآن من الجهالة والزَّيْغ والشكوك ووَساوِس الشيطان، وضرب استقرار الماء ومكثَه لانتفاع الناس به في السَّقْيِ والزراعة مثلاً لمكث العلم واستقراره في القلوب للانتفاع به. قال: هذا المثل الأول. وأما الثاني فضرب المثل فما يوقد عليه النار بما في القرآن من فائدة العلم المنتَفع به كالانتفاع بالمتاع، وكما أن النار تميّز الخبيث في هذه من الطيّب، كذلك القرآن إذا عرضت عليه العلوم يميز النافع فيها من الضار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : القرابات والأرحام. (مَنْ صَلَح مِنْ آبائهم وأزواجهم) : ترتيب المعطوفات على حسبها في الوجود الخارجي، فوجود الأب سابق على وجود زوجك، وزَوْجك سابق على ولدك، ودخول الأنبياء الجنَّة إما لصلاحهم أو صلاح آبائهم، كما قال تعالى: (وكان أبوهمَا صالِحاً) . وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) . أو العكس وهو أن دخول الآباء بسبب الأبناء، كما في الحديث: من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والِده يوم القيامة تاجاً أحسن من ضَوْءِ الشمس، ولذلك قال الشاطبي: هنيئآَ مريئاً والداك عليهما ... ملابس أنوار من التاج والحلي. (مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) : أي لشيء يتَمتَّغ به وينفصل عنه. وهذه الآية إشارة إلى من يعمل للدنيا ويعمل للآخرة، وإلا فالآخرة ليست ظرفًا للدنيا بوجه. فإذا تذكَّرَ الإنسان أيامه التي قطعها في الشهوات ندم عليها، لأنها انقضت واضمحلّت بخلاف التي قطعها في الطاعات، فإنه يفرح بها ويتنعم إذا تذكّرها، فانظر من أي الفريقين تعدّ نفسك. (مَثَل الجنة) : الظاهر أن " الخبر مقدَّر، وفي الآية حذف مضافين، والتقدير مَثل الجنَّة التي وعِدَ المتَّقُون مثَل جنة تجري من تحتها الأنهار. ورُدَّ على قائل هذا بأنه إن أراد بالثانية جنَّة الآخرة فقد شبَّه الشيء بنفسه. ولا يصح أنها جنة الدنيا، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوَّته، وهنا شبه الأقْوَى بالأضعف. وأجيب بأنه قد يكون الفَرْع أقوى من الأصل، وهو نوع من القياس. وعند الفراء أن الخبر متأخِّر، وهو: (تجري من تحتها الأنهار) . (مِنَ الأحزابِ مَنْ ينكر بَعْضَه) : ذكر الإمام الفخر عن المفسرين إما أن تكون بعضا على بابها، وأن من ينكر بعضه فهو كافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وبقي عليهم أن المنطقيين قالوا إن سور القضية إن كان بعضاً ولم كان منفياً فقد يراد به العموم، ويكون بمعنى أحد، فمعناه من ينكره كله. وقالوا: إن السالبة الكلية تناقضها موجبة جزئية. (مآب) : مفعل، من الأوْب وهو الرجوع، أي مرجعي في الآخرة، أو مرجعي في التوبة. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال له: قل لهم لست مكلّفاً بإيمانكم، وإنما كلّفت بالتبليغ. فإن قلت: أمره أولاً بالعبادة، ونفي الشرك مقدم عليها، إذ لا يَعْبد إلا مَنْ لم يشرِكْ، وقد لا يشرك ولا يعبد؟ فالجواب أن المراد بالشرك الرياء والكبر، فالمعنى أمرت أن أعبد الله عبادة خالصة من الرياء، ولكن هذا لا يناسب السياق. قيل: وعلى هذا يكون قوله: ولا أشرك به - حالاً، لكن نص الأكثرون على أن (لا) تخلِّص الفعل للاستقبال. فقال تكون هذه حالاً مقدرة، كقولهم: مررت برجل معه صقر صائداً به غدا. وقيل في الجواب: أمرت أن أعبده عبادة لا يتخلَّلها، أو لا يعقبها، إشراك. وقيل: قدمت العبادة لتدل على نفي الإشراك باللزوم ثم بالمطابقة، فيدل اللفط دلالتين. (مِنْ أطرافها) . أي من خيارها، يعنى أن الله يقبض الخيار منها. (مَنْ عِنْدَه عِلْم الكتابِ) : المراد به القرآن أو اللوح المحفوظ. واختلف مَنِ المراد به، فقيل: المراد به من أسلم من اليهود والنصارى على العموم. وقيل: الصحابة. وقيل عبد اللَه بن سلام. وردَّ بأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، فكيف يشهد حينئذ وهو كافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وأجيب باحتمال أن تكون هذه الآية خاصة مدنية. وقيل المراد الله تعالى، فهو الذي عنده علم الكتاب. ويضعف هذا، لأنه عطف صفة على موصوف. ويقوِّيه قراءة: ومِنْ عنده علم الكتاب بمن الجارّة وخَفْض عند. (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) . فيها دليل على أن واضع اللغة هوَ الله تعالى. وفيها دليل على أن حصول العلم عقيب النظر عاديّ، وليس بعقلي، إذ لو كان عقلياً للزم من البيان الهداية. ويحتمل عدم لزومه، لأن المخاطب قد لا ينظر النَّظَرَ الموصّل للعلم. (ما لَنَا ألاَّ نتوكَّلَ عَلَى اللهِ) ، المعنى أيّ شيء يمنعنا من التوكّل على الله وقد هدانا سبلنا. فإن قلت: كيف جمعه وقد تقرر غير ما مرة أن طريق الهدى واحدة حسبما أشار إليه الزمخشري في قوله: (وجعلَ الظلماتِ والنور) ؟ والجواب أنه على التوزيع، قال تعالى: (لكلٍّ جعلنا مِنْكمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً) ، فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه. فإن قلت: لم كرر الأمر بالتوكل؟ والجواب أن قوله: (وعلى الله فليتوكّلِ المؤْمنون) ، راجع إلى ما تقديم من طلب الكفَّار (بسلْطَان مبين) . أي حجة ظاهرة، فتوكّل الرسل في ورودها على الله. وأما قوله: (وعلى الله فليتوكل المتوكّلون) ، فهو راجع إلى قولهم: (ولنَصْبِرَنّ على ما آذَيْتمونَا) ، أي نتوكل على الله في دفع أذاكم. وقال الزمخشري: إن هذا الثاني بمعنى الثبوت على التوكل. (ما هُوَ بميّت) : لا يراح بالموت، لأنه ذبح بين الجنة والنار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 (مثلُ الَّذِين كفَروا برَبِّهم أعْمالُهم) : مذهب سيبويه والفراء كقولهما في: (مثل الجنة) المتقدم آنفاً. والمثل هنا بمعنى الشّبَه. وقال ابن عطية: بمعنى الصفة. ورُدَّ بأنه ليس مطلقاً، بل التي فيها غرابة، ولذلك جعلوا: لأمْرٍ مَا جدعَ قَصِير أنْفَه - مثلاً. وذِكْر الرب تشنيع عليهم، يعني كفروا بمن أنعم عليهم ورحمهم، وشبّه أعمالهم بالرماد لخفته وسرعة تفرقه بالريح، ولأنه لا ينبت شيئاً بخلاف التراب، وجمع الرياح ليفيد شدة التفرق من جميع الجهات. (ما لنا مِنْ مَحِيص) : أي مهرب حيث وقع. ويحتمل أن يكون مصدراً أو اسم مكان. (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) : أي ما أنا بمغِيثكم وما أنتم بمغيثين لي، وإنما يقول هذا الشيطان حين يتعلّقون به ويقولون له: أنت أَغوَيْتَنا. (مثَلاً كلمةً طيّبةً) : ابن عباس وغيره: هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيِّبَة هي النخلة في قول الجمهور. واختار ابن عطية أنها شجرةٌ غير معيَّنة، إلا أنها كلّ ما اتصف بتلك الصفات. والكلمة الخبيثة كلمة الكفر، أو كلّ كلمة قبيحة. والشجرة الخبيثة هي الحنظلة لمرارتها. فإن قلت: لم عبَّرَ هنا بالاسم فرفع، وقال في المؤمن: (ضرب الله مَثَلاً) ، فعَبّر بالفعل ونصب؟ فالجواب أن المؤمن له حالتان، لأنه انتقل من الكفر إلى الإيمان، والكافر له حالة واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عبّر عن مثله بالاسم. فإن قلت: هل الشجرة الخبيثة مقصورة على الحنظل أو تطلق على كل ما ليس لها ساق كالقثاء والثوم، وفيها منافع جَمَّة، فكيف يشبّه بها الكافر، وهو لا منفعة فيه بوجه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 والجواب إنما شبّه بها من حيث أنها لا تثبت، إذ ليس لها ساق، فالتشبيه في اضمحلال العمل الخبيث وذهابه يوم القيامة ولا يبقى إلا العمل الصالح. (مَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيم) : هو من قول الخليل عليه السلام، دعاء لمن عصاه بغير الكفْر، أو لمن عصاه بالكفر ثم تاب منه، وهو الذي يصح أن يدْعى له بالمغفرة، لكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه - عليه السلام - من الرحمة للخَلْق وحُسْن الْخُلق. فإن قلت: كيف يدعو بما هو مستحيل عقلاً وشرعاً، لأن النبي معصوم عن عبادة الأصنام؟ فالجواب أنه دعا على سبيل الخضوع والتذلل والخوف، ألا ترى شعيباً لما قالوا له: (أو لَتَعودُنَّ في مِلّتنا) ، قال (ما يكون لنا أنْ نعودَ فيها إلا أنْ يشَاءَ الله) ، فالمقام مقام خَوْف، ولو ثبتت عصمتهم فهم أولى الناس بالخوف ممن اصطفاهم. (ما لكم مِنْ زَوَال) : هو المقسم عليه، يعني أنهم حلفوا أنهم لا يبعثون. (مَكْرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال) : يراد بالجبال هنا الشرائع والنبوات، شبّهت بالجبال في ثبوتها. والمعنى تحقير مكرهم، لأنها لا تزول منه تلك الجبالُ الثابتةُ الراسخة. وقرأ الكسائي: لَتَزُول - بفتح اللام ورفع تزول. و (إنْ) على هذه القراءة مخفّفة من الثقيلة، واللام للتأكيد. والمعنى تعظيم مكرهم، أي أن مكرهم من شدته بحيث تزول منه الجبال، ولكنَّ الله عَصم ووَقَى منه. (ما نُنَزِّلُ الملائكةَ إلا بالحق) : الآية ردّت عليهم فيما اقترحوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالملائكة معه. والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح التي يريدها الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 لا باقتراح مقْترح واختيار كافر معترض. وقيل الحق هنا العذاب. ولو أنزل اللَه الملائكة لم يؤخر عذابَ هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم، لأن عادة الله أن مَنِ اقترح آيةً فرآها ولم يؤمن - أنه يعجَّل له العذاب، وقد علم اللَّهُ أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم، فلم يفعل بهم ذلك. (مَنْ لسْتمْ لهُ بِرَازِقين) : يعني البهائم والحيوانات، و (مَنْ) معطوف على معايش. وقيل على الضمير في لكم. وهذا ضعيف في النحو، لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهو قويّ في المعنى، أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات. (ما ننَزّلُه إلا بقَدَرٍ مَعْلوم) : الضمير عائد على الشيء وهو المطر، واللفظ أعمُّ من ذلك. والمعنى أنه ما من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بمقدار محدود. (مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) : دليل على تحريم القنوط. وقرئ يقنَط - بفتح النون وكسرها، وهما لغتان. (ما خَطْبكم أيّها الْمُرْسَلون) ، أي ما شأنكم، أو بأي شيء جئتم، والخطاب مع الملائكة الذين جاؤوا لإبراهيم عليه السلام بالبشرى. (كما أنْزَلنَا على الْمقْتَسِمين) : الكاف متعلقة بقوله: (أنا النًذِير الْمبين) ، أي أنْذِر قريشاً عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقد قدمنا في حرف الهمزة معنى المقتسمين. (مَنَافِع) : يعني شرب ألبان الأنعام، والحرث بها، وغير ذلك، وهذا فيه ترقّ وتدريج، لأن الدِّفْءَ متيسًر قريب، إذ ليس فيه إلا إزالة صوفها ووبرها والانتفاع به، فليس عليها فيه مضَرَّة، ثم الامتنان بالمنافع أقوى منه، لأن فيه تسخيرها والحمل عليها، وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعله لولا ما أبيح له، إذ فيه تكليف ومشقة عليها، ثم الامتنان بالأكل منها أقوى من ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وأشد، لأن فيه ذبْحَها، وهذا لا يقدر الإنسان عليه، لأنها محترمة، فكيف تُذْبح لولا ما أباح الله لنا ذلك. (ما لا تعْلَمُون) : يعني أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل من ذكر في هذه الآية شيئاً مخصوصا، فهو على وجه المثال. قال بعض العلماء: كنت يوماً أتصيَّد في البرية، فقامت بين يديّ هائشة عظيمة كالرحا، ولها أرجل كثيرة. قال: فشددت عليها حتى كدت أن أدركها فانفتلت إليَّ، وقالت بلسان طَلْق: ما تريد؟ ، ما تريد؟ فقلت لها: من أنت، فقالت: من الذين قال الله فيهم: (ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمون) ، فولّيْت عنها. (مخْتَلِفاً ألوانُه) : قال الزمخشري: مختلف الهيئات والمناظر. وقال ابن عطية: أي أصنافه، كقولك: ألوان من التمر، لأن المذكورات أصناف عدّت في النعمة والانتفاع بها على وجوه، ولا يظهر إلا من حيث تلوّنها حمرةً وصفرة وغير ذلك. ويحتمل أن يكون تنبيهاً على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة. قال: والأول أبين. وفي الآية رد على الطبائعيين، لأن أفعال الطبيعة لا تختلف، فبطل كَوْن الأرض تفعل بطبعها. (ماءً لكم) : يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر لشراب، أو صفة لماء، فسبحان اللطيف بعباده. وانظر كيف قدم المجرور لشرف خَلْقها وعظمها، وقدم الزرع لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره، وقدم الزيتون على التمر، لأنه مما يؤْتدَم به، فهو مكمل للقوت، والتمر مما يتفكه به، فهو تزييني، فكان أدون، لأنه زائد على القوت غير مكمل به. وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز، وليس بأرضهم إلا التمر، فهو عندهم أشرف من العنب، لأن محبة الإنسان لما تعاهد ورُبِّي عليه أقوى من محبته لغيره، فالترتيبُ في هذه على هذا جهة العدل. فإن قلت: لم جمع العنب وأفرد التمر، وأفرد في الآية الأولى والأخيرة وجمع الوسطى، وختم الأولى بالتفكير والثانية بالعقل والثالثة بالتذكير؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 فالجواب إنما جمع العنب لظهور الاختلاف في أنواعه، لأن منه الأبيض والأكحل والأحمر، فالاختلافُ في أنواعه بالطعم واللَّوْن والجرم، والتمر إنما الاختلاف في أنواعه بالطعم والجرم فقط. وأفرد الآية الأولى لأنها تقدمتها آياتٌ سماوية، وهي أكثر من الآيات الأرضية، لخَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ويقال: إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها هي والأولى آيات. ويحتمل أن يقَال لما كانت الثانية نعمةً سماوية وهي أشرف وأجْلَى وأظهر من النعمة الأرضية جعل كل واحد على انفراده آيات لشهرته وظهوره، أو لأن المذكورات أولاً راجعة إما لمجرد القوت أو لوصف النبات، وكلاهما شيء واحد، بخلاف الثانية. وقال في الأولى: يتفكرون، لأنها أمور عادية، إذ حصول الشراب والشجر عن الماء أمر عادي، وقد لا يكون عنه شيء. وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر أمر عقلي، وليس بعادي. والثالث يقال لمن آمَنَ بالحجة والدليل بعد أن كان نسيه فهو أمر تذكري، فلذلك قال: لقوم يذكرون. فإن قلت: هل التذكّر والتفكر بمعنى واحد أم لا؟ والجواب أن التذكّرَ ثَانٍ عن التفكر، ولهذا اختلفوا، فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكرية، وأن النفوس كانت عالمة لكل علم، فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك، فكل ما تعلمه إنما هو تذكر لما كان وذهب. ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكر، وبعضها تذكّر، فالتفكر لما لم يكن يَعْلمه، والتذكر لما علمه ونسِيَه، فلذلك جعله ثالثاً. وقال ابن الخطيب: التفكر إعمال الفكر لطلب الفائدة، والمذكوراتُ معه راجعةٌ لباب القوت، وكل الناس محتاج إليه، فعند ذلك يتفكرون النعم بها فيشكرونه. وأما الثانية فتدبرها أعْلَى رتْبَة إذ منافعها أخفى وأغمض، فيستحق صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل. (مَوَاخِرَ فيه) : جمع ماخرة: يقال مَخَرت السفينة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 والْمَخْر: شقّ الماء. وقيل صَوْت جَرْي الفلك بالريح، ويترتب على هذا أن يكون الخر من الريح. وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن. ويقال للسحاب بنات مَخْر تشبيهاً، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر، على أن الزّجّاج قد قال: بنات الْمَخْرِ: سحائب بيضى لا ماء فيها. وقال بعض اللغويين الْمَخْر في كلام العرب الشق، يقال مخر الماء الأرض. قال ابن عطية: فهذا بَيِّن أن يقال فيه للفلك مَوَاخر. وقال قوم: مَوَاخِر معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه الأقوال ليست تفسيرا لِلَّفْظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، فنصّوا على هذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيها، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارة والسفر فيها، وما يمنح الله فيها من الأرباح والمِنَن. فإن قلت: ما فائدة تقديم المواخر في هذه الآية على آية فاطر؟ والجواب لما كان الفلك المفعول الأول لترى، ومواخرَ المفعول الثاني. و" فيه " ظرف وحقه التأخير، والواو في ولتبتغوا للعطف على لام العلَّة في قوله: (لتأكلوا منه) - أخَّرَه ليجيء على القياس في هذه السورة. وأما في فاطر فقدّم (فيه) لما قبله وهو قوله: (ومِنْ كلٍّ تأكلون لحما طرياً) . فقدّم الجارّ على الفعل والفاعل والمفعول جميعاً ولم يزد الواو في (لتبتغوا) لأن اللام في (لتبتغوا) ها هنا لام العلة، وليس بعطف على شيء قبله. وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره. (أفَمَنْ يخْلق كمَنْ لا يَخْلق) : تقرير يقتضي الرد على مَنْ عبد غير الله، وإنما عبَّر عنهم بمن لأن فيهم مَنْ يعقل ومَنْ لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: (أفمن يخْلق) . وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما أن الأصنام لا تعقل، فهَلاَّ قيل: كما لا يخلق؟ وأجاب ابن عرفة بأنه لو عبَّر بـ (ما) لكان الإنكار عليهم بأمرين: من حيث كونها غير عاقلة، وكونها لا تخلق، وما المقصود في الآية إلا إنكار عبادتها من حيث كونها لا تخلق فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وأجاب الزمخشري بأمرين: أحدهما أمَّا أنهم سموها آلهة وعبدوها، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون. وردَّة ابن عرفة بأنه إقرار لهم على معتقدهم. وأما أنهم عاملوها معاملة من يعقل فروعي فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق. ورَدَّه ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوى، كقوله: (ومَكروا وَمَكَرَ الله) . وقوله: قالوا اقترح شيئاً نجِدْ لك طَبْخَه ... قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقَمِيصا فالأول مثبت، والثاني منفي. السؤال الثاني: أنه إنما أنكر عليهم تشبيههم من لا يخلق بمن يخلق، فكان الأصل أن يُقال، أفمن لا يخلق كمن يخلق، لأن همزة الاستفهام إنما تدخل على المنكَر والمسؤول عنه. وأجاب الزمخشري بجواب لا ينهض. وأجاب ابن عرفة بجواب: إن عادتهم يجيبون بأن الإنكار إنما يكون بإفهام الخصم نقيض دَعْواه، أما إذا كان الإنكار بإلزامه عَيْنَ الدعوى فلا يصح. وهنا لو قيل لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق لكان التشبيه راجعاً إلى نفي المساواة بينهما، وهم موافقون على ذلك، ويقولون. (ما نعْبدهم إلاَّ ليقَرِّبونَا إلى الله زلْفَى) . ولما قيل: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) لم يكن الإنكار راجعاً لنفي المساواة، فلم يَبْق إلا أن يراد أنَّ الله تعالى مُصِفٌ بنقيض ما اتَّصفَ به معبودهم وهو الْخَلق، فيكون المراد الإشعار بتنقيص مقصودهم، والتنقيص موجب لعدم الألوهية، فليس المراد نفي مساواة الناقص للكامل، بل إنما المراد الإشعار بتنقيص الناقص، لأنه إذا قيل لهم: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) كان الإنكار راجعا لتشبيه الخالق بمن لم يخلق، لأن تشبيهه به يوجب تنقيص البارئ جلّ وعلا، والتنقيص موجِبٌ لعدم الألوهية. وقد قال: (ولئن سألْتَهمْ مَنْ خلقَهمْ لَيَقولنَّ الله) ، فيستلزم نقيض دعواهم. (مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : الضمير في (يشعرون) للأصنام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وفي (يُبْعَثُونَ) للكفار الذين عبدوهم، وعلى أنّه للكفّار يكون وعيداً، أي وما يشعر الكفار أيان يبعثون للعذاب. ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بعدم الشعور فائدة، لأنَّ الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، فهو أمر استأثر الله به، كما قال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) . وإنما نفى عنهم الشعور به. والأنبياء قد حصل لهم الشعور به، وأعلموا بإشعار الساعة وعلامتها. (ما كنّا نَعْمَل مِنْ سوءٍ) : قاله الكفار على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذِبٌ في نفس الأمر، أو قصدوا الكذب اعتصاماً به، كقولهم: (واللهِ رَبنَا ما كنّا مشركين) . (مِن أوْزَارِ الَّذِينَ يضِلونَهم بغير عِلْم) : قيل: إنَّ (من) للتبعيض. ورُدَّ بالحديث: من عمل حسنة فله أجرها ... الخ. وأجيب بأن الْمفضلين ترتّب على كفرهم وِزْرَان: أحدهما متَعَلّق بهم. والآخر متعلق بمن أضلّهم. ورده ابن عرفة بأنه إنما يتم هذا لو كانت التِّلاَوَة ومن أوزار إضلال من اتبعهم، فتضاف الأوزار للضلال لا لهم. والظاهر أن من للسبب، وثَمَّ معطَوف مقدَّر، هو مفعول، أي ليحملوا أوزارهم ووزراً آخر بسبب أوزار الذين يضلونهم. وقال أبو حيان: إن " من " تكون بمعنى مثل، ولكنه شاذّ. وكذلك قال: (بغير علم) حال من المفعول في يضلونهم. وردّ بأنه حال من الفاعل، لأن العلم إنما يطلب ممن نصب نفسه منصب المفيد، لا ممن نصبها منصب المستفيد. قيل للقائل: الأصوب أن يكون متعلّقاً بـ يضلونهم، فقال: والباء حينئذ للمصاحبة، فلا بدّ من الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 (مِنَ القَوَاعِد) : ما كان تحت الأرض فهو أساس، وما فوقها فهو أعمدة، وجموعهما هي القواعد. (مِنْ فوقهم) . يقال لما كان أعْلى فوق، ومعلوم أن السقف أعْلى، ولكن ذكر ليزِيلَ الاحتمال الذي في الخَرِّ، وأن يكون عن يمين وشمال. أو أنهم كلما رأوا علاماتِ السقوط خرجوا، فحينئذ خَرّ عليهم، فقال: (من فوقهم) ، ليفيد أنهم تربَّصوا حتى هلكوا. (ماذا أنزل ربّكم قالوا خَيْرا) : لما وصف مقالةَ الكفار الذين قالوا (أساطير الأولين) ، قابل ذلك بمقالة المؤمنين، وهو قولهم، (خيرا) . قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ للقائلين. يريد أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكيّ عنه. ونظير ذلك أن يقول زيد أقول خيراً، الحمد للهِ، فتقول أنت حاكياً لكلامه: قال زيد خيراً، الحمد للَه، فهذا من كلام الحاكي، والقول محكى به الجمل والمفرد المؤدِّي معناها. فإن قلت: لم رُفِع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين، ونُصب جواب المؤمنين؟ فالجواب أن قولهم خيراً منصوب بفعل مضْمَرٍ، تقديره أنزل خيراً، ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأساطير الأولين هو خبر ابتداء مضمر، تقديره: هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله، فلا وَجْهَ للنصب. ولو كان منصوباً لكان الكلام متناقضاً، لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل. فإن قلت: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فهو غيْرُ مطاْبق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فالجواب أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين، ولم ينزله الله. (ما كانوا به يَسْتهزِئون) : معناه حيث وقع في القرآن إحاطة العذاب بمن استهزأ به، وعلى هذا فيجب التحفّظ مِنْ أسبابه. (ما عبدنا مِنْ دونه مِنْ شيء) : يحتمل أنهم يقولونه في الدنيا، لأنهم قالوا: لو شاء الله ما عبدنا غيره، فردّ الله عليهم بأنه نهى عن الشرك، ولكنه قضاه على مَنْ شاء من عباده، إذْ لا يكون في ملكه إلا ما يريد. أو يقولون ذلك في الآخرة على وجه التمني، فإن (لو) تكون للتمني، فإنهم إذا عاينوا العذاب تمنَّوْا أنْ لو عبدوه ولم يحرموا ما أحلّ الله مِنَ البَحِيرة والسائبة. (وما أرسلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) : يدلّ على تخصيص الرسالة بالرجال، وأما النبوءة فليست خاصة بهم، بل هي عامّة. (ما هم بمعْجِزِين) : التقدير أو يأخذهم في تقلبِهم، فهم بسبب ذلك غير معجزين، أي بمفْلِتين، لأن أخذه لهم حالةَ التقلب والتحرك مظنَّةٌ لفرارهم وهروبهم، فدخل حرف النفي، فنفي ذلك السبب المترتب على تقلبهم، أي فما يكون تقلبهم سبباً في تعجيزهم له، لأن الفاء دخلت على معنى النفي، لأنه لا يصحّ فيها السببية إلا على هذا التأويل. (مِنْ دَابة) : يحتمل أن يكون بيانا لما في السماوات والأرض، أو لما في الأرض. ويراد بما في السماوات الخلْق الذي يقال له الروح غير جبريل، وهو أعظم المخلوقات المراد به في قوله تعالى: (يوم يقوم الرُّوحُ) . (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) . وأمّا جبريل فيقال له الروح الأمين. وانظر هل الملائكة من الدوابّ أم لا، لكونهم ذَوِي أجنحةٍ يطيرون. والظاهر أنهم منهم للآية: (وما مِنْ دَابةٍ في الأَرْضِ ولا طَائرٍ يَطِير) ، وعلى كل حال فالكل ساجدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 من عاقل وغيره، لكن سجود العاقل حقيقة وغير العاقل بمعنى التذّلّل والانقياد، فيكون لفظ السجود للقدر المشترك بينهما وهو الخضوع والانقياد، أو يكون من باب استعمال اللفظ المشترك في مفهومَيْهِ معاً، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. ولو قال من في السماوات لم يدخل في ذلك غير العُقَلاء. (مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) . نكرَ النعمةَ ليدخلَ تنعيمُ الكافر، لا للتقليل، لأن عطاء الله لا يوصف بالقلَّةِ. وقيل الكافر غير منْعَم عليه. وقيل منعَم عليه في الدنيا، لقول عمر: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتُهم في الدنيا ولا يُنعَم عليهم في الآخرة، فالنعم الدنيوية والأخروية عامة للمؤمنين، لأن الضر نعمة من الله عليه لصبره، كما أن النعمة نعمة عليه لشكره، لكنه يتأدّبُ فلا يصرِّح بِنِسْبَةِ الشرّ إلى ربِّه، وإن علم أن الكل من عنده، ويعتقد أن نعمه فضلٌ من الله، ونقمه عدل منه، ألا تراه كيف ذكر النعمة بأنها من الله، ثم سكت عن الضر، بل وصف الإنسان بالاستغاثة والتضرّع عنده. وفي هاتين الآيتين عتابٌ في ضمنه نَهْيٌ لمن يدعو الله عند الضرّاء برَفْعِ الصوت ويَغْفُل عنه عند العافية. (ما يشتَهُون) : يعني أنهم جعلوا الذُّكُورَ من الأولاد لأنفسهم، لأنهم يشتهونهم، والبنات اللائي يكرهونهنّ لربهم حيث قالوا الملائكة بنات الله. أو كرهوا التوحيد وجعلوا له سبحانه شريكاً، وهم يكرهون المشارك لهم في خططهم ومنازلهم وأموالهم، أو احتقروا الرسل وهم يكرهون ذلك فيمن يرسلونه إلى أحد أن يحتقر، وعلى كلَ وقع اللوم. وإذا كانوا هم لا يحتملون شيئاً من ذلك ولا يحبونه لأنفسهم فكيف ينسبونه لربهم، وهم مع ذلك يدَّعون أن الجنة لهم. والعجبُ منهم ينكرون البعث رأساً. (ما أنْزَلْنَا عليكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لهم الذي اخْتَلَفُوا فيه) : دخلت اللام على تبيّن لأنه ليس لفاعل الفعل المعلّل، لأن الإنزال من اللَه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 والبيان من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وألزمه أبو حيان التناقض، لأن الزمخشري جعل (هدًى ورحمة) ، معطوفين على لتبيّن، ومحلّه عنده النصب، فكيف يمنع كونه مفعولاً من أجله في اللفظ، ويجعله كذلك في المعنى، وأجاب بعضهم بأنه إنما منع نَصْبَه فقط، ولا يلزم أنه لا يصحّ في المعنى إلا ما جاز النطْق به. وابن خروف لم يشترط في المفعول من أجله أن يكون مفعولاً لفاعل الفعل المعلل. (مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) : قال أبو حيان: حال من ضمير (نسْقيكم) ، أي خارجاً من بين فرث ودم. وقيل متعلق بـ (نسْقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد. وجوّز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية. قال الزمخشري: إذا استقر العلف في كرش البهيمة طبَخْته، فكان أسفله فَرْثاً، وأوسطه لبنا، وأعلاه دماً، والكبد مسلطة على ذلك تقسمه، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش. وردّه ابن الخطيب بأنا ما رأينا قط في كرش البهيمة المذبوحة لبناً ولا دماً. وأجاب بعضهم عنه بأن حالة الحياة لها زيادة، ألا ترى أن الميت إذا قطع منه لم يخرج منه دم بوجهٍ، بخلاف الحيّ، ولذلك كان الفلاسفة يشقّون جوفَ الإنسان وهو حيّ لينظروا ما يتحرك في بطنه. والصحيح أن الغذاء يطبخه الكرش، فيخرج منه أولاً الأجزاء الكثيفة، وهي الفرث، ويبقى دماً فيطبخه ثانية، ويخرج منه إلى الضروع الأجزاء اللطيفة وهي اللبن، ويصير الباقي دَماً صِرْفاً، فيجعله في العروق، وإنما وقع الامتنان بلبن الأنعام المنفصل عنها دون لبن المرأة المتصل بها وبعيشنا، لأن تغذي الإنسان بلبن أمِّه حالة صغره وعدم عقله، ولبن الأنعام يتغذى به صغيراً وكبيراً ويدرك منفعته. (ما تركَ عليها من دَابّة) : الضمير للأرض، يعني لو عاف الله عباده في الدنيا بكفرهم ومعاصيهم لأهلك الحيوانات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وهذا يقتضي مؤاخذتَها بذنوب بني آدم. وقد صح ذلك في الحديث: إن الفأرة لتهلك في جحْرها من ذنوب بني آدم. (ما يكرهون) : يعني البنات، وذلك أنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله، فَتَبًّا لقوم كرهوا البنات وجعلوهن أرضاً والذكور سموات، جعلهم الله في كتابه سود الوجوه، وتوعدهم لما كرهوا قضاءَة بالجحيم. (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ) : انتصب رزقاً، لأنه مفعول لـ (يملك) . ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسماً لما يرزق، فإن كان مصدراً فإعراب " شيئاً " مفعول به، لأن الصدر ينصب المفعول. وإن كان اسماً فإعراب "شيئاً" بدل منه. وفي هذه الآية توبيخٌ للكفّار، وردّ عليهم في عبادتهم مَنْ لا يملِك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون، فَنَفْى الاستطاعة بعد نفي الملك أبلغ في الذم. والضمير عائد على (ما) لأن المراد به الآلهة. (مَثلاً عَبْداً مَمْلوكاً لا يَقْدِر على شَيء ومَنْ رَزَقْنَاه) : مَنْ: هنا نكرة موصوفة، والمراد بها من هو حر قادر، كأنه قال: وحُرًّا رزقناه، ليطابِقَ عبدا - ويحتمل أن تكون موصولة، وهذه الآية مثَل لله تعالى وللأصنام، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، واللَه تعالى له الملك وبيده الرزق، ويتصرف فيه كيف يشاء، فكيف يسوَّى بينه وبين الأصنام. وإنما قال لا يقدر على شيء، لأن بعض العبيد يقدرون على بعض الأمور. كالْمُكاتَب والمأذون له. (مثَلاً رَجُلَيْن أحدُهُما أبْكمْ) : هذه الآية كالتي قبلها في ضرب المثل، لبطلان مذاهب المشركين وإثبات التوحيد. وقيل: إن الرجل الأبكم هو أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عَمّار بن ياسر. والأظهرُ عدم التعيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 (ما أمْرُ الساعَةِ إلا كلَمْحِ البَصَر أو هو أقْرَب) : بيان لقدرة الله تعالى على إقامتها، وأن ذلك يسير عليه، كقوله تعالى: (ما خَلْقُكمْ ولا بَعْثكم إلاَّ كنَفْس وَاحِدَةٍ) . وإنما أجرى الله الأطوار، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام للاعتبار، وأن عادته التدرج في الأمور. (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) . (مَنْ) شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك (مَنْ) في قوله: (مَنْ شَرَحَ) ، لأنه تخصيص من الأولى. وقوله: (فعليهم غضب) - جواب عن الأولى والثانية، لأنهما بمعنى واحد، أو يكون جواباً للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل (مَنْ كفر) بدل من الذين لا يؤمنون، أو من المبتدأ في قوله: (أولئك هم الكاذبون) . أو من الخبر. (ومَنْ أُكْرهَ) ، استثناء من قوله: (مَنْ كفر) ، وذلك أنَّ قوماً ارتدُّوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم مَنْ أكْرِهَ على الكفر، فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان، منهم عَمّار، وصهيب، وبلال، فعذرهم الله. ورُوِي أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صُنع به من العذاب، وما سامح به من القول، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: كيف تجد قَلْبك، قال: أجده مطمئنا بالإيمان. قال: فإجابتهم بلسانك لا تضرّك. وهذا الحكم فيمن أكره على النطق بالكفر. وأما الإكراه على كفر كالسجود لصنم، فاختلف، هل تجوز الإجابة إليه أم لا، فأجازه الجمهور، ومنعه قوم. وأما الإكراه على اليمين والعِتْق والطلاق فلا شيء عليه فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس. وأما الإكراه على قتل أحد وأخذ ماله فلا تجوز الإجابة إليه. (ما فتِنوا) - بضم الفاء قراءة الجمهور، أي عذبوا، فالآية على هذا في عمّار وشبهه من المعذَّبين على الإسلام. وقرأ ابنُ عامر بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الفاء، أي عذّبوا المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذب المسلمين ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه. (مَتاعٌ قَلِيل) : يعني عيشهم في الدنيا وانتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم. (ما قصَصْنا عليكَ مِنْ قَبْل) : الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ذكر له ما حرّم على المسلمين وماحرّم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله، كما فعلت العرب. والذي حرم على اليهود ما نصّ الله عليه في سورة الأنعام،: (حَرَّمْنَا كلَّ ذِي ظُفُر) . (ما عُوقِبْتُم بِهِ) : المعنى إنْ صنِعَ بكم صَنِيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه، والعقوبة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ. ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عُقْبى، كقوله في الممتحنة: (فعاقَبْتُم) ، بمعنى غنمتم، فيكون في الكلام تجنيس. وقال الجمهور: إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بَقَر المشركون بطنَه يوم أحُد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لئن أظفرني الله بهم لأمثلَنَّ بسبعين منهم، فنزلت الآية، فكفَّر - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وترك ما أراد من المثْلة. ولا خلاف أن المثْلَة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك، ويقتضي ذلك أنها مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال. وتكون على هذا مكية كسائر السورة. واختلف العلماء فيمن ظلمه رجلٌ في مال ثم ائتمن الظالم المظلومَ على مال. هل يجوز له خيانتُه في القَدْر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قومٌ لظاهر الآية، ومنعه قوم للحديث: أدِّ الأمانة إلى من أئتمنك ولا تَخُنْ مَن خانك. قلت: هذا في المال، وأما عقوبة البدن فلا خلاف أنَّ العفو أفضل للآيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 الكثيرة، كقوله: (ولئن صبَرْتم لهو خَيْر للصابرين) . وقوله: (فمَنْ عَفَا وأصْلَح فأجْرهُ على الله) . والحديث: ما ازداد رجل بالعفو إلا عزا. وفي حديث: فيقوم العافون عن الناس. والتحريض على العفو لا يحْصى ذكره. ويحكى عن الشيخ أبي الحسن الزبيدي رحمه الله أنه كان يوماً ببيت الأشياخ في زاويته، وإذا به خارج هارب فارًّا بنفسه، فسئل عن ذلك، فقال: خطر لي أني لا أحلل أحداً ممن ظلمني، فتذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حرصا على إنقاذ رجل من أمته من النار. قلت: وأنا أتسبب في دخولهم إليها! فخفت سقوط البيت عليَّ، فهربت. (مع الذين اتَّقوا) : معناه مع الذين اتقوا بمعونته ونصْرته، وهو مصدر مشتق من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف والتزام طاعة الله، وترك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير. وقد ضمن الله للْمتَمَسك به الهدى، لقوله: هدًى للمتقين، والولاية لقوله: (واللَه وليّ المتقين) . والمحبة لقوله: (إن الله يحبّ المتّقين) والمعرفة لقوله: (إنْ تَتَّقوا الله يَجْعَلْ لكم فرْقَانا) ، والمخرج من الغَمّ، والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله: (ومَنْ يَتَّقِ الله يجعل له مَخْرجاً. ويَرْزُقْه من حيث لا يَحْتَسب) . وتيسير الأمور لقوله: (ومَنْ يَتَّق اللَهَ يَجْعَلْ له مِنْ أمْره يسْراً) . وغفران الذنوب وإعظامَ الأجور، لقوله تعالى: (ومن يَتّقِ اللهَ يُكَفِّر عنه سيئاته ويعْظِمْ له أجرا) . وتقبل الأعمال، لقوله تعالى: (إنما يتَقَبَّل اللهُ مِنَ المتقين) . والفَلاَح لقوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفْلحون) . والبشرى لقوله: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) . ودخول الجنة لقوله تعالى: (إنَّ للمتقين عند ربهم جنَّاتِ النَّعيم) . والنجاة من النار، لقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 والباعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الدنْيَوِي، وخوف العقاب الأخْرَوِيّ، ورجاء، الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوفُ الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيْبة. ودرجات التقوى خمسة: أن يتّقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام. وأن يتَّقي المعاصي والمحرّمات، وهو مقام التوبة. وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورعَ. وأن يتقي المباحات، وهو مقام الزهد. وأن يتقي حضورَ غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة. (ما صَبْرُكَ إلا بِاللَه) : هذا عزْم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه على الصبر. ويروى أنه قال لأصحابه: أمَّا أنا فأصبر كما أمِرت، فماذا تصنعون، قالوا: نصبر كما ندبنا. ثم أخبره أنه لا يصبر إلاَّ بمعونة الله. وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبْر منسوخ، وهذا إذا كان الصبر يُرادُ به تركُ القتال، وأما إن كان الصبر يرادُ به ترك المثْلة التي فُعل مثلها بحمزة فذاك غير منسوخ. قلت: وبالجملة فقد ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً. وذلك لعظم موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور في عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) . وقال بعضهم: الأعمال البدنية الحسنة بعشر، والمالية الحسنة بسبعين، والقلبية - وهي الصبر ونحوه - إلى غير حد. وقد ذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أولها: المحبة، لقوله: (واللَه يُحِبُّ الصابِرين) . والثاني: النصرة، لقوله: (إن الله مع الصابرين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 والثالث غرفات الجنة، لقوله: (يجْزَوْن الغرْفةَ بِما صَبَروا) . والأجر الجزيل، لقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . والأربعة الأخر المذكورة في هذه الآية: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) . والصبر على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخّط والهلع والجزَع. وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر بها. وصبر على الطاعات بالمحافظة عليها. وصبر عن المعاصي بكفِّ النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً وباطناً. وفوق التسليم الرضا بالقضاء وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، إذ كل ما يفعل المحبوب محبوب. وعَيْن الرضا عن كلّ عَيْبٍ كليلة. (ما أنْزِل مِن قَبْلِك) : التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل. (ما همْ بمؤْمنين) : هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوْس والخزرج، ورأْسهم عبد الله بن أبيّ، يظهرون الإسلام ويسِرُّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك زِنْديقاً، وهم في الآخرة مخلَّدون في النار. وأما الدنيا فإن لم تَقم عليهم بيِّنة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان فمذهب الشافعي الاستِتَابَة وترك القتل. ومذهب الإمام القتل دون استتابة. فإن قلت: كيف جاء قولهم آمَنَّا جملة فعلية، و (ما هم بمؤمنين) جملة اسمية. فهلاَّ طابقتها؟ فالجواب أن قوله: (ما هم بمؤمنين) أبلغ وأوكد ونفي الإيمان عنهم من أن لو قال: وما آمَنوا. فإن قيل: لم جاء قولهم (آمنا) مقيّداً بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقاً؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 فالجواب أنه يحتمل الوجهين: التقييد، وترك لدلالة الأول عليه. والإطلاق، وهو أعلم في سَلْبهم عن الإيمان. (ما رَبِحَتْ تِجَارَتهم وما كانوا مهْتَدين) : لما ذكر الشراء على الإطلاق ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز، لأن الرابح والخاسر هو المتاجر. قال الزمخشري: نَفَى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: (وما كانوا مهْتَدِين) . (مَثَلُهم كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَد تاراً) : أي أوقد. وقيل طَلَب الوقود، وإن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه، وإن كان المثل بمعنى الشبه فالكاف زائدة. فإن قيل: ما وَجْه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمَتْ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده. الثاني: أنَّ اختفاء نورِ كفرهم كالنور وفضيحتهم بعده كالظلمة. الثالث: أن ذلك فيمن آمن منهم، ثم كفر، فإيمانه نورٌ وكفْره بعده ظلمة. ويرجِّح هذا قوله: ذلك بأنهم آمنوا ثم كَفَروا. فإن قيل: لم قال: (ذهب الله بِنُورهم) ، ولم يقل ذهب اللَه بضوئهم، مشاكلةً لقوله: فلما أضاءت؟ فالجواب أن ذهاب النور أبلغ، لأنه إذهابٌ للقليل والكثير، بخلاف الضوء فإنما يطلق على الكثير. (مَحَوْنَا آيةَ الليلِ وجَعَلْنَا آيةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً) : فيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 أحدهما: أن يراد أنَّ الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك مسجد الجامع، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار، ومَحْوُ آيةِ الليل على هذا كون الفَجْر لم يجْعَل له ضوء كضوء الشمس. ومعي مبصرة: تبصر فيه الأشياء. (ما عَلَوْا) : (ما) مفعول (لِيُتَبِّروا) ، أي ليهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد. وقيل إن ما ظرفية، أي ليفسدوا مدة عُلوِّهم. (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) : قيل: إنَّ هذا في حكم الدنيا، يعني أن الله لا يهلك أمةً إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم. وقيل: هو عامّ في الدنيا والآخرة، وإن الله لا يعذّب في الآخرة قوماً إلا وقد أرسل إليهم رسولاً فكفروا به وعصَوه. ويدل على ذلك قوله: (كُلَّمَا ألْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خزَنَتها ألَمْ يَأتِكمْ نَذِير قالوا بَلَى) . ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات. واستدل أهل السنّةِ بهذه الآية على أنَّ التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع لا من مجرد العقل. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) . الآية في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة، على أن لفظها أعم من ذلك. والمعنى أن الله يعجًل لهم حظا من الدنيا بقيدين: أحدهما تقييد المقدار المعجّل بمشيئة الله. والآخر تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله و (لمن نرِيد) بدل من (له) ، وهو بدل بعض من كل. (مَدحورا) .: مُبْعَداً مُهَاناً. (محظوراً) : ممنوعا. (مذموماً) ، أي يذمّه اللهُ وخيارُ عباده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 (مَخْذُولاً) ، أي غير منصور. ومنه: (وإنْ يخذلكم فمَنْ ذَا الذي يَنْصُرُكم من بَعْده) . (مَلُوما مَحْسوراً) : أي يلومك صديقك على كثرة عطائك وإضرارك بنفسك، أو يلومك مَنْ يستحق العطاء، لأنك لا تترك ما تعطيه، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء. والمحسور: من قولهم: حسره السفَر البعيد فذهب بلحمه وقُوَّته بلا انبعاث ولا نهضة، يعني أن كثرة العطاء تقطع بك حتى لايبقى بيدك شيء. وفي هذه الآية إشارة ٌ إلى الرفق في الأمور. وخيْرُ الأمور أوساطها. وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا انتزع من شيء إلا شانه. (مَنْ قُتِل مظلوماً فقد جعَلْنَا لِوَليِّه سُلْطانا) : يعني من قتل بغير حق فلوليِّه - وهو ولي المقتول من سائر العصبة وليس النساء من الأولياء - القصاص من القاتل أو العفو عنه. (مَنْصوراً) : الضمير للمقتول أو لوليه، ونصره هو بالقصاص. (مالَ اليتيم) : كل متموّل، فلا يجوز الأخذ منه، وقد ورد النهي عن قربه في مواضع من كتابه. (مسئولاً) : يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الطلب، أي يُطلب منه الوفاء بالعهد. والثاني: أن يكون المعنى يُسأل عنه يوم القيامة، هل وفَّى به أم لا. (مَعَة آلِهَةٌ كما يَقُولون) : الضمير يعود على كفّار العرب الذين جعلوا مع الله آلهة، فاحتجّ تعالى على وحدانيته بأنه لو كان كما يقولون لابْتَغَوْا سبيلاً إلى التقرّب إليه بعبادته وطاعته، فيكونون من جملة عباده أو لابْتَغوْا سبيلاً إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته. ومعلوم أن ذلك كله لم يكن، فلا إله إلا هو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 (مكروهاً) : الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات، من قتل النفس وغيره. والمكروه هنا بمعنى الحرام، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام. وإعراب (مكروها) نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان. (مَنْ فِيهنَ) . الضمير يعود على السماوات والأرض، ومعناها أن جميع من في السماوات والأرض يسبِّح له، من صامت وناطق. واختلف في كيفية هذا التسبيح، فقيل: بما تدل عليه صنعتها من قدرته وحكمته. وقيل: إنه تسبيح حقيقة. وهذا أرجح لقوله: (ولكن لا تفقهون تَسْبِيحَهم) . (مَسْحُوراً) : قيل معناه جُنَّ فسحر. وقيل معناه ساحر. وقيل هو من السَّحر بفتح السين، أي بشراً ذا سَحْر مثلكم، وهذا بعيد. (مَحْذوراً) : من الحذر، وهو الخوف. (مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) : الآيات هنا المراد بها ما يقترحها الكفار. وسبب نزولها أن قريشا اقترحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصَّفَا ذهباً، فأخبره الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذِّبوا بها فيهلكوا. وعبّر بالمنع عن ترك ذلك، (وأنْ نرْسِل) في موضع نصب. (وأنْ كذّب) في موضع رفع. ثم ذكر ناقة ثمود تنبيهاً على ذلك، لأنهم اقترحوها، وكانت سبب هلاكهم. ومعنى (مبْصرةً) واضحة الدلالة. (ما نرْسِلُ بالآياتِ إلا تَخْوِيفاً) : إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يُرْسل بها تخويفاً من العذاب العاجل، وهو الإهلاك، وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفاً من عذاب الآخرة ليراها الكافر فيؤمن. وقيل المراد بالآيات هنا الزلازل والرعد والكسوف، وغير ذلك من المخاوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 (ما جعَلْنَا الرّؤْيَا التي أرَيْنَاك إلاَّ فِتْنةً للنَّاسِ) : اختلف فيها، فقيل: إنها الإسراء، فمَنْ قال إنه كان في اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعيْن. ومن قال: إنه كان في المنام فالرؤيا منامه. والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك، وارتداد بعض المسلمين حينئذٍ. وقيل: إنها رؤياالنبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه هزيمة الكفَّارِ وقتلهم ببَدْر. والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وسخريتهم به. وقيل إنها رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنَةِ الحديبية فرُدَّ عنها، فافتَتَن بعض المسلمين بذلك. وقيل: رأى في المنام أنَّ بني أمية يصعدون على منبره - صلى الله عليه وسلم - فاغتَتمَ لذلك. (مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) . كان الأصل أن يقال: جزاؤهم - بصيغة الغيبة، ليرجع إلى مَنْ تَبِعك، ولكنه ذكره بلفظ الخطاب تغليبا للمخاطب على الغائب، وليدخل إبليس معهم، لأنه المخاطب بقوله: (اذهبْ) ، بصيغة الأمر على وجه التهديد. قال الزمخشري: ليس المراد الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً له وتخلية. ويحتمل أن يكون معناه الطرد والإبعاد. (موفوراً) . مكملاً، وهو مصدر في موضع الحال. (ما يعِدهم الشيطان إلا غرورا) : من المواعدة بشفاعة الأصنام وغير ذلك. (مَنْ كانَ في هذه أعْمَى فهو في الآخرة أعْمَى وأضَلّ سَبِيلا) . الإشارة بهذه إلى الدنيا، والعمى يراد به عمى القلب، يعني من كان في الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو في يوم القيامة أعمى، أي حَيْران، يئس من الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 ويحتمل أن يريد بالعمَى في الآخرة عمى البصر، كقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) . وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضلّ سبيلاً، لأنه حينئذٍ لا ينفعه الاهتداء. ويجوز في العمى الثاني أن يكون صفة كالأول، وأن يكون من أفعل التي للتفضيل، وهذا أقوى لقوله: (وأضلُّ سبيلا) ، فعطف أضلّ الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيهه. وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا، ولكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر لا عمى القلب. (ما أُوتيتمْ من العِلْمِ إلا قَليلا) : خطاب عام لجميع الناس، لأن عِلْمَهم قليل بالنظر إلى علم الله. وقيل خطاب لليهود خاصة. والأول أرجح، لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح. (ما منع الناسَ أنْ يُؤمنوا) .: يعني أنه ما منع الناس من الإيمان إلا إنكارهم لبعث الرسول من البشر. وقد قدمنا معارضة هذه الآية للتي بعدها في سورة الكهف. (ماكِثينَ فيه أبداً) . أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في (لهم) . (ما لَهمْ بهِ مِنْ عِلْم) : الضمير عائد على قولهم: (اتخذ الله ولَداً) . (ما على الأرضِ زِينةً لَها) : يعني ما يصلح للتزيّن، كالملابس، والمطاعم، والأ/شجار، والأنهار، وغير ذلك. (ما يعْبدونَ إلاَّ الله) : عطف على المفعول في " اعتزلتموهم "، أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون من دون الله. وهذا الاستثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره. ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وفي مصحف ابن مسعود: وما يعبدون من دون الله. (ما يَعْلَمهم إلا قَليلٌ) : أكد عدة أصحاب الكهف. وقد قدمنا أن ابن عباس من ذلك القليل. (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) . الضمير لجميع الخلق، أو للمعاصرين النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقرئ تشرك - بالتاء والجَزْم على النهي. وهو خَبَرٌ على القراءة بالياء والرفع. (ما أشْهَدْتهمْ) : الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم، أو للكفار، أو لجميع الخلق، فيكون فيه رد المنجّمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتَخَرِّصَة. (مَوْبِقاً: مهلكاً، وهو اسم موضع، أو مصدر من وَبَقَ الرجل إذا هلك، وقيل إنه من أودية جهنم. والضمير في (بينهم) للمشركين وشركائهم. (مَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) : يعني العذاب، وما موصولة، والضمير محذوف تقديره: أنذروه، أو مصدرية. (مَوْعِدا) : قيل هو الموت. وقيل عذاب الآخرة. وقيل يوم بَدْر. (مَوْئِلاً) : أي مَنْجى، ويقال وَأل الرجل إذا نجا. ومنه قول علي رضي الله عنه - - وكانت درعه صَدراً بلا ظَهْر، فقيل له: لو أحرزت ظهرك. فقال: إذا وليْتُ فلا وألْتُ، أي إذا أمكنْتُ من ظهري فلا نَجْوت. (مَوْعِداً) . أي وقتاً معلوماً لهلاكهم. والمهْلَك - بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك، فالمصدر على هذا مضاف للمفعول، لأن الفعل متعد. وقرئ بفتح اليم من هلك، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل. (مَصْرِفاً) ، أي معدلاً ينصرفون إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 (مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ) : قيل: بحر فارس وبحر الروم بالمشرق. وقيل عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو الأندلس. وقيل العَذْب المالح. (ما كُنَّا نَبْغ) . أي نطلب فَقْدَ الحوت، لأنه أمارة على وجدان الخضْر عليه السلام. (ما فَعَلْتُه عن أمْرِي) : هذا دليل على نبوءة الخضر، لأن المعنى أنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر من الله ووحيهِ. (مَكنّا لهُ في الأرْض) : يعني أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم. (ما مَكنِّي فيه رَبّي خَيْر) . أي ما بسط الله لي من الملك خَير مِنْ خَرَاجكم، فلا حاجة لي به، ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي. (مَنْ كان يرْجُو لقَاءَ رَبِّه) : إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حُسْنَ لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رِضاً وقبول. وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه. (مَوَالِي) . أقاربي، وقد قدمنا أن الولى له سبعة معان. (مَرْيم) بنت عمران، ولم يذكر في القرآن من النساء إلا مريم لنكتة تقدمت في الكناية ومعناها بالعبرانية الخادم. وقيل المرأة التي تغازل الفتيان، حكاهما الكرماني في عجائبه. (مكانا قَصِيًّا) ، أي بعيداً، وإنما بعدت من قومها حياء منهم أن يظنوا بها الشر. (مَخَاض) : نفاس، وسمي مخاضا، لأن الولد يتحرك فيه للخروج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) : لما رأت الآيات علمت أن الله سيُبَرِّئها فجاءت به من المكان القصي إلى قومها فعاتبوها بهذا الكلام. (مَهْد) : هو المعروف. وقيل المهد هنا حِجْرها. (مُبَاركاً) : من البركة. وقيل نَفَّاع، وقيل معلم للخير. واللفظ أعمُّ من ذلك. (ما تَدْعُون مِنْ دُونِ الله) : أي ما تعبدون. (مكانا عَلِيًّا) : قال ابن عباس: رفعه الله إلى السماء، وهناك مات. وفي حديث الإسراء أنه في السماء الرابعة. وقيل: يعني رفعة النبوءة وتشريف منزلته. والأول أشهر، ويرجِّحه الحديث. (مَلِيًّا) ، أي حيناً طويلاً، وعطف اهجرني على محذوف تقديره: احذر رجمي لك. (مَأتِيًّا) : وزنه مفعول، فقيل إنه بمعنى فاعل، لأن الوعد هو الذي يأتي. وقيل إنه على بابه، لأن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها. (ما نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأمْرِ رَبِّك) : هذا حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أبطَأتَ عني، وقد اشتقتُك. فقال: إني أشوق إليك ولكني عَبْدٌ مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فنزلت هذه الآية. (ما بَيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَين ذلك وما كان ربك نَسِيّا) . هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول. وقيل بمعنى الترك. ومعنى الآية: له ما قدامنا وما خلْفنا وما نحن فيها من الجهات والأماكن، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله. وقيل: ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور. وما خَلْفنا الآخرة، وما بين ذلك ما بين النفختين. وقيل: ما مضى من أعمارنا، وما بَقي منها، والحال التي نحن فيها، والأول أكثر مناسبة لسبب الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 (مَقَاما) : اسم مكان، مِنْ قام، وقرئ بالضم من أقام. ومعنى الآية: إن الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاماً أي أحسن حالاً في الدنيا، وأجل مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم. (مَدًّا) ، أي إمهالاً. (مَرَدًّا) : أي مرجعا وعاقبة. (مَالاً ووَلَداً) : قائل هذه المقالة العاص بن وائل، قال: لئن بعثت، كما يزعم محمد، ليكونن لي هناك مال وولد. (ما أنزلنا عَلَيْكَ القرآنَ لتَشْقَى) : قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الصلاة حتى تورَّمت قدماه، فنزلت الآية، تخفيفاً عنه. والشقاء على هذا: إفراط التعب في العبادة. وقيل: المراد به التأسّف على كفْر الكفار. واللفظ أعمّ من ذلك كله. والمعنى أنه نفى عنه جميع، أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو من أسباب السعادة. (مَآرِبُ أُخْرَى) . أي حوائج، واحدها مَأربة، وكانت عصاه تحادثه، وتؤانسه، وتضيء له بالليل، وتطعمه إذا جاع، ويركب عليها إذا أعياه الطريق (1) . (ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى) : إنما سأله ليريه عِظَم ما يفعل في العصا مِنْ قَلْبها حيّة، فمعنى السؤال تقرير على أنها عصاً، ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن يقلبها. وقيل: إنما سأله ليؤنسه في الكلام. فإن قلت: لم سأله عن العصا وهو عالم بها، ولم يقل ما في يدك؟ والجواب تعليما للمعلم مع المتعلم، يسأله عن الشيء وهو عالم به، ولما تحيَّر موسى من هَيْبَةِ كلامِ خالقه آنسه، وانبسط معه، وتأدب موسى معه في إجمال الخطاب. ولعله اختصر له في الكلام رجاء أن يسمعه مرةً أخرى، وأعطاه الله العصا في يمينه، وسأله عنها، إشارة لك يا محمدي أن الله شرف موسى بالعصا.   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 (مَا يُوحَى) : إبهام يراد به تعظيم الأمر. (محبّةً مِنِّي) ، أي أحببتك. وقيل أراد محبة الناس حتى كان إبليس يحبّه (1) ، وكان لا يراه أحد إلا أحبه. وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له. وقوله: (مِنِّي) يحتمل أن يتعلق بقوله: (ألقيت) ، أو يكون صفة لـ (محبة) ، فيتعلق بمحذوف. (مَنْ يَكفلْه) : يعني يرَبِّيه، لأنه كان لا يقبل ثَدْي امرأةٍ، فطلبوا له مرضعةً، فقالت أخته ذلك ليرَدَّ إلى أمه. (معَنَا بني إسرائيل) : هذا من كلام موسى، طلب من فرعون أن يسرحهم، لأنهم كانوا تحت يده في المهنة، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله تعالى، وبتسريح بني إسرائيل. (مَنِ اتَّبَع الهدَى) : يعني به التحية أو السلامة. (ما بالُ القرون الأولى) : يحتمل أن يكون سؤال فرعون عن القرون الأولى محاجَّةَ ومناقضة لموسى، أي ما بالها لم تبْعَث كما زعم موسى، أو ما بالها لم تكن على دين موسى، أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم موسى في قوله: (إنَّ العذاب على مَن كذّب وتَولَّى) . ويحتمل أن يكون ذلك قطعاً للكلام الأول، وروغاناً عنه، وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة، ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها: (قال عِلْمها عند رَبّي في كتابٍ) ، يعني اللوح المحفوظ. (مَوْعِداً لا نخْلِفه) : يحتمل أن يكون اسم مصدر، أو اسم زمان، أو اسم مكان، ويدل على أنه اسم مكان قوله: (مَكاناً سُوًى) ، ولكن يضعّف بقوله: (موعدكُم يومُ الزّينة) ، لأنه أجاب بظرف الزمان. ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله: يوم الزينة، ولكن يضعّف بقوله: (مكاناً سوًى) . ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله: لا نخلفه، لأن   (1) كلام في غاية البعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان، ولكن يضعّف ذلك بقوله: مكاناً، وبقوله يوم الزينة، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار. ويختلف قوله مكاناً باختلاف تلك الوجوه، فأما إن كان الوعد اسم مكان فيكون قوله موعداً ومكاناً مفعولين لقوله: اجعل، ويطابقه قوله يوم الزينة، من طريق المعنى لا من اللفظ، وذلك أن الاجماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكاناً على أنه ظرف مكان، والتقدير كائناً في مكان. وإن كان الوعد اسم مصدر فينتصب مكاناً على أنه مفعول بالمصدر وهو الوعد، أو بالفعل من معناه، ويطابقه قوله: يوم الزينة على حذف مضاف. تقديره موعدكم وعد يوم الزينة. وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب، وذلك يطابق أن يكون الوعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف. (مكاناً سُوًى) : معناه مُسْتَوِي القُرب منا ومنكم. وقيل معناه مستَوٍ في الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع. وقرئ بكسر السين وضمها، والمعنى متفق. (ما غَشِيَهم) : إبهام لقصد التهويل، والضمير راجع إلى قوم فرعون حين تبعوا موسى في ألف ألف مرتين، فلما رآهم قوم موسى خافوا، وقالوا لموسى: (إنا لمدْرَكون) . فقال موسى: (إنَّ مَعِي رَبي سيَهْدِين) . وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . وكذلك قال الله لهذه الأمة: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) . فالذي قال: (إن الله معنا) ، نجا من شر الكفار، فكيف لا ينجو مَنْ قال الله لهم: إن الله معكم - من عذاب النار. فأوحى الله إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ، فمرّ موسى مع قومه، وجاء فرعون، ودخل البحر مع جنوده فأغرقهم الله أجمعين. وقيل: إن فرعون لما عاين العذاب أراد الإيمان في حال الغرق، فرفع جبريل الطين وجعله في فِيه حتى استغاث بجبريل سبعين مرة، فلم يُغِثه، فعاتبه الله، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 لجبريل: استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأَغثته، وكذلك عاتب موسى لما استغاث به قارون فلم يغثه، فهنيئاً لك يا محمدى في استغاثتك بمولاك إن رجَعْتَ إليه أفَتَرَاه لا يغيثك؟!! ، وهو يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) . (ما هَدَى) : الضمير يعود على فرعون لتقدّم الذكر له. فإن قيل: إن قوله: (وأضلَّ فرعون قومَه) ، يُغْنِي عن قوله: (وما هَدَى) . فالجواب أنه مبالغة وتأكيد. وقال الزمخشري: إنه تهكّم بفرعون في قوله: (وما أهْدِيكم إلَّا سبِيلَ الرَّشاد) . (ما أعْجَلَكَ عن قومك يا موسى) . قصص هذه الآية أن الله لما أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الطور تقدم وحده مبادرة إلى أمر الله وطلباً لرضاه، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده، واستخلف عليهم أخاه هارون، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله له: (وما أعجلك) ، الآية، فهذا السؤال على وجه الإنكار لتقدمه على قومه. وقيل: ليخبره بما صنعوا بعده من عبادة العجل، فاعتذر موسى بعذْرَين: أحدهما: أن قومه على أثره، أي قريب منه، فلم يتقدم عليهم بكثير يوجِبُ العتاب. والثاني: أنه إنما تقدم طلباً لرضاه، وغلبة المحبة، ولذلك لم يطق الصبر مع قومه. وهذا كان سبب مراجعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: ارجع إلى ربك، واسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك. ورحم الله القائل: "لعلّي أراهم أو أرى مَنْ يَراهم " (ما مَنَعَكَ إذ رأيْتَهم ضَلوا ألاَّ تَتّبِعَنِ) . هذا خطاب موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 لهارون - عليهما السلام - لما رجع من الطور بعد كمال الأربعين يوماً التي كلّمه الله فيها، و (لا) زائدة للتأكيد. والمعنى ما منعك أن تتّبعني في المشي إلى الطور، أو تتَّبعتي في الغضب للَه وشدة الزّجْرِ لمَنْ عبدوا العجل وقتالهم بمن لم يعبده. (ما قَدْ سبَقَ) : يعني أخبار الأمم المتقدمين. (ما بَيْنَ أيدهم وما خَلْفَهم) : الضمير للخَلْق. والمعنى يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة. (مَنْ أذِن له الرحْمَن ورَضِيَ له قَوْلاً) : مَنْ واقعة على الشافع، والمعنى لكن مَنْ أذن له الرحمن يشفع. (مَعيشة ضَنْكًا) ، أي ضيقة، فقيل إن ذلك في الدنيا، فإن الكافر ضيق المعيشة لشدة حِرْصه، وإن كان واسع الحال. وقال بعض الصوفية: لا يعرْض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقْته وتكدّر عليه عيشه. وقيل ذلك في البَرْزَخ. وقيل في جهنم يأكل الزّقَّوم، وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة. (ما يَأتِيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبّهم مُحْدَث) : الضمير عائد على المشركين من قريش، ويعني بالذكر القرآن، ومحدث: أي محدث النزول. (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) : لما قالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) الآيات. أخبرهم أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا. ثم قال: (أفهم يُؤمنون) ، أي إن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال مَنْ قبلهم. ويحتمل أن يكون المعنى أن كل قرية هلكت لم تؤمن، فهؤلاء كذلك ولا يكون على هذا جواباً لقولهم: (فليَأتِنا بآيةٍ) ، بل يكون إخبارا مستأنفاً على وجه التهديد. وأهلكنا في موضع الصفة لقرية، والمراد أهل القرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 (ما جَعَلنَاهم جَسداً لا يأكلون الطَّعَام) ، أي ما جعلنا الرسل أجسادا غير طاعمين، ووحّد الجسد لإرادة الجنس. ولا يأكلون الطعام صفة لجسد. وفي الآية ردّ على قولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) . (مَن نَشَاء) : يعني المؤمنين. (ما أرسلنا ... ) . الأنبياء: 25، الآية رد على المشركين. والمعنى أنَّ كلَّ رسول إنما أتى بلا إله إلا الله، فكلمتهم واحدة، وفيها تصديق للحديث: "الأنبياء أولادُ عَلاّت أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة". (متَى هذا الوَعدُ إن كنْتُم صادِقين) : مرادهم القيامة أو نزول العذاب بهم. (مَنْ فَعلَ هَذَا) : هذا من قول قوم إبراهيم، وقبله محذوف تقديره: فرجعوا من عيدهم فرأوُا الأصنام مكسورة فقالوا: مَنْ فعل هذا. (ما هؤلاء يَنْطِقُون) : لما رجعوا إلى أنفسهم بالفكرة والنظر، قالوا لإبراهيم: لقد علمتَ عدم نُطْقهم، فكيف تأمرنا بسؤالهم، فقد اعترفوا بأنهم لا ينطقون، وهم مع ذلك يعبدونهم، فهذا غاية الضلال في فعلهم، وغايةُ المعاندة والمكابرة في جِدَالهم. (مَسَّنِيَ الضّر) : هذا من كلام في الله أيوب حين سلط الله عليه البلاء، فخاف على ذهاب قَلْبِه، إذ هو موضع المعرفة. فإن قلت: قد وصفه اللهُ بالصبر في قوله تعالى: (إنا وجَدْنَاهُ صابِراً) ، وقَرَنه بنون العظمة فما بال قوله: (مَسَّنِيَ الضرُّ) ؟ فالجواب أن قوله: (مَسَّنِيَ) ليس تصريحا بالدعاء، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان في ذلك من حسن التلطّف مما ليس في التصريح بالطلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وقيل غير هذا من الجواب أعرضنا عنه لطوله. وفي الآية إشارة إلى الرجوع إلى الله في رَفْعِ المحن والشدائد، ولذا طلب موسى لغيره (جَذْوةً لعلهم يصطلون) ، فأوصله الله بالوادي القدس، وطلب الخَضر لغيره فأوصله الله لعَيْن الحياة، فلا تنس أيها الناظر في هذا الكتاب الدعاء لموصّله إليك من غير كلفة، ولك مثله، كما ورد في الحديث، وأسأله سبحانه أن يفرّج عنّا كربَ الآخرة، إذ لا يفرجها غيره سبحانه، وتأمل إلى نداء أيوب ربَّه بما يوافق حاله ويقتضيه مقامه وهو الرحمة، فاستجاب له ورحمه. روي أن الله أنبع له عينا من ماء، وأمره بالشرب منها، فبرئ باطنه واغتسل منها فبرئ ظاهِره، ورُدَّ إلى أكمل جماله، وأتي بأحسن الثياب. وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها، فلم تره في موضعه الذي تركته فيه. فجزعت وظنت أنه نقل منه، وجعلت تتولّه، فقال لها: ما شأنك أيتها المرأة فهابته لحسْن هيئته وجمال منظره، وقالت: فقدتُ مريضاً كان لي هنا، ومعالِم المكان قد تغيرت، وتأملت إلى مقاله فعرفته، وقالت: أنت أيوب! قال: نعم، واعتنقها وبكى، ولم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه بعدما فقده. وروي أن امرأته ولدت بعْد ستة وعشرين ابنا، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: (وآتيْنَا أهْلَه ومثْلَهمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) . وإنما وصف الرحمة بالعِنْدية في هذه الآية لأنه بالغ في التضرع والدعاء، فقابله سبحانه بالمبالغة، لأن لفظ " عندنا " حيث جاء يدل على أنه سبحانه يتولَّى ذلك من غير واسطة. ولما بدأ القصة في (ص) بقوله تعالى: (واذكر عَبْدَنا) ، ختم بقوله: (مِنَّا) ، ليكون آخر الآية مطابقاً لأول الآية. (ما همْ بِسُكَارَى) : نَفْيٌ لحقيقة السكر، وقرئ سَكْرى، والمعنى متفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) . نزلت - في قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتفّق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإذا اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن القلق والاضطراب. وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف. أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه. (ما لا يَضرّه) : يعني الأصنام، و (يَدْعو) بمعنى يعبد في الموضعين. فإن قلت: قد وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرها أقرب من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب أن الضرّ المنفي أوّلاً يراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئاً. والضر الثاني يراد به ما كان يكون بسببها من العذاب وغيره. فإن قلت: ما بال اللام دخلت على (مَنْ) في قوله: (لمن ضَرّه) ، وهي في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول؟ وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها أن اللام مقدمة على موضعها، كأن الأصل أن يقول: يدْعو لَمَنْ ضَرّه أقرب من نَفْعه، فموضعها الدخول على المبتدأ. وثانيها أنَّ (يدعو) هنا كرر تأكيداً ليدعو الأول، وتم الكلام، ثم ابتدأ قوله: لمن مبتدأ وخبره لبئس المولى. وثالثها أنَّ معنى يدعو: يقول يوم القيامة إذا رأى مضرَّة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. (مَا يَغِيظ) : يعني إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب به ما يغيظه من الأمر، أو ليس يذهب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 (مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ) : دخل في هذا مَنْ في السموات من الملائكة ومَنْ في الأرض من الملائكة والجنّ، ولم يدخل الناس في ذلك، لأنه ذكرهم في آخرها على وجه التحديد. وليس المراد بالسجود في هذه الآية السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكِر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد. ثم إن الانقياد يكون على وجهين: أحدهما: الانقياد لطاعة الله طَوْعاً، والآخر الانقياد لما يُجرِي الله على المخلوقات من أفعاله وتدبيره شاءوا أو أبَوا. (مَنْ يهنِ الله فما له مِنْ مكرِم) ، لأنه المعز المذِلّ الذي يفعل الأشياءَ لغير غرض، فلو اجتمع الثّقَلانِ على رَفْع عبدٍ أراد الله وَضْعه لم يقدروا، وبالعكس، والعيان يشهد لذلك. (مكان البَيتِ) : موضعه، وذلك أنَّ الله دَرَس البيتَ الحرام في الطوفان، فدل الله إبراهيم على مكانه، وأمره ببنائه، كما قدمنا. (مَنَافِعَ لهم) : التجارة. وقيل أعمال الحج وثوابه، واللفظ أعمّ من ذلك. (ما يُتْلَى عَلَيْكمْ) : يعني ما حرّمه في غير هذا الموضع، كالميتة. (مَنَافِع) : من قال إن شعائر الله هي الهدايا، فالمنافع بها شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نَحْرُها، ومَنْ قال إن شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمَّى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة. (مَحِلّها إلى البيت العَتِيق) : من قال إن الشعائر الهدايا فمحلّها موضع نحرها وهو منى، ومكة، وخص البيت بالذكر، لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهَدْي، و (ثمَّ) على هذا القول ليست للترتيب في الزمان، لأن محلها قبل نحْرها، وإنما هي لترتيب الجمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 ومن قال إن الشعائر مواضع الحج فمحلّها مأخوذ من إحلال المحْرِم، أي آخر ذلك كله الطواف بالبيت، يعني طواف الإفاضة، إذ به يحِلّ الحرم من إحرامه. (مَنْسَكًا) ، أي موضعاً للعبادة. ويحتمل أن يكون اسم مصدر، بمعنى عبادة. والمراد بذلك الذبائح، لقوله تعالى: (ليَذْكُروا اسْمَ اللهِ على ما رزَقَهمْ مِنْ بهيمةِ الأنْعَام) ، بخلاف ما يفعل الكفار من الذبائح تقرباً إلى الأصنام. (مَنْ يَنْصُرُه) : الضمير عائد على الله. والمعنى إنَّ اللهَ ينصر من ينصر دينَه وأولياءه، وهو وعْدٌ تضمَّن الحض على القتال. (مَشِيد) : أي مبنيّ بالشِّيد وهو الجص. وقيل المشيد المرفوع البنيان، وكان هذا القصر بقيةً من بقايا ثمود. (مَكنَّاهم في الأرض) ، المراد بهم أمةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، مكنَهم اللَه في أرضه. وقيل الصحابة. وقيل الخلفاء الأربعة، لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به في الآية. (مَنْ عاقَب بمثْلِ ما عُوقِبَ به) : قد قدمنا في آية النحل: أن هذا من معنى التجوّز، ولكن وعد في هذه الآية بالنصر لمن بغي عليه. فإن قلت: أي مناسبة لختم هذه الآية بالعفو والمغفرة؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن في ذكر هذين الوصفين إشعاراً بأن العفو أفضل من المعاقبة. كما قدمنا، فهو حضّ عليه. والثاني: أن في ذكرهما إعلاماً بعَفْوٍ عن المعاقب حين عاقب، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) : يعني علماً ضرورياً، فنفى أولاً البرهان النظري، وهو المراد بالسلطان، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظريّ معاً. (مَوْلاَكم) ، أي وليُّكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك. (مَكِين) : متمكّن، والمراد به رحم المرأة. (ما كنَّا عن الخَلْقِ غافِلين) : يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين، أو المصدر. (ماءً بقَدَرٍ) : يعني المطر الذي ينزل من السماء، فتكون منه العيون والأنهار. وقيل يعني أنهاراً، وهي النيل والفرات ودجْلَة وسيْحَان. ولا دليل على هذا التخصيص. ومعنى بقَدَر: بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. (ما هذا إلا بَشَرٌ مِثْلكم) المؤمنون: هذا الكلام من قوم نوح لما قال لهم: إني رسول الله إليكم - استبعدوا أن تكون النبوءة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحَجَر. (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) . أي بمثل ما دعَوْتم إليه من عبادة الله، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة بينه وبين إدريس عليهما السلام. (ما اسْتَكَانوا لرَبِّهم وما يَتَضرَّعون) : قال بعض النحاة: استكان مشتق من السكون ووَزْنه افتعلوا مطّت فتحة الكاف فحدث عن مطها ألف، وذلك كالإشباع. وقيل إنه من كان يكون فوزْنُه استفعلوا. ومعنى الآية نفي التضرّع والتذلل. فإن قلت: هَلاَّ قال: فما استكانوا وما تضرعوا، أو ما يستكينون وما يتضرعون، باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 فالجواب أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم بابَ عذاب شديد، فَنْفى الاستكانة فيما مضى ونفي التضرع في الحال والاستقبال. (ما تَشْكرون) : ما زائدة، وقليلاً: صفة لمصدر محذوف، تقديره شكراً قليلاً تشكرون، وذكر السمع والأبصار والأفئدة وهي القلوب، لعظيم المنافع التي فيها، فيجب شكر خالقها، ومِنْ شُكره توحيدُه واتباعُ رسوله عليه السلام، ففي ذكرها تعديد نعمه. (ما قَال الأوَّلون) : أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة، ثم فَسّر قولهم بإنكارهم للبعث بقولهم: (لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا) . (مَنْ فيها) : الضمير يعود على الأرض المتقدمة الذِّكر، وأمر الله في هذه الآية رسولَه أن يوقفهم على أمورٍ لا يمكنهم إلا الإقرار بها، وإذا أقَرّوا بها لزمهم توحيدُ خالقها والإيمان بالدار الآخرة. (مَلَكوتُ) : مصدر في بنائه مبالغة، وقد قدمنا أنه الملك بلسان القبط. (ما مَلَكَتْ أيْمانُهنَ) : دخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات. وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: مَنْعُهم لرؤية سيدتهم، وهو قول الشافعي. والجَوَاز، وهو قول ابن عباس وعائشة. والجواز بشرط أن يكون العبْد وَغْداً، وهو مذهب مالك. (مثَلاً مِنَ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم) : يعني ضرب لكم الأمثال بمَنْ كان قبلكم في تحريم الزنى، لأنه حرام في كل مِلّة، أو في براءة عائشة كما برّأ يوسف ومريم. (مَثَل نُورِه) : الضمير عائد على نور مولانا جلَّ جلاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 والنور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار، ومجازاً على المعاني التي تُدرك بالقلوب، والله ليس كمثله شيء. وقيل الضمير عائد على المؤمن. وقيل على القرآن. وهذه الأقوال كلها ضعيفة، لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير. فإن قلت: كيف يصح أن يُقال (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فأخبر أنه هو النور، ثم أضاف النورَ إليه في قوله: (مَثَلُ نوره) ، والمضاف غير المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه: أي الله مُنوِّر السماوات والأرض. أو كما تقول: زيد كريم، ثم تقول يعيش الناس بكرمه، فإن كان معنى نور السماوات والأرض النور المدرك بالأبصار فمعناه أن الله خلق النورَ فيهما من الشمس والقمر والنجوم. أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود، فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء. ومن هذا المعنى قرأ علي بن أبي طالب "نَوَّرَ السماوات والأرض" - بفتح النون والواو والراء مع تشديد الواو، أي جعل فيهما النور. وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب، فمعنى (نور السماوات والأرض) : أي جاعل النورِ في قلوب أهل السماوات والأرض، ولذلك قال ابن عباس: معناه هادِي أهْلِ السماوات والأرض. (مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَه) الآية. قال ابن عباس: معناه منِ يطع الله في فرائضه، ورسولَه في سُننه، ويخشى الله فيما مضى من ذنوبه، ويتّقِيه فيما يستقبل. وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية، وسمعها بعض بَطَارِقة الروم فأسلم، وقال: إنها جمعَتْ كل ما في التوراة والإنجيل. (ما مَلَكتُم مَفَاتِحه) : يعني أن الله أباح للوكلاء والأجراء والعَبيد الذين يمسكون خزائن الأموال. وقيل المراد ما ملك الإنسان من خَزائن نفسِه، وهذا ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 (ما أنْتم عَلَيْه) : هذا خطاب لجميع المنافقين خاصة، وفيه معنى الوعيد والتهديد لدخول (قد) عليه. وقيل معناها التقليل على وجه التهكم. (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) : هذا من كلام قريش طعناً على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قيل لنوح، فرد الله عليهم بقوله: (وما أَرْسلْنا قَبْلَك مِنَ المرسلين) . وإقرارهم برسالته بلسانهم دون قلوبهم على وجه التهكم، كقول فرعون: (إن رَسُولَكم الَّذِي أرْسِلَ إليكم لمجنون) . أو يعنون الرسول بزَعْمِه. (مَكَانا ضيِّقًا) : يضيّق عليهم زيادة في عقابهم، ولهذا كان ضرس الكافر أو نابه مثل أحُد، فانظر كيف يكون حال من ضيّق عليه، وعظم جرمه! نسأل الله العافية. (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) . يعني نعمك التي أنعمت عليهم كانت سببا لنسيانهم لذكرك وعبادتك. والقائلُ لذلك هم المعبودون، قالوا على وجه التبرّي ممن عبدهم، كقولهم: أنْتَ وليّنا. والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ، وإقامة الحجة عليهم. (مَنْ يَظْلِمْ منكم) : الخطاب للكفار. وقيل للمؤمنين. وقيل على العموم. (ما عَمِلُوا مِنْ عَمَل) : الخطاب للمجرمين، يعني أن الله قصد إلى أعمالهم التي عملوها من إطعام مسكين أو صِلَة رَحِم أو غير ذلك فنثرها ولم يقبلها، فلفظُ القدوم في الآية مجاز. وقيل هو قدوم الملائكة، أسنده إلى نفسه، لأنه عن أمره. (مَحْجوراً) : قد قدمنا أن معناه حراماً محرماً، يعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الملائكة يقولون للمجرمين: لا بشْرى لكم، وإنما هو حراماً محرماً عليكم، وإن كان الضمير للمجرمين فالمعنى أنهم يقولون حِجْراً بمعنى عوذاً، لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة إذا رأت ما تكره. وانتصابه بفعل متروك ظاهرهُ، نحو: معاذ الله. (مَقِيلاً) : هو " مفْعلاً "، من النوم في القائلة، وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة. وقيل إنَّ حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. (مع الرسول سَبِيلاً) : يحتمل أن يكون نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أو اسم جنس على العموم. (مَهْجُوراً) : من الهجْر، بمعنى البعد والتَّرْك، وقيل: من الهُجْر - بضم الهاء، أي قالوا فيه الهُجْر حين قالوا إنه شاعر وساحر، والأول أظهر. (مَدَّ الظِّلَّ) : قيل مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لأن الظل حينئذ على الأرض كلها، واعترضه ابنُ عطية بأن ذلك الوقت من الليل ولا يُقال ظل بالليل. واختار أن مَدّ الظل ما بين أول الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير. وقيل مدّ الظل، أي جعله يمتدّ وينبسط. (مَرَجَ البَحْرَينِ) : اضطرب الناس في هذه الآية، لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عَذْب، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح، فقال ابن عباس: أراد بالبحر الملح الأجَاج بح الأرض، وبالبحر العذب: الفرات. وقيل بحر السحاب، وقيل البحر المالح المعروف، والبحر العذب مياه الأرض من الأنهار والعيون، ومعنى الفرات البالغ العذوبة، حتى يقرب إلى الحلاوة. والأجاج نقيضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 واختلف في معنى مرجِهما، فقيل جعلهما متجاورين متلاصقين. وقيل: سال أحدهما في الآخر. وأما قوله تعالى: (وخلق الجانَّ مِنْ مَارجٍ مِن نار) . فمعناه أنه خلق إبليس من اللهب المضطرب من النار. (ما الرَّحْمَنُ) : لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرَتْه قريش، وقالوا: لا نعرف الرحمن. وكان مسَيْلمة الكذَّاب قد تسمى بالرحمن، فقالوا على وجه المغالطة: إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة. (مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يلْقَ أثَاماً) : أي عقاباً، وقيل الأثام الإثم، فمعناهُ يلْقَ جزاء أثام. وقيل الأثام وادٍ في جهنم. والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذُكر من الشرك باللهِ، وقَتْل النفس بغير حق، والزنى. (من تاب) : إن قلنا إن الآية في الكفار فلا إشكال فيها، لأن الكافر إذا أسلم صحَّت توبَتُهُ من الكفر والقَتْل والزنى. وإن قلنا: إنها في المؤمنين فلا خلافَ أنَّ التوبةَ من الزنى تصح. واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا. (مَتَاباً) : مقبولاً مرضيّاً عند الله، كما تقول: لقد قلت يا فلان قولاً، أي قولاً حسناً. (مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِرَاما) : اللغْوُ هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه، ومعنى مَرّوا كراماً: أعرضوا عنه واستحيوا، ولم يدخلوا مع أهله، تنزيهاً لأنفسهم عن ذلك. (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) : يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال: أحدها: لا يُبَالي الله بكم لولا عبادتكم له، فالدعاء بمعنى العبادة، وهذا قريب من معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) . الثاني: أنَّ الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال، والمعنى لا يُبَالي الله بكم، ولكن يرحمكم إذا استغَثْتم به ودعوتموه، ويكون على هذين القولين خطاباً لجميع الناس من المؤمنين والكافرين، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه. أو خطاباً للمؤمنين خاصة، لأنهم هم الذين يعبدون الله ويدعونه، ولكن يضعف هذا بقوله: (فقد كذَّبْتم) . الثالث: أنه خطاب للكفار خاصة. والمعنى على هذا: ما يَعْبَأ بكم رَبي لولا أنه يدعوكم إلى دِينه، والدعاء على هذا - بمعنى الأمر بالدخول في الدين. وهو مصدر مضاف إلى الفاعل. (مَعَكمْ) : خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما، أو على جعل الاثنين جماعة. (مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) : إنما سألهم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مع علمه أنهم يعبدون الأصنام ليبَيِّن لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء، ويُقيم عليهم الحجة. فإن قلت: لم صرّحوا بقولهم نعبد مع أن السؤال يُغني عن التصريح بذلك. وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ؟ فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام. ثم زادوا قولهم: (فنظلّ لها عَاكِفين) - مبالغة في ذلك. (مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيم) . أي من الشرك والمعاصي. وقيل الذي يلقى به ربه وليس في قلبه شيء غيره. وقيل بقلبْ لديغ من خشيته، والسليمُ اللديغ لغة. وقال الزمخشري: هذا من بدع التفاسير، وهذا الاستثناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 يحتمل أن يكون متصلاً فيكون من أتى الله مفعولاً بقوله لا ينفع. والمعنى على هذا: المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله، وإن البنين لا ينفعون إلا مَنْ علمهم الدين، وأوصاهم بالحق. ويحتمل أيضاً أن يكون متصلاً ويكون قوله: (من أتى الله) بدلاً من قوله: (مالٌ وبنون) ، على حذف مضاف تقديره إلا مال مَنْ أتى الله وبنوه. ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن. (ما أضَلَّنَا إلاَّ المجرِمون) : يعنون كبراءهم وأهل الحَزْم والجرْأة منهم. (ما أنا بِطَارِدِ المؤمنين) . لما طلب قوم نوح منه أن يطرد الأراذل في زَعْمهم أعرض عنهم، وجاوبهم بهذا، وكذلك قريش طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد الضعفاء من مجالسته كبلال، وعمَّار، وصهيب. (مَرْجومين) : إما بالحجارة، أو بالقول والشتم. والأول أظهر، لأنه صح عنهم أنهم كانوا يرجونه حتى أن صبياً كان على عاتق والده، فلما رأى نوحاً قال له ألقني، فأخذ حجراً من الأرض ورماه به، فحينئذٍ دعا عليهم، وقال: (رَبِّ لا تذَرْ على الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) . والرجم بمعنى القتل أيضاً. (مَشْحون) : مملوء. ومعناه أن الله تعالى لما أراد هلاك قوم نوح جاءه جبريل، وأمره أن يتَّخذ الفلك قال: كيف أصنعه، قال: انحت مائة ألف وأربعة وعشرين ألف لوح، فصار ينحتهم ويجدُ على كل لوح اسم نبيء. فقال نوح: يا رب، ما هؤلاء، فقال الله له: انحتها وأظهر أسماءهم عليها. فنحتها وظهر له على كل لوح اسم نبيء من آدم إلى نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمره أن يتَّخذ على عددهم دسُرًا، ويضم الألواح بعضها إلى بعض، ففعل، فكلما مرّ عليه مَلأ من قومه سخروا منه. فلما ضم الألواح قالوا له: ما هذا، قال: سفينة النجاة. فقالوا: وأين البحر، فقال: يأتي الله به (1) .   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وفي الخبر أنه احتاج إلى أربعة ألواح، فقال له جبريل: انحتها فنحتها وظهر على الأول أبو بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع عليٌّ، فقال نوح: مَنْ هؤلاء، قال الله له: هم أصحاب حبيبي وصَفِييِّ وخيرتي من خلقي، ينصرونه ويبذلون مهجهم دون مهجته، فهم عندي بمنزلة الأنبياء (1) . فلما ظهرت هذه الأسماء الكرام أنجى الله بها أصحاب نوح عليه السلام. فالذي يحبهم ويصلي عليهم أولى بالنجاة من الآلام. (مَصَانِع) : جمع مصنع، وهو ما أتقن صنعه من المباني. وقيل: مآخذ الماء. (مَتَّعْنَاهمْ سنِين) : يراد به عمر الدنيا. والمعنى أن مدةَ إمهالهم لا تغْني مع نزول العذاب بعدها وإن طالت مدةَ سنين، لأن كل ما هو آت قريب. (مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) . الضمير للقرآن، وهذا ردّ على مَنْ قال إنه كهانة نزلت الشياطين به على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأنى لهم بالوصول إلى ذلك!. ولفظة (ما ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق. وإذا منعوا من استراق السمع عند مبعثه - صلى الله عليه وسلم - فكيف يستطيعون الكهانة. (ما ظُلِموا) : في هذا إشارة إلى ما قاله حسّان بن ثابت وغيره من الشعراء في هَجْو الكفار بعد هجوهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فأباح الله لهم الانتصار، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - لحسان: كيف تهجو قريشاً وأنا منهم. فقال: لأسلَّنَّكَ منهم سلَّ الشَّعْرةِ من العَجِين. (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) . يعني في مكان النار ومَنْ حول مكانها، يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام. قال الزمخشري: الظاهر أنه عام في كل مَنْ كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام.   (1) في غاية البعد، وهو كسابقه يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 (مَنْ ظَلَم) ، تقديره: لكن مَنْ ظلم مِنْ سائر الناس لا من المرسلين. وقيل متصل على القول بتجويز الذنوب على الأنبياء، وهذا بعيد، لأن الصحيح عصْمتهم من الذنوب. وأيضاً تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم. (مَكثَ غَيْرَ بَعِيد) ، أي أقام زماناً قريباً. ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم. ويحتمل أن يكون مسنداً إلى سليمان أو إلى الهدْهد، وهو أظهر. (ماذا يَرْجِعون) : من قوله: (يَرْجع بعضُهم إلى بَعْض الْقَولَ) . (ما شَهدْنا مَهْلِكَ أهْله) : الضمير راجع إلى قوم صالح، وذلك أنهم اجتمعوا وتشاوروا في قتله، فقالوا نسافر إلى أرضٍ، ثم نرجع خفية من الناس، ونقتل صالحاً، ثم نحلف مائة عند أقربائه إنا ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً. (مكروا مَكْرا ومَكَرْنَا مَكْراً) : هذا على جهة المشاكلة كما قدمنا مراراً، وذلك أنهم أرادوا المكر بصالح، والله أراد المكر بهم والنجاة بصالح. روِي أنهم لما قتلوا الناقة قال لهم صالح: (تمتّعُوا في داركم ثلاثة أيام) ، وعلامةُ ذلك أن تكون وجوهكم في اليوم الأول حمر، وفي الثاني صفر، وفي الثالث سود، فلما رأوا هذه العلامة قالوا نقتل صالحاً كما قتلْنَا الناقة، فقصدوا إلى داره في اليوم الرابع، وكان يومٍ الأربعاء، فأخذ جبريل عليه السلام بسور البلد وزَلْزَلَه، وصاح عليهم صيْحة ماتوا منها بأجمعهم. وقيل: إن الرهط الذين تقاسموا على قَتْله اختفوا ليلاً في دارٍ قريبة من داره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ليخرجوا منها لقَتْله بالليل، فوقعت عليهم صخرة أهلكتهم، ثم هلك قومهم بالصَيْحَة، ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض، ونجا صالح ومن آمن به. فإن قلت: عذَّب الله من قتل الناقة ولم يعذب من قتل الحسين؟ فالجواب كانت الناقة سببَ الفتنة لقوم صالح، لأنهم طلبوها، وعادة الله سبحانه هلاكهم من طلب آية ولم يؤمن العذاب. والحسين وَلد مَنْ أرسل رحمة للعالمين، وفي ذلك الزمان كانت أبواب العذابِ مفتوحةً، وفي زمان الحسين مغلوقة، ألا ترى أن قوم صالح لم ينْفَعْهم الندم على قتلها، وهذه الأمّة مرحومة بمن هو رحمة للعالمين، اللهم كما أرسلته لنا رحمة، فرفعتَ به العذاب عن جميع الخلائق، لا تحرمنا منها، أقسمت عليك بجاهه عندك، فإنه قال: إذا سألتم اللَه فاسألوه بجاهي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون صلاة وسلاماً دائمين بدوامك باقيين ببقائك، لا منتهى لهما دون علمك، إنك على كل شيء قدير. (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) : سبب نزول هذه الآية أنَّ قريشاً سألوه - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة، فأخبره الله بعدم علمها، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ زعم أنَّ محمداً يعلم الغيب فقد أعظم الفِرْية على الله. فإن قلت: قد أخبر بكثير من المغيّبات، فوقعت على حسب ما أخبر به. وذلك معدود في معجزاته؟ والجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن ذلك بقوله، إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله، اقرؤوا إن شئتم: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) . فإن قلت: قد ظهر من أخبار الكهّان والمنجمين ما وقع وصدقهم؟ والجواب أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف، أو عن وَهْم، لا عن علم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 ولا يجب تصديقهم، لأن الآية نَفَتْ علمهم، وإنما يجب علينا تصديق الرسل، لأنه علم إلهي. وقيل: إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة. ولذلك قال: (وما يَشْعرونَ أيَّانَ ئبْعَثون) . وقد قدمنا في النحل من هذا المعنى. ورضي الله عن بعض العلماء لما دخل على بعض الملوك ووجده متحيّراً، فقال له: مالك، فقال له الأمير: رأيت البارحة ملك الموت في المنام، وسألته: كم بقي من عمري، فأشار لي بأصابعه الخمس، ولا أدري هل هي خمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: إنما أشار لك بالخمس إلى الحديث في: "خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: إنَّ الله عنده علم الساعة) . فهدأ روعه. وإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يدري عمر العبد حتى يؤمر بقبض روحه، فما بالك بمن افترى على الله، ورحم الله القائل: لعمرك ما تَدْرِي الضَّوَارِبِ بالحصا ... ولا زاجراتُ الطير ما اللَّهُ صانِع فإن قلت: كيف قال: (إلا اللَّهُ) بالرفع على البدل، والبدل لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلاً، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها، والله تعالى ليس ممّن في السماوات والأرض باتفاق، فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون: إنه فوق السماوات والأرض، والقائلين بنفي الجهة يقولون: إنه تعالى لا فيهما ولا داخلا فيهما ولا خارجاً عنهما، فهو على هذا استثناء منقطع، فكان يجب أن يكون منصوباً؟ فالجواب من أربعة أوجه: الأول: أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل، وإن كان منقطعاً. كقولهم: ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع، والحمار ليس من الأحدين، وهذا ضعيف، لأن القرآن نزل بلغة أهل الحجاز لا بلغة بني تميم. والثاني: أن الله تعالى في السماوات والأرض بعلمه. ، كما قال تعالى: (وهو معكم أيْنَ ما كنتم) ، فجاء البدل على هذا المعنى للظرفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 المجازية، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين. والثالث: أن قوله (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يراد به كلّ موجود، فكأنه قال: مَنْ في الوجود، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً، فيصحّ الرّفْعُ على البدل، وإنما قالَ (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جَرْياً على منهاج كلام العرب، فهو لفط خاص يراد به ما هو أعمّ منه. والرابع: أن يكون الاستثناء متَّصلاً على أن يتأوَّل من في السماوات في حق اللَه كما يتأول قوله: (أَأمِنْتم من في السماء) . وحديث السوء أو شبه ذلك. (مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، أي إنما عليَّ الإنذاز والتبليغ. والمعنى إن زللتم عن طريق الرشاد، وأضلَّكم الله عن رؤية السداد فلا يضرني ذلك (ومَنْ يُضلِلِ اللَّهُ فما له مِنْ هَاد) . وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الله هو المضلُّ والهادي. (مَنْ جاءَ بالحسنَةِ فله خَيْر منها) . أي عشر إلى سبعمائة، أو من قال: لا إله إلا الله فَلَة الجنّة، بدليل: (ومن جاء بالسيئة فكبَّتْ وجوهُهم في النار) . والسيئة هنا الكفر والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها. (مَراضِع) : جمع - مُرضع، وهي المرأة التي ترضع، أو جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، وهو موضع الرضاع، يعني الثَّدْي. (ماءَ مَدْيَن) ، أى بئره، وكانت مدينة شعيب عليه السلام، وذلك حين قدم موسى من مصر، وسقى غَنَم شُعيب، فرأى نفسه غريباً فقيرًا جائعاً تعبانَ، فقال: أنا الغريب، أنا الفقير، أنا الضعيف، - أنا الحقير، فنودي في سره: يا موسى المريض الذي ليس له مثلي طبيب، والضعيف الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 ليس له مثلي رقيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والغريب الذي ليس له مثلي حبيب. كان لموسى سبعة أسفار، فوجد فيها سبعة أشياء: سفر الخوف: قوله لأمه: (فإذا خِفتِ عليه فألْقِيه في اليَمّ) ، فوجد: (وأَلْقيْت عليكَ محبةً مِنِّي) . وسفر الهروب، فوجد الأنس: (ولما وردَ ماءَ مَدْين) . وسفر الطلب لما سار بأهله فوجد الرسالة: (يا موسى إني أنا الله) . والسفر ببني إسرائيل لما قال: (أن أسْرِ بعبادِي) . فوجد فيه النجاة: (فأنجينا موسى) . وسفر النصَب: (لقد لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبا) ، فوجد الخضر. وسفر المقاتلة لا قالوا له: (اذهَبْ أنْتَ وربُّكَ) . فوجد فيه الحجَر: (أنِ اضْرِبْ بعَصَاك الحجَر) . وسفر الطور: (ولما جاء موسَى لمِيقَاتِنا) ، فوجد فيه الكلام: (وكلَّمه ربُّه) . فإن قلت: بأي شيء عرف موسى الكلام (1) ؟ فالجواب: لما علم أن كلام المخلوقين ينقطع وهو بسماع الآذان ومن جانب واحد، ووجد له هيبة ولذة، ولما سمعه غير منقطع، ومن غير جارحة، ومن جميع الجوانب، علم أنه كلام خالقه، ولذلك لما قال له الشيطان: مع مَن تتكلم، فقال له: مع الله. قال: ومن أين علمت، قال: بهذه الأشياء، فلم يزل في قلب موسى من هذا حتى سأله الرؤية، فلم يعْطَها، لأنها لم تكن وقتها. وكيف يُرى الباقي بالفاني، وكيف يَرى الرحمن من رأى الشيطان، ولما ذهب إلى الجبل جعل هارون واسطة بينه وبين قومه، فقال له: انظر إلى الجبل، فلما تجلَّى الربّ إلى الجبل صار سبعين ألف قطعة، وخرج من كل قطعة عارف يقول: أرني أنظر إليك، فقال الله لموسى: أتظنّ أنك مشتاق إليّ، انظر إلى هؤلاء تطلب مطلبك، فخر موسى صعِقاً من جزَعهم (2) . وأيضاً لو أعطي الرؤية بسؤاله كان مكافأةَ لسؤاله، كالمائدة لعيسى، وإحياء الطيور لإبراهيم، مكافأة لسؤالهما، ولم تكن الرؤية مكافأة لشيء، لأنها ليس مثلها شيء. وأيضاً لما طلب رؤيةَ الحبيب قال   (1) قد يجاب عن ذلك بالإلهام الذي يقذفه الله في قلبه، وأمه عليه السلام ألقته في البحر بمجرد الإلهام، فكيف يشتبه عليه كلام الملك العلام؟؟!!! (2) كلام يفتقر إلى دليل، ورائحة الإسرائيليات المنكرة تفوح منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 تعالى: (وما كنْتَ بِجَانبِ الطّورِ إذْ نادَيْنَا) . ولم يكن وجد رؤيته فكيف يعطيه رؤيته، ولا وجد له لذة، كأنه قال له: لن تراني بعين الحبيب وأمَّتِه حتى تكون معهم، ثم تراني، وأيضاً قد أعطاه الله رؤية القلب من غير سؤال، فلا يجوز في الحكمة أن يعطيه رؤيةَ البصر بالسؤال، وكأنَّ رؤية القلب أعظم وأفضل من رؤية البصر، لأنَّ رؤيةَ البصر مؤقتة، ورؤية القلب دائمة. قال المخزومي: إنما لم يعطه الرؤية، لأنه قال في أزله: (لا تدْرِكه الأبصار) . يعني في الدنيا، فمنعه الرؤية حتى يتحقَّق ما قال، كما أنَّ آدم عليه السلام لما قال الله: (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) - قضي عليه بالمعصية والخروج من الجنة، حتى يتحقق قوله. وأيضا لما كان نوره يغلب الأبصار حفظ بَصَره، وكيف يستطيع النور الضعيف الثبات مع القوي، ونحن نشاهد بعض البصر يذهب بنورِ البرق. فإن قلت: لِمَ لَمْ تَصِرْ قلوب العارفين دَكًّا كالجبل وهو يتجلَّى لهم في كل ساعة؟ والجواب: لما تعوّدت القلوب جمالَه ونورَه مّنذ خلقها فاطمأنّت وسكنت. ولو كانت ساعة لدكَّت القلوب كالجبل، فمن ادَّعَى رؤيته بالقلب يصدق قوله بخلاف البصر. (مَن استَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين) : هذا من قول صفورا لأبيها، فقال لها: ما رأيتِ من قوّته وأمانته، فقالت: رفع الحجر الذي على رأس البئر وحده، ولا يرفعه إلا أربعون رجلاً، وكنت أمشي أمامه، فقال: تأخَرِي حتى لا يقع بصري على أعضائك، وجعلت هذه المخاطبة رغبة فيه، لكنها كتمت محبته كزليْخا، قالت: (عسى أنْ ينفَعنا أو نتخذه وَلدا) . وكذلك خديجة بنت خويلد جعلت خدمة سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سبباً للاتصال به، وكذلك أنت يا محمدي، جعل الله لك امتثالَ الأوامر واجتناب النواهي سبباً لإقباله عليك ومواعدتك الجنة إكراماً لك ومحبة فيك، فلما سمع شعيب مقالة ابنته ركب فيه وقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 فقال موسى: ليس لي قدرة على المهر. قال شعيب: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ، فرضي موسى. وجمع شعيب أهْل بلده وعقد النكاح، وسلمها إليه. قال السدِّي: أتى ملك إلى شعيب بعصا موسى، وكانت من سِدْرةِ المنتهى. نزلنها آدم من الجنة. وقيل مِنْ آس فورثها شيث، ثم إدريس، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم إبراهيم، ثم يعقوب، ثم الأسباط، ثم إلى شعيب. فقال لموسى: ادخل البيت، وخذ عصا من بين العصيّ، واذهب نحو الغنم، فدخل موسى وخرج بعصاه، فرآه شعيب، وقال هذه أمانة، ردّها إلى موضعها، وخذ الأخرى، فرجع ووضعها، وأراد أخْذَ الأخرى. فدخلت هذه العصا في يده، وكلما جهد أن يأخذ الأخرى لم يقدر، فأخذ تلك العصا، وذهب نحو الغنم، فقال شعيب: قد ذهب بأمانة الغير، فألحَقه واستردها منه، فأدرك موسى وقال: أعطني العصا، فأبى موسى من إعطائه، فتنازعا واتفقا على أن يحكم بينهما مَنْ لقيهما أولاً، فلقيهما ملك على صورة آدمي، فقال: احكم بيننا. فقال: يا موسى، ضع العصا على الأرض، فإن قدرْتَ أن ترفعها فهي لك، وإن قدر على رَفْعها هو فهي له، فوضع العصا على الأرض، فجهد شعيب على رَفْعها فلم يقدر ألبتَّة، فتناولها موسى بيده ورفعها من وقته، وظهرت منها معجزات كثيرة قدمناها (1) . وكذلك بالخاتم الذي جعله الله العهْد بينه وبين خَلْقه. وخمس أوراق من التين التي كانت تستره: الواحدة أكلتها الظِّباء فصارت مِسْكا، والثانية أكلتها الحوت فصارت في بطنها عنبراً، والثالثة أكلتها النحل فصارت عسلاً. والرابعة الدود فصارت في بطنها إبريسماً. والخامسة جميع الأشجار التي في العالم. والمقام جعله الله آية بيّنة ومصلّى للمسلمين. فتأمل يا محمدّي من اتَّصف بالأمانة من عند الله، وعند خلقه، فإن اتصفتَ بها كم لك من تشريف! ألا تراه يقول: (ألست بربكم) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) .   (1) من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 كأنه يقول: عبدي ليس لي حاجةٌ لطاعتك وخِدْمتك، ولكن أمرتك بالطاعة والعبادة، وحملت عليك البلاءَ والمشقة، وطلبت منك النفس والمال والطاعة في جميع الأحوال، لتعلم أنَّ مرادي منك الوصال، وإنما جعلت الأعمال لقطع تهمة الكفار وطعْنهم. فإن قلت: يشتري أنفسهم وهي له، ولم يقل قلوبهم؟ والجواب إنما قال ذلك على طريق الانبساط، كسيّد يقول لعبده: أقرضني كذا وكذا، واشتر منّي كذا، والمال والنفس له، وإنما أراد أن يريه كمال لطافته بتمام محبته، وأيّ حاجة له في ثمن ببيعك، ولكن ليكون فخرك أكبر، وتعلم أنه يحبُّك ويرضاك، لأن السيد لا يشتري العبد إلا لمحبته فيه، ولا يرضاه عبداً لغيره، ولا يطلب حوائجه إلا منه، وقال أنفسهم، لأن أنفسهم معيوبة، والقلوب نقية، فاشتراء العيوب يدل على أنه لا يرده لعلمه بالعَيب، فاشتراؤه لك يا محمدي، دليل على أنه يريد إصلاح عَيْبك، ومَنْ كان قادراً على إصلاح عيْب السلعة لا يردها في الشاهد، (وَمَنْ أَوفَى بِعَهدِه من الله) . فأوف بعهده، كما قال: (أَوْفوا بعَهْدِي أوفِ بِعَهدِكم) . فلو أراد إبليس أنْ يغْوِيك ويدعو ما ليس فيك لم يقدر، لأن المشتري الأول هو اللَه، والثمن هو الجنّة، والدال على هذا البيع هو رسولنا وحبيبنا، ولذلك دخل الجنة ليلةَ المعراج ليصف لنا الثمن وكيفيته، فأبشروا يا أمة محمد، فأنتم خير أمة، سمّاكم الله أمّة الهداية والدعوة والفضيلة والخير، وسماكم بأسماء الخليل، وأعطاكم خِصَال الكليم، وأكرمكم بإكرام نبيكم الحبيب، قال تعالى في الخليل: (إنّ إبراهيم كان أُمَّةً) . وقال: (كنتم خَيْرَ أمّة) . وقال: (إن إبراهيم كان أمّةً قانِتا لله) . ولكم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) . وقال للخليل: (حَنِيفاً) ، ولكم (حنَفَاء ويقِيموا الصلاة) . وقال في إبراهيم: (شاكرا) . مسلماً. وفياً. وفيكم: الصابرين. والمسلمين. والشاكرين. و (يوفون بالنَّذْر) . وقال في إبراهيم: (صدّيقاً نبيًّا) . وفيكم: (أولئك هم الصديقون) . وقال في إبراهيم: رحيما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 حليما، أوَّاهاً، منيباً. وقال فيكم (رحماء بينهم) . (إنه كان للأوَّابين غفوراً) . (منيبين) وقال للكليم: إني اصطفَيْتكَ. ولا تَخَفْ. ولقد منَنَّا عليكَ مرةً أخرى. ونجَّيْنَاهما وقومهما. وكتبنا له في الألواح من كل شيء. قد أوتيت سؤْلك يا موسى. قد أجيبت دعوتكما. وقرّبناه نجيًّا. وقال لكم: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) . لا تخف. ولا تحزن. ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا. إني معكم. لئن أقمتم الصلاة. بل الله يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان. وننجِّي الذين اتقوا. ثم أورثْنَا الكتاب الذين اصْطَفَيْنَا من عبادنا. وآتاكم من كلِّ ما سألتموه. وقال ربّكم ادْعوني أستَجِبْ لكم. واسجدْ واقترب. ما يكون من نَجْوَى ثلاثة إلا هو رابعهم. وأما إكراام الحبيب فعشرة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) . (وجئْنَا بكَ على هؤلاء شَهيدا) . (أليس الله بكاف عَبْده) . (ألَمْ نشْرح لكَ صَدْرك) . (إنّ الله وملائكتَه يصلّون على النبي) . (يومَ لا يخْزِي الله النبي والذين آمنوا معه) . وقال لكم يا أمّته: (ما يفتح الله للناس مِنْ رَحْمةٍ) . (إن الله يغفِر الذنوب جَميعاً) . (وأتممْتُ عليكم نِعْمَتي) . (وإنّ الله لَهادِ الذين آمنوا) . (إن ينْصرْكم الله فلا غالِبَ لكم) . (لتكونوا شهَدَاءَ على الناس) . (وكفى الله المؤمنين القِتَال) ، (أفَمَنْ شرح الله صَدْره للإسلام) . (هو الذي يصَلِّي عليكم ومَلاَئكته) . (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 اللهم اغفر لنا ولا تؤاخذنا بجاه نبينا وشفيعنا - صلى الله عليه وسلم -. (ما كنْتَ بجانبِ الغَرْبي) : هذا خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به إقامة الحجة، لإخباره بحال موسى وهو لم يحضره. والغربيّ: المكان الذي في غرب الطور، وهو الذي كلَّم الله فيه موسى، والأمر المقضيّ إليه هو النبوءة. (ما كنْت من الشاهدين) : يعني من الحاضرين هناك على هذه الغيوب التي أخبرناك بها، ولكنها صارت إليك بوَحينا، فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك وامتثال أمرك، (ولكنا أنشأنا قرونا) ، بعد زمان موسى، فتطاول عليهم العمر، وطالت الفَتْرة. فأرسلْناك على فترة من الرسل، فغلبت عقولهم، واستحكمت جهالتهم، فكفروا بك. (مَقْبوحين) : مطرودين مبعدين. وقيل قبحت وجوههم لسوادها وزردة أعينهم. يقال قبح الله وجهه - بتشديد الباء وتخفيفها. (مَنْ أحببت) : الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وسبب نزولها إعراض عمِّه عن الإسلام لما قال له: يا عمّ، قل لا إله إلا الله. كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال: أخاف أن تعيِّرني قريش، ومات على الكفر، فأنزل الله عليه: (إنك لا تهدي مَنْ أحبَبْت) . ولفظ الآية مع ذلك على عمومه. (مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) . أمُّ القرى: مكة، لأنها أول ما خلق من الأرض، ولأن فيها بيت الله. والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمّها، فإن كفروا أهلكهم الله بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم. (وما أوتيتمْ مِنْ شيء) : تحقير للدنيا وتزهيد فيها، وأنها لا قيمة لها، وما عند الله خير وأبقى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 (أَفَمَنْ وَعَدْنَاه وَعْداً حَسَناً) : هذه الآية إيضاح لما قبلها من البَوْنِ بين الدنيا والآخرة. والمراد بمن وعدناه المؤمنون، وبمن متعناه الكافرون. وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأبو جهل. وقيل حمزة، وأبو جهل. والعموم أحسن لفظاً. (ماذا أَجَبْتئم المرْسَلِين) : أي هل صدقتموهم أو كذبتموهم، فلا يدرون جواباً، لما يرون من الأهوال، ولا يسأل بعضهم بعضاً لتساويهم في الحيرة. (ما يشاء ويختار) ، أي يخلق ما يشاء من الأمور على الإطلاق، لأنه أعلم بمصالحها، لا يسأل عما يفعل. وقيل سببها استغراب قريش لاختصاص نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوّة. (ما كان لهم الخِيرَة) : (ما) نافية. والمعنى ما كان للعباد اختيار، إنما الاختيار والإرادة للهِ وحده، فالوقفِ على قوله: ويختار. وقيل: إن (ما) مفعول لـ (يختار) . ومعنى (الخِيَرة) على هذا الخير والمصلحة. وهذا يجري على قول المعتزلة، وذلك ضعيف لرفع (الخِيَرة) على أنها اسم كان، ولو كانت (ما) مفعولة لكان اسمها مضمراً يعود على (ما) وكانت. (الخِيَرة) منصوبة على أنها خبر كان. وقد اعتذر عن هذا مَنْ قال إن (ما) مفعولة بأنْ قال: تقدير الكلام يختار ما كان لهم (الخِيَرة) فيه، ثم حذف الجار والمجرور، وهذا ضعيف. وقال ابن عطية: يتجه أن تكون (ما) مفعولة إذا قدرت كان تامة، ويوقف على قوله. (ما كان) ، أي يختار كل كائن، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة، وهذا بعيد جدا. (ما إنَّ مَفَاتِحَه) : هي التي يفتح بها. وقيل هي الخزائن. والأول أظهر. وكانت مفاتيح خزائنه حمل مائة بعير. وفي رواية سبعين بعيراً (1) .   (1) يحتاج إلى دليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 قال مجاهد: وكان وزن كل مفتاح درهما. وفي رواية وزن نصف درهم. ويفتح بكل مفتاح سبعون باباً. فلما جمع المال ترك النوافلَ من العبادات، فأمر الله تعالى موسى أن يطلب منه زكاةَ أمواله، فحسب مقدارَ زكاته فرآه كثيراً، فلم يؤدّه، وكان يركب عنده ألف غلام وألف جارية بسروج من ذهب، وثيابهم من ذهب (1) . (مكانَه بالأمْسِ) : تمنّى بنو إسرائيل مكانَ قارون لما رأوا من مركبه، وما أعطاه اللَّهُ من الزينة والحشم، فلما امتنع قارون من الزكاة ألحَّ عليه موسى، فقال له: اجمع أهل مصر غداً، فإن غلبتني بالحجة أعطيتك زكاة المال. فدعا قارون امرأةً ذات حسن وجمال، وقال لها: إني أجمع بني إسرائيل، فإن شهدت على موسى بالفسق، وقلتِ أنا حاملة منه أعطيتك ما أغنيك، فقبلت. ثم جمع قارون بني إسرائيل في داره، ودعا موسى، فقالت بنو إسرائيل: عِظْنَا موعظةً. فوعظهم، وقال: من سرق مالاً قطِعت يده، ومن زنى بامرأة قتل. فقال قارون: إن فعلتَ ما قلت فكيف الحكم عليك، فقال موسى: إن فعلتُ وجب عليَّ الحكم. فقال قارون: لي شاهد بأنك زنيت بهذه المرأة وهي حامل منك. فأشار إليها وقامت، وأوقع الله الرعْبَ في قلبها، وحوَّل لسانها من الكذب إلى الصدق، وقالت: إن موسى بريء مما يقوله قارون - وأقرَّتْ بقول قارون لها، وإني أخاف الله من ذلك، هو رسوله وكليمه. فغضب موسى عليه وناجى واشتكى من قارون، فجاءه جبريل وقال: يا موسى، إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: جعلت الأرض في أمرك فأي شيء تأمرها فهي مطيعة لك في إهلاك قارون. فرجع موسى إليه وهو جالس على السرير متّكئاً على فراش من ديباج، فضرب موسى عصاه على الأرض، وقال لها: خذِيه، فأخذَتْه إلى ركبتيه، فتضرع إلى موسى فلم يلتفت إلى قوله، وهو يستغيث إليه مراراً، ويعرض عنه، فقال الله له: يا موسى، استغاث بك أربع مرات فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي مرةً واحدة لأغَثْته، فحينئذ قام   (1) لا يخفى ما فيه من بعد بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 الذين تَمَنَّوْا مكانه بالأمس يقولون: (ويكأن الله يبْسط الرزْقَ لمن يشاء) . وخسف الله به وبداره الأرض، لأنه لو لم يخسف بداره لقالت بنو إسرائيل: دعا عليه موسى ليأخذ ماله، فانظر هذه الرحمة الشاملة حيث عاتب كليمَه على عدوه وقوله لو: لو استغاث بي لأغثته، وإن لم تعمل على هذا فاقرأ قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسْرَفوا على أنفسهم..) . وإضافته إليك في قوله: (وإلهكم إله واحد) . فما أشرفها من إضافة! وما أحسنه من تشريف! ولذلك يقول تعالى: خلقت الأشياء كلَّها لك، وخلقتك من أجْلِي، فكلهم لك، وأنا لك، فإذا كنتَ لي فأيّ شيء يبقى لإبليس معك. وسمّى العبد عبدا، لأنه محل العَصا، ومسلكه العيوب، ولما أضاف العبد إلى نفسه خاف أن يسلبه إبليس من الله عز وجل فقال: (وهو معكم) ، فأضافه إلى نفسه حتى لا يقدر إبليس أن يسلبه منه، وليس لك الفخر أيها العبد بنسبتك لسيدك، بل الفخر لك لأنه إلهك والإله يرزقك، وإن عملت عملاً قَبِله منك، وإن أذنبت ذنوبا غفرها لك، وأنت تشاهد العبد يسمِّي عَبْدَه باسم لا يقدر أحد أن يرفعه ما دام سيده حيًّا، وهو تعالى أضافك إليه شئت أو أبيت، ويكفيك من محبته لك ولطفه بك أنه قال: (أسرفُوا على أنفسهم) ، ولم يقل أسرفتم، لئلا يخجل العاصي، ويفتضح، وتستُّراً عليه حتى لا يهتك ستره ما لم يشرك به، فإنْ رجع بعد الشرك قَبِله وأقبل عليه، ولذلك قال تعالى: (إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذنوبَ جميعاً) ، ومعاصيك أيها العبد بين اثنين، في الله وفي الرسول، فأما التي في الرسول فقد شفع الله فيك، وقال له: (فاعْفُ عنهم واستَغْفِر لهم) . والتي في الله يأمر الرسول أن يشفع فيك إلى الله. وذنوبك أيضاً لا تخرج من اثنين: إما صغيرة فهي مغفورة باجتناب الكبائر، قال تعالى: (إن تجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْن عنه نُكفّرْ عنكم سيًئَاتِكم) . وإما كبيرة فقد ادَّخر لكَ الرسولُ الشفاعة فيها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ادخرْتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". قال الحسن البصري: كنتُ مارًّا بمكة فسمعتُ امرأةً تقول لزوجها: كل إساءةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 فعلتها بي فلا بَأسَ عليك إذا لم تبدّل بي غيري ولم تشرك غيري معي. فقلت: هذه مثل قوله تعالى: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِر أن يشْرَك به) . وسمع نصراني امرأة تقول لزوجها: أنا ومالي لك ما لم تشرك معي ضرة. فقال: هذا مخلوق لا يرضى بشريك معه، فكيف بالخالق، فأسلم من الشرك. وقال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي، كاد رجائي قبل المعصية يقارب رجائي قبل الطاعة، لأنه بطاعة العبد يظهَر من الله العدل وهو الثواب، وبمعصيته يظهر منه الفضل وهو الرحمة. وقال أيضاً: مثل المؤمن طاعة واحدة بعشرة أمثالها ومعصيته بين ثلاث: طاعة الندامة والخوف والرجاء، وكان من دعائه: إلهي، إنْ تعذِّبني يفرح إبليس ويحزن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن تعْفُ عني يفرح نَبييِّ ويحزن عدوِّي، وأنا أعلم أنك لا تريد شماتةَ العدوّ وحزْنَ الحبيب، وقد قلت: (أني أنا الغَفور الرَّحيم) . فإن قلت: هل بين هذين الاسمين فرق، وهل الغفار والغافر بمعنى الغفور. وَلِمَ لَمْ يَقُلْ في العذاب: أنا المعذّب، بل قال: (وأْنَّ عذَابي هو العذاب الأليم) ؟ فالجواب أن الغفور للعصاة يغفر لهم جمع معاصيهم، والرحيم للمطيعين يقبل جميعَ طاعاتهم مع التقصير. والغافر للذنب والغفّار مبالغة للذنوب الكثيرة. قال تعالى: (وإني لغَفَّارٌ) ، والغفور لتعجيل المغفرة، قال تعالى: (إنه كان للأوَّابين غفورا) . وبالجملة فله سبحانه مائة اسم، التسعة والتسعون أخبرك بها نبيك، فكلما ذكرته بها ذكرك بتسعة وتسعين رحمة من عنده، وإنما قال عذابي، لأن المغفرة صفة والعذاب فعل، والفعل يجوز أن يكون وألاَّ يكون، والصفة لا تجوز إلا أن تكون ألبتة. (مَعَادٍ) : المعاد: الموضع الذي يعاد إليه، يعني مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 ونزلت الآية حين الهجرة، ففيها وَعْدٌ بالرجوع إلى مكة وفَتْحها، وفيها خاصية لمن أراد من المسافرين الرجوعَ إلى وطنه فليقرأها حين خروجه يعدْ إليه. وقيل يعني الآخرة، ففيها الإعلام بالحشر. وقيل يعني الجنة. (مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ) ، أي ما كنت تطمع أن تنالَ النبوءة، ولا أن ينزل عليك الكتاب، ولكن الله رحمك بذلك، ورحم الناس بنبوءَتكَ. والاستثناء بمعنى لكن هو منقطع. ويحتمل أن يكون متصلاً، والمعنى ما أنزلنا عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لكَ أو للناس، ورحمة على هذا مفعول من أجله، أو حال. وعلى الأول منصوب على الاستثناء. (مَنْ كان يَرْجو لِقَاءَ اللهِ ... ) .، الآية، تسلية للمؤمنين، ووَعْد لهم بالخير في الآخرة، والرجاء هنا على بابه. وقيل هو بمعنى الخوف. (مَنْ جاهد فإنما يجَاهِد لنَفْسِه) ، أي منفعة جهاده إنما هي لنفسه، فإن اللَهَ لا تنفعه طاعة العباد. والمراد بالجهاد هنا إمّا جهاد النفس، وهو أعظم من جهاد العدو، لقول عمر رضي الله عنه: رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. (مَنْ يقول آمَنّا بالله) : نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم، فإذا عذَّبهم الكفار رجعوا عن الإيمان، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا: إنا كنَّا معكم. (مَوَدَّةَ بيْنِكم) : بنصب مودة: على أنه مفعول من أجله، أو مفعول ثان لاتخذتم، ورفعها على أنه خبر ابتداء مضمر، أو خبر إن وتكون (ما) موصولة. ونصب بينكم على الظرفية وخفضه بالإضافة. (ما كانوا سابِقين) . رأى لم يفوتوا مَنْ أرسلنا عليه حاصباً، إن أراد بالحاصب الريح، فيعود على قوم عاد، وإن أراد به الحجارة فيعود على قوم لوط، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 واستعمال اللفظ الواحد في معنيين جائز للآية: إن الله وملائكته يصلّون على النبي. ويقرب ذلك هنا، لأن المراد ذكر أحد أصناف الكفَّار. (مَنْ أخذَتْه الصَّيْحة) : كثمود، ومَدْين. (مَنْ خَسَفْنَا به الأرْضَ) : كقارون وأصحابه. (مَنْ أغرقنا) : قوم فرعون وقوم نوح. (مثَل الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللَهِ أوْلياءَ كمثَلِ العَنْكَبوتِ) . شبّه الله الكفارَ في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفاً. فكما أنَّ ما اعتمدت عليه العنكبوت من بيتها ليس بشيء كذلك ما اعتمدت عليه الكفَّار من آلهتهم ليس بشيء، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون. (ما يَدْعونَ مِنْ دونه مِنْ شيء) : (ما) موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذىِ قبلها، أو هي نافية والفعل معلّق عنها، والمعنى على هذا: ألستم تدعون من دونه شيئاً له بالٌ، فيصح أن يسمى شيئاً. (مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) . في هذه الآية احتجاج على أنَّ القرآن من عند الله، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء بالقرآن. واختلف هل كتب بيده - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنه كتب في عمرة الْحدَيْبية اسمه - صلى الله عليه وسلم - لما طلب منه عمر أن يغيِّر محمد رسول اللَه فأَبى عليٌّ من تغييره وقال: والله لا أغيِّر اسمك لأجل قريش. وقد ألف الباجي فيه تأليفاً. فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك) ؟ فالجواب أنَّ ذلك تأكيد للكلام وتصوير للمعنى المراد. (مَوَدةً ورحمةً) : يعني الجماع، ورحمة: الولد. والعموم أحسن وأبلغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 (مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) . قد قدمنا في غير ما موضع أن هذا إنعاء على المشركين، لأنهم يدعون الله في الشدائد، ويشركون به في الرخاء. (مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) . هذه الآية معناها كالذي تقدم في قوله: (يَمْحَق اللَّهُ الرِّبَا ويربِي الصَّدَقَاتِ) ، ومعناها ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يَزْكُو عند الله، وما آتيتم من الصدقات فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به. وقيل المراد أن يهب الرجل أو يُهْدي له ليعوضه أكثر من ذلك، وإن كان جائزاً فإنه لا ثواب فيه. وقرئ: وما آتيتم بالمد بمعنى أعطيتم. وبالقصر بمعنى جئتم به، أي فعلتموه. وقرئ لتُربوا - بضم التاء. وليربوَ - بالياء مفتوحة ونصب الواو. (من يُسْلِمْ وَجْهَة إلى الله) : الوجه هنا عبارة عن القصد. يعني يستسلم وينقاد لربوييّته. (ما في الأرض مِنْ شَجَرةٍ أقْلام..) . إخبار بكثرة كلمة الله، والمرادُ اتساع عِلْمِه، ويعني أنه لو كانت شجرة الأرض أقلاماً والبحور مِدَاداً تصبّ فيه صَبّاً دائماً، وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهيةٌ، وكلمات الله غير متناهية. فإن قلت: لِمَ لَمْ يقل: (والبحر مداداً) ، كما قال في الكهف؟ فالجواب أنه أغنى عن ذلك قوله: "يَمدّه"، لأنه من قوله مدّ الدواة وأَمدها. فإن قلت: لِمَ قال من شجرة ولم يقل من شجر - باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 فالجواب أنه أراد تفصيلَ الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة. فإن قلت: لم قال: (كلمات الله) ولم يقل كلم الله. بجمع الكثرة؟ فالجواب أن هذا أبلغ، لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنها جَمْع قلةٍ فكيف ينفد الجمع الكثير. وروي أن سبب نزول الآية قول اليهود قد أوتينا التوراة وفيها العِلْم كله. فنزلت الآية، لتدلَّ على أنَّ ما عندهم قليل من كثير، والآية على هذا مدنية. وقيل سببها أنَّ قريشاً قالوا: إن القرآن سينفد. (مولودٌ هو جَازٍ عن وَالدِهِ شَيْئاً) : يعني أنَّ الوالد لا ينفع ولده، والولد لا ينفع والده، لأن كلَّ واحد مشغول بنفسه. فإن قلت: ما فائدة إبراز الضمير في الولد دون الوالد؟ قلت: لِمَا جُبل عليه الوالد من المحبة والشفقة لولده، بخلاف الولد، فإنه لا يصل لتلك المحبة والشفقة، ولو كان في غاية البر. (مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) : أي من خير أو من شر، أو طاعة أو معصية، أو عافية أو بلية، وفيه الإشارة إلى أنَّ العاقل ينظر ما يفعل الله به، فيسلّم له أموره، ويشكره على النعم، ويتوب إليه من المعاصي، ويصبر للنقم. (مَلَك الْمَوْتِ) : اسمه عزرائيل، تحت يده ملائكة، وبهذا يجمع بين قوله: (قل يتوَفَّاكمْ مَلَكُ الموت) . وبين قوله: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) ، وسبب توليته لقَبْض أرواح بني آدم: استغاثة القَبْضَة من التراب التي خلق الله منها آدم، فقال لها: امتثال أمر الله أولى من رحمتك، فلما ولاه على قبض الأرواح قال: يا رب، يسبونني ويبغضونني. فقال الله له: سأجعل لموتهم أسباباً من مرَضٍ وغَرَق، وحرق وقَتْل، حتى لا يذكروك. (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : يعني أنه لا يعلم أحد مقدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 ما يعطيهم الله من النعيم، ورضوان الله أكبر من ذلك. وقرئ بإسكان الياء، على أن يكون فعل المتكلم، وهو الله تعالى. (أفمَنْ كان مؤْمِنا كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوون) : يعني المؤمنين والفاسقين على العموم. وقيل المؤمن علي بن أبي طالب، والفاسق عقبة ابن أبي معيط. (ماءٍ مَهين) ، أي ضعيف. وفيه إشارة إلى الاعتبار بهذه الخلقة من نطفة مذرة، ويحمل في جوفه العذرة، ويرجع جيفة قذرة، فيعرف نفسه، وينزلها منزلتها من الضعف والافتقار، ويدع العزةَ والاستكبار. (ما جعَلَ اللَّهُ لرجل مِنْ قَلْبَيْن في جَوْفِهِ) ، لأنه كالإناء إذا ملأته بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مجَال، وهذا هو السبب في زهد أهل الصفوة في الدنيا لئلا تشغلهم عن محبوبهم. قال ابن عباس: كان في قريش رجل يقال له ذو قَلْبين لشدة فهْمه، فنزلت الآية، نفَتْ ذلك. ويقال إنه ابن خَطَل، وقيل جميل بن معمر. وقيل: إنما جاء هذا اللفظ توطئةً لما بعده من النفي، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم. فإن قلت: قد قال الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) . وفي قراءة أبي: وهو أبٌ لهم - فما فائدة هذا النهي؟ فالجواب أنه أولى بهم من أنفسهم في شفقته عليهم وإنقاذهم من النار. ألا ترى أنه في الدنيا قال: أمَّتي أمَّتي. وفي الحشر: لا أسألكَ فاطمةَ ابنتي ولا نفسي، وإنما أسألك أمتي. وفي الصراط: اللهم سلِّم أمتي. وفي الحساب: لا تفضح أمتي. وفي الميزان يا إسرافيل أرجح لأمتي. ولا يرضى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبقى أحد من أمته في النار. فيجب علينا حبّه أكثر من أنفسنا، وننصر دينه، ونترك حمية أنفسنا، ونجعل لأزواجه الرضا والمبرة أكثر من أمهاتنا، وإن أوجب الله عليهم حَجْبهن عنا فلعظيم حرمتهنّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وأما كونه أباً لنا فالأَوْلَى نسبتنا لآبائنا، كما قال تعالى: (ادْعوهم لآبائهم ... ) ، الآية، وسيأتي سِرُّ نسبتنا إلى أبينا إبراهيم، وذلك أنه أمر بذَبْح ولده، فقال: (إني أرى في المنَامِ أني أذْبَحُك) ، فقال الله: يا إبراهيم أرسلتك بالمشاورة، فبعزّتي إن نظرت إليَّ دون الولد، وقطعت عنه قلبك، وسلّمت لأمري لأجعلن أمة محمد أولادك. قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) . وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم ينظر إلى شيء دون الله ألبتة: ليلة المعراج عرض عليه جميع الأشياء فلم يلتفت إلى شيء دونه، وهذا قوله: (ما زَاغَ البَصَر وما طَغَى) ، فلما لم ينظر عليه السلام إلى شيء دونه قطع عنه نسب المخلوقين، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) ، ولو كان النبي أبانا انقطع عنا لجُرْمِنا، كما أن يعقوب قطع عن أولاده بالجرم، بل كان نبيّاً، فلا يقطع عنا بالْجرم. ولما كان الأب لا تقبل شهادته لابنه وهو - صلى الله عليه وسلم - شهيداً علينا ومزكياً لأعمالنا فتقْبل تَزْكيته. (معروفاً) ، أي إحساناً، يعني أن نَفْع الأولياء الذين ليسوا بقرابة الوصية لهم عند الموت مندوب إليه، وأما الميراث فللقرابة خاصة. واختلف هل المراد بالأولياء المؤمنون أو الكفار، واللفظ أعمّ من ذلك. (مسطورا) : مكتوباً. (ما تَلَبَّثوا بها إلاَّ يسيرا) : الضمير للمدينة. (ما وعدَنا اللَّهُ ورسوله إلا غرورا) : قيل إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمر بحَفْر الخندق من أنَّ الكفار ينزلون عليهم، وأنهم ينصرفون خائبين. وقيل: إنه قول الله تعالى: (أم حَسِبْتم أن تَدْخلُوا الجنّةَ ولمَّا يَأْتِكم مَثَل الذين خَلَوْا مِنْ قَبْلكم ... ) . فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرفون. (مَنْ قَضَى نَحْبَه) : يعني من قتل شهيداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 كأنس بن النضر، وحمزة بن عبد المطلب. وقيل قضى نحبه: وَفَى للعهد الذي عاهد الله عليه. ويدل غلى هذا قوله عليه إلصلاة والسلام: طلحة ممَّنْ قَضَى نَحْبَه ولم يقتل يومئذ. (مَنْ يَنْتَظِر) : المفعول محذوف، أي ينتظر أن يقضي نحبه، وهو انتظار الشهادة على قول ابن عباس، أو ينتظر الحصولَ على أعلى مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر. (مَنْ يقْنُتْ مِنكُنَّ) : الضمير عائد على أزواج نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي من يأْتِ منهن بعمل صالح يُضاعف لها ثوابه، لفضلهن على الله، كما أن من أتى منهن بعمل سيئ يُضاعف على البناء للمفعول، وبالنون ونصب العذاب على البناء للفاعل. وقرئ أيضاً من تقنت - بالتاء - حملاً على المعنى، وبالياء حملاً على لفظ مَنْ. (ما كان لمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ ... ) : معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله. والضمير من قوله: (مِنْ أمرهم) - راجع إلى الجَمْع الذي يقتضيه قوله: لمؤمن ولا مؤمنة، لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات. وهذه الآية موطّئة للقضية المذكورة بعدها. وقيل: سببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب امرأة فزوَّجها لمولاه زيد بن حارثة. فكرهت هي وأهلها ذلك، فلما نزلمت الآية قالوا رَضينا يا رسول الله. وهذه الآية كقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) . وكقوله: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عَن امرِه أنْ تُصيبَهم فِتنة) . (إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليَحْكُمَ بينهم أنْ يَقُولوا سمِعْنَا وأطَعْنَا) . (ما كان مُحَمّد أبا أحدٍ مِنْ رِجالكم) : هذا ردّ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 مَنْ قَال في زيد بن حارثة زيد ابن محمد، فاعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين تزوّج امرأة زيد. وعموم الآية في النفي لا يعارضه وجود الحسن والحسين. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لهما أب في الحقيقة، وإنما كانا ابني ابنته. وأما ذكور أولاده فماتوا صغاراً فليسوا من الرجال. (ما ملكَتْ يمينك مِمّا أفاء اللهُ عليكَ) : في هذه الآية إباحة السَّرارِي لمولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يملك منهن غير مارية وريحانة. وما أفاء الله عليه: الغنائم، ومنهن صفية، لكنه أعتقها، وجعل عتقها صداقها. (ما الله مُبْدِيه) : روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب يوماً لزيارة زَيْد، فخرجت زينب كالشمس الضاحية، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فلما جاء زيد أخبرته بقوله - صلى الله عليه وسلم -، ففهم أنها أعجبته، ومِنْ خصائصه - صلى الله عليه وسلم - إذا وقع بصره على امرأة وأعجبته وجب على زوجها طلاقها رِضاً له - صلى الله عليه وسلم -، فأتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: قد طلقتُ زينب يا رسول الله (1) . فقال له: أمْسِكْ عليك زوْجك واتق الله، فأبْدَى الله ذلك بأن قَضَى الله بتزويجها. قالت عائشة رضي الله عنها: لوَ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه. فإن قلت: قد حرم الله عليه خائنةَ الأعين، فكيف أخفى في نفسه حبَّه طلاقها من زيد؟ فالجواب أن الذي أخفى إنما هو أمر مباح لا إثم فيه ولا عَيب، أشفق على أمّته من التسلُّط عليه بألسنتهم، فيكون فيه هلاكهم، وتأمَّل قولَه في أم سلمة لما أتته في معتكفه، وانطلق معها بغَلس ولقيه الصحابة وهو معها، فقال: إنها أمّكم أمّ سلمة. فقالوا: أو تحدثنا أنفسنا بذلك، وأنتَ رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فأبدى الله زواجَها منه، وبهذا كانت تفخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: إن الله زوَّجني من فوق سبع سموات.   (1) رواية لا تصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وقيل: إن الله كان أوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد، فأخفاه، فأعلمه الله في كتابه. (ما فَرضْنَا عليهم في أزْوَاجِهم) : يعني أحكام النكاح، والصداق، والوليّ، والاقتصار على أربع، وغير ذلك. (مَنِ ابْتغَيْتَ مِمَّنْ عزَلْتَ فلا جُنَاحَ عَلَيْكَ) : في معناه قولان: أحدها: من عزلْتَه من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزْله. والآخر: مَن ابتغيت ومَنْ عزلت سواء في إباحة ذلك لك. فمن للتبعيض على القول الأول، وأما على الثاني فنحو قولك: مَنْ لقيته ممن يلقاك سواء. (ما ملكتْ يمِينك) : المعنى أنَّ الله أباح الإماء، فالاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء، أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسْنُهُنّ. (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) . تكرير الآيات القرآنية في إذايته - صلى الله عليه وسلم - إشارةٌ لعظيم ذلك، وإذا نهى الله عن الجلوس في بيته للحديث والاستئناس فما بالك بمن تنَقَّصه أوْ عَابَه أو آذاه، وهذا لا يشكّ أحدٌ في كفره. وقد ألف الناس في هذا المعنى تواليف، ومن أوكد احترامه الاستماعُ لحديثه والصلاةُ عليه عند ذكره. وأما تحريم أزواجه فسببه أنَّ بعضهم قال: لو مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجتُ عائشة، فحرّم الله على الناس تزوجهن، وهذا في مدخولته، وأما غير المدخول بها فجائز. وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل إحداهن، فلم ينكر عليه الخلفاء رضي اللَه عنهم. (ما اكْتَسَبوا) : يعني اجترحوا. وفي الآية تنبيه على أنَّ ذلك هو البهتان، وهو ذِكْر الإنسان بما ليس فيه، وهو أشد من الغيبة مع أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 محرَّمة، وهي ذِكْره بما فيه مما يَكْرَه، وإذا أردت أن ترف عظيم مرتكبها فقِسْ ما بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل أن يطأ الرجل أمّه ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مِن أرْبَى الرِّبا استطالة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق " - يظهر لك عظيم ما نحن فيه من الهلاك إن لم يعْف عنا مولانا، فعليك بدعاء آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) . فسمع نداءه فتاب عليه وهَدَى. (مَلْعونين) : نصب على الذم، أو بدل من قليل، أو حال من ضمير الفاعل في: (يجاورونك) ، تقديره: سيقفون ملعونين. (ما يَلِج في الأرض) : أي ما يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك، وما يخرج منها من النبات وغيره. (وما ينْزِل من السماء) : من المطر والملائكة والرحمة والعذاب. (وما يَعرجُ فيها) : أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها. (ما بَيْنَ أيْدِيهم وما خَلْفَهم من السماء والأرض) : قد قدمنا معناه. والمعنى هنا أو لم يروا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما قادر على بعْثِ الناس بعد موتهم. ويحتمل أن يكون المعنى تهديداً لهم لقوله: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) . (مَسْكنِهم) : الإشارة إلى قوم سبأ، وقد قدمنا أن مساكنهم كانت بين الشام واليمن، وكان الرجل منهم لا يتزود ويمشي في ظل الشجر، ولا يخاف من أحد، فكفروا بأنْغم الله، وقالوا باعِدْ بَيْنَ أسفارنا ليتزّودوا للأسفار ويمشوا في المفاوِز، فجعل الله إجابتهم كما قال: (مَزّقناهم كل ممَزَّق) ، أي فرّقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم، فقيل: تفرّقوا أيْدي سبأ. وفي الحديث: إن سبأ أبو عشرة من القبائل، فلما جاء السيل على بلدهم تفرّقوا فتيامَنَ منهم ستة، وتشاءم أربعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 (ماذا قال ربُّكم) : تظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ هذه الآية في الملائكة عليهم السلام، وقد قدمنا معنى ذلك. (مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) . معناها يحتمل وجهين: أحدهما ليس عندهم كتاب يدل على صحة أقوالهم، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه، فأقوالهم باطلة، إذ لا حجة لهم عليها، فالقصد على هذا الرد عليهم. والآخر أنه ليس عندهم كتاب ولا جاءهم نذير، فهم محتاجون إلى مَنْ يعلمهم وينذرهم، فلذلك بعث الله إليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فالقصد على هذا إثبات نبوءته. (ما بلَغوا مِعْشَارَ ما آتَيْنَاهم) : المعشار: العشر، والضمير في بلغوا لكفّار قريش، وفي آتيناهم للكفار المتقدمين، أي أن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله المتقدمين من القوة والأموال. وقيل الضمير في (بلغوا) للمتقدمين، وفي آتيناهم لقريش، أي ما بلغ المتقدمين عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة. والأول أصح -، وهو نظير قوله: (كانوا أشدَّ منهم قوة) . (ما بِصاحِبِكم مِنْ جِنَّة) : الضمير لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم إذا تفكروا في أقواله وأفعاله دلَّهم ذلك على رَجَاحة عقله، ومتانة علمه، وأنه ليس بمجنون ولا مفْتَرٍ على الله. (ما سألْتُكم مِنْ أجْر فهو لكمْ) : هذا كما يقول الرجل لصاحبه إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً، ولكنه يريد البراءة من عطائه، فكذلك معنى هذا، فهو كقوله: (قل ما أسألكم عليه مِنْ أجْر) . وقيل معناه: ما سألتكم من الصلاة فهو لكم. (ما يَشْتَهون) : الضمير للكفار، يعني أنهم يريدون الرجوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 إلى الدنيا، أو دخول الجنة، أو الانتفاع بالإيمان حينئذ، فئحَال بينهم وبين شهوتهم. (ما يفْتَح اللَّهُ للناسِ مِنْ رَحمة) . الفتح في هذه الآية: عبارة عن العطاء، والإمساك عبارة عن الْمَنْع، والإرسال والإطلاق بعد المنع، والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خير الدنيا والآخرة. فمعنى الآية لا مانع لما أعطى الله، ولا معْطي لما منع. فإن قيل: لم أَنّث الضمير في قوله: (فلا ممسك لها) ، وذكّره في قوله (فلا مرسل له) ، وكلاهما يعود على ما الشرطية؟ فالجواب أنه لما فَسَّر الأول بقوله: (من رحمة) - أنث لتأنيث الرحمة، وترك الآخر على الأصل من التذكير. (أفمنْ زُيِّنَ له سوءُ عَملِه) : توقيف، وجوابه محذوف، تقديره أفمن زيِّنَ له سوءُ عمله كمن لم يزَيّن له. ثم بنى على ذلك ما بعده، فالذي زين له سوءُ عمله هو الذي أضلَّه الله، والذي لم يزينّ له سوء عمله هو الذي هداه. (مَكْر أولئكَ هو يَبور) . قد قدمْنَا في حرف الباء أنَّ البَوارَ معناه الهلاك، ومعناه هنا أنَّ مكرهم يبطل ولا ينفعهم. (ما يعَمَّر مِنْ معَمَّر) . معناها أنَّ التعمير - وهو طول العمر، والنقص وهو قصره - مكتوب في اللوح المحفوظ. فإن قيل: إن التعمير والنقص لا يجتمعان في شخص واحد، فكيف أعاد الضمير في قوله: (ولا ينْقَص من عمره) على الشخص المعمر؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: وهو الصحيح - أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، فوضع من معمر في موضع من أحد، وليس المراد شخصاً واحدا، وإنما ذلك كقولك: لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 والثاني: أن المعنى لا يزَاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، وذلك أن يكتبه في اللوح المحفوظ إن تصدَّق فلانٌ فعمره ستّون سنة، وإن لم يتصدق فعمره أربعون، وهذا ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلَة الرحم تزيد في العمر، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين، وليس مذهب الأشعرية. وقد قال كعب حين طعن عمر: لو دعا الله فزاد في أجله، فأنكر الناس ذلك عليه، فاحتج بهذه الآية. والثالث: أن التعمير هو كَتْب ما يستقبل من العمر، والنقص هو كتب ما مضى منه في اللوح المحفوظ، وذلك في حق كل شخص. (ما يَسْتَوِي البَحْرَان) : قد قدمنا معنى البحرين، والقَصْد في هذه الآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده. وقال الزمخشري: إن الله ضرب البحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر، وهذا بعيد (مَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) : الآية تمثيل لمن آمن، فهو كالحيّ، ومن لم يؤمن فهو كالميت. وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، عبارة عن عدم سمع الكفَّار للبراهين والمواعظ، فشبّههم بالموتى في عدم إحساسهم. وقيل المعنى أنَّ أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون، فليس عليك أن تسمعهم، وإنما بعثت إلى الأحياء. وقد استدلت عائشة بالآية على أنَّ الموتى لا يسمعون، وأنكرت ما ورد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِقَتْلى بَدْر حين جعلوا في القَلِيب، وقوله: ما أنت بأسمع لما أقول لهم منهم، ولكن يمكن الجَمْع بين قولها وبين الحديث بأن الموتى في القبور إذا رُدَّت إليهم أرواحهم سمعوا، وإن لم ترد إلى أجسادهم لم يسمعوا، فردَّ اللَه إلى أهل القليب أرواحهم ليسمعوا خطابه - صلى الله عليه وسلم - تهويلاً لهم وحسرةً في قلوبهم. (ما أُنْذِرَ آباؤهم) : (ما) نافية. والمعنى لم يرسَل إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ولا لآبائهم رسول ينذرهم. وقيل المعنى لتنذر قوماً مثل ما أنذر آباؤهم، فما على هذا موصولة بمعنى الذي أو مصدرية، والأول أرجح، لقوله: (فهم غافلون) . يعني أنَّ غفلتهم بسبب عدم إنذارهم، ويكون بمعنى قوله: (ما أتاهم مِنْ نذير) . ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقدمون. (مَنِ اتّبعَ الذكرَ وخَشِيَ الرحْمنَ بالغَيْبِ) . أي غير مشاهِدٍ له، إنما يصدّق رسوله ويسمع كتابه. فإن قلت: كيف قرن بالخشية الاسم الدالَّ على الرحمة في يس وق، وفي فاطر، أضافه للربوبية؟ وجوابك: معناه في فاطر أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشَوْن ربَّهم وهم غائبون عن عذابه وغائبون عن الناس، فخشيتهم حقّ لا رياء، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار. بالغيب في موضع الحال من الفاعل في " يخشون "، وإنما ذكر الرحمة مع الخشية لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله، لأنه يخشاه مع علمه بحلمه ورحمته. قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن قد صار يستعمل استعمال الاسم، كقولنا الله. (مَنْ لا يَسْألكم أجْراً) : هذا من قول حبيب النجار لقومه، يعني أن هؤلاء المرسلين لا يسألونكم أجرة على الإيمان فتخسرون معهم ويثقل عليكم، وإنما يطلبونكم لمنفعتكيم الأخروية، والذي يطلبك لنفسك من غير طمع في دنياك أوْلى باتباعه لتمحض نصحه، ثم دلّهم على اتباعه. (مالي لا أَعْبدُ الذي فَطَرنِي) : معناه أي شيء يمنعني عن عبادة ربي، وهذا توقيف وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ولذلك قال لهم: (وإليه ترجعون) ، فخاطبهم بخطاب من يشاهدون رجوعَ قومهم واحدا بعد واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 (ما أنزلْنَا على قَوْمه مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جنْدٍ من السماء) : المعنى أن الله أهلكهم بصيْحَةٍ صاحها جبريل، ولم يحتَجْ في تعذيبهم إلى إنزال جنْد من السماء، لأنهم أهون من ذلك. وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلاً كما قالت قريش: (لولا أنزلَ إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نذيراً) . وقالوا أيضاً: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) . فردَّ اللَّهُ عليهم بقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، يعني أنَّ نزول الملائكة ِ لغير النبي إنما هو للانتقام منه أو لقَبْض روحه. وقد جرت حكمة الله أن إيمان خَلْقه إنما يكون نظرياً بالدليل والبرهان، ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان به، لأنهم رأوا الحق عياناً، ورأوا المعجزات التي آمن بها الصحابة ولم يروها، فطوبي لمن رأى صحفاً تُتْلى سوادا في بياض، وآمن بها وصدقها، وكيف لا وقد قال فيهم - صلى الله عليه وسلم -: " أولئك إخواني حقا". (ما كُنّا مُنْزِلِين) . أي ما كُنَّا لننزل جنْدا من السماء على أحد، وبهذا يتبين لك أن لفظ الجند أليق بالمعنى الأول، وكذلك ذكر الصيحة بَعْد ذلك. فإن قلت: قوله تعالى في الأحزاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) ، وقد أنزل الله خمسة آلاف ملك يوم بَدْر وحنين لنُصْرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فالجواب أن معناه ما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنْداً من السماء، وذلك أن الله عز وجل أجرى هلاك قوم بالريح، وقوم بالصيحة، وقوم بالغَرَق، بحسب حكمته السابقة. ولما كان إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يستأهِلها الكفرة أخذَهم الله بأقلّ الأمور. ولما جعل الله الملائكة خدّاماً لهؤلاء الأمة المحمدية يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، ليحظوا بحظ الردّ لحرمة حبيبهم وصفيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 يستغفرون لهم، حتى إن جبريل طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن تجوز أمّته على جناحه ليقيهم من حَرّ نار جهنم، وطلبت الملائكة يوم بَدْر وحنين ربها في نصرتهم إكراما وتشريفاً لنبيهم، ألا تراهم ليلة القدر يطلبون النزول إليهم للسلام عليهم، والحضور معهم، يرغبون في غفران ذنوبهم والتشفّع فيهم، فمَنْ أولى منك يا محمدي بالتشريف إن كنتَ من أمة النبي الشريف، اللهم بحرمته عندك، ومكانته لديك، لا تحرمنا من رؤيته وجِوَاره في مستقرّ رحمتك، واغفر لنا ما جنيناه، إنك أنت الغفور الرحيم. (ما عملَتْه أيديهم) : (ما) معطوفة على ثمره، أي ليأكلوا من ثمره وممَّا عملت أيديهم بالحَرْث والزراعة والغراسة. وقيل: (ما) نافية. وقرئ: "وما عملت" بغير هاء، وما على هذا معطوفة. (مَنَازل) : مساكن ومواطن، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كلّ ليلة واحدةً منها مِنْ أول الشهر ثم يستتر في آخره ليلة أو ليلتين. قال الزمخشري: وهذه المنازل هي مواقع النجوم. (ما يَنْطرون إلاَّ صَيْحةً واحِدةً تأخذهم) : يعني النفخة الأولى في الصور، وهي نفخة الصعق تأخذهم بغتة. (مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) . المرقد يحتمل أن يكونَ اسم مصدر، أو اسم مكان، قال أبي بن كعب ومجاهد: إن البشر ينامون نومة قبل الحشر. ابن عطية: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في معنى قولهم: (مِنْ مرقدنا) أنها استعارة وتشبيه، يعني أنَّ قبورهم شبِّهت بالمضاجع، لكونهم فيها على هيئة الراقد، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة. (ما وَعدَ الرحمن وصدَق الْمرْسَلون) : هذا مبتدأ محذوف الخبر، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مِنْ بقية كلامهم، أو يكون من كلام الله تعالى، والمؤمنون يقولونها للكفار على وَجْهِ التقريع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 (مَكَانَتِهم) : مكانهم. والمعنى لو نشاء لمسخناهم مَسْخاً يقعدهم في مكانهم، فلا يقدرون على الذهاب ولا على الرجوع. (مَنْ نعَمِّرْه ننَكسْه في الخَلْق) . أي نحوّل خلقته من القوة إلى الضعف، ومن الفهم إلى البله، ومن الشباب إلى الهرم، وشِبْه ذلك، كما قال تعالى: (ثم جعل مِنْ قوّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَة) . واختلف في حد التعمير الذي يصل الإنسان فيه إلى هذا. والصحيح أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وقد قدمنا الحديث: "مَنْ صدق في صغره حفظه الله في كبره". فالذي تراه صادقَ اللهجة يحفظه في كبره من ذهاب عقله. ومقصود الآية الاستدلال على قدرة الله - في مشاهدتهم - على تنكيس الإنسان إذا هرم فالذي يقدر على هذا يقدر على مسخكم لولا رحمته بكم، ولذلك ختم الآية بالعقل الذي هو أسّ الأمور. (ما عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وما ينْبَغِي لَه) . هذه الضمائر راجعةٌ لنبيِّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم قالوا له شاعر، فرد الله عليهم بهذه الآية، واعجبا منهم! وهم يرونه لا يزن شعراً ولا يذكره، وإذا ذَكَر بيتاً منه كسره، ويقولون فيه شاعر! تَبًّا لهم! فإن قلت: قد تكلّم بكلام على وزْن الشعر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت إلا أصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت. وقال: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد الطلب. فالجواب أن هذا ليس بشعر، ولم يقصده، وإنما جاء بالاتفاق لا بالقصد. كالكلام المنثور. ومثل هذا يقال فيما جاء في القرآن من الكلام الموزون الذي تحدَّاهم الله بسورة منه فلم يقدروا، مع أنهم طبعوا على الفصاحة والشعر، فهو من أعظم المعجزات. كأنه قال لهم: إن قلتم فيه إنه شاعر فأتوا بشعر مثله، مع أنه ليس بشعر، ولا ينبغي له الشعر لصدقه وأمانته، (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ولهذا ذمّ الله الشعراء، لإفراط التجوّز فيه، وإنْ ورد في الحديث: إنَّ من الشعر لحكمة - فإنما يصدق على ما هو عَرِيّ عن الأوصاف الذميمة، ورحم الله الشافعي في قوله: الشعر كلام، والكلام منه حسن ومنه قبيح. (مَنَافِعُ وَمَشَارِب) : قد قدمنا في النحل معناه. (مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) . يعني أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، على اختلاف الروايات أتى إلى رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - بعظم رميم، فقال له: يا محمد، مَنْ يُحْيى هذا؟ فقال له: الله يحييه، ويميتك ثم يحييك، ويدخلك جهنم، فانظر كيف نَسِي خلقته الأولى، واستعظم وجودَ الثانية، هل هذا إلا من المعاندة في المحسوس، فكيف يطلق اسم الخالق على من لم يخلق جميع الناس، ولقد أنزل الله خمس آيات على نبيه لو لم يكن منها إلا واحدة لمنعَتْنَا من التمتع بهذه الدنيا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) . (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) . فجميعُ المخلوقات على أصنافها لم يخلقها الله إلا لحكمة: الملائكة لخدمته. وما منّا إلا مقَام معلوم. والأرض للعبرة بها، قل سيروا في الأرض. وفي الأرض آياتٌ للمُوقنين. والأنعام للمنفعة، لتركبوا منها ومنها تأكلون. والعارف لعبادته، وما خلقْتُ الجن والإنْسَ إلا ليَعْبدون. والعالم للرحمة، قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا مَنْ رحم رَبُّك) . فهنيئاً لمن فتح الله بصيرته وتَبًّا لمَنْ أعماها له. (ما كانوا يَعْبُدون) : يعني الأصنام والآدميين الذين كانوا يرضون بذلك. وقد قدمنا أن فائدةَ دخول الأصنام والمعبودات النار زيادةُ نَكالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 (مَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) . أيْ أيّ شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، فالقَصْد بهذا التأويل التهديد. أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره. والقصد بهذا تعظيم الله وتوبيخ لهم، كما تقول: ما ظنّك بفلان! إذا قصدت تعظيمه. (متَّعناهم إلى حِين) : الضمير يعود على قوم يونس لما آمنوا وخرجوا بالأطفال والبهائم، وفرّقوا بينها وبين أولادها، وتضرعوا إلى الله، وأخلصوا بالبكاء، وتابوا إلى الله توبةً، وعهدوا أن من كذب أو سرق أو زنى أقاموا عليه الحد، وأنهم مشاركون في علومهم وأموالهم، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين. واختلف ما المراد بالْحِين، وقد قدمناه في حرف الحاء. وأما قوله تعالى (تؤْتي أكلَها كلَّ حِين) ، فقيل: سنة، أو ستة أشهر، أو شهران، ولما دخل عليهم ذو القرنين وجدهم تائبين، لا باب لبيت، ولا غنيّ فيهم ولا فقير، ولا عالم ولا جاهل، كل واحد منهم جادَ على جاره بما عنده من علم ومال، فطلب أن يدْفَن معهم. وقد ذكر الناس في قصصهم طولاً تركناه لعدم صحته. وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بهم ليلة الإسراء، فآمنوا به وصدقوه، وقد لقي غلاماً في مسيره إلى الطائف فأخبره أنه منهم، فانظر يا محمدي مَنْ رجع إلى الله كيف يقبله، وكيف لا يقبله، وهو يقول: (وهو الذي يَقْبَل التوبةَ عن عباده ويَعْفُو عن السيئات) . فإن قلت، قد قال في آية أخرى: (غافر الذَّنْبِ وقَابِل التَّوْبِ) ، فهل بين العفو والمغفرة فرق؟ قلنا: العفو عنها يستلزم مغفرتها، فسبحان مَنْ لم يَرْضَ بغفرانها حتى بدّلها لهم حسنات مكافأة لتوبتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فإن قلت: الاعتقاد أنَّ طائفة من هذه الأمة لا بدّ لهم من دخول النار. قلنا: إن لم يتوبوا، وفيه إشارة إلى عدم الأمْن من مَكرِ الله، ولذلك ورد الحديث: المؤمن بين مخافتين: بين أجَل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. وأيضاً من لم يذق الشدة لم يجد حلاوة النعمة، فقوم يستغيثون من النار، وقوم تستغيث النار منهم، وقوم تقول لهم النار: أجر يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، وقوم يمكثون فيها ما شاء الله ثم يخرجون منها ويتحسر مَنْ فيها، (ربمَا يَوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين) ، فالمؤمن الذي يدخلها تكون عليه بَرْداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، وذلك أنهم تعجبوا منه من عدم حَرْقها له، فأراد الله أن يرِيهم يوم القيامة ليعلموا أنَّ صانع النار والنور واحد، فتحرق من يشاء خالقُها، وتهرب ممن يطيعه. قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) . (ما لكم كيف تَحْكُمون) : (ما) استفهامية معناها التوبيخ، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمجرور بعدها خبرها ينبغي الوقْفُ على قوله: (ما لكم) ، ثم يقرأ: (كيف تحكمون) . (ما مِنّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ معلوم) : هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام، وتقديره: ما منّا ملك إلاَّ ولهُ مقام معلوم، فحذف الموصوف لحذف الكلام، والمقام المعلوم يحتمل أن يراد به الموضع الذي يقومون فيه، لأن منهم مَنْ هو في سماء الدنيا وكذلك في كل سماء، أو المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف، ولذلك فخروا بصفوفهم وتسبيحهم، ومنهم قيام لا يركعون، ومنهم سجود لا يرفعون، ومنهم قعود لا يقومون، فجمع الله لهذه الأمة المحمدية في الصلاة عبادة الملائكة من قيام وقعود، وركوع وسجود، وتسبيح وتكبير، وزادهم من التحيات الذي كان من الرسول ليلة الإسراء حين قال: التحيات للَه ... الخ، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وبركاته، فطِبْ نفسا وقَرّ عيناً يا محمدي بما خوّلك مولاك، وأعلم أنكَ تقِفُ بين يديه، فانظر وقوفك بمَ يكون، هلا وهبت نفسك له وأسلمتها موافقة لقولك: وَجَّهْت وجهي هذا بلسانك، فأين وجهتك. فإن قلت: لم كان الدخول فيها بتكبيرة والخروج منها بتسليمتين، والركوع واحدٌ والسجود اثنين؟ والجواب لأن الواحد يقبل الواحد، فإذا قلت الله أكبر فكأنك أقبلت عليه وعظّمته على كل شيء، فرضي منك هذه الكلمة المشرفة، وأقبل عليك، وإن اشتغلت بغيره فلم تُفْرِدْه وقطعت نفسك عنه، ألا ترى أنَّ التسليمتين قطعت عنه وانفصلت عن مناجاته، كرمضان تدخل فيه بشاهد واحد وتخرج منه بشاهدين، ولما كان السجودُ أقربَ إلى الله من جميع أفعال الصلاة أمرك بسجدتين، أو لأنَّ السجود للأصنام كان عندهم مرة واحدة فزادك أخرى لتفرّق بين السجود لله والسجود لغيره، أو لأن الملائكة كانوا سجوداً وطلبوا من الله ليلةَ الإسراء بحبيبه أَن يروه فأذِن لهم ورفعوا رؤوسهم لرؤيته فسجدوا مرةً لله شكرا لرؤيته، فأمر الله بذلك: الأولى امتثالاً لأمر الله، والثانية شكرا له بأن أهَّلك لطاعته. فإن قلت: لما كان السجود بهذه الْمَثَابة فهلاَّ أمر به المصلِّي على الميت، لأنه يشفيع، والشفيع لا يجد قربة إلى الله أفضل منه؟ والجواب: لما كان في السجود للمصلِّي على الميت إيهام بالسجود له أمره اللهُ بعدم السجود، كأنه يقول: لا أريد أن تسجد لي حتى يرتفع الحجاب بيني وبينك. (مَناص) : مَفَرّ ونجاة، من قولك: ناص يَنوص إذا فرَّ، التقدير وليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص. قال أبو القاسم: معناه فرار بالنبطية. (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : هذا من كلام الملأ الذين، خرجوا من عند أبي طالب وتفرقوا في طرق مكة، ومرادهم بالملة الآخرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 ما أدركوا عليه آباءهم، أو الملَّة المنتظرة، لأنهم كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء، فلما جاءهم جحدوا، واستيقنتها أنفسهم ظلماً. (ما هنَالكَ مهزوم مِنَ الأحزاب) : هذا وعيد بهزيمتهم في القتال، وقد هزموا يوم بَدْر وغيره، و (ما) هنا صفة لجند، وفيها معنى التحقير لهم، والإشارة بهنالك إلى حيث وَضَعوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء. وقيل: الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب، وهذا بعيد. وقيل الإشارة إلى موضع بدْر. ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصَّبوا للباطل فهلكوا. (ما يَنْطر هؤلاء إلا صَيْحةً واحدة) : المراد بهؤلاء قريش ومَنْ تبعهم. والصيحة الواحدة: النفخ في الصُّور. وقيل: ما أصابهم من قَتل وشدائد، وهو أظهر، لأن من مات فقد قامت قيامته، وقد ورد في الحديث. (مَسّنِيَ الشيطان بنصْبٍ وعَذَابٍ) : بضم النون وإسكان الصاد، وبفتحها وإسكان الصاد، وبضمَ النون والصاد، وبفتحهما، بمعنى المشقة. وهذا من كلام أيوب لما سلَّط الله عليه الشيطان ليَفْتِنَه (1) ، وأهلك ماله وولده، ووسوس قلبه، استغاث ودعا الله بتفريج كَرْبه خوفاً من فِتْنَته. فإن قلت: أين هذا من قوله تعالى: (إنّا وَجَدْنَاه صَابِراً نعم العَبْدُ) ، وأَيّ قدرة للشيطان حتى ينسب ما أصابه من البلاء إليه؟ فالجواب أنه صبر على ما أصابه في المال والولد والنفس، فلما وصل إلى الوسوسة استغاث، ويكفيك من صبره أن الله قَرنه بنون العظمة وهاء الضمير، فلا يعتقد في رسول الله غير ذلك، ونسبة الفعل للشيطان على جهة نسبة الشر إليه، كقول موسى: (وما أنْسَانِيه إلاَّ الشيطان) . (هذا من عَمَلَ الشيطان) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما نام ليلة الْوَادِي: إن بهذا الوادي شيطاناً. فهو تنسب إليه الشرور. ولذلك يتبرأ يوم القيامة ممن أطاعه، ويقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) .   (1) كيف يتفق هذا مع قوله تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) ؟؟!!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 فالنسبة إليه نسبة مجازية، كما أن نسبة الخير إلى الله حقيقة. وقد صحّ أنَّ التائبين يمرون يوم القيامة تحت لواء آدم، والشاكرين تحت لواء نوح، والْموفين بالعهود تحت لواء إبراهيم، والمحزونين تحت لواء يعقوب. والمحبوسين تحت لواء يوسف، والصابرين تحت لواء أيوب، والمخلصين تحت لواء موسى، والزاهدين تحت لواء عيسى، والصادقين تحت لواء يحيى، والمحبين تحت لواء الحبيب على جيعهم الصلاة والسلام، والمؤذنين تحت لواء بلال، والصالحين تحت لواء عمر، والصدّيقين تحت لواء أبي بكر، والمتقين تحت لواء عثمان، والراكعين تحت لواء علي رضي الله عنهم أجمعين. (ما لَه مِنْ نفاد) : الضمير يعود على نعيم الجنة، لتقدم ذكره، أو لرزق الدنيا (1) . (مَنْ قَدّم لنا هذا فزِدْه عذاباً ضِعْفاً في النار) : هذا كلام الأتباع، دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب، فهو كقولهم: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) . (ما لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كنَّا نَعدّهم من الأشرار) : قيل إن القائلين لهذه المقالة أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأمثالهم. والرجال المذكورون هم عمّار، وبلال، وصهَيب، وأمثالهم. واللفظ أعمّ من ذلك. والمعنى أنهم قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدهم في الدنيا من الأشرار. (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) : القصد بهذه الآية الاحتجاج على نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها. والملأ الأعلى هم الملائكة، وعليهم يعود الضمير في يختصمون. واختصامهم هو في قصة آدم حين قال الله لهم: إني جاعل في الأرض خليفة. حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن.   (1) في غاية البعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وقيل: إن الملائكة تقول: هؤلاء بنو آدم الذين اخترتهم وفضّلتهم وجعلتهم خلفاء، وأمرتنا بالسجود لأبيهم قد عصوك، وتركوا خِدْمتك وأمْرَك (1) . فيقول اللَه لهمْ: دعوهم فإنما استزلَّهم الشيطان وأغواهم هو وأولاده، ولو ابتليتكم بما ابتليتهم به لوقعتم فيما وقعوا فيه. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّه فقال: يا محمد. فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: لا أدري. قال: في الكفّارات، وهي إسباغ الوضوء على المكاره. وفي رواية في المسرات، والمشي بالأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وقيل الضمير في يختصمون للكفار، أي يختصمون في الملأ الأعلى، فيقول بعضهم: هم بنات الله، ويقول آخرون: هم آلهة تعْبد، وهذا بعيد. (ما أنا من المتَكلِّفين) : أي الذين يتصنعون ويتخيّلون بما ليسوا من أهله. (ما نعْبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلْفَى) : أي يقول الكفار: ما نعبد هؤلاء الاَلهة إلاَ ليقرِّبونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده. ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة، أو الذين عبدوا الأصنام، أو الذين عبدوا عيسى أو عزَيراً، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. (مَنْ هوَ كاذبٌ كَفّار) : هذا إشارة إلى كذبهم في قولهم: (ليقرِّبونا إلى اللهَ) . (ما شِئْتم مِنْ دونه) : هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتّخْلِية لهم على ما هم عليه. (مَثَانِي) : جمع مثى، أي تثنَّى في القصص. ويحتمل أن يكون مشتقاً من الثناء، لأنه يثني فيه على الله. فإن قيل: مثاني جَمْع، فكيف يوصف به المفرد؟ فالجواب أن القرآن ينقسم إلى سور وآيات كثيرة، فهو جمع بهذا الاعتبار.   (1) لا يصح لأن فيه فيه سوء أدب مع الله تعالى، وهو لا يليق بحال الملائكة الكرام، وقد مدحهم الله بقوله (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) . وقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 ويجوز أن يكون كقولهم: برْمَة أعشار، وثوب أخلاق. أو يكون تمييزاً من متشابه، كقولك: حسن شمائل. (ما كنْتم تَكسِبون) ، أي يقال للكفار والعصاة: ذوقوا ما كسبتم من الكفر والمعصية. (مَيِّتون) : في هذا وعيد للكفار، لأنهم إذا ماتوا ظهر لهم مَنْ كان على الحق ومَنْ كان على الباطل. وفيه إخبار أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - يموت لئلا يختلف الناس في موته، كما اختلفت الأمم في غيره. (فَمَنْ أظلم مِمَّن كذَب على الله) : أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كذب على الله بأنه اتخذ صاحبةً وولدا. وفي آية أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمَّن منَعَ مساجدَ اللَهِ) . وفي أخرى: (ومن أظلم مِمّن افْتَرى على الله كذِباً) . وفي أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمن ذُكِّرَ بآيات ربِّه) . وهذه الأظلمية تختلف باختلاف الأنواع، وتطلق كلُّ آية على ما يليق بها من الكذب وغيره، حسبما بيناه في غير هذا الموضع. (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ،: من الأوامِر واجتناب نواهيه. (مَقَالِيد) : بالفارسية مفاتيح. وقيل خزائن. واحدها إقْليد، وقيل مِقْليد. وقيل لا واحد لها من لفظها. ومعناها مالك السماوات ومدبِّر أمرها وحفظها، وهي من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدَها، كما أن الخزائن أيضاً تجيء في جهة الله عز وجل إنما تجيء استعارة بمعنى اتساع قدْرته، وأنه المبتدع المخترع. ويشبه أن يقال فما قد أوجد من المخلوقات، وهذا يتجوّز به على جهة التقريب والتفهيم للسامعين. وقد ورد القرآن بذكر الخزائن، ووقعت في الحديث الصحيح: ماذا فتح الليلة من الخزائن. والحقيقة في هذا غير بعيدة، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة، كما هو اختزان الشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 قال عثمان بن عفان: فسألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن مقاليد السماوات والأرض، فقال: هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير يحْيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإن صح هذا الحديث فمعناه أنَّ مَنْ قال هذه الكلمات صادقا مخلصاً نال الخيراتِ والبركات من السماء والأرض، لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك، فكأنها مفاتح له، وللَه سبحانه سبع خزائن: خزانة المطر في السماء، وخزانة النبات في الأرض، وخزانة اللؤلؤ والمرجان في البحر، وخزانة الموزونة في الجبال، وخزانة الأفكار للكفار، وخزانة الرضوان للأبرار، وخزانة المعرفة في القلوب. وفي الحديث: إن بعضَ الأنبياء قال: يا رب، لكلّ ملك خزانة، فما خزانتك، قال: خزانة أوسع من الكرسي، وأعظم من العرش، وأطيب من الجنة، وأَزين من الملكوت، أرضها المعرفة، وسماؤها الإيمان، وشمسها الشوق، وقمرها المحبة، ونجومها الخواطر، وترابها الهمّة، وجدارها اليقين، وسحابها العقل، ومطرها الرحمة، وأشجارها الطاعة، وثمرها الحكمة، ولها أربعة أركان: التوكل، والتفكر، والأنس، والذكر. ولها أربعة أبواب: العلم، والحلم، والرضا، والصبر، ألاَ وهي القلب (1) . (مَنْ شاء الله) : يعني أَن جميع من في السماوات والأرض يموت عند نَفْخَةِ الصعق، إلاَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يميتهم الله بعد ذلك. (مَا مَكروا) : الضمير يعود على قوم فرعون، يعني أن الله وقى مؤمنهم مِنْ مكرهم، كما هو عادته سبحانه في وقاية مَنْ فَوَّض أمره إليه. (ما للظَالمين مِنْ حَمِيم) : المراد بهم الكفَّار، يعني أنهم ليس لهم من يشفع فيهم.   (1) يفتقر إلى سند صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 (وما دعَاء الكافرين إلاَّ في ضَلاَل) : يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى استئنافاً. (مَعْذِرتهم) : يحتمل أنهم لا يعتذرون. ويحتمل أنهم يعتذرون، ولكن لا تنفعهم المعذرة. (ما همْ بِبَالغِيه) : أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك، أو من نيل النبوءة. (مَثْوَى المتَكبِّرين) : أي جهنم. فإن قيل: قياس النظم أن يقول: فبئس مدخل الكافرين، لأنه تقدم قبله: ادخلوا؟ والجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثَّوَاء. (مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ) : هم الذين ذْكر الله في كتابه من الرسل، وقد قدمنا أنهم خمس وعشرون، وجملة الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا في حديث أبي ذَرّ. وفي حديث غيره: إن الله بعث ثمانية آلاف رسول. وفي حديث آخر أربعة آلاف. (مَنْ أحْسَنُ قولاً مِمَّن دعَا إلى اللهِ) : يدخل في هذا كلّ من دعا إلى عبادة الله وطاعته على العموم. وقيل: المراد محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل المراد المؤذِّنون. وهذا بعيد، لأنها مكية، وإنما شُرع الأذان بالمدينة، ولكن المؤذّنون يدخلون في العموم. والدعوة من الله على أربعة أوجه: دعوة الضيافة: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ودعوة المغفرة: (يَدْعوكمِ ليَغْفِرَ مِنْ ذنوبكم) . ودعوة الحمد والإجابة: (يوم يدعوكم فتَسْتَجِيبون بحمده) . ودعوة المحاسبة: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) . وفيه خمسة أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 بصحائف أعمالهم، قال تعالى: (وكلَّ إنسانٍ ألزَمْنَاه طائِرَه في عنقهِ) . أو بأعمالهم المتقدمة، قال تعالى: (علِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمت وأخَّرَتْ) . أو بإمامهم في المذهب، قال تعالى: (وجعلناهم أئمَّةً يدعون إلى النار) . أو برسولهم، أو بدعائهم إلى الخير والشر، أو بمعبودهم، أو بإمامهم في الأعمال الصالحات. وأما الدعوة إلى الخلق فالدعوة إلى دين الرب. قال تعالى: (ادع إلى سبيلِ رَبِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة) . أو الدعوة إلى بيت الله تعالى: (وأَذِّنْ في الناس بالحجِّ يأْتوك رجالاً) . أو الدعوة إلى عبادة الله. فالدعوة عامة، والهداية خاصة، قال تعالى: (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . (ما يُقَال لكَ إلاَّ ماقَدْ قِيلَ للرّسلِ مِنْ قَبْلك) : في معناها قولان: أحدهما: ما يقول لك الله من الوحي والشرائع إلا مثل ما قال للرسل من قبلك. أو ما يقول لك الكفَّار من التكذيب والإيذاء إلا مثل قول الأمم المكذّبين لرسلهم، فالمراد في هذا تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأسّي، وعلى القول الأول أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بما جاءت به الرسل فلا تنْكر رسالته. (ما مِنَّا مِنْ شَهيد) : هذا قول المشركين حين يناديهم يوم القيامة، أين شركائي، فيقولون: أعلمناك ما مِنّا مَنْ يشهد لك اليوم بأن لك شريكاً، لأنهم كفروا ذلك اليوم بشركائهم. (ما كانوا يدعون من قَبْل) : أي لم يروا حينئذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 شركاءهم، فما على هذا موصولة. أوْ ضلَّ عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من الشرك، فما على هذا مصدريّة. (ما لَهمْ مِنْ مَحِيص) ، أي علموا أنهم لا مهرب لهم من العذاب. وقيل يوقف على (ظَنوا) ، ويكون (ما لهم) استئنافاً، وذلك ضعيف. (ما تفرَّقُوا إلا مِنْ بعد ما جاءهُم العِلْمُ بَغْياً بينهم) : يعني أَهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم. (مَنْ كان يُريد حَرْثَ الآخرة نَزِدْ له في حَرْثهِ) : عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعار من حَرْث الأرض، لأن الحارث يعمل وينتظر المنفعةَ بما عَمِل. (ما قَنَطوا) ، أي يئسوا. (مَنْ عَفَا وأصلح فأجْرُه على الله) : في هذه الآية إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية، وأسقط حقَّ نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم، ولهذا قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفيها دليل على أن العفو عن المظلمة أفضل من الانتصار، لأنه ضمن الأجر في العفو، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله: (ولَمَنِ انتصر) . فإن قيل: كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله: (والذين إذا أصابهم البَغْيُ هم يَنْتَصِرون) ، والمباحُ لا مَدْحَ فيه ولا ذم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ المباحَ قد يُمْدَح، لأنه قيام بحق لا بباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 والثاني: أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم تحرّزاً ممن بدأ بالظلم، فكان المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم. والثالث: أنه إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب فانتصاره - صلى الله عليه وسلم - محمود، لأن قتال أهل البغي واجب، لقوله تعالى: (فقاتلوا التي تَبْغي) . وقد سمَّى - صلى الله عليه وسلم - المقاتلين لعليٍّ بالفئة الباغية، وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية. (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) : القصد بهذه الآية شئان: أحدهما: تعداد النعمة عليه - صلى الله عليه وسلم -، بأن علّمه الله ما لم يكن يعلم. والآخر احتجاج على نبوءته، لكونه أتى بما لم يكن يعْلَمه ولا تعلّمه من أحد. فإن قلت: أما عدم درايته للكتب فلا إشكال. وأما الإيمان فلا إشكال أن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم، لكنه وقع الخلاف في نبينا، هل كان متديّنا بشريعة مَنْ قَبْله أو بشريعته؟ والجواب الإيمان يحتوي على معارف كثيرة، وإنما كمل له معرفتها بعد بعثه. وقد كان مؤمنأ بالله قبل ذلك، فالإيمانُ هنا يعني به كمال المعرفة، وهي التي حصلت له بالنبوة، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " كلّ يوم لا أزْدَاد فيه علماً لا بورِك في صبيحة ذلك اليوم "، فكان - صلى الله عليه وسلم - يزداد كل يوم من المعارف ما لا يُحصى ذِكره. وأما في الجنة، فلا تسأل عما تنكشف له من المعارف اللدنيَّة والأسرار الربانية، ويفيض منها على هذه الأمة المحمدية، لكل واحد منهم نصيب بقدر ما اتّبعه واقتدى به، فهم يزدادون معارفَ وجمالاً وبهجة وسروراً، ما لا يحيط بها إلا واهبها، جعل الله لنا منها أوْفَر نصيب بجاه النبي الحبيب. (مَضَى مَثَل الأَوَّلين) . أي تقدم لك يا محمد كيف أهلكنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 القرون السالفة، والأمم الماضية، لما كفروا وتمرَّدوا، وهكذا من عاندك، ففيه تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -. (ما كنّا له مقْرِنِين) : أي مطيقين وغالبين. (ما أرْسَلْنَا من قَبْلك) : معنى الآية: كما اتَّبَع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة كذلك اتبع كلّ من قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة، بل بمجرد التقليد المذموم. (مَعَارِجَ عليها يَظْهَرُون) ، أي أدراجاً وسلالم. والمعنى لولا أن يكفر الناس كلّهم لجعلنا للكفار كلَّ ما يتمتعون به ذهباً وفضة لهوان الدنيا علينا. ومعنى يظهرون: يرتفعون. ومنه: (فما اسْطَاعوا أنْ يَظْهَروه) . (مَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّض له شيطاناً) : من قولك: عَشِيَ الرجل إذا أظلم بَصَرُه. والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة. وقال الزمخشري: يعش - بفتح الشين، إذا حصلت الآفة في عينه، ويعشو - بالضم - إذا نظر نظر الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين قولك: عمي وتعامى، فمعنى القراءة بالضم يتجاهل ويجحد مع معرفته بالحق. والأظهر أن ذلك عبارةٌ عن الغفلة وإهمال النظر. والمراد بذكر الرحمن هنا القرآن عند الزمخشري، وعند ابن عطية ما ذكّر الله عباده من المواعظ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل. ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد للَه. ومعنى الآية أنَ مَنْ غفل عن ذكر الله يسَّرَ اللهُ له شيطاناً يكون له قرينا. فتلك عقوبة عن الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان، كما أن من دَاوَمَ على الذكر تباعد عنه الشيطان. مصداقُه الحديث: إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، واضع خرطومه عليه، فإن ذكر العبدُ الله خَنَس، وإن غفل عنه وَسْوَس. (ما نُرِيهم مِنْ آيةٍ إلاَّ هي أكبَرُ مِنْ أُخْتِها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 الآيات هنا المعجزات، كقلب العصا حيَّة، وإخراج اليد بيضاء. وقيل البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر. ومعنى أكبر من أختها: أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على غيرها من آياته، إنما المعنى أنك إذا نظرت وجدتَ كبيرة، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة، فهو كقول الشاعر: " مَنْ تَلْقَ منهم تَقلْ لقيت سَيِّدهم " هكذا قال الزمخشري. ويحتمل عندي أن يريد: ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها، فالمراد أكبر من أختها المتقدمة عليها. (مَهين) : المراد بذلك موسى، ووصفه فرعون بالضعيف الحقير. (ملائكة في الأرْضِ يَخْلُفون) : في معناها قولان: أحدهما: لو نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون الأرضَ ويخلفون فيها بني آدم، فقوله: (منكم) متعلق ببدل المحذوف: أو ب (يخلفون) . والآخر: لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفون أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلف من أولاد الناس ملائكة، أفلاْ تذكرون خَلْقَنا عيسى من غير والد وأنتم مقِرّون به. (ماكِثُون) : دائمون. (مَنْ شهد بالحقِّ وهم يَعْلَمُون) : اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع. والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة، لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه. ويحتمل على هذا أن يكون (من شهد) مفعولا بالشفاعة على إسقاط حرف الجر، تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد بالحق الشافع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 فيحتمل أن يكونَ الاستثناء منقطعاً، وأن يكون متصلاً، لأنها فيمَنْ عبد عيسى والملائكة. والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا مَنْ شهد منهم بالحق. (مَقَامٍ كَرِيم) : فيه قولان: المنابر، والمساكن الحسان. (ما كانوا منْظَرِين) ، أي مؤخرين. (مولى عن مَوْلى) : المولى هنا يعلم الوليّ والقريب وغير ذلك من الموالي الذين تقدم ذكْرهم. (ما يهْلِكنَا إلا الدَّهْر) : هؤلاء هم الدهرية، ومقصودهم إنكار الآخرة. (مَنْ أَضَلّ) . معناها لا أحد أضلّ مِمّن يَدْعو إلهاً لا يستجيب له وهي الأصنام، فإنها لا تسمع ولا تعقل، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم، لأنها لا تسمعه. (ما كنْتُ بِدْعاً من الرُّسُل) : البدع، والبديع من الأشياء: ما لم يُرَ مثله، أي ما كنت أوَّلَ رسول، ولا جئت بأمر لم يجئ به أحد قبلي، بل جئت بما جاء به قبلي ناسٌ كثيرون، فلأيّ شيء تنكرون ذلك. (ما أدْرِي ما يُفْعَل بي ولا بِكمْ) : فيها أربعة أقوال: الأول: أنها في أمْر الآخرة، وكان ذلك قبل أن يعلم أنَّ المؤمنين في الجنة والكفار في النار، وهذا بعيد، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله. والثاني: في أمر الدنيا، أي لا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن مقادير الله مغيّبة، وهذا هو الأظهر. الثالث: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وما تلْزِمه الشريعة. الرابع: أن هذا كان في الهجرة، إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في النوم أنه يهاجِرُ إلى أرض نخل، فقلق المسلمون لتأخّر ذلك، فنزلت هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 (ما حَوْلَكُمْ مِنَ القُرَى) : يعني بلادَ عادٍ وثمود وغيرها. والمراد إهلاك أهلها. (مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ) . يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى. والمعنى: ليس بمعجز في الأرض، لا يفوت. (مَوْلى الَّذينَ آمَنوا) . أي وليّهم وناصرهم، وكذلك: (وأَنّ الكافرين لا مَوْلَى لهم) . ولا يصح أن يكون الولى هنا بمعنى السيد، لأن الله تعالى مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله: (ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحقِّ) ، لأن معنى الولى مختلف في الموضعين، فمعنى مولاهم الحقّ ربهم، وهذا على العموم في جميع الخلق، بخلاف قوله: (مَوْلَى الذِين آمَنوا) ، فإنه خاص بالمؤمنين، لأنه بمعنى الولي الناصر. (مَنْ يَبْخَلْ فإنما يبْخَل عن نَفْسه) . أي إنما ضرر بخْله على نفسه، فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق. (فَمَنْ نكثَ فإنما يَنْكثُ عَلَى نَفْسِه) ، أي نقض البيعة. (مَعَرّةٌ بغير عِلْم) . أي تصيبكم مِنْ قتلهم كراهةٌ ومشقّة. واختلف هل يعني الإثم في قتلهم، أو الدية، أو الكفارة، أو الْمَلاَمة، أو عَيْب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قَتْل المؤمنين، وهذا أظهر، لأنَّ قَتْلَ المؤمن الذي لا يُعلم إيمانه - وهو بين أهل الحرب - لا إثم فيه ولا دية ولا ملامة ولا عيب. (مَعْكوفاً أنْ يَبْلغَ مَحِلَّه) : كان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق عام الْحديبية مائة بَدَنَةٍ فقَلّده. وقيل سبعين، ومنعه المشركون من الوصول إلى مكة (ومَحِلّه) موضع نَحْرِه، يعني مكة والبيت. ومعكوفاً حال من الْهَدْي. وأن يبلغ مفعول بالعكفِ. والمعنى صدّوكم عن المسجد الحرام، وصدّوا الْهَدْي عن أن يبلغ محله، أو حبس المسلمين للهَدْي بينما ينظرون في أمرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 (مَثَلُهم في التّوراة) : أي وصفهم فيها، وتمَّ الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله: (وَمثَلهم في الإنجيل كزَرْع) . وقيل: إن مَثَلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة، ثم ابتدأ قوله: كزرع، وتقديره هم كزرع. والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان. وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك. وعلى هذا يكون المثل في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل، وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف، كمثلهم في التوراة. (مَغْفِرة وأجْراً عظيما) .: وعد يعمّ جميعَ الصحابة رضوان الله عليهم، وفي هذا تشريف لهم، وكيف لا وقَدْ ذكر الله مؤمنَ آلِ فرعون بكلمة قالها ينصر بها موسى إلى آخر الدهر، فما بالك بمن شَّ الله بهم الدِّين وأعلاه حتى عمّ جميع الأرضين، وأغاظ اللَّهُ بهم الكافرين، اللهم بحرْمَتِهم لديك اغْفِرْ لنا ولجميع المذنبين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين. (ما تَنْقصُ الأرْضُ مِنْهم) : هذا ردّ على الكفَّار في إنكارهم البعث. ومعناه قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومهم وعظامهم، فلا يصعب علينا بعثهم. وفي الحديث: كلّ جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب. منه خلق، وفيه يركب، إشارة لكم أنها العبيد في بقائه وتركيب الجسد منه. وقيل: المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، والأول قول ابن عباس والجمهور، وهو أظهر. (مَرِيج) ، أي مختلط، فتارة يقولون ساحر، ومرة كاهن، فاختلط أمرهم واضطرب. (ماء مباركاً) : يعني المطر كله. وقيل الماء المبارك مطر مخصوص. وقيل مطر النيسان، وليس كلّ مطر يتّصف بالبركة، وهذا ضعيف. (ما كنْتَ مِنْه تَحِيد) ، أي تهرب. والخطاب للإنسان. (مَنَّاعٍ للخير) ، أي للزكاة المفروضة. والصحيح العموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 (مَزِيد) : يعني النظر إلى الله، كقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . وقيل يعني ما لم يخطر في قلوبهم، كما ورد في الحديث: إن الله قال: "أعْدَدْت لعبادي الصالحين ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعَتْ، ولا خطر على قَلْب بشر". (مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) : هذا كقوله تعالى: (إنما تنذر الذين يَخْشَوْن ربّهم بالغيب) ، لأنه لا ينفع التذكير إلا فيمن يخاف. (ما يهْجَعون) ، أي ينامون، بل كانوا يقطعون أكثر الليل بالصلاة والتضرع والدعاء. (المحروم) : اختلف الناس في معناه حتى قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما الحروم. والمعنى الجامع للأقوال كلها أن المحروم الذي حرمه الله المال بأيّ وجْهٍ كان، والمحروم والمحارف بمعنى واحد، لأن المحارف الذي انحرف عنه الرزق. (ما خَطْبكم) ، أي ما شَأنكم وخَبَركم، والخطْب أكثر ما يقال في الشدائد. (مَنْ كان فيها من الْمؤْمنين) : الضمير المجرور لقرية قوم لوط، لأن الكلام يدل عليها، وإن لم يتقدم ذكرها. والمراد بالمؤمنين لوط وأهله، أمرهم الله بالخروج من القرية لينجوا من العذاب الذي أصاب أهلها. فإن قلت: قد وصفهم أولاً بالمؤمنين، ثم قال بعد: (فما وجَدْنَا فيها غَيْرَ بَيْت من المسلمين) ، فهل جمعوا الوصفين، وهل هما بمعنى واحد؟ فالجواب أنهم جمعوهما، ومعنى الإسلام الانقياد. والإيمان هو التصديق، ثم إنهما يطلقان بثلاثة أوجه باجتماعهما كهذه الآية، وباختلاف المعنى، كقوله: (قالت الأَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) . فالإيمان والإسلام في هذا الموضع متباينان في المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وبالعموم كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) ، فيكون الإسلام أعمّ، لأنه بالقلب والجوارح، والإيمان أخصّ لأنه بالقلب خاصة. (الماهِدون) : موطئ للموضع. (ما أنْتَ بِملوم) ، أي قد بلَّغتَ الرسالة فلا لوم عليك. (ما خَلَقْتُ الجنَ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبدون) . أي خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي. وقيل ليتذللوا لي، فإنَّ جميع الإنس والجن متذلّل لربوبيتي. فإن قلت: ما فائدة ذكر الصنفين، ولم لم يذكر الملائكة وهم أكثر عبادة منهما، وما فائدة تقديم الجن على الإنس؟ فالجواب أنه لم يذكر الملائكة لأنه لا تقع منهم معصية لعصمتهم، وأيضاً لم يكلَّفوا بالعبادة غير السجود لآدم. وإنما قدم الجن لثقله، ومن عادة العرب تقديم الأثقل في كلامهم إذا جامعه الأخفّ، لنشاط المتكلم، وأيضاً فإن المطيعين من الإنس أكثر، فأخَّرهم ليختم بهم، وليرهب الجن من ذلك. وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه لطوله. (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) . أي ما أريد أنَ يرزقوا أنفسهَم ولا غيرهم، ولا أريد أنَ يطعموني، لأني منَزَّه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غنيّ عن العالمين. وقيل المعنى: ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوّزا. وقيل معناه: ما أريد أن ينفعوني، لأني غنيّ عنهم، وعبَّر عن النفع العام بالإطعام. والأول أظهر. (مَسْجور) ، أي مملوءآَ، وهو بحر الدنيا. وقيل: بحر في السماء تحت العرش. والأول أظهر. وقيل: المسجور الفارغ من الماء. ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة. واللغة تقتضي الوجهين، لأن اللفظ من الأضداد. وقيل في معناه: الموقد ناراً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 من قولك: سُجِّرت القبور. واللغة أيضاً تقتضي هذا. وروي أن جهنم في البحر. (ما ألَتْنَاهمْ مِنْ عَملِهم مِنْ شيء) . أي ما نَقَصْنَاهم شيئاً من ثواب أعمالهم، بل وفّيناهم أجورهم. وقيل المعنى: ألحقنا ذرياتهم بهم، وما نقصناهم شيئاً من ثواب أعمالهم بسبب ذلك، بل فعلنا ذلك تفضَّلاً زيادة إلى ثواب أعمالهم. والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا. وقيل إنه يعود على الذرية. وفي الحديث: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يرفع ذرية المؤمنْ في درجته، وإن كانوا دُونه في العمل لتقرَّ بهم عيْنهُ ". وكذلك كرامة الأبناء بسبب الآباء، فقيل: إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا. وقيل على الإطلاق في أولاد المؤمنين. فإن قلت: لم قال: بإيمان بالتنكير؟ فالجواب أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلاً لدرجة آبائهم. ولكنهم لحقوا بهم كرامة للآباء، فالمراد تقليل إيمان الذرية، ولكنه رفع درجتهم، فكِيف إذا كان إيمانا عظيما. (ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى) : هذا جواب القسم. والخطاب لقريش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الضلال والغي، والفرق بينهما أنَّ الضلال بغير قصد والغي بقصد وتكسّب. (ما يَنطِق عن الهوَى) ، أي ليس يتكلم بهواه وشهوته، وإنما يتكلم بما يوحى إليه. وفي هذا دليل على أن السنن بِوَحْي من الله، ويشهد لهذا الرجل الذي سأله وقد تناثر رأسه من القمل. (ما أَوْحَى) : إبهام يقتضي التفخيم والتعظيم. وفي معناه أقوال: الأول: أن المعنى أوحى إلى عبده محمد ما أوحى. الثاني: أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وعاد الضمير على الله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 القولين، لأن سِيَاقَ الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره، فهو كقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القَدْر) . الثالث: أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى. والأول أظهر بدليل سؤال عائشة له - صلى الله عليه وسلم -: ما أوحى إليك ربك، فأبى أن يخبرها، فألَحّتْ عليه وأقسمت له باللهِ، فقال: يا عائشة، أوحى إليّ أنه لا يحاسب أمتي غيره لما سألته أن يجعل حسابَهم إليَّ وقال: لا أريد أن يطَّلع على مساويهم أَنتَ ولا غيرك. وفي رواية: أنت شفيع لهم وأنا رحيمهم، فكيف تضيع أمةٌ بين شفيع ورحيم. (ما كذَبَ الفؤاد ما رَأى) ، أي ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه، بل صدق بقلبه أن الذي رأى بعينه حق، والذي رأى هو جبريل، يعني حين رآه قد ملأ الأفق. وقيل: الذي رأى ملكوت السماوات. والأول أرجح: (ولقد رآه نزلة أخرى) . وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى، وقد قدمنا إنكار عائشة رضي الله عنها لذلك. وسئل - صلى الله عليه وسلم -: " هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: نوراني نراه! (ما يَغشَى) : فيه إبهابم لقصد التعظيم. وفي الحديث قال: "فغشيها ألوان لا أرى ما هي"، وهذا أولى ما تفَسَّر به الآية. (ما زَاغَ الْبَصَرُ وما طَغَى) . أي بَصَرُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي ما تجاوز مما رأى إلى غيره، بل أثبتها وتيقَّنها. (مَنَاْة الثالثةَ الأخرى) : صخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، وكانت أعظم الأوثان عندهم، لأنه تعالى أكدها بهاتين الصفتين، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: الأخرى ذمّ وتحقير، أي المتأخرة الوضيعة القدر. ومنه: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ) . (ما تمَنَّى) : يعني ليس للإنسان ما تمنّى من الأمور، لأنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 بيد الله يعطي ما يشاء ويمنع ما شاء، وفيه إشارة إلى ما طمع فيه الكفار من شفاعة الأصنام فيهم. وقيل: هو تمنِّي بعضهم أن يكون نبيئاً. وقيل غير هذا. والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه. (مَبْلَغهم مِنَ العِلْم) ، أي انتهاء علمهم، لأنهم علموا منفعتهم في الدنيا ولم يعلموا ما ينفع الآخرة. (ما فِيه مزْدَجَر) : اسم مصدر بمعنى ازدجار، بمعنى أنه مظنة أن يزجر به، يعني قد جاء قريشاً من القصص والبراهين والمواعظ - لو عقلوها - ما يصدقونك به يا محمد. (ما تغْنِي النّذر) : يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية بمعنى الاستبعاد والإنكار. (مَغْفولبٌ فانْتَصِر) : أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك. وقالت التصوفة: معناه قد غلبتني نفسك حين دعوت على قومي فانتصر مني. وهذا ضعيف، لأن قوم نوح مكروا به وأرادوا إهلاكه، ومكر الله بخروجهم من وجه الأرض، فأخرج الله منها ماء حارًّا، وأنزل من السماء ماء باردا، وأظهر من بينهما طوفاناً مبيداً، فأهلك عدوَّه، وأنْجَى حبيبه، كذلك يقول الله تعالى: يا إسرافيل، انفخ في الصور، ويا أهل القبور والنشور ويا سماء انفطري، ويا كواكب انتثري. ويا شمس انكدري، (ثم ننَجِّي الذين اتقوا ونَذَر الظالمين فيها جِثِيًّا) . (ما أمْرُنا إلاَّ واحدةٌ) : عبارة عن سرعة نفوذ أمر الله، ويراد بالواحدة الكلمة التي هي: كنْ. (مَقْعَدِ صِدْق) : مكان رضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 (مَرْجَان) : صغار اللؤلؤ عند بعضهم. قال ابن عطية:المرجان حَجر أحمر. وذكر الجواليقي عن بعض أئمة اللغة أنه أعجمي. فإن قلت: لا يخرج المرجان إلا من البحر الملح، فما معنى قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) ، وكذلك قوله: (وتستخرجون حلية تلبسونها) . وهي لا تخرج إلا من البحر الملح؟ والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن ذلك تجوّز في العبارة، كما قال: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ، والرسل إنما هي من الإنس. والثاني: أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح، حيث تنصبّ أنهار الماء العذب، وينزل المطر، فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصبّ في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعاً. الثالث: زعم قوم أنه قد يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب. وهذا قول يبطله الحسّ. (مَنْ عليها فَانٍ) : الضمير للأرض، يدلُّ على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان، ولكنه غلب العقلاء. (مَقْصورَاتٌ في الخِيَام) : أي محجوبات، لأن النساء يمْدَحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج منها، ولا تقام الخيام من الخشب والحشيش، وإنما هو لؤلؤ مجوَّف فلا الديار الديار، ولا الخيام الخيام. وفي الحديث: إن جبريل ينغمس كلّ يوم في عين الحياة، وينتفض، فكلما سقطت قطرة من ريشه سقطت منه حوراء عليها خيمة لؤلؤ لا يراها ملك ولا غيره، غيرة منه سبحانه على وليّه المطيع له أنْ يَرَاها غيره، فكيف لنا بالوصول إلى هذا النعيم المقيم، وأكبر من هذا التلذذ برؤية المولى العظيم - إلا باطِّراح أنفسنا بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 يديه، وقولنا له: أنتَ أنتَ، ونحن نحن، ولا بد لنا من الوصول إليك، فعامِلْنَا بما يعامل به المولى الكريم لعبده اللئيم، فلا فضيحة إلا ونحن أهلها، ولا ستْر إلا وهو أهله، فاسترنا بما نحن أهله بما أنت أهله يا رحيم. (ما أصحابُ الْمَيْمَنَة) : هذا ابتداء خبر، وفيه معنى التعظيم، كقولك: زيد ما زيد. والْمَيْمَنَة يحتمل أن تكون مشتقّة من اليمن، وهو ضدّ الشؤم، وتكون الْمَشْأمة مشتقة من الشؤم. أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية الشمال واليَدُ الشّؤْمَى هي الشمال، وذلك لأن العربَ تجعل الخير من اليمين والشرَّ من الشمال. أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين، وأهل النار يحملون إلى جهة الشمال. أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال. أو يقال أصحاب الميمنة أصحاب اليمين على أنفسهم، أي كانوا ميامين على أنفسهم، وأصحاب الشمال مشائيم على أنفسهم. (مَوْضونة) : منسوجة. وقيل المشتبكة بالدرّ والياقوت. وقيل معناه متواصلة قد أُدْني بعضها إلى بعض. (ما أصحابُ اليَمين) : هذا مبتدأ وخبر، وقصِد به التعظيم، فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده. ويحتمل أن يكون الخبر في صدر الآية، ويكون (ما أصحاب اليمين) اعتراضاً. والأول أحسن. وكذلك إعراب (ما أصحاب الشمال) . (مَنْضود) . أي نضّد بالتمر من أعلاه إلى أسفله حتى لا يظهر له ساق. (مخضود) : يعني لا شوك فيه، وذلك أن سدر الدنيا له شوك، فوُصِف سِدْر الجنة بضدّ ذلك. وقيل المخضود هو الموقر الذي انثنت أَغصانه من كثرة حمله، فهو على هذا من خضد الغصْنَ إذا ثناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 (مَاءٍ مَسْكُوبٍ) . أي مصبوب، وذلك عبارة عن كثرته. وقيل المعنى أنه جارِ في غير أخاديد ولا ساقية ولا دلو ولا تعب. (مَحْرومون) : ممنوعون من الرزق، يعني يقولون ذلك لو جعل الله زَرْعَهم حُطاماً. (مَتَاعاً للمقْوِين) : أي الذين دخلوا في الْقِوَاء، وهي الفيافي، ولذلك عبر عنه ابن عباس بالمسافرين. ويحتمل أن يكون من قولهم: أقوى المنزل إذا خلا، فمعناه الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. ولذلك عبر عنه بعضهم بالجائعين. (مَوَاقِع النجوم) : فيه قولان: أحدهما قول ابن عباس أنها نجوم القرآن، لأنه نزل على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - منجّماً، كما قدمناه في عشرين سنة أو أكثر، فكل قطعة منه نَجْم. والآخر، وهو قول كثيرٍ من المفسرين أنها النجوم الكواكب، ومَوَاقعها مغاربها ومساقطها. وقيل مواضعها من السماء. وقيل انكدارها يوم القيامة. (مَدِينين) : أذلاء من قولك: دِنْتُ له بالطاعة. ومعنى الكلام: فلولا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوها إن كنتم صادقين، أي مربوبين ومقهورين. (ما لكم لا تُؤْمِنُون باللَهِ والرَّسول) : استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. والواو في قوله: والرسول يدعوكم - واو الحال، ومعناه أيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة. (ما لكم ألاَّ تنْفِقُوا في سبيل الله) : فيه تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا. ومعناه أيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله. واللة يرِث ما في السماوات وما في الأرض إذا أفنى أهلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 (ما أصاب مِنْ مصِيبةٍ في الأرض ولا في أنْفُسكم) . معناها أنَّ الأمور كلها مقدَّرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون. قال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء. والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يُصيب من خير أو شر. وقيل أَراد به المصيبة في العُرْف، وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك بالذكر، لأنه أهم على الناس. فانظر هذا اللطف العظيم من هذا الرب الكريم في دعاء عباده بهذه الآية إلى إراحة أنفسهم شفقةً عليهم وهي قطب دائرة العبادة عليه، ومدارها، وهو ثبات الباعث عليها، ألا ترى ما وعدهم به من الأجر على الصبر على المصائب مع ما في الرضا بها من الراحة والسلامة، وما في الجزع من الهمِّ والغمِّ والعقوبة، وكيف يسخطُ الجاهل بعواقب الأمور، وإنما أجهلك بها لتسأله أَنْ يختارَ لك ما لا تختاره لنفسك، إذ هو عالم بما يصلح لك، والكلام على هذه الآية طويل تكفّل بجمعه علماء أجلة كالغزالي وابن عطاء الله والقشيري وغيرهم، جزاهم الله عنَّا ما هو أهله. فإن قلت: قد فصل في هذه الآية مصائب الأرض، كالزلازل والقحوط. وفي أنفسكم بالمرض والموت والفقر، وأجمل في التغابن، فما الحكمة؟ فالجواب إنما فصل فيها موافقة لما قبلها، لأنه فصَّل في سورة الحديد أحوال الدنيا والآخرة بقوله: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) . فناسب ذلك التفصيلُ التفصيلَ في الآية. وأما سورة التغابن، فناسب الإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك، وتحصَّل نظم السورتين على أَتَمِّ مناسبة. فإن قلت: ما لنا نفرح بالخير ونجزع من الشر، وقد قال تعالى: (لكيلا تَأسوْا على ما فاتَكمْ ولا تَفْرَحوا بما آتاكم) . وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - لما أوتي بمال كثير: اللهم لا نستطيع أن نفرح إلاَّ بما زيَّنت لنا. وقد حثى أيوب من الجراد الذي سقط عليه، فقال الله له: ألم يكن فيما أبليتك - أي أعطيتك - غِنًى عن هذا، فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركاتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 فالجواب أن النهي إنما هو عن الفرح الذي يعود إلى الكبر والطغيان، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم. وقد ذكر القرافي فرقاً بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ. وضرب له مثلاً بالطبيب إذا وصف للعليل دواءً مرًّا، أو قطع يده المتآكلة. فإن قال بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، وكان غير هذا يقوم مقامه بما هو أيسر فهو تسخّط بقضاء الطبيب، وإذاية له، وجناية عليه، بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك، وشقَّ عليه. وإن قال: هذا، لدواء مرٌّ قاسيْتُ منه شدائد، وقطع اليد لي منها آلام عظيمة مبرّحة فهذا سخْطٌ بالمقضي الذي هو الدواء والقَطْع لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، فهذا ليس يقدح في الطبيب، ولا يؤلمه إذا سمع بذلك، بل يقول له: صدقت، الأمر كذلك، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضاً بالمقضيِّ. وإن قال: أي لشيء عملته حتى أصابني مثل هذا، أو ما ذَنْبي، أو ما كنت استَأهِل مثل هذا، فهذا عدم رضا بالقضاء، فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض عليه في ملكه. وأما أنَّا أُمِرْنا أن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد ما ليس في طبعه، ولم يُؤمر الرَّمِدُ باستطابة الرمد المؤلم، ولا غيره من المرض، بل ذمَّ اللهُ قوماً لا يتألّمون ولا يجدون للبأساء وقْعاً بقوله: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما اسْتَكَانوا لربِّهم وما يتَضَرَّعون) ، فمن لم يتمسكن، ويذل للمؤلمات، ويظهر الجزع منها، ويسأل ربه إقالة العثرة - فهو جبار عَنِيد، وشيطان مَرِيد. فإن قلت: يفهم من هذا أن من قدر الله عليه بمعصيته يجب عليه الرضا بها. وليس كذلك؟ فالجواب أن الرضا بالمقضيّ قد يكون واجباً كالإيمان بالله والواجباتِ إذا قدرها الله للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات، وحراماً في المحرمات. والرضا بالكفر كفر، ومباحاً في المباحات. وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 من غير تفضيل، فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر - والعياذ باللهِ - فالواجبُ عليه أن يلاحظ جهةَ المعصية والكفر فيكرههما. وأما إنْ قدر الله فيهما فالرضا ليس إلا. ومتى تسخّطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية، وكفراً منضمّاً إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك. أما إذا تاب ورجع إلى الله من ذلك فلا شكّ أنَّ المعصية في حقه نعمةٌ من الله عليه، لأن الذنبَ يورث الافتقار، والطاعة تورث الاستكبار، والمعصية ُ تورِث ذلاً وافتقاراً خير من طاعة تورث عزا واستكباراً. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أنَّ الذنب خير للمؤمن من العُجْب ما خَلّى الله بين عَبْدٍ وبين ذَنْب أبدًا ". وفي الحديث: "إن إبليس ليوقع العبد في معصية فلا يزال هذا العبد نادماً عليه وخائفاً من عقوبته، فيقول إبليس: يا ليتني لم أوقعه فيه". والكلام هنا طويل تركناه لذلك. (مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) : ندب الله عبادَة في هذه الآية إلى الإنفاق في سبيل الله، وهذا من لطْفِ اللَهِ بهم، تارة يدعوهم إلى الزّهد في الدنيا والخروج عنها بالإقراض، وتارة بلفظ المضاعفة، فهنيئاً لكم أيتها الأمة بما خوّلكم مولاكم. وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذَرَّةٍ خيراً يَرَه) - شَقّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل الأمة، ولم يرض بذلك، فأنزل اللَّهُ: (أولئك يؤتَوْن أجرهم مرتين) ، فلم يَرْضَ بذلك، فأنزل الله: (مَنْ جاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، فلم يرض بذلك، وقال: " رب زد أمتي "، فأنزل الله: (واللَه يضاعف لمن يشاء) ، فقال: " رب، زِدْ أمتي "، فأنزل الله: (مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) . والكثير لا يكون أقلَّ من ثلاثة، والدنيا كلّها قليل، والإضعاف لا يكون أقل من ثلاث مرات مثل الدنيا. فقال: رب، زد أمتي، فأنزل الله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) . فإن قلت: هلا أعطاهم بغير قَرْض ولا مجيء حسنة في قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 (مَنْ جاء بالحسنة) . وما الحكمة في أنَّ الله ذكر الصدقةَ بلفظ القرض، وما الحكمة في الإضعاف؟. فالجواب أن الله تعالى لو أعطى الثواب بغير شيء لكان يجب أن يعطي الكفّار مثلَ ما يعطي المؤمنين، فجعل الحسنات إلى المؤمنين لتمنع الثواب عن الكفار بها، ولا تكون حجة عند الله. وذكر الصدقة بلفظ القرض، لأن المقرض محتاج، فذكر أنك محتاج إليه مضطر، فلا يمنعك لاحتياجك، ولتعلم أنه يخْلفه لك. والقرض ليس فيه مذلّة، بخلاف الصدقة. ومن أقرضته لا يمنُّ عليك. ولما كان للأمم الخالية عمر طويل وطاعات كثيرة بخلاف هذه الأمة، فخصَّها الله بتضعيف الطاعات، وتفصيل الأوقات، لتكون أعمالهم زاكيةً عليهم. ولما كان في الطاعات تقصيرٌ جعل لهم الإضعاف، إذ هو بغير تقصير، وبه تنال الجنة، لأنها من فضله ورحمته لا بعملهم وسعْيهم وإن ظلموا بعضهم بعضا تؤخذ حسناتهم بقدر مظلمتهم حتى تفنى ولا يبقى إلا التضعيف، فيقولون: يا ربنا، أعطنا من أضعاف عملنا. فيقول الله لهم: ذلك ليس منْ الفعل، وإنما هو من فضلي ورحمتي، فلا نصيب لكم فيها، فلا تؤخذ منهم. (مَنَافِعُ لِلنَّاسِ) : يعني أنَّْ الحديد فيه منافع لسكك الحرث والمسامير، وذلك أن كلَّ صنعة لهم مفتقرة إليه، فلا يستغنى عنه. (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) : يعني أنَّ الله أنزل الحديد ليعمل منه السلاخ لقتال أعْداءَ الله، وليعلم الله مَنْ ينصره، أي ليعلمه موجوداً فالمتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحديث الذي خرج من العدم إلى الوجود. ومعنى (بالغيب) بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن به لقيام الأدلة عليها، فأى عذر لتاركِ الجهاد في سبيل الله، وقد أخبر أنه أرسل رسلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعا، وسلاحاً يقاتل به من عاند، ولم يهتد بهَدْي الله. (ما كتَبْنَاهَا عليهم إلاَّ ابتغاءَ رِضْوَان الله) : أي فرضنا وشرعنا. وفي هذا قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 أحدهما أن الاستثناء منقطع. والمعنى ما كتبنا على الذين اتّبعوا عيسى الرهبانية من الاعتزال عن الناس، ورَفْض النساء، وتَرْك الدنيا، ولكنهم فعلوها من تِلْقَاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله. والآخر أنَّ الاستثناء متصل: والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله. والأول أرجح، لقوله: ابتدعوها، ولقراءة عبد الله بن مسعود ما كتبناها عليهم، لكن ابتدعوها. والمعتزلة يعربون (رهبانية) مفعولاً بفعل مضمر يفسره ابتدعوها، لأن مذهبهم أنً الإنسانَ يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم الفاسد. (ما رَعَوْهَا حقَّ رِعَايَتِها) .. أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها. والضمير في (رعَوْها) للذين ابتدعوها لرهبانيةٍ، وكان يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل وجب عليه إتمامُه، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك، أحب العمل إلى الله أدْوَمه وإن قل. حتى قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان أحبَّ العمل إليه ما كان ديمةً. (ما هُن أُمهاتِهم) : ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة، وأخبر تعالى أنَّ تصيير الزوجة أُمًّا باطل، لأن الأم في الحقيقة الوالدة التي ولدت. (ما يكون مِنْ نَجْوَى ثلاثةٍ إلا هو رَابِعُهم) المجادلة: 7. يحتمل أن تكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فيكون ثلاثة مضافاً إليه، أو بمعنى الجماعة من الناس، فيكون ثلاثة بدلاً أو صفة، والأول أحسن. (ما هم مِنْكُمْ ولا مِنْهُم) : يعني أنَّ المنافقين ليسوا من المسلمين ولا من اليهود، فهو كقوله تعالى فيهم: (مُذَبْذَبين بين ذلك) . وإذا عُوتبوا على سوء قولهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا ولا فعلوا. وقد صدر ذلك منهم مراراً كثيرة مذكورة في السير وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) . ضمير الغيبة يعود على بني النضير، وذلك لكثرة عدتهم ومَنَعة حصونهم. فأخذهم الله ولم تغْنِ عنهم من الله شيئاً. (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) . نزلت بسبب الفيء. يعني ما آتاكم من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفَيْءَ، ونهي للأنصار عنه، ولفط الآية مع ذلك عامّ في أوامره ونواهيه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع مِنْ لبْس المخيط على الحُرُمِ، ولعن الله الواشمَة وغيرها لوروده عنه - صلى الله عليه وسلم -. (كَمَثَلِ الذين مِنْ قَبلهم قَرِيباً ذَاقوا وَبَالَ أمْرِهم) . أي هؤلاء اليهود كمَثَلِ الذين مِنْ قَبْلهم - يعني اليهود من بني قَيْنقاع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا مثلاً لهم. وقيل يعني أهلَ بَدْر الكفار، فإنهم قبلهم، ومثَلٌ لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح، لأنَّ قوله: (قريباً) - يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة. وذلك أوقع على بني قَيْنقاع. وأيضاً فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع ألْيق لأنّهم يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم، كما فعل بهم، وذلك هو المراد بقوله: (ذاقوا وبال أمرهم) . (كمثل الشيطان ... ) . مثَّل الله المنافقين الذين أغْووا اليهود من بني النضير تم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان، فإنه يَغْوِي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس. وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشاً يوم بدر، وقال لهم: (إني جاز لكم) . وقيل المراد بالإنسان برصيص العابد، فإنه استودع امرأة فزيَّن له الشيطان الوقوع عليها، فحملت فخاف الفضيحة، فزيَّن له الشيطان قَتْلها، فلما وُجِدتْ مقتولة تَبَيَّن فعله، فتعرّض له الشيطان، وقال له: اسجد لي وأنجيك، فسجد له وتبرَّأ منه. وهذا ضعيف في النقل. والأول أرجح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 (موَدَّة) : أي محبّة، وقد كمُلَت في فَتْح مكة، فإنه أسلم حينئذٍ سائر قريش. وقيل المودة تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. وردَّ ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية. وبالجملة لما أمر الله المسلمين بمعاداة الكفار ومقاتلتهم امتثلوا ذلك على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة، فعلم الله صدقهم، فآنسهم بهذه الآية. ووعدهم أن يجعل بينهم مودة. (مِثْلَ ما أنْفَقوا) ، أي اطلبوا من الكفار ما أنفقْتُم من الصدقة على أزواجكم اللاتي فررن إلى الكفار، وليطلب الكفار ُ منكم ما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. فإن قلت: يفْهَم من تكرر هذه الآية بقاء حكمها؟ والجواب أنه لما قال الله: (واسألوا ما أنْفَقْتُم ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا) . قال الكفار: لا نرضى بهذا الحكم، ولا نُعْطي صداق مَنْ فَرَّتْ زوجتُه إلينا من المسلمين، فأنزل الله هذه الآية الأخرى. وأمر المسلمين أن يدفعوا الصداقَ لمن فرَّت زوجته إلى الكفار من المسلمين، ويكون هذا النوع من مال الغنائم على قول مَنْ قال: إنَّ معنى فعاقبتم: غنمتم. وقيل من مال الفيء. وقيل من الصدقات التي كانت تُدْفع للكفار إذا فرَّ أزواجُهم إلى المسلمين، فأزال الله دَفْعَها إليهم حين لم يرضوا حكمه. وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآيات قد ارتفعت، لأنها نزلت في قضايا معينة، وهي مهادَنةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي العرب، ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة، إذ لا يجوز لنا مهادنة المشركين من العرب، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف، وإنما تجوز مهادنةُ أهلِ الكتاب والمجوس، لأن الله تعالى قال في المشركين: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) . وقال في أهل الكتاب: (حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ) . وقال - صلى الله عليه وسلم - في المجوس: "سنّوا بهم سنَّةَ أهل الكتاب". (مَرْصوص) : هو الذى يُضَمّ بعضُه إلى بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وقيل: هو المعقود بالرصاص، ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظة، وفيها إشارةٌ إلى الثبات في القتال والجِدّ فيه. (مثَل الذين حُمِّلوا التوراةَ) . أي كلِّفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها، فلما لم يطيقوا أمْرَها ولم يعملوا بها شبّههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولا يدري ما فيها، وهم أيضاً حملوا التوراة ولم يحملوها، لأنها تنطِقُ بنبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن قرأها ولم يؤمِنْ بها فقد خالف التوراة. (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ ومِنَ التجارة) : سبب هذه الآية أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً يخطب على منبره يوم الجمعةْ، فأقبلت عِير من الشام بطعام وصاحِبُ أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العِير المدينةَ بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهلُ المسجد إليها، وتركوه - صلى الله عليه وسلم - قائماً على المنبر، ولم يَبْقَ معه إلا اثنا عشر رجلا. قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم، وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة. واختلف في الثاني عشر فقيل عبد الله بن مسعود. وقيل عَمّار بن ياسر، وقيل: إنما بقي معه - صلى الله عليه وسلم - ثمانية. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا هؤلاء لقد كانت الحجارة مسوَّمةً في السماء على الناقضين ". فإن قلت: ما بالُ الصحابة الموصوفين بالصلاح والعفاف يُهرعون للعِير ويَدَعون أشرفَ الخلق على منبره يعظُهم ويذكرهم؟ فالجواب أنَّ ذلك منهم كان عند هجرته - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولم يوقر الإيمان في صدورهم، وكانت مَسْغَبة عظيمة، ولهم عيالٌ يطلبونهم، فلكثرة فرحهم بسرور عيالهم وعلمهم بحسن خلق نبيهم وأنه بعثه الله رحمةً لهم وميسِّراً لدينهم، خرجوا لنظر العير، هل أتى بطعام كثير يفرحون بهم أهاليهم، ولأنهم كانوا قد صلّوا معه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة المفروضة، وظنهم أنَّ الخطبة ليست من شرط الصلاة، وأنهم سيرجعون إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد نظرهم، وإلاَّ لو علموا وجوبَ ذلك عليهم لآثروه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أنفسهم وأولادهم، ألم تسمع إلى قولهم - في غَزْوَة بدر لما استشارهم - صلى الله عليه وسلم - في القتال: نحن أسيافك القاطعة، ودروعك المانعة، إنْ خُضْتَ بحراً خضناه معك، وإن قاتلت ندفع عنك، ولسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهَبْ أنْتَ ورَبّك فقَاتِلا، ولكن نقول لك: اذهَبْ أنْتَ وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون. فإن قلت: لِمَ قال: (انفضّوا إليها) - بضمير الفرد، وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد انفضّوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، قاله الزمخشري. والآخر: أنه قال ذلك تهمُّماً بالتجارة، إذ كانت أهَمَّ، وكانت هي سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، قاله ابن عطية. فإن قلت: لم قدّم في هذه الآية اللهو على التجارة، وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب أنَّ كلّ واحدٍ من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه، وذلك أنَّ العرب تارة يبدأون بالأكثر، ثم ينزلون إلى الأقل، كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل، فبدأت بالكثير، ثم أردفت عليه القليل، وهي دونه. وتارة يبدأون بالأقل، ثم يرتَقُون إلى الأكثر، كقولك: فلان أمين على القليل والكثير، فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الكثير. ولو عكس في كل واحد من المثالين لم يكن حسناً، فإنك لو قدمت في الخيانة ذكر القليل لعلم أنه يخون في الكثير من باب أحرى وأولى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة، وكذلك قوله: (إذا رَأوْا تجارة أو لَهْوا انفضّوا إليها) - قدم التجارة هنا ليبيِّن أنهم ينفضّون إليها من باب أولى، انفضاضهم إلى اللهو الذي هو دونها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وقوله: (خَيْر من اللَّهْوِ ومن التجارة) قدم اْللَّهوْ، ليبين أنَّ ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضاً خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن. فإن قلت: لِمَ قال - صلى الله عليه وسلم - في المتخلفين والمنفضّين: لولا هؤلاء لعذبوا بالحجارة، وهل ذلك خاصّ بالجمعة أو بسائر الصلوات لو تخلفوا عنه، ولِمَ قال في الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله) . وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ائتوها وعليكم السكينة والوقار بغير سرعة؟ فالجواب لما جهلوا قَدْرَ هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عذبوا لولا أنَّ الله دفع عنهم بمن عرف حقَّ الله وحق رسوله، كما قال تعالى: (ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضهم ببعض) ، وهذا خاصّ بالجمعة، لأنها عملٌ وذكر، وهو الخطبة، وسائر الصلوات عمل، ولذلك تُسمَّى يوم الجمعة عند أهل الجنة يوم المزيد، يزدادون فيه جمالاً وحسناً كما يزدادُ أهلُ الدنيا هرماً وضعفاً، وتُعْرَفُ عند أهل السماء بيوم الخير، وعند أهل الكتاب يوم التوبة، وعند أهل الزَّبُور بسيِّد الأيام، وفي الفرقان يوم الجمعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: يوم الجمعة حَجّ المساكين، لأنه يشبه الحج لإتيان المكلَّف إليها بعد النداء، كالحج: وأذِّن في الناس، وإذا نُودي للصلاة. وفي الغسل لها، كما يغتسل للحج، وزادت الجمعة بإباحة الطيب والتزيُّن والخطبة التي كانت في الحج يوم عَرفة. ولما حرم الصيد في الإحرام وأبِيح بعده حرّم البيع والشراء عند صلاة الجمعة، وأبيح بعدها، وابتغاء الفضل كما في مريد الحج، قال تعالى: (ليس عليكم جُنَاح أن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ ربكم) ، ويسعى إليها من بعيد، كما يسعى إلى الحج من كل فَجّ عَمِيق، وأمِر المكلف بالذكر بعد الفراغ منها، كما أمر الحاج به في قوله: (فاذكُروا الله كذِكْرِكم آباءَكم) . وقال في الحج: (فإن خَيْرَ الزَّادِ التقوى) . وقال في الجمعة: (قُلْ ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) . والإجماعُ على أنَّ يوم الجمعة أفضلُ من يوم عرفة للحديث: "خَيْرُ يوم طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة، وفيه - خُلق آدم. .. الحديث. (مَنْ يُؤْمِن بالله يهْدِ قَلْبَه) : قيل معناه من يؤمن بأنّ كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 شيء بإذن الله يهْدِ الله قلْبَه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا حسن، إلاَّ أنّ العمومَ أحسن مضه. (ما استَطَعْتم) : (ما) ظرفية، وهذا ناسخ لقوله: (اتقوا اللهَ حَقَ تُقَاته) . وروي أنه لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على الناس حتى نزل: (ما استطعتم) . وقيل: لا نسخ بينهما، لأن (حق تقاته) معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحدٌ إلاَّ ما يستطيع. فهذه الآية على هذا مُبَيِّنَة لتلك، وتحرَّز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان، وما يؤاخذ به العبيد. (مَنْ يُوقَ شحَّ نَفْسِه) : هو بخْلها وطمعها، فمن وقِيها وُقِي شرَّ الدنيا والآخرة. وقيل: إنها نزلت في الطلاق. ومعناها من يتَّقِ الله فليطلق طلقة واحدة حسبما تقتضيه السنَّة. (يجعل له مَخْرَجاً) ، بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق. وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلَّق ثلاثاً: إنك لم تتَّق اللهِ فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً، أي لا رَجعة لك. والصحيح أنها على العموم، وأنَّ من يتَّق الله في أفعاله وأقواله يجعل له مخرجاً، فيدخل في ذلك الطلاق وغيره. وروي أنها نزلت في عَوْف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسِر ولده وضيّق عليه رزقه، فشكَا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيراً وانطلق ولده ووسّع الله عليه رزقه. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - حين قرأ هذه الآية: مَخْرَجاً من شبهات الدنيا، وغمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. وقال - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم آوية لو أخذ الناس بها لكفتهم: ومن يَتّقِ الله ... ) الآية. فإن قلت: إن الله تعالى تكفّل بأرزاق العباد على الجملة، فما فائدة قوله: (ويَرْزقْه من حيث لا يَحْتَسِب) . فالجواب أن الرزق مضمون لكل حيّ طولَ عمره، وهو الغذاء الذي به تقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الحياة، قال تعالى: (ومَا مِنْ دَابّةٍ في الأرض إلا على الله رِزْقها) . وأما رزق المتقين فوعْدُ الله لهم أن يأتيهم بسهولة من غير تَعب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تكفّل اللَّهُ لطالب العلم برزقه". وفي حديث آخر: "استنزلوا الرزق بالصدق". مصداقه قوله تعالى: (ولو أنَّ أهْلَ الكتاب آمَنوا واتّقَوا لكفَّرْنا عنهم سيئاتهم) . فبيَّن لك سبحانه أنهم لو عملوا بما في التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي لَوَسَّعْنا عليهم أرزاقنا، وأغدقنا عليهم إنفاقَنا، لكنهم لم يفعلوا ما نحبّ، فلذلك لم نفعل ما يحبون. وانظر كيف تكفّل الله سبحانه بالرزق لعباده تعريفا بوداده، ولم يكن ذلك واجباً عليه، بل أوجبه على نفسه إيجاب كرم وتفضّل، كأنه يقول: أيها العبد ليست كفالتي ورزقي خاصّاً بك، بل كلّ دابة في الأرض أنا كافِلها ورازقها، وموصِّل إليها قوتَها، فاعلَمْ بذلك سعةَ كفالتي، وغناء ربوبيّتي، وأنَّ شيئاً لا يخرج عن إحاطتي ورعايتي، فثِقْ بي كفيلاً، واتخذني وكيلاً، فإذا رأيتَ ذكري لأصناف الحيوان، ورعايتي إياها، وقيامي بحسن الكفالة لها وأنت أشرف هذا النوع، فأنت أولى بأن تكون لكفالتي واثقاً، ولفضلي رامقاً، ألا تراني قلت: (ولقد كرَّمْنَا بَني آدَم) ، أي على سائر أجناس الحيوان إذ دعونِاهم إلى خدمتنا، ووعدناهم دخول جنتنا، وخطبناهم إلى حضرتنا، ومما يوضَح لك كرامة الآدمي على غيره من المكونات أن المكونات مخلوقات من أجله، وهو مخلوق من أجل حضرة الله، فإذا علمت أن الأكوان مخلوقة من أجلك إمّا انتفاعا وإما اعتباراً، وهو نفع أيضاً، فينبغي لك أن تعلم أن الله سبحانه إذا رزق مَنْ هو مخلوق من أجلك كيف لا يكون لك رازقاً، فاستَحْييِ منه أن تكون بعدما كساك حُلّةَ الإيمان، وزَيّنَك بزينة العرفان، أن تستَوْلِيَ عليك الغفلة والنسيان، حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره وجوهَ امتنان. وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا أوْفوا بالعقود) . ومن العقود التي عاقدْتَه عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ولا تتوكل إلا عليه، ولازِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 إقرارك له بالربوبية يوم (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فرضيت به ربّاً واحدا رازقاً، فكيف توَحده هنالك وتجهله ها هنا، وقد تواتر عليك إحسانه، وغمرك فضله وامتنانه. فإن قلت: ما فائدة تكرير ذِكْر التقوى في هذه السورة في مواطن ثلاث؟ فالجواب أن أوامرها دارت على الأمر بالمحافظة على إيقاع الطلاق إذا دعت إليه الضرورة في وَقْتِه لاستقبال العدة حتى لا يقع الضرار بالمطلقة في تطويل عِدّتها، والأمر بإحصاء العدة والمحافظة عليها، وأن تخرج المعتدة من بيتها حيث وقع عليها الطلاق، والأمر بإنفاذ ما يقع الاعتماد عليه من إمساك أو مفارقة، ومن حسن الصحبة وجميل العشرة: إن اعتمد الإمساك، أو بالإمتاع أو التلطف رَعْياً لما تقدم من الصحبة إن عَوَّل على المفارقة فلرَعْي هذه الأوامر أكّد سبحانه بالتزام التقوى فيما ذكر، فتأمله جارياً على أوضح تناسب. (ما أحَلَّ الله لَكَ) . الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، نهاه الله أن يطلبَ رضا أزواجه بتحريم ما أحل الله له من تحريمه للجارية، ابتغاء رِضَا حَفْصة. وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية. وأما تحريمه للعَسل فلم يقصد به رِضَا أزواجه، وإنما تركه لرائحته، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة. (ما يُؤْمَرون) : وصف للملائكة بأنهم لا يعصون، وتأكيد لعدم عصيانهم. وقيل: إن معنى (لا يعصون) ، امتثال الأمر، (ويفعلون ما يؤمرون) جدّهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس. (ما تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمن) : بيان وتكميل لما قَبْله. والخطاب بقوله: (ما تَرى) و (وارْجع البَصر) ، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر. (مَنَاكِبها) : قال ابن عباس: هي الجبال. وقيل الجوانب والنواحي. وقيل الطرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذّلَّ والمناكب تشبيهاً بالدّوَابّ (مَنْ يمْشِي مكِبًّا على وَجْهه) . توقيف على الحالتين أيهما أَهدى. والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان: أحدهما أن المشْيَ استعارة في سلوك طريق الهُدَى والضلال في الدنيا. والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة، لأن الكافر يحْمَل إلى جهنم على وجهه. فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبًّا أبو جهل، والذي يمشي سَوِيّاً سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل حمزة. وقيل هي على العموم في كل مؤمن وكافر. وقد تمشي هذهْ الأقوال أيضاً على القول الثاني. والمكِبّ هو الذي يقع على وجهه، يقال أكبَّ الرجل وكبَّه غيره، فالمتعدي دون همزة، والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال. (ماؤُكم غَوراً) : مصدر وُصف به بمعنى غائرا، أي ذاهباً في الأرض، وهذا احتجاج على المشركين. والمعنى إنْ غار ماؤكم الذي تشربون منه هل يأتيكم إله غير الله بماءٍ معِين. واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول. وقوله: (وكأس من مَعِين) ، أي من خمر تجري من العيون. (ما أنْتَ بنعمةِ رَبكَ بمَجْنون) : هذا جواب القسم، وهو خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، معناه نفي ما نسبه الكفار له من الجنون. وبنعمة ربك - اعتراض بين (ما) وخبرها، كما تقول: أنْت - بحمد الله - فاضل. والجار والمجرور في موضع الحال. وقال الزمخشري: إن العامل فيه بمجنون. (مَشَّاءٍ بنَمِيم) ، أي كثير المشي بالنميمة، يقال نميم ونميمة بمعنى واحد. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة نَمّام منّاع للخير". أي شحيح، لأن الخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 هنا هو المال. وقيل معناه منّاع من الخير، أي يمنع الناس من الإسلام والعمل الصالح. (ما لكم كيف تحكمون) . (ما) مبتدأ و (لكم) خبره، وتَمَّ الكلام هنا، فينبغي أن يوقف عليه. وفي الآية توبيخ للكفار، أي كيف تحكمون بأهوائكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم. (مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) : مفعول معه، أو معطوف، وفيه تهديد للمكذبين بالقرآن. (مَذْموم) : هذا جواب لولا، والنفي هو الذم لا نبذه بالعراء، فإنه قال في الصافات: (فَنَبَذْنَاه بالعَرَاءَ وهو سَقِيم) ، فالمعنى لولا رحمة الله لنبِذَ بالعَرَاء وهو مذموم، لكنّه نبذ وهو غير مذموم. (ما هو إلا ذِكْرٌ للعالَمِين) : الضمير يعود على القرآن، يعني أنه موعظة وتذكير للخلق. (ما الحاقّة) : (ما) استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده، والجملة خبر الحاقّة. وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك (ما أدْرَاك ما الحاقّة) ، لفظه الاستفهام، والمراد به التهويل والتعظيم. (مَنْ قَبْلَه) : أي قبل فرعون من الأمم الكافرة، وأقربهم إليه قوم شعيب. والظاهر أنهم هم المراد، لأن عاداً وثمود قد ذكرا، وقوم لوط هم " المؤتفكات "، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: (لما طَغَا الماءُ) . وقرئ " قِبَله " - بكسر القاف وفَتْح الباء، ومعناه جنده وأتباعه. (مَفْتون) : قيل إن المفتون المجنون، ويحتمل غير ذلك مِنْ معاني الفتنة. واختلف في الباء التي في قوله (بأيكم) ، قيل زائدة، وقيل هي غير زائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 والمعنى بأيكم الفتنة، فأوقع المفتون موقع الفتنة، كقولهم: ما لَهُ معقول. أي عقل. وقيل إنها بمعنى في، والمعنى في أيّ فريق منكم المفتون. واستحسن ابن عطية هذا. (مَنْ دَخل بَيْتِيَ) : يعني المسجد. وقيل السفينة. وقيل شريعته، سماها بيتاً استعارة، وهذا بعيد. وقيل داره، وهذا أرجح لأنه الحقيقة. (مَنْ يَسْتَمِع الآنَ يَجِدْ له) : قد قدمنا أنَّ رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، واختار ابنُ عطية والزمخشري أنه قبل المبعث قليلاً. تم زاد بعد المبعث، وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، ودليلهما قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - وقد رأى كوكبا انقضَّ: ما كنتم تقولون للجاهلية لهذا؟ قالوا: كُنَّا نقول مَلكَ ملك، أو مات ملك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الأمر كذلك ". ثم وصف استراق الجن السمع. وقد ذكر شعراء الجاهلية في ذلك أشعارهم. (ماءً غَدَقا) : أي كثيراً، وهو استعارة في توسيع الرزق، يعني أنهم لو استقاموا على الكفر لوسَّع الله عليهم، إملاء لهم واستدراجاً. ويؤيّد هذا قوله: (لنَفْتِنَهم فيه) . والصحيح أن الطريقة هي الإسلام وطاعة الله. والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للكافرين المذكورين في قوله: (وأما القاسِطُون) ، أو لجميع الجن الذين استمعوا القرآن، أو لجميع الخلق. (مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسوله) : الآية في الكفار، وحملَها المعتزلة على عصاة المؤمنين، لأن مذهبهم خلودهم في النار، وعلى أنها في الكفار وجهان: أحدهما: أنها مكية، والسور المكية إنما الكلام فيها مع الكفار. والآخر: دلالةُ ما قبلها وما بعدها على أنَّ المرادَ بها الكفار، وجمع (خالدين) ، على معنى مَنْ يَعْصِ، لأنه في معنى الجمع. (مساجِدَ) : واحدها مَسْجَد - بفتح الجيم، وهذا بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وأراد هنا المساجد على الإطلاق، وهي بيوت عبادة الله. وروي أنَّ الآية نزلت بسبب تقلّب قريش على الكعبة. وقيل أراد الأعضاء السبعة التي يسجدُ عليها. ومعناها لما كانت المساجد لله فكيف تعبدون فيها غَيْرَ الله، وكذلك الأعضاء ملكها واختراعها عندي، فكيف تصرفونها في غير ما طَلبْت منكم. (ما يوعَدون) : الضمير للكفّار، يعني أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون. (مَنْ شاء اتَّخَذَ إلى رَبِّه سَبِيلاً) : أي سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حضّ على ذلك وترغيب فيه. (ما تَيَسَّرَ من القرآن) : أي إن لم تقدروا على قيام الليل كلّه فقوموا بعضَه، واقْرأوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب. وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور. وقال قوم - منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لا بد منه، ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صَلَّى الوتر فقد امتثل هذا الأمر. وقيل: كان فرضاً، ثم نسخ بالصلوات الخمس. وقال بعضهم: هو فرض على أهْل القرآن دون غيرهم. (مالاً مَمْدوداً) : اختلف في مقداره، فقيل ألف دينار. وقيل عشرة آلاف. وقيل يعني الأرض، لأنها مدت. (مَهَّدْتُ له تَمْهيدا) : الضمير يعود على الوليد بن المغيرة. ومعناها بسطت له في الدنيا بالمال والعزة وطيب العيش. (ما جَعَلْنَا عِدَّتَهمْ إلاَّ فِتْنَةً للذين كَفَروا) : أي جعلناهم تسعة عشر ليفتتن الكفَّار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم، كما قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم في واحد منهم. (ماذَا ارَادَ الله بهذَا مَثَلاً) : استبعاد منهم أن يكون هذا من عند الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 (ما يَعْلَم جنودَ رَبِّكَ إلا هو) : يحتمل القصد بهذا وجهين: أحدهما: وصف جنودِ اللَهِ بالكثرة، أي هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله. والآخر: رَفْعُ اعتراض الكفار على التسعة عشر، أي لا يعلم أعدادَ جنود اللَه إلا هو، لأن منهم عدداً قليلاً، ومنهم - عددا كثيراً، حسبما أراد الله. (ما هِيَ إلاَّ ذِكْرَى للبَشر) : الضمير لجهنم، أو للآيات المتقدمة. (ما سلَككمْ في سَقَر) . أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين، يحتمل أن خاطبهم به المسلمون. وسقر: أحدْ طبقات جهنم السبعة. وقد صحّ أنَّ من كان في الطبق الأول تناديه الملائكة ُ: (ويْلٌ يومئذ للمكذبين) . وتنادي مَنْ كان في الثاني: (فويل للمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون) . وفي الثالث: (ويْلٌ لكل هُمَزةٍ لمَزة) . وفي الرابع: (فويلٌ لهم مما كسَبتْ أيديهم) . وفي الخامس: (وويْلٌ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) . وفي السادس: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) . وفي السابع: (ويل للمطَفِّفين الذين إذا اكْتَالُوا على الناس يستَوْفون) . (مَنْ شاءَ ذَكره) : فاعل شاء ضمير يعودُ على من، وفي ذلك حضٌّ وترغيب. وقيل الفاعل هو الله، ثم قيّد فعل العبد بمشيئة الله. فإن قلت: ما وَجْهُ مخالفة هذه الآية لسورة عبَس، وسورة الإنسان؟ فالجواب أن ضمير التذكير هنا لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته. والذكّر به عظة أو موعظة، وهو أيضاً وعظ وتنبيه، فتارة تُرَاعِي العرب في مثل هذا جهة التذكير، وتارة تراعي جهة التأنيث، فتَحْمِل الضمير على ما تدعيه من تذكير أو تأنيث. فإن قلت: كيف طابق قوله: ما سلَككم - وهو سؤال للمجرمين - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 قولَه: (يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) . وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءل المجرمون ما سلككم؟ قلت: ما سلككم ليس ببيان التساؤل عنهم، وإنما هي حكاية قول المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقَر؟ قالوا: لم نك من المصلّين، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نَظْمه. (مَعَاذِيرَه) : في معناه قولان: أحدهما: أنَّ المعاذِيرَ الأعذار، أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله، ولو اعتذر عن قبائحها. والآخر: أنَّ المعاذير الستور، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو أسدل الستور على نفسه في الدنيا حين يفعل القبائح. (مَعَاشاً) : أي يُطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش. وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه، فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السيئات التي بمعنى الموت. (مَفَازا) : أي موضعَ فَوْز، يعني الجنة. (ما قَدَّمَتْ يَدَاه) : يعني يرى كل أحد ما عمل من خير أو شر. (ماءَها ومَرْعَاها) : نسب الماء والمرعى إلى الأرض، لأنهما يخرجان منها. فإن قيل: لِمَ قال: (أخرج) بغير عطف العاطف؟ فالجواب أنَّ هذه الجملة في موضع الحال، أو تفسير لما قبلها، قاله الزمخشري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 (مَتَاعاً لكم ولأنْعَامِكم) : تقديره فَعل ذلك كلَّه متاعاً لكم ولأنعامكم، لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بكلّ ما ذُكر. (ما عَلَيْكَ ألاَّ يزَّكَّى) : أي لا حرج عليك إذا يتزكى هذا الغنيّ. (مَنْ جاءَكَ يَسْعَى) : معناه ئسرع في مشيه مِنْ حِرْصه على طلب الخير: هو عبد الله بن أمِّ مكتوم. (مَنْ شاءَ ذَكَرَه) : تأمّل إلى تأنيثه الضمير في قوله: (إنها) ، وتذكيره هنا على معنى الوعظ أو الذكر أو القرآن. (مَرْفُوعةٍ مُطَهَّرَةٍ) : إن كانت الصحف المصاحف فمعناه كذلك أو مرفوعة في السماء، ومطهّرة: منزهة عن أيدي الشياطين. (ما أكْفَره) : تعجّب من شدة كُفْره مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك. (مَوْءُودَةُ: هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيّة من كراهيته لها، ومن غيرته عليها، فتسأله يوم القيامة: بأي ذَنْبٍ قتلت، على وجه التوبيخ لقاتلها. وقرأ ابن عباس سألت - بفتح الهمزة والسين - بأي ذنب قَتلْتُ - بفتح القاف وسكون اللام وضم التاء. واستدل ابن عباس بهذه الآية على أنَّ أولاد المشركين في الجنة، لأنَّ الله ينتصر لهم ممن ظلمهم. (ما أحْضَرَتْ) : عبارة عن الحسنات والسيئات. (ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ) : أي في حياتها، وأخرت مما تركته بعد موتها من سنّة سنّتها أو وصية أوْصَتْ بها. (ما غَرَّكَ يرَبّك الكريم) : هذا توبيخ وعتاب، معناه أي شيء غرّك بربكَ حتى كفرت به، أو عصيته، أو غفلت عنه، فدخل في الخطاب الكفّارُ، وعصاة المؤمنين، ومن يغفل عن الله في كل الأحيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (ما غَرَّك بربك الكريم) ، فقال: غره جهله. وقال عمر: غرّة حمقه. وقرأ: إنه كان ظلوما جهولاً. وقيل: غَرّه الشيطان المسلَّط عليه. وقيل: غره طمَعُه في عَفْو الله عنه. ولا تعارض بين هذه الأقوال، لأن كلَّ واحد منها مما يَغُرُّ الإنسان، إلا أنّ بعضها يَغُرُّ قوما وبعضُها يغُرُّ قوما آخرين. فإن قيل: ما مناسبةُ وصْفِه بالكريم للتوبيخ على الغرور؟ فالجواب أن الكريم ينبغي أن يُعْبَد ويطاع، شكراً لإحسانه، ومقابلةً لكرمه. ومَنْ لم يفعل فقد كفر النعمة، وأضاع الشكر الواجب. وقيل: إنه يخاطب العبد بالكرم تلقيناً للمؤمن في تذكره بكرمه، فيقول: غَرَّني حلمك وكرمك، ونقمةً للكافر في تعديد النعمة عليه في الدنيا، واستعانته بها على مخالفته. (مَرْقوم) : أي مكتوب، بلسان العبرانية، وارتفع في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب. وقال ابن عطية: كتاب مرقوم خبر إن، والظرف مُلْغى، وهو تكلف يفسد به المعنى. وقد روي في الأثر - ما يفسر الآية، وهو أن الملائكةَ تصعد بصحيفة فيها عمَل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في علّيين، وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجّين. (مختُوم) : قد فسره الله بأنّ ختامه مسك. (مَرُّوا بِهمْ يتغَامَزُون) : أي يغمز بعضهم إلى بعض، ويشير بِعَيْنه. والضمير في (مرُّوا) يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار، والضمير في (يتغامَرونَ) للكفار لا غير. (ما أُرْسلُوا عَلَيْهمْ حافِظِين) : أي ما أرسل للكفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم، ويشهدون رشْدَهم أو ضلالهم، فكأنه قال: كلامهم في المؤمنين فُضُول منهم. (مَنْ أوتي كتابَه وراءَ ظَهْرِه) : يعني الكافر. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان من فضلاء المؤمنين، وفي أخيه أسود، وكان من عُتَاةِ الكافرين، ولفظها أعمُّ من ذلك. فإن قيل: كيف قال في الكافر هنا إنه يؤتَى كتابه وراء ظهره، وقال في الحاقة بشماله؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيأخذ بها كتابه. وقيل: تدخل يده اليسرى في صدره، وتخرج من ظهره، فيأخذ بها كتابه. (ما لهم لا يُؤمنون) : الضمير لكفّار قريش، يعني أيّ شيء يمنعهم عن الإيمان. (ما نَقَمُوا منهم) . أي ما أنكر الكفَّار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله. وهذا لا ينبغي أنْ يُنْكر. وهذا كقوله: - (وما نقَمُوا إلاَّ أنْ أغْنَاهم اللَهُ ورسولُه) ، أي ما عابوا إلا الغِنَى الذي كان حقّه أنْ يشكروا عليه، وذلك في الجُلاَس، أو في عبد الله بن أبيّ. فإن قلت: لم قال: أن يؤمنوا - بلفظ المضارع، ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي، لأن القصة قد وقعت؟ فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في المستقبل لم يعذّبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل، فكأنه قال: إلا أنْ يدوموا على الإيمان. (ماء دَافِق) : من الدفق، بمعنى الدّفع، فقيل معناه مدفوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وصاحبه هو الدافق في الحقيقة، فقال سيبويه: هو على النسب، أي ذو دفق. وقال ابن عطية: يصحّ أن يكون الماء دافقاً، لأن بعضه يدفق بعضاً، ومقصود الآية إثبات الحشر، فأمر الإنسان أن ينظر أصْلَ خلقته، ليعلم أن الذي خلقه مِنْ ماءٍ دافق قادر على أنْ يعيده. ووَجْه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن على كلّ نفس حافظاً يحفظ أعمالها أعقبه بالتنبيه على الحشر، حيث تُجازَى كل نفس بأعمالها. (مَا لَه مِنْ قوَّةٍ ولا نَاصِر) : الضمير للإنسان، ولما كان دَفْع المكاره في الدنيا إمّا بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبر الله أنه يعدمهما يوم القيامة. (ما شاءَ الله) : فيه وجهان: أحدهما: أن معناه لا تَنْسى إلا ما شاء الله أن تنساه، كقوله: (أَوْ نُنْسِهَا) . والآخر: أنه لا تنسى شيئا، ولكن قال: إلاَّ ما يشاء الله - تعظيما لله بإسناد الأمر إليه، كقوله: (خالدين فيها إلا ما شاء الله) ، على بعض الأقوال. وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي، والأول أظهر، فإن النسيان جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن أو فيما قضى الله أن ينساه، ثم يذكره. ومن هذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع قراءة عباد بن بشر رحمه الله: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أُنسيتها. (موضوعة) : معَدة بشرابها. (مَبْثوئة) : متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها. وقيل مبسوطة. (مالاً لُبَداً) : أي كثيراً. وقرئ بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة - بالضم والكسر، بمعنى الكثرة. ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق أموالاً في إنفاق أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وقيل في الحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفَّارات، فقال: لقد أنفقْتُ مالي مذ تبعت محمدا. (ما أدْرَاكَ ما العَقَبة) : تعظيم للعَقَبة، ثم فسرها بفكّ الرقبة، وهو تفسير لاقْتَحم. وفك الرقبة هو عِتْقها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أعتق رقبةً مؤمنة أعتق الله بكل عضْوٍ منها عضواً من النار". (مَسْغَبَة) : مجاعة. يقال سغب الرجل إذا جاع. (مَقْرَبة) : قرابة. (مَتْرَبة) : فَقْر. (مَرْحَمة) : أي وصّى بعضهم بعضاً برحمة المساكين وغيرهم. وقيل الرحمة كلّ ما يؤدّي إلى رحمة الله. (مَيْمنة) : جهة اليمين. (مَشْأَمة) : جهة الشمال. وروي أن الميمنة عن يمين العرش. ويحتمل أن يكونا من اليُمْن والشؤم. (ما بَنَاها) : (ما) هاهنا، وفي قوله: (وما طَحَاها) (وما سوّاها) - موصولة بمعنى (مَنْ) . والمراد الله تعالى. وقيل إنها مصدرية. كأنه قال: والسماء وبنيانها. وضعَّفَ الزمخشري هذا بقوله: فألهمها، فإن المراد الله تعالى باتفاق، فهذا القولُ يؤدِّي إلى فساد النظم، وضَعّف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق. فإن قيل: لم عدل عن (مَنْ) إلى (ما) في قول مَنْ جعلها موصولة؟ فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصْفيّة، كأنه قال: والقادر الذي بَنَاها. فإن قلت: لم نكر النفس؟ فالجواب مِن وجهين: أحدهما: أنه أراد الجنس، كقوله: علمت نَفْسٌ ما أحضرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 والآخر: أنه أراد نفس آدم. والأول هو المختار. (ما خلق الذَّكَرَ والأنْثَى) . (ما) بمعنى (مَنْ) . والمراد بها الله تعالى، وعَدَلَ عن (مَنْ) لقَصْدِ الوصف، كأنه قال: والقادر الذي خلق الذكَر والأنثى. (مَنْ أعْطَى واتَّقَى) . أي أعطى ماله في الزكاة والصدقة، وشِبْه ذلك، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقَى اللَه. وعَبَّر بعضهم عن تصديقه بالحسنى بلا إله إلا الله، أو بالمثوبة. (الحسنى) : هي الجنة. وقيل يعني الأجر والثواب على الإطلاق. وقيل: يعني الخلف على الْمنفِق. (مَنْ بخلَ واسْتَغْنَى وكذَّب بالْحسْنَى) : أي بخل بماله أو بطاعة الله على الإطلاق، فيحتمل الوجهين، لأنه في مقابلة أعطى، كما أن استغنى في مقابلة اتّقى، وكذّب بالحسنى في مقابلة صدَّقَ بالحسنى، ونيسره للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى. ومعنى استغنى استغنى عن الله، فلم يطِعْه، أو استغنى بالدنيا عن الآخرة. ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق، لأنه أنفق مالَه في سبيل الله، وكان يشتري مَنْ أسلم من العبيد ويَعْتقهم. وقيل: نزلت في أبي الدحداح، وهذا ضعيف، وإنما أسلم أبو الدّحْدَاح بالمدينة. وقيل: إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حَرْب، وهذا ضعيف لقوله: (سنيَسِّره للعسرى) ، وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك. (ما وَدَّعَك رَبُّك وما قَلَى) : بتشديد الدال من الوداع. وقرئ بتخفيفها، بمعنى ما تركك. والوداع مبالغة في الترك. وقد قدمنا في مواضع أن معنى (قلى) أي أبغض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وسببُ نزول هذه الآية إبطاء جبريل بالوَحْي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قيل: إن محمداً قَلاَه ربه. (ما أَدْرَاكَ ما لَيْلة القَدْرِ) : هذا تعظيم لها، وحق لها أن تعظَّم، وهي من خصائص هذه الأمة، وهي تنتقل في العام كلّه. وفي الحديث: "التمسوها في العَشْر الأوَاخر من رمضان". وعند ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين، وأخذ ذلك من كلمات هذه السورة إلى قوله: (هي) القدر. وقيل: إذا وافق إفراد العشر الأواخر من رمضان ليلة الجمعة فهي ليلة القدر. والصحيح أنهاَ من المخفيات السبع، وهي الولي في خلقه، والاسم الأعظم في الأسماء، وغضبه في معصيته، ورضاه في طاعته، وساعة الجمعة في اليوم كلّه، والصلاة الوسطى في الصلوات. كلّ ذلك حرصاً على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. (ما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهم البيِّنَة) . أي ما اختلفوا في نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ مِنْ بعد ما علموا أنه حق. ويحتمل أنْ يريد تفرّقَهم في دينهم، كقوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاخْتُلِف فيه) . وإنما خصّ الذين أُوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة، لأنهم كانوا يعلمون صحةَ نبوءةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بما يجدون في كتبهم من ذكره. (ما أمِرُوا) : معناه ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا. ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأي شيء ينكرونه ويكفرون به. (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّة خَيْراً يرَهْ) : المثقال: هو الوزن. والذرة: النملة الصغيرة. والرؤية هنا ليست برؤية بصر، وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيهاً على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه قال: مَنْ يعمَلْ قليلاً أو كئيراً. وهذه الآية هي في ال مؤمن ين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 لأن الكافر لا يجازَى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه. واستدل أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يخلد مؤمن في النار، لأنه لو خلّد لَمْ يَرَ ثَوَاباً على إيمانه، وعلى ما عمل من الحسنات. وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبّة عِنب، فقيل لها في ذلك، فقالت: كم فيها من مثقال ذرة. وسمع رجل هذه الآية عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " حسبي، لا أبالي ألاَّ أَسمع غيرها ". (مَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَه) : هذا على عمومه في حق الكفار. وأما المؤمنون فلا يجزون بذنوبهم إلا بستّة شروط: وهي أن تكون ذنوبهم كبار. وأن يموتوا قبل التوبة منها. وألا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها. وألاّ يشفع فيهم. وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعمل كأهلِ بَدْر، للحديث: لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئْتم فقد غفرتُ لكم". وألاّ يعفو الله عنهم، فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له. (ما في القبور. وحصِّلَ ما في الصّدُور) : عبارة عن البعث، وجَمْع ما في الصحف. وأظهر محَصّلا، ومُيز خيره من شرّه. (مَنْ ثَقلَتْ موازِينُه) : هو جمع ميزان، أو جمع موزون. وميزان الأعمال يوم القيامة له لسانٌ وكفَّتان وعمود، وتوزَن فيه الأعمال. والخفة والثقل متعلقة بأجسام، إما صحف الأعمال أو ما شاء الله. وقالت المعتزلة: الميزان عبارة عن العدل في الجزاء. فإن قلت: يفهم من قوله: (ونَضَع الموازين) - أنها جماعة لكل أحد ميزان، فإن كان فلا إشكال، وإن كان واحداً فما معنى الجمع؟ فالجواب أنه صحّ أنه ميزان واحد، وإنما جمع لما فيه من كفَّتين ولسان وعمود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 قال الغزالي والقرطبي: ولا يكون الميزان في حق كل أحد، فالسبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يأخذون صحفاً، ولا يرفع لهم ميزان. وروي الترمذي - وحسّنه - حديث: "يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، ويُنشْر عليه تسعة وتسعون سجلاّ، كلّ سجل مثل مَدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر مِنْ هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول: لا، يا رب، فيقول: ألكَ عذْر، فيقول: لا، يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنك لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول: احضر وزنك. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلاتُ في كفّة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء". فانظر يا أخي عظيم فضل الإقرار، وقبْح الإنكار فيمن أنكر أفعاله، حتى تشهدَ عليه جوَارِحه، اللهم إنا مقِرّون بأنا مطيعون عدوَّك إبليس الذي أبْلَسْته من عدم طاعته لأبينا آدم، ولا حيلة لنا بالفرار مع غوايته إلا بتوفيقك، فثبّتْنَا على عصيانه هنا ويوم الوقوف بين يديك، فإنك تعلم أنَّا لا نعصيك لجهلنا بمعصيتك، ولا نتعرض لعقوبتك، وإنما جهلنا قَدْرَك، فمن ينقذنا من عقوبتك إن عاقبتنا، ومَنْ يوصلنا لرحمتك إن قطعتنا؟ وبحبل من نعتصِم إن طردتنا وأخجلتنا من الوقوف بين يديك، إذ ليس لنا حجة تجاهد عنا في رحمتك التي أعدَدْتها لعصاة عبادة، وقد بلَغنا عنك أنك تقول لعبد من عبادك: فأي الأمرين أحبّ إليك أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، فيقول: يا رب، أنت تعلم أني لم أعصك. فتقول: خذوا عبدي بنعمةٍ من نعمي، فما تبقى له حسنة إلا استفرغتها تلك النعمة. فيقول: يا رب، بنعمتك ورحمتك، هذا حال من لم يعصك يتعلق برحمتك، فكيف حال مَنْ لا يجد في صحيفته حسنةً، لكن جودك يعمّ المفاليس. قال بعض المحبين: رأيت أبي يزيد بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال: بأي عمل قدمت إلى حضرتي، وبأي وسيلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 توسلْتَ إلى رحمتي، فكلما ذكرتُ شيئاً في طاعته قابلني بجزء من نعمته، حتى اضمحلّت أعمالي، وفنيت أقوالي، وعظمت حَيْرتي، واشتدت كرْبتي، فقلت: يا رب، جئتك بك إليك، فنادتني الملائكة من سائر جهات العرش: الآن وصلت. هذا حال أبي يزيد الذي ترك ما يريد لما يريد، فكيف حال مَنْ خالف أمرَ مولاه في كل ما يريد. وقال بعضهم: رأيتُ سفيان الثوري بعد موته في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، فرأيت ذلَّ العبودية، وعِزَّةَ الربوبية، فليتني لم أبرح. ثم أمر بي إلى الجنة. فأقبلت أمشي بين أنهارها وأشجارها لا أسمع حِسّاً ولا أرى شخصاً، فإذا النداء: يا سفيان. قلت: لبيك! لبيك! فقال: هل كنت إلاّ عبدا في الدنيا تؤثرنا على مَنْ سِوَانا، فقلت: أنت أعلم يا ربّ. فلم أزَلْ أمشي حتى استوحشتني الحورُ العين. فإن قلت: ما معنى هذا الوقوف وهذا الحساب هنا، وإنما يكون في الدار الآخرة؟ فالجواب: هذا هو العرض الذي يُعرض فيه العبد على ربه بعد مفارقة جسده، وحينئذ يبدو له منزله، وما أعدّ الله له، يشهد لذلك الحديث لعائشة: "ذلك العرض، ومَنْ نوقش الحساب عُذّب". والكلام هنا طويل، ليس هذا محل بسطه. (مَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) : هذا من كلام الجن الذين أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن مسعود: كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعَاب، فقلنا: استطير واغتيل، فبتنا بِشَرِّ ليلة باتها قوم، فقلنا له: يا رسول الله، ما الذي أصابك، فقال: أتاني جاءٍ من الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فقال: انطلقوا بنا، فإذا آثار نيرانهم، وسألوا الزاد فقال: لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 كل عظم ذكر اسم الله عليه يقَع في أيديكم أوْفَر ما يكون لحماً، وكلّ بَعْر علفٌ لدوابكم. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تستجمروا بها، فإنها طعام إخوانكم من الجن ". فإن قلت: يُفهم من هذه الآية، ومن قوله تعالى: (يُجِرْكم من عذابٍ أليم) - أنه لا ثواب للجن غير النجاة من العذاب؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن الثواب مسكوت عنه. والثاني: أن ذلك من قول الجن. ويجوز أن يكونوا لم يطّلعوا إلا على ذلك، وخفي عليهم ما أعدَّ الله لهم من الثواب، ولذلك قيل: إن من الجن مقرَّبين وأبراراً، كما أن من الإنس كذلك. واختلف هل يكونون مع المؤمنين في الجنة ويرون ربنا كالمؤمنين، فالصحيح أنهم رَبض الجنة. والرؤية خاصة بالإنس. (مَاعون) : قيل الزكاة. وقيل المال بلغة قريش. وقيل الماء. وقيل: كلّ ما يتعاطاه الناس بينهم، كالآنية، والفأس، والدَّلْو، والمقص. وقد سئل - صلى الله عليه وسلم -: ما الشيء الذي لا يحل منعه، فقال: الماء والنار والملح. وفي بعض الطرق: الإبرة والخميرة. (مَسَد) .: هو الليف. وقيل: المسد الْحَبْل الْمُحْكم فَتْلاً من أي شيء كان، تقول: مسدتُ الحبل، إذا أحكمت فَتْله. وامرأة ممسودة، إذا كانت ملتفّة الْخَلق ليس في خَلْقها اضطراب. (مَنون) : له معنيان: الموت والدهر. ومنه قول قريش في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هو شاعر نتربَّص به رَيْبَ المنون "، فيهلك كما هلك مَنْ كان قبله من الشعراء، كزهير، والنابغة. (مؤمن) : مصدق، والله تعالى مؤمن، أي مصدق ما وعد به، ويكون من الأمان، أي لا يأمن إلا من أمَّنه الله. وقول إخوة يوسف: (وما أنْتَ بِمؤْمِن لنا) ، أي مصدق لمقالنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 (مفْلحون) ، أي باقون، والفلاح الظفر أيضاً، ثم قيل لكل من عقل وحزم وتكاملت فيه خلالُ الخير قد أفلح. (مصلحون) : يحتمل أن يكون جحوداً للكفر، لقولهم: آمنّا، أَو اعتقاداً أنهم على صلاح. (مستهزئون) : ساخرون، فجاوبهم الله بأنه يستهزئ بهم، أي يمْلِي لهم، بدليل قوله: (ويَمُدّهم) . وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، كقوله في الحديد: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) . وقيل: إنما سمي استهزاء بهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، كقوله: (ومكَرُوا ومَكر الله) ، وإنما جاء (مستهزئون) ، بجملة اسمية مبالغة وتأكيداً، بخلاف قولهم: (آمَنَّا) فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم. (مَشَوْا فيه) : إن عاد الضمير إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم. وإن رجع إلى المتقين فالمعنى أنهم يلوحُ لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان. فإن قيل: لم قال مع الإضاءة: كلّما - ومع الإظلام: إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصاً على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة. (مُتَشَابهاً) : يحتمل أن يشبه ثَمَرَ الدنيا في جنْسه. وقيل: يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في المطعم. وأما قوله: (كِتَابا متشابهاً) فمعناه يصدق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه ولا تناقض) ، كما قدمنا. (مطهّرة) . أي من الحيض والبول والغائط، فهنّ مطهرات خَلْقاً وخلقاً، محبّبات ومحبات، مسلَّمات من العلل والعيوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 (مزَحْزِحِهِ) : أي مبعده. (مخْلِضون) : الإخلاص في العمل: ألاَّ يُطلب به غير الله. وفي هذه الآية استدلال باستعمال النية في الأعمال. وبهذا أمر الله أهْلَ المِلل كلها، قال تعالى: (وما أمِروا إلاَّ ليَعْبدوا اللهَ مخْلِصين له الدِّين) ، لأن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وضدّ الإخلاص في التوحيد هو الشرك الجليّ، وضد الإخلاَص في الأعمال هو الشِّرك الخفي، وهو الرياء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرياء هو الشرك الأصغر". وفي الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ". واعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات، ومنهيات، ومباحات. فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارةٌ عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يَشوبها نية أخرى، فإن "كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وَجْهِ أللَه مِنْ طلب منفعة دنيوية، أو مدح، أو غير ذلك، فالعملُ رِياء مَحْض مردود. وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال. وأما المنهيات فإنْ تركها دون نِيّة خرج عن عهدتها ولم يكن له أجْر في تركها. وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر. وأما الْمبَاحات كالأكل والجماع وغير ذلك فإن فعلها بغير نيّة لم يكن له أَجر، وإن فعلها بنية وَجْهِ الله كان له فيها أجر، فإن كان مباح يمكن أن يصير قُرْبة إذا قصد به وجْه الله مثل أن يقصد بالأول القوة على العبادة، ويقصد بالجماع التعفّف عن الحرام. (مصيبة) ، ومصابة ومصوبة: الأمر المكروه يحلُّ بالإنسان في نفسه أو ماله أو ولده. (مسَوَّمَة) .: راعية، من قولك: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وقيل: الْمعْلَمة في وجوهها، فهو من السما بمعنى العلامة. وقيل: الْمُعَدَّة للجهاد، وقد قدمنا أنَّ المسوَّمة في حجارة قَوْمِ لوط المكتوب عليها أسماء أصْحَابها. (مُحَرَّرًا) : أي عتيقاً مِنْ كلّ شغل إلاَّ خدمة المسجد. وقائل هذه المقالة حنّة - بالنون - امرأة عمران، وهي أم مريم. (مصَدِّقاً بكلمةٍ من الله) : أي مصدّقاً بعيسى عليه السلام، مؤمناً به. وسمّي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلا بكلمةِ الله وَحْدَها. وهي قوله: كنْ، لا بسببٍ آخر، وهو الولد كسائر بني آدم. (ممْتَرين) : شاكين. (موتوا بغَيْظكم) : تقريع وإغاظة. وقيل دعاء. (مسَوَّمِين) - بفتح الواو وكسرها، أي معلَمين، أو معْلمين خيلهم أو أنفسهم. وكانت سما الملائكة يوم بَدْر عمائم بيضاء، إلا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء. وقيل: كانوا بعمائم صفر. وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب. وقيل: كانوا على خيل بُلق. (ما جعله اللَّهُ إلا بشْرَى) : الضمير عائد على إنزال الملائكة والإمداد بهم. (مضَاعَفة) : كانوا يزيدون في الرّبا عاماً بعد عام. (مؤَجَّلاً) ، نصب على المصدر، لأن المعنى كتب الموت كتاباً. وقال ابن عطية: نصب على التمييز (متَوَكّلين) : التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حِفْظها بعد حصولها، وفي رَفْع المضرة، ورَفعها بعد وقوعها، وهو من أَعْلَى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله تعالى: (إن الله يحِبُّ الْمتَوَكلين) . والآخر المكان الذي في قوله تعالى: (ومَنْ يَتَوكَلْ على الله فهو حَسْبهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وقد يكون واجباً لقوله: (وعلى الله فَتَوَكَّلوا إن كنْتم مؤمنين) ، فجعله شرطاً في الإيمان ولظاهر قوله: (وعلى الله فلْيَتَوَكَّل المؤمنون) ، فإن الأمر محمول على الوجوب. واعلم أنَّ الناس في التوكل على ثلاث مراتب: الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وَكيله المأمون عنده الذي لا يشكّ في نصيحته له وقيامه بمصالحه. والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها ولا يلجأ إلا إليها. وَالثالثة: أن يكون العبد مع ربه كالميّت بين يدي الغاسل، قد أسلم إليه نفسه بالكليّة، فَصاحِب الدرجة الأولى له حظّ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار، بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنيةٌ على التوحيد الخالص، فهي تَقوَى بقوَّته، وتضعف بضعفه. فإن قلت: هل يشترط في التوكل تَرْك الأسباب أم لا؟ فالجواب أَن الأسبابَ على ثلاثة أقسام: أحدها: سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله، فهذا لا يجوز تَرْكه، كالأكل لدَفْعِ الجوع، واللباس لدفع البرد. ولا يجوز ترك ما يؤْذِي النفس ولا استعمال إذايتها، وقد سئل الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام عمن ترك الأكل حتى أضعف النفس عن الصلاة والنكاح، وترك الواجبات. فأجاب بأنه لا يجوز استعمال ما يخلّ بالواجبات. والثاني: سبب مظنون، كالتجارة وطلب المعايش وشِبْه ذلك، فهذا لا يقدح فِعْله في التوكل، بل يجب استعماله، وهو أفضل من العبادة، لأن طلب الحلال فريضةٌ على كل مسلم. وفي الحديث: "مَنْ بات تعباً من الحلال بات مغفوراً له" (1) .   (1) في جامع الأصول برقم 21612 - "من بات كالاًّ من طلب الحلال بات مغفورًا له" (ابن عساكر من طريق عمرو بن أبى الأزهر عن أبان بن أبى عياش وهما متهمان عن أنس) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 والاشتغال بالْكَسب لإغناء النفس أفضل من العبادة واحتياجها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رجل قالوا له فيه: ما أطول عبادةَ فلان! فقال: مِنْ أين قوته، قالوا: مِنْ عندنا يا رسول الله. قال: أنتم أعبد منه. وحكاية الثلاثة نفر المعتكفين في المسجد، وإخراج عمر أحدهم لكونه كان يسأَل الناس معلومة. ولمّا بنى إبراهيم عليه السلام البيتَ صلى في كل ركْن منه ألف ركعة. فأوحى الله إليه: رَغِيف في بطن جَوْعان أفضل عندي من عبادتك هذه (1) . وفي الحديث إن الله يحبّ المؤمن المحترف، فوصفه بالإيمان، إذ التوكل من أعمال القلب لا من أعمال اليد. ويجوز تَركه لمن قوي على ذلك. والثالث سبب موهوم بعيد، وهذا يقدح فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل التفويض، وهو الاستسلام لأمر الله بالكلّية، فإن التوكل له مرادٌ واختيارٌ. وهو يطلب مراده باعتماده على ربه. وأما المفوّض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند الاختيار إلى الله، فهو أكمل أدَباً مع الله. (منَادِياً) : هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يدْعو إلى الله، فمن أجابه دخل داره وأطعمه من مائدته، ومن لم يجِبْه لم يدخلها ولم يأكل من مائدته. (محْصَنَات) : الإحصان يَرِد على أوجه: العفَّة: (والذين يَرْمون الْفحْصَنَات) . والمراد بهن ذوات الأزواج. والتزوج: (فإِذا أحْصِنَّ فإن أتَيْن بفاحشةٍ) . والحرية: (نصف ما على المحصنات مِن العذاب) ، فاقتضت الآية حدَّ اِلأمَة إذا زَنتْ بعد أن تزوتجت. ويؤخذ حدّ غير المتزوجة من السنّة، وهو مثل المتزوجة، وهذا على قراءة "أَحْصِنَّ" بضم الهمزة وكسر الصاد. وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن. وقيل: تزوَّجْنَ. (مسَافِحات) : أي غير زانيات، لأن السفاح هو الزنى، وهو منصوب على الحال، والعامل فيه (فانكحوهن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 مختالاً) : اسم فاعل، وزْنُه مفتعل من الخيلاء، وهي الكبر والإعجاب. (مُلكاً عَظِيما) : الضمير يعود على آل إبراهيم، وهم: يوسف وداود، وسليمان. (مُقِيتا) ، قيل قديراً. وقيل حفيظاً. وقيل الذي يقيت الحيوان، أي يرزقهم القُوت. (مؤْمِنَةٍ) : نعت للرقبَة المعتوقة، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا واختلَفوا في رقَبة الظّهار وكفَّارة اليمين كما قدمنا. (متَعمِّداً) : أي يقصد الفِعْلَ قصداً عازماً، فأمّا إن قصد التحليل فهو كافر، وأما إنْ قَصد الفعْلَ مع اعتقاده التحريم فهو عاصٍ في المشيئة عند الأشعرية. واختلف في القاتل عَمْداً إذا تاب هل تقبل توبَتُه أم لا، وكذلك اختلفوا إذا اقتُصّ منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا، والصحيح السقوط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أَصاب ذَنْباً فعوقب به في الدنيا فهو له كفّارة". وبذلك قال جمهور العلماء. (متَشابِهَات) : قد قدمنا حكم المتشابه في القرآن، وأنه على ثلاثة أضرب: منه ما تعلّق به أهل الزَّيْغِ من خارجي القِبلة، نحو قوله سبحانه: (فوَرَبِّك لنَسْألنَّهم أجمعين) . مع قوله تعالى في الآية الأخرى: (فيومئذٍ لا يُسأل عن ذَنْبِه إنْسٌ ولا جَانٌّ) . ومنه ما تعلّق به أهل البِدْعة مِنْ أهل القِبْلَة من أصول المسائل الفقهية، نحو قوله سبحانه: (لا تدْرِكه الأبصارُ) ، مع قوله تعالى: (وجوهٌ يومئذ ناضِرة) . ونحو قوله سبحانه: (وإذ تَخْلقُ مِنَ الطِّين كهيئة الطَّير) ، وقوله: (وتخلقون إفْكاً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 مع قوله تعالى: (هل مِنْ خَالق غَيْر اللهِ يرزقكم) . وقوله تعالى: (والله خلقكم وما تَعْمَلون) . الثالث ما تعلق به المخالف من مسائل الفروع في الأحكام الفقهية، نحو قوله سبحانه: (وثِيَابَك فَطهِّرْ) ، حيث احتجوا به في إزالة النجاسة بكل مائع غير الماء مع قوله: (وأنْزَلْنَا من السماء ماءً طَهوراً) . وقوله: (وينزلُ عليكم من السماء ماءً ليطهِّركم به) . (مسْتَضْعَفين في الأرض) : اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي لم تقدروا على الهجرة. وأما قوله: (والمستَضْعَفين من الرجال والنساء والوِلْدَان) ، فهم الذين حبَسهم مشركو قريش بمكة ليَفْتِنوهم عن الإسلام. (مرَاغَما) ، أي موضعاً ومتحوّلاً يرغم عدوه بالذهاب إليه. (محِلِّي الصَّيْد) : نصب على الحال من الضمير في (لكم) . (منْخَنِقة) : هي التي تخنق بحَبْل وشبهه. (متَجانِفٍ لإثْمٍ) : هو بمعنى غير باغ ولا عاد. (مكلِّبِين) : أي معلمين للكلاب الاصصياد. وقيل معناه أصحاب كلاب، وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في (عَلَّمْتم) . ويقتضي قوله: علمتم ومكلِّبِين - أنه لا يجوز الصيد إلا بجارح معلم، لقوله: (ما علمتم من الجوارح مكلِّبين) ، على القول الأول، ولتأكيده ذلك بقوله: (تعلمونهن) . (متَرَدِّية) : هي التي تردت من جبل أو حائط أو بئر وفاتت ولم تدرك ذكاتها. (مقَدَّسَة) : مطهرة، يعني أرض بيت المقدس. وقيل الطور. وقيل دمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 (مُهَيْمِناً) : ابن عباس. قيل: شاهدا. وقيل مؤتمناً. (مقيم) : أي دائم حيثما وقع. (مصَدِّقاً لما بَيْنَ يَديْه) : يعي التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدّقٌ للتوراة والإنجيل، ومصدقاً عطف على موضع قبله: ْ فيه هدًى ونور، لأنه في موضع الحال. (مقْتَصِدةٌ) : أي معتدلة، ويراد به مَنْ أسلم منهم، كعبد اللَه بن سلام، وقيل: من لم يعاد الأنبياء المتقدمين. (منْتَهون) : توقيف يتضمَّن الزَّجْرَ والوعيد، ولذلك قال عمر: انتهينا، انتهينا. (مسَمًّى عِنده) : إنما جعله عنده، لأنه استأثر بعلمه. (مبْلِسون) : أي متحيِّرون ساكتون، قد انقطعت حجتهم، لأنهم تركوا الاتّعاظ بما ذكّروا به من الشدائد، وفتح عليهم أبواب الرزق والنعيم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله. (مُخْرِج الميِّتِ من الحيِّ) : معطوف على (فالق) . وفيه إشارة إلى إخراج الحب اليابس من النبات والشجر. وقال ابن عباس وغيره: بل ذلك كله إشارةٌ إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وإخراج الْنطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان. فإنَ قلت: ما وَجْة إتيان هذه الآية بلفظ الأمم، بخلاف آل عمران والروم؟ فالجواب لأنَّ بناءها على آية بُنيت على اسم الفاعل، وإن كان خبراً، وهو قوله تعالى: (إنّ الله فالِق الْحَبِّ والنوَى) ، ثم أعقب ذلك بقوله: (فَالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) ، فلما اكْتَنَفت الآية اسما فاعلين جِيىءَ فيها باسم الفاعل، ليناسب ذلك، فعطف: (ومُخْرِج) على (فالق) ، إذ هو معطوف على ما عطف عليه، فهو معطوف عليه، ثم جيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 بعد باسم فاعل، وهو قوله: (فالق الإصباح) ، فتناسب هذا، ولم يقع في غيرها من السور مثل هذا، فلذلك لم يعدل إلى اسم الفاعل. واللَه أعلم. فإن قلت: فما بال قوله: (يخرج الحي من الميت) في هذا الموضع ورد بالفعل وقد اكتنفه قوله: (فالق الحب والنوى) . ومخرج الميت من الحي، وهما اسما فاعلين؟ والجواب عن ذلك ما قاله الزمخشري: لأنَّ فَلْق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنْسِ إخراج الحي من الميت، لأن الناس في حكم الحيوان. ألا ترى قوله: (يُحْيي الأرض بعد موتها) . وذكر هذا عقب قوله: (ومخرج الميت من الحي) لأنه معطوف على قوله (فالق الحب والنَوَى) كما تقدم، وهذا من حسناته. (مشتَبِها وغَيْرَ مُتشتابه) : يحتمل أن يكون الاشتباهُ في الأوراق أو في الثمر، ويتباين في الطعم، ويحتمل أن يكون الاشتباه في الطعم وتتباين في النظر. وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات. وأمر اللَهُ بالنظر إلى أول ما يخرج ضَعِيفاً لا منفعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يتميّع أو ينضج أي يطيب. فإن قلت: هل لقوله هنا: (مُشْتَبِهاً) معنى غير معنى الآية في قوله: (متَشابهاً) ؟ فالجواب: لا فرق بينهما إلا ما لا يعَدُّ فارقاً، إذ الافتعال والتفاعل متقاربان، أصولُهما الشين والباء والهاء، من قولك: أشبه هذا هذا إذا قاربه. ومثاله ورد في هذه الآية على أخفّ التباين، وفي الثانية على أثقلهما رَعْياً للترتيب المتقرر، وقد مرَّ نحو هذا في قوله تعالى: (فمن تَبعَ هُدَايَ) . وقوله في طه: (فمن اتبّعَ هداي) . وأما سِر خَتْم كل واحدة بما يليق بها فلسنا نطيلُ بذكره، ولو تكلمت على سر كل آية وما يليق بها لطال بنا الكتاب، وحارت بالتأمل فيه الألباب، نفعنا الله بهذا القرآن العظيم دِيناً ودُنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 (مسْتَقَرّ ومستَوْدعَ) : يعني الولد في صلب الأب، وفي رحم الأم. وقيل: الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها، لكن من كسر القاف فهو اسم فاعل (ومستودع) اسم مفعول، والتقدير فمستقر ومستودع، ومَن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر ومستودع مثله، والتقدير على هذا لكم مستقر ومستودع. (متَرَاكِبا) : يعني السنبل أو الرمان، لأن بعضه على بعض. (محَرَّمٌ على أزواجنا) : إنما ذكر محرم حملا على لفظ ما، وكانوا يقولون في أجنة البَحِيرة والسائبة ما وُلد منها حيّاً فهو للرجال خاصة، ولا يأكل منها النساءُ، وما ولد منها ميّتا اشترك فيه الرجال والنساء. (مخْتَلِفاً أكلُه) : في اللون والطعم والرائحة والحجم. وفي ذلك دليل على أن الخالق مختار مريد. (مقَرَّبِين) : عطف على معنى " نَعَمْ "، كأنه قال: نعطيكم أجراً ونقربكم. واختلف في عدد السحرة اختلافاً متبايناً، مِنْ سبعين رجلاً إلى سبعين ألفاً. وكلّ ذلك لا أصْل له في صحة النقل. (مُلْقِين) : في تعبيرهم بهذه الجملة الاسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه. وتأمَّل إلى تعبيرهم عن إلقاء موسى في قولهم: (إما أنْ تلْقِيَ) - بالفعل، وكيف لا يحقرون أمْرَ موسى وقد كان معهم من أسباب السحر سبعون وِقْراً، فلما رأى موسى ما عندهم أوجس في نفسه خيفه، فأوحى الله إليه لا تخف إنكَ أنْت الأعلى. وكذلك المؤمن في حال النَّزْع يرى ملك الموت يقبض روحه، ويرى إبليس يقصد إيمانه فيخاف ويحزن، فينزل الله الملائكة يبشّرونه بقولهم: (لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) . يا محمدي، هذه الآية الشريفة التي أنزلها الله تعالى على نبيك، فلك فيها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 البشارة ما لا تحصيه العبارة. وقد قيل فيها من الأقوال في الاستقامة والبشارة نحو الخمسين قولاً، وقد قال هذه الكلمة المشرفة أربعة نفر، أولهم فرعون قالها اضطرارا، فأخذه الله نَكَال الآخرة والأولى. وقالها المنافق استكباراً فأورثته الدَّرْكَ الأسفل. وقالها قوم يونس افتقاراً فأورثتهم الأمان. وقالها العارف افتخاراً فأورثته البِشارة والأمن من الخوف. وأعظم من ذلك نزولُ الملائكة عليه، فسبحان مَنْ شرف هذه الأمة الكريمة بخدمة الملائكة لهم، منهم من يستغفر لهم، ومنهم من يحفظ أرزاقهم وأنفسهم، ومنهم من يسوقُ إليهم الرياحَ والأمطار، ومنهم من يقبض أرواحَ الأبرار والفجار. فإن قلت: هل الخوف والحزن بمعنى؟ فالجواب أن الناسَ اختلفوا في الخوف والخزْن على ثلاثين قولاً أو أكثر فقال جعفر الصادق: لاتخافوا مِنْ عَزْلِ الولاية، ولا تحزنوا من كثرة الجناية، وأبشروا بفضل العناية. وقيل: لا تخافوا من الجحيم، ولا تحزنوا من فَوْتِ النعيم، وأبشروا برؤية الكريم. وقيل: لا تخافوا خَوْفَ الكفار، ولا تحزنوا حْنَ الفجّار، وأبشروا بثواب الأبرار. وقيل: لا تخافوا من كثرة العصيان، ولا تحزنوا من قلة الإحسان، وأبشروا بلقاء الرحمن. وقيل: لا تخافوا من العيوب، ولا تحزنوا من الذنوب، وأبشروا بالمطلوب. وقيل: لا تخافوا من العقاب، ولا تحزنوا من الحساب، وأبْشِروا بحسن المآب. وقيل: لا تخافوا من الشقاوة، ولا تحزنوا من القيامة، وأبشروا بحفْظِ الأمانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وقيل: لا تخافوا يا أهل الفريضة. ولا تحزنوا يا أهْل السنة، وأبشروا يا أهل النافلة. وقيل: الخوف لأولياء الله، والحزن لعباد الله، والبشارة لمن أطاع الله. وقيل: لا تخافوا يا أهل الصلاة، ولا تحزنوا يا أهل الزكاة، وأبشروا يا أهل الإيمان. وقيل: لا تخافوا يا طالبي الدنيا، ولا تحزنوا يا طالبي العقْبى، وأبشروا يا طالبي المولى. وِقيل: لا تخافوا أيّها المذنبون، ولا تحزنوا أيها المطيعون، وأبشروا أيها المشتاقون. وقيل: لا تخافوا من السؤال، ولا تحزنوا من الحال، وأبشروا بالوصال. وقيل: لا تخافوا يا أهل الملالة، ولا تحزنوا يا أهل الندامة، وأبشروا يا أهل الكرامة. وقيل: لا تخافوا أيها المريدون، ولا تحزنوا أيها الصديقون، وأبشروا أيها المتقون. وقيل غير ذلك من الأقاويل، كلّها لمن قال: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) . فإن قلت: شرط مع هذه الكلمة الاستقامة وأنى لنَيْلها؟ فالجواب أن " ثُمّ " على ثلاثة أوجه: للتقديم، (ثم لنَحْن أعْلَم بالَّذين همْ أوْلى بها صِلِيّا) . وللتقرير، (ثم كان من الذين آمَنُوا) . وللترديف، وقَد قدَّمْنَاها في حرف الثاء. وأما الاستقامة فأقرب ما قيل فيها: استقاموا على طريق الهداية والسنّة، ولا يقدح الميل عنها ومخالفتها مَنِ استغفر وأناب، رزقنا الله التوبة والإنابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 (مُنْقَلِبون) : هذا من قول السَّحَرة، وذلك أن الله تعالى قال له: يا موسى: إنَّ السحرة ألقوا حبالهم وعصيَّهم فرأيت منهم السحر العظيم، فألْق عصاك حتى تنظر إلى قُدْرة الرب الكريم، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مُبين، فتلقّف سحْرَ السحرة كله، فقصد نحو الكفَّار فاتحاً فَاهُ، فنفر الكفَّار من كل جانب، ومات منهم ما لا يُحْصَى عددهم، ثم قصد نحو سرير فرعون، فلما دنا منه صاح فرعون ونادى: أغِثْني يا موسى، فأخذ موسى عصاه، فعادت إلى حالتها الأولى، فلما رآها السحرة خرّوا سجّداً، وكشف الله لهم حجاب الأرض، فرأوا الثرى، ورفعوا رؤوسهم فنظروا إلى العرش (1) فاشتاقوا للقاء الله، فقالوا: آمَنَّا بربَ العالمين، ربّ موسى وهارون. فقال لهم فرعون: (آمَنْتُم به قبل أنْ آذَنَ لكم) . فقالوا: لا ضَيْرَ يا فرعون، إنك لا تقطع إلا الأيدي والأرجل، ولا تقطع المحبة والمعرفة من قلوبنا. والنكتة فيه أنَّ السحرة كانوا مع الكفر والخيانة، وأقسموا بعزّة فرعون. وقصدوا المعارضة مع معجزة الرسول، فلما سجدوا سجدةً واحدة مع هذه الكبائر، رفع الله لهم حجابَ الأرض والسماوات، وأكرمهم بالإيمان. وأنت يا محمدي إذا سجدْتَ له سبعين سنة أو أكثر، وقصَدْتَ بيتَ الله بالتوبة والندامة، وطهَّرت نفسك من الحدث والخيانة أفَتَرَاكَ تحصر ما أعدّ لك من الكرامة، كلا وعزته ليكشفن لك عن ذاته حتى تتمتّع بقُرْبه في جواره. (مبِين) : نعت لثعبان، وقد قدمنا أنه صار كالجبل العظيم، ففي هذه الآية سماه ثعباناً، وفي أخرى حيّة، وفي أخرى جانٌّ، وفي أخرى عصا، كلّ ذلك تعظيما لها، وكيف لا وقد أهلكت سبعين ألف وِقْر من السحر، وسمَّى كلمة التوحيد بسبعين اسما، ولذلك أهلكت سبعين سنّة بالكفر. هذه العصا معجزة موسى بكلمة التوحيد التي هي كلمةُ المولى. اللهم إنا نستودعكها فأحْيِنا عليها، وأَمِتْنا عليها، وثبِّتْنا عند الحاجة إليها بجاه كلامك ونبيك - صلى الله عليه وسلم.   (1) لا يخفى ما في هذه الكلام من بعد ومبالغة، فهي أقرب إلى الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 تنبيه: جميع الرسل جاءت بهذه الكلمة المشرفة دون سائر الطاعات، وأول مَنْ شهد بها اللَّهُ وملائكته ثم الرسل، قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) . ثم أمرك بها في قوله: (فإن تَولَوْا فقولوا اشْهَدوا بأنَّا مسْلِمون) ، ولا يبقى في الجنة غيرها والقرآن، والحمد للَه، والحب للهِ، فعليك أيها الأخ بحفْظِها، ولا تدنِّسها بالمعاصي، وإن قُدِّرَتْ عليك فامْحها بتوبة، كالثوب تغسله كلما تدنس، وإن لم تتب وتوسخ فيوم زينة الحشر ما تلبس، وحَرّض عليها من أحببته أو تعلق بك. فإن قلت: لأي شيء ذكر الشهادة على نفسه، مع أن الشهادة من النفس لا تقبل؟ فالجواب أنَّ الله لما نجا نبيه محمداً بالرسالة، وأمرهم بتوحيد الله، فقال: قولوا لا إله إلا الله تفْلحوا، فقالوا: مَنْ يشهد أنكَ رسول الله، قال لهم: أي شيء أكبر شهادة، فقالوا: الله أكبر شهادة، فأنزل الله الآية. ومعناها شهد شهادةً فرضيَها، وأمر الخَلْقَ بها بعد شهادته لنفسه في أزَلِه. ففيها رجاء لهذه الأمة، وذلك أنه مدح أهل الطاعة على اختلاف أحوالهم من التائبين والعابدين، وغيرهم، يرَجّي من لم يكن له عَمَل غير الشهادة، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) . إلى قوله: (لكلِمات رْبي) . وهي شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قلت: لم ذكر النفي قبل الإثبات؟ والجواب: لإكمال المدحة، لأن قول الرجل: لا عالم في البلد إلا فلان أمدح من قولك: فلان عالم في البلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وأيضاً فالنجاة من النار أوْلى من دخول الجنة، فأمر الله أوّلاً بما ينجّي من النار، وهي البراءة من عبادة الأصنام، ثم بالتوحيد الذي يدخل الجنة. وأيضاً فنَفْي الإلهية عن الأصنام إثباث الألوهية للَه، وليس في إثبات الإلهية لله نفى الإلهية عن الأصنام، لأن العاقل لا يكون بغير التولّي إلى معبوده، فإذا نفى الإلهية عن الأصنام ثبت تولِّيه إلى الله، وإذا أثبت الإلهية للهِ فليس يتبرأ عن الأصنام، لأنه ربما يكون لواحد معبودان، فما أشرف هذه الكلمة المشرفة إن وُفِّقت إليها، وأماتَك الله عليها، ألا تراها تسعة عشر حرفاً على عدد الزبانية، وكلماتها سبعة علي عدد أبواب جهنم. ولما كان النهار نصفان والليل نصفان كانت الأنصاف أربعة، ليكون مَنْ قالها في اليوم والليلة مغفوراً له ذنوب ما عمل فيهما. (متَبَّرٌ ما همْ فيه) : من التَّبَار، وهو الهلاَك. والضمير عائد على القوَم الذين قالوا لموسى: اجعَلْ لنا إلهاً نعبده كما يَعْبد هؤلاء أصنامَهم، فقال لهم: أتريدون أن تهلكوا كما هلك هؤلاء. (مبْصِرون) : هو من بصيرة القلب، يعني إذا مسهم طائف من الشيطان تذكّروا عقابَ الله، أو رجاء ثوابه، أو مراقبته أو الحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه، والنظر والاعتبار، وغير ذلك. (ممِدّكم بألْفٍ من الملائكة ِ مرْدِفين) ، أي مكثركم. ومن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعولِ، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل. وصحَّ معنى القراءتين، لأنَّ الملائكة المنزَلين ردف بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، يقال: ردفته وأردفته: إذا جئت بعده. (موهِن كَيْدِ الكافرِين) : من الوهن وهو الضعف. وقرئ بالتشديد والتخفيف، ومعناهما واحد. (مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) ، أي منحازاً إلى جماعة ٍ من المسلمين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 فإن الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيُّز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيُّز إلى الإمام والمدينة والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضرا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أنا فِئَة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك. والفرار من الزحف من الكبائر في أي عصر كان إلاَّ أن يكون الكفار أكثر من مِثْلي المسلمين. (متَحَرِّفاً) : بالنصب على الاستثناء، من قوله: (مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) . وقال الزمخشري: انتصب على الحال، ومعناه الكرّ بعْد الفَرّ، ليُري عدوّه أنه منهزم ثم يعطف، وذلك من الخداع في الحرب. وفي الحديث: الحرب خدعة. وقد وقع للصحابة من هذا ما تكفل أصحابُ السير بنقله. (مُخْزِي الكافرين) : يعني مُهْلِكهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار. (مُؤْتَفِكات) : يعني مدائن قوم لوط، وائتفكت بهم يعني انقلبت. (مُرْجَوْن) : بالهمز وتركه، وهما لغتان، ومعناه التأخير. قيل هم الثلاثة الذين خلّفوا قبل أن يتوبَ الله عليهم. وقيل: هم الذين بنَوا مسجد الضرار. (مُعَذِّرُون) : هم المعتذرون. ثم أدغمت التاء في الذال، ونقلت حركتها إلى العين. واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين، وقيل: هم المقصّرون. من عَذَر في الأمر إذا قصر فيه، ولم يجد، فوزنه على هذا المفعلون. وروي على هذا أنها نزلت في قوم من غِفَار، والاعتذار يكون بحق ويكون بباطل. ومُعَذّرون الذين اعذروا، أي أتوا بعُذْر صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 (مَجْراها ومرْساها) : مشتقان من الجري والإرساء، وهو الثبوت، أو من وقوف السفينة. ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان، أو مصدرَيْن. ويحتمل الإعراب وجهين: أحدهما أن يكون بسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا، والتقدير اركبوا متبركين ببسم الله، أو قائلين بسم الله، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان، بمعنى وقت إجرائها وإرسائها، أو ظرفين للم كان ويكون العامل فيه ما في قولك بسم الله مِنْ معنى الفعل، ويكون قوله بسم الله متصلاً مع ما قَبْله، والجملة كلام واحد. والوجه الثاني أن يكون كلامين، فيوقف على اركبوا فيها، ويكون بسم الله في موضع خبر، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر، أي إجراؤها وإرساؤها، ويكون بسم الله على هذا مستأنفاً غَيْرَ متّصل بما قبله، ولكنه من كلام نوح، حسبما ورد أنَّ نوحاً كان إذا أراد أن يجري السفينة قال: بسم الله، فتجري. وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتَقف. وفي الآية إشارة إلى أن يكون العبد في جميع تصرفاته مشتغلاً بمولاه، ولذلك قال الصوفية: أنت سفينة الوجود، وسفينة نوح عليه السلام كان إجراؤها وإرساؤها كما أخبر الحقُّ سبحانه في كتابه بسم الله مجراها ومرساها، وقد أرشدت الشريعة المحمدية أن يكون جميع تحركك وسكونك بذكر الله تعالى. فتفتتح عند نوْمِكَ بسم الله، وعند أكلك وشُربك وخروجك من منزلك ودخولك فيه، ولباس ثوبك وتجريده كذلك، وعند استفتاح كلامك، وعند نكاحك وسفرك وإيابك إلى أهلك، وعند قيامك وقعودك، فإن كنت في حالك محمديّاً رسَتْ سفينتك على جُودِيِّ السلامة، وإن تخلفت عنه لم يكن لك عاصمٌ من أمْرِ الله، وغرقْتَ في طوفان المهالك، وإن لم تشعر أنك هالك فتيقّظ من سَكْرَة هواك تجد روحك في قارورة شهواتك غارقاً في فَضْلة معاصيك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ذُكِرَ أن ابنَ نوح عليه السلام حين تخلّف عن ركوب السفينةِ اتخذ قارورة قَدْر ما تحمله، وصعد على الجبل، فلما بلغه الماء دخل فيها، وأغلقها على نفسه، وأرسل عليه إدرار البول حتى مات غريقاً فيه (1) ، فاكسرها بحجر عزيمة التوبة، وناد بلسان حالك ومقالك: يا منقذ الغرقاء، ويا منجي الهلْكَى، أنقذني، فإني ذاهب، لعل حنين صوتك يشفع فيك، أمَّنْ يجيب المضطَرَّ إذا دَعَاه. (متَّكئاً) : بسكون التاء وتنوين الكاف هو الأترج بلغة الحبشة. قاله ابن أبي حاتم: وبفتح التاء ما يُتَّكأ عليه، وإعطاؤها السكاكين للنساء يدلّ على أن الطعام كان مما يقْطع بالسكاكين كالأترج. وقيل كان لحما. وقيل: أَعْتَدَتْ لهن فراشا يتَّكئْنَ عليه. (مُزْجَاةٍ) : أي قليلة، بلسان العجم. وقيل ناقصة. وقيل: إنَّ بضاعتهم كانت عروضاً، فلذلك قالوا هذا حياء منه، وطلبوا منه الصدقة، ودعوا له، وقالوا: إن الله يجزي المتصدّقين، وسمُّوا الزيادة صدقة. وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً لهم قبل نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: تصدق علينا بردّ أخينا إلينا، فلما شكوا له رَقَّ لحالهم وعرَّفهم حينئذٍ بنفسه، فتشبَّهْ بهم واسْتَحِ من مولاك بنَقْص بضاعتك، لعله يمدك، لأن الجفاء يذهب بالصفاء، كيف يصل روح التوحيد والمعرفة الوافية إلى القلوب الجافية الخاطئة القاسية!. فإن قلت: ما منعهم من قولهم: إن الله يجزيك على صدقتك، بل عرضوا له؟ فالجواب أنهم كانوا يعتقدون كفْرَه، لأنهم لم يعرفوه، فلو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا، لأن الله لا يجزي الكافر. فقالوا لفظاً يوهم أنهم أرادوه ولم يريدوه. (مُعقِّبَاتٌ) : قد قدمنا أنهم جماعات الملائكة، وسمّوا   (1) كلام بعيد غريب لا دليل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 بذلك لأنهم يعقب بعضهم بعضاً، ومنه الحديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. وأما قوله تعالى: (لا معَقِّب لِحكمه) فمعناه الذي يكر على الشيء فيبطله، يقال: عقب الحاكم على حكم مَنْ قبله إذا حكم بعد حكمه بغيره. (مصْرِخكم) : مغيثكم. واختلف: هل هذا من قول الشيطان في القيامة أو في النار. (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) . الضمير للظالمين. والمعنى أنهم يسرعون يرفعون رؤوسهم ويخفضونها من شدة ما يرون من الهول. والهواء المراد به هنا الريح، يعني أنَّ أفئدتهم كالهواء، إشارة إلى ذهابها وعدم انتفاعهم بها. ويحتمل أن يراد العقل، ولا سيما إذا قلنا إن محلّه القلب، وهو أن عقولهم تذهب وتصير كالهواء، لأنهم يذهلون لشدة ما ينالهم. وهذا تشبيه. والبيانيون يجعلونه استعارة، لأنهم يقولون: زيد كالأسد تشبيه، وزيد أسد استعارة، ورأيت أسداً يكر ويفر في الحرب فيه خلاف عندهم، وكذلك زيد مثل الأسد. (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) : يعني الوعد بالنصر على الكفار. فإن قلت: لم قدم المفعول الثاني على الأول؟ فالجواب أنه قدم الوَعْدَ ليعْلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال (رسلَه) ، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله وخيرةَ خلقه، فقدَّم الوعد أولاً لقَصْدِ الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. (مقَرَّنين في الأصفاد) : يعني المجرمين مربوطين في الأغلال، وهذا كقوله تعالى: (في سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سبعون ذِرَاعاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وقوله: (مقرنين دعوا هنالك ثبورا) . أي يا ثبوراه، كقول القائل: يا حسرتي، يا أسفي. (متَوسِّمين) : حقيقة التوسم النظرُ إلى السمة، وهي العلامة التي يعرف بها المرء، ومعناها الفراسة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". (مُخْلَصِين) : المخلَص: هو الذي يغويه إبليس بالتزيّن، ولا يسمع منه، أو يزين له ولا يغويه. فإن قلت: هل التزيّن والإغواء بمعنى واحد؟ فالجواب أنَّ الإغواء يستلزم الفعل، والتزين لا يستلزمه، فقوله تعالى: (إلاَّ عبادك منهم المخْلَصين) ، مسبّب عن الإغواء، لا عن التزين. فالمخلَصين يزين لهم ولا يغويهم، ولا يقدر عليهم بوجه. (مقِيم) : أي ثابت يراه الناس. والضميرُ للمدينة المهلكة التي أخذتها الصيحة. (مُشرِقين) : أي داخلون في الشروق، وهو وقت بزوغ الشمس. (مُبِين) : أي واضح. وضمير التثنية في (إنهما) . قيل لمدينة قوم لوط أو قوم شعيب، (فالإمامُ) على هذا الطريق. وقيل للوط ولشعيب، أي أنهما على طريق من الشرع واضح. (مستهْزِئين) : كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة. كانوا يستهزئون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكفى الله نبيَّه أمرهم، وأهلكهم بمكة. وقيل: كأبي جهل وأصحابه، أهلكهم الله ببدر. ويحتمل الجميع. (مُنْكِرَة) . نعت للقلوب، يعني أنهم أنكروا وحدانية الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 واستكبروا عنها. والفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم عقب الملزوم. وإنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه، لأنَّ لازم كونه إلهاً واحدا التصديق لا الإنكار والكفر. وظاهر كلام الزمخشري أنَّ الوحدانية ثابتة بالعَقْل، لأنه قال: قد ثبت بما تقدَّم إبطال أن تكون الإلهية لغيره، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها استمرارهم على شركهم. وظاهر كلام ابن عطية أنها ثابتة بالسمع، لأنه قال: لمَا تقدم وصفُ الأصنام جاء الخبر الحقّ بالوحدانية، وهذه مخاطبةٌ لجميع الناس معلمة بأن الله متَّحد وحدة تامة، لا يحتاج لكمالها إلى منضاف إليها. والصحيح أنها مستفادة منهما معاً. ابن عرفة: القضية على ثلاثة أقسام: عقلية، كقولك الواحد نصف الاثنين، والجوهر متحيّز أو مفتقر إلى العَرَض. وشرعية، كقولك: الميت يبعث. ومركبة منهما، كقولك: الله سميع بصير. واختلفوا في قولك: الله إله واحد، فذهب الفَخْر إلى صحة إثباته بالسمع. ونقل ابن التِّلْمساني في شرح المعالم الدينية عن بعضهم أنه لا يصح إثباتُه بالسمع. وقال في شرح المعالم الفقهية: إنَّ ما تتوقّف دلالةُ المعجزة عليه لا يصحُّ إثباتُه بالسمع، كوجود الإله، لئلا يلزم عليه الدور. وما لا يتوقف عليه يصح إثباتُه بالسمع، ككونه واحدا، ذكره في أول الباب السابع في الإجماع. وعندي أنَّ الآية تدل على صحة إثبات الوحدانية بالسمع والعقل، لقوله: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) ، كأنه يقول: فالمكذبون بالآخرة قلوبهم منكرة، ولو كانت لا تتوقف على السمع لقال: فالصُّمّ العمي، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فالمتصاممون قلوبهم منكرة، فذِكْره عقَيب الإيمان يشعر بعِليتِه له، فهو دليل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة، ولو لم يكن معلّقاً على الإيمان لما ذكره بعده. (مفْرَطون) : بكسر الراء والتخفيف من الإفراط، أي متجاوزون الحدَّ في المعاصي. وبفتح الراء والتخفيف، من الفَرْط، أي يعجلون إلى النار. وبكسر الراء والتشديد من التفريط. (مُنْكَر) : هو أعمُّ من الفحشاء، لأنه يعمُّ جميع المعاصي. (ملِئْتَ منهم رُعباً) : الضمير لأصحاب الكهف، وضمير الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني أنك يا محمد لا تستطيع النظر إليهم لما ألبستهم من الهيبة، فإذا كان القويّ الجأش لا يستطيع النظر إليهم فكيف يَدَّعي غيره رؤيتهم. (ملْتَحَدا) : أي ملجأ تميل إليه فتجعله حرزاً. (مُهْل) : هو بلسان أهل المغرب. وقيل بلغة البربر: درْدِىّ الزّيْتِ إذا انتهى حرّه، وروي هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هو ما أذيب من الرصاص وشبهه. (مُرْتَفقا) : هو شيء يرْتَفق به. وقيل يُرتفق عليه من الارتفاق، بمعنى الاتّكاء. (مُنْقَلَبا) : أي مرجعاً، وهذا قول المؤمن لأخيه الكافر. أي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي لأجدن في الآخرة خيرا من جنّتي في الدنيا. وقرئ خير منهما بضمير الاثنين للجنتين، وبضم الواحدة للجنة. (مقْتَدِراً) : من أسماء الله، ومعناه مَنْ له القُدرة والقوةُ والعظمة والكبرياء، وإنما يوصف بذلك تعظيما، فكلّ مقدور معلوم، وليس كل معلوم مقدوراً، لأن المحالات كلها معلومة للقديم سبحانه، وليست بمقدورة له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 لأنه لا يُوصف بالقدرة على خَلْق نفسه، ولا على خلق كلامه، أو شيء من جهاته الذاتية، ولا على الجمع بين الضدّين، وجعل الشخص في مكانين في وقت واحد، ولا على أن يجعل العالم بأسره في بَيْضة كما يعتقده الجاهل. فإن قلت: مقدوراته أكثر أم معلوماته؟ فالجواب أن إطلاق هذا السؤال خطأ، لأنه إن أراد السائلُ مقدوراته التي لم توجد مع معلوماته التي لم توجد لم تصح المفاضلة بينهما، لأن ما ليس بشيء لا يقال إنه أكثر مما ليس بشيء، وإن أراد بذلك مقدوراته الموجودة مع معلوماته أكثر، لأن ذاته وصفاته معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورة له، وهكذا الموجودات في حال وجودها في الحال من الحدوث معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورات له في حال الحدوث. والله أعلم. (موَاقِعوها) : الضمير للمشركين وشركائهم، وضمير التأنيث عائد على النار، ويعني أنهم يظنّون أنهم يقعون فيها، والظنَّ هنا بمعنى اليقين. (مَهْلِكهم مَوْعِدا) : بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك. (مفْسِدون في الأرض) : يعني بالقَتْل والظلم وسائر وجوه الشر. وقيل: كانوا يأكلون بني آدم. والضمير يعود على يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان من بني آدم في خلقتهم تَشْوِيه في الطول والقصر وطول الأذنين. (مُثْلَى) : حُسْنَى، تأنيث أمثل. (مُحْدَث) : بفتح الدال، يعني أن هذا القرآن مجدَّد النزول، لأنه قديم متعلق بالذات القديمة، لم يقرأ ولم يسمع، فلما خلق الله الْخَلْق وأوجدهم كتَبَه في اللوح المحفوظ أو في ألواح على ما روي، ونزل به جبريل إلى بَيْتِ العزّة، كما قدمنا، فصار يتجدّد بالنزول به على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فصار مقروءاً متلُوّاً مكتوباً مسموعاً، وذلك لا يوجب تغيُّر حاله، كما أن مولانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 جلّ وعلا لم يكن في الأزَل معبودا ولا مسجوداً له ولا مذكوراً، فخلق الخلق ليعبدوه ويوحّدوه ويذكروه، فصار لهم معلوما ومعبوداً. (مشْفِقْون) : خائفون. والضمير عائد على الملائكة الذين لا يَعْصون الله ما أمرهم، فهؤلاء ملائكة مطَهَّرون مشفقون من العقوبة. وأنت أيها المتلطخ لا تشفق مع عصيانك، وهو كل يوم يناديك: عَبْدِي - أرسلتُ إليكَ رسائلَ المواعظ تناديك: ارجع إلَيّ، الملائكة صفو بلا كدر. والشياطين كدر بلا صفو، وأنت مجمع البحرين، فمتى غلب صَفْو عقلك على كدر شهوتك أخدمتك حملةَ العرش بمدحة ويستغفرون للذين آمنوا، يا مودعاً بدائع البدائع، الأكوان ألواح، وأنت الكاتب، وشجرة وأنتَ الثمر، وقوالب وأنت المعنى، ونافجة وأنْتَ المسك، ودفتر وأنت الخطوط، يا عجباً لك كيف أعجبك دخان الشهوات عن أسرار المشاهدات، اشتغلْتَ بجمع الفاني عن التلذّذ بخدمتنا، وشرهت عليها شره الكلب للجيفة، ولم تشفق من عتابنا، أما سمِعْتَ أهْلَ الجنة يقولون: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) . فكيف تطمع أن تكون من أهلها وأنتَ غير مشْفِق من عذابنا. اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوم الوقوف بين يديك، فإنَّ قلوبنَا قد ماتَتْ عن طاعتك، وأعيننا قد جمدت مِنْ خَشْيَتك، وآذاننا صمّت عن سماع موعظتك، وعُقِل العقْل عن التفكر في آياتك، وخرس اللسان عن شكر نعمتك، وقُيدت الأقدام عن الإقدام إلى حضرتك، فنحن كالذي استهوته الشياطين، فلا تؤاخذنا بذنوبنا، وعامِلْنا بفضلك وكرامتك بجاه أكرم الخلق عندك، وخيرتك صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم. (مضْغَة) : قطعة لحم. (مخلَّقة) : تامة الخلقة. (وغير مخلَّقة) ، غير التامة، كالسقط. وقيل الخلّقة الْمسَوَّاة السالمة من النقصان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 (مُعْتَرَّ) : المتعرض بغير سؤال، ووَزْنه مفتعل، يقال: اعتررت القوم، إذا تعرضت لهم. والمعنى أطعموا مَنْ سأل ومن لم سأل ممَّن تعرض بلسان حاله. أو أطعموا من تعفّف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء. (المُخْبِتِين) : الخاشعين، وقيل المتواضعين. وقيل نزلت أبي بكر وغمر وعثمان وعليّ. وكذلك قوله بعد ذلك: (وبَشِّر المحسنين) واللفظ فيها أعمّ من ذلك (معَاجِزين) : مسابقين ومعجزين: فائتين، ويقال مثبطين. (مخْضَرَّة) .، أي تصير الأرض خضراء بالمطر. وقيل: إنها لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارّة، وفهم بعضُهم إنه أراد به صبيحة ليلة المطر، وأما على معنى تصير فذلك عامّ في كل بلد. والفاء للعطف، وليست بجوابٍ، ولو كانت جواباً لقوله: ألم تر - لنصبت الفعلَ، وكان المعنى نَفْي خضرتها، وذلك خلاف المقصود، وإنما قال بنفي المضارع ليفيد بقاءها كذلك مدة. (معْرِضون) : أي لا يستمعون إلى لغو الكلام، ولا يدخلون فيه. وأنواعه كثيرة نحو العشرين نوعا ويحتمل أَنْ يريدَ أنهم لا يتكلمون به، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحْرَى. (مذْعِنين) ، أي منقادين مطيعين لقَصْد الوصول إلى حقوقهم. وسبب نزولها أنَّ رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومةٌ، فدعاه اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه ودعاه إلى كعب بن الأشرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 (متَبَرجاتٍ) : أي مظهرات للزينة، فأباح الله للنساء وَضعَ الثياب بشرط أَلاَّ يقصدن إظهار زِينةٍ. وقيل متبرجات متكشفات الشعور. (مستَقَرًّا) : إقامة. (مشْرِقين) : قد قدمنا أنه وقت طلوع الشمس. وقيل معناه هنا نحو المشرق. وانتصابة على الحال. (مدْرَكون) : لما خاف قوم موسى من إدراك فرعون لهم قالوا هذا. (مسَحَّرِين) : معلّلين بالطعام والشراب، أي أنك بشر مثلنا. (مجرمين) : يحتمل أن يريد به كفار قريش أو المتقدمين. (منْظَرون) : تَمنَّوْا أن يؤَخَّروا حين لم ينفعهم التمني. (مخْسِرِين) ، أي ناقصين الكيل والوزن. (مبْصِرَةَ) : واضحة الدلالة. وإسناد الإبصار لآيات موسى مجاز، وهو في الحقيقة لتأملها. (مرْسِلَةٌ إليهم بهديَّةٍ) : هذا من كلام بلقيس تأكيداً للمعنى الذي أرادَتْه حين قالت لقومها، إني مجربة هذا الرجل بهديّة من نفائس الأموال، فإن كان ملكاً دنيويّاً أرْضَاه المال، وإن كان نبيئا لم يرْضِه المال. وإنما يرضيه دخولنا في دينه. وقد أكثر الناس في وصف هذه الهدية، تركناه لطوله، فانظر هذا اللطف والسياسة من نبي الله سليمان في دعاية بلقيس إلى الإيمان، فقدّم لها أولاً الكتاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وقدم فيه اسمه على اسم الله، لأنه واسطة بينه وبين الله، ولما كان الأنبياءُ في البشرية من جبلّة المرْسَل إليهم، وجِنْسهم في الظاهر، واصطفاهم الله. بعلمه وحكمته، كانوا أكثر فَهْماً وإدراكاً. ولذلك قال لمن أتى بهديّة بلقيس: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) ، فلما رأت ذلك منه خافت وفزِعت وأسلمت مع سليمان. فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها، وكانت المسافة بين محله وبين بلدها قريبةً، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومَأرِب؟ فالجواب أن اللهَ أخفى ذلك عنه لمصلحةٍ رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. فإن قلت: كيف قال الهدهد: (وأوتِيَتْ من كل شيء) - مع قول سليمان: (وأوتينا من كل شيء) ، كأنه سوّى بينهما؟ والجواب فَرْق ما بينهما أنَّ سليمان قال ذلك من المعجزات والنبوءة وأسباب الدين وأسباب الدنيا، فهذا العطف على شكر مولاه وعطف الهدهد على الملك، ولم يرد إلا ما أعطيته بلقيس من أسباب الدنيا اللائقة بحالها، فبَيْن الكلامَيْنِ بَوْنٌ بعيد. (ممَرَّد) : أملس، ومنه الشجرة الْمَرْدَاء، والأمْرَد الذي لا ثَعْر على وجهه. (محْضَرِين) : أي للنار. (منِيبينَ إليه) : منصوب على الحال، من قولك: (فَأقِمْ وَجْهك) ، لأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد هو وأمّته، فلذلك جمعهم في قوله: (منِيبين) . وقيل هو حال من قوله: (فَطَر الناسَ) ، وهذا بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 (معَوِّقِين) ، أي يمنعونْ الناسَ من الجهاد، ويعوقونهم بأقوالهم وأفعالهم. ويقال عاقه عن الأمر، وعَوّقه وعَقَاه. (مُقْمَحُون) : يقال قَمَحَ البعير إذا رفع رأسه، وأقْمَحَه غَيْره إذا فعل به ذلك. والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع. وقيل: مُقْمَحون ممنوعون من كلّ خير. (مظلِمُون) : داخلون في الظلام. (مدْبِرين) : أى تركوا إبراهيم إعراضاً منهم، وخرجوا إلى عيدهم. وقيل: إنه أراد بالسقم الطاعون، وهو داء يُعْدِي، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى. (مسْتَسْلِمون) : أي معطون بأيد يهم. (مشْتركون) ، أي في النار. (مُحْسِنين) : جمع محسن، ووصف به إبراهيم لما ابتلاه فوجده مجِدًّا في طاعته. فإن قلت: لم قال في حقه كذلك دون قوله (إنَّا) وقال في غيره إنا كذلك؟ فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها (إنّا كذلك) ، فأغنى عن تكرار (إنا) هنا. ْ (مدْحَضِين) . أي مغلوب في القرعة والحجة. وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة وقفت ولم تَجْرِ، فقالوا: إنما وقفت من حادثٍ حدث، فنَقْتَرع لنرى على مَنْ تخرج القرعة فنطرحه، فاقترعوا، فخرجت القرْعة على يونس، فطرحوه في البحر، فأوحى الله إلى حوت من حيتانه: اذهب فالتقمه، ولئن خدشْتَ له لحماً، أو كسرت له عظماً لأعذّبنك عذاباً لم أعذبْه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 أحداً من العالمين، فالتقَمته ومشَتْ به البحار كلَّها تفخر على أبناء جنسها، حتى نبذَتْه بالعراء وهو سقيم بعد أربعين يوماً. وروِيَ أن الحوت صام أربعين يوماً. وأنتَ يا محمدي، أكرمك الله بالقرآن، وفضّلك بالإيمان، ولا تمتنع عن الآثام، ولا تفخر على أبناء جنسك. ولما خسف اللهُ بقارون، واستغاثت الأرضُ، وقالت: اللهم كما أريتنا عدوّاً من أعدائك فأرِنا حبيبا من أحبابك لنتسلّى برؤية الحبيب. وكذلك بيت المقدس لما خَرَّبه بخْت نَصّر استغاث بالله، فأراه الله نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وهذه هي الحكمة في إسْرائه من بيت المقدس. ولما أوحى اللَّهُ إلى البحر أنْ ينفلِقَ لفرعون حتى يدخلَ فيه استغاث، فدخل فيه موسى أمامَه. وكذلك النار لما علمت أنها دارُ أعدائه سألتْه أن يريها أحبّاءه، فأدْخل المؤمنين النار لتتسلَّى برؤية الأحبّاء عن رؤية الأعْداء، قال تعالى: (وإنْ منكم إلاّ وَاردهَا) . والمقصود بورودهم إجابة دعوة النار لا الإحراق. قال تعالى: (ثم نُنَجِّي الذين اتقَوْا ونَذَرُ الظالمين فيها جِثِيّا) . واعلم أنَّ الله تعالى ابتلى تسعة من الأنبياء فوجدوا تسعة أشياء: ابتلى آدمَ بوسوسة الشيطان فوجد التوبة، وإبراهيم بالنار فوجد الخلّة، وإسماعيل بالذبح فوجد الفداء، ويعقوب بالشدَّةِ والقَحْط فوجد الفرج، والملك، ويوسف بالسجن فوجد الصديقية، وأيوب بالبلاء فوجد الصبر، ويونس بالحوت فوجد النجاة، ونبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - باليتْم فوجد العزّة، قال تعالى: (فكان قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى) . وسليمان ابتلاه الله بزوال الملك فوجد الإنابة. وسبب زوال ملكه أنه نظر إليه فابتلاه اللهُ بإلقاء الجسد على كرسيه وإلى مَلَئِه وقوّته فابتلاه بآصف، وإلى سياسته فابتلاه بالهدهد، فقال: (أحطْت بما لم تحِطْ به) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وإلى جنوده فابتلاه بنملة قالت له تنظر إلى جنودك ولو عرضْت عليك جنودي سنةً لم يفرغوا (1) ، فإياك والنظر إلى غيره سبحانه، فتبتلى، لأنَّ من عادته سبحانه أنَّ من أحبّ شيئاً ابتلي بفراقه، فإن رجع إلى الله ردَّه اللَه عليه، كسليمان لما رجع إلى اللهِ ردَّ اللَّهُ عليه ملْكه. وموسى لما رجع إلى الله ردَّ الله عليه عصاه، فقال له: خذْها ولا تخَفْ. وَيعقوب قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) جمع الله شَمْلَه به، وإبراهيم لما رجع إلى الله في ذَبْح ولده فداه الله بِذبْح عظيم. وتأمَّلْ هذا اللطفَ منه سبحانه حيث لم يرِدْ مواجهة خليله بقَتْلِ ولده بالوحي، فأراه في المنام، وكذلك الحق سبحانه يقول: ما تردّدت في شيء كترددي في قَبْضِ روح المؤمن، هو يكره الموت وأنا أحبّ لقياه. (مُلِيم) ، من اللوم، وهو التعيير، وذلك أنه فعل ما يلام عليه في خروجه من قومه بغير إذن رَبِّه، فحبسه في بطن الحوت حتى طهره، وأخرجه بتسبيحة واحدة، وكذلك المؤمن يَحْبِسه في النار حتى يطهره من غير ألَمٍ يناله فيها لأن له عقدَ الوصلة، كأيوب حلف أن يضرب زوجته مائةَ سوط، فأمره اللَّهُ أن يأخذ بيده ضِغْثاً - وهو ملء كفٍّ من الحشيش كى لا تتأذّى امرأته بالضرب. فإن قلت: كيف يجمع بين هذا وبين قوله: (فلولا أنه كان مِنَ المسبِّحين) - فإنها تقتضي أنه لولا التسبيح لَلَبِث، فاللبث منْتَفٍ لوجود التسبيح، وهذه تقتضي لولا تداركه النعمة لنبذ، وهو مذموم، فهو يقتضي - انتفاء النبذ، وانتفاء النبذ هو اللّبْث، وهذه تقتضي ثبوت اللبث لا انتفاء اللبث، والأولى تقتضي انتفاء اللبث وكون اللبث مثبتا مَنْفِيّاً محال، أو يقال الأولى تقتضي ثبوت النبذ والثانية انتفاؤه؟ وأجاب بعض الفضلاء بأنّ لو الأولى في قوّة لولا التسبيح لثبت اللبث. والثانية في قوة لو انتفت النعمة لنبذ، ولما كان الواقع مِنْ مراد الله تعالى أنَّ   (1) كيف يصح هذا وقد سخر له الكون كله إنساً وجنًّا وطيراً حتى الشيطان؟؟!!! ثانيا: معاذ الله أن ينظر نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى شيء من ذلك وقد قال الله في حقه (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) . (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) . وبعض هذا الكلام فيه نظر لا يخفى على أولي النهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 التسبيح ثابت كان انتفاؤه محالاً، والواقع أيضاً أن النعمة ثابتة فانتفاؤُها محال، ولما كان ملزوم الشرطين محالاً لا جرم ترتب عليه محال، ونظّروه بقوله تعالى: (ولَوْ أنْزَلْنَا مَلَكاً لقُضِي الأمْر) ، أي لاَستُؤصِلوا، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) . وهذه تقتضي عدم الهلاك، وإن أنزل الملك، ولما كان جَعْل الملك على الوجه الذي طلبوه رسولاً محالاً لما سبق في عِلْمه لا جرمَ ترتَب عليه المحال، والحقّ الواضح الذي لا تكلف فيه أن الآية الثانية إنما نفت النبذ المقيَّد بكونه مذموماً، والنَّفْيُ المقيد لا يستلزم نفي المطلق، فلا يلزم نفي النبذ على وَجْه الإكرام، وبه ينبغي الجواب عن آيتي الأنعام، فإن الإهلاك الذي كنى عنه بقضاء الأمر إنما رُتّب على إنزال الملك على صورته لا على صورة الرجل، واللبس عليهم، والذي يستلزم بقاءَهم هو إنزاله على صفةِ الرجل، أو يقال نلبس عليهم الأمر، ثم نهلك. (مغْتَسل) ، وغسول: الماء الذي يغْتَسل به، والموضع الذي يغتسل فيه أيضاً. وروي أنَّ أيوب ضرب الأرضَ مرتين فنبع له عينان، فاغتسل من أحدهما، وشرب من الأخرى. (مقْتَحِمٌ) : أي داخل في زحَام وشدَة، وهذا من كلام خزَنَةِ النار، خاطبوا به رؤساة الكفار الذين دخَلوا النار أولاً، ثم دخل بعدهم أتباعهم، وهم الفَوْج المشار إليه. ْوقيل هو من كلام أهل النار بعضهم لبعض. والأولُ أظهر. (متَشَاكِسون) : أي متنازعون متظالمون. وقيل متشاحّون. وأصله من قولك: رجل شَكِس، إذا كان ضيّق الصدر. ومعنى ضرب هذا المثل بيان حال مَنْ يشرك بالله ومن يوحّده، فشبّه الشرك بمملوك بين جماعة من الشركاءَ يتنازعون فيه، والملوك بينهم في أسوأ حال، وشبَّه مَنْ يوحّد الله كمملوك لرجل واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 (مسْرِفين) : الضمير لقريش. فإن قلت: كيف قال: (إنْ كنْتم) ، على الشرط بحرف إن التي معناها الشكّ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ والجواب أنَّ في ذلك إشارةً إلى توبيخهم على الإسراف وتجهيلهم في ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع. (مقْرِنين) ، أي مطيعين وغالبين، من قولك: فلان قِرْنُ فلان، إذا كان مِثْلَه في الشدة. (مقْتَدُون) : مُتّبعون، والمعنى أنهم ليس لهم حجةٌ، وإنما يقلّدون آباءهم. فإن قلت: ما الفرقُ بين الآية الأولى في قوله: (مهْتَدون) ، وفي هذه: (مُقْتدون) ؟ فالجواب أنه لما تقدم في الآية الأولى قولُ كفّار العرب السامعين القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وادعاؤهم أن آباءهم كانوا مهتدين فنحن مهتدون، ولهذا قال: (قال أوَلَوْ جِئتُكم بأهْدَى مِمّا وَجَدْتُم عليه آباءَكم) الزخرف: 24، يعني أَتَتَّبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفكّ عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى. وخصَّ الآية بعدها بالاقتداء لأنها حكاية عمن كان قبلهم من الكفار، ادّعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فاقتضت كلّ آية ما ختمت به. (مُرْسَلِين) : من إرسال الرسل عليهم السلام. وقيل: من إرسال الرحمة. والأول أظهر. (مًنْشَرِين) : معناه مُحْيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 (مَقَامٍ أمِين) ، بضم الميم من الإقامة بالموضع، وبفتحها موضع قيام. والمراد به الجنة. (مرْتَقِبون) : منتظرون هلالكَ يا محمد، فارتقب أنْتَ نَصْرَنا، وفيه وعدٌ ووعيدٌ لهم. (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) : الحلق والتقصير مِنْ سنَّة الحجّ والعمرة، والحلق أفضل من التقصير للحديث. رحم الله المحلقين ثلاثاً والمقصرين. (مصيْطِرون) : أي أرباب غالبون. وقيل المصيطر المسلّط القاهر، ومنه: (لَسْتَ عليهم بمصَيْطِر) . (منْتَهى) : أي آخر. والمعنى أنَّ جميعَ العلوم تنتهي إلى الله، ثم يقف العلماء عند ذلك. أو إلى الله المصير. وفي الحديث "لا فكرة في الرب". (مؤْتَفِكة) : هي مدينة قوم لوط. ومعنى (أهْوَى) ، طرحها من علوّ إلى سفل، فجعلها تهوي. ومنه: (فأمّه هَاوِية) . (مسْتَمِرّ) : أي دائم. وقيل ذاهب يزول عن قريب. وقيل معناه شديد، وهو على هذا من المِرّة بمعنى القوة. (مسْتَقِرّ) ، أي كل شيء لا بد له من غاية، فالحقّ يحق والباطل يبطل. (مزْدَجَر) : اسم مصدر بمعنى ازدجار، أو اسم موضع بمعنى أنه مظنّة أنْ يزدجر، والمراد بها قصص القرآن وبراهينه ومواعظه. (منْهَمر) ، أي كثير، كان الله يقول مكر قَوْم نوح وأرادوا قَتْله وإخراج نوح من بينهم، ومكَرْنا نحن بخروجهم مِنْ وجه الأرض، ففتحنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أبواب السماء بماءٍ منهمر، فقلنا: يا سماء أمطري، ويا أرض انشقّي، ويا طوفان أهلك، ويا كافر، اهلك بأهلك. (مدَّكر) : تحضيض على الادّكار، فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده. ووزْن مدَّكر مفتعل، وأصله مدتكر، ثم أبدل من التاء دال، وادغم فيه الدال. فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، وقوله: (فذوقوا عذابي ونذر) . فالجواب أنه كرره ليُنَبّه السامعَ عند كل قصة فيعتبر بها، إذ كلّ قصة من القصص عبرةٌ وموعظة، فختم كلَّ واحدة بما يوقِظُ السامع من الوعيد في قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) . ومن الملاطفة في قوله: (ولقد يَسَّرْنَا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر) . (مُنْقَعِر) ، أي منقطع، ويشبَّه اللَّهُ قَوْمَ عادٍ بذلك لما بَغَوْا وتمرَّدوا، وقالوا لهود: لا نلتفت إلى قولك، ولا نخاف من تهديدك، فإن كنت صادقاً فأنزل علينا عذابا. قال: (قد وقع عليكم من ربكم رِجْس وغَضَب) ، فمنع الله عنهم المطر ثلاثَ سنين حتى هلكت المواشي والدواب، فقال لهم هود: (استَغْفِروا رَبَّكم ثم توبوا إليه) . فقالوا: لا نَتوبُ، ولكن نرسل رجالاً إلى مكة َ للاستسقاء، لأنهم كانوا يعظّمونها، ويطلبون بها حوائجهم، فبعثوا منهم ستَّةً وآمن منهم رجلان، وقالا: إلهنا إنك تهلك قَوْمَ هود، ولسنا منهم، فاستجِبْ دعاءنا، واقْضِ حاجتنا، فسمعا صوتاً: سَلْ تعْط. فقال أحدهما: إلهي إني أسأل عمرَ سبْع نسور، فسمع صوتا: أعْطِيت ذلك، فبقي أربعةٌ من الكفار، وكان اسم واحد منهم قيدا، فقالوا له: ادع أنْتَ، فدعا، وقال: اللهم إني لم أجئ لمريض أداويه، ولا لأجْلِ أسيرٍ فأفْديه، اللهم فاسْقِ عاداً كما كنْتَ تسقيهم، فهاجت ثلاث سحائب حمراً وبيضاً وسوداً، فسمع صوتاً: اخْتَرْ أيّها شئت. فقال: قد اخترت السوداء، فسمع صوتاً يقول: قد اختَرْتَ رَعَّادا لايبْقَى مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 الرَّعاد أحداً لا والدا ولا ولداً. فأمر الله تعالى ملك الريح أن يرسل من الصَّرْصَر مقدار حلقه. قال وَهْب بن منَبّه اليماني: تحت الأرض السفلى، كما يقال لها العقيم، تعصفُ يوم القيامة، فتقلع الجبالَ من أماكنها، وترفع الأرض وتزَحْزِحها، وتشقّ الأرض، قال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) ، وسبعة آلاف موكّلون بهذا الريح، فأمر الله الملك الموكّل به أن يرسل جزءا من هذا الريح إلى قوم عاد، فقال: إلهي، كم أرسل، قال: مقدار منخر ثور. قال: إلهي كثير، فأمر الله أن يرسل مقدار حلقة خاتم، فقال: إلهي كثير، لا تدَع شيئاً في الأرض إلا أهلكته (1) . فأمر الله أن يرسل مقدار سَمِّ الخِيَاط، فلما جاءتهم السحاب قالوا: (هذا عارِض ممْطِرنا) . فقال لهم هود: (بل هوَ ما استَعْجلَتْم به رِيح فيها عذابٌ أليم) . فجاءتهم الريح، فخرج منهم سبعمائة، وصعدوا في الجبل، أخذ كلّ واحد منهم بيد صاحبه وذيله طامعين في النجاة، فلما اشتد الريح صاحوا وركضوا في الجبل، فساخ إلى ركبتهم، فلما حان العذاب أظلمت السماء، ورعدت، فنزلت ريح، فهدم جميع أبنيتهم ورفعها في الهواء، فجعلها مثل الدقيق المطحون، فصار رَمْلاً، وهذه الرمال التي على وجه الأرض من ذلك، ثم رفع قومَ هود إلى الهواء وضربهم على الأرض، فصاروا كأنهم أعجاز نَخْلٍ خاوية. وروي أن هوداً جمع المسلمين، وخَطّ حولهم خطًّا، فكانت الريح تأتي إلى ذلك الخط، وترجع كما قال تعالى: (تَنْزعُ الناسَ) . والإشارة بذلك إلى أنَّ الريحَ إذا هبت يوم القيامة على نار جهنم تصير النارُ تحت أقدام أمته خامدة، ويعطون صحائفهم، واحد بيمينه والآخر وراء ظهره. (محْتظِر) ، أي محترق متفتت، كأنه صاحب الغنم الذي يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه أو للسكنى، وشبَّه الله ثموداً لما هلكوا بما يتفتّت في الحظيرة من الأوراق وغيرها.   (1) من الإسرائيليات المنكرة، وكيف يردُّ المَلَكُ أمر الله تعالى، وهل الملك أعلم من الله كما توهمه القصة؟؟!!! وعلى كلٍّ فالثابت عند المحققين ترك مرويات وهب بن منبه وكعب الأحبار. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وأما المحْتَضَر في قوله: (كلُّ شِرْبِ محْتَضَر) فمعناه محضور مشهود، وذلك أن الله جعل للناقة يوماً ولقوم صالح يوماً يشربون فيه الماءَ فلا يتعدونه، فاحتاجوا في يوم ورودِ الناقة إلى الماء، وطلبوا ماءً فلم يجدوه، فقال قدَارُ: لا بدَّ مِنْ قَتل هذه الناقة. فقالوا جميعا: هذا صواب، فأخذ سيفاً، وخرج فاختفى في شِعْبِ جَبَل، وكان وقت رجوع الناقة من الماء، فلما دنت منه حمل عليها وقتلها، ثم قصد إلى ولدها فمد الولد إلى الجبل فانشقَّ بقدرة اللَه ودخل فيه. (مسْتَطَر) ، أىِ مكتوب، وهو من السطر، تقول سطرت واستطرت، وهو بمعنى واحد. (منْشتآت) : يعني السفن، وإنما سمّيت بذلك لأن الناس ينشئونها. وقرئ بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنْشئ الموج. (مدْهَامَّتَان) : أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. وضمير التثنية يعود على العينين الجاريتين. (متَّكِئين) ، من التوكؤ على شيء. (مخَلَّدون) ، الذين لا يموتون. وقيل الْمقْرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط، والأول أظهر. (متَقَابِلين) ، أي وجوه بعضهم إلى بعض. (مغْرَمون) ، أي معذّبون، لأنَّ الغرام هو أشدّ العذاب. ومنه: (إنَّ عذابَها كان غَراماً) ، يعني لو جعل الله زَرْعكم حطاماً لقلتم ذلك. ويحتمل أن يكون من الغرم، أي مثْقَلون بما غرمناكم من النفقة. (مُزْن) : هي السحاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 (مقْوِين) : قد قدّمنا أنهم الذين لا زاد لهم. والْمُقْوِي أيضا الكثير المال، لأنه من الأضداد. (مدْهِنون) : يعني متهاونون، وأصله من المداهنة، وهي لِينُ الجانبِ والموافقة بالظاهر لا بالباطن. وقال ابن عباس: معناه مكذبون، وهذا خطاب للكفار، ومنه قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) . ْ (مقَرّبين) : المراد بهم السابقون المذكورون في أول سورة الواقعة في قوله: (والسابقون السابقون) . (مسْتَخْلَفين) : يعني في الإنفاق في سبيل الله وطاعته. رُوِي أنها نزلت في الإنفاق في غَزْوة تَبوك، وعلى هذا روي أن قوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) . نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جيش العسْرة. ولفظ الآية مع ذلك عام، وحكمها باق لجميع الناس. وقوله: (مسْتَخْلَفين فيه) - يعني أنَّ الأموالَ التي بأيديكم إنما هي أموال الله، لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه. ويحتمل أَنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم، فورثتم عنهم الأموال. فأنفقوها قبل أن تخلّفوها لمن بعدكم، كما خلّفها لكم مَنْ كان قبلكم. والمقصود على كل وجه التحريض على الإنفاق، والتزهيد في الدنيا. قال في قوت القلوب: وقد مثّل بعض الحكماء ابْنَ آدم بدود القزِّ، لا يزال ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مَخْلص، ويقتل نفسه، ويصير القزُّ لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن المقز يلتفّ عليه فيروم الخروج منه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت، لئلا يقطع القز، ويخرج القزّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 صحيحاً، فهذه صورة لمكسب الجاهل الذي يترك أهله وماله، فينعم ورثته بما يَشْقَى به، فإنْ أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه. وإنْ عصوا به كان شريكَهم في المعصية، لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم: إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، وأشار إلى ذلك أبو الفتوح السّني: ألم تر أن المرءَ طول حياته ... معنًّى بأمْر لا يزال يعَالِجه كذلك دود القَزّ ينسج دائماً ... ويهلك غمّاً وسْط ما هو ناسجه وقال آخر: يُفْنِي الحريصُ بجمْعِ المال مدتَه ... وللحوادث ما يبقى وما يَدعُ كدودة القز ما تبنيه يهْلِكها ... وغيره بالذي تبنيه ينتفِعُ وبالجملة فإن اللَهَ أعطاكَ أربعة أشياء: أولها اللسان، وكلّفك منه الذِّكْر له. والقولَ الحسن لخَلْقه، قال تعالى: (اذكروا الله) . (وقولوا للناسِ حُسْناً) . والقلب وكلفك منه محبةَ اللَهِ ومحبة المؤمنين، قال تعالى: (والذين آمَنوا أشَدّ حبّاً للَهِ) ، أي من الصنم. وقال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) . فإن قلت: من أين يُعرف أن المؤمن يحبّ الله أكثر من الكافر، والكافر يقتل نَفْسه لمعبوده، والمؤمن لا يفعل ذلك؟ فالجواب أنَّ الكافر إذا أصابته شدّةٌ تبرّأ من معبوده، قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) . وقال: (أغَيْرَ اللهِ تَدْعون) . والمؤمن لا يعرض عن الله بالشدائد والمحن، قال تعالى: (ولنَبْلوَنكم) . والكافر يتبرّا من معبوده يوم القيامة، قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) . (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) . والمؤمن لا يتبرأ من معبوده. ومحبة الكافر بعد الرؤية، ومحبة المؤمن قبل الرؤية. ومحبة الكافر من جانب واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وهو من نفسه ليس لمعبوده منه محبّة، ومحبة المؤمنين من الجانبين، لقوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) . والكافر أظهر المحبةَ لمعبوده بقربان نفسه، والمؤمن كتم في نفسه، بل نهاه معبوده عن قَتْلها، قال تعالى: (ولا تَقْتلوا أنْفُسكم إنَّ اللهَ كان بِكُمْ رَحيما) . وكيف يقتل نفسه وهي ماله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) . وأيضاً لو قتل المؤمن نفسه لأجل معبوده - لأن له عنده خطراً عظيما - قال بعض العارفين رفع الله القسمة بينه وبين العارفين، فكان للعارف اثنان: المعرفة والشهادة، ذكرهما لنفسه في قوله تعالى: (شَهد الله) ... الآية. وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) ، ولله اثنان العزة والطاعة، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) . وقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) . فإن قلت: ما علامة حقيقة المحبة؟ فالجواب ما قاله بعض: ألاَّ ينظر إلى ما دونه، كما قال الأصمعي: كنْتُ مارّاً في البادية، فاستقبلتني جارية كأنها علَم أو فلْقَة قَمَر، فنظرت إليها فقالت: لِمَ نَظَرْتَ إليّ، قلت: كلِّي بكلِّك مشغول فقالت: إنْ كان كما قلْت فكلِّي لكُلِّك مبذول، ولكن وراءك أحسن مني، فنظرت إلى خَلْفِي فلطمتني لطمة كادت تذْهب بصري، فقلت: ما هذا، قالت: ظننتُ أنك عارف، فلما نظرتَ إليّ رأيتك عاشقاً، والآن لست بعارف ولا عاشق، ثم ولَّتْ عني وهي تقول: حبّك في القفار شدَّدني ... ثمرات من الحبّ أوّاه خَوْف القطيعة أزعجني ... فآهٍ من الخوف ثم آه وفي بعض الكتب: كذب من ادَّعى محبَّتي ثم يجد لذة الطعام والشراب. كذب من ادعى محبَّتي فإذا جنَّ الليل نام عني. كذب من ادَّعى محبتي ثم خطر بباله غيري. وأعطاك اللَّهُ المال، وطلب منك القَرْض والصدقة، وطلب من نفسك العبادة والمعونة لخلقه، قال تعالى: (وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتقوى) . (الْمصَّدّقين والْمصَّدِّقات) : بتشديد الصاد، من الصدقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وأصله التصدقين، وكذلك قرأ أبيّ بن كعب. وقرئ بالتخفيف من التصديق، أي صدَّقوا الرسول عليه الصلاة والسلام. (مهْتَد) : من الاهتداء الذي هو ضد الضلال. (متكَبِّر) : من أسماء الله، وهو الذي له التكبُّر حقاً. والمتكبر ضد المتواضع، فلا ينبغي الاتصاف بأوصاف الله، ولذلك يقول الله تعالى: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما أدخلْتُه النار". (مُهَاجِرَاتٍ) : كل مَنْ هاجر من النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. أمره الله بعدم ردّ مَنْ هاجر من المؤمنات منهن، وكانت المرأة التي هاجرت حينئذ أميمة بنت بشر، امرأة حسان بن الدحداحة. وقيل سُبيعة الأسْلمية، ولما خرجت جاء زوجها، فقال: يا محمد، رُدّها علينا، فإن ذلك في الشرط لنا عليك، فنزلت الآية. فامتحنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يردها، وأعطى مَهْرَها لزوجها. وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، هربت من زوجها إلى المسلمين. واختلف في الرجال: هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على رد مَنْ أسلم منهم أو تجوز حتى الآن، على قولين. والأظهر الجواز، لأنه إنما نسخ ذلك في النساء. (مُزَّمِّل) : وزنه متفعل، فأصله متزمل ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي. وقد قدمنا أنه من أسمائه عليه السلام، ناداه الله به. قال السهيلي: وفي ندائه به فائدتان: أحدهما الملاطفة، فإنَ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتقّ من حالته التي هو عليها، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ: قُم أبا تراب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 والثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبَّه إلى ذِكْر الله، لأن الاسم المشتق من الفعل يشتركُ فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة. وفي معنى تسميته - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنه كان في وقت نزول الآية متزمّلاً في كساء أو لحاف، والمتزمُّل: الالتفاف في الثياب بِضَمّ وتشمير، هذا قول عائشة والجمهور. الثاني: أنه كان قد تزمَّل في ثيابه للصلاة. الثالث: أنه المتزمل للنبوءة، أي المتشمر المجد في أمرها. والأول هو الصحيح، لما ورد أنه لما جاءه الملك وهو في غارِ حِرَاء في ابتداء الوحي ورجع إلى خديجة ترعد فرائصه، فقال زَملُوني زَملُوني، فنزلت: يا أيها المدثر. وعلى هذا نزلت: (يا أيها المزمل) ، فالمتزمُّل على هذا تزمُّله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاءه جبريل. وقال الزمخشري: كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة، فنودي (يا أيها المزمل) ليهجر إليه الحالة التي كان عليها من التزمّل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غَيْرُ سديد. (مُنْفَطِر به) : أي ممتلئة به بلسان الحبشة، قاله ابن عباس. والانفطار في اللغة الانشقاق. والضمير المجرور يعود على اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هَوْله. ويحتمل أن يعود على الله، أي تنفطر بأمره وقُدْرته. والأول أظهر. فإن قلت: ما فائدة مجيء منفطر بالتذكير والسماء مؤنثة؟ فالجواب تأنيثها غير حقيقي، أو على الإضافة، تقديره ذات انفطار، أو لأنه أراد السقف. (مدَّثر) : من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وتسميته بذلك كتسميته بالمزَّمِّل، ومعناه الذي تدثَّر في كساء أو رداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 قال السّهَيلي: في ندائه بالمدثر ما في ندائه بالمزمل. وثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان للنذير الذي يكون في غاية الجدّ والتشمير، والمتدثر بالثياب ضدّ هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير. وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن. والصحيح: (اقرَأ باسْمِ رَبِّك) . (مسْتَنْفرَة) : بفتح الفاء: التي استنفرها الفزع، وبالكسر ، بمعنى النافرة. وشبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام. ويعني حمير الوحش. (منَشَّرة) ، أي منشرة غير مطويّة، كما كتبت لم تطْو بعد. وذلك أنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن نَتَّبِعك حتى تأتي كل واحد منّا بكتاب من السماء فيه: مِنْ رَبّ العالمين إلى فلان بن فلان - تأمر باتّباعك. (ملْكا كَبِيرا) : يعني كثرة ما أعطاهم اللَّهُ حتى أن أدنى أهلِ الجنة منزلة مَنْ له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه حسبما ورد في الحديث. وقيل: إن الملائكة تسلّم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك. (منْذِر مَنْ يَخْشَاها) ، أي إنما بعِثْتَ يا محمد لتنْذِر بها. وليس عليك الإخبار بوقتها، وخصّ الإنذار بمن يخشاها لأنه هو الذي ينفعه الإنذار. (مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) : أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء. (مطفِّفين) : التطفيف في اللغة هو البَخْس والنَّقْص، فسره بذلك الزمخشري، واختاره ابن عطية. وقيل: هو تجاوز الحدّ في زيادة أو نقصان. واختاره ابن الغرس، وهو أظهر، لأن المراد به بخْس حقوق الناس في المكيال والميزان بأن يزيد الإنسان على حقه، أو ينقص من حق غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال لهْ أبو جُهينة له مكيالان. يأخذ بالأوْفَى، ويعْطي بالأنقص، فالسورةُ على هذا مدنية. وقيل: إنها مكية، لذكر أساطير الأولين. وقيل نزل بعضها بمكة وأنزل أمْرُ التطفيف بالمدينة، إذ كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى فأصلحهم الله. (مؤْصَدة) : مغلقة مطبقة، يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته. وفيه لغتان الهمز وترك الهمز. (ممَدَّدة) : العَمَد: جمع عمود، وهو عند سيبويه اسم جمع وقرئ بضمتين، والعمود هو المستطيل من حديد أو خشب، والممددة: الطويلة. وفي المعنى قولان: أحدهما: أنَّ أبواب جهنم أغلقت عليهم ثم مدّت على أبوابها عمد تشديدا في الإغلاق والثقاف، كما تثقف أبواب البيوت بالعمد، وهو على هذا متعلق بـ موصدة. والآخر: أنهم موثقون مغللون في العمد، فالمجرور على هذا في موضع خبر مبتدأ مضمر، تقديره هم موثقون في عُمُدٍ. (منْفَكّين) : زائلين. والمعنى أن جميع الكفار لم يكونوا منفكّين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم. ومعنى منفكين منفصلين. ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، لتقوم عليهم الحجة. الثاني: لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوءة نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله. الثالث: اختاره ابن عطية، وهو: لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقُدْرته حتى يبعث الله إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الرابع: وهو الأظهر عندي: أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بعث الله لهم محمداً، فقامت عليهم الحجّة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دونَ بَعْثه لقالوا: ربنا لو أبى سلت إلينا رسولا، فلما بعثه الله لم يبق لهم عُذْر ولا حجة، فمعنى مُنْفكين على هذا كقولك لا تبرح ولا تزول حتى يكون كذا وكذا. (ميثاق) : قد قدمنا أنه العهد حيثما وقع والوثق، مفعال من الوثيقة. (من بعده) : الضمير لموسى، أي من بعد غيبته في مناجاته على الطور. (ملّةَ أبِيكم إبراهيم) : انتصب ملّة بفعل مضمر تقديره: أعني بالدين ملَّة إبراهيم، أو التزموا ملَّة إبراهيم. وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملَّة. وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم، كأنه قال: وسّع عليكم توسعة ملَّةِ أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف. فإن قلت: لم يكن إبراهيم أباً للمسلمين كلهم. فالجواب أنه أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبأ لأمته، لأن أمة الرسول في حكم أولاده. وأيضاً فإن قريشاً وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثَرُ الأمة. فاعتبرهم دون غيرهم. وقد قدمنا في هذا الحرف أنَّ الله نسب هذه الأمةَ لإبراهيم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيهم، والوالد يستحيي من زلّة ولده، ولم ينسبهم - لآدم، لأنه عاملهم بما لم يُعامل به آدم عند ذنوبهم. ألا تراهم يرتكبون كلَّ ساعةْ المخالفة، وهو يسترهم ويرزقهم ويعافيهم، وإن نادَوْه لَبَّاهُمْ، وإن استغفروه غفرِ لهم، وأعظَم من ذلك أنه نسبهم إلى الوفاء في قوله تعالى: (وإبراهيمَ الّذي وَفَّى) . (إنَّ إبراهيمَ لَحليمٌ أوّاهٌ مُنِيب) . وكما أحْيا اللهُ علي يديه الطيور، وأظفره بعدوّه النمرود، ولم تصل النار إلى جسده، بل أحرق قيوده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 كذلك يحي الله قلوب هذه الأمة المحمدية إذا ندموا على المخالفة، ويظفرهم بعدوهم إبليس في القيامة ويبرد عليهم النار، فلا يذوقون فيها الماء، كما صح أنهم يموتون فيها إماتة ... الحديث بطوله في صحيح مسلم. فهنيئاً لكم يا أمة محمد على ما خوَّلكم له من النعم لحرمة نبيكم، اللهم اجعلنا من أمته، واحْشرْنا في زمْرَتِه لا مبدِّلين ولا مغَيِّرين. (مِسْكين) : مفعيل من السكون، وهو الذي سكنه الفقر. أي قلل حركته، وهو أحوَج من الفقير. وقال الأصمعي: بل المسكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الله عز وجل يقول: (أمَّا السفينة فكانت لِمَساكِين) ، فأخبر أنَّ المسكين له سفينةٌ من سفن البحر، وهي تساوى قيمةً كبيرة. والصحيح الأول، لأن الله قال في أصحاب السفينة: مَساكين، على وجه الإشفاق عليهم، لكونهم يغصبون فيها، أو لكونهم في لجج البحر، ولا سيما على قراءة مَسَّاكين - بتشديد السين، أي يمسكون السفينة. (مِحْرَاب) : قد قدمنا أنه مقدم المجلس وأشرفه، والمحراب أيضاً: الغرفة، وجمعه محاريب. وأما قوله: (كلما دخلَ عليها زكريا المحرابَ) فالمراد به موضع عبادتها. (مِثْقَال ذَرَّة) : أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيه على الكثير. (مِنْهَاجاً) : أي ديناً، وفي هذا دليل على أن الله أمر بالدين القيم لجميع العالم. وأما الأحكام والفروع فقد قدمنا أن ذلك مختلف. (مِدْراراً) : بناء تكثير من الدر. يقال دَرّ المطر واللبن وغيره. وفي الآية دليلٌ على أنَّ التوبةَ والاستغفار سببٌ لنزول المطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 (مِنْ قَبْلُ كانوا يَعْمَلُون السَّيِّئَاتِ) : أي من قبل إتيان الرسل كانت عادةُ قوم لوط إتيان الفواحش في الرجال. (مِنْ وراءَ إسحاقَ يَعْقوب) : أي من بعده، وهو ولده. وقيل الوراء ولد الولد. ويعقوب بالرفع وبالفتح معطوف على إسحاق. (مِن الزَّاهدين) : أي في قيمة يوسف، لأنهم علموا أنه حر، أو بقيمته. وقيل: إن يوسف نظر إلى أسفل الجبّ، فرأى صورة وجهه في الماء فاستحسنه، فخطر بباله: لو كنْتُ مملوكاً لكنت عزيزا، وعزّ لي ثمني. فبعث الله إليه السيارة، وسلّط عليه إخوته حتى باعوه بثمن بَخْس، وأراه أنَّ قيمته بجمال الباطن لا بجمال الظاهر (1) . فلما وصل أسفل الجب، وجاءته السيّارة واشتروه لأن إخوته دبَّروا قتله، ولم يقدروا، وأرادوا بُعْده، واللَه غالب على أمره، فصيَّره ملكاً. وأنْتَ يا محمدي دبَّر لك إبليس القطع والهجران، والله يدبِّر لك العفو والغفران، ويصيّرك ملكاً كريماً. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رب، الأمم الماضية خسفْتَ بهم، وأمطَرْت عليهم الحجارة، ومسختهم قِرَدة وخنازير، فماذا تصنع بأمتي، فقال: يا محمد، أصبُّ على أمتك الرحمة من أعنان السماء، وأبدل سيئاتهم حسنات، ولو أني أحب العتاب ما حاسبْتُ أمَّتك. فلما أراد الانصراف من عنده قال: إلهي، لكل راجع من سفرة تُحفة، فما تحْفة أمتي، قال: رحمتي لهم ما عاشوا، وبُشْراي لهم إذا ماتوا، وفُسحتي لهم إذا قبروا، وكرامتي لهم إذا بعثوا، وحُبِّي لهم إذا حضروا، ورؤيتي لهم إذا زاروا. وفي الحديث: إن الشيطان ينادي يوم القيامة أين أحبَّائي وأهل طاعتي من أمَّة محد، فينادي الجبار جل جلاله: كذبت يا لعِين، أنت للنار وهم للجبَّار. (مِنْ أهلها) .: الضمير لامرأة العزيز، يعني أن الصبي الذي   (1) من أكاذيب بني إسرائيل، وهو محض افتراء يتنزه عنه الأتقياء، فكيف بالأنبياء، وكيف بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليهم وسلم - (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 شهد ليوسف كان من أهلها، لأنه أوثق للحجة وأحسن في براءة يوسف. وهذا الصبي هو أحد الأربعة الذين تكلّموا في المهد، وبَرَّؤْوا أصحابَهم مما رموهم به. افَتَرى الله شهد لكَ بالإيمان وخاطبك به في القرآن، أفتراه يضيّعك بعد شهادته لك. فإن قلت: هل سمعتْ زليخا هذه الشهادة من الصبي؟ فالجواب أنها لم تسمعه لاستيلاء الشهوة عليها، فأصمَّ سمعها وبصرها. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: حبّك الشيء يُعمي ويُصم. (مِنَ المحْسنين) : هذا من قول الفتيان ليوسف، يعني إنَّا رأيناك من المحسنين إلى أهل السجن في عيادة مرضاهم، وتعبير رؤياهم، وقضاء حوائجهم، فالإحسان أورث يوسف محبةَ أهل السجن فيه. وأنتَ يا محمدي أولى بمحبة الله لكَ ورحمته، ونصرته ونفي الخوف عنه إن كنت محسناً، قال تعالى: (ما عَلَى المحسِنين مِنْ سَبِيل) . (إنَّ اللهَ مع الذين اتقَوْا) . (مِنْ بعْدِ ما رَأوا الآياتِ) : أي الدالة على براءته. والضمير يعود على الملك وزليخا، وإنما عرضت به للسجن والعذاب، لأنه أيسر الأشياء، وكانت ترجوه إنْ بَقِي. فكذلك عرض مولانا لنا أيسر الأمرين الفضل والعدل، فإن عاملناه بالعقل والعدل عاملنا بالفضل، لأن له في الأمور التي يبديها ويخرجها أمرين، ألا ترى إلى قصة يوسف عليه السلام كيف مضى عليه حينٌ من الدهر، وهو مشتغل ببلواه، وغيره مشتغل به وبهواه، حتى إن أباه بكى على فراقه وإخوته بكوا حسداً له، وبكى يوسف على ما ابْتلي به في صغر سنه وغربته، وبكت امرأة العزيز على محبته، فلما كشف الله الغطاء، وأظهر بدائع لطفه تغيَّرت الأحوال فصار بكاء يعقوب وحزنه على خواتم الأمور فرحاً، فحكى الله عنه قوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 وأما الإخوة فإنهم رجعوا إلى الاستغفار، وقالوا: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كُنَّا خاطئين) . وأما يوسف عليه السلام فقال: (توفَّني مسلما وألْحِقني بالصالحين) . وأما زليخا فإنها قالت: (الآن حَصْحَصَ الحقُّ) . فكيف تحزن يا محمدي على فَوْتِ الدنيا، وأنت ترى أحوالها وزوَالها واضمحلالها، وتدّعي أنك تَطْلُبُ الحقّ، هيهات!. (من السِّجْن) : إنما لم يقل من الجب، لوجهين: أحدهما في ذكر الجب خزي إخوته وتعريفهم بما فعلوا، فترك ذِكْرَه توقيرًا لهم. والآخر أنه خرج من الجبِّ إلى الرقّ، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة به أكثر. هذا يوسف لم يرد تعيير إخوته، والمؤمن الذي أطاع مولاه أفتراه يذكره بذنوبه؟! ، كلاّ والله لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه. وقد قدمنا أن الكرامات التي كانت للنبي عليه السلام كانت لأمَّته. (من البَدْوِ) : أي من البادية، وكانوا أصحاب إبل وغنم، فعدّ في النعم مجيئهم إلى الحاضرة، فيفهم من مقارنة خروجه من السجن ومجيئهم من البادية شؤمها، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ بَدَا جَفَا، وذلك لتركهم الجمعة، وقلّة الإقامة بالدين، هذا في زمان أهل الخير والدين، وأما في هذا الزمان فالبادية أكثر إخلاصاً مع الله لقلّة حبهم في الدنيا، والتصنّع لأهلها، وليس الخبر كالعيان، والمشاهد لا يحتاج لبرهان. (مِنَ الملْك) : من للتبعيض، لأنه لم يعطه الله إلا بعض ملك مصر. (مِنْ أنْبَاءِ الغَيْب) : احتجاج على صحة نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لإخباره بالغيوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 (مِحَال) : مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنُه مفعل. وقيل معناه شديد المكر، مِنْ قولك محل بالرجل إذا مكر به، فالميم على هذا أصلية، ووزنه فعال. ويقال الحال من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان، وعرَّضه للهلاك. (مِنْ كُلّ شَيء مَوْزُون) : أي مقدَّر بقَصْدٍ وإرادة، فالوزن على هذا مستعار. وقيل المراد ما يوزن حقيقة، كالأطعمة والذهب. والأول أحسن وأعمُّ. (المعلوم) : اليوم الذي طلب إبليس أن يُنْظَر إليه هو يوم القيامة، والوقت المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النّفخ في الصور النفخة الأولى حين يموت مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض. وكان سؤال إبليس الإنظار إلى يوم القيامة جهلا منه أو مغالطة، إذ سأل ما لا سبيل إليه، لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبداً لأنه لا يموت أحد بعد البعث، فلما سأل ما لا سبيل إليه أعرض الله عنه وأعطاه الإنظار إلى النفخة الأولى. (مِنْ بَعْدِها لغَفورٌ رَحيم) ، أي بعد الأفعال المذكورة، وهي الهجرة والجهاد والصبر. (مِنْ دُوني وَكِيلاً) : أي ربّاً تَكلُون إليه أمركم. (مِنْ لَدني عذْرا) : أي قد عذرت إلى معتذر عندي. وفي الحديث: كانت الأولى من موسى نسيانا. (مِنْ كلِّ شيء سبَباً) : أي فهما وعلماً يُتَوصل بهما إلى معرفة الأشياء. والسبب: ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك. (مِتُّ قَبْل هَذا) : إنما تمنَّتْ مريم الموتَ خوفاً من إنكار قومها، وظنهم بها الشرَّ، ووقوعهم في ذَمِّها. وتمني الموت جائز في مثل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وليس هذا من تمني الموت لضرر نزل بالبدن، فإنه منهي عنه للحديث: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي". وحكي أنه لما اشتد بها الموت قالت هذا. فإن قلت: ها هي آمنة أمّ مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تَجِدْ ألماً حين ولادته، ومريم وجدت الألم؟ والجواب أن الله أجرى العادة في هذه الدار أنه على قدر الفرح يكون التَّرَح، ومريم قَرَّ اللهُ عينها بعيسى، وشاهدت معجزاته، وظهور أمره، فاشتدَّ عليها الأمْرُ، وأمُّ سيد الأولين والآخرين لم يكن لها منه حظّ، ولم تشاهده، فرفع الله عنها الألم. وقيل العطاء مقسوم على قَدْر البلاء. ألا ترى إلى نوح لما يئس من إيمان قومه ولم يفرح بهم وآذَوْه استجاب اللهُ له فيهم، ونبيُّنا علم إيمان أمّته، واتِّباع شريعته، فاحتمل أذاهم، ولم يدع على قومه، فقال: اللهم اغْفِرْ لقَوْمي فإنهم لا يعلمون. فإن قلت: قد دعا عليهم بقوله: اللهم أعنِّي عليهم بسَبْع كسبع يوسف. وقال لما صب عليه سَلَى الجَزور: اللهم عليك بقريْش؟ والجواب أنه دعا عليهم، لأنه غَضِب لله، إذ عادته - صلى الله عليه وسلم - الصفح ما لم تهتك حُرْمته، فيغضب للهِ، وكان حينئذ في الصلاة فدعا عليهم لذلك. وأيضأ فإنه علم - صلى الله عليه وسلم - عدم إيمان المدعوّ عليه، كما صح. وأما دعاؤه بالاستعانة عليهم بالجدب فللطمع في إيمانهم، كقوم يونس. فتأمل يا محمديّ عنايةَ الله فيك في أزله، فلا تجزع من البلايا والرزايا، فإنما هي تطهيرات. ومقاساة البلية مقسومة على حسب الكرامة، فكما أعد لك من النعيم المقيم ما لا عين رأتْ ابتلاك على حسب ما أعدّ لك. يقول تعالى: "عبدي رفعت البلاء عن الملائكة فهم مخفَّفون من الهموم، ولا لهم همّ الرزق، ولا شدة الجوع، ولا ألم المرض، ولا خوف العواقب، لأن الجنةَ غير معدودة لهم. وقد قدرت البلايا والمِحَن والشدائد والهموم، وخوف زوال الإيمان عليك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 لأن الجنة معدودة لك، والرؤية موعودة لأجلك، ومقاساة البلية مقسومة على حسب القطيعة. (مِنْ غَيْرِ سوءٍ) : يعني من غير بَرَص ولا عاهة، وذلك لحكم: منها أنه لما أتعب يده حين لطم فرعون في حال صباه أكرم الله يده بأن جعلها بيضاء. وكذلك الخليل أتعب يده بكَسْرِ الأصنام فأكرمه الله بإحياء الطيور على يديه. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أتعب يده بِرَمْي التراب في وجوه الكفار فأكرمه الله بانشقاق القمر بإشارته، ونبع الماء من بين أصابعه. فالمؤمن الذي يكرم يده بمدها في الطاعة أفتراه لا يكرمها الله بأخْذ كتابه وتزيينه بأساور من فضة. وإذا أتعب رجله بالمشي إلى الجماعة يكرمه بخمود النار تحت قدميه، فتقول له: جُزْ يا مؤمن، قد أطفأ نورك لهبي. وكذلك إذا أتعب قلبه في ردّ وساوس الشيطان يكرمه الله تعالى بنور معرفته ومحبّته. ولما أكرم تعالى يد موسى بنور النبوة لم تحترق، ولو احترقت لم تكن معجزة. وكذلك إسماعيل لما كان نور المصطفى في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل فيه السكين، وأكرمه الله بنور الحبيب الكريم، وفداه بالذبح العظيم، وحرم عليه العذاب الأليم. وكذلك العبد إذ أكرمه الله بنور المعرفة والإيمان نَجّاه من النيران وحرم عليه القَطْع والهجران. ولما كانت يده حجة على فرعون حفظها الله من النار كي لا تبطل حجّته. كذلك المعرفة حجَّتك على الكافرين، فسَلْه أن يحفظ حجتك من الزوال. ومنها أنَّ الله تعالى أراه مِنَّته وهيبته فحفظ يده من النار كي يرى منته. وأحرق لسانه بالجمرة كي يرى هَيْبته، كذلك قصة امرأة عمران قالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَك َ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، فولدت أنثى كي لا تصلح لتمام الخدمة التي أضمرت في نفسها، لترى هيبته بذلك، فتقبّلها ربها بنقصانها لترى منته. كذلك قصة الخليل لما قُيّد ورُمي في النار احترق قَيْدُه ولم تحترق يده، ليرى هيبته ثم يرى منَّته، كذلك العبد يوقعه اللهُ في المعصية ثم يحفظ قَلْبَه من الشرك والنكرة لينظر العبد إلى المعصية، فيرى هيبته، ثم ينظر الى معرفته فيرى مِنّته. ويبقى مع مولاه في رؤية المنة ورؤية الهيبة. ومنها أنه أخذ الجمرة بإلهام الله وإذن الملك، ووضعها في فمه باختيار نفسه دونَ أمْرِ ربه، فاحترق لسانه، وكذلك العبد يعصي بنفسه، واختيار هواه، ثم يخاف رَبّه ويندم بقلبه فتذوب نفسُه، فيأمر ربّه بإدخاله النار، ويحفظ قلبه من ألم الهجران. (مِسَاسَ) : هذا من كلام موسى للسامري، عاقبه بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومواكلته ومكالمته، وجعل له مع ذلك أن يقولَ طول حياته: لا مِسَاس، أي لا مماس ولا إذاية. وروي أنه كان إذا مسّه أحد أصابته الحمّى له وللذي مسه، فصار هو يَبْعُد عن الناس، وصار الناس يبعدون عنه، وهذه كانت عقوبته. والصحيح أنه تاب فقَبِلَ اللهُ توبته (1) . وروي أن موسى همَّ بالدعاء عليه، فنهاه الله عن ذلك، فقال: لم يا رب؟ فقال: لسخائه (2) . (مِشْكاة) : كوَّة غير نافذة بلغة الحبشة، قاله مجاهد، وإنما وصفها بذلك لأن المصباح فيها شديد الإضاءة. وقيل: المشكاة الذي يكون المصباح على رأسه. والأول أصح وأشهر. (مِسْك) : ذكر الثعالبي أنه فارسي، وهو دَمٌ مجتمع في عنق الظبي الذي تبع آدم يبكي عليه، فأكرمه الله بالمسك.   (1) ليس في القرآن ولا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بقبول توبة السامري. والله أعلم بحقائق الأمور. (2) لا يخفى ما فيه من بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وأنت يا عبد الله إن تتبعتَ أمره يكرمك بالجنة التي فيها أنواع اللذات والطيبات من الروائح، وتشرب من مائه، ختامه مسك. (مِصباح) : هو الفتيل بناره. والمعنى أنه قنديل من زجاج، لأن الضوء فيه أزهر، لأنه جسم شفاف. والمعنى أن صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما يتصوّره البشر من الإضاءة، وإنما شبهه بالمشكاة، وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار. (مِنْسَأته) ، أي عصاته بلغة الحبشة، وقرئت بالهمز وبغير همز. وقصَّتُها أنَّ سليمان عليه السلام دخل قبةً من قوارير، وقام يصلّي متكئاً على عصاه، فقبض الله رُوحه، وهو متكئ عليها، فبقي كذلك سنَةً لم يعلم أحَدٌ بموته حتى سلّط الله عليها دابّة الأرض وهي السوسة. واختصرنا كثيراً مما نقله الناس لعدم صحته. وحِكمَةُ ذلك أن الجن كانت - تدَّعي عِلْمَ الغيب، فتخبر الناس، فرد الله ذلك القول بقوله تعالى: (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) . فعِلْمُ الغيب لا يطَّلِع عليه إلا الله، ومَنْ يُرد اللهُ أن يعلمه من نبي أو صديق. ورضي الله عن السيد الذي دخل على بعض الملوك فوجده مهموما، فقال: مالك، فقال: رأيتُ ملك الموت، فاختبرته عما بقي من أجلي، فأشار لي بأصابعه الخمس، فلا أدري أخمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: أشار لك إلى أنَّ الخمس التي انفرد الله بعلمها في قوله تعالى: (إنَّ اللهَ عنده عِلْمُ الساعة ... ) الآية. فإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يعلم أجَلَ شخص حتى يُؤْمر بقبض روحه فكيف يطّلع الغير على الغيوب؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 ولهذا أبطل العلماء ما يدعونه أهل البطالة من الاطلاع على الغيوب. ويستدلّون عليه بأمارات باطلة. (مِيعَاد يوْم) : يعني يوم القيامة أو نزول العذاب بهم في الدنيا، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف. (مِرَّةٍ) : أي ذو قوة، أو ذو هيئة حسنة. والأول هو الصحيح في اللغة. وقيل: مرة أي محكم الفَتْل. (مِرْصاد، أو مَرْصَد) : طريق وانتظار، أي تنتظر الكفَّار ليدخلوها. وقيل معناه طريقا للمؤمنين يجُوزُون عليها إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على مَتْن جهنم. وأما قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، فهو عبارة على أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان وكلّ زمان، ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفُوته أحد من الجبابرة والكفار. وفي ذلك تهديد لكفّار قريش وغيرهم. وقد كتب بعضُ الفضلاء لمن هدده: فيا للعجب ذبابة تطنّ في أذن الفيل أم بعوضة تعدّ في التماثيل؟ وستندم على ما حدّثَتْك نفسك من أماني كاذبة. وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تعنّى بالأمراض، فسبحان الله! كم بين قوي وضعيف، ودنيء وشريف! فإن عُدْنا إلى الظواهر المحسوسات، وعَدَلْنا عن البواطن المعقولات، قلنا أُسْوَة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "ما أوذِي نبي بمثل ما أوذيت، فكانت العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين". فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن من أمرنا بالمرصاد واتْلُ أوَّلَ النحل وآخر (ص) . *** (ما) : اسمية وحرفية، فالاسمية تَرِدُ موصولة بمعنى الذي نحو: (ما عِنْدَك يَنْفَدُ وما عِنْد الله باق) . ويستوي فيها الذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 والغالب استعمالها فيما لا يعلم، وقد تستعمل في العالم، نحو: (والسماء وما تنَاهَا) . (ولا أنتم عابِدون ما أعْبد) ، أي الله. ويجوز في ضميرها مراعاة اللفظ، واجتمعا في قوله: (ويَعْبدونَ من دون اللَه ما لا يَمْلِك لهم رِزْقاً من السماوات) . وهذه معربة بخلاف الباقي. واستفهامية بمعنى أي شيء، ويُسأل بها عن أعيان ما لا يعقل وأجناسه وصفاته، وأجناس العلماء وأنواعهم وصفاتهم، نحو: ما هي. ما لَوْنها. ما ولاّهم. (مَا تِلْك بيمينكَ يا موسى) . (وما الرحمن) . ولا يسأل بها عن أعيان أولي العلم، خلافاً لمن أجازه. وأما قول فرعون: (وما ربّ العالمين) ، فإنما قاله جَهْلاً، ولهذا أجابه موسى بالصفات. ويجب حذف ألفها إذا جُرَّت، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها، فَرْقاً بينها وبين الموصول، نحو: (عَمّ يتساءلون) . (فيمَ أنْتَ من ذِكْرَاها) ، (لم تقوئون ما لا تفعلون) . (بم يرجع المرسلون) . وشرطية نحو: (ما نَنْسَخْ من آية أو ننْسها) . (وما تفْعَلوا من خير يعلمه الله) . (فما استقَاموا لكم فاسْتَقِيموا لهم) . وهذه منصوبة بالفعل بعدها. وتعجبية نحو: (ما أصبرهم على النار) . (قتِل الإنسان ما أكفره) . ولا ثالث لهما في القرآن إلا في قراءة سعيد بن جبير: "ما أَغرك بربك الكريم". ومحلّها في رفع الابتداء وما بعدها خبر، وهي نكرة تامة. ونكزة موصوفة، نحو: (بعوضة فما فَوقها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 (نِعمَّا يَعِظكم به) ، أي نعما شيء يعظكم. وغير موصوفة نحو: (فنعمّا هي) . الحرفية ترد مصدرية إما زمانية، نحو: (فاتقُوا اللهَ ما استطعتم) ، أي مدة استطاعتكم. أو غير زمانية، نحو: (فذُوقوا بما نَسِيتم) ، أي بنسيانكم. ونافية إما عاملة عمل ليس، نحو: (ما هذا بشرا) . (ما هُنَّ أمَّهاتهم) . (فما منكم من أحد عنه حاجزين) . ولا رابع لها في القرآن. أو غير عاملة، نحو: (وما تنفقون إلا ابتغاء وَجه الله) . (فما ربحت تجارتُهم) . قال ابن الحاجب: وهي لنفي الحال. ومقتضى كلام سيبويه أنَّ فيها معنى التأكيد، لأنه جعلها في النفي جواباً لقد في الإثبات، فكأنما قد فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جواباً لها. وزيادة للتأكيد إما كافة، نحو: (إنما الله إله واحد) . (إنما إلهكم إله واحد) . (كأنما أغشيت وجوهُهم قِطَعاً من الليل مُظْلما) . (ربما يودّ الذين كفروا) . وغير كافّة نحو: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) . (أَيًّا مَا تَدْعُوا) (أيما الأجَلَيْن قضَيْتُ) . (فبما رحمة من الله) ، (مما خطيئاتهم) ، (مثلاً مّا بعوضة) . قال الفارسي: جميع ما في القرآن من الشرط بعد إما مؤكد بالنون لمشابهته فعل الشرط بدخول ما للتأكيد لفعل القسم من جهة أن ما كاللام في القسم، لما فيها من التأكيد. وقال أبو البقاء: زيادة (ما) مُؤْذِنة بإرادة شدة التأكيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 فائدة حيث وقعت " ما " قبل " ليس " أو " لم " أو " لا" أو بعد إلاَّ فهي موصولة. نحو: (ما ليس لي بحق) . (ما لم يعلم) . (ما لا تعلمون) . (إلاّ ما علّمتنا) . وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدريّة. وحيث وقعت بعد الباء فإنها تحتملهما، نحو: (بما كانوا يظلمون) . وحيث وقعت بين فِعْلين سابقهما علم أو دراية، أو نظر، احتملت الموصولة والاستفهامية نحو: (وأعلم ما تُبْدُون وما كنْتُم تَكْتُمون) . (ما أدْرِي ما يفعل بي ولا بِكم) . (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) . وحيث وقعت في القرآن قبل إلا فهي نافية، إلا في ثلاثة عشر موضعاً: (مما آتيتموهن شيئاً إلا أنْ يخافا ألا يُقِيما) . (فنِصْفُ ما فرَضْتُم إلا أن يعْفون) . (ببعض ما آتيْتُموهنَّ إلا أنْ يَأتين) . (ما نكح آباؤكم مِنَ النساء إلاَّ ما قد سلف) . (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) . (ولا أخافُ ما تشركون به إلا أن يشاء ربي) . (فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) . (ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربُّك) ، في موضعي هود. (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) .، (ما قدمتم لهنَّ إلاّ) ، (وإذ اعتزَلْتُمُوهُم وما يَعْبدون إلا الله) ، (وما بينهما إلا بالحق) ، حيث كان. *** (ماذا) : ترد على أوجه: أحدها: أن تكون ما استفهامية وذا موصولة، وهو أرجح الوَجهين في: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) - في قراءة الرفع، أي الذي ينفقونه العَفْو، إذ الأصل أن تجاب الاسمية بالاسمية، والفعلية بالفعلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 الثاني: أن تكونَ ما استفهامية وذا إشارة. الثالث: أن يكون (ماذا) كله استفهاماً على الترتيب، وهو أرجح الوجهين في: ماذا ينفقون قل العَفْوَ - في قراءة النصب، أي ينفقون العَفْو. الرابع: أن يكون ماذا كله اسم جنس، بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي. الخامس: أن تكون ما زائدة، وذا للإشارة. السادس: أن تكون ما استفهاماً، وذا زائدة. ويجوز أن يخرج عليه. *** (متى) : ترد استفهاماً على الزمان نحو (متى نَصْرُ الله) . وشرطاً نحو: متى أضع العمامة تعرفوني. *** (مَع) : اسم بدليل جرها بمن في قراءة بعضهم: (هذا ذكر من مَعِيَ) ، وهي فيها بمعنى عند. وأصلها لمكان الاجتماع، أو وقته نحو: (ودخل معه السجنَ فَتَيان) . (أرْسِله معنا غداً) ، (لن أرْسِلَه معكم) . وقد يُراد به مجرد الاجتماع والاشتراك من غير ملاحظة الزمان والمكان، نحو: (وكونوا مع الصادقين) . (واركعوا مع الراكعين) . وأما نحو: (إتي معكم) . (إنَّ الله معَ الّذين اتقوا) . (وهو معكم أين ما كنْتُم) . (إنّ مَعِي رَبّي سيَهْدِين) فالمراد الحفظ والعلم والمعونة مجازاً. قال الراغب: والمضاف إليه لفظ مَعَ هو المنصور، كالآيات المذكورة. *** (مِنْ) حرف جر، له معان، أشهرها ابتداء الغاية، مكاناً وزماناً وغيرهما. نحو: (من المسجد الحرام) . (من أوّل يوم) . إنه مِنْ سليمان) . والتبعيض بأنْ تسدّ "بعض " مسدَّها، نحو: (حتى تُنْفِقوا مما تحبون) . وقرأ ابن مسعود "بَعْض ما تحبّون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 والتبيين، وكثيراً ما تقَع بعد ما ومهما، نحو: (ما يَفتَح اللَّهُ للناس مِنْ رحمة) . (ما نَنْسَخْ من آية) . (مهما تَأتِنَا به من آية) . ومن وقوعها بعد غيرهما: (فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان) . (أساور مِنْ ذهب) . والتعليل: (مما خطيئاتهم أُغرقوا) . (يجعلون أصابِعهم في آذانهم مِنَ الصَّوَاعق) . والفصل بالمهلة وهي الداخلة على ثاني المتضادّين، نحو: (يعلم المفْسد من الْمصْلح) . (ليميز اللَّهُ الخبيثَ من الطيب) . والبدل، نحو: (أرَضِيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، أي بدلها. (لجَعَلْنَا منكمْ ملائكة في الأرض يَخْلُفون) ، أي بدلكم. وتنصيص العموم، نحو: (وَمَا مِنْ إله إلا الله) . قال الكشاف: هو بمنزلة البناء على الفتح في لا إله إلا الله في إفادة معنى الاستغراق. ومعنى الباء: (ينْظرونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ، أي به. وعلى، نحو: ونصرته من القوم، أي عليهم. وفي نحو: (إذا نودِي للصلاة من يوم الجمعة) ، أي فيه. وفي الشامل، عن الشافعي: أن من في قوله: (وإن كان مِن قوم عدوّ لكم) بمعنى في، بدليل قوله: (وهو مؤْمن) . وعن، نحو: (قد كنّا في غَفْلةٍ من هذا) ، أي عنه. وعند، نحو: (لن تغْنِيَ عنهم أمْوَالُهم ولا أولادُهم من الله) ، أي عنده. والتأكيد، وهي الزائدة في النفي، أو النهي أو الاستفهام، نحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 (وما تسقط من ورقة إلا يَعْلَمها) . (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) . وأجازها قوم في الإيجاب، وخرجوا عليه: (ولقد جاءَكَ مِنْ نَبَأ الْمرْسَلِين) . يحَلَّوْن فيها مِنْ أساوِر) . (مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَد) . (يَغضُّوا مِنْ أبصارهم) . فائدة أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي، عن ابن عباس، قال: لو أنَّ إبراهيم حين دعا قال: اجعل أفئدة الناسِ تهْوِي إليهم لازدحمت عليه اليهود والنصارى، ولكنه خص حين قال: (أفئِدةً من الناس) ، فجعل ذلك للمؤمنين. وأخرج عن مجاهد، قال، لو قال إبراهيم: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لزاحمتكم عليه الروم وفارس، وهذا صريح في فهم الصحابة والتابعين التبعيض من (مِنْ) . وقال بعضهم: حيث وقعت يغفر لكم في خطاب المؤمنين لم تذكر معها من، كقوله في الأحزاب. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) . وفي الصف: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة ... ) ، إلى قوله: (يغفر لكم ذنوبكم) . وقال في الكفار في سورة نوح: (يغفر لكم من ذنوبكم) ، وكذا في سورة الأحقاف، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين، لئلا يسوّي بين الفريقين في الوعد. ذكره في الكشاف. *** (مَنْ) بالفتح: لا تقع إلا اسما، فترد موصولة كما قدمنا مراراً، كقوله: (ومَنْ عنده لا يستكبرون عن عبادته) . وشرطية نحو: (مَنْ يعمل سوءاً يجْزَ به) . واستفهامية نحو: (مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقدنا) . ونكرة موصوفة: (ومن الناس مَنْ يقول) . أي فريقا يقول. وهي كما في استوائها في الذكر والفرد وغيرهما. والغالب استعمالها في العاقل، عَكْس (ما) . ونكتَته أن (ما) أكثر وقوعا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الكلام منها، وما لا يعقل أكثر ممن يعقل، فأعطوا ما كثرت مواقعه للتكثير. وما قلّت للتقليل، للمشاكلة. قال الأنباري: واختصاص مَنْ بالعاقل وما بغيرها في الموصولين دون الشرط، لأن الشرط يستدعي الفعل ولا يدخل على الأسماء. *** (مَهْما) : تقع اسماً يعود الضمير عليها في: (مَهْمَا تَأتنَا بِه) . قال الزمخشري: عاد عليها ضمير به وضمير بها حملاً على اللفظ، وعلى المعنى. وهي شرط لما لا يعقل غير الزمان كالآية المذكورة، وفيها تأكيد، ومن ثم قال قوم: إن أصلها ما الشرطية وما الزائدة، أبدلت ألف الأولى هاء دَفْعاً للتكرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 (حرف النُّون) (نوح عليه السلام) : من أولاد آدم عاش بعد الطوفان ستين سنة، وبعثه اللَه بعد إدريس، وهو أولُ مَنْ صنع السفينة بأمْرِ الله، وكانت سببَ نجاته ومَنْ آمنَ به، وتنسلت الخلق من أولاده: سام، وحام، ويافث، ولذلك يقال له آدم الأصغر، لأن المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة انقرضوا، وكان اسمه يشكر فَمرَّ على كلب ميت فجعل يده على أنْفه، وقال: ما أقبح رائحته، فقال له جبريل: يقول لك ربك اخْلُقْ أنْتَ مَنْ هو أحسن رائحة منه، فبكى على ذلك أربعين سنة. فقال له جبريل: يا نوح، كم تَنوح! يكفيك من هذا النوح (1) . فا نظر هذه السياسة العظيمة، والوعيد الهائل مع أنبيائه وأصفيائه من خلقه. قال تعالى: (إنّ اللَهَ اصْطَفَى آدم ونوحاً وآل إبراهيم) . وكان في احتمال المشقة من قومه غاية حتى ضاق ذَرْعه منهم، ودعا عليهم. فأجاب اللَّهُ دعاءَه، ونَجّاه ومَنْ معه، وسلَّم عليه في قوله: (سَلامٌ على نُوحٍ في العالمين) . (قيل يا نوح اهْبِطْ بسلام مِنَّا) . (نبيئا) : مشتق من الإنباء، وهو الإخبار، لقوله تعالى: (ذلك مِن أنباء الغَيْب) . (نَبئْنَا بتَأوِيله) . وقيل هي مشتقة من الرفعة والتفضيل، لقوله تعالى: (وكان رسولاً نبيئا) . ومنه الحديث: كنت نبيئاً وآدم بين الماء والطين، يعني في علمه سبحانه. فأمّا أنْ يكونَ نبيئا حقيقة وهو غير موجود فلا يتصور، لأن كونه نبيئاً يدل على وجوده عليه الصلاة والسلام، وكلّ نبيء مخبر، وليس كل مخبر نبيء، إذ لا يجوز استعمال هذا الاسم في غير الأنبياء، وإن كان الخبر صادقاً.   (1) لا يخفى ما فيه من الإسرائيليات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 (نظر) : له معنيان من النظر، والانتظار، ومن الانتظار يتعدّى بغير حرف. ومن نظر العين يتعدى بـ إلى، ومن نظر القلب يتعدّى بـ في. (أنْدَادا) : جمع ند، وهو المضاهي والمماثل والمعاند، والمراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله، والمقصود الأعظم منها الأمر بتوحيد الله، وترْك ما عُبد من دونه، وذلك هو الذي يترجم عليه بقولنا: لا إله إلا الله. فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلا الله الذي تنَزَّهَتْ عن سمة الحديث ذاته، ودَلَّت على وحدانية آياته، الأول الذي لا بداية لأزليته، الآخر الذي لا نهاية لسَرْمَدِيّته، الظاهر الذي لا شك فيه، الباطن الذي ليس له شبيه، كلَّم موسى بكلامه القديم المنزّه عن التأخير والتقديم لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، ولا بحروف ترجع، كل الحروف والأصوات والنداء محدثة بالنهاية والابتداء، جلّ ربنا وعلا وتبارك وتعالى. (نكلالاً) : عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخّر. وقيل عبرة لمن تقدم وتأخر، والمراد بهم في البقرة أصحاب السبْتِ، ليتعظَ بهم من يأتي بعدهم. وأما قوله تعالى: (فأخذَه اللَّهُ نَكالَ الآخرةِ والأولى) . فالمعنى أنه غرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة. وقيل الآخرة قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) . والأولى قوله: (ما عَلِمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري) . وقيل بالعكس. والمعنى أخذه الله وعاقبَه على كلمته الآخرة وكلمته الأولى. وروي أنه لما ادَّعَى الربوبية أراد جبريل أن يعذّبه ويخسف به الأرض، فرجع إلى ربه في شأنه، فقال له: مهلاً يا جبريل، فإنما يستعجل بالعذاب مَنْ يخاف الفوت، وكذلك العبد العاصي إذا أسرف على نفسه يتوقع من الله العذاب والمِحْنَة، فينعطف الله عليه بالمحبة والمعرفة. وقيل: إن الله أمهله أربعين سنة: عَشرة لبِرِّه بوالديه، وعشرة لبره بالطعام. حتى إنه اتخذ إبرة من ذهب يلتقط بها ما يسقط منه، وعشرة لسخائه وكرمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وعشرة لتضرعه إلى الله وتمرّغه في الرماد، ويقول: يا رب، إنَّ حبّ الدنيا قد غلب عليَّ وأنا أعلم أنك ربّ الكل (1) . (نَنْسخ مِنْ آية أو نُنْسِها) : من النسيان، وهو ضد الذكر، أي ننسها النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله، كقوله: (سسقْرِئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) . أو بمعنى الترك، فتركها غير منزّلة عليك أو غير منسوخة. وقرئ بالهمز بمعنى التأخير، أي نؤخر إنزالها أو ننسخها. وقد قدمنا الكلام في الناسخ والمنسوخ. وقرئ بضم النون، أي نأمر بنسخه. (نَبْتَهل) : من اللعنة، نقول: لعنَةُ الله على الكاذب منّا ومنكم. هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة. ولما نزلت الآية أرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نصارى نَجْران ودعاهم إلى المباهلة، ودعا بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، فلم يقدروا على المباهلة لعلمهم أنهم على الباطل، وأعطوا الجزية على البقاء في دينهم. (نَطْمِسَ وجوها) : نمحو ما فيها من عَيْن وأنْف وحاجب، حتى تصير كالأدبار في خُلوّها عن الحواس. (نلعنهم كما لعَنّا أصحابَ السبْتِ) . أي نمسخهم كما مسخنا أصحابَ السبت الذين قلنا لهم: (كونوا قِرَدة خاسِئين) ، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو يعود على الذين أُوتوا الكتاب على الالتفات. قال شَهْر بن حَوْشَب، عن كعب الأحبار: كان أبي من مؤمني أهلِ التوراة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من عظمائهم وخيارهم، وكان من أعلم الناس بما أنزل الله في التوراة وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئاً، فقال لي يوماً: يا بني، إني قد حضرتني الوفاة، وقد علمت أني لم أدّخر عنك شيئاً مما كنْت أعلم، غير ورقتين   (1) العجب كل العجب كيف يذكر العلامة الحافظ السيوطي - رحمه الله - هذا الهراء دون أن يتعقبه؟؟!!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ذكر فيهما النبي المبعوث، وقد أظَلّ زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك. ولا آمن عليك بعد وفاتي من بعض هؤلاء الكذّابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابك، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تظهرهما زمانَك هذا، وأقِرَّهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتّبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيراً كثيراً. فلما مات والدي لم يكن أحبّ إليّ من انقضاء المأتم، حتى أنظر ما في الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: "محمد رسول الله خاتم النبيين، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفَظّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمّادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلّل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل مَنْ ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويأتزرون على أوساطهم، وأناجِيلهم في صدورهم، وهم يأكلون قرْبانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأب والأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون والشفّع لهم. فلما قرأت هذا قلت في نفسي: واللَه ما علمني شيئاً خيراً لي من هذا. فمكثت بهذا ما شاء الله، حتى بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيني وبينه بلاد بعيدة، لا أقدر على إتيانه. وبلغني أنه خرج بمكة فهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت: هو هذا. وتخوّفت ما كان والدي خوّفني وحذّرني من الكذابين، وجعلت أحبّ أن أتبين وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة، فقلت في نفسي: إني لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقَدَّر لي، حتى بلغني أنه توفي صلوات الله وسلامه عليه، فقلت في نفسي: لعله لم يكن الذي كنْت أظن. ثم بلغني أنَّ خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنودة، فقلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر؟ وكيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى متى تكون عاقبتهم. فلم أزل أدْفَع ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت، حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رأيْتُ صلاةَ المسلمين وصيامهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمتُ أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في الإسلام، فوالله إني ذات ليلة فوق سطح لي إذ رجل من المسلمين يقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) ، فلما سمعتها خِفْتُ ألا يصبح حتى يحول الله وجهي من قفاي، فلما أصبح غدوتُ على عمر، فأسلمت حين أصبحت. وقال كعب لعمر عند انصرافه إلى الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي فيها بنو إسرائيل مفتوحة على يَدِ رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سِرُّه مِثْل علانيته، وعلانيتة مثل سره، لا يخالف قوله فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل أسود بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون. فقال له عمر: ثَكلَتْك أمُّك! أحقٌّ ما تقول، قال: أي والذي أنزل التوراةَ على موسى، والذي يسمع ما نقول، إنه لحقٌّ. فقال له عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا، وأكرمنا ورحمنا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبرحمته التي وسعت كل شيء. (نَقِيرا) : هو النقرة التي في ظَهْر النّواة، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب الأوْلى. (نَطِيحة) : هي التي نطحتها بهيمةٌ أخرى حتى ماتت. (نَقِيباً) : هو نَقيب القوم القائم بأمورهم. (نَعَم) : هي الإبل والبقر والغنم خاصة، وجمعه أنعام، لا واحد له من لفظه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 (نَفَقاً في الأرض) ، أي منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض. وهذه الآية في سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه، فقيل له: إن استَطعْتَ أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيهم بآية يؤمنون بسببها فافعل، وأنت لا تقدر على ذلك، فاستسلم لأمر الله. (نَبأ) : خبر. ومنه اشتق النبيء بالهمز، وترك الهمز تخفيف. وقيل: إنه عند من ترك الهمز مشتق من النبوة، وهي الارتفاع. (نَصْر) : بالصاد معروف، وبالسين اسم صنم. ومنه: (يَعُوق ونَسْرا) ، واسم طائر أيضاً. (نَكد) : عسر. وقيل: أربع كلمات في أربعة كتب: في التوراة الحسود يموت كمداً. وفي الإنجيل البخيل تأكل ماله العدا. وفي الزّبور: الظالم لا يفلح أبدًا. وفي الفرقان: (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) . (نَتَقْنا الجَبلَ فوقهم) ، أي رفعناه، والضمير لبني إسرائيل، يعني أن الله قال لهم: خذوا التوراة، فأبوا من أخذها، فاقتلع الجبَل ورَفَعه فوقهم كأنه ظلّة. ومنه قولهم: نتَقَت المرأةُ إذا أكثرت الولد. وأين هؤلاء القوم من هذه الأمة المحمّدية، حيث أخذوا الكتابَ بقوة. فصاروا يَتْلُونه آناءَ الليل والنهار، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خَلْقِ السماوات والأرض، ولهذا أكرمهم الله بخصال مثَنَّيات لم يُعْطِها غيرهم: مكة، والمدينة، والقبلة اثنان: الكعبة وبيت المقدس. والدعاء. اثنان: الأذان والإقامة، والجهاد اثنان: مع الكفار، والمنافقين. والصبر اثنان: مع الله بالرضا ومع الأمة بالنفس. والدعاء اثنان: في الدنيا: ربّنا لا تؤاخذنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وفي الآخرة: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) . (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) . والشفع والوتر، والليالي العشر. وهذه كلّها خاصة بهذه الأمة المحمدية، ولهذا أخَّر اللهُ حسابَ الأمم كلها إلى يوم القيامة، وحرّم الجنة على سائر الأمم حتى يدخلها هو - صلى الله عليه وسلم - وأمّته، لأنها دارهم. ولما أخذوا الكتابَ بقوّة ورِضاً سهّله اللهُ عليهم، ويسَّرَه لهم، ختى إن منهم من يختمه في كلّ ساعة، ومنهم من يختمه اثنا عشر ألف بالليل، واثنا عشر ألف بالنهار، وأعظم من ذلك أنَّ الله سهَّل حِفْظَه - عليهم، حتى أن حبيباً حفظه وهو ابن خمس سنين، وآخر حفظه في النوم، وأعطاهم إجابة الدعاء عند خَتْمِه، وقَرّبهم عند السجود له، وذكَّرهم بالفلاح إذا أنفقوا أموالهم، واشترى منهم أنفُسَهم، والهداية إذا جاهدوها، وقبل التوبة إذا وافقوها، والكفاية إذا توكلوا عليه، والزيادة من النعم إن شكروه، والإجابة إذا دعوه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وغفر لهم قبل أن يستغفروه. (نكَصَ على عَقِبيه) . أي رجع إلى وراء، وهو إبليس لمّا تصور لقريش حين خرجوا إلى بدْر على صورة سراقة بن مالك، وقال لهم: إني جارٌ لكم مِن قَوْمي، وأنصركم بجندي، فلما رأى الملائكة َ خاف ورجع القهقرى، وقال: إني أرى ما لا تَرَوْن. (نجَس) : كل ما ينجس، وسَمَّى اللهُ الكافر بأنه نجس لكُفْره، وقيل لجنابته فيُمنع من دخول المسجد. وأباح الشافعي دخوله في كل مسجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح أبو حنيفة دخولَ المشركين المساجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح دخول أهلِ الكتاب في المسجد الحرام. وقاس مالك على المشركين سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم. وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد في مَنْع جميع الكفار من جميع المساجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 (نسيء) : هو في اللغة الزيادة. ومعنى: (إنما النَّسِيء زيادة في الكفْر) ، أنَّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات، فشقّ عليهم تَرْكها في الأشهر الحرم، لأنها كانت محرّمة عليهم، فيحرمون شهراً آخر بدلاً من الشهر الحرام. وربما أحلّوا الحرم وحرموا صفر، حتى يكملوا في العام أربعة أشهر محرمة. (نخوض ونلعب) : من كلام وديعة بن ثابت، بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هذا يريد أنْ يفتتح قصور الشام، هيهات هيهات! فسأله عن ذلك، فقال: كُنَّا نخوض ونلعب. (نَقَموا) ، كرهوا غايةَ الكراهة، أي عابوا الغنى الذي كان حقّه أن يشكروا عليه، وذلك في الجلاس أوْ فِي عبد الله بن أبيّ. (نَسوا اللَهَ فنَسِيهم) ، أي غفلوا عن ذكره فتركهم من رحمته وفَضْله. (نَكِرَهم) : وأنكرهم واستنكرهم بمعنْى واحد. وضمير الجمع يعود على الرسل الذين جاؤوا إبراهيم فقدّم لهم الطعام، فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه. (نَدير) : منذر. وأنذر أعلم بالمكروه قَبْل وقوعه. والمنذرين. وكيف كان عذابي ونذر، فهو مصدر. والنذير بغير ألف، ومنه: أعْذَر ثم أنذر. وليوفوا (نذورهم) . (نرتع ونلعب) : بالنون، فهو ضمير إخوة يوسف، وإنما قالوا (نلعب) لأنهم لم يكونوا حينئذٍ أنبياء. وقيل: إن اللعب من المباح لتعلّم القتال كالمسابقة بالخيل. ومن قرأه بكسر العين فهو من الرّعي، أي من رَعْي الإبل، أو ممن رعي بعضهم لبعض ومواساته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع، وهو الإقامة في الخصب والتنعم. والتاء على هذا أصلية، ووزن الفعل يفعل، ووزنه على الأول نفتعل. ومن قرأ (يرتع ويلعب) - بالياء فالضمير ليوسف. (نَسْتَبِق) ، أي نجري على أقدامنا لننظر أيّنا يسبق، أو من المسابقة في الرمي. (نتَّخِذه ولدا) : من قول العزيز الذي اشتراه بوَزْنه ذهباً، يعني نتبنّاه. (نَاجٍ منهما) ، أي من الساقي، والذي رآه أنه يعصر الخمر، يعني أن يوسف قال للذي ظن أنه ينجو: اذكرني عند ربك. والظن هنا بمعنى اليقين، لأن قوله: (قُضِي الأمرُ) - يقتضي ذلك. أو يكون على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن، وذلك أن رسولَ الملك جاء هذا الساقي بعد ثلاثة أيام، وأخرجه من السجن، وخلع عليه، وذهب به مكرَّماً إلى الملك، فقال له يوسف عند خروجه: (اذكرني عند ربك) ، فتزلزلت الأرض، وانشقَّ الجِدار، وجاء جبريل، وقال: يا يوسف، إن الله يقول لك: مَنْ حَبَّبَك في قلب يعقوب؟ فقال: ربي. ومن أنجاك من يَدِ إخوتك؟ قال: ربي. قال: ومن حفظك في قعر الجب؟ قال: ربي. ومن أعشق فيك زليخا؟ قال: ربي. ومن أنْجاك من كيدها؟ قال: ربي. فقال جبريل: إنَّ ربّك أحسن إليك هذا الإحسان فأيّ عجز رأيت منه حتى استغَثْتَ بالملك؟ يا يوسف، إن جدك إبراهيم لم يستغث بجبريل حين قال له: هل لك من حاجة، فقال: أمّا إليك فلا، وجَدّك إسماعيل لم يستَغث من إبراهيم وقت القُربان، ولكن قال: (ستَجِدني إنْ شاءَ اللَهُ من الصابرين) . وأنت لم تصبر في السجن ثلاثة أيام، وتركْتَ استغاثةَ الديان. فخرَّ يوسف ساجدا، وبكى أربعين يوماً، وقال: إلهي بحرمة جدي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وبحقِّ والدي يعقوب إلاَّ رَحَمْتَني، وتجاوزتَ عني، فجاء جبريل عليه السلام، وقال: إن الله تعالى يقول: عفَوْت عنك، ولكن حكمتُ ببقائك في السجن سبع سنين.   (1) كلام لا وزن له؛ لما فيه من افتراء على نبي الله يوسف - عليه السلام - والصحيح عند المحققين أن الضمير في قوله تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعود على الذي نجا منهما، وكيف يتصور عوده على يوسف - عليه السلام - وهو لم يغفل عن ذكر ربه طرفة عين، بل سأل الله النجاة من كيد النسوة ولو بالسجن (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وعندما جاءه رسول الملك لم يبادر بالخروج بل قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 هذا رسول الله ُبِس على كلمةٍ سبع سنين، فكيف بك يا عاص خمسين سنة أو أكثر، فتفكر بقلب وَاع، كيف يكون حالُك، فإن أردت الحال الحميدة فعليك بالتوبة والإقلاع، فإن الله أمنك في الدنيا بقوله تعالى: (فلا يخاف ظُلْماً ولا هَضْماً) . وفي حال النزع: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) . وفي القيامة: (لا خوف عليكم ولا أنتم تحْزَنون) . وفي الجنة: (ادخلوها بسلام آمنين) . (نَكتَل) : وزنه نفتعل، وهذا من قول إخوة يوسف لأبيهم حين أرادوا المعَاوَدة إلى الطعام بسبب المجاعة التي كانت ببلادهم. ورُوي أن جبريل قال ليوسف: إن إخوتك جاءوا إليك فبم تعاملهم، فقال: آذَوْني كثيراً، ولا أرى إلاَّ العفو والتجاوز. فقال له: بهذا أمرك الله. قال بعض العلماء: إخوة يوسف جاءوا إليه ثلاث مرات: أولاً محتاجين سائلين، فأكرمهم وأعطاهم النعمة، وقال: اجعلوا بِضَاعَتهم في رِحَالهم. وجاءوا في الثانية متكبّرين فَرِحين (1) ، فرجعوا مغمومين حين قال لهم يوسف: ارْجعوا إلى أبيكم، لأن يوسف كان ملكاً، والملوك لا تحبّ المتكبرين. وجاءوا في المرة الثالثة بالابتهال والتضرع، فرجعوا فرحين مسرورين، لأن يوسف عليه السلام كان رحيما، والرحيم يحب مَنْ تضرع. (نمير أهْلَنا ونحفَظُ أخانا ونَزْدَاد كَيْلَ بَعير) : هذا من كلام إخوة يوسف لما قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم. فطلبوا من أبيهم، وواعدوه بالميرة وهي سوق الطعام، وواعدوه بحفظ أخيهم لما تقدَّم منهم من الجفاء، وعدم الوفاء، وأخبروه بوفاء الملك لهم إنْ أتوه به، وأعانهم يوسفٍ على ذلك، فجعل البضاعةَ في رحالهم ليكون لهم تقوية على الرجوع إلى مصر مرة أخرى، حتى يرى يوسف أخاه، وكذلك كتم اللَّهُ بضاعة الإيمان في قلب المؤمن ليكون له تقوية للوصول إلى جنته، حتى يرى المولى، فلما سمع يعقوب مقالهم أسْلم لهم بنيامين وأخذ عليهم العَهْدَ: (لَتَاْتنَّنِي به إلا أنْ يُحَاط بكم) ، أي تغلبوا، فلا تطيقون.   (1) لا دليل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 فدخلوا على يوسف وهو على سرير في حجاب، فلما رآه بنيامين تذكر يعقوب وبكى بكاء كثيرا، ثم أمر الحاجب بسؤالهم عن أبيهم، فسألهم، فقالوا له: هو في البكاء والحزن والتضرع، ثم أمر برفع الحجاب، فسلَّموا جميعا عليه، وأعطاه بنيامين كتابَ أبيه، فأخذه وقَبّله، ثم أرْخَى الستر عليه، وقرأ الكتاب، فإذا فيه الوصية على ولده، وما جرى ليوسف من قبله، فبكى وغيض دَمْعُه، ثم أمر بالطعام فأحضر، وأمرهم بالجلوس مَثْنَى مثنى، من كان لأب وأم مائدة واحدة، فبقي بنيامين وَحيداً فبكى، فسألهم مِمّ بكاؤه، فقالوا: كان له أخ لأمه فأكله الذئب، فقال يوسف: اجلس معي يا فتى، ولا تأكل وحيداً، فلما دنا من يوسفِ ورآه غُشي عليه، فلما أفاق قال له يوسف: (أنا أخوك فلا تَبْتَئس بما كانوا يعملون) . والنكتة فيه أنَّ بنيامين كان وحيداً متحيّراً غريباً، فقال له يوسف: أنا أخوك، وموسى كان متحيّراً غريبا، فقال الله له: (إني أنا ربك فاخْلَعْ نعْلَيْك) . كذلك العاصي إذا تحيَّر في بعض المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (إني أنا الغفور الرحيم) - يعني إذا تاب وأقلع. وقد قدمنا أن الله تعالى وعد بغفران ذنوبه وتبديلها حسنات ومحبّته ودخول الجنة وفلاحه. فإن قلت: كيف عرفهم هو ولم يعرفوه، وعرفه بنيامين؟ والجواب أن يوسف كان وفيّاً وإخوته جفاة، فشؤم الجفاء أعمى قلوبهم حتى لم يعرفوه، لأن الجفاء يمنع المعرفة والصفاء، جفاء يوسف أثَر في قلوبهم حتى لم يعرفوه، فمن جَفَا مولاه سبعين سنة أو أكثر كيف لا يخاف منه أن يسلبه معرفته وقْتَ النزع، قال تعالى: (ونقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم ... ) . وقد صح أن الجفاء يأتي بالغضب، ويذهب بالعفَّة، ويأتي بالمخالفة. ويذهب بالمراقبة، ويأتي بالمنازعة، ويذهب بالصلح، ويأتي بالفرقة، ويذهب بالوصلة، ويأتي بالبغْض، ويذهب بالمودة، ويجعل صاحبه أجنبيا، ويذهب بالصلح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وقيل: إنما عرفهم لأنهم كانوا على صفتهم التي رآهم يوسف أوَّلاً، ولم يكن يوسف على الصفة التي كان عليها من الصغر. وقيل: إن يوسف لم يقطع الرجاء عن رؤيتهم، بل كان يتفكر فيهم، فلذلك عرفهم، وهم قطعوا الرجاء عن رُؤْيته، فلذلك لم يعرفوه. والإشارة فيه أنَّ قَلْبَ العبد إذا كان مشغولاً بمحبة الرب عرفه من غير رؤية. وقلب الكافر كان مشغولاً بمحبة الصنم فلذلك لا يعرفه حين يرى الدلائل الظاهرة. وقيل: إنه كان مُتَبَرْقِعاً، فلذلك لم يعرفوه، ودخلوا عليه وهو على هيئة عظيمة من الملك (1) . وقصته من أولها إلى آخرها عجيبة، كما قال تعالى: (آياتٌ للسائلين) . قد تكفل بجمعها وما فيها من النكت والإشارات والفوائد الإمام الهمداني وهو عجيب لمن تأمّله. (نَزغً الشيطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوتي) ، أي أفسد وأغوى. وإنما قال يوسف هذا القول لما رأى من لطف الله تعالى، حيث أضاف الكذب إلى القميص، فتأدَّب وأضاف ذَنْبَهم إلى الشيطان والإخوة إلى نفسه، ولم يَنْفِهِم عن نفسه، لكيلا يهتك أستارهم، وتسوء ظنونهم. وكذلك قال الله تعالى: (إنما استَزَلَّهم الشيطانُ ببَعْض ما كَسَبُوا) . حتى تتأدب الملائكة بذلك، فلا يذكرون في القيامة زلّتك ولا يهتكون سترك. (نَار السَّموم) : أي حرها. وهذا من قول إبليس بزَعْمِه الفاسد أن النار أقوى من الطين، وليس كذلك، بل هي في درجة واحدة من حيث هي جاد مخلوق، فلما ظنَّ إبليس أن صعودَ النار وخفّتها تقتضي فَضْلاً على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عنه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطين.   (1) أكثر ما ذكر في قصة يوسف - عليه السلام - من أباطيل وأكاذيب بني إسرائيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وهذا التعليل يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زَعْمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس، فكفْرُه كفرٌ مجرد. قيل: إن لجهنّم سموم، ولسمومها نار تكون بين سماء الدنيا وبين الحجاب وهي النار التي تكون منها الصواعق. (نَفيرا) : أي عدداً. وهو مصدر من قولك: نفر الرجل إذا خرج مسرعاً، أو جمع نفر. (نَأى بِجَانِبه) : أي بعد، وذلك تأكيد وبيان للإعراض. وقرئ ناءَ ونأى، وهما بمعنى واحد. ويقال النأي الفراق، وإن لم يكن ببُعد. (نَفِد البَحْرُ) : فني. ومعنى الآية: لو كتب عِلْمُ الله بمداد البحر لنَفد البَحْر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله كما قدمنا. (نادى ربَّه) : أي دعاه. والضمير لزكريا، وإنما ناداهُ حين رأى من مريم الكرامات التي ذكر اللهُ، من وجود فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فحينئذٍ طلب الولد فأجابه الله بيحيى. (نَدِيًّا) .: قد قدمنا أنَّ الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاما وأجلُ مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم. (نُمِدّ له مِنَ العذاب مَدًّا) . قد قدمنا أنها في العاصي بن وائل. والمعنى نزيد له في العذاب، ونرثه الأشياء التي قال إنه يُؤتاها في الآخرة، وهي المال والولد، ووِراثتها بأن يهلك ويتركها. وقد أسلم ولداه هشام وعمرو بن العاص رضي الله عنهما. (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) . قد قدمنا أن الحشر على خمسة معان: حشر الميثاق: (وإذ أخذ رَبُّك مِنْ بَنِي آدم) . وحَشر التصوير: (يخرجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْب والتَّرَائِب) . وحشر البرية، (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وحشر الخدمة: (وإذَا بلغ الأطفالُ منكم الحُلُم) . وحشر الكرامات: (يوم نحشر المتقين) . والمراد بالمتقين هنا من اتَقى الشرك والنفاق. وقيل في المتّقي أقوال، والظاهر أنهم الممتثلون ما أمرهم الله وانتهوا عما نهوا عنه. وقد قدمْنَا ما أكرمهم اللهُ في الدنيا والآخرة. ْفإن قلت: ما الحكمة في ذكر الحَشْر للمتقين، وخصوصيتهم للرحمن لهم والسوق إلى المجرمين وخصوصيتهم لجهنم؟ فالجواب أن الحَشْر مع الرضا والاختيار، والسوق مع الكراهية والسخط. والحشر للكرامة والأمانة والعلم. والسوق للجهد والإهانة. ولما كان الرضوان والسلام والرؤية والخلود للمتقين، وهو أكبر من الجنة خصَّهم بذكر الرحمن، لأن شوقهم إليه ورجاءهم فيه، فدلهم إليه لتسكنَ نفوسهم. ولما كان عند المجرمين الخوف من عقوبة النار لا مِنْه، لأنهم لم يعرفوه ذكرهم بما هو أشد عليهم، وهي جهنم، ولو عقلوا لعلموا أنَّ نار القطيعة أشدُّ من القطيعة، لكنهم خُوّفوا بما هو معقول عندهم، فسبحان مَنْ خاطب عباده بما يفهمونه، خاطب المطيعَ بما هو مشتاق إليه، وخاطب العاصي بما يخافه، وعلى هذا هو أسلوب القرآن العظيم. (وما يعْقِلُها إلا العالمون) . (نَنْسِفَنّه في اليَمِّ نَسْفا، أي نلقيه في البحر تفريق الغبار ونحوه. والضمير يعود على العِجْل المتَخَذ من أثر فَرَسِ جبريل. (نَبَذْتها) ، أي ألقيتها على الحلي، فصار عجلاً، وعلى العجل فصار له خُوَار. (نَقصُّ عليكَ من أنباء ما قَدْ سبق) : يعني من أحوال المتقين، لنثبِّت به فؤادك، ولذلك قال له في سورة يوسف: (نَقُصّ عليك أحسن القصص) . والقصص يكون مصدر أو اسم مفعول بمعنى المقصوص، وإن أريد به هنا المصدر فمفعول (نَقُصُّ) محذوف، لأن ذكر القرآن يدلّ عليه. قيل سبب نزول هذه الآية أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مرفوعاً مكرَّماً، فحسده أهلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 مكة، كذلك يوسف كان مكرما عند أبيه. والإشارة فيه كأنَّ الله يقول: يا محمد إخوة يوسف جعلوه كذّاباً فصيَّرْتُه ملكاً عليهم، وسجدوا له، كذلك أقهر أعداءك واصَيِّرهُم عبيدا بين يديك شرقاً وغربا، وكذلك الشيطان يحسدُ أمَّتك على ما أنعمت عليهم من محبتك واتباعك، فأصيرهم يوم القيامة ملوكاً كراما، وأقهر عدوهم وحسَّادهم حتى يقولوا (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) . (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) : بموت الناس، وهَلاكِ الثمرات، وخراب البلاد، وشبه ذلك. وقيل: بموت العلماء منها، أو بما فتح الله على المسلمين منها باستيلاء الكفَّار عليها لقوله: (أفَهُمُ الغالبون) . (نَضَعُ الموازِينَ القِسْطَ ليَوْم القِيَامة) : قد قدمنا معنى وَضْعها، وإنما أفرد (القِسْطَ) وهو صفة للجمع، لأنه مصدر وُصف به كعَدْل ورضا، أو على تقدير ذوات القسط. وقد قدمنا أيضاً أن لكل شخص ميزاناً لجمعه، أو إنما جمعه باعتبار الكفتين واللسان، أو باعتبار الموزونات. (نفحةٌ مِن عذاب رَبِّك) ، أي قطرة. وفيها تقليلُ العذاب. والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذْعَنُوا واعترفوا بذنوبهم. (نافلة) : أي عطية. والتنفيل: العطاء. وقيل سمّاه نافلة لأنه عطاء بغير سؤال، فكأنه تبرع. وقيل الهبة إسحاق، والنافلة يعقوب، لأنه سأل إسحاق بقوله: هَبْ لي من الصالحين، فأعطي يعقوب زيادة على ما سأل، ولهذا اختار بعضهم الوقْفَ على إسحاق لتباين المعنى. وهذا ضعيف، لأنه معطوف على كلّ قول. (نادى مِنْ قَبْل) : أي دعا نوح قبل إبراهيم ولوط. (نَصَرْنَاه مِنَ القَوْم) : إنما تعدَّى نصرناه بـ (مِن) ، لأنه مطاوع انتصر المتعدي بمن، أو تضمن معناه نجَّيناه أو أجرناه. (نَفَشَتْ) : رَعَتْ فيه لَيْلاً، والضمير راجع إلى قصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 الرجلين المتخاصمين إلى داود، دخلت غنم أحدهما في زَرْع الآخر بالليل. وأفسدته، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم. ووَجْه هذا الحكم أنَّ قيمة الزرع مثل قيمةِ الغنم، فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، فأخبراه بما حكم أبوه، فدخل عليه فقال: يا نبي الله، لو حكمت بغير هذا كان أرفق بالجميع. قال: وما هو، قال: يأخذ صاحب الغنم الأرْض ليصلحها حتى يعودَ زَرْعُها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنَم ينتفع بألبافها وصوفها ونَسْلِها، فإذا كمل الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض بزَرْعها إلى رَبِّها. فقال له داود: وفِّقْتَ يا بُني، وقضى بينهما بذلك. ووجه حكم سليمان أنه جعل حكم الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع. وأوجب على صاحب الغنم أنْ يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان. ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحاً لا حكماً. واختلف الناس، هل كان حكمهما باجتهاد أو بوحي؟ فمَنْ قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء. وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبَيّن له أن الصواب خلافه. وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وعلى القول بالجواز اختلف: هل وقع أم لا. (نَقْدِرَ عليه) : أي نُضيق عليه، فهو من معنى قوله: (ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقه) . وقيل هو من القدر والقضاء، أي ظن أن لن نَقدر عليه بعقوبته. ولا يصح قول من قال: إنه من القدرة. والإشارة فيه كأنه يقول: يا عبدي لما خرج يونس خروجَ غَضب، فنادى فأنجيته، كذلك إذا خرجت لي خروج غضب من ذنوبك، فتلوم نفسك. أنجيتك من همومك، وأقول لك: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ولما خرج إبراهيم خروجَ أدب، فقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فألبسته لباس الخلَّة، وبردت عليه النار، كذلك عبدي الصالح يخرج من بطنه خروجَ أدب، فأنعم عليه بالعلم والمعرفة، وأبرد عليه نيران الكفرة، (ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان) الآية. وكما أن موسى خرج خروج هرَب خائفاً يترقب، وكذلك العبد يخرج من الدنيا خروجَ مَنْ يهرب من الشيطان كيوم يسمعون الصيحة بالحق. وكما آنست موسى بابْنَةِ شعيب في دارِ غربة، كذلك أونسك في القبر وأريك مقامك من الجنة. وكما أن لوطاً خرج خروج طرب، فسرى بأهله، كذلك العَبْد يخرج من القَبْر خروجَ طرب، لأنه يخرج لإيمانه الذي كان يرتجيه ولحفظته الذين كانوا يؤنسونه، وكما أنجيت لوطاً وقومه من العذاب كذلك أنجي المؤمنين وأعذّب الكافرين. (نَكِير) .: مصدر بمعنى الإنكار. (نبّئ عبادي) . الآية فيها ترجية وتخويف، وقد قدمنا سر (الغفور الرحيم) ، و (العذاب الأليم) ، فرجاء الخلق إلى نفسه، وخوفهم من عذابه. (نصيبكَ مِنَ الدّنيا) . أي حظَّك فيها. واختلف ما المراد بهذا الحظّ، فقيل: حظّه منها ما يَعْمَل فيها من الخير. فالكلام على هذا وعظ. وقيل التمتّع بها مع عَمَله للآخرة، فهو على هذا إباحةٌ للتمتع بالدنيا لئلا يَنْفِرَ عن قبول الموعظة. ومنه الحديث: اعمَلْ لدنياك كأنك تعيش أَبداً ولأخراك كأنك تموت غداً. وفي الحديت أيضاً: العاقل لا يُرَى مشتغلاً إلا في دِرهم لمعاشه، وعمل لمعاده. (ناديكم) : مجلسكم. والمراد بهم قوم لوط، لإذايتهم الناس بأقوالهم وأفعالهم. (نَسْلَخ منه النهار) ، أي نجرده منه، وهو استعارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 (ننكِّسْه) : نردّه. (نَحِسات) : معناه من النحس، وهو ضدّ السعد. وقيل شديدة البرد. وقيل متتابعة. والأول أرجح. وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء. وقرئ بإسكان الحاء وكسرها، فأما الكسر فجَمْع نحس، وهو صفة. وأما الإسكان فتخفيف من الكسر، أو صفة على وزن فعل، أو وصف بالمصدر. وفي الحديث: آخِر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر. (نَعْمَةٍ) - بفتح النون: هي النفع العاري من كلّ ضرر يوازيه، ويدعى عليه، يقال أنعم عليه فلان، وأنعم الله على فلان: إذا فعل به ما لا يتعقبه ضرر وهلاك، ولا يقال أنعم عليه وإنْ نفعه في الحال. (نَسْتَنْسِخ ما كنْتم تَعْمَلون) : أي نأمر الحفَظَة بكتابة أعمالكم. وقيل: إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ، ثم يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، فتكتبها أيضاً الملائكة. فذلك هو الاستنساخ. وكان ابن عباس يحتجُّ على ذلك بأن يقولَ: لا يكون الاستنساخ إلا من أصل. وفائدة كتب الحفظة الاحتجاج عليهم في الآخرة، كما صح أنَّ بعض العباد ينكر كتبها عليه، فيُنْطق الله جوارحَه بتصديقهم. وفي الحديث: إن الحفظة تصعد بعمل العبد، ويقابلونه باللوح المحفوظ. فيجدونه سواء، وتكتب عليه سيئة فلا يجدونها فيخجلون من ذلك، ويقول الله: قد بلغت ندامة قلبه واستغفاره إليَّ قبل صعودكما، فذلك قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) . (نَقَّبوا في البِلاد) ، أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، ومن التنقيب عن الأمر، بمعنى البَحْث عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 (نجم) : مشتق من التنجيم، وهو جِنْس. واختلف ما المراد بقوله: (والنجم) ، فقيل: هو الثريا، لأنه غلب عليها التسمية بالنجم. ومعنى هَوَى غرب أو انْتَثر يوم القيامة. الثاني أنه جنس النجم. ومعنى هوى انقضّ برَجمْ الشياطين. وقيل: إنه من نجوم القرآن، وهوى على هذا معناه نزل. وأما (النَّجْم الثّاقب) فهو من أسمائه عليه الصلاة والسلام. وقيل: زحل، لأنه أرفع النجوم، إذ هو في السماء السابعة. (نَذِير من النُّذُرِ الأولى) : قد قدمنا أن النذير هو المخبر، والمراد به القرآن. والنّذُر الأولى: من نوعها وصفتها. (النجم والشَّجَر) : قال ابن عباس: هو النبات الذي لا ساق له، كالبقول. والشجر: الذي له ساق. وقيل: النجم: جنْسُ نجوم السماء. والسجود عبارة عن التذلّل والانقياد، وقيل سجود النجم غروبه، وسجود الشجر بظلّه. (نَضَّاختان) ، أى يفوران بالماء. والمراد بهما العينان الجاريتان. وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين أدنى من أوصاف الجنتين السابقتين، لأنه قال فيهما: (عَيْنَان تجريان) . وقال في الأخْرَيَيْن: (عَيْنَان نضّاخَتان) . والجَرْي أشد من النَّضْخ. وقال: (فيهما من كل فاكهةٍ زَوْجان) . وقال هناك: (فيهما فاكهة ونَخْلٌ ورمان) . وكذلك صفات الحُور هنا أبلغ من صفاتها هناك، وكذلك صفات البسط. ويفسرُ ذلك قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 (النشأةَ الأولى) : هذه الحياة، والنشأة الأخرى البعث من القبور. والمقصود بذكرها التنبية على أنَّ الله قادر على أن يبعثهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث. (نجوى) .: سرار، كقوله تعالى: (إذ هم نَجْوى) ، أي متناجون. ومنه: (لا تتناجَوْا بالإثم والعُدْوان) . (إنَّما النَّجْوَى مِنَ الشيطان) . (نَصوحا) ، أي خالصة، من قولهم، عسل ناصح: إذا خلص من الشمع. قال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح هي أن يتوب من الذّنْب، ثم لا يعود إليه أبدا، ولا يريد أن يعود. وقيل: هي أن تضيق على التائب الأرض بما رَحُبت، كتوْبة الثلاثة الذين خُلّفوا. وقال الزمخشري: وُصِفت التوبة بالنّصح على الإسناد المجازي، والنصح في الحقيقة صفةُ التائبين، وهي أن ينصحوا بالتوبة. وهي واجبة على كل مكلف بالكتاب والسنة والإجماع. وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال، لا من حيث أضرّ ببدن أو مال. والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا تَوَانٍ. وَالنية ألاَّ يعود إليه أبداً ومهما قضي عليه بالذنب أحدث عزماً مجدداً. وآدَائها ثلاثة: الاعتراف بالذنب مقروناً بالانكسار. والإكثار من التضرع والاستغفار. والإكثار من الحسنات. ومراتبها سبع: فَتوبة الكفار من الكفر. وتوبة المخْلصين من الذنوب الكبائر. وتوبة العدول من الصغائر. وتوبة العابدين من الفترات. وتوبة السالكين من علل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 القلوب والآفات. وتوبة أهل الورع من الشبهات. وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب. ورجاء الثَّوَاب. والخَجَل من الحساب. ومحبّة الحبيب. ومراقبة الرقيب. وتعظيم المقام. وشكر الإنعام. (نَفَرٌ من الجِنِّ) : النفر ما بين الثلاث إلى العشرة. وروي أنهم كانوا سبعة، وكانوا كلّهم ذكراناً، لأن النفر الرجال دون النساء، وكانوا من أهل نصّيبين. وقيل: من أهل الجزيرة. وقد قدمنا أنه رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعدّ لهم، واجتمع معهم. وقيل: إنه لم يرهم، ولم يعلم باستماعهم، حتى أعلمه الله بذلك، ولعلها قضايا مختلفة، وقد وردت في ذلك أحاديث مضطربة. وسبب اجتماعهم أنهم لما طرِدوا عن استراق السمع من السماء بِرَجْم النجوم قالوا: ما هذا إلا لأمْرٍ حدث، فطافوا في الأرض ينظرون ما أوجب ذلك. حتى سمعوا قراءتَه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر في سوق عكاظ، فاستمعوا إليه، وآمنوا. (ناشئة الليل) : قال ابن عباس: ناشئة الليل: قليل الليل - بالحبشية. وقيل ساعاته كلّهن. وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقيل: القيام أول الليل بعد العشاء. وقيل: النفس الناشئة بالليل، أي تنشأ من مضجعها، وتقوم للصلاة. وقيل: الجماعة الناشئة الذين يقومون للصلاة. وقيل: العبادة الناشئة بالليل. وقيل: الناشئة القيام بعد النوم. فمن قام أوَّل الليل من قبل أن ينام فلا يقال له: ناشئة. (ناظرة) : بالظاء من النظر، ومنه: وجوه يومئذ ناظرة. وبالضاد من التنعم، ومنه: (ناضرة) . وأما: (نَظِرة إلى مَيسرة) ، فمعناه التأخير إلى حال اليُسْر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وهذه الآية نَصّ في رؤية مولانا جلّ وعزّ في الدار الآخرة، وهو مذهب أهل السنة، خلافًا للمعتزلة. وتأوّلوا ناظرة بمعنى منتظرة، وهذا باطل، لأن نظر بمعنى انتظر يتعدّى بغير حرف جر، تقول نظرتك بمعنى انتظرتك. وأما التعدي بإلى فهو من نظر العين. ومنه قوله: (ومنهم مَنْ يَنْظُر إليك) . وقال بعضهم: (إلى) هنا ليست بحرف جر، وإنما هي واحد الآلاء بمعنى النعم، وهذا تكلف في غاية البُعْد. وتأوَّلَه الزمخشري بأن معناه كقول الناس: فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه، ويتعلق به. وهذا بعيد. وقد جاءت أحاديث صحيحة في النظر إلى الله صريحة لا تحتمل التأويل. فهي تفسير للآية، ولو لم تكن جائزة لم يسألها في الله موسى في قوله: (رب أرِنِي أنظر إليك) . (نخرَة) ، وناخرة بمعنى بالية مُتَفَتّتة، واستعظم الكفارُ رجوعَهم في الآخرة بعد مصيرهم إلى هذا الوصف، ولم ينظروا في خلقتهم الأولى من العدم. (نَمَارِقُ) : وسائد، واحدها نمرقة ونمرقة. (نَجْدَيْن) ، أي طريقي الخير والشر، فهو كقوله: (إنّا هَدَيْنَاه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كَفُوراً) . (ناقَة اللهِ) : منصوب بفعل مضمر، تقديره: احذروا ناقة الله، أو احفظوا. والمراد بها ناقة صالح عليه السلام. (نَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) . أي لنحرقنّها بالنار، من قولك: سفعته النار، أو من الجذب والقَبْض على الشيء. والآية في أبي جهل، أوعده الله إن لم يَنْتَهِ عن كفره وطُغْيانه أن يأخذَ بناصيته. وهي مقدّم الرأس، فيُلْقي بها في النار. وهذا كقوله تعالى: (فيُؤْخذ بالنَّوَاصي والأقدام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وأكد (لنسفعا) باللّام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاةً للوقف عليها. ويظهر لي أنَّ الوعيد نفّذ عليه يوم بدْر، حين قُتل، وأخذ بناصيته، وجُرَّ إلى القَلِيب. ووصف ناصيته بالكذب تجوّزاً، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها. والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمداً. والمخطئ الذي يفعله من غير قصد. (نَقْعاً) : يعني أنَّ الإبل حرّكْنَ الغُبار عند مَشْيِهنّ. (نَفَّاثَات) : النفث: شبه النفخ دون تفْل وريق. قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق. وهذا النفث ضَرْب من السحر، وهو أن ينفث على عُقَد تُعْقَد في خيط أو نحوه على اسم المسحور، فيضره ذلك. وحكى ابن عطية أنه حدّثه ثِقَةٌ أنه رأى ببلاد المغرب خيطاً أحمر قد عُقدت فيه عقد على فُصْلاَن - وهي أولاد الإبل، فمنعت ذلك رضاعَ أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفَصِيل إلى أمه فرضع في الحين. قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفثة ثلاثة أوجه: أحدها: أن يستعاذ من مثل عملهن، وهو السحر ومن إثمهن في ذلك. والآخر: أن يستعاذ من خداعهن الناس ومن خبثهن. والثالث: أن يستعاذ مما يصيبه الله من الشر عند نَفْثهن. والنفاثات بناء مبالغة، والموصوف محذوف، تقديره النساء النفاثات، أو الجماعات النفاثات، أو النفوس النفاثات. والأول أصح، لأنه رُوي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وكنَّ ساحرات سحرن وأبوهن سيدَنا ومولانا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وعقدنَ له إحدى عشرة عُقدة، فأنزل الله تعالى المعوّذتين إحدى عشرة آية بعدد العُقَد، وشفا الله رسولهَ - صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: لم عرف النفاثات بالألف واللام، ونَكر ما قبله، وهو غاسق وما بعده - وهو حَاسِد، مع أن الجميع مستعاذٌ منه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فالجواب أنه عرف النفاثات ليفيد العموم، لأن كل نفاثة شريرة، بخلاف الفاسق والحاسد فإن شرَّهما في بعض دون بعض. (نُسبحُ بحمدك ونُقَدِّسُ لك) : هذا من اعتراف الملائكة والتزام التسبيح. والتقدير: نسبح ملتبسين بحمدك، فهو في موضع الحال. ويحتمل أن يكون الكاف في قوله (لك) مفعولاً، ودخلت عليها اللام، كقولك: ضربت لزيد، أو أن يكون المفعول محذوفاً، أي نُقَدِّسك على معنى نُنَزِّهك، أو نعظمك وتكون اللام في (لك) للتعليل، أي لأجلك، أو يكون التقدير نقدس أنفسنا أي نطهرها لك. فإن قلت: الملائكة معصومون مطهرون من الرذائل، فما معنى هذا الاعتراض في قولهم: (أتجعل فيها مَنْ يُفسد فيها) ؟ والجواب أنه ليس فيها اعتراض ولا افتخار ولا مِنّة بإظهارهم للتسبيح. وإنما حملهم على هذا القول أنَّ الله أعلمهم أنْ يستخلفَ في الأرض مَنْ يعصيه، فاستبعدوا ذلك. وقيل: كان في الأرض جِنٌّ، فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاست الملائكة بني آدم عليهم. (نُسُك) : ذبائح. واحدها نسيكة. (ننشزها) - بالراء: نحييها، وبالزاي: نرفعها للأحياء، مأخوذ من النشز، وهو المكان المرتفع العالي. (نُمْلِي لهُمْ) ، أى نطيل لهم المدة، فليس فيه خير لهم، إنمِا هو استدراج ليكتسبوا الآثام. (نُكفِّر عنكم سَيِّئَاتكم) : وعد بغفران ذنوب هذه الأمة إذا اجتنبوا الكبائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 (نَصِيب ممَّا اكْتَسَبُوا) : يعني من الأجر والحسنات. وقيل من الميراث. ويردّه لفظ الاكتساب. وسببها أنَّ النساء قلن: ليْتَنا استَوَيْنَا مع الرجال في الميراث وشاركناهم في الغَزْو، فنزلت نَهْياً عن ذلك، لأن في تمنيهن ردّا على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها. (نُشُوزا) ، بالزاي، له معنيان: شر بين الرجل والمرأة وارتفاع، ومنه: (انْشُزوا) ، أي قوموا من المكان. قال تعالى: (وإن امرأةٌ خافَتْ من بَعْلِها نُشوزاً أو إعراضا ... ) . الآية يفهم منها أنَّ الإعراض أخفّ من النشوز. وقوله: (واللاتي تخَافون نُشُوزهنَّ) ، أي معصيتهن وتَعَاليهنّ عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج. (نُصْليهم ناراً كلما نَضِجَتْ جلودُهم بَدّلْنَاهم جُلوداً غَيْرَها) . أي نشويهم. والضمير عائد على الذين كفروا. وقيل: تُبدَّل لهم جلود بعد جلود أخرى دون نفوسهم، هي المعذبة. وقيل تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار. وقيل الجلود السرابيل، وهو بعيد. (نُصُب) - بضم الصاد، مفرده نصاب: حجارة كان أهل الجاهلية يعظّمونها ويذبحون عليها. وليست بالأصنام، لأن الأصنام مصوّرة، والنصب غير مصورة. وهي الأنصاب. والنصب - بفتح الصاد: العناء والتعب. وقول أيوب: (مَسَّني الشيطان بِنُصْبٍ وعذاب) ، أي ببلاء وشر. (نُرَدُّ على أعقابنا) ، أي نرجع من الهدَى إلى الضلال. وأصلُه الرجوعُ على العَقِب في المشي، ثم استُعير في المعاني. وهذه الجملة معطوفة على (أنَدْعُو) ، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ. وقيل لكل - مَنْ لم يظفر بما يريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 (نُنَخيكَ بِبَدَنِك) ، أي نبعدك عما جرى لقومك من الوصول إلى قَعْر البحر. وقيل: نُلقيك على نَجْوَة من الأرض، أي على موضع مرتفع. والباء في (بِبَدَنِك) للمصاحبة، والمراد به الجسد دون الروح. وقيل: بدرعك، وكان الدرع من ذهب، يُعرف بها. والمحذوف في موضع الحال. (نُغَادِر) : نترك، يقال: غادرني كذا، وأغدرته إذا خلَّفته. ومنه سمي الغدير، لأنه ما تخلِّفه السيول. (نُكْراً) ، أي منكراً، وهو أبلغ من قوله: (إمْرًا) . ويجوز ضم الكاف وإسكانها. (نُفِخَ في الصُّور) ، وهو القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة، كما جاء في الحديث: إنه على صورة جناح النحل، وينفخ فيه إسرافيل نفختين: إحداها للصعق، والأخرى للقيام من القبور. (نُزُلا) : ما ييسَّر للضيف والقادم عند نزوله. والمعنى أن لهم جهنم بدل النزل، كما أن الجنة نزل في قوله: (كانت لهم جنّات الفِرْدَوْس (نُزُلا) . ويحتمل أن يكون النزل من النزول. (نُنَبئُكم بالأخْسَرِين أعْمالاً) : الآية في كفار العرب لقوله: (كفروا بآيات ربهم ولقائه) . وقيل في الرهبان يتعبدون ويظنّون أنَّ عبادتهم تنفعهم، وهي لا تُقبل منهم. (نهى) : عقول، واحدتها نُهْية. (نُعِيدكُم) ، أي بالدفن. (نُخْرِجكم) ، أي بالبعث. (نُحَرِّقَنَّه) ، أي بالنار، أو نبرده بالمبارد، على من قرأه بفتح النون وضم الراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى، لأن الذهب لا يَفْنَى بالإحراق بالنار. والصحيح أنَّ المقصود بإحراقه بالنار إفساد صوررته، فيصحّ حَمْل قراءة الجماعة عليْه. (نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) . استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل، يقال نكس فلان: إذا سقط من مكان وارتفعت رِجلاه، ونكس المريض إذا خرج من مرض ثم عاد إلى مثله. والضمير يعود على قوم إبراهيم لمّا وجدوا الفأس معلّقاً في عُنق كبيرِ أصنامهم فسألوه، فقال: (فَعله كَبِيرهم هذا) . (نُ شوراً) ، أي الحياة بعد الموت. ومنه: (وإليه النّشور) . (نمَكِّنْ لهم حرَماً آمِناً) : هذا ردّ على قريش من اعتذارهم في تخطّف الناس لهم إنْ آمنوا. والمعنى أنَّ الحرم لا تتعرض له العرب بقتالٍ، ولا يمكَن اللهُ أحداً من إهلاك أهله، فقد كانت العرب تغير بعضها على بعض، وأهل مكة آمنون من ذلك. (نعَمِّركم ما يتَذَكَّر فيه مَنْ تذكَّر وجاءكم النذِير) : هذا من قولِ الله لأهل النار القائلين: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) . وهو قول أهل الطبقة الخامسة، لأنه صح أن أهل " الأولى " يقولون: يا حنّان يا منّان، وهم العصاة من هذه الأمة، " والثانية " تقول: (رَبَّنَا غلبت علينا شِقْوَتنا وكنّا قوماً ضَالّين) . والثالثة " تنادي: (ربنا أخْرِجنا منها فإن عدْنَا فإنا ظالمون) . والرابعة " تنادي: (رَبَّنَا أخِّرْنَا إلى أجل قريب نجِبْ دعوتك) . والسادسة " تقول: ادعُ لنا ربَّك يخفّفْ عنا يوماً من العذاب) . والسابعة تنادي: (يا مالك ليقض علينا ربُّك) . فيجاوب كلّ أحدٍ بما يليق به، فهؤلاء قال لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) . وهو نبيُّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الشيب، لأنه نذير بالموت. والأوّل أظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وقد اطلع بعضهم يوماً في المرآة، فرأى الشيب في لحيته، فاعتزل أهلَه ومالَه حتى لحق بالله. وقد اختلف في حد التعمير، كم هو، وقد قدمنا أنه سبعون سنة للحديث. وقيل البلوغ. والأول أرجح. (نحَاس) : دخان. وقيل هو الصُّفْر يُذَاب ويصبّ على رؤوس أهْلِ الوقف. وقرئ نحاس - بالرفع عطف على (شُوَاظ) . وبالخفض عطف على نار. (ن) : حرف من حروف الهجاء. وحكى الكرْمَاني في العجائب أن معناه اصنع ما شئت. وقيل: إنه من حرف الرحمن، فإن حروف الرحمن في الم وحم ون وقيل: إن (ن) هنا يراد به الحوت. وزعموا أنه الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع. وهذا لا يصحّ، على أن النون بمعنى الحوت معروف في اللغة، ومنه (ذو النّون) . وقيل: إن (ن) هنا يراد به الدواة. وهذا غير معروف في اللغة، ويبطل قول مَنْ قال إنه الحوت أو الدواة بأنه إن كان كذلك لكان مُعْرباً بالرفع أو النصب أو الخفض، ولكان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليلٌ على أنه حرف هجاء، نحو: (الم) ، وغيره من حروف الهجاء الموقوفة. (نقِر في النَّاقور) : يعني النفخ في الصُّور. ويحتمل أن يريد النفخةَ الأولى، أو الثانية. (نسِفَتْ) : ذهب بها كلها بسرعة. (النفوسُ زُوِّجَت) : فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن التزويج بمعنى التنويع، لأن الأزواج هي الأنواع، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن. والآخر زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم مع الْحُور العين. والثالث زوجت الأرواح والأجساد، أي رُدَّت إليها بعد البعث. والأول هو الراجح، لأنه مرويّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر بن الخطاب وابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 (نِحْلَةً) : أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله. وقيل معنى نحلة شِرْعة وديَانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهنَّ، أو على الحال من ضمير المخاطبين. والمراد بهذا أنَّ المهور هبةٌ من الله تعالى للنساء والنفقة عليهن، وسببه - على ما قيل - أن حواء لما أصاب آدم التعب في الحرث أخذت قبضةً من الزرع وزرعته، فنبت شعيرا، فلما رأت تغيّر أفعالها وظهور نكالها اغتمت، فقال: اغتممتِ لأجلنا ساعة لأرفع قدرك بأن أكلف الرجال هَمَّ النفقة عليكِ وكل بناتك، وأمتحنهنّ بالمهر والنفقة عليكن، فمن اغتمت لأجله ساعة أنجاها من الغمّ دهراً طويلاً، فكيف من أغتم من خوف قطيعته سبعين سنة أو أكثر، كيف لا ينجيه منها. (نَسْياً مَنْسِيّا) ، بفتح النون وكسرها: هو الشيء الحقير الذي إذا الْقِي لم يلْتَفَتْ إليه. (النُّون) : على أوجه: اسم، وهي ضمير النسوة، نحو: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ) . وحرف، وهي نوعان: نون التوكيد، وهي خفيفة وثقيلة، نحو: (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا) . و (لنسفَعاً) . (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) . ولم تقع الخفيفة في القرآن إلا في هذين الموضعين، وثالث في قراءة شاذة، وهي: "فإذا جاء وَعْدُ الآخرة لِنَسوءاً وجوهَكم". ورابع في قراءة الحسن: "ألْقِياً في جهنم"، وذكره ابن جني في المحتسب. ونون الوقاية، وتلحق ياء المتكلم المنصوبة بفعل: (فاعبدني) . (ليحزنني) . أو حرف، نحو: (يا ليتني كنت معهم) . (إنني أنا الله) . والمجرورة بلدن، نحو: (من لدنِّي عُذْرا) . أوْ مِن أوْ عَنْ، نحو: (ما أغنى عني) . (وألقيت عليك محبةً مني) . (التَّنوين) : نون تثبت لفظاً لا خطا. وأقسامه كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 تنوين التمكين، وهو اللاّحق للأسماء العربة، نحو: (هدًى ورحمةً) . (وإلى عاد أخاهم هوداً) . (إنا أرسلنا نوحاً) . وتنوين التنكير، وهو اللاحق لأسماء الأفعال، فَرْقاً بين معرفتها ونكرتها. نحو التنوين اللاحق لـ (أُفٍّ) في قراءة مَنْ نَوَّنَه، و (هيهاتٍ) في قراءة مَنْ نوَّنها. وتنوين المقابلة، وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ. وتنوين العِوَض، إما عن حرف آخر، نحو: فاعل المعتل، نحو: (والفجر وليال) . (ومن فوقهم غَوَاش) . أو عن اسم مضاف إليه في كلّ وبعض وأي، نحو: (كلَّّ في فلك) . (فضلنا بعضهم على بعض) ، (أيّا مَّا تدْعوا) . أو عن الجملة المضاف إليها إذ، نحو: (وأنتم حينئذٍ تَنْطرون) ، أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم. وإذا على ما تقدم عن شيخنا، ومَنْ نَحَا نحوه: (وإنكم إذاً لمن الْمقَرَّبين) ، أي إذا غلبتم. وتنوين الفواصل الذي يسمى في غير القرآن الترنُّم، بدلاً من حرف الإطلاق، ويكون في الاسم والفعل والحرف. وخرَّجَ عليه الزمخشري وغيره: (قواريراً) . (والليل إذا يَسْر) . (كلا سيكفرون) ، بتنوين الثلاثة. *** (نَعَمْ) : حرف جواب، فتكون تصديقا للْمخْبر، ووَعْدا للطالب، وإعلاما للمستخبر. وإبدال عينها حاءً وكسرها وإتباع النون لها في الكسر لغاتٌ قرئ بها. *** (نِعْمَ) : فعل لإنشاء المدح لا يتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 (حَرف الصاد المهمَلة) (صالح عليه السلام) : قال وهب: هو ابن عبيد بن هاير بن ثمود بن حاير بن سام بن نوح، بُعِثَ إلى قومه حين راهق الحلم، وكان رجلاً أحمر إلى البياض، سبط الشعر، فلبث فيهم أربعين سنة. وقال نوف البكَالي: صالح من العرب لما أهلك الله عاداً عمرت ثموداً بعدها. فبعث الله صالحاً غلاماً شابًّا، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكَبر، ولم يكن بين نوح وإبراهيم نبيء إلا هود وصالح، أخرجه في المستدرك. وقال ابن حجر وغيره: القرآن يدلُّ على أنَّ ثموداً كان بعد عاد، كما كان عاد بعد قوم نوح. وقال الثعلبي - ونقله عنه النووي في تهذيبه ومن خطه نقلت: هو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشح بن عبيد بن هاذر بن ثمود بن عاد بن عوض بن آدم ابن سام بن نوح، بعثه الله إلى قومه وكانوا عَرَباً منازئهم بين الحجاز والشام. فأقام فيهم عشرين سنة، وأقام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة. (صلاة) : تأتي على أوجه: الصلوات الخمس: (يقيمون الصلاة) . وصلاة العصر: (تحبسونهما من بعد الصلاة) . وصلاة الجمعة: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) . والجنازة: (ولا تصَلّ على أحدٍ منهم) . والدعاء: (وصلّ عليهم) . والدين: (أصَلاَتكَ تَأمرك) . والقراء ة: (ولا تَجْهَر بصلاَتك) . والرحمة والاستغفار: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ومواضع الصلاة: (وصلوات ومساجد) . قال الجواليقي: هي بالعبرانية كنائس اليهود، وأصلها صَلُوتا. (صَيِّبٍ) : المطر. وأصله صَيْوب، ووزنه فيعل، وهو مشتق من قولك: صاب يَصوب. وقوله: (أو كصيب من السماء) ، فهو عطف على (الذي استوقد) . والتقدير أو كصاحب صّيب. وأو للتنويع، لأن هذا مثَل آخر ضربه الله للمنافقين. وفي قوله: من السماء - إشارة إلى قوته وشدة انْصِبَابه. قال ابن مسعود: إن رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر، وأيْقَنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحَسنَ إسلامهما، فضرب اللَّهُ ما نزل بهما مثلاً للمنافقين. وقيل المعنى: تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خَوْفهم على أنفسهم بمن أصابه مطَر فيه ظلمات ورَعْد وبَرْق، فضلَّ عن الطريق، وخاف الهلاك. وهذا التشبيه على الجملة. وقيل: إن التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل القرآن أو الإسلام، والظلمات مَثَلٌ لما فيه من البراهين الواضحة. فإن قيل: لم قال: رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعهما كما جمع ظلمات؟ فالجواب أنَّ الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع. ويحتمل أن يكونا اسمين، وترك جعهما لأنهما في الأصل مَصْدران. (صَوَاعق) : جمع صاعقة، وهي كلّ عذابِ مهلك. ومنه (يَجْعَلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق) ، أي من أجل الصواَعق. قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآنَ في مجلسه - صلى الله عليه وسلم -، فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهونه من القرآن، والموت هو ما يتحقق فَوْته، فهما مجازان. وقيل: إنه راجع إلى أصحاب المطر المشبَّه بهم، فهو حقيقة فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون مع المطر من شدة الرعد ونزول قطعة نار، والموت أيضاً حقيقة. وقيل: إنه راجع إلى المنافقين على وَجْه التشبيه لهم في خوفهم، بمن جعل أصابعَه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد. فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم، والأنامل هي التي تجعل في الأذن؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبْلغ، لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الأذن السبابة خاصة. (صابئين) : خارجين من دِين إلى دين. يقال: صَبَأ فلان إذا خرج من دِينه إلى دِين آخر، وصبأت النجوم خرجت من مطالعها، وصبأ نَابه: خرج. قال قتادة: الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان. الصابئون يعبدون الملائكة، ويُصَلّون إلى القبلة، ويقرأون الزّبور. والمجوس يعبدون الشمس والقمر. والذين أشركوا يعبدون الأوثان. واليهود والنصارى معلوم دينهما. (صَفْراء) : من الصفرة المعروفة، ومنه: (جِمَالات صفْر) . وقيل سودا. وهو بعيد. والظاهر صفراء كلها. وقيل: القَرْن والظّلْف فقط، وهو بعيد. (الصَّفا والْمَرْوَة) : جبلان صغيران بمكلة السعْيُ بينهما واجبٌ عند مالك والشافعي رضي الله عنهما. فإن قلت: لم جيء في الآية بلفظ يقتضي الإباحة، وهو قوله: (فلا جُنَاحَ عليه أن يطَّوَّفَ بهما) ؟ والجواب أن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما، لأنه كان في الجاهلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 صنم، يقال له إسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك. فإن قلت: مِنْ أين يؤخذ وجوبُ السعي؟ فالجواب أنه واجب بالسنة، لقول عائشة: أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعيَ بين ال صفا والمروة، وليْس لأحد تَرْكه. وقيل: إن الوجوبَ يُؤخذ من قوله: (شَعَائِر الله) . وهذا ضعيف، لأن شعائر الله منها واجبة، ومنها مندوبة. وقد أخذ بعضهم من الآية نَدْبَ السعي بينهما. (الصَّلاَة الوُسْطى) ، على القول بأنها الظهر أو الجمعة، لأنها في وسط النهَار، أو لفَضْلها، من الوسط وهي الخيار. وسُمّيت وُسْطى لتوسّطها في عدد الركعات على القول بأنها المغرب، لأنها بين الركعتين والأربع، ولتوسّط وقْتِها على القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار. وإنما أجرى ذكرها بعد دخولها في الصلوات وأخفاها للاعتناء بها. وبالجملة ما مِنْ صلاة إلا وقيل فيها وسطى. (صَفْوان) : حجركبير أملس. وهو اسمٌ واحد معناه جمع، واحدتها صفوانة. (صَلْدا) : أملس. وهذا تمثيل للذي يمنُّ ويُؤْذي بالذي يُنفقه رياء، وهو غير مؤمن، كحجر عليه تراب فيظنّه مَنْ يراه أرضاً مُنْبِتة طيبة، فإذا نزل عليها المطر انكشف التراب، فبقي الْحَجَرُ لا منفعةَ فيه، فكِذلك المرَائي يظنّ أن له أجراً، فإذا كان يوم القيامة انكشف سِرُّه ولم تنفعه نفقته. (صَدُقَاتِهنَّ) : أي مهورهنّ، يُؤْمر الزوج بإعطائها ذلك، واحدتها صَدُقة - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 (صَعِيدا) : وجه الأرض عند مالك، كان تراباً أو رملاً أو حجارة، فأجاز التيمم بذلك كله. وعند الشافعي التراب لا غير. واختلف في التيمم بالذهب والملح، وبالآجر والجص المطبوخ، وبالجدار وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد. (صَيْد) : كلّ ما كان ممتنعأ ولم يكن له مالك، وكان حلالا أصْله، فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال فهو صَيْد. (صدَف عَنْها) ، أي أعرض عن آيات الله. (صَغَار) : أشد الضر، وهو الذل. (صَديد) : قيح ودم. (صَوْم) ، أصله في اللغة الإمساك مطلقاً، ثم استُعْمل في الشرع في الإمساك عن الطعام والشراب. وقد جاء بمعنى الصّمْت في قول مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) . وقيل تعني الصيام، لأن مِنْ شَرْطِهِ في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها، ولأنّ عيسى تكلَّم عنها وأخبرها بأنها نذَرَت الصمْتَ، ولا يجوزُ في شريعتنا نذْر الصمت. وانظر ما أثمر الصمت لها من تبرئتها على لسان ولدها بقوله: (إني عبد الله) ألهمه الله بذلك، لأنه علم أن بعض الكفَّار سيقولون ما ليس لهم به علم، كما قال: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) . وقال: (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) ، فهذه حجَّتُه عليهم إلى يوم القيامة بقول الله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ... إلى قوله: (أن اعبدوا اللَهَ رَبّي وربكم) ، وقد قلت في الأولى: (إني عبد الله) . وقد كان امتحان عيسى متصلاً بمحنة أمِّه، كما كان امتحان يوسف متصلاً بامتحان أبيه، لأن الله تعالى قال: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) . فقيل لها: يا مريم، إن كنت صادقةً في دَعْواك فاصْبِري على المحنة، فنفخ جبريل في جَيْبِها، فقالت: (إني أعوذُ بالرحمن منك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 قال تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) . أي قبل أن ترفع الواسطة بيني وبين حبيبي، فقيل لها في سِرّ: إنه دَعْواك، حيث قلتِ: إنه من عند الله. كذلك امتحن يوسف بمحنة أبيه يعقوب، فكان في الأمر ما كان، لأنه قال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) ، إذ عاقبه (1) ، فلما قيل له: بلغت المحنة غايتها قال: (إنما أشْكو بَثِّي وحزْني إلى الله) ، أي دعواك حين قلت: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) . كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع قولَ الكفار في رَبّه ضاق صَدْره، فأنزل الله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) . (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) . ولو قالوا ما قالوا من الجنون والسحر، فأنا أجبْتُ شانئك عنك بقولي: (هَمّاز مَشَّاء بنَميم) ، أي شانئك هو الأَبْتر. كذلك قصة مريم في قولها: (إني نذرْت للرحْمَن صوما) ، قالوا: هذا أنكر وأعظم، فإن من عرف ربَّه كَلَّ لسانه، فأشارت إليه، فأجاب الله عنها على لسان ولدها. كذلك المؤمن أمره اللَّهُ تعالى بالسكون، وترك الخصومة عمن ظلمه حتى يتولّى الجوابَ الملأ الوهَّاب، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) . وفي الحديث: إذا أراد الله أن يرفع درجةَ عبدٍ قيَّض اللَّهُ له مَنْ يظلمه. وحكي أن وزيراً ظلم بعْضَ الرعية في أخذ جِنَان له طلب بَيْعه منه، فأبى، فقال له: إنِّي آخذه منك. فقال له: أشكوك إلى الملك. فقال له: إن بيني وبينه صرفةً، قال: أشكوك إلى ربك. فلما لقيه بعد مدة قال له: ما قال لكَ الذي شكوْتَ له، قال: قال لي: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية. فارتعدت فرائص الوزير، ونزل من سرْجه، فقبَّل يده، وطلب منه العفو. هذا شأن مَنْ عرفه ووله في عظمته وتفكره في كلامه، بخلاف ما نحن عليه   (1) التعبير بالعقوبة في حق الأنبياء والمرسلين فيه بشاعة، والأولى مراعاة الأدب معهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 من ظلم أنفسنا. ما أرى بصائرنا إلا عميَتْ عن مشاهدة مشاهدِ القوم إذا أشخصت لنا الصفات منهم شخصاً هرب، كأننا ضِدّان لا نجتمع. اللهم أَقلْ عثراتنا، وارحم ضراعتنا، ولا تؤاخدنا بأفعالنا، لأنا علمنا أنك عفوٌّ تحبُّ العفو، فاعْف عنا بجاهِ سيدنا ومولانا ومنقذنا من الهول العظيم صلى اللَه عليه وعلى آله أفضل صلاة وأزكى تسليم. (صَفًّا) : ذكر فيه أبو عبيدة وجهين: الصف الذي يصلّى فيه، كما قال بعضهم: ما استطعت أن آتي الصف اليوم. وصفوف الناس كما قال: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) . وأما قوله تعالى: (إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صَفًّا) ، فقد قدمنا أنه ليس المراد به نفس التصافّ، وإنما المقصود به الثبوت والجدّ في القتال، خلافاً لمن قال: إن قتال الرجالة أفضل مِنْ قتال الفرسان، لأن التراصّ فيه يمكن أكثر مما يمكن للفرسان. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، خَفي على قائله مقصد الآية. (صَفًّا صَفًّا) : مستوى من الأرض أملس لا نبات فيه. (صَوَافَّ) : معناه قائمات قد صفَفْنَ أيديهن وأرجلهن، وهو منصوب على الحال من الضمير المجرور، ووزنُه فواعل، وواحده صافة. وقرئ صوافي، أي خوالص لا يشركون في نحرها أو في التسمية على نحرها. (صَوَامع) : منازل الرهبان، جمع صَوْمَعة - بفتح الميم - وهي موضع العبادة، وكانت للصابئين. وسمي بها في الإسلام موضع الأذان. والمعنى لولا دفاع الله لاستولى الكفَّار عليها. فإن قلت: قد استولى الكفَّار عليها فهدَمُوها وخرَّبوا المساجد؟ فالجواب أن ذلك بذنوب أهلها، وما اجترحوا فيها من المعاصي، لأن الله وعد بنصر مَنْ ينصرُ دِينه في مواضع من كتابه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) . (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 (صَرْفاً ولا نَصْراً) .، أي حيلة ولا نصرة. يعني أنهم لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم عذاب الله. والصرفُ والمنعُ والحيلولة بمعنى واحد. ومنه قوله تعالى: (وحِيْلَ بينَهم وبيْنَ ما يشْتَهُون) ، ويحتمل على هذا أن يكون الخطابُ للمشركين أو المعبودين. والصرف على هذين الوجهين صرف العذابِ عنهم. أو يكون الخطاب للمسلمين، والصرف على هذا ردّ التكذيب. (صَرْح) ، أي قصر. وقيل صَحْن الدار، وإنما صنع سليمانُ هذا الصَّرْح لأنَّ الجن كرهوا تزوّج سليمان لبلقيس، فقالوا له: إن عقلها مخبول، وإن رِجْلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، فوجدها عاقلةً، لأنها قالت: (كأنه هو) ، ولم تَقُل نعم، لأنها تغيَّر عليها أمره، ولم تقل لا، لأنها كانت ترى بَعْضَ علاماته. ثم أمر بأن يتخذوا قَصْراً من زجاج، ويحفروا حولَه نهراً، ويجعلوا فيه السمك والضفادع، وأمر بأن يتَّخِذوا على الماء قنطرة من زجاج، ففعلوا ما أمروا، ثم أمرها أنْ تدخل الصرح، فعزمت على الدخول، فرأت الزجاج على الماء، فحسبته لُجَّة وكشفت عن ساقَيْها، فرأى سليمان أنها ليس فيها شيء من العيوب والْمَنْقصة، وأسلمت فتزوّجها سليمان، وكان يأتيها في كل شهر مرة. (صيَاصِيهم) : حصونهم. وصَيَاصِي البقَر قرونها، لأنها تمنع بها وتدفع عن أنفسها، وصيصاء الديك: شَوْكاته، ونزلت الآية في يهود بني قُريظة، وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَقَضُوا عَهْده، وصاروا مع قريش، فلما انصرفت قريش عن المدينة حصرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ، فحكم بأن يُقْتَل رجالهم، وتسْبَى نساؤهم، وذَرَاريهم. (صَرِيخ) : هو المغيث والْمنقذ، من الغرق. (صديق) : مَنْ صدقك محبته، وآثرك على نفسه، وهو أقلّ من القليل. وفي قوله تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) . إشارةٌ إلى كثرة الشفعاء في العادة وقلَّة الأصدقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 (صَافَّات) : اختلف فيها، فقيل هي الملائكة التي تصفّ في السماء صفوفاً لعبادة الله. وقيل: هي مَنْ يصف مِنْ بني آدم في الصلاة والجهاد والأول أرجح، لقوله عن الملائكة: (وإنا لنحن الصافّون) . وأما قوله: (والطير صافَّات) فمعناه أنهن يصففن أَجْنِحتهنّ في الهواء. (صافِنَات) : جمع صافن، وهو الفرس الذي يرفع إحدى يدَيْه أو رِجْليه، ويقف على طرف الآخر. وقيل: الصافن هو الذي يسوّي يديه. والصفَن علامة على فراهة الفرس والجياد السريعة الجَرْي. واختلف الناس في قصص هذه الآية. فقال الجمهور: إنَّ سليمانَ عليه السلام عرضت عليه خَيْلٌ كان وَرثها عن أبيه. وقيل: أخرجتها له الشياطين من البَحْر، وكانت ذوات أجنحة، وكانت ألف فرس، وقيل أكثر، فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشيِّ، وقيل العصر، فأسف لذلك، وقال: ردّوا عليَّ الخيل، فطفق يضرب أعناقَهها وعراقيبها بالسيف حتى عَقَرها (1) لمّا كانت سبباً لفَوت الصلاة، ولم يترك منها إلا اليسير، فأبدله الله أسرعَ منها وهي الريح. فإن قلت: تفويتُ الصلاة ذَنْبٌ لا يفعله سليمان، وعقْر الخيل لغير فائدة لا يجوز، فكيف يفعله سليمان، وأي ذنْب للخيل في تفويت الصلاة؟ فالجواب: إنما عقرها لمجاعةٍ كانت بالناس، فتقرَّب بها إلى الله في إطعامهم لها، لا سما على قول: إنه لم تَفتْه صلاة، ولا عقر الخيل، بل كان يصلّي فعرضت عليه الخيل، فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها، فلما فرغ من الصلاة قال: ردّوها عليَّ فطفق يمسح عليها بيده كرامةً ومحبةً. وقيل المسح عليها إنما كان وَسْماً في سُوقها وأعناقها، للحبس في سبيل الله. وقد حكي أنَّ عبد الله بن المبارك فاتَتْه تكبيرة الإحرام مع الإمام بسبب بيْع باعَهُ، فربح فيه ألْفَ دينار، فتصدَّق بها عسى أن يكون كفَّارةً لتلك التكبيرة.   (1) من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فاقْتَدِ أيها المسكين بتأسُّفك على ما فاتك من أوقاتك في المخالفة، ولا يشغلك شاغلٌ عن الطاعة بجهد الاستطاعة، فإن سليمان أنعم الله عليه بأنواع النعم، ولم يعاتبه باشتغاله لقوله: (هذا مِنْ فَضْل رَبِّي) . ويوسف أعطاه الله الْمُلك ولم يُعاتبه على اشتغاله به، لأنه قال: (هذا من فضل الله علينا) . وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وكان فضل الله عليك عظيما) . ولم يأذَن له في نظرة واحدة إلى الدنيا غيرةً منه عليه، فقال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، فأظهر أن فضله عليه في المنع أفضل منه في العطاء، وكذلك قال لأمّته: (قلْ بِفَضْلِ الله وبرحمته فبذلك فلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مما يَجْمَعون) . وروي أن وجوهَ هذه الأمة تُحْشَر يوم القيامة كالكوكب الدرِّيِّ، فتقول الملائكة: ما عملكم في الدنيا، فيقولون: كُنَّا إذا سمعنا الأذان قُمْنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها، ثم تحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كُنَّا نتوضأ قبل الوقت. ثم تُحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كنا نسمع الأذان في المسجد. وروي أن السلف كانوا يعزُّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتَتْهم التكبيرة الأولى ويعزُّون سبعاً إذا فاتتهم الجماعة. وحكي أنه كان شدّاد بن حكيم البلخي الحاكم يمرُّ يوماً بمسجد من مساجد البلخي ومؤذّنه يؤذّن وبحذاء هذا المسجد حانوت رجل معدل، فلما فرغ المؤذّن من الأذان اشتغل ذلك المعدِّل بجمع المتاع الذي بين يديه، ثم خرج إلى الصلاة، فلما كان في الغد جاء المعدّل وشهد على رجل بحق، فرد شهادته وقال: إنك مستَخِفّ بأمر الصلاة حيث استقبلت أولاً إلى رفع الأمتعة التي بين يديك بعد الأذان، ثم خرجت إلى الصلاة. ذكره في الإحياء. (صَرْصر) : أحد رياح العقوبة، وثانيها العقيم، وثالثها القاصف، كما قال تعالى: (فيرسل عليكم قَاصِفا) ، وهذه الرياح تهبّ في البحر دون البر برحمةِ الله، إلاَ مَنْ أراد الله هلاكه بها. ورياح الرحمة ثلاث: منشرات، كقوله تعالى: (والنَّاشِرات نَشْراً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 والمبشرة، كقوله: (مبَشرات) . والثالث الذاريات. فهذه رياح الرحمة تهبُّ على كل شيء في الدنيا. وقيل ثلاث رياح تهب من الجنة. الجنوب، والشمال، والصبا. ومنها خلق الله الفرس، وبها نصر الله نبيَّه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا، وأهلكت عادٌ بالدّبور" وريح الصبا ريح مباركة تهبُّ من قِبَل الكعبة وقْتَ الأسحار، وتحملُ الأنين والاستغفار إلى الملك الجبار، وهي الريح التي أوصلت ريحَ يوسف إلى يعقوب حيث قال: (إني لأجِد ريح يوسف) ، ولهذا قال أبو علي الدقاق: والريح رسول العشاق. (صَفْحا) : مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال. ومعناه على هذا: أنمسك عنكم الذكرَ عَفْواً عنكم وغفراناً لذنوبكم، أو مصدر من المعنى، أو مفعول من أجله، تقول: صفحت عنه إذا أعرضْت عنه، كأنه قال: أنتركُ تَذْكيرا إعراضاً عنكم. (صَرَّةٍ) . من صَرّ القلم وغيره إذا عوّت. وقيل معناه في جماعة النساء، يعني أن امرأة إبراهيم صاحت بقولها: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ، فاستغربت من ولادة العجوز، ولذلك: (صَكَّتْ وجْهَها) ، أي غَطَّتْه حياءً من المبشرين لها، أو تعجُّباً من وِلادتها. (صَلْصال) : قد قدمنا أنه الطين اليابس الذي يُصَلْصِل. أي يصوت وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار. ويقال الصلصال الْمُنْتِن، مأخوذ من صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن، فكأنه أراد صلالاً، فقلبت أحد اللامين، وفيه إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحر، وذلك أنَّ الله خلقه من طيّب، وخبيث، ومختلف اللون، مرة ذكر في خلقه هذا ومرة هذا. (صَغَتْ قلوبكما) ، أي مالت عن الصواب. وقرأ ابن مسعود بالزاي. والمعنى: إن تَتُوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة. وهذا الخطاب لعائشة وحفصة مما جرى من تسببهما في تحريم رسول الله الجارية أو العَسَل الذي تقدم ذكرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 (صَرِيم) : ليل، يعني أنهم حلفوا أنْ يقطعوا غَلَّة جَنَّتِهم عند الصباح، فأصبحت كالليل، لأنها اسودَّتْ لِمَا أصابها. وقيل: أصبحت كالنهار، لأنها ابيضَّت كالحَصِيد. ويقال صريم لليل والنهار. وقيل الصريم: الرماد الأسود، بلغة بعض العرب. وقيل: أصبحت مصرومة، أي مقطوعة. (صارِمين) ، أي حاصدين لثمرها. (صَعَداً) : شاقا، يقال تصعَّدني الأمر: أي شقّ عليَّ، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعَّدني شيء ما تصعَّدَتْني خطبة النكاح. ومنه: (سارْهِقه صَعودا) ، أي عقبةً شاقّة، يعني أن الوليد بن المغيرة يكلّف أن يصعد جبلا في النار من صَخْرة ملساء، فإذا صعد أعلاها لم يزل أن يتنفّس وجُذِب إلى أسفلها، ثم يكلف مثل ذلك. (صَوَابا) : إصابة المراد. ويقال في - المثل: أصاب الصواب. ومنه: رُخاءً حيث أصاب. وقد يعبَّر بالصواب عن الحق، فيقال: هذا صواب، أي حق، فكلّ مصيب فحِقّ وبالعكس. (صاخَّة) : من أسماء القيامة، وهي مشتقّة من قولك: صخّ الآذان إذا أصمها بشدة إِصْخاخها، فكأنه إشارة إلى النفخ في الصور، أو إلى شدة الصوت حتى يَصخّ مَنْ يسمعه لصعوبته. وقيل: هي من قولك أصاخ للحديث إذا استمعه والأول هو الموافق للاشتقاق. (صَدَقة) : تنطلق على الزكاة الواجبة، وعلى التطوّع: (إن الْمصَّدقين والْمصدِّقَات) - بالتشديد، أي المتصدقين والمتصدقات. وأما قوله تعالى: (إنكَ لن الْمصَدِّقين) - بالتخفيف - فهو من التصديق. (صَدّ) : له معنيان: بالتعدي بمعنى منع غيره من شيء، ومصدره صَدًّا، ومضارعه بالضم. وغيره بمعنى أعرض، ومصدره صدودا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 (صار) : له معنيان: من الانتقال، ومنه: (تَصِير الأمور) ، والمصير. وبمعنى ضَمّ، ومضارعه يصور، ومنه (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) . (صَمَد) : هو الذي يُلْجأ إليه في الحوائج، ليس فوقه أحد. وقيل: إنه الذي لا يأكل ولا يشرب لفوله: (وهو يُطْعِمُ ولا يُطعَم) . وقيل: إنه الذي لا جَوْفَ له. والأول هو المراد. ورجَّحه ابن عطية، فإن الله هو موجد الوجودات وبه قوامها، فهي مفتقرة إليه، إذ لا تقومُ بأنفسها وحيثما ورد في القرآن فنفى الولد عنه، كقوله في مريم: (قالوا اتخذ الرحمن ولداً) ، ثم أعقبه بقوله: (إنْ كلّ مَنْ في السماوات والأرض إلاَّ آتِي الرحمنَ عَبداً) . وقوله: (بَدِيع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد) . (قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بَلْ له ما في السماوات والأرض) ، وكذلك في الإخلاص ذكره مع قوله: (لم يَلِد) ، ليكون برهاناً على نفْيِ الولد. (صُرْهُنَّ) : بالنبطية فشققهن. وأخرج ابن المنذر عن وهب بن وهب قال: ما في اللغة شيء إلا منها في القرآن شيء، قال: وما فيه من الرومية، قال: (فَصُرْهُنَّ) ، يعي قطعهنّ بكسر الصاد. والضمير راجع إلى الطيور الذي أَمر الخليل بذبحها وتقطيع أجزائها، وهي الديك والطاوس والحمام والغراب، لما سأل الله رؤية إحياء الموتى. فإن قلت: كيف يشكّ الخليل في إحياء الموتى، فيطلب رؤيته؟ فالجواب أنه لم يشكّ، وإنما طلب معاينة الكيفية لمّا رأى دابّة قد أكلتها السباع والحيتان، فسأل عن الكيفية، وصورة الإحياء، لا عن وقوعه، وذلك لا يقدح في رسالته، وهو معصوم. واشتكى بعض الفقراء لشيخه تهمّمه في الرزق، فقال له: خذْ كفًّا من تراب ومُرْه يرجع ذهباً، فقال: ومَنْ إمامي في هذا، قال: الخليل حين قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 قال: (أولم تُؤْمن) ، فالذي يقدر على رجوع التراب ذهباً في يديك يقدر على رزقك حيثما كنْت. والحكمةُ في هذا أن النفس لا تطمئن إلا بالمعاينة، وليس الخبر كالعيان. (صُوَاعَ الملِك) : أي مكياله، وهو السقاية، وكان يشرب بها يوسف، ويكال بها الطعام، وكان من فضة. وقيل من ذهب. وقصد بجعله في رَحْلِ أخيه الاحتيالَ في أخْذه، إذ كان شرْع يعقوب أنَّ مَنْ سرق استعبده المسروق منه. والسرّ فيه أن بنيامين لما تعرَّف إليه يوسف، وتحقَّق عنده بالمعرفة، لم يتنكر بأن نُودي عليه بالسرقة. ولما رضي في معرفته بالبلاء كان ثمرته أن آواه إلى نفسه، كأَنّ مولاك يقول لك: لا تبال يا مؤمن ببلائي، فإن الجنة مَثْواك. وورد في الحديث: "إن الله يطهّر المؤمن في الدنيا بأنواع البلاء، فإنْ بقِيتْ عليه بقيةٌ طهَّرَه بشدة الموت، حتى يَلْقَى الله وليس عليه ذنب". وقرأ يحيى بن يعمر: "صواغ الملك" - بغين معجمة: يذهب إلى أنه كان مصوغأا، فسماه بالمصدر. (صَخْرة) : قيل أراد لقمان الصخرة التي عليها الأرض. وهذا ضعيف، وإنما معنى الكلام أن مِثْقَالَ خَرْدَلة من الأعمال أو من الأشياء لو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة، فإن الله يأتي بها يوم القيامة. وكذلك لو كانت في السماوات أو في الأرض. وأما قول موسى: (أرأيتَ إذ أوَيْنَا إلى الصَّخرة) فإن المراد بها التي نام عندها. ومعنى (أرأيت) ، أي أخبرني. فإن قلت: ما وجه التئام هذا الكلام، وإن كلّ واحد من أرأيت، وإذ أوينا، فإني نسيتُ الحوت - لا متعلّق له؟ والجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 نسيانه، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، فكأنه قال: أرأيت ما دَهَاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، فحذف بعض الكلام. (صَدَفَيْن) ، بضم الصاد وفتحها، بمعنى الجبلين. (صُنْعَ الله) : مصدر العاملُ فيه محذوف. وقيل هو منصوب على الإغراء، أي انظروا صُنْعَ الله، وهو فعله في مرور الجبال وهي جامدة. (صحُفاً مطهَّرة) ، يعني القرآن في صحفه. وأما قوله تعالى: (صحفاً مُنَشَّرة) - فقد قدمنا أنهم طلبوا مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطي كلّ واحد منهم صحيفةً يأمره فيها بالإيمان. وقوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى) ، فالمراد به أن هذا الكتاب ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين، كما ثبت هذا الكتاب. قلت: من أمثلة ما نزل على بعض الأنبياء سورة الأعلى. قال - صلى الله عليه وسلم -: كلّها في صحف موسى وإبراهيم. ولما نزلت: (والنجم إذا هوى) فبلغ: (وإبراهيم الذي وفَّى) ، قال: (وَفَّى ألا تَزر وازِرة وِزْرَ أخرى) إلى قوله (هذا نذير من النّذر الأولى) . وأخرج الحاكم من طريق ابن القاسم، عن أبي أمامة، قال: أنزل الله على إبراهيم مما أنزل على محمد: (التائِبُون العَابدون) ، إلى قوله: (وبشِّر المؤمنين) . و (قد أفلح المؤمنون) ، إلى قوله: (هم فيها خالدون) . و (إن المسلمين والمسلمات) ، الآية. والتي في المعارج: (والذين هم على صلاتهم دائمون) ، إلى قوله: (قَائمون) ، فلم يَفِ بهذه السهام إلا إبراهيم ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -. وأخرج البخاري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: "يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهداً ومبَشّراً ونَذيراً وحِرزاً للأميين" - الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وأخرج ابن الضّرَيس وغيره عن كعب قال: فتحت التوراةُ بـ (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) . وختمت بـ (الحمد للَه الذي لم يتخذ ولداً) ، إلى قوله: (وكبِّرْه تكبيرا) . وأخرج عنه من وَجْهٍ آخر، قال: أول ما نزل في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام: (قل تعالوا أتْل ما حَرَّم ربكم عليكم) الخ. قال بعضهم: هذه الآيات العشر التي كتبها اللَّهُ لموسى في التوراة أول ما كتب، وهي توحيد الله، والنهي عن الشرك، واليمين الكاذبة، والقتل، والعقوق، والزنى، والسرقة، والزور، ومدّ العين إلى ما في يَدِ الغير، والأمر بتعظيم السَّبْت. وأخرج الحاكم عن أبي مَيْسرة أنَّ هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية: أول سورة الجمعة: (يسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض) . وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، قال: البرهان الذي أُرِي يوسف ثلاث آيات من كتاب الله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) . وقوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) . وقوله تعالى: (أفمَنْ هوَ قائم على كلِّ نَفْس بما كسبت) . زاد غيره آية أخرى: (ولا تَقْرَبوا الزنا) . وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: (لولا أنْ رأى برهَانَ ربه) - قال: رأى آيةً من كتاب الله نهَتْهُ، مثّلت له في جدار الحائط، فهذا ما وقفت عليه مما أنزل على غير نبينا - صلى الله عليه وسلم (1) . واختلف في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. والصحيح أنَّ سليمان تلفظ بها، لحديث الدارقُطْني من حديث برَيْدَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأعلِّمنّك آيةً لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . ومن أمئلة ما خص به الفاتحة، وآية الكرسي، وخاتمة البقرة.   (1) بعض هذا الكلام غير مسلم خصوصا ما ذكر في حق يوسف - عليه السلام - والعلم عند الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 وروى مسلم عن ابن عباس: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ملك، فقال: أبشر بنورين، قد أوتيتهما لم يُؤْتهما نبيء قبلك: فاتحة الكتاب. وخواتيم سورة البقرة. وأخرج أبو عبيدة في فضائله، عن كعب، قال: إنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعطي أربع آيات لم يُعطهن موسى، وإن موسى أعطي آية لم يعطها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي: اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلِّصنا من أجل أنَّ لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحرم والأرض والسماء، الدهر الداهر، أبداً أبداً، آمين آمين. وأما الأربع التي لم يعطهن موسى فهي: خواتيم البقرة. (لله ما في السماوات وما في الأرض) ، وآية الكرسي. (صِرَاط) : هو في اللغة الطريق، ثم استُعمل في القرآن، بمعنى الطريقهّ الدينية، وأصله السين ثم ينقلب صاداً لحرف الإطباق بعدها. وفيه ثلاث لغات: بالصاد، والسين، وبين الصاد والزاي. وحيثما ورد في القرآن فمعناه الطريق الموصّل إلى الصراط الحسيّ المنصوب على مَتْنِ جهنم، ليَمُرَّ المؤمنون عليه، أرقّ من الشعر، وأحدّ من السّيف، وفي حافتيه كلاليب معلَّقة مأمورة بأخْذِ من أمرت بأخذه، فمخدوش ناج، ومكردس في نار جهنم، ويمرون عليه بحسب اتّباعهم لهذا الصراط المعنوي، فأولهُم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وكأشد الرجال حتى يجيء الرجل ولا يستطيع السير إلا زَحْفا. وقد صح أنَّ له عقبات سبع لا يجاوزها إلا مَنْ قطع عَقَبات الدنيا. وأنكره أكثَر المعتزلة، لعدم إمكان العبور عليه. ويسهِّله الله على المؤمن كأنه واد واسع. (صِبْغَة الله) : يعني دين الله، وهو استعارةٌ من صبغ الثوب وغيره، ونَصْبه على الإغراء، أو على المصدر من المعاني المتقدمة، أو بدل من ملّة إبراهيم. (صِرّ) .: بَرْدٌ شديد، أصاب حَرْثَ الذين ظلموا أنفسهم، وهم الكفار، فلم ينتفعوا به، وكذلك لا ينتفعون في الآخرة بأعمالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 (صدّيقةٌ) : بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق. ووصفُ مريم بهذه الصفة دون النبوءة يدفع قول مَنْ قال إنها نبيئة. (صِنْوَان وغَيْر صِنْوان) : هي النخلات الكثيرة، ويكون أصلها واحداً. وغير الصِّنْوَان التفرق، ووَاحِد الصِّنْوان صِنْو. (صِبْغ) : الصبغ والصباغ ما يصْبَغُ به، أي يغمس فيه الخبز ويُؤكَل به. (صِهْراً) : النسب والصهر يعمّان كلَّ قُربى، فالنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أَب وأم قَرب ذلك أو بعد. والصهر: هو الاختلاط بالتناكح. وقيل: أراد بالنسب المذكور، أي ذوي نسب ينتسب إليهم، وأراد بالصهر الإناث، أي ذوات الصهر يصاهر بهن، فهو كقوله: (فجعل منه الزَّوْجَين الذّكَر والأنثى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 (حرف الضاد المعجمة) (ضرب) : له أربعة معان: من الضرب باليد وشِبْهه. ومن ضرب الأمثال. ومن السفر، ومنه: (ضربتم في الأرض) . ومن الإلزام، ومنه: (ضُرِبت عليهم الذِّلّة) ، أي ألزموها. (وضَرَبْنَا على آذانهم ) ، ألقينا عليهم النوم. و (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) ، أي نمسك عنكم التذكير. (ضرَّ) ، بفتح الضاد وضمها بمعنى، وكذلك الضير - بالياء، ومنه: (لا يَضرّكم كيْدهم) . والضراء: ما يصيبه من المرض وسوء الحال. (ضَيْق) ، وضَيّق مثل ميت وميت، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدر. وفي قوله تعالى: (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) . تسْلية له - صلى الله عليه وسلم -، أي لا يضيق صَدْرك بمكرهم، وهو منسوخ بآية السيف. فإن قلت: أيّ فرق بين هذه الآية في حذف النون منها، وبين إثباتها في آية النمل؟ والجواب: إنما حذفها في النمل موافقة لما قبلها، وهو قوله: (ولم يك من المشركين) . وأيضاً فقد قدمنا أنه سُلِّي بها عن قتل عمّه حمزة، فبالغ في الحذف. ليكون ذلك مبالغة في التسلّي. وجاء في النمل على القياس، ولأن الحزن هناك دون الحزْن هنا. وهذه الكلمة كثر ورودها في القرآن، فحذف النون منها تخفيفاً من غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 قياس، بل تشبيها بحروف العلة، وأتى ذلك في بضْعَة عشر موضعاً: سبعة منها (يك) با لياء، وموضعان (نَكُ) بالنون، وموضع آخر (أكُ) بالهمزة. والله أعلم. (ضَنْكا) ، أي ضيقة. والمعنى أن الله تعالى ضيَّق عليه المعيشة، وهكذا حال مَنْ أنعم الله بوجوده مِنْ سبع ورَزَقه من سبع، فكفر بأنعمِ الله، وأعرض عنها، وصرف همَّتَه لغير ربّه أن يضيق عليه في الدنيا، ويحشر أعمى في العقبى، قال: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) . فإن قلت: أما خلقنا مِنْ سبع، فقد فهمناها من الآية الكريمة، وأما رزقنا من سبع فلم نفهم معناها؟ والجواب أن الله خلقنا في سبعة أحوال من سبعة أشياء، وأرواحنا من سبعة أشياء، وخلق لنا سبعة أركان ظاهرة، وسبعة أركان باطنة، ثم رزقنا من سبعة أشياء، ثم وعدنا بسبع مقامات. أما الأحوال السبعة فقال تعالى: (ولقد خَلَقْنَا الإنسانَ من سلاَلةٍ من طيِن) . وأما الأرواح فمن النار، والنور، والريح، والطيب، والعلم، والأنس، والبقاء، ثم جمعه في قلبك فحينئذ تتحرك في بطن أمك، فحرارة الروح من النار، وضياؤه من النور، وطهارته من الطيب، ونفسه من الريح، وذهنه من العلم، وألفته من الأنس، وحياته من البقاء. ثم رزقك من دَم الحيض إلى حال الخروج، ثم اللبن إلى الفطام، ثم بعد ذلك خمسة أشياء: الماء مِنَ السماء، والنبات من الأرض، واللبن من الثدي، والثمار من الشجر، واللحم من الأنعام. ثم خلقك من سبعة أشياء: من العظم، والعَصَب، والعروق، واللحم، والجلد، والظفر، والشعر. وأعطاك سبعة أركان باطنة: القلب، والكبد، والطحال، والمرارة، والرئة، والدماغ، والمخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 وأعطاك سبعة أركان ظاهرة: اليدين، والرجلين، والعينين، والأذن. والأنف، واللسان، والفرج. ثم رزقك من سبعة أشياء، فقال تعالى: (إن صبَبْنَا الماءَ صَبًّا) . فهذا معنى الحديث: خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع. ثم وعدك بسبع مقامات: الموت، والقبر، والبعث، والميزان، والمحاسبة. والصراط، والدَّارَيْن، فريق في الجنة وفريق في السعير. فمن عرف هذا كيف يلتفت لسواه سبحانه، أو يطلب غيره، هذا في المعيشة الضيقة في الدنيا والآخرة، هلا تشبَّه بالملائكة الكرام في السبع سموات: منهم مَنْ عَبَدَ اللهَ على الحياء والملازمة، ومنهم على الخوف والخشية، ومنهم على حسْن الظن، ومنهم على الخدمة والحرمة، ومنهم على المودّة والمحبة، ومنهم على الشوق والصفاء، ومنهم على القرب والمؤانسة. ونحن لا مِنْ هؤلاء ولا مِن هؤلاء، بل من الذين قال الله فيهم: (إنْ همْ إلاَّ كالأنعام بَلْ همْ أضَلُّ) . ورحم الله القائل: خلقك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته، ليعلمك جلالةَ قَدْرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكنوناته. وجميع العالم مبني على سبعة أشياء: ضياء، ونور، وظلام، ولطافة، وكثافة، ودقة، ورقة، فجعل الضوء نصيب الشمس، والنور نصيب القمر، قال تعالى: (هو الذي جعل الشمْسَ ضياء والقَمر نورا) . وجعل الضوءَ نصيب وجهك. والنور نصيب بصرك، والظلام نصيب الشياطين، وجعله لشعرك. واللطافة نصيب الطيور، وهو نصيب قلبك. والكثافة نصيب الجبال، وهو نصيب عظمك. والدقة نصيب الماء، وهو نصيب ريقك. والرقة نصيب الهواء، وهو نصيب رُوحك. ثم جعل في قلبك الضوءَ مثل المعرفة، والنور مثل اليقين. والظلام مثل السيئة، واللطافة مثل الرجاء، والكثافة مثل الخوف، والرقة مثل المحبة، والدقة مثل الشوق، فمن أراد أن تكون عيشته هنيئة، وحياته طيبة فليشْعِلْ في قلبه المعرفة بزَنْد الجهد، وحجر التضرع، وحراقة إطفاء الشهوة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وكبريت الانتباه، ومسرجة الصدق، وفتيلة الشكر، ودهن التوكل، حتى توقد نور المعرفة في قلبه، كالذي يريد أن يوقد ناراً يحتاج إلى سبعة أشياء: زند، وحجر، وحراقة، وكبريت، ومسرجة، وفتيلة، ودهن، ثم يعلق السراج بثلاث سلاسل في ثلاث غرا، وحينئذ يعلّق في سقف البيت. وهكذا صاحب سراج المعرفة لا بد له من سلسلة الخوف معلَّقة بعرْوَة العدل، وسلسلة من الرجاء في عروة الفضل، وسلسلة من المحبة في عروة الكرامة، وحينئذ يعضد بالعرش، ولا تقدر رياح الأعضاء السبعة ومعاصيهن أن تُطْفِئ هذا السراج، فهؤلاء المجوس أوقدوا ناراً ليعبدوها فلم يقدر أحد على إطفائها، فكيف يقدر أحد على إطفاء نور المحبة. والله تعالى يقول: (يريدون أنْ يطفِئُوا نورَ اللهِ بأفواههم ويأبَى اللَّهُ إلا أنْ يتِمَّ نوره ولو كرِهَ الكافرون) . (ضَلَلْنَا في الأرض) : أي صِرْنا تراباً، وهذا استبعاد من الكفار للبعث. وقرئ صَلَلْنا، أي أنتنا وتغيَّرْنَا، من قولهم: صَلّ اللحم وصنّ وأصن: تغيّر. (ضَرِيع) : فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه شوك، يقال له الشِّبْرِق، وهو سم قاتل. وهذا أرجح الأقوال، لأن أرباب اللغة ذكروه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الضريع: شوك في النار. الثاني: أنه الزّقّوم، لقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) . الثالث: أنه نباتٌ أخضر منْتن ينبت في البحر. وهذا ضعيف. الرابع: أنه وادٍ في جهنم. وهذا أضعف، لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام، إنما هو شراب، ولله دَرُّ مَنْ قال: الضريع طعام أهل النار، فإنه عَمَّ وسَلِم من عهدة التعيين. واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة بمعنى المشابهة، لأنه يشبه الطعام الطيب، وليس هو به. وقيل: هو بمعنى مضْرع البدن أي مضعف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وقيل: العرب لا تعرف هذا اللفظ. (ضحى) : أول النهار. والفعل منه أضحى. وأما ضَحِي، بكسر الحاء، يَضْحَى في المضارع، فمعناه برز للشمس وأصابه حرّها. ومنه: (لا تَظْمَأ فيها ولا تضْحَى) . (ضِعْف، وضُعْف) : لغتان. وضاعف الشيء كثّره، وجرى فيه التشديد. وضِعف الشيء، بكسر الضاد: مثلاه. وقيل مثله. والضعف أيضاً العذاب. (ضلَّ) ، بضاد، من الضلال. ومنه: (وأضَلّهم السامِرِيّ) . وبالظاء المشالة، من الإقامة. وأصله ظللت فحذفت إحدى اللامين. ومنه: (ظلْتَ عليه عاكفا) - وأصله أقام بالنهار، ثم استعمل في الدؤوب على الشيء ليلاً ونهاراً. (ضِغْثا) : مِلْء كفّ من الحشيش والشجر. قال الضحاك: كالشجر الرطب. قال ابن عباس: قبض أيوب قبضةً من سنبل، فوَسِعَتْ كفّه مائةَ سنبلة، وذلك أنه حلف ليضربنَّ امرأتَه مائة جلدة لما باعت ذؤابتها، فأمره الله بأخْذ حُزمة مما قام على ساق، لأن لها حق الخدمة. وأنت يا محمديّ إذا خدمْتَه وقُمْتَ بحقه، ولن تقدر على ذلك، لا يجمع عليك عقوبتين، فتورد النار، لإبرار قسمه في قوله تعالى: (وإنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدها) . وينجّيك منها لحرمة إيمانك، قال تعالى: (ثم ننَجِّي الذين اتقَوْا) . (وسئجَتبُها الأتقى) . (ضِدّا) ، يكون للواحد والجمع، ومعناه أن الكفَّار يكفرون بعبادة المعبودين، ويكون لهم خلاف ما أمّلُوه منهم فيصير العزّ الذي أمّلوه ذلّة. وقيل معناه العون. (ضِيْزَى) : أصلها فُعلى بضم الفاء، ولكنها كسرت للياء التي بعدها. يقال ضازَه حقه إذا نقصه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 (حَرف العَيْن المهمَلة) (عاذ) : بالله يعوذ، أي استجار بالله ولجأ إليه، ليدفع عنه ما يخاف. ويقال: استعاذ يستعيذ. ومنه: (معاذ الله) . (عالمَين) : جمع عالم، وهو عند المتكلمين كلّ موجود سوى الله تعالى. وقيل العالمين الإنس والجن والملائكة لجمعه جَمْعَ العقلاء. وقيل الإنسان خاصة، لقوله تعالى: (أتأتون الذّكْرَانَ من العالَمين) . والأول هو الصحيح، لقوله تعالى: (وما أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رحمة للعالمين) . لأنَّ رحمته - صلى الله عليه وسلم - عمَّت جميع الموجودات. وقد قال لجبريل يوماً: ما نالك من رحمتي، قال له: لولا وجودك لم أذكر بقوله: (ذِي قُوّةٍ عند ذي العَرْش مَكين) . (عَمه) : تحيَّر. ومنه: (ويمدهم في طغيانهم يعْمَهون) . أي يتحيرون في ضلالهم. (عاكفين) : مقيمين للعبادة ملازِمين حيث وقع، ومنه قوله: (طَهِّرَا بيتي للطائفين والعاكفين) . فإن قلت: قد ورد في آية الحج [26] ، مكان العاكفين القائمين، فهل هما بمعنى واحد؟ والجواب المراد بالقائمين ذوو الإقامة والملازمة على صفةٍ مخصوصة، وإذا أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبَّر بأحدهما عن الآخر، مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود، فيكون خصوص آية الحج بقوله: والقائمين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 لتقدم ذكر العكوف في قوله قبل الآية: (سواء العاكِف فيه والبادِ) ، فلما تقدم ذكْر العكوف متصلاً بالآية وقع الاكتفاء بذلك، وعدل عن التكرار الذي من شأن العرب العدول عنه إلا حيث يراد تعظيم أو تهويل، نحو قوله: (الحاقّة ما الحاقّة) ، وشبه ذلك. ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها وهو مرادٌ لكونه أخص بالمقصود لم يكن بدٌّ من الإفصاح، وكان قد قيل في آية الحج: والقائمين، وأغنى ذكرهم متقدماً عن الإتيان به حالاً منبّهة. وأغنى قوله في البقرة: (والعاكفين) عن قوله: (والقائمين) ، لأن العكوف الملازمة، وهو المراد بالقيام، فورد كلٌّ على ما يجب ويناسب. ويراد بالركَّع السجود - المصلون. ومن قال: إن المراد بقوله: والقائمون المصلون فوَجْهه أنَّ ذِكر العكوف قد حصل فيما تقدم، فاكتفي به، ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا بعدها، فلم يكن بدٌّ من ذكره. وعَبّر عن المصلين بالركع السجود. وتحصّل أنه المقصود بالآيتين، ووردتا على ما يلائم. واللَه أعلم. (عدل) : مِثْل، كقوله: (أو عَدْل ذلك صِياماً) . وفدية، كقوله: (ولا يُؤخذ منها عَدْل) . وكذا قوله: (وإن تعدل كلَّ عَدْل لا يُؤْخَذ منها) . والعدل من أسماء الله تعالى، لأن أفعاله كلها عدل، فقيل العدل هو الحق، فكل عدل حق، وما ليس بعدل فليس بحق. فإن قلت: ما وَجْه تقديم العدل في آيةٍ وتأخيره في أخرى؟ والجواب أن في تقديم الشفاعة قَطعاً لطمَعِ مَنْ زَعم أن آباءهم تشفع لهم، وأنَّ الأصنام شفعاؤهم عند الله. وأخَّرها في الأخرى، لأن التقدير في الآيتين لا ئقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول. وقدَّمَ العدل في الأخرى ليكون لفظ القبول مقدماً فيها. (عفونا) : له ثلاثة معان: الصفح عن الذنب، والإسقاط من غير كلفة، ومنه: (ماذا ينْفِقون قل العَفْو) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل، مشاكلة للسؤال، على أن يكون: (ماذا ينفقون) مركباً مفعولاً بـ (ينفقون) . وقرأ أبو عمرو بالرفع بالابتداء مشاكلة للسؤال على أن يكون ما مبتدأ وذا خبره. (عفا) : له أربعة معان: عفا عن الذنب، أي صفح عنه. وعفا أسقط حقّه، ومنه: (إلا أن يعْفون أو يَعفو الذي بيده عقْدة النكاح) . وعفا القوم: كثروا، ومنه: (حتى عَفَوْا) . وعفا المنزل درس. (عنَت) : زنا. ومنه: (لمنْ خَشِي العنَتَ منكم) . وأما قوله تعالى: (لأعْنتكم) ، فمعناه لضيَّق عليكم بالمنع من مخالطتهم. ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى. (عَوَان) : متوسطة بين ما ذكر، ولذلك قال " ذلك "، مع أن الإشارة إلى شيئين. (عَهدْنا إلى إبراهيم) : العهد له معان: بمعنى اليقين: (وأوْفوا بعَهْدِ الله) ، ألا ترى قوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) . ويقال عليَّ عهد الله، أي اليمين باللهِ. وبمعنى الأمان، قال تعالى: (فأتِمُّوا إليهم عَهدهمْ إلى مدّتهم) . وبمعنى الوحي: (إنّ اللَهَ عَهد إلينا) . وبمعنى الوعد: (قل أتَّخذْتم عند الله عَهْداً) . وبمعنى الميثاق: (لا ينال عَهْدي الظالمين) ، أي ما وعدناكَ به لا ينال الظالمين من ذريتك. والوعد من الله ميثاق. وبمعنى المحافظة، ومنه الحديث: حسن العَهد من الإيمان. وبمعنى الزمان، يقال: كان ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد إبراهيم وموسى وعيسى. وبمعنى الوصية كهذه الآية، وكقوله: (ولقد عَهدْنا إلى آدم من قَبْل) ، أي وصيناه ألا يأكل من الشجرة، فنَسِيَ العهد الذي عهدناه، وأكل منها، فآدئم دخل الجنَّة بعهده، وخرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وأنت يا محمديّ تدخل الجنة بعهْدِي، فلا تخرج. والسرّ فيه أنَّ آدم لم يكن له ركوع ولا سجود، ولا جهاد ولا تضرعّ، ولكنه لم يعتقد الزلّة كما قال تعالى: (ولم نَجد له عَزْما) (1) . وإبليس اعتقد الزلَّةَ بعد عبادته ولم يعتذر، فلم تخلّصه حسناته، كالكافر يعتقد الزلاّت الكثيرة، ولا يعتذر. وأنت تعتذر فكيف لا أقبل عذْرك، وقد كلفتك بأوامر كثيرة، ونهيتُك عن نواهي عديدة، وأبوك آدم لم يكن له إلا أمرٌ واحد وهو البعْدُ من الشجرة، وقد قبلت عذْرَه، فإن اعتذرتَ إليَّ ألحقتك بأبيك في السكنى معه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) . (عابدون) : مخلصون. وقيل أذلاّء، من قولهم: طريق معبّد، أي مذلّل قد أثّر الناس فيه. (عزَموا الطَّلاق) ، أي طلّقوا أو آلوا، فيطَلّق عليهم الحاكم. والضمير يعود على المؤْلِين، وطلاقهم بائنٌ عند الشافعي وأبي حنيفة. رَجْعِيّ عند مالك. (عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : في هذه النفقة والكسوة قولان: أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد أوْجَبها الله للأمّ على الوالد، وهو قول الزمخشري وابن العربي. الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وعلى ذلك حملها ابن فورك. (عرَّضتم به منْ خِطْبَة النِّساء) : إباحة للتعريض بخطبة المرأة المعتدَّة. ويقتضي ذلك النهي عن التصريح. (عَلَى الْموسعِ قدَرُه وعلى المقْتِر قدَرُه) : بإسكان الدال وفتحها، وهما بمعنى. وعلّق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: (حقا) . وتعلّق مالك في الندب بقوله: (على المحسنين) ، لأن الحسن تطوّع بما لا يلزم.   (1) هذا الكلام محل نظر، وقد يُفهم من هذا الكلام أن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم - عليه السلام - وهذا كلام مردود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 والحاصل أنه يمتّع كلّ أحد على قدر ما عنده، والموسع: الغنيّ. والمقتر: الضيّق الحال. (على نساء العالمين) : هذا التفضيلُ لمريم ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهما، أو يكون على نساء زمانها. وقيل: هذا الاصطفاء مخصوص بأنْ وُهب لها عيسى من غير أبٍ، فيكون (على نساء العالمين) عامًّا. وقيل: إنها كانت نبيئة لتكيم الملائكة لها، قال بعض العلماء: إن عائشة أفضل من مريم، لأنَّ براءة مَريم كانت على لسان عيسى، وبراءة عائشة كانت بقول الله تعالى. فالربّ الذي تولىّ براءتك وتطهيرك بقوله تعالى: (ولكن يريدُ ليطهِّركم) . (التائبون العابدون الحامدون) . وسمّاكم يا أمَّة محمد بالهداية والخير، والعدل والأمانة، أفتراه يطردهم بعد أن دعاهم إلى نفسه، وهو لا يُريد قبولهم. وقد سمعناه يقول للتائبين: (وإني لغفّار لمَنْ تاب) إذا مشوا إليه برجْل الندامة على قدم الاعتذار، وللعابدين إذا مشوا برجل النّشاط على قدم الجهد والاجتهاد على قدم الدرجات، (ومَنْ يأته مؤمناً قد عمل الصالحات) . وللزاهدين إذا مشوا برجل القناعة على قدم التوكّل مع مراد الله، (تلْك الدارُ الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علُوّاً في الأرْضِ ولا فَساداً) ، وللمحبين إذا مشوا برجل الرضا على قدم المودّة مع مُراد الذكر، (ألا بذكرْ الله تطْمئنُّ القلوب) ، وللمشتاقين إذا مشوا برِجْل المحبة على قدم الإنابة، مع مراد القربة: (وجوة يومئذٍ ناضرة) . فإن قلت: ما الحكمة في تَبْرِيح العارفين؟ فالجواب لأنهم تعهدوا على الكفار بتبليغ الرسالة إليهم. ومن كان شاهداً له يخدمه ويزكّيه ليكون شاهداً له على الحقيقة، قال تعالى: (يا أيُّها الذين آمَنُوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصادقين) . (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) : أي تقرن السماوات والأرض بعضُها إلى بعض، كما تُبْسط الثياب، فذلك عرض الجنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ولا يعلم طولها إلا الله، لأنَّ الله قال لها: امتدّي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، قالت: إلى أيْنَ يا رب، قال: إلى منتهى رحمتي، فقالت: لا منتهى لرحمتك. فقال لها: ولا منتهى لك. وقيل: ليس العَرْض هنا خلافَ الطول، وإنما المعنى سعتها كسعة السماوات والأرض. فإن قلت: إذا كان عرضها هذا، فما معنى ما ورد أنها في السماء، وقيل في الأرض، وقيل بالوَقْف حيث لا يعلمه إلا الله؟ والجواب أن الذي يجب اعتقادُه ويفهم من القرآن والحديث أنَّ الجنة في عالم الجبروت، وأن العرش سَقْفها، كما صحّ في الحديث: "سلوا الله الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة". والآية الكريمة: (قلنا اهْبِطُوا) ، تدلّ على أنها فوق السماوات. وقد قدمنا أنَّ العوالم أربعة: الملك، وهو الدنيا وما فيها. والملكوت وهو السماوات وما فيها. والجبروت وهو اللَّوْح والكرسي والقلَم. والجنة وفوقها العرش الذي تأوي إليه أرواحُ الشهداء. وعالم العزّة لا يَعْلَم ما فيه إلا الله ورسوله الذي زج فيه - صلى الله عليه وسلم - وشاهد فيه من العجائب ما أخبر الله به في قوله: (لقد رَأى مِنْ آياتِ رَبّه الكبْرَى) .، وخلف جبريل عند سِدْرَةِ المنتهى، وقال: يا محمد، لا أقدر على مجاوزة هذا المكان، (وما مِنَّا إلا له مَقام معلوم) . وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً: "أن جهنم محيطةٌ بالدنيا، وأن الجنة من ورائها، فلذلك كان الصراط على جهنم طريقاً إلى الجنة". فإن قلت: يفهم من هذا الحديث أنَّ جهنم تحت الأرض؟ والجواب أنا نقول فيها بالوقف، إذ لا يعلم محلَّها إلا الله، ولم يثبت عندي حديثٌ أعْتَمده في ذلك غير ما رواه ابن عبد البر وضعّفه، عن عبد اللَه بن عمر - مرفوعاً: "لا يركب البحر إلاَّ غازٍ أو حَاجّ أو معتمر، فإنَّ تحت البحر ناراً". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن وهب بن منبه: "إذا قامت القيامةُ أمر بالمغلق فيكشف عن سقَر وهو غطاؤها، فيخرج منه نار، فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شَفِير جهنّم - وهو بحر البحور - نشفته أسرعَ من طرفة عَين، وهو حاجز بين جهنم والأرضين، فإذا نشفت الأرضين السبع فتدعها جمرة واحدة. وقيل هي في وجه الأرض، لما رُوِي عن وَهْب أيضاً قال: أشرف ذو القرنين على جبل قاف، فرأى تحته جبلا صغيرا إلى أنْ قال: يا قاف، أخبرني عن عظمة الله، فقال: إن شأنَ ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج، يحطّم بعضها بعضاً، ولولا هي لاحترقت من حرّ نار جهنم. وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن عبد الله بن سلام، قال: الجنة في السماء، والنار في الأرض. وروى أن اليهود قالوا لعمر: (جنة عَرْضُها السماوات والأرض) ، فأين النار؟ قال عمر: أفرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل، فقالوا: إنها لمثلها في التوراة. قالوا: إن باب الجنة في السماء وعرضها السموات والأرض. فإن قلت: قد صحّ أنها لا منتَهى لها، وأن العرش سقفها، والعرش له حدّ ومقدار، فما معناه. والجواب أنَّ العرش لها كالخيمة، فلا يلزم أن يكون العرش محتوياً على جميعها، وهذا مشاهد. وقد صح أنها تَبْقَى بلا ساكن حتى يخلق الله لها مَن يسكنها. فتفكرْ أيّها العبد عَبْد مَنْ أنت، ومَنْ أنْتَ حتى أهَّلكَ لخدمته وعرَّفك به حتى طلبته، وما قيمة أعمالك في جَنْب مَنْ عبده، فاحمد الله على أن أهَّلك لخطابه، وجعلك من أحبابه، وإياك ومعصيته، فإنها تورثك بُعْده. أما علمت أنّه على قَدْر معرفتك به هنا تكون رؤيتك له هناك، وبمعرفتك له يتولّد منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 التعبُ، لكنها توصلك إلى رؤيته التي يزول عنك بها النَّصَب والكَرْب، ولما علم سبحانه أنَّ الدنيا دار مِحَن ومعايش، جعل لهم هذه المعرفة التي يتوصَّلُون بها إلى رؤية ذاته، وعلى قَدْر طول الغربة يكون سرور الأوْبة، ولو رأيناه بغير تعب لما وجدنا لها لذّةً، ألا ترى آدَم لم يعرف قدرها حتى خرج منها، والمسوقُ بالتعب ألذّ من المسوق بلا تعب، فالمعرفة ميدان الخدمة، والرؤية ميدان الراحة، والمعرفة تكون مع بُعْد عن المراد، والرؤية مع قرب النفس إلى المراد، والمعرفة مع الخوف والخطر، والرؤية مع الرضا والكرامة. والمعرفةُ أول الكرامة، والرؤية تتمتها، والمعرفة في جوار الشيطان، والرؤية في جوار الرحمن، والمعرفة البراءة عن الخلق، والرؤية الوصول إلى الحق. والمعرفة للواصفين، والرؤية للواصلين. والمعرفة في الجنس، والرؤية في الأنس. وأهل المعرفة يشتاقون إلى موضع الواصلين، والواصلون لا يشتاقون إلى موضع العارفين، فكلُّ من رأى فقد عرف، وليس من عرف قد رأى. فإن قلت: لم خصّت هذه الآية بما تمهَّد فيها من قصد المبالغة والتعظيم من قوله: (سارِعوا إلى مغفرة) ، دون آية الحديد؟ والجواب لبنائها على الحضّ على الجهاد وعظيم فَضْلِه، وذكر قصة بَدْر واحُد من لدن قوله: (وإذْ غَدَوْتَ من أهلك تبَوِّئُ المؤمنين) . إلى ما بعد الآية المتكلم فيها، ولما لم يكن في آية الحديد شيء من ذلك ناسب كلاما ورد فيها. واللَه أعلم. (عَزَمْتَ) ، أي صححت رأيك فيما مضى من الأمر. والمخاطب بذلك نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (عَاشِرُوهُنَّ) ، أي صاحبوهن بالمعروف، وأمر الله في هذه الآية الرجالَ بالصفح عنهن وممازحتهنّ وخدمتهن بما أمكن، وله عليها أعظم من ذلك، لقول الله العظيم: (ولِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجةٌ والله عَزِيرٌ حكيم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 (عَضل) المرأة، أي منعها من الزواج، ومنه: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) . (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) . قال ابن عباس: هي في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوّج بعده، إلا أنَّ قوله: (مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) على هذا معناها ما آتاها الرجلُ الذي مات. وقال ابن عباس أيضاً: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة َ ويسيئون عِشْرَتها حتى تفْتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: (مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) . ويقَوِّيه قوله: (وعَاشِرُوهنَّ بالمعروف) ، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم، وقيل هي للأولياء. (عَاقر) : له معنيان: المرأة العقيم. واسم فاعل من عقر الحيوان. (عَزّرْتموهم) : نصرتموهم، وأعنتموهم. (عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) : اعتداء، استدل المالكية بهذا على سدِّ الذرائع، يعني لا تسبّوا آلهتهم، فيكون ذلك سبباً لأن يسبّوا الله. (عند الله) : يعني الآيات بيد الله لا بيدي. (عَتَوْا) : تكبّروا وتجبّروا، وهم الذين لا يقبلون الموعظة. (عَدَل) يعدل عدلاً: ضد جار، وعدل عن الحق عدولاً، وعدلت فلانا بفلان سوَّيْت بينهما، ومنه: (ثم الذين كفَروا بربهم يَعْدِلُون) . ودخَلَتْ (ثم) لتدلَّ على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السماوات والأرض والظلمات والنور. وكذلك قوله: (ثم أنْتم تَمْتَرون) ، استبعاد لأن يمتروا فيه بعد وضوح آياته، وبعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فِعْلهم، وتوبيخ لهم. (والذين كفروا) هنا عامّ في كل مشرك، وقد يختصّ بالمجوس بدليل ذِكْر الظلمات والنور، أو بعَبَدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 (عَرَض الدُّنيا) .: عتاب لمن رغب في فداء الأسارى، فإذا عاقب أحبَّ خَلْقِه على هذا الشيء التافه فما بالك بمن هو منغمس في الحرام، مرتكب للآثام، قد غلب عليه سكر الدام، لا يرْعَوِي عن قبيح، ولا يَزْدَجر عن لوم. هذا وقد أحل الله لهم الأكل من الغنائم مع احتياجهم إليها. (عَيْلة) : فَقْرًا، وذلك أن المشركين كانوا يجلبون الأطعمة إلى مكة، فخاف بعضهم قلَّةَ القوت بها إذا منع المشركون منها، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فَضْله، فأسلمت العربُ كلها، وتمادى جلْبُ الطعام إلى مكة، ثم فتح المسلمون سائرَ الأمصار. (عَنْ يَدٍ) : عن قهر وذل فيدفعها بيده لا يبعثها مع أحد، ولا يمطل بها، كقولك: يدًا بيد. وقيل عن استسلام وانقياد، كقولك: ألْقى فلان يَدَه. وقيل عن إنعام منكم عليهم بذلك، لأنَّ أخْذ الجزية منهم وتَرْك أنفسهم عليهم مِن بَذْل المعروف. (عزيز) : اسم الله تعالى: معناه الغالب، ومنه: (عزَّني في الخطاب) ، أي غلبني. والغلبة ترجع إلى القدرة والقوة، ومنه: (فعزَّزْنا بثالثٍ) ، أي قوّينا. وقيل العزيز العديم المثل. وأما قوله تعالى: (عزيز عليه مَا عنِتُّم) . فعزيز صفةٌ للرسول، وما عنتّم فاعل بعزيز، وما مصدرية. أو (ما عنتّم) مبتدأ و (عزيز) خبر مقدّم. والجملة في موضع الصفة. والمعنى أنه يشقّ عليه - صلى الله عليه وسلم - عَنتكم وما يضركم في دينكم ودنياكم، يقال عزة يَعزه عزا إذا غلبه. ومنه قولهم: منْ عزَّ بزَّ، أي من غلب سلب. (عَدْن) : هي أعظم مدن الجنة. وقيل هو اسم علم على الإقامة. (عاصم) : مانع، ومنه قوله تعالى: (لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ الله إلاَّ مَنْ رَحِم) . وتحتمل الآية أربعة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أحدها: أن يكون (عاصم) اسم فاعل، و (مَنْ رحم) كذلك بمعنى الراحم. فالمعنى لا عاصم إلا الراحم، وهو الله تعالى. والثاني: أن يكون (عاصم) بمعنى العصمة، أي معصوم، و (مَنْ رحم) بمعنى مفعول، أَي منْ رحمه الله. فالمعنى لا معصوم إلا مَنْ رحمه الله، فالاستثناء على هذين الوجهين متصل. والثالث: أنْ يكون (عاصم) فاعل، و (مَنْ رحم) بمعنى المفعول، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن مَنْ رحمه اللَّهُ فهو المعصوم. والراجى: عكسه، والاستثناء على هذين منقطع. (عذابٌ يُخْزِيه) : هو الغرق، والعذاب المقيم عذاب النار. (عَمَلٌ غَيْر صالح) : فيه ثلاثة تأويلات على قراءة الجمهور: أحدها: أنْ يكونَ الضمير في (إنّه) سؤال نوح نجاة ابنه. والثْاني: أن يكون الضمير لابْنِ نوح، وحذِفَ مضاف من الكلام، تقديره: إنه ذو عمل غير صالح. والثالث: أن يكون الضمير لابن نوح، وما مصدر وُصف به مبالغة. كقولك: رجل صوم. وقرأ الكسائي عمل - بفعل ماض، غَيْرَ صالح - بالنصب. والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال، لأن الله تعالى لما أراد أن يعذبه قطع نسبَه عنه، ووصفه بعدم الصلاحية. وأنتَ يا محمديّ أضافك إلى نفسه، بقوله: يا عبادي، وإلهكم، أفَتراه يعذِّبك بعد هذه الإضافة. ولذلك قيل الإشارات ستة: إشارة إلى المتقين بقوله: (وسارِعوا إلى مَغْفِرةٍ مِنْ رَبِّكم) . وإشارة العابدين: (فاسْعَوْا إلى ذكر الله) . وإشارة العاصِين: (يا عبادِي الذين أسرفوا على أنفسهم) . وإشارة الهاربين إلى حِصْنه: (فَفِرُّوا إلى الله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 وإشارة التائبين إلى الفلاح: (وتوبوا إلى الله جميعاً) . وإشارة أهل الكتاب إلى الفلاح: (يا أهل الكتاب تعَالوا إلى كلمة) . وإذا أردت محبةَ الله لعباده فانظر كيف خفَّف المعصية َ على النفس، وثقل عليها الطاعة، ليكون لها حجة، ويقبل عذرها إذا رجعَتْ إليْه، فاللهُ يُثيبُ المطيعَ بغاية الثواب للامتثال، ويعاقب الكافر بأقبح العقوبة للمخالفة، والعاصي يعاقبه في الدنيا بأنواع الأمراض والأسقام حتى في قطع شِسْع نعْله إن لم يتبْ، حتى يلقى الله ولا ذَنْب عليه. قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) . (عاهدتُم من المشركين) : إنما أسند العَهْد إلى المسلمين، لأن فعْل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لازم للمسلمين، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم مَنْ وفى، فأمر الله أن يتمَّ عهدَه إلى مدته، ومنهم مَنْ نقض أو قارب النقض، فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد. (عَاهدْتَ منهم) : يريد بني قُرَيظة. (على سَوَاءٍ) ، أي على مَعدلة. وقيل معناه أنْ تستوي معهم في العلم فتنقض العهد. (عَرَضاً قريباً) : هذا الكلام وكثيرٌ مما بعده في هذه السورة في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزْوَة تبوك، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحرِّ وطيب الظلال والثمار، فثقلت عليهم، فأخبر الله في هذه الآية أنَّ السفر لو كان لعرض الدنيا أو مسافة قريبة لاتّبعوه. (عفَا الله عنك لِمَ أذنْتَ لهم) : قدَّم الله العفْو لنبيّه قبل عتابه، إكراماً له وجَبْرًا لقلْبه أن ينصدع، وذلك لخوفه من ربه، كأنه قال: أصلحك الله يا محمد، لِمَ أذِنْتَ لهم في التخلّف عن الخروج معك حتى يتبيّن لك الذين صدَقوا وتَعْلم الكاذبين، لأنهم قالوا نستأذنه في القعود، فإن أذِن لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 قعدنا، وإن كان يظهر الصدق من الكذب، وإن لم يأذن قعد العاصي والمنافق ويسافر المطيع. (عَنِيد) : ومعاند وعَنود بمعنى واحد، أي معارض للحق مخالف، يقال: عِرقٌ عَنود، وطعنة عنود، إذا خرج الدم منها على جانب. (على تقْوَى مِنَ الله) : أي حسن النية في تأسيس بُنْيانه، وقصد وَجْه الله، وإظهار شرعه. والمراد به مسجد المدينة، أو مسجد قبَاء. (على اللهِ رِزْقُها) : قد قدمنا أنه وَعْد وضمان. فإن قيل: كيف قال: (على الله) بلَفْظِ الوجوب، وإنما هو تفضُّل، لأن اللَه لا يجب عليه شيء؟ والجواب أنه ذكره كذلك تأكيداً في الضمان، ولأنه لما وعد فيه صار واقعاً لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد. (عَرْشُه على الماء) : دليل على أنَّ الماء والعرش كانا موجودين قَبْل خَلْق السماوات والأرض، فسبحان مَنْ لا يُشْبه صنعَه صنع المخلوقين، ولا تدرك حَقائق حكمته بصيرة المحققين، إبليس كانت قبلته العرش، فصار مخذولاً ومطروداً، وعمر بن الخطاب كانت قبلته الصنم فصار مودوداً ومحموداً، إذا أراد الله أن يدْخِل المنافق فيمن يوافق، وإذا لم يرد إدخال الموافق فيمن ينافق لا رادَّ لقضائه، ولا معَقَب لحكمه، سمكة أخذنها اليهود فصاروا قردة، وسمكة أخذت يونس فصارت رئيس السمكِ. (عَلَى أمَم مِمَّنْ مَعَكَ) ، أي في السفينة. واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذريّة ممن معك. ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة. فَمِنْ على هذا لابتداء الغاية، والتقدير على أمم ناشئة ممن معك. وعلى الأول تكون (مِنْ) لبيان الجنس. (عذَابٍ غَليظ) : يحتمل أن يريد به عذابَ الآخرة، ولذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 طف على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح. ويحتمل أن يُريد بالثاني أيضاً الريح، وكرّره إعلاما بأنه عذاب غليظ، وتعديد النعمة في نجاتهم. (عَصَوْا رسلَه) : في جمع الرسل هنا وجهان: أحدهما: أن مَن عصى رسولاً واحدا لزمه عِصْيان الجميع، فإنهم متفقون على الإيمان بالله تعالى وعلى توحيده. والثاني: أن يراد الجنس، كما قدمنا. وانظر كيف شنَع كفْرَهم، وهَوّل على فعلهم بحرف التنبيه وبتكرار أسمائهم. (عَصِيب) : شديد. (عَالِيها سَافِلَها: الضمائر لمدائن قوم لوط، واسمها سدوم. يقال: أحور من قطاة سَدوم. روي أن جبريل أدخل جناحَه تحت مدائنهم واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخَ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة. (عليها حجارة مِن سِجِّيل) : أي على المدائن. والمراد أهلها ومَنْ كان خارجاً منها. وأما من كان فيها فقد هلك بقلْبها. (على العرش) ، أي على سرير الملك، يعني أنَّ يوسف رفع أبويه على العرش وخَرّوا سجداً، لأنه كان تحية السلام عندهم السجود، وإنما سمى خالته أمّاً لأن العرب تسمِّيها أمًّا وكان يعقوب تزوّجها من بعد وفاة أم يوسف. والإشارة فيه أن يعقوب لما تغرّب من كنعان جعل حِجْر يوسف مأواه. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تغرّب من أبويه جعل حجر أبي طالب مأواه. وأنت يا محمديّ إذا تغربت في الدنيا، وجعلت الآخرةَ منزلك جعل الله الجنة مَأواك، قال تعالى: (فإنّ الجنةَ هي المأوى) . (عَمْر) ، وعُمْر، بالجزم والضم واحد، وهو الحياة، ومنه: (لعَمْرك) ، ولا يكون في القَسم إلا مفتوحاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 (عَبر) : يعبر: له معنيان: من عبارة الرؤيا، ومنه: (إن كنتم للرؤْيا تَغبرون) . ومن الجواز على الموضع. ومنه: (عابري سَبيل) . (عَمِين) ، وعَمون، جمع علم، وهو صفة على وزن فَعِل، بكسر العين، من العمى في البصر، أو في البصيرة. (عَمَدٍ تَرَوْنَها) : اختلف العلماء: هل للسماء أعمدة تروتها. فالقائل بها قال: لها جبل قاف، وهذا القائل يجعل الضمير في ترونها عائد على العَمَد، فيكون المعنى أنها مرفوعة بغير عمد مرئي. وهذا لا يصح. والصواب مذهب الجمهور أنها مرفوعة بغير عَمد. واستدل به ابنُ عبد السلام على أنَّ السماءَ بسيطة، إذ لو كانت كورية لما احتيج إلى قوله: (بغير عمد) ، لأن الكورية مرفوعة بعمد يعتمد بعضها على بعض) . ابن عرفة: وهذا لا حجة فيه، لأنَّ الناس لا يعرفون ولا يقطعون بكونها كورية أو بسيطة، وإنما يصحّ هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين، فيقال لهم: (بغير عمَد) ليفهم كمالُ القدرة. ورُوي أن ذا القَرْنَين لما وصل إلى جبل قاف صعد عليه حتى ربط خَيْله بجانب السماء، وهذا يحتاج لنَقْل صحيح. (عد) ، بغير ألف: من العدد، وأعد بالألف: يَسَّرَ الشيء وهيّأه. (عَضُدا) : أعوانا. (عَرَضْنا جهنَّم) ، أي أظهرناها حتى رآها الكفار. (عَنَتِ الوجوه) ، أي ذلّت وخضعت، وكيف لا تخضع وتذل، والأنبياء يومئذٍ يقولون: نَفْسي نَفْسي، لا أسألك غيرها!. واعلم أنَّ الله ذكر الوجوه في القرآن على سبعة أوصاف، ورتّب وجوه الكفار في الآخرة على سبع: وَجه التسليم: (أسْلَمْتُ وَجْهي) . ووَجْه العبرة: (على وَجْهِ أبي) . ووجه الرضا والتفويض: (قد نَرَى تقلُّبَ وَجْهك) . ووجه العبادة: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ووجه الإقبال والطاعة: (فوَلوا وجوهَكم شَطْره) . ووجه الإخلاص: (وجَّهْتُ وَجْهي) . ووجه الطهارة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) . وأما وجوه الكفار فذكر لها سبعة ألوان من العذاب: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) . (يضربون وجوههم وأدبارهم) . (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) . (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) . (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) . (وجوه يومئذٍ عليها غَبَرة) . (فأما الذين اسوَدَّتْ وجوههم) . فإياك أيها الأخ أن يكون وجْهك أحدَ هذه الوجوه، واحرص على أن يكون من الوجوه السبعة الذين ذكرهم الله في الآخرة، قال تعالى: (تعرف في وجوههم نَضْرةَ النَّعيم) . (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) . (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) . (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) . اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كلَّ شيء رحمة وعلما. (عَزْما) : رأياً مَعْزوما عليه. (عَشِير) : صاحب. (على عروشها) : قد قدمنا أن المراد به السقف حيثما وقع. وعرش الله أعظم المخلوقات، ونسبة السماوات والأرض إليه كحلقة ملقاةٍ في فَلاَة من الأرض، ويحمله الأملاك على كواهلهم، ذاكرين الباقيات الصالحات، وإلا لعجزوا عنْ حَمْله. (عَذاب يومٍ عَقِيم) : يعني يوم بَدْر. ووصفه بالعقيم، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 لا ليلة بعده ولا يوم، لأنهم يقْتَلون فيه. وقيل هو يوم القيامة، والساعة مقدماته. ويقوِّي ذلك قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) . ثم قسم الناسَ إلى أصحاب الجحيم وأصحاب السَّعِير. (على أعْقَابكم تَنْكِصُون) ، أي ترجعون إلى وراء. والضمير راجع إلى المترفين، وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات، وهي القرآن. (عَنِ الصرَاطِ لنَاكِبُون) ، أي عادلون. ويحتمل أن يكون صراط الدنيا، وهو المقصود الموصّل إلى الصراط الحسي. (عَدَد سنِين) : يعني في جوف الأرض أمواتاً. وقيل أحياء في الدنيا. ويقال ذلك لأهل النار على وَجْه الاستهزاء والسخرية، فيجيبون بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، لاستقصار المدة، ولِمَا هم فيه من العذاب بحيث لا يعدّون شيئاً، فيقال لهم: اسأل (العَادِّين) . ويعنون به مَنْ يقدر أن يعدّ، وهو من عُوفي مما ابْتلوا به، ويعنون الملائكة. (عَبَثا) ، أي باطلا. والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب. (عذابَهَا كان غَراماً) ، أي هلاكاً وخسراناً. وقيل مُلازماً. ويحتمل أن يكون هذا من كلامِ أهلِ النار، أو من كلام الله عز وجل. (عَبَّدْتَ بني إسرائيل) ، أي ذَلّلتهم واتخذتهم عبيداً. ومعنى هذا الكلام أنك عددت نعمةً عليَّ تعبيد بني إسرائيل، وليست في الحقيقة بنعمة، إنما هي نقمة، لأنك كنْتَ تذبح أبناءهم، فلذلك وصلتُ أنا إليك فربَّيْتَني، فالإشارةُ بقوله: (تلك) إلى التربية، و (أنْ عَبّدت) في موضع رفْع عطف بيان على (تلك) ، أو في موضع نصب، على أنه مفعول من أجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وقيل معنى الكلام تربيتك نعمة عليَّ، لأنك عَبَّدْتَ بني إسرائيل. وتركتني، ففي المعنى الأول إنكار لنعمته، وفي الثاني اعتراف بها. (عَوْراتٍ لكم) : معنى العورة الانكشاف فيما يكره كَشْفه، ولذلك قيل عورة الإنسان، وهي ما بين السرة إلى الركبة، وضمير خطاب الجمع يعود على جواز الانكشاف في غير هذه الأوقات الثلاثة، وهي قبل الصبح، وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الآخرة. وقد قدمنا في حرف الثاء أنَّ هذه الآية محكمة، وقول المستأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الانصراف واحتجاجه: إن بيوتنَا عَوْرة - فمعناه منكشفة للعدوّ، وخالية، وقيل خالية للسراق، فكذَّبهم الله في ذلك بقوله: (إنْ يريدون إلا فرارًا) منك يا محمد. (عَرَاء) : الأرض التي لا شجر فيها ولا ظلّ. وقيل يعني الساحل. (على شَرِيعةٍ من الأمْرِ) ، أي على ملّة ودين. (عارضاً مستَقْبِلَ أوْدِيتهم) : قد قدمنا أن العارضَ السحاب، والضمير يعود على قوم عاد، فلما رأوْا هذا العارِضَ ظنّوا أنه مطر، ففرحوا به، فقال لهم هود: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) - عموم يراد به الخصوص. (عَرَّفها لهم) : الضمير يعود على أهل الجنة، يعني أَنّ الله عرفهم منازلَهم فيها، فهو من المعرفة، ولذلك صح في الحديث: "إن أحدهم أعرف بمنزله فيها من معرفته بمنزله في الدنيا". وقيل: إن الله طيَّبها لهم، فهو من العَرْف، وهو طيب الرائحة. وقيل معناه شرَّفَها ورفَعها، فهو من الأعراف التي هي الجبال. (عاصف) : ريح شديدة. والعَصْف ورق الزرع. وقيل التبن والرَّيحان. وقيل هو الريحان المعروف. وقيل كل مشموم طيِّب الريح من النبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 (عَبْقَرِيٍّ) : منسوب إلى أرض يعمل فيها الوَشْي وهي خَبرة، وهو المدوح من الرجال والفرش. وتزعم العرب أنه بلد الجان، فإذا أعجبها شيء نسبَتْه إليه. والمعنى أن الله وصف طنافس أهل الجنة وزَرَابيهم ونسبها إلى عبقر. وفي الحديث في نزع عمر: فلم أر عبقريًّا يَفْرِي فَرِيّه. (عَتَتْ عن أَمْرِ رَبّها) ، أي تكبَّروا وتجبّروا. والضمير يعود على القرية، والمراد أهلها، وكذلك: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) . وهذا كلّه في الدنيا، لأنه قال بعده: (أعَدَّ اللَّهُ لهم عذاباً شديدًا) . ولأن قوله: فحاسَبْنَاها وعذّبْنَاها - بلفظ الماضي، فهو حقيقة فيما وقع، مجازٌ فيما لم يقع. ومعنى (حَاسَبْنَاهَا) ، أي وأخذناهم بجميع ذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها، والعذاب هو عقابهم في الدنيا. والنُّكر هو الشديد الذي لم يُعْهَد مثله. فاشكر الله يا محمديّ على أن عقوبتك إنما هي في الدنيا إذا لم تَتبْ من الذنب ولم تستغفر - بالآلام والأمراض والأسقام، ولا يجمع عليك عقوبتين، وإن استغفرت فتكتب لك حسنات. (عَلاَ في الأرْض) ، يعلو: تكبَّر، ومنه: (قَوْماً عَالِين) . والعليّ اسمُ الله، والمتعالي والأعلى من العلاء، بمعنى الجلاَل والعظمة. وقيل بمعنى التنزيه عما لا يليق به. (عزب) الشيءُ: غاب. ومنه: (وما يَعْزبُ عن رَبِّك) ، أي لا يخفى عنه. (عبس وبَسَر) : البسور: تقطيب الوَجْهِ، وهو أشدّ من العبوس. والمراد بهذا الوصف الوليد بن المغيرة لمّا حسد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يَدْرِ ما يقول فيه، وضاقت عليه الحيل عبس في وجهه، وقال لما قال له: إن قريشاً قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 أَبغضتك لمقَارَبتك لحمد، ففكّر في نفسه، وقال: أقول فيه قولاً يرضيهم. فقال: أَقول في القرآن شعر، ما هو بشعر. أقول كاهن، ما هو بكاهن. أقول سحر، وإنه قول البشر غير منزل من عند الله. (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) . أي حيث شاؤُوا من منازلهم تفجيرا سهلا، لا يَصْعب عليهم. وفي الأثر: إن في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة عيناً تتفخر إلى قصور الأنبياء والمؤمنين على قَدْر اتَباعهم له. وكيف لا وهو مَنْبَعُ الخير الدنيوي والأخروي، وجميع علومهم متفجرة مِن علْمِه - صلى الله عليه وسلم -، وهل نال جميع الموجودات من الخيرات إلا مِنْ فَيْضَ جودِه، أو هل خلق اللَّهُ الجنةَ إلاَّ من أجله، فيعطيها مَنْ شاء مِنْ خَلْقه. و (عَيْناً) في الآية بدلٌ من كافور، على القول بأن الخمر تمزج بالكافور. وبدل من موضع (كأس) على القول الآخر، كأنه قال: يشربون خمرا خَمْر عين. وقيل: هو مفعول بـ (يشربون) . وقيل منصوب بإضمار فعل. قال ابن عطية: الباء زائدة، والمعنى يشربها. مهذا ضعيف، لأن الباء تزاد في مواضع ليس هذا محلّها، وإنما هي كقولك: شربت الماء بالعسل، لأن العين المذكورة يمزج بها الكأس من الخمر. فلتتأَملْ أَيها الناظر إلى وصفهم بالعبودية وإضافتهم إلى الوصف العظيم. تعرف بذلك عظيمَ منزلتهم، ويشهد لذلك تشريف نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده) ، ولم يقل بنبيّه، لأن العبودية أشرف التحلية. وإذا تأملْتَ وصف العبودية في القرآن لا تجِدها إلاَّ لمَنْ يتصف بالطاعة. كقوله: (وعِبَاد الرَّحْمنِ الَّذِين يمْشون على الأرض هَوْناً) . فما أحسنها من إضافة من محبٍّ لمحبوب، مرةً أضافهم إلى الاسم العظيم، ومرة إلى الرحمة، وأعظم من هذا أنه أضاف العاصي إلى نفسه، بقوله: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) ، كي لا يقدر إبليس أن يسلبه منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 ولا يضرّه، فالذي أضافكَ إليه مع عصيانك أتراه لا يرزقك، أو إن رجَعتَ إليه لا يَقْبَلك، أو إن استغفرته لا يغفر لك، كلا، والله، بل يقبلك على ما فيك من العيوب، فسبحان مَنْ خلق الْخَلق ليرزقهم، ويظهر قدرته فيهم. ويُميتهم ليظهر قَهْرَه، ويُحْييهم ليظهر جلالته، ويدخلهم جنّتَه ليظهر فَضْله، ويعذبهم ليظهر عدله فيهم ونِقْمته، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) . (عَطَاءً حِسَاباً) : أي كافياً، من أحْسَبَه الشيء إذا كفاه. وقيل معناه على حسب أعمالهم. ويقال أصل هذا أن تعطيه حتى يقول حَسْبي حسبي، فهناك أعطاهم بغير حساب. وفي موضع قال: (كَفى بنَا حاسِبِين) . وهم العاملون بالفَضْل. وفي موضع قال: (كفى بنفسك اليومَ عليك حَسِيباًَ) . وهم مَنْ أراد اللَّهُ أن يعامِلهم بالعدل. (عَسْعَس) : من الأضداد. ويقال عسعس الليل: أقبل ظلامه في أوله، وقيل في آخره. وهذا أرجح، لأنَّ آخر الليل أفضله، ولأنه أعقبه بقوله: (والصبح إذا تنَفَّس) ، أي استطار واتسع ضَوْءه. (عَدَّلك) ، بتشديد الدال: قوَّم خَلْقك، وبالتخفيف: صرفك إلى ما يشاء من الصورة في الْحُسْن والقبْح، والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك، من اختلاف الصور. وبالجملة فابن آدم من أكرم المخلوقات في تعديل صورهم في أيديهم، والمشي على أرجلهم، وانتصاب قامتهم، وتركيب أجسادهم، والعلم والعقل، والأكل باليمين، وسَتْر العورة، واللباس، والرجال باللّحى، والنساء بالذوائب. فتأمَّلْ يا ابن آدم في هذه الكرامات التي أكرمك بها، وأضافك بالكرامة إليه، في قوله: (ما غَرَّكَ بربِّكَ الكريم) . وإلى رسوله في قوله: (إنه لقَوْلُ رسولٍ كريمٍ) . وإلى كلامه في قوله: (إنه لقرآن كريم) . وإلى مدخل رحمته: (وندخلكَم مدْخَلاً كريماً) . وإلى تفصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 أعضائك من عَظْم ولحم، ومخ وعصب وعروق ودم، وجلد وظفر وشعر، كل واحد منها لحكمة، لولاها لم يكن الجسد بحسب العادة، فالعظائم منها هي عمود الجسد، فضمّ بعضها إلى بعض بمفاصِلَ وأقْفال من العضلات والعصب - ربطت بها، ولم يجعلها عظماً واحداً، لأنك ترجع مثل الحجر، ومثل الخشبة، لا تتحرك، ولا تجلس ولا تقوم، ولا تركع ولا تسجد لخالقك، وجعل العصب على مقدار مخصوص، ولو كان أقواها هو لم تصحّ عادة حركةِ الجسم، ولا تصرّفه في منافعه، ثم خلق الله تعالى المخَّ في العظام في غاية الرطوبة، ليرطب يَبس العظام وشدّتها، ولِتَقْوى العظام برطوبته، ولولا ذلك لضعفت قوّتها، وانخرم نظام الجسم لضعفها بحسب مجرى العادة. ثم خلق اللحم، وعبّأه على العظم، وسدّ به خللَ الجسد كله، فصار مستوياً لحمة واحدة، واعتدلت هيئة الجسد به، واستوت. تم خلق العروق في جميع الجسد جداولَ لجريان الغذاءَ فيها إلى أركان الجسد. لكلّ موضع من الجسد عددٌ معلوم من العروق صِغَاراً وَكباراً، ليأخذ الصغير من الغذاء حاجَته والكبير حاجتَه. ولو كانت أكثر مما هو عليه أو انقص، أو على غير ما هي عليه من الترتيب - ما صحَّ من الجسد بحسب العادة شيء. ثم أَجْرَى الدمَ في العروق سيّالاً خاثراً، ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يَجْرِ في العروق. ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء. ثم كسا اللحم بالجلد، ليَسترَه كلَه، كالوعاء له. ولولا ذلك لكان قشرا أحمر. وفي ذلك هلاكه. تم كساه الشعر وقاية للجلد وزينة في بعض المواضع. وما لم يكن فيه الشعر جعل له اللباس عوضاً منه، وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتمَّ الانتفاغ ببقائه وَلِين أصوله، ولم يحعلها يابسة مثل رؤوس الإبر، إذ لو كانت كذلك لم يَهْنِه عَيْش. وجعل الحواجبَ والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكها الغبار والسقط. وجعلها على وَجْهٍ يتمكن بسهولة من رَفْعِها على الناظر عند قَصْد النظر، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تُؤذى برؤيته ديناً أو دنيا، ولم يجعل شعرها طبقاً واحدا لينظر من خللها. ثم خلق شَفَتيْنِ ينطبقان على الفَمِ يَصُونان الفمَ والحَلْق من الرياح والغُبار. وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح. ولما فيهما أيضاً من كمال الزينة وغيرها. ثم خلق بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطَحْنِه. وجعل اللسان الذي يجمَعُ به ما تفرى من المأكول في أرجاء الفم، ليتمكن تسهيله للابتلاع بطَحْن الأرحاء، وخلق فيه معنى الذوق لكل مأكول ومشروب. وَلم يخلق جَلّ وعلا الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمِّه في حال رضاعه بالعَضِّ، ولأنه لا يحتاج إليها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية التي تفتقر إلى الأسنان، فلما كبر وترعرع وصلح للغذاء خلق له الأسنانَ، وجعلها نوعين: بعضها محددة الأطراف، وهي التي للقطع، يقطع بها المأكول، وبعضها بسيطة وهي التي للطحن، فسبحانه! ما أكثر عجائب صُنْعه، وأوسع الآيات الدالة عليه! ولكن لا نبصر شيئاً إلا بتوفيق الله تعالى. ثم لما كان المأكول شديداً كثيفاً، ولم يكن مجرى في الفم إلى الْحَلْق - وهو كذلك على يبسه - أنبع الله تعالى في الفم عيْناً نَبّاعة على الدوام أحْلَى من كل حلو، وأعذب من كل عذب، فيحرك اللسان الغذاء، ويمزجه بذلك الماء، فيعود زلقاً، فينحدر في الحلق بلا مؤونة، ولهذا إذا أبدل الله تعالى تلك العين جفوفاً من المرض لم يَمْضِ على الحلْق شيء، وإن مضى فبمشقَّة عظيمة، ومن عجيب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كلّ وَقْتٍ حتى يتكلفَ الإنسان مؤونة عظيمة في طَرْح ذلك عنه. جرت على وَجْه الحكمة فيه أن تعدد أوْجُه منفعتها، (فتبارك الله أحسن الخالقين) . ثم خلق أظفار اليدين والرجلين، لتشتدَّ بها أطرافها، لكثرة حركتها. والتصرف بها في الأمور، وليحكّ بها، وينتفع في موضع الحاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 وانظر إلى خلْق الأصابع، وجعلها مفرقة ذات مفاصل، ليتمكن بذلك من قَبْضها وبَسْطِها بحسب الحاجة. ولما كان الشّعر والظّفر مما يطول لما في طولها من الصالح لبعض الناس، وفي بعض الأوقات، وكان جَزّها مما يحتاج إليه في بعض الأوقات، لم يجعلها كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعها. فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل، وحُسْن المعاني مِنْ ربّ جميل لجميع الحيوان، وخص هذا الآدمي بخصائص وحِكم يُعْجِز ذكرها. وقد أشرنا إلى بعضها، وقد ذكر أهل التشريح تفصيلها. وبالجملة فهذا الآدميّ هو العالَم الأكبر، وجميع المخلوقات هو العالم الأصغر، وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرق في كلّ الأشياء، فإن كان للسماء علوّ فللآدَمِيّ القامة. وإن كان في الفلك شمس وقمر فللآدمي العينان. وإن كان له نجوم فللآدمي الأسنان. وإن كان للفلك الدوران فللآدمي السير. وإن كان للسماء القطر فلعين الآدمي الدمعة. وإن كان للبرق لمعة فللآدمي اللمحة. وإن كان للأرض الزلزلة فلنفس الآدمي الرّعْدة. وإن كان للأرض القرار فللآدمي السكون والوقار. وإن كان في الأرض الأنهار فللآدمي العروق. وإن كان للأرض النبات والأشجار فلنَفْسِ الآدمي الشعور. وإن كان في السماء العرش فهمّة المؤمن أعلى وأعظم، وهي متعلقة بالمولى. وإن كان في السماء الجنّة فللمؤمن القلب، وهو أزين منها، لأن الجنة محل الشهوة، والقلب محل المعرفة، وخازن الجنة رضوان وخازن قلب المؤمن الرحمن. "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". وفي رواية:" القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء". اللهم يا مقَلِّبَ القلوبِ ثبت قلوبنا على طاعتك، وأعِنْها على عبادتك، وهَبْ لها أرواحاً تَقودها إلى مشاهدتك، فإنك قلت: (والسابقون السابقون أولئك الْمقَرَّبون) . (فأصحاب الْمَيْمَنَةِ ما أصْحَاب الْمَيْمَنَةِ) ، وأعِذْنا من أرواح أصحابِ المشأمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 قال بعضهم: للمؤمنين أربعة أرواح: روح الإيمان، وبها عَبَدوا اللَهَ ووَحَّدوه. وروح القوة، وبها جاهدوا أعداء الله. وروح الشهوة، وبها أصابوا لذة المطعم والمشرب والتمتّع. وروح الحياة، وبها تحركوا إلى الطلبات. وأما أصحاب المشأمة فبروح الحياة استعانوا على طول الأمل، وبروح القوة على المعصية، وبروح الشهوة على أخْذ الحرام والشبهة، فلذلك شبههم بالأنعام فقأل: (إنْ همْ إلاَّ كالأنعام) . وقال آخر: إنْ كان في العالم سبع سموات فللآدميِّ سبعة أعضاء، وأمر أن يسجد عليها: اليدين، والرجلين، والركبتين، والوجه. وإن كان في العالم الحيوان فللآدمي القمل والبراغيث والصئبان. وإن كان للعالم شمس فللآدمي المعرفة أنور منها والعلم. وفي العالم النجوم وفي الآدمي العلوم. وفي العالم الطيور وفي الآدمي الخواطر. وفي العالم جبال وفي الآدمي العظام. وفي العالم أربع مِيَاهٍ: عذب، ومنْتن، ومرّ، ومالح. وفي الآدمي العذب في فَمِه، والمرّ في أذنيه، والمالح في عينيه، والْمنْتن في أنفه. فتفكَّر يا ابن آدم كيف خلقك وصوَّرك على سبعة أعضاء، وسبعين مفصلاً. ومائة وثمانية وأربعين عظماً، وثلاثمائة وستين عرْقاً، ومائة ألف وأربعة وعشرين ألف شعرة، حياتها بروح واحدة. وجميع الأجناس المختلفون خالقهم العزيز الجبّار. (عَيْن آنِيَة) : قد قدمنا أنها شديدة الحر، ووَزن آنيَة هنا فاعلة، بخلاف (آنية مِنْ فضة) فإن وزنها أفعلة. (عالية) : نعت للجنة، لكن يحتمل أن تكون من علوّ المكان، أو من علوّ المقدار، أو الوجهين. (عَيْنٌ جارية) : يحتمل أن يريد جنْسَ العيون، أو واحدة شرّفها بالتعيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 (عَلَيْنَا لَلهُدَى) ، أي بيان الخير والشر. وليس المراد الإرشاد عند الأشْعرية، خلافاً للمعتزلة (عائِلاً فأغْنَى) : يقال عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجاً، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله، وهذا الفقر والغنى هو في المال، وغِنَاه عليه السلام هو أنْ أعطاه الله الكفاف. وقيل: هو رِضَاه بما أعطاه الله. وقيل: المعنى وجدك فقيراً إليه فأغناك به. (عَلَق) : جَمْع علَقة، وهي النّطْفَة من الدم، يخلق منها الإنسان. وإنما جمع العلق في سورة اقرأ، لأنه أراد الجماعة، بخلاف قوله: (فإنا خلَقْنَاكمْ مِنْ تُراب ثم مِنْ نطفة ثم مِنْ عَلقة) ، لأنه أراد كل واحدٍ على حِدته، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا. لأنه لم يخلق من علقة، وإنما خُلِق من طين. فليتأمل العاقل خِلْقته من علقة في رَحم مغمومة من دَم حيض، فلما كبر وترعرع صار يخاصِمُ مَوْلاه، كما قال تعالى: (فإذا هو خَصِيم مُبين) . (عَلّم بالقلم) : هذا تفسير للأكرم المذكور قبله، فدل بهذا على أن نعمةَ التعلمِ أكبر نعمة. وخص من التعليمات الكتابة بالقلم، لما فيها من تخليد العلوم، ومصالح الدنيا والدين. وقرأ ابن الزبير علم الخط بالقلم. يا معاشرَ العلماء، قد كتبتُم ودَرَستم، ولو ناقشكم بالمحاسبة لأفلستم، ما يكون جوابكم إذا قال لكم: يا أمَّة أحمد، قد كُرمْتُم وفُضلْتُم، وأعطيتكم ما لم أعطِه أمةً قبلكم، وشرفتكم بما شرفت به الأنبياء. أمَا سمعتم ما قلت لنوح: (اهْبِطْ بسَلام مِنَّا) . ولكم: (وسلام على عباده الذين اصطفى) . وقلت لإبراهيم: (يا نارُ كُونِي برْداً وسلاماً على إبراهيم) ، ولكم: (ثم نُنَجي الذين اتقَوْا) . وأعطيت العَصَا لموسى. ولكم قُلْت: (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وأحييت على يدِ عيسى الْمَوْتَى، وقلت لكم: (أوَ مَنْ كان مَيْتاً فأحيَيْنَاه) . وأعطيت الملك لسليمان، وأعطيتكم الملك، وخصوصاً الملك الكبير. وأحضرت العرش على يد آصف وأزلفْتُ الجنة لكمِ. ولئن بشرت يعقوب بريح القمِيص فقد قلت لكم: (فرَوْح ورَيْحان وجَنّة نعيم) . فبأيّ عمَلٍ تدخلوها، وبأي نية نويتموها، علّمتكم ما لم تعلموا، وخاطبتكم بما تفهمون، واستملت قلوبكم لتأنسوا، فلم تزيدوا إلا بعْداً، ودعوتكم لدار كرامتي فأعرضتم عنها، فلا إليَّ تقرَّبْتمْ، ولا لها أردتمْ، ولا بها تلذّذتم. أما علمتم أنكم لا تَدْعُون لدياركم إلاَّ من تحبّون أن تطعموه، ولا تنسبون إلى أنفسكم إلا مَنْ تريدون أن تكرموه. أما سمعتم قولي: (واللَه يَدْعو إلى دار السلام) . (يدعوكم ليغفر لكم مِن ذنوبكم) ، فلِمَ تقاعستم؟؟!!! اللهم إنكَ أنعمتَ علينا بنعم لا تحصى، وأعظمها الخطُّ بالقلم، وعلمتنا ما لم نكن نعلم، فجعلناها سُلّماً لمعاصيك، فحلمْتَ عنا، ولم تعاجلنا بالعقوبة فضلاً منك علينا، فأنّى لنا بجوابك عند العَرْض عليك، والوقوف بين يديك، إلا قولنا لك: غَرّنا حِلمك وكرمك، فأتْمِمْ علينا جودك وإحسانك، وقولك لعبدك: سترتُهَا عليكَ في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وإن لم يقَعْ منك ذلك فقيِّضْ نبينا وحبيبنا للشفاعة، فإنك أخبرتنا على لسانه الصادق المصدَّق، أنَّ شفاعتَه لأهل الكبائر من أمته، ونحن من أمته المؤمنون به المصلّون عليه. عليه الصلاة والسلام، يا سيد الخلق، ها أنا أتَوَسَّلُ بك إلى ربي في غفراْن ذنوبي. (عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يَعْلَمْ) : يعني العلوم على الإطلاق، أو علْمَ الكتابة بالقلم. وعلى هذا فالإنسان نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: (وعلَّمَكَ ما لم تكن تعلم) . وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب ولم يقرأ. (عَصْر) : دَهْر، أقسم اللهُ به في كتابه، لكن اختلف ما المراد به، فقيل صلاة العصر، أقسم الله بها لفَضْلها، ولذا ورد في الحديث: "مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". أي خسرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وقيل إنه العشيّ، أقسم به كما أقسم بالضحى، ويؤيّد هذا قول أبيّ بن كعْب: سألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن العصر، فقال: أقسم ربكم بآخر النهار. (على الأفْئِدة) : يعني أنَّ النارَ تبلغ القلوبَ بإحراقها. قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع ما في القلوب من العقائد والنيات بإطلاع الله إياها. (عَنْ صَلاَتِهم سَاهون) : هو تركها بالكلية، وهذا كقوله تعالى: (أضاعوا الصلاة واتَّبَعوا الشهوات) . وقيل هم الذين يؤخِّرونها عن وقتها تهاوناً بها، كما ورد في الحديث. وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: واللَه ما ضيَّعوها، وإنما أخَّروها عن وقتها المختار. (عُدْوَان) : ظلْم وتعدّ حيثما وقع. وقوله: (فلا عُدْوَانَ إلاَّ على الظالمين) ، أي فلا جزاء ظلم إلا على ظالم، تسميةً لعقوبته باسم ذنبه. (عَرَفات) : اسم علم للموقف. سمِّي بذلك لتعارفِ الناس به. والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر، لا تنوين صَرْف، فإن فيه التعريف والتأنيث. وقيل: إنما سمي به لأنَّ آدم عرف فيه حواء. (عَرَج) : يعرج - بفتح الراء في الماضي وضمها في المضارع: صعد وارتقى. ومنه: (المعارج) . وعرِج بالكسر في الماضي والفتح في المضارع: صار أعرج. (عرْضةً لِأَيمانكم) ، أي لا تكثروا الحلف به فتَبْتَذِلوا اسمه. ويقال هذا عرضة لك، أي عدة لك. (عقود) : ما عقده المرء على نفسه مع غيره من بيع ونكاح وعِتْق وشِبْه ذلك. وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات، كالحج والصيام وشبه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وقيل: ما عقده اللَّهُ على عباده من التحليل والتحريم في دينه. ويجبُ الوفاء بكل ذلك كما وصّى بذلك في غير ما موضع. (عُرْف) : هو أفعال الخير. وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد. (عُصْبَة) ، أي جماعة من العشرة، ومراد إخوة يوسف بهذا القدرة على النّفْعِ، وأنهم لا يقاومون اطمئناناً لأبيهم. (عُقْبَى الدَار) ، أي عاقبة. وعاقَب له معنيان: من العقوبة على الذنب، ومن العقبى. ومنه: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) ، أي أصبتم عقبى. (عَيْن) : له في القرآن معنيان: العين المبصرة، وعين الماء: وله في غير القرآن معان كثيرة. (عِتِيًّا) ، وعسيًّا وعسوَّا بمعنى واحد، وهو يبس في الأعضاء والمفاصل. وقيل مبالغة والكبر. (عسى أنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدا) : هذا كلامٌ أمِر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله. والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف، أي عسى أن يؤتِيَنِ الله من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوءتي من خبر أصحاب الكهف. واللفظ يقتضي أن المعنى عسى أن يوفقني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرْشَد من خبر أصحاب الكهف وأقرَبُ إلى اللَه. وقيل: إن الإشارة إلى المنسي، أي إذا نسيتَ شيئاً فقُلْ عسى أن يهدين الله لشيء آخر هو أرشد من المنسيّ. (عُقْدة) ، أي خبْسة، والمراد بها الرّتَّة التي كانت في لسان موسى من الْجَمْرَةِ التي جعلها في فِيه، وهو صغير، حين أراد فرعونُ أن يجربه. وإنما قال (عُقْدة) - بالتنكير، لأنه طلب حلَّ بعضها ليَفْقَه قوله، ولم يطلب الفصاحةَ الكاملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 (عُجَاب) ، وعجيب بمعنى واحد، وهو قولُ الكفَّار الذين تعجّبوا من التوحيد ولم يتعجبوا من الكفر الذي لا وَجْهَ لصحته. ورُوي أنَّ المسلمين فرحوا بإسلام عمر، وتغيَّر المشركون لذلك، فاجتمعوا ومشَوْا إلى أبي طالب وقالوا: أنْتَ شيْخُنا وكبيرنا، وقد علمتَ ما فعل هؤلاء السفهاء منا، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابْنِ أخيك، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا ابْنَ أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تَمِلْ كلَّ الْميل على قومك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ماذا تسألونني، فقالوا، ارفض آلهتنا وارْفضنا وندعك وإلهك ". فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيتكم إنْ أعطيتكم ما سألتم أمُعْطِيّ أنتم كلمةً واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، " قالوا: نعم وعشراً، أي نعطيكها وعشر كلمات معها. فقال: قولوا لا إله إلا الله. فقاموا، وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) ، أي بليغ في العجب. (عُرباً) : جمع عَروب، وهي المتودّدة إلى زوجها بإظهار محبّتها، وعبَّر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق. وقيل هن الحسنة الكلام. (عُتلٍّ) ، أي غليظ الجسم، قاسي القلب، بعيد الفهم، كثير الجهل. (عُتْبَى) : معناه الرضا، ومنه: (فما هم مِنَ الْمعْتَبِين) . (ولا هم يُسْتَعْتَون) . والعتاب: العذاب. (عِبْرة) : اعتبارًا وموعظة حيثما وقع. (عِيدا) : كل يوم مجمع، ولذا طلب عيسى المائدة أن تكون تنزل عليهم كلّ يوم عيد. وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعة لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة، لا عيداً يدور، وإنما سُمِّي عيداً لعوْدِه بالفرح والسرور على قومٍ وعلى قوم بالحزن، وكذلك المأتم، سُمِّي بذلك، لأنه لم يتم لأحد فيه أمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) : قد قدمنا سرَّ الإفصاح بأمه، ولم يسمّ امرأة في القرآن غيرها، وذلك لنفي التهمة، لأن العادة بين الْخَلق ألاَّ يصرح الرجل باسم امرأته، فسمّاها الله باسمها كي لا يظنَّ ظانّ أنها زوجته، وخلقه الله بغير أبِ. وكلّم الناسَ في الْمَهد ككلامه في حال الكهولة، وعلّمه التوراةَ في بطن أمهَ، وأحيا الموتى على يديه، وأبرأ الأكْمَه والأبْرَصَ، وأكرمه الله بالزُّهد في الدنيا حيث لم يتخذ من الدنيا شيئاً، ولهذا قال عليه السلام: "مَنْ أراد أن ينظرَ إلى زهْد عيسى فلينظر إلى زُهد أبي ذَرٍّ". وعلمه الخطَّ الجيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: الخط عشرة أجزاء: أحدها لجميع الْخَلْق وتسعة لعيسى ابن مريم خاصة. وكانت مدة حَمْله ساعة. وقيل ثلاث ساعات. وحملَتْ به وهي بنْت عشر سنين. وقيل بنت خمس عشرة سنة. ورفعه الله إلى السماء، وله ثلاث وثلاثون سنة. ونؤمن بنزوله في آخر الزمان، ويقتل الدجال. وفي مسند أحمد من حديث جابر: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنْ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنْ الْعِلْمِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً يَسِيحُهَا فِي الْأَرْضِ الْيَوْمُ مِنْهَا كَالسَّنَةِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالشَّهْرِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالْجُمُعَةِ ثُمَّ سَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ هَذِهِ وَلَهُ حِمَارٌ يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمْ وَهُوَ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ك ف ر مُهَجَّاةٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبٍ يَرِدُ كُلَّ مَاءٍ وَمَنْهَلٍ إِلَّا الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَبْوَابِهَا وَمَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَالنَّاسُ فِي جَهْدٍ إِلَّا مَنْ تَبِعَهُ وَمَعَهُ نَهْرَانِ أَنَا أَعْلَمُ بِهِمَا مِنْهُ نَهَرٌ يَقُولُ الْجَنَّةُ وَنَهَرٌ يَقُولُ النَّارُ فَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجَنَّةَ فَهُوَ النَّارُ وَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّارَ فَهُوَ الْجَنَّةُ قَالَ وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَعَهُ شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ وَمَعَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ وَيَقْتُلُ نَفْسًا ثُمَّ يُحْيِيهَا فِيمَا يَرَى النَّاسُ لَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ النَّاسِ وَيَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَيَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلِ الدُّخَانِ بِالشَّامِ فَيَأْتِيهِمْ فَيُحَاصِرُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 فَيَشْتَدُّ حِصَارُهُمْ وَيُجْهِدُهُمْ جَهْدًا شَدِيدًا ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنْ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ فَيَقُولُونَ هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَيُقَالُ لَهُ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ فَإِذَا صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ قَالَ فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلَا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ. وفي الصحيح أحاديث بمعنى ذلك. وفي أحاديث أنه يتزوَّج ويولَدُ له الولد، ويمكث في الأرض سبع سنين، ويدْفن معه - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح أنه رَبْعة أحمر كأنما خرج من دِيْمَاس - يعني حَمَّاما. وعيسى اسم عبراني أو سرياني، وهو أحد الأربعة الذين سمّاهم الله قبل وجودهم. فإن قلت: قد اختاره الله لإقامةِ دينه، وخَصَّه بما لم يخصّ به أحد غيره، فلِمَ لا يتقدم للصلاة بهذه الأمّة، وما الحكمة في تمثيل الله له بآدم، ولِمَ خلِق من غير أب؟ والجواب أن الله ينزله لتجديد الشريعة المحمدية، فلو أمّ بهم لظنّوا أنه أتى بشريعته المتقدمة، فنفى توهّم ذلك بقوله: ليتقدم إمامكم. وأمَّا تمثيل اللهِ له بآدم فلأنَّ بقاءَ آدم بالتراب وبقاءَ النفس بالريح، والترابُ طيّب والريح طيبة، والتراب يميز الخبيث من الطيب، والريح تميز الْحَبَّ من التَبن، والريح رحمة والأرض رحمة، والأرض مسخرة، قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرْضَ ذَلُولا) . والريح مسخّرة، والأرض مختلفة: خبيث وطيب، وحَزْن وسَهْل، والريح مختلفة منها لواقح وصَرْصر، وصَبا وشمال، ودَبور وجُنُب، والتراب يطفئ النار، والريح أيضاً يطفئها. وكما مثّل الله عيسى بآدم مثّل الدنيا بماء السماء، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 في أنَّ كثرته يضرّ، وقِلّته ينفع. ومثَّل المنفق بالزرع، قال تعالى: (مثَل الذين ينْفِقون أموالَهم) . ومثّل عابدَ الأصنام بالعنكبوت، قال تعالى: (مَثَل الذين اتّخَذوا من دون الله أولياء كمثل العنَكبوت) ، في ضَعْفِ نسجها. ومثّل أعمالَ المنافقين بالسرابَ يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ومثّل أهْلَ الكتاب بالحمار، في قوله: (مَثَل الذين حمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحِمَار يحمل أسفاراً) . ومثّل بلعام بالكلب، قال تعالى: (فمَثَلُه كمثَلِ الكلْب) . وشبَّه التوحيد بشجرة النخلة، قال تعالى: (كشجرة طيِّبَة) . والكفر بشجرة الدِّفْلَى كما قدمنا. ومثَّل آدم بالتراب. وخلق الله عيسى من غير أب، ليكون دليلاً على ثبوت الصانع. وذلك أنه خلق آدمَ مِنْ غير أبِ ولا أمّ، وخلق عيسى من غير أب، وخلقك من أبٍ وأم، ليكون دليلاً على وحدانيته، وكمالِ قدرته، وبطلان الطبع والنجوم. (عِوَجا) : اعوجاج حيثما وقع بكسر العين في المعاني التي لا تحَس، وبالفتح في الأشخاص ونحوها. ومعناه عدم الاستقامة، ومعناه في قوله: (ولم يجعل له عِوَجا قَيماً) . الذي لا تناقضَ فيه، ولا خَللَ فيه، وقيل لم يجعله مخلوقاً. واللفظ أَعَمُّ من ذلك. (عُدْوَة) ، بكسر العين وضمها: شاطئ الوادي. والمراد بالدنيا في قوله: (إذ أنتم بالعُدْوَةِ الدنيا) : القريبة من المدينة. والعدوَة القصْوى البعيدة. والقصوى والدنيا تأنيث الأقصى والأدنى. (عِير) : رفقة، وقيل إبل تحمل المِيْرة. (عِجَاف) : قد بلغت في الهُزل النهاية، وكان الملك قد رأى في نومه سبْعَ بقرات سِمَان أكلتهنّ سَبْع عِجَاف، فتعجَّب كيف غلبتهن، وكيف وسعتها في بطونهن. (عِضِين) : قد قدمنا أنَّ معناه أجزاء، ومفرده عِضَه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 والعاضِهُ الساحر، قال عكرمة: العِضَة: السحر - بلغة قريش. يقولون للساحرة: عاضهة، ويقال عضهوه آمنوا بما أحبّوا منه، وكفروا بالباقي، فأحبط كفْرُهم إيمانَهُم. (عِجْلاً جَسَدًا) : ولد البقرة، والجمع العجاجيل، والأنثى عِجْلة، وبقرة معْجِلة: ذات عِجْل. قيل سمي عجلاً لاستعجال بني إسرائيل عبادته، وكانت مدةَ عبادتهم له أربعون يوماً، فعوقبوا في التَيهِ أربعين سنة كلّ يوم بسنة، وكان السامريّ من قوم يعبدون البقر، واسمه موسى بن ظفر، وكان جسداً لا يأكل ولا يشرب. ونقل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرأون القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدّف والشبّابة، هل الحضور معهم حلال أم لا، فقال: مذهب الصوفية أنَّ هذا بطالة وجهالة وضَلالة، وما الإسلام إلا كتابُ الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الرقْص والتواجد فأوَّل مَنْ أحدثه أصحاب السامريّ لما اتخذ لهم عِجْلاً جَسَدًا له خوار، قاموا يرقصون حَوْله، ويتواجدون، فهو دين الكفَّار وعباد العجل، وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحايه كأنما على رؤوسهم الطير مع الوقار. فينبغي للسلطان مع نوّابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يُعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين. وقال القشيري: كان إبراهيم عليه السلام مضْيَافاً، وكان عامّة ماله البقر. وقدم العجل للملائكة، واختاره سَمِيناً زيادةً في إكرامهم. وقيل: إن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام مسرعاً حتى لحق بأمِّهِ. ومما يُحْكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن فريعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 البغدادي، ووفاته سنة سبع وستين وثلاثمائة: أن العباس بن المعلى الكاتب كتب إليه: ما يقول القاضي وفّقه الله تعالى في يهوديّ زنى بنصرانية، فولدت ولداً جِسْمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب القاضي بديها: هذا من أعدل الشهود على أن الملاعين اليهود أشربوا حبَّ العجل في صدورهم، حتى أخرج من أيورهم. وأرى أن ينَاط برأس اليهودي رأس العجل ويصْلَب على ُنق النصرانية: الرأس مع الرِّجْل، وأن يُسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض. والسلام. وروي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغَيْضَة. وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد - وكان بارًّا بأمه، وكانت من أحسن البقر، فساوموها حتى اشتروها بملء جِلْدها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة التي أمرهم الله بذبحها أربعين سنة (1) . (عِفْريت من الجِنّ) : قد قدمنا أن اسمه الكوْدَن، وهو القويُّ المارد من الشياطين، والفاء فيه زائدة. قال ابن عباس: هو صخر الجني. وقال ابن زيد: استدعاه ليريه القدرة التي هي من عند الله. ورُوي أن هذا العرش الذي أمر سليمان بمجيئه كان من فضة وذهب مرَصَّعا باليواقيت والجوهر، وأنه كان في جوفه سبْع بيوتٍ عليها سبعة أغلاق. قال ابن عباس: كان سليمان مهيباً لا يُبْدَأ بشيء حتى يكون هو الذي يسألُ عنه، فرأى ذات يوم رَهجاً قَرِيباً منه، فقال: ما هذا، فقالوا له: بلقيس. فقال: (أيها الْمَلأ أيّكم يأتيني بعرشها) ، فقال له العفريت: (أنا آتِيكَ به قَبْل أن تقوم من مقامك) . وكان يجلس مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر، فقال الذي عنده علم من الكتاب - وهو آصَف بن برْخيا، وكان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل، كان يعلم اسْم اللَهِ الأعظم. وقيل هو الخضر، وقيل جبريل. والأول أشهر: (أنا آتيك به) - في الموضعين - يحتمل أن يكون فعلاً مستقلاً، واسم فاعل - قبل أن يرتدّ إليك طَرْفُك، أي قبل أن   (1) لا يخفى ما فيه من المبالغة والبعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 تغْمِضَ بصرك إذا نظرت إلى شيء. فدعا باسم الله العظيم الأعظم، وهو: يا حيّ، يا قيّوم، يا إلهنا، وإله كل شيء، إلهاً واحدا لا إله إلا أنت. وقيل يا ذا الجلال والإكرام. فشُقّت الأرض بالعرش حتى نبع بين يدي سليمان. وقيل: جِيءَ به في الهواء. وكان بين يدي سليمان والعرش مسيرةُ شهرين للْمُجدِّ. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) ، جعل يشكر الله الذي أنعم عليه يعبارة فيها تعليمٌ للناس وعرضة للاقتباس. (عِين) ، بكسر العين: جمع عَيْناء، وهي الكبيرة العينين في جمال. (عِزَّةٍ وشِقَاق) ، أي تكبّر وعداوة وقصد المخالفة، يعني أن كفرهم ليس ببرهان، بل هو بسبب العزة والشقاق، ونكَّرهما للدلالة على شدَّتهما وتفاقم الكفار فيهما. (عِصَمِ الكوَافِر) : جمع عصمة: النكاح، وأمر اللهُ المسلمين في هذه الآية أن يفارقوا نساءهم المشركات مِنْ عَبَدة الأوثان، فالآية ُ على هذا محكمةٌ. وقيل: يعني كلَّ كافرة، فعلى هذا نسخ منها جواز تزوّج الكتابيات بقوله: (والْمُحْصَنَاتُ من الذين أُوتوا الكتابَ مِنْ قَبْلكم) . وقيل إن قوله: (ولا تُمْسِكوا بعِصَمِ الكوَافر) . - نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلّقها. (عِزين) : جمع عِزَة - بتخفيف الزاي، وأصله عزوة. وقيل عزهة، ثم حذفت الهاء وجُمعت بالواو والنون عوضاً من اللام المحذوفة. (عِشَار) : جمع عُشَراء، وهي الناقة الحامل التي مرَّ لحملها عشرة أشهر، وهي أنْفَسُ ما عند العرب وأعزّها، فلا تعطّل إلا من شدة الهول. وتعطيلها هو تركُها مسيَّبة أو ترك حَلبها. (عِيشة رَاضِية) : قد قدمنا أنَّ المرادَ بها ذاتُ رضا، فهو كقولهم: تامر، لصاحب التمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 قال ابن عطية: ليست بذا اسم فاعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكونَ اسْمَ فاعل، نسب الفعل إليها مجازاً وهو لصاحبها حقيقة. (على) : حرف جر له معان: أشهرها: الاستعلاء حِسًّا أو معنى، نحو: (وعَليها وعَلَى الفُلْكِ تحْمَلون) . (كلُّ مَنْ عليها فانٍ) . (فضَّلْنا بعضَهم على بعض) . (ولهم عليَّ ذَنْب) . ثانيها: المصاحبة، كمع، نحو: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) ، أي مع حُبِّهِ. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) . ثالثها: الابتداء كمنْ، نحو: (إذا اكْتَالوا على الناس) ، أي من الناس. (لفرُوجهم حافظون إلاَّ على أزواجهم) ، أي منهم، بدليل "احفظ عَوْرتك إلاَّ مِنْ زوجتك". رابعها: التعليل، كاللام، نحو: (ولِتكَبِّروا الله على ما هداكم) ، أي لهدايته إياكم. خامسها: الظَّرْفية كَـ فِي، نحو: (ودخل المدينةَ على حِين غَفْلَة) ، أي في حين غَفْلة. (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ، أي في زَمَن ملْكِه. سادسها: معنى الباء، نحو: (حقيق على ألاَّ أقولَ على الله إلاَّ الحق) ، أي بأن أقول، كما قرأ أبي. فائدة هي في: (وتوكّلْ على الحيِّ الذي لا يموت) - بمعنى الإضافة والإسناد، أي أضِفْ توكّلك وأسنِدْه إليه. كذا قيل. وعندي أنها بمعنى باء الاستعانة. وفي نحو: (كتب على نفْسِه الرحمة) - لتأكيد المجازات. قال بعضهم: وإذا ذُكرت النعمة في الغالب مع الحمد لم تقترن بعلى، وإذا أريدت النقمة أُتي بها. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى مما يعجبه قال: "الحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتمُّ الصالحات". وإذا رأى ما يكرَه قال: "الحمد للهِ على كل حال". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 تنبيه: تَرِد (على) اسماً فيما ذكره الأخْفَش إذا كان مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمًّى واحد، نحو: (أَمْسِك عليكَ زَوْجَك) ، لما تقدمت الإشارة اإليه في (إلى) . وترد فعلاً من العلوّ، نحو: (إنَّ فِرْعَونَ عَلاَ في الأرض) . (عن) : حرف جَرٍّ له معان: أشهرها: المجاوزة، نحو: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفون عن أمْرِه) ، أي يجاوزونه ويتعدَّون عنه. ثانيها: البدل، نحو: (لا تَجْزي نَفْسٌ عن نفْس شيئاً) . ثالثها: التعليل، نحو: (وما كان استِغْفَارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عَنْ مَوْعِدَة وعَدَها إيّاه) - أي لأجل موعدة. (ما نحن بِتَارِكي آلهتنا عَنْ قَولك) - أي لقولك. رابعها: معنى على، نحو: (فإنما يَبْخَل عَن نفسه) - أي عليها. خامسها: معنى مِنْ، نحو: (يَقْبَل التوبةَ عن عباده) - أي منهم، بدليل: (فتقبًل من أحدهما) . سادسها: معنى بَعْد، نحو: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) ، بدليل أنَّ في آية أخرى: (مِن بعد مواضعه) . (لتركبن طَبَقاً عن طبق) - أي حالة بعد حالة. تنبيه: ترد اسماً إذا دخل عليها من، وجعل منه ابن هشام: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) . قال: فتقَدَّر معطوفةً على مجرور مِنْ لا على مِنْ ومجرورها. (عسى) : فعل جامد لا يتصرّف، ومِنْ ثَمَّ ادَّعى قوم أنه حرف، ومعناه الترجِّي في المحبوب، والإشفاق في المكروه. وقد اجتمعا في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) . قال ابن فارس: وتَأتي للقرب والدنّو، نحو: (قل عسى أن يكون رَدفَ لكم) . قال الكسائي: كل ما في القرآن من عَسَى على وَجْه الخبر فهو موَحد، نحو الآية السابقة، وواحد على معنى عَسَى الأمر أن يكون كذا. وما كان على الاستفهام فإنه يجمع، نحو: (فهل عسَيْتُم إنْ توليتم أن تفْسِدوا في الأرض) . قال أبو عبيدة: معناه هل عَدَدْتم ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس قال: كل عسى في القرآن فهي واجبة. وقال الشافعي: يُقَال عسى من الله واجبة. وقال ابن الأنبارى: عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين: أحدهما: (عَسَى ربُّكم أنْ يرحمكم) - يعني يا بني النضير. فما رحمهم الله، بل قاتلَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقع عليهم العقوبة. والثاني: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) . فلم يقع التبديل. وأبطل بعضهم الاستثناء، وعمم القاعدة، لأنَّ الرحمة كانت مشروطة بألَّا يعودوا كما قال: (وإنْ عُدْتُم عُدْنا) . وقد عادُوا فوجب عليهم العذاب، والتبديل مشروط بأن يطلّق ولم يطلق. فلا يجب. وفي الكشاف في سورة التحريم: عسى إطْمَاع من الله لعباده وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون على ما جرت به العادة من الإجابة بلعل وعسى، ووقوعُ ذلك من الجبابرة موقع القطع والبتّ. والثاني: أن يكون جِيءَ به تعلما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء. وفي البرهان: عسى ولعل من الله واجبتان. وإن كانتا رجاءً وطمعاً في كلام المخلوقين، لأن الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون، والباري منَزَّهٌ عن ذلك. والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 ولا يقطعون على الكائن منها، واللَه يعلم الكائنَ منها على الصحة صارت لها نسبتان: نسبة إلى الله تعالى تسمَّى نسبة قطع ويقين، ونسبة إلى المخلوق تسمّى نسبة شكّ وظن، فصارت هذه الألفاظ لذلك تارة ترد بلفظ القطع حسبما هي عليه عند الله نحو: (فسوفَ يأتي اللهُ بقَوْمٍ يحبّهم ويحبونه) . وتارة بلفظ الشكّ بحسب ما هي عليه عند الْخَلْق، نحو: (فعسَى اللهُ أنْ يأتيَ بالفَتْح أو أَمرٍ مِنْ عنده) . (فقولاَ له قَوْلاً ليّناً لعلَّه يتذكَّرُ أو يخْشى) ، وقد علم الله حالَ إرسالها ما يفضي إليه حال فرعون، لكن ورد اللفط بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الطمع والرجاء، ولما نزل القرآن بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، والعربُ قد تخْرج الكلام المتيقَّن في صورة المشكوك لأغراض. وقال ابن الدهان: عسى فعل ماضي اللفظ والمعنى، لأنه طمَعٌ قد حصل في شيء مستقبل. وقال قوم: ماضي اللفظ مستقبل المعنى، لأنه إخبار عن طمع يريد أن يقع. تنبيه: وردت في القرآن عسى على وجهين: أحدهما رافعةٌ لاسْمٍ صريح بعده فعل مضارع مقرون بأن. والأشهر في إعرابها حينئذ أنها فعل ناقص عامل عملَ كان، فالمرفوع اسمُها وما بعده الخبر. وقيل متعدٍّ بمنزلة قارب معنى وعملاً، أو قاصر بمنزلة قرب، وأنْ يفعل بدل اشتمال مِنْ فاعلها. الثاني أن يقع بعدها أن والفعل، فالمفهوم من كلامهم أنها حينئذ تامة. وقال ابن مالك: عندي أنها ناقصة أبداً، وأنْ وصِلَتها سدَّتْ مسدّ الجزأين كما في: (أحسِب الناسُ أن يُتْركوا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 (عند) : ظرف مكان تستعمل في الحضور والقُرْب، سواء كانا حسيَّيْن. نحو: (فلما رآه مستَقِرًّا عنده) . (عند سِدْرَةِ المنْتَهى عندها جَنَّة المأوى) . أو معنوييْن نحو: (قال الذي عنده عِلْم مِنَ الكتاب) ، (وإنهم عندنا لن الْمصطَفين الأَخْيار) . (في مَقْعَد صِدْق عند مَلِيك مقْتدر) . (أحياء عند ربهم) . (ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنة) . فالمراد في هذه الآية قرْب التشريف والمنزلة وطلب الجار قبل الدار. ولا تستعمل إلا ظرفاً أو مجرورة بمن خاصة، نحو: من عندك. (ولما جاءهم رسول مِنْ عند الله) . وتعاقبها لدى ولدن، نحو: (لَدَى الحَنَاجر) ، (لَدَا الْبَابِ) . (وما كنْتَ لدَيْهم إذ يُلْقون أقلامَهم) . وقد اجتمعتا في قوله تعالى (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) . ولو جِيءَ فيهما بعند أو لدن صح، ولكن ترك دفْعاً للتكرار، وإنما حسن تكرار لدى في: (وما كنت لدَيْهم) ، لتَبَاعد ما بينهما. وتفارق عند ولدى " لَدن " من ستة أوجه، فعند ولَدَى تصْلع في محل ابتداء غاية وغيرها، ولا تصلح لدن إلا في ابتداء غاية. وعند وَلَدَى يكونان فَضْلَة نحو: (وعندنا كتابٌ حَفيظ) (ولدينا كتابٌ ينطِق بالحق) . ولدن لا تكون فَضْلة. وجر "لدن " بِمنْ أكثَر من تصْبِها، حتى إنها لم تجئ في القرآن منصوبة. وجرُّ (عند) كثير. وجَرُّ (لدى) ممتنع. وعند ولدى معربان، ولَدن مبنية، في لغة الأكثرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 ولدن قد لا تضاف، وقد تضاف للجملة بخلافهما. وقال الراغب: لدن: أخصّ من عند وأبلغ، لأنه يدلّ على ابتدائها بالفعل. وعند أمكَن من لدن من وجهين: أنها تكون ظرفية للأعيان والمعاني بخلاف لدى، وعند تستعمل في الحاضر والغائب، ولا تستعمل لدى إلاَّ في الحاضر. ذكرهما ابن الشجري وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 (حرف الغين المعجمة) (غمَام) : سحاب أبيض، سمِّي بذلك لأنه يغمّ السماء، أي يسترها. ومنه: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) : جمع ظلة، وهو ما علاكَ من فَوْق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال، وإن كان لله فهو من المتشابه، فيجب الإيمان بها من غير تكييف كما قدمنا في وَجه المتشابه. وتأويله عند المتأولين يأتيهم عذاب الله في الآخرة، أو أمره في الدنيا. ويحتمل أن يكون (يَنْظُرُونَ) بمعنى يطلبون ذلك لجهلهم، كقولهم: (لولا يكلمنا الله) . (غفور) : من أسماء الله، ومعناه الساتر على عبادة ذنوبهم. ومنه الْمِغْفَر، لأنه يستر الرأْسَ. وغفرتُ المتاعَ في الوعاء إذا جعلته فيه، لأنه يغطيه ويستره. (غلول) : من الخيانة والأخذ من الغنم بغير حق. وقد جاء الوعيد لمن غلّ شيئاً لأَنْ يسوقه يوم القيامة على رقبته في قوله تعالى: (يَأتِ بما غَلَّ يوم القيامة ) . وقد جاء ذلك مفَسَّراً في الحديث، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ألفينَّ أحدَكم على رقبته رِقاعٌ يوم القيامة (1) . لا ألفينَّ أحدَكم على رقَبته صامتٌ (2) . لا ألفينَّ أحدَكم على رقبته إنسان، فيقول: يا رسول الله أغِثْني، فأقول: لا أملك لكَ من اللَه شيئاً" (3) . فتأمل أيها المخالف، هل يمنعك من اللَهِ أحدٌ إلا أن يأخذَ الله لمن يشاء. هذا رسولُ الله سيد الأوَّلين والآخرين يقول: يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، لا أملك لك من الله شيئاً. فكيف يتَّكل المغرور على أحد في مخالفته أمر الله.   (1) الرقاع جمع رقعة: وهي قطعة من جلد أو ورق يكتب عليه، أراد بالرِّقاع ما عليه من الحُقُوق المكْتُوبة في الرّقاع (2) الصامت: من المال هو الذهب والفضة. (3) نص الحديث في مستخرج أبي عوانه: "5718 - حدثنا محمد بن عبيد الله بن المنادي، ومحمد بن أحمد بن الجنيد، قالا: ثنا أبو النضر، قثنا الأشجعي، عن سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظم، فقال: «لا ألفين أحدكم، يجيء على رقبته صامت، يقول يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك شيئا فقد أبلغتك، لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع تخفق يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم، يعني على رقبته، نفس لها صياح، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا، لا ألفين أحدكم يجيء على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 (غائط) : مكان منخفض، ثم استعمل في حاجةِ الإنسان، لأن العرب كانوا يطلبون ذلك في قضاء حوائجهم، فكني عن الحدَثِ بالغائط. (غَمَرات الموت) : شدائده وكرباته كما يغمر الشيء إذا علاه وغطَّاه، فتذكر أيها الأخ كرباته وسكراته، فإن كنْتَ منهمكاً نفّرك. وإن كنت تائباً رقاك بمحبة تأخيره لتغنَم أو تعجيله لتسلم. وإن كنت محبًّا شوّقك، لأن المحب يحبُّ لقاء حبيبه، ولكن التفويض أعلى. ولو انتظرنا ضربة شرطى لتكدّر عيشنا، فكيف وفي كلّ نفس يمكن مجيء الموت بسكراته وغصصه، ونودُّ أن لو قدرنا على صِيَاح وأنين، ويودُّ مَنْ حضره فترة ساعةٍ، ليقول: لا إله إلا اللَه، فلا يمْهل، وتجْذَب روحه من كل عضو وعِرق، فتبرد قدماه ثم ساقاه، ثم فَخِذاه، وهكذا حتى تبلغ الحلقوم، فعنده ينقطع نظَره إلى دنياه، ويغلق عنه باب توبته، كما روِي: "إن اللهَ يقبل توبةَ عَبْده ما لم يغرغر". ثم يرى ملائكةَ ربه تعالى وثناءهم عليه، وقولهم: (اليوم تجْزَوْن عذابَ الْهونِ) . فيا لها من مصيبة لو عقل، ولهذا كانوا رضي الله عنهم يديمون ذِكْرَ الموت. ويخافون من سوء العاقبة. وفي الصحيحين: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه مما أمامه، ومن ختم له بشرٍّ فضدّه، وسببه عقيدةٌ فاسدة تثمر عند موته الجحود أو الشك، فما لم يُرْحَم بتوبةٍ عذابه دائمٌ، نسأل الله العافية. وإذا تأملنا وجدنا أسباب سوءِ الخاتمة موجودة فينا، وسأنبئك بأقلها، وهي: الإصرار على فعل منهيّ، أو صفة مذمومة، كعُجْب ونحوه. ومنها الغفلة عن ذكر الله، فقد خطف خلق كثير بنزغة الشيطان لتمكنه منهم. ولهذا اختار الشارعُ لفْظَ الشهادتين، فإن الشيطان يجهد في شبهة مكفّرة عند الموت، غالبها في الرسالة، لعلمه اقتصارنا على التعليلة، وكل ما نزغ في التوحيد دفع بلا إله إلا الله، أو في الرسالة دفع بمحمد رسول الله، فكأنَّ التهليلة صلاة، وذكر سيدنا ومولانا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبطلها، وإن كان أجنبيًّا منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 كيف وأجلّ أسنان مفتاح التهليلة الشهادة الثانية، فأكْثِر من ذِكْرِ هذه الكلمة المشرّفة، حتى تمتزجَ مع معناها بلحِمك ودمك، واطلب منه سبحانه الثباتَ عليها، فقد قطع ظهورَ العابدين سوء الخاتمة، فكيف يُخْصِب لك جَنَابٌ حتى ترى ما خُطّ لك في أمّ الكتاب. وعلامة حسن الخاتمة استقامةٌ ودوام ذكرٍ، للحديث: "يموت المرءُ على ما عاش عليه". ولحديث: كلّ ميَسَّر لِمَا خلِق له. فكيف نطمع بحسنها وقد غرقنا في حب الدنيا والمواظبة على خصالٍ مذمومة، وعند فراقنا لها يخاف علينا من استيلاء الشيطان لتمكنه منَّا عند الموت. وعلامة ذلك أن في حبها طولَ أملنا، ونسينا الآخرة، والهوَى يصدّ عن الحق، فكل فتنة أتتنا فمِنْ حبِّ الدنيا والْجَهْل بمصارع أقراننا في كل ساعة. أمرنا الصادق المصَّدوق أن نكونَ فيها كالغريب أو عابري سبيل، وإذا أمسينا فلا ننتظر الصباحَ، وإذا أصبحنا فلا ننتظر المساءَ، ونأخذ من صحتنا لسقمنا، ومن حياتنا لموتنا، فأعرضنا عن نصْحه، وأطَلْنَا أملنا مع رؤيتنا لموت الأطفال والشبّان، ولهذا بادر مَنْ فتح الله بصيرته، فكان يصلِّي الصبح بوضوء العشاء، وآخر لم يضعْ جَنْبه على الأرض عشرين سنة، وآخر حسب ما بين مضغ اللقمة وبَلْعها خمسين تسبيحة، فكان لا يتقوّت إلا بحساء الشعير، وآخر يقوئ ليلا ولا يغْفِي إلا إغفاءَ الطير. وآخر وِرْدهُ كلّ يوم مائة ألف تسبيحة. وآخر لا يتحدث مع أخيه فيعاتبه على ذلك، فيقول له: أبادِر خروج روحي. ونحن مشتغلون بدنْيا فانية، ويا ليتنا نِلْنَا منها شيئاً، وهذا سليمان أعطي منها ما لم يُعْطه أحدٌ قبله ولا بعده، والرياح تجري بأمره رُخاءً حيث أراد، فلما استَوْسق ملكه قال: (هذا من فَضْلِ ربي) ... الآية، فما عَدَّها نعمةً كما نعدها، ولا حسبها كرامةً من الله كما نظنّها، بل خاف أَن يكونَ استِدْراجاً من حيث لا يعلم، ونحن أنعم علينا بنعمه لنصرفها في الطاعة، فغفلنا عنه وصرفْناها في معصيته، أليس من الخسْران المبين ما نحن فيه من الضلال المبين، عِشْنا عَيْش البهائم، بل هي أحسن حالاً منَّا، لأنها تحس ونحن في موت الحسِّ. اللهم يا منقِذَ الغرقى، ويا منجّي الهلْكَى بعد أن يئسوا، أنقذْنا من هذا الوحل العظيم بجاه نبيك الكريم، عليه أفضل صلاةٍ وأزكى تسليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 (غبر) : له معنيان: ذهب وبقي. ومنه: (عجوزاً في الْغَابِرين) ، أي في الهالكين. قد غبرَتْ في العذاب: أي بقيت فيه ولم تَسِرْ مع لوط. ويقال في الباقين، وإنما جمع جَمْع المذكر تغليباً في الرجال. (غَيًّا) : خسرانا، وقد يكون بمعنى الضلال، كقوله: (وإن يَرَوْا سبيلَ الغَيّ يتخذوه سبيلا) . فيكون على حذف مضاف، تقديره يلقَون جزاءَ غَيّ. (غار) : نقب في الجبل. (غَيَابَتِ الْجُبِّ) : غوره، وما غاب منه. قال بعض أهل العلم: إنما قال ألْقوه في (غَيَابَتِ الْجُبِّ) أخوه إربيل، وقيل يهوذا، ففعلوا ذلك، فلما أرسلوه في الجبّ أرادوا أن يقطعوا الحَبْل، فبعث الله جبريل عليه السلام ليأخذه ويُؤْنسه، وقال: يا يوسف، لا تغتمّ، إنهم قطعوا حبْل النَّسب، وأنا وصْلَت حبل الوصلة والسبب. كذلك المؤمن، يريد الشيطان أن يقطعَ بينه وبين مولاه حبلَ الوصلة، واللَه يريد وَصْلها به، لأنه الغفور الوَدود، وكيف يقطعها وقد حبَّب إليه الإيمانَ وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان! ألا ترى يوسف وموسى ومحمداً صلَّى الله عليهم وسلَّم أجمعين، حبّبهم الله إلى الْخَلْق، ولم يضيّعهم في أيدي الأعداء، بل تولَّى حِفْظهم ونجاتهم. (غاشِيَةٌ مِنْ عذابِ الله) : غَشِي الأمر يغشى - بالكسر في الماضي والفتح في المضارع - معناه غَطَّى، حِسًّا أو معنى، ومنه: (واللَّيل إذا يَغْشَى) ، لأنه يُغطي بظلامه. وينقل بالهمزة والتشديد، فيقال: غَشّى وأَغشى. (ومِنْ فوقهم غَوَاشٍ) ، يعني ما يغشيهم من العذاب. والغاشية أيضاً القيامة، لأنها تغشى الخلق. وقيل: هي النار، من قولهم: (وتَغْشَى وجوهَهم النار) . وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد ذلك قسمين: أهل الشقاوة، وأهل السعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 (غَوْراً) : مصدر وُصف به، فهو بمعنى غائر، أي ذاهبٌ في الأرض. وقد قدمنا معناه في قوله: مَعين. (غَرَاماً) : ملازماً. قال الحسن: كلّ غريم مفارق غريمه إلا النار. (غرورا) : قد قدمنا أنه بفتح الغين الشيطان، وبضمها الباطل، مصدر، من غررت. (غَرَابِيب سود) : قد قدمنا أنه جمع غِرْبيب، وهو الشديد السواد، وقدم الوصف الأبلغ لقصد التأكيد. (غَوْل) . بفتح الغين: اسم عام في الأذى والضرّ. ومنه يقال: غالَه وأغاله، إذا أهلكه. وقيل: الغَوْل وَجَع في البطن. ويقال الغضب غَوْل للحم، والحرب غول للنفوس، وإنما قدم المجرور في قوله: (لا فيها غَوْل) ، تعريضاً بخَمْر الدنيا، لأن فيها غَوْل. (غَسَّاقاً) : بتخفيف السين وتشديدها: صَدِيد أهل النار. وقيل: ما يَسِيل من عيونهم. وقيل: عذابٌ لا يعلمه إلا الله. (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) : فيه أقوال: الليل إذا أظلم. ومنه قوله: (إلى غَسق الليل) ، وهو قول الأكثر، لأن ظلمةَ الليلِ ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن، ولذلك قيل في المثَل: الليل أَخفَى للويل. وقيل القمر، للحديث: "يا عائشة، استعيذي بالله مِنْ شرِّ هذا الغاسق، وأشار إليه. ووُقوبه على هذا كسوفه، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسَّوَاد، وبمعنى الدخول، فالمعنى إذا دخل في الكسوف، أو إذا أظلم به. وقيل، الشمس إذا غربت، والوقوب على هذا بمعنى الظلمة، أو الدخول. وقيل النهار إذا دخل في الليل وهذا قريبٌ من الذي قبله وقيل الغاسق سقوط الثريا، لأنها تهيج عندها الأسقام والطاعون للحديث: "النجم هو الغاسق". فيحتمل أن يريدَ الثريا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وقيل إنه الذّكَر إذا قام، حكاه النقاش عن ابن عباس، لأنه لا يملك الإنسان نفسه مع انتشاره، ولهذا أكْرِم من ذكر الله عند جماعه بأن الشيطان لا يضرّ ولده إنْ كان، لأنه آثر ذِكْرَ الله على شهوة نفسه. وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بالغاسق الأسود من الحيات، ووقَبَه ضربه. وحكى السهيلي أنه إبليس. (غادَرَ) : ترك. ومنه: (لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرة) . (فَلَمْ نغَادِرْ منهم أحدا) . (غُلْف) : جمع أغلف، وهو كلّ شيء جعلته في غلاف، ولما قالوا: (قلوبنا في أَكِنَّة مما تَدْعونا إليه) ، أي محجوبة - ردّ الله عليهم بأنَّ عدمَ إيمانهم بسبب كفرهم، (فقليلاً ما يُؤمنون) ، أي إيماناً قليلاً يؤمنون. وما زائدة ويجوز أن تكون القلةُ بمعنى العدم أو على أصلها، لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض. (غرْفة) : بضم الغين لها معنيان: المسكن المرتفع، ومنه: (أولئك يُجْزَون الغرْفَة) . (وهم في الغُرفات آمِنون) . وغَرفة من الماء - بالفتح: المرة الواحدة. ومنه: (إلا من اغترف غرفةً بيده) . وقرئ بضم الغين، وهو المصدر، وبفتحها هو الاسم. (غفْرانَك) : مصدر، والعامل فيه مضمر، ونصب على المصدرية، تقديره: اغفر غفْرانك. وقيل على المفعولية، تقديره نطلب غفرانك. (غزَّى) : جمع غاز، ووزنه فعّل - بضم الفاء وتشديد العين. ومعناه أن المنافقين قالوا لإخوانهم من الأوْس والخزرج يوم أحد: (إذا ضربوا في الأرض) ، أي سافروا، وإنما قال (إذا) التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 للاستقبال مع قالوا، لأنه على حكايةِ الحال الماضية، لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يُقتلوا. وهذا قول مَنْ لا يؤمن بالقَدَر والأجَل المحتوم، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجَلين. (غَلَا) يَغْلو، وهو مجاوزة الحدّ والإفراط، ومنه: (لا تغْلوا في دينكم) . (غمَّةً) : وغَمّ، ككربة وكَرْب بمعنى ظلْمة. (غثَاء) : يعني هالكين كالغثَاء، وهو ما يحمل السيلُ من الورق و غير ه مِمّا يبلى ويسودّ. ومنه قوله قعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) . فمعناه أنَّ الله أخرج النباتَ أخضر، فجعله بعد خضْرته غثاء أَسود، لأن الغثاء إذا قدم تعفَّن واسوَدَّ. وقيل: إن (أَحْوَى) حال من المرعى، ومعناه الأخضر الذي يضرِب إلى السواد. وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير، تقديره الذي أخرج المرعى أحوى. فجعله غثاء. وفي هذا القول تكلّف. (غرفات) : جمع غرفة. وقد قدمنا أنها اسم جنس. (غُصَّة) : أي يختنق به آكله. وقيل: هو شَوْك من نار يعترض في حلوق أهل النار، لا ينزل ولا يخرج. وروي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فصعق. (غِشَاوة) : مجاز باتفاق بمعنى الغطاء، تقول: غشيت الشيء غَطيته، ووحّد السمع في قوله: (وعلى سَمعهم) ، لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجْمع. (غِلّ) : عداوة وحسد. ومنه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 (غِلْظَة) : أي شدة، ومنه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، أي تفرقوا. وأما قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) . فمعناه الأمر بقتْل الأقرب فالأقرب، والشدة في إجلابهم على تدريج. وقيل إنها إشارة إلى قَتْل الروم بالشام، لأنهم كانوا أقرب الكفَّار إلى أرض العرب، وكانت أرض العرب قد عمَّها الإسلام، وكانت العراق حينئذ بعيدة. (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) : المراد به هزم كسْرى ملك الفرس. وأَدنى الأرضِ بين الشام والعراق، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. وقيل: في أدنى أرضِ العرب منهم، وهي أطراف الشام. وقد قدمنا أنها سُميت الروم باسم جدّهم. (غيض) الماء، وغاض: نقص، بلغة الحبشة. (غسْلين) : قد قدمنا أنه غسالة أهْل النار، وكلّ جرح أو دبر غسلته فخرج منه ماء فهو غِسْلين. (غَير) : اسم ملازم للإضافة والإبهام، فلا تنصرف ما لم تقع بين ضِدّين. ومن ثَمَّ جاز وصف المعرفة بها في قوله: (غير المغضوب عليهم) . والأصل أن تكون وصفاً للنكرة نحو: (نعمل صالحا غير الذي كُنَّا نعمل) . وتقع حالاً إن صلح موضعها لـ لا واستثناء إن صَلح موضعها إلا، فتعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا في ذلك الكلام. وقرئ قوله تعالى (لا يستوي القاعِدون من المؤمنين غَيْر أولي الضرَر) - بالرفع على أنها صفة للقاعدين، أو استثناء وبدل على حَدِّ: (ما فعلوه إلا قليل) . وبالنصب على الاستثناء. وبالجر خارج السبع صفة للمؤمنين. وفي المفردات للراغب: غير يقال على أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 الأول: أن تكون للنفي المجرد من غير إثباتِ مَعْنى به، نحو: مررتُ برجل غير قائم، أي لا قائم، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) . (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) . الثاني: بمعنى إلاَّ فيسَتْثنَى به، ويوصف به النكرة، نحو: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) . الثالث: لنفي الصورة من غير مادَّتها، نحو: الماء إذا كان حارًّا غيره إذا كان باردًا. ومنه قوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) . الرابع: أن يكون ذلك متناولاً لذاتٍ، نحو: (تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) . (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) . (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) ، (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) . ******************* تم الجزء الثاني، ويليه إن شاء الله الجزء الثالث وأوله حرف الفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران) المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى 911 هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م الجزء الثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حرف الفاء (فسق) : أصله الخروج، وتارة يرد بمعنى الكفر، وبمعنى العِصْيان، وكلُّ خارج عن أمر الله فهو فاسق. يقال فسقت الرّطَبَة إذا خرجت عن قشرها. (فما فَوْقَها) : الضمير راجع للبعوضة. ولما ذكر الله في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفّار ذلك. فأنزل الله: (إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مَثَلاً ما بعوضةً فما فوقها) . قال قطْرب: الحروف المقطعة والأمثال وضعها الله لإطفاء شغَف الكفار حيث قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه) ، فوضع الله هذه الحروف والأمثال يسمعونها، لأنها عربية لم يسمعوها قبل ذلك، ثم يبلغ الرسول رسالته بعد ذكرها ذلك. (فأَزَلهما الشيطان عنها) ، أي عن الجنة أو عن الشجرة، والزلل متعد من زلل القدم. وأزلهما بالألف من الزوال، وضمير التثنية لآدم وحواء، وكذا (فأخرجهما مما كانا فيه) . والصحيح كما قدمنا أن آدَم أكل منها نسياناً، وحلف له إبليس، فظنّ أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، فجعل الله له الأكل من الشجرة سبباً في إخراجه من الجنة، لِحكَمٍ -، منها: أنه كان في حكمةِ الحكيم أن يكون خليفةً في الأرض، ويقوم فيها، فأراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 آدم أن يقيم في الجنة، فجعل الله بأكل إخنطة وتناولها سببا لخروجه من الجنة! لينفذَ ما قضى وقدّر. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكونَ مقامه بمكة، وكان في حِكمَة الحكيم أن يمكث في المدينة مدةً، ويعلي كلمتَه فيها، فجعل جفاء المشركين سبباً لخروجه منها، لسَبقِ مقاديره إلى مواقيتها. كذلك العَبْد المخلص يريد أن يكون في طاعة ربه، ولا يقع في مخالفته. وكان في حكمة الحكيم أن يكون كفوراً وغافرًا وغفَّاراً، فجعل خذلان العاصي سبباً لخروجه عن أمره، ثم يمنُّ عليه بالتوبة، فيتداركه برحمته، فيظهر حكمته وتقديره، ويبدي للعالمين غفرانه. ومنها لكون الكفَّار في صلبه إذ لم تكن الجنة محلاً للكافرين، وكذلك المؤمن يخرجه من النار لكون المعرفة في قلبه، إذ ليست النار محلاَّ للعارفين. ومثال المؤمن والكافر في صلب آدم كتاجر أخفى المسك في وسط البُحْدُق حتى لا يحسَّ به قاطع الطريق، فإذا بلغ الْمَأمَن كان المسك قد أخذ بطرف من رائحة البُحْدُق، وكذلك البُحْدُق تعلق به شيءٌ من رائحة المسك، فيبسطهما على بساط فتهحت الرياح فتتلاشى الروائح المستعارة، كلّ رائحة تعود إلى أَصْلها، فيبقى الأصل على ما خُلق عليه. فكذلك الكافر والمؤمن في صلْب آدم، فأصاب الكافر رائحةً من المؤمن، فيعمل منها الحسنات، وأصاب المؤمن رائحةً من الكافر فيعمل منها السيئات، فإذا كان يوم القيامة يجمعهم اللَّهُ في بساطٍ واحد، فتهب رياح القيامة، فترجع حسنات الكافر إلى المؤمن، ويرثُ بها منزله في الجنة، وسيئات المؤمن إلى الكافر ويرث بها منزلَه في النار فتتلاشى العواري، وتبقى الأصول على ما قُدر وقُضى، قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) . وقال: (وليَحمِلُنَّ أَثقالهم وأثقالاً مع أَثْقالهم) . ومنها أنه كان في خروجه من الجنة رحمة من الله له وإكراماً بالنبوءة والتكاليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 والفائدةُ فيه أنه يرحم مَنْ عصاه في جواره، فالأوْلى ألا يعاقب مَنْ عصاه في جوار إبليس. قيل: إنه قال: يا رب، إني أستحيي من ولد محمد. فقال له: سأمَهّد له عُذرك، فقال: (ولم نَجِد له عَزْماً) ، أي لم يعتقد الذنب، ولم يثبتْ عليه، بل اعتذر وندم. وكذلك مهَّد الله عُذْر هذه الأمة المحمدية بقوله: (للذين عَملوا السّوءَ بجهالةِ) . وقال: (وخُلق الإنسان ضعيفا) . (خلق الإنسان من عَجَل) . أدبك بأوامر ولم يرض أن يعاتبك غيرةً منه إليك، فاعتذر منك إليك. (فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ) ، أي أخذ، قيل، على قراءة الجماعة وقرأ ابنُ كثير بنصب آدمَ ورَفْع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء، والكلمات هي قوله: (ربَّنا ظلَمنا أنْفسنا) ، بدليل ورودها في الأعراف. وقيل غير ذللك. وهذه إحدى الخصائص التي خصّ الله آدم بها، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسجد له ملائكته، وأمرهم بحَمله إلى الجنة على أكتافهم، وعلّمه أسماءَ كل شيء، تم عرضهم على الملائكة، وأدخله الجنة بغير عملٍ إلا أمْره بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلمه مواجهة. ولما عطس قال: الحمد للهِ، فأجابه الله بقوله: يرحمك الله، يا آدم لهذا خلقْتك. فهذا معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سَبَقَتْ مِنْ ربِّكَ) . (فإما يَأتينَّكم مني هدًى) : إن شرطية، وما زائدة للتأكيد. والهدى هنا يراد به كتاب الله ورسالتُه. (فمن تَبع) ، شرط، وهو جواب الشرط الأول. وقيل: (فلا خوف) جواب الشرطين. واعلم أن الكتابَ كتابان: كتاب من الله إليكَ، وكتاب منك إليه بيد الْحفَظَة، فإذا قبلتَ كتابه الذي فيه الأمْر والنهي، والوَعد والوعيد، ونزول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 البلاء عليك، ووجود الرضا منك، وإن كان فيه ما يخالف هواكَ، أفتراه لا يقبل كتابك في يوم القيامة وإن كان مملوءا زَلاَّت، وهي لا تضرّه، ألا تراه يقول في إبراهيم: (ولقد اصْطَفَيْنَاه في الدّنيا وإنّه في الآخِرة لمِنَ الصّالحين) ، واصطفاك أنتَ بكتابه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنا الكتابَ الذين اصطَفَينا مِنْ عبادنا) . والاصطفاءُ فعْل الله، وفعل الله مبنيّ على الابتداء، قال تعالى: (كما بدأكُمْ تَعُودون) . والصلاح فعل العبد، وفعل العبد مبني على الخواتيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ". واعلم أنَّ مَنْ سأل الله شيئاً سأل الله منه، فمن لا يقوم للَه فما سأل منه لا يعطيه ما يسأل، ومَنْ قام للهِ فما سأل منه أعطاه بلا مؤونة، ألا ترى أن الله أعطى لإبراهيم المالَ في الدنيا والولد والمعجزات بغير سؤال، فلما سأل إبراهيم بقوله: (إِني ذاهب إلى ربّي سيهْدِين) - سأل منه الكلّ فقال له: أسلم، أي الكل إلى الكل، إنْ أردْتَ الوصول إلى الكل. ولما سأل منه إحياء الموتى سأل الله منه إماتة الحى، ألا ترى أنه قال: (فلمَا أسْلَما) . يعني وضع السكين على حَلْقه قال: إلهي بكَ ولَكَ وإليْكَ، أي بك الصبر على فراقه، ومنكَ إعطاؤه، ولكَ الحكم فيه، وإليك يرجع الأمر كله. فإن قلت: ما الحكمة في جزعَ إبراهيم وصَبر إسماعيل؟ (1) والجواب: إسماعيل عَرف - برؤية المعرفة - أن إبراهيم إنما ابْتلي بذبحه، لأنه التفت بقلبه عن الله، فلو أنَّ الولد التفت بقلبه لابْتُلي كما ابتلي إبراهيم. وأيضاً جزع إبراهيم على مفارقة حبيبٍ لم يكن له وصلة في ذلك الوقت إلى مَنْ هو أحب إليه منه. وإبراهيم لم يجزَعْ، لأنه وصل إلى الحبيب المجازي. وقيل لما وضع السكين على حَلْقه أراه الله نوراً من أنواره أنساه ما يجِد من الألم لوجود لذة ذلك النور، كنساءِ مِصْرَ اللواتي قطّعْنَ أيديهن برؤية يوسف.   (1) معاذ الله أن يجزع الخليل - عليه السلام - وأين ذلك الجزع المزعوم؟؟!!! هذا خلاف ما حكاه عنه القرآن بقوله (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وقيل إن اللَهَ قال له: يا إبراهيم، جزعتَ على مفارقة حبيب زائل عنك. وضاق ذَرعك به، فكيف بمفارقة الحبيب الباقي، فكان جزعه لهذا السبب لا لِلوَلد. (فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، أي عالم أهلِ زمانهم، لأنه يجب الاعتقاد بتفضيل هذه الأمةِ المحمدية لفَضل نبيهم. قيل: أعطى اللَّهُ الكليمَ عشر معجزات، وأكْرَمَ قَوْمَه بعشر كرامات، وشكى عليهم بعشر شكيات، وعاقبهم بعشر عقوبات: أما المعجزات: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ) ، والعصا، واليد، والحجر، والألواح، والصّحف. وأما الكرامات: (وإذ أنجيناكم) ، (وإذ فرقنا بكم البحر) . (ثم بعثناكم من بعد موتكم) . (وظللْنا عليكم الغَمام وأنزلْنَا عليكم المنَّ والسّلْوَى) . (ثم عفونا عنكم مِنْ بعد ذلك فتاب عليكم) . (يغفر لكم خطاياكم) . (قد علم كلّ أناس مَشْرَبهم) . (وإذ آتينا موسى الكتاب) . والشكيات: (ثم اتخذتم العِجْل) . (قالوا أرِنَا الله جَهْرة) . (فبدّل الذين ظلموا قَوْلا) . (ادع لنا ربك) . (ثم يحرّفونه) . (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) . (فبما نَقْضِهم ميثاقَهم وكُفْرهم بآيات الله وقَتْلهم الأنبياءَ بغير حق) . والعقوبات: (ضربت عليهم الذلَّة والمسكنة) . والجِزْية (وباءوا بغضبٍ من الله) . (فاقتلوا أنفسكم) . (يذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) . (كونوا قردةً خاسئين) . (فأرسلنا عليهم رِجزاً من السماء) . (واللَه مخْرِج ما كنتم تَكْتمون) . (فَرقنا بكم البَحرَ) ، أي جعلناه فرقاً، اثني عشر طريقاً على عدد الأسبَاط. والبحر المراد به القلزم. (فاقتلوا أنفسكم) : روي أنَّ من لم يعبد العجل قتل من عبده حتى بلغ القتل فيهم سبعين ألفاً، فعفا الله عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 (فتاب عليكم) : قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فَحْوى الخطاب، أي فعلتم ما أمرتم به من القَتْل فتاب عليكم. (فانفجرَتْ) : قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت، أي سالتْ. ومنه انفجر، وكان هذا الاستسقاء في فحص التِّيه، وكان الحجر من جبَل الطور، وهو المشهور، لأنه أبلغ في الإعجاز، ولهذا كانوا يجدونه في كل مَرْحلة. ولا خلاف أنه كان حجراً مربّعا منفصلا له أربع جهات كانت تنبع من كلّ جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى عليه السلام، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفَّت العيون. وقيل إن هذا الحجر هو الذي وضع موسى ثوبه عليه ففرَّ بثوبه، ومرَّ على مَلأ من بني إسرائيل حين رموه بالأُدْرَة، فلما وقف أتاه جبريل عليه السلام. فقال له: إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر، فإنَّ لي فيه قدرةً، ولك فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مِخْلاته. وكان موسى ضربه اثنتي عشرة ضربة، فيظهر بكل ضربة مثل ثَدْي المرأة فيعرفه فتنفجر الأنهار منه، ثم يسيل الماء. فإن قلت: هل الانفجار والانبجاس بمعنى واحد، لأنه اختلف التعبير بهما؟ والجواب أنَّ الانبجاس أقل من الانفجار، لأن الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهور الماء. فالواقع هنا طلب موسى عليه السلام من ربه، قال تعالى: (وإذ استَسْقَى موسى لقَوْمِه) . فطلبهم ابتداء فقيل - إجابة لطلبه: فانفجرت، مناسبة لذلك. وفي الأعراف طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام السقي، قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذ استَسْقَاه قَوْمه) ، فقيل - جواباً لطلبهم: فانبجست، فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغايةَ. واعلم أنَّ اللَهَ تعالى وضع الدولة على ثلاثة أحجار، والقدرة في ثلاثة أحجار، والملك في ثلاثة أحجار، أما الدولة فوضعها في الكعبة، وجعلها موضعَ طواف المؤمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وجعل مقامَ إبراهيم قبلةً للمؤمنين. والحجر الأسود جعله بينه وبين خَلقِه عَهْداً وشهيدًا. وأما القدرة فوضعها الله في حجر موسى، وحجر ناقة صالح، وحجر موسى الذي برّأَه الله بسببه مما قالوا. وأما الملك ففي خاتم سليمان، وصخرة بيت القدس، وحجر داود. وبالقدرة يخرج من الحجر الماء والذهب والنار. (فكلوا) : خطاب لبني إسرائيل، وجاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول فيها، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله: (اسْكنوا) ، لأنَ الأكلَ مقارن للسكنى. (فارض) : مسِنًة. وبِكْر: صغيرة. (فاقِعٌ) : شديد الصفرة. (فآدَّارَأتم فيها) ، أي اختلفتم، وهو من الْمدارأة، أي المدافعة. (فذَبحوها) ، من الذبح الذي هو قَطْع الْحلقوم والوَدَجين. وبهذا استدل مَنْ قال بذبح البقرة ولا يجزئ غيره. (فَأَتمهنَّ) : يعني وَفَى بهن. ولما ادَّعَى محبةَ الله تعالى ابتلاه بعشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فأتمهن، أي وفى بهن. وقال بعض: هو على الظاهر، وتحت كلّ واحدة منهن إشارة. وقيل أراد بالكلمات الدعوات، وهي قوله: (رَبَّنا إني أسكنت) . (ولا تخْزِني) . وقيل ابتلي بالنار، فقال: حسبي الله. وقيل: لما وضع السكين على حَلْق إسماعيل قال: منك ما أَرى، ومنِّي ما ترى، فأنجاه الله بهذه الكلمات. وقيل غير هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قال بعضهم: ابتلى الله خليلَه بعشرة أشياء، ثم أثْنَى عليه بعشرة، ثم أعطاه عشرة. أما الابتلاء فهو مناظرة النّمْرُود، والكوكب والقمر والشمس، وبكسر الأصنام، ومناظرة الأب، وبالهجرة، وبنار النّمْرود، وبذبح الولد، وبالإخلاص في قول الله له: (أَسْلِمْ) . وبالعشر كلمات، وبالملائكة الذين بعثهم الله إليه شبه المجوس يعرض عليهم الإيمان. وأما الثناء عليه فسمّاه (أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) ، شاكراً لأنْعمه، وفيًّا صديقاً نبيئا قيما أَوّاباً مُنيباً. واصطفاه بالاجتباء والاهتداء، والبركة والبِشارة بإسحاق، والحجة على قومه، والإمامة والمقام، ونسبة الأمة المحمدية، على جميعهم السلام، والخلّة في قوله تعالى: (واتّخذ الله إبراهيم خَلِيلاً) . (فمن عُفي له من أخيه شيء) . فيها تأويلان. أحدهما أن المعنى مَن قتل فعُفِي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها بمعروف، فعلى هذا " من " كناية عن القاتل، وأخوه هو المقتول أو وَليّه. وعُفي من العَفْو عن القصاص. وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدى هنا باللام، لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه. والثاني أنَّ المعنى إِنّ مَن أَعطيته الدية فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا " منْ " كناية عن أولياء المقتول، وأخوه هو القاتل أو عاقِلَته، وعفي بمعنى يسر، كقوله: (خذ العَفْو) ، أي تيَسَّر. ولا إشكال. في تعدّي عفِي بإلى على هذا المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 (فمن اعْتَدَى بعد ذلكَ فَلَه عذَابٌ أليم) ، أي قتَلَ قاتلَ وليه بعد أخذ الدية منه فله القصاص منه. وقيل عذاب الآخرة. (فمن تطَوَّع) ، أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة. وذلك على القول بالنسخ. وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الطعام، وذلك على القول بعدم النسخ. (فمن شَهِد منكم الشهرَ فلْيَصمه) ، أي كان حاضراً غير مسافر. والشهر منصوب على الظرفية. والمراد به شهر رمضان المتقدم. (فَلْيَسْتَجِيبوا لي) ، أي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة (فاعْتَدوا عليه) : تسمية العقوبة باسم الذنب، أي قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة صدّكم عن مكة. (فما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي) : وأقلّ ذلك شاة تذبحونها. (فمَنْ كان مِنْكم مَرِيضاً) : نزلَت في كَعب بن عُجْرَة لما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعلك تؤْذيك هوَامّ رأسك، فقال: نعم. فقال له - صلى الله عليه وسلم -، احلق رأسك، وصمْ ثلاثة أيام، أو أطْعِم ستة مساكين، أو انْسك بشاةٍ. فمعنى الآية: إنَّ مَنْ كان في الحج واضطره مرضٌ أو قمل إلى حَلْق رأسه قبل يوم النَّحْر جاز له حَلْقه، وعليه صيامٌ، أو صدقة، أو نسك، حسبما فسّر في الحديث. وقاس الفقهاء على حَلْق الرأس سائرَ الأشياء التي يمنع الحج منها، إلا الصيد ووَطء النساء. وقاس الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بد في الآية من مضْمَر لا يستقلّ الكلام دونه، وهو المسمى فَحْوى الخطاب، وتقديره: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى مِنْ رأسه) فَحَلَق رأسه فعليه فِدْية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 (فاَذْكُروني أَذْكرْكمْ) : قد قدمنا مرارا أنَّ منزلة العبد من الله حيث أنزله العبد، ولهذا لما قال داود: يا رب، كنْ لسليمان كما كنْتَ لي. فأَوحى اللَهُ إليه: قل له يكون لي كما كنْتَ لي أكون له كما كنتُ لك. وقد أمرنا الله بهذا في آياتٍ من كتابه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) . (فافسَحُوا يَفْسح الله لكم) . (إنْ تَنْصُروا الله ينصركم) . (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) . (هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) . وقد اختلفت الأقاويل في قوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) - نحواً من أربعين قولاً، فإن ذكرته بالإيمان يذكرك بالجنة، لقوله: (وعد الله المؤمنين) . وإن ذكرته بالاسترجاع يذكرك بالرحمة. وإن ذكرته بالاستغفار يذكرك بالمغفرة. وإن ذكرته بالإنفاق يذكرك بالْخَلَف. وإن ذكرته بالشكر يذكرك بالزيادة. وإن ذكرته بالصبر يذكرك بالأجر. وإن ذكرته بالتقوى يذكرك بالفرج. وإن ذكرته بالتوكّل يذكرك بالكفاية. وإن ذكرته بالتوبة يذكرك بالقبول. وإن ذكرتَه بالدعاء يذكرك بالإجابة. وإن ذكرته بالمجاهدة يذكرك بالهداية. وإن ذكرته بالطاعة يذكرك بالمودة. وإن ذكرته بالسجود يذكرك بالقرب. وإن دْكرته بالإحسان يذكرك بالرحمة. وإن ذكرته بالاستقامة يذكرك بالأمْن. وإن دْكرته بالقَرْض يذكرك بالتضعيف. وإن ذكرته بالفرائض يذكرك بالفلاح. وإن ذكرته بالخشية يذكرك بالفوز. وإن ذكرته بالاعتصام يذكرك بالنصر. وإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه. وإن ذكرتَه في مَلَأ دْكرك في ملأ خير مِنْ ملَئك. وإن ذكرته بالنوافل ذكرك بالمحبة. وإن تقرَّبت إليه شِبْراً تقرّب منك باعاً. وإن أتيته مَشْياً أتاك هَرْوَلة. وإن أتَيتَه بقرَاب الأرض خطيئة ولم تشرِك به أتاك بمثلها مغفره، وهو الغفور الرحيم. وفي التوراة: يا ابن آدم أظهرتَ الذنوب معي وأخفيتها عن الخلق، وأبديت الحسنات لِخَلْقي ولم تخْلِصْها لي، وأكلْتَ رزقي ولم تشكرني، وبارزتَني بالمعاصي ولم تَستَحِ منّي، ولم تحذرني، أمّا ما أظهرت من الذنوب فقد غفرتها لك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وما أتيْتَ من الحسنات بغير إخلاص فقد قبلْتها منك، وما أكلت من رزقي ولم تشكرني فلم أَحرمك الزيادة، وما بارزتني به ولم تستح مني فأنا أستحي أن أعذِّبك بعد شهادتك لي بوَحْدانيتي، وأنا الغفور الرحيم. فتأَمَّلْ أَيها العاصي هذه الكرامات التي أكرمك بها، دعاك أولاً بنفسه بقوله: (واللَهُ يدعو إلى دار السلام) ، من دارٍ أولها بكاء، وأوسطها عَناء، وآخرها فَناء، إلى دارِ أولها عطاء، وآخرها لقاء، وهي أحسن البنيان المسدس، فإن اللهَ خلقك مسَدَّساً! فخمسة منها يدعوك إلى خمس جهات واللَه سادسهم: يدعوك من تلك الجهات كلِّها إليه، فالأمَل يدعوك من بين يديك، والشيطان يدعوك من خَلْفك، والهوى يدعوك عن يسارك، والشهوة عن يمينك، والدنيا تَحْتَك! والله من فوقك، فذلك قوله: (ولا خمسة إلا هو سادِسهم) . فإن كانت همتك في دار الأشجار والبساتين والأنهار فقد دعاكَ لذلك بقوله: (جنات عَدْن تجري مِنْ تحتها الأنهار) . وإن كانت همتك الطعام والشراب فقد دعاك لذلك بقوله: (كلوا واشْربوا) . (يُطَافُ عليهم بصِحافٍ مِنْ ذَهَب) . (ولَحْمِ طَيْرٍ مما يشتهون) . وإن كانت همتك التمتع بالنسوان فقد دعاك لذلك بقوله: (وحورٍ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون) ، لو تفلَتْ إحداهنّ على البحر لعَذب. ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاء ما فيها. وإن كانت همتك اللباس فقد رغبك بقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) . وإن كانت همتكَ الغلمان والولدان فقد رَغبَك بقوله: (وِلْدَان مخَلَّذونَ) . (غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مَكْنون) . وإنْ كانت في الشرب والخمور فقد ذكر لكَ أنَّ فيها أنهاراً من خَمْرٍ لذة للشاربين. وإن كانت همتك رضاه والنظر إليه فقد دعاك في مواضع من كتابه. وحرَّضكَ عليه، فما ظنّك بربٍّ كريم يدعوكَ للضيافة وتقبّل دعوته، أتراه لا يرضيك، وقد بعث إليكَ الملائكة تبشِّرك حين نَزْعك، وأعطاك في حياتك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 مراكب الجمال إلى بيتك، وأعناق الرجال إلى قَبْرِك، والبراق إلى حَشْرك، قال تعالى: (يوم نَحْشُر الْمُتَّقِينَ إلى الرحمن وَفْداً) . (فعِدةٌ من أيام أخَر) : هذا من رحمة الله بهذه الأمة، حيث أباح لها التفريقَ في قضاء رمضان، وهو من خصائص هذه الأمة، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتِبَ عليكم الصيامُ كما كتِب على الذين من قبلكم) . فإن قلت: قد قلتم: إنَّ هذا الصيام من خصائص هذه الأمة، فما معنى الصيام على غيرها؟ فالجواب أنه اختلف: فقِيلَ ثلاثَة أيام مِنْ كلِّ شهر. وقيل: عاشوراء، ففي هذه الآية الشريفة نرى عذْرَين ونهيين ونسْخَين ورحمتين وكرامتين. أما العذْران فقوله: (كما كُتِب على الذين مِن قَبْلكم) . والثاني: (أيَّاماً معدودات) ، أي قليلة تمضي سريعاً. وأما النسْخان فقوله: (وعلى الذين يطيقونه فِديَةٌ طعام مسكين) ، أي في بَدءِ الإسلام إن مَنْ لم يصم ثم أطعم لم يكن له بذلك. والثاني أن المجامعة كانت حراماً في ليالي رمضان، فأباح الله لهم بسبب عمَر قوله: (أحِل لكم ليلةَ الصيامِ الرَّفَث إلى نِسائكم) يعني الجماع. وأما الأمران فقوله: (ولتكمِلوا العِدة) ، وقوله: (ولتكَبروا اللهَ على ما هَدَاكم) . وأما النهْيان ففي المؤاكلة والمجامعة بالنهار، وهو قوله: (ثم أتِمّوا الصيامَ إلى الليل) . وأما الرحمتان: (فمَن كان مِنْكم مَرِيضاً أو على سفر فعدَة مِنْ أيام أخر) ، فرخص له في الإفطار والقضاء بأيام أخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وأما الكرامتان فقوله: (شَهْر رَمَضان) . وليلة القَدْر التي هي خَيْرٌ من أَلْفِ شهر، فالصيام أفضل الطاعات، لأنه يصوم بأمر، ويفطر بأمر: (كلوا واشْرَبُوا) . والجوع والعطش وغير التمتّع مِنْ عذابِ أهل النار، والله لا يجمَع على الصائم عذابَين، ويعطون الغرف في الجنة بصبرهم، قال تعالى: (أولئك يجْزَون الغرفَة بما صَبَروا) . وكلّ عمل لا يخلو من وجهين: إما طاعة مع الغَفْلة، أو مَعصِية مع الشهوة، فجعل الله قبول الطاعة بالصوم قوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وجعل غُفْرانَ المعصية بالصوم، قال تعالى: (ومَنْ قتل مؤمناً. . . فصيام شهرين. . .) . وانتهاء المناهي أفضل من ائتمار الأوامر، ألا ترى أنه قال: (مَنْ جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) . قال: (ونهى النَّفْس عن الْهَوَى) . والصوم من انتهاء المناهي، والزّهد في الحلال أفضل من الزهد في الحرام، والصوم من الزهد في الحلال، وفي نداء عباده تعالى بالإيمان من اللطائف والفضائل ما لا يحيط بها إلا هو، كأنه سبحانه يقول: يا مَنْ أقْرَرْتم بوَحْدَانيتي، وعرفْتم دَيموميتي، لا تَقْنَطوا من رحمتي. قال بعضهم: النداء على عشرين وجهاً: خمس من الله في الدنيا، وخمس للآدميين في الدنيا، وخمس من الملائكة في الدنيا، وخمس من الملائكة في الآخرة. أما الذي من الله فنداء الجنس: (يا أيها الناس) . ونداء النسبة: (يا بني آدم) . (يا بني إسرائيل) . ونداء المدحة: (يأيها الذين آمنوا) ، لأن الله جمع أوصافَ المؤمنين ونُعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنة إلا دخلت تحته، كما أن الله عَلَم على ذاته القدسية، ومَن ذكره فكأنما ذكر جميع أسمائه التي هي ألفُ اسم ثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الإنجيل، وثلاثمائة في الزَّبور، وواحد في صُحف إبراهيم، وتسع وتسعون في القرآن، فأوَّل جميع الكتبِ اللهُ. ونداء المذمة: (يأيها الذين كفروا لا تَعتَذِروا اليوم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ونداء الإضافة: (يا عباديَ الذين آمَنوا) . (يا عبادي الذين أَسرفوا) . وأما الذي للآدميِّين: نداء الشريعة، وهو لإبراهيم حيث قال له: (وأذنْ في الناس بالحج) . ونداء العتاب ليولسف: (يا أيها العزيز مَسَّنَا وأَهلَنا الضرُّ) . ونداء الإيمان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا) ونداء الجمعة للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودِي للصلاة مِنْ يَوْمِ الجمعة) . ونداء الجماعة للمنافقين. وأما الذي للملائكة في الدنيا: فملك ينادي في كل صباح: يا أبناء الثلاثين. لا تَغْتَرّوا بالشباب. يا أبناء الأربعين، لا تجترئوا. يا أبناء الخمسين، أَلاَ تستحيون. يا أبناء الستين، قد دَنا حصادكم. يا أبناء السبعين، الرحيل الرحيلَ. ومَلك ينادي بالمقابر كل يوم: يا أهْلَ القبور، من تغبطون اليوم، قالوا: نغبط أَهلَ المساجد الذين يذكرون اللَهَ ولا نَذْكر، ويصلُّون ولا نصلي، ويصومون ولا نصوم، وملك ينادي عند رأس قَبْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا مَنْ زال عن سنّة صاحب هذا القبر فقد برئ من شفاعته. وملك ينادي في الموقف: مَنْ حَجَّ وكسْبه حرام ردَّ الله حجَّهُ. وأما الذي من الملائكة في الآخرة فأوله عند البعث: أيتها العظام البالية. والأجساد النخِرة، هَلمّوا إلى الحساب عند ربّكم. وملك عند الحساب: أبشروا يا أمة محمد! فإنَّ رحمة الله قريبٌ منكم. وملك عند المحاسبة يقول: أيْنَ فلان ابن فلان، هلمَّ إلى العَرْض على الرحمن. وملك ينادي عند الفراغ من الحساب: ألاَ إنَّ فلانَ ابن فلان سعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً. وملك آخر على أَهل الشقاوة ينادي: ألا إن فلانِ ابن فلان شقي شقاوة لا يسعَد بعدها أبداً. أعاذنا اللَه من ذلك بمنه. (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) : يعني بقبولهم ورحمتهم، لا بقُرب المسافة. وسببُ نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام سئل أين ربنا، فَوْقنا أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 تحتنا، أو يميننا أو يسارنا، أو خلفنا أو قدّامنا، فأنزل الله: (وإذا سألكَ عبادِي عَنّي فإني قَريب) . يعني وحاجتكم أنا، لا المكان، فإن وجدتموني فما تصنعون بالمكان وأنا منَزَهٌ عن المكان. وفي رواية: إن اليهود سألوه عليه السلام أقريب ربّنا فننَاجيه أم بعيد فنُنَادِيه، فأنزل الله: (ونحن أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الوَرِيد) . يعني بالعلم والقدرة والإجابة لا بالذات، فادْعوني سِرًا أو جَهْرًا، فإني قريب أجيب، إنْ سألني العاصي غفرت له، وإن سألني المحسن أعطيته سؤلَه. فهنيئاً لكم أيتها الأمة المحمدية، نسبكم إلى آدم في قوله: (يا بني آدم) . وبالشريعة إلى نوح في قوله: (شرعَ لكم من الدِّين ما وصَّى به نوحاً) . وبالملّة إلى إبراهيم. وبالأمة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالعبوديّة إلى نفسه، والحكمة فيه حتى يشفع آدم فيكم، فيقول: يا رب، هم أولادي، ويقول نوح: أهل شريعتي. ويقول إبراهيم: أَهل مِلَّتي. ويقول محمد: أمَّتي. ويقول الله: عبادي وخواصِّي، فالذي نسبك إليه أَترى أنه يريد معاقَبتك. وقد قال لنوح لَما أراد عقوبة ولده: إنه ليس من أَهلِك. أو الرسول الذي بعِث إليك يريد تعذيبَ أمته، وهو لم ينْسَهم في الأربعة مقامات: مقام التحية لولاه في قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". ومقام الشكر في قوله: (والمؤمنون كلّ آمَنَ بالله وملائكته) . ومقام الحاجة سأل من الله عشر حاجات، فأعطاه ما سأل قوله تعالى: (غفرانكَ ربَّنا وإليكَ الْمَصِير) . . . إلى آخر السورة. ومقام الشفاعة: (ولسوف يعْطِيكَ ربّكَ فَتَرْضَى) . أفترى أنه يرضى بقاء أمته في النار وهو في الجنة، ولذلك يقول له جبريل: أنت منعَّم، وأمتك في النار، فيستأذن في الشفاعة فيهم في حديثٍ طويل. وقد عاتبه الله يوم بَدْر لما كان في العَرِيش وأصحابه في الشمس، فقال: يا محمد، أنْتَ في الظل وأصحابك في الشمس، أهكذا هي الصحبة! فسبحان اللطيف بعباده وخصوصاً بهذه الأمة (1) .   (1) لا أصل لهذه الرواية، وأين هذا الكلام من قول بعض الصحابة - رضي الله عنهم - كُنَّا إذا اشتد الوطيس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم. روى مسلم: 3309 - حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ح وحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وفي الحديث: أن جميع الأنبياء قالوا ربَّنا، كما قال آدم: (ربَّنَا ظلَمْنا أنْفُسَنا) . وإبراهيم: (رَبّنا واجعلْنَا مسْلمَيْن لك) . وغيرهما. فلما بلغ الأمرُ إلى أمة محمد هابُوا أن يضيفوه إلى أنفسهم، فيقولوا: ربنا، فسكتوا، فأضاف الله نَفْسَه إليهم بقوله: (وقال ربكم ادْعُوني أسْتَجِبْ لكم) . وكان جميع الأمم لم يكن لهم جراءة على أن يدعوا ربَّهم، ولكن كانوا يقولون: (ادع لنا ربك) . (هل يستطيعُ ربُّك) . وهذه الأمةُ رفع الله الواسطةَ بينهم وبينه، وأمرهم بالدعاء، فإن لم يدعوه فهو يدعوهم ليغفر ذنوبهم. وتأمل قوله تعالى: (فإنّي قَرِيب) ، ولم يقل هو كما قال: (يسألونك ماذا ينفقون قل العَفْو) . (قل هو أذًى) . (قل إصلاح لهم خير) . وقال: (فلْيَسْتَجِيبوا لي) إذا دعوتهم إلى المغفرة، فإن دعوني بلا غفلة أجَبْتُهم بلا مهملة، وإن دعوني بالصفاء أجبتهم بالعطاء، وإن دعوني بلسان الشهادة أجبْتُهم بإعطاء الولاية. وإن دعوني بالنعمة أجبتهم بالشهادة، وإن دعوني بجميع الجوارح أجبتهم إجابةَ ناصح، وإن دعَوْني بالإخلاص أجبتهم بالخلاص، وإن دعَوْني بالمغفرة أجبتهم بتبديلها بعشرة، وإن دعَوْني بالخوف والرجاء أجبتهم بالرحمة والجزاء. وإن دعَوْني بالاضطرار أجبتهم بالافتخار. وإن دعوني بأسمائي الْحسْنَى أجبْتهم بالعطية الكبرى. فانظروا أيها الأمة ما أرْحَمه بنا! وقد رآيناه أجاب الذاكرين بقوله: (أذكركم) . وأجاب المتفكرين: (بل الله يَمنُّ عليكم) . وأجاب الداعين: (أستَجِبْ لكم) . وأجاب الخائفين: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) . وأجاب المقربين بالوصلة: (فقد استَمْسكَ بالغرْوَة الوثقى) . وأجاب المستغفرين بالمغفرة: (إنه كان غَفَّارًا) . وأجاب المتضَرّعين بقوله: (يوم لا يخْزِي الله النبي) . فإن قلت: قد رأينا مَنْ يَدْعو ولا يستجيب له؟ والجواب إذا وقع الدعاءُ من المضطرّ حصل جوابه على كل حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 ومَنْ وُفّق للدعاء لم يُحرم الإجابة. ومن وفّق للتوبة لم يحرم القبول. ومن وفّق للشكر لم يحرَم المزيد. ومن وفق للصبر لم يحرم الجزاء. ومن وفق للتوكّل لم يحرم الكفاية. ومن وفق للعمل الصالح لم يحرم المودةَ عند الله وعِنْد خَلْقه. ومِصداق هذا كله قوله تعالى، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) . (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) . (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) . (وجزاهمْ بما صَبَروا) . (ومَنْ يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُه) . (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) . فإن قلت: بيِّن لنا الاضطرار وشروط الدعاء؟ فالجواب: أنَّ الاضطرار ألاَّ تبقى فيك علاقة مع غيره سبحانه، وإن أخلصتَ له في الدعاء وتضرعت، ورجوتَ وخِفْتَ، واستغَثْتَ به، فلا بد من إجابتك إما عاجلا فتبلغ سؤْلك أو يكفّر لك به من ذنوبك، أو يؤَخَّر لك لمصلحتك، أو يرفع درجتك، ولعلّه يعطيك سؤْلك فتغفل عنه، وهو يحبُّ المُلِحِّين في الدعاء. ألاَ تسمعه سبحانه يقول لبعض الداعين: أعطوه سؤْله، فإني أكره صوته، فإجابة الدعاء في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. ورحم الله القائل: اللهُ يَغْضب إن تَرَكْتَ سؤَاله ... وابن آدَمَ حين يُسْأل يَغْضَبُ وقد وعدنا الله تعالى بالكرامة على أنواع من الطاعات، فأكرم الساجد بالقربة، ودخول البيت الحرام بالأمن. والجهاد بالجنة. والصدقة بأضعافها. والزكاة بالفَلاَح. والدعاء بالإجابة، لكن العلّة منا وإلينا، وشؤْمَ نفوسنا عائدٌ علينا، كما قال إبراهيم بن أدْهم لما قالوا له: يا أبا إسحاق، الله يقول: (ادْعوني أَسْتَجِبْ لكم) ، ونحن نَدْعوه ولا يَستَجِيب لنا، فأطْرق ساعة وقال: لأنَ قلوبَكم ماتَتْ في عشرة أشياء، فقالوا: هاتها. قال: عرفْتمِ الله ولم تؤدّوا حقّه، وقرأتم كتابه ولم تعملوا به، وعرفتم رسولَه وتركتم سُنَّته. وقلتم الشيطان لنا عدوّ فَوَافَقْتموه، وادعَيْتم حبّ الجنة ولم تعملوا لها. وقلتم نخافُ النار ووهبتم لها أبدانكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وقلتم: الموت حقّ ولم تتهيئوا له. وانتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب إخوانكم. وأَكلْتم رزْقَه ولم تشكروه. ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، فأنَّى يُستجابُ لكم! وفي الحديث ما يعضده قوله: "مَطْعَمه حَرامٌ، وملْبَسه حرام، ويقول: يا رب، يا رب، فأَتى يُستجاب له! " وصدق الصادق المصدوق، فإن الدعاء مثل الطائر، وكيف يطير مقصوص الجناح. فاجتهد في إخلاص المطعم والملبس، وتَخَيَّرْ أوقات الإجابة وأماكنها المفضّلة في الحصن الحصين لابن الجزري، وخصوصاً بعد الأذان، وقبل الإقامة، وبعد الصلوات، وخصوصاً صلاة الجمعة، والسَّحَر أسرع إجابة لخلوّك بالمحبوب. وبعضهم ترك الدعاء لِعِلْمِه بأن الله لا يغفلُ عنه، واشتغل بذكره، للحديث القُدسي: "من شغله ذِكْري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أعطي السائلون"، ولهذا أشار ابن عطاء الله بقوله: "طلَبك منه اتهامٌ له". . . الخ. وبعضهم لم يرفع رَأسَه للدعاء حياءً منه. وبعضهم قال: الدعاءُ تحكم على الله، وقد سبق تقديره قَبْل وجودي، فإن سبق سعادتي فأناله، وإن لم يسبق فكيف اطلب منه ما لم يرد (1) . وبعضهم دعاه في الشدة، وأعرض عنه في الرخاء، وهذا حالنا كما قال سبحانه: (فإذا مَسَّ الإنسانَ ضرّ دَعَانَا) . وبعضهم قال: لا أقولُ نحن، لأن الملائكة قالت: (نحن نسبِّح بحمدك) ، فلم يرْضَ الله منهم، وإبليس قال: أنا، فلعنه الله. وفرعون قال: (أَليس لي ملْك مصر) ، فأغرقه الله. وقارون قال: عندي، فخسف الله به الأرض. وأعلى من هؤلاء من امتثل أمْرَ ربه في الدعاء، ورأى نفسه عَبْداً مملوكاً لا يقدر على شيء، وإنما قام بحقّ الربوبية، فطلبه لمحبَّته في الطلب، وفوّضَ الأمر له، كما قال بعضهم لما قيل له: سَلْ تُعْطَ، فقال: عالم من جميع الوجوه يقول لجاهل من جميع الوجوه: سَلْ تُعْطَ، لا أعلم ما يصلح بي، ولكن يختار هوَ لي.   (1) بل الدعاء مطلوب ومأمور به على الدوام (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ولهذا قال ابن عطاء الله: لا يكن طلبك تسبّباً إلى العطاء منه، فيقلّ فَهْمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية. فإن قلت: إذا سبق العطاء منه فما فائدة الطلب، وقد أعطانا بغير سؤال؟ فالجواب إذا سبق في أَزَلِه العطاء وفَّق عَبْدَه لطلبه، فيجيب، ويفرح العبد بذلك، ولو أعطاك بغير سؤال لطمع الكافر والمؤمن. وهذه أسباب ووسائط يوفّق الله العبدَ إليها في أي وقت شاء على يد من يشاء (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) . والكلامُ هنا طويل، وقد ألَّفت فيه تأليفاً عجيباً سميته مفاتح الطلب. فانظره إن ظفرتَ به، وإلا ففي هذه النبذة كفاية إن شاء الله. (فإذَا أَمِنْتم) : الخطاب للمحْرمين مِنْ أَهل مكة وغيرهم. ومعناه: إذا كنتم بحال أَمْنٍ، سواء تقدَّم مرض أو خوف عدوّ، أو لم يتقدم. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعمْرَة) : والتمتع هو أَنْ يعتمر الإنسان في أشهر الحج ثم يحج من عامه، فقد تمتّع بإسقاط أحد السفَرين للحج أو العمرة. وقال عبد الله بن الزبير: التمتّع هو أن يحْصَر عن الحج بعدو حتى يفوته فيعتمر عمْرةً يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج مِنْ قابل قضاءً لحاجته، فهو قد تمتع بفعل الممنوعات للحج من وقت تحلله بالعمرة إلى الحجّ القابل. وقيل: التمتع هو قِران الحجِّ والعمرة. (فمَنْ لم يَجِدْ فصِيام ثلاثةِ أيامٍ في الحجّ وسبْعَةٍ إذا رجَعْتم) : يعني من لم يجد الشاةَ فليصمْ ثلاثة أيام، وقْتها من إحرامه إلى يوم عرفة، فإن فاته صام أيام التَّشْريق وسبعة إذا رجع إلى بلاده. (فمَنْ فَرض فيهنَ الحجَّ) . أي أَلزم الحجَّ نفسه في شوال وذو القعدة وذو الحجة. (فلا رَفَثَ) ، وهو الجماع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 (ولا فسوقَ) ، وهي المعاصي، إذْ علامةُ قبول الحج ترك المعاصي، ولا جزاء له إلا الجنة، كما صح. (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، لأن الإنسان كثيراً ما يذكر أباه. والعارفُ يذكر الله أكثر، لأنه مخترعه وخالِقه كيف شاء، ورازِقه من أين شاء، وممِيته متى شاء، ويحييه إذا شاء، فكيف يغفل عمن هذه صفته، وقد دعا الْخَلق إلى نفسه، فالسابق منهم همّه اسمه، فدعاه بلفظ الرب، وقال: (وأنِيبوا إلى رَبِّكم) . (فَفِرّوا إلى الله) . والمقتصد منهم همه الرزق، فدعاه بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) ، وقال: (يرزق مَنْ يشاء بغير حساب) . والظالم همه غفران ذنوبه، فدعاه بقوله: (وسارِعوا إلى مغفرةٍ مِنْ رَبِّكم) . فعلى كل حال العبد لا يغفل عن سيده. ولما كانت العرب تذكر أباها كثيراً مفاخرة عند الجمرة أمر الله بذكره عوضاً عن ذلك، لأنه الضارُّ النافع. (فَضْلاً مِنْ رَبِّكم) : التجارة في أيام الحج أباحها الله لعباده، ولا يضر نيتها، ولا تفسد العبادة بها خلافاً لبعض الصوفية. والصحيح أن النيةَ الصحيحة تقلِب القبيح حسناً، والحسن قبيحاً. وتشريك النية الصالحة جائزة، بل مطلوبة في الأفعال، ورضي الله عن السيد الذي دق عليه، فقال لبعض التلامذة: قمْ حلّ له الباب. فقام، فقال بعد رجوعه: بأي نيّةٍ قمْتَ له. فقال: نيًة فتْح الباب. فقال: هلاّ نوَيْت قضاء حاجته إن احتاج، والسلام عليه ومصافحته، وصار يعدد له سبْعَ نيات. هكذا كانوا رضي الله عنهم يشركون أفعالهم لتضعيف حسناتهم، ونحن بالضدّ مِنْ هذا، فليس لنا نية ألبتَّة. فلا تتحرك أيها الأخ حركةً إلا للَه تكثراً بنيتك، كلبْثِك بالمسجد بغية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الزيارة لله، وانتظار الصلاة، وكفّك عما نهيت، وعكوفك على الطاعة وسلامةِ الناسِ من شرِّك، وتعَلّم وتعليم واستفادة أخ، ونحوها. وبدخولك الأسواق: ذكر الله تعالى، والسلام على إخوانك، وشهادة البقاع لك، ومَنْع الشيطان وطَرْده، وتغيير ما رأيتَ من المناكر إن قدرت صيانة، وأمرك بالمعروف صدقة، ورؤية نعمة فراغك وتوفيقك. وقد علمت ذاكر اللَه في الغافلين كالمجاهد خَلْف الفارّين، ولا تشغلك رؤية شهوةٍ، فتصدَّقْ بقدميْك لزيارة إخوةٍ لئلا تحوجهم لزيارتك، وقضاء حاجتهم، ورد السلام على مَنْ سلّم منهم، وسماحاً في بَيْع، ورؤية صالح، ورؤية آياته تعالى: من تصرّف الخلق في معايشهم وحركاتهم وألوانهم، وما جبلوا عليه من حبِّ الدنيا، واختلاف أغراضهم، وتَصَرّفهم في المأكل والملابس، واختلاف السلع. والكلام هنا طويل. والقصد منه أنه يجب علم حقيقة النية، وتخليصها من كل حظّ دنيوي حتما، ومن كل حظ أخرويّ ندْباً، وهي تمييز الأغراض بعضها من بعض، (وما يَعْقِلها إلا العالمون) . ومتى حصلت الحركة وعَقَبها باعثٌ واحد فنيَّةٌ خالصة، وإيثارُ الراجح اختيار، واقترانها بحكم فقضاء وبما له مقدار، أو عني بشيء خاص فعناية. وتصميم الإرادة عَزْم وهَمّ ومشيئة. وللحنفية: إنَّ المشيئة مشتقّ من الشيء، وفي كتب اللغة أنها إرادة لا فعل. صح: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. ومَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهوَ في سبيل الله، ومن هَمَّ بحسنةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة، وإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، ونظره تعالى إلى القلب للنية، والنية والعلم وغيرها مما ينسب للقلب، وهو قائم بالنفس، والعقل في القلب. وتأمَّل قوله تعالى: (لَهمْ قلوب يعْقِلونَ بها) . (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 فتأمَّل أيها الأخ صُنْع الله في هذا المؤمن، حيث جعل له داخل ضميره شمساً ساكناً في وسط الأحشاء أضْوَأ من الشمس اللامعة، حتى جاز الهوى، وملَك طريق السماء، فلم يسكن على شيء دون الرّبّ جَلّ جلالُه، فصار حاله في الضمير كعود نصِب له في الأرض، فإذا اتَّصل بالأرض، والأرض به، نبتت المعرفة به، فصارت نزهةً للعارفين، ثم الشهادة عطاء المحبين، ثم المحبة على السابقين. (فمن تَعَجَّلَ في يومين فلا إثْمَ عليه) : قد قدمنا أنَّ هذه الآية أباحت التعجّل والتأخر. وقيل: إنه إخبار عن غفْران الإثم، وهو الذنب للحاجِّ، سواء تعجّل أو تأخر. وعلى الأول فيكون (لمن اتَّقَى) أنْ يَأثَم في التعجُّل والمتأخر لا إثم عليه. وعلى الثاني أنَّ الغفران إنما هو (لمن اتَّقَى) الله في حَجِّه. للحديث: "مَنْ حَجّ هذا البيت فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذُنوبه كيوم ولدَتْه أمه". فاللام متعلقة إما بالغفران أو بالإباحة المفهومَيْن من الآية. (فحَسبه جَهَنَّم) : الضمير يعود على مَنْ لا يطيع من يأمره بالتقوى تكبراً وطغْياناً، وهو الذي يُقال له: اتَّق الله، فتأخذه العزَّةُ بالإثم. والباء يحتمل أن تكون سببية، أو بمعنى مع. وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الناس الأمير بكذا، أي ألزمهم إياه. فالمعنى حملته العزةُ على الإثم. (فاعلَموا أَن اللهَ عَزِيزٌ حكيم) : تهديد لمن زَلّ بعد البيان. ويحتمل أن يكون الخطاب بقوله: (ادخلوا في السِّلْم) لأهل الكتاب، على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام. ولما سمع بعض الأعراب قارئاً يقرأ: (فاعلموا أن الله غفورٌ رحيم) - قال له: أخطأت. فقال: من أين علمت، قال: أَيغريهم على المعصية. (فلِلوَالدين والأقربين) : بيان مَصْرف نفقَة التطوّع. وتقدم في الترتيب الأهمّ فالأهمّ، وإن أريد بالنفقة الزكاة المفروضة فذلك منسوخ. (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) : أي اجتنبوا جِمَاعَهُنّ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 الفرج، لا فيما عداه من أعكانها وبين فخذيْها، والاستمناء بيدها. وقد فسر ذلك الحديث بقوله: لتشد عليها إزارها وشأنك بأعلاها. (فاءُوا) ، أي رجعوا إلى الوطْءِ، وكفّروا عن اليمين. فإن الله يغفر ما في الإيلاءِ من الإضرار بالمرأة. (فنِصفُ ما فَرَضْتمْ) ، يعني من الصداق لمن طلّق قبل الدخول، فإن كان لم يفرض لها صداقاً، وذلك في نكاح التفويض، فلا شيء عليه من الصداق، ويؤمر بالمتعة، لقوله: (ومَتِّعوهُنَّ) . (فإذا أَمِنْتم فَاذْكروا اللهَ) : قيل المعنى إذا زال الخوف فصلّوا الصلاةَ التي عُلِّمتموها وهي التامة. وقيل: إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزيكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأول بمعنى الصلاة. وقد ذكر الله للصلاة اثني عشر اسماً: القرآن: (إن قرآنَ الفَجْرِ كان مَشهوداً) . والأَمانة: (إنّا عَرَضْنا الأمانةَ) . والحسنات: (إنَّ الحسناتِ يذهِبنَ السيئات) . قال ابن عباس: إن الصلوات الخمس يكفرنَ الخطايا. والتوبة: (ذلكَ ذِكْرَى للذَّاكِرين) يعني توبةً للتائبين. والبقاء: (والباقيات الصالحات) . والذكر: (الذين يذكرون الله) . والاستغفار: (والمستغفرين بالأَسحار) . والتسبيح: (فَسبْحانَ الله حين تمسون) . والركوع: (واركَعوا مع الراكعين) ، أي صَلّوا مع المصلّين. والسجود. وعلى القول الثاني فمعنى الذكر الشكر، وعلى كلاَ القولين فالواجب على الإنسان أن يذكر الله على كل حال. والذكر على سبعة أوجه: ذِكْر اللسان، وهو الحمد للَه والثناء، وذكر الْجَنان وهو التسليم والرضا، وذكر الأبْدَان وهو الجهد والعناء. وذكر العينيْن، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 العبرة والبكاء، وذكر اليدين وهو السخاء والعطاء، وذكر الرِّجْلين وهو المشي إلى الحج، وثبات النفس لِلِّقاء. وذكر الروح وهو الخوف والرجاء. (فإنْ خَرَجْنَ) : الضمير يعود على الْمعْتَدّات اللواتي يُتَوَفَّى أزواجهن ألاَّ يخرجن من ديارهنَّ أربعة أشهر وعشراً، وليس لأولياء الأزواج إخراجهنَّ، فإذا كان الخروج من قِبَلهن فلا جناح على أحد فيما فعَلْنَ في أنفسهن من تزوُّجٍ وزِينة. (فمَنْ شَرِب مِنْه فليس مِنِّي) : هذا من قول طالوت لَما جاز على نهر فلسطين اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب. (فشَرِبوا منه إلا قليلاً منهم) ، وكانوا ثمانين ألفاً، ولم يشرب منهم إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أصحاب بَدْر، فأما مَنْ شرب فاشتدَّ عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش. (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) : يعني أنَّ الله فضّل الأنبياء والرسل على بعضٍ من غَيْر تعيين الفاضل على المفضول، لكن الإجماع على تفضيل أولي العزْم منهم. واختلف فيما بينهم، فقيل آدم لأنه أبو البشر. وقيل نوح، لأنه أول رسول بعث في الأرض. وقيل إبراهيم، لأنه خليل الله. وقيل موسى، لأنه كليم الله. وقيل عيسى، لأنه روح الله. والإجماع على أنَّ نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيدهم وإمامهم، والمبعوث إليهم، وإلى الملائكة، لا يختلف في هذا القول إلا جاحد ومَنْ لا خَلاَقَ لَه. فإن قلت: ما معنى قوله عليه السلام: " لا تفَضّلوني على يونس بن مَتى "؟ فالجواب أنه قال ذلك على وَجْه التواضع والانبساط، والتنبيه للمخاطب على أَلاّ يتعرض لأنبياء اللْهِ ورسله بالغَيْبة. أو قال ذلك قبل أن يعلم بفَضْلِه على سائر أنبيائه ورسله. وانظر كيف يكون حال مَنْ يتعرض بالنَّقْصِ لهم من هؤلاء القصَّاص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 والمؤرخين بنسبه الذَّنب لهم، كآدم، وداود، ويونس، وغيرهم، ورَضِيَ اللَه عن الإمام عليٍّ حيث يقول: "مَنْ حَدَّث بما يقول هؤلاء القصَّاص جلَدْته حدَّين لما ارتكب مِنْ صَرْف. ومن رفع الله محلّه هذا في الجملة، فكيف بمن تنقَّصَ أو عاب سيّدهم وإمامهم، والذي عليه مدار أمْرِهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: " كنت نبيئاً، وآدم بين الماءء والطين "، ويظهر لك تفضيله على أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: (وإذ أخَذْنا من النبيّين ميثاقَهم ومِنْكَ ومِنْ نوح) ، فقدّمه على أولي العَزْم منهم، تنبيهاً لكَ على أنك لا تعلم حقيقته هنا، إنما يظهر كمال شرفه إذ يستشرف من شرف المحشر، فيشرف بالشفاعة، فآدم ومَنْ سِوَاه تحت لوائه، وكلهم يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه يُسْلِم نفسه لصاحب النفس، ويقول: لا أسألُك نفسي ولا فاطمة ابنتي، وإنما أسألُكَ أُمَّتي، أُمَّتي يا مَنْ لا يخْلِف الميعاد. وقد وعدتني ألاَ تخْزِيني فيهم. فأقسم عليك يا سيد الأولين والآخرين بمن أعطاك هذه الكرامة والْمَنْزِلة الرفيعة، لا تَنسَ عَبدَك في ذلك اليوم العظيم، بل في الدنيا، ينْقذني مِنْ شرِّ هوَاي وشهوتي، ويُقبل بي عليه وعلى طاعته، ويستعملني في خدمته، ولست بأهلٍ لذلك، إن لم تكن نفحةٌ من بحر جودك، وإلاّ فأنا متعلق بذَيْلِك، متوستل لك بمدحك والصلاة عليك، وهي من أعظم الوسائل عندك، للَه دَرُّك من محبوب! ما أعْذَبَ ذِكْرك! كم غَرَّت غرتك من غِرّ جاء ليغرف عند مشاهدتك. قال: ما هذا وجه كذّاب، غاية جمال يوسف أن أفْتَنَ نسوةً، وجمالك قد أفتن الكونين، كم عاداك من عاد إليك، كل قلْب قَلاك فأقْلَبه القدَرُ فانقلب إليك، ما طاب عيش عباده الأنبياء حتى صليت بهم في صوامع السموات، ما جلا عروس رسالتك ليلةَ الإسراء على منصب قاب قوسين إلاّ ليعلم عُذَّال: (أتجعل فيها مَنْ يفْسِد فيها) ، ما حوت صدفة آدم من يتيمة الوجود، اجتمع في مدرسة درس رئيس الملائكة، يسأل ما الإسلام، وما الإيمان، وما الإحسان، ومِن خواص الجنّ من غلبهم التعجّب، فقالوا: (إنا سمِعْنا قرآناً عَجَباً) . ومن فضلاء الإنس من كان به الأنس كـ (ثَانِيَ اثنين إذْ هما في الغار) . إن كانت شمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 السماء تظهر الظاهر فشمس شرْعك تُظهر الغيب. اتَقُوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، إذا كان في النجوم هدى للسالك في السالك، فكم بنجوم آياتك من مهتدٍ إلى الحق. (فأماتَه الله مائةَ عامٍ ثم بعثه) : الضمير يعود على عزَير. وقيل: على الخضْر، وذلك أنه مرّ على قرية، وهي بيت المقدس لما خرَّبَها بخْت نَصّر، وقيل قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فسأل عن كيفية إحيائهم، فأراه الله ذلك عياناً في نفسه، ليزدادَ بصيرة، وأماته مائةَ عام ثم بعثه، وذلك أنه أماته غدوة يومٍ، ثم بعثه قبل الغروب من يومِ آخر بعد مائة عام، فظنَّ أنه يوم واحد. ثم رأى بقيَّةً من الشمس، فخاف أن يَكذب، فقال: (يوماً أو بعض يوم) . وروي أنه قام شابًّا على حالته، فوجد أولاده وأولادهم شيوخاً. وكذلك قصة أصحاب الكهف، لما بعثهم قال بعضهم لبعض: (كم لبِثْتُم) . وكذلك يسألون في القيامة: (كم لبثتم) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) ، كل ذلك دلالة على أنَّ الدنيا كلها كثيرهاَ كقليلها، ولا يلبث الإنسان فيها إلا كنَفَس واحد. وهذا مشاهد، وليس الخبر كالعيان. (فلما تبَيَّن له) ، أي تبيَّنَ له كيفية الإحياء، فأراه الله في نفسه ذلك. ولذلك قال: (انظر إلى طعامِكَ وشرابك لم يتَسنَّه) ، أي يتغير. وانظر إلى حمارك كيف تركْتَه مربوطا بحبل من ليف، ولم يتغير. قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) - بهمزة قطع وضم الميم - اعترافاً. وقرئ بألف وَصْل والجزم على الأمر، أي قال له الملك ذلك. فإن قلت: ما الحكمة في أنَّ عزيراً سأل الإحياء، فعاقبه، وإبراهيم سأل مثل ذلك فأجابه؟ فالجواب أن عزَيراً سأل عن القدرة، فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وإِبراهيم سأل عن كيفية القدرة، فقال: (كيف تحيى الموتى) ، لأن قوله (أنى) بمعنى كيف، إذ لا يشكّ في الله في القدرة، فسؤاله إنما كان على جهة الاستخبار لا الإنكار، كما زعمه بعضهم. وقيل: إن إبراهيم عرف بالقلب، فأراد أن يرى بالعَيْن، وذلك أنه لما قال النمرود: (أنا أُحيي وأميت) ، فقتل رجلاً وأحيا آخر، فقال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) ، لأني أعلم أنه ليس فعلك كفعله، فأراه الله ذلك في أربعةٍ من الطير، وفَرَّق أجزاءَها، وجعل جزءاً من الحمام مع جزءٍ من الدّيك، وخلط بعضَها مع بعض، ليكون أبلغ في القدرة حيث رجع كلّ جزء إِلى صاحبه، فاطمأنّ قلْبُه كما طلب، ولهذا كانت هذه الطير طير العبرة، وطير المحنة الطاوس الذي كان سبب خروج آدم من الجنة. وطير التجربة الحمار الذي كان لنوح في السفينة حتى دخل إبليس بين قوائمه. وطير الفتنة لداود حيث تسوّرَ له في المحراب. وطير الهلكة لسليمان. وطير الحجة لعيسى حيث صوَّره من طين، ونفخ فيه، فصار طائراً بإذن الله. وطير الكرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وطير اللعنة للنمرود حيث دخل في خياشيمه وهي البعوض، وأمهله ثلاثةَ أيام، لعله يتوب. وطير الهلكة للحبشة لما أرادوا هَدْم الكعبة، فأرسل الله عليهم طَيراً أَبَابِيل تَرميهم بحجارة من سِجِّيل، على كل واحد اسم صاحبه. وطير المعرفة للعارفين يطير حتى يتعلق بالمولى سبحانه (1) . (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . أي إن لم تنتهوا عن الربا حورِبْتم. ومعنى (فَأْذَنُوا) : فاعلموا. وقرئ بالمد، أي أعْلِموا غيركم. (فاكْتُبوه) : ذهب قوم إلى أنَ كتابةَ الدَّيْن واجبة بهذه الآية. وقال قوم: إنها منسوخةٌ بقوله: (فإنْ أمِنَ بعضكم بعضاً) . وقال قوم: إنها على الندب. (فرَجلٌ وامْرَآتان) : قال قوم: لا تجوز شهادةُ المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال.   (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح، وفي بعضه من الإسرائيليات ما فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وقالوا: معنى الآية: (إن لم يكونا) ، أي لم يوجدا. وأجازه الجمهور، لأن المعنى إن لم يستشهد رجلان فرجل وامرأتان، وارتفاع رَجل بفعل مضمر، تقديره فليكن رجلٌ، فهو فاعل. أو تقديره فليستشهد رجل، فهو مفعول لم يسمَّ فاعله، أو بالابتداء، تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون. (فإنّه فسوقٌ بكم) . أي إن وقعتم في الإضرار المتقدّم في قوله: (ولا يُضَارَّ كاتِبٌ ولا شَهيد) . (فرِهَانٌ مَقْبُوضَة) : بهذا احتجّ الشافعيّ على صحة الرهن. واحتج مالك بأنه شرط كمالٍ. وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله. وأجاز الجمهور وَضْعه على يد عدل. (فإنْ أَمِنَ بعضُكم بَعْضاً) . أي أمن صاحب الحق المَدِين لحسن ظنه به، فليستَغْن عن الكتابة، وعن الرهن، فأمر أوّلاً بالكتابة ثم بالرهن، تم بالائتمان، فالدين ثلاثة أحوال. ثم أمر المَدِين بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به. (فإنه آثِم قَلْبُه) : معناه قد تعلّق به الإثم اللاحق عن المعصية في كِتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خَبَرُ إن، وقلبه فاعل به. ويجوز أن يكون (قَلْبُه) مبتدأ و (آثم) خبره. وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كانت جملة المكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القَلْب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان. (فيَغفر لِمَنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يَشَاء) : قرئ بالجزم فيهما عطفاً على (يحاسبكم) ، وبرفعهما على تقدير فهو يَغفر. (فَإِنْ حَاجُّوكَ) ، أي جادَلُوك. والضمير يعود على نصارى نَجْران، أو اليهود. (فإنما عليكَ البَلاَغ) ، أي إنما عليك تبليغُ رسالة ربّك، فإذا بلَغتها فعلْتَ ما عليك. وقيل إنها موادعة منسوخة بالسيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 (فتقَبَّلَها رَتها بقَبُول حَسَن) : الضمير يعود على مريم. وفيه وجهان: أحدهما - أن يكون مصدرا على غير الضمير. والآخر - أن يكون اسماً لا يقبّل به، كالسَّعوط اسم لما يستَعط به، يعني أن اللَه رضِيها للمسجد مكان الذَّكَر، لأنها قالت: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، يعني لخدمته. (فأنْفُخ فيه فيكون طائراً بإذْن الله) ، وقرئ (طيْراً) بياء ساكنة على الجمع. قيل: هو الَخفّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، ولها أسنان وثَدي، وهي تَحيض. قال وهب: كان يطير ما داموا ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ليعلم أن الكمال للهِ تعالى، وأنَّ فِعْلَ الخالق مخالفٌ لفعل المخلوق. وذكر: (بإذن الله) ، ليرفَعَ وَهْمَ من توهَّم في عيسى الربوبية. وأراد على قراءة نافع بالألف النوع. فإن قلت: ما وَجْهُ تذكير الضمير هنا وتأنيثه في المائدة في قوله: (فتنفخ فيها) ، وهل يجوز أن يكون كلّ واحد منهما مكان الآخر؟ والجواب أنه أنّث الضمير في المائدة، لأنه يعود على الهيئة، وذَكَره هنا، لأنه يعود على الطير، أو على الكاف من (كهيئة) ، وإنما خصّه بالتذكير هنا، لأنه إخبار قبل الفعل، وفي المائدة خطاب الله له في القيامة. قال الزمخشري: في الأولى الضمير للكاف، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير، فيكون طيرا، أي فيصير طيرا كسائر الطيور. وقال في قوله: (فتنفخ فيها) الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي يخلقها عيسى، وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنها ليست من خلقه ولا نفْخِه في شيء. قال: وكذلك الضمير في تكون. . . انتهى كلامه. وهو في غاية الوضوح. (فَوْرهم) : الضمير للملائكة، أي من ساعتهم. وقيل المعنى من شَرِّهم (1) . والمعنى أنَّ الله أمدَّ المسلمين بهذا العدد، ليزيدهم قوة.   (1) أي من غضبهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 فإن كان في يوم بَدْر فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان في يوم أحد فقد شرط أن تصبروا وتتقوا، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة. (فما وهَنوا) ، الضمير للربيين على إسناد القتل للنبىء، وهو لمن بغى منهم على إسناد القتل إليهم. (فأثابَكمْ غَمًّا بغَمٍّ) ، أي جازاكم غَمًّا بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين، إذ عصيتم وتنازَعتم. وقيل: أثابكم غمّاً متصلاً بغم، وأَحَد الغَمَّين ما أصابهم من القتل والجراح، والآخر ما أرجف من قَتْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فَشَلْتم) : أي جَبنْتم. (فَزَادهم) : الفاعل ضمير القول، وهو أنَ الناس قد جمعوا لكم. والصحيح أَن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قَوَّى إيمانهم وثقتهم بالله. (فانقلبوا) ، أي رجعوا بنعمة السلامة وفَضْل الأجْر. (فلا تَخَافوهم وخافونِ) : يعني أنَّ الشيطان يخوِّفُ أولياءَه فيخوفونكم أيها المؤمنون، فلا تخافوهم. وقراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه. وقيل المعنى: يخوف المنافقين، وهم أولياؤه من كفّار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف. (فلا تحسبنّهم) : بالتاء وفتح الباء خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالياء وضمّ الباء، أسند الفعل للذين يفرحون، أي لا يحسبون أنفسهم. (فإن آنسْتم منهم رشداً) : الخطاب لأولياء الأيتام أن يدفَعوا إليهم أموالَهم إذا رشدوا، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدّين. واشترط قومٌ الدين، واعتبر مالك البلوغَ والرشد. وحينئذ يدفع المال. واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفَه. وقوله مخالف للقرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 (فَليَسْتَعْفف) : أمر الوصيَّ الغنِيَّ أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً، وإنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف من غير إسراف. وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقَدرِ عمله وخدمته. وقيل نسخها: (إن الذينَ يأْكلُونَ أموالَ اليتامى ظُلْماً) . قال عمر بن الخطاب: لا بأس للوصيّ الفقير أن يستسلف من مال محجور له، فإذا أيسر ردَّه. (فانْكحوا ما طابَ لكم من النساءِ) ، أي ما حلّ. وإنما قال " ما " ولم يقل " من "، لأنه أراد الجنس. وقال الزمخشري: لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله تعالى: (أو ما ملكَتْ أيْمَانُكم) . (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) . إباحة للأزواج أو للأولياء على ما تقدم من الخلاف - أن يأخذوا ما دفعه النساء من صدقاتهن عن طِيبِ أنفسهن. وقد قال بعضهم: مَنْ أصابه ألم فليأخذ مِنْ صَدَاق زوجه أربعةَ دراهم، ويشتري بدرهمين عسلاً وبدرهمين زيتاً ويشربها بماء مطر، فإن الله يعافيه، لأن الله قال في الزيت مباركاً، وفي المطر مباركا، وفي العسل شفاء، وفي الصداق الهناء -. وإن أضاف إليها آيةً من كتاب الله ففيه الشفاء أيضاً. (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) ، إنما أنّثَ ضمير الجماعة في (كن) ، لأنه قصد الإناث. وأصله أن يعود على الأولاد، لأنه يشمل الذكور والإناث. وقيل: يعود على المتروكات. وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبْهَم، ونساء تفسير. (فوق اثنَتَين) : ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك جمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثين، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة. وقال الجمهور: لهما الثلثان. وتأولُوا فوق اثنتين فما فوقهما. وقال قوم: إن فوق زائدة كقوله: (فاضرِبوا فوق الأعناق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وهذا ضعيف. وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنّة لا بالقرآن. وقيل بالقياس على الأختين. (فلها النصف) : نصّ على أنَّ للبنت النصف إذا انفردت، ودليلٌ على أن للابن جميعَ المال إذا انفرد، لأن للذكر مثل حظّ الأنثيين. (فلأمه الثلث) : لم يجعل الله للأم الثلث إلا بشرطين: أحدهما عدم الولد. والآخر إحاطة الأبوين بالميراث، ولذلك دخلت الواو لِتَعْطِفَ أحدَ الشرطين على الآخر. وسكت عن حظ الأب استغناء بفهمه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان، فاقتضى ذلك أنَ الأب يأخذ بقيّته وهو الثلثان. (فإن كان له إخوة فلأمَه السّدس) : أجمع العلماء على أن ثلاثة من الإخوة يردّونَ الأم إلى السدس. واختلفوا في الإثنين، فمذهب الجمهور أنهما يردانها إلى السدس. ومذهب ابن عباس أنهما لا يردانها إليه، بل هما كالأخ الواحد. وحجَّته أنَّ لفْظَ الإخوة لا يقع على الإثنين، لأنه جمعٌ لا تثنية. وأقلّ الجمع ثلاثة. وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقَع على الإثنين، كقوله: (وكُنا لِحكمِهِم شاهِدين) . و (تسوَّروا المحراب) . (وأطرَاف النهار) . واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الاثنان فصاعدا جماعة ". وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعداً. ومذهبه أن أقلّ الجمع اثنان، فعلى هذا يحجب الأخَوان فصاعداً الأم عن الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين، أو لأب، أو لأم، أو مختلفين، وسواء كانا ذَكَرَيْن أو أنثيين، أو ذكراً وأنثى، فإن كان معهما أبٌ ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأمَّ ولا يرثون. وقال قوم: يأخذون السدس الذي حَجَبوا عنه الأم، وإن لم يكن أب ورثوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 (فهم شرَكاء في الثّلث) : يعني إن كان الإخوةُ للأم اثنين فأكثر فلهم الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: (شركاء) يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك. ولما وقع النزاع بين فَقِيهَيْنِ في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة، رأى أحدهما رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كلّ منكم مصيبٌ، فإن أقلً جمع التثنية اثنان. وأقل جَمْع الإفراد ثلاثة. فانظر كيف أَرضماهما ظولف بقوله. (فاستَشْهِدوا عليهنَّ أربعةً منكم) ، إنما جعل شهداء الزنى أربعة تغليظاَ على المدعي، وسَتْرًا على عباده، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "هَلاَّ سترتَه بردائك". وفي حديث آخر: "من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستترْ عنا بستر الله، ومن أبدى لنا صَفْحَة وجهه أقمنا عليه الحدَّ". وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين. (فأَمسكوهن في البيوت) : كانت عقوبةُ الزنى الإمساك في البيوت، تم نُسخ ذلك بالإيذاء المذكور والتوبيخ. وقيل إن الإمساك في البيوت للنساء، والإيذاء للرجال، فلا نَسخ بينهما. ورجَّحه ابن عطية والزمخشري وابن الغرس بقوله في الإمساك: من نسائكم، وفي الإيذاء: منكم، ثم نسخ الإمساك والإيذاء بالرجم للمحصَن، وبالجلد لغير المحصَن. واستقر الأمرُ على ذلك،فأما الجلد فمذكور في سورة النور، وآما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه، وبَقِي حكمه. وقد رجم - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً الأسلمي وغيره. (فأَعرِضوا عنهما) : لما أمر بالإيذاء للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو تَركُ الإيذاء، وفيه ترجية للتائب. وقد أخبرنا الله في أربع آيات من كتابه أنه يتوب على المؤمنين، قال تعالى: (لقد تاب الله على النبي) . (ويتوبَ اللَهُ على المؤمنين) . (والله يريد أن يتوبَ عليكم) . (إنما التوبة على الله) . وأخبرنا في ثلاث آيات أنه يقبل توبتهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 قال تعالى: (ألم يعلموا أن اللهَ هو يَقْبَل التوبةَ عن عباده) . (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) . (وقابل التَّوْبِ) . وذكر لنا أنه يغفر لهم في ثلاث آيات، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) . و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) . وأخبرنا في آيتين أنا إنْ رجَعْنا إليه قَبلنا، قال تعالى: (وأنِيبوا إلى رَبكم) . وقال: (فَفِرُّوا إلى اللهِ) . وقد قدمنا أن في هاتين الآيتين إشارةً إلى فلاح التائب ومحبته له. وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) . فقدم محبةَ التائب على التطهر، وما ذلك إلآ أنَ التائبَ تقَع ندامته واستغفاره، وطلب العذْر والدعاء من مولاه، ولذلك كان المعصوم على الإطلاق يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة. وقال الصحابي: إنْ كُنّا لنعدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد: رب اغفر لي وتُبْ عليَّ - أكثر من سبعين مرة، فكيف بك أنها الغَرِيقُ! ولا يخلصك من ذلك إلا بكثرة الاستغفار، والصلاة على النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما يَمْحَقان الذنوب مَحْقاً. قال - صلى الله عليه وسلم -: " التائب من الذنب كمن لا ذَنْبَ له ". وإذا لأَمًلْتَ الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تجد فيها محبةَ الله للتائب والمستغفر، ألا ترى أن اللَهَ قدّمه في آيات من كتابه، كقوله تعالى: (التّائبُون العابِدُون الحامدون) . (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقْتَصِد) . وفي الحديث: " طُوبَى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ". وقد قرن اللهُ صحبةَ التائبين مع الصابرين، والمجاهدين والمحسنين. والمتوكلين والْمُتَقين والمقاتلين في سبيله، والمتّبعين لنبيه، فما أشرفَها من خصلة إن وفَّقَك الله إليها! ويا لها من نعمة يجب عليك شكرُها! وكيف لا تشكره عليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 والشكر نعمةٌ أخرى، لكنه سبحانه يعطي الكثير، ويَرْضى باليسير. ، فاللسان ترجمان القلب. ولو جعل الله في قلبك رؤية هذه النعم لحركته فما يدفَع عنك النَقَم، أعجبتكَ نفسك، فرضيت أفعالها! ألم تعلم أنَّ أصْل كلِّ معصية الرضا عن النفس. سرحت لسانك في أعراض إخوانك، وهل خلقه لك إلا لتسبِّحه، أو تذكر نِعَمه، أو تستغفر من ذنوبك الصادرة منك! فإنّا للَه وإنّا إليه راجعون على مصابنا وعدم اهتبالنا بما كسبته جوارِحُنا، نسأله سبحانه السلامة والعافيةَ في ديننا ودنيانا، بجاه نبينا وحبيبنا. (فاحشة ومَقْتاً) . قد قدمنا أن الفاحشةَ معناها الزنى، وزاد في هذه الآية (مَقْتاً) ، لأنَ تزوّجَ الرجل زوجة أبيه أشدّ من الزنى. (فَتَيَاتكم المؤمنات) : هنَّ الإماء. ويجوز نكاحهن إذا لم يجد طَوْلاً للمحصنات. (فانكحوهنَّ بإذْن أهلهن) ، أي ساداتهنَّ المالكين لهن. (فإذا أُحْصِنَّ) . معناها إذا زنت الأمَة بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة. (فَتِيلا) : هو الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفّيك إذا فتلتهما، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، فيدل على الأكثر بطريق الأولى. (فَردوه إلى الله والرسول) : الردُّ إلى الله هو النظر في كتابه. والرد إلى الرسول هو سؤائه في حياته، والنظر إلى سنَّته بعد وفاته. (فَمِنْهمْ مَنْ آمَن به) . معناها أنَّ مِنَ اليهود مَنْ آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرآن المذكور في قوله: (مصدّقاً لما معكم) . أو بما ذكر من حديث إبراهيم. فهذه الضمائر في (به) . وقيل منهم، أي من آل إبراهيم، ومنهم من كفر كقوله: (فمنهم مهْتَدٍ وكثير منهم فاسقون) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) . معناها: كيف يكون حالُهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم، ويقولون: لم نرد إلا مُوافَقتك يا محمد، مع أنهم كاذبون في قولهم، فانظر هذه الملاطفة الواقعة مِنْ أمْرِ اللَه لرسوله في شأنهم. (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) : لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها. ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم. ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا. وقيل بسبب خصام الزبير مع الأنصاريّ في الماء الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن كان ابن عمتك ". وحكمها عام. (فأولئك مع الَّذِين أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم.. .) . أشار بها إلى أنَّ مَنْ أطاع الله ورسوله يحشر معهم. وهي مفسرة لقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . (فانْفِروا ثُبَاتٍ) ، أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرقين، أو جماعات. وفيها إشارةٌ إلى السرايا، وأنَ مَنْ خرج بها فهو كالمجاهد، ولا يُقال إنَّ المجاهد لا يكون إلاَّ مع الإمام، وقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا أن أشقّ على أمتي ما قعدْتُ خِلاَف سَرِيّة ". وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا ويحرِّض عليها. وقد وصف من تخلّف عنها بأنه من المسْتهزئين. (فبما نَقْضِهم ميثاقَهم) : (ما) زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره: بسبب نقضهم فعلنا ما فعلنا، والباء تتعلق بقوله: (حَرَّمْنَا عليهم) ، ويكون (فبِظُلمٍ) على هذا بدلاً من قوله (فبما نَقْضِهم) . (فآمِنُوا خَيراً لكم) : انتصب (خيراً) هنا، وفي قوله: (انتهوا خيراً لكم) - بفعل مضمر تقديره: وأْتُوا إيماناً خيراً لكم. هذا مذهب سيبويه، وعلى هذا فنصبُه على النعت لمصدر محذوف. وقال بعض الكوفيين: هو خبر كان المحذوفة، تقديره يكن الإيمان خيراً لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 (فمن اضْطرَّ) : راجع إلى المحرمات المذكورة قَبْلَ هذا: أباحها اللَّهُ عند الاضطرار. (فاغْسِلوا وجوهَكم وأَيدِيَكُمْ إلى المرافق) : ذكر الله في هذه الآية صفةَ الوضوء، وذكر فيها أربعة أعضاء: اثنان محدودان وهما اليدان والرجلان، واثنان غير محدودَيْن وهما الوجه والرأس. فأما الحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرِّجلان إلى الكعبين وجوباً بإجماع، فإنَّ ذلك الحد هو الذي جعل الله لهما. واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين وغسل الرجلين مع الكعبين أم لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله: (إلى المرافق) و (إلى الكعبين) - أوجب غسلهما، ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غَسْلهما. واختلف في الكعبين: هل هما اللذان عند معقد الشِّراك لذكرهما بلفظ الجمع، كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد. وأما غير المحدودين فاتّفق على وجوب إيعاب الوَجه، وحَدّه طولا مِنْ أَوَّل منابت الشعر إلى آخر الذقن واللحية، وحدّه عَرْضاً من الأذن إلى الأذن. وقيل من العِذار إلى العِذَار. وأما الرأس فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه. ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما روي في الحديث أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القَدْرِ الذي يجزئ على أقوال كثيرة. وسِرّ الأمر في غسْل هذه الأعضاء في الوضوء أن الله أكرم هذه الأمة في الجنة بالخواتم والخلاخل والأسورة والتِّيجان والنظر إلى الله، فأمرهم بغسل هذه الأعضاء، ليطهرهم من الذنوب الواقعة منها، فيلقوه ولا ذَنْب عليهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعرف أمتي يومِ القيامة، لأنهم غرّ محجلون من آثار الوضوء ". فلا يحافظ عليه إلا مؤمن، لأن مفتاحَ الجنّة لا إله إلا الله، ومفتاح الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 الوضوء: قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) . فانظر كيف سوَّاهم مع رسول الله، لقوله: (إنما يريد الله ليذْهِبَ عنكم الرِّجْسَ أَهلَ البَيت) . (ويتم نعمته عليك) . فإن قلت: لم مُنِع المتيمم من مسح رأسه؟ والجواب أنَّ وَضْعَ التراب على الرأس علامة الفراق من الحبيب، والله تعالى لا يحب فراقهم، فلم يجعل لهم ما يتفاءلون به على الفراق. (فَاطَّهَّروا) : هذا أَمرٌ بالغسل لمن وجب عليه، وفيه إجمال، بخلاف الوضوء، فإنما فصله لأنه من خصائص هذه الأمة، ولم يكونوا يعرفونه، بخلاف الغسل، فإنما علموه مما تقدم. وبهذا أمر الله الأمم المتقدمة، وسِره ليذوق الإنسان وبالَ ما أصابه من اللذة في الوقاع، وأن الدنيا لا تَخْلو من كَدَرِ، وفيه معنى النظافة، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن تمرّ عليه جمعة إلا ويغتسل فيها مرةً، مع أنه يكفر السيئات، ويرفع الدرجات، وقد صحّ أنه يكفر بعدد شعر جسده من السيئات. فإن قلت: ما معنى الحديث: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قَبلي " لَمّا غسل الأعضاء ثلاثاً، مع قولكم: إنه من خصائص هذه الأمة؟ والجواب أنه كان من خصوصية الأنبياء لا أممهم، لما قدمناه من أنَ الله أراد بذلك تطهيرهم، ولهذا تقول الأنبياء والأمم يوم القيامة: كادت هذه الأمة أن تكون كلها أنبياء، فما أشرفها من أمة نبِيٍّ كريمٍ! (فأغريْنا) ، أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الغراء. (فَترَةٍ) : سكون وانقطاع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع الرسل، لأنها كانت متواترة، كلّما جاء أمةً رسولها كذّبوه إلى وقت رَفْع عيسى، فانقطعت الرسل إكراماً لهذا النبي الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 (فَلِمَ يعَذَبُكم بِذنوبِكم) : رد عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، فردّ الله عليهم أنه يعذبهم وينتقم منهم، والأبُ لا يعذّب ولده، والحبيب لا يرضى بعذاب حبيبه، ففيه تبكيتٌ لهم، وإشارة إلى أن من أحبَّه يرفع درجته، ولا يكون العبد محبوباً عند مولاه إلا بعد الإخلاص في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية. وأمّا من يدَّعي المحبّة وهو عَريّ عنها فهو كاذِبٌ في دَعْواه، غَيْر واصل لما يتمنّاه. واعلم أن العَبْدَ مع الله على ثلاثة أوجه: حال يكون للعبد عليه. وحال يكون للَه على العبد. وحال يكون على رأس العبد شاء ذلك العبد أو أَبى. فأما الحال التي تكون للعبد على الله فهي حال الشدة والمحنة، فللعبد على اللَه الأجر والعوض، قال تعالى: (ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظَمَأ ولا نَصَب) . وأما الحال التي تكون للَه على العبد فهي حال النعمةِ والرخاء، ولله على العبد الشكر والنعمة، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) . وقال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) . وأما الحال التي تكون على رَأس العبد فهي حال القضاء والقدر، قال تعالى: (قل لَنْ يُصيبنا إلاَّ ما كتَب الله لنا) . وإذا علمت هذا فمرادُ الله منك في حال النعمة - الشكر، ومجازيك بالزيادة: (لَئِنْ شَكَرْتمْ لأَزِيدَنكم) . وفي حال النقمة الصبر، ومجازيك بالثواب الجزيل (وجَزَاهمْ بما صَبَروا جَنَّةً وَحَرِيرا) . وفي حال الطاعة - الإخلاص، ومجازيك بالقَئول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) . وفي حال المعصية التوبة والرجوع إليه، ومجازيك بالمغفرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 فمن ادَّعى محبَّته تعالى وهو غَيْرُ ممتثل لأمْرِه فهو كذاب في دعواه، غير مدرك ما يتمنّاه. وهذه دعوى اليهود والنصارى وهم مخالفون في أَمره، فإياك والتشبّه بهم، فالتشبّهُ بأهل الخير فلاح. وإذا كان سبحانه يسأل الصادقين عن صِدقهم فكيف بمَنْ لم يعمل، وقد قالوا: عمَل بلا إخلاص كحقيقةٍ بلا روح، فلا تكثروا العملَ بالبَهْرَج، غدير صاف أنفع من خليج كَدِر. ما أشبه حجر الْمَهَا بالْجوهر، لكن بين الثمنين بَون بعِيد. ربح المرائي منتن يَشِين القلوب الصافية. (فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) : هو من الفرقة. وقيل من الفَصْل، أي افصل بَيْنَنا وبينهم بحكم. (فإنّها مُحَرَّمة عليهم أربعين سنةً) : قد قدمنا أنَّ الله حرَّم على بني إسرائيل الأرضَ المقدَّسة أربعين سنة، مدة عبادتهم العِجْل، حتى مات كلّ مَنْ قال: (إنا لنْ نَدْخلَها) ، ولم يدخلها أحَد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التِّيه أيضاً. وقيل إِن موسى وهارون لم يكونا في التّيه، لقوله: (فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) . وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتلَ الجبَّارين، وفتح المدينةَ. والعامل في أربعين محرّمة - على الأصح، فيجب وَصْله معه. وقيل العامل فيه يتيهون، فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: (مُحرَّمة عليهم) . وهذا ضعيف، لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا، مع أنَّ القولَ الأول أكمل معنى، لأنه بيانٌ لمدة التحريم والتّيه معاً. (فلا تأْسَ على الْقَوْمِ الفاسِقين) . أي لا تَحْزَنْ على مَنْ فسق منهم يا محمد، لإنكارهم هذه القصص في كتابك، مع علمهم بها في كتبهم. وقيل الخطاب لموسى. (فكأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعاً) : تمتيل قاتِلِ الواحدِ بقاتل الجمع يتصوَّر من ثلاث جهات: إحداها: القِصاص في قَتْل الواحد والجمع سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 والثاني: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان. والثالث: الإثْم والعذاب الأخْرَوِي. قال مجاهد: إنَّ الله وعد قاتل النفس بجهنّم والخلود فيها، والغضب واللعنة. والعذاب العظيم. فإن قَتَل جميع الناس لم يزِدْ على ذلك. وهذا الوجه هو الأظهر، لأنَّ القصد بالآية تعظيم قَتْلِ النفس، والتشديد فيه، ليَزْدَجِر الناس عنه. وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع، لتعظيم الأمْرِ والترغيب فيه. وإحْياؤها هنا إنقاذها من الموت، كإنقاذ الغريق وشبهه. وقيل بترك قَتْلها. وقيل بالعفو إذا وجب القصاص. (فمَنْ تاب منْ بَعْد طلْمه) : توبة السارق هي أن يندم على ما مضى، ويُقْلِعَ فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى مَنْ يستحقّه. واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القَطْع، وهو مذهب الشافعي لظاهرِ الآية، أو لا يسقط عنه، وهو مذهب مالك، لأن الحدودَ عنده لا تسقط بالتوبة، إلا المحارب، للنصّ عليه. (فَتَرى الذِين في قلوبهم مَرَضٌ) : هم المنافقون، كعبد اللَه ابن أبي بن سَلول وأصحابه. (فعسى اللَهُ أن يأتِيَ بالفتح أوْ أَمْرٍ مِنْ عنده) : لا يكون فيه تسبّب لمخلوق. وقيل أَمْرٌ من الله لرسوله بقَتْل اليهود. والفَتْح: هو ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) : مِنْ قَصْدِهم الاستعانة باليهود على المسلمين، وإضمار العداَوة للمسلمين. (فسوف يَأتي اللَّهُ بقَوْم يحِبّهم ويحبّونه) : قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية، وقال لهم: قوم هذا، يعني أبا موسى الأشعري. والإشارة بذلك - والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن. وقيل المراد أبو بكر الصدِّيق وأصحابه الذين قاتلوا أَهْلَ الردَّة. ويقَوِّي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 من الجد في قتالهم، والعَزْم عليه، حتى خالف في ذلك عزم الناس، فاشتد عزمه، ووافقوه، وأجمعوا معه حتى نَصرهم الله على أهل الردة. ويقوّي ذلك أيضاً أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي في أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) ، وكان أبو بكر ضعيفاً في نفسه قوياً في الله. وكذلك قوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) . إشارة إلى مَنْ خالف أبا بكر ولامة في قتال أهْلِ الردة، ولم يرجع عن عَزْمه. فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ والجواب أنه محذوف، تقديره: مَن يَرتَدِدْ مِنكمْ عن دِينه فسوف يأتي الله بقومَ. (فَعَمُوا وَصَمُّوا) : عبارة عن تماديهم على المخالفة والعِصيان. (فاجتَنِبوه) : نصّ في التحريم. والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة. (فيقُول ماذَا أجبتم) . أي يقول الله للرسل يوم القيامة: ماذا أجابكم الأمم من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. والمقصود بهذا السؤال توبيخ مَن كفَر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم. وانتصب ماذا بأجبتم بانتصاب مصدره. ولو أراد الجواب لقال: ماذا أجَبْتم. فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: فيقول للمرسلين (ماذا أجبتم) أنه يخاطبهم هناك، وكذا الخطاب منه سبحانه حيث وقع، كقوله لعيسى: (أأنْتَ قُلْت للناس) ، وقد قلتم إنَّ كلامه تعالى قديم ملازم لِلذاتِ القديمة، وقول الرسل: (لا عِلْمَ لنَا) ما معناه، لأنهم علموا بمجاوبة قولهم وإنكارهم؟ والجواب أن الله يسمعهم خطابه حينئذ، لا أنه يحْدِثه، لأنه قديم قائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 بذات، وهكذا نداؤه سبحانه للرسل والأمم يومئذ، كقوله: (ويَوْمَ ينادِيهم فيقولُ ماذا أَجَبْتُم الْمُرْسَلين) . والرّسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يذهلوا عن جوابِ قومهم لهم في الدنيا، لأنهم آمِنون يومئذ، وإنما تأدَّبوا مع الله سبحانه لردّ العلم إليه سبحانه. قال ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا. وقيل معناه عِلْمنا ساقط في جَنْب علمك. ويقوّي هذا قولهمِ: (إنَّكَ أنْتَ عَلاَّم الغُيوب) ، لأن من علم الخفيَّات لم تَخْف عليه الظواهر. وسؤال الله لهم مع علمه توبيخٌ واحتجاجٌ على المخالفين. وانظر الصحابة رضي الله عنهم كيف تأدبوا بهذا الْخُلق العظيم في آخر حجَّةِ الوداع لما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّ يوم هذا، أي شهر هذا، أي مكان هذا، فأجابوا بقولهم: الله ورسوله أعلم، مع أنهم علموا الشهر واليوم والمكان، لكنهم تأدّبوا معه - صلى الله عليه وسلم -، وتوهموا لعله أن يريد غير هذا. (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) . هذه عادةُ الله سبحانه في عقاب مَنْ طلب مِنَ الرسول آيةً فكفرها، وأصحابُ المائدة سألوها من عيسى، فقال الله: (إني مُنَزلها عليكم) ، فكفروا، فمسخهم الله قردةً وخنازير. قال عبد اللَه بن عمر: أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة مَن كفَر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون. (فانظروا) : أمَر الله رسولَه أن يأمر قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمنازل الكفار الذين كانوا قبلهم. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: (فانظروا) ، و (ثم انظرُوا) ؟ والجواب أنه جعل النظر مسبَّبا عن السير في قوله: (فانظروا) ، فكأنه قال: سيروا لأجل النظر. وأما قوله: (قُلْ سيروا في الأرض ثم انْظروا) ، فمعناه إباحةُ السير للتجارة وغيرها من النافع، وإيجاب النظر في الهالكين. (فإنّهم لا يكذِّبونك) . بتشديد الذال بمعنى لا يكذبونك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون الحق جمع علمهم به. ومن قرأه بالتخفيف قيل معناه لا يجدونك كاذباً. يقال: أكذبْت فلاناً إذا وجدته كاذباً، كما يقال أحْمدته إذا وجدته محموداً. وقيل هي بمعنى التشديد، يقال أكْذَب فلانٌ فلاناً، وكذّبه بمعنى واحد. وهو الأظهر، لقوله بعد هذا: (يجحدون) . ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل، فإنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذِّبك، ولكن نكذب ما جئْتَ به، وإنه قال للأخنس بن شَرِيق: والله إن محمداً لصادق، ولكني أحسده على الشرف. (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، أي من الذين يجهلون أنَّ اللَه لو شاء لجمعهم على الهدى. وقد قدمنا أن قول الله: (فَلَا تَكُونَنَّ) - بالتأكيد - لرسوله لإفراط محبته فيه، لأن العادة أن يكون الاجتهاد على قدر المحبة، بخلاف قوله لنوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، لأنه صَفِيّ، ولا يبلغ قَدْر المحب. (فَرَّطْنَا) ، أي ضَيَّعنا وأغفلنا. والمراد بالكتاب في الآية اللَّوْح المحفوظ. والكلام على هذا عامّ. وقيل القرآن، ومعناه أن الله لم يفرط فيه من شيء، فيه هداية الْخَلق، والبيان لهم. وقد قدمنا أنَّ جميعَ العلوم الدنيوية والدينية مستنبطةٌ منه. (فلولا إذْ جَاءَهم بأسُنَا تَضَرَّعوا) : في هذه الآية عرض وتحضيض على التضرع، ومدح لهم في رجوعهم إلى الله، ودليل على أن من أخذه اللَه بذنوبه فلم يرجع إليه يقسو قلبه، كما ذكر في هؤلاء الكذابين. (فلما نَسوا ما ذكَروا به) : أي من الشدائد، ولم يتعظوا بها، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله. (فتَطْردهُمْ) : هذا جواب النفي في قوله: (ما عليك) . (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) : استفهم عن المؤمنين والكافرين لعلهم يجيبون، فأجاب عن السؤال بقوله: (الذين آمَنوا ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقيل إن (الذين آمنوا) استئناف، وليس من كلام إبراهيم. (فإنْ يكْفرْ بها هؤلاء) : أي أهل مكة. (فقد وَكَّلْنَا بها قوماً لَيْسوا بها بِكافرين) : هم الأنبياء المذكورون. وقيل الصحابة، وقيل كلّ مؤمن. والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك. ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها، والقيام بحقوقها. (فبِهدَاهمْ اقْتَدِه) : استدل به مَنْ قال إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنا شرع لنا. وقد قدمنا أن الاختلاف إنما وقع في الفروع. والخلاف: هل يقتدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في (اقْتَدِه) للوقف، فينبغي الوقف عليها، وتسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعَى ثبونها في خط المصحف. (فأخْرَجْنَا به) : أي بالماء. ومنه: أي من النبات. وذكر الله الإخراج في كتابه في خمس آيات: إخراج القدرة، وهو الصبيان. (والله أخرجكم من بُطون أمَّهَاتِكُم) . وإخراج النعمة كهذه، وكقوله: (فأخرج به من الَثمرات رِزْقاً لكم) . (فأخرجنا به أزواجاً من نَبَاتٍ شتّى) ، كالحبّ والعِنَب. وإخراج العقوبة: (فأخرجَهُمَا ممَّا كانَا فيه) . وإخراج الهيبة: (يخرجون من الأجداث سِرَاعاً) . وإخراج الكرامات: (يُخْرِجهم من الظَّلماتِ إلى النور) . أي من الكفر إلى الإيمان، ومن النكرة إلى المعرفة. فإن قلت: لم جمع الظلمات، وأفرد النور، وجمع السماوات وأفرد الأرض حيث وقع في كلامه سبحانه؟ والجواب لما شَعَّب سبحانه الكفْرَ على شعب كثيرة جمعه بهذا الاعتبار. والنُّور واحد أفرده وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكما نشاهد السماوات بعلامة الكواكب، والمنّة للهِ علينا فيها، لأن فيها منفعتنا ذكرهنَّ بلفظ الجمع، بخلاف الأرض، لأنّا لا نشاهد غير الأرض التي نحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 عليها، ولا منفعة لنا في غيرها، ولو كانت لنا فيها منفعة فالسموات أعظم لخدمتهن، والاستدلال بكواكبهن، وخدمة أهلهن لنا كما قدمنا. (فاعْبدوه) : مسبَّب عن مضمون الجملة، أي من كان هكذا فهو المستحقُّ للعبادة وحده. (فكلُوا مما ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه) : أباحت هذه الآية أكْلَ ما ذُكر اسمُ الله عليه، والنهي عما ذبح للنّصُب وغيرها، وعن الْمَيْتَة. وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله: (ولا تَأكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرِ اسْم الله عليه) . وقد استدل بذلك مَنْ أوجب التسميةَ على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الْمَيْتَة وغيرها، فإنْ حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على ذلك. وقال عطاء: هذه الآية أمْرٌ بذكر الله على الذبح والأَكل والشرب. (فما كانَ لِشُرَكَائهم فلا يَصِلُ إلى الله) : كانوا إذا هبّت الريح فحملت شيئاً من الذي لله إلى الذي للأصنام أقَرُّوه، وإذا حملت شيئاً من الذي للأصنام إلى الذي لله ردُّوه، وإذا أصابتهم سنَةٌ أكلوا الذي لله وتحامَوْا نصيب شُرَكائِهم، وهذا من جَهْلهم. ولهذا رد الله عليهم بقوله: (ساء ما يَحْكمُونَ) . (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البالغَةُ) : لما أبطل حجّتهم أثبت حجة الله، ليظهر الحق، ويبطل الباطل. (فإنْ شَهدُوا فلا تَشْهَد مَعَهُم) ، لأنهم يكذبون في شهادتهم، ونسبتهم لله ما لا يليق به، فكيف تشهد يا محمد وأنتَ على الحق. (فَالق الحبّ والنوَى) : أي يفرق الحبّ تحت الأرض، والحنطة لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها. وقيل أراد الشق الذي في النواة والحنطة. والأول أرجح لعمومه في أصناف الحبوب. (فالق الإصْبَاح) : أي الصبح، فهو مصدر سُمِّي به الصبح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ومعنى فَلقه إخراجه من الظلمة. وقيل: إن الظلمة التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير فالق ظلْمةِ الإصباح. (فتَفَرَّقَ بكمْ عن سبِيله) : أي تفرقكم عن سبيل الله. والفعل مستقبل، حذفت منه المضارعة، ولذلك شدَّده. (فرَّقوا دِينَهم وكانُوا شِيَعاً) : جمع مَنْ فرق دينه من اليهود والنصارى وأهل البِدَع. وقرئ: (فارَقوا) ، أي تركوا. وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصَارى على اثنَتَين وسبعين. وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة. قيل: ما هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي ". ولولا الإطالة لذكرت فرق هذه الأمة ومذاهبها. وقد تكفّل بذكرها أئمتنا للاحتراز منهم، جزاهم الله عن هذه الأمة خيراً. (فجاءَهَا بأْسنَا بيَاتاً) : لا يصح عطْف هذه الآية بالفاء، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك. ويحتمل أن يكون استئنافاً على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلّف. والمراد أهلكنا أهلها، فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل: (أوْ هم قَائلون) ، من القائلة بالنهار. وقد أصاب العذابُ بعضَ الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار. و (أو) هنا للتنويع. (فما كان دَعْوَاهمْ) : أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا الاعتراف بأنهم ظالمون. وقيل: المعنى أن دَعْوَاهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب بأنهم كانوا ظالمين في ذلك. (فَلَنَقصَّنَ عليهم بِعِلْمٍ) : أي على الرسل والأمم. (فَبِمَا أغْوَيْتَنِي) : الفاء للتعليل، وهو متعلِّق بفعل قسم محذوف، تقديره أقسم بالله بسبب إغوائك، لأغوينَ بني آدم، وما مصدرية. وقيل استفهامية، ويبطله ثبوت (فَبِما) مع حرف الحر. وفي الحديث أنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 " لا أزال أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ". فقال الله:، " وعِزَّتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني، وأنا الغفور الرحيم ". (فَعَفوا فاحِشة) : هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عرايا: الرجال، والنساء. ويحتمل عموم الفواحش. (فمن أظلَم ممَّن افترى على الله كذباً) : هذه الآية بالفاء، وفي الثانية من الأنعام، وفي يونس، لما فيها من المناسبة اللفظية، لأنه افتتح آية الأنعام بقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ، ثم قال: (ومَنْ أظْلَم) . وختم الآية بقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) . ليكون آخر الآية لفظ أول الآية، وتتبع هذه الآية يطول ذكرها، فقِسْ ما ذكرته على ما لم نذكره. (فَمَا كانَ لكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل) : هذا من قول أولاهم - وهم الرؤساء والقادة، لأُخْراهُمْ - وهم الأتباع والسفلَةُ: لم يكن لكم علينا من فَضْل في الإيمان والتقوى يُوجب أن يكون عذابنا أشدَّ من عذابكم، بل نحن وأنتم متساوون. (فذوقوا العذابَ بما كنتم تَكسِبون) : هذا يحتمل أن يكون من قولهم أيضاً، أو من قول الله لهم. (فصَبْرٌ جَمِيلٌ) : هذا وعْدٌ من يعقوب بالصبر، وارتفاعُه على أنه مبتدأ تقديره صَبْر جميل أمْثَل، أو خبر مبتدأ تقديره شأني صبر جميل. روي أن يعقوب عليه السلام لما طال بكاؤه، واشتد حزنه، نهاه الله عن ذكر يوسف، ثم أمر جبريل عليه السلام أن يتصور بصورة يوسف، فلما بصر به يعقوب تأوّه، فأوحى الله إليه: قد علمتُ ما تحت أنينك، لو كان ميتاً لنشرته لحسن وفائك. فقال: يا جبريل، ما أعلمني بحياته، فأحبّ أن أشمَّ ريحه. فقال له: الآن بعد ما شكوته ودعوته بلسان الضرورة سأوصل إليك يوسف (1) . وكذلك أنت يا مؤمن وعدَكَ ربُّك بالإجابة عند الاضطرار، وبغُفران   (1) هذا أشبه بالإسرائيليات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 الذنوب عند الاستغفار، فقال: (استغفروا رَبَّكم إنه كان غَفَّاراً) . (فَتَاها) ، أي عَبْدها. ويقال بمعنى الشاب، والعرب تسمي المملوك شاباً كان أو شيخاً فَتًى. فتأمل هذه الإضافة. وفي قوله: (وراوَدَتْه التي هُوَ في بَيْتِها) : يوضّح لك أنكَ في بيته وتحت يده، فإذا اجتنبت الكبائر وما أشبهها يعفو عنك الصغيرة، لأنك في بيته، قال تعالى: (إنْ تجتنبوا كبائِرَ ما تنْهَوْن عنه) . كما عفا عن يوسف للنظر إليها والمخاطبة لاجتنابه الدنوَ إليها، لأنه كان في بيتها. (فقدسرق أَخ لَه من قَبْل) : هذا من كلام إِخْوَة يوسف، ومرادهم أنَّ هذا الأمر صدرَ مِنْ ابنٍ لأمّ لا مِنّا، وقصدوا بذلك رفع المَعَرَّة عن أنفسهم ورَمَوْا بها يوسف وشقيقه. واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال: الأول: أن عمّته ربَّتْه فأراد والده أن يأخذه منها، وكانت تحبّه ولا تصبر عنه، فجعلت عليه منْطقةً لها، ثم قالت: إنه أخذها منها، فاستعبدته بذلك. وبقي عندها إلى أن ماتت. والثاني: أنه أخذ صنما لجدّه والدِ أمه فكسره. والثالث: أنه كان يأخذ الطعام من دَارِ أبيه ويعطيه للمساكين (1) . (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) : الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) . (فتحسَّسُوا مِن يوسفَ وأخيه) ، أي تعرّفوا خبرهما. والتحسس طلب الشيء بالحواس الأربعة: السَّمْع، والبَصَر، والشَّم، والذَّوْق. وإنما لم يذكر الولد الثالث، لأنه بقي هناك اختياراً منه، لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه لصغرهما.   (1) لا دليل على واحد من الأوجه الثلاثة، والظاهر أنه افتراء من إخوة يوسف - عليه السلام - والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 فإن قلت: أليست الحواسّ خمسة؟ قلت: الذي مشى عليه الفخر في تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) أن الحواسّ أربعة، فجعل الذوق واللمس واحداً، أَلا ترى أن الشم لا تكليف فيه ألبتَّة، ولا يتعلق به أمر ولا نهي، ولما كان الاسم الشريف من أربعة أحرف دلَّ على أن الحواس أربعة. فالألف للسمع، والحاء للبصر، والميم للشم، والدال للذوق. ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اسمه - صلى الله عليه وسلم - أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمْد، وآخر ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الاسم أن يكون من نوع المبدأ، فاشتق له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماء هو أحمدهم، وأهل الأرض هو مَحْمودهم. (فلما دخلوا على يوسفَ) : هنا محذوفات يدلّ عليها الكلام، وهي: فلما رحل يعقوب بأهله حين بلغه خبر يوسف - آوى إليه أبويه، أي ضَمَّهما وتعانقا، ورأى يعقوب أناساً كثيراً، فقال: يا يوسف، مَنْ هؤلاء، قال: يا أَبت، إن هؤلاء كلهم عَبيدي، وقد أعتقتهم كلَّهم لرؤيتك. فكذلك أنتم يا أمةَ محمد، يقول الله عز وجل: يا محمد، يوسف أعتق عبيده برؤية أبيه، وإني أعتق برؤيتك جميعَ عصاة أُمتك. (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) : هذه على القراءة بالعطف بالفاء المقتَضِية للتسبيب والتعقيب، ولا يصح العطف بالفاء، لأنَّ السبب على ثلاثة أنواع: ظاهر، وخفي، ومتوسط. وإنما يحتاج إلى الفاء في التوسط والخفي، وأما هنا فظاهر كونه سبباً فما بعده، فلا يحتاج في عطفه إلى ما يبيّن كونه سبباً. والآية عند بعض العلماء من باب القَلْب. والأصل فيها: وأولئك في أعناقهم الأغلال، لأن الأغلال محيطة بأعناقهم كإحاطة الظرف بالمظروف، وأعناقهم هي المظروف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وقد قالوا: إن القلب لا يجوز إلا في الضرائر أو فيما قلّ من الكلام. وقد جعلوا منه: (ما إنَّ مَفاتِحَه لتَنوء بالعصْبَة أولي القوة) . وفي الآية دليل على أنَّ منكِرَ البعث كافر، واشتملت على اللفظ العام والإبهام، ثم التفسير، لأن قوله: (وأولئك الأغلال في أعناقهم) - تفسير للعذاب النازل بهم. وهذا من باب ذكر المسبب عقب السبب، لأنَّ الكفر سبب في غلّ الأعناق. فإن قلت: هل هذا على التوزيع، أو كلّ واحد في عنقه أغلال؟ فالجواب أن آية الحاقّة، تدل على التوزيع لكلّ واحد غلّ واحد، أو تكون الأغلال في رؤوسهم، وهو يقوم مقامَ سلاسل متعددة في عنق كلّ واحد من سائرهم، حتى لا يظهر منه شيء. وقيل: إن هذا مجاز فيكونون في الدنيا ممنوعين من الإيمان، كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) . والإشارة بأولئك وتكرارها للذين قالوا: (أإذا كنَّا ترابا) . (فَاخْرج مِنها) : الضمير يعود على الجنة، وإن لم يَجْرِ لها ذكر، أو من السماء، كما قال في آية الأعراف: (فاهْبِطْ منها) . ويحتمل أن يعود الضمير على جملة الملائكة، وعلى هذا فيكون إبليس من الملائكة، وهو الظاهر من القرآن، ومِنْ كثير من الأحاديث، وانتقده ابن عطية بأن الملائكة معصومون، قاله الأصوليون. وحكى الطبري عن ابن عباس أن الله خلق ملائكةً فأمرهم بالسجود لآدم، فأبوا فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم. ورُدَّ بثبوت العصمة للملائكة. (فبما أغويتني) : قد قدمنا مراراً أنَّ الإغواء هو الحَملُ على الوقوع في المعاصي، فلا يقدر على إغواء المخلصين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 بوَجْه، لكن يزيِّن لهم فقط، لأن التزيين هو تحسين القبائح، فالإغواءُ يستلزم الفعل، والتزيين لا يستلزمه. فإن قلت: ما الفرق بين قسمه في الأعراف بالإغواء. وفي (ص) : قال: (فبعزَّتِكَ لأغْوِيَنّهم) ؟ فالجواب أنه أقسم بالأول في الفعل، وفي الثاني بالصفة. قال بعضهم: فعادَتهم يقولون: هذا مناقِضٌ لأصل الزمخشري، لأنه ينفي الصفات جملة، يقول: إن اللَه سميع لا يسمع، بصير لا يبصر، عليم لا يعلم، مريد لا بإرادة، قادر لا بقدرة، بل سميع لذاته، بصير لذاته، عالم لذاته. (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) : هذا تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمَّن الأول. وقال غيره: لو وقف على كلهم لصلحت للاستثناء وصلحت على معنى المبالغة، مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كلّ الناس يعرف هذا، وهذا يزيد لأن المذكور أَمر مشتهر، فلما قال (أجمعون) رفع الاحتمال بأن بعضهم لم يسجد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال المبرد: لو وقف على (كلُّهم) لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال (أجمعون) دل على أنهم سجدوا في موطن واحد. قال ابن عطية: واعترض على قول المبرد بأنه جعل قوله (أجمعون) حالاً بمعنى مجتمعين، ويلزمه على هذا أن يكون أَجمعين، هذا على أَن يقرب من التنكير، إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تَأبى قوله. فإن قلت: ما فائدة إتيانه في الحِجر وفي (ص) بهذا اللفظ دون غيرهما؟ فالجواب أنه لما بالغ في السورتين في الأمر بالسّجُود - وهو قوله: (فقَعُوا له ساجدين) في السورتين بالغ في الامتثال فيهما فقيل: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ، لتقع التوفقة بين أولاها وأخراهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) : هذا من قول إبراهيم عليه السلام على وَجْه التعجب مِنْ ولادته في كبره، أو على وَجْه الاستبعاد لذلك، حسبما قدمناه. وقرئ بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية، وبالكسر والتخفيف على حذف أحد النونين، وبالفتح - وهو نون الجمع. (فاسْألُوا أهْلَ الذّكْرِ) : يعني أحبارَ اليهود والنصارى، لأن جميعهم يشهدون أن الرسل من البشر. ويؤخذ من هذه الآية وجوبُ سؤال الجاهل عما يحتاج إليه في أمْرِ دينه، ولا يُعذَر بجهله. وفيها دليل على أن خَبر التواتر يفيد العلم، لأن المعنى: فاسألُوا أهلَ الذِّكرِ لتعلموا إن كنتم لا تعلمون، فهو سؤال عمّا لم يعلم ليعْلم. فإن كان المسؤولون بَالِغينَ عددَ التواتر فهو خَبَر تواتر، وإلا فهو خبر واحد محصل للعلم في الوجهين. (فالذين لا يُؤْمِنُون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرة) : الفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم، وإنما هو من باب ذكر الشيء عقيب نقيضه، لأن لازم كونه إلهاً واحدًا التصديق لا الإنكار والكفر. (فخَرَّ عليهم السقْفُ مِنْ فَوْقِهم) : هذا كقوله لهم: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) . وهل السقف إلا فوقهم. وقد قدمنا سِرَّ التعببر من فوقهم فيما نقلناه عن ابن عطية. (فادْخُلُوا أبوابَ جهنَّم) : حال مقدرة. وجهنّم الطبقة الأولى من النار. فإن قلت: كيف قال هنا: (ادخلوا أبْوَابَ جهنم) ، مع أنها مأوى العصَاة من هذه الأمة؟ والجواب أنَّ دخولهم فيها ليس على جهة الاستقرار، وإنما هو على جهة الدخول لما تحتها، لأن النصارى قيل في الثانية، واليهود في الثالثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 ورُدَّ هذا بأنَّ الرسل مهما كثرت كانت عقوبة مكذبيها أشدّ، وقوم موسى كفروا بموسى فقط، والنصارى كفَروا بعيسى وهو بعد موسى فعذابه أشد. لأنه سبقه من الأنبياء كثيرون دَعَوْا إلى مثل ما دعا هو قومه. (فتَمتَّعوا) : أي في الدنيا. وهذا على وجه التهديد لمن عقل. (فهو وَلِيّهم اليوم) : فسره الزمخشري بوجوه: منها أنَّ الضمير راجعٌ لكفار قريش، وأنه زَيّن لآبائهم أعمالهم فهو وليّ هؤلاء، لأنهم منهم، فعلى هذا يكون الألف واللام في اليوم لتعريف الحضور، وعلى الوجوه الأخر التي ذَكَر هو وغيره تكون إما لتعريف الماهية، أو لتعريف العهد. (فأحْيَا بهِ الأرْضَ) : الفاء للتعقيب، وخصوصا في مكة، لحرارة أرْضها كما قدمنا أنها تصبح أرضها خضراء بصب المطر أول الليل. (فَرْثٍ ودَمٍ) : قد قدمنا فيما نقلناه عن الزمخشري أنَّ الفرث ما في الكرش من القذر، وهذا من عجيب القُدرة أن اللبن متوسط بين الفَرْث والدم، ولا يغيِّران له لوناً ولا طعماً ولا رائحة. قال أبو حيان: (من بين فَرْث ودم) حال من ضمير (نسقيكم) ، أي خارجا من بين فَرْث ودم. وقيل متعلق بـ (نسقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد. ويجوز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية. (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) : في هذه الآية دلالة على الوحدانية، كأنًّ الله يقول: أنتم لا تسوُّون بين أنفسكم وبين عبيدكم، ولا تجعلونهم شركاء لكم، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي؟ والآخر أنها عتاب وذمّ لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما جاء في الحديث: " أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون ". وفيها دليل على صحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 إطلاق لفظ البعض على النصف وعلى أكثر منه، لأن الفاضل أكثر رزقا من المفضول. وحكي الخلاف في البعض: هل يطلق على النصف أم لا؟ فإن قلت: التفاوتُ إنما هو في الرزق التكميلي الزائد على ما يُقيم الرّمَق ويستر البدن. وأما الحاجِيّ فهم فيه مع المماليك مستوون، فهلا قيل: فما الذين فُضّلوا برادّي فَضْل رِزْقهم، كما قال: (والله فَضّل بعضَكم على بعض في الرزق) ؟ والجواب: لو قيل: فما الذين فضلوا برادّي فَضْل رزقهم لكان فيه غثاثةٌ لتكرار لفظ الفضل ثلاث مرات، وهذا يقال له في علم البيان الاستخدام، وهو أَن يعبَّر باللفظ عن غيره خوْفَ السآمة والملَل. وأيضا فضل الرزق أخصّ من الرزق، فاستعمل الأخص في الثبوت، والأعم في النفي، لأن نفي الأعمّ يستلزم نَفْي الأخص. فإن قلت: لفظ الردّ يقتضي سابقية: الملك والحوز، والمماليك لم يكن لهم ذلك بوجْه، فهلا قيل: فما الذين فضِّلوا بمعْطين رزقهم لما ملكت أيمانهم، وهذا نحو ما أوردوا في قوله تعالى، (أو لتعودُنَّ في مِلَّتِنا) ؟ والجواب: أنه إشارةٌ إلى تأكيد النفي، وأن هذا امتنعوا من إعطائه للمماليك يمكن إن كان يكون للمماليك بدلا عنهم، فكانوا قابلين لأن يملكوه، لأن الذي أعطاه لسادتهم كان قادراً على إعطائه لهم دون ساداتهم بناء على أنَّ من ملك أن يملك يعدّ مالكاً، وإن فسرنا الرزق بما منعه السادات مماليكَهم في قوله: (فما الذين فُضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) فتكون النعمة في قوله: (أَفَبِنعْمَة الله) - الرزق. وإن جعلناه تمثيلاً، أي كما أنِفوا أن يشاركَهم أحَدٌ في رزقهم كذلك ينبغي ألاَّ يجعلوا مع الله شريكاً، فيكون المعنى أفبالدَّلائل الدالة على وحدانية الله يجحدون. وانظر إذا ردّوا كلَّ رزقهم عليهم لا يكونون فيه سواء، وإنما يستوون معهم بردّهم عليهم نصفَ فَضْل رزقهم، فإما أن يكونَ على حذف مضاف، أو يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الرزق مضافاً إلى ضمير ما ملكت أيمانهم، ويكون الذين فَضَّلُوا به مملوكهم هو رزق مملوكهم الذي يساوِيهم به في نفس الأمر. (فلا تَضْرِبوا للهِ الأمْثَال) : الضمير يعود على مَنْ عبد غير اللَه وأشركوهم في العبادة، مع أنهم لا يملكون شيئاً، فنبههم سبحانه بهذه الأمثال والمواعظ ليتنبّهوا ويرجعوا، لكن من المصيبة خطاب غير العاقل، والعاقل تكفيه الإشارة، ولا يستغرب هذا في حقهم، لأنَّا مثلهم في عدم الفهم والإدراك. (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) : إما أن المراد به الكفار باعتبار من سيؤْمِنُ منهم وهم أقلّهم، فأقلهم يعلمون، وإما أن يراد به الأصنام، وعبَّر بالأكثر عن الكل، وهو بعيد. ويحتمل أن يكون الحمد للَه من كلام الله تعالى، أثنى على نفسه بنفسه، أو أمْرًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصا به، أو عامًّا له ولأمته: قولوا الحمد للَه على ما أنعم علينا، بأنْ هدانا ووفّقنا. وفي قوله: (يَسْتَوُون) دليل لمن يقول: إنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما قدمنا. ونَفْيُ المساواة يقع في القرآن على وجهين: تارة مطلقاً كهذه الآية، وكقوله: (هل يَسْتَوي الذين يَعْلَمون والذين لا يَعْلمون) ، وتارة مع تعيّن الأرجح، كقوله: (لا يستوي أصحاب النارِ وأصحاب الجنةِ أصحابُ الجنة هم الفائِزون) . وكقوله: (لا يَسْتَوِي منكم مَن أنْفَق مِن قَبلِ الفَتْح) . وإنما لم يعين هنا الأفضل لظهوره قبل، وكذلك كل أحد يعلم أنَّ أصحاب الجنة هم الفائزون. وذلك أنَّ أصحاب النار يدخل فيهم العُصاة من المؤمنين والكفار، فهل قصد تفضيل أصحاب الجنة بالإطلاق على أصحاب النار بالإطلاق، أو على الكفار، فلما أعيد ذكر الأفضل علم أن المراد بأصحاب النار أصحابها حقيقة، وهو من حُكمَ عليه بالخلود فيها. فإن قلت: الآية خرجت مخرج المدح لفاعل ذلك، فَهَلاَّ ذكر فيها صدقةَ السرّ فقط، لأنها أفضل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 والجواب: أنه قصد التنويه على كثرة إنفاقه ومبادرته إلى أفعال البِرّ كيفما أمكنه، وبدأ بالسر، لأنه أفضل. (فكفَرَتْ بأنْعُمِ الله) : الضمير للقرية المذكورة في المثل. واختلف فيها، فقيل مكة، لأنها كفرت بنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأصابهم الجَدْب والخوف من غَزْو النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم. وقيل: إنما قصد قريةً غير معينة أصابها ذلك، فضرب الله بها مثلاً، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهلِ مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله: (فأذاقَها الله لِبَاسَ الجوع والخَوْف) لأهل القرية: فاعل قوله: بما كانوا يصنعون. والإذاقة واللباس هنا مستعاران، أمّا الإذاقة فقد كثرَ استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة. وأما اللباس فاستعير للجوع والخوْف لاشتمالهما على اللّابس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب. (فحقً عليها القَوْلُ) ، أي القضاء الذي قضاه الله. والضمير يعود على القرية التي أمر مُتْرَفيها ففسقوا فيها، أي قضينا عليه بالفِسق. وعلى قراءة مدّ الهمزة من (آمرنا) فهو بمعنى كثّرنا. وقراءة أمَّرنا - بتشديد الميم فهو من الإمارة، أي جعلهم أمراء ففسقوا. (فَضَلْنَا بعْضَهم على بَعْضٍ) : أي في رزق الدنيا، ليتخذ بعضهم بعضاً سخْرياً. (فَاسأَلْ بني إسرائيل إذْ جاءَهم) : هذه الآية خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعناها سلَ الْمعاصرين لكَ من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى، لتزدادَ بذلك يقينا. وقال الزمخشري: المعنى قلنا لموسى: سَلْ بني إسرائيل من فرعون، أي اطْلُب منه أنْ يرسلهم معك، فهو كقوله: (أرسل معي بني إسرائيل) . أو سلهم أن يعضدوك ويكونوا معك. وهذا أيضاً على أن يكون الخطاب لموسى. والأول أظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 والعامل في إذ على هذا القول الأول آتينا موسى، أو فعل مضمر. والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف. (فَجْوَة) : متسع. ويقال معناه أي موضع تصيبه الشمس. (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) : لفظه أمْر وتخيير. معناه أن الحق قد ظهر، فيختار كلّ إنسان لنفسه إما الحقّ الذي ينجّيه، وإما الباطل الذي يُرْديه، ففي ضمن ذلك تهديد. (فاختلط به نَبَات الأرْض) : الباء سببية. والمعنى صار به النبات مختلطاً، أي ملتفاً بعضه ببعض من شدّة تكاثفه. (فأصبح هَشِيماً) ، أي متفتتاً، وأصبح بمعنى صار. (فلَنْ يَهْتَدوا إذاً أبداً) : يريد به من قضى أنه يؤمن. (فأرَدْتُ أَن أعِيبَها) : الضمير للسفينة. وهذا مؤخّر في المعنى عن ذكر غَصْبها، لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها. وإنما قُدّم للعناية به، وأسند الإرادة هنا لنفسه، لأنها لفظ عيب فتأدّب بألا يسندها إلى الله، وذلك كقول إبراهيم: (وإذا مرضْت فهو يَشْفِين) . فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، تأدُّبا. واختلف في قوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) : هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله. وقوله: (فأراد رَبُّك) . أسندها إلى الله في هذه لأنها أمر مغيب مستأنف لا يعلمُ ما يكون منه إلا الله. وقال بعض الصوفية: لما قال: فأردتُ، فأردنَا - تعرَّضَ له جبريل، فقال: مَنْ أنتَ وما فعلك، فأسنده في الثالثة إلى فاعل الأمور الذي بيده مقاليدها (1) . (فأتْبعَ سَبباً) أي طريقاً يوصله.   (1) كلامٌ لا دليل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) . أي من تمادَى على الكفر قتله، وهو معنى قوله: (فسوف نُعَذِّبُه) . ومَنْ أسلم أحسن إليه. (فما اسْطَاعُوا) : أصلُه استطاعوا، وحذفت التاء في هذا تخفيفا. (فأوْحى إليهم) : أي أشار. وقيل: كتب في التراب، إذ كان لا يقدر على الكلام، مع أنه سليم من الخرس، وإنما جعل الله له ذلك علامةً على حَمْل امرأته. (فحمَلَتْهُ) : يعني في بطنها. (فأجَاءهَا) ، معناه ألجأها، وهو منقول من جاء بهمزة التعدية. (فإمَّا تَرَيِنَّ) : هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد. وترين فعل خوطبت به مريم، دخلَتْ عليه النون الثقيلة للتأكيد. (فأتَتْ به قَوْمَها تَحْمِلُه) : لما رأت الآيات ِ علمت أن الله سيبيِّنُ عذرها، قالوا لها: (يا مريم لقد جئْتِ شيئاً فَرِيًّا) . من الفرْية، وهي الشنعة. (فأشارَتْ إليه) ، أي إلى ولدها ليتكلَّم، وصمتت هي كما أمِرت. فتولى الله تبرئتها، كذلك يعقوب بلغ به البلاء حتى ضاق به الأمر. فأظهر الله له الفرج ببشارة القميص. وكذلك موسى وعيسى، وكذلك عائشة لما ضاق بها الأمر حتى تركت العلائق، ورفعت قَلْبها عن الخلائق، فأنزل الله طهارتها، فقال لها أبوها: قومي فقبِّلي رأسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: بحمد الله لا بحمدكما، لأن الله طهَّرني بالآيات (1) . كذلك أنْتَ يا محمدى، إذا ضاق بك الأمر، وتركت العلائق إلا من الله فتح عليك باب البشارة، وأدخلك دار كرامته.   (1) لفظه عند أبي داوود: 13963- أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِى قِصَّةِ الإِفْكِ ثُمَّ قَالَ تَعْنِى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرِى يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكِ» . وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ فَقَالَ أَبَوَاىَ: قُومِى فَقَبِّلِى رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَحْمَدُ اللَّهَ لاَ إِيَّاكُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 (فاختلف الأحزبُ مِنْ بَيْنهم) ، أي من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم. والأحزاب: اليهود والنصارى، والحق خلاف أقوالهم كلِّها. (فوَيْلٌ للذين كفروا) : قد قدمنا أنَّ الويل هو الحزن والثّبور. ورُوي هذا الكفر الذي كفروا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعةَ أحبار غايةً في المكانة والجلالة عندهم، وطلبوا أن يبينوا أمر عيسى، فقال أحدهم: هو الله نزل إلى الأرض، فأخيا من أَحيا وأَماتَ من أمات. تم صعد فقال له الثلاثة: ليس الأمر كذلك. واتبعه اليعقوبية. ثم قال أحد الثلاثة: عيسى ابن الله، فقال له الاثنان: كذبت، واتبعه النسطورية. ثم قال أحدهما: عيسى أحد ثلاثة: عيسى إله، وأمه إله، والله إله. فقال له الرابع: كذبْتَ واتبعه الإسرائيلية. فقال الرابع: عيسى عبد الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم، فاتبع كلَّ واحد من الأربعة فريقٌ من بني إسرائيل، ثم اقتتلوا، وغلب المؤمنون، وقتلوا، وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أنه في ذلك نزلت: (إنَّ الذين يكفُرون بآيات الله) . فإن قلت: ما الفرق بين وصفهم هنا بالكفر، وفي الزخرف بالظلم؟ فالجواب أنً الكفر أبلغ من الظلم. وقصة عيسى في سورة مريم مشروحة فيها، ذكر نسبهم فيها إلى الله تعالى، حتى قال: (ما كان للهِ أن يتخذ مِنْ وَلَدٍ سبحانه) ، فذكر بلفظ الكفر. وقصته في الزخرف جملة فوصفهم بلفظٍ دونه وهو الظلم. وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه اختصاراً. (فلا تَعْجَلْ عليهم) ، أي لا تستبطىء عذابهم وتطلب تعجيله، إنما نعُدّ مدة بقائهم في الدنيا. (فلما أتاها نُودِيَ يا موسى) . ضمير الإتيان راجع إلى النار، ولم يناده من الشجرة، وإنما ناداه عند وصوله إليها، وإنما أمره بخلع نعْليْه، لأنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 كانتا من جلد حمار ميِّت، فأمر بخلع النجاسة. واختار ابن عطية أنه إنما أمِر بخلعهما ليتأدب، ويعظّم البقعة المباركة، ويتواضع في المناجاة مع خالقه (1) . وأين هذا المقام من مقام سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما زُجَّ به في عالم العزَّة! أراد أن يخلع نعلية، فإذا النداء: يا محمد، لا تخلع نعليك. فقال: يا ربِّ سمعتك تقول لموسى: (فاخلع نعليك) . فقال: يا محمد، لئن أمرت موسى بنزع نعليه على جبل الطور فقد أبحنا لك أن تطأ بنعليك على بساط النور، لأنك المكرَّم عندنا، والعزيز لدينا (2) . اللهم بحرمته لديك اعف عنا واغفر لنا. قيل أصحاب الشجرة في القرآن أربعة: آدم: (ولا تَقرَبا هذه الشجرة) ، وموسى: (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقْعَةِ المباركة من الشجرة) . ومريم: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) . ومحمد - صلى الله عليه وسلم -: (إذ يبَايعونك تَحْتَ الشجرة) . فآدم دَنا من شجرته باختيار نفسه، فصارت عليه محنة، حتى خرج منها بسببها. وموسى دنا من شجرته بالأمر، فصارت عليه بركة، وأوْصله بالوادي المقدس، ونودي (إني أنا رَبُّك) . ومريم دَتتْ من شجرتها باخْتِيار نَفْسها، فصارت عليها محنة، حتى قالوا ما قالوا، ونالها من الألم ما نالها، ولم تَصِلْ إلى رزقها إلا بالعناء. والنبي - صلى الله عليه وسلم - دنا من شَجَرته من حيث الأمر، فعادت عليه رحمةً، وبايعوه تحتها، وظهر الإسلام، واستقام الشرع. وكذلك مثَّل الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة. وقيمة الشجرة بالثمار والأنوار، وقيمة المؤمن بمعرفة الجبَّار، كأنه تعالى يقول: قلبك بموضع شجرة إنباتها معرفتي، وثمرها شهادتي، ونورها حديثي ومنها تصير يا عبدي موحِّدي.. . آدم قصد شجرةً وفيها للعدو نصيب، - فأصابه من الذلِّ والمِحَن والخروج من الجوار ما أصابه (3) . والشجرة التي هي في موضع نظري ومقام معرفتي إذا قصدها الشيطان أتراني أسلمها له، وأنا أنظر إليها كل يوم ثلاثمائة وستين   (1) اختيار العلامة ابن عطية - رحمه الله - أقرب إلى الصواب. والله أعلم. (2) المعنى صحيح لكنه يحتاج إلى سند صحيح. (3) أكثر هذا الكلام فيه نظر، ولا يخفى على أولى البصائر. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 نظرة لحُرمتها، أفتراني أسلمها للشيطان إذا قصدها! بل أطرده وأكافئه كما كافَأت آدم، حين قصد شجرة فيها للعدو نصيب أخرجته منها لنصيبه. والشجرة التي هي نصيبى أكافئه بأن أضع ذنوبك على عنقه، وأدخلك الجنة لنصيي فيك. فإن قلت: قد اختلفت الألفاظ في قصة موسى، ففي موضع قال: آتاها، وفي موضع: جاءها، وفي آية: (إني أنا ربُّك) ، وفي آية: (إني أنا الله) ؟ فالجواب أن لفظ جاء وأتى بمعنى واحد، لكن كثُر هنا لفظ الإتيان، نحو: فأتِيَاه، فلنأتينّك، ثم أتى، ثم ائْتُوا صفا. وكثُر في النمل لفظ جاء، نحو: (فلما جاءهم) . (وجئتك من سبَأ) . (فلما جاء سليمان) . وإنما أبرز الضمير في هذه الآية بقوله: ربك، لأنه خاطبه مرّتين، كل مرة بما يليق به، ففي الأولى أظهر له النعمة في إنجائه من فرعون، وتحنّن شعيب له، وإكرامه بالكلام. فلما تأنّس وزالت عنه الدهشة خاطبه بالألوهية الْمشْعرة بالخوف من هذا الاسم العظيم. فسبحان اللطيف بعباده، الْمُنْعم عليهم بنعمه: خلقهم بلا مثل، وصورهم بلا مشاورة، ورباهم بلا قوة، وهداهم بلا شفاعة، ورزقهم بلا دعوة، وأمرضهم بلا واسطة، وشفاهم بلا دَوَاء، وأماتهم بالعدل، وأحياهم بالقدرة، وغفر لهم بالرحمة. وقد قدمنا أنَّ موسى خرج لطلب النار، فوجد الجبَّار. ويوسف خرج للنزهة فوجد العبودية. وبلقيس خرجت للنظر فوجدت المعرفة. وطالوت خرج لطلب حماره فوجد الملك. وأنت يا محمديُّ إذا خرجتَ من الدنيا لِطَلَب مَوْلاك أفتراك لا تجده وقد خرجت لأجله! كلا، بل تجده، وينيلُك ما انتهت عيْنُك، ولذَّت نفسك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ألا تراه قال لموسى لا توجّه تِلْقَاء مدين وجاع وعَيي ورفع رأسه فقال: أنا الغريب الفقير المريض - فأجابه: الغريب الذي ليس له مثلي حبيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والمريض الذي ليس له مثلي طبيب. فرضي بهذه الكلمات. (فلا يَصدّنَّكَ عنها) : الضمير للساعة، أي لا يصدنَّكَ عن الإيمان بها والاستعداد لها. والخطاب لموسى. وقيل لنبينا ومولانا محمد، وهو بعيد، لأنه قد استعدَّ لها. وقيل الضمير للصلاة، وهو بعيد. (فتَرْدَى) ، أي تهلك. وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنَّك) . (فألْقَاهَا فإذا هي حيَّةٌ) : لما ذكر موسى عليه السلام المنافع التي كانت في عصاه بسؤال الله له أمره أنْ يُلْقيها ليَرَى فيها عجائب غير التي كانت فيها، ويعلمَ أن الله يؤيده وينصره ويعزّه، فألقاها امتثالاً لأمْرِ ربه، فقلب الله أوصافَها وأعراضها، فصارت حيّةً تسعى، أي تنتقل من مكان إلى مكان. والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير. وقد قدمنا أنَّ الله سمّاها بأسماء مختلفة: بالحية، والثعبان، والجان، فأراد بالحية أول أمرها صغيرة رقيقة، ثم تتزايد وتصير كالثعبان في سرعة حركة الجان. وقيل: كان لها عرْف كعرف الفرس، وكان بين لَحْيَيْها أربعون ذراعاً (1) . قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلعُ الحجرَ والشجر، لها كلام كالرعد القاصف. فلما رآها موسى كذلك خاف. وقد قدمنا أن خوفه إنما كان ممن أجل عِلْمه أنها كانت من الشجرة التي أكل منها آدم، وقيل: لأنها كانت معجزة بالخوف منها، فخاف منها كل أحد. فقال الله له: يا موسى، اذهب بها إلى فرعون، وخُذْها، ولا تَخَفْ، سنُعيدها سيرتها الأولى. وموسى أمّنه الله من أربع مخاوف: من إلقاء العصا، وفرعون، وقومه، ومن قَتْل القبطي، فأمنه الله منها جميعا.   (1) من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وأنت يا محمدي إذا رجعْتَ إليه أفتراه لا يُنجيك من غمِّ الدنيا، وعند النّزعْ، وفي القبر، وفي أهوال القيامة. وقد قال لك: (إن الله مع المؤمنين) . إن الله مع الصابرين) . (إن الله مع الذين اتَّقَوْا) . (وإن الله لَمَعَ المحسنين) . موسى كانت في يمينه العصا، فضرب البحر بها فانفلق حتى جاوزَه هو وقومه، والمؤمن الذي بيده كتاب ربِّه أتراه لا يضرب به بحرَ الموت فينفلق له، ويقول له: كن عليَّ رحمةً (1) فتنزع روحه نوماً برفْق كالقطر من الصفا، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لملك الموت: " ارفق بأمتي. فقال له: أبشر، فإني بكل مؤمن رفيق ". (فاقذفيه في الْيَمِّ) : اليم: هو البحر، وأمْر الله في هذه الآية لأمّ موسى أن ترميه في بَحر النيل، لأن فرعون لما ذكر له أن هلاكَه على يد رجل من بني إسرائيل أمر بذبح كلّ ذكر يولد لهم، فألقَتْه في تابوت، وألقت التابوتَ في البحر، وكان فرعون في موضع يُشْرف على النيل، فلما رأى التابوتَ أمر به فسِيق إليه، وامرأتُه معه، ففتحه فأشفقت عليه امرأته، وطلبت أن تتخذه ولداً، لأنها لم يكن لها ولد، فأباح لها ذلك، فذلك قوله: (وألقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مني) . فهذه المحبةُ نفعت امرأة فرعون، وكذلك صَفُورا نفعت محبتها لموسى، وزُليخا ليوسف، وخديجة لمحمد - صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن الذي يحبُّ الله ويحبُّه الله أفتراه لا تنفعه محبته، وهو يقول: (يحبُّهم ويحبُّونَه) ، ولم تكن هذه المحبة إلا لأمّة الحبيب، لأنه كان حبيباً، وحبيبا كحبيب حبيب، ألا ترى آدم كان صفيًّا، فلم يجد أحد من قومه الصفوة، وإبراهيم كان خليلاً فلم يجد أحدٌ من قومه الخلة، وهكذا سائر الأنبياء، لكن من علامة المحبة أولها الإفلاس، وآخرها الوَسواس، ومن فَرّ منه دعاهُ بكثرة الإحسان حتى يستحيي من الله، فيرجع إليه. (فتقول هل أدُلّكم على مَنْ يَكفُلُه) : يعني أنَّ فرعون لما أخذه من التابوت، وأسلمه لآسية صارت ترْضعه في المراضع، فلم يَقْبَل ثَدْيَ مرْضعة.   (1) قياسٌ مع الفارق، فأين نحن من سيدنا موسى - عليه السلام - اللهم احشرنا في زمرة حبيبك ومصطفاك - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 حتى شاع خبره، فذهبت أخته إليهم، وقالت: (هل أدلكم على من يكفُله) . (فرَدَدْناه إلى أمِّه) : وهذا مِنْ مِنَنِ الله عليه لما قالت لهم: أنا أدُلكمْ على أهْلِ بيت يكْفلونه لكم وهم له ناصِحون، وحَرَّضَتْهم بهذا الكلام قالوا لها: أنْت تعرفين هذا الغلام، قالت: لا، غير أني أعلم من هذا البيت الحرصَ على التقرب إلى الملكة والجدّ في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بامّ موسى، فلما أخذته التْقَمَ ثَدْيهَا، ففرحت آسية لذلك، وقالت لها: تكونين معي في القصر. فقالت لها: ما كنْتُ لأدعَ بيتي وولدي - تعني هارون. ولكنه يكون عندي. فأحسنت آسية إليها غايةَ الإحسان، واعتَز بنو إسرائيل بهذا الوليد السعيد، فهذا معنى رجوعه إلى أمّه، وإقرار عينها، وذهاب الحزن عنها. وهذا كله من ثقتها بربها، وتسليم الأمْرِ إليه بعد امتثال أمره، ولولا أن الله رَبَط على قَلْبها بالصَّبْر لكادت تُبدي به، لكن رجعت إلى ربها، فجمع الله شَمْلَها به. ويعقوب لما رجع في حِفْظِ يوسف إلى أولاده وقولهم له: (وإنا له لحافظون) ، واطمأن إلى حفظهم ابتلاه الله بمفارقته. ولما زال عن حفظ إخوته ردّه الله إلى حفظه، فقهر له العبادَ والبلاد، وردّ عليه والده. وأنْتَ يا محمدي لو رجعْتَ إلى الله وتوكلْتَ عليه لحفظك في أهلك ومالك وولدك، وجمع بينك وبين أحبتك يوم القيامة، ولكنك أسأتَ الأدب. واطمأنَنْتَ إلى المخلوقين، فكيف تطمع بنيل مركوبك وقد أعرضت عنه؟! فإن قلت: أي فرق بين الرجوع في هذه الآية وفي آية القصص بالرد؟ والجواب هما بمعنى واحد ولما كان لفظ الرجوع ألطف خُصَّت به هذه الآية. وعبَّر في القصص بالرد لمناسبة قوله: (إنا رَادُّوه إليكَ) . (فنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ) : لما خاف مِن قَتْلِ القبطي أمَّنه الله بقوله: (لا تخف نَجَوْت من القوم الظالمين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وكذلك المؤمن يخاف من غَمّ القيامة، فيسمع النداء: لا تخف فالمراد به غيرك. (فَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، أي اختبرناك اختباراً حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوءة والرسالة. وقيل: خلّصناك من محنة بعد محنة، لأنه خلصه من الذبح، ثم من اليمّ، ثم من القصاص بالقتل. والفتون يحتمل أن يكون مصدراً أو جمع فتنة. (فلبثْتَ سنين في أهل مَدْين) : يعني الأعوام العشرة التي استَأْجَره فيها شعيب لرَعْي الأغنام، فقال له شُعيب في العام الرابع: يا موسى، كلما وُلدت أنثى من الحمْلَان فهي لك في هذه السنة، فكان موسى يُلقي عصاه في الماء، ويسقي الأغنام منها، فولدت كلها أنثى في تلك السنة، فقال شعيب عليه السلام في السنة العاشرة: كلما ولدت ذكورا من الْحُمْلان فهي لك، فولدت في تلك - السنة كلها ذكورا. فاجتمع له أغنام كثيرة، فرجع مع أهله إلى مصر، فآنس في الطريق ناراً، كما قال الله تعالى، فلما دنا منه الكلِيم صار نوراً، وكذلك نار الخليل لما دنا منها الخليلُ صارت روضة ورحمة. وكذلك جبّ يوسف كان مملوءاً عفاريت وحيّات، فلما دنا منه الصديق صار رحمةً، وكذلك البحر لما دَنَا منه الكليم صار يبساً، وكذلك القبر موضع الوَحْشة والديدان فإذا نام فيه الحبيبُ صار عليه روضةً من رياض الجنة. وكذلك يوم القيامة - يوم الحسرة والندامة - فإذا قام فيه الحبيب يصير يوم العز والقربة، والدنوِّ والرتبة. وكذلك النار موضع الملامة فإذا دخل عليها الحبيب صار موضع إظهار الكرامة. (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) : ضمير التثنية يعود على موسى وهارون، وضمير الإفراد على فرعون. يعني أن الله أمرهما بالإتيان إليه ليخْبِراه بالرجوع عما هو فيه، لِمَا في إخبارهما له بإقامة الحجة عليه. وفي ضمن ذلك دعوتُه إلى الإيمان. والمرادُ بإرسال بني إسرائيل معهما لإخراجهم عن ملكه، ومن دائرة حكمه. وفي ذلك تحقير لشأنه وإبطال ما ادَّعاه من السلطان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 فإن قلت: لم حذف من هذه الآية اسم فرعون وأثبته في الشعراء؟ والجواب أنه تقدم ذكره في قوله: (اذْهَبَا إلى فرعون إنّه طغَى) - فلم تكن إعادة اسمه ظاهراً مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا كلمتان. أما آية الشعراء، فوَجْه إظهارِه أنه قد اجتمع فيها أمران: أحدهما: الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافاً إليه فَضْلُه إلى ما ذكر من الفَضْل ببضع وعشرين كلمة. والثاني: أمر موسى عليه السلام أولاً، وإنما أورد بإتيانه قوم فرعون. قال تعالى: (وإذ نادى ربّك موسى) ، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: فأتيا فرعون - فأتهم - إلا أنه لم يقصد ثانياً إلا ذكر متبِعيه، فلم يكن بدّ من الإفصاح باسمه غير مضمر. وأما قوله تعالى في الأولى: فقولا إنا رسولا ربك - بتثنية لفظ " رسولا " فوارد على اللغة الشهيرة. وأما قوله في الثانية: (إنا رسول ربِّ العالمين) - فعلى لغة مَنْ يقول رسول للواحد والاثنين والجماعة والذكر والمؤنث، فورد الأول في الترتيب الثابت على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى، على ما قد تقدم في مثل هذا. وعَكس الوارد مخالف للترتيب، ولا يناسبه. وأما قوله: (إنّا رسولَا ربك) بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب فإنه يناسب من حيث ما فيه من التلطف والرفق لما تقدمه من قوله تعالى: (فقولَا لَهُ قَوْلاً ليِّناً) . وقد تفسر هنا القول، وتبيَّن ما فيه من التلطّف في قوله تعالى في آية النازعات: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) . وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تَأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتأنيس موسى كليمه بقوله: (وأنَا اخْتَرْتك فاسْتَمِعْ لما يُوحَى) ، وما بعده إلى قوله: (قد أُوتِيتَ سؤْلَكَ يا موسى) ، وما بعده. فلما كان مَبْنَى هذه السورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 بجملتها على التلطّف والتأنيس ناسب ذلك بما أمر موسى عليه السلام من دعاء فرعون وأنسه ولطفه، وأمر موسى عليه السلام وأخيه هارون بذلك، فقيل لهما: (فقولَا له قَوْلاً ليِّنا) . وجرى على ذلك قوله: (إنا رسولا ربك) ، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الربّاني. ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيفَ فرعون وملأه وإغراقهم، وأخذ المكذّبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف - ورَدَ فيها: (فقولا إنا رسول رب العالمين) ، بإضافة اسمه تعالى إلى العالمين. لتحصيل أنه مالك الكلّ، وأنهم تحت قَهْره تعالى، وفي قبضته، وعدل عن الإضافة إلى ضمير الخطاب، إذ لم يقصد هنا ما قدم من التلطف. ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى: (ولو شاء ربّك ما فعلوه) - تأنيساً لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ورد فيما بعد: (ولو شاء الله ما فعَلوه) . فقِفْ على ذلك، وقد تبين جليل النظم، وهو التناسب، وتأمل أَمرَهما الله هنا بالإخبار بأنهما رسولَا رَبِّه، وأمرهما في آية أخرى بالتلطف له في الموعظة، لأنه أعون على قَبُول النصح، وإنفاذ الدعوة، وإمالة القلوب إلى ما تدعى إليه، وهذا كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) . واختلف في معنى القول اللين، فقيل: عِدَاهُ شباباً لا يهرم بعده (1) ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت، وأن تبْقى له لذة المطعم والمشرب والْمَنْكح إلى حين موته. وقيل: لا تواجهاه بما يكره، فإن في ذلك تنفيرا له، أو لما له من حق التربية لموسى، فقد روي أنَّ الله عزّ وجل قال: كانت لفرعون على موسى حقّ التربية، فأردت أن أكافئه بقولي: (فقُولاَ له قَولاً ليّنا) . وقيل كنِّياه، وكان له ثلاث كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقد رُوي أن إبليس أتى إليه ودقَّ عليه الباب، فقال: مَنْ، فقال له   (1) هذا الأمر لا يتحقق إلا لأهل الجنة فقط، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه ومنِّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 إبليس: من ادَّعَى الرّبوبية يعرف مَنْ أنا، فقال له فرعون: هل علمت من هو شر منّا، قال إبليس: مَنْ باع آخرته بدنْيا غيره. فانظر هذا اللطف العظيم مع من ادَّعَى الربوبية، فكيف بمن أقر له بالعبودية وعبده مدةً مديدة، أتراه لا يعامله بما تدهش له النفوس من العيشة الهنية. (فمنْ ربّكمَا يا موسى) : خطاب لهما، مع أنَّ موسى الأصل في النبوءة وهارون تابعٌ له. (فيُسْحِتَكم) : معناه يهلككم. وقيل سحت وأسْحَت، وقد قرئ بفتح الياء وضمها. والمعنى متفق. (فأَجمعوا كيْدَكمْ) ، أي اعزموا وأنفذوه. وهذا من قول موسى على وَجْه الإسراع في مقصودهم لعِلْمه بباطلهم. (فرجع موسى إلى قَوْمه) : يعني بعد كمال الأربعين يوماً التي كلَّمه الله فيها في قوله: (وواعَدْنَا موسى ثلاثين ليلة) ، فتناول منها ورقةَ زيتون، فأمر بعشرة أخرى، فانظر بالله ورقة زيتون منعت متَناولها عن المراد، فكيف تنال مرادك مع تناول شهواتك، وخصوصاً إن كانت من ظلم للعباد. (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) . أي في طاعتك لإبليس، فجعل المسبّب مع السبب. فإن قلت: لم خصّ آدم بالشقاء والتوبة في قوله: فتاب عليه وهَدَى، وحوَّاء كانت المتسببة؟ فالجواب: أن آدم كان نبيئاً وحوَّاء كانت من جملة الأولياء الذي يجب أن يكون مأمون العاقبة، ومن شرط الولاية كثرة الْحُزن والخوف إلى آخر الزمان. وخص آدم بالخطاب، لأنه كان المخاطب أولاً والمقصود بالكلام، وأَضاف الإخراج إلى إبليس والإنزال إلى نفسه بقوله: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 لأن الضيف إذا كان كريماً لا يُخْرج ضيفَه من ضيافَتِه، فلما خرج قال له: يا آدم، أسكَنْتك في جوارِ العدو لتعصيه فيها، وتطيعني، فأقول هذا بذاك، والمحبة بيننا باقية، كذلك يوم القيامة يقول: عبدي أنعمت عليك برضاك، وأطعتني برضائي، وعصيتني مخالفاً لأمري، دع الطاعة في مقابلة النعمة، والزّلَّة في مقابلة البليّة، والمعرفة بيننا باقية. (فإمّا يَأْتِيَنَكم مني هدًى) : إن الشرطية دخلَتْ عليها ما الزائدة وجوابها. (فمن اتَّبع هدَاي فلا يَضِل ولا يشْقَى) . أي لا يضلّ في الدنيا، ولا يَشقى في الآخرة. (فلا تستعجلون) ، أي لا تستعجلون العذاب. وقيل المراد هنا آدم، لأنه لما وصل الروح إلى صدره أراد أنْ يقومَ، وهذا ضعيف. (فَعَلَهُ كَبِيرُهم هذا) : ضمير الفعل للصنم، وذلك أنهم لما سألوه عمَّنْ كسر الأصنام قال لهم هذا القولَ، ومقصوده بذلك تبكيتهم لإقامة الحجة عليهم، كأنه يقول: إن كان إلهاً فهو قادر على أن يفعل، وإن لم يقدر فليس بإله، ولم يقصد الحقيقة الْمَحْضة. فإن قلت: قد ورد في الحديث: أنَّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات، إحداها هذه؟ والجواب: أن معناها قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى آخر. ويدلُّ على ذلك قوله: (فَاسألوهمْ إنْ كانوا يَنْطِقون) . وهذا التأويل أولى، لأن نفي الكذب يعارِض الحديث، والكذبُ الصراح لا يجوز على الأنبياء عند أهل التحقيق. وأما المعاريض فهي جائزة، وعلى تقدير جواز الكذب فإنما جاز له ذلك، لأنه فعله من أجل الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 (ففَهَّمْنَاهَا سلَيْمان) : الضمير يعود على القضية المذكورة قبل هذا في الرجلين. (فهل أَنْتم شاكِرون) : لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر. (فنَفخنا فيها مِنْ روحِنَا) : عبارة عما ألقاه الحق سبحانه من أَسرار آثار أسماء الأفعال، وسرى إليها من ذلك السر، فتكوَّن الولد في رحمها، وذلك الإلقاء إما بواسطة الملك المعبَّر عنه بالرّوح أو دونه، وإضافةُ الروح إلى ضميره تعالى إضافة الملك إلى المالك. وقد كثرت الأقاويل في الروح، حتى أنهاه بعضهم إلى أربعمائة قول، ولا يعلم حقيقته إلا الله، كما قال: (مِنْ أمْرِ رَبِّي) ، أي من عجائب ربي. وقيل: من علم ربي. وقيل الروح آدم، (ونفخت فيه من روحي) . وقيل جبريل، (وأيدْنَاه بروح القدس) . وقيل الروح: الْخَلْق العظيم الذي في عالم العزّة يأمر بما يأمره الله به جميع الملائكة، وهو خلق عظيم أعظم العوالم يسبّح كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحةٍ ملكاً يجيىء يوم القيامة صفاً واحداً، فذلك قوله: (يوم يقوم الرّوحُ والملائكةُ صفًّا) . فإن قلت: لم أنث الضمير هنا وذكّره في التحريم، مع أن القصة واحدة؟ والجواب أنه لما كان المقصود في سورة " اقتربت " ذكْرها وما يؤُول إليه أمرها حتى ظهر ابنها وصارت هي وابنها آية، وذلك لاَ يكون إلا بالنَّفْخِ في جملتها خُصَّت بالتأنيث، وما في التحريم مقصور على ذِكْرِ إحصانها وتصديقها بكلمات ربها، وكان النفخُ في جميعها وهو مذكَّر، فلذا قال: (فيه) . وأيضاً فهنا أنَّث بعد ذكر جملة من الأنبياء والرسل بخصائص عليَّة، وآياتٍ نبوية ناسب ذلك ذكر مريم وابنها بما منحا. وأما آية التحريم فمقصود فيها ذِكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 عظتين عظيمتين تبيّن بهما حكم السبقية بالإيمان أو الكفر، وهما قضية امرأتي نوح ولوط، وإن انضواءهما إلى هذين النبييْن الكريمين انضواء الزوجية التي لا أقْرب منها، ومع ذلك لم يغْنيا عنهما من الله شيئاً، وقضية امرأة فرعون وقد انضوت إلى الكافر لم يضرّها كفْره، ثم ذكرت مريم عليها السلام للالتقاء في الاختصاص وسبقية السعادة، ولم يَدعُ داعٍ إلى ذِكْر ابنها، فلا وَجْه لذكره هنا. (الْفَزَع الأكْبَر) : فيه أقاويل، قيل النفخ في الصور. (ففَزعَ مَنْ في السماوات) . وقيل: هو صوتُ القطيعة، وهو قوله لأهل النار: (اخْسَئوا فيها ولا تكَلِّمُون) . (فإن يصْبِروا فالنار مَثْوًى لهم) . وقيل يوم ذبح الموت بين الجنة والنار. وقيل يوم يسمعون: (وامْتَازُوا الْيَوْمَ أيُّها الْمجْرِمون) . وقيل يوم أمر الله آدم ابعث من ذريتك بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة. وقد سمَّى الله في كتابه ثلاثة أشياء أكبر: هذا، (ولذِكْر اللهِ أكبر) . (ورِضْوانٌ من الله أكبَر) . (فَاعْبُدُون) : خصَّت هذه الآية بالعبادة، لأنه لم يرد في سورتها ذكْر لفَظ التقوى في أمرٍ ولا خبر من أولها إلى آخرها، بل ورد فيها الأمْر بالعَبادة في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) . بخلاف سورة المؤمنين، فإنه تكرر فيها ذكر التقوى في ثلاثة مواضع: في قصة نوح: (أفلا تتقون) . والتالية لها: (أفلا تَتَقون) . فروعي في الأولى ما تقدمها، ونُوسب بالثانية ما اكتنفها، وأيضاً فإنَّ العبادة بها ليحصل لهم الاتّقاء، فهي مقدَّمة في الطلب لتحصل ما يتسبَّب عنها إذا كانت الإجابة. وعلى ذلك ورد دعاءُ الخلق، قال تعالى: (يا أيها الناسُ اتَّقوا ربَّكم) ، فالاتّصاف بالتقوى ثان عن الاتصاف بالعبادة، فقيل في الأنبياء: (فاعبدون) . وفي الثالثة: (فاتقُون) ، على مقتضى الترتيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 (فَتَقطعُوا أَمرَهم بَيْنَهم) . أي اختلفوا فيه، وهو استعارةٌ من جعل الشيء قطَعاً، والضمير للمخاطبين، والأصل تقطعتم أمْرَكم بينكم، إلا أَن الكلامَ صرِف إلى الغيبة على طريق الالتفات، كأنه يَنْعَى عليهم ما أَسدَوه إلى آخرين، ويقتح عندهم فِعلهم، ويقول هم: ألا تَرَوْن إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، وإن اختلفوا في الدين مرجعُهم إلينا وحسابهم علينا. فإن قلت: ما فائدة عطف هذه الآية بالفاء وزيادة (زبُراً) ؟ والجواب أن زيادته تأكيد لافتراقهم، ونصب الحال الواردة بياناً وتأكيداً لقُبْح تفرقهم، وتشنيع مرتَكَبهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية لما هنا من التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء، لبنائها على غيرها لما تقدمها من تأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعريفه بما منح سبحانه متقدمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم، ولذلك عطفها بواو العطف، كأنه يقول: نبَّهناهم على السؤال، وأوضحنا لهم أمر مَن تقدمهم، وعاقبة الاستجابة لمن تمسّك بهَدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يَشُبْه شدة الوعيد، ليبقى رجاؤه. (فَلَك) : هو القطب الذي تدور عليه النجوم. (فَجٍّ عمِيق) ، أي طريق بعيد. (فكلوا منها) ، ندب للأكل من الأضحية، وهو من خصائص هذه الأمة المحمدية، يأكلون صدقاتهم فيؤْجَرون عليها بخلاف من تقدم، فسبحان من أنعم عليهم بنعم دنيا وأخرى، جعلنا الله ممن أحبهم. (فاجتَنِئوا الرجسَ من الأَوثان) : من لبيان الجنس، كأنه قال الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقرّباً لها كا كانت العرب تفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 (فيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشيطان) : أي فيُبْطِله، كقولك: نسخت الشمس الظلَّ. (فلا ينَازِعنّكَ في الأمر) ، أي في الدين والشريعة، وضمير الفاعل للكفار. والمعنى أنهم لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسَعُ النزاع فيه، فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي. وقيل المعنى: لا تنازعْهم فينَازِعوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. ويحتمل أن يكون نهياً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ. (فأَقِيموا الصلاة) : الظاهر أنها المكتوبة، لاقترانها مع الزكاة، وإقامتها بإتيانها بالخضوع والحضور، إذ ما كل مصَلٍّ مقيم، ولا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، الصلاة طهرة القلوب، واستفتاحٌ لباب الغيوب. (فاسْلكْ فيها من كلً زَوْجين اثنين) : لما صنع نوحٌ السفينة، وجعل الله علامةَ خروج الماء إفارةْ التنور أَمر جبريل أنواعَ الحيوان أن تأتيه فيضع يمينه على الذَّكَر ويساره على الأنثى. وروي أن أول من دخل السفينة الذّر، وآخر من دخلها الحمار، فتمسك الشيطان بذَنَبه، فزجره نوح، فلم ينبعث، فقال له: ادخل، ولو كان معك الشيطان. قال ابن عباس: زَلَّت هذه الكلمة عن لسانه، فدخل الشيطان حينئذ. وكان في مؤخرة السفينة (1) . وروي أن نوحاً عليه السلام ومَنْ في السفينة شم نتن الزبل والعذرة فأوحى اللَه إليه أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل، وقيل من أنفه خنزير، فكفى نوحاً وأهله ذلك الأذى، فيؤخذ من هذا أن نوع الخنزير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناسَ في السفينة بقَرْض حوائجهم، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد، ففعل، فعطس فخرجت منه هِرّة وهِرّ فكفَيَاهم الفأر.   (1) لا يخفي ما فيه من البعد وإبليس عليه لعنة الله لا يحتاج إلى ركوب السفينة خوفا من الغرق، فهو من المنظرين كما أخبر القرآن، ومرد هذا الخبر وما شاكله إلى أساطير بني إسرائيل. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وروي أيضاً أن الفأر خرج من أنف الخنزير، وهذا كله ليس له مستند. وروي أن إبليس لما دخل في السفينة طمع في إغواء أهلها، فشَكَا نوح إلى اللَه، فأمره أن يحمل معه تابوت آدم في السفينة حتى ينظر إليه إبليس، فيذوب حسرة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الشدّ بالقَيْد أهوَن من النظر إلى الضد، وإذا كانت مشاهدة العدو تمنع الاشتغال بالنفس وتمنع عن الطعام والشراب، فكيف لا تذوب أنْتَ يا محمدي والمحبة في قلبك، كما ذاب إبليس حين نظر إلى عدوه. لو صدقَتْ محبتُك في صحبة معبودك لمنعك مشاهدته عن الشهوات وطلبِ الفضول والتلذذِ بالزلات، ولا يقدر إبليس على وَسوَستك وإغوائك في جميع الأوقات، ألا ترى أنه لم يقدر على دخول السفينة إلا بإذن صاحبه، فكيف يدخل قَلْبَك وفيه مولاك، أما سمعته يقول: (وإذا ذَكَرْتَ ربَّك في القرآن وَحْدَه وَلَّوْا على أدبارهم نُفُورا) . وفي الحديث: إن له صفتين: وسواس، وخَنّاس، فإذا خنس على ابن آدم وشَمّه ووجد فيه الغَفْلة وسوس، وإذا وجده متيقظًا خنس، فانظر بأيّ شيء تعمره، إن عمرته بذكره سبحانه والتفكرِ في عجائبه - طردَهُ عنك، ووصلْتَ إلى حضرته، ألا تراه سبحانه أمر نوحاً بحَمْله معه الحيوان الذي لا معرفةَ له، ولم يفرق بينه وبين محبوبه، فكيف يذيق عَبْدَه المؤمن أليمَ فُرْقته بعد طول خدمته، وقديم معرفته! كأنه سبحانه يقول: يا نوح، احمل ما هو مفارِق لك، وهارب عنك، لتُرِيَ الْخَلْقَ حُسْنَ خُلقك، فيستدلون بحسن خلقك على لطيف صُنعي، أنا لما ذَكَرني الموفون الملازمون ببابي، والخواصّ من عبادي - هديتُهم، وأنعمت عليهم، هذه معاملتي معهم في دار الْمِحْنة، فكيف معاملتي معهم في دار النعمة، إنك أدخلْتَ الخلائق في سفينتك ولكَ إليها حاجة، فأي عجب لو أدخلْتُ جميع العصاة في الجنة ولا حاجة لي فيها! (فبُعْداً) : مصدر وُضِع موضع الفعل، بمعنى بَعُدُوا، أي هلكوا، والعامل فيه مضمر لا يظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 (فارَ التّنُّور) : يعني بالماء، ولمّا أخبرته امرأتُه بوجود الماء فيه ركب هو وأهلُه السفينة، وكان هذا التّنور لآدم، فخلص إلى نوح. واختلف في موضعه، والصحيح أنه كان في مسجد الكوفة، وقيل بدمشق. (فكان من الْمُغْرَقين) : الضمير يعود على ابن نوح، لمّا لم يسمع قولَ أبيه أغرقه الله ببوله، وذلك أنه اتخذ قارورة وأدخل فيها نفسه لظنّه أنه يَنْجو (1) ، فأظهر الله مَوْجَ القدرة، وحال بينه وبين ولده، وكذلك الكافر في خروجه من الدنيا يظهر له موج الشقاوة، فيحول بينه وبين ما يشتهيه من قبول العذر والإقرار بالوحدانية، كما قال تعالى: (وحِيلَ بينهم وبين ما يَشْتَهُون) ، كذلك العبد العاصي يدعو ربَّه بالندامة، فيظهر له موج الرحمة، فيحول بين صرفته ومعصيته، وتَبْقى صرفته، وذلك قوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبه) . وفي الخبر أن نوحاً قال: يا رب، أنت وعدتَني بنجاةِ أهلي وإنَّ ابني من أهلي، فأوحى الله إليه: إنه ليس من أهلك الذين وعدتُكَ بنجاتهم، وقد وافقتك في دعائك على الكفار، أفلا تُوافقني أنْتَ في واحد هو ابنك بعد أن قلْتُ لك: إنه ليس من أهلك! كأنه سبحانه يقول: عبدي، أسلمت إليكَ الدنيا بأسرها عاجلاً، والعُقْبى آجلاً موافقة لسؤالك وإجابة لدعائك، أفلا تسلم لي واحداً من أعضائك، وهو القلب، فأكون لك نعم الرب! (فلا أنسابَ بَيْنَهم) ، يعني في الآخرة، لأن كلً واحد منهم مشغول بنفسه، وكل منهم يفرُّ من أبناء جنسه، مخافةَ أن يتعلق بشخصه، قال تعالى: (يوم يَفِر الْمَرءُ من أخيه) . (فَرضْنَاها) ، أي فرضنا الأحكامَ التي فيها. وقرئ بالتشديد مبالغة. (فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جَلْدَةٍ) ، ليس على عمومه.   (1) كلام يفتقر إلى دليل، وظاهر القرآن يفيد أنه كان من المغرقين في الطوفان. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 يخص منه الْمحصن والمحصنات والعبد والأمة، وصِفَتُه عند الشافعي أن يفرّق على جميع الأعضاء والمجلود قائم. وعند مالك في الظهر والمجلود جالس، وتُستر المرأة بثوبِ لا يقيها الضرْبَ، ويجرَّد الرجل عند مالك، وقال يجلد على قميص ويؤخرُ المريض والحامل للبُرْء. واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط ويضرب بها ضربة واحدة، وأجازه الشافعي للمريض، لورود ذلك في الحديث، ومنعه مالك، وأجازه أبو حنيفة لما في قصة أيوب. فإن قلت: ما الحكمة ُ في سقوط الحدِّ عن المريض؟ فالجواب أن المقصود به التأديب لا القتل، ولذلك أمر بالتخفيف عنه في الحرّ الشديد والبرد الشديد. كذلك العاصى من هذه الأمة إذا دخل النارَ يقول الله لمالك: لا تُقَربه إلى النار العظمى، ولا تعذِّبه عذاب الكفرة، لأن القصد في إدخاله التأديب لا التعذيب، هذا حدُّ العاصي في الدنيا، وهذا حد الجاني في العقبى. (فشهادَة أحدِهم أرْبَعُ شهادات) : بالنصب على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم. وقرئ بالرفع، وهو خبر (شهادة أحدهم) . وقوله: (بالله) ، وإنه لمن الصادقين - من صلة أربع شهادات، أو مِنْ صلة: " شهادة أحدهم "، أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله، لقد رأيْتُ هذه المرأة تزني، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني، ولقد زَنت، وإني لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: لعنة اللَهِ عليَّ إنْ كنْتُ من الكاذبين. (فارِهين) ، بألف وعدمها، منصوب على الحال من المفعول في (تَنْحِتُون) ، وهو مشتق من الفَرَاهَة، وهي النشاط والكيس. وقيل: أشِرين بَطرِين. (فأصْبَحوا نادِمين) : الضمير يعود على قوم صالح، لما تغيرت أَمْوَالُهم كما ذكرناه - ندِموا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 فإن قلت: ما بالُهم لم ينفعهم الندم كقوم يونس؟ والجواب أن ندمهم إنما كان على عدم قتلهم لولد الناقة، ولم يندموا على قتلها، وكذلك نَدَم قابيل، ندم على كونه عجز عن إخفاءِ أخيه لا على قَتْله، فلذلك لم ينفعهما الندم، بخلاف قوم يونس فنَدَمهم كان حقيقةً، وآمنوا فنفعهم إيمانهم، وهذه الأمة المحمدية ينفعهم الندم للحديث: "الندم توبة". وفي الحديث: "إن الحفظة تصعد بعمَل العبد يقابلونه باللوح المحفوظ، فلا يجدون ما كتبوا فيختلجوا، وإذا النداءُ من قِبَل الله: وصلت ندامةُ قلبه قبل وصولكم إليَّ". (فبعثَ اللَّهُ غُرَاباً يبحثُ في الأرض) : لما قتل قابيلُ أخاه، وأراق دمه، فاجتمع النّسور عليه، فتحير قابيل في دَفْنه، فأخذ يدور في الأرض، فكل قطرة وقعت من دم هابيل عليها صارت سبِخَة، فبعث الله غرابَين يقتتلان، فقتل أَحدهما الآخر، نم بحث الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فذلك قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) . والحكمة في بَعث الغراب لاسودَادِه، ولما كان القتل مستغرباً إذ لم يكن معهودًا قَبْلَ ذلك ناسب بعث الغراب إليه، ولهذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. ورَوَى أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امتَنّ اللهُ على ابن آدم بالريح بعد الروح "، ولولا ذلك ما دَفن حبيب حبيباً، وقابيلُ أول من يُساق إلى النار، وهو المراد بقوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ، وهما قابيل وإبليس. وروَى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: يوم الدم، فيه حاضت حواء، وفيه قَتَل ابنُ آدم أخاه. قال مقاتل: كانت السباع والطير تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربت منه الطير والوحش، ومالت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبَرَّت الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وعن ابن أبي واقد عن ابن حبيب، قال: بينما أنا عند أبي بكر الصديق إذ أتى بغراب، فلما رآه بجناحيه حمد الله، ثم قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنْ صيد مصيد إلا بنَقْصٍ من تسبيح، ولا أنبت اللَّهُ نابتة إلا وَكَل بها ملَكاً يُحصي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة، ولا عُضدت شجرة، ولا قطعت إلا بنقصٍ من تسبيح، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب، وما عفا الله أكثر ". "يا غراب، اعبد الله "، ثم خلى سبيله. (فَكهين، وفاكهون) ، أي معجبون، كما يقال حذِر وحاذر. وفي التفسير: فاكهون: ناعمون، وفكِهون: معجبون، وفاكهون أيضاً الذين عندهم فاكهة كثيرة. كما يقال: رجل لابنٌ وتامر، أي ذو لبن وتمر كثير. (فَرَض عَلَيْكَ القرآن) ، أي أنزله عليكَ وأثبته. وقيل معناه أعطاك القرآن. والمعنى متقارب. وقيل: فرض أحكام القرآن، فهو على حذف مضاف. (فلبث فيهم ألْفَ سنة) : الضمير لنوح. والمعنى أنه بقي هذه المدة بعد بَعْثه. وروي أنه عمّر بعد الطوفان ثلاثمائة سنة. وأكثر الصحابة على أنه قبل إدريس، واسمه عبد الغفار. وروى الطبراني، عن أبي ذَرّ. قال: قلْتُ: يا رسول الله، مَنْ أول الأنبياء، قال: آدم. قلت، ثم مَنْ، قال: نوح، وبينهما عشرة قرون. (فالزاجراتِ زَجْراً) : هي الملائكة تزجر السحاب وغيره. وقيل: الزاجرون من بني آدم بالمواعظ. وقيل: آيات القرآن المتضمنة الزَّجْر عن المعاصي. (فالتَاليات ذِكْراً) : هي الملائكة تتلو القرآن والذكر. وقيل: هم التالون للقرآن، والذكر من بني آدم، وهي كلّها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) : يعني أن قوم إبراهيم طلبوا منه أنْ يَخْرج معهم إلى عيد لهم، وأراد الامتناعَ من ذلك، فنظر في النجوم لأنهم كانوا منَجِّمين، وقال لهم: إني سقيم، أي فيما يستقبل، لأن كلَّ إنسان لا بد له أنْ يمرض، أو أراد أنه سقيم النفْسِ مِنْ كفرهم وتكذيبهم له، وهذا التأويل أولى. وقيل: إنه كانت تأخذه الْحمَّى في وقت معلوم، فنظر في وقتِ أخْذِها له، واعتذر عن الخروج معهم لذلك. وقيل: نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم، لأنه أراد كسر أصنامهم، فقال: إني سقيم. والنجوم على هذا ما يَنْجم مِنْ حاله معهم، وليست نجوم السماء، وهذا بعيد. (فما ظَنُّكم بربِّ العالمين) : المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدْتم غيره، كما تقول: ما ظنّك بفلان إذا قصدت تعظيمه، فالقصد على المعنى الأول تهديد، وعلى الثاني تعظيم للَه وتوبيخ لهم. (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) . لما قال لهم: إني سقيم - خافوا أن يكون طاعوناً، فخافوا منه. وتباعدوا خَوْفاً مِن عَدْواه، فمال إلى آلهتهم، وقال هذا القولَ على وجه الاستهزاء بالذين يعبدونها، وقد قدمنا فائدة إدخال الفاء في هذه الآية. (فجعلناهم الأسْفَلين) : يعني قوم النمرود، وذلك أنه قال له: يا إبراهيم، إن كان ربّك ملكاً فليحارِبْني بعسكره، وليأخذ الملك مني. فقال إبراهيم: إلهي، إن نمرود ركب مع جنوده، فأرْسِلْ إليه جنْداً من أضعف خَلْقك، وهي البعوض، لأنها إذا شبعت تموت وسائر الحيوان إذا شبع يَحْيَا، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، لو لم تسأل جند البعوض لأرْسلتُ عليهم جنْداً ما لَوْ جمعت منه لم يكن مثل ما أهلكتهم به (1) . قال تعالى: (وما يعلم جنودَ ربِّك إلا هو) . فركب نمرود - لعنه الله - في سبعمائة ألف فارس مقَنّع ومدَرع، وخرج إلى الخلاء يطلب المبارَزة، فأرسل الله جنْدَ البعوض، وقال لهم:   (1) كلام فيه نظر، فظاهره طلب جند معين من الله تعالى وفيه شيء من التحكم وهو مخالف لما هو معلوم من أدب الأنبياء مع الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 جعلتُ اليوم رزقكم هذا الجند، وقوَّى الله مناقرها، فلم يحجبها الدروعُ والمغافير حتى أكلت لحومهم ودماءهم، ولم يبق منهم أحد غير نمرود، فإنه هرب ورجع إلى بيته، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمْهله حتى يرى ما صنع الله بجنده، فلما دنا وقتُ عَذابه جعل يَحوم حَوْلَ منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيهاً لنمرود وإمهالاً له، كأنه تعالى يقول: أمهلتكَ لمعاصيك وكفرك ولم نأخذك بغتة، فإن رجعت إلينا في الثلاث فلك الأمان، ومنا القبول والإحسان، وإن لم ترجع فالعيبُ منك، أما نحن فقد استعملنا فَضْلنا وكرمنا. وهكذا عادته سبحانه في إمهال الكفرة وعدَم أخْذِهم بغتة، فكيف بك يا محمدي إنْ رجعْتَ إليه! أَتراه لا يقبلك، وقد عاتب أنبياءَه في عدم رحمتهم بالكفَرة اللئام. فإن قلت: قد عبَّر في آية الأنبياء، بـ (الأخسرين) ، فهل هما بمعنى واحد؟ والجوابُ أن الصفتين من السفالة غاية حال الكافرين، ومَنْ كان من الأسفلين فقد خسر خسراناً مبينا، فلا تضادَّ بين الصفتين، لأن السفول لاحق في ذات المنسفل والخسْرَان حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقدّم ما هو لاحق خارجيّ وأخّرَ ما لا يتعدى ذات المتصف به، تكملةً وتَتمَّة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رَعيْ الترتيب، والتسفّل ضد الترقي. وقيل: رُوعي في الصفة مقابلة قولهم: (ابْنوا له بنْياناً) ، لأنه يفهم منه إرادتهم علوَّ أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضدّ، فجعلوا الأسفلين، وهو حسن. (فإنهم يومئذ في العذاب مشْتَرِكون) : الضمير يعود على المتبعين والأتباع، واشتراكهم في العذاب حكم عدل، إذ كلّ منهم مستحق، ألا ترى كيف وصفهم جميعاً بأنهم مجرمون. فإن قلت: هل يفهم من اشتراكهم في العذاب استواؤهم فيه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 والجواب: لا استواء بينهم، لأن الشركة في الشيء قد تقتضي تساوي الشركاء في ذلك المشترك فيه وقد لا تقتضي. والضال والمضلّ وإن اشتركا في العذاب فللمضِلِّ ضعفان، لأنه ضلَّ وأضلّ. فإن قلت: قد قال الذين كفروا: (إنا كلٌّ فيها) ، أي في النار؟ فالجواب أنه إخبار عن التَّساوي في المكان، لا عن الواقع فيه، لأنهم في دَرَكات متفاوتون. وقد صح أن سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - سأل عن سكانها، فقال: الطبق السابع مأوى المناففين. والسادس مأوى مَنْ طغى وبغَى وادعَى الربوبية. والخامس مأوى الجبّارين والظالمين. والرابع مأوى المتكبرين والكافرين. والثالث مأوى اليهود. والثاني مأوى النصارى! وسكت عن الأول، فقال له: أخبرني عن الأول - وألحّ عليه، فقال: عصاة أمتك يا محمد، فأغمي عليه فلما أفاق بكى بكاءً شديدا، وأغلق عليه الباب، وصار يطلب في أمته، فجاءه جبريل وبشّره بالشفاعة فيهم. اللهم كما جعلته رحيما بنا لا تحرمنا من شفاعته، أقسم عليك بجاهه عندك. (فَبَشَّرْنَاه بغلام حَليم. . . الآيات، إلى قوله: (وفَدَينَاه بِذِبْحٍ عظيم) . هذه البشارة انطوت على ثلاثة أشياء: على أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أَوَان الحلم، وأنه يكون حليما. قيل: ما نعَتَ الله الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام بأقل مما نَعَتَهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت الله به إبراهيم، وأَيّ حلم أعظم من حلمه لمّا عرض عليه أبوه الذبح قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) . والحادثة شهدت بحلمهما جميعاً. وفي هذا دليل على أنَّ الإشارة بإسماعيل وهو الذّبيح، وأمْرُ ذبحه كان بالحجاز بمنى، وتمّ رَمى إبراهيم الشيطان بالجمرات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا ابن الذَّبِيحين، يعني إسماعيل، وعبد اللَه أباه الذي نذر عبد الطلب لما حفر بئر زمزم أنْ يَذْبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد اللَه، فمنعه أخواله وقالوا له: افْدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 ابْنَك بمائة من الإبل، ففداه بها، ونحرها عن آخرها، تقرّباً إلى الله، فأخذ منها الناس ما يحتاجون والطير والسباع. قال علماء الإسلام: ومن جَرَّى هذه الواقعة كانت دِيَة الإبل عدد وصفه، كما كان الكبش الذي فدى الله به إسماعيل مثالاً لما وقعت به مشروعية الأضحية. وروي أن إسماعيل أول مَنْ خطّ بالقلم. ورأيت في بعض التقاييد أن أول من خط بالقلم من العرب هود عليه السلام وأن ... كان يكتب به، فرأى في منامه مَنْ نهاه عن كتبه في الأحجار، وأنه إنما خص الله به نبيئاً يبْعث في آخر الزمان، فينزل عليه كتاباً يقرأ ويخطّ بهذا الخط العربي. وعن الأصمعي قال: سألتُ عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي، أَين عَزُب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان بها إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه. وذكر الطبري، عن ابن عباس، قال: الذبيح إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحاق، وكذَبوا. وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديًّا كان أسلم وحَسن إسلامه. قال: الذبيح إسماعيل واليهود يعلمون ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكونَ هذه الفضيلة في أبيكم. وفي رياض النفوس أن أسد بن الفرات قال: كنت بالعراق زمن قراءتي على محمد بن الحسن، فقلت له: اختلف الناس في الذّبيح، من هو، وعندي أنه إسماعيل. قال: لِمَ، قال: لأن الله يقول: (فبَشَّرْنَاها بإسحاق ومِن وراء إسحاق يعقوب) ، فكيف يؤْمر بذبح مَنْ قد أخبر أنه سيولد له، ومن المعلوم أن الإخبار إنما يقع على مجهول العاقبة، فتعيّن أنه إسماعيل. قال الشيخ رحمه الله: هذا إن كان صحَّ الخبر قبل الأمر بالذبح. فإن قلت: لِمَ وصف المبشر به هنا بالحلم، وفي الذاريات، والحِجْر بالعلم؟ فالجواب أنه وصفه هنا بالحم لاَنقياده لخكم ربه، واستسلامه له، ووصفَه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 غيرها بالعلم لكبره. وقيل: إن الحليم إسماعيل، والعليم إسحاق. وعن محمد بن كعب القرَظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم ربَّ إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل. فقال: يا رب، ما لمجتهد بني إسرائيل يدعو بهذا، وأنا بين أظهرهم، قد أَسمعتني كلامك، واصطفيتني برسالتك. قال: يا موسى، لم يحبّني أحدٌ حٌبَّ إبراهيمَ قط، ولا خيّر بين شيء قط وبيني إلا اختارني. وأما إسماعيل فإنه جادَ بنفسه، وأما إسرائيل فإنه لم ييأس من روحي في شدةٍ نزلت به قط. فإن قلت: لِمَ كان الأمر بالذبح هنا مناماً دون اليقظة؟ فالجواب: لتعْلَم أنَّ النبوءة اثنان: رسالة، ورؤيا منام، ولما كان إسماعيل أحب إليه من كل شيء لم يرد اللهْ أن يواجه خليلَه بما فيه كراهية له، فأراه في المنام، كأنه استَحْيىَ منه، وهكذا عادته سبحانه مع أنبيائه وخيرته من خَلْقه، ألاَ ترى رؤيا يوسف سجود إخوته وأبويه، ورؤيا سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - دخول المسجد الحرام، وما سواهما، للدلالة على تقوية صِدْقهم، وإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما. فإن قلت: قد قال الله له: " قد صدَّقْتَ الرؤيا "، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذَّبْح، ولم يصح؟ فالجواب أنه قد بذل وسْعه فيما أمر به من بطْحه على شقِّه، وإمرار الشَّفْرَة على حَلْقه، ولكن الله منعها من القطع، ليعم أنَّ القطع لله لا للسكين، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، فلا يسمى عاصياً ولا مفَرّطاً. فإن قلت: الله تعالى هو الْمفْتدى منه، لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فاديا حتى قال: (وفَدَيناه) ؟ والجواب الفادي هو إبراهيم عليه السلام، والله عزّ وجل وهب له الكبْش ليفتدي به، وإنما قال: وفَدَيْناه - إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الْمُمَكَّن من الفداء بهبته. فإن قلت: لم يشاوره في أَمْر هو حَتم من الله؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكن ليعلم ما عنده، لأنه بشّر بالحلم، وأيضاً ليوطًن الولدُ نفسه على الصبّر، ويحتسب، فجاوبه عليه السلام بأحسن جواب، ألا تراه قال له: يا أبت، خذْ بناصيتي، واجلس على كتفي لئلا أوذيك إذا أصَابني حَرّ الحديد. ففعل إبراهيم، فلما أمَرَّ السكين على حلقه انقلبت السكين، فلحرْمة تعفير وجهه رُفِع عنه الذّبح، فالمؤمن الذي عفّر وجهه في التراب سنين عديدة أتراه يحرقه بالنار؟!! ولما سأل إبراهيم الولدَ الصالح وبُشِّر به أمر بذبحه، ليعلم أنَّ هذا الولد هو الذي طلبه، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأل اللهَ تعالى صلاحَ أمته في وقت وفاته، وطلب منه هو الخليفةَ بعده عليهم، فأجاب الله دعاءه، وأراه سؤاله فيهم: إسماعيل استسلم لقضاء ربه، ومِنْ عادة الصبيان الجزَغ من الألم، ومِن طبع الحديد القَطْع، فلما صبر وغيّر عادته لأجل الله غَيَّر طَبع الحديد لأجله، ولم يقطع كذلك حال المؤمن مع الله، إذا صبر واستسلم للقضاء غيَّر الله طبع العوائد عليه وأثابه الحُسْنى. وقيل: إنه لما صُرع للذّبح كشف الله له عن الجنة حتى يسهل عليه اللقاءُ مع ربه، وكذلك المؤمن في حالة الموت يكشف اللَّهُ له على ما أعدَّ له من النعيم، فيسهل عليه خروج روحه. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو أَحسن ليكون عليه حَسرة ". قيل: لما أُتي إبراهيم بالكبْش يَدَاه مشدودتان إلى قَرْنه، لأن إسماعيل قال له، أَطلقْ لي رِجْلاً واحدة لتعلمَ الملائكة أني فعلْتُ ذلك عن رِضًى مني وطِيب نفس، وأني لم أجزع، فأُتي بالكبش كذلك. وأنتَ يا محمدي لو وافقْتَ ربك فيما أمركَ به لرأيتَ العجائب من لطفه في موافقة جميع المخلوقات لك، لكنّك خالفْتَ فاختلفت عليك الأمور، ولذلك قال بعضهم: إني لأعلم حالي مع ربي حتى في غلامي ودابَّتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ومَرَّ ابن المبارك بفرس يُبَاع بأبخس ثمن، فقال: ما بال هذا، فقيل له: به عيوبٌ كثيرة، من حَرَن ورَكْض، وذَعَارة، فاشتراه وقال في أذنه: إني أتوب من جميع ما عصيتُ الله به، فإياك والمخالفة، فَذلّلَه الله له، وصار كأحسن ما كان. كلّ ذلك من طاعة الله، وعدم المخالفة. ولما فدى الله إسماعيل من الذبح دعا بدعوات منها: اللهم اغفر لكل مَنْ وحَّدَك، ومن أصابته محنة - فتذكَر مِحْنَتي - ففَرج عنه. وقال: يا رب، حاجتي إليك أن تغفر لكل مؤمن ومؤمنة يذكرك فإني أسألك كما بردت النار على خليلك إبراهيم، وانجيتني من الذبح، كذلك خلِّص المؤمنين من النار. فانظر ما أعظم حرمتك عند ربك يا مؤمن، الملائكة والأنبياء وجميع المخلوقات يستغفرون لك، ورسولُك - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيك، أفتراه يعذِّبك بعد هذه الفضائل، بل يفديك من النار بيهودي أو نصراني كما فدى إسماعيل بالكبش الذي تقرَّبَ به هابيل ورباه في الجنة لإسماعيل. فإن قلت: لم وصف الفداء بالعظمة؟ فالجواب: لكيلا يدخل في حدٍّ محدود، إذ لو كان محدودا لوجب الافتداء به، وكذلك سائر المسلمين. وكان فيه مشقة. وقيل: لأنه من عند الله. وانظر كيف وصفه بالعظمة، مع أنه وصف نفسه وكتابَه والأجر بالعظيم، والفوز العظيم، والعذاب العظيم، والظلم شِرْك عظيم، والبهتان، وكَيْد النساء عظيم، وزلزلة الساعة شيء عظيم، والعرش العظيم. وقال: (أنْ تَميلوا ميلاً عظما) . (فقد افترى إثْماً عظيما) ، (وتحسبونه هيِّنا وهو عند الله عظيم) . وقيل: إن الله أمر إبراهيم بتعليق قَرْن الفداء على الكعبة إشارة له أن عَلِّق قلبك بعرشي، ولا تلتفت لسواي، لأني ربُّ الكل. وأنت يا محمديّ إذا علقت قلبَك بربك، وأخفيتَ ما بينك وبينه، ولم تطلِع عليه أَحداً من خَلْقه، أفتراه لا يقْبَلك، وقد أخْفى لك ما لا يخطر ببالك من قرة أعين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فإن قلت: لِمَ لمْ يقل في هذه القصة كما قال قبل: إنَّا كذلك نَجْزِي المحسنين) ، فيكون ذكره تفخيمًا لأمره؟ فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها: (إنا كذلك) ، فاستغنى عن إعادتها. (فأتوا بكتابكم إنْ كنْتم صادقين) : عجَّز قريشاً بهذا الخطاب، لأنهم ليس لهم كتاب يحتجُّون به، وكذلك: (فاسْتَفْتِهم) ، على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بناتْ الله. (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) . يعني بما تعبدون من الأصنام وغيرها. (وَمَا تَعْبُدُونَ) عطف على الضمير في (إِنَّكُمْ) . ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع. ومعنى فاتنين مضِلِّين. والضمير في عليه يعود على ما تعبدون، وعلى سببية، معناها التعليل. و (مَن) مفعول بـ فاتنين. والمعنى إنكم أيها الكفَّار وكل ما تعبدونه لا تضِلون أحداً إلا مَنْ قضى الله أنه يصْلَى الجحيم. وقال الزمخشري: الضمير في " عليه " يعود على الله تعالى. (فَتَولَ عنهم حتّى حِينٍ) ، أي إلى حضور آجالهم. وقيل: حضور يوم القيامة. وقيل: حضور يوم بدر، وهذه موادعةْ منسوخة بالقتال. (فسوف يُبْصرون) : وعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووَعِيدٌ لهم. فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، ولم حُذِف في الثانية المفعول؟ فالجواب: من وجهين: أحدهما أنه اكتفى بذكره أولاً عن ذكره ثانياً. فحذَفه اختصاراً. والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم، كأنه قال: أبصر جميع الكفار، بخلاف الأول، فإنه في قريش خاصة. (فإذا نزل بساحَتِهم فساءَ صبَاحُ الْمنْذَرين) . الساحة، الفنَاء حول الدار، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرِد على الإنسان من محذور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وسوء الصباح مستعمل في ورود الغارة والرزايا، ومقصدُ الآية التهديد بعذاب يحلُّ بهم بعد أن أنذروا فلم ينفعهم الإنذار، وذلك تمثيل بقوم أنذرهم - ناصح بأنَّ جيشاً يحلّ بهم، فلم يقبلوا نصْحه، حتى فاجأهم الجيش فأهلكهم. وفي صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - صعد على الصفا، ونادى بأعلى صوته: يَا صَبَاحَاهْ ففزعت إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) . (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) : هذا تعجيز لهم وتهَكّم بهم. ومعنى يرتقوا يصعدوا، والأسباب هنا السلالم والطرق وشِبْه ذلك مما يوصل به إلى العلو. وقيل: هي أسباب السماء. والمعنى إن كان لهم ملك السماوات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدَبِّرُوا الملك. (فَوَاق) : فيه ثلاثة أقوال: أحدها - رجوع، أي لا يرجعون بعدها إلى الدنيا، وهو على هذا مشتق من الإفاقة. الثاني - ترداد، أي هي واحدة لا ثاني لها. الثالث - ما لها من تأخير ولا توقّف مقدار فوَاق ناقة وهو ما بين حَلبتيها، وهذا القول إنما يجري على قراءة (فُواق) بالضم، لأن (فُواق) بالضم، كذا في الحديث، والقولان الأول على الفتح، والثاني على الضم. (فَصْلَ الخِطَاب) . هو فصل القضاء بين الناس بالحق عند ابن عباس، وعند علي بن أبي طالب - هو إيجاب اليمين عليه والبَيِّنة على المدَّعِي. وقيل كلمة أَما بعد، فإنه أول مَن قالها. وقال الزمخشري: معنى فصل الخطاب: البَين من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به، وهذا هو الذي اختاره ابن عطية، وجعله من قوله: (إنه لقول فَصْلٌ) . (فاعبُدوا ما شِئْتم مِنْ دونه) : هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 (فسلَكهُ يَنَابِيعَ في الأرض) . أي أدخل المطر وأجراه. والينابيع: جمع ينبوع، وهو العين، وفي الآية دليل على أنَّ ماء المطر هو الْمخْرِج للعيون. (فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ، أي في حق الله. وقيل في أمره، وأصله من الجنب، بمعنى الجانب، ثم استعير لهذا المعنى. ومعناه اتقوا يوماً تقول فيه كلّ نفس: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) . ندامةً على استهزائه بأمر الله تعالى. فإن قلت: لم نكرت النفس؟ فالجواب أن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد نفس متميِّزَة من الأنفس إمّا بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، ويجوز أن تكون للتكثير، قال قتادة: لم يكْفه أنْ ضَيّعَ طاعةَ الله حتى سخر من امتثالها. وروي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك عِلْمه وفسق - أتاه إبليس، فقال له: تمتَّع من الدنيا ثم تبْ. فأطاعه، وكان له مال، فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألَذ ما كان، فقال: "يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ"، ذهب عمْري في طاعة الشيطان، وأسخطت الملك الدَّيان، فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن. فليتأمل العاقلُ هذا الوعيد الهائل، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، على طَمْس قلوبنا، وغَفْلتنا عما يراد بنا. صدق الله العظيم في قوله في بعض كتبه: " يا علماء السوء، قد وعظتكم وأنذرتكم، ومِنْ فعل القبيع حذّرْتُكم، وكثير من الآيات أريتكم فلم تنتفعوا بالمواعظ والآيات، (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) ، تطيعون أنفسكم فيما تشتهون وهي تعصيكم فيما تأمرون، بئس العبيد أنتم إذا علمتم أنكم لا تنالون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تبلغون كل ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، تريدون مرافقة النبيين والصديقين والشهداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 والصالحين، بأي عمل عملتموه، بأي غيْظ كظمتموه، بأي رحم وصلتموه، بأي قريب باعَدْتموه، بأيِّ بعيد قَرَّبتموه، وبأي زلة لإخوانكم عَفَوْتم عنها. بأي شهوة تركْتموها، هل أنتم إلا كالْحَمْقَى، أما علمتم أنَ مَن كثر شبعه كثر لحمه، ومن كثر لحمه كثرت شهْوَته، ومن كثرت شهوته كثرت ذنوبه، ومَن كثرت ذنوبه قَسا قلبه، ومَنْ قسا قلبه غرق في الآفات، أما علمتم أن المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء، والمحسن حيٌّ وإن انتقل إلى منازل الأموات ". (فَوْج) : مفرد أفواج، وهي الجماعة من الناس. (فَطَرني) ، أي خلقه ابتداء، ومنه فاطر السماوات والأرض. و (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) . وأفطر بالألف من الإطعام. (فعليه كَذِبه) : هذا من قول مؤمن آل فرعون، يعني إن كان موسى كاذباً في دعوى الرسالة فلا يضركم كذِبه، فلأي شيء تقتلونه؟!! فإن قلت: كيف قال: وإن يك كاذباً - بعد إيمانه به. فالجواب أنه لم يقلْ ذلك على وجه التكذيب، وإنما قاله على وجه زعمكم أنه كاذب، وقصد بذلك المحاجّة عليهم. وفيه احتجاجٌ عليهم، كأنه قال: قدَّرنَا كذِبَه، ماذا عليكم من كذبه، هَبْه رجلاً منكم كذب عليكم، فأقام عليهم الحجة على تقدير الكذب والصدق. (فأَطَّلِعَ) بالرفع على (أبلغُ) ، وبالنصب على إضمار " أن " في جواب لعلي، لأن الترجي غير واجب، فهو كالتمني في انتصاب جوابه، ولا نقول إن لعلل أشربت معنى ليت، كما قاله بعض النحاة. وهذا من قول فرعون لما أمر هامان ببنيان الصرح الذي رام أن يصعد به إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 السماء، وانظر ضَعف عقولهما وعقول قومهما وجهلهم بالله في كونهم طمعوا أنْ يصِلوا إلى السماء ببنْيان الصرح. وقد روي أنه أول من علمنا الآجر، وصعد على الصرح بعد بنيانه، ورَمى بسهم إلى السماء، فرجع السهم مخضوباً بالدم، وذلك فتنة له ولقومه، وتهكم به. (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) : ضمير التأنيث يعود على السماوات، قوله: ائتيا مجاز، وهو عبارة عن تكوين طاعتهما، وكذلك قولهما: (أتَيْنَا طائعين) ، عبارة على أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما. وقيل: بل ذلك كلام حقيقة، أنطق الله السماوات والأرض بالطوع، ولهذا جعهما جمع العقلاء لفعلهما فعلهم. وقول الله لها عبارة عن لزوم طاعتهما كما يقول الملك لمن تحت يده: افعل كذا، شئْتَ أو أبَيتَ، أي لا بدّ لك من فعله. وقيل تقديره: أتيتما طوعاً وإلا أتيتما كَرْهاً. وقيل: إن المجيب له من الأرض موضع الكعبة. ومن السماوات البيت المعمور، فلِذا أكرمهما الله بالطواف بهما. فإن قلت: هلّا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنها سموات وأرضون؟ فالجواب لما جعِلن مجيبات ومخاطبات ووُصفن بالطوع والكره قال: (طائعين) في موضع طائعات، نحو قوله: ساجدين - تغليبا. فإن قلت: لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرضُ مخلوقَة قبل السماء بيوميين؟ فالجواب قد خلق جرم الأرض أولاً غير مَدْحوَّة كما قدمنا، فالمعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأْتيا عليه من الشكل والوَصْف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومِهَاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقبية سقْفًا لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع. وتنصره قراءةُ من قرأ واتَتَا من المواتاة، وهي الموافقة، أي يتواتِ كلّ واحدة أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 (فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) : قد قدمنا أنه لما نظر إلى ملْكه، واستعظمه، بأنْ أَلقى على كرْسيه جسداً، فقيل ولده الذي مات. وقيل: الصنم الذي اتخذته بنْتُ ملك الروم التي أسرها سليمان ثم تزوجها، وهذه عادَتُه سبحانه مع أنبيائه وأحبابه، ولذلك أمر حبيبه بألا يلتفت إلى غيره غيرةً منه عليه، ولما لم يلتفت إلى غيره قَرَّبَه منه، فكان كقَاب قَوْسين أو أدنى. (فوَيلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذِكْرِ الله) : الويل: وادٍ في جهنم تستعيذ منه كلَّ يوم سبعين مرة، وقد ذكره الله لثمانية عشر صنفاً: اليهود: (فوَيْل لهم مما كتبت أيديهم) . (ويل لكل أفاك أثيم) . (وَئلٌ يومئذ للمكذبين) . و (ويل للمطففين) . و (ويل لكل همَزة لمَزَة) . (يا ويلنا إنا كنّا طاغين) . (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) . (يا ويلنا قد كُنَّا في غفلة من هذا) . (يقولون يا ويلتنا) . (ولكم الوَيْل مما تصِفون) . (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) . (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) . (وويل للكافرين من عذاب شديد) . (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) . ولا أظنُّ أحداً في هذا الزمان سلم من هؤلاء الأصناف، وخصوصاً القاسية قلوبهم مِنْ ذكر الله، فقد اتصفنا بها أجمعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذه حالةَ تقتضي ختم القلوب وتغذيها بالحرام الذي يبعد عن المربوب. (فقضَاهنَّ سبْعَ سَموَاتٍ) : أي صنعهن، وانتصانبا على التمييز تفسيراً للضمير، وأعاد عليها هنا ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل. فإن قلت: قد قال أولاً في يومين، وبعده في أربعة أيام، وهنا في يومين. وهذا يقتضي أنها ثمانية أيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 والجواب لما ذكر أنَّ الأرضَ خُلِقَتْ في يومين عُلم أن ما فيها خلق في يومين. فبقيت المخايرة بين أن يقول في يومين، وأن يقول في أربعة أيام، فتلك أربعة أيام، ثم خلق السماوات في يومين، فتلك ستة أيام حسبما ذُكر في مواضع كثيرة من القرآن، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زائدة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملةُ ثمانية أيام، بخلاف ما ذكر في مواضع كثيرة. قال بعض العلماء: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في يوم الأحد، فمن أراد البناء فليبن فيه، وخلق الشمس والقمر في يوم الإثنين وصفتهما السير، فليسافر فيه، وخلق الحيوان يوم الثلاثاء، وأباح ذَبْحها وإراقةَ دمها، فمن أراد الحجامة فيه فليحتجم فيه، وخلق البحار والأنهار يوم الأربعاء وأباح شربها، فمن أراد شرب الدواء فليشرب فيه، وخلق الجنة والنار يوم الخميس وجعل الناس محتاجين إلى دخول الجنة والنجاة من النار، فمن أراد قضاءَ الحوائج فليسأل فيه، وخلق آدم وحواء يوم الجمعة وزوجهما فيه، فمن أراد عقد التزويج فليتزوج فيه، أخذه من قول الإمام علي رضي الله عنه: لنعم السبت يوم السبت حقا ... لصيدٍ إن أردْتَ بلا امترا. وفي الأحد البناء، لأن فيه ابْتدأ اللَّهُ خَلْقَ السماء وفي الإثنين أسفار وربح ... وأمْنٌ في الطريق وفي العطاء وإنْ ترد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعتها هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوماً دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضا حوائِج ... وفيه الله يأذن بالقضاء ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يحويه إلا ... نَبيّ أوْ وَصِيّ الأنبياء فإن قلت: كيف ذكر الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات، وإنما تعتبر بوجود الشمس؟ والجواب أنه يحتمل أن يجعلها على التقدير، وإن لم تكن الشمس خُلقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 بعد، وكان تفصيل الوقت أنها الأحد ويوم الإثنين، كما ذكر فخلق الأرض غير مَدْحوَّة، ثم خلق السماوات فسواهنَّ في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل الرواسيَ وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض، وهذا معنى قوله تعالى: (والأرض بَعْدَ ذلكَ دَحَاها) . كلُّ ذلك تعليم لعباده، وإشارةً لهم في التأنِّي في الأمور، لأنه كان سبحانه قادراً على قوله لها: كنْ، فكانت. وفي الحديث أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الأحد، فقال: يوم غَرْس وعمارة، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله، قال: لأن فيها ابْتدأ الله خلق الدنيا وعمارَتها. فإن قلت: بم علق قوله: (للسائلين) ؟ قلت: بمحذوف، كأنه قال: هذا الْحَصرُ لأجل مَنْ سأل في كَمْ خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر فيها الأقوات لأجل الطالبين إليها من المقتاتين. وهذا الوَجْه الأخير لا يستقيم إلا على طريقة الزجاج. (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : الضمير يعود على الأمم المذكورة الذين جاءتهم رسلهم بالبينات. فإن قلت: أي علم عندهم حتى يفْرَحوا به؟ فالجواب أنهم كانوا يفرحون بما عندهم من العلم في ظنّهم ومعْتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون، واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعاش، وظنّوا أنه يَنْفَعهم. وهذا لقول بعضهم: (وما أظنّ الساعةَ قائمة) . وقيل: أراد علم الفلاسفة والدهريِّين، من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجَرْتَ إليه. فقال: نحن قوم مهذَّبون، فلا حاجةَ بنا إلى من يُهَذبنا. وقيل: فرحوا بما عند الرسل من العلم فَرَحَ ضَحِك منه واستهزاء به، كأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 قال: استهزأوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوَحْي. ويدل عليه قوله: (وحاق بهم ما كانُوا به يَسْتَهْزئون) ، جزاء جهلهم واستهزائهم. وقيل: الضمير عائد على الأنبياء، وفي هذا التأويل حَذْفٌ، وتقديره: فَلمّا جاءتهم رسلُهم بالبينات كذّبوهم، ففرح الرسل بما عندهم من العلم والثقة به، وبأنه سينصرهم. و (حاق) معناه نزل بهم وثبت، وهي مستعملة في الشرِّ. و (ما) في قوله: (ما كانوا) هو العذاب الذي كانوا يكذِّبون به ويستهزئون بأمره. والضمير في بهم عائد على الكفار بلا خلاف. فإن قلت: ما معنى ترادف هذه الفاءات في هذه الآيات؟ قلت: أما قوله: (فما أغْنَى عنهم ما كانوا يكسبون) . فهو نتيجة قوله (كانوا أكثر منهم) . وأما قوله: (فلما جاءتهم رسلُهم بالبينات فرحوا) ، فجارٍ مَجْرَى البيان والتفسير لقوله تعالى: (فما أغْنَى عنهم) ، كقولك: رُزِق زيد المال فمنع المعروف، فلم يُحسن إلى الفقراء. وأما قوله: (فلما رَأوْا بَأسَنا قالوا آمَنَّا) ، فكذلك: (فلم يك ينفعهم إيمانُهم) ، تابع لإيمانهم لما رأوْا بَأس الله. فحق لمن سمع هذه الموعظة أنْ يبادر إلى الطاعة، ولا يتأنَّى. بلى، والله. وقعت منا المخالفة وقتَلْنَا أنفسنا بالمعاصي بئس ما اخترنا! كم وعظنا المشيب ولا قبلنا، علمنا أنَّ الدنيا ثلاثة أنفاس: نفَس مضى عملنا فيه ما عملنا، ونَفَس لا ندري أَنملكه أم لا، فليس لنا إلا النفس الذي نحن فيه. حرصنا على درهم لا ندري لمن يبْقَى، ومزقنا ثوب المعاصي ولم نكفه بتوبة، فما أسرع الملتقى! أليس هذا من العمى، إذا شغلنا بالدنيا خسرنا فكيف يكون حالُنا وقد شغلتنا المعاصي عن الإقبال عليه! بئس ما استنفدنا زمانَ الصبا في المعاصي واللهو، ولم ننته في الكبر عن لَهْونا، ولو تُبْنَا لحقَّ لنا البكاء، فكيف وقد انهمكنا! إذا تاب الشيخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 يقول الله عز وجل: الآنَ جئتنا حين ضعفَتْ مفاصلك. الآن وقد ذهبت قُوّتك. الآن وقد نفد عمرك. الآن وقد قَسا بالمعاصي قَلْبك. الآن وقد ضاع في البطالة وقْتك. هذا لمن تاب، فكيف حال مَنْ هو في قَفص الطبع محجوب عن العتاب، نعقد عقدة التوبة بخيط العنكبوت ظاهراً وباطناً، نتلذّذ بها، فكيف لا نحلها، لو صدقت التوبة منا لوجدنا مرارتها، كما وجدنا حلاوتها، إلهي التوبة لا تدوم لي، والمعصية لا تنصرف عني، ولا أدري بِمَ تختم لي، غير أنَّ عفوك ورجاءك أطمعني أن أسألك ما لا أستَوْجِبه منك، فهب لي منك توبةً باقية، واصرف أزمة الشهوات عني، وحقّقني بحقيقة الإيمان، وأعنّي على نفسي والهوى والشيطان، بحرمة سيدنا ونبينا ومولانا سيد الثَّقَلين صلى الله عليه وعلى آله ما اختلف الْمَلَوان. (فإن أعْرَضوا) : الضمير لقريش، أي أعرضوا عنك يا محمد فسآخذهم أخذةً شديدةً، مثل أخذ عادٍ وثمود، وقد كانوا أشدَّ منهم قوةً وأكثر أموالاً وأولادا، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. (فإنا بما أُرسِلتُم به كافرون) : ليس فيه اعتبار الكفار بالرسالة، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودَعْوَتكم، وفيه تهكم. (فالَّذِينَ عِنْد ربِّك) : يعني الملائكة، ووصفهم بالعندية للتشريف والتكريم، إذ يستحيل في حقه جلّ وعلا التجسيم، المجسم أعمى والمعطل أكمه. (فحكمه إلى اللَهِ) : الضمير في المختلف فيه، يعني ما اختلفتم أنتم والكفّار مِنْ أمر الدين الْحُكم فيه إلى الله بأنْ يعاقب المبطل ويُثيب المحق، أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكَمُوا فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كقوله: (فردوه إلى الله والرسول) . (فإمّا نَذْهَبَن بكَ فإنَّا منهم مُنْتَقِمون) : يحتمل أن يريد بهذا الانتقام قَتْلهم يوم بَدْر، وفَتْح مكة، وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أو يريد به عذابَ الآخرة. وقيل: إن الضمير في (منهم منتقمون) للمسلمين، وإن معنى ذلك أن اللهَ قضى أن ينتقم منهم بالفِتَن والشدائد، وأنه أكرم نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بموته قبل رؤيته الانتقام منهم. والصحيح أنَّ مقصد الآية وَعِيدٌ الكفار، يعني إن عَجَّلْنَا وفاتَك قَبْلَ الانتقام منهم فيقع الانتقامُ منهم بعده، وإن أخَّرْنا وفاتَك إلى حين الانتقام منهم (فإنَّا عليهم مقتدرون) . ثم شهد له بأنه على صِرَاطٍ مستقيم، وكيف لا يكون على الصراط الستقيم وقد كان يقمُّ البيْتَ، ويحلب الشاة، ويعلف الناضح، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، وينام على الحصير، ولا ينام على الوَثِير، ويسلِّمُ مبتدراً على مَنْ لقي من صغير أو كبير، ويأخذ بيد الخادم ويَطْحَن معها إذا عيَّت، حتى قال الحق فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وأنزل عليه الكتابَ الحكيم، وشرح صَدْرَه، ويَسَّر أمره، وأعْلَى في العالمين ذِكْرَه، وأمره بالاستمساك بما أوْحى إليه، ليَقتَدِي به مَنْ بعده، فهو أحمد، وأمَّته الحامدون، ومستغفِرٌ وأمَّتُه التوَّابون، خصه الله وأمته بخصائص لم يعطها مَن تقدم في الدنيا ولا في الآخرة: في الدنيا يطول ذكرها، وفي الآخرة لا يُقدر قَدرها، كالحوض، والكوثر، واللواء الذي عَرْضُه ما بين الْمَشْرِق والْمَغْرِب مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تقدمته آدم ونوح، وخلفه إبراهيم وموسى، وعن يمينه جبريل وميكائيل، وعن يساره إسرافيل وعزرائيل، وساقته أصحابه وأمته، رافعاً صوته: يا ربّ، أمتي أمتي، وقد وعدتني الشفاعةَ فيهم، وهم عَبيدُك، فاغفر لهم ما جَنَوْا، ولا تُؤَاخذهم بما عَصَوا، يا أكرم الْخَلق، يا رسول الله، عبدك الصنف قد وحل في شَرَك المعاصي، ولم يجد منْقِذاً ينْقذه منه غَيْرَ جاهك العظيم، فلا تخيّبه منه، وخُذْ بيده، ولا تعامِلْة بما جفاك به، حاشا لفضلك أنْ تخيب راجياً، الخير أكبر، والمواهب أوسع! (فأنا أولُ العابدين) : هذه الآية ردٌّ على الكفار، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 واحتجاج عليهم، لأنهم كانوا يقولون: إنَّ له ولداً، ومعناها: لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنْتُ أنا أول من يعبد ذلك الولد. كما يعظِّمُ خدامُ الملك ولدَ الملك لتعظيم أبيه، ولكن ليس للرحمن ولد، وما ينبغي له أن يتخذ ولداً، فلا نعبد غيره. وهذا نوع من الأدلة يسمَّى دليلَ التلازم، لأنه علَّقَ عبادةَ الولد بوجوده. ووجودُه محال، فعبادته محال. ونظير هذا أن يقول المالكي - إذا قصد الرد على الحنفي في تحليل النبيذ: إن كان النبيذ غير مسْكِر فهو حلال، لكنه مسكر فهو حرام. قال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب، ونحوه قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) . قال ابن عطية: ونحوه قوله تعالى في مخاطبة الكفار: (أَين شركائي) يعني في زعمكم. وقد تكلم الزمخشري هنا بزعمه الفاسد بما لا يليق ذِكْرهُ للمبتدئ، وأما المنتهي فيعلم فسادَ مذهبه، ورضي الله عن ابن خليل السكوني في ردِّه عليه للتحرز منه، عامله الله بلطفه. (فاصْبِرْ كما صبرَ أولو العَزْمِ مِنَ الرسُلِ) : قد قدمنا أن الله ذكرهم في قوله: (وإذَ أخذنَا من النبيين ميثاقَهم ومنك) في هذا التقديم إشعارٌ بفَضْلِه - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ سواه. وقيل: أولو العزم الثمانية عنتر المذكورون في الأنعام، لقوله تعالى: (فبهدَاهم اقْتَدِه) . وقيل: كلّ من لقي من أمته شدة. وقيل: الرسل كلهم أولي عَزْم، فـ (مِنَ الرسُلِ) على هذا لبيان الجنس، وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض. (فضَرْبَ الرِّقَاب) : أصله: فاضربوا ضَرْباً، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه. والمراد قتلهم، ولكن عَبَّر عنه بضرب الرقاب، لأنه الغالب في صفة القتل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) . قد قدمنا في حرف التاء اختلاف الأوزار، ومتى يكون ذلك، وانتصب المنّ والفِدَاء على المصدرية، والعامل فيهما فعلان مضمران. ومعنى الْمَنّ العتق. والفداء: فك الأسير بمال. وأمر الله في هذه الآية بوثاق الأسير حتى يفدى أو يُمنّ عليه، والإمامُ مُخَيَّر في ذلك أو القتل، والاسترقاق، وضَرْب الجزية. وقيل: لا يجوز المن ولا الفداء، لأن الآية منسوخة بقوله: (فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم) . فلا يجوز على هذا إلاَّ قتلهم. والصحيح أنها محكمة. (فقد جاء أشْرَاطُها) : يعني علامات الساعة، والذي جاء من ذلك مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين. وقد أخبرنا أنَّ لها دلائل، منها ظهور الفتَن وكثرة المعاصي، والحرص في الدنيا، والتنافس عليها، وتوسيد الأمر لغير أهله، فحينئذ يظهر الدجال. ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وتفصيل هذا كلّه يحتاج لطول نفس، لكنّهم اختلفوا في أول الآيات ظهوراً، وذلك يتوقف على صحة نَقْلٍ. وظهور المهدي والدجال بعده، وعيسى بعده، ويعلم الله ما بعد ذلك. والصحيح أنها كالخرز إذا ظهرت واحدةٌ تبعتها أختها. (فأوْلَى لهم) : في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى أحق، وخَبَره على هذا (طاعةٌ) . والمعنى أن القول المعروف والطاعة أولى لهم وأحق. والآخر أنَّ أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم، كقولك: وَيْل لهم. ومنه قولى (أوْلَى لك فأوْلى) ، فيوقف على أولى لهم على هذا القول، ويكون (طاعةٌ) ابداء كروم، تقديره طاعةٌ وقول معروف أمْثَل، والمطلوب منهم طاعة وقول معروف، أو قولهم لك يا محمد: طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قُلوبهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ) : أسند " الأَمْرَ " إلى العزم مجازاً، كقولك: نهارُه صائم، وليلُه قائم. ويحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، أو صِدْق العزم والنية، وهو أظهر. وانظر كيف خرج من الغَيْبَة إلى الخطاب بقوله: (عسَيْتم) ، ليكون أبلغ في التوبيخ. والمعنى: هل يُتَوَقَّع منكم الإفساد في الأرض، وقَطْعُ الأرحام، إنْ تولّيْتم. ومعنى توليتم: صرتم ولاةً على الناس، وصار الأمْرُ لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية. وقيل معناه: أعرضتم عن الإسلام. (كيف إذا تَوَفَّتْهم الملائكةُ) : ضمير الفاعل للملائكة. وقيل: إنه للكفار، أي يضربون وجوه أنفسهم، وذلك ضعيف. (فَلَنْ يَغْفِرَ الله لهم) : هذا قَطع بأن مَنْ مات على الكفر لا يَغْفِر الله له. وقد أجمع المسلمون على ذلك. (فلا تَهنُوا وتدْعوا إلى السَّلْمِ وأنتم الأعْلَون واللهُ معكم) : معناها لا تضْعفوا عن مقاتلة الكفار، وتبدءونهم بطلب الصلح، فهو كقوله: (وإنْ جَنَحوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لها) . (فَيُحْفِكُم) ، أي يلح عليكم. والإحفاء: هو أشدُّ السؤال. و (تبخلوا) جوابُ الشرط. (فسيقولون بَلْ تَحْسذوتنَا) : الضمير يعود على المنافقين. معناه أنهم يقولون: يعز عليكم مالاً وغنية. و (بل) هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: (لن تَتَّبِعونا كذَلكمْ قال الله من قبل) ، فمعناه رد أن يكون الله حَكم ألاَّ يتبعوهم. وأما (بل) في قوله تعالى: (بل كانوا لا يَفْقَهون إلاَّ قَليلاً) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثباث لوصف الْمخَلَّفين بالجهل. (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) : يعني مِنْ صدق الإيمان، وصِدْق العزم على ما بايَعُوا عليه. وقيل: مِنْ كراهة البَيْعَة على الموت، وهذا باطل، لأنه ذمّ للصحابة. (فعجّل لكم هذِه) : يعني فَتْح خَيْبَر. وقيل: إن المغانم التي وعدهم بها مغانمُ خَيْبَر، والإشارة ب (هذه) إلى صُلْح الحديبية. (فآزَرَه) : أي قوّاه، وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة. ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول (شطْأه) ، أو بالعكس، لأن كلَّ واحد منهما يقَوِّي الآخر. وقيل معناه ساواه طولاً، فالفاعل على هذا الشَّطْء، ووَزْن آزره أفعله، وقيل فاعله. وقرئ بقصر الهمزة على وزن فَعَله. (فاستَغْلَظَ) ، أي صار غليظاً. (فاستَوى على سُوقِه) ، جمع ساق، أي قام الزرع على سوقه. وقيل كزرع النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج شَطْاه بأبي بكر، فآزرَه بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سُوقه بعلي بن أبي طالب. (فقال الكافرون) : أي من قريش، ووضَع الظاهر موضع المضمر لقَصْد ذَمّهم، وانْهمَاكهم في الغيّ، كما قال تعالى: (أولئك هم الكافرون حَقًّا) ، هل ترى كفْرا أعظمَ من تكذيب مَنْ صدقه الله بوَحْيِه ويتعجبوا من إنذاره لهم مع علمهم بصدقه وأمانته. فإن قلت: عطفه هنا بالفاء بخلاف سورة (ص) بالواو يدلّ على أنها قضيتين؟ والجواب أنَّ آية (ص) إنما وردَتْ مورد الإخبار بمرتكبات من أفعال العرب وأقوالهم فجيء بتلك الجمل منسوقاً بعضها ببعض، وأخبر تعالى أنهم في عِزّةٍ وثقاق، وأنهم عجبوا أنْ جاءهم منذر منهم، ولم يكن من الملائكة، وأنهم رموه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 بالسحر والكذب، وأنهم تعجبوا من جعله الآلهة إلهاً واحداً، وأنهم تمالئوا على قولهم: (امشموا واصْبِروا على آلهتكم) ، فلما قصد هنا الإخبار بجملةٍ مِنْ مرْتكباتهم جاءت منسوقا بعضها على بعض بالواو التي لا تقتضي ترتيباً ولا تسبباً. وأما آية (ق) فمقصودٌ بها التعريف، فتعجبهم من البعث الأخْروي واستبعادهم إياه، ولم يقصد هنا غير هذا، قصده، فربطه بالفاء، أي عجبوا من البعث بعد الموت، فقالوا: كذا، فجيء لكل بما يحرزه. (فالحامِلاَت وِقْرًا) ، هي السحاب يحمل المطر. والوقر: الحمل، وهو مفعول به. (فالجارِيات يُسْرا) : هي السفن تجري في البحر، وإعرابُ " يسرًا " صفة لمصدر محذوف، ومعناه بسهولة. (فالمقْسِمَاتِ أمْراً) ، هي الملائكة تقْسم أمورَ الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك. و (أمْراً) مفعول به. وقيل: إن الحاملات وِقْراً: السفن. وقيل جميع الحيوان الحامل. وقيل: إن (الجاريات يسْراً) السحاب. وقيل: الجاري من الكواكب، والأول أشهر، لأنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) : هذا قسمٌ أقسم اللَة باسمه، كقوله: (فوَرَبِّك لنَسْألَنَّهمْ أجمعين) . ولما ذكر الله في هذه الآية رزْقَ عباده، وأنه يوصله لهم، أقسم لهم اطمئناناً لنفوسهم، ويقسم اللَّهُ في كتابه إما لفضيلة وإما لمنفعة. وأقسم بنفسه كهذه الآيات، وبفعله مثل: (والسماء وما بناها) ، وما ضاهاها من أفعاله، كقوله تعالى: (والنجم إذا هوى) . (والطور) . (والتين) . (والليل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فإن قلت: إن كان القسم لأجل المؤمن فإنه يصدقه بغير قسم، وإن كان للكافر فإنه لا يصدقه، فما فائدته؟ والجواب أن قسمَه تعالى لإكمالِ الحجة وتأكيدها، والحاكم يقبل الحكم َ باثنين، إما بالشهادة وإمّا بالقسم، فذكر اللَّهُ القَسم في كتابه كي لا تَبْقَى لهم حجة على الله، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على هذه العقول الخَسيسة، اختارنا من بين جامد وناي، وناطق وصامت، وذلك أنه اختار الناي من الجامد لما كان فيه من الخضرة والزهرة والطيب والمنفعة، ثم اختار الحيوان من الناي لما فيه من الحركة والقوَّة والتصرف والزينة، ثم اختار الناطق من الحيوان لما فيه من الفصاحة والذّلاقة والفِطْنَة والبصيرة، ثم أختار الممتحن من الناطق لما أفادهم من العلم والحجة والدعوة والشريعة، ثم اختار المؤمن من الممتحن لما آتاه الله من المعرفة والهِدَاية والتوحيد والشهادة، ثم اختار المحب بالثناء والبشارة والمحبة، قال تعالى: (التًائِبون الْعَابدون الْحَامِدون) . (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) . واصطفاك يا محمدي لوَحْيه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنَا الكتابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عبادنا) . فأنت مختار المختار، ووعدَك برزقه كي تتفرغ لخدمته، وضَمِنه لك ولم تَثِقْ بضمانه حتى أقسم لك به، فأعرضْتَ عن هذا كله، واشتغلت بالمعاصي والفجور عن طاعته، أما علمت أنَّ زلَّة الوزير ليست كزلَّةِ العامّة، يعْصِي الوزير فيضرب رَقبته، ويعصي أحَد العامة فلا يُلتفت إليه، أليس من الغبْنِ العظيم والرزء الجسيم - أنك تثق بمخلوق مثلك، يقول لك: غذاؤك اليوم والعشاء عليَّ فلا تدَبّر معه، وتَثِق بقوله، ولا تثق بقول أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين! وأعظم من هذا أنْ لو قاله لك يهودي أو نصراني لوثقت بقوله، ولم تَثِقْ بإلهك الذي خلقك وصوّرك ووعدك، ورَضِي الله عن الإمام علي في قوله: اتطْلُب رِزْق الله مِنْ عند غيره ... وتصْبح من خوف العواقب آمنا وترضى بطرف وإن كان مشركاً ... ضَمِيناً ولا ترْضى بربك ضامنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 قال بعضهم: نبشت على أكثر من سبعين فوجدت وجوهَهم محوَّلة عن القِبْلة، وذلك اتهامهم ربّهم. اللهم ارحمنا إذا صرْنا إليك. (فقالوا سلاَماً) : نصب على أنه في معنى الطلب، وهو مفعول بفعل مضمر. وموقع الثاني مرفوع لأنه خبر تقديره: عليكم سلام، وهذا على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنه رفع الثاني ليدلّ على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيَّوْه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية، تقديره سلمنا عليكم سلاماً، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره سلام عليكم. (فتَوَلَّى بركْنِه) ، أي أعرض فرعون عن الإيمان، واستمسك بقوته وسلطانه، وقال: موسى ساحر أو مجنون. (فأخذَتْهُم الصاعِقةُ وهم يَنْظُرون) ، لأنها كانت بالنهار، زيادةً في نكالهم، إذ ليس الموت صَبْراً كالغِيْلةِ. (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أمر الله في هذه الآية بالإيمان به والدخول في طاعته، وعبَّر عن الأمر بذلك بلفظ الفِرَار، لينَبه على أن وراء الناس عقاباً وعذابا أليماً حَقُّه أن يُفَرّ عنه إن لم يُفَر منه طوْعاً يفر منه خوفاً، ونحن لم نفر منه لا طوعا ولا خوفاً، ولو علمنا ما تحت هذه الكلمة من التحذير والاستدعاء لم يهدأ رَوعنا، ألاَ تراه كرَّره للإبلاع وهزّ النفس للتشمير. وتحكيم التحذير، وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بقرينة شدة الصوت، لكن الجاهل ضعيف الاستخراج، فيا لها من مصيبة لو عقلها العاقلُ. (فإنَّ للذِين ظَلموا) : هم كفار قريش وأصحابهم ممن تقدم من الكفار، يعني أن لهم نصيبا من العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) : أي المغلوبون في الكيد. ويعني مَنْ تقدم الكلام عليهم وهم قريش، فوضع الظاهر موضع المضمر. (فبأيِّ آلاءَ رَبِّكَ تتَمارى) : هذه مخاطبة الإنسان على الإطلاق، يعني بأي نِعَمِ ربك تشكّ، وقد منّ عليكَ، وجعل رَحِمَ أمِّكَ سكنَك، والأرضَ مِهادك، والشمسَ سِرَاجك، والإسلام خلقتك، ومحمد نبيك، والكعبة قِبْلتك، والجنةَ منزلك، والنارَ سِجْن أعدائك، والملائكة خدامك، والشيطانَ حِبَالَ عِصْيانك، والعقل والفَهْم والانتباه خصالك، فما لك أعرضْتَ عنا وتركت الالتفات إلينا! أهكذا معاملتك معنا! بئس العبد، لنعم الرب. (فما تغْنِ النّذر) ، بمعنى الاستبعاد والإنكار. (فتَوَلَّ عنهم) : لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم، وأمره بالإعراض عنهم لمّا لم يَقْبَلوا كلامَه. وفيه إشارة إلى أن مَنْ لم يقبل الإنذارَ يُعرض الله عنه، وإذا أعرض عنك أيها الأخ كيف يكون حالك؟! (فكذبوا عَبْدَنا) ، يعني محمداً عبدنا، فما أشرفها من إضافة لأنه قرنه بنون العظمة. (فكيف كان عَذَابي ونذُر) : توقيف فيه تذكير لقريش. والنّذُر: جمع نذير. (فتعَاطى فَعَقَر) ، أي اجْتَرأ على أمرٍ عظيم، وهو عَقْر الناقة. وقيل: تعاطي السيف. (فبأَيِّ آلاءِ رَبِّكما تكذِّبَان) وما بعدها،: الآلاء: هي النعم، واحدها إلَى على وَزْن فعًى. وقيل ألاً على وزن فعاً، وقيل غَيْر هذا. والخطاب للثَّقَلين: الإنس والجن، بدليل قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . وروي أنه لما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات سكت أصحابه، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 إن جواب الجن خَيْر من سكوتكم، إني لما قرأتها عليهم قالوا: لا تكذب بشيء من آلاء رَبِّنا. وكرر هذه الآية تأكيداً ومبالغة. وقيل: إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبلها، فليس بتأكيد: لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات. (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) : قد قدمنا أن السؤال المنفي هنا على وَجْه الاستخبار وطلب الصرفة، إذ لا يحتاج إلى ذلك، وأَما السؤال فلا بد منه، قال تعالى: (فورَبِّكَ لنَسْألنَّهمْ أجْمَعين) . وأحوال القيامة مختلفة على حسب الخلق. (فاكهةِ زَوْجَان) . أي من كل ما يتفَكَّه به نوعان، بخلاف الدنيا، وإنما جعل ما فيها أنموذج على ما في الجنة لا أنه مثلها. (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) : الضمير للمأكول ووزن الهيم فعل، بضم الفاء، وكسرت الهاء لأجل الياء، وهو جمع أهيم، وهو الْجَمل الذي أصابه الْهُيَام بضم الهاء، وهو داء معطش يشرب منه الْجَمَل حتى يموت أو يسقم، والأنثى هَيْماء. وقيل: هو جمع هائم وهائمة. وقيل: الهيم: الرمال التي لا ترى من الماء، وهو على هذا جمع هَيام بفتح الهاء. وقرِئ شُرب بضم الشين، واختلف هل هو مصدر أو اسم للمشروب. وقرئ بالفتح، وهو مصدر. فإن قلت: كيف عطف قوله: (فشاربون) على (شاربون) ، ومعناهما واحد؟ فالجواب أنَّ المعنى مختلف، لأن الأول يَقْتَضِي الشرب مطلقاً، والآخر يقْتَضِي الشرب الكثير المشبه لشرْبِ الهِيم. (فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) : تحضيض على التصديق. إمَّا بالخالق تعالى، وإما بالبعث، لأنَّ الخلقة الأولى دليل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 (فلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ) : تحضيض على التذكّر والاستدلال بالنَّشْأة الأولى على النَّشأةِ الآخرة. وفي هذا دليل على صحةِ القياس. (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) : لولا هنا عرض، والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس، لأن سياقَ الكلام يقتضي ذلك، وبُلوغها الحلقوم حين الموت، والفعلُ الذي دخلت عليه " لولا " هو قوله: (تَرْجِعونَها) ، أي هلاَّ ردَدْتم النفس حين الموت. ومعنى الآية: احتجاجٌ على البشر، وإظهارٌ لعجزهم، فإنهم إذا حضر أَحدَهم الموتُ لم يقدروا أن يردّوا رُوحَه إلى جسده، وذلك دليلٌ على أنهم مقهورون تحت قدْرته، (وهو القاهِر فوق عباده) ، والمقهور لا يقدر على شيء، وذلك أشدُّ لحسرته. (فَسَلاَم لكَ مِنْ أصحابِ الْيَمِين) : معنى هذا على الجملة نجاة أصحابِ اليمين وسعادتهم. والسلامُ هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية. والخطابُ في ذلك يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأصْحَابِ اليمين. فإنْ كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالسلام بمعنى السلامة. والمعنى سلامٌ لك يا محمد منهم، أي لا ترى فيهم إلا السلامة من العذاب. وإن كان الخطابُ لأصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية. والمعنى سلام لكَ، أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك، وهم أصحاب اليمين، أي يسلِّمون عليك فهو كقوله: (إلا قِيلاً سَلاماً سلاماً) . أو يكون السلام بمعنى السلامة، والتقدير سلامة لك يا صاحبَ اليمين، ثم يكون قوله: (مِن أصْحَاب اليمين) - خَبر ابتداء مضمر، تقديره أنت من أصحاب اليمين. فهنيئاً لكَ يا محمديُّ بما منحكَ اللَّهُ من هذه التحية التي حيَّا بها أنبياءَه وأصفياءَه في قوله لنوح: (اهبِطْ بسلامٍ منَّا) . ولإبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) . حياك في الدنيا بقوله: (وسَلامٌ على عباده الذين اصْطَفى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وفي الآخرة يأتيك الملكُ بكتابِ منه: أمّا بعد السلام عليك فزرنا، لأنا اشتقنا لكَ، لا رَاعَى الله مَن لا يرَاعي الذَمم. (فَسبِّحْ باسْمِ رَبِّك العَظيم) : لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم. فلما نزلت: (سَبّح اسْمَ رَبِّكَ الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم. فلذلك استحبَّ مالك وغيره في السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع سبحان ربي العظيم، وأوجبها الظاهرية. ويحتمل أن يكون المعنى سبَح اللهَ بذكر أسمائه، والاسم هنا جنس الأسماء. والعظيم صفةٌ للرب، أو يكون الاسم هنا واحداً، والعظيم صفة له، وكأنه أمره أن يسبِّحَ باسمه الأعظم، ويؤيِّد هذا ويشير إليه اتصالُ سورةِ الحديد بها، وفي أولها التسبيح، وجعله من صفات اللهِ وأسمائه. وقد قال ابن عباس: اسْم الله الأعظم موجودٌ في ست آيات من أول سورة الحديد. ورُوي أنَّ الدعاءَ بعد قراءتها مستجاب. (فالذِين آمَنوا منكم وأنْفَقوا لهُمْ أجْرٌ كَبِير) : نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جَيْش العُسْرة يومئذ. ولفْظ الآيةِ مع ذلك عامّ، وحكمها باق لكل من أنفق في سبيل الله وطاعته، ويدخل فيه النفقة على العِيال بنيَّة تعفُّفهم وإعانتهم، بل هي من أعظم النفقات للحديث: " دِرْهم يُنفقه أحدُكم على أهله خير من ألْف ينفقها في سبيل الله ". (فطَالَ عليهم الأمَدُ) : أي مدة الحياة وقيل انتظار القيامة. وقيل انتظار الفتح. والأول أظهر. (فمنهم مهْتَدٍ) : قد قدمنا أن الضمير راجع لذرية نوح وإبراهيم لتقدم ذكرهها، ولأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم. (فافْسَحُوا) : هو التوسع دون القيام، لأنه منهيٌّ عنه للحديث: " لا يقم أحدكم من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه، ولكن توسَّعوا وتفَسَّحوا ". واختلف: هل هذا النهي محول على التحريم أو الكراهية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 ْ (فَانْشزوا) ، أي ارتفعوا. واختلف في هذا النشوز المأمور به، فقيل: إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة. وقيل: إذا أمروا بالقيام مِنْ مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يحبُّ الانفرادَ أحياناً، وربما جلس قوم حتى يُؤْمَروا بالقيام، ولهذا أخبر اللَّهُ أنَّ جلوسهم (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) . (فَبَايعْهُنَّ) : الضمير يعود على النساء اللواتي بايَعْنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثاني يوم الفتح على جبل الصَّفَا، وبايعهنَّ بالكلام، ولا تمس يده يدَ امرأة. وقيل: إنه غمس يَدَه في الماء ودفعه إلى النساء، وغمس أيديهن فيه. وروي أنه لما بايعهنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المبايعة فقرَّرَهنَ على ألاَّ يسرِقْنَ، قالت هند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان بن حرب: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيح، فهل عليَّ إن أخذتُ من ماله بغير إذنه، قال: خُذِي ما يكفيك ووَلدك بالمعروف، فلما قَرَّرهن على ألا يَزْنين قالت هند: يا رسول الله، أتزني الحرة، فقال عليه السلام: لا تزني الحرة - يعني في غالب الأمر، وذلك أن الزني في قريش إنما كان في الإمَاء. فلما قال: (ولا يَقْتُلْنَ أولادهن) قالت: رَبّيْناهم صغاراً وقتَلْتَهم أنت ببَدْر كباراً، فتبسم - صلى الله عليه وسلم -، فلما وقفهن على ألاَّ يعصينه في معروف قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أنْ نعصيك. وهذه المبايعة للنساء إنما كانت في ذلك اليوم، ولا يعمل بها اليوم، لإجماع العلماء على أنه ليس على الإمام انْ يشترط عليهن هذا. فإمَّا أنْ تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ، أو يكون ترك هذه الشروط، لأنها قد تقررت وعُلمت من الشريعة فلا حاجة إلى اشتراطها. (فلما جاءَهُم بالبَينَاتِ) : يحتمل أن يريد عيسى أو محمد - صلى الله عليهما وسلم. ويؤيدُ الأولَ اتصاله بما قبله. ويؤيد الثاني: (وهو يُدْعَى إلى الإسلام) ، لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد - صلى الله عليه وسلم. (فأصبَحُوا ظَاهِرين) : قيل إنهم ظهروا بالحجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وقيل غلبوا الكفار بالقَتْل بعد رَفع عيسى عليه السلام. وقيل: إنَّ ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (فقالوا أبَشَر يَهْدونَنا) : استبعدوا أن يرْسل الله بشراً، أو تكبَروا عن اتباع بَشر. والبشر يقع على الواحد والجماعة. (فإذَا بلَغْنَ أَجلَهنَّ فأمْسكوهنَّ بمعروف أو فَارِقوهنَّ بمعروف) : يعني في أداء الصدَاق والإتباع حين الطلاق. وبلوغ الأجل خطابٌ بآخر العدة. والإمساك بمعروف هو تحسين العشرة وتَوْفِية النفقة. فإن قلت: ما الحكمة في تعبيره في آية البقرة بالسراح في مكان الفراق هنا؟ والجواب لاكتناف آية البقرة النهي عن مضارَّة النساء وتحريم أخْذ شيء منهن ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألاَّ يقما حدودَ الله، فلما اكتنفها ما ذُكر واتْبع ذلك بالمنع عن عَضْلِهنَّ، وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالَي الاتصال والانفصال لم يكن لينَاسِبها - قصد من هذا أن يعبّر بلفظ: (أو فارقوهن) ، لأن لفظ الفراق أقرب إلى الإساءة منه إلى الإحسان، فعوَّل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة، وهو لفظ التسريح. فقال تعالى: (فأمْسِكوهنَّ بمعروفٍ أوْ سرحوهن بمعروف) ، وليجري مع ما تقدم من قوله تعالى: (الطلاق مرَّتَان فإمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان) . وقيل هنا: بإحسان، ليناسب به تعالى المذكور من قوله: (أو تسريح) . وقد رُوعي في هذه الآي كلِّها مقصد التلطّف، وتحسين الحال في الصحبة والافتراق، ولما لم يكن في سورة الطلاق تعرّض لعَضْل، ولا ذِكْر مضارة - لم يذكر، وورد التعبير بلفظ: (أو فارقوهنَّ) ، على الانفصال، ووقع الاكتفاء فما يراد من المجاملة في الحالين بقوله: معروف، وبانَ افتراق القِصتين في السورتين، وورود كل من العبارتين على ما يجب. (فأنْفِقوا عليهنَّ حتى يضَعْنَ حَمْلهن) : اتفق العلماء على وجوب النفقة للمطلقة الحامل، عملاً بهذه الآية، إذَا كان الطلاق رجْعِيًّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وإن كان بائناً فاختلفوا في نَفَقتها. وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقة. وقال قوم: لها النفقة في التركة. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : هو أبو بكر الصديق على قول مَنْ قال إنه مفرد. وقيل علي بن أبي طالب. وعلى القول بأنه جمع محذوف النون للإضافة فهو على العموم في كلِّ صالح. والخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني إن تعاونتما عليه بما يسوؤه من إفراط الغيرة وإفشاء سره ونحو ذلك فإنَّ له مَنْ ينصره. ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم فيوقف على (مولاه) ، ويكون (جبريل) مبتدأ و (ظهير) خبره وخَبَر ما عطف عليه. ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون (جبريل) معطوفاً، فيوصل مع ما قبله، ويوقَف على (صالح المؤمنين) ، ويكون (الملائكة) مبتدأ و (ظهير) خبره. وهذا أرجح وأظهر لوجهين: أحدهما: أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتشريفٌ له. وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غيره، لأنَّ اللهَ مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزيّة له. والوجه الثاني: أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من أمْرِ النساء، فإن كنْتَ طلقتَهنَّ فإن الله معك وملائكته، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله: معك يقتضي معنى النصرة. وقد أفرد جماعة ٌ من العلماء تصنيف ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة. والأصل فيه موافقاث عمر، وقوله رضي الله عنه: وافقت ربي، ووافقني في أربع مرات: في الحجاب.وفي أسارى بَدْر. وفي مقام إبراهيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وفي قوله: (ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلاَلةٍ من طين) . لما نزلت قلت أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين) ، فنزلت كذلك. وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقِي عُمر بن الخطاب فقال: إن جبريل الذي يَذْكره صاحبُك عدوٌّ لنا. فقال عمر: مَنْ كان عدوًّا للَه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإنَّ الله عدو للكافرين، فنزلت كذلك. وأخرج الترمذي، عن ابن عُمر - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله جعل الحقً على لسان عمر وقَلْبه ". قال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلاَّ نزل القرآنُ على نحو ما قال عمر. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لما أبطأ على الناس الخبر في أحُد خرجن يستخبرن فإذا رجلان مُقْبلان على بعير، فقالت امرأة: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالا: حَيٌّ. قالت: فلا أبالي، يتخذ الله من عباده الشهداء، فنزل قوله تعالى: (ويَتَّخذَ منكم شهَداء) . (فلَمَّا رَأوه زُلْفةً) : أي قريباً، وضمير الفاعل للكفار، والمفعول للعذاب. (فطافَ عَلَيْهَا طائِف) : الطائف: الأمر الذي يأتي بالليل. (فتَنَادَوْا مُصْبِحين) : أي نادَى بعضهم بعضاً حين أصبحوا، وقال بعضهم لبعض: اغدوا على حَرْثكم، فلما لم يعرفوها ورأوا ما أصابها قالوا: (بل نحن محرومون) ، أي حَرمنا الله خيرها، فقال أوسطهم، وهو أفضلهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) . وهو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه. وقيل: أراد الاستثناء في اليمين، كقوله: إن شاء الله. والأول أظهر، لقولهم بعد ذلك: (سبحان ربِّنا إنَّا كُنَّا ظالمين) (فأقْبل بعضُهم على بعض يتَلاَوَمُون) : أي يلوم بعضهم بعضاً على ما كانوا عزموا عليه من مَنعْ المساكين، أو على غَفْلتهم عن التسبيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 فإن قلت: ما معنى عطفه هنا بالفاء، وفي الثانية من سورة الصافات. بخلاف الأولى؟ والجواب أن هذه الآية من كلام أهل صنعاء لما رأوا جتتهم محرقة وندموا على ما كان منهم وجعلوا يقولون: (سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) . وأما عطف أولى الصافات بالواو فلأنه عطف جملة على جملة فحسب، وعطف الآية بعدها بالفاء، لأنه عطف جملة على جملة بينهما مناسبة والتئام، لأنه حكى أحوالَ أهْل الجنة ومذاكرتهم فيها، وما جرَى بينهم في الدنيا وبيْن أصدقائهم، وهو قوله: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) . (فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ، أى ثمانية أملاك، والمراد بالفوقية أنهم - يزادون يوم القيامة أربعة، لأنهم اليوم أربعة رؤوسهم عند العرش، وأرجلهم تحت الأرض السابعة. وقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحدٌ عدتهم. والأول أصح لوروده في الحديث. (فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) : أي يتمنى أنه لا يُعْطَى كتابه. وقال ابن عطية: يتمنى أن يَكون معدوماً لا يَجْرِى عليه شيء. والأول أظهر. (فَصِيلتِه التي تُؤْوِيه) ، أي تَضُمُّه، فيحتمل أن يريد تضمّه في الانتماء إليها، أو في نُصرته وحِفْظه من المضرات. (فَأُدْخِلُوا نَارًا) : يعني جهنم، وعَبَّر عن ذلك بالفعل الماضي، لأنَّ الأمر محقق وقيل: أراد عَرْضَهم على النار، وعَبَّر عنه بالإدخال. (فاجراً) : مائلاً عن الحق. وأصل الفجور الميل. (فزَادُوهم رَهَقاً) : ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 والمعنى أنَّ الجن زادوا الإنس ضلالأ أو إثما لما عاذوا بهم، أو زَادُوهم تخويفاً لما رأوا ضعْفَ عقولهم. وقيل ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن، والمعنى أن الإنسَ زَادوا الجنّ تكبُّراً لَمّا عاذوا بهم، حتى كأن الجني يقول أَنا سيد الجن والإنس. (فَمنْ يَسْتَمِع الآنَ) ، أي وقت استراقه. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) . قد قدمنا أن الرصد اسم جمع للواحد كالحرس للحراس، ومعنى الآية: أنَّ الله يسلك من بين يدي الرسول ومِنْ خلفه ملائكة يكونون رَصدا يحفظونه من الشياطين. قال بعضهم، ما بعث اللَّهُ رسولا إلا ومعه ملائكةٌ يحرسونه حتى يبلِّغَ رسالةَ ربه. وإذا كان الله يحفظ غَيْرَ الرسل فما بالك بهم. وتأمل حكاية َ الشيطان الذي أتى لوسوسة القائم الذي كان في المسجد يصلّي فلم يقدر على الدخول، فقال أخوه من الشياطين: ما بالُك لا تدخل إليه، فقال: نفس النائم منعني من توسوس القائم، وكان النائم إبراهيم بن أدهم. (فقُتِل كيف قَدَّر) : دعاءٌ على الوليد بن المغيرة، وذَمٌّ لحاله، وكرره تأكيداً. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه بزَعْمِه الأول حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: (قُتِل) لا يُرَادُ به الدعاء عليه، وإنما هو كقولهم: قاتل اللهُ فلاناً ما أشجعه! يريدون التعجبَ من حاله واستعظامَ وصفه. وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه على طريقة الاستهزاء، أو حكاية لقول قريش تهكماً به. فإنْ قُلْتَ: ما معنى (ثُم) الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت: الدلالة على أنَّ المرة الثانية أبلغُ من الأولى، ونحوه قوله: ألاَ يا اسلمي ثم اسْلَمي. . . فإن قلت: فما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 قلت: الدلالة على أنه قد تأتي في التأمُّل والتمهل، وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد. فإن قلت: فلم عطف فقال بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يلبث أن نطق بها من غير لبْث. فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مَجْرى التوكيد من المؤكد. (فمَنْ شاء ذَكَره) : فاعل شاء ضمير يعود على مَنْ. وفي ذلك حَفْز وترغيب. وقيل الفاعل هو الله. ثم قَيَّد فعلَ العبد بمشيئة الله. (فاقِرَةٌ) ، أي مصيبة قاصمة الظَّهْر، تقول: فقرتُ الرجل، إذا كسرت فقَارَه، كما تقول: رأسْتُه، إذا ضرَبْت رأسه. (فأوْلَى) : قد قدمنا في مواضع أنه كرّرَ ذلك تأكيداً، وأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لبَّبَ أبا جهل، وقال: إن اللهَ يقول لكَ: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) . فنزل القرآن بموافقة ذلك. (فالعاصِفَاتِ عَصْفاً) : هي الملائكة، لأنهم يعصفون كما تعصفُ الرياح في سرعة مُضِيهم إلى امتثال أوأمرِ اللَهِ. وقيل: الرياح، لقوله: ريح عاصف. (فالفَارِقَاتِ فَرْقأ) : قيل الملائكة لأنهم يفرقون بين الحق والباطل. وقيل الرياح، لأنها تفرق السحاب، ومنه: (ويجعله كِسَفاً) . (فالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً) : هم الملائكة، لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام. والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح، لأن وَصْف الرياح بالعصف حقيقة. والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 لأنَّ الوصف في الفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن الْمُلْقيات المذكورة بعدها هي الملائكة، ولم يقل أحَدٌ إنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، فقال، والمرسلات، فالعاصفات، ثم عطف على ما ليس مِنْ جنسها بالواو، فقال: والناشرات، ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء. وقيل في الْمُرْسلاَت والْمُلْقِيات إنهم الأنبياء عليهم السلام. فإن قلت: هل يصحُّ قولُ القائل إن الْمرْسلات الرياح لمعنى قوله: عُرْفاً؟ والجواب أنَّ معنى عُرْفاً على كلّ قَوْل -: فَضْلا وإنعاماً، وانتصابُه على أنه مفعول من أجله، وقيل معناه متتابعة، وهو مصدرٌ في موضع الحال. وأما عَصْفاً ونَشْراً وفَرْقاً فمصادِر. وأما ذِكْراً فمفعول به. (فإنْ كانَ لكمْ كَيْدٌ فَكِيدون) : تعجيز وتعريض بكَيْدِهم بالدنيا، وتقْريع عليهم، كَقول نوح: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) . وكقول موسى: (فأجْمِعوا كَيْدَكم ثم ائْتوا صَفًّا) . (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) : قيل إنها الملائكة، سمّاهم اللَه نازعات، لأنهم ينزعون نفوسَ بني آدم من أجسادها، وناشطات، لأنهم ينشطونها، أي يخرجونها، فهو من قولك: نشطت الدّلْوَ من البئر، إذا أخرجتَها. وسابحات، لأنهم يسبحون في سيرهم، أي يسرعون فيسبقون فيدبّرون أمورَ العباد والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمُرهم الله. وقيل: إنها النجوم، وسماها نازعات، لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب. وناشطات لأنها تنشط من بُرج إلى برج، وسابحات لأنها تسبَح في الفلك، ومنه: (كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحون) ، فتسْبق في جَرْيها، فتدبِّر أمْراً من علم الحساب. (فالْمُدَبرَاتِ أمرًا) : قال ابن عطية: لا أعلم خلافًا أنها ْ الملائكة، وحُكي فيها القولانِ، كما تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 فإن قلت: ما معنى (غَرْقاً) على القولين، وأين جواب القسم؟ فالجواب إنْ قلنا إن النازعات الملائكةُ ففي معنى غَرْقاً وجهان: أحدهما أنه من الغرق، أي تُغْرِق الكفَّار في جهنم. والآخر أنه من الإغراق بمعنى المبالغة فيه، أي تُبالغ في نَزْعِ النفوس حتى تُخْرِجها من أقاصي الأجساد. وإن قلنا إن النازعات النجوم فهو من الإغراق بمعنى المبالغة، أي تبالغ في نُزوعها، فتقطع الفَلَكَ كله. وإن قلنا إنها النفوس فهو أيضاً من الإغراق، أي تُغْرِق في الخروج من الجسد. وإعراب (غَرْقا) المصدر في موضع الحال. ونَشْطاً وَسبْقاً وسبْحاً مصادر، و (أمرًا) مفعول به. وجواب القسم محذوف، وهو بَعْثُ الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذِكْر القيامة. وقيل الجواب: (يوم تَرْجُفُ الراجفةُ. تَتْبَعُها الرادِفَةُ) . على تقدير حَذْف لام التوكيد. وقيل: هو: (إن في ذلك لعبْرَةً لمَنْ يَخْشَى) ، وهذا بعيد لبُعْدِه من القسم، ولأنه إشارة إلى قصةِ فرعون لا لمعنى القسم. (فإنَّما هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة) : هذا من كلام الله ردًّا على الذين أنكروا البَعْث، كأنه يقول: لا تظنّوا أنه صعب على الله، َ بل هو عليه يسير. (فإذا هُمْ بالساهرة) . أي وجه الأرض، والباء ظرفية، وإذا فجائية، والمعنى إذا نفخ في الصُّور حصلوا بالأرض أسرع شيء. (فحَشر فنَادَى. فقال أنا رَتكُم الأعْلَى) . يعني أن فرعون جمعَ جنُودَه، ونادى قومه، وقال لهم ما قال. ويحتمل أنه أمر مَن يُنَاديهم. والأول أظهر، لأنه روي أنه قام فيهم خطيباً. (فَسَوَّاها) : الضمير يعود على السماء، أي أتقَن خلقتها. وقيل: جعلها مستويةً، ليس فيها مرتفع ولا منخفض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 (فإذا جاءت الطامّة الكبرَى) .، هذا أحد أسماء يوم القيامة، وقد سماه الله في كتابه بثلاثين اسما لعظمه: يوم الآزِفَة. ويوم التلاق. ويوم التناد. ويوم التغَابن. ويوم الثبور. ويوم الْجَمع. ويوم الحق. ويوم الخصومة. ويوم الدين. ويوم الراجفة. ويوم الزلزلة. ويوم الشفاعة. ويوم الصاخَّة. ويوم عظيم. ويوم عَبوس. ويوم العُسْر. ويوم الفارقة. ويوم القَمْطَرِير. ويوم الفَصْل. ويوم القيامة. ويوم النّفخ. ويوم الوَعيد. واليوم الموعود. ويوم القارعة. ويوم الواقِعة. واليوم المشهود. ويوم الحاقة. ويوم النُّشور. يخرجون من الأجداث كأنهم جَراد منْتشر، يكشف للمرء ما أخفاه، ويتذكر حينئذ غَفْلته وهواه، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على غفلتنا على ما يراد بنا! يقول الله تعالى في بعض كتبه: " عَبْدي أعطيتُك منية المرضى، وأهل السجون، وأهل القبور، وأهل النشور، وأهل الجِنَان، وأهل النيران، فما لك لا تغتنم ساعتَكَ التي أنْتَ فيها، ألم تعلم أنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً طلبه، ومَنْ طلب شيئاً وجده، ومَن خاف من شيء هرب منه، ومَنْ أراد سفرًا اهتمّ له، ومنْ أحبَّ اللحوق بقوم اقتدى بفعالهم وسلك سبيلهم، ومَنْ فضل قوماً بالعلم يحق أن يفضلهم بالعمل، فليكن الغالب مِن همومك هَمَّ المَعَاد والتزوّد له، والغالب مِنْ كلامك ذكر الموت والاستعداد له، فهو أشدُّ شيء نزل بك قط، وأهونُ شيء فيما بعده، لأن بعده سبعين هَوْلاً، كلّ هَوْل أشدّ من الموت، فلا يستتبعك الشيطان في الدنيا، والمنافقون في الآخرة. فإن قلت: لِمَ خُصَّت النازعات باسم الطامَّة، وعبس باسم الصاخَّة، مع أنهما شيء واحد؟ فالجواب أن اسمَ الطامّة أرهب وأنْبَأ بأهوال القيامة، لأنها من قولهم: طَمَّ السيل، إذا علا وغلب. وأما الصاخَّة فالصيحة الشديدة، من قولهم صخَّ بأذنيْه مثل أصاخ، فاستُعير على أسماء القيامة مجازاً، لأن الناس يصيخون لها، فلما كانت الطامّة أبلغ في الإشارة إلى أهوالها خصّ بها أبلغُ السورتين في التخويف والإنذار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وعلى ذلك بنيت سورة " النازعات "، ألا ترى قوله: (يوم تَرْجف الراجفة. تتبعها الرادفة) . ووصف الطامة الكبرى، وما أتْبع به بَعْدُ. وابتداء السورة وختامها قَبْلها تخويف وترهيب، فناسبها أشدّ العبارتين موقعاً، وأرهبها. وأما سورة عبس فلم تبْن على ذلك الغرض، وإنما ئنيت على قصة عبد اللَه ابن أم مكتوم الأعمى. وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخّة) عَقِب التذكير بقوله: (إنها تَذْكِرَة) ، والتذكير للاعتبار بقوله: (فلْيَنْظُر الإنسان إلى طعامه) ، إلى قوله: (مَتَاعاً لكم ولأنعامكم) . ثم أتبع بعد ذكر الصاخة بقوله: (وجوه يَوْمَئِذ مسْفِرَةٌ. ضاحكةٌ مستبْشرة) . فسورةُ النازعات على الجملة أشدّ في التخويف والترهيب، فناسبَها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة. وقيل: إنما خُصَّت النازعات بالطامّة، لأن الطمَّ قبل الصخ، وهو الصوت الشديد والفَزع قَبْل الصوت، فكانت هي السابقة. وخصَّت سورة " عبس " بالصاخّة، لأنها بعده وهي اللاحقة. (فليَنْظر الإنسانُ إلى طَعَامه) : أمر بالاعتبار في الطعام، كيف خلقه اللَّهُ بقدرته، ويَسَّرَه برحمته، فوجب على العبد طاعته وشكره. وتقبح معصيته والكفر به. وقيل: فلْيَنْظر الإنسان إلى طعامه كيف يَصير، فيَزْهَد في دنْيا هذه حالها، ولا يرغب في لذّاتها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: ما طعامك. قال: اللحم واللبن. قال: فإلى ماذا يَصِير، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يشبع من خُبز الشعير زُهْداً فيها. قال يحيى بن سلام: بعد أن ذكر اللَّهُ زواجرَ الكفَّار استأنف ضَرْبَ المثل لأهل الإيمان، ليزدادوا اعتباراً بقوله: (فلينظر الإنسانُ إلى طعامه) الذي يحيا به ويأكله، من أي شيء كان "، ثم صار بعد حفظه ابن آدم، وهو الجسد. قال الحسن: ملك يميل رقبة ابن آدم حين يجلس. وقيل: فلينظر الإنسان إلى طعامه ويفكّر فيما هيّأه من سماءٍ وأرض، وماء وحَرّ وبرد ونحْوها، وآلة عديدة، وأسنان، منها كاسرة وطاحنة، بريق حُلو لذَوْقِه وَصَوْغه وقوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 هاضمة، ودافعة، وإذا استوى طعامُه بحرارة كبده ونحوه أعطى اللهُ تعالى لكل جُزْء وشعرة نصيبا. (فأقْبَره) . أي جعله ذَا قَبْر، يقال: قبرت الميت إذا دفَنْته، وأقبرته إذا أمرت أن يُدْفَن. (فلْيَتنافَسِ المتَنَافِسون) : التنافس في الشيء هو الرغبةُ فيه، والمغالاة في طلبه، والتزاحمُ عليه، وهذا كقوله: (لمِثْلِ هذَا فلْيَعْمَل العامِلُون) ، فسبحان من جذب عباده إليه تارةً بذكر نعيمه، وتارة بالتخويف من عذابه، وتارةً بإحسانه إليهم لعلهم يرجعون إليه، لم يَكفه ما أعطاهم من رياسة الدنيا، وتسخير المخلوقات لهم حتى وعدهم بالملك العظيم، والفَوْز المقيم، والرضوان الجسيم، ورؤيتُه تعالى أعظم من هذا كله. (فالْيَوْمَ الذين آمَنُوا من الكفَّار يَضْحَكُون) : لما كان الكفار في الدنيا يضحكون على المؤمنين قلب الله الحقائق، فيضحك المؤمنون من الكفار حينئذ ويقولون لهم: (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) . (اصْلَوْها اليوم بما كنتم تكفرون) . (فلا أقْسِم بالشَّفَق) . هو الحمرة التي تَبقى بعد غروب الشمس. وقال أبو حنيفة: هو البياض. وقيل: هو النهار كله. والأول هو المعروف عند الفقهاء وأهل اللغة. (فمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُون) : أيُّ شيء يمنع الكفار من الإيمان بعد رؤيتهم هذه العِبَر. (فبَشرْهُم بعذَابٍ أليم) : وضع البشارة موضع النذارة تهكماً بهم. (فَتَنُوا المؤمنينَ والمؤمناتِ) : إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنةُ هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفَّار قريش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فالفتْنة بمعنى الفتنة والتعذيب. وهذا أظهر، لقوله: (ثم لم يتوبوا) ، لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا، بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم مَنْ أسلم وتاب. وفي الآية دليلٌ على أنَ الكافر إذا أسلم يُغفر له ما فعل في حال كفْره، للحديث: الإسلام يَجبُّ ما قَبله. واختلف هل يكتب له ما فعل من الخير؟ الصحيح أنه يكتب له، للحديث: " أسلمت على ما أسْلفت من الخير:. وقد ألَّف بعضُهم فيه تأليفاً مفيداً. (فلْيَنْظر الإنسان ممَّ خلق) : حذف ألف ما لأنها استفهامية، وجوابها: (خُلِقَ من ماءٍ دافق) ، واستَفْهَم هنا عن ابتداءِ الخِلْقة ليعلم الإنسان مَنْ هو، وسن أي شيء خلق، كي لا يتكبر، وكيف يتكبر مَنْ خلق من ماء نجس غمس في دم نجس، ولذلك قال بعضهم: ما يصنَع بالكبْر مَنْ خلق من نطفة مَذِرة وآخره جِيفة قَذِرة، وهو فما بينها حامل عَذِرَة! (فما له من قوَّةٍ ولا ناصر) : قد قدمنا أنَّ الضمير للإنسان، وفيها التنبيه له على الرجوع إلى خالقه وناصره، ولا يلتفت إلى غيره مِن والد وزوج وأخٍ وولد، إذ كلّهم ينقطعون عنه، ولا يجدُ إلا مولاه الذي ينصره حيًّا وميتاً، يقول تعالى في بعض كتبه: " عبدي أحباؤك أربعة: حبيب يصلح لأولاك ولا يصلح لأخْراك، وهما الأبوان يخدمانك ويربيانك في صغرك، فإذا كبرا يكونان ضعيفين لا يقدران على أن يربّياك. وحبيب يصلح في أخراك ولا يصلح لأولاك، وهم أولادك يخدمونك في آخر عمركَ. وحبيب يصلح لظاهرك ولا يصلح لباطنك، وهم الأخلاء والأصدقاء. وحبيب يصلح لباطنك ولا يصلح لظاهرك، وهنَّ أزواجك، فإذا أردتَ أن تحبَّ أحداً فإني أحبك أوَّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأنصرك، في كل الأحوال، أتترك من يحبك في كل الأحوال وتحبُّ من لا يحبك على كلِّ حال. (فَسَوَّى) : حذف مفعول خَلَق فسوَّى، لقصد الإجمال الذي يفيد العموم. والمراد خلق كل شيء فسوَّاه، أي أتقن خِلْقَته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 (فهَدَى) : حذف المفعول أيضاً لمفيد العموم، فإن كان من التقدير فالمعنى قَدَّر لكل حيوان ما يصْلحه فهداة إليه، وعرَّفه وجْهَ الانتفاع به. وقيل: هدَى ذكورَ الحيوان إلى وطْءِ الإناث لبقاء النسل. وقيل: هو المولود حين وَضْعِه إلى مَص الثدي. وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع. وهذه الأقوال أمثلة. والأول أعم وأرجح، فإن هدايةَ الإنسان وسائرِ الحيوانات إلى مصالحها بابٌ واسع فيه عجائب وغرائب. وقال الفراء: المعنى هدى وأضل، واكتفى بالواحدة، لدلالتها على الأخرى. وهذا بعيد. (فذَكًرْ إنما أنْتَ مذَكَر) ، أي ذَكَرْ كلَّ أحد، (إلا مَنْ تولَّى) ، يئست منه، فهو على هذا متصل. وقيل: (إلاَّ مَنْ تولى) استثناء من قوله: (لست عليهم بمصَيْطر) . أي لا تتسلَّط إلا على مَنْ تولى وكفر، وهو على هذا متصل لا نَسْخَ فيه، إذ لا موَادعة فيه، وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة. (فَصبَّ عليهم ربُّكَ سَوْطَ عَذَاب) : قد قدمنا أنه استعار للسوط العذاب، لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره، قاله ابن عطية. قال الزمخشري: ذِكْر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهون من عداب الآخرة، كما أن السوط أهونُ من القتل. (فأمّا الإنسان إذَا ما ابْتَلاَه رَبُّه) : قد قدمنا أن معنى الابتلاء الاختبار، واختباره تعالى لعَبْدِه لتقومَ الحجةُ عليه بما يبدو منه، وقد كان الله عالماً بذلك قبل كونه. والإنسانُ هنا جنس. وقيل نزلت في عتْبة بن ربيعة، وهي مع ذلك على العموم فيمَنْ كان على هذه الصفة، وذكر اللهُ في هذه الآية ابتلاءَه للإنسان بالخير والشر اختباراً وفتْنَة. (فقدَر عَلَيْهِ رِزْقَه) ، أي ضَيَّقَه. وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد. وفي التشديد مبالغة. وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) : مَن قرأ بكسر الذال من (يعذب) والثاء من (يوثق) فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى. ومَنْ قرأ بالفتح فالضمير للإنسان، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوئق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي. وروي أَن أبا عمرو رجع إليها، وهي قراءة حسنةٌ صحّتْ عنه - صلى الله عليه وسلم. (فادْخلي في عِبَادِي) ، أي فادخلي في عبادي الصالحين. وقرئ: فادخلي في عَبْدي بالتوحيد، ومعناه ادخلي في جسده، وهو خطاب للنفس. ونزلت هذه الآية في حمزة. وقيل في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفّار بمكة، ولَفْظُها يَعمّ كلَّ نفس مطمئنة، لأن النفوس ثلاثة: لوّامة، وأمًارة، ومطمئنة، والمدوح منها الأخيرة. (فلا اقْتَحَم العَقَبة) : قد قدمنا أنَّ الاقتحام الدخول بشدة ومشقة. والعقبة: عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة بَعْد، وجعلها عقبة استعارةً من عقَبة الجبَل، لأنها تصد ويشقّ صعودها على النفوس. وقيل هي جبل في جهنم له عقَبة لا يجاوزُها إلا من عمل هذه الأعمال و"لا" تحضيض بمعنى هلاّ. وقيل هي دعاء. وقيل نافية. واعترض على هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها. وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة، فلا فَك رقبة، ولا أطعم مسكيناً. (فألْهَمَها فجورَها وتَقْوَاها) . أي عرفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوةً يصح. معه! اكتساب أحد - الأمرين. ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: (إنا هَدَيناه السبيلَ إمَّا شاكِراً وإمّا كفورا) . (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ) : منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقةَ الله، أوْ احْذَروا ناقةَ الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) . أي سوى القبيلة لم يُفْلت أحداً منهم. وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة، أي سوَّاها بينهم. فانظر كيف هوَّل عليهم بهذه اللفظة بسبب ذَنْبهم، وهو التكذيب، وعَقْر الناقة، ليتعظ غيرهم. (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) : ضمير الفاعل لله تعالى. والضمير في عقباها للدَّمْدَمة والتسوية، وهو الهلاك، أي لا يخاف عاقبةَ إهلاكهم ولا درك عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقارٌ لهم. قيل: وضمير الفاعل لصالح، وهو بعيد. وقرئ فلا يخاف بالفاء وبالواو. وقيل في القراءة بالواو إن الفاعل أشْقاها. والجملة في موضع الحال، أي انبعث ولم يخَفْ عقبى فعلته، وهذا بعيد. (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) : مخاطبة من الله أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - على تقدير: قل يا محمد. (فَحَدِّثْ) : أمر من الله لرسوله أنْ يحدّث بنعمه، وهي الْقرآن، والرسالة، وجميع النعم التي أعطاه من دِينية ودنيوية، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " التحدث بنعم الله شكرٌ لها وكتمانُها كفرها ". ولهذا كان بعض السلف يقول: صليتُ البارحة كذا، وصمْتُ من الشهر كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وَجْهِ الشكر، أو ليُقْتدى به، لا على وَجْهِ الفَخْر والتكبّر. وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا، فقابل قوله: (ألم يجِدْكَ يتما) بقوله: (فأما اليَتيمَ فلا تَقْهَر) . وقوله: (ووجدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) بقوله: (وأما السائلَ فلا تنْهَرْ) على قول مَنْ قال: إنه السائل عن العلم. وقابله بقوله: (وأمَّا بنعمة رَبِّكَ فحدِّثْ) - عَلى القول الآخر. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) : هذا وعْد بالسسْر بعد العسر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وتسليةٌ لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لما كانوا يلْقَوْن من الأذَى من الكفار. وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقارنة ليدلَّ على قُرْب اليسر من العسر. فإن قيل: ما وَجْه ارتباط هذا مع ما قبله؟ والجواب: لما عدّدَ عليه النعم تسليةً له وتأنيساً قَوِي رجاؤه بالنصر، كأنه يقول له: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظْهرك ويبدّل لك هذا العسر يسراً قريباً، ولذلك كرَّر: (إنّ مع العسر يسراً) ، مبالغة. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يغلب عُسر يُسرين ". وقد روى ذلك عمر، وابن مسعود، وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد، كقولك: جاءني رجل فأكرمْتُ الرجل. واليسر اثنان لتنكيره. وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، وقد أكثر الناسُ في هذه الآية وألفُوا فيها تواليف منها كتاب: " الفَرَج بعد الشدة "، وجنة الرضا، وغيرهما مما يطول ذكر شيء منها. وبالجملة فمَنْ تَذَكًر سَبْقَ نعمته عليه، وكثْرَة نعمه إليه، وعظيم ثوابه. وصدْقَ وعْده، وسعةَ رحمته وسَبْقَها غَضبه - آثر له قوة رجائه فيه، وهان عليه ما يَلْقَاه في ضيقه، قال تعالى في بعض كتبه: يا مطرود، لا تبرح، ويا مَرْدُود لا تَيأْس، ويا مهجور لا تَقْلق، قد فتحنا لك البابَ وجعلناك من الأحباب، وهب أني طردْتُك عن بابي، وألزمْتك حِجابي فإلى بابِ مَنْ تلتجئ، وعلى أي جهة تقف، فكنْ معي كالصبي مع أمّه، كلما زجَرَتْه رجع إليها، وكلما طردته تمرًغ بين يديها، فلا يزال معها حتى تقبله، فانْقُل قدمَ الإقدام لبابي، واكشف رأْسَ الاستغفار ونادِ بلسان الحقْر والاضطرار: ربي مَسني الضرّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحمين - يقع لك جواب: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) . (فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) : هو من النصَب بمعنى التَّعب. والمعنى إذا فرغت من أمْرٍ فاجتهد في أمرٍ، ثم اختلف في تعيين الأمرين، فقيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 إذا فرغت من الفرائض فانْصَبْ في النوافل. وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانْصَبْ في الدعاء. وقيل: إذا فرغت من شغْل دنياك فانصب في عبادة ربك. (فارْغَبْ) : إنما قدم المجرور في (إلى ربك) ليدلَّ على الحصر، أي لاَ ترغب إلا إلى ربك وحْدَه. وفي هذا إشارة إلى عدم الركون للخلق، فإن الركونَ إليهم وحشة والالتجاء إليهم إعراض عن الحق. وقد قدمنا من هذا المعنى كثيراً. (فلهم أجْر غير مَمْنون) : أي غير منقوص، يقال: مننت الحَبْلَ إذا قطعته. وقال مجاهد: غير محصور، لأن كلّ مَحْسوب محصور، فهو معدّ لأن يمنَّ به. ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المنِّ والأذَى من حيث هو من جهة الله تعالى، فهو شريف لا منَّ فيه، وأعطياتُ البشر هي التي يدخلها المنُّ. قال السدي: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزمناء إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر ما كانوا يعملون. فإن قلت: أيّ حكمة في الإخبار بهذا، ولم زيدت هنا الفاء، وحذفت من آية الانشقاق، وفصِّلَتْ؟ والجواب إنما زيدت لمراعاة الفاء التي بعدها، وفائدة تكرير هذه الآية والإخبار بها للتأسي والتخلّق بأفعال الحق في عدم مَنِّه، لأنَّ المنَّ يكدِّرُ الإحسانَ ويذهب بلذّته، ولذلك قال تعالى: (لا تبْطِلوا صدقَاتِكم بالمَنِّ والأذَى) . قال المفسرون: المنُّ أن يذكره، والأذى أن يظهره. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تأكل طعام المنَّان، فإنه داء ". . . إلى غير ذلك من الأحاديث مما يطول ذكرها. (فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) : قد قدمنا في حرف الميم ما في هذه الآية وتسميتها بالجامعة الفاذة، ولما نزلت هذه السورة بَكى أبو بكرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وقال: يا رسول الله، أو أُسأل عن مثاقيل الذّرّ من أعمالي، قال له - عز وجل -: يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذَرِّ الشر ويَدَّخِر لك الله مثاقيلَ ذرِّ الخير. . . إلى آخره. فانظر بكاء المشهود له بالجنة على نفسه، وخَوْفه من ذنوبه مع أن الله بشَّره بشفاعته في عدد ربيعة ومُضَر من هذه الأمة، وأنت تريد اللحوقَ بهم مع عدم خوفك وبكاك، وكثرة أوزارك محيطة بك، ما يكون جوابك إذا قيل لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ، فما أعظمها من كربة إذا حملْتَ حُزمة سيئاتك، وصرت تقرؤها بين يدي ربك، وما مثلنا إلا كحاطبٍ يجمع كلً ما يَلْقَى، فإذا جاء يرفعها لم يقدر عليها، وقد أخفى الله غضبه في معاصيه، فلا تحقرن منها شيئاً، فإنها عند الله بمكانٍ، وكلّ ما صغر في عينك عظيم عند الله. قال الفضيل بن عياض: أتاني رجل، فقال: عِظْني، فقرأتُ عليه: (إذا زُلْزِلَت) ، فغاب مدةً ثم أتاني، فقلت له: أين غَيْبَتُك، قال: كنْتُ مشغولاً بتحقيق الحساب الذي علَّمْتَني، فقلت له: وما هو، قال: (فمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره) . ورئي بعض المشايخ وقد بلغ جدَاراً، وكان في زمن الشتاء، وهو يتصببُ عرقاً فسئل عن ذلك، فقال: أخذتُ من هذا الحائط قطعةَ طين غسل يده بها ضيفٌ، ولم أستحل من صاحبه حتى مات، فأنا كلما مررتُ به لم أمًلك نفسي. هذا حالُهم، فأنَّى لنا اللحوق بهم! مَلأْنَا بطونَنا من الحرام، وتراكمت على قلوبنا سحائبُ الآثام، وغلب علينا سكر المنام، وادعيْنَا الدعاو ى الباطلة والآمال الكاذبة. فإن قلت: ما سِرُّ تقديم الخير في هذه الآية على الشر؟ والجواب لما كان المطلوب في العمل تقديمُ الخير على الشر جاء في اللفظِ على الوَجْهِ المطلوب. وأيضا لما كان فاعلُ الخير مقدَّماً في الرتبة على فاعلِ الشرِّ جاء العملُ مرتباً على ترتيب عامله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 (فلْيَعْبدوا رَبَّ هذا البيت) : هذا إقامة حجةٍ عليهم، واستدعاءٌ لهم، بملاطفة وتذكير بالنعم حيث كان الناسُ يتخطفون مِنْ حَوْلهم، وهم لا يُصيبهم ما أصَاب غيْرَهم، من الأمن وإتيان الرزق إليهم، لحرْمَةِ هذا البيت المعظم عند جميع بني آدم، كأنه يقول لهم: إن لم تعبدوه لما شَرَفكم بالعقل، وجعلكم محبوبين، فاعبدوه لهذا البيت الذي شرَّفكم به، ودفَع عنكم مَنْ قَصد ضرَّكم من جميع الأمم. (فَسبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك) : قد ذكرنا معنى التسبيح والاستغفار، وأن هذه السورة إعلام من الله لرسوله بقُرْب أجله. فإن قيل: لم أمره بالتسبيح والْحَمْدِ والاستغفار عند رؤْية النصر والفَتْح. وعند اقتراب أجله؟ فالجواب أنه أمره بالتسبيح والْحَمْد ليكونَ شُكْرهُ على النصر والفَتْح وظهورِ الإسلام، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المَرْءَ لا يَختم صحيفَته إلا بخير الأعمال، ويهيئ زاداً للقاء ربه، ولا يَغْفل كما غفل في أول أجله. والاستغفار والتَسبيح من أفضل الأعمال، لما فيهما من تَنْزِيه الخالق، وانكسار القَلْب مع الاستغفار، وهو تعالى عند المنكسرة قلوبهم. (فَرَاش) : قد قدمنا أنه طير دقيق يتساقطُ في النار ويقْصِدها، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يَحْتَرق. ومنه الحديث: " أنا آخذ بحجَزِكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تَقَاحمَ الفراش والجنادب. فإن قلت: قد شبههم في سورة القمر بالجَرَاد المُنْتَشر، وهنا بالفَراش، فهل بينهما توافق أم لا؟ فالجواب أن بينهما موافَقة على قول بعضهم، قال الفراء: الفَراشُ غوغاء الجراد، وهو صغِيره الذي ينتشر في الأرض والهواء. قال بعض العلماء: الناس أول قِيامهم من القبور كالفَراش المبثوث، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 ثم يدعوهم الداعي فيتوجَّهون إلى ناحية المَحْشر كالجراد المنتشر، لأن الجرادَ إنما تَوَجّهه أبداً إلى ناحية مقصودة، وبهذا يظهر لك الجَمْعُ بين الآيتين. وروى البيهقي في الشعب عن النَّوَّاس بن سمعان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافُتَ الفراش في النار، كلّ الكذب مكذوب إلا الكذب في الحرب أو الكذب لإصلاح ذات البَيْن، أو الكذب على امرأته ليرضيها. قال الغزالي: ولعلك تظنّ أنَّ ذلك لنقْصانها وجهلها، فاعلم أن جَهْلَ الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الإنسان في الإكباب على الشهوات صورة الفَراش في التهافت على النار، فلا يزال يَرْمِي بنفسه فيها إلى أن يغمس فيها، ويهلك هلاكاً مؤبَّداً، فليت جهل الآدمي كان كَجَهْل الفراش، فإنما اغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلَّصت في الحال، والآدمي يبقى في الحال أبَدَ الآبادِ، ومدة مؤبَّدة، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم تتهافتون في النار تهافتَ الفراش وأنا آخذ بحُجزكم. قلت: وقد قدمنا أن الفرش صغار الإبل كالعجاجيل والفصْلان، لأنها تُفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها. فإن قلت: ما سِرّ تقديم الحمولة على الفرش مع احتياج الناس إليها أكثر ومنفعتها أهَمُّ؟ فالجواب أن الحمولة أعظم في الانتفاع، لأنها للأكل والحَمْل. قال الفراء: ولم أسمع بالفراش يُجمع. ويحتمل أن يكون مصدراً سُمِّيَ به، من قولهم: فرشها اللَه فَرْشاً. (فرْقَان) : له ثلاثة معانٍ: القرآن، ومنه: (يَجْعَل لكم فرقاناً) ، أي تفرقة. ويوم بَدْر، ومنه: (وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرقان) . (فَلَك) : سفينة، ويستوي فيها الفرد والجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 (فقه) : فهم، ومنه: (لا يفْقَهُون) . و (ما نَفْقه كثيراً مما تقول) . (فُومِهَا) : هو الثوم. وقيل الحنطة بالعبرانية. ويقال: فوموا، أي اختبئوا، ويقال: الفُوم الخرنوب. (للفقراء الذين احْصِرُوا في صبيل الله) البقرة: 373،: متعلق بمحذوف، تقديره: الإنفاق للفقراء المهاجرين الذين حُبِسوا بالعدوّ أو بالمرض، والمراد بهم أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: (إنما الصدقاتُ للفقراء) - فالمرادُ أنَّ الزكاة تُدفع للفقراء، وهم أحد الأصناف الثمانية. والفقيرُ الذي له بُلْغة من العيش، وقد قدمنا أنَّ المسكينَ أحوجُ من الفقير، لأنه الذي لا شيء له بالكلية. والعاملين عليها الذين يقْبِضُونها ويفرِّقونها. والمؤلفة قلوبهم: كفّارٌ يُعْطَونها ترغيباً في الإسلام، كإعطائه للأقْرع بن حابس مائةً من الإبل. وقيل: هم مسلمون يُعْطَون ليتمكَنَ إيمانُهم. واختلف: هل بقي حكْمهم أو سقط للاستغناء عنهم، وفي الرِّقَاب: يعني العبيد يُشْترون ويُعْتَقون. والغارِمِين: يعني مَن عليه دين. ويشترط أن يكونَ استَدانَ في غير فَساد ولا إسراف. وفي سبيل الله: يعني الجهاد، فيُعْطَى منها المجاهدون ويشترون منها آلاتِ الحرب. واختلف هل تُصْرف في بناءِ الأسوار وإنشاء الأصاطيل، وابن السبيل: يعني الغريب المحتاج. (فَرِيضةً) ، أي حقًّا محدودا، ونصبه على المصدر. وقد قدمنا أن لفظة الفَرْض تحتمل معاني كثيرة: بمعنى التقدير، ومنه الحديث: زكاةُ الفِطْر فريضة، أي مقدَّرة. وبمعنى النزول، ومنه: (سورة أنْزَلْناها وفَرَضْنَاها) . وقرئ بتشديد الراء، يعني بيَّنَّاها. وبمعنى التحليل، قال تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) ، يعني فما أحلَّ اللهُ له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وقال تعالى: (وقد فَرَضْتُم لهن فريضة) ، أي سمّيتم، وقوله: (فَمَنْ فرَض فيهن الحج) : يعني أوجب. وقال تعالى: (قد فَرض اللهُ لكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم) ، يعني بَيَّنها. فإن قيل: لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذِكر المنافقين؟ فالجواب أنه خَصَّ مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طَمَع المنافقين فيها، فاتَصَلَتْ هذه الآية في المعنى بقوله: (ومنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصدقات) . (فُسُوقٌ بكم) : خطاب لمن وقع في الإضرار في الكاتب والشهيد المتقدمين في الذكر. وقد قدمنا أنَّ الفِسْقَ هو الخروج عن الطاعة، وقد عَبَّر سبحانه عن المنافق بالفاسق في قوله تعالى: (أفمَنْ كان مؤْمِناً كمَنْ كان فَاسِقا) . (فُرَادَى) : متفردين عن أموالكم وأولادكم. وأما قوله: (قل إنما أعِظكم بواحدة أنْ تقوموا للهِ مَثْنَى وفرادَى) - فمعنَاها أن تقوموا للنظر في أمْرِ محمد - صلى الله عليه وسلم - قِياماً خالصاً ليس فيه اتِّبَاعُ هَوى ولا مَيْل، وليس المراد بالقيامِ بالأمْر الجد فيه، وأن تقوموا بدل أو عطف بيان، أو خبر ابتداء مضمر. ومَثْنى وفرَادى حال من الضمير في (أن تقوموا) . والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلباً للتحقيق. وتقوموا واحداً واحداً لاستحضار الذهْن وإجماع الفِكرة. (فُرطاً) : من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف. (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : الضمير للملائكة، وقد قدمنا أنهم إذا سمعوا الوَحْيَ إلى جبريل يفزعون لذلك فزعاً شديداً، فإذا زال الفَزَعُ عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، قالوا: الحقّ. ومعنى (فُزِّعَ) زال عنها الفَزَع، فالضمير في (قالوا) للملائكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فإن قلت: كيف ذلك ولم يتقدم للملائكة ذِكْرٌ يعود الضمير عليه؟ والجوابُ أنه قد وضعت إليه إشارة بقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكةَ ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكْر الشفاعة يقتضي ذِكْرَ الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دَلّ عليهم لَفْظ الشفاعة. فإن قيل: بِمَ اتّصل قوله، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، ولأي شيء وقعت حتى غاية؟ فالجواب: أنه اتصل بما فهم من الكلام مِن أنَّ ثَمَّ انتظاراً للإذن في الشفاعة وتوقّفاً وفزَعاً حتى يَزول الفَزع بالإذْن في الشفاعة، ويقرب من هذا المعنى قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ) . ولم يفهم بعض الناس اتصالَ هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم: هي في الكفار بعد الموت، ومعنى (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) رأوا الحقيقةَ، فقيل لهم: ماذا قال ربّكم، فيقولون: قال الحق، فيقرّون حين لا ينفعهم الإقرار. والصحيح أنها في الملائكةِ لورود ذلك في الحديث، ولأن القَصدَ الردُّ على الكفار الذين عبدوا الملائكةَ بذكر شدةِ خَوْفِ الملائكة من الله وتعظيمهم له. (فُرُوجٍ) : انشقاق، وذلك دليل على إتقان الصنعةِ. ومنه: (أولم يرَ الذين كَفَروا أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقاً ففتقناهما) . والفروج والانشقاق والفطور والصدوع والفتوق بمعنى واحد. (فِرَاشاً) : بمعنى مهاداً، يعنى ذَلَّلناها لكم، ولم نجعلها صعبةً غليظة لا يمكن الاستقرارُ عليها. (فؤَاد) : قلب، وجمعه أفئدة. (فِصَال) من الرضاع، وإنما عبر عن مدّته بالفصال، وهو الفطام، لأنه منتهى الرضاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فإن قلت: قد قال في سورة لقمان: (وفِصَاله في عامين) ، وفي الأحقاف: (وفِصَالهُ ثلاثون شَهْراً) ؟ فالجواب أنَّ ما في لقمان مدة رضاعه، وفي الأحقاف حَمْلُه وفصاله ثلاثون شهراً. وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين، وذلك إما أنْ تكون مدة الحمل ستة أشهر، ومدة الرضاع حَوْلين كاملين، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر، ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر. ومن هذا أخذ عليٌّ بن أبي طالب مدةَ الحمل ستة أشهر. (فِتْنة) : وردت على أوجه: الشرك: (والفِتْنَة أشَدّ من القَتْل) ، (حتى لا تكونَ فِتْنَة) . والضلال: (ابتغَاء الفِتْنَة) . والقَتْل: (أنْ يَفْتِنَكم الذين كفَروا) . والصدُّ: (واحْذَرْهم أنْ يَفْتِنوك) . والضلالة: (ومَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَه) . والمعذرة: (ثم لم تكن فتْنَتهم) . والقضاء: (إن هي إلا فِتْنَتك) . والضلالة: (ألاَ في الفتْنَةِ سقَطوا) . والمرض: (يُفتنون في كل عام) . والعبرة: (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) . والعقوبة: (أن تصيبهم فتنة) . والاختبار: (ولقد فتَنَّا الذين مِنْ قبلهم) . والعذاب: (جعل فِتنَةَ الناس كعذابِ الله) . والإحراق: (يوم همْ على النار يُفْتَنون) . والجنون: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) . *** (فرعون) : قد قدمنا أن اسْمَه الوليد بن مصعب. وقيل إن كلّ مَنْ ملك مصر يسمى فرعوناً، كما يقال تبَّع لكل من ملك اليمن، أي يتبع صاحبه كالخليفة يخلف غيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: كان فرعون فارسياً من أهل إصطخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 (فِجَاجاً) : مسالك، واحدها فَجّ. (فِرْدوس) : مدينة في الجنة، وهي جنة الأعقاب. وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن مجاهد، قال: الفردوس بستان - بالرومية. وأخرج عن السُّدِّي، قال: الكَرْم بالنبطية، وأصله فرداساً. فإن قلت: يُفهم من إعادة الضمير عليها مؤنثاً على معنى الجنة، وهذا مخالفٌ لما ذكر في سورة المعارج، أنه ذكر أوصافَ هؤلاء، فقال: (أولئِكَ هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) - (في جناتٍ مكرمون) ، فدلّ على أنها جنات، وهو الصحيح. قلت: لا تنافي بينهما، لأنه ذكر في الْمعَارِج مسكن كل فرد فَرد، وهنا ذكر جَنَّات الفِرْدوس التي هي مسكنه عليه الصلاة والسلام، ومساكن مَنِ اتبعه من أمته. ولذلك ورد في الحديث: " إذا سألْتُم الله فاسْألوه الفردوس، فإنه أعْلَى الجنة، ومنه تفجَّر أنهار الجنة ". *** (في) حرف جر له معان: بمعنى الظرفية مكاناً أو زماناً، نحو: (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ) . حقيقة كالآية، أو مجازاً، نحو: (ولكم في القصاص حَيَاةٌ) . (لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين) . (إنّا لَنَرَاكَ في ضَلاَلً مُبِين) . ثانيها: المصاحبة كمع، نحو: (ادْخُلوا في أمَمٍ) ، أي معهم - (في تسع آيات) . ثالثها: التعليل، نحو: (فَذالِكُنَّ الذي لمْتُنَّنِي فيهِ) . (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ) ، أي لأجْله. وابعها: الاستعْلاء، نحو: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) . خامسها: معنى الباء، (يَذْرَؤُكم فيه) ، أي بسببه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 سادسها: معنى إلى، نحو: (فردُّوا أيديهم في أفواههم) ، أي إلى أفواههم. سابعها: معنى مِن، نحو: (يَوْمَ نبعَثُ في كُلِّ أمةٍ شَهيدا) ، بدليل الآية الأحْرى. ثامنها: معنى عن، نحو: (فهو في الآخرة أعمى) ، أي عنها وعن محاسنها. تاسعها: المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحو: (فما متَاعُ الحياةِ الدنْيَا في الآخرة إلا قليل) . عاشرها: التوكيد، وهي الزائدة، نحو: (وقال ارْكَبُوا فيها) ، أي اركبوها. *** (الفاء) ثلاثة أنواع: ملطفة، ورابطة، وزاحفة للفعل بإضمار أن، ومعناها للترتيب والتعقيب والتسبّب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 (حرف القاف) (قَسَتْ قُلوبُكم) : يبست وصلبت، وقلب قاسٍ، وجاس، وعاس، وعات، أي صلْب يابس جاف عن الدين غير قابل له. وهذا الخطاب لبني إسرائيل لقبح قساوةِ قلوبهم بعد رؤيتهمِ للآيات، فهي كالحجارة أَوْ أَشد قسوة، ولم يقل أقسى مع أنَ فعل القسوة يُبْنى منه أفعل، لكون أشد أدَلّ على فرط القسوة. (قَفَّيْنَا) : مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قَفَا الأول. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) : سبَبها اجتماعُ نصارى نجران مع يهود المدينة، فذمَّت كلّ طائِفة الأخرى، وهذا أيضاً منهم موجود في هذا الزمان، فإن كل طائفة منهم مقِرَّة بأن الإسلام خير من دين الفريق الآخر. (قال الَّذِين لا يعلمون) : هم هنا وفي الموضع الأول كفّار العرب على الأصح، وقيل هنا: هم اليهود والنصارى. (قال الَّذِين مِنْ قَبْلهم) : يعني اليهود، والنصارى على القول بأنَّ الذين لا يعلمون كفَّار العرب. وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى فالذين مِنْ قبلهم أمم الأنبياء المتقدمين. (قد بَيَّنّا الآيات) : أخبر تعالى أنه قد بيّن الآيات الدالة على وحدانيته وعلى صِدْقِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تطلب الآيات بعد بيانها؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 إنما فهمها الذين يوقِنون، ولذلك خصهم بالذكر بخلاف الكفَّار المعاندين، فإنهم لا تنفعهم الآيات لعنادهم. (قانتون) : القنوت له خمسة معان: العبادة، والطاعة، والقيام في الصلاة، والدعاء، والسكوت. (قَضَى) : ورد على أوجه: الفراغ: (فإذا قَضَيْتُم مَنَاسِككم) . والأمر: (إذا قَضَى أمْرا) . والأجل: (فمنهم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) . والفصل: (لقُضِيَ الأَمْر بيني وبينكم) . والمضي: (ليَقْضِيَ اللَهُ أمْراً كان مفعولاً) . والهلاك: (لقضِيَ إليهم أجَلُهم) . والوجوب: (لَمَّا قُضِيَ الأمر) . والإبرام: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) . والإعلام: (وقَضَيْنَا إلى بني إسرائيل) . والوصية: (وقَضَى ربّكَ ألاَّ تعْبدوا إلا إيَّاه) . والأداء والوفاء: (ذلك بيني وبينك أيما الأجَلين قَضَيْت) ، يعني أديت ووفيت. والفراغ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) ، أي فرغ ومضى. والحكم: (واللهُ يَقْضي بالحق) ، أي يحكم. والموت: (فلما قضينا عليه الموت) . والخلق: (فقضَاهُنَّ سَبْعَ سمواتٍ في يَوْمَيْن) . والفعل: (كلاَّ لما يقْضِ ما أمَره) ، يعني حقاً لم يفعل. والعهد: (إذْ قَضَيْنَا إلى موسى الأمْر) . *** (قَوَاعد البيت) : أساسه. والقواعد من النساء، التي قعدت عن الولد. وقيل التي إذا رأيتها استقذرتها. وقيل: قعدت عن التصرف. (قَيّوم) : من أسماء الله تعالى، وزْنه فَيعُول. ومنه بناء مبالغة، من القيام على الأمور. ومعناه، مُدبِّر الخلائق في الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 ومنه: (أَفَمَنْ هو قائِمٌ على كل نَفْس بما كسَبت) . قال الواسطي: القيوم هو الذي لا ينام بالسريانية. *** (قدر) : له خمسة معان: من القدرة، ومن القدير، ومن القدار، ومن القدر والقَضَاء، وبمعنى التضييق، نحو: (ومن قُدِر عليه رزْقُه) . وقد يشدد الفعل ويخفف. والقَدَر - بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار. وبالفتح لا غير من القضاء. (قَوَّامون) : قام له ثلاثة معان: من القيام على الرِّجْلَين، ومن القيام على الأمر بتدبيره وإصلاحه، وهذا بناء مبالغة، وقام الأمْرُ ظهر واستقام، ومنه: (الدين القَيِّم) . قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء. (قانتات) ، أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعات لله في حق أزواجهن. (قَتَلْنَا المسيحَ عيسى ابن مريم) : هذا من قول اليهود على وَجْه الافتخار والْجُرْأَة مع أنهم كذبوا في ذلك ولزمهم الذنْبُ وهم لم يقتلوه، بل صلبوا الشخْصَ الذي أُلقي عليه شبهه وهم يعتقدون أنه عيسى. وروي أنَّ عيسى قال للحواريين: أيكم يُلْقَى عليه شبهي فيُقْتل ويكون رفيقي في الجنة؟ فقال أحدهم: أنا، فألقي عليه شبه عيسى، فقتل على أنه عيسى. وقيل: بل دل على عيسى يهوديٌّ، فألقى الله شبَه عيسى عليه، فقُتل على أنه عيسى، ورُفع عيسى إلى السماء. وسبَبُ قتلهم له أنهم قالوا في عيسى: إنه ساحر فاغتَمَّ لذلك ودعا عليهم. فجعل الله منهم قِردة وخنازير، فبلغ الخبر إلى ملكهم، وخاف من دعائه، فأمر بقتله. ويقال: إن اسم الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى اشيوع، وهكذا وقع - لنبينا - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعت فريش لقتله، قال لعليٍّ رضي الله عنه: ارْقُد في مكاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 حتى تدخل عليك قريش، ويريدون قتلك، فإن قُتِلت كنْتَ رفيقي في الجنة. فدخلوا عليه فوجدوه عليًّا، وانقلبوا خاسئين، ولم يقدروا على شيء، فقال الله لجبريل وميكائيل: انظرا إلى حبيبي كيف فداه ابنُ عمه، وعِزَّتِي وجلالي لأجعلن اليهودَ والنصارى فداءً لأمة حبيبي، إني أردْتُ رَفْعَ عيسى إليَّ، فجعلت إيذاء اليهود سببا لذلك، كذلك أجعل وسوسةَ اللّعين سبباً لإغوائهم وأرحمهم مع ذلك. فانظر هذه الرحمة النازلة عليك يا محمديُّ. ورحم الله القائلَ: لولا المؤمن لضاعت جنَّة النعيم، ولولا الكافر لضاعت نارُ الجحيم، ولولا المعاصي لضاعت رحمةُ الرحيم. (القنَاطير الْمقَنْطَرة) : جمع قنطار، وهو ألف ومائتا أوقية. وقيل ألف ومائتا مثقال، وكلاهما مرويٌّ عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأكدها بالمقنطرة كقولهم: ألف مؤلَّفة. وقيل المضروبة دنانير أو دراهم. وقال الفراء: المقنطرة المضعفة، كأن القناطير ثلاثة والمضعفة تسعة. (قَرْح) : أي جراح، ومعنى الآية: إن مسكم قَتْل أو جراح في أُحُدٍ فقد مَسَّ الكفارَ مِثلُه في بَدْرِ. وقيل: قد مَسَّ الكفار يوم أُحُدٍ مِثْلُ ما مسكم فيه، فإنهم نالوا منكم ونِلْتُم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي. (قد خلت مِنْ قَبْلكم سُنَن) : خطاب للمؤمنين وتأنيس لهم. وقيل للكفار تخويفاً لهم. (قالوا كُنَّا مستَضْعفين في الأرض) : اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي لم يقدروا على الهجرة، وكان اعتذاراً بالباطل. ولذلك قالوا لهم: (ألم تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسعة فَتُهَاجِرُوا فيها) .. ) قَوَّافمين للهِ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ) : أي بالعَدْل مجتهدين في إقامته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 فإن قلت: ما فائدة تقديم القسط في آية النساء، وتأخيره في آية المائدة؟ والجواب آيات النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط، قال تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . وقال بعد: (ويستَفْتُونَكَ في النساء) ، ثم قال: (وأنْ تَقُوموا لليتامى بالقِسْط) ، وتوالت الآي بَعْدُ على هذا المعنى، فقدم القسط ليناسب ما ذكر. وأما آية المائدة فذكر قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكيره سبحانه بتذكّر نعمته. والوقوف مع ما عَهد به إلى عباده والأمر بتقواه، فناسب قوله: (كونوا قوّامين لله) ، ثم اتبع لما بني على ذلك من الشهادة بالقسط. فتأمل ما بني على هذه وما بني على آية النساء يتَّضح لك ما قلت. (قال اتقُوا اللهَ إنْ كنْتُم مُؤمنين) : هذا من قول عيسى للحواريين حين سألوه نزولَ المائدة، ويحتمل أن يكون زَجْراً لهم عن طلبها واقتراحِ الآيات. ويحتمل أن يكون زَجْراً عن الشك الذي يقتضيه قولهم: (هل يستطيع رَبُّكَ) على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ، وإن لم يكن فيه شك. وقوله: (إن كنتم مؤمنين) هو على ظاهره على مذْهب الزمخشري. وأما على مذهب ابن عطية وغيره فهو تقرير لهم، كما نقول: افعل كذا إن كنت رجلا. ومعلوم أنه رجل. وقيل إن هذه المقالة صدرت منهم في أول الأمر قبل أنْ يَروا معجزات عيسى. (قالوا نرِيد أن نأْكُلَ منها) . أي أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن. (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) . أجابهم عيسى إلى سؤال المائِدَة من الله، فلبس جُبة شعر وقام يصلي ويدعو ويبكي. (قال اللهُ إني مُنَزِّلها عليكم) : أجابه الله إلى ما طلب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 ونزلت المائِدة عليها خبْز وسمك. وقيل زيت ورُمَّان. وقال ابن عباس: كان طعام المائِدة ينزل عليهم حيثما نزلوا. والكلام في قصة المائِدة كثير تركْته لعدم صحته. (قال اللَهُ يا عيسى ابْنَ مريم أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاس.. .) . قال ابن عباس والجمهور: هذا القولُ من الله يكون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ليرى الكافرُ تبرئةَ عيسى مِمّا نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل. وقال السُّدِّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت، وزعموا أنَّ عيسى أمَرهم بذلك، فسأله الله حينئذٍ عن ذلك. (قالوا إنْ هي إلاَّ حياتُنا الدنيا) : حكاية قولهم في إنكار البعث الأخْرَوي. (قالوا يا حَسْرَتَنا على ما فَرَّطْنَا فِيها) : الضمير بـ (فيها) للحياة الدنيا، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يَجْرِ لها ذكر. وقيل للساعة، أي فرطنا في شأنها والاستعداد لها. والأول أظهر. (قد نَعْلَمُ إنّه لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُون) : قرئ يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن إلا قوله: (لا يَحْرنهم الفَزَعُ الأكبر) . وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي، وهو أشهر في اللغة، والذي يقولون: قولُهُمْ شاعرٌ ساحر كاهن. (قَرَاطيس) : هي الصحائف. قال الجواليقي: يقال إن القرطاس أصله غير عربي. ومعنى هذه الآية أن الله ردَّ بها على اليهود بأنه ألزمهم ما لا بدَّ لهم منه، لأنهم أقرُّوا بإنزال التوراة على موسى. وقيل القائلون قريش، وألزموا ذلك، لأنهم كانوا مقرِّين بالتوراة. (قد جاءكم بَصَائِرُ مِنْ رَبكم) : جمع بصيرة، وهي نورُ القلب، والبصر: نور العين، وهذا الكلام على لسان نَبِينا - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: (وما أنا عليكم بحفِيظ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 (قائلون) : من القائلة. (قليلاً ما تَذَكَرون) ، انتصب قليلاً بـ (تذكرون) ، أي تذكرون تذكراً قليلاً، وما زائدة للتأكيد. (قالوا إنَّا كُنَّا ظالمين) : اعتراف منهم بأنهم كانوا ظالمين لما جاءهم العذابُ، ولو اعترفوا قبل ذلك لنَفَعهم. (قَاسَمَهُمَا) ، من القسم، وهو الحلف، وذكر قسم إبليس لآدم وحواء بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين، لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أَقسم لهما وأقسما له أن يَقْبلا نصِيحته. (قَبِيلُهُ) : أمته. ومعنى الآية أن إبليس وجماعته يرى الإنسان من حيث لا يرونهم في الغالب، لأنه قد جاءت في رؤيتهم أحاديث كثيرة، فتحْمل الآية على الأكثر جَمْعاً بينه وبين الأحاديث، وفي الآخرة يراهم الإنسان ولا يرونهم، عَكس الدنيا، فسبحان من قَلب الحقائِق. (قالوا وَجَدْنَا عليها آباءَنا) : اعتذروا بعُذْرَين باطلين: أحدهما تقليد آبائهم، والآخر افتراؤهم على الله بأنه أمرهم، فرَدَّ الله عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء. (قالت أخْرَاهُم لأولاهُم) : قد قدمنا أن الأولى هم الرؤساء والقادة، والأخرى هم الأتباع والسفلة، والمعنى أن أخْرَاهم طلبوا من الله أنْ يُضاعف العذاب لأولاهُم، لأنهم أضلُّوهم. وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطاباً لهم، إنما هو كقوله: قال فلان لفلان كذا، أي قال عنه وإن لم يخاطبه به. (قال أوَلوْ كنّا كارِهين) : الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم وما يكون لنا أنْ نعود فيها ونحن كارهون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وهذا الخطاب من شعيب لقومه لَمّا قالوا له: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) . فإن قلت: العود إلى الشيء يقتضي أنه فُعل قَبْل ذلك، وهذا محال في حق الأنبياء قبل الرسالة؟ والجواب أن " عاد " قد تكون بمعنى صار، فلا تقتضي تقدّم ذلك الحال الذي صار إليه، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: إن المراد بذلك الذين آمنوا بشُعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم بقولهم: (لنخرجنَّك والذين آمَنوا معكَ من قريتنا) ، فغلبوا في الخطاب بعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك لا يُجَاب على قوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) . فإن قلت: ما معنى هذا الاستثناء من شُعيب مع عِلْمه بعصمته، وأنه لا يعود فيها، ولا يريد الله ذلك منه؟ والجواب: ما قدمناه من أنَّ الأنبياء يتبرّأون من إسناد الأمور إليهم ويتأدبون مع الله. فإن قلت: ما المانع من أنَّ الكفار ادّعوا على الرسل أنهم كانوا قبل البعثة على ملَتهم وافتروا عليهم ذلك؟ والجواب يمنع منه أنَّ هذا أمر مشاهَد حسيّ، وليس بعقلي، وقالوا في أصول الفقه: إن عددَ التواتر يقَع في الأمر الحسيّ بخلاف العقلي، فلو أقرَّ عشرون ألفاً بعدَم العالم لما قبِلَ قولُهم بخلاف ما لو أخبر جماعة بقدوم زيد، فإنا نقبلُ قولَهم على الكذب فيه. وأما الأول فالعقلُ يكذبهم، نعم يحتمل أن يكون العود على حقيقته لاحتمال كَوْن الرسل لم يُظْهروا لهم قبل البعثة أنهم مخالفون لدينهم، فلما بعثوا إليهم أظهروا المَخالفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فإن قلت إخراجهم إياهم من أرضهم عقوبةٌ ناشئةٌ عن عدم العَوْد، فهلاّ قالوا: لتعودنّ في مِلَّتِنا أو لنخرجنَّكم من أرضنا؟ فالجواب أنَّ المقام مقام التخويف، فلذلك بدأوا بالإخراج. (قال الْمَلَأ من قَوْم فِرْعون) : حكى الكلامَ هنا عن الْمَلَأ، وفي الشعراء، عن فرعون، فكَأنه قد قاله هو وهمْ، أو قاله هو ووافَقوه عليه كعادة جُلساء الملوك في اتَباعهم لما يقولون لهم. (قالوا إنَّ لَنَا لأجْراً إنْ كنَّا نَحْن الغالبين) : هذا من قول السحرة، طلبوا الأجر من فرعون إنْ غَلَبوا موسى. فإن قلت: لِمَ ورد هنا مجيء السحرة عقب قوله: (يأتوك بكل ساحر عليم) ، وأُخِّرَ جمعهم ومجيئهم في الشعراء، فقال: (فجُمِعَ السحرة) : الآيات المذكورة فاصلة؟ فالجواب أن فيها إطناب يناسبه ما تقَدَّمَ من ذلك في مجاورة موسى عليه السلام ومكالمتَه فرعون مِن لَدن قوله تعالى: (وإذ نادى ربُّك موسى أن ائْتِ القومَ الظالمين) . إلى هذه الآية، ولم يقع في قصصه عليه السلام في السّوَر الوارد فيها قصصه من الإحالة في مراجعة فرعون مثل الوارد هنا، فناسب ما أعْقَب به مما لم يقع الإخبارُ به في الأعراف. ولما كان الوارد قَبْلَ آية الأعراف مَبْنِيًّا على الإيجاز وتحصيل المراد بأوجز كلام - ناسبَه إيجاز الآية المذكورة، ووردَ كلّ مِنْ ذلك على ما يجب ويناسب. (قال نعم وإنكمْ لَمِنَ الْمقَرَّبين) : لما طلبوا الجُعل من التقريب من فرعون أنعم لهم بذلك، فهذا عطف على معنى نعم. كأنه قال للسحرة: نُعطيكم أجركم، ونقرِّبكم، واسم رئيسهم يومئذ شمعون أو يوحنَّا. فإن قلت: ما وَجْهُ حذفِ " إذًا " هنا وإثباتها في الشعراء؟ والجواب أن ذلك من الإطناب المذكور، وأيضاً فهي مضمرةٌ مقدرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ومعناه: إن غلبتم قَرَّبْتكم، ورفعْتُ منزلتكم، فهي جزاء. وورد في الشعراء مفصحاً، ليناسب بزيادتها ما مضَتْ عليه آي هذه السورة من الاستيفاء والإطناب. (قالوا يا موسى إمّا أنْ تلْقِيَ وإما أنْ نكونَ نحْن الْملْقين) : (أنْ) هنا في موضع نصب، أي إما أن تفعل الإلقاء. ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي إمّا هو الإلقاء. وخَيَّر السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فِعْل العَدْل الواثق بنفسه. والظاهرُ أن التقدّم في التخييلات والمخارق أحجج، لأن بديهتها تمضي في النفوس، فلما أراد الحقّ أن يُظْهرَ نبوءةَ موسى قوَّى نفسه ويقينَه، ووثَّقه بالحق، فأعطاهم التقدم، فبسطوا وسرّوا حتى أظهر اللَّهُ الحق وأبطل سَعْيهم. فإن قلت: ما معنى اختلاف كل السحرة وتخييرهم في الإلقاء؟ والجواب لأنه كان في موطنين، أو لعله كان قد تكرر منهم، أو لعل بعضَهم قال هذا وبعضهم هذا، أو لعل المعنى الذي حكي عنهم تعطيه العبارتان، وهذا أقرب شيء لما بين اللغات من اختلاف المقاصد عند الواضع الأول، أو قَصَد الإيهام على الخلاف في ذلك، ومع هذه الإمكانات يسقط الاعتراض رأساً. (قال فرعون آمنْتم به قبل أن آذَنَ لَكمْ) . هذا قول فرعون دليل على وَهَن أمره، لأنه إنما جعل إذْنَهم مفارقاً لإذنه، ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط. والضميرُ في (به) يحتمل أن يعودَ على اسم الله تعالى، ويحتمل أن يعودَ على موسى عليه السلام، وعنَّفَهم على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم أن هذا كان من اتفاق منهم، فقال لهم موسى: إن غلبتكم أتؤْمنون بي، فقالوا له: نعم، فعلم بذلك فرعون، فلهذا قال: (إن هذا لمكر مَكَرْتموه) ، أي صنيع صنعتموه في مصر، لتستولوا عليها، فلسوف تعلمون ما أفْعل بكم. فإن قلت: ما وجْهُ إظهار اسم فرعون في هذه الآية، وحذفه من طه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 والجواب لأنه تقدَّمَها قوله: (قال الملَأ من قوم فرعون) ، فعرفت هذه الآية أنهم كانوا متولّين للتجربة من تكذيب الآية، ورَدّ ما جاء به موسى عليه، ولم يجر هنا ذِكر لفرعون ولا فيما يلي الآية َ ويَتْلوها من المجاورة والمراجعة بين الملأ وأتباعهم إلى قوله: (رَبِّ موسى وهارون) ، فلما لم يقع إفصاح باسمه في هذه الجملة مع أنه ليس القائل على كل حال: (آمنتم به) غير فرعون وإنْ بَعُدَ ذلك، ولو لم يكن ليس ألبتة، فإن كونه لم يجْرِ له ذِكر مما يقتضي أن يذكر. ولما تقدم في سورة طه أَمْر موسى عليه السلام بإرساله إلى فرعون في قوله تعالى: (اذهَب إلى فرعونَ إنه طَغَى) ، وقوله لموسى وهارون: (اذهبا إلى فِرعَوْن إنه طَغَى) ، ثم كرر ذلك، ثم وقع بعد ذلك سؤال فرعون لهما في قوله: (فَمنْ رَبُّكما يا موسى) ، فتكرّرُ اسم فرعون ظاهر ومضمر، ولم يجرِ للملأ به ذِكْراً مفْصِحاً به ظاهراً ألبتَّة ولا مضمراً سوى الجاري مضمراً في قوله: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، إلى ما بعد هذا - من غير إظهارِ ألبتَّة، فلتكرر اسم فرعون كثيراً ظاهراً ومضمراً، وارتفاع اللبْس ألبتَّة، حَسُن إتْيَانه مضمراً في قوله: (قال آمنتم له) ، إذ ليس الوارِد هناك كالوارِد في الأعراف للافتراق من حيث ما ذكرنا. (قد جاءكم الفَتْح) : إن كان الخطاب للكفّار فالفَتْح هنا بمعنى الحكم، أي قد جاءكم الفتح الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقَتْل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفَتْح هنا يحتمل أن يكونَ بمعنى الحكم، لأنَّ الله حكم لهم. أو بمعنى النصر. (قالوا: سمِعنَا وهم لا يسمعون) : أي سمعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون بقلوبهم، فسماعُهم كَلَا سَماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 (وقاتِلُوا الْمشْرِكِينَ كَافَّةً) ، أي في الأشهر الحرم، فهذا نسخ لتحريم القتال فيها. (وكافة) حال من الفاعل أو المفعول. (قالوا لا تَنفِروا في الْحَرِّ) : قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفَر إلى تَبوك في الحر، فأمر الله نبيّه أن يقول: (قل نَار جهنم أشدُّ حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فحرارةُ هذا السفر دفعت حَرَّ نارِ جهنم، وكذلك الجوع والتعب الذي ينال الإنسان في الدنيا يقابَل في الآخرة بضده. (قعد الذينَ كذَبوا اللَهَ ورسولَه) : هم قوم لم يعتَذِروا وكذَبوا في دعواهم الإيمان، إذ لو كانوا صادقين لم يتخلَّفوا عن رسول الله، فأخبر اللَّهُ رسوله بأنه سيصيب الذين كفروا منهم عذابٌ أليم. (قَدَّرَه مَنَازِل) : الضمير للقمر، والمعنى قَدَّرَ سيْرَه في المنازل، ليعلموا عددَ السنين والأشهر والأيام والليالي، ويكون القدر بمعنى التقدير، كقوله تعالى: (إنّا كلَّ شَيء خلقْنَاه بقَدَر) . وبمعنى التصوير، كقوله تعالى: (فقَدَرْنَا فنعم القادرون) ، يعني صوَّرنا، وبمعنى الوجود، كقوله تعالى: (إلا امْرأته قَدَّرْناها من الغابرين) ، وبمعنى القضاء، كقوله تعالى: (فالتقى الماءُ على أمر قَدْ قدِر) . وبمعنى التضييق، كقوله: (ومَنْ قدِر عليه رِزْقه) ، (فظَن أنْ لن نَقْدِر عليه) . وبمعنى التسوية، كقوله تعالى: (نحن قَدَّرنا بينكم الموتَ) . وبمعنى المثل، كقوله تعالى: (فسالت أودِية بقَدَرِها) : أي بمثلها، ومنه سميت القدرية قدرية، لأنهم يقولون بمثل قول المجوس، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: القدرية مجوس هذه الأمة. (قَدَم صِدق عند ربهم) ، أي عملَ صالح قدَّموه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وقال ابن عباس السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. وقيل غير هذا. والظاْهر أنه محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن أمته قدموه بين أيديهم. (قال الكافرون إنَّ هذا لسِحر مبِين) : يعنون به ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وعلى قراءة - الساحر - فيعنون به سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسيراً لما ذكر قبل مِن تعجبهم من النبوءة، أو يكون خبراً مستأنفاً. (قادِرونَ عليها) ، أي متمكنون من الانتفاع بها. (قَتَر) ، أي غبار يغبِّر الوجه، وهذا كقوله تعالى: (وجوه يومئِذٍ عليها غَبَرَةّ تَرهقها قتَرة) . والقتور من التقتير. (قوماً صالحين) ، أي بالتوبة والاستقامة، وقيل صالحين مع أبيهم يعقوب، فانظر كيف سوَّفوا التوبةَ، وعلموا أنهم أخطأوا الصواب، ولا يُنسب لهم الخطأ، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم وقع منهم هذا قبل النبوءة لا بَعدَها (1) . (قال: لا يَأْتِيكمَا طَعَامٌ ترزَقَانِه) ، تقتضي أنه وصفَ لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيها وجهان: أحدهما أنه قال ذلك يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا مِن طعام قبل أَنْ يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء. والآخر أنه قال: لا يأتِيكما طَعام في المنام أخبرتكما بتأويله قبل أنْ يظهر تأويله في الدنيا. (قال الذي نجَا منهما) : هو ساقي القوم. (قليلاً مِمَّا تأكلون) ، أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج للأكل خاصة خوفَ ضياعه. (قال الْمَلِكُ ائْتوني به) : قبل هذا محذوف، وهو: فرجع   (1) الراجح عند المحققين القول بعدم نبوتهم. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الرسول إلى الملك فقصَّ عليه مقالةَ يوسف، فرأى عِلْمَه وعَقْله، فقال: ائتوني به. (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) . لما أمر الملكُ بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبَرِّئَ نفسه مما نسِب إليه مِن مرَاوَدة امرأة العزيز عن نفسه، وأنْ يعلمَ الملك وغيره أنه سُجن ظُلْما، فذكر طرفاً من قصته لينظرَ الملك فيها، فيتبين له الأمْر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرًا وحلماً، إذ لم يُجِبْ إلى الخروج من السجن ساعةَ دعِي إلى ذلك بعد طول المدة. فإن قلت: قد قال سيدنا - صلى الله عليه وسلم -: " رحم الله أخي يوسف، لو لبثت في السجن ما لبث فيه لأجبت الداعيَ ". وهذا يقتضي أن الإجابةَ أولى من الْمكْثِ فيه؟ والجواب أن هذا عنه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الْمَدْح ليوسف والتواضع منه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فصَبر يوسف في السجن فيه فوائد، منها: إظهار منزلته عند الملك وتبرئته مما قِيل، وليزدادَ منزلةً عنده فيصير سائساً للدولة وحافظاً، ألا تراه كيف قال: (اجعَلْني على خزائنِ الأرضِ إنَّي حفيظٌ عَلِيم) ، وإنما طلب منه الولاية شفقةً على عباد الله، ورغبةً في العدل، وإقامة الحق والإحسان إلى الضعفاء من عباد الله، لأن هذا الْمَلِكَ كان كافراً فأسلم لمَّا رأى من حسن سيرته، وكَمْ له في هذه الولاية من المصالح الدينية والدنيوية، والمراد بخزائن الأرض أَرض مصر، لأن الملك لم يملك غيرها، فتأسَّ يا محمدي بهذه الأخلاق الكريمة، واجتهد في إصلاح هذه الأمة: وَقِّرْ كبيرهم، وارحم صغيرهم، وتجاوَزْ عن مسيئهم، ألا ترى الصدِّيقَ لم يذكر امرأة العزيز مع ما كان منها من الإساءة، بل ذكر النسوة اللاتي قطَّعْنَ أيديهنَّ، وعفا عن إخوته فما صدر منهم، هكذا أولو العَزْم في معاملتهم مع أمّة نبيهم، تعلموا منه الصفْحَ والإحسان، فعامَلُوا أمته بسَتْرِ ذوي العصيان والدعاء لهم بالرحمة والإحسان، راجين بذلك معاملةَ الله لهم، وكما تَدِين تدَان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فإن قلت: هل يجوز لنا الاقتداء بمَدْح يوسف لنفسه؟ والجواب أنه مدح الصفتين اللتين أودعهما الله فيه، فالمدحُ إنما هو للهِ لا لنفسه، ولولا ذلك لهلك الْخَلْق. وقد أخبره اللَهُ أن صلاح هؤلاء العامة إنما يكون بسببه لصبره على بلائه، وكذلك أنتَ يا محمدي إذا جُهل أمرك، ورجوت صلاح إخوانك، فلا ينبغي لك السكوت، لما فيه من المصلحة، هذا إن رجوت بذلك منفعة غيرك، ولذلك استحبَّ للعلماء لُبْس الجيّد، والتشبّه بأرباب الدنيا، لأن العامة لا تقبل كلامَ رَثِّ الهيئة، ولا تلتفت إليه، فضلاً عن سماع كلامه، ورَضي الله عن السيد الذي طُولب بولاية القضاء ففرَّ منها، فلما كان بغَدٍ أعطي أَلف دينار، فقال له الملك: بالأمس هربت منها، والآن أرشيت عليها، فقال: بالأمس كان غيري أَولى بها، والآن أعتقْتُ هذه الأمة ممن يريد أكلها، هكذا كانوا رضي الله عنهم، يراعون مصلحة الأمة رَعْياً لنبِيها، ويَرْحمونها لوصيته عليها. فيا أبناء الطريقة ورجال الحقيقة، استَوْصوا خيراً بهذه الخليقة، وخصوصاً بهذه الأمة، فاخفضوا لها جناحَ الذل من الرحمة ولا توحشوها ما أنستها مِنْ رَبّها ونبيها، وعاملوا الكلّ على الإطلاق بمكارم الأخلاق، صلوا مَنْ قطعكم، وأعطوا مَنْ حرمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وإن لم يكونوا لها أهلاً فكونوا أنتم لها أهلاً. (قال إني أَنا أخوك) . أي قال يوسف لأخيه: إني أنا أخوك واسْتَكْتَمَه الأمر. وحبسه بتهمة السرقة، فكتب إليه يعقوب وقال لموصله: انظره، فإنْ نظر فيه وتغيَّرَ لوْنُه فاعلم أنه يوسف، ثم قال له في كتابه: إن الله اصطفاك فاستحال عليكَ اسمُ السرقة، كذلك مَن اصطفاه اللَّهُ يستحيل أَن تنسبه إلى السرقة، فلما نظر يوسف إلى الكتاب تغيَّرَ لوْنه، فقال للرسول: مِثْلُ هذا الكتاب لا يقرَا إلا في الخلوة، ثم قرأه وبكى كما قدمنا. وأنت يا محمديّ اصطفاكَ ربّك في الأزَل، وأخرجك في خير الملل، وبعث إليك خاتم الأنبياء والرسل، وخاطبك بكتابه الذي ليس له مِثْل، فامتَهَنْتَه ولم تلتفت إليه، بل وصفْتَ نَفْسك بشرِّ الخصال، وعرَّجْتَ عليه كأنكَ لم تصدِّق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 بالمآل، ولم تعرِف أنكَ تُرض عليه عند الموت ويوم السؤال، وتطالب - مع هذا الْجَوْر والقصور - بالتنعم باللذات والحبور، أنت تعلم ما تقاسي على صفة منتنة، وما تحتاج إليه من مؤونة، وتريد الوصولَ إلى الجواري الحسان اللاتي لم يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ ولا جان، هؤلاء الملائكة مع جليل قَدْرهم، وكَثْرَة عبادتهم، يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عَبَدْنَاكَ حقَّ عبادتك، ولو استكثرت أعمالهَا لتباعدت من خالقها، يقول تعالى في بعض كتبه: " أيطلب أحدكم الجنةَ بقيام الليل، والحاريس يحرسُ ليلةً بدانِقَيْن، فكيف يمنّ عليَّ بليْلةٍ، وهي تساوي دَانِقين، أخذت بزيّ كسرى وقيصر، وتريد أنْ ترافِقَ أحبابي! وَيْحَك اعرض نفسك على كتابي تجد فيه وصفَ أحبائي وأعدائي، وانظر إلى أيِّ الصنفين أنْتَ أقرب، فإنكَ بهم يوم القيامة تلحق. كيف تأمن مَكْرِي، أو تطلب جواري، ولست تدري في أي الفريقين أنتَ يوم الميثاق حيث قلت: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، أَم حين خلقتك في ظلمات ثلاث، وكتب عليك ملَكُ الأرحام بالشقاوة أو السعادة، أو يوم المطلع حين تبَشَّر برضائي أو سخطي، أم يوم يصير الناس أشتاتاً، ولا تدري أي الطريقتين تَسْلك، فمحقوق صاحبُ هذه الأخطار ألا يلتفت إلى الأغيار، ولا يتشبه بالأحرار، ما حيلتكَ إذا اضطجعْتَ في حفرتك، وانصرف المشيعون من جيرانك، وبكى كلُّ غريب عليك لغُرْبتك، ودَمَع عليك المشفقون مِن عشيرتك، وناداكَ من شَفِير القبر ذو مَوَدَّتك، ورحمك المعادي عند صَرْعتك، ولم يَخْفَ على الناظرين عَجر حيلتك، فإن كنت عندي حبيباً، وإليَّ قريباً، أحسن ضِيافتك، وأكون أشفق من قرابتك، وأقول لملائكتي: فريد قد نعاة الأقربون، ووحيد قد جفاهُ الأهلون، فأشْفِقوا عليه وارحموه، ويا هوامّ لا تقربوه، ويا أرض توسمعي عليه ولا تؤذيه، ويا رضوان افتح عليه مِنْ نعيم ما يُؤْنِسه ويغذيه، (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) . (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 هذا الكلام من إخوة يوسف على وَجْهِ الاستعطاف، لأنهم كانوا أعلموه بشدة محبَّةِ أبيه. (قال كَبببرهم) ، أي في السن، وهو روبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل يَهوذا. (قال بل سوَّلَتْ لكم أنْفسُكم أمْراً) ، قبله محذوف، تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له: (إن ابنكَ سرق) ، عند الجمهور بفتح السين وضمها وشدّ الراء وتخفيفها، فقال: (بل سوَّلَتْ لَكم أنْفسكم) ، لأنه علم أَنَّ كلَّ ذلك لم يكن. (قال: يا أَسَفَى عَلَى يوسف) : تأسَّف على يوسف دون أخيه لإفراط محبته فيه، ووَحْشَته له، ومصيبته كانت السابقة، فجدّدت له هذه الثانية وَحشَته. وهكذا عادته فيمن أحبَّ غيره ابْتلي بفراقه، فلا تجعل محبك ومحبوبك إلا مَن لا يفارقك. وروي أن يوسف عليه السلام جاءه رجل فقال له: إني أُحبُّك. فقال: لا تفعل، أحبَّني أبي فعمي بصره، وألقيت في الجب، وامرأة العزيز أحبَّتني فابتليت بالملامة، وحُبست في السجن، وكذلك سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ جبريل فابتلي بحَبسه عنه مدةً، وأحبَّ مكةَ فابْتلي بالخروج منها، وأحبَّ عائشة فابْتلي بقصة الإفْك، كلّ هذا غيرةً منه سبحانه على أحبابه، ليكون شغلك يا محمدي بالله لا بغيره إن فهمت، وإلا فهكذا يُفعل بك. (قالوا أإنَّكَ لأنْتَ يوسف) : قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه، والاستفهام على أنهم توهَّموا أنه هو ولم يحقِّقوه. (قال أبوهم إنِّي لأجِدُ رِيحَ يوسف) . كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص، وكان مع يوسف في بيته زماناً لا ريح له، فلما فصلت العِير اتَّصل ريحه بيعقوب. كذلك قلبك يا محمدي مع مالك خزانتك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 فإذا أنفقْتَ مالكَ في طاعة الله تفَرغَّ قلبُك لعبادته، وترى حينئذ من لطف الله بكَ حالاً لا يخطر ببالك. (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) : وعدهم يعقوب بالاستغفار، لأنهم جاءوا متضَرَعين معترفين بما جنوه، كذلك أنْتَ يا عبد الله، إذا أذنبتَ وأتيتَ معترفاً لرسولك الذي أرسل إليك متضرعاً وجِلا، فإنه يستغفر لك، ويشفعُ فيك، لأن الله أمره بالاستغفار لك، وأذن له في الشفاعة فيك. وكيف لا وهو أكرم الْخَلْق عليه! وقد وعدنا بذلك في قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) . وإني قد مُنعت يا سيد الأولين والآخرين عن الإتيان إليكَ بذنوب جَنَيْتها على نفسي، فأنْتَ تعلم عُذْري، ولا حيلةَ لي غير التعلق بجاهك العظيم والصلاة عليك، صلى الله عليك وعلى آلك أفضل صلاة وأزكى تسليم. فإن قلت: لِمَ وعدهم الله بالاستغفار ولم يستغفر في الحين؟ والجواب أنه وعدهم بالاستغفار للسَّحَر، لأنه وقت إجابة، والدعاء في وقت الإجابة لا يُرَدُّ. فأخذ العلماء من هذه الآية التعرض لنفحات رحمةِ الله، ومَنْ راقب يراقب، ومن غفل غُفِل عنه، وقالوا: الوعد مع العطاء أفضلُ من العطاء بغير وعد، فجبر قلوبَهم بالوَعْدِ بالاستغفار، ثم استغفر لهم فكَمُلت الفَرْحَتان. (قَصَصِهم) : الضمير للرسل على الإطلاق. أو ليوسف وإخوانه، والأول أعلم، لقوله تعالى: (وظَنّوا أنهم قد كُذِبوا) .، بتشديد الذال وتخفيفها. وقد قدمنا معناها في حرف الكاف. (قارعةٌ) : يعني في أنفسهم وأولادهم، أو غزوات المسلمين إليهم، وانظر قوله تعالى: (حتى يأتي وَعْدُ الله) ما المراد به؟ وبهذا تمسك أهلُ الاعتزال، وقالوا بوجوب إنفاذ الوعيد، وهو مختَلَف فيه عندنا، لكن الكلام القديم الأزَلي الذي هو صفةٌ ذاتيةٌ لله تعالى يستحيل فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 الْخلف، وأما كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو ترجمة عن ذلك الكلام فليس كذلك ومثالهُ إذا قلت: مَنْ يقتل زيدًا فأنا أقتله، فتارة تقصد الحقيقةَ، وتارة تكون غير مريد قَتْله، لكنك تقصد المبالغة في العبارة على جهة التخويف والتنفير عن فعل ذلك، فعبارتكَ يمكن فيها عدَم الوقوع، وأما في نيتك وقَصْدِك فلا بُد من وقوعه، لأنك عزمْتَ على ما أجمعت عليه، وهو قصدٌ حقيقي بخلاف الكلام الذي هو ترجمةٌ عمَّا في القلب فإنه قد يكون مجازاً. وهذا هو جوابُ أهل السنة عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) . (قائم على كلِّ نَفْس بما كسبَتْ) . إن قصِد استعلام الخبر فهو استفهام، وإلا فإن كان المعنى ثابتاً في نفسِ الأمر فهو تقرير، وإن لم يكن ثابتاً فهو إنكار. وهو تقرير لقول ابن عطية: المراد أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحقُّ بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر، وهو معطوف على مقدَّر، فمنهم من كان يقدِّره: أهم جاهلون بمن هو قائم، ومنهم من قَدره: أهم غافلون عمن هو قائم، وهو الصواب، قال: وهل هذا من العمومات المخصوصة أو لا، قال: إن قلنا إن ذات الباري تعالى لا يُطْلَق عليها نَفْس فيكون عامًّا باقياً على عمومه، وإن جوّزْنَا الإطلاق، لقوله تعالى: (تَعْلَمُ ما في نَفْسي ولا أَعْلَمُ ما في نفْسك) ، فيكون هذا مخصوصاً بالباري جلّ وعَلَا، إذ لا يقال إنه حفيظ على نفسه. قيل: (بما كسبت) بدل على التخصيص. وقيل: بل هو متعلق بقائم، وليس بصفة للنفس. والكسب: الصوابُ تَفْسِيرُه بما قاله أهل السنة، لأن الأصل عدم النقل، ومعنى (قائم) أي حفيظ ورَقيب وعالم. (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) : أي في ألوهية اللَهِ شَكٌّ. وقال الفارسي: أفي وحدانية الله شَكٌّ، وإنما قرَّرَه الفارسي هكذا، لأن أول ما يحضُّ الرسل قومَهم على اعتقاد وحدانية الله، بخلاف الألوهية، إذ لم يخالف فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أحد، وقد خالف فيها المجوس الذين عبدوا الشمس وإنْ عبدوها فلم ينكروا البَعْثَ بدليل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . والدهرية، قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) . وكان بعضهم يقول في هذه الآية: انظر كلامَهم، جعلوا أنفسهم مظروفين في الشك، والشكَّ ظرفاً لهم، وكلامُ الرسل جعلوا الشك مظروفًا في أمر الله، أي في شأن الله، وجعلوا شأن الله ظرفاً له، وقالوا: هذا لوجهين: نَقْلِي وعقلي، أما النقليّ فلأنَّ الظرف أوسع من الظروف، فالشكّ محيط بالكفّار من جميع الجهات، وهم مفتقرون إليه، إذ المتحيز مفتقر إلى الحيِّز، والحالّ مفتقر إلى المحلّ لا بدَّ منه. وقول الرسل: (أفي الله شَكٌّ) - جعلوا الشكَّ متحيزاً حالاًّ في أمر الله، فأمْر الله أعْلَى منه وأكبر، فهو حَيِّز له، فهو إشارةٌ إلى تقليل الشكّ، أي لا يتصّور أن يقعَ شكّ في الله بوَجْه وإن قلَّ، فإذا أنكروا أن يكون أمر اللَه حيِّزاً للشك مع قِلته فأحْرَى أن يكون الشك حَيِّزاً له مع كثرته. فإن قلت: أضاف الرسلَ إليهم ولم يقل رسلنا؟ قلت: تنبيهاً على أنَّ الرسل منهم بحيث يعلمون حالَهم، وأنهم لم يَعْهَدوا منهم كذباً، ولا علموا أنهم خالطوا سحَرةً، فدَل على أن ما جاءُوهُمْ به حقّ. قال الفخر في المحصل: مذهبُ أهل السنة أنَّ الرسل ليس في خِلقتهم وبِنْيتهم زيادة علمية، ولا خاصية ذاتية اختصوا بها عنا، وما وُجد منهم من القوة على الوَحْي وغير ذلك فأمور عَرَضية، كالشجاعة للبطل. ومذهبُ الفلاسفة أنَّ بنْيتهم مخالفةٌ لنا، ولا بدّ فيهم من خاصية ذاتية اختصُّوا بها عنا. (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) : لم يثبت الخافض في الأولى وأثبته هنا، لأنها إما مقالة خاصة أو هي جواب عَن قولٍ صدرَ منهم، والمقالة الأولى لهم ولغيرهم. وقيل: لما كان وجود الله تعالى أمراً نظريًّا ليس بضروري، وكَوْن الرسل مثلهم أمراً ضروريًّا لا يحتاج إلى نظر لظهوره، فكأنه يقول: ما قالوا هذا إلا لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 لا لغيرهم لغَفْلَتهم وغَبَاوتهم وجَهْلهم، كما أنً القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا - ما يخَاطب بها إلا مَنْ هو في غاية الجهل والغَباوة. وأجاب بعض النجباء أن قوله: (أفِي الله شكٌّ) - خطاب لمن عاند فيه، وهو كالعاند في الأمر الضروري، فلذلك أسقط المجرور، لأن الْمجيبَ عن ذلك يجيب به من حيث الجملة، ولا يُقْبِل بالجواب على المخاطب لغباوته عنده ومعاندته، فيجيب وهو معرض عنه، بخلاف قولهم: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فإنه تقرير لمقالتهم، وتثبيتٌ لها، والمقر لمقالة خَصْمه يُقبل عليه بالجواب، لأنه لم يبطل كلامه بالإطلاق، بل يقرِّرُه ويزيد فيه زيادات تبطل دعوى خصمه. فإن قلت: لم جمع السبل في قوله تعالى: (وقد هَدَانا سُبلَنا) ، وقد ذكرتم غير مرة أن طريق الهدى واحدة؟ فالجواب أنه على التوزيع، فَلِكلّ رسول طريقٌ باعتبار شريعته وأحكامه. قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) . (قال إبراهيم رَبِّ اجعَلْ هذا البلد) : المراد به مكة. وهذا الدعاءُ وقع من إبراهيم حين خلَّف هاجر (بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع) ، فنفى القليل والكثير، والمراد ليس فيه لحم ولا شجر ولا ماء. فإن قلت: آية البقرة مدنيَّة، وآية إبراهيم مَكية، والقاعدة أنَّ الاسمَ إذا كرر ذكرُه يأتي أولاً منَكَّراً وثانياً معرفاً؟ والجواب أن الإنسان إذا دعا أولاً إنما يَدْعو لشخص معَيَّن يقْصِده ويعيِّنه في ذهنه، فإذا أَراد الدعاء يعيد نكرةً أو معرفة أو كيف ما كان، اكتفاءً بحصول تعيينه أولاً. وقيل: هذا تأكيد، هذا إذا قلنا إن المنزل أولاً هو المدعو به ثانياً، لأن الاسم إذا تقدم نكرةً ثم يُعاد فإنما يُعيده معرَّفاً، قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فإن قلت: القاعدة أن يكون المبتدأ معلوماً وخَبَره مجهولاً، والبلد في هذه الآية أصله قبل دخولِ الفِعْلِ عليه مبتدأ، لأنه نعتٌ لهذا، ونعت المبتدأ مبتدا، و (آمِنًا) خبره. وفي قوله: اجعل هذا بلداً آمناً (هذا) مبتدأ، و (بلدا) خبره، و (آمِنًا) نعت أو خبر بعد خبر، والقصة واحدةٌ. وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره معه، فهو معلوم من حيث كونه، مجهول من حيث كونه بلدا آمنا، فالأول كما تقول: اجعل هذا الرجل صالحاً، دعَوْتَ له بالصلاح فقط، والثاني كقولك: اجعل هذا رجلاً صالحاً مع أنه رجل، لكنك دعوت له بتحصيل المجموع. ورُدَّ بأنه يلزم عليه أن يجوز زيد زيد العاقل، فيخبر بزيد العاقل عن زيد نفسه، مع أنه لا يفيد شيئا، لأن الأول هو الثاني. وأجيب إنما نظيره زيد القائم زيد العاقل، فيخبر بزيد مع غيره، أما إذا أثبت بمجرد لفْظِ الأول فلا يجوز فإن قلت: كيف يدعو الخليل بقوله: (واجْنبْنِي وبنِيَّ أنْ نَعْبدَ الأصنام) ، وقد علم أن عبادةَ الأصنام مستحيلة في حق النبي، فأحْرَى في حق الخليل؟ فالجواب دعا بهذا على وَجْهِ التذلّل والخضوع، وعادة الأنبياء صلوات اللَه وسلامُه عليهم عدَم الانبساط مع الربوبية، لتمكَن الخوف من قلوبهم، وهذا فيه الاقتداءُ بغيره، ويؤخذ من هذه الآية أنه لا يدعو الشخص بالمستحيل عقلا، كقول الإنسان: رَبَ اجعَلْني في غير حَيِّز، أو غير ذلك من المستحيلات. وقد ذكرها القَرَافي في قاعدة ما يجوز من الدعاء وقاعدة ما لا يجوز، حذفنا ذكرها للطول. (قالوا يا أيّها الذي نُزِّلَ عليه الذِّكْر) ، يعني بزعمك ودَعْواك لا بإقرارنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 فإن قلت: الوصفُ الأخصّ هو القرآن، والذكْرُ وصف أعمّ، فلِمَ عَبَّروا بالأعَمّ دونَ الأخص؟ والجواب أنه في التعبير بالأخص تنبية وتذكير بالمعجزات التي ورد بها القرآن، وهم مقصدهم تعمية ذلك وإخفَاوه. وانظر الى المثل السائر: ذكَّرْتني الطعنَ وكنْتُ ناسياً. فإن قلت: هل أرادوا اتّصافَه بالجنون، لما جاء به من الوحي إلى الذين يسترقون السمع؟ فالجواب أنهم أرادوا أن به جنوناً يصحبونه بدليل قوله تعالى: (أم يقولون به جِنَّة) . (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) : هذا الإضراب منهم إضراب انتقال، لأنهم أضربوا عن مفهوم قولهم: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ، لأن مفهومه أنَّ باقي جسدهم لم يسكر، وما زال صحيحاً، فأضربوا عن هذا المفهوم، وقالوا: بل جميع ذواتنا مسحورة، ولو كان إضراب إبطالِ للزم عليه أن تكون أبصارُهم غير مسحورة، وليس ذلك مرادهم، وقوله: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ظاهره كالمناقض لقوله: (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) . فإن قلت: ما أفاد قولهم (قَوْمٌ) ، ولو قالوا: بل نحن مسحورونَ لاستقلّ الكلام؟ فالجواب أنه أفاد الإخبار بكمال عبادتهم، وأنهم جماعة كثيرون، وتعدّدُ الأشخاص مظنة التفطن والفَهم، ومع هذا فكلُّهم يتعامَوْن وتعمُّهم الضلالَة ولا يهتدون إلى الإيمان به بوَجهٍ. (قال رَبِّ بما أغْوَيْتَنِي) : قد قدمنا معنى الإغواء. واعترافه بالربوبية يُفهم منه أنَّ كفْرَه كان باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم. وقدمنا أيضاً أن الفاء لم تدخل في الحجر كما في الأعراف، اكتفاءً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 بمطابقة النداء لامتناع النداء منه، لأنه ليس بالذي يستَدْعيه النداء. فإن ذلك يقَعُ مع السؤال والطلب، وهذا قسم عند أكثرهم، بدليل ما في (ص) [82] . وخبر عند بعضهم، والذي في (ص) جاء على قياس ما في الأعراف، لأن ما فيها موافق لما قبله في مطابقة الفاء، وزاد فيها الفاء التي هي لعطف جملة على جملة لتكونَ الثانية مربوطة بالأولى، فموافقتُها أكثر. وقال في (ص) : (فبعزَّتِكَ) وهو قَسَم عند الجميع. (قال هذا صِرَاطٌ عليَّ مستقيم) : القائل لهذا هو اللَّهُ تعالى، والإشارةُ بهذا إلى نجاة المخْلصين من إبليس، وأنه لا يقدر عليهم، وإلى تقسيم الناس إلى غويّ ومخلص. (قالوا إنَّا ارْسِلْنَا إلى قومٍ مُجْرمين) ، قالت الملائكة: أرسلنا إلى قوم لوط. (قالوا بَشَّرْناكَ بالحق) : الضمير لإبراهيم، أي بَشَّرْناكَ باليقين الثابت، فلا تستبعده، ولا تكنْ من القانطين: من اليائسين. (قدّرنا إنها لمِنَ الْغَابرين) : إنما أسند الملائكةُ فعل التقدير إلى أنفسهم، وهو للَه وحْدَه، لا لهم من القرْب والاختصاص بالله، - لا سيما في هذه القضية، كما يقول خاصة الملك: دَبَّرْنا كذا. ويحتمل أن يكون حكايةً عن الله. (قوم منْكَرون) ، أي لا نعرفهم. (قالوا بل جِئْنَاكَ بما كانوا فيه يَمْتَرون) : يعني جئناك بما كانوا يَشُكُّون من العذاب لقومك. (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) . كان قوم لوط نَهَوْه أن يُضِيف أحدًا، فقالوا له هذه المقالة احتجاجاً بما سبق من إنذاره، فأجابهم بتزوِّج بناته إنْ أرادوا شيئاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وفدّاهم ببناته. واختلف في عددهم، وكان أبو البنات، كما كان إبراهيم أبو الذكور، وجَمَعَ اللهُ لنبينا الذكورَ والإناثَ، فكان له أربعة ذكور وأربع نسوة. وهذا من اعتدال مزاجه - صلى الله عليه وسلم -. (قال الذين أُوتوا العِلمَ إنَّ الخِزْيَ اليوم والسوءَ على الكافرين) . الخِزْي: راجع لأمر الباطن النازل بهم، والسوء راجع لأمر الظاهر الحالّ بهم في أبدانهم. فإن قلت: كيف أكَّدَ بأنّ خِطابَهم إنما هو لله تعالى العالم بأنَّ ذلك حق؟ والجواب أن هذه المقالة صدرَتْ منهم قبل حلُولِ العذاب بأولئك، فهم في قضية الإنكار لها يريد أنهم استسلموا لقضاء الله، والمغلوبُ إذا استسلم تارة يعترفُ ويُقرُّ، كقوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألْقَى إليكم السَّلاَم لسْتَ مُؤْمناً) ، وتارة ينْكِرُ موجبات العقوبة، كهذه الآية، طمعاً في أنْ يُقبل ذلك منه، ويُتَغاضى عنه ويترك. (قال النار مَثوَاكم) : هذا من قول الله. وقال: (مَثْواكم) ولم يقل داركم، لأن الدارَ محلّ السكنى، والسكنى مظنّة الطول، فناسب الإتيان بالدار في محل المدح للمتقين، لأنَّ الإنسانَ قد يسكن الموضع الزمانَ القليل ويملُّ مِن سكناه، ولا يحبُّ البقاء فيه. والمَثْوى: الإقامة مطلقا، تطلق على القليل والكثير. (قال أرأيتَك هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ) : الكاف لا موضِع لها من الإعراب، وهذا مفعول بـ أرأيت والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمْته عليَّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام، فحذف ذلك. وقال ابن عطية: أرأيتَك هنا تأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني. ومعنى الاحتناك الميل، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشدَّ على حنكها بحَبْل فتنقاد. (قال اذهَبْ) : خطاب من الله لإبليس، وما بعده من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 الأوامر على وَجْه التهديد لإبليس. قال الزمخشري: ليس المراد هنا الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه: امْضِ لشأنك الذي اختَرْتَه، خذلاناً له وتخلية. ويحتمل عندي أن يكون معناه الطرد والإبعاد. (قاصِفاً مِنَ الريح) : القصف: هو الكَسْر، وفيه تهديدٌ لمَنْ ركب البحر ولا يخاف الله. (قَبيلا) : قيل معناه مُقَابلة ومعاينة. وقيل ضامناً شاهداً يصدقك. والقَبالة في اللغة الضمان. (قَيِّماً) : أي مستقما. وقيل قَيِّما على الخلق بأمر الله. وقيل (قَيِّماً) على سائر الكتب بتصديقها. وانتصابه على الحال من الكتاب، والعاملُ فيه (أنزل) . ومنع الزمخشري ذلك الفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه فعلٌ مضمر، تقديره جعله (قَيِّماً) . (قال له موسى هل أتَّبعُك) : في الآية مخاطبة فيها تلاطف وتواضع، وكذلك ينبغي أن يكونَ الإنسان مع مَنْ يريد أن يتعلَّم منه، يُنْصِتُ لكلامه، ولا يعارضه، ويخدمه بنفسه ومالِه، ويُسرع في قضاء حوائجه. (قال ألَمْ أقلْ لكَ) : هذا مِنْ قول الخضر لموسى، وذلك أن مولمى نَسِيَ العَهْدَ الذي بينهما، هذا قول الجمهور. فإن قلت: ما فائدة زيادة اللام في الثالثة؟ فالجواب لما فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في الأوليين. وفي صحيح البخاري: كانت الأولى من موسى نِسياناً، وفيه - عن مجاهد قال: كانت الأولى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عَجْزاً. قال ابن عطية: وهذا كلام معتَرَض، لأن الجميع شرط، ولأن العَمْدَ يَبْعُدُ على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل، إذ جنب صفة السؤال أو النسيان. وروى الطبري، عن أبي كعب، أنه قال: إن موسى عليه السلام لم ينسَ، ولكن قوله هذا من معاريضِ الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 قال ابن عطية: ومعنى هذا القول صحيح، ولم يبَيِّنه. ووَجْههُ عندي أنَّ موسى عليه السلام إنما رأى العَهْد في أن يسأل، ولم يرَ إنكار هذا الفعل شنِيعاً سؤالا، بل رآه واجباً، فلما رأى الخضر قد أخذ العَهْدَ على أعمّ وجوهه فضمَنه السؤال والإنكار والمعارضة، وكلٌّ اعتراض، إذ السؤال أخَفّ من هذه كلها - أخذ معه في باب المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له: (لا تؤاخذني بما نَسيت) ، ولم يقل إني نسيت العَهْد، بل قال لفْظاً يُعطى للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضاً تأويلُه وطلَبه مع أنه لم ينسَ العهد، لأن قوله: (لا تؤاخذني بما نسيت) -كلامٌ جيد -، وليس فيه للعهد ذِكْر، هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العُذْر والصدق، وما يخل بالقول. (قال انفخُوا) : يريد نَفْخَ الكير، أي أوقدوا النارَ على الحديد. وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماءَ، ثم جعل البنيان من زُبَر الحديد حتى ملأ به بين الجبَلين، ثم أفرغ عليه قِطْراً: نحاساً مُذاباً. وقيل هو الرصاص. وهذا السدّ من عجائب الدنيا، إذ لا يقْدِر على هَدْمه أهْل الدنيا. ولمّا فرغ من بنائه قال: هذا رحمةٌ من ربي. ولما أُسْري به - صلى الله عليه وسلم - رآه وتعجّب من صنعته، وقال رجل: يا رسول الله، رأيتُ سدَّ يأجوج ومأجوج. فقال: كيف رأيتَه، قال: كالبُرْد المحبَّر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء. فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد رأيته. (قَبس) : قد قدمنا أنه الجَذْوَة من النار تكون على رأس العود أو القصبة ونحوها. فإن قلت: ما معنى اختلاف هذه الألفاظ والتقديم والتأخير في مواضع من السور؟ والجواب أنَّ ذلك يختلف باختلاف المَقْصد، والتناسب، ففي آية طه ، رؤية موسى النار وأمْره أهله بالمكث وإخباره إياهم أنه آنس نارا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وأطمعهم بأن يأتيهم بنار يصطلون بها، أو خبرٍ يهتدون به - إلي الطريق الذي ضلوا عنه، ولكنه نقص من النمل رؤية موسى النار وأمْره أهله بالمكْثِ اكتفاء بما تقدم، وزاد في القصص: قضاء موسى الأجَل المضروب وسيره بأهله إلى مصر، لأن الشيء قد يُجْمَل ثم يفصَّل، وقد يفصَّل ثم يجمل، وفي طه فَصل ثم أجمل، تم فَصل في القصص، وبالغ، فيه، وقوله في طه: (أو أجِدُ على النار هدى) ، أي مَن يخبرني بالطريق فيهديني إليه، وإنما أخّر ذلك الخبر فيها وقدمه فيهما مراعاةً لفواصل الآي في السور جميعاً، وكرر (لَعَلي) فِي القصص لفظاً وفيهما معنى، لأن (أو) في قوله: (أو أجد) نائب عن (لعلي) . وقوله: (سآتيكم) تضمن معنى لعلي. وفي القصص: (أو جَذْوة من النار) ، وفي النمل: (بشهابِ قَبَس) ، وفي طه (بقَبَس) : فهي في السور الثلاث عبارة عن معبَّرٍ [معنى] واحد، وهذا برهان لامع. (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) . أي أعطيتك كل ما طلبتَ من الأشياء المذكورة. (قد جئناكَ بآيةٍ من ربك) : يعني قَلْب العصا حيَّة، وإخراج اليَدِ بيضاء، وإنما وحدها وهما اثْنان، لأنه أراد إقامةَ البرهان، وهو معنى واحد. (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) : قرئ إن هاذين بالياء ولا إشكال في ذلك، وقرئ بالتخفيف، وهي مخففة من الثقيلة، وارتفع بعدها هذان بالابتداء. وأما عَلَى قراءةِ. نافع وغيره بتشديد (إنَّ) ورَفْع (هذان) فقيل: إنَّ هنا بمعنى نعم، فلا تنصب، ومنه ما روِي في الحديث: إنَّ الحمدُ لله بالرفع. وقيل اسم إنَّ ضمير الأمر والشأن، تقديره إن الأمر، وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن. وقيل: جاء في القرآن في هذه الآية بلغة بلحارث بن كعب، وهي إبقاء التَّثنية بالألف في حال النصب والخفض، وقالت عائشة: هذا مما لحن فيه كاتبُ المصحف (1) .   (1) لم يثبت ذلك ولم يصح عن أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهو من وضع الزنادقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وقد أكثروا في الكلام في هذه الآية وألفوا فيها تأليفاً. (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) : إنما حكى اللَّهُ عن قريش هذه الأقوال الكثيرة ليُظْهرَ اضطرابَ أمرهم وبطلان أقوالهم. (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) : القبضة: مصدر قبض، وإطلاقها على المفعول مِنْ تسمية المفعول بالمصدر، كضَرْب الأمير. ويقال قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفِّه، وبالصاد الهملة إذا أخذه بأطراف الأصابع. وقد قرئ كذلك في الشاذّ، وإنما سمّي جبريل رسولاً لأن الله أرسله إلى موسى. (قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) : والقَصْم: الكسر. قال ابن عباس: هي قرية باليمن، يقال لها حَضور، بعث الله إليهم رسولا فقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نَصّر ملك بابل، فأهلكهم بالقتل. وظاهر اللفظ أنه على العموم، لأنَّ (كمْ) للتكثير، فلا يريد قريةً معينة. (قائمين) : مصَلين. (قانع) ، سائل، يقال: قنَع فنوعاً إذا سأل، وقَنِعَ قناعة إذا رضي. (قَلَى) يقلي أبغض، ومنه: (وما قلى) ، و (لعَملكم من القَالِين) . (قوماً عَالين) : متكبرِين. والمراد بهم قوم فرعون. (قال طائِركم عِنْدَ الله) ، أي السبب الذي يحدث عنه خيركم وشركم هو عند الله، وهو قضاؤه وقَدَره، وذلك ردٌّ عليهم في تطيُّرِهم ونسبتهم ما أصابهم من القَحْط إلى صالح عليه السلام. (قال إنِّي مُهَاجر) : فاعل (قال) إبراهيم. وقيل لوط، وهاجرا من بلادهما من أرض بابل إلى الشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 (قال إن فيها لوطاً) : ليس إخبارا بأنه فيها، وإنما قصد نجاةَ لوط من العذاب الذي يصيب أهلَ القرية وبراءته من الظلم الذي وُصفوا به، فكأنه قال: كيف تهلِكون أهْلَ هذه القرية وفيها لوط، وكيف تقولون: إنهم ظالمون وفيهم لوط؟ (قَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) : الضمير لعيسى، وذلك أنهم قالوا: إن كان عيسى يدخل النارَ فقد رضينا أن نكونَ وآلهَتنا معه، لأنه خير من آلهتنا. وقيل: إنهم لما سمعوا ذِكْرَ عيسى قالوا: نحن أهْدَى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميًّا، ونحن عَبَدْنَا الملائكةَ فمقْصِدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل: إن قولهم: (أم هو) يَعْنون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى قالوا: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) - يريدون تفضيلَ آلهتهم على محمد، والأظهر أنَّ المرادَ بـ (هو) عيسى. وهو قول الجمهور، ويدلّ على ذلك تقدم ذكْرِهِ. (قوم خَصِمون) : هذا من قول الله لهم، يعني يريدون أن يغالطوك في عيسى وإنما هو عَبْدٌ أنْعَمْنا عليه بالنبوة وَالمعجزات وغير ذلك. (قال الذين كفَروا للّذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونَا إليه) : القائلون لهذه المقالة هم أكابِر قريش لما أسلم الضعفاء، كبلال وعَمَّار وصيهيب - قالوا: لو كان الإيمان خيراً ما سبقَنا هؤلاء إليه. وقيل: بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمَتْ غفار ومزَينة وجهينة، وقيل: بل قالها اليهود لما أسلم عَبْدُ الله بن سلام. والأول أرجح: لأن الآية مَكيّة. فإن قلت: كان الأوْلى أن يقول ما سَبَقْتمونا إليه، لأن قول الذين كفروا للذين آمنوا مواجهة؟ والجواب معنى الذين آمنوا: من أجل الذين آمنوا، أي قالوا ذلك عنهم في غَيْبتهم، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام، لأنه لو كان خطاباً لقالوا: ما سبقتمونا إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 (قد خَلَتِ النّذُر من بين يَدَيْه ومِنْ خَلْفِه) ، أي تقدمَتْ من قبله ومِنْ بعده. والنّذر: جمع نذير. فإن قيل: كيف يتصور تقدُّمها من خلفه؟ فالجواب أنَّ هذه الجملة اعتراض، وهي إخبار من الله تعالى أن الله قد بعث رسلاً متقدمين قَبل هُود وبعده. وقيل من خلفه: يعني خَلْفه في زمانه. (قال إنما العِلْمُ عند الله) : قال هود: العذابُ الذي قلتم ائتا به ليس لي علم وَقْت كونه، وإنما يعلمه الله، وما عليَّ إلا أنْ أبلغكم ما أرسلت به، ولكني أَراكم قوماً تجهلون أمْر الله ووَعيده. (قالوا للذين أوتُوا العلم ماذا قال آنِفاً) : قد قدمنا معنى آنفاً. والمعنى أن قرَيشاً كانت تقول ذلك إمَّا احتقاراً لكلامه، كأنهم قالوا أيُّ فائدة فيه، وإما جهلاً ونسياناً، لأنهم كانوا وقْتَ كلامه - صلى الله عليه وسلم - مُعْرِضين عنه. (ق) : قد قدمنا أنه جبل محيط بالأرض، أو هو مِن أسماء الله تعالى: القاهر، أو المقتدر، أو القادر (1) . فإن قلت: أين جواب القسم، وما الفرق بينه وبين (يس) في إظهار جوابِ القسم ووصف القرآن بالمجيد؟ والجواب أنَّ جوابَ القسم محذوف، تقديره ما ردُّوا أمرك بحجةٍ، وما كذّبوا ببرهان، وشبه ذلك، وعن هذا المحذوف وقع الإضراب بـ بل. ووصف كلامه هذا بالمجيد لشرفه، وفي سورة يس بالحكيم، لأنه محكم على غيره لرعاية الفواصل. وقد قدمنا أنَّ اللهَ سمَّاه بستين اسماً، وما ذلك إلا لتعظيمه، فاعرفْ قَدْرَ ما وصل إليكَ يا مَنْ أكرمه الله به. (قعيد) ، أي قاعد، وقيل مقاعد يعني مجالس. ورَواه ابنُ عطية بأنَّ المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، وإنما أفرده وهمَا اثنان، لأنَّ   (1) كلام فيه نظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 التقدير عن اليمين قَعِيد وعن الشمال قَعِيد من (المُتَلَقَيَانِ) ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقال الفراء: لَفْظُ (قَعيد) يدل على الاثنين والجماعة، فلا يحتاج إلى حذف، وذكر جماعة ٌ عن مجاهد أن (قَعِيد) اسم كاتب السيئات. (قاصِرَات الطَّرْف) : معناه أنَّ الحُورَ العِين يقصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم. (قالوا لولا نزل هذا القرآنُ على رَجُل من القَرْيَتَيْنِ عَظيم) : لم يكْفِ قريشاً معَانَدتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ضموا إليه مكابرتهم والاستخفاف بكتابِ الله وشرائعه والاحتكام على حكمة الله في تخيَّر - صلى الله عليه وسلم - مِن أهل زمانِه. ومعنى القريتين: مكة، وعَنَوْا بالرجل منها الوليد بن المغيرة. وقيل عتبة بن ربيعة. والأخرى الطائف، وعَنَوْا بالرجل منها عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عُمير. ووصفوه بالعظمة لكثرة ماله، فأنكر اللهُ عليهم اعتراضَهم وتحكُّمهم، وأن يكون لهم التدبير لأمر النبوءة بقوله: (أهُم يَقْسمون رحمةَ رَبِّك) ، والتخير لها مَنْ يصلح لها ويقوم بها والمتولِّين لقسمة رحمةِ الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قُدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلاً فأعلَم أنهم عاجزون عن تدبر خُوَيصة أمْرِهم وما يصلحهم في دُنْياهم، وأن الله عزّ وعلا هو الذي قَسم بينهم معيشتَهم وقدَّرها ودبَّر أحوالَهم تدبير العالم بها، فلم يُسَوِّ بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وأغنياء، ومحاويج وضعفاء، وموالي وخدماً، ليصرّف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويتوافروا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وَكَلَهُم إلى أنفسهم، وولاَّهُم تدبيرَ أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشةِ الدنيَّةِ في هذه الحياة الدنيا على هذه الصفة فما ظَنُّك بهم في تدبير أمْرِ الدين الذي هو رحمةُ اللهِ الكبرى ورَأفَتُه العظمى، وهو الطريقُ إلى خيار حظوظ الآخرة والسُّلَّم إلى حلول دار السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 (قَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) : يعني من إجابتك. وقولهم: (إننا لمُهْتَدون) : وَعْدٌ نَوَوْا إخلافَه، لأنهم رَأوْا تسعَ آيات فلم يؤمنوا. وقولهم: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ) : إما أنْ يكون عندهم غَيْرَ مذموم، لأن السحر كان عِلْمَ أهْلِ زمانهم، وكأنهم قالوا يا أيها العالم. وإما أنْ يكون ذلك اسماً قد ألِفوا تسميةَ موسى به من أوّل ما جاءهم، فنطَقُوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه. فإن قلت: ظاهِرُ كلامهم يقتضي تكذيبَهم له، وقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) يقتضي تصديقَه، فما معنى الجمع؟ والجواب أنَّ القائلين لذلك كانوا مكذّبين، وقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) يريدون: على قولك وزَعمك، فدعا الله موسى فكشفه عنهم فنكثوا عَهْدهم. (قال يا قوم أليس لي مُلْكُ مِصْر) : القائل لهذا فرعون، وقصَدَ بذلك الافتخارَ على موسى والتعظيمَ لملكه، ومِصْرُ هو البلد المعروف، وما يرجع إليه، ومنتهى ذلك من نهر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، فانظر عَقْلَه الفاسد، وبلادَته، حيثُ فخَر بتافِهٍ من الدنيا، ولم يعتبر بمَنْ تقدَّمه من الملوك الذين كانوا أعظَم منه، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . (قال قَرِينُه هذا ما لديَّ عَتِيد) : اختلف ما المراد بالقرين، هل الشيطان الذي كان يُغْويه، أو الملك الذي يسوقه، أو الملك الذي يتولَّى عذابَه في جهنم، والأولُ أرجح، لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: (نُقَيِّضْ له شَيْطاناً فهو له قرين) . وقوله: (هذا ما لديَّ عتيد) ، أي هذا الإنسان حاضر لديَّ قد استَعَدْتُه ويسَّرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا إنَّ القرينَ هو الملك السابق. وإن قلنا إنه إحدى الزبانية فمعناه هذا العذاب لديَّ حاضر. ويحتمل أن يكون (ما) في قوله: (ما لديَّ) موصولة، فـ (عَتِيد) بدل منها، أو خَبَر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو تكون موصوفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فـ (عَتِيد) صفة لها، ويحتمل أن يكون (عَتِيد) الخبر ويكون (ما) بدلاً مِنْ هذا أو منصوبة بفعل مضمر. فإن قلت: إذا كان القَرِين في الآية الثانية، بعد هذا فما فائدة تكرُّره وعطفه بالواو أولاً؟ فالجواب أنهم اختلفوا، هل المراد بهما قرين واحد أم لا، إذ المقارنة تكون على أنواع. وقال بعض العلماء: قرين في هذه الآية الثانية ليست عطفاً بل جواباً. وأما عطفه بالواو فلأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من آياتٍ هي إخبار عما يَلْقَاهُ الإنسان المتقدم ذكره مِن الأهوال والشدائد في المواقف الأخروية، وما بين يديها: أولها قوله: (وجاءت سكْرَة الموت بالحق) . ثم قال: (ونُفِخ في الصور ذلك يوم الوَعِيد) . (وجاءت كل نفسٍ معها سائِق وشهيد) . (وقال قرِينُه هذا ما لديَّ عَتِيد) ، فهذه إخبارات عن شدائد يلي بعضُها بعضاً. فطابَق ذلك وورد بَعْضها معطوفاً على بعض. وأما قوله بعد: (قال قرينه ربنا ما أطْغَيْته) ، فهو إخبار مبتدأ مستأنف معرًف بتَبَرِّي قرينه من حَمْله على ما ارتكبه واجترحه، ولا طريق إلى عطف ذلك على ما قبله، إنما هو استئناف إخبار، فوُجد كلّ على ما يرد. (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) : أي كان جبريل من محمد - صلى الله عليه وسلم - بمقدار القاب - وهو مقدار المسافة بين قَوْسين عَرَبيين، ومعناه من طَرَف العود إلى طَرَفه الآخر. وقيل من الوتر إلى العود. وقيل ليس القوس الذي يُرْمَى بها، وإنما هي ذِراع تُقَاس به المقادير. ذكره الثعلبي، وقال: إنه من لغة أهل الحجاز، وتقدير الكلام: مقدار مسافة قُرْبِ جبريل من محمد - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ قاب قوسين، ثم حذفت هذه المضافات. ومعنى أدنى أقرب. و (أو) هنا مثل قوله: أو تريدون. وأشبَهُ التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل أن يكونَ قاب قوسين، أو يكون أدنى. وهذا الذي ذكرنا أن الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح. وقد ورد ذلك في الحديث عن سيِّدنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها لله تعالى، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل. إذ يجبُ تنزيهُ اللَهِ تعالى عن تلك الأوصاف من الدنوّ والتدلِّي وغير ذلك. (قاضِيهَ) : يعني من أعطي كتابه بشماله يتمنى أنْ يكون مات في الموتة الأولى بحيثُ لا يكون بعدها بعث ولا حياة. (قاسطون) : من قسط الثلاثي يعني جار، وأقسط الرباعي - بالألف، إذا عدل. بالرومية، ومنه: (إنَّ اللهَ يحبُّ المُقْسِطين) . (قصص) : له معنيان: من الحديث، ومن قَصِّ الأثر. ومنه: (فارتَدَّا على آثارِهما قصصا) ، (قُصِّيه) (قَسْورَة) : ابن عباس: هو الرامي. وقال أيضاً القسورة بلغة أهل الحبشة هو الأسد. وقيل أصوات الناس. وقيل الرجال الشداد، وقيل سوَاد أولَ الليل. فإن قلت: سواد أول الليل لا يليق، لأنَّ اللفظة مأخوذة من القَسر الذي هو للقهر والغلبة؟ والجواب: أنه يليق باللفظة، لأنه لا شيء أشد نفارا لحُمرِ الوحش من قُرْب الظلام لتوحّشها. (قَمْطَرِيرا) : معناه طويل، وقيل شديد. (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ) . منونين، وبتنوين الأول، وهذا التنوين بدل من ألف. الإطلاق، لأنه فاصلةٌ، والثاني لإِتْبَاعه الأول. وقرئ قوارير - بالرفع، على: هي قوارير، والضمير في (قدَّروها تقديراً) يحتمل أن يكون للطائفين وأن يكون للمنعمين، ومعنى تقديرهم أنهم قدروها في أنفسهم، أو تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدَّروا، والتقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 إما أن يكون على قدر الأكف، قاله الربيع، أو على قَدْر الرِّي، قاله مجاهد. قال ابن عطية: وهذا كله على قراءة مَنْ قرأ قَدَّروها بفتح القاف. وقرئ قُدروها على البناء للمفعول، ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر، تقول: قُدرت الشيء، وقدرك على فلان إذا جعلك قادراً له. والمعنى جعلوا قادرين له كما شاءُوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. فإن قيل: من المعلوم أن القارورة من الزجاج، فكيف قال من فضة؟ فالجواب أنَّ المراد أنها في أصلها من فضة، وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها. وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وَجْه التشبيه لشرفِ الفضة وبَيَاضها. (قَصْر) : واحد القصور، وهي الديار العظام. وقد قدمنا وَجْهَ تشبيه الشرر به في عِظَمه وارتفاعه في الهواء. وقيل: هو الغليظ من الشجر واحده قَصْرة كجَمْرة. (قَضْبا) ، هي الفِصْفصة، وقيل علف البهائم. واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤْكل رطباً. (قَيِّمَة) : فيعلة، وفيه مبالغة، تقديره اللَّهُ القيّمة أو الجماعة القيمة، ومعناه أنَّ الذي امروا به من عبادة الله والإخلاص له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هو دين الإسلام، فلأيِّ شيء لا يدخلون فيه؟ (قرآناً) : يكون بمعنى القراءة، ويقال فلان يقرأ قرآناً حسناً، ومنه: (إنَّ قرآنَ الفَجْرِ كان مشهودا) . وقد قدمنا أنه لا ئسمى بهذا الاسم غَيْر كتابِ الله، لأنه يجمع السور ويضمّها، والقارئ مَنْ له القراءة ومَنْ لا قراءة له فليس بقارئ، ولا يكون قارئاً إلا عند وجود القراءة، ولو كانت القراءة قديمة لكان يجب أن يكونَ الحافظ لكتاب الله قارئاً له في جميع أحواله، فلما بطل ذلك دلَّ على أنها محْدَثة، والقراءة غير الحفظ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 والكتابة غير السمع. والمتلوُّ والمقروء والمحفوظ والمكتوب والمسموع واحدٌ، ولهذا لو قال: واللهِ لا قرأت القرآن ثم سمعه من غيره لم يحْنَث، وهكذا لو قال: واللهِ لا حفظت القرآن ثم كتبه أو قرأه أو سمعه من غير أن يحفظه لا يَحْنث، فدلّ ذلك على تغاير الكتابة والقراءة والحِفْظ والسمع. والله أعلم. (قَرِّي عَيْنًا) : أي طيبي نفساً لما فعل اللَّهُ لكِ من ولادة نَبئ كريم، أو من تيسير المأكول أو المشروب، كقولك: قرِرت به عيناً أقَرّ بالكسر في الماضي والفتح في المضارع، وقرَرت بالمكان بالفتح في الماضي، والكَسر في المضارع. (قَرْضًا) : سلفاً، والفعل منه أقرض يقرض. (قلنا) : مذهب العرب إذا أخبر الرئيس منها عن نفسه قال: قلنا وفعلنا وصنعنا، لعلمه أن أتباعه يفعلون بأمره كفعله، ويَجرون على مثل أمره، ثم كثر الاستعمال بذلك حتى صار الرجل من السوقة يقول فعلنا وصنعنا. والأصل ما ذكرت. (قُرُوء) : جمع قرء، وهو مثترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحَمَلَه مالك والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة، فإن الطهر مذكر والحيض مؤنث، ولقول عائشة رضي الله عنها: الأقراء هي الأطهار. وحمَلَه أبو حنيفة على الحيض، لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلكَ مقصود العِدَّة، فعلى قول مالك والشافعي تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة، إذا طلقها في طُهْرِ لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها. (قرْبان) : ما يتَقرَّب به إلى الله عز وجل مِنْ ذبح وغيره، والقُرْبة هي الطاعة، ومن شرطها العلمُ بالمتقرب إليه، فمحال وجود القُربة قبل العلم بالمعبود والنظَر والاستدلال المؤدّيين إلى معرفته عزّ وجل، فهو واجب وطاعةٌ له، فكل قربة طاعة، وليست كل طاعة قُرْبة، لأن الصلاة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 الدار المغصوبة تقَعُ واجبة وطاعة، وليست بقربة، لأنه لا يُثَاب عليها، وإنما الفرض يسقط عند الفقهاء والمتكلمين من أهل الحق، ومَنْ لا قربة له فليس بمتقَرب. ولا يقال متقرب إلا لمَنْ كثرت قُرَبُه وطاعته. (قُبُلًا) : أصناف، جمع قبيل، أي صنف صنف. وقُبلاً أيضاً جمع قبيل، أي كفيل. وقبلاً أيضاً مقابلة. وقُبلاً عيانا. وقُبلاً استئنافاً. وقولُ سليمان، (لا قِبَل لهم بها) ، أي لا طاقة لهم. (قِسْطاس) : قال مجاهد: هو العدل بالرومية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير، قال: القسطاس - بلغة الروم: الميزان. (قمَّل) - بضم القاف وتشديد الميم: صغار الجراد. وقيل البراغيث. وقال الواسطي: هو الذِّبان بلسان العبرانية والسريانية. وقرئ بفتح القاف والتخفيف، وهو على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، ومن طبعها أن تكون في الشعر الأحمر أحمر وفي الأسود أسود وفي الأبيض أبيض، ومتى تغيّر الشعر تغير إلى لونه، وهو من الحيوان الذي إناثُه أكبر من ذكوره. وقيل: إن الصئبان بيضه. وأما قملة النسر التي تسقط منه إذا عضّت قتلت. وروي أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أهْيل، فضربه فانتشر كلّه قمل في مصر. ثم إنهم قالوا: ادع لنا ربك في كَشْف هذا عنا، فدعا، فرجعوا إلى كفرهم. وروى الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة لا يقتلها، بل يدفنها، لِمَا رُوي أنه مَنْ قتل قملة على رأس خلائه بات معه في شِعَاره شيطانة تُنسيه ذِكْرَ الله أربعين صباحاً. وقد رخص - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزُّبير ابن العوام لُبْس الحرير لدفع القمل، لأنه لا يقمل بالخاصية. قال الجاحظ، وربما كان للإنسان قمل الطباع، وإن تنظف وتعطر وبدَّل الثياب، فعند الشافعية يجوز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 لُبْس الحرير لهذه النازلة. وقال مالك: لا يجوز لبسه مطلقا، لأنَّ وقائع الأحوال عنده لا تعمّ. وفي فتاوى قاضي خان: لا بأس أنْ يطرح القملة حيّة، والأدب أن يقتلها. وإذا رأى المصلِّي في ثوبه قملة أو برغوثاً فالأوْلى أن يتغافلَ عنها. فإن ألقاها بيده أو أمسكها حتى يَفْرغ فلا بأس، فإن قتلها في الصلاة عُفي عن دمها دونَ جلدها، فإن قتلها وتعلَّق جلدها بظُفْره أو ثوبه بطلت صلاته. قال الغزالي: ولا بأس بقتلها كما لا بأس بقَتْل الحية والعقرب. قال القمولي: ولا بأس بإلقائها بغير المسجد، والذي قاله صحيح، للحديث: " إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فلْيَصرّها في ثوبه حتى يخرج من المسجد ". رواه الإمام أحمد في الصحيح. وروى الحاكم في أوائل المستدرك من حديث أبي سعيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، مَنْ أشدُّ الناس بلاءً، قال: الأنبياء. قال: ثم مَنْ؟ قال: العلماء. قال: ثم مَنْ؟ قال: الصالحون، كان أحدهم يُبْتلى بالقمل حتى تقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلْبَسها، ولأحدهم كان أشدَّ فرحاً بالملأ من أحدكم بالعطاء، قال: صحيح على شرط مسلم. (قرَّة عَين لي ولك) : مشتق من القَرّ، وهو الماء البارد، ومعنى قولهم: أقر اللَّهُ عينكَ: أبرد اللَّهُ دمعك، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. (قُدورٍ راسيات) : قد قدمنا أنها ثابتات لا تنزل، لأنها كانت أثَافِيها منها، ويطبخ فيها الجمل، لا يخرج منها إلا عظامه. (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، أي الكذابون. والإشارة إلى الكفار. وقُتِل معناه لعن. قال ابن عطية: واللفظة لا تقتضي ذلك. وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقَتْل، ثم جرى مَجْرى اللعن والقبْح. (قُطوفها) : جمع قطف، وهو ما يُجنى من الثمار ويُقطف كالعنقود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 (قِبْلَةً) : جهة، وسُميت الكعبة بذلك لأنها تُقابل المصلِّي ويقابلها. (قيلاً، وقولاً) بمعنى واحد، ومنه: (وأقوم قيلاً) . (قِسّيسين) : جمع قَس، وهو العالم. وفي الحديث: يُبعث بن ساعدة أمةً وحده. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيته على جَمل بعُكاظ، وهو يقول: أيها الناس اسمَعُوا وَعُوا، مَنْ عاش مات، ومَنْ مات فات، وكلّ ما هو آت آت، مالي أرى الناسَ يذهبون ولا يرجعون، أرَضُوا بالإقامة فأقَاموا، أمْ تركوا هنالك وناموا، إن في السماء لخبرًا، وإنَّ في الأرض عبراً. سَقْفٌ مرفوع، ومهاد موضوع، وبحار تَمُور، ونجوم تحور، ثم تعود. اقسم باللهِ قسماً لا كَذب فيه ولا إئماً: إن للهِ لدِيناً هو أرضى من دِيْنٍ نحن عليه، ثم تكلم بأبيات شعر لا أدري ماهي. قال أبو بكر: كنت حاضراً، والأبيات عندي. وأنشد: في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنَا بَصَائر لما رأيتُ موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمشي الأكابرُ والأصاغر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غَابر أيْقَنْث أني لا محا ... لة حيث صارالقَوْمُ صائر له هذا يدلّ على أنه تنبّه بعقله في هذه، فاتَّعظ واعتبر، ولو أدركته الرسالة لنبّه بعقله من كان في جهالة. (قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) : جمع قطعة، ومَنْ قرأ قطْعاً - بتسكين الطاء - أراد اسم ما قُطع، تقول قطعت الشيء قَطْعاً، بفتح القاف من المصادر، واسم ما قطعت، والجمع أقطاع، (مُظْلِمًا) على قراءة فتح الطاء حال من الليل، وأمَّا على إسكانها فصفةٌ له أو حال من الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 (قِطَع مُتَجَاوِرَات) : قد قدمنا أنَّ معناها قُرى متصلة، ومع تلاصقها فإنَ أرضها تتنوع إلى طيب ورديء، وصلب ورخو، وغير ذلك. (قِيعَة) : جمع قاع، وهو المنبسط من الأرض. وقيل القيعة بمعنى القاع، وليس بجمع. (قَرْن) : مفرد قرون، وهو مائة سنة، وقيل سبعون، وقيل أربعون. فإن قلت: قد ورد في آيات من القرآن زيادة (من) كآية الأنعام. ويس، وفي السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) . وفي (ص) : (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) ، هذه، الآيات الثلاث بزيادة (من) فيها، وسائرها ورد في القرآن مثل هذه الآي لم تزد فيها (مِنْ) ؟ والجواب أنها تزاد حيث يراد تأكيد مضمن الآي من العصاة، والإشارة إلى الوعيد، وهي أبداً في أمثال هذه المواضع محرِزة معنى التأكيد لا تنفكّ عن ذلك، ثم إن حذفها أوجز من إثباتها، ولكلِّ مقام مقال، فحيث ورد من هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدي في أمة بعينها أو أكثر، أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وهو فحوى الكلام، فذلك موضع زيادتها والتأكيذ بإثباتها، وحيث لا يتقدم تفصيلٌ على ما ذكرناه، أو تكون آية التهديد لا تَبْلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد، فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها، إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر. (قَرْنَ في بيوتكنَّ) : قرئ بكسر القاف، ويحتمل وجهين: أحدها أن يكون من الوقار، أو من القرار في الموضع، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في (ظَلْتَ) . وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع على لغةِ مَنْ يقول: قرِرت بالكسر أقر بالفتح. والمشهور في اللغة عكس ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وقيل: هو من قارّ يقار إذا اجتمع. ومعنى القرار أرجح، لأن سودة رضي الله عنها ْقيل لها: لِمَ تحتَجِبين؟ فقالت: أمرنا الله أن نقرَّ في بيوتنا، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيامَ الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن اللهَ أمرك أن تقَرّي في بيتك. (قال رَدت إني قتَلْتُ منهم نَفْسا) : هذا من قول موسى، والإشارة بالنفس إلى القِبْطي، فقال الله: ألَمْ أحفظ خضرة الشجرة من النار لم تحرقها ولم تضرها، فكذلك يا موسى احفظك وأنْجيك من فرعون ولا يضرك بشيء، فلما خرج موسى من مصر حين قتل القبطي سأل اللهَ الهداية، فقال: (رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) ، فلم يجبه حتى بعث إلى مصر ثانية، فقال عند خروجه: سمعتُ نِدَاءَك وأجبتكَ، واليوم هديتك إلى كلامي، إني انا الله العزيز الحكيم، فكذلك أنْتَ يا مؤمن لمّا أنزلتُك إلى الدنيا عرَْفت المحن التي توجهَتْ إليك، فقلت: اهدنا الصراط المستقيم، فأسمع وأجيب، تم إذا قرب رجوعك إليّ وفوضتَ أمرك إليّ أقول لك: إني أنا الغفور الرحيم، وأَجعل الجنةَ منزلك ومَثْواك، كما جعلت دِيارَ فرعون ومقامه ميراثا لبني إسرائيل، فأظت: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) . فإن قلت: ما ورد في الشعراء، أن الله أهلك القبط على أيدي بني إسرائيل وأورثهم ملكه ودِيارهم، والذي في الدخان، أن الله أورثها آخرين ليسوا هم؟ الجواب أنه وقع الخلاف في رجوع بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاكِ فرعون، وقد قدمنا في مشهور التواريخ أنهم لم يرجعوا إليها ولا ملكوها قطّ، وإنما أمرهم الله بدخول الأرض المقدَّسة، ولهذا قال قتادة: القوم الآخرون هم بنو إسرائيل، فورثوا نوعها في بلاد الشام، وإنما سماهم آخرين، لأنهم ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا وَلاء، لأنهم كانوا مسَخّرين مستعبدين في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أنَّ بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون - ويقوي قوله آية الشعراء - إليه، ونصبه بالكاف في كذلك يدل على رجوعهم، أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وأوْرَثْناها لهم، وسمّاها وِراثة من حيث كانت لأناس ووصلت إلى آخرين بعد موت الأولين، وهو حقيقة الميراث في اللغة ورَبطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث. (قِطَّنَا) : قد قدمنا أنَّ القِط في اللغة له معنيان: أحدهما الكتاب بالنبطية، والآخر النصيب. وفي معناه - في قوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) ، ثلاثة أقوال: أحدها نصيباً من الخير، أي دعَوا أَن يعجِّل اللَّهُ لهم في الدنيا. والآخر نصيبهم من العذاب، فهو كقولهم: (أَمْطِر علينا حجارةً من السماء) . والثالث صحائف أعمالنا. فتبًّا لقومٍ طَبع اللَّهُ على قلوبهم وطلبوا الحجارةَ أو العذاب مع علمهم أنه الحق ولولا أنَّ اللهَ رحمهم بوجوده معهم لعاجَلهم بالحجارة ونزولِ العذاب، لكنه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالم، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) . وقال معاوية لرجل من أهل سبَأ: ما أجهل قومك حين ملَّكوا أمرهم امرأة! ققال له: قوْمك أجهل من قومي حيث قالوا حين دعاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحق: (إنْ كان هذا هو الحق من عندك فأمْطِرْ علينا حجارةً) . ولم يقولوا: اهْدِنا له. فإن قلت: قد قال بعدها: (وما لهم ألاَّ يعَذِّبهم الله) ، وهي مناقضة لقوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنْتَ فيهم) ؟ فالجواب أن هذه الآية نزلت كلّها بمكة إثر قولهم: (أو ائْتِنَا بعذابٍ أليم) . ونزل قوله: (وما كان الله معذبَهم وهم يستغفرون) ، عند خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقِيَ بمكة مؤمنون يستغفرون. وقيل: إن قوله: (وما لهم ألاَّ يعذِّبهم الله) نسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 لقوِله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) - وفيه نظر، لأن الخبر لا يدخله نسخ. والظاهر أن: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) - يقتضي الوعيد. وتقديِره: وما يملكهم، أو ما يدْرِيهم، ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكونَ (أن) في موضع نصب. وقال الطبري: تقديره: وما يمنعهم أن يعذبوا. قال ابن عطية: والظاهر في قوله: (وما) أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول، وأقطع في الحجة. والمعنى: وأيّ شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم وهم معذّبون لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالُهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام جَوْراً وتعدِّياً عامَ الحديبية، وإخراجهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصدّ. (قد) : حرف يختص بالفعل المتصرف الْخَبَريّ المثبت المجرَّد من ناصب وجازم. وحرف تنفيس ماضياً أو مضارعاً. ولها معان: التحقيق مع الماضي، نحو: (قد أفْلَح المؤمنون) . (قد أْفلح من زَكَّاها) ، وهي في الجملة الفعلية المجابِ بها القسم. مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التوكيد والتقريب مع الماضي أيضا، تقربه من الحال، تقول: قام زيد، فيحتمل الماضي القريب والماضي البعيد. فإن قلت: قد قام، اختص بالقريب. قال النحاة: وانبنى على إفادتها ذلك أحكام، منها: مَنْع دخولها على ليس. وعسى، ونِعْم، وبئس، لأنهن للحال، فلا معنى لذِكْرِ ما يقرّب ما هو حاصل، ولأنهن لا يفِدْن الزمان. ومنها وجوب دخولها على الماضي الواقع حالا، إما ظاهرة، نحو: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) . أو مقدرة، نحو: (هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا) . (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) . وخالف في ذلك الكوفيون والأخفش، فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك لكثرة وقوعه حالا بدون قد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وقال السيد الجرجاني وشيخنا العلامة الكافِيجي: ما قاله البصريون غلط، سبَبه اشتباه لفْظِ الحالِ عليهم، فإنَّ الحال الذي يقربه (قد) حال الزمان، والحال المبيّن للهيئة حال الصفات، وهما متغايران. المعنى الثالث التقليل مع المضارع، قال في المغني: وهو ضربان تقليل وقوع الفعل نحو: قد يصدق الكذوب. وتقليل متعلَّق الفعل نحو: (قد يعلم ما أنْتُم عليه) ، أي أنَّ ما هم عليه هو أقل معلوماته تعالى، قال: وزعم بعضهم أنها في هذه الآية ونحوها للتحقيق. ومِمّن قال بذلك الزمخشري، قال: إنها دخلت لتوكيد العلم، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد. الرابع: التكثير، ذكره سيبويه وغيره، وخرّج عليه الزمخشري: (قد نرى تقَلب وَجْهك في السماء) ، أي ربما نرى، ومعناه تكثير الرؤية. الخامس: التوقع، نحو قد يقدم الغائب لمَنْ يُتَوقع وقوعه وينتظره. وقد قامت الصلاة، لأن الجماعة ينتظرون ذلك، وحمل عليه بعضهم قوله تعالى: (قد سمع اللَّهُ قولَ التي تُجادلك في زوجها) ، لأنها كانت تتوقَّع إجابة الله لدعائها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 (حرف السين المهمَلة) (سليمان بن داوود) . قال كعب: كان أبيض، جسيما، وَسِيماً، وَضيئاً. جميلا، خاشعاً متواضِعاً، وكان أبوه يشاوِرُه في كثير من أموره مع صِغَر سنه لوفور عقله وعلمه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ملك الأرض مؤْمنان: سليمان، وذو القرنين. وكافران: النُّمرود، وبخت نصّر. قال أهل التاريخ: ملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، وابتدأ بناءَ بيت المقدس بعد مُلكه بأربع سنين، ومات وله ثلاث وخمسون سنة. (سواءَ السّبِيل) : هو الطريق، وجمعه سبُل، ثم استعمل في طرايق الخير والشر. وقد قدمنا أنَّ سبيلَ الله الجهاد، وابن السبيل الضيف. وسوَاء بالفتح - والهمز من التسوية بين الأشياء. وسواء الجحيم وَسطها، وسيأتي معناها آخر الحرف. (سَنَزِيد المحسنين) : أي يزيدهم أجراً إلى المغفرة. (سَلْوى) : طائر يشبه السُّمَاني، كان ينزل على بني إسرائيل من المنّ. (سجَّداً) : معناه رُكعاً، لأن الدخول لا يتأتّى مع السجود. وقيل: متواضعين. وقد قدمنا أنَّ سجودَ الملائكة لآدم كان بِوَضْع جباههم في الأرض، وأول مَن سجد إسرافيل، ولذا جازاه اللهُ بولاية اللوح المحفوظ. (سفِه نفسه) : منصوب على التشبيه بالمفعول به. وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب. وقيل تمييز، ومعناه أهلكها وأوْبقها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 (سيَقول السفهاءُ) : ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه. وقال ابن عباس: نزلَتْ بعد قولهم، والمراد بهم اليهود أو المشركون أو المنافقون. وأما: (ولا تُؤْتوا السفهاءَ أموالَكم) . فالمراد بهم أولاد الرجل ونساؤه لأنهم يبذَرون. وقيل السفهاء المحجورون، وأموالكم، أي أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وهي تحتَ ولايتهم. (سِرًّا) ، وسروراً بمعنى واحد. (تسليما) : ملاطفة وقَصْداً. (سلَف) الأمر، أي تقدم، وأسلفت الرجل أي قدمته، ومنه: (بما أسْلَفْتم في الأَيام الخالية) . (سَلم) - بفتح السين: السلامة، والمراد به عقد الذمة بالجزية. وقرئ بكسر السين بمعنى الدخول في الإسلام. وأما السَّلَم بغير ألف فهو الانقياد. ومنه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) ، وقرئ بالألف بمعنى التحية. (سارعوا) : بغير واو استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم، ومعناه المبادرة إلى الأمر. (سَعِيراً) : اتقادا، وهو اسْم من أسماء جهنم. (سلام) : اسم من أسماء الله، وهو بمعنى الخير، (فاصْفَحْ عنهم وقل سلام) . وبمعنى الثناء: (سلام على نوح في العالَمِين) وبمعنى السلامة: (اهْبِط بسلام منَّا) . (لهم دار السلام عند رَبهم) . وبمعنى الشجر العظام، واحدتها سَلَمَة. (أسلم) : له ثلاثة معان: الدخول في الإسلام، والإخلاص للهِ، والانقياد. ومنه: (أسلمت لرب العالمين) . (فلما أسْلَما وَتَلَّه للْجَبِين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 سكينة) : وقار وطمائينة. وقال الراغب في مفرداته قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الفتح: 4،: إنه ملك يسكن قَلْب المؤمن ويؤمنه، كما روي: إن السكينة تنطِقُ على لسان عمَر. وقيل في سكينة تابوت بني إسرائيل: إن لها وجهاً مثل وَجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفَّافة. وقيل: رأس مثل رأس الهرّ وجناحان، وهي من أمر الله. (سكن) يسكن: له معنيان، من السكون ضد الحركة. ومن السكنى في الموضع، ومنه: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ) . فإن قلت: إذا كان من السكون الذي معناه الإقامة، فما معنى عطف الأكل في البقرة بالواو بخلاف آية الأعراف؟ والجواب أنَّ مورد الآيتين مختلف في الموضعين، لأن الواردَ. في البقرة قُصد به مجرد الإخبار والإعلام به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جرى في قصة آدم عليه السلام وابتداء خلقه، وأمر الملائكة له بالسجود، وما جرى من إبايَة إبليس عن السجود، ثم ما أمر به آدم من سكنى الجنة والأكل منها، ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانيّ أو تحديد غايةٍ، فناسبَهُ الواو، وليس موضع الفاء. وأما آية الأعراف، فمقصودُها تعدادُ نِعَم الله تعالى على آدم وذُرّيته، ألا ما تقدَّمها من قوله تعالى: (ولقد خلَقْنَاكم ثم صوَّرْنَاكم) . وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفْرِداً لإبليس: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) ، مفرداً بذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعا بالتأنيس له ووصية الذرية في قوله: (يا بني آدمَ لا يفتنَنَّكم الشيطانُ) ، فناسب هذا القصد العطف بالفاء الْمُحْرِزة معنى الترتيب. والواو لا تقتضي ذلك، وإنما بابُها الْجَمع حيث لا يُراد ترتيب، وليس موضع شرط وجزاء، فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد ها هنا لما ذكرتُه من قصد تجريد التفضيل المحصّل لتعديد النعم. ولما اختلف القَصْدَان اختلفت العبارة فيهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 (سعى) يسعى: له ثلاثة معان، عمل عملاً، ومنه: (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى) . ومشى، ومنه: (فاسعَوْا إلى ذِكْر الله) . وأسرع في مشيه، ومنه: (وجاء رجلٌ من أقْصَا المدينة يسْعَى) . فإن قلت: ما وَجْه تقديم الرجل في هذه الآية وتأخيره في آية يس؟ والجواب إنما أخره في يس لأوجه، منها: أنه كان يعبد الله في جَبَل، فلما أسمع خبر الرجل سعى مستعجلا. وقيل: حيث قدّم الظرف على رجل أراد أن ينبه أن الرجل من المدينة نَفْسها، وحيث أخَّر الظرف لم يرد أن يُنَبّه على المعنى المذكور. وقيل: لما كانت مقالة الرجل في سورة يس تقتضي الإِرشادَ أخر ذكْرَه ليكون موالياً لإسناد قوله إليه، وليعلم القائل أنَّ مقالته تقتضي الإنذار قدم ذكره وفصَل بينه وبين مقالته ليبعد إسنادها إليه، إذ المقالة تقتضي الإخفاء، وهو أيضاً كذلك، فكان بعد إسناد المقالة إليه فيه ضربٌ من إخفائه. وقيل غير هذا من الوجوه حذفناه لطوله (سَوْءَةَ أخيه) ، أي عورته، وخصها بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر البدن، والضميرُ في (أخيه) عائد على ابن آدم، وأما قوله: (فبَدَتْ لهما سَوْءاتُهما) ، فقد قدمنا أنه زال عنهما اللباسُ الذي كان عليهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. (سَمَّاعونَ للكذبِ سَمَّاعُون لقوم آخَرِين) ، أي لقوم آخرين من اليهود الذين لا يأتُون النبي - صلى الله عليه وسلم - لإفراط البغْضَةْ والمهاجرة. فإن قلت: ما فائدة تكرير هذا السماع هنا؟ فالجواب أنه إن كان سمّاعون الأول استنئاف إخبار عن المنافقين والذين هادُوا فيكون الثاني في اليهود خاصة، وإن كان من الذين هادوا استئنافاً منقطعاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 عما قبله فيكون سمّاعون الأول راجِعاً إليهم خاصة، فكرّر الثانية تأكيداً. وبالجملة - فالآيةُ خطابٌ للنبى - صلى الله عليه وسلم - على وجه التسلية. وأما قوله في براءة: (فيكم سمّاعون لهم) ، فمعناه خطاب للصحابة بأنهم يسمعون كلامَ المنافقين في إخبارهم بابتغائهم فتنتكم، وتنقلونها لإخوانكم المؤمنين، وهم معْ لك طالبون فسادكم. وقيل سمّاعون، أي يتجسسون لهم الأخبار. (سأرِيكم دارَ الفاسقين) ، أي دار فرعون وقومه، وهو مصر، فالمعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلَكُوا. وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدمة ليعتبروا بها. وقيل جهنم. وقرأ ابن عباس بالثاء المثلثة -: " سأورثكم " من الوراثة، وهي على هذا مصر كما قدمنا. (سأصْرِف عن آياتي الذين يتكبَّرُون في الأرض بغير الحقّ) : يحتمل أن يريد بها آيات القرآن وغيره من الكتب فيطمس الله فَهْمَها. والتدبّر في معانيها على المتكبرين، وهذا كقوله: (واتَّقُوا اللهَ ويعلِّمُكم الله) . وفي الحديث: العلم نور يضَعُه الله في قلْبِ الخائف. وفيه: " مَن عمل بما علم أورثه الله عِلْمَ ما لم يعْلم ". مَنْ لم يتّق الله يصرفه عن فَهْم آياته، ويصده عن الإيمان عقوبة له على تكبّره. وقيل: الصرف منعهم عن إبطالها. (سكتَ عَنْ موسى الغَضَب) ، أي سكن، وبذلك قرأ بعضهم والغضب: شعلة نار، وهو مذموم، مَنْ وجده فليستعِذْ بالله منه، وإن كان قائما جلس، وإن كان جالساً فليَضْطَجع، وغضبُ موسى إنما كان لله في غضبه ِعلى اتخاذ العِجْل في غيبته إلى الطور، فلما رجع ألْقَى الألواحَ التي كانت عنده لما لحقه من الدهش، وأخذ برأس أخيه هارون يجرُّه، لأنه ظن أنه فرَّط في كفِّ الذين عبَدُوا العجل، فقال: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) ، الآية، فسكن حينئذ موسى. وإنما دعاه هارن بأمِّهِ، لأنه أدْعَى إلى العطف والحنوّ. وقرئ ابن أمِّ بالكسر على الإضافة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 إلى ياء المتكلم وحذفت الياء، وبالفتح تشبيهاً بخمسة عشر، جعل الاسمان اسماً واحداً. وفي الآية تنبيه على أنَّ الغضبَ للَه من النصرة لدين الله، فلا يغفل المرء عن الحبِّ في الله والبغْض في الله. وإنما غضب موسى على مَنْ ظنّ منه الإفادة والانتهاء عما هو فيه. وأما مَن ظن عدم ذلك فلا ينبغي إلا هجرانُه وطرْدة. ولعمري هل فيك نفحة من هذه النفحات فتغضب على أهلك ووَلَدك وما ملكت يمينك إذا رأيتهم خالفوا أَمْرَ ربهم، كَلاّ لو فهموا منك تغضباً لتَرْكِ دينهم كما تغضب عليهم إذا ضيعوا دنياك لانْتَهَوا، ولكنك لا تغضب عليهم لعدم صِدْقك مع الله فلم يزيدوا إلا طغياناً كبيراً. (سَيَّارة) : قوم مسافرون. ورُوي أنَّ السيارة التي أخرجت يوسف كانت من مَدْين. وقيل أعراب السيارة طلبوا الماءَ فوجدوا يوسف. وسليمان طلبَ السمكةَ فوجد الخاتم، وموسى طلب النارَ فوجد الجبّار. وأنْتَ يا عبدَ الله، هَلاَّ ترمي شبكةَ الندامة في بَحْر الاستغفار وتَصطاد لنفسك الضعيفةِ حوتَ السلامة من الفرقة والقطيعة، فإن كنت أحذق فعليكَ بالأوفق، لا يشغلك شاغل عن الطاعة بجهد الاستطاعة، فإن وقعتَ في ظلمة أو وَحلة يخرجك كما أخرج يوسف، وإن صيّره ملكاً فيصيّرك ملكا كريماً في دارِ ضيافته، ويكشف لك عن كمال ذاته، فتنظر إلى جماله. (سيِّدَها) : قد قدمنا أن السيد يراد به الرئيس والذي يفوق في الخير قومَه. والسيد في الحقيقة هو المالك. ولذا أضاف امرأةَ العزيزِ إليه، لأنه مالكها، فلما رأته خجلَت واستحيت وقالت: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، قتلًا أو ضرباً وَجيعاً. قالت ذلك ضجَرًا لِمَا فاتها منه، ولما ظنت أن يَنْسب إليها من ذلك. وأنتَ يا عبد الله، تفوتك من مولاك اغتنام الطاعات، ولا تبكي على فَقْدها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 ولا تهتم من عقوبة معصيته. أما علمْتَ أنَّ عقوبةَ غيبة الحبيب أشدّ من عقوبة الغضب. غضبت زليخا ساعةً فأورثها خزْناً طويلاً، كانت تقوم الليل وتقول: يا يوْسف، هل أنتَ نائم أو ساهر، أما أنا فأنا ساهرة من حبك، ليتني لم أمر بك إلى ما ترى! وأنت لا تخاف من غضب مَنْ لا يقوم لغضبه شيء. فلا تحسبنَّ إمهاله لكَ إهمالاً، أما سمعتَه يقول: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) ، أي نؤاخذُهم قليلاً ولا نباغتهم كما يرتقي الراقي الدرجةَ ْفيتدرّجِ شيئاً بعد شيء حتى يصلَ إلى العلوّ، قال بعضهم: معناه كلما جدَّدوا ْخطيئة جدّدنا لهم نعمةً حتى نأخذهم بغتة. (سَبعٌ شِدَاد) : يعني ذات شدة وجوع سَبْعَ سنين. هذا تعبير الرؤيا، وذلك أنه عبَّر البقرات السمان بسبع سنين مجْدبة، وكذلك السنبلات الخضر واليابسة. فإن قلت: ما وجه اختلافِ العددَيْن في هذه الآية وآية البقرة في قوله: (سبع سنابل) ؟ فالجواب أن بابَ ما يجمع بالألف والتاء أن يكون للقليل ما لم ينص عليه أو يعرض عارض، لأن آية البقرة مبنية على ما أعدَّ الله تعالى للمنفق في سبيله وما يضاعف له من أخر إنفاقه، وأن ذلك ينتهي إلى سبعمائة ضعف، وقوله: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، قد يفهم الزيادة على ما نص عليه من ذلك، كما أشارت إليه آياتٌ وأحاديث، فمَبْنى هذه الآية التكثير، فناسب ذ ر ورود المفسّر على ما هو مِنْ أبنية الجموع للتكثير لحظاً للغاية المقصودة. ولم يكن ما وَضْعه للقليل في الغالب لينَاسب ما لحظ فيه الغاية من التكثير. أما آية يوسف فإنما بناؤها على إخبار الملك عن رؤياه: (سبع سنْبلات) : فلا طريقَ هنا للَحْظِ قِلّة ولا كثرة، لأنه إخبار برؤيا، موَجْفه الإتيان من أبنية الجموع بما يناسب المراد وهو قليلٌ، لأن ما دون العشرة قليل، فلحظ في آية البقرة وما بعدها مما يتضاعف إليه هذا العدد، وليس في آية يوسف ما يلحظ، فافترق القَصْدَان وجاء كلّ على ما يجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 (سارِب) : قد قدمنا أن (سَارِبٌ) عطف على (مُسْتَخْفٍ) بالليل، لا على (مُسْتَخْفٍ) وحْدَه، وأما قوله: (فاتخذ سبيله في البحر سَرَبا) ، فمعناه أنَّ الحوتَ سار في البحر، فقيل: إن الحوتَ كان ميتاً مملوْحاً ثم صار حيّا بإذن الله، ووقع في الماء، فسار فيه. وقال ابن عباس: بل صار موضع سلوكه ماءً جامداً. قال ابن عطية: وهؤلاء يتأوّلون سَرَباً بمعنى جَولاناً، من قولهم مَحَل سارب، أي مهمل يرْعَى فيه حيث شاء. وقالت فرقة: اتخذ سَرَبا في التراب من المِكْتَل إلى البحر، وصادفَ في طريقه بَحْراً فثقبه. وظاهر الأمر أن السرَب إنما كان في الماء. ومن غريب ما رُوي في البخاري في قصص هذه الآيات أنَّ الحوت إنما حي لأنه مستَه عَين هناك تَدْعى كين الحياة ما مستَتْ قطّ شيئاً إلا حيي. ومن غريبه أيضاً أن بعضَ المفسرين ذكر أنَّ موضع سلوك الحوت عاد حجرًا طريقاً، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفْضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضَفة البحر يدلُّ عليه قوله: (فارْتَدَّا عَلَى آثارِهما قَصَصاً) . وإنما ذَكر بعده: (واتَّخذ سبيله في البحر عَجَبا) - بالواو: لأنه يحتمل أن يكون من كلام يوشعَ لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس. ويحتمل أن يكون قوله تمام الخبر، تم استأنف التعجب، فقال من قبل نفسه: عجباً لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأُكل شقّه الأيسر تم حيي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته فإذا هو شقه حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء. قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء قشر له قشرة رقيقة تشفّ تحتها شوكة، وشقه الآخر. ويحتمل أن يكون قوله: (واتخذَ سَبِيلَه) . الآية إخباراً من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذَ سبيلَ الحوتِ من البحر عجباً، أي تعجَّب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذَ سبيلَه عجباً للناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وقرئ: واتخاذ سبيله، فهذا مصدر معطوف على الضمير في (أن أذْكرَه) (سَرَابِيلهم مِنْ قَطِران) ، بفتح القاف وكسر الطاء. وبفتحهما وبسكون الطاء، وإنما جعل قُمص أهلِ النار من القَطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، لأن للنار اشتعالاً شديداً. فإن قلت: ما فائدة الإتيان بِمنْ، وقد كان يستغنى عنها؟ فالجواب أن فائدة الإتيالن بها نَفْيُ توهّم مجاز التشبيه، نحو زيد أسد. وكقوله عليه السلام في صحيح مسلم: "إنَّ أحدَكم لا يزال راكباً ما انتعل". ففرْق بين خاتم فضة ومِنْ فضة، فإن الأول يحتمل أنه تشبيه محذوف الأداة، والثاني نص لا يتطرق إليه احتمالٌ ألبتَّة. وقد يقال: إن الإتيانَ بها هو الأصل، لأن الإضافةَ في مثله على معنى مِن. نحو ثوب خز، وإنما يُستغنى بذكرها مع الإضافة، ولما تعذرَت الإضافة هنا بإضافة السرابيل إلى ضمير المحدّث عنهم تعين الإتيان بها رجوعاً للأصل. لتدل على التبعيض المقصود مِن هذا التركيب. وفائدة قصْدِه هنا الإعلام بأن هناك قَطراناً غَيرَ ما جعل من السرابيل، ليصبّ عليه، فيزداد اشتعال النار - بذلك، أَو تجدد منه السرابيل إن ذهبت الأولى بذهاب الجلودِ التي طليت بما شبّه منه بالسرابيل: (كلما نَضِجَتْ جلودهم بدَّلْناهم جلوداً غيرها) . أو يسوقونه فتحترق أفئدتهم كلما أَحرقَت جلودَهم (نار الله الموقدة التي تطَّلِع على الأفئدة) ، أو لغير ذلك، ولو لم تذكر (مِن) لما غم أنَ هناك منه غير ما جعلت السرابيل إلا بدليل آخر. نَظير ما ذكرناه من فائدة قصد التبعيض هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حكاية عن قول إبراهيم: (فاجعَلْ أفئدةً من الناس تَهْوِي إليهم وارْزقْهم من الثمرات) ، ولا يتأتى السربال حقيقة من القَطران إلا بأنْ تبدّل صفته من المائعية إلى التجمد، وحينئذ يكون إخباراً، بخلاف الْمَعْهود منه. ويشبه على هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 الْجَعل أن يكون تنكيره للنوعية، أي نوع من القطران غير متعارف، فظهر من هذا أن احتمالَ التشبيه مع ذكْر " من " قائم كما هو مع حذفها. ويحتمل أنه قصد التشبيه بالقطران لشدةِ سوادها واشتعال النار فيها ونَتنها بحيث يقال إنها من القطران، وربما يكون من تلك السرابيل المسوح التي تقْبض فيها أرواحُ الكفار على ما ورد مرادًا بها الحقيقة في قراءة تنوين قَطرانٍ، ووصف بأنه أقرب، ويدل على أن التصريح بمن لا يُنافي التشبيه الإتيان بها مع صريحه، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كأنه من رجال شنوءة، وكأنه من رجال الزط". (سبعاً من الْمَثَاني والْقرآنَ العظيم) : قال بعضُ العَدديين: إنما خص لَفظ السبع هنا لأنها أول العدد الكامل الزائد على العدد التام الأجزاء، لأن الستة عدد تام الأجزاء، وهذا العدد له نسبة في المخلوقات الجملة، كعدد السماوات والأرض والأيام والأعضاء، وأبواب جهنم. وغير ذلك مما يطول ذكرها. وذكر الله لهذه السورة أسماء كثيرة، وفيها سبع آيات، وهي خالية من أحرف العذاب: الثاء: (لا تدعوا اليوم ثبُوراً واحداً) . والخاء: (ألاَّ تخافوا ولا تحْزَنُوا) . والشين: (ولا تَشثقَى) . والجيم: (لهم نار جَهنم) - يعني الكفار. والزاي: (إن شَجَرةَ الزّقّوم) . والفاء: (يومئذٍ يتفرَقون) . والظاء: (أو كظلُمَاتٍ) . فسبحان من خصَّ هذه الأمة بمحامدَ وخصائص يجب عليهم شكْرُها إن عقلوا، ولو لم يكن لهم افتتاح هذا الكتاب المنزَّل عليهم بالحمد تعلما لهم وإرشاداً لحمده. وكرَّر عليهم ذكر ذلك في كتابه: كقوله لنبيه: (قل الحمد للَه الذي لم يتخذ وَلَداً) . (قل الحمد للَه بل أكثرهم لا يعلمون) . فإن قلت: لم أمر بالحَمْد للَه على عدم اتخاذِ الوَلد؟ والجواب أنه لو كان له ولد فلا بد من عبادته، وعبادة إلهين يشقّ علينا، ولو كان له ولد لأعطاه أفضل الأشياء، فانفرد بالملك كلّه، ولو كان له ولد لكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 له إلى النساء حاجة، والمحتاج لا يستحق الربوبية: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ) . فإن قلت: لم أمر عباده بالحمد قَبْلَ سائرْ الطاعات؟ والجواب لأن أول كل شيء منه نعمة، وهو الْخَلْق السويّ، والمعرفة. والإسلام، والهداية، فأمرنا بالحمد ليكونَ جزاؤه فقد الإنسية فيشق علينا أداؤه، وإذا أردت أن تعرف قيمةَ الحمد فتأمَّل إلى أهل الجنة حيث حمدوه إذا فرغوا من الحساب: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وإذا عَبَرُوا على الصراط قالوا: (الحمد للَه الذي أذهَب عنّا الحزَن) فاطر: ، وإذا بلغوا بابَ الجنة قالوا: (الحمد للهِ الذي صدَقَنَا وعْدَه) ، فإذا نزلوا منازلهم قالوا: الحمد للَه (الذي أحلَّنا دارَ الْمقَامة من فَضْله) . فإذا فرغوا من الطعام قالوا: (الحمد للَه ربّ العالمين) قال تعالى: (وآخِر دَعْواهم أنِ الحمد للهِ رب العالمين) . فانظر كيف لم يغفلوا عن الحمد في كل الأحيان مع أنَّ الله ختم لهم بالحسْنى. ِفكيف تَغْفُل يا محمديّ عَمَّن ناصيَتك بيده، وأعطاكَ سورة لا بدّ لك من ذكرها في صلاتك، كل ذلك لمحبته فيك، ألاَ ترى أنه قسمها بينك وبينه. وجعل جوارِحَك سبعاً وأبواب جهنم سبعاً، فإذا قرأتها أعتق الله من النار سبعاً بسبع، وجمع لكَ ذِكر عشر نفرِ من الأنبياء قبل نبيك: نوح، قال: (إن أجريَ إلا على رب العالمين) . وهود: (إن أجريَ إلا على الله) . وموسى: (إني رسول ربّ العالمين) . وإبراهيم: (أسلمتُ لربِّ العالمين) . ونبيك: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) . وهارون: (إنّ ربكم الرحمن) . وإبراهيم: (ومَنْ عصاني فإنكَ غفورٌ رحيم) . ومحمد: (لكم دينكم وليَ دِين) . وأولاد يعقوب لما سألهم قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 (نعبد إلهكَ وإله آبائك) . ومحد: (رَبَّنا الرحمن الْمُسْتَعانُ على ما تَصِفون) . وموسى: (إنَّ معي رَبي سيَهْدين) . وسليمان أمره الله بقوله: (أنْ أشْكُرَ نعمتَكَ التي أنعمْتَ عليَّ) . وموسى: (رب بما أنعمتَ عليَّ) . والمغضوب عليهم ذكره في الذين كفروا من بني إسرائيل في قوله إذ غضب الله عليهم: (وباءُوا بغضبِ من الله) . ولا الضالين ذكره في قصة داود عليه السلام تحذيرا له من الضلال وتطولاً عليه كما تطوَّل علينا قوله: (ولا تَتَّبع الْهَوى فيضِلّك عن سبيلِ الله) . وذكر الذين قتلوا أولادهم سفَهآ بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراء على الله (قد ضَلّوا) . وذكره عن كفرة بني إسرائيل: (وضَلّوا عن سوَاءِ السبيل) . فانظر كيف أمرك بالدعاء بها في كل صلاةٍ، واختصر لك فيها التوراةَ والإنجيل، والزَبور، والفرقان، وصحفَ إدريس وإبراهيم وموسى، فلهذا مَنَّ الله بذكرها على نبيه بقوله: (ولقد آتيناكَ سَبعاً من المثاني) . فإن قلت: إيتاء النعم والسكوت عنها وتَنَاسيها هو أكمل من إيتائها والمنة بها، كما قال القائل: وإنَّ اْمرَا أسدَى إليَّ بنعمة ... وذَكَّر فيها مرةً لبخيل والجواب أن التذكير بالنعمة الماضية إنْ كان إشعاراً بورود نعمةٍ أخرى في المستقبل فلا شيء فيه، وإنما يكون امتنانأ إذا! يشعر بورود نعمةٍ أخرى في المستقبل، وعليه قوله تعالى: (ألَئ يجِدكَ يتيما فآوَى. ووجدك ضَالاً فهدَى) . وأيضاً ذكَّر بها ليرتّبَ عليها أمراً تكليفياً فيكون أدخل في مقام الامتثال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 فإن قلت: الجملة الثانية كأنها مبيِّنَة عن الأولى فهلاّ عطفت بالفاء، فكان يقال: " فلا تمدنً عينيك"؟ فالجواب أنه لما كانت السببية ظاهرة أغْنَتْ عن الإتيان بالفاء. فإن قلت: ما سر تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، والقرآن العظيم، والفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والوافية، والكافية، والكنْز، والأساس، وسورة الحمد، وسورة الشكر، والواقية، والشافية، والشفاء، وسورة الدعاء، وتعليم المسألة، وغير ذلك من أسمائها؟ فالجواب أن ذكر فضائلها وأسمائها يحتاج لمجلد مستقل كما قال الإمام عليّ - رضي الله عنه -: لو شئت أن أَضع على الفاتحة وقْر سبعين بعيراً لفعلت، لكني أشير لك إلى ما فتح الله به من كتب ساداتنا وأئمننا رضي الله عنهم: فسُميت بالمثان! لأنها تثنّى في كل ركعة أو في كل صلاة، أو بسورة أخرى. أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها على قسمين: ثَنَاء، وَدعَاء، أو لأنها إدْا قرأ العبد منها آيةً ثناه الله بالإخبار عن فعله، كما في الحديث الصحيح: " إذا قال العبدُ: الحمد للَه رب العالمين قال الله: حَمَدني عَبدي ". . . إلى آخر الحديث، أو لأنها جمع كل فيها فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها من الثُّنْيَا لأن اللهَ استثناها لهذه الأمة. وإنما سُمِّيت بالقرآن العظيم، لاشتمالها على المعاني التي في أمّ القرآن. فاتحة الكتاب، لأنها يُفتتح بها في المصاحف، وفي التعليم، وفي القراءةْ، وفي الصلاة، أو لأنها أول سورة نزلت، أو لأنها أول سورة كتبت في اللوح المحفوظ) أو لأنها فاتحة كل كلام. وسميت بأم الكتاب وأم القرآن لحديث أبي هريرة: إذا قرأتم الحمدَ فاقرءُوا بسم الله الر حمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب. السبع المَثَاني - قال الماوردي: سُميت بذلك لتقدمها وتأخر ما سواها تَبَعاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 لها، لأنها أمَّتْه، أي تقدمَتْه، ولهذا يقال لراية الحرب أمّ، لتقدمها واتّباع الجيش لها. ويقال لما مضي من سِني الإنسان أمّ لتقدمها، ولمكة امّ القرى لتقدمها على سائر القرى. وقيل أم الشيء أصْلُه، وهي أصل القرآن لانطوائها على جميع أغراض القرآن وما فيه من العلوم والحكم وقيل: إنها أفضل السور كما يقال لرئيس القوم أم القوم. وقيل لأن حرمتها كحرمة القرآن كله. وقيل لأن مَفْزعَ أَهل الإيمان إليها. وقيل: لأنها محْكمة، لأن المحكمَات أم القرآن. وسميت الوافية لأنها وافية بما في القرآن من المعاني، أو لأنها لا تقبل التنصيف، فإن كلّ سورة من القرآن لو قرئ نصفُها في كل ركعة والنصف الثاني في أخرى لجاز بخلافها. وقال المرسي: لأنها جمعت ما لله والعبد. وسميت بالكنز لما رَوى البيهقي في الشعب من حديث أنس مرفوعاً: إن الله أعطاني فيما مَنَّ به عليَّ أني أعطيت فاتحة الكتاب. وهي من كنوز العرش. وفي رواية عن أبي أمامة، قال: أربع آيات نزلن من كَنْز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر، يعني خاصة به - صلى الله عليه وسلم. وسميت الكافية، لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. والأساس، لأنها أَصل القرآن، وأول سورة فيه. وسورة الحمد، وسورة الشكر، وسورة الحمد الأولى. وسورة الحمد القصوى، والواقية، والشافية، والشفاء، والصلاة، لحديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، أي السورة. وسورة الدعاء، لاشمالها عليه في قوله: (اهدنا الصراط) . وتعليم المسألة، لأن فيها آداب السؤال، ولها أسماء غير هذه، وقد ذكر اللهُ الحمد من سبعة نَفَر، فوجد كل واحد منهم كرامةً، لآدم حين عطس، قال: الحمد للهِ، فوجد الرحمةَ من الله بقوله: يرحمك الله. ونوح قال: (الحمد لله الذي نَجّانا من القوم الظالمين) المؤمنون: 138، فوجد السلامة بقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 (يا نوح اهْبطْ بسلام مِنّا وبركات عليك) . والخليل قال: (الحمد للَه الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق) ، فوجد الفداء: (وفدَيْنَاه بذبح عظيم) . وداود وسليمان قالا: (الحمد للهِ الذي فَضلنا على كثير من عباده المؤمنين) ، فوجدا النبوءة والْملْك بقوله تعالى: (وكلاَّ آتيْنَا حكماً وعِلماً) . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أمره الله تعالى بالحمد، فوجد الرِّفْعة والشرف بقوله تعالى: (ألم نشرح لكَ صَدْرَك) . وأنت يا محمدي إذا أكثرتَ من هذه السورة وطلبتَ منه سبحانه شيئاً أتراك لا تَنَاله وقد أعطاكَ الله ما أعطى الأنبياء، فاحْمَدِ اللهَ الذي هداكَ لها. وخصكَ بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسم وعلى آله أفضل صلاة وأزكى تسليم. فإن قلت: هل للسور غيرها من القرآن هذه التسمية أوْ لهَا اسم واحد يخصها؟ فالجواب: قد قدمنا في حرف اللام تسمية سوَر باسم واحد، ونذكر لكَ الآن تسمية بعض السور بأسماء تتمةً للفائدة: فالبقرة تسقى بفسطاط القرآن لما جمع فيها من الأحكام التي تذْكَر في غيرها. وسنام القرآن، لأنها أعلاه. وآل عمران: اسمها في التوراة طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين. والمائدة: تسمى أيضاً العقود، والْمنْقذة، قال ابن الغرس: لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب. والأنفال: تسمى سورة بَدْر. وبراءة: تسمى التَّوبة، لقوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي) . والفاضحة لأن فيها: ومنهم، ومنهم، قال ابن عباس: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 حتى ظننا أنه لم يَبقَ منا أحد إلا ذكر فيها. وسورة العذاب، قال حذيفة: تسمو بها سورة التوبة وهي سورة العذاب. وقال عمر: هي إلى العذاب أقرب، ما كادت تقلع عن الناس حتى ما كادت تُبْقِي منهم أحداً. والمقْشقشة لقول ابن عمر: ما كُنَّا ندعوها إلا المقْشقشة، أي البراءة من النفاق. والنقرة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين، قاله ابن عمر. والبَحوث، بفتح الباء، لما أخرج الحاكم عن المقداد. قيل له: لو قعدت العام عن الغَزْو! قال: أبَتْ علينا البَحوث، يعني براءة. . . الحديث. والحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، ذكره ابن الغرس. والمثيرة لما أخرج ابن أبي حاتم عن عبادة، قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة، فضحت المنافقين، وكان يقال لها المثيرة، أنبأتْ بمثالبهم وعَوْراتهم. وحكى ابن الغرس من أسمائها المبعثرة، وأظنه تصحيف المنقرة، فإن صح كملت الأسماء عشرة، ثم رأيته كذلك، أعني المبعثِرة بخط السخاوي في جمال القراء، وقال: لأنها بعثرت عن أي أسرار المنافقين. وذكر أيضاً فيه من أسمائها المخزية، والْمنَكَلَة. والمشددة، والمدمدمة. النحل: قال قتادة: تسمى سورة النعم، لأن الله عدّد فيها من النعم على عباده. الإسراء: تسمى سورة سبحان، وسورة بني إسرائيل. الكهف: سماها ابن مَرْدَويه في الحديث سورة أصحاب الكهف. ورَوَى البيهقي من حديث ابن عباس - مرفوعاَ - أنها تدْعى في التوراة الحائلة، تحول بين النار وبين قارئها. طه: تسمى سورة الكليم، ذكره السخاوي في جمال القرّاء. الشعراء: تسمى سورة الجامعة. ذكره الإمام مالك. النمل: تسمى سورة سليمان. السجدة: تسمى سورة المضاجع، لقوله تعالى: (تتجافَى جنوبهم عن المضاجع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فاطر: تسمى سورة الملائكة. يس: سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلْبَ القرآن. وفي حديث أبي بكر - مرفوعاً: سورة يس تدْعى في التوراة المعمَّة، تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة، وتدْعَى الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كلَّ حاجة. الزمر: تسمى الغرف. غافر: تسمى سورة الطَّوْل والمؤمن، لقوله فيها: (وقال رجل مؤْمِن) . فُصلت: تسمى السجدة، وسورة المصابيح. الجاثية: تسمى الشريعة، وسورة الدهر، حكاه الكرماني في العجائب. سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - تسمى القتال. (ق) : تسمى الباسقات. اقتربَتْ: تسمى القمر، وأخرج البيهقي عن ابن عباس أَنها تُدعى في التوراة المبيِّضة، تبيض وَجْهَ صاحبها يوم تسوَدُّ الوجوه. الرحمن: سميت في حديثٍ عروس القرآن، أخرجه البيهقي عن علىّ مرفوعاً. المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار. الحشر: سمّاها ابنُ عباس سورة بني النَّضِير، قال ابن حجر: كأنه كرِه تسميتها بالحشر، لئلا يظنّ أن المراد يوم القيامة، وإنما المراد به هنا إخراجُ بني النّضِير. الممتحنة، قال ابن حَجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء، وقد تكسر، فعلَى الأولى هي صفة المرأةِ التي نزلت السورة بسببها، وعلى الثاني هي صفة السورة كما قيل لبراءة الفاضحة. وفي جمال القُرَّاء: تسمَّى أيضاً سورة الامتحان، وسورة المودَّة. الصف: تسمى أيضاً سورة الْحَوَارِيين. الطلاق تسمى سورة النساء القُصْرى. لأن الطول والقصر أمر نسبي. وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 طول الطوليَيْنِ، وأراد بذلك سورة الأعراف. والتحريم يقال لها التحرّم، وسورة لم تحرِّم. سورة الملك تسمى المانعة، لأنها تمنع صاحبها من عذاب القَبْر، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعاً هي المانعة هي المنجية، تُنْجيه من عذاب القبر. وقال ابن مسعود: كُنَّا نسميها في عَهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المانعة. وفي جمال القراء تسمى أيضاً الواقية والمنَّاعة. سأَلَ: تسمى المعارج، والواقع. عم: يقال لها النّبَأ، والتساؤل، والمعصرات. لم يكن: تسمى سورة أهل الكتب، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ. وسورة البيّنة، وسورة القيامة، وسورة البرية، وسورة الانفكاك. ذكر ذلك في جمال القراء. أرأيت: تسمى سورة الدِّين، وسورة الماعون. الكافرون: تسمى المقشقشة، وتسمى أيضاً سورة العبادة، وذكره في جمال القراء. النصر: تسمى سورة التوديع، لما فيها من الإيماء إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم - تَبَّتْ: سورة الْمَسَد. والإخلاص تسمى سورة الأساس، لاشمالها على توحيد الله، وهو أساس الدين. قال: والفلق والناس يقال طما المعوذتان بكسر الواو، والمقشقشتان، من قولهم: خطيب مقشقش. فهذا ما وقفتُ عليه. وعلى القول بأن أسماء السور المفتتح بالحروف المقطعة هي أسْماء لها، لكن منها ما هو أحدي، كـ (ص) ، و (ن) ، و (ق) . وثنائي، كـ (طه) ، و (يس) ، والحواميم، وثلاثي مثل (الم) ، (طسم) . ورباعي: (المر) ، (المص) . وخماسي: (كهيعص) ، و (حم عسق) . وقد أكثر الناس الكلام على هذه الحروف المقطعة. والذي عندي أن الله وَضعها لإطفاء تشغيب الكفار حيث قالوا: (لا تَسْمَعوا لهذا القرْآن) ، فأتى الله بها ليسمعوها لغَرابتها، تم يبلغ الرسول رسالته. كأنَّ الله يقول لهم: إن لم تصدقوه فأتوا بسورة من مثله في مثل هذه الحروف وأنتم لا تفهمون معناها. وهذه دلالة لنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله ذكر في الكتب الماضية أنه يخرج في آخر الزمان رسول، وعلامته أن تكونَ بعض رؤوس سور كتابه الحروف المقطعة، وهي أسماء اللَهِ فرَّقها ووضعها على بعض السور لشرفها عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 (سائغاً للشَاربين) : قد قدمنا أنه صفة للبن - سهلاً للشرب، حتى إنه لم يغَصّ به أحد. وقد جعل فيه غنْية عن الطعام والشراب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - حين شربه: اللهم زدْنا منه سَكَراً، يعني الخمر، ونزل ذلك قبل تحريمها (1) . فهي منسوخة بالتحريم. وقيل: إن هذا على وَجْه المنفعة التي في الخمر، ولا تعَرُّضَ فيه لتحليل ولا تحريم، فلا نسخ. وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخلّ والرب، والرزق الحسن: العنب والتمر والزبيب. (سَرَابِيلَ تَقِيكم الحرَّ) : قد قدمنا أن السرابيل القمص. وذَكَر وقايةَ الحر ولم يذكر وقايةَ البرد، لأنه أهم عندهم لحرارة بلادهم. والخطاب معهم. (سبباً) : هو الطريق الموصِّل إلى المقصود، من علم أو قدرة أو غير ذلك. وأصْل السبب الْحَبْل، ومنه: (فليَمْدد بسببٍ إلى السماء) . (فأتْبَعَ سَبباً) ، فسمي الطريق سبباً، لأنه يتوصَّل بسلوكه إلى المقصود. وأما (أسباب السماوات) ، فمعناه أبوابها. (سَمِيًّا) ، أي نظيرًا، وهذا مدح ليحيى عليه السلام، وسمَّاه الله قَبْلَ وجوده، وبهذه الآية احتجَّ أهل السنَّة على المعتزلة، لأنه لو كان الاسم غير المسمَّى لكان المخاطب غير يحيى، وقد قال له: (يا يحيى خذِ الكتابَ بِقُوَّةٍ) . وقوله: (سبَح اسْمَ ربِّكَ الأعْلَى) لو كان الاسم غير المسمى لكان قد أمر بأن يسبّح الاسم دونه، وهذا لا يقوله محصل. فدلّ ذلك على أن الاسمَ هو المسمَّى. (ساوَى بين الصَّدَفَيْنِ) : من التسوية بين الأشياء وجعلها سوية، بمعنى أتقن وأحسن، ومنه: (فسوَّاكَ فعدَلَك) . (سَرِيَّا) : قال مجاهد: هو بالسريانية: نهرًا. وقال سعيد بن خبير: بالنبطية. وحكى شَيْذلة أنه باليونانية، وعلى كل قولٍ ما كان قريباً من   (1) لا يثبت ولا يصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 جِذع النخلة، فسَّرَه عليه الصلاة والسلام بذلك. وقيل يعني عيسى، فإن السري الرجل الكريم. (سوِيًّا) : أي قويما. (سلامٌ عليكَ) : إنما سلم إبراهيم سلام موَادعة ومفارقة لا تحيّة، لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، فإذا سلّم عليه الكافر يقول له: وعليكم، أو عليك السِّلام، بكسر السين، وهي الحجارة. وفي الحديث: إنَّ عائشة قالت ليهودٍ سلموا: وعليكم السام واللَّعْنة. فقال لها عليه الصلاة والسلام: مَهْلاً يا عائشة، فإن اللَهَ رفيق يحبُّ الرفْقَ. فقالت: أو لم تسمع ما قالوا، قالوا: السام عليكم. فقال: قد قلت لهم وعليكم. (سأسْتَغفِر لكَ رَبِّي) : لما طلب آزَرُ من إبراهيم الاستغفار وعده أنْ يدعوَ له. قال ابن عطية: معناه سأدعو اللهَ أنْ يهديك، فيغفر لكَ بإيمانك. وذلك لأن الاستغفارَ للكافر لا يجوز. وقيل: وعَدَه أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم انَّ اللَهَ لا يغفر للكافر حتى أعلمه اللَّهُ بذلك. ويقَوِّي هذا قوله: (واغْفرْ لأَبي إنه كان من الضالِّين) . ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: " لأستغفِرَنَّ لك ما لم أنْهَ عنك ". وروي أنه لما نزلت: (إن تستَغْفر لهم سبعين مرة فلن يغفرَ اللَّهُ لهم) ، - قال - صلى الله عليه وسلم -: " لأزيدنَّ على السبعين "، فلما فعل عبد اللَه بن أبي وأصحابه ما فعلوا، وقولهم: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، وتوليتهم عن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم شدَّدَ اللَّهُ عليهم بقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) . وفي هذا نظر، لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني الْمصْطلق قَبْل الآية ِ الأخرى بمدة. وروي أنه إذا كان يوم القيامة يجعل اللَّهُ آزَر تحت قدم إبراهيم على صورة كبش ملطَّخ بالدم ويُؤْمَرُ إبراهيم بذبحه، لأنه لما حملت أمّه بإبراهيم اشتهى أن يكونَ غلاماً فيذبحه تحت رِجل النمرود رضاءً له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 فجازاه اللَّهُ بذلك، وحوَّله كبشاً، لأنه دعا ألَّا يخزيه في أبيه، كذلك أهل مصر تمنّى كلّ واحد منهم أن يكون يوسف عبداً له، فجعلهم الله عبيده. وأنت يا عبد الله إذا كانت نِيَّتك ومرادك غَيْرَ عصيان الله يعاملك على نيتك ومرادك فيجعل سيئاتك على الكفار، ويجعلهم فداءً لك عقوبةً لهم، وعلى إبليس الذي كان سبباً في إغوائك، ألا تراه سبحانه يقول لك: إذا قلت أذنبْتُ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ، وإذا قلت اللهم اغْفِرْ لِي يقول لك: قد غَفَرْتُ لكَ وأنا الغفور الرحيم. (سنكتب ما يقول) : من قوله: لئن بعثت كما يزعم محمد ليكوننّ لي هناك مال ووَلد، وإنما جعله مستقبلاً، لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. (سيكفرونَ بعبَادَتهم ويكونونَ عليهم ضِدًّا) : الضمير للكفار، وفي عبادتهم للمعبودين، وهذا كقولهم: (ما كنتم إياه تعبدون) . (سَيَجْعَل لهم الرحمن ودًّ أ) ، هو المحبة والقبول الذي يجعله اللَه لمن أَطاعه. وقد صحَّ في الحديث أن الله ينادي: يا أهل السماء، إني أحبّ فلاناً فأحِبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وقال بعضهم: يكتب جبريل له صحبةً فيضعها في الماء المشروب منه. وقيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب. والأول أظهر لعمومه، والعيان يشهد بذلك، وهذه أولُ كرامة يكرِمُ الله بها أولياءه. (سنعِيدها سيرتَها الأولى) : يعني أن موسى لا أخذ العصا عادت كما كانت أَولَ مرة، وإنما أمره بالإلقاء أوَّلاً ليستَأنِس بها، وانتصب (سيرتها) على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر. (سلك لكمْ فيها سبلاً) . أي أنهج لكم في الأرض طرقاً تمشون فيها. وأما قوله تعالى آمراً للنحل: (فاسْلكي سبلَ رَبِّكِ ذلُلاً) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فقد قدمنا أنَّ الله أمرها بالرجوع. وقيل بالذهاب، قال أبو حيان: إنْ أريد بالطريق الحسيّ فهو مفعول به، وإن أريد المعنوي فهو ظرف. (سَحيق) : بعيد. (سَخرْنَاهَا لكم) : أي كما أمرناكم بهذا كلِّه سخرناها لكم. وقال الزمخشري: التقدير مثل التسخير الذي علمتم سخَّرْنَاها لَكم. (سَبْعَ طرائق) : سموات، واحدتها طريقة، وسمِّيت بذلك، لأنها بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل. وقيل: يعني الأفلاك، لأنها طرق الكواكب. (سامِرًا) : مشتق من السمر، وهو الجلوسُ بالليل للحديث، وكانت قريش تجتمع في الليل بالمسجد يتحدثون بسبِّ رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم. والمعنى أنهم سامرون بذكره وسبِّه. و (سامِرًا) مفرداً بمعنى الجمع، وهو منصوب على الحال. (سَراب) : هو ما يرى في الفَلوات مِنْ ضوء الشمس في الهَجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وَجْه الأرض. وشبَّه اللهُ به أعمال الكفار في الآخرة بأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والتمثيل الثاني في قوله: (أو كظلمات) ، يقتضي بطلانَ أعمالهم في الدنيا. وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمات التي بعضها فوق بعض. (سنَا بَرْقِه) : السنا - بالقصر الضوء، وبالمد المجد والشرف. (سبَأ) : قبيلة من العرب، سُمِّيت باسْمِ أبيها الذي تناسلت منه. وقيل باسم أمها. وقيل باسم موضعها، والأول أشهر، لأنه ورد في الحديث. (سرْمَدا) : دائماً، وفيه تعديد النعم على عبيده، بحيث جعل لهم اختلاف الملَوَان، هذا لراحتهم، وهذا لعنائهم وشغلهم، وخِلْفَةً لمَنْ أراد أن يذَّكرَ أو أرادَ شكوراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 (سلَقُوكُم بألسنةٍ حِدَاد) . أي إذا نصركم اللهُ أيها المؤمنون، فزال الخوفُ رجع المنافقون إلى إذَايَتكم بالسبِّ وتنقَّص الشريعة، وإذا جاء الخوفُ نظروا إليكم ولإخوانكم من شدة خوفهم، (تدُورُ أعينُهم كالذي يغْشَى عليه من الموت) ، وهو عبارة عن المتكلم بكلام مستَكْرَه. ومعنى (حداد) فصحاء قادرين على رفع الصوت، لأن السلق والصّلق رفع الصوت. (سابغات) : كاملات، والضمير يعودُ على الدَّروع التي كان يعملها داود من الحديد، لأنه كان تَحْتَ يده كالعجين يصنَعُ به ما يشاء، وهو المراد بقوله: (وقَدِّرْ في السَّرْدِ) ، أي قدِّرْها بألاَّ تعمل الحلْقَة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها. وقيل: لا تجعل المِسْراد رقيقا ولا غليظاً. والسرد: الخرز أيضاً. ويقال للإشْفَى مِسْرد ومِسْرَاد. (سيَهْدِين) : هذا من قول إبراهيم بعد خروجه من النار، وأراد أنه ذاهب إلى الله، مهاجر إلى أرض الشام. وقيل: إنه قال ذلك قبل أن يطْرَح في النار، وأراد أنه ذاهب إلى ربِّه بالموت، لأنه ظن أن النار تحرقه. و (سيَهْدِين) على القول الأول يعني الهدي إلى صلاح الدين والدنيا. وعلى القول الثاني إلى الجنة. وقالت المتصوفة: معناه ذاهب إلى ربِّي بقلبي، أي مقبل على الله بكليته، تاركٌ لما سواه. (ساحة البيت) : فناؤه. والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محذور. (سواء) الطريق: الواضح والطريق اللائح. (سَلَماً لِرَجل) : أي خالص. وقرئ بألف، والمعنى واحد. (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) . سماهم بالمخلفين لأنهم تخلَّفوا عن غَزْوة الحُدَيبية، والمراد بالأعراب أهل البوادِي، كمزَينة وجهينة، ومَنْ كان حول المدينة، لأنهم ظنوا أنه لا يرجع - صلى الله عليه وسلم - من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 غَزْوَته تلك، ففضحهم اللهُ في هذه الآية، وأعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم واغترارهم قبل رجوعهِ إليهم، فكان كما قال: (شَغَلَتْنَا أموالنا وأهلونا) الآية. فإن قلت: لم أبرز الضمير في هذه الآية وحذَفه فيما بعدها؟ فالجواب أن المُخْبرَ عنهم من المخلَّفين طلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - الاستغفارَ لهم لتخلّفهم عنه، وأفردوه بخطابهم، إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره، فوردت العبارةُ عن ذلك بإفراد الخطاب، وأعْلَم اللَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بنِفَاقهم وكَذِبهم في اعتذارهم بقوله: (يقولون بألْسِنَتهم ما ليس في قلوبهم) . وأما الآية الثانية فليس قولهم: (ذَرُونا نتَبِعكم) ، خطاباً خاصا له - صلى الله عليه وسلم -، بل له وللمؤمنين، والسياقُ يفصح بذلك، وما أمر به عليه السلام من مجاوبته في قوله لهم: (لن تتَّبعونا) ، فلم يُرِد هنا إفراده عليه السلام بخطابهم له كما ورد في الأول، وجاء كل على ما يناسبه. فإن قلت: إن خطابهم له خاصّ كالأول، ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم بقولهم: (ذَرُونا نَتَّبعكم) ؟ قلت: وعلى فرض هذا فمراعاةُ الألفاظ في النظم أكِيدة جدًّا، وبها إحرازه. وعلى هذا لا يُلائم هنا الخطاب كيفما هو إلا بصورة ما للجميع. والله أعلم بالمراد. (سَكرَة الموت) : أي غصصه ومشقّاته. وقد قدمنا الحديثَ أنه أشد من سبعين ضربة بالسيف، ولما حضرته الوفاةُ جعل يدَه - صلى الله عليه وسلم - في إناءَ ماءٍ ومسح بها وجهه وقال: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم الرفيق الأعلى. ولما بلغ روحه سرته قال: يا جبريل، ما أشدَّ مرارةَ الموت، فولَّى جبريل وجهه، فقال: يا جبريل، أكرِهْتَ النظَرَ إلى وجهي، فقال: يا حبيبَ الله، ومَنْ يقدر أن ينظر إليك وأنتَ تُعالج الموت! هذا نبيك المعصوم قاسى منه ما سمعت، ووعك وعك رجلين كما صح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فكيف بكَ أنها المغرور لا تبكي على نفسك، وتعالج هوَاك لعلّه يرحمك ويسمع أنينك! (سائق وشَهيد) : السائق: ملك يسوقه، والشهيدُ يشهَذ عليه. وهو الأظهر. وقيل صحائف الأعمال. وقيل: جَوارح الإنسان، لقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . (سال، وسأل) ،: بالهمز: طلب الشيء والاستفهام عنه. وسال بغير همز من المعنيين المذكورين، ومن السيل. ومنه سأل سائل. فمن قرأه بالهمز احتمل معنيين: أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، وتكون الإشارة إلى قول الكفار: (أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وكان الذي قالها النَّضْرُ بن الحارث. والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذابِ واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارةُ إلى قولهم: (متى هذا الوعْدُ إن كنْتُم صادقين) ، وشبه ذلك. وأما مَنْ قرأ سال - بغير همز - فيحتمل وجهين: الأول أن يكون مخفًفاً من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران. والثاني أن يكون مِن سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس سال سيل، وتكون الباء على هذا كقولك: ذهبت بزيد. وإذا كان من السيل احتمل وجهين: أحدهما أن يكون شبّهَ في شدَّته وسُرْعَة وقوعه بالسيل. وثانيهما أن يَكون حقيقة. قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سايل. فتلَخَّص من هذا أنه في القراءة بالهمز يحتمل وجهين، وفي القراءة بغير همز أربعة معان. (سقْف مرفوع) : يعني السماء. (ساقِطاً يقولوا سَحَابٌ مركوم) : كانوا قد طلبوا أن ينزَلَ عليهم كسْفاً من السماء، فأخبر اللهُ أنهم لو رأوه ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغْيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 والجهل والعناد أن يقولوا: ليس بكسف، وإنما هو سحاب مركوم، أي كثيف بعضه فوق بعض. (سامِدُون) : لاعبون ولاهون. وقيل: غافلون. والسامد: الساكت والحَزين الخاشع قَلْبه، فله على هذا خمسة معان. (سائحات) : من ساح في الأرض إذا ذهب فيها. وقيل معناه صائمات، وقد روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم. وقيل معناه مهاجرات. والسائحون من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة براءة، هم الذين اختاروا الحقَّ على كل شيء وثبتوا على ذلك، وتواصوا بالحق، وتواصَوْا بالصبر، وهؤلاء يقال لهم الأبدال وأرباب الكمال، وهم سبعة رجال قد تبدَّلتْ عوالمهم وتخلَّصَتْ من الشوائب البشرية جواهِرُهم، فأخذوا بالسياحة في البُلْدان لطلب لقاءِ الرجال، إذ هي كبيعة الخير، وفي الباطن لنيل المقامات والأحوال الواردة من عين الجود بالجلال والكمال والجمال. وأما الساجدون فهم الذين أقعدت رسومهم، وفَنيت بالمجاهدة نفوسهم وجسومُهم، وهم أرباب الفناء المتجردون عن كل المناقد، تخلّصوا من رقِّ البشرية لتحقّقهم أنه اللطيف الخبير السَّميع البصير. عاشوا عيشاً تاما كاملاً، فإنَ ترك التدبير للَه عيش، كما أن التدبير نصفُ العيش، ويقال لهذا الوجه الأوتاد، وهم أربعة رجال، مقام كلّ واحد مقام ركن من الأركان: شرقاً، وغرباً، وجنوبا، وشمالاً، واحداً يتصرف عندهم لتجريدك عن الكون وثبوتك بالحق. ومنه قول الشيخ القطب ابن العريف: مَن شهد الخلق للفِعْل لهم فقد فاز، ومن شهدهم لا حياةَ لهم فقد جاز، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل، والكلامُ هنا طويل، وعلى هذه الآية الكريمة ُ بُنِي التصوف، وسبيل التعرف، وقد صنَّف فيها من ذاق أهلها وعرفهم تأليفاً عجيباً ورتّبهم ترتيبًا غريباً لا ينبغي لنا أنْ نحومَ حولَ حمَاه، ولا نتعرض لما قد تعاطاه، لأنا لسنا منهم فنستغفر اللَهَ من الكلام معهم، وكان الأولى بنا اشتغالنا عن هذا بالانتباه مِنْ رَقْدةِ الغَفْلة، وتخليصنا من وَرْطة الفترة، وإيقاظنا من السّكرَة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 لكن نسأله سبحانه أن يهَبَ لنا نُور التنبيه من ظلمة هذه النفس، فيظهر لنا بمجيئها وقبيح ذَنْبها، فنقلع في الحال، ونعزم على ألاَّ نعود في الاستقبال. ونبحث على ما خفي من دسائس النفس، ونستعد للمنازلة في الرَّمْس، ونشمِّر للمعاملة في المحبة، ونطلب ممن نظر في هذا الكتاب بالدعاء إلى العبادة ظاهراً وباطناً فإنما نحن به وله. (سنَسِمه على الخرْطوم) : أصل الخرطومٍ أتف السبع، ثم استعير للإنسان استخفافاً به وتقبيحاً له، والمعنى نجعل له سِمَة، وهي العلامة على خرطؤمه. واختلف في هذه السِّمَة، فقيل: هي الضربة بالسيف يوم بَدْر. وقيل علامة من نار تجعل على أنْفه في جهنم. وقيل علامة تُجعل على أنفه يوم القيامة لِيعرف بها، كما يجعلون أهل الدنيا لمواشيهم علامة يعرفونها بها. (سَلْهم أَيّهم بذلكَ زَعِيم) : قد قدمنا أنَّ الزعيم الضامن. ومعناها: سَلْ يا محمد قريشاً أنهم زَعِيمٌ بذلك الأمر. (يَسْأمُ) : يسأم، أي يمل، ومنه: (وهم لا يسْأمون) ف. (سبب) : له خمسة معان: أحدها الحَبْل، وقد تقدم. والاستعارة من الحبل في المودة والقرابة، ومنه: (وتقطَّعَتْ بهم الأسباب) . والطريق، ومنه: (فأتْبَع سَبَباً) . وسبب الأمر: موجبه. (ساق) : ما بين القدم إلى الركبة، وأما قوله: (يوم يُكْشَفُ عن ساق) . فقد قدمنا أن ذلك عبارة عن هَوْل يوم القيامة وشدَّته. وفي الحديث الصحيح أنه قال: " ينادِي منادٍ يوم القيامة لتتبع كلّ أمة ما كانت تعبد، فيتيع الشمسَ مَن كان يعبد الشمس، ويتبع القمر مَن كان يعبد القمر، ويتبع كلّ أحد ما كان يعبد، ثم تبقى هذه الأمة وغبَّراتٌ من أهل الكتاب معهم منَافِقوهم، فيقال لهم: ما شأنكم، فيقولون: ننتظر ربنا. قال: فيجيئهم اللَّهُ في غير الصورة التي عرفوه، فيقول: أنا ربُّكم. فيقولون: نعوذ باللهِ منك. قال: فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها، فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فيقولون: نعم، أنْتَ ربُّنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمن، وترْفع أَصلاب المنافقين عَظْماً واحداً فلا يستطيعون سجوداً. وتأويل الحديث كتأويل الآية. (سَبحاً طويلاً) : السَّبْح هنا عبارة عن التصرف في الأشغال. والمعنى يكفيك النهار في التصرّف في أشغالك، وتفرَّغْ في الليل لعبادة ربك. وقيل المعنى: إنْ فاتك شيءٌ من صلاة الليل فاخلفه بالنهار، فإنه طويل يسَع فيه ذلك، وقرئت سبخاً، أي بالخاء المعجمة، أي سعة، يقال سبِّخي قطنك، أي وَسِّعيه، والتسبيخ أيضاً التخفيف، يقال: اللهم سبَخْ عنه الحُمَّى: أي خفّفها عنه. (سأرهِقه) : أي سأكلفه المشقَّةَ من العذاب في صَعود، وهي العقَبة الصعبة. (سلَككم في سَقَر) : ذكر الجواليقي أنها عجمية، ويحتمل أن يكون خطاب المسلمين لأهل النار أو الملائكة، فأجابوهم بقولهم: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) . وإنما خصّ التكذيب بيوم الدين تعظيما له، لأنه أكبر جرائمهم. (سَلْسَبِيلاً) : اسم أعجمي، ومعناه سلساً منقادًا بجَرْيهِ. وقيل سهل الانحدار في الحَلق، يقال شراب سلسل وسلسال وسَلْسَبِيل بمعنى واحد، وزِيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلامته، فصارت الكلمة خماسية. وقيل سل فعل أَمر وسبيلا مفعول به، وهذا في غاية الضعف. فإن قلت: قد قال في الآية الأولى قبلها: (كان مِزَاجها كافورا) ، فهل يمزجان مع الخمر أم لا؟ والجواب أنه كالكافور في طِيب رائحته، وهو علم لذلك الماء. واسم الثاني زنْجَبِيل، وقيل اسمها سلسبيل. وقال بعضهم: سل من الله سلسبيلاً، فيجوز أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يكونَ اسمها هذه الجملة! كقولهم: تَأبّط شرًّا، وبرقَ نَحْرُة. ويجوز أن يكون معنى (تسمَّى) تُذْكَر، تم قال الله: سَلْ سبيلاً، واتصاله في المصحف لا يمنَعُ هذا التأويل لكثرة أمثاله فيه. (ساهرة) : قد قدمنا أنها وجه الأرض، وأصلها مسهورة ومسهور فيها، فصُرف من مفعوله إلى فاعله. كما يقال عيشة راضية أي مرضيّة، ويقال الساهرة أَرض القيامة. (سَفَرة) : هم بالنبطية القراء، وبالعربية الملائكة الذين يسفرون بين الله وبين عباده، واحدهم سافر، وهم الملائكة، وقيل الذين يكتبون القرآن في الصحف، وقيل يعني القرَّاء من الناس. وفي الحديث: "الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة". أي أنه يعمل مثْلَ عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أوْ لَهُ من الأجر على القرآن مثل أجورهم. وقد قدمنا أنه نزل جملة إلى بيت العِزّة في سماء الدنيا، وأن الملائكة يتدارسونه بينهم لتعظيم شأن هذه الأمة عند الملائكة وتعريفهم عنايةَ الله بهم ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة بتشييع سورة الأنعام. (سرائر) : جمع سريرة، وهي ما أسَّر العبْدُ في قلبه من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال، وبلاؤها هو تعرفها والاطلاع عليها. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، وهذه معظَمها، فلذلك خصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله: (رَجْعِهِ) ، أي يرْجعه يوم تبْلى السرائر. واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر في العمل. وقيل العامل، قادر، واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أَن البعْثَ إنما يقَع في ذلك اليوم. وقال من أحرز من الاعتراضين في القولين المتقدمين: الفاعل فعل مضمر من المعنى تقديره: يرجعه يوم تبْلى السرائر، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 كلّه على المعنى صحيح في رَفْعه. وأما على القول الآخر فالعامل في يوم مضمر تقديره: اذكر. (السماء ذات الرَّجْع) : أي المطر، وسمّاه رَجْعاً بالمصدر، لأنه يرجع كل عام، أو لأنه يرجع إلى الأرض. وقيل: الرَّجْع السحاب الذي فيه المَطَر. وقيل: هو مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من منزلةٍ إلى منزلة. (سَعْيَكمْ لَشَتَّى) : جمع شتيت، ومعناه مختلف، فمنه حسنات ومنه سيئات، وهذا جواب القسم في قوله: (والليل) . (سجى) : فيه أربعة أقوال: أدبر، وأقبل، وأظلم، وسكن، أي استقر، واستوى أو سكن فيه الناس والأصواتُ، ومنه: ليلة ساجية، إذا كانت ساكنة الريح، وطَرْفٌ ساج، أي ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب في الاشتقاق، وهو اختيار ابن عطية. (سبحان) : تنزيه. وسبَّحت الله، أي نزَّهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأضداد. (سُحْت) : يعمُّ كلَّ حرام من رشوة ورِباً وغير ذلك. (سُلَّما) ، بضم السين وفتح اللام مشددة: هو الذي يصْعَد فيه، ولما كان - صلى الله عليه وسلم - شديدَ الحِرْصَ على إيمانهم قال الله له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيَهم بآية يؤمنون بها فافعل، وأنْتَ لا تقدر على ذلك، فاستَسْلم لأَمر الله. (سُقِطَ في أيديهم) . أي نَدِموا، يقال: سُقِط في يد فلان إذا عجز عما يريد، ووقع فيما يكره. وضمير الغيبة يعود على الذين عبدوا العجل. ويحتمل أن يريد الذين لم يغيروا على مَنْ عبده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 (سوء الحساب) : مناقشته والاستقصاء في السؤال، وهو عبارة عن مؤَاخذة العَبْد بخطاياه كلّها. (سُوء الدار) : يحتمل أن يريد بها في الدنيا والآخرة، وهو تَهكم بهم، لأن ذلك عليهم لا لهم، وكذلك قوله: (وبئس المهاد) ، تهكّم، لأن المِهاد هو ما يُفْرش ويُوطَأ. (سُكِّرَت أبصارُنا) : قد قدمنا أن الضمير لكفّار قريش المعاندين المختوم عليهم بالكفر، والمعنى أنهم لو رأوا أعظم آيةٍ لقالوا إنها تخيّل أو سِحر. وقرئَ بالتشديد والتخفيف، ويحتمل أن يكون مشتقَّا من السكر. ويكون معناه خدعت أبصارنا، فرأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السكر وهو السدّ فيكون معناه منعت أبصارُنا من النظر. (سرَادِقها) : قال الجواليقي: هو معرب، وأصله سرادار. وهو الدهليز. وقال غيره: الصواب أنه بالفارسية سرادره، أي ستر الدار. وسرادق جهنم: حائط من نار، وقيل دخان. (سنْدس وإِستبرق) : قال الجواليقي، رقيق الديباج بالفارسية. وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفَسِّرون في أنه معرب. وقال شيذلة: هو بالهندية. (سؤْلكَ) ، أي بغيتك. (سلالة من طين) : أي ما يَسيل من الشيء ويُستخرج منه، ولذلك قوله بعد هذا: (ثم جعلناه نطْفةً) - لا بد أن يرَاد به ابن آدم، فيكون الضمير على مَنْ ذكر أوّلاً، لكن يفسره سياق الكلام، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عَوْد الضمير عليه، ويكون معنى خَلَقَه من سلالَةٍ من طين أنه خلق أصْلَه وهو أبوه آدم. ويحتمل عندي أن يريد بالجنس الذي يعمّ آدم وذريته، فأجملَ ذِكْرَ الإنسانِ أوّلاً ثم فصَّله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم، وهي من طين، وإلى الخلقة المختصة بذريته وهي النطفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فإن قلت: ما الفرق بين مِنْ ومِنْ؟ فالجواب ما قاله الزمخشري: إن الأولى للابتداء، والثانية للبيان، كقوله: من الأوثان. (سوق) : جمع ساق، أي قايم الزرعُ على سوقه، ومنه: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ، أي التفّت ساقه إلى ساقه الأخرى عند المساق. وقيل ماتت ساقه فلا تحمله. (سُعُر) : جمع سعير في قول أبي عبيدة، ومعناه الجنون، يقال ناقة مسعورة إذا كان بها جنون. (سور) : المحيط به. وبالهمز: البقية من الشيء، ومنه قول أم سلمة رضي الله عنها: أسئروا لأمكم من هذا الشراب، وقوله: (فضرِب بينهم بسور له بابٌ) ، فمعناه أنه يضْرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصِل بينهم، وفي هذا السور بابٌ لأهل الجنة يدخلون منه، وقيل: إن هذا السور هو الأعراف، وهو سورٌ بين أهل الجنة والنار. وقيل: هو الجِدار الشرقي من بيت المقدس، وهذا بعيد. (سُحْقاً) : انتصب بفعل مضمر على معنى الدعاء على أصحاب السعير. ومعناه البعد، ومنه: (مكان سَحِيق) . (سواع) : اسم صنم كان يُعبَد في زمان نوح عليه السلام، وكذلك يَعوق ويَغوث وودّ. ورُوي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صَدْر الدنيا، فلما ماتوا صَوَّرهم أهل ذلك العصر من حجَارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذَكر أعمالهم، فهلك ذلك الجيل، وكَثُر تعظيم مَن بعدهم لتلك الصور حتى عبَدوها مِن دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها. وقيل: بل الأسماءُ فقط إلى قبائل من العرب، فكان ودّ لكَلْب بِدوْمة الجندل، وكان سوَاع لهذيل، وكان يغوث لمراد، وكان يعوق لهَمْدَان، وكان نَسر لذي الكلاع من حِمْير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 سُدًى) : مهملاً، عَبثاً، وهذا توبيخ، ومعناه أيظنّ الإنسان أن يَبقَى بغير حساب ولا جزاء، فهو كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) . والإنسان هنا جنس. وقيل نزلت في أبي جهل، ولا يبعد أن يكون سببها خاصًّا ومعناها عام. (سُبَاتاً) : راحة. وقيل معناه قطعاً للأعمال والتصرّف. والسبَت القطع. وقيل معناه موت، لأن النومَ هو الموت الأصغر، ولذلك لا ينام أهل الجنة، والسبات: ما يغيّب العقل والحواسّ حتى يظن الناظر أنه ميت وما هو بميت، وقد دفن بعضهم بهذا الداء لظنّهم موته تم قام من قبره، ورجع لداره بسبب حفرِ نَبّاش عليه لأخْذِه أكفانه، ولذلك يؤخر الميت عن دفنه لئلا يكون من هذا القبيل. (سُجِّرَت) : أصله من سجرت التنورَ إذا أحميته، والبحار إذا ملأتها، والمعنى أن البحار تفجر بعضها إلى بعض حتى تعودَ بَحراً واحداً. وقيل إنها تملأ نارًا لتعذيب أهلها. وقيل تفرغ ماؤها فتيبس. والقول الأول والثاني أليق بالأصل. وقد قدمنا أنَّ البحارَ سبعة لقوله: (والبحر يَمدّه من بعده سبعة أَبحر) : بحر طبرستان، وبحر كرمان، وبحر عمان، وبحر القلزم، وبحر هندوستان، وبحر الروم، وبحر المغرب. (سعَرَت) : أوقدت وأحميت، يزَاد في حرها يوم القيامة على مَا هي عليه الآن، وهذه النار طيبت في الثلج سبعين سنة، ولولا ذلك لم ينتفع بها، فقِسْ حَرّها على ما يزاد فيها يوم القيامة، وإذا تأملت قوله: (ترمي بِشَرَر كالقَصر) ، تَفْهم منه أنها تأكل بعضها بعضاً من شدة غيظها، كما قال تعالى: (تَكَاد تَمَيَّز من الغَيْظ) : فأيُّ جسم يَقْوَى على هذه الأحوال لولا أن الله قَوَّاها، اللهم كن لنا حافظاً منها، فإنه لا طاقَة لنا عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 (سُطِحَتْ) . أي بُسطت، والمرادُ بذكر هذه الأشياء الاستدلال بقُدْرة الخالق على هذه المخلوقات. وقد قدمنا أن من العجائب ما قاله بعضُ المفسرين: إن من الأقاليم الستة عندهم ستة أشهر منها نهار وستة ليل خالص، وهذا مذكور في علم الهيئة، فانظره في حرف الميم. وقال قتادة: الدنيا أربعة عشر ألف فرسخ للسودان، وثمانية آلاف فرسخ للروم، وثلاثة آلاف فرسخ لفارس، وألف فرسخ للعرب، وألف فرسخ لأهل الترك والصين. وقال بعضهم: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، ثلاثمائة قفار، ومائة بِحَار، وثمانون لـ يأجوج ومأجوج، وثمانية عشر للسودان، وعامين للبيض. وفي الخبر أن عبد الله بن سلام أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد: مِنْ أي شيء خَلَق اللَهُ الأرض؟ قال: مِنْ زَبَد. قال: فمن أي شيء خلق الزبد؟ قال: من الْمَوْج. قال: فمن أي شيء خلق الموج؟ قال: خلق من البحر. قال: فمن أيِّ شيء خلق البحر؟ قال: من الظلمة. قال: يا محمد، فقرار الأرض من أي شيء؟ قال: بالجبال. قال: وقرار الجبال بأى شيء؟ قال: بجبل قاف. قال: وجبل قاف من أي شيء؟ قال: من زمردة خضراء وخضرة السماوات منه. قال: صدقت، فكم مسيرة علوه؟ قال: خمسمائة سنة. قال: صدقت فكم مسيره حواليه؟ قال: مسيرة ألف سنة. قال: صدقت. فهل وراء جَبل قاف شيء؟ قال: وراءه سبعون أرضاً من المسك. قال: فما وراءها؟ قال: سبعون أرضا من الذهب. قال: وما وراءها؟ قال سبعون أرضاً من الحديد. قال: فهل وراء هذه الأرضين شيء؟ قال عليه السلام: ومِنْ وراء هذه الأرضين سبعون ألف عالم، في كل عالم ملائكةٌ لا يَعْلَم عددَهم إلا الله، وهذه الملائكة لا يعلمهم آدم وبنوه ولا إبليس، وتسبيحهم سبْعُ كلمات: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. قال: صدقت، هل وراء هؤلاء شيء؟ قال: نعم، حية أدارت ذَنبها على هذه العوالم. قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن سكان الأرضين. قال عليه السلام: في الأرض السابعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 ملائكة، وفي السادسة إبليس وأعوانُه، وفي الخامسة الشياطين، وفي الرابعة الحيات، وفي الثالثة العقارب، وفي الثانية الجنّ، وفي الأولى الإنس قال: صدقت. فهذه الأرضون على أي شيء؟ قال: على الثور. قال: وكيف صفة الثور؟ قال: له أربعة آلاف رأس ما بين الرأسين مسيرة خمسمائة عام. قال: صدقتَ. أخبرني عن الصخرة على أي شيء هي؟ قال: على ظهر الحوت. قال: والحوت على أي شيء؟ قال: على بحر، والبحر قَعْره مسيرة ألف سنة. قال: صدقت. أخبرني عن ماء البحر على أي شيء؟ قال: على الريح. قال: والريح على أي شيء؟ قال: على الظلمة. قال: والظلمة على أي شيء؟ قال: على نار جهنم. قال: صدقت، ونار جهنم على أي شيء؟ قال: على الثرى. قال: صدقت. قال: فهل تحت الثرى شيء، قال عليه السلام: سؤالك هذا خطأ لا يعلم ما تحت الثرى إلا الله. فانظر تصديقَ عبد الله حَبْر بني إسرائيل والمسلمين لسيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لوجود ذلك كله في التورأة التي جعل الله فيها تبيان كل شيء وتفصيله. فإن قلت: أيّ فائدة في التحريض إلى ذكر الإبل وابتدائه بها في الآية، وهي أدنى من خَلْقِه السماوات والأرض، ومن المعلوم الاستدلال بأعظم المخلوقات أقوى؟ فالجواب لاعتناء العرب بها، إذ كانت معايشهم في الغالب منها في شُرْب ألبانها، وهي أكْثَر المواشي في بلادهم، وأيضاً لما في خَلْقها من الاعتبار، لأنها في خلقتها دالّة على وحدانية خالقها، شاهدةٌ بتدبير منشئها وحكمته، حيث خلقها للنهوض بالأثقال، وجعلها تَبْرك حيث تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت، وسخَّرها منقادةً لكل مَنْ يقودها بأزمتها، حتى حُكي أن فأرة قادت ناقةً لا تمَاري ضعيفاً، ولا تمانع صغيراً، وبَرَاها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه لما حدَّث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ ببلاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 الإبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وصلة إلى العقدة التي جعل الله في صَدْرِها جامعةً للأعصاب، ومثلها في أعالي ظهورها، كلَّ ذلك زيادة في قواها، وحين أراد بها أن تكونَ سفائن البر صبرها على احتمال العطش حتى أن إضمارها ليرتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابتٍ في البراري والمفاوِز مما لا يَرْعاه سائر الحيوان، فهي يسيرة المؤونة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإبل عزّ لأهلها، والغَنم بركة، والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة". وكان لشريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكنَاسة حتى نَنْطر إلى الإبل كيف خلقت. قال القرافي في فروقه: اعلم أنَّ النواهي تعتمد الفاسد، كما أنَّ الأوامر تعتمد المصالح، فما حرَّم الله تعالى شيئاً إلا لمفسدة، وما أمر بشيء إلا لمصلحة تحصل مِنْ تناوله. وقد أجْرى الله تعالى أن الأغذية تنقل الأخلاق لخلق الحيوان المغذى به حتى يقال: إن العرب لما أكثرَتْ من لحوم الإبل حصل عندها فَرْط الإيثار بأقواتها، لأن ذلك شأن الإبل، فيجوع الجميع من الإبل الأيامَ الكثيرة، ثم يوضع لها ما تأكله مجتمعةً فيضع كل منها فَمَه فيتناول منها حاجَته من غير مدَافعة عن ذلك الحبّ، ولا يطرد مَنْ يأكل معه، ولا تزال الإبل تأكل علفها كذلك بالرفق حتى يفنى جميعاً من غير مدافعة بعضها بعضاً، بل معْرِضة عن ذلك، وعن مقدار ما أكله غيرها ممن يجاوِرها. وغيرها من الحيوانات تَقْتَتل عند الأغذية على حَوْز الغذاء، وتمنع من يأكلها معها أن يتناول شيئاً، وذلك مشاهدٌ في السباع والكلاب والأغنام وغيرها. فانتقل ذلك لخلق الأعراب، فحصل عندهم من الإيثار للضيف ما لم يحصل عند غيرهم من الأمم، كما أنه حصل عندهم أيضاً الْحِقْد، لأن الجملَ يأخذ ثأرَه ممن آذاه بعد مدة طويلة، ولا يزول ذلك مِن خاطره حتى يقال: إن أربعاً أكلت أربعاً، فأورثهم أربعاً، أكلت العرب الإبل فأفادتها الكرم والحقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وأكلت السودان القِردة فأفادتها الرقص. وأكلت الفرنج الخنزير فأفادتها عدم الغيرة. وأكلت الترك الخيل فأفادتها القساوة. فإذا تقرر هذا فهذه السباع في غايةِ الظلم وقلَّة الرحمة تأكل الحيوانات من غير اكتراث واهتمام بها، بل تفسد تبيعها وتقطع لحومها، ولا تبالي بما تجده من الألم في تمزيق أعضائها، وتثب على ذلك وثوباً شديداً من غير توقّف لذلك في حاجة ولغير حاجة، وذلك لفَرْط ظلمها، وقلة الرحمة، تأكل الحيوانات من غير اكْتِراث، وذلك متوفّر في سباع الوحش أكثر منه في سباع الطير، فأين الأسد من العُقَاب والصقر، وأين النمر والفَهْد والسبع وغيرها من الحيوانات مِن الحدأ والغربان ونحوها، فلما عظمَت المفسدة والظلم في سِبَاع الوحش حرمت لئلا يتناولها بنو آدم فتصير أخلاقهم كذلك، ولا قَصرت مفسدة سباع الطير عن ذلك فمِن الفقهاء مَنْ نهض عنده ذلك للتحريم دَفْعاً لمفسدة سوءَ الأخلاق. وإن قلَّت: ومنهم من لم ينهض عنده ذلك للتحريم لخفّة أمره، فاقتصر به على الكراهة. (سرًّا) له معان: ضد العلانية. ومنه (الذين ينْفِقون أموالَهمْ بالليل والنهار سِرًّا وعَلاَنية) . قال: قال أبو هريرة: نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، لأنه تصدّق بِدرْهم في الليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سراً وبدرهم علانية. والنكاح، ومنه: (لا تواعِدوهنَّ سِرًّا) ، أي لا تواعدوهنَّ في العدة خيفةَ أن تتزوَّجوهن بعد العدة، وسر كل شيء خياره. (سِنَة) . هي ابتداء النوم، لا تفسد، كقول القائل: في عينه سنَةٌ وليس بنائم. فالسنَة في الرأس والنوم في القلب. (سِنِين) : جمع سَنَة، وهي عبارة عما أخذ الله بني إسرائيل من القَحْط والجدب لعلهم يرجعون، فلم يزدهم ذلك إلا طغياناً. (سيروا، وسيحوا) ، بمعنى واحد، وأمر اللهُ قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمخلوقات الله، والنظرِ فيمَنْ تقدَّم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الهالكين، وقد كانوا أشد منكم قوةً وأكثر جمعاً، وأخذ بعضُ الصوفية من هذا أنَّ مَنْ سافر للاعتبار في مخلوقاته ورؤية نباتِ الأرض وسَهْلها وجبالها وأنهارها فهو أَفضل من الإقامة، وكيف لا وقد قطع علائقَه بمعرفة عيوب نفسه بغربة ابتعاده، ألا ترى رفق الله بالمسافر، فرخص له القَصْر والجمع، والفِطْر في رمضان، ومزيد مدة مسح الخف، والتنفل راكباً، وترك الجمعة، وعدم قضاء المسافة لمضرات زوجة أخذه بالقرعة، واستجابة دعوته، وصحّ أنه ضيفُ الله ما لم يعصه، إلى غير ذلك من فوائد ذكرها أبو حامد في إحيائه. فإن قلت: قد قال في الأنعام: (ثم انظروا) ، وعطف في غيرها بالفاء فما الفرق بينهما؟ فالجواب أنه لما كانت (ثم) للتراخي، فأمروا باستقراء الديار وتأمّل الآثار، وفيها كثرة، فيقع ذلك سَيْرٌ بعد سيرٍ وزَمَان بعد زمان. وقد قدمنا في حرف الفاء أن معنى (ثم انظروا) إباحة السّير للتجارة وغيرها، فنبّه بـ (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح. وأما تحديد السياحة في الأرض بأربعة أشهر فهو الأجل الذي جعل الله لأمنِهم. واختلف في وقتها، فقيل هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. لأن السورةَ نزلت حينئذ، وذلك عام تسْعَة. وقيل: هي عيد الأضحى إلى تمام العشر من ربيع الآخر، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ، وذلكَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث تلك السنة أبا بكر الصديق فحجَّ بالناس، ثم بعث بعده عليٌّ بن أبي طالب فقرأ بعده سورة براءة يوم عرفة. وقيل يوم النحر. (سيءَ بهم) : أي أصابه سوء وضَجَر لما ظن أنهم من بني آدم وخاف عليهم من قومه. (سِجِّيل) : بالفارسية أوله حجارة وآخره طين، قاله مجاهد، يعني أنها كانت مثل الآجر المطبوخ. وقيل: هو من سجله إذا أرسله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 (سقَاية) : قد قدمنا أنه الصاع الذي كان يشرب به يوسف. وأما قوله تعالى: (أجعلتم سِقَايةَ الحاجِ وعِمَارة المسجد الحرام) فسببها أنَّ قوماً من قريش افتخروا بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام. فَبيَّن الله أن الجهاد أفضلُ من ذلك. ونزلت الآية في عليٍّ والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة - افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مَفَاتحه. وقال العباس: أنا صاحبُ السقاية. وقال علي: لقد أسْلمتُ قبل الناس وهاجرْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم. (سجلّ) ، بلغة الحبشة: الرجل عند ابن عباس. وعند ابن جني الكتاب، قال قوم: هو فارسي معرب. وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن أبي جعفر الباقر، قال: السجل ملك، وكان هاروت وماروتُ من أعوانه. وأخرج عن ابن عمر، قال السجل ملك. وأخرج عن السدِّى، قال: ملك موكّل بالصحف. ومعنى: (يوم تطْوِي السماء كطيِّ السجلِّ للكتب) أن اللهَ يْطوِي السماءَ كما يُطْوَى السجلُّ ليكتب فيه، أو لتصانَ الكتب التي فيه. وقد ضعَّف بعضهم كونه ملك، ولا أدري ما وَجْه تَضعيفه. وفيه ضعف. (سَنَا) : أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (سَنَا) بالنبطية الحَسَن. وقيل بالحبشية. وفي الحديث سَنَهْ سَنَهْ، أي حسنة بالحبشية. (سُخْريًّا) ، بضم السين من السخرة بمعنى التحول، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء، وقد يقال هزءاً بالضم، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين، على أن معنى الاستهزاء هنا أليق، لقوله: (وكنتم منهم تضحكون) ، وفي الزخرف استخدام بعضهم بعضاً أَليق، لقوله: (ورحمة رَبِّكَ خير مما يجمعون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 (سِدْرٍ مَخْضود) : قد قدمنا في حرف الميم أنه النبق الذي قطع شوكه. (سجِّين) : اسم علم منقول من صفة على وزن فعّيل للمبالغة. وقد قيل عظم الله أمره بقوله: (وما أدْرَاك ما سجِّين) ، ثم فسره بقوله بأنه كتاب مرقوم، أي مسطور بيِّن الكتابة، وهو كتابٌ جامع يكتب فيه أعمالُ الشياطين والكفار والفجَّار، وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس، لأنه سبب الْحَبْس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح في مكان والعذاب كالسجن، فقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأرض السفلى. وروي أنه في بئر هنالك. وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك. وحكى البِكالي بسند صحيح عن رجل كان بمكة انتهت حاله في العبادة إلى مقام عظيم، ويقصده أصحاب الأموال التي تركها التجار بمكة، ويسافرون، فاتفق أنَّ رجلاً ذا مال جليل أراد السفَر من مكة إلى أرض بعيدة فدلَّ على ذلك الرجل في أن يترك عنده وَدِيعة، ففعل، وسافر، وقدم على الرجل لما حضرته الوفاة فأوصى بكل ما كان عنده لأربابه من الودائع، فتوفي، فأخذ الناس ودائِعَهم سوى ذلك الرجل فإنه لم يوجد له ذِكر، فحار دليل الرجل، فدلَّ على رجل كبير القدر أنْ يخبره بقصته، قال: وكل من أخبره عن المتوفي بشيء كان خيراً، قال: فلما انتهيت إلى الثاني وأخبرته قال لي: يا بني، ما عندي ما أدلك عليه إلا أنك تأتي ليلةَ الجمعة لبئر زمزم آخر الليل وتنَادي فيه: يا فلان بن فلان، فإنْ أجابكَ سَلْه عن مالك فإنه يخبرك كيف اتفق فيه، فإن لم يجِبْك فافعل ذلك سبع ليال من ليالي الجمعة، فإن أجابك فحَسَن، وإلا فأخبرني. ففعلت، ولم يجبني أحد، فأخبرت الرجلَ بذلك، فقال: يا بني، ما أرى الرجل إلا من أهل النار، فتسافر إلى أرض حضرموت، وتأتي إلى بئر هنالك يقال له بئر برهُوت، فتنادي فيه باسم الرجل ليلةَ الأربعاء، فإنه يجيبك ضرورةً فاسأله يخبرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 قال: فسرتُ إلى الوضع فناديتُ أول ليلة باسم الرجل، فأجابني، فسألته عن مالي، فأخبرني أنه نسي أنْ يُوصِيَ بمكانه حيث دفنه، قال: ولما أخبرني بمكانه من محلّ سكناه قال لي: بالله عليك إلا ما بلغت رسالة لأختي ببلد كذا من مكان كذا، واسم زَوْجها وابنتها، وأمارات، وقل لها: تجعلني في حِل من كوني فارقْتها من غير طيب نَفْس منها، ووقع بيني وبينها مهاجرة، فتضرَّعْ لها وأرغبها لعل اللَهَ يُنقذني من هذا المقام، فإني عُوقِبْتُ من سبب قطعي لرحمها. وتمامُ الحكاية أنه وجد مالَه، واستعفي من الأخت لأخيها، وعاد الرجل إلى مكة، ونادى ليلة الجمعة باسمِ الرجل، فأجابه وجزاه خَيْرًا، وأخبره أنَّ الله قد غفر له. ومما يؤكّد صحة هذا أن الأرواحَ حيثما ذكر - ما ذكره القرطبي في سورة قد أفلح: اختلف في مقر الأرواح على أقوال ذكر فيها قولا إن بئر زمزم خاصّ بالسعداء وبئر برهوت خاص بالأشقياء. قلت: وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الأرواح على أحوال مختلفة، فمنها ما هو يعلق في ثمر الجنة، ومنها ما هو في قناديل معلقة تحت العرش، ومنها ما هو في كفالة آدم، ومنها ما هو في كفالة إبراهيم، ومنها ما هو في أفْنِيَة قبورها تردّ على مَنْ يسلِّم عليها، ومنها ما هو لتلقّي أرواح المؤمنين من إخوانهم يسألونهم عنهم، فيقول بعضهم لبعض: دعوه يستريح مِنْ هَمِّ الدنيا وغمومها. *** (السين) : حرف يختص بالمضارع ويخلِّصه للاستقبال، ويتنَزل منه منزلةَ الجزاء فلذا لم تعمل فيه. وذهب البصريون إلى أن مدةَ الاستقبال معه أضيق منها مع سوف، وعبارة المعربين فيها حرف تنفيس، ومعناها حرف توسع، لأنها نقلت المضارعَ من الزمن الضيّق - وهو الحال - إلى الزمن الواسع، وهو الاستقبال. وذكر بعضهم أنها قد تأتي للاستمرار لا لِلاسْتِقبال، كقوله: (ستَجِدون آخرين) . (سيقول السّفَهَاء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 لأن ذلك إنما نزل بعد قولهم: (ما وَلاَّهُمْ) فجاءت السينُ إعلاما بالاستمرار لا بالاستقبال. قال ابن هشام: وهذا لا يعرف النحويون، بل الاستمرار مستفاد من المضارع، والسين باقيةٌ على الاستقبال، إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل. قال: وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، ولم أر مَنْ فَهم وَجْه ذلك، ووجهه أنها تُفيد الوعد بحصول الفعل، فدخولُها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده وتثبيت معناه، وقد أومأ إلى ذلك في سورة البقرة، فقال: (فسيكفيكهم الله وهو السميعُ العليم) - معنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين. وصرح به في سورة براءة فقال في قوله: (أولئك سيرحمهم الله) ،: السين مفيدة وجودَ الرَّحْمة لا محالة، وهي تؤكد الوعد، كما تؤَكد الوعيد في قولك: " سأنتقم منك ". *** (سوف) : كالسين أو أوسع زماناً منها عند البصريين، لأن كثرةَ الحروف تدل على كثرة المعنى، ومرادفة عند غيرهم، وتنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو: (ولَسَوْف يعطِيكَ ربُّك فَتَرْضَى) . قال أبو حيان: وإنما امتنع إدخال اللام على السين كراهةَ توالي الحركات في " لَسَيُدَحْرَج " ثم طرد الباقي. قال ابن بابشاذ: والغالب على سوف استعمالها في الوعيد والتهديد، وعلى السين استعمالها في الوعد، وقد تستعمل سوف والسين في الوعيد. و (سوَاء) : تكون بمعنى مستَوٍ، فتقصر مع الكسر، نحو: (مكاناً سِوًى) ، وتمد مع الفتح نحو (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، وبمعنى الوسط فتمدّ مع الفتح نحو: (في سوَاءِ الجحيم) ، وبمعنى التمام نحو: (في أربعة أيام سواءً للسائلين) ، أي تماماً، ويجوز أن يكون منه: (واهدنا إلى سوَاء الصرَاط) ، ولم ترد في القرآن بمعنى غير. وقيل وردت، وجعل منه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 البرهان: (فقد ضلَّ سواءَ السبيل) ، وهو وَهْم، وأحسنُ منه قول الكلبي في قوله تعالى: (ولا أَنتَ مكانا سُوى) - إنها استثنائية، والمستثنى محذوف، أي مكاناً سوى هذا المكان، حكاه الكرماني في عجائبه، وقال: فيه بُعْد، لأنها لا تستعمل غير مضافة. *** (ساءَ) : فعل للذم لا يتصرف. (سبحان) : مصدر بمعنى التسبيح لازمَ النصب والإضافة إلى مفردٍ ظاهر. نحو: (سبحان الله) . (سبحان الذي أسرَى) ، أو مضمر، نحو: (سبحانه أن يكون له ولد) . (سبحانكَ لا علم لنا) ، وهو مما أُمِيتَ فعله. وفي العجائب للكرماني: من الغريب ما ذكره المفضّل أنه مصدر سبح إذا رفع صوته بالدعاء والذكر، وأنشد: قبح الله له وهوهَ تغلبَ ... كلَّما سَبَح الحجِيجُ وكبروا إهْلالا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (سبحان الله) - قال: نزَه الله نفسه عن السوء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 (حَرف الشين المعجمَة) (شُعيب) : قال ابن إسحاق: وهو ابن ميكاييل، كذا بخط الذهبي في اختصار المستدرك، وقال غيره: ابن ملكاين. ورأيتُ بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجن بن مدين بن إبراهيم الخليل، كان يقال له خطيب الأنبياء، وبُعث إلى أُمَّتين: مدين، وأصحاب الأيْكَه رسولا، وكان كثير الصلاة، وعَمِي في آخر عمره. وقد قدمنا قَوْلاً بأن مدين وأصحاب لَيْكة واحدة. قال ابن كثير: ويدل على ذلك أن كلًّا منهما وعظ بوفاءَ الكيل والميزان، فدلّ على أنهما واحد. واحتج الأول بما أخرجه السُّدِّي وعكرمة، قالا: لم يبْعَث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحةِ، ومرة إلى أصحاب لَيْكَة، فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابنُ عساكر في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو - مرفوعاً - أن قوم مدين وأصحاب ليْكة أُمتان بعث الله إليهما شعيباً، قال ابن كثير: وهو غريب. وفي سرِّ رَفْعِه نظر، قال: ومنهم من زعم أنه بُعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرَّس. (شعر) بالأمر يشعر، أي علمه. والشعور: العلم من طريق الجسم، ومنه: (وَمَا يَشْعُرون) ، أي لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. فإن قلت: هل العلم والشعور بمعنى واحد، لأنه يظهر من تكرير قوله: (لا يشعرون) أنهما بمعنيين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 والجواب ما قاله أبو الفضل ابن الخطيب: إنما قال ذلك في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) ، وفيما قبلها: (ول@كن لا يشعرون) ، لوجهين: أحدهما: أن الوفق على أن المؤمنين على الحق، وهم على الحقّ أمر عقلي نظري، وأما أنَّ النفاق وما فيه من البغي يفْضي إلى الفساد في الأرض فضروري، جار مجرى المحسوس. والثاني: أنه لما ذكر السفَه، وهو جهل، كان ذِكْرُ العلم أحسن طبافاً. والله أعلم. (شَكور) : من أسماء الله، لأنه المجازِي للعباد على أعمالهم بجزيل الثواب. وقيل: الْمُثْني على العباد. وأما الشكور من عباده فهو المصرِّفُ جوارِحَه فيما أمَر الله به عبادَه من الطاعة، وهو موجب للزيادة كما قدمنا. وقام - صلى الله عليه وسلم - حتىْ تفطَّرَتْ قدماه، وقال: أفلا أكونُ عبداً شَكوراً، فالشكرُ إذاً طاعة الله في كل نعمة بما هو الأولى مع رؤية مِنَّةِ الله تعالى! والحياء من تتَابع نِعمه واستعظام صغيرها، واعترافه بعجزه عن شكرها، وأنها وشكرها نعمة منه تعالى، وعدم ركونه إلى غير المنعم، وأعظم النعم حسن خلق، لأنه ما ضرّ أبداً كسوء خلق، ويجب العلم بما قَبّحه الشرع وبما حسَّنَه، وكل نِعَمِه فإنها منه تعالى إجماعاً، فالشّكْرُ بما يجب حَتْمٌ، وبما يستحبّ ندب، ولما كانت نِعَم الله تعالى مبذولة لم يشكر الجاهل إلا ما خصّه بقوله الحمد للهِ، ولو عمي مثلاً لتسخَّط وشكى، ولو عاد بصَره شكر. (شَرَوْا) : بمعنى باعوا، كقوله تعالى: (وشَرَوْه بِثَمن بَخْسٍ) . (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحرام) : تلقاءه، بلسان الحبشة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وكان - صلى الله عليه وسلم - يرفع رَأسه إلى السماء رجاء أن يُؤْمَر بالصلاة إلى الكعبة، لأنها قِبْلَة إبراهيم، أو كان يحِبُّ ذلك من أجل أنَّ اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، فقال لجبريل: وَدِدْتُ أن يُحوِّلَني الله إلى الكعبة، فإنها قِبْلة إبراهيم، فقال جبريل: إنما أنا عَبْد مثلك، وأنتَ كريم على ربك، فاسأل أنْتَ ربَّك، فَعرج جبريل إلى السماء، فأنزل الله الآية، فهي متأخرة تلاوة مقدمة معنى، لأنها رَأس القصة، وأوَّل ما نُسخ من أمور الشرع أمْرُ القبلة. فإن قلت: ما فائدة تكريرها ثلاث مرات من سورة البقر ة؟ فالجواب أنَّ الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: (وإنَّهُ لَلْحقّ من ربك) ، والثالثة لعلة، وهو قوله: (لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجةٌ) . وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى مكان لا ترى أيّ الحالتين فيه سواء. وقيل في الجواب غير هذا حذفناه لطوله. (شَهيدَيْنِ مِنْ رِجَالكم) : نَصّ في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظُ يتناولهم، ولذلك أجاز ابن حنبل شهادَتهم، ومنعها مالكٌ والشافعيّ لنَقص الرِّق، وإنما أمر الله بالإشهاد في البياعات حفْظاً للأموال، فشهادة الرجلين أو رجل وامرأتين جائزة في الأموال لا في غيرها بشرط العدالة، ومعناها اجتنابُ الذنوب الكبائر وتوقّي الصغائر مع المحافظة على المروءة. وروي أن آدم - صلى الله على نبينا وعليه وسلم - لما رأى ذريته عند خروجها من ظهره، فسأل الله عنهم، فقال له: هم الأنبياء من أولادك، فقال: يا رب، كم أعمارهم، فأخبره بِعُمْر كلِّ واحد، فوجد عمر داود أربعين، فقال: يا رب، قد وهبتُ له من عمري أربعين أخرى، فلما بقي من عمره هذه الأربعون أتَى ملَكُ الْمَوتِ ليقبِضَ رُوحه، فقال: إني لمْ أهب شيْئاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فقال الله له: أمرًا أحدثته بين أولادك، فمَنْ كان عليه حق أنكره، فلذلك أمره الله بالإشهاد، فقال: (واستَشْهدوا شهيْدَيْنِ مِنْ رِجالكم) . ولذلك وَكل على كل أحَدٍ من الآدميين مَلَكين شاهدين حتى لا يجدَ إلى الإنكار سبيلاً. فانطرْ هذا التَّأنيسَ العظيم لأمة هذا النبي الكريم. وقيل: إنه كان نور المصطفى في وَجْه آدم ينظر إليه، فقال: يا رب، هل بقي في ظهري من هذا النور شيء، قال: نور أصحابه. قال: يا رب، اجعله في بقية أصابعي، فجعل نور أبي بكر في الوسْطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، ونور عليٍّ في الإبهام (1) ، فكان آدم، - صلى الله عليه وسلم -، ينظر إلى تلك الأنوار ويعجبُ منها إلى أن أهْبَطه الله من الجنة، ومارَسَ أعمالَ الدنيا، فعادت الأنوارُ إلى ظهره. وأنْتَ يا عاصي، تمَارِسُ المعاصي والفواحش، ولا تخاف مِنْ زوال نورِ الإيمان من قَلْبك! ألم تسمع إلى قول ربك: (كلا بَلْ رَانَ على قلوبهم ما كانوا يكْسِبون) . فإن قلت: ما بال آدم لم يرد الرجوع إلى الجنة، بل رجع فيما وهب لداود. وكان قد بكى عليه بعد خروجه منها حتى لو أجْرِيت السفن في دموعه لجرت؟ والجواب أن آدم عليه السلام لما ذاق حلاوةَ النعمة في الجنة بكى على فِرَاقها، فلما خرج إلى الدنيا وكلفه الله فيها بالعبادة، لأنها محلُّ تكليف، وذاق حلاوته، اختار ما فيه رضَا الله على حظ النفس. وقيل: كَرِه الخروجَ من الجنة لطلب الراحة وخوف الموت، لأنَّ الله أخبره أنه لا موت فيها، ولما خرج إلى الدنيا، وعلم بمرارة الموت فيها لم يرِد الخروجَ منها، فإذا أبو بكر المطهر من الذنوب يخاف من هذه الأهوال، فكيف بكَ أيها الغريق لا تخاف من الفراق، وقَطْع حَبْل التلاق.   (1) كلام يفتقر إلى دليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 (شاوِرهم في الأمر) : أمَر الله رسولَه بمشاورة أصحابه في الحروب وغيرها لا في أحكام الشريعة. وقال ابن عباس: وشاوِرْهم في بعض الأمر، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يشاوِرهم في مواطن كثيرة، كيوم بَدْر، ويوم الأحزاب، والطائف، وغير ذلك. وينبغي للإنسان أن يشاوِرَ في أموره مَنْ يثِق منه بعقل صحيح وودٍّ صريح. ولا يستغني برأيه، فإن استغنى برأيه زلَّ. قال - صلى الله عليه وسلم -: " المشاورة تزيد الرجل ذَكاءً ". وقد ورد في هذا المعنى من الأحاديث والأخبار ما لا نطيل بذكره. والله الموفق. (شَجَر بَينَهم) ، أي اختلط. واختلفوا فيه، ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يَرَضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الآية والتي قبلها في المحاكمة بين المنافقين. فإن قلت: كثيراً ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسباباً متعددة فبأي السبب نأخذ؟ والجواب أن الاعتمادَ في ذلك أن تنظر إلى العبارة الواقعة، فإن عَبَّر أحدهم بقوله: نزلت في كذا، والآخر نزلت في كذا، وذكر أمراً آخر، فهذا يرَاد به التفسير لا ذِكر سببِ النزول، فلا منافاةَ بيبن قولهما إذا كان اللّفظ يتناولهما، وإن عبَّر واحذ بقوله نزلت في كذا، وصرح الآخر بذكر سببِ خلافه فهو المعتمد. وقد يكون للآية أسباب، وقد أفرد أسباب النزول بالتَّصنيفَ جماعة ٌ أقدمهم علي ابن المديني شيخ البخاري، وألَّف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن جعفر كتاباً مات عليه مسوّدة فلم يقف عليه كاملاً. وقد ألَّفتُ فيه كتاب النقول في أسباب النزول، فقِف عليه لعل قلبكَ يَميل. (شَنَآنُ قَوْمٍ) ، أي بغضهم وحِقْدهم. ومعنى الآية: لا يحملنَّكم عَدَاوة قوم على أن تعتَدوا عليهم مِنْ أجْل أنْ يَصدّوكم عن المسجد الحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أنْ يَسْتَأصِلوهم بالقتل، لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عامَ الحدَيبية، فنهاهم اللَه عن قَتْلهم لعلمه بأنهم يؤمنون. (شَهَادَةُ بَيْنِكم) : مرفوعٌ بالابتداء، وخبره اثْنَانِ. التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، أو شهادة " آخران " على أن تكون إذا بمنزلة حين لا تحتاج جواباً. ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدلُّ عليه ما تقدم قبلها، فإن المعنى إذا حضر أحدَكم الموتُ فينبغي أن يَشهد. وسبب نزول الآية أنَّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجلٌ آخر لتجارة، فَمرضَ في الطريق، فكتب كتاباً قَيَّدَ فيه كُلَّ ما معه، وجعله في متاعه، وأوصى الرجلين أن يؤَدِّيَا رَحْله لورثته، فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفَعا رَحْلَه إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه، وفقدوا منها أشياء قد كتبها. فسألوهما عنها، فقالا: لا ندري، هذا الذي قَبضْناه، فرفعوهما إلى رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -، فاستحلفهما، فبقي الأمْرُ مدةً، ثم عثر على إناءٍ عظيم من فضة، فقيلَ لمَنْ وجده عنده: مِنْ أين لكَ هذا، فقال: اشتريتُه مِن فلان وفلان - يعني الرجلين، فارتفع الأمرُ في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر رجلين مِنْ أولياء الميت أن يَحْلِفَا، فحلفا واستحقَّاه، فمعنى الآية: إذا حضر الموتُ أحداً في السفَر فليشْهد عَدْلَين بما معه، فإن وقعت رِيبةٌ في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا، ولا بَدَّلا، فإن عُثِر بعد ذلك على أنها كذَبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغَرِمَ الشاهدان ما ظهر عليهما. قال مكي: هذه الآية أشكلُ آية في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، وتلخيصها ما ذكرناه. (شك) : الشك تَجويز أمرين لا مَزِيَّة لأحدهما على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 الآخر، نحو: شَك الإنسان في الغيم غير المشف أنه سيمطر. وقيل التردد بين حكمين من غير تغليبِ لأحدهما على الآخر. (شَعَائر الله) : ما جعله الله عَلماَ لطاعته، واحدتها شَعِيرة، مثل الجرائم، يقول: لا تحلوه، وكان المشركون يحجّون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تغيروا عليهم ولا تصدوهم. وقيل: هي الْحَرَم، وإحلاله الصيد فيه. وقيل: هي ما يحرم على الحاج من النساء والصيد وغير ذلك، وإحلاله فِعْله. (شَاقّوا الله وَرسوله) . أي حاربوهما وصاروا في شقّ غير شقّ المؤمنين. (شرِّدْ بهم مَنْ خَلْفَهم) . أي افعل بهم من النِّقْمة ما يَزْجز غيرهم من القتل والتعذيب. ويقال: شرِّد بهم: سمّع بهم، بلغة قريش. (شَهراً) : قال الجواليقي: ذكر بعضُ أهل اللغة أنه بالسريانية. (شفَا جُرف) : طرف حُفْرة. وشَفَا الوادي والقبر شفيره. (شغَفَها حبًّا) : بَلغ شِغَافَ قلبها، وهو غِلافه. وقيل السويداء منه. وقيل: الشغاف داء يَصِل إلى القلب يقتل مَنْ تمكَّن منه. وقولهم فلان مشغوف بحبِّ فلانة إذا ذهب به الحبُّ أقصى الذهب. (شجرة ملعونة) : يعني شجرة الزَّقُّوم، وذلك أنَّ قريشاً لما سمعوا أنَّ في جهنم شجرةَ الزقوم سخِروا من ذلك، وقالوا: كيف تكون شجرةٌ في النار، والنار تحرق الشجر، فقال أبو جهل: ما أعْرِف الزَّقُّوم إلا التمر بالزبد، وهذا كلّه استهزاء وتهَكّم بنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فقد علموا قدْرةَ الله، وكيفَ لا وهمْ يُخْرِجون من الشجر الأخضر نارا ينتفعون بها. فإن قلت: أين لُعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 والجواب أنَّ المراد - لعنة آكلها. وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد والكراهية. لأنها في أصل الجحيم. (شاكِلَتِه) : ناحيته وطريقته التي تُشَاكله. ويدلّ على ذلك قوله: (فرَبّكم أعْلَم بمَنْ هُو أهْدَى سبيلاً) . وقيل شاكِلته طبيعته، وهو من الشكل، يقال: لسْتَ على شكلي وشاكلتي. (شَطَطًا) : أي جَوْرا وغلُوًّا، أي لو دعونا من دونه إلهاً لقُلْنا قولاً شَطَطا. (شَتَّى) ، أي أصنافاً مختلفة. (شَجَرة الْخُلْد) : هذا من قول إبليس لآدم وحوَّاء، وعدَهُما بأنَّ مَنْ أكل منها لا يموت. (شاطئ الْوَادِي) ، أي شَطّه. (شاخِصَةٌ) : من الشخوص، وهو إحْدَاد النظر من الخوف، لا تكاد تُبْصر. (شَجَرةٌ تَخْرجُ في أصْل الجحيم) : أي تنبت في قَعْر جهنّم، وترتفع أغصانُها إلى دركاتها. وشَبَّه طَلْعَها برؤُوس الشياطين مبالغة في قبْحه وكراهته، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها، وإن لم يَرَوها، ولذلك يقولون للقبيح النظر: وجه شيطان. وقيل رؤوس الشياطين شجرة معروفة باليمن. وقيل: هو صنف من الحيات. (شَوْباً مِنْ حَميم) . أي مزاجاً من حَمِيم حار. فإن قلت: لم تُعطف هذه الجمل بـ ثم؟ فالجواب مِن وجهين: أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 والمعنى أنهم يملأون البطون من شجرة الزقوم، وبعد ذلك يشربون الحميم. والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب، فالمعنى أنَّ شربهم للحميم أشد مما ذكر قبله. (شَكلِه) . أي مثله ونوعه. والمعنى أن الله تعالى نوع على أهل النار أنواعاً من العذاب. (شَرع لكمْ من الدين) : قد قدمنا أن الله تعالى فتح لنا بالدين الذي هو التوحيد والإيمان برسله وكتبه والدار الآخرة. (شَرِيعةٍ من الأمر) ، أي ملَّة ودين. (شطْأه) : قد قدمنا أنها فراخ السنبلة التي تَنْبت حول الأصول. ويقال بإسكان الطاء وفتحها دون مدٍّ، وفتحها مع المد، وهي لغات. (شَدِيدُ القُوَى) : هو جبريل، وقيل الله تعالى. والأول أرجح، لقوله: (ذِي قُوَّة عند العرش) . والقُوَى جمع قُوّة. (شَوى) : أطراف الجسد. وقيل: جلد الرأس. والمعنى أنَّ النار تنزعها ثم تعاد. (شراباً طهوراً) . أي ليس بِنَجس كخمر الدنيا. وقيل معناه أنه لم تَعْصرهُ الأقدام، وقيل معناه، لا يصير أذى. (شامخات) ، أي مرتفعات. ومنه يقال: شمخ بأنْفِه. (شفَق) : الحمرة التي تَبْقَى بعد غروب الشمس. وقال أبو حنيفة: هو البياض. وقيل: هو النهار كله. وهذا ضعيف، والأول هو المعروف عند الفقهاء، وأهْل اللغة. (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) : يحتمل الشاهد أن يكون من الشهادة على الأمر، أو يكون من معنى الحضور، وحذف المعمول، وتقديره مشهود عليه، أو مشهود به، أو مشهود فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وقد اضطرب الناسُ في تفسير الشاهد والمشهود اضطراباً عظيما، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا، يقابِلُها في المشهود اثنان وثلاثون قَولا: قيل الشاهد هو الله تعالى، لقوله: (وكفى بالله شهيدًا) . والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون الخلق، بمعنى أنه يشهد فيه، أي يحضر للحساب والجزَاء، أو تقع فيه الشهادةُ على الناس. وقيل إن الشاهد محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (ويكون الرسولُ عليكم شهيدًا) . والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته، لأنه يشهد عليهم، أو أعمالهم، لأنه يشهد بها، أو يوم القيامة، لأنه يشهد فيه، أي يحْضر، أو تَقَع فيه الشهادة على الأمة. وقيل الشاهد أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (وتكونوا شُهَداءَ على الناس) . والمشهود على هذا سائر الأمم، لأنهم يشهدون عليهم، أو أعمالهم، أو يوم القيامة. وقيل الشاهد عيسى عليه السلام، والمشهود أمَّتُه، لقوله: (وكُنت عليهم شهيداً ما دُمْتُ فيهم) . أو أعمالهم، أو يوم القيامة. وقيل إن الشاهد جميع الأنبياء، والمشهود أممهم، لأن كل نبيٍّ يشهد على أمته: أو يشهد بأعمالهم، أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه. وقيل إن الشاهد الملائكة الحفَظة. والمشهود على هذا أعمال الناس، لأن الملائكة يشهدون بها، أو يوم القيامة، أو صلاة الصبح، لقوله: (إنَّ قرآن الفَجْرِ كان مشهوداً) . وقيل إن الشاهد جميعُ الناس، لأنهم يشهدون يوم القيامة، لقوله: (وذلك يوم مشهود) . وقيل: الشاهد الجوارح، والمشهود عليه أصحابُها، لقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 أو الأعمال، لأن الجوارح تشهد بها، أو يوم القيامة لأن الشهادة تقع فيه. وقيل الشاهد الله والملائكة وأولو العلم، لقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) . والمشهود به الوحدانية. وقيل الشاهد جميع المخلوقات. والمشهود به وجودُ خالقها، وإثباتُ صفاتها من الحياة والقدرة وغير ذلك. وقيل الشاهد النجم، لما ورد في الحديث: " لا صلاةَ بعد العصر حتى يطلعَ الشاهد، وهو النجم ". والمشهود على هذا الليلُ والنهار، لأنَّ النجم يشهد بانقضاء النهار ودخولِ الليل. وقيل الشاهد الحجَر الأسود. والمشهود الناس الذين يحجُّون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عَرفة ". وذلكَ لأنَّ يوم الجمعة يشهد بالأعمال، ويوم عَرَفة يشهده جميع عظيم من الناس. وقيل الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقيل الشاهد يوم التَّرْوِية. والمشهود يوم عَرفة. وقيل الشاهد يوم الإثنين. والمشهود يوم الجمعة. (شَفْع) : يعني ثني، وأما قوله تعالى: (والشَّفْع والوتر) ، فقد كثرت فيه الأقاويل. وفي الحديث أن الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. وذلك لأن يوم النحر عاشر، فعدَدُهُ شفْع، ويوم عرفة تاسع، فعدَدُه وَتْر. وروي عنه عليه السلام أنها الصلوات، منها شفْع ووتر. وقيل الشفع التنفل بالصلاة مَثْنَى مَثْنَى، والوَتْر: الركعة الواحدة المعروفة. وقيل الشفع: العالَم، والوتر الله، لأنه واحد. وقيل الشفع آدم وحواء، والوَتْر الله تعالى. وقيل الشّفع الصفا والمروة، والوَتْر البيت الحرام. وقيل الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية، والوتر أبواب النار، لأنها سبعة. وقيل الشفع قِرَان الحج والوتْر إفراده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وقيل المراد الأعداد منها شَفْع ووتر، فهذه عشرة أقوال. وقيل الشفع الصلوات، والوتر المغرب. وقيل الشفع رجب وشعبان، والوتْر رمضان. وقيل الشَّفْع صفات الْخَلْق كالعجز والقدْرة، والعلم والجهل، والعزّ والذل. وقيل الشّفْع ما يتكرر من الفرائض، كالصلاة، والصوم. والوتر: ما لا يتكرر. وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها، وهما لغتان. (شُرَّعًا) : بضم الشين: ظاهرة قَرِيبة منهم. يقال شرع منا فلان، إذا دنا، وقِصَّتهم أن الله تعالى أكرم موسى عليه السلام بيوم السبت، وأمره أنْ يأمر بني إسرائيل بتعظيمه، ولا يشغلوا بشيء من أحوال الدنيا، وكانت بلدة يقال لها أيْلَة، وكان أهلها صيّادين يصطادون السمك، فأرسل الله تعالى إليهم داود عليه السلام، وامره ان يمنع الصيادين عن صَيْد السمك في يوم السبت، وأباح لهم في سائر الأيام، فبلَّغَ داود عليه السلام رسالةَ ربه، فلم يقبل اليهود، فابتلاهم اللَّهُ تعالى، فكانت تدخل سمكُ جميع الأبحر في بَحْرهم يوم السبت، ولا تدخل في سائر الأيام سمكةٌ قط، فوقع القحط والغلاء، وسقَط الله عليهم الجوع، فاضطروا فحفَروا حياضا وأنهاراً، وأسالوا الماءَ من الأنهار في الحياض يوم السبت، فإذا رأوا امتلاءَ الحياض أَلْقَوْا شباكهم يوم الجمعة بعد العصر، وأخرجوها يوم الأحد، فيأكلون ويبيعون، فنصحهم العلماء والحكماء الزّهاد بالكف عن صيدهم، فلم يمتنعوا. فلما لم يسمعوا مواعظهم خرجوا مِنْ ديارهم كي لا يُعاقَبوا معهم، فلما أراد الله عقوبتهم بعد إمهالهم سنتين أرسل إليهم رسولا لينصحهم ويعظهم، فلم يتعظوا، فيوماً من الأيام دخل العلماء في البلدة فلم يروا فيها أحداً من الناس، ففتحوا أبوابَ البيوت، ودخلوا فرأوا الذكور والإناث كلّهم قد مسخوا قردة، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) ، الآية، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول: مَنِ احتال في صيد السمك جزاؤه أنْ أحَوِّل صورته قِرَدة، فكيف بمن احتال في تحليل ما حرَّمْتُ من خَمر ورِبا، أفلا يخاف من تحويل صورته وإن رَفع اللَّهُ مَسْخَ الظاهر ببركة سيدنا ومولانا محمد الطاهر، فإنَّ مَسْخَ البواطن معلوم كما هو مشاهَدٌ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الشّرَط والْجَلاَوِزة وشِبْههم، تراهم طولَ يومهم يروعون الناس، ويغضبون في وجوههم، فهؤلاء مُسخوا على صورة الكلاب، ومنهم على صورة الخنازير، وهم أهل القَذَارة والبلادة، وهكذا تَتَبع بنظرك صفةَ كل شخص في خَلْقه تستدلّ بذلك على مسخ قلبه ما هو. وقد يبقى متحيِّرا لا مَسْخَ في قلبه، إِلا أن قلبه قد مات، وقد أخبر بذلك الصادقُ المصدوق في قوله: " يأتي على الناس زمان يموت فيه قلْبُ المرء كما يموت بَدَنُه، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم. لأن القلب إذا لم تبق فيه تلك الحرارةُ الغريزية حتى يَفْقَه مصالِحه فهو ميت، وقد يكون موته حقيقياً. والله أعلم. والقدرةُ صالحة أن يكون حسيًّا أو معنويا، فإنه إذا لم ينتفع بقلبه في النوع الذي أرِيد منه، وتوالَتْ عليه الشهواتُ حتى لا يَرَى إلا هي، فذلك مَوْتُه، لأن الفائدة التي في حياة القلب معدومة منه، ولذلك شبه - صلى الله عليه وسلم - الذاكر به بالْحَي، والغافل بالميت، واحتمل أن يكون موته حسيًّا حيث شاء الله كما ييبس عُضْو من أعضاء الشخص مثل يَده أو رِجله أو غيره من الجوارح، وباقي بَدنه صحيح القُدْرة صالح. وقد ذكر بعضُ شُرًاح البخاري عن بعض مَنْ سمع الحديث: أمَا يخشى الذي يرفع رَأسه قبل الإمام في الصلاة أن يحوِّل الله رأسه رَأسَ حمار! فاستَهْوَنه، ورفع رأسه امتحاناً بما صحَّ عن الصادق المصدوق، فحوَّل اللهُ رَأسَه رَأسَ حمار، وصار عجباً ينظر إليه. فإن قلت: قد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمان من المسخ، فكيف يمسخ هذا، وما معنى الحديث؟ فالجواب: أن معناه تحويل بعض الأجزاء من الإنسان لا مَسْخه كله، وهَبْ أنه مُسخ كله فهو أمَان في الغالب وفي جميع الأمة، وأما في بعض الأفراد فممكن والله أعلم. وإذا تأمَّلْتَ إخبارَ الله لرسوله في أصحاب السبت في مواضع تَجد ذلك تحريضاً وتأكيداً للنهي عن ارتكاب ما حَرّم الله ورسوله، أوّلها قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 (إنما جُعِل السَّبْتُ على الذين اختلَفُوا فيه) . (ولقد علمْتُم الذينَ اعتَدَوْا منكم في السَّبت) . (أو نَلْعَنَهُمْ كما لَعَنَّا أصحابَ السَّبْت) . (قلْنَا لهم لا تَعْدُوا في السبت) . (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) . وافترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت، وفرقة سكتت واعتزلت ولم تَنْهَ ولم تعْص، وإن هذه الفرقة لما رأت مهاجرةَ الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تَعِظُونَ قوماً يُريد اللَهُ أنْ يُهلكهم أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله، ولعلهم يتقون: فهلكت الفِرقةُ العاصية، ونَجَت الناهية، واختلف في الثالثة، هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتَرْكها العصيان. فانظر يا محمدي، كيف يكون حالُك لولا أنَّ الله مَنَّ عليك بني كريم شفع لك وفيك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أمّا حياتي فأسنُّ لكم وأشرع لكم الشرائع، وأما مماتي فإن ذنوبكم تُعْرَضُ عليَّ، فما كان منها سيئاً استغفرتُ الله لكم ". فأكثِر من الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله في كل وقت وحين. (شُقَّة) ، أى طريق ومسافة. (شُعُوب) . جمع شَعب بفتح الشين، وهو أعظمِ من القبيلة، وتحته القبيلة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وهم القرابة الأدْنون، فمُضَر وربيعة وأمثالهما شعوب، وقريش قبيلة، وبنو عبد مناف، وبنو هاشم فخذ - ويقال بإسكان الخاء فَرْقاً بينه وبين الجارحة، وبنو عبد المطلب فصيلة. وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل. (شُوَاظ) : لهب نار. وقرئ بكسر الشين، وهما لغتان. (شُهُب) : جمع شهاب، وهو كل متوقد مضيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 فإن قلت: ما فائدة تكريره في سورة الجن في موضع واحد؟ والجواب: أنه كرره لاختلاف اللفظ، ووصف الحرس بالشديد، وهو مفرد، لأنه يحتمل أن يُريد به الملائكة الحراس أو النجوم الحارسة. (شيث) : ولد آدم عليه السلام. (شيبا) ، وهو في اللغة الأبيض الرأس، وقوله تعالى: (لا شِيَةَ) ، أي لا لون فيها غير الصفرة، وهو من وَشَى، ففاؤه واو محذوفة كعدة. (شِقَاق) : عداوة وقصد المخالفة وقد قدمنا أن تنكير العزة والشقاق للدلالة على شدتهما وتفاقم الكفار فيهما. (شِرْعَة) ، أي شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال إن شريعة مَنْ قبلنا في الفروع ليست شرعاً لنا. وقيل الشرعة معناها ابتداء الطريق. (شِيَعا) : جمع شيعة، أي متفرقين، كل فرقة تتشيَّع لمذهبها. وقوله: (في شِيَع الأوَّلين) ، أي أمَم الأولين. (شِقَ الأنْفس) ، أي مشقَّتها. (شِرْذِمة) . أي طائفة من الناس، وفي هذا احتقار لهم، على أنا قدمنا أنهم كانوا ستمائة ألف، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير. (شِرْب) : نصيب. (شِيعته) : أعوانه، مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يُشعل به النار ويعين الحطب الكبار على اتّقاد النار. وقيل الشيعة الأتباع من قولهم: شاعك كذا وكذا إذا اتبعك. (شِعْرَى) : نجم في السماء، ويسمى كلب الحيار، وهما شِعرْيَان: الغُمَيْصَاء، والْعَبُور. وقد قدمنا تخصيصهما بالذكر لعبادةِ بعْض العرب لهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 (حرف الهاء) (هارون) : شقيق موسى - عليهما السلام. وقيل لأمه فقط، حكاهما الكرماني في عجائبه. كان أطول منه، فصيحاً جدًّا، مات قبل موسى، وكان وُلد قبله بسنة. وفي بعض أحاديث الإسراء: " صعدت فيه إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون ونصفُ لحيته بيضاء ونصفها أسود، تكاد لحيته تضرب سُرَّته من طولها. فقلت: يا جبريل، مَنْ هذا، قال: المحب في قومه هارون بن عمران ". وذكر ابن مسكويه أن معنى هارون بالعبرانية المحب. وقال ابن عباس: إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء، فالماء بالقبطية مُو، والشجر سا. وفي الصحيح أنه وصفه بآدم طوال. فإن قلت: ما فائدة لُقْيَاه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهل كان لقاؤه لأرواحهم، أو للأجساد مع الأرواح؟ فالجواب أن الله أسرى بأجسادهم ليراهُم - صلى الله عليه وسلم -، ويؤم بهم، ويتشرفون برؤيته. ولما رأوا فَضْلَه وتَعْظيمَه في كتبهم طلبوا من الله أنْ يُريهم وجهه الكريم. ولذا طلب موسى وعيسى أن يكونا من أمته. (هود) : له معنيان: بمعنى اليهود، ومنه: (كانوا هُودا) . وهاد يهود في اللغة إذا تاب. (والَّذِين هَادُوا) ، أي تهودوا، وصاروا يهوداً، من قوله: (هُدْنَا إليكَ) . وهود: اسْمُ في قَوْم عاد، كان أشبهَ الناس بآدم. وقال ابن مسعود: كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 رجلاً جَلْداً. أخرجه في المستدرك. وقال ابن هشام: اسمه عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقال غيره: الراجح أنه هود بن عبد اللَه بن رباح بن داود بن عاد ابن عوص بن آدم بن سام بن نوح. قال الجواليقي: هود: اليهود، أعجمي. وحكى شيذلة وغيره أن معنى (هدْنا إليْك) تبْنَا إليك - بالعبرانية. (هَدْي) : بالهاء مفتوحة وإسكان الدال: ما يُهْدَى إلى الكعبة من البهائم، واحدته هَدْي وهَدْية. (هاجروا) : تركوا بلادهم وأموالهم حبًّا للَه ورسوله. وفي الحديث: "المهاجِرُ مَنْ هجر ما نهى الله عنه". (هار) : مقلوب من هائر، أي ساقط، يقال هار البناء وانْهَار وتَهَوَّر: سقط. (هَمّت طائفةٌ منهم أنْ يُضِلُّوك) : هم الذين جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَرئوا ابْنَ الأبَيْرق من السرقة، وهذه الآيات وإن كانت إنما نزلت بسبب سرقة لبعض الأنصار فهيَ أيضاً تتضمن أحكاماً غيرها. (هَيْتَ لَكَ) : أي هَلمَّ بالنبطية. وقال الحسن: هي بالسريانية. وقال عكرمة: بالحورانية. وقال أبو زيد الأنصاري: هي بالعبرانية، وأصلها هيتلح، أي تعاله. وقرئ بفتح الهاء وضمها وكسرها. والمعنى في ذلك كلّه واحد، وحركة التاء للبناء. وأما من قرأه بالهمز فهو فعل من تهيّأت، كقولك: جئْت. لَمَّا قالت له هلم أَنا لكَ وأنت لي، فقال لها يوسف: أنت لزوجك وأنا لربي. وكذلك أنت يا محمديّ يَدَّعِي إبليس أنكَ له ليدخلك معه في النار، فيقول: تعال، أنت للنار وهو للعزيز الجبار، فعليك بشُكرِ مولاك، والرجوع إليه. ليكون لك، ألا تَرى زليخا غلقت الأبواب كلَّها عليه لتصيب الخلوة معه. فكذلك أنت غلق العلائق كلها من قلبك لتكونَ له خاصة، ولا يقدر إبليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 على الدخول فيه، لأنه لا يدخل إلا بيتاً ليس فيه حب المولى، وأما البيت الذي هو مشغوف بخالقه، فكيف يدخل فيه، والله يقول: (إنَّ عِبَادِي ليس لكَ عَليهم سُلْطان) . وقال: (لا تدخلوا بيوتاً غَيْرَ بيوتكم حتى تَسْتَأنِسوا) . ولا تغتر بحبّ وَليّ أو عالم، وتطمع أنْ يَشْفعَ فيك أَحد، فإن سَيِّدَ الأولين والآخرين لم يقدر على هداية أعمامه أو أحد من خَلْقه. فكيف بغيره؟ وإذا كنت معه سبحانه فلا يقدر إبليس على إغوائك. (وهَمَّ بها) : الضمير لزليخا، وقد أكثر الناسُ الكلامَ في هذه الآية وألَّفوا فيها تواليف، فلا تأخذ منها ما ذكره بعضهم من حل تكته وقعوده بين رِجليْها وغيره، بل هَمَّ بها إنما كانت خطرة له ولم يعزم، بل أقلع في الحال حتى محاها من قلبه لَمّا رأى برْهَانَ ربه. وقد قدمنا أنَّ البرهان كان أنه رأى في الحائط مكتوب: (ولا تقْرَبوا الزنى) . وقيل تكلم صبي في المهد: يا يوسف، إن الله مطَّلِع عليك وإن لم تره. وقيل: رأى صورةَ يعقوب على الجدار عاضًّا على أنامله من الغضب. وقيل: إن زليخا ستَرَتْ صنما لها بديباج، فقال لها يوسف: لِمَ فعلت هذا، فقالت: أنا أستحي منه. فقال: أنت تستحين من صنم لا عَقْل له، فكيف لا أستحي أنا ممن خلقني! وقيل غير هذا. والصحيح أن اللَهَ عصمه من المخالفة، واستغفر مما خطر له من الهم، فكتبت له حسنة. ويقال: إن ثلاثة من الأنبياء رأوا ثلاثةَ أشياء، فازداد لهم بها ثلاثة: أولهم إبراهيم رأى ملكوتَ السماوات والأرض فازداد له يقيناً. ويوسف رأى برهان ربه فازداد عصمة. ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أراه الله الإسراءَ فازداد به رؤية المولى. قال تعالى: (ما كذبَ الفؤَاد ما رأى) . (هذا للَه بِزَعْمِهم) . أي بدَعْوَاهم وقولهم من غير دليل ولا شَرع. وأكْثَر ما يقال الزَّعْم في الكذب. وقرئ بضم الزاي وفتحها، وهما لغتان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قال السهيلي: هم حيٌّ من خَوْلان يقال لهم الأديم كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيباً لله ونصيباً لأصنامهم. (هَوَاء) - بالمد: منخرمة لا تعِي شيئاً من شدة الجزَع. فشبهها بالهواء في تفرغه من الأشياء. ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم، وقد قدمنا قول الزمخشري إن البيانيين يجعلونه استعارة، وإنه إشارة إلى ذهاب أفئدتهم وعدم انتفاعهم بها. وهوى النفس - بالقصر: ما تحبه وتميل إليه. ومنه: (ونَهَى النَّفْسَ عن الهوَى) . والفعل منه بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع. وهَوَى يَهْوي، بالفتح في الماضي والكسر في المضارع: وقع من علو. ويقال أيضاً بمعنى الميل. ومنه: (أفئدَة من الناسِ تَهْوِي إليهم) . والهواء، بالمد والهمز: ما بين السماء والأرض. (هؤلاء وهؤلاء من عَطَاءِ رَبِّكَ) : الإشارة إلى الفريقين المتقدمين. والعطاء: هو رزق الدنيا. وقيل: من الطاعات لمن أراد الآخرة، ومن المعاصي لمن أراد الدنيا. والأول أظهر. (هَشِيماً) : متفتّتا، ومنه سمي الرجل هاشماً. (هَدًّا) ، أي انهداماً وسقوطاً إلى أسفل، وهو قَعْر جهنم. (هَدَى) ، أي هدَى خَلْقَه إلى التوصل إلى العلم والهداية، فضلاً منه وإحساناً. (همْسًا) : هو الصوت الخفي، ويعني به صوت الأقدام إلى المحشر. (هَضمًا) ، أي بَخْساً ونَقْصاً لحسناته، يقال هضمه واهتضمه، إذا نقصه حقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 (هاتوا بُرْهَانكم) : تعجيز لهم، وهو من هاتَى يُهاتي، ولم يُنطق به. وقيل: أصله أتوا، وأبدل من الهمزة هاء. (هذا ذِكْر مَنْ مَعِيَ وذِكْر مَنْ قَبْلي) : رد على المشركين. والمعنى هذا الكتابُ الذي مَعِي والكتب التي من قبلي ليس فيها ما يقتضي الإشراكَ بالله تعالى، بل كلّها متفقة على التوحيد. (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) : لما كان الذكر بمدح وبذم ذكروا أن إبراهيم يذكر آلهتكم بالذم، دلت على ذلك قرينة الحال، وهم بذكر الرحمن في موضع الحال. أي كَيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن، فهو أحقّ بالملامة. وقيل: معنى بِذِكْر الرحمن تسمية بهذا الاسم، لأنهم أنكروها، والأول أغرق في ضلالهم. (هذه أُمَّتكم) . أي مِلَّتكم ملةٌ واحدة، وهذا خطاب للناس كافة أو المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم. (هامِدَة) : يعني لا ثبات معها. (همزَاتِ الشيَاطِين) : يعني حركاتهم ونزغاتهم. وقيل جنونهم، والأول أعم. (هبَاءً) : هي الأجرام التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على وضع ضَيّق كالكوة. وقد قدمنا أنه النور المتفرق، ومنه: (هَبَاءً مُنْبَثًّا) ، وهو ما سطع بيْن سنابك الخيل، من الْهَبْوَة، وهي الغبار. (هَوناً) : رُوَيداً، يعني أنهم يمشون بحلم ووَقار. ويحتمل أن يكون وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم، وعَبَّر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم وحياتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 (هَضِيم) ، أي ليّن رطب. يعني أن طَلْعها يثمر ويرطب. (هؤلاء الذين أغْوَيْنَا) : الإشارة إلى أتباعهم من الضعفاء. فإن قلت: كيف الجمع بِين قولهم: (أغويناهم) وبين قولهم: (تَبَرّأنَا إليك) ، فإنهم اعترفوا بإغوائهم وتبرءوا مع ذلك منهم؟ فالجواب أن إغواءهم لهم هو قولهم لهم بالشرك. والمعنى أنَّا حملناهم على الشرْك كما حملنا أنْفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدونهم، وإنما كانوا يعبدون غيرهم من الأصنام وغيرها، فتبرأنَا إليكَ عن عبادتهم لها، فتحصّل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغْوَوا الضعفاء وتبرَّءُوا من أن يكونوا هم آلهتهم، فلا تناقض في الكلام. وقد قيل في الآية غير هذا مما هو تكلّف بعيد. (هل لكم مِمَّا ملكت أيْمانُكم) : هذا مثل مضروب، معناه أنكم أيها الناس لا يشارِككم عبيدكم في أموالكم، ولا يَسْعَوْنَ معكم في أحوالكم، فكذلك الله لا يشارِكه عَبِيده في ملكه، ولا يُمَاثِلُه أحد في ربوبيته. فذكر حرف الاستفهام، ومعناه التقرير على النفي، ودخل فيه قوله: (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أي لستم فيه سواء مع عبيدكم، ولستم تخافونهم كما تَخَافون الأحرار مثلكم، لأن العبيد عندكم أقل من ذلك. (هَلمَّ إلينا) . هذا من قول المنافقين الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد، كانوا يقولون لقرابتهم وأخِلاّئهم من المنافقين: هَلمَّ إلى الجلوس معنا بالمدينة وتَرْك القِتال. (هل يَنْظرونَ إلاَّ تَأوِيله) . أي عاقبة أمره وما يؤول إليه من ظهور ما نطق من الوَعْد والوعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) : جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام تنبيهاً للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة التي ينبغي أنْ يلقى البال لها. (هذا أَخي له تسْع وتسعون نَعْجَةً) : هذا من حكاية كلاَم أحَدِ الخصمين. والأخوة هنا أخوة الدين. ومنه الحديث: "إذا ضرب أحدكم أخاهَ فليجتنب الوَجْه". والنّعجَة تقَعُ في اللغة على أنثى بَقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وهي هنا عبارة عن المرأة (1) ، وكأنه لم يرِد الإفصاح بقصة داود مع امرأة أوريا، وإنما ضرب له المثل لينتبه. (هذا ذكر) الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذِكرِ الأنبياء وقيل الإشارة إلى القرآن بجملته. والأول أظهر، فكأن قوله (هذا ذكر) ختام للكلام المتقدم، ثم شرع بعده في كلامٍ آخر كما يتم المؤلف باباً ثم يقول هذا باب، ثم يشرع في آخر. (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) ، تقديره: الأمْر هذا. لما تمِ ذِكْر أهل الجنة ختمه بقوله: (هذا) ، ثم ابتدأ وَصْف أهل النار، ويعني بالطَاغِين الكفار. (هذا فلْيَذُوقوه حَمِيمٌ) : (هذا) مبتدأ وخبره (حميم) ، و (فليذوقوه) اعتراض بينهما. (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) : هذه الآية تدل على رحمانية الله وتَرد على المشركين في عبادتهم الأَصنام. وسبَبها أنهم خوَّفوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - منها فنزلت الآية مبينةً أنهم لا قدرة لهم. فإن قلت: كيف قال كاشفات وممْسكات بالتأنيث؟ فالجواب: أنها لا تعقل فعامَلَها معاملةَ المؤنث. وأيضاً ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عَبدها.   (1) كلام لا يصح، ولا يصح ما ترتَّب عليه من قصص وأباطيل وإسرائيليات منكرة ذُكرت في شأن نبيِّ الله داوود - عليه السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 (هَذه أبداً) : هو قَوْلُ الوليد بن المغيرة، وأنكر بقوله أنْ يكونَ الله تفضَّل عليه. وهذا إنكار للبعث، لقوله بعده: (وما أظنّ الساعةَ قائمة) . ومعناه إن بعثت على زعمكم فلي الجنة، وهذا تَخَرّص وتكبر من الوليد. (هذه الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) : هذا من قول فرعون، ويعني بالأنهار الخلجان الكبار الخارجة من تحت النيل، وكانت تجري تحت قصوره. وقد قدمنا أنها أنهار الإسكندرية ودمياط وتنيس، وطولون. (هذا إِفْكٌ قَدِيم) : هذا من قول مَنْ لم يَهْتَدِ بالقرآن، ووصفوه بالقِدَم لأنه قد قيل قديماً. فإن قلت: كيف عَمِل (فسيقُولون) في (إذ) وهي للماضي، والعامل مستقبل؟ فالجواب أنَّ العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به من عنادهم فسيقولون، قال ذلك الزمخشري. ويظهر لي أنَّ إذْ هنا بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب، ومنه: (ولن يَنْفَعكم اليومَ إذْ ظَلمتم) . (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) : خاطب بها المنافقين المذكورين، وخرج من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أَبلغ في التوبيخ، ومعناها هل يُتَوقَّع منكم إلا فساد في الأرض، وقَطْعُ الأرحام. (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي صرتم ولاةً على الناس، وصار الأمْر لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية. وقيل معناه: أعرضتم عن الإسلام. (ها أنتم هؤلاء) : منصوب على التخصيص، أَو منادى: ناداهم إلى الإيمان بالله والإنفاق في سبيله. (هذَا ما لدَيَّ عَتِيد) : قد قدمنا أنه مِنْ قول القَرِين، ومعناه هذا الإنسان حاضر لدي قد أَعْتَدْتُه ويسَّرْته لجهنم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 (هل مِنْ مزيد) : اختلف هل تتككم جهنم بهذا، أو مجاز بلسان الحال. والأظهر أَنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومَعْنى طلب زيادنها أنها لم تمتَلئ. وقيل معناه لا مزيد، أَي ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت. والأول أظهر وأرجح، لما ورد في الحديث: " لا تزال جهنّم يُلْقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع الجبَّار فيها قَدَمه ". أي خَلْقاً سماه القَدم، أو قدرته، لأن الجارحة تستحيل في حق الله سبحانه. وقيل: إن الخطاب من خزَنتها. والمزيدُ يحتمل أن يكون مصدراً كالمحيض، أو اسم مفعول، فإن كان مصدراً فوَزْنُه مفعل، وإن كان اسم مفعول فوزنه مفعول. (هذا ما تُوعدون لكل أوابٍ حفيظ) : هذا من كلام الله يحتمل أن يقوله لأهل الجنة عند إزْلاَفِها، كما قال في الآية الأخرى: (هذا يومكم الذي كنْتم توعَدون) . ويحتمل أن يكون خطاباً لهذه الأمة. والأوَّاب الحفيظ: هو الذي يمتثل أمْرَ الله، ويترك نَوَاهيه. (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) : المراد بهذا الاستفهام التفخيم والتهويل، ووصفَهم بالْمكْرَمين لأن الملائكة مكرمون، أو لأنه خدمهم بنفسه أَو أخْدَمهم امرأته. (هذا نَذِير من النّذُر الأولى) : قد قدمنا أنَّ الإشارةَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرف النون. (هَمًاز) : هو الذي يعيبُ الناسَ. وأصل الهمْز الغَمْز. وقيل لبعض العرب: الفأرة تهمز، فقال: السنور يهمزها. (هل ترى لهم مِنْ باقِيَة) ، أي من بقية. وقيل: من فئة باقية. وقيل: إنه مصدر بمعنى البقاء. (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) : هاؤم اسم فعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 قال ابن عطية: تعالوا. وقال الزمخشري: هو صوت يُفْهم منه معنى خذْ. و (كتابيه) مفعول يطلبه (هاؤم) ، و (اقرَءُوا) من طريق المعنى، تقديره هاؤم كتابي اقرءوا كتابي، ثم حذف الأول لدلالة الأخير عليه، وعمل فيه العامل الثاني، وهو (اقرَءُوا) عند البصريين. والعامل الأول وهو (هاؤم) عند الكوفيين. والدليلُ على صحة قول البصريين أنه لو أعمل الأول لقال اقرءوه. والهاء في (كتابيه للوقف) ، وكذلك في (حسابيه) ، و (ماليه) . و (سلطانيه) ، وكان الأصل أنْ تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف. وقد أسقطها في الوصل بعضُهم. ومعنى الآية أن العبد الذي يُعطَى كتابه بيمينه يقول للناس: اقْرَءُوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه. (هلك عني سلطانيه) : هذا مِنْ قول الشقيّ، يقول: زال عني ملكي وقدْرتي حين يعاين العذابَ. وقيل: ذهبت عني حجّتي. ومنه قوله: (ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلْطان) . (هَلُوعًا) : قد فسره، وهو قوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) . وذكر الله ذلك على وَجْه الذم لهذا الخلق، ولذلك استثنى منه الْمصَلِّين، لأن صلاتهم تَخضُّهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شَرّها ولا يبخلون بخيرها. (هَزْل) : لعب ولهو، يعني أن هذا القرآن جدّ كله لا هَزْل فيه. (هُدًى) : بضم الهاء: له سبعة وعشرون وجهاً: بمعنى الثبات: (اهْدِنا الصر اطَ المستقيم) . والبيان: (أولئك على هدًى من ربهم) . والدين: (إنَّ الْهدَى هُدَى الله) . والإيمان: (ويزيد اللَّهُ الذين اهتدوا هدى) . والدعاء: (ولكل قومٍ هاد) ، (وجعلناهم أئمةً يَهْدون بأمرنا) . وبمعنى الرسل والكتاب: (فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هُدًى) . والمعرفة: (وبالنجم هم يَهتَدون) ا. والنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وبمعنى القرآن: (ولقد جاءهم من رَبِّهم الهدَى) . والتوراة: (ولقد آتينا موسى الهدى) . والاسترجاع: (وأولئك هم الْمهْتَدون) . والحجة: (ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ) . ثم قال بعده: (والله لا يَهْدي القوم الظالمين) ، أي لا يهديهم حجة. والتوحيد: (نتبع الْهدَى معك نتَخَطّف من أرضنا) . والسنة: (فبِهدَاهم اقْتَدِه) . (وإنا على آثارهم مهْتَدون) . والإصلاح (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) . والإلهام: (أَعطى كل شيء خَلْقَة ثم هَدى) ، أي ألْهم المعايش. والتوبة: (إنا هُدْنا إليك) . والإرشاد: (أنْ يَهْديني سواءَ السبيل) . (هُون) : هَوَان وذِلة. (هجر) : من الهجران. وبمعنى الْفجر أيضاً، وهو فحش الكلام، وقد يقال في هذا أهجر بالألف. (همْ نَجْوى) : الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالآخرة، يعني أنهم جماعة يتناجَوْنَ، فأخبر الله أنه يعلم ما يتناجون به. (هنالك الوَلاَيةِ للَهِ الحقِّ) : ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصراً، أو يكون في موضع خبر الولاية، وهي بكسر الواو بمعنى الرياسة والملك، وبفتحها من الموالاة والمودة. (هُدُوا إلى الطيِّبِ من القولِ) : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، واللفظ أعمَّ من ذلك، (وصراط الحميد) : صر اط الله، فالحميد: اسْم الله. ويحتمل ان يريد الصراط الحميد، وأضاف الصفة إلى الموصوف، كقوله: مسجد الجامع. (هو أُذُن) . أي يسمع كلّ ما يقال له ويصدّقه، وكانوا يؤْذون بهذا القول سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 (هُمزَة) : هو على الجملة الذي يَعِيبُ الناس ويأكل أَعراضهم، واشتقاقه من الهمْز واللّمْز، وصيغة فُعَلَة للمبالغة. واختلف في الفرق بين الكلمتين، فقيل: الْهَمْز في الحضور، واللمز في الغيبة، وقيل بالعكس. وقيل الهمز بالعين واليد، واللمز باللسان. وقيل هما سواء. ونزلت السورةُ في الأخنس بن شَرِيق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس. ولَفْظُها مع ذلك على العموم في كلّ مَنِ اتّصف بهذه الصفات. (الهاء) : اسم ضمير غائب يستعمل في الجر والنصب، نحو: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) . وحرف للغيبة، وهو اللاحق لإيَّا. وللسكت، نحو: (ماهِيَهْ) ، (كِتَابيهْ) ، (حِسَابيه) ، (ماليه) ، (سُلْطَانِيَه) . (لم يَتَسَنّهْ) . وقرئ بها في أواخرها آي الجمع، كما تقدم وَقْفا. (ها) ترِد اسْمَ فعل بمعنى خذ، ويجوز مَدُّ ألفه فيتصرف حينئذ للمثنى والجمع، نحو: (هاؤُم اقرءوا كتابيه) . وَاسْماً ضميراً للمؤنث، نحو (فأَلْهَمَهَا فجورَها وتَقْواها) . وحرف تنبيه، فتدخل على الإشارة، نحو هؤلاء، (هذان خَصْمَان) . ها هنا. وعلى ضمير الرفع، نحو: (ها أنتم أُوْلاء) . وعلى نعت أي في النداء، نحو: (يا أيها الناس) . ويجوز في لغة أسد حذف ألف هذه وضمها إتباعاً، وعليه قراءة: (أَيُّهُ الثقلان) (1) . (هات) : فعل أمْر لا يتصرف، ومِنْ ثم ادَّعَى بعضهم أنه اسم فعل. (هل) : حرف استفهام يُطلب به التصديق دون التصور، ولا يدخل على مَنْفِيّ ولا شرط، ولا أَن، ولا اسم بعده فعل غالباً، ولا عاطف.   (1) بضم الهاء من (أَيُّهُ) وَصْلاً، وهي قراءة ابن عامر. انظر (إتحاف فضلاء البشر. ص: 527) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 قال ابن سيده: ولا يكون الفعل معها إلا مستقبلا، ورُدَّ بقوله: (فهَلْ وجدْتُم ما وَعَد رَبُّكم حَقَّا) . وترد بمعنى " قد "، وبه فُسر: (هَلْ أتى على الإنسان) . وبمعنى النفي، نحو: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) . وقد قدمنا في معاني الاستفهام مباحث غير هذَا. (هَلُمَّ) : دعاء إلى الشيء، وفيه قولان: أحدهما أن أصله " ها ولمّ " من قولك: لممتُ الشيء، أي أصلحته. فحذفت الألف وركب. وقيل أصله هل أم، كأنه قيل: هل لك في كذا، أمَّه. أي اقصده فركَّبا. ولغة الحجاز تركه على حاله في التثنية والجمع، وبها ورد القرآن، ولغة تميم إلحاقه العلامة. (هنا) : اسم ئشار به للمكان القريب، نحو: (إنا ها هنا قَاعِدون) . وتدخل عليه اللام والكاف فيكون للبعيد، نحو: (هنالِكَ ابْتُلِي المؤمنون) ، وقد يُشارُ به للزمان اتساعاً، وخُرِّج عليه: (هنَالكَ تبْلو كلَّ نفس ما أسلفَتْ) . (هنالك دَعَا زَكَريا رَبَّه) . (هَيت) : اسم فعل بمعنى أسرع وبادِرْ، قاله في المحتسب. (هيهات) : اسم فعل بمعنى بَعُد، قال تعالى: (هيهات هيهات لما توعَدون) ، البعْد لما توعدون، قاله الزجاج. وقيل: وهذا غلط أوقعه فيه اللام، فإن تقديره بَعد الأمر لما توعدون، أي لأجله. وأحسن منه أن اللام لتبيين الفاعل، وفيها لغات، قرئ منها بالفتح، وبالضم وبالخفض مع التنوين في الثلاثة وعدمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 (حرف الواو) (وَيل) : كلمة شَرٍّ، وقد قدمنا معناه، قال الأصمعي: (ويل) كلمة قبح، ووَيس استصغار، وويح ترحم. (واسع) : جواد لما يسأل. ويقال الواسع المحيط بعلم كل شيء، كما قال (وَسِعْتَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً) . ووسع يسع سعة من الاتساع، ضد الضيق، (وموسِع) : غني، أي واسع الحال، وهو ضد المقتر (وإنا لَموسِعُون) . قيل أغنياء، وقيل: قادرون، و (إلا وسْعَها) : طاقتها. (وَدّ) يود: له معنيان: من المودة والمحبة، وبمعنى التمني، نحو: (وَد كثيرٌ من أهل الكتاب) ا. (وَدُّوا لو تكفرون) . والودّ بالضم: المحبة. وقد قدمنا أنه اسم صنم عبِد من دون الله. (وَسَطا) : الوسط من كل شيء: خيَارُه، وكيف لا تكون هذه الأمة خياراً وهم يشهدون يوم القيامة للأنبياء بإبْلاَغ الرسالة إلى أممهم. فإن قلت: لم أَخر المجرور في هذه الآية: (شهَدَاءَ على الناس) ، وقدمه في قوله: (عليكم شَهيداً) ؟ فالجواب أن تقديم المعمولات يفيد الْحَصْر، فقدمه لاختصاص شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته، ولم يقدمه في الأمة لأنه لم يقصد الْحَصْر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 فإن قلت: هل الأمة يشهدون كلهم، برّهم وفاجرهم، أوْ لاَ يشهد إلا لمن هو أَهلٌ لذلك؟ والجواب أن لفظ الآية عام، لكن الذي يظهر من لفظ الآية أنه لا يشهد إلا العدول، فلا يشهد منها إلا خيارها، والحكم هناك كالحكل هنا، وقد قال: (ممَّنْ تَرْضَوْن من الشهداء) . وأيضاً قد ذكر في حديث قوم نوح أنهم يقولون: كيف يَشهد علينا من لم يحضرنا، فيقولون: يا ربنا، أنزلْتَ علينا كتاباً فوجدنا فيه قصَّتَهم، ثم يقرأون سورةَ نوح، فهذا لا يكون جواباً إلا ممن له علم بالكتب، وكثير من هذه الأمة لا يعلمون من الكتاب شيئاً، ومن طريق النظر من هذه الأمة إذ ذاك في نوع من أنواع العذاب كيف يستشهدون، وكيف تقبل لهم شهادة، فإذا كان العالِم الذي لا يَخفى عليه شيء لا يَحكُم بعلمه فيما بيننا في ذلكَ اليوم، فكيف بالغير، فيا أخا البطالة والتلويث لنفسك، انتبه، الحاكم قد زَكاك وأنْتَ بما ارتكبت من قبيح الأوصاف تجرح نفسك، وبذلك تفرح، فقد خضْتَ بحارَ المهالك، وعلى عَقِبك من الخير نكصت. أعلمك بهذه الرتبة الرفيعة لعلك تحافظ عليها فتكون ممن يشهد إذ ذاك. فأعرضتَ عن الشهادة على غيرك، وتعرضتَ لشهادة جوارِحك عليك! بئس ما استبدلت! وقد جاء أنَّ أول من يُساقُ للحساب الذي العَرْش على كاهله والعرق يتَحدر على جَبينه، فيقول الله له: ما صنعت بعهدي، فيقول: يا رب، بلَّغْته جبريل، فيؤتى جبريل، فيقول له الحق جل جلاله: هل بلغكَ إسرافيل عهدي، فيقول: نعم، فيخلّي حينئذ عن إسرافيل، ويسأل جبريل فيقول عز وجل له: ما صنعْتَ في عهدي، فيقول: يا رب، بلغْته الرسل، فيؤتى بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول لهم: هل بلّغَكم جبريل عَهْدي، فيقولون: نعم، فحينئذ يخلي عن جبريل، فأول مَنْ يسأل مِن الرسل نوح عليه السلام، فيكون من قصته ما ورد في الحديث - أنه يُجَاء بنوح عليه السلام، فيقال له: هل بلّغْتَ، فيقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 نعم يا رب، فتسأل أمّته: هل بلغكم، فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال: مَنْ شهودك، فيقول: محمد وأمته. قال - صلى الله عليه وسلم -: فيُجَاء بكم فتشهدون، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وَسطا) . فإن قلت: يعارضنا هنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: أوَّل مَنْ يحاسَبُ من يجوز على الصراط؟ والجواب: أنه ليس بينهما تعارض، لأن حساب الأمم على نوعين، وبذلك يجمع الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض، وهو أن النوع الأول أنْ تسأل الأمم: بلّغهم الرسل أم لا، فهذا الذي يتقدم جميعَ الأمم على هذه الأمة، لأنهم هم الشهود عليهم، فلا بد من حضورهم إلى آخر الأمم. والنوع الآخر هو سؤال الأمم كلّ شخص منهم منفرداً عن عمله بمقتضى شريعته، فهذا الذي تكون هذه الأمة أوَّل مَنْ يُحاسب. وسيِّدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - شاهد، كما قال تعالى: (وجئنا بكَ على هؤلاء شَهيداً) . تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بنبيٍّ يشهد على أمته بأعمالهم. ولما قرأها ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَرفت عيناه بالدموع، وقال: حَسْبُكَ يا ابن مسعود. (ولا يَأبَ الشهداء إذا ما دعُوا) ، أي لا يمتنعوا إذا دعُوا إلى أداء الشهادة. وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واتفق العلماء على أنَّ أداءَ الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليها. وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادةِ وكَتْبها. وقيل إلى الأمرين. (ولا تسأموا) ، أي لا تملّوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيراً أو كبيراً، ونصب صغيراً على الحال. (وأشْهدوا إذا تبايعْتُم) : هذا أمر يُفهم منه الإشهاد، وأَهل الظاهر أوجبوه خلافًا للجمهور. وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: (فإن أَمِنَ بعضُكم بعْضاً) ، وذهب قوم إلى أنه على الندب. (ولا يُضَار كاتبٌ ولا شَهيد) : يحتمل أن يكون كاتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فاعلاً على تقدير كسر الراء المدغمة من (يضار) . والمعنى على هذا نَهْي للكاتب والشهيد أن يضرَّا صاحبَ الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه والامتناع من الكتابة أو الشهادة. ويحتمل أن يكون (كاتب) مفعولاً لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوِّي ذلك قراءة عمر بن الخطاب: "لا يضارَر"، بالتفكيك وفتح الراء. والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب والشهيد، بإذايتهما بالقول أو بالفعل. (وإن تفعَلوا) ، أي وقعتم في الإضرار فإنه فسوق حالٌّ بكم. (والله يؤيِّد بنَصْره مَنْ يشاء) ، يعني أنَ النصر بمشيئة الله لا بالقِلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم. (ورِضوان من الله أكبر) ، أي من نعيم الجنة حسبما ورد في الحديث - أنه يقول لهم: " تريدون شيئاً أَزيدكم، فيقولون: قد أَعطيتنا بغْيتنا، فيقول: أزيدكم رضواني فلا أَسخط عليكم أبدًا، فلولا الرضوان لم يطب لهم نعيمها لتخوّفهم من فراقها ". (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) هذا من كلام عيسى - عليه السلام. وروي أنهم كانوا يجمعون إليه الجماعةَ من العميان والبرصاء، فيدعو لهم فيبرأون، ويضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلّمه. وروي أنه أحيا سام بن نوحْ، وكان يقول: فلان أكلتَ كذا، وادخرْتَ في بيتك كذا. (ومُصَدًقاً) : عطف على (رسولاً) : أو على موضع (بآية من ربكم) ، لأنه في موضع الحال، وهو أحسن، لأنه من جملة كلام عيسى على تقدير: جئتكم بآيةٍ وجئتكم مصدقاً، ولأحِلَّ لكم عطف على بآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وكانوا قد حُرِّمَ عليهم الشحم وَلَحْم الإبل وأشياء من الحيتان والطير، فأحلّ لهم عيسى بعض ذلك. (وَجيهًا في الدنيا والآخرة) ، إلى آخر الآيات: حال (ويعلمه) ، معطوفة، إذ التقدير ومعلماً للكتاب. (ورسولاً) يضمر له فعل، تقديره أرسل رسولاً أو جاء رسولاً. (وما كان مِنَ المشركين) : نَفْيٌ للإشراك الذي هو عبادة الأوثان. ودخل في ذلك الإشراك الذي يتضَمّنه دين اليهود والنصارى. (وأنا معكم من الشاهدين) : تأكيد للعهد بشهادة اللَه جل جلاله. (وشهدوا) ، عطف على أيمانهم، لأن معناه بعد أن آمنوا. وقيل الواو للحال. وقال ابن عطية: عطف على كفروا، والواو لا ترَتب. (ولو افْتَدى بهِ) : قيل هذه الواو زائدة. وقيل للعطف على محذوف، كأنه قال: لن يقبل من أحدهم لو تصدق به، ولو افتدى به. وقيل نَفَى أولاً القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفديةَ بالنفس، كقولك: أَنا لا أفعل أصلاً ولو رغبت إليَّ. (ومَنْ كفر) : عطف على (من استطاع) : أي من استطاع الوصول إلى مكة بصحة البدن إما راجلاً وإما راكباً مع الزاد المباح والطريق الآمن، أو الزاد والراحلة - فواجب عليه الحج. ومَنْ لم يحجَّ فقد كفر، وعبَّر عنه بالكفر تغليظاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومَنْ ترك الصلاةَ فقد كفر "؟ فإن الله غنيّ عنه، ولا يعود وَبال ذلك إلا عليه. وفي الحديث: " من مات ولم يحجَّ ولم يحدًث به نفسه مات على شعبة من النفاق ". وقيل: إنما عبر بالكفر إشارة إلى مَنْ زعم أنَّ الحج ليس بواجب. (واعْتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعاً ولا تَفَرَّقوا) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أي تمسكوا بحبل الله. وهو القرآن، وقيل الجماعة، ولا تفرَّقَوا فتَفْشلوا، لأن الجماعةَ رحمة، والفرقة عذاب، ومن فارق الجماعة شبرًا خلع رِبْقَة الإسلام من عُنقه، ولأجل الألفة والجماعة أمر الله باجتماع كل درب ومحلة في اليوم خمس مرات، وفي الجمعة لأهل البلد حتى إنها لا تصح إلا في العتيق في العيدين الكبير والصغير وفي عرفة لأهل الأرض كلّهم، كلّ ذلك للجَمْع. (ولِيَعْلَم) : متعلق بمحذوف تقديره: أصابكم ما أصاب ليعلم ذلك علماً ظاهراً لكم تقوم به الحجة عليكم، ويتخذ منكم شهداء في قَتْلكم يوم أُحُد، وليمحِّصَ اللَّهُ المسلمين، لأن إحالة الكفار عليهم تمحيصاً لهم، ونَصر المؤمنين على الكفار هلاكٌ لهم. (ولقد صَدَقَكم اللَّهُ وَعْده) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم اللَّهُ أولا، وانهزم المشركون، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً، (وعَصيْتم) ، أي خالفتم ما أمِرْتمْ بِه من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالِف بعضهم، ووعظا للجميع وسَتْراً على مَنْ فعل ذلك. (ولَقَدْ عَفَا عنكم) ، إعلام بأنّ الذّنْبَ كان يستحق أكثر مما نزل بهم من الهزيمة، لولا عَفْوُ الله عنهم، فمعناه لقد أبقى عليكم. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) ، أي كان يقول في ساقتهم: إليَّ عبادَ الله، ففيه مَدْحٌ له - صلى الله عليه وسلم -، وعَتْب لهم، لأن الأخرى هو موقف الأبطال، وكيف لا وبه يتأنّس الجيش، ويؤمن من العدو، وعاتَبهم على عدم الوقوف معه. (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) : هم المنافقون كانوا خائفين من رجوع المشركين إليهم. (ولِيَبتَلِيَ اللَّهُ ما في صدورِكم) ، يتعلق بفعل، تقديره: فعل بكم ذلك ليبتلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 (ولئن قتِلْتم في سبيل الله) ، الآية: تخبر بأن مغفرةَ الله تعالى ورحمته تعمّ إذا قتلوا أو ماتوا في سبيل الله خَيْر لهم مما يجمعون من الدنيا. (ولو كنتَ فَظَّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حولك) : وصف الله رسولَه باللين واللطف لأصحابه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يوَاجِة أحداً بما يكره، وقد أمره الله بالغلظ على الكفار، وبهذا وصف اللَّهُ الصحابة بأنهم كانوا أَشداءَ على الكفار رحماء بينهم. (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) . من لطف الله بهذه الأمة أنه لم يعين المخالفَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموافق، لأنه تعالى أَراد السّتْر على عباده، فأبْشر يا محمديّ بما أنعم الله به عليك حيث ستر على عدوِّك. والمراد بهذه الآية عبد اللَه بن أبي بن سلول، لأنه لم يُرد الخروج إلى المشركين يوم أحُد، فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - غضب، وقال: أطاعهم وعصاني، فى جمع ورجع معه نحوء ثلاثمائة رجل، فمشى في أثرهم عبد اللَه بن عمرو الأنصاري، فقال: يا قوم ارجعوا وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا يعني عن المسلمين إن لم تقاتلوا، فقال له عبد الله بن أبي: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) . (ويَسْتَبْشِرون بالَّذِين لم يَلْحَقُوا بهم) : المعنى أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم، لأنهم يرجون أنْ يستشهدوا مثلهم، فينالوا ما نالوا من الأمن وعدم الحزن وسبب نزول الآية أن جماعةً من الصحابة استشهدوا فقال لهم الحقّ تعالى: " تَمنَّوْا ما تريدون "، فقالوا: الرجوع إلى الدنيا للشهادة في سبيلك، فقال: سبق في أَزلي أنه لا يرجع إلى الدنيا أَحَدٌ، فقالوا: أَعْلِمْ إخوانَنا الذين بقوا فيها أنك رضيتَ عنَّا وأرضيتَنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 (ولا يَحْزُنْكَ الذِينَ يُسَارِعُون في الكُفْر) : الخطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، سلاه الله بهذه الآية. والمسارعون إلى الكفر - المنافقون أو الكفّار في مبادَرتهم إلى أقوالهم وأفعالهم. (وقَتْلَهم الأَنبياءَ بغير حقٍّ) : أسند القتل إليهم مع أن آباءهم هم الذين قتلوهم، لكنهم رضوا بذلك، وتبعوا مَنْ فعل ذلك منهم، فهم شركاء، لأَن الراضي بالمعصية كفاعلها. فإن قلت: ما فائدة تنكير الحق هنا وتعريفه في الآية الأولى من البقرة، ومعلوم أنه لم يقتل نبيٌّ بحق؟ والجواب أنه عرفه لاجترائهم على قتلهم مع معرفتهم بأنه بغير حق، ولذلك قرئ بالتشديد تعظيما للذنب والشنعة لِلَّذي أتوه، وإنما أباح اللَّهُ تعالى من أباح منهم، وسلّط عليهم عدوه كرامةً لهم، وزيادة في منازلهم، كقتل مَنْ يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن اعباس وغيره: لم يقتل قطّ من الأنبياء إلاَّ مَنْ لم يُؤمَر بقتال، وأما مَنْ أمر بالقتال فإنَّ الله نَصره. وإنما عُرِّف الحقّ في البقرة إشارة إلى الحق الذي أَخذ الله أن تقْتل النفس به، وهو قوله: (ولا تقْتُلوا النّفْسَ التي حَرم الله إلا بالحق) ، فكان الأوْلى بالذكر، لأنه من الله، وما في هذه السورة نكرة، لأنه في معتقدهم وتَدينهم، وكان هذا بالتأخير أولى. فإنْ قلت: المذكورون في الآيات الثلاث من بني إسرائيل قد اجتمعوا في الكفر والاعتداء، فما وَجْه اختصاص الآية بجمع التكسير فيما جمع في الآيتين جمع سلامة، فقيل (النبيين) في الآيتين، وقيل في هذه الآية الأخيرة الأنبياء مكسراً؟ فالجواب أن جمْعَ التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختصُّ في أصل الوضع بأولي العلم، وإن وُجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه، كقوله تعالى: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) ، وما يلحق بهذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 وإذا تقرر هذا فورود جَمْع السلامة في قوله في سورة البقرة، (ويقتلون النبيين بغير الحق) ، مناسب من جهتين: إحداهما شرف الجمع لشرفِ المجموع. والثانية مناسبةُ زيادةِ المدّ لزيادة أداة التعريف في لفظ الحق. وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثْل الأولى في مناسبة الشرف ومناسبة زيادة المد للزيادة في الفعل العامل في اللفظ المجموع في قراءة مَنْ قرأ: "ويقاتلون". ولما لم يكن في الآية الثالثة سوى شَرَف المجموع، وكانت العرب تتَّسع في جموع التكسير فتوقِعها على أولي العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسراً لتحصلَ اللغتان، حتى لا يبقى لمن يتحدَّى القرآن حجة، إذ هم مخاطبون بما في لغاتهم، فلا يقتصر في شيء من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا أن يتكرر، فإذ ذاك يَرد على وَجْهٍ واحد مما يجوز فيه. فتأمّل ما أجملته، فسوف يتَّضِح لك به إذا استوفيته ما يعِينك على فهم الإعجاز. (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) : هذه الآيات في الذين آذاهم الكفار بمكة حتىَ خرجوا منها، ولحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاتلوا معه. (وإنَّ مِنْ أهلِ الكتاب لَمنْ يؤْمِن بالله) : نزلت في النجاشي ملك الحبشة، والجمهور على أنها عامَّةٌ في كل من أسلم من اليهود أو النصارى. (وَجْه النهارِ واكفروا آخِرَه) : هذه مقالة قومٍ من اليهود قالوها لإخوانهم ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء عن دين الإسلام إلا عن علم. وقال السهيلي: إنَّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيْف، وعدي بن زيد. والحارث بن عوف. (ولا تقْتلوا أَنفسكم) : أجمع المفسرون أنَّ المعنى: لا يَقْتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 بعضكم بعضاَ، ولَفْظها يتناول قَتْل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينْكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا سمعه، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - دليل على صحة قوله. (ومَنْ يَفْعَلْ ذلك) : إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور. وقيل إليه وإلى أكْل المال بالباطل. وقيل إلى كل ما تقدّم من المنهيَّات من السورة. (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) : في معنى هذه الآية وجهان: أحدهما لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه. فمِمَّا ترك على هذا بيان لكل. والآخر لكل أحد جعلنا موالى يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا يتعلق بفعل مضمر، والموالي هنا: العصبة والورثة. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) : اختلف، هل هي منسوخة أو محْكمة، فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية. وقيل بالمؤاخاة التي آخَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، ثم نسخَتْها (وأولو الأرحام بعضُهم أولَى ببعض) ، فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي في المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث. وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وإن الرجلين إذا والى أَحدهما الآخر على أَنْ يتوارثا صحَّ ذلك وإن لم تكن بينهما قرابة. (وإذا حضَر القِسْمَةَ أولو القرْبى واليَتَامى والمساكينُ) : خطاب للوارثين، امروا أن يتصدقوا من الميراث على قرَابتهم، وعلى اليتامى، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل على الندب، وهو الصحيح. وقيل نسِخ بآية المواريث. فإن قلت: ما فائدة حذف (واكسوهم) من هذه الآية وإثباتها فيما قبل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 والجواب: لأَن المراد في الأولى السفيه المتصير إليه المال بإرث، ولا يحسن القيام عليه، فيحجر عليه ماله إبقاءً عليه، ولا يمكَّن منه إلا بقَدْر ما يأكله ويلبسه، فالنَّهْى إنما هو للأوصياء، ونسبتة المال إليهم مجاز بما لهم فيه من التصرف والنظر. أمّا هذه الآية فليست في شأن أحوال السفهاء وحكمها، وإنما المراد بها المقتسمون لميراثٍ يخصهم لا حقَّ فيه لغيرهم، فيحضر قريب فقير ويتيم محتاج، فندِبوا إلى التصدق عليهم والإحسان، لا حقَّ لهم في الميراث ولا في المال، فمن أين تلزم كسوتهم والتنصيص عليها، إنما ندبوا إلى الإحسان إليهم فالعَفو عما يخف عليهم وَسعِ ذلك كسوتهم أو لم يَسع، فافترق مقصودُ الآيتين. وجاء كلٌّ على ما يناسب. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : ابن عباس: الرفيق في السفر. علي بن أبي طالب: الزوجة. (وأولي الأَمرِ منكم) : هم الولاة، وقيل العلماء. ونزلت في عبد اللَه بن حُذافة بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرِيَّة. (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) : قيل هم المنافقون. وقيل قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خَبَرٌ عن السرايا والجيوش وغير ذلك تكلّموا به وأَشهروه قبل أن يعلموا صحَّتَه، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة، وقلة التثبت، قأنكر اللَه عليهم ذلك. (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) : معنى الآية أنَّ المقتول خطأ إن كان قومه كفّارًا معاهدين، ففي قَتْله تحرير رقبة والديَّة إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفّارة في قَتل الذمِّي. وقيل: إن المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجبُ الكفّارة في قتل الذمي. وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، واللفط مطلق إلا أنه قيّده قوله: (وهو مؤمن) في الآية قبلها. وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) . أي يسألونك عما يجب عليهم في أَمر النساء. (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) عطف على اسم الله، أي يفتيكم اللَّهُ، والمتلوّ في الكتاب بمعنى القرآن. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) : عطف على يتامى النساء، أَي والذي يُتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، لأن العرب كانت لا تورِّث البنات، ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبَهم من الميراث. (وأن تقوموا لليتامى بالقِسط) : عطف على المستضعفين، أي والذي يتلَى عليكم في أَن تقوموا لليتامى بالقسط. ويجوز أن يكون منصوباً، تقديره ويأمركم أن تقوموا، والخطاب في ذلك للأولياء والأوصياء والقضاة وشبههم، والذي يُتْلى عليكم في ذلك هو قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموالَ اليتامى ظلماً) . وقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) . (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) : لفظ عام يدخل فيه صلْح الزوجين وغيرهما. وقيل معناه صلح الزوجين خَيْر من فراقهما، فخَيْر على هذا للتفضيل. واللام في الصلح للعهد. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) : معناه أن الشح جُعل حاضراً مع النفوس لا يغيب عنها، لأنها جبلت عليه، والشّحّ هو ألاَّ يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه. وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقِّها من النفقة والاستمتاع. وشْحّ الزوج: هو مَنع الصداق أو التضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها. (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) : معناه القول التام في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك، فرفع الله ذلك عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 عباده، فإنهم لا يستطيعونه، وإذا كان الصادق المصدَّق يعدل بين نسائه مع أن الله لم يأمره بذلك، بل كان يتطوع لهنَّ بذلك، ويقول: اللهم هذا فِعْلي فيما أَمْلك فلا تؤاخذني فيما لا أملك، يعني ميلهْ بقلبه، والأمْر القلبي مرفوع عن الحرج، وخصوصاً للمحسنة منهنَّ، فإن القلوبَ جُبلت على حبِّ مَنْ أحسن إليها وكراهةِ من أَساء إليها، هذا أمر جليٌّ. وقد قدمنا أن الحبَّ يتوارث والبغض يتوارث. وقيل: إن الآية نزلت في مَيْله - صلى الله عليه وسلم - بقلبه إلى عائشة، فمعناها على هذا اعتذار من الله تعالى عن عباده. (ولو عَلَى أَنْفسكم) : يتعلق ب (شهَداء) ، وشهادة الإنسان على نفسه هي إقرارُه بالحق، ثم ذكر (الوالدين والأقربين) ، إذ هم مظنّة التعصب والميل، فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أحرى وأولى. (وإن تَلْوْوا أَؤ تعرِضوا) : قيل: إن الخطاب للحكام. وقيل للشهود، واللفظ عام في الوجهين. والليُّ: هو تحريف الكلام، أي إن تَلْووا عن الحكم بالعدل، أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له - فإنه خبير بما تعملون. وقرئ تَلُوا - بضم اللام من الولاية، أي إن وليتم إقامةَ الشهادة أو أعرضتم (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : روي أنه لما وقع قَتْل المشبّه بعيسى قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، فاختلفوا، فقال بعضهم: هو هو. وقال بعضهم: ليس هو، فأجمعوا أَنّ شخصاً قتل، واختلفوا مَنْ كان. فإن قيل: كيف وصفهم بالشكّ، ثم وصفهم بالظن، وهو ترجيح أحَدِ الاحتمالين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 فالجواب: أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارة فظنّوا. وقد يقال الظن بمعنى الشك، وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك. (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) : في هذه الآية تأويلان: أحدهما أن الضمير في (مَوْتِهِ) لعيسى، والمعنى أن كلَّ أحد من أهل الكتاب يُؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قَبْل أنْ يموت وتصير الأديان كلّها حينئذ ديناً واحداً وهو دين الإسلام. والثاني أن الضمير في موته للكتابي الذي تضمنه قوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) ، والتقدير وإن من أهل الكتاب أَحد إلاَّ ليؤمن بعيسى ويعلم أنه نبىء قبل أنْ يموت هذا الإنسان، وذلك حين معَاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه. وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره. وفي مصحف أبيّ بن كعب: "قبل موتهم". وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في (به) لعيسى على الوجهين. وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم. (وبِصَدِّهم) : يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون (كثيرًا) صفة لمصدر محذوف، أي صدًّا كثيراً، أو بمعنى صدّهم لغيرهم. فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر، أي صدوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله. (وكَلَمَ الله موسى تَكْليما) : تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة: إنَّ الشجرة هي التي كلمت موسى. (ولا الملائكةُ المقَرّبون) : فيه دليل لمن قال: إن الملائكة أَفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومَنْ فوقه أنْ يكون عبدًا لله. وفيه رد على مَن قال: إنهم أولاده. (وما أكل السَّبع) ، أَي أكل بعضه. والسبع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 (وَسِيلة) : كل ما يُتَوسَّل به من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك، ومنه: (أولئك الذين يدْعونَ يبتَغون إلى ربهم الوسيلةَ أيهم أقرب) . أي أولئك الآلهة الذين تَدْعون من دون الله يبتغون القرْبَةَ إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، فكيف تعبدونهم معه؟ وإعراب (أولئك) مبتدأ و (الذين يدعون) - صفةٌ له، و (يبتغون) خبره، والفاعل في يدعون ضمير للكفار، وفي (يبتغون) للآلهة - المعبودين. وقيل: إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين. وقيل في قوله: (ولقد فَضَّلْنا بعضَ النبيين على بعض) . (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) . انظر كيف سلّى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مواضع من كتابه. وقرئ بفتح الياء - وضم الزاي حيث وقع مضارعاً من حزن الثلاثي، وهو أشهر في اللغة من أحزن. (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) : هم قوم من اليهود دخلوا كفّاراً وخرجوا كفاراً، ودخلت " قد " على خرجوا ودخلوا، تقريباً للماضي من الحال، أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام. (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، أي بلاءٌ واختبار. وقرئ تكون بالرفع على أن تكون (أن) "مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) . إخبار بأن النصارى أقربُ إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باقٍ إلى آخر الدهر، فكلّ يهودي شديد العداوة للإسلام وأهله، وكيف، لا وهم الذين قالوا: (ليس علينا في الأميين سَبِيل) ، وأحبارهم يقولون لهم: قال بنو العرب: مَنْ غشنا فليس منا، فغشوهم لئلا تكونوا منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وانظر حكاية عبد الله بن عمر لما سافَر معه اليهوديُّ، فوجد منه من النصح ما أشعر به، فسأله ابن عمر عن هذه النصيحة وأنه لم يصدر منه في جانبه إلا المودة، فقال له: كنْت أمشي على ظلّك، لأني لم أقدر لك على غيره من النكاية، وقد شدَّدَ العلماء في خلطتهم ومحبتهم، وكيف لا يشددون والله يقول: (لا تجد قوماً يؤمنون باللهِ واليوم الآخر يوَادّون مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَه) ، فمصاحبة من حادّ الله ورسوله تفْضي إلى النار، نسأل الله السلامة. (وكلوا) : جاء هذا الأمر بعد النهي عن الاعتداء في التشديد على الأَنفس رِفْقاً من الله بعباده، وخَصَ الأكلَ بالذكر، لأنه أعظم حاجاتِ الإنسان. (ومَنْ قتلَه منكم متَعَمِّدًا) : مفهوم الآية يقتضي أنَّ جزاءَ الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر. وقال جمهور الفقهاء: إن المتعمِّد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في تأويل قوله: (متَعَمِّدًا) على ثلاثة أقوال: أحدها أن المتعمد إنما ذكر لينَاط به الوعيد الذي في قوله: (ومن عاد فيَنْتقم الله منه) ، إذ لا وعيدَ على الناسي. والثاني أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمّد. والثالث أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، وأن الجزاءَ على الناسي ثبت بالسنة. (وَبَال أمْرِه) : عاقبة أَمره من الشر والوَبَال وسوء العاقبة، يقال: ماء وبيل وكلأ وبيل، أي وبيل لا يستمر أو تَضرُّ عاقبته، والوبيل والوخيم ضد المرىء. (وطعامه) : الضمير عائد على البحر، يعني ما قذفَ به، ولا يطفو عليه، لأن ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقال ابن عباس: طعامه: ما صلح منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) . لما ذكر أن صيدَ البحر حلال ذكر هنا أن صيد البر لا يحل للمحرم تناوله. (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) : فيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألْتم أبْدِي لكم ما يسوءكم. والمراد ب (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) زمان الوَحْي. (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) . أي يكذبون عليه بتحريم ما لم يحرِّم، واخترعوا تحريمها من عندهم، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلِّدون لهم. (ولا تكونَن) : الخطاب حيثما وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون معطوفًا على معنى (أُمرت) فلا حذف، وتقديره أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. (وجعلنا على قلوبهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه وفي آذَانِهم وَقْرًا) : عبر بالأكِنة والوَقر مبالغة، وهي استعارة، يعني أنَّ الله حال بينهم وبين فَهم القرآن إذا استمعوه، و (أن يَفقَهوه) في موضع مفعول من أجله، تقديره كراهةَ أن يفقهوه. (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) : الضمير في (وهم) للكفار، و (عنه) يعود على القرآن. والمعنى أنهم ينهون الناسَ عن الإيمان به، وينأوْن عنه بمعنى يبعدون. وقيل الضمير في (عنه) يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى ينهون عنه يبْعدون الناس عن إذايته، وهم مع ذلك يبعدون عنه. والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومَنْ كان معه يحمِي النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره بنفسه وماله، ويقول له: لا تخَفْ أحَداً. فإني أذُبُّ عنك بنفسي ومالي، وهو القائل: واللَه لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أُوَسَّد في التراب دَفينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 فانهض لأمرك ما عليك غضاضة ... وطِبْ نَفْساً وقَرّ منك عيونا فإنا لله وإنا إليه راجعون، نصر واستنصر، ولم يجر بإيمانه القدَر، جيء بواحد من فارس، وآخر من الحبشة، وآخر من الروم، وأبو طالب على الباب،حُرِم الدخول، اللهم لا مانع لما أعطيْتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الْجَد منك الْجَدّ. (وذلك الفَوْز المبين) : الإشارة راجعة إلى صرف العذاب أو الرحمة، أي ذلك هو النجاة الظاهرة. فإن قلت: ما فائدة حذف ضمير " هو " في آية الأنعام؟ والجواب: أنه لم يتقدم فيها ما يستدعي إبرازه لما تقدمها من قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) . ثم أعقبه بقوله تعالى: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) ، والمراد مَنْ يصرف عنه العذاب في الآخرة فقد رحمه، عطف عليه قوله: (وذلك الفَوز المبين) ، وكأَنَّ الكلامَ في قوّة فقد رحم وفاز، كما في قوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) . والفاء هنا، وفي قوله: (فقد رحمه) جواب الشرط. والفوز مسبب عن الرحمة، فاكتفي بذكره في آية آل عمران. وذكرا معاً في آية الأنعام، فعطفُه عليه بَيِّن، ولم يتقدم من أول السورة إلى هنا ما يتوهّمه العاقل فوْزاً، فيتحرز منه بما يعطيه ضمير " هو " من المفهوم، فلم يقع الضمير هنا. (ومنهم مَنْ يَسْتَمِع إليك) : الضمير عائد على الكفار، وأفرد وهو فعل جماعة حملاً على لفظ (مَنْ) . و (الأكنّة) جمع كنان، وهو الغطاء. فإن قلت: ما معنى وروده هنا بالإفراد بخلاف آية يونس؟ فالجواب: أن هذه الآية نزلت في أبي سفيان، والنضر بن الحارث، وعتبة. وشيبة، وأمية، وأبَيّ بن خلف، فلم يكثروا كثرةَ مَنْ في سورة يونس، لأنَ المرادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 بهم جميع الكفار، فحمل ها هنا مرةً على لفظ (من) فوحد لقلتهم، ومرةً على المعنى فجَمع، لأنهم وإن قلّوا جماعة، وجمع ما في يونس ليوافق اللفظ المعنى. (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) . جواب لو محذوف ليكون أبلغ، لأن المخاطب يترك مع غاية تخيّله. ووقعت (إذ) موضع إذا التي هي لما يستقبل، وجاز ذلك، لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبَّر عنه كما يعبَّر عن الماضي الوقوع. و (وُقِفوا) معناه: حُبسوا، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا، ووقفت غيري. قال الزهراوي: وقد فرّق بينهما في المصدر، ففي المتعدي وقفت وقْفاً، وفي غير المتعدي وقفت وقوفاَ. ويحتمل أن يكون وقوفهم على النار دخولهم فيها، ويحتمل إشرافهم عليها ومعايَنَتها. فإن قلت: ما فائدة تكرير الوقوف؟ فالجواب: لأنهم أنكروا النارَ في القيامة، وأنكروا جزاءَ اللهِ ونكالَه في النار. فختم بقوله: (فَذوقوا العذابَ بما كنْتم تكفرون) . وهذه استعارةٌ بليغة، والمعنى باشروه مباشرةَ الذائق، إذ هي من أشد المباشرات. (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) : هذه الآية ابتداء كلام على تأويل الجمهور، وإخبار عنهم بهذه المقالة لإنكارهم البَعْثَ الأخروي. فإن قلت: ما فائدة إسقاط قولهم: (نموت ونحيا) ، في هذه الآية؟ والجواب: لأنها عند كثير من المفسرين متّصلة بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) . وقالوا: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، ولم يقولوا ذلك بخلاف ما في سائر السور، فإنهم قالوا ذلك، فحكى الله عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى أنها إذا كانت فانيةَ منقضية لا طائل لها أشبهت اللهو واللعب الذي لا طائل له إذا انقضى. فإن قلت: قد قدم اللعب في أكثر الآيات وفي بعضها أخّره، فهل لذلك وَجْه؟ والجواب: إنما قدم اللعب في الأكَثر، لأنه زمان الصبا، واللهو زمان الشباب، وزمان الصبا مقدَّم على زمان اللهو، يبَينه قوله في الحديد: (اعلموا أنما الحياةُ الدنيا لعب) ، كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشباب. وزينة كزينة النساء، وتفاخر كتفاخر الإخوان، وتكاثر كتكاثر السلطان. وقريب من هذا في تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) ، وقدم اللهو في الأعراف، لأن ذلك في القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأ بما بدأ به الإنسان انتهاء من الحالتين. وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما ذكر زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) ، أي الحياة التي لا أَمد لها ولا نهاية لأَمدها، فبدأ بذكر اللهو، لأنه في زمان الشباب كما فدمنا أنه أكثر مِنْ زمان اللعب. (ولَلْدار الآخرة خَيْر) : سميت الآخرة لتأخرها عن الدنيا. وقرأ الستة من القراء: و (للدَّار) بلامين والآخرة نْعت للدار. وقرأه ابن عامر وَحْدَه: ولَدَار - بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وكذلك هو لَدَار الحياة الآخرة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: أفلا تعقلون، على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف، وإنما قال فيها: (ولَدَار الآخرة) بالإضافة، لأن ما قبلها في هذه السورة: (وما الحياة الدنيا) ، فالدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 صفة للحياة، كذلك جعل الآخرة صفة للدار، ولأنه في المصاحف بلامين إلا في مصحف الشام، وما في يوسف بلام واحدة على الإضافة، فوافقوا المصاحف، وقراءة ابن عامر على الإضافة موافقةٌ لمصحفهم، واعتباراً بما في يوسف. ويقَوّي ما في هذه السورة ما في الأعراف: (والدار الآخرة خير) . (وقالوا لولا نزِّلَ عليه آيةٌ) : الضمير عائد على الكفار. ولولا تحضيض بمعنى هلاّ. ومعنى الآية: هلا أنزل على محمد بيانٌ واضح لا يَقَع معه توقف من أحد، كمَلَك يشهد له، أو غير ذلك مِنْ تشططهم المحفوظ في هذا فأمِر عليه السلام بالردِّ عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلكَ الآيات، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة. ويحتمل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أن الله تعالى إنما جعل الإنذار في آيات معروضة للنظر والتأمّل ليَهْتدِيَ قومٌ ويضِلَّ آخرون. فإن قيل: ما وَجْه إفراد الآية هنا وجمعها في العنكبوت، ولِمَ طلبوا الآية وقد أتى بمعجزات وآيات؟ فالجواب: أن (لولا) في الآيتين تحضيض، وإنما يجري في كَلاَمِه عندما يراه المتكلم به أولى أو أهمّ في مقصود ما أو أتمّ في مطلب ما، إلى أشباهِ هذا، مما يستدعي التحضيض، فأفردوا هنا الآية لما قصدوه من أنه عليه السلام لو جاءهم بآية واحدةٍ من الضَّربِ الذي طلبوه. أما آية العنكبوت فقد تقدَّم قبلها: (بل هو آيات بيناتٌ) ، وقال بعدها: (وما يَجْحَد بآياتنا) ، وقال بعدها: (قل إنما الآيات عند الله) ، فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آيةٍ، ثم إن هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوَعيد ما تقدَّم آيةَ الأنعام، فناسب ذلك ورود الفعل غير مضعَّف. وجاء ذلك كلّه على ما يجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وإنما طلبوا الآية، لأنهم لم يعتدّوا بما أتى به، فكأنه لم يأت بشيء عندهم لجحدهم وعنَادهم، وأيضاً فإنما طلبوا آيةً تضطرهم إلى الإيمان من غير نظَر ولا تأمل. (وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهم ببعض) : أي ابتلينا الكفّار بالمؤمنين، وذلك أنَّ الكفار كانوا يقولون: هؤلاء العبيد والفقراء مَنَّ الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشرف منهم وأغنياء، وكان هذا الكلام منهم على جهة الاستبعاد لذلك. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) . قد قدمنا مِرَاراً أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الشيطان، وكيف لا وشيطانه أسلَم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعانني عليه فأسلم "، فالخطاب على هذا لأمته. ومعنى الآية إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تَقْعد بعد أن تذكر النّهيَ معهم. وإما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة. (وما علَى الَذِين يتَّقون مِنْ حسابِهم مِنْ شَيْءٍ) : الضمير في (حسابِهم) للكفار المستهزئين. والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وضلالهم. وقيل: إن ذلك يقتضي إباحةَ جلوسِ المؤمنين مع الكافرين، لأنهم شقَّ عليهم النهى عن ذلك، إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطَّوَاف بالبيت وغير ذلك، ثم نسخت بآيةِ النساء وهي: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) . وقيل: إنها لا تقتضي إباحةَ القعود. (وليكون من الموقِنين) : يتعلق بمحذوف تقديره: نرِيه ملكوتَ السماوات والأرض ليكون عالماً من الموقنين. (وتلك حُجتنَا) : إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 (وَكيل) : كفيل بالأمور. وقيل: كاف. (وأعْرض عن المشركين) : إن كان معناه عما يدعونكَ إليه أو عن مجادلتهم فهو محْكم، وإن كان أعْرِض عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ. وكذلك: (ما أنا عليكم بحَفِيظ) ، و (بوكيل) . (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) : ردّ على الكفار، لأنهم قالوا: اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تَبَاعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت الآية، أي ليس كما قلتم، وإنما كسب كلّ نفس عليها خاصة. (وسوس) الشيطان للإنسان: ألقى في نفسه. والوسواس: الشيطان. (ونَزَعْنَا ما في صدورهم مِنْ غِلً) : أي من كان في صدره غلّ لأخيه في الدنيا نُزع منه في الجنة، وصاروا إخواناَّ على سرر متقابلين. وإنما عبر بلفظ الماضي في (نزعنا) وهو مستقبل لتحقق وقُوعه في المستقبل. حتى عبّر عنه بما يُعبّر به عن الواقع. وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية اللفظ. ، وهي تقع في الآخرة، كقوله: (ونادَى أصحابُ الجنة) . فإن قلت: أي فائدة لزيادة (إخواناً) ، في آية الحجر؟ والجواب: لأنها نزلت في الصحابة رضوان الله عليهم، وما سِوَاها عام في المؤمنين. - وذكر أنَّ ابْناً لطلحة كان عند علي بن أبي طالب، فاستأذن الأشْتَر فحبسه مدةًْ - ثم أذن له، فقال: أَلهذا حَبسْتَني. وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له، فقال علي نعم، إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: (ونَزَعْنَا ما في صدورهم من غِل إخواناً على سُرُرٍ متَقابلين) . قال بعضهم: فقال له بعض مَن حضر: كلا، اللهُ أعدل مِنْ أن يجمعك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وطلحة في مكان واحد. فقال: لمَنْ هذه الآية لا أمَّ لك! وإنما قال له هذا القائل هذا لأن طلحةَْ قاتلَ عليًّا مع معاوية. والآية تدلّ على أن الغِل لا ينَافي التقوى، والتقوى مساويةٌ للإيمان، وليست أخص منه، بخلاف غيرها من الآيات، إذ لو كانت أخصّ منه لما كان في قلوبهم غل. فإن قلت: لعل الغل في قلوبهم وهم يجاهدونه؟ فالجواب: الآية تأبى ذلك، وهذه صفةٌ ممدوحة، وهذا إن كان النزع في الآخرة، وإن كان في الدنيا فلا كلام. (وأنا أَوَّلُ المؤمنين) : أي أول قومِه، أو أول زمانِه، أو على وجه المبالغة في السبْق إلى الإيمان. (واتَّخَذَ قَوْم موسى مِن بعده) ، أي من بعد غيبته في الطور. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) . قد قدمنا أن الوحي ينقسم إلى أقسام، وهذا أحدها، وهو الإلهام، أو يكون بمعنى الأمر بأن ربك أوحى لها. ومما يدل على أن هذا إلهام قوله: (ثم كلِي من كل الثمرات) . وأتى بصيغة الأمر مبالغة في قصدها إلى ذلك، كما اشترط في المأمور القَصد إلى الافتعال. وقيل: إنه أمْرٌ حقيقة، أي ثم قال لها: (كلِي من كل الثمرات) . قال ابن الخطيب: وبيتُها الذي صنعته مسدّس، وقام البرهان في علم الهندسة على أنه أحسن الخواتم، لأنه مفصّل الزوايا، ليس بينها خلل، بخلاف المربع والمثمن. وذلك الاتصال وعدمه لا يظهر إلا لمن قرأ ست مقالات من كتاب إقليدس. والشكل المسدس أقرب إلى الاستدارة كدائرة الضابط، قال: وفي بنائها حكمةٌ عظيمة، وهو أنها تنسج ملأ البيت الأعلى على ملأ البيت الأسفل، وهذا دليلٌ على أنه لا يشترط في الإحكام والإتقان علم الصانع. ذكره في المحصل. فإن قلت: هل ترْعَى النَّوْرَ أو ما ينزل عليه وهو الترنجبيل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فالجواب: هو الظاهر، فإنه لا يظهر لرعيها في النور أثر. والظاهر الأول لاختلاف طَعْم عسلها بالحلاوة والمرارة بحسب ما ترعى، ولو رَعَت الترنجبيل فقط لاتَحَدَ طعْم عسلها. وأيضاً فالترنجبيل عند الأطباء بارد، والعسل حار. فإن قلت: يكتسب الحرارة من النحل؟ قلنا: نجد عسل السعتر والخلنج أشدّ حرارة من عسل الإكليل، ولو كان منها لما اختلف. فإن قلت: قد قال تعالى: (فيه شفاءٌ للناس) ، فهل هو عام أو مطلق؟ فالجواب: ليس على العموم، ولأنَّ الأمزجة مختلفة، فإنما هو شفاء لمن مازجه البلغم أو السوداء في بعض الأحيان. فإن قلت: كيف يكون شفاءً لصاحبِ الصفراء والسوداء مع اختلاف أمزجتهما، لأنه إن كان عندكم يقمع الصفراء فلا يقمع نقيضها؟ وأجيب: بأنّ الترياق يقوي الروح، فتتقوى الغريزة النفسية، فتغلب على الطبيعة المزاجية، فتقمعها، فصحَّ بذلك كونه دواءا للشيء ونقيضه. وقال أرسططاليس: إنه شفاء من مائة داء خاصّة. (وعلى اللهِ قَصْد السبيلِ) : يعني أن من الناس مَنْ هداه الله بالدلائل العقلية، فاهتدى، ومنهم من ضَلّ فجار وخالَفها. (ومنه شَجَرٌ) : يريد به كَلأ الأرض، ولفْظ الشجر مشترك بين الجزء والكل. وقال عكرمة: الشجر ما ليس له ساق. (وسَخَّر لكم الليلَ والنَّهار) . في تقديم الليل ما يدلّ على أنه عدم، والعدم سابق على الوجود، أو لأن العرب إنما يؤَرخون بالليالي، وأول الشهر ليلة، وفي هذا دليل على أن الليل أفضَل من النهار، لأن التقديم يُؤْذِن بالفضل، ومعراج الخليل، وإدريس، وتكليم موسى الكليم، وعيسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 إلى البيت العمور، ومعراج الحبيب إلى قاب قوسين كان ليلاً. وأيضأ خدمة العباد وخلواتهم إنما تكون ليلاً، وأيضا فالليل من الجنة والنهار من الجحيم. وذلك أن الله لما خلق النارَ بإخراج الظلمة من الجنة، لتكون نورا صافياً كلّها ليس فيها نار، وجعل الليل والنهار في الدنيا علامةً على الجنة والنار، وذلك أن الراحة والأمن إنما يكون بالليل، والتعب والشدة بالنهار، وقَدَّم الشمس في الآية وإن كانت مؤنثة، لأن ضوء القمر يستمدّ منها (وتَسْتَخْرِجوا منه حليةً تلْبَسونَها) : قد قدمنا أن الضمير يعود على البحر، والمراد بها اللؤلؤ أو المرجان، ولذلك قال في سورة الرحمن: (يخرج منهما اللؤلؤ والْمَرْجَان) . (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) : يعني أنهم قالوا خيراً، ويجوز أن يكون كلاماً مبتَدأ من القائلين، يعني أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكي عنه. ونظير ذلك أن يقول زيد يقول خيراً الحمد للَه. فتقول أنت - حاكياً لكلامه: قال زيد خيراً الحمد لله، فهذه من كلام الحاكي. والقول يحكى به الجمل والمفرد المؤدي معناها. (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) . الآية: فيها دليل على أن اللهَ بعث لكل أمة رسولاً منهم. فإن قلت: هذا مناقض لما قلتم: إن الله بعث شعيباً إلى أمَّتين. وقد صح أن رسالةَ نوح ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كانتا عامتين للعرب والعجم مما يدل على أن غيرهما لم يرسل إلى العجم، فنرى العقل خلا من السمع؟ والجواب: أن ذلك في التفاصيل والأحكام، وأما الإخبار بوجود الله ووحدانيته فكلّ نبىء أرسل بذلك على العموم. فإن قلت: قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعَبَدة الأصنام كانوا لا يعرفون الإله بوَجْه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 والجواب: إنما ذلك في عوامهم، وأما رؤساؤهم فيعرفون وجودَ الإله، وإن كانوا معاندين في ذلك. (وما أرسلنا مِنْ قبلك إلا رجالاً نُوحي إليهم) . الآية: تدل على تخصيص الرسالة بالرجال، فيحتج به مَن قال إن مريم ليست بنبيَّة. ويجاب بأن الآية إنما اقتضَتْ تخصيصَ الرجالَ بالرسالة بالنبوءة، وإما بأنَّ قوله " بالبينات " متعلق بأرسلنا. (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) : قد قدمنا أن المراد بالذكر القرآن، يعني إمّا بسَرْدِك عِلْم آياته، وإما بتفسيرك الجمل وشرح ما أشكل منه، فيدخل فيه ما بيَّنَتْه السنَّة من أمر الشريعة، فعلى الأول المراد بالناس أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وإن أراد ما بينَتْه السنَّة فالناسُ عامة. وانظر قوله: (لعلهم يتفكرون) . والتفكر إنما يكون من العلماء. فإن قلت: المبين بعد المبين، وأنزل يقتضي الإجمال، وإنزاله دفعة واحدة. ونزل يقتضي التنجيم حسبما ألمَّ به الزمخشري في أول خطبة كتابه، والقرآن نزل أولاً دفعةً إلى سماء الدنيا، ثم نزل منها منجما، فأنزل قبل نزل، وجاءت الآية على العكس، وهو أن بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر، فجعل متعلق أنزل بمتعلق نزل؟ والجواب: ما قدمناه: أن متعلق أنزل راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومتعلق نزل راجع لأمته، فأنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، ليبين بها ما نزل على أمته مفَصَّلاً منَجَّماً. (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) ، أي دائماً. وانظر هل أراد بالدين الطاعة أو الجزاء، وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: (مالك يَوْم الدين) إنه يوم الجزاء. وفي الآية دليل لمن حكى الإجماع على منع الردة في الْخَلْق كلهم. فإن قلت: قوله تعالى أولاً: (وله ما في السماوات) ، أتَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 دليلاً على وجود الصانع، فلِمَ عطف عليه: (وله الدين) ، وهو لا يحسن أن يكون دليلاً على وجود الصانع، لأنه إنما يستدلّ على وجوده بخلقه لا بالأحكام والشرائع التي كُلِّفوا بها، لأنها مسببة عن ذلك، فلو كان العطف بالفاء لصح لأنها تدل على السببية؟ والجواب: بأن المراد من بعد خلقه للعالم، فما من زمانٍ يأتي إلا وهو معبود فيه مطَاع، تَعْبده الملائكة وبعض الناس، فهذا يدل على صحة وجوده. واستدلوا في علم الكلام على وجود الصانع بطريقين: إما حدوث العالم، وإما إمكانه، لأن الممكن لا بدّ له من مخصص يوقعه على أحد الجائزين، وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان، لأنَّ كلَّ حادث ممكن، وليس كل ممكن حادثا؟ فإن وجود حجر من زيبق أو من ياقوت ممكن، وليس هو بحادث، إذ المراد الحدوثُ بالفعل، وهذا الجواب إنما يتم على قول مَنْ فسر الواصب بالدائم. (واللَه خلقَكم ثم يَتَوَفَّاكمْ) : قد قدمنا أن الخلق أبلغ من الوجود، ولما قدم في الآية التي قبلها التذكير بقدرة الله، وما اشتملت عليه من الآيات والحكم - عقبه ببيان قدْرته في خَلْق الإنسان، وفي خلق أنفسكم. وأسند فعل التوفي هنا لله تعالى، وقال في سورة السجدة: (قل يَتَوَفَّاكم مَلَك الموت) . والْجَمْعُ بينهما ينتج صريحَ مذهب أهل السنة القائلين بالكسب. فإن قلت: لم قال: (ومنكم من يُرَدُّ) ، بحذف الفاعل، وقال يتَوَفَّاكم - فذكر الفاعل؟ والجواب: أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل على الإطلاق يحذف الفاعل. كقولك رأى الهلال، وإن كان المقصود الإخبار بفاعل الفعل يذْكر، كقولك طَعَن عمر غلام المغيرة، ولما كان التوفي قد خالفوا فيه، وقالوا: ما يهلِكنَا إلا الدهر - ذكر فاعله، بخلاف الرد إلى أرذل العمر، فإنه أمْر ظاهر لا يحتاج إلى ذِكر فاعله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وأجاب بعضهم بأنه لما ذكر فاعل البدأة وفاعل النهاية أنه الله تعالى، عُلِمَ أن ما بينهما من فعله، فاكتفي بذلك، ولم يحتَجْ إلى ذكره في الرد إلى أرذل العمر، لأنها حالةٌ متوسطة بين البداية والنهاية. (ويعبدون من دونِ الله ما لا يَملكُ لهم رِزْقاً) : الضمير راجع للكفار، يعني أنهم يعبدون الأصنام وغيرهم. فإن قلت: لَمْ يخصُّوهم بالعبادة لأنهم يقولون: (ما نَعْبُدهم إلا ليُقَربونا إلى الله زلْفى) ، فلِمَ ذكر هنا العبادة لهم، وما فائدة إبراز الضمير في لهم؟ والجواب أن ذلك الجزء الذي صرفوه لهم من العبادة، عبدوهم وهم فيه من دون الله، وإنما أبرز الضمير، لأنه إذا أبرز الضمير لمن عبده فأحْرَى ألا يملكه لغيره، وقدْ قدمنا أن (شيئاً) في الآية بدل من (رزقاً) . (ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شيء) : يحتمل أن يريدَ رحمته في الدنيا، فيكون خصوصاً في الرحمة وعموماً في كل شيء، لأن المؤمن والكافر والْمُطيع والعاصي تنالهم الرحمة ونعمته في الدنيا. ويحتمل رحمةَ الآخرة فيكون خصوصاً في كل شيء، لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يريد جنْس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموماً في الرحمة وفي كل شيء. وقد صح أنً للهِ مائة رحمة، رحمة في الدنيا للجميع، ويضم هذه الرحمة للتسعة وتسعين ويخصها بالمؤمنين. (وقَطَّعْناهم في الأرض أُمَماً) : أي فرقناهم في البلاد، ففي كل بلد فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه، وذلك بقتلهم الأنبياء. (وإذْ أخذَ رَبك مِنْ بني آدَمَ) : في معنى الآية قولان: إن اللَهَ لما خلق آدم أخرج ذرِّيته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فاقرّوا بذلك، والتزموا. روي هذا المعنى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة، وقال به جماعة ٌ من الصحابة وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخْذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا. وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الآيةَ على ربوبيته، وشهدتْ بها عقولهم، فكأنه أشْهَدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألَسْتُ بربكم، فقالوا بلسان واحد: بلى، أنْتَ ربنا. والأول هو الصحيح، لتَوَاتر الأخبار به، إلا أن ألفاظَ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه مَنْ قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل، وذلك أَن أخْذَ الذرية إنما كان من صلْب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخْذ الذرية من بني آدم. والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم، كقوله: (ولقد خَلَقْنَاكم ثم صَوَّرنَاكم) .، الآية، على تأويل لقد خلقنا أباكم آدم من صورته. وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريته مَنْ كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم. والصحيح المشهور أن المراد جميع بني آدم حسبما ذكر. وفي الحديث: إن أول من أجاب الأنبياء، ثم العلماء سمعوهم فأجابوا، ثم العامة، ثم الكفار، فكلهم أقَرّوا له بالربوبية. (وإنْ تَدْعوهم إلى الْهدَى لا يسْمَعوا) : يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيراً لها وردًّا على مَنْ عبدها، فإنها جماد مَوَات لا تسمع شيئاً، أو يريد الكفار، ووصفَهم بأنهم لا يسمعون، يعني سمعاً ينتفعون به لإفراط نفورهم، أوْ لِأنَ اللهَ طبع على قلوبهم. (وتَرَاهم ينظرون إليكَ) : إن كان هذا من وصْفِ الأصنام فهو مجاز، وقوله: (لا يُبْصِرون) حقيقة، لأن لهم صورة الأَعين وهم لا يبصرون شيئاً. وإدْ كان مِن وَصْف الكفار فينظرون حقيقة، ولا يبصرون مجازاً على وَجْه المبالغة، كما وصفهم بأنهم لا يسمعون. (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 الضمير في الجميع للشيطان وأريد بفْوله: (طائِف من الشيطان) الجنس، فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة. وإخوانهم هم الكفار، ومعنى (يمدونهم) يكونون مَدًّا لهم، أي يعضدونهم. وضمير المفعول في (يَمدّونهم) للكفار، وضمير الفاعل للشياطين. ويحتَمل أن يريد بالإخوان الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار. والمعنى على الوجهين أنَّ الكفَّار يمدّهم الشيطان. وقرئ " يمدونهم " - بفتح الياء وضمها. والمعنى واحد. و (الغي) يتعلق بـ (يمدونهم) . وقيل يتعلق بـ (إخوانهم) ، كما تقول: أَخوه في الله أو في الشيطان. (وإذَا لَمْ تأْتِهم بآية قالوا لولا اجْتَبَيْتَها) : في معناها قولان: أحدهما اخترعتها من قِبَل نفسك: فالآية على هذا من القرآن. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأخر عنه الوَحْى أحياناً، فتقول الكفَّار: هلا جئت بقرآن من قولك، والاجتباء معناه طلبتها من الله وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة أي يقولون اطلب من الله المعجزة. (وإذا قرِئ القرآن فاسْتَمِعوا له) : كانوا إذا سمعوا القرآن اشتغلوا عنه، فأمر اللَّهُ بالإنصات لقراءته على الإطلاق، ولا معنى لمن قال: إن معناها الإنصات لقراءة الإمام أو الخطبة، لأن الآية مَكّية، والخطبة إنما شرِعت بالمدينة. وأيضاً اللفظ عام، ولا دليلَ على تخصيصه. (وَجِلَتْ قلوبُهم) ، أي خافت. وقرأ أبيّ بن كعب فزعت. ومنه: لا توجل، ووجلون. فاعرِضْ نفسك على هذا الميزان، هل تجد لذِكْرِ الله وجلاً في قلبك، فأنْتَ مؤمن حقاَ، وحينئذ فلا تنْسَ نفسك وإخوانك من الدعاء، وإلا فابْكِ على نفسك لحرمانك بخطيئتك، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. (وإنّ فريقاً من المؤمنين لكَارِهونَ) ، أي لقتل العدو، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وذلك أنَّ عير قريش أقبلَتْ من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكباً، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، فسمع بذلك أهْلُ مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عَدَدٍ كثير ليمنعوا عيرهم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد، إنَ الله يَعِدُكم إحْدَى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشارهم - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: العير أحبُّ إلينا من لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امضِ لما شئت، فإنا متبعوك. وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضتَ هذا البحر لخضناه معك. (ولِيَربِطَ على قلوبكم ويثَبِّتَ به الأَقْدام) : لما عدم الصحابة الماء قبل وصولهم إلى بدْر أنزل الله عليهم الماءَ فتطهَّروَا به، وثبتت قلوبهم بزوال ما وَسْوس لها الشيطان من عدم الماء لوضوئهم وغسلهم، وأزال عنها الكسل، وكانوا في رملة دَهسَة لا يثبت بها قَدم، فلما نزل المطر تلبَّدَت، ولبَّدَت الطريق، وسهل المشي والوقوف. وروي أنَّ ذلك المطر صعب الطريق على المشركين، فكان فيه لطف من الله، فلذلك عدَّدَه من نعمه عليهم. (وإنْ تعودوا نَعدْ) : أي إنْ تعودوا إلى الاستفتاح والقتال نعد لقتلكم والنصر عليكم. (ولا تَوَلَّوْا عنه وأنْتم تسمعون) ، أي القرآن والواعظ. (وإذ يمكر بكَ الذين كفَروا) . عطف على (إذ أنْتم قَليل) ، أو استئناف، وفيها إشارةٌ إلى اجتماع قريش بدار النّدْوة. قال الثعلْبي: كانوا اثني عشر رجلا دخلوا الدارَ، ودخل معهم إبليس لعنه الله على صورةِ شيخٍ في يده عصاه، فقال له أبو جهل: إنَّا قد اجتمعنا في تدبير أَمرِ خفيّ، فارجع أنْتَ يا شيخ. فقال إبليس: إني شيخ من أرض نجْد رأيت الدهور، وكرَّت الأمور عليَّ، أنا أعلم مصالح التدبير وموافقة التأويل والتفسير، فأدخلوني معكم لعلي أنبئكم بتأويله. وإنما نسَب نَفْسَه لنَجْد، لأنهم قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 لا تدْخِلوا معكم أحدًا من أهل تهامة لمحبتهم في محمد، فلما دخلوا قال لهم عتبة: إن الموت حق، فاصبروا حتى يقضيَ الله على محمد فتَنْجوا من شره. فقال له إبليس: أفّ لك! أين أنْتَ عن التدبير، أنت لا تصلح إلا لرَعْي المواشي، فلو صبرتم حتى يموتَ محمد يظهر دِينه في مشارق الأرض ومغاربها، فتجمع عنده عساكر عظيمة لمحاربتكم، فيهلككم. فقالوا: صدق الشيخ النجدي. ثم قال شيبة: إني أرى أنْ نحْبِسه في بيتٍ ونغلق أبوابه حتى يموت فيه جوعاً وعطشا. فقال إبليس: وهذا أيضاً ليس بصوابِ، فإنَّ بني هاشم يجتمعون ويأخذونه من أَيديكم، ويخلون سبيله، ويقع بينكمَ وبين أقربائه عداوة عظيمة. فقالوا: صدق الشيخ النَّجْدي. فقال عامر بن وائل: نعضد محمداً على بعير ونَسوقه في البادية ليهلك فيها. فقال إبليس: ليس بصواب، لأن محمداً فصيح اللسان، مَليح الجنان، قويم القامة، صبيح الوَجْه، كلّ مَن رآه أحبه، وربما لقِيَه أحدٌ وهداه إلى البلاد، فيصدقه كلّ من يسمع كلامه، ويجتمع عنده جمع عظيم، فيرجع إليكم، ويحاربكم، فصاحوا جميعاً: صدق الشيخ النجدي. فقال أبو جهل لعنه الله: إني أرى أنْ نخْرِجَ من كل قبيلة شابّاً فيهجمون على محمد في ليلة فيضربه كلّ واحد منهم ضربةً جميعاً بالأسلحة حتى لا يعْلم قاتِله بعينه، فإذا طَلب أقارِبه الديةَ نجمَع الأموال من القبائل ونعْطيهم وننجو من شره. فقال إبليس: أحسنْتَ وأصبْتَ، لرَأْيك أحسن الرأي، وتدبيرك أحسن التدبير، فاتفقوا عى قَتْله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرقوا من دار الندوة، فنزل جبريل بهذه الآية، تم قال: إن الله يقول لكَ: اخرج من مكة. فأتى إلى أبي بَكْر، وكان يأتيه كلّ يوم طرفي النهار، فأتاه في الظَّهيرة، فقال أبو بكر: ما جاء بك في هذا الوقت، فِداك أبي وأمي؟ فقال لي: أَخرِج مَنْ معك. فقال: وهل هم إلا أهلك. فقال: أما شعرت أنَّ الله أمرني بالخروج، وكان يقول لأبي بكر: لا تهاجر حتى أَجِدَ لك رفيقاً، فقال له: الصحبة يا رسول الله، فقال: الصحبة. فقال: خذْ إحدى هاتين الناقتين. فقال له: لا آخذها إلا بالثمن، ليكون مهَاجراً بنفسه وماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ثم قال لأصحابه: أيّكم يبيت على فِراشي أضمن له على الله الجنة، فقال عليٌّ: أنا يا رسول الله، وأجعل نفسي فداك. فبات عليٌّ على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وجاء الكفار يحرسونه ويرتقبون خروجَه، وإبليس معهم، فسلط اللهُ عليهم الْغَفْلَةَ والنومَ، ونام إبليس لعنه الله، ويقال: إنه لم ينم قط إلا في تلك الليلة، ولا ينام بعدها أبداً، فخرج - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر ورآهم نائمين، فأخذ التّرَابَ وحَثَى على رؤوسهم. وقرأ سورة يس حين قَصد المرور، فلم يره أحَد ببركة يس. وفي الحديث: إن الله أوحى إلى جبريل، وميكائيل عند رجليه، وجبريل يقول: منْ يقتلك يا ابن أبي طالب باهى اللهُ بك الملائكة، فأنزل الله عليه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) . (وَلِيجةً) : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وَليجة فيه، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وَلِيجة. (وقيل اقْعدوا مع القَاعِدين) : يحتمل أن يكون القائل اللَه تعالى، أو يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، وعلى الأول فهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود. (والسابقون الأَوَّلون) : قيل هم مَنْ صلى القِبْلَتين، وقيل مَنْ شهد بدراً. وقيل مَنْ حضر بيعةَ الرضوان. وقيل: مَنْ أسلم قبل الهجرة. وقيل: مَن اشتغل بمعادِه عن معاشه. وقيل: الذي غلبَ عقْله على شهوته. (والذين اتَبَعوهم) : سائر الصحابة، ويدخل في ذلك الباقون، ومَنْ بعدهم إلى القيامة بشرط الإحسان. (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) : الضمير عائد على الكفار، لأن هذا شأنهم، قنعوا بالدنيا، وسكنَتْ نفوسهم عن ذكر الانتقال منها، فإياكَ والاتصاف بهذا الوصف، وهو حالُ أكثرنا، لأنا نفرح بالزيادة منها، ونحزن لفقدانها، فيوشك أخْذنا منها بغتةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 (ويعْبدونَ مِنْ دون الله ما لا يضرُّهم ولا يَنْفَعهم) : الضمير عائد على الكفار من قريش الذينَ تقدمَتْ محاورتهم، فأخبر الله أنّ أصنامهم لا تضر ولا تنفع. وردّ على منْ زعم نَفْعَهم لهم. وقدم الضر هنا لتناسب الوارِدَ مِنْ متصل قوله: (ولا ينفعهم) بقوله: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) . (ومنهم من يؤْمِن به) : أخبر الله فيها بما يكون منهم في المستقبل. وقيل: إنَّ بعضهم يؤمن وهو يكْتم إيمانه، ومنهم من يكذب. (ومنهم مَن يئظر إليكَ أَفأنتَ تَهدِي العُميَ) : المعنى أتريد أن تهدي العمي، وذلك لا يكون. فإن قلت: ما الفرن بين (من) في الاستماع وبين هذه، لأنه جاء أولاً بلفظ الجمع وهنا بلفظ الإفراد؟ فالجواب: أن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف النظر، فكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى، ووَحّد ينظر حملاً على اللفظ، إذ لم يكثروا كَثْرَتهم. وقد قدمنا أنه إذا جاء الفعل على لفظ " من " فجائز أن يعطف عليه آخر على معناها، وإذا جاء أَولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلتبس حينئذ، وكأنه قال: ومنهم من يَنْظر إليك ببصره، لكنه لا يعتبر، ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فسلاه الله بهذه الآية، والهداية إنما هي بيد الله، ولو شاء الله لجمعهم على الْهدَى. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) . قال مجاهد: المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صُيِّرَ قَوْم للجنة وقوم للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط. وقيل: المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا ممن ختم اللَّهُ بالعذاب لقومٍ والمغفرة لآخرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 لغاياتهم، فذلك قضاء القِسْطِ بينهم، وقرر بعض المتأولين هذه الآية بقوله تعالى: (ومَا كنّا معَذِّبين حتى نَبْعَثَ رسولاً) ، وذلك يتفِق بأن يجعل معذبين في الآخرة، وإما بأن يجعل القضاء بينهم في الدنيا بحيث يصحّ اشتباه الآيتين، وإنما ورد في سورة يونس بالقسط في الموضعين، لأنه بمعنى العدل والتسوية في الحكم بمظنة وروده حيثُ يُراد موازنة الجزاء بالأعمال من غير زيادة. (وأُمِرْتُ أنْ أكونَ من المؤمنين) : هذه مخاطبة من الله لنبيّه، ويدخل تحته جميع المكلفين من أمته، وهذه الآية قبلها يتسق معناها بمحذوفات يدلّ عليها هذا الظاهر الوجيز. والمعنى إن كنتم في شكٍّ من ديني فأنتم لا تعبدون الله، فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله. وأمره هنا بالإيمان بخلاف آخر النمل، لأنه تقدم قبلها: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) . (وما كان لنَفْس أنْ تؤْمن إلا بإذْن الله) . وبعد هذا: (وما تغْنِي الآيات والنّذُر عن قَوْمٍ لاً يؤمنون) . وبعد هذا كله: (كذلك حقَّا علينا ننج المؤْمنين) . وآما آية النمل فإن قبلها قوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . وهذا يقتضي تسليم كل شيء له والتبري من توهّم شريك أو نظير، فناسب هذا قوله: (وأمِرْتُ أنْ أكونَ من المسلمين) . (وأن أقمْ وَجْهَك) ، أي قَصْدَك ودينك. (واصْبِرْ حتى يَحْكمَ اللَّهُ وهو خَيْرُ الحاكمين) : وعد بالنصر والظهور على الكفار، وإنما زاد في الأعراف (بيننا) ، لأنه من خطاب الله لشعيب، فناسبه البسط في الكلام. (ويَتْلوه شَاهِدٌ منه) : الضمير في (يتلوه) للبرهان، وهو البينة، أو لمن كان على بينة من رَبِّه، والضمير في (منه) للرب تعالى. ويتلو هنا بمعنى يتبع، والشاهد يراد به القرآن. والمعنى يتبع ذلك البرهانَ شاهدٌ من الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظيم دلالته. وقيل: إن الشاهد المذكور هنا هو عليٌّ بن أبي طالب، فيالها من فضيلة! كرر ذِكْرَه في مواضع، ولذلك قال له - صلى الله عليه وسلم -: الناس في شجر شتّى وأنتَ في شجرةٍ واحدة. وشبّهه بسورة الإخلاص في قوله: مَنْ قرأ سورة الإخلاص مرة واحدة فله ثوابُ ثلث هذه الأمة، ومَنْ قرأها مرتين فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن قرأها ثلاث مرات فله ثوابُ هذه الأمة. وقال: مَنْ أحب عليًّا بقلبه فله ثلث ثواب هذه الأمة، ومن أحبه بقلبه ولسانه فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن أحبّه بلسانه وقلبه وجوارحه فله ثواب جميع هذه الأمة (1) . وقال مجاهد: نزلت في عليٍّ سبع آيات، لأنه كانت له أربعة أشياء لم تكن لغيره: السخاوة، والشجاعة، والزهادة، والعلم. وله من جهة الرحمن امرأته أفضل النساء، وصهره أفْضل الخلق، وشاهده جبريل، وولده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. (ومِنْ قَبْلِهِ كتابُ موسى) . أي من قبل ذلك الشاهد كتابُ موسى يشهد بأنَّ هذا القرآن هو من عند الله. وقيل أقوال غير هذه، هذا أصحّها. (ويَقول الأشْهَاد) : جمع شاهد كأصحاب. ويحتمل أن يكون من الشهادة، فيراد به الملائكة والأنبياء، أو من الشهود بمعنى الحضور، فيراد به مَنْ حضر الموقف. (ومَنْ آمَنَ) : معطوف على (أهلَك) ، أي احمل أهلَك ومَنْ آمَنَ من غيرهم. (وعلى أمَم مِمنْ مَعَك) : يعني في السفينة. واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية مَنْ معك، ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة، فـ (مِنْ) على هذا لابتداء الغاية. والتقدير على أمم ناشئة ممن معك، وعلى الأول تكون مِنْ لبيان الجنس.   (1) هذا القول وسابقه فيه نظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ، أي بمتاع الدنيا، وهم الكفار إلى يوم القيامة. (ولما جاء أمْزنا) : الأمر واحد الأمور، ويحتمل أن يكونَ مصدر أمر يأمر، أي أمرنا للريح، أو لخزَنتها، ونحو ذلك. فإن قلت: لِم قال هنا وفي قصة شعيب: (ولا) بالواو، وفي قصة صالح ولوط: (فلما) بالفاء؟ والجواب: على ما قال الزمخشري: إنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد الوعيد، فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب، كما تقول: وعدته، فلما جاء الميعاد، بخلاف قصة هود وشعيب فإنه لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو. وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره. (ونَجَّيْنَاهم من عَذَابِ غَلِيظ) : يحتمل أن يريد به عذابَ الآخرة ولذلك عطف علىَ النجاة الأولى التي أراد بها النجاةَ من الريح. ويحتمل أن يريد بالثاني أيضاً الريح، وكرره إعلاماً بأنه عذابٌ غليظ وتعديد النعمة في نجاتهم. (واتْبِعُوا في هذه الدنيا لعْنَةً) : حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذابُ بهم، وقد تيقّن أن هؤلاء وافوا على الكفر، فيلعن الكافر الموافي على كفْره، ولا يلعن أحداً بعينه حتى البهيمة، لأن معناها البعد من رحمة الله. فإن قلت: لم جمع في قصة هود بين اسم الإشارة ولفظ الدنيا الجاري عليه وصفاً، واكتفى في قصة موسى باسم الإشارة دون التابع؟ والجواب أنَّ قصة هود عليه السلام في هذه السورة أكثر استيفاء من قصة موسى عليه السلام بكثير، فناسب الطول الطولَ، والإيجاز الإيجازَ، ولا يليق العكس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا) : هذا من قول قوم صالح، أخبروه أَنهم في شك من أَقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدًا إلى مرتبته من الشك، ولا فَرْق بين هذه الحال وحالة التصميم على الكفر، وإنما أثبتوا النونين الداخلين للتأكيد، وأفرد الضمير في (تَدْعُونَا) ، وألحقه في سورة إبراهيم، لأنها واردة على الأصل في اتصال الضمير المنصوب بها. ثم يجوز حذْف إحدى المضاعفين تخفيفاً، فتقول: إنا، فتكتفي بالضمير عن النون المحذوفة، وذلك من فصيح كلامهم. والأصل الأول. (وأخذ الذين ظَلَمُوا الصَّيْحَة فأصْبَحوا في دِيَارهم جَاثمين) : إنما ذَكَّرَ الفعل المسند إلى الصيحة، لأنها بمعنى الصياح وتأنيثها غَيْرُ حقيقي. وقيل جاز ذلك وهي مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها كما قالوا: حضر القاضي اليوم امرأة. والأول أصوب. وإنما أسقط تاء التأنيث من هذه القصة وأثبتها في قصة شعيب، لأنه على ضربين: حقيقي، وغير حقيقي، فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالباً إلا أن يَقَع فصل، نحو قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف. ومن كلامهم، كما قدمنا لو الإشارة مع الحقيقي ما لم يكن جَمْعا. وأما التأنيث غير الحقيقي فالحذْفُ فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: (فمَنْ جاءَه موعظة من ربه) ، وهو كثير، فإن زاد الفصل أزداد حسناً، والحذف والإثبات هنا جائزان، فجاء الفعل في هذه الآية على الوجه الأول، وفي قصة شعيب على الوجه الثاني، جَمْعاً بين الوجهين، إذ الآيتان في سورة واحدةٍ، وتقديماً للأولى على ما ينبغي، وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير مؤنث فله أحكام تخصه. والله أعلم. (ولما جاءَتْ رسلنا لوطاً) : قد قدمنا أنه أعاد الضمير، لظَنِّه أنهم من بني آدم وخوفه عليهم من قومه، وقوله لهم: (لو أن لي بكم قوة) . ولما قالها قالوا له: إنَّ رُكْنَك لشَدِيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 فإن قلت: كيف ينطق بهذا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوِي إلى رُكْن شديد، وفي الحديث: لم يبعث الله نبيئاً إلا في مَنَعة وعزة؟ والجواب: أنه خشي عليه السلام أنْ يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف، كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم، فتمنىِ ركْناً من البشر يعاجِلهم، وهو يعلم أنَّ اللهَ تعالى مِنْ وراء عقابهم، وأيضاً فإنَّ قَوْمَه إنما يمنعونه هو لو أرادوه بضرٍّ، وقد كان المطيع فيهم قليلاً. ولقد أصيب نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في غير ما موطن مِنْ شجِّ رأسه، وكَسْرِ رباعيته، وطَرح سلا الجزور على ظَهْره، ولم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة. فإن قلت: لِمَ حذف من هذه الآية إن الزائدة في العنكبوت؟ والجواب: أنها كثيراً ما تزَاد، ولما وردت هذه الآية بلفظها مرتين، وردت الثانية بزيادتها ليحصلَ بين التَّوَارُدين ما يرفع تثاقل اللفظ المتكرر. فإن قلت: فإنه قد تباعد ما بين الآيتين، ومِثْل هذا لا يلحظ فيه ما ذَكَرت؟ فأقول: لما كان اللفظُ اللفظَ، وكان زيادة " إن " وعدم زيادتها هنا مقيس فصيح جيء بالجائزين معاً، وتأخرت الزيادة، إذ هي غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين. فإن قلت: إن قوله تعالى: (فلَمَّا أنْ جاء البَشير) ، لم يقع فيه تكرار، فلِم زيد (أن) ولم يأت على الأصل؟ قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب عليه السلام بعد طول الزمن، وتَبَاعد المدة، ناسب ذلك زيادة (أن) لما في مقتضى وَصْفِها من التراخي، فورَد كلّ من هذا على ما يجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 (ولقد أرْسلْنَا موسى بآيَاتِنَا وسلْطَان مُبين) : قيل هو مشتق من السليط الذي يستضاء به. وقيل: إنه مسلط على كل منّا ومخاصم، وزاد السلطان في هذه الآية وفي سورة غافر زيادة قوله: (وسلطان مبين) ، وورد في سورة يونس، والمؤمنين، ذكر تأييد موسى بأخيه هارون عليهما السلام، ولم يرد ذلك في غيرهما. وانفردت سورة المؤمنين بالْجَمع بين تأييده عليه السلام بأخيه وسلطان مبين، لأنه حيث يذكر سورة المرسل إليهم وقبْح جوابهم يقال أبداً بتأييده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضي القَهْرَ والإرغام، وهو المعبَّر عنه بالسلطان المبين، فيكون ذلك في مقابلة شَنِيع مجاوبتهم وسوء رَدِّهم. وبالجملة فإنه إذا اجتمع إفصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع في التمهيد المتقدم بين التأييد بهارون والسلطان المبين، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بينا، كقوله: (فاتبَعوا أمْرَ فِرْعون) . (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) : هذا المجروو في موضع الحال من (ربك) ويحتمل أن يريد بظلم منه تعالى لهم. قال الطبري: وقيل يحتمل أن يريد بشرك منهم، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم وعَدْل بعضهم في بعض، أي أنهم لا بد من معصية تقترن بكفْرهم. وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمْهل الدّوَل على الكفر، ولا يمْهلهَا على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متَّجِهاً، أي ما كان الله ليعذِّبَ أمة بظلم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان. والاحتمال الأول أصحُّ إن شاء الله. وجيء بالفعل هنا (ليهلك) إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم، فلو كان في كل أمة وقَرْن مَنْ يَنْهَى عن الفساد والظلم لما أخذوا بذوي الظلم منهم ولكن الله تعالى يدفَع ببعضهم عن بعض، ولكن تكرر الفساد، وعَمّ كل قَرْن، فتكرر عليهم الجزاء والأَخذ، فأشار بالفعل إلى التكرر، ولم يكن قوله، (مهلك) في سورة القصص ليعطي ذلك وهنا كقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 (أولم يَرَوْا إلى الطير فوقهم صافَّات ويقبضن) ، ولم يقل وقابضات لما قصد من معنى التكرر. (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ، الإشارة إلى الاختلاف في المذاهب والأديان والملل. وقيل الإشارة إلى الرحمن، وقيل إليهما. (وكُلاًّ نقُصُّ عليكَ مِنْ أنباءَ الرُّسُل) : انتصب كُلاًّ بـ نقصُّ و (ما) بدل من كلاًّ، والإشارة في: (وجاءَكَ في هذه) إلى السورة. (وإن كنْتَ مِنْ قَبْلِه لمِن الْغَافِلين) ، أي من قبل القصص غافلاً عن معرفته، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله، لكونه جاء به من غير تعليم. (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) : قيل هي عبارة الرؤيا، واللفظ أعمّ من ذلك. (والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأيْتهم لي ساجِدِين) : كرر الفعل لطول الكلام، وأجرى الكواكبَ والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لمّا وصفها بفعل مَنْ يعقل. هذا يوسف أنجاه عِلمُه من ذلِّ السجن والبلوى، وأنتَ يا محمدي عَلّمك الله عِلْمَ كتابه، أفلا ينْجيك علمك به من ذل الذنب، ويوصلك إلى جوار الرب، وقد اجتباك بقوله تعالى: (هوَ اجْتَتاكم) . هذه رؤيا وافق تعبيره على ما رأى، وعصمه الله، ووصل إلى الملك، وكيف لا يعدّلك الملكَ الأعظم، ويحفظك من مكايد إبليس ونزغاته عند الموت. (وَاردَهُم) : الوارد هو الذي يستقي الماء، وكان سيدَ القافلة مالَك بن ذعر من العرب العاربة، فلما رأى يوسفَ تَفرَّس فيه الصلوحية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 فطلب من يوسف الدعاء، فدعا له بالنسل، لأنه لم يكن له، فدعا له فرزقه اللَهُ اثني عشر ولداً، أعقب كلّ واحد منهم قبيلة. (وأسَرّوهُ بضَاعة) : الضمير للسيارة، والمفعول ليوسف. أي أخفوه من الرّفْقَة، وقالوا: دفعه لنا قومْ لنبيعه بمصر. (واللهُ غالِبٌ على أمْرِه) : في عودة الضمير وجهان: أحدهما أن يعود على الله. والمعنى أنه يفعل ما يشاء لا رادَّ لحكمه. والثاني أنه يعود على يوسف، أي يدبِّر اللَّهُ أمره بحفظه وكرامته، الا ترى أنه لما كان يوسف بحضرة والده وبِعَيْنِه حمله إخوته على أعناقهم، فلما غاب عن بصره توجهت إليه المحنُ، وقاسى الشدائد، وكانت عاقبته الملك. وأنت يا محمدي، مالك لا تخاف من نظر اللهِ إليك، فيراكَ على مخالفته. ويحرمك من رحمته. (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، لأنها جبذته إلى نفسها حين فَرَّ منها، ولهذا يحكم القاضي بالقرائن المغلِّبة للظن غالباً. وقد قدمنا أن هذا الصبي كان من أقرباء زليخا وصل وزارة يوسف بشهادته له. وأنْتَ تشهد لخالقك بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، أتراه لا يوصلك للملك الكبير، وهو على كل شيء قدير! اللهم إني أشهدك بما شهدت به لنفسك، وثَنَّيْت بملائكة قدسك، وثلثت بأولي العلم من جِنِّكَ وإنسك، إنك أنْتَ الله لا إله إلا أنت وحْدَكَ لا شريك لك. وإن محمداً عبدك ورسولك، وأستودعك هذه الشهادة وأنْتَ تحفظ الودائع. ولا تخيب من استودعك، فرُدَّها علينا وقْتَ احتياجِنا إليها. (ولج) يلج، أي دخل، ومنه ما يلج في الأرض. وأولج يولج، ومنه: (يولج الليلَ في النهار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 (وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ من الحزْن) ، أي من البكاء الذي هو ثمرة الحزن، فقيل: إنه عمي. وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. وفي الحديث: إن يعقوب حزن حزْنَ سبعين ثَكلَى. وما ساء ظنّه باللهِ قطّ، فلذا أعطي أجْرَ مائة شهيد. (وأعْلَم مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمون) : هذا من قول يعقوب، يعني إني أعلم من لطفه ورحمته ما يوجِب حسْنَ ظني به وقوة رجائي فيه. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) : روي أنها لما نزلت قال عليه السلام: أنا المنذِر، وأنْتَ يا عليٌّ الهادي (1) . وقيل: معناها إنما أنت نبيء منذر، ولكل قوم هاد من الأنبياء ينذرهم، فليس قولك بمبْدع ولا مستَنْكر. وقيل المعنى: إنما عليكَ الإنذار، والله هو الهادي لمن شاء إذا شاء. (وجَعَل فيها رَوَاسِيَ وأنهاراً) : قد قدمنا أنَّ الرواسي الجبال، وقدمنا فائدة جَمْع الأنهار جمع قلة، والرواسي جمع كثرة. (ومِنْ كلّ الثمرات جَعَلَ فيها زَوْجَيْن اثْنَين) : قيل إنه معطوف على قوله: (رَوَاسي) ، فيكون متعلقاً بجعل الأول. وقيل: إنه متعلق بجعل الثاني. ورَدَّه بعض النحويين بأنّ فيه الفصل بين حرف العطف والمعطوف. وقد قال ابن عصفور في شرحه الكبير: ولا يجوز فصل حرف العطف والمعطوف إلا بالقسم أو بالظرف والمجرور، بشرط أن يكون حرف العطف على أزيد من حرف واحد. " وجعل " هنا معطوف على (جعل) الأول، ففصل بين الواو وبينه بالمجرور، وهذا جيد إلا أنْ يجاب بأنه من حرف الجمل، فهو استئناف. فإن قلت: هل المراد بالزوجين اثنين الذكر والأنثى، كقوله: (ومِنْ كلِّ شيءٍ خلَقْنَا زَوْجين) ؟ فالجواب: أنَّ المراد بالزوجين النوعين، قال الزمخشري: كالأسْوَد والأبيض.   (1) لا يخفي ما فيه من بعد بعيد، ولعله من أقوال الشيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 والحلو والحامض، والصغير والكبير، فإنها في أصلها كانت زوجين ثم تفرَّعت منها أنواع، فصارت أزواجاً. (وإنْ تعْجَبْ فعَجب قولُهم) : انظر هل هذا أمر تقريري، أو هو استدعاء له ليعجب. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقَّق الوقوع، وإن تدخل على المشكوك فيه، والتعجبُ من هؤلاء محقَّقٌ وقوعه، لأنهم أنكروا البَعْثَ، وخالفوا، مع علمهم أنَّ اللهَ خلقهم وأوجدهم، ومَنْ أوجد المخلوقات من عدم قادرٌ على إعادتها، قال: وعادتُهم يجيبون بأنَّ التعجبَ إنما يكون مما خَفِي بسببٍ، فما يَتَعَّجب إلا مَنْ يخفى عليه السبب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بأنّ ذلك الواقع منهم، أمْر قَدَّره الله، وأراده منهم، فهو في خاصته لا يَتعجَّب منهم، فضلاً على أن يكون تعجّبه منهم محققا، بدليل قوله تعالى: (أتَعْجَبِينَ مِنْ أمْر الله رحمةُ الله وبركاتُه) قال أبو حيان: فعَجب مبتدأ وخبره قولهم إذا. ورُدَّ بوجهين: الأول أن قولهم في رتبة العلم، وعَجب نكرة. والثاني أن محل الفائدة في عجب، لأنه المجهول، وقولهم: أإذا كتا تُراباً - هو المعلوم. وقولهم: (لفي خَلْقٍ جديد) يحتمل أنْ يريد بالجديد ما سبقه عدَم، ويحتمل أنْ يريدَ به ما لم يُسْبَق بوجود. وهذا هو الأظهر، لأجل تعنُّتهم، فهم يجعلون الإعادة كأنها خَلْقٌ آخر لم يسبق بوجود ألبتَّة، فلذا نفَوْها. ومذهبُ أهل السنة أنَّ الإعادة ممكنة عقلاً واقعةٌ سَمْعا، وهل تُعَادُ الأجساد أم لا، مذهب أهلِ السنة أنها تُعَاد، لأنَّ الوجود قسمان: إما متحيز أو قائم بالتحيز، فالأرواح إن كانت متحيزة فهي أجسام، وإن لم تكن متحيزة فلا تستقلّ بنفسها، ولا بُدّ لها من أجسام تحلّ فيها، فلا بدَّ من إعادة الأجسام خلافاً للحكماء وغيرهم. (ويَسْتَعْجِلونَكَ بالسيِّئةِ قَبْلَ الحسنةِ وقد خَلَتْ من قبلهم الْمَثُلاَت) . انظر هل المراد أنهم طلبوا الأمْرَيْن، أو طلبوا السيئة فقط، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الظاهر، لأن الحسنةَ بعدها، فما تأتيهم إلا وهم قد هلكوا. ويحتمل أن يهلكوا من غير استئصال، والمراد بالْمَثلاَت القرون، لأنه وقع بها من العذاب ما صيَّرها يُضْرب بها الْمَثَل. (وإنَّ ربَّكَ لذو مَغْفِرةٍ للناس على ظلْمهم) : قال ابن عبد السلام: هذه الآية نزلت على ترجيح جانبِ الخوف على جانب الرجاء، لقوله: (ذو مغفرة) ، وهو للتقليل، وإنما أخذه من كون المغفرة مصدراً محدوداً بالتاء الدالة على الواحدة، على العقاب، مصدر مبهم يقع على القليل والكثير، فلو قال: إن ربك لغفار للناس لأَفاد المبالغة. قال ابن عطية: والظاهر في معنى المغفرة هنا إنما هو سَتْره وإمهاله للكفرة. أَلاَ ترى التيسير في لفظ المغفرة، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة، كما في قوله تعالى: (وإني لغَفَّار لمَنْ تاب) . وذكر الزمخشري في سورة غافر في قوله تعالى: (إنّ اللَهَ لذو فَضْلٍ على الناس) ، أن إدخال (ذو) يدل على عِظَم فَضْله وكثرته، ونحوه لابن عطية في سورة الروم في قوله: (فآتِ ذَا القرْبى حَقَّه) ، ونحوه للقاضي عياض في الإكمال في حديث سعد بن أبي وقَّاص في الوصية حيث قال: قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وإني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي. (وكلّ شيء عنده بمقدار) : انظر هل المراد به القدرة وهي الإبراز من العدم إلى الوجود، أو الإرادة وهي التخصيص، أو العلم وهو الكشف والاطلاع. والظاهر أنَّ المراد به الإرادة وأن كل شيء عنده مقدَّر مراد، لأنه أَتى به عُقَيب قوله: (وما تَغِيضُ الأَرْحامُ وما تَزْدَادُ) ، فثمَّ حمل ناقص، وحمل زائد، وحمل معتدل، فقال: كلّ ذلك مقدَّر مرَاد له، لأن تخصيص الناقص بالنقص، والزائد بالزيادة، إنما هو راجع للإرادة، والظاهر أنه من العمومات الغير مخصصة، كقوله تعالى: (واللَه بكلِّ شيء عليم) . (وإذا أَراد الله بقَؤمٍ سوءًا فلا مَرَدَّ له) : هذا احتراس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 إشارة إلى أنَّ (الْمُعَقِّبات) ، إنما يحفظونه مما أراد الله عدمَ وقوعه. وأهل السنة يعمِّمون لفظَ "القَوْمِ" في الطائع والعاصي، والمعتزلة يخصصونه بالعاصي بناء على قاعدةِ التحسين والتقبيح عندهم. (ولا مردَّ له) ، أي لا دافع عنه ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم برفعه عنهم بعد وقوعه. (ويُنْشِئُ السَّحَابَ الثقَال) : اختلفوا في ماء المطر، هل هو من السماء، أو من البحار يتصعّد منها بخار وتكسبه الأهوية رِقّة وعذوبةً فيتكون في السحاب ثم ينزل مطراً. وقيل بالوقف، وهو اختيارُْ ابْنِ رشد في البيان. وذكر بعضهم أنه إذا سخن ماء البحر وجُعلت على القِدْ نشّافة فإنه يَعْذب. وقيل: بل تنكسر حدَّته ويشربه المضطر إليه. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) : قيل: إنَّ الرعد اسم ملك، وردَّه بعضهم لقوله تعالى: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) . فقد نكره، فإن كان لفظ الرعد هو العلَم على الملك لم يجُزْ حذف الألف واللام منه، كما لا يُحْذَف من القاسم والعباس، وإن كان العلم عليْه الرعد لزم إدخال الألف واللام هنا على الاسم العلم، وهو جائز. ويحتمل أن يكون الألف واللام لِلَمح الصفة، فإن لمحتَها أدخلتها وإلا فلا. وقيل الرعد صوت ملك. وقال الحكماء: اصطكاك الأجرام. فإن قلت: لم أسند الحمد للرعد والخوف للملائكة؟ فالجواب إن كان الرعد اسم ملك فأسند الحمد إليه إما لأنه جرْم أعظم من سائر أجرام الملائكة، فهو في مقام الحمد لا في مقام الْخَوف، وإمّا ليدل اللفظُ دَلالتين: دلالة مطابقة والتزام، فأسند التحميد إليه مع الملائكة لدخوله فيهم، أو يكون حذَفَ من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول، أي ويسبِّحُ الرعْدُ من خيفته بحمده والملائكة بحمده من خيفته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وإن أريد بالرعد السحاب فالمعنى أنه سبَّح اللهَ وحمده على إبرازه إياه من العدم إلى الوجود بلسان الحال لا بالقول، إذ لا عقل له، فلذلك لم يُسنِد الخوف إليه، بخلاف التسبيح، لقوله: (وإنْ من شيء إلاَّ يسبِّحُ بحَمْده) . والخوف إنما يقَعُ من العاقل. (والذين يَدْعون مِن دونه) : لم يَدْعُوهم مِنْ دون الله: لكن الجزء الذي شركوهم فيه مع الله في العبادة دعوهم فيه من دونه. (يستجيبون) : ليس هو من استفعل بمعنى طلب الفعل، وإنما هو كقول الشاعر: وداعٍ دعا يَا مَنْ يُجيب إلى النَّدا ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذلك مُجِيب فعلى هذا لا سؤال، وإن لم يكن بمعنى أجاب يرد فيه بأن استجاب خاصة بمن أجاب بما يوافق غَرَض السائل. وأجاب علامة في المجيب بالموافق والمخالف، فيقال لهم نفي جوابهم بالموافق، مع أنهم لا يجيبون بشيء على الإطلاق، فيجاب بأن مطلوبهم من الآلهة إنما هو حصولُ غَرضهم، فنفاه. وأما غيره فليس مطلوباً لهم، فلم يحتج إلى نفيه، قاله الزمخشري. وقوله: (كباسطِ كَفيه) : يحتمل أن يريد به إلا استجابة كاستجابة باسط، أي كاستجابة الماء من بسط كفيهِ إليه يطلب أنْ يبلغه فاه. والماء جماد لا يشعر بعطشه ولا بدعائه له. وشَبَّه باسطَ كفيه للماء دون فاتح فيه للماء، لأنه داعٍ، وشأن الداعي أن يبسط يديه. (وما هو بِبَالغهِ) : الفعل يقتضي التجدد، والاسم يقتضي الثبوت، فإذا أريد المبالغة عبّر في الثبوت بالاسم، وفي النفي بالفعل، لأنه يلزمُ من نفي ثبوت الصفة وقتا ما نَفْى ثبوتها دائماً، ولا يلزم من نفي ثبونها دائما نفي ثبوتها وقتاً ما، وكذلك يؤتى في الأعم بالنفي، وفي الأخص بالثبوت، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأعم يستلزم تفْي ثبوت الأعم، ونحوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 للزمخشري في قوله: (فلما أضَاءَتْ ما حَوْلَه ذهب الله بنورهم) . وجاءت هذه الآية على العكس في قوله: لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) . فعبَّر بالثبوت في الفعل، وفي النفي بالاسم، فنفى عنه البلوغ الثابت دائما، ولا يلزم منه في البلوغ المتجدد الثابت وقتاً ما؟ والجواب أنَّ القرينةَ هنا تنفي هذا المفهوم المتوهَّم، وتعتن أنَّ المراد نفْيُ البلوغ على الإطلاق كيفما كانت. (ومِمَّا يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حِلْيَةٍ أو مَتاع زَبدٌ مِثْلُه) : الزمخشري: هو كل ما يلين من المعادن، فإذا برد اشتد وتبين، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. والحلية: كل ما يتحلَّى به من الذهب والفضة وغيرها. (والذين يَنْقُضون عهدَ الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللهُ به أن يوصَل) : هذا دليل على أن العهد يطلق على الوعد، وعلى الأمْرِ المشقّ الْمُلْتَزَم، ولو كان العهد هنا الميثاق لما كان لقوله: (من بَعْد ميثاقه) فائدة. وقيل هي مباينة لما قبلها، ووقعت المبالغة فيما قبلها بتسعة أوصاف، وفي هذه بثلاثة أوصاف: لأن الأولى في معرض الجزاء على الطاعة. وهذه في معرض العقوبة على المعصية، فناسب المبالغة في الأولى، تأكيداً على المثابرة على الطاعة، وعدم المبالغة في هذه تنفيراً عن المعاصي، وأن العقاب يقع على أدنى شيء من المعصية. ووجْه ثان: وهو أن نقض العهد إشارةٌ إلى العهد المأخوذ على الخلائق يوم: (ألَسْتُ بربكم) ، فهو راجع إلى التوحيد. وقطع ما أمر الله بوصله: راجع إلى الإيمان بالرسول، لأن تكذيبه قطع له مِن مرسله، والإيمان به إقرار بصلته مع مرسله. والفساد في الأرض راجعٌ إلى المعاصي. وفي الآية حجةٌ لمن يقول: إن المندوب غير مأمور به، لأنها في معرض الذم لفاعل ذلك، فلو كان مأموراً به لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 تناوَلَهُ الذمُّ، وليس المراد مَنْ جَمعَ هذه الأوصاف، بل من اتصف بواحدٍ منها. فإن قلت: هل قوله تعالى: (لهم اللعنةُ ولهم سوءُ الدار) ، لمن اتصف بها، سواء كان مؤمناً أو كافراً؟ والجواب: أنَّ اللعنةَ للكفار وسوء الدار للعُصَاة، فهو لفٌّ ونشر! وإدخال اللام تهكم بهم وإشارة إلى أن اللعنةَ أمرٌ ملائم لهم ومناسبٌ لفعلهم! فليَحْذَر العاقلُ هذا الوعيد الهائل ولا يستحقر العاصي. (وفَرِحوا بالحياةِ الدنيا) : هذا يرجع إلى الكفار الذين جعلوا الدنيا دَارَهم، وهل هي إلا سجنُ المؤمن إن عقل، لِمَا يَسْتَولي عليه فيها من الهموم والبلايا والحيات والقمل. ووَجْهُ المناسبة بينها وبين السجن ظاهرة، فانظر ما أغْفَلَنا عن الآخرة مع مشاهدتنا لهذه الأمور! ولهذا تجد الكفار يوسعَّ عليهم في الدنيا ليزدادُوا كفْرا وفِسقاً، وكذلك الموسَّع عليه منا أكثر ترفُّهاً وعصياناً، ولهذا قال في حديث: " أولئك قوم عجلت لهم طيباتُهم في الدنيا ". (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : لولا للتحضيض، كقول الفقير للغني: لولا أحسنْتَ إليَّ. فأجابهم الله بأن يقول لهم: إنما أنا عبد، والعبد ليس له مع سيده اختيارٌ، وسيِّدُه أعلمُ بأموره، إما أنْ يضلّه أو يهدي إليه مَنْ أناب. فإن قلت: لم جعل فعْلَ المشيئة مضارعاً والإنابة ماضياً، والمناسب العكس. لأن مشيئة الله قديمة وإنابة العبد حادثة، وفي غافر: (وما يتَذَكَّرُ إلا مَنْ يُنيب) ؟ فالجواب، أن فعل المشيئة أتى مضارعاً باعتبار متعلّقها، وهو من فعل العبد وغير مطلوب لأن أصلها من الله، فلم يحتَجْ إلى طلب متعلّقها. والإنابة من فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 السيد، فجاء فعلها ماضيا إشارة إلى تأكد طلبها حتى كأنها واقعة. وأيضاً مشيئة الله دائمة مستمرة، وإنابة العبد منقطعة، فهو إشارة إلى أن مَنْ أناب ليس على وثوق مِنْ بقاء إنابته واستمرارها في المستقبل إلا بهداية الله وتوفيقه. والآية عندي صريحةٌ في مذهب أهل السنة، لقوله: (يَهْدي إليه) ، أي يخلق في قلبه الهدايةَ ويُرشده إليها. وأناب إشارة إلى ماله في ذلك من الكسب. ثم ذكر حالهم أنهم آمَنوا به واطمأنّت قلوبهم بذكره. فإن قلت: كيف تطمئنُّ قلوبهم بذِكْرِه وقد ذكرهم الله في آية أخرى: (الذين إذا ذكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهم) ، فهذه اقتضت أنَ ذكر الله موجب خَوْفه والوَجَلَ منه، والأولى اقتضت طمأنينة قلوبهم؟ والجواب: أنهم لما سمعوا ذكره تعالى حدث لهم خَوْف منه ووَجَل، ثم تعقبه طمائينة وسكون، كما قال القائل. وإنّي لتَعْزوني لذِكْرَاك فَترة ... كما انتفض العصفورُ بلَّلَه القَطَر وقال ابن عبد السلام: معنى الأولى أنهم إذا أخبروا أنَّ الله تعالى ذكرهم اطمأنَت قلوبهم وسكنَتْ، لأنهم يعلمون أنَّ ذلك رحمة منه بهم واعتناء بذكرهم، وجاء قولهم: (إذا ذكِر الله وجلَتْ قلوبهم) على الأصل من حالهم، لأن حالهم الخوف، فإذا ذكر الله ازداد وَجَلهم وخوفهم من عقابه. وهذا جوابٌ حسن. وهذه أمور ذوقية لسنا من ذلك على ذوق، فلا القلب يطمئن ولا يوجل، اللهم أقِل العَثْرَة واغفر الزلة. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) . وجوابها مقدر، أي لا آمنوا به، والقضية الشرطية تقتضي نفيَ الأول لانتفاء الثاني، نحو: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان. وتارة تقتضي ثبوتَه لثبوته، نحو: لو لم يكن هذا حيواناً لما كان إنساناً، لكنه إنسان فهو حيوان. وتارة تقتضي مجردَ الملازمة والارتباط، نحو: لو حضر زيد لحضر ثوبه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 والآية من هذا القسم، والعطف فيها تدلّ، لأن تسيير الجبال أقرب وأعجب لعظم جرمها وكونها جماداً لا يقبل الاتصاف بصفة الحيوان، والسير من صفة الحيوان، ولم يقع ذلك فيها بوجه، ثم يليه تقطيع الأرض لكثرة وقوعه، لاسيما ما قاله ابن عطية من أنه تفجير أنهارها. ويليه تكليم الموتى، لأنه قد وقع لعيسى عليه السلام وغيره. (ولقد استهْزِئَ برسُلٍ من قبلك) . الآية: فيها دليلٌ على أنه لا أثر للاستهزاء على الكفر مع الكفر، لأن الاستهزاء كفر وزيادة. وتعليق الحكم على الوصف المناسب يُشعر بغلبته له، والاستهزاء هو عَيْن الكفر، وهؤلاء لم يكونوا في زمن الفترة، بل كانوا مؤمنين بغيره، وما عُلِم كفْرهم به إلا من لفظ الاستهزاء، وفيها دليل على صحة العمل بالقياس، لأن الآيةَ سيقت مساق التخويف للكفار، والتسلية لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما وَجه التخويف إلا من ناحية أَن المشاركة في الوصف توجب التسوية في الحكم الناشء له، والكفار المعاصرون لنبينا مشاركون لمن سبقهم في الاستهزاء. واقتضت الآية أنَّ مَنْ سبقهم عُوقب، فكذلك هؤلاء. ولا معنى للقياس إلا إثبات حكم الأصل للفرع لعلة جامعة. وتنكير لفظ (رسل) للتشريع، ولا يناسب التعظيم، ولا يحصل به التخويف. لأنهم يقولون: إنما عُوقبوا أولئك على استهزائهم بعظماء الرسل فما يلزم منه عقابنا نحن. فإن قلت: كيف أكد هذا القسم باللام وقد مع أن الماضي بعيد عن زمن الحال؟ والجواب: تنزيلاً له منزلةَ القريب، ليحصل كمال التخويف. ولما أخبرهم بالإملاء فعلم العاقل منهم أنَّ الإملاء أشد من الإمهال بكثير، لأنه يتضاعف به العذاب، فأسرع إلى الدخول في الإسلام، وعَلم أن تيسير أسبابِ الوقوع من موجبات عذاب آخر، والأمر كذلك، لأنَ الله تعالى يقول: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) . ويحكون في مثل هذا أنَّ صبيّاً مسلماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 صفع يهوديّاَ في الحمام، فأعطاه اليهوديّ ديناراً مكيدةً منه للصبي، فدخل ذو هيئة فصفَعه الطفل ظانًّا أنه يأخذ منه أكثر، فقطعت يده. فافْهَمْ يا محمدي ما تَحت الإمهال والإملاء من الأهوال، ولا تحسبن إمهاله إهمالا. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) : تارة تبطل الدعوى ببيان بطلان مدلول دليلها، وأبطل عليهم بهذه مدلولهم السمعي. وهو قوله: (أم بظَاهِرٍ مِنَ الْقَول) ، وهو قولهم: (ما نَعْبدهم إلاَّ ليقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى) ، وقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عِنْدَ الله) . فقيل لهم: هل بلغكم ذلك عن الله على ألسنة الرسل أم لا، وقد خلط الزمخشري في قوله: (شركاء) على عادته في خَلْط لفظ القرآن بكلامه. وأما العقلي فبطلَ ببطلان مدلوله، وهو قوله: (قل سَمّوهم أم تنَبِّئونه بما لا يَعْلم في الأرض) ، فهو غَيْرُ معلوم للَه، وكلُّ ما ليس بمعلوم لله فليس بموجود ولا معدوم إن قلنا إنَّ المعدوم الممكن معلوم، فدل على أنه محال. فإن قلت: كيف قال: (قل سَمُّوهم) وهم سمّوهم، فقالوا: اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وفي آية يونس: (قل أتنبِّئونَ اللهَ بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) . وفي هذه السورة: (بما لا يعلم في الأرض) . وفي سورة إبراهيم: (وما يخْفَى على الله من شيءً في الأرض ولا في السماء) ؟ والجواب: ليس المراد مجرد التسمية، بلِ تعيينهم. والمعنى أنه إنما يستحقُّ اسْمَ الإله مَنِ اتّصفَ بالاستغناء والكمال، وتنزه عن العجز والاحتياج، فعيِّنوا لنا شركاء متَّصفين بذلك، فإنهم لا يجدونهم. وإنما خصَّ الأرض بالذكر لأنّها المشاهَدَة القريبة، وإلاّ فقد عبدوا الشِّعْرَى والعَبور، وعَبدوا الشمس إلى غير ذلك. ونَفْى علم الشيء عن الله يستلزم عدمَ ذلك الشيء، وفيه دليل على أنَّ العدم غير معلوم. وفي المسألة ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور. إلى أنه معلوم، وقيل إنه غير معلوم. وقيل المستحيل غير معلوم، والممكن معلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 (وإمَّا نرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهم) . الآية: تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووَعْدٌ له بتعذيبهم. ومعناها إمّا نرِيَنَّكَ بعضَ ما ينزل بهمِ من العذاب فلا تَتَوهم أنَّ عليك في ذلك شيئاً، لأنك إنما عليكَ البلاغ، وقد بلّغْتَ، أوْ نتَوفّاكَ قبل رؤيتك ذلك فعلينا حسابهم، لأنهم إذا عذّبوا بعد وفاته انتفى التوَهُّم. فإن قلت: هل هذا وعْد له - صلى الله عليه وسلم - بتعذيبهم أو وَعيد، فأطلق الوعد على الوعيد؟ والجواب أنهما اجتمعا في هذه الآية، وآية الزخرف أبلغ لأن قوله تعالى: (أوْ نرينكَ الذي وَعَدْناهم) ، اقتضت رؤيته بعض عذابهم. وهو ماينزل بهم في الدنيا قَبْل وفاته، وكان بعضهم يقول: الوعد بالإحسان أو بالنصرة على الأعداء من السلطان أو الرجل ذي الهيبة ليس كالوَعْد ممن دونه، لأنَّ الأول يحصل منه كمال الطمأئينة والركون. فإن قلت: ما الفائدة في تأكيد الآيتين بالنون مع أن أحدها محقّق الوقوعِ لا شك فيه، وإنما المُهمّ تعيين الواقع منهما؟ والجواب: أَنَ التأكيد راجع للجزاء لا للشرط. فإن قلت: إنما هو في الشرط فقط، فاعلم أنَّ الشرط والجزاء مرتبطان، ألا تَرى أن القائل: إنْ قام زيد فأنا أكرمه - يحسن أن يقال له صدقت أو كذبت، والتصديق والتكذيبُ إنما هو للجزاء لا للشرط. (وهوَ سَرِيعُ الحساب) : سرعة حسابه إما باعتبار قرْب أوانه أو قِصر زمانه وقلة مكثه. وقال ابن عطية في سورة آل عمران عن مجاهد: يحتمل أنَّ المرادَ بسرعة الحساب أنَّ الله تعالى لإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عدول أو فكرة. ويستدلّ بها أنَّ الله سبحانه يحاسب آلاف آلاف في وقتٍ واحد من غير علم أحدهم بالآخر، وهذا مشاهَدٌ في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في أقطار شتى على هيئات مختلفة، ورؤية أموات في أقطار الأرض لمنكر ونكير في وقتٍ واحد هذا يقع له التبشير بقولهم، وآخر يضربانه ضربةً يشتعل منها قَبْرُه ناراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 (وقد مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهم) : قد قدمنا صفةَ مكرهم. ولذلك أجابهم بقوله: (فلِلَّهِ المَكرُ جميعاً) ، لأن مكرهم من غير قدرة، وقدْرَتُه تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم. فإن قلت: " من " لابتداء الغاية. فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟ والجواب المراد أوَّل أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمنُ القريب مِن وقتك. (ويقول الذين كفَرُوا لسْتَ مُرْسلاً) : هذا تصريح بإنكارهم وقبح مقالهم، وكيف لا وقد رأوا ظهورَ الخوارق المعلوم صِدْق من ظهرت على يديه بالضرورة، وكان الواجب عليهم النظر، لأنه واجب بالشرع خلافاً للمعتزلة، فإنهم قالوا بالعقل، ولو كان واجباً بالشرع للزم عليه إفْحام الرسل، لأنه يقول: ما ننظرُ في معجزتك حتى يجب ذلك عليَّ، ولا يجب عليَّ إلا بقولك، وأنَا لا أصدقك. وأجاب أهل السنة على ذلك بأن المعجزات والخوارق من الأمر الغريب. والنفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور، وأيضاً إن قلنا: إن النظر بتكليف ما لا يُطاق، فنقول: إنه واجب، ولا يلزم ما ذكروه، وإن لم نقل بذلك فنقول: إنه متوقف على تمكّن العلم بنبوءةِ الرسل لا على حصول العلم بنبوءته. ونقول له: إنك متمكّن من العلم، فانْظُر النظر الذي يوصلك إلى ذلك العلم. فإن قلت: مقالَتهم ماضية، فلم قال، (ويقول الّذين كَفرُوا) ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أتى به مستقبلاً للتعجيب، كقوله: (ألم ترَ أنَّ الله أنزلَ من السماء ماء فتصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) ، ولم يقل فأصبحت. والثاني للتصوير، كأنها لم تزل واقعة مشاهدة. والثالث ليتناول اللفظ مَنْ قالها ومَنْ سيقول مثلها في المستقبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 فإن قلت: هَلاَّ قال: لست نبيئاً، فينتفي الأعَم! لأن نَفْيَ الأعم يستلزم نَفْيَ الأخَص؟ والجواب أنَّ نفي الأخص هنا يستلزم نَفْيَ الأعم، لأنه قال لهم: (يا أيها الناس إنِّي رسول الله إليكم جميعاً) ، فكذَّبوه في هذه المقالة، فإذا كذّبوه فيها فهم لا يصدِّقونه في نبوءته! لأن النبي لا يَكذِب. (وما أرْسلْنَا من رسولٍ إلا بلسان قَوْمِه) : فيها دليل على أنَّ واضعَ اللغة هو الله تعاَلى. واختلف هل الكتب المنَزَّلة نزلت بلغاتهم أو بالعربية، وكلّ رسول يعبِّر لهم بلغتهم. وقد قدمنا ذلك. وفي قوله: (فيُضِلُّ اللَه مَنْ يشاء ويَهْدِي مَنْ يشاء) ، دليلٌ على أنَّ حصولَ العلم عقيب النظر عاديّ، وليس بعقلي، إذ لو كان عَقْليّاً للزم من البيان الهداية. ويحتمل أن يقال لا يلزم ذلك، لأن المخاطب قد لا ينظر النَّظَر الموصِّل للعلم. (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ من الظلماتِ إلى النُّور) . الظاهر أن (أنْ) هنا تفسيرية. وقال بعض النحاة: إن النحويين يمنعون وصلَ (أن) بالجملة غير الخبرية. وذكر ابن العطار في شرح الجزولية جوازَ ذلك. فإن قلت: هلا قال: أن أخْرح قومك من الظلمات إلى النور بإذن الله، كما قال أوَّلاً: (لتُخْرجَ الناسَ من الظّلُمات إلى النور بإذْن رَبِّهم) ؟ والجواب أنَّ الأول خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَرِيعَتُه من أسهل الشرائع، فناسب فيها ذِكر الإذْن لئفِيد معنى السهولة واللين المأذون فيها، وهذه الآية الثانية خطابٌ لموسى، وقد كانت شريعته صعبةً، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فتُوبُوا إلى بارئكم فاقْتلُوا أنْفُسكم) . وأيضاً " أخْرج " فعل أمر! فهو بنفسه دليل على الإذن، فلم يحتج إلى ذكره معه، بخلاف قوله: (لتُخْرج الناسَ) ، فإنه جملة خبرية لا تدل على الإذْن، فلذلك قيدت به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 (وذَكِّرْهُم بأيَّام الله) : التذكير لقوم موسى سببٌ في إخراجهم من الظلماتَ إلى النور، واللفظُ يعمّ النعمَ والنقَم، فإذا علموا عقوبتَه تعالى للأمم المتقدمة حرَّكوا أنفسهم للإخراج من الكفر. فإن قلت: كان حقه أنْ يقدم السببَ على المسبب، فَلِمَ أخَّرَه عنه، وما الفائدة في تعبيره عنه بالأيام؟ والجواب: أن التذكير هو الموعظة، والدعاء إلى الإسلام متقدِّم عليها. والموعظة إنما تكون بعد ذلك، لأنه يريهم المعجزةَ ابتداء، فإذا آمنوا وعظهم ليدوموا على إيمانهم. وعبَّرَ عنه بالأيام، لأن العقوبةَ كانت في أيام، وذلك تعظيم لها، كقولهم: يوم كذا. (ويَسْتَحْيون نساءكم) : لما أخبر فرعون أنه يولد من بني إسرائيل مولود يكون سببَ هلاكه صار يَذْبَحُ المذكور، ويَسْتَحْيي النساء كما قدمنا. فإن قلت: هَلاَّ قال: يستحيون بناتكم، ليوافق أبناءكم؟ والجواب: أن البنات في حالِ صغرهنَّ لا مؤونة منهنَّ ولا مشقة، وإنما يلحق آباءهم المؤونة والمشقة إذا كبرن وصِرْنَ نساء، وفيها إشارةٌ إلى الوصف الذي لأجله أحيوا البنات وهو بقاؤهن حتى يكبرن فيحتقروهن ويذلّوهن لبقائهن بغير رجال. فإن قلت: هذا العطف بـ يذَبحون ويستحيون على يسومونكم مشكل، لأن العطفَ يقتضي المغايرة، فإن كان السوم هو الذبح لزم عطْفُ الشيء على نفسه، وإن كان غيره لزم تفسير الشيء بغيره؟ والجواب: أنه غيره. لكنه أعَمّ منه، فالسَّوْمُ هو أوائل العذاب ومقدماته، والذبح أخصُّ منه. فإن قلت: ما الفرق بين هذه الآية وآية البقرة في عطفه هنا بالواو؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 والجواب: أن المنَّةَ في آية البقرة وقعت من الله تعالى، لأنه قال فيها: (وإذ نَجَّيْناكم من آل فِرْعون) ، فأسند الفِعْلَ إلى نفسه، والملك كلّ الأشياء عنده حقير، فلهذا أتى بالجملة الثانية غير معطوفة لتكونَ مفسِّرة للأولى وكأنهما شيء واحد، لأنه لا يَسْتَعْظِم الأشياء إلا مَنْ لا قدرةَ له، فالمائة دينار لا قَدْرَ لها عند الغني، وهي عند الفقير مال معتبر، وأما في هذه السورة فالمِنَّةُ فيها من موسى عليه السلام، لأن أولها: (وإذ قال موسى لقومه) ، فناسب فيها المبالغةُ في العطف بالواو التي تقتضي المغايرةَ والتباين، لتكثر أسباب المنِّ. وأجاب صاحب درة التنزيل بأنّ آيةَ إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر آخر قبله: وهو قوله: (ولقد أرسلنا) . - (وإذ قال موسى) ، فتضمَّن الأول الإخبار عن إرسال موسى بالآيات، والثاني تنبيهه لقومه على نِعم الله، فيقوى معنى العطف (يذَبحون) ، لأنه هو وما عطف عليه داخلٌ في جملة معطوفة على غيرها، فالمقام مقام الفصل، بخلاف آيةِ البقرة، فإنه أخبر فيها بخبر واحد، وهو إخباره عن نفسه بإنجاء بني إسرائيل، فلذلك لم يعطف، وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين، فلذلك عطف، يريد والجملة المتقدمة في سورة البقرة إنما هي طلبية، وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، والمشاكلة تقتضي الإخبارَ، وتُجرَى مَجْرًى واحداً في الفصل والوصل، بخلاف الخبر والطلب، فإنه لا يعامل أحدهما معاملةَ الآخر، ألاَ ترى أنَّ المشهور عند النحويين أنه لا يجوز عطفُ الجملة الخبرية على الطلبية ولا العكس. (وإذ تأذَّنَ ربُّكم) : قيل أذَّنَ ربّك، ونظيره توعّد وأوعد، وتفضل وأفضل، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ تأذن ربّكم إيذانا بليغاً ينفي عنه الشكوك، ولأجل أن تفعّل يقتضي التكلّف والمشقة حمله الزمخشري - والله أعلم - على أنَّ التضعيف للتأكيد والمبالغة في الإذن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 فإن قلت: لأي شيء أضاف الربّ للمخاطب، والأصل إضافته إلى المتكلم. فيقال: ربّنا؟ والجواب: أنه لا طلب منهم الشكر أتاهم بأحد موجباته، وهو اللفظُ الدالُّ على الترقي والحنان، وأضافَهُ إليهم ليكونَ آكدَ في الشكر. وأما هو فشكره حاصل، ومعرفته بذلك مستقرةٌ ثابتة. (وإنّا لفِي شَكٍّ) : قد قدمنا في قصة صالح أنَّ الشك هو التردد بين أمرين. فإن قلت: قد قال في سورة هود: (قالوا يا صَالحُ قد كنْتَ فِينا مَرجُوًّا) ، فلم حذفه هنا؟ والجواب: لتكرارها في (تدعوننا) ، ولم يحذفها لعدم تكرارها في تدعوننا، لأنه خطاب لصالحٍ وحْدَه، فهو ضمير مفرد. فإن قلت: كيف جزموا أولاً بالكفر، ثم قالوا: (وإنا لفي شَكٍّ) ، والشاكَّ غير حاكم بشيء فضلاً عن أن يكونَ جازِماً به؟ والجواب: أنَّ بعضهم قالوا: إنا كفَرْنَا، وبعضهم قالوا: إنا لفي شك. أو يجاب باحتمال أنْ يريدوا بالأول قسم التوحيد، وبالثاني قسم الشرائع والأحكام. أو باحتمال العكس. أو يراد إنَّا كفرنا بما أرسلتم به من حيث الجملة. وإننا لفي شكٍّ في الرسل بدليل قوله: (أفِي اللَهِ شَك) ، فهم كفروا باللهِ وكفروا بما جاءت به الرسل من عنده. وقد قدمنا أنَّ قَوْلَ الرسل: (أفي اللهِ شَكٍّ) إشارة إلى تقليل الشكِّ، أي لا يتصور أن يقعَ شكّ في الله بوَجْه وإن قل، فإذا أنكروا أنْ يكونَ أمر الله حيِّزاً للشك مع قلَّته فأحْرَى أنْ يكون الشكّ حيَزًا مع كثرته. (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) : لما كان وجود اللَهِ أمْراً نظريا ليس بضروري، وكون الرسل مثلهم أمراً ضرورياً لا يحتاج إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 نظر لظهوره قالوا لهم هذا لا لغيرهم. ومعناه يمنّ على مَنْ يشاء بالإيمان والخروج عن دين آبائه، فلما سمعوا هذا منهم آذَوْهم فقالوا لهم: (ولنصبرنَ على ما آذَيْتمونَا) : وما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية، والعائد محذوف تقديره آذيتموناه أو آذيتمونا به. (وقال الذين كفروا لرسلهم) . قد قدمنا في حرف الكاف أن الرسل لم يكونوا في ملّة قومِهم قبل الرسالة. (وما ذلِكَ على اللهِ بِعَزيز) ، أي بمتعذر ولا صَعْب. وأَحسن منه بمتعسِّر، لأن قوله: (إنْ يَشَأْ يُذْهبكم) ، أفاد إمكانه، فإنه غير متعذر. (وبَرَزوا للَهِ جميعا) : قد قدمنا معنى البروز وحرف الباء، وحينئذ فيقول الضعفاء. فإن قلت: لِمَ عَبَّر هنا وفي غافر بالاسم، وفي سبأ: (يقول الذين استضعفوا لِلَّذِين استكبروا) ؟ والجواب: أن الاسم يقتضي الثبوتَ، وكلما ثبت الأخص ثبت الأعَم، فإذا كان مطلق الاستكبار يمنع من إيمان مَنِ اتَّصفَ بأخصّ الضعف فأحْرى أنْ يمنع من إيمان من اتصف بأعَمِّه. وأما سورة سبأ فالمراد فيها تبعيّة مَنِ اتّصف بمطلق الضعف لمن اتصف بمطلق الكفر، فإذا كان وجود مطلق الاستكبار لا ينفع لمن اتصف بمطلق الضعف فأَحرى أَلا ينفع لمن اتصف بأخصه ولا ينعكس. (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ) : هذا إما على التوزيع، فلكلِّ واحد جنَّة أو لكل واحد جنات، و (خالدين فيها) حال من الذين آمَنوا مقدَّرة، لأن الدخول غَيْر مقارن لزمن الدخول. فإن قلت: ما فائدة ذِكْر الأنهار في كل موضع يذكر فيه الجنة مع أنَّ الجنة معلومة بالماء؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 والجواب: أنَّ التمدح بالماء معلوم عند الناس، لأنه أصل كلِّ لشيء. وحُكي أنَّ بعض ملوك الروم كان يهْدِي لمعاوية ويُهاديه معاوية، فطلب مرة من معاوية أن يبعثَ له بأصل كل شيء، فاستشار معاوية خواصَّه، فأشار إليه عبد الله بن عباس بأنْ يبعثَ له قارورة مملوءة بالماء، فلما بعثها له قال له الرومي: ما أشار عليكَ بهذا الأمر إلا مَنْ فيه عضو من النبوءة. (واستفتحوا) : الضمير للرسل، أي استنصروا بالله. وأصله طلب الفتح، وهو الحكم. (ويُسْقَى من ماءٍ صَدِيد) : معطوف على محذوف، تقديره من ورائه جهنم يُلْقَى فيها ويُسْقى، وإنما ذكر السقي تجريدا بعد ذكر جهنم، لأنه من أَشدّ عذابها، ألا ترى كيف علّله بقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) ، لأن اللهَ قضى عليهم ألاَّ يموتوا، فسبحان من حبس أرواحهم مع هذه الكربات. (وفَرْعُها في السماء) : الضمير يعود على الشجرة التي أصْلُها ثابت. وقرئ: ثابت أصلُها، والقراءة المشهورة أبلَغ، لأن " ثَابث أصْلهَا " صفة رفعت الفاعل، فهي في معنى الفعل، وأصلها ثابت مبتدأ وخَبر، فليس في معنى الفعل، والإخبارُ بالاسم عندهم أبْلَغُ من الإخبار بالفعل، فلذلك كان زيد أبوه قائم أبلغ من زيد قائم أبوه. فإن قلت: كيف عَبَّر عن الكلمة الطيبة بالفعل، وعبَّر عن الكلمة الخبيثة بالاسم فرفع؟ والجواب: المؤمن له حالتان: انتقل مِن الكفر إلى الإيمان، والكافرُ له حالة واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عَبَّر عن مثله بالاسم. وقد قدمنا أنَّ أصحاب الشجرة أربعة. (وأنزل من السماء ماء) : كلّ ما علاَكَ يسمى سماء، وسمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 السحاب سحاباً لعلوِّه، وهذا جارٍ على الخلاف في المياه على ما قدمنا، هل هي من السماء، أو هي من بخارٍ لطيف يصعَد من البحار فيتكوّن منه السحاب، والصحيح الوقف. (وسَخَّر لكم الفُلْكَ لتَجْرِيَ في البحر بأمْرِه) : هذا مثل: (ولا طائر يطير بجناحيه) ، لأن جَرْيَها ليس إلا في البحر، وجَرْيها في البحر لا يقع إلا بإذن الله. فإن قلت: ما فائدة قوله: (بأمره) مع أنه معلوم؟ والجواب: لما كان لجَرْيِها أسبابٌ في محاولة البحر وخدمة النواتية ربما يُتَوَهم أنّ جَرْيها بسبب ذلك، فاحترس منه بقوله: (بأمره) ، وبهذا تفهم الحكمةَ في إدخال اللام في قوله في الواقعة: (لو نشاء لجَعَلْنَاهُ حُطَاماً) ، دون إدخالها في قوله: (لو نشاء جعلناه أجَاجاً) ، لأن الأول فيه لابن آدم تسبب ومحاولة، فقد يتوهّم أن ذلك من فعلهم، بخلاف الماء فإنهم لا تسبّب لهم في كونه حُلْواً. (وآتاكمْ مِنْ كل ما سَألْتُموه) : مِنْ للتبعيض، و (كلِّ) للعموم، ومتعلقهما مختلف، فالعموم في الأنواع، والتبعيض في أنواع تلك الأشخاص، أي وآتاكم بَعْضَ كلَّ نوع مما سألتموه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) : إفراد النعمة من باب التنبيه بالأدْنى على الأعلى، بمعنى أنَّ الإنسانَ لا يستطيع إحاطة جزئيات النعمة الواحدة، فأحرى ما هو أكثر. و (نعمة) مصدر محدود بالتاء، فليس المراد به الجنس، بل هو مفرد حقيقة، بدليل أن المصدر المحدود بالتاء يجوز تَثْنيته وجَمْعه، بخلاف المبهم. فإن قلت: الشرط لا يكون مناقِضاً للجزاء، فلا تقول: إن قام زيد لم يقدر على القيام، والعدُّ هو عين الإحصاء؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 والجواب: معناه إنْ أردتم أنْ تعدّوا نعمةَ الله لا تحصوها، مثل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . وانظر كيف وصف الإنسان بالظلم وجحد النعمة، والمراد به العموم، إلا إن استثنى، كقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) . (وَهَبَ لي عَلى الكبَر إسماعيلَ وإسحاق) : حمد إبراهيم ربَّه على أنْ ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً. والحمد مشتق من التثنية، فهو إنما يصدق على مَنْ حمد مرةً بعد أخرى، وكذلك هذا، لأن وجود إسماعيل مقدم على إسحاق، فقد صدق أنه حمد مرتين. قال الزمخشري: على بمعنى مع، أو بمعنى في، والأول أولى، لإفادتها زَمَن الكبر كلّه على الجملة. (ولا تحسبَنَّ الله غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظالمون) : هذه الآية بجملتها فيها وَعيدٌ للظالمين وتسليةٌ للمظلومين. والخطابُ لنبينا - صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: هو - صلى الله عليه وسلم - غير غافل، وعطف هنا بالواو وفيما بعدها بالفاء؟ والجواب: أنَّ معْناها الثبوت على علمك يا محمد، ومن اعتبر من أمتك وغيرهم أن الله لا يُنْجِز ميعادَه في أخْذِ الظالم حين ظُلْمه، فإن الله يمهله، ولذا عطف الآية بعدها بالفاء، وقد يعجل العقوبة على بعض الظالمين لرحمته بهم، وإن أخرهم ليوم تشْخَصُّ فيه الأبصار فسيعلمون ما يلحقهم. فإن قلت: لِمَ تَعلَّق النفْى هنا بالأخص، ونفي الأخصّ لا يستلزم نَفْيَ الأعم، لأنَ الحسبان النفي مؤكَّد بالنون الشديدة، فهو أخصُّ من مطلق الحسبان؟ والجواب: بأن النون دخلت على الفعل النفي، فأكَّدَتْه، لأنَّ النّفْيَ دخل على الفعل المؤكد فنفاه، فهو تأكيد للنفي لا نفي للفعل المؤكد، فهو نَفْي أخصُّ لا نفي أعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 فإن قلت: ما فائدة شدة الوعيد على الظالم؟ فالجواب: أن الله لما ذكر الإنسان أنه ظلوم جحود لنعمةِ الله لا يستغني بما أحِلَّ له عما حُرم عليه، وكان الواجب في حقه أنْ يشكرَ اللَهَ على ما آتاه، ولو لم يشكره على نعمه كلّها فالواجبُ عليه الشكر على بعضها، إذ لا يقدر أحدٌ على إحصائها، كما قال تعالى، فلما كفر نِعَمَ اللهِ عليه وتَعدَّى كفره إلى ظلم أخيه الضعيف بالغ بهذا التهديد العظيم، لعله يرجع، كما جرى لبعضهم لا ظلم، فقال له الظلوم: أشكوكَ إلى السلطان. فقال له: السلطانُ يعرفني، فقال أشكوك إلى الله، فلما لقِيَه بعد أيام قال له كالمستهزئ به: ما قال لك الله، فقرأ عليه الآية، فاسترجع الظالم وأناب. وهكذا حال من أراد الله هدايته. فإن قلت: ما مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: (إن الإنسان لظلوم كفار) ، وختم آية النحل بقوله: (إن الله لغفور رحيم) ؟ والجواب: أنه تقدم آية إبراهيم: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين بَدَّلُوا نعمةَ اللَهِ كُفْراً) . . . إلى قوله: (وآتاكُمْ من كلِّ ما سَألْتُموه) ، فناسبه ما ذكره تعالى من توالي إنعامه ودُرور إحسانه، ومقابلة ذلك من العبيد بالتبديل، وجعل الأنداد - وصف الإنسان بأنه ظلوم كفار. وأما آيةُ النحل فلم يتقدمها غير ما نبّه سبحانه لعباده المؤمنين من تَوَالي آلائه وإحسانه وما ابتدأهم به من نِعَمه من لَدن قوله: (خلَق الإنسانَ من نطفة) .، فذكر بضعاً وعشرين من أمهات النعم إلى قوله - منبهاً وموقظاً من الغفلة والنسيان: (أَفَمَنْ يَخْفق كَمَنْ لا يَخْلُق) ، فناسب ختام: (وإنْ تَعُدّوا نعْمةَ اللَهِ لا تحْصوها) بالغفران. فانظر هذا اللطف الجميل بعباده والتناسب الواضح. (وتَبَيّنَ لكم كيف فَعَلْنَا بهم) : يفهم من هذه الآية أن التواتر يُفيد العلم، لأنهم لم يتبين لهم ذلك إلا بالإخبار عن الأمم السابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 (وليَعْلَموا أنما هو إلهٌ وَاحد) . الآية: تفيد أنَّ الوحدانية تثبت بالسمع، وهو أحَذ القولين عند الأصوليين، وأتَتْ هذه الآية بالتعري من تاء التفعل لتقدُّمها قوله تعالى: (ولِيُنْذَرُوا به ولِيَعْلَموا) ، وقد عريت الكلمتان من حروف الشدة، فعطف عليه: (ولِيَذكَّرَ) ، لأن جميعها من الرخوة بخلاف آية (ص) ، فإن قبلها (لِيَدَّبَّرُوا) ، وفيه حرفان من حروف الشدة، فناسبهما: " وليتذكر ". والتناسب واضح. (وما بكم من نِعمةٍ فمِنَ الله) : نبَّه اللهُ عبادَه بهذه الآية مؤمنهم وكافرهم على أنْ يشكروه ويتأدبوا معه. ويؤخذ منها أنَّ الكافر منْعَمٌ عليه، وقيل غير منعم عليه، للآية: (أنما نمْلِي لهم ليَزْدَادوا إثْما) . وقيل منعم عليه في ظاهر حاله في الدنيا، وغير مُنْعم عليه في عاقبته ومآله، وتنكير (نعمة) للعموم لا للتقليل، إذ لا يوصف عطاء الله بالقلة، وقوله: (ثم إذا مَسَّكم الضرَّّ فإليه تجأرون) : المهلة معلومة، لبعد ما بين غفلة الإنسان وذهوله من النعمة، وما بين تضرّعه وذلته زمَن الضر، كقوله: وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو للحال، فيكون الكلامُ متصلاً بما قبله، أي كيف تتّقُون غَيْرَ الله وما بكم من نعْمةٍ فمنه وحْدَه، وبهذا يظهر لك تناسب الآيات. (واتّبعْ أدبارهم) ، أي كن خَلْفَهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد، وليكونوا قُدّامه، فلا يشتغل قَلْبه بهم، ولو كانوا وراءَه لاشتغل لخوْفِه عليهم، وبهذا يَظْهَر لك رحمةُ لوط بقومه الذين آمنوا معه. (واللَهُ يعلم ما تسِرون وما تعْلِنون) : لما تقدم هذه الآية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 إن الله لا يؤاخذ عباده بعدم القيام بشكر النعم لذكره المغفرة والرحمة عقب قوله بهذه الآية، أي ما تحدِّثُون به أنفسكم، وليس المراد السر في اصطلاح الفقهاء. وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم، فالقدرة بقوله: (أفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق) ، وهذا للعلم. وعطف (ما يسرون وما يعلنون) للتسوية، فهو أمر استَأثر اللهُ به، كما قال: (إنَّ الله عنده عِلْمُ الساعة) . (وإنَّ لكم في الأنْعام لَعِبْرَةً) : لما كان التفكر منفعة عامة في العاقل وغيره أعقبه بالمنفعة الخاصة بالعاقل، وأكّده بأنّ واللام لغفلة المخاطب عن الاعتبار والتذكر، لا لكونه منكراً لذلك. وقد قدمنا في حرف الفاء أن زيادة لكم تنبيه على العبرة، والعبرة يُرَاد بها الاتّعاظ، لقوله: (فاعتبروا يَا أولِي الأبصار) . (ومما يَعْرِشون) : قد قدَّمنا أن الله تعالى أوحى إلى النحل أَنْ تتخذ البيوت في الجبال والشجرِ وبيوتِ الناس حيث يعرشون، أي يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيوتاً في غير هذه الثلاثة ألبتَّة. وتأمل كيف كان أكثر بيوتها في الجبال، وهو المتقدم في الآية، وفي الأشجار وهي دون ذلك، ومما يعرش الناس، وهي أقلّ بيوتها. وانطرْ كيف رآها حسنة الامتثال إلى أن اتّخَذَت البيوتَ قبل المرعى فهي تَتخذها أولاً، فإذا استقرَّ لها بيتٌ خرجت منه وَرَعَتْ، فأكلت من كلِّ الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربَّها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم بالأكل بعد ذلك. قال في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعةَ العسل. قال الغزالي: لؤ تأملت عجائبَ أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها من النجاسات والأقذار وطاعتها لواحدٍ من جملتها، وهو أكبرها شخصا، وهو أميرها، ثم ما سخّر اللَّهُ له من أمرها من العدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ كلّ ما وقع على نجاسة لقضيْتَ من ذلك العجب إنْ كنْتَ بصيراً في نفسك، وفارغاً من هَمِّ بطنك وفَرجِك وشهوات نفسك في معَاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مُرَبّعاً ولا مخمَّساً، بل مسدساً لخاصية في ميل المسدس يقصر فَهم الهندسين عن دَرك ذلك، وهو أنَّ أوسع الأشكال وأحْوَاها المستدير، وما يقرب منه، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فتركَ المرَبّع حتى لا تبقى الزوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارجَ البيوت فُرَجٌ ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصَّة، ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فُرْجة إلا المسدس وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهمَ اللَّهُ تعالى هذا النحل على صِغَر جرمه لُطْفاً به وعنايةً بوجوده فيما هو محتاج إليه ليتهنّأ عيشه، فسبحانه! ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه! ولو ذكرنا منافع النحل، وما أوْدع فيها لاحتاج إلى مجلد، ولذلك مثّل - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بالنحلة إن صاحَبْتَه نفعك، وإن سارَرته نفعك، وإن جالسته نفعك. وكذلك النحلة على ما فيها من منافع. قال ابن الأثير: وجه المشابهة من المؤمن في النحلة حِذْق النحل في فِطنته وقلة أذاه وحقارته ومنفعته وقناعته وسَعْيه في الليل وتنزهه عن الأقذار، وطيب أَكْله، لأنه لا يأكل من كسب غيره، وتحوله وطاعته لأميره، وإنَّ للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله ظُلمة الغفلة، وغَيْم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعية، ونار الهوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير شيء إلاَّ وهو يستَضْعفها، ولو تعلم الطّيْرُ ما في أَجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناسَ بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإنَّ للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحبَّ. والمعروف من قول علي بن أبي طالب أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم. فأشرَفُ المطعوم العسل، وهو قيء ذباب، وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البرّ والفاجر. وأشرفُ الملبوسات الحرير، وهو نسج دودة. وأشرف المركوبات الخيل، وعليها يقتل الرجال. وأشرف المشمومات المسك وهو دَمُ حيوان. وأشرف المنكوحات المرأة وهو مبال في مبال. وروى الكواشي في تفسيره الأوسط: أن العسلَ ينزل من السماء فينبت في أَماكن، فتأتي النحلُ فتشربه، ثم تلقيه في الشمع المهيَّأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الناس أنَ العسل من فضيلات الغذاء وأنه قد استحال في المعدة عسلاً، هذه عبارته. ومما يدلك على كمال قُدْرته سبحانه أنه جمع في النحلة السمّ والعَسل، دليل على كَمالِ قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجاً بالشمع، كذلك عمل المؤمن ممزوج بالْخَوْف والرجاء. وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء، والحلاوة، واللين، كذلك المؤمن، قال تعالى: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، يخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، كذلك حال المقتصد والسابق، أمرها اللَه تعالى بأمرِ حتى صار لعابها شفاء، ودواء الأطباء مرٌّ، ودواء الله حُلو، وهو العَسَل، وهي تأكل من كلّ الشجر، ولا يخرج منها إلا حُلْو، ولا يعتريها اختلافٌ بأكلها، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 (وشارِكْهم في الأمْوَال) : بكسبهم للربا والحرام، وإنفاقها في المعاصي، وغير ذلكَ، والأولاد باستيلاد أولاد الزنى، وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك. (وعِدْهم) : من المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وغير ذلك. (وكيلاً) : قدمنا أن الوكيل هو القائم بالأمور الكافي. (وَصيد) : باب الكهف، وقيل عتبته. (ولْيَتَلَطَّف) : أي في اخْتِفائه، وتخيّله، لأنهمِ خافوا على أنفسهم في بَعث أحدهم إلى المدينة، وكانت الورق التي أعطوها فضة تزودوها حين خروجهم إلى الكهف، وأخذ من قضيتهم: تزود المسافر أفضل مِن تركه. فإن قلت: كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟ فالجواب كأنهم قالوا: (ربُّكم أعلم بما لبِثْتم) ، ولا سبيلَ لكم إلى العلم بذلك، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفَع لكم، فابعثوا أحدكم إلى المدينة. قيل إنها طرسوس. (وَلبِثوا في كَهفِهم ثلاثَ مائةٍ سِنينَ وازْدَادوا تِسْعاً) : في هذه الآية قولان: أحدهما أنه حكاية حال عن أهل الكهف، يدل على ذلك ما في قراءة ابْنِ مسعود: وقالوا لبثوا في كهفهم، وهو معطوف على قوله: (سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كَلْبُهم) ، فقوله: (قُل الله أعْلَم بما لَبِثوا) . ردَّ عليهم في هذا العدد المحكي عنهم. والقول الثاني أنه من كلام الله تعالى وأنه بيان لما أجمل في قوله: (فضرَبْنَا على آذَانِهم في الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ، ومعنى قوله (قل الله أعلم بما لبثوا) ، أي أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم. وقد أخبر بمدة لبثهم، فإخباره هو الحق، لأنه أعلم من الناس، فكان قوله: (قُل الله أعلم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 احتجاج على صحة ذلك الإخبار، وانتصب (سنين) على البدل، أو عطف البيان، أو على التمييز، وذلك على قراءة التنوين في ثلاث مائة. وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد. (وأُحِيطَ بثَمره) : عبارة عن هلاكه. (وأعَز نَفَرا) ، يعني الأنصار والخدم. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) : أفرد الجنةَ هنا لأنه إنما دخل الجنةَ الواحدة من الجنتين، إذ لا يمكن دخولها معاً في دَفْعَة واحدة. (ويقول يا ليتني لم أشْرِك بِرَبِّي أحَداً) : قال ذلك على وجه التمني لما هلك بُسْتَانه، أو على وجه التّوْبة من الشرْك. (وترَى الأرْضَ بارِزةً وحشَرْنَاهم) ، أي ظاهرة لزوال الجبال عنها. (وتلْكَ القُرَى أهلَكنَاهم لَمَّا ظَلمُوا) : الإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم من المتقدمين. والمرادُ أهل القرى، وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفّار قريش. (وَرَاءَهم) : قيل قدامهم. وقرأ ابنُ عباس أمامهم. وقال ابن عطية: إنَّ وراءهم على بابه، ولكن رُوعي به الزمان، فالوراء هو المستقبل، والأمام هو الماضي. (ويسألُونَكَ عن ذِي القَرْنَيْن) : الإشارةُ إلى قريش بإشارة اليهود لهم على اختلاف الروايات، وذلك أنهم سألوه عن الروح، وفتية أهل الكهف، وذي القرنين، وقد ذكرنا أنَّ الله مَكَّن له في الأرض ودانت له ملوكها. (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) . المعنى أن الناس تموج يومَ القيامة كموج البحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وقيل: إنَّ الضمير يعود على يأجوج ومأجوج، والأول أرجح، لقوله بعد ذلك: (ونفخ في الصور فجمَعْنَاهم جَمعاً) . (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) : قد قدمنا أن هذا استعارة للشيب، من اشتعال النار، وهذا القول من زكرياء حين ضعف فطلب من الله أنْ يهب له الولد. (ولم أكنْ بدعَائِكَ رَبِّ شَقِيا) : أي قد سعدتُ بدعائي لكَ فيما مضى. فاستجِبْ لي في هذا، فتوسَّلَ إلى الله بإحسانه القديم إليه، ولذلك قيل: إذا أثنى عليكَ المرء يوماً ... كفى من تعرّضه الثناء (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) ، أي من بعدي. قيل: خاف أن يرثه أقاربه دون نَسْله (1) . وقيل: خاف أنْ يضيِّعوا الدِّينَ من بعده، فطلب من الله إقامة دينه، ولهذا قال: (واجعله رَبّ رَضِيًّا) ، فاستجاب الله دعاءه وبشّره بيحيى الذي لم يجعل له من قبل سمِيًّا. (واهْجرْنِي مَلِيًّا) : عطف (اهجرني) على محذوف تقديره: احذر رَجمي لك حينا طويلا. وقال هذا لإبراهيم لما أَيِس من اتَباعه. (وَفْدًا) : قد قدمنا أنَّ الوفد هو الراكب، وسرُّ تخصيص المتقين بالوفد لإكرامهم. وقد صح أنهم يُحْشرون ركباناً. وأما الكفار فـ (عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) . (وَزِيراً) . أي معيناً، وإنما طلب موسى أخاه ليشدَّ به أزْرَه، أي يقوِّيه. ويؤخذ منه الاستعانة على الأمور بمَنْ هو أقوى، ولذلك قال موسى (وأخي هارون هو أفْصَح مني لسانًا) . (وإنَّ لكَ موعدًا لن تخْلَفَه) : يعني العذابَ في الآخرة زيادة على عذاب الدنيا، وكان عذابه في الدنيا كما قال: (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ) .   (1) هذه الأمور الصغيرة يترفع عنها مقام الأنبياء، ومن ثَمَّ فلا يجوز نسبة ذلك وما شابهه لهم - صلى الله عليهم وسلم. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 والصحيح أنَّ الله تاب على السامري وغفر له لسخائه (1) . (ورضِي قوله قَوْلاً) : إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع له فاللامُ في له بمعنى من أجله، أي رضي من المنافع من أجل المشفوع فيه. وإنْ أراد الشافع فالمعنى رَضِيَ قولَه في الشفاعة. (ولا يُحيطون به عِلْماً) : قيل المعنى: لا يحيطون بمعلوماته، كقوله: (ولا يُحيطون بشيء مِن عِلْمه إلا بما شاء) . والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفةِ ذاته، إذ لا يعْرِف الله على الحقيقة إلا الله، ولو أراد المعنى الأول لقال: ولا يحيطون بعلمه، ولذلك استثنى هناك (إلا بما شاء) ، ولم يستثن هنا. (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : الكلمة هنا القضاء السابق بتأخير العذاب عنهم. (لكَان لِزاماً) : أي واقعاً بهم. (ولو أنَّا أهلكنَاهم بعذاب مِن قَبْلِه) . أي قبل مبعثك يا محمد لاحتَجُّوا وقالوا: لولا أرسلْتَ إلينا رسولاً، فبعثتُكَ لتكونَ لنا الحجةُ عليهم ببَعْثِك لهم. (وأسَرّوا النَّجْوَى) : الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله، (والذين ظلموا) ، بدل من الضمير. (وَلا يَسْتَحْسِرون) ، أي لا يعيون ولا يملُّون. والضمير يعود على الملائكة، وكيف يملُّون وقد أعانهم اللهُ وقوَّاهم على عبادته، فأين عبادتك منهم، وماذا يخطر ببالك من مُزَاحمتهم. (ولا يشفَعون إلاَّ لِمَنِ ارْتضَى) . أي لمن ارتضى اللهَ بالشفاعة له ويحتمل أن تكون شفاعة الملائكة للعاصي في الدنيا بالاستغفار له أو في الآخرة. (وَسْوَسَ) : قد قدمنا أنه يُقال لا يقع في النفوس وسواس.   (1) يفتقر إلى دليل، وظاهر القرآن على خلافه. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 ولا يقع من عمل الخير إلهام من الله. ولا يقع من التقدير الذي لا على الإنسان ولا له خاطر. (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ) . أي على فرض أن قالوا ذلك، ولكنهم لا يقولونها، وإنما مقصود الآية الرد على المشركين. وقيل: إن الذي قال إني إله إبليس. (وهو الذي خلَقَ الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون) : التنوين في كل عوض من الإضافة، أي كلهم في فلك يسبحون، يعني الشمس والقمر دون الليل والنهار، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك، فالجملةُ في موضع الحال من الشمس والقمر، أو مستأنفة. فإن قيل لفظ كلّ ويسبحون جمع، يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟ فالجواب أنه أراد جِنْسَ مطلعها كلّ يوم وليلة. وهي كثيرة، قاله الزمخشري. وقال الغزنوي: أراد الشمسَ والقمرَ وسائِرَ الكواكب السيارة، وعبَّر عنها بضمير الجماعة العقلاء في قوله: يسبحون، لأنه وصفهم بفعل العقلاء، وهو السبح. فإن قلت: كيف قال في فلكٍ وهي أفلاك كثيرة؟ والجواب أنه أراد كلّ واحد يسبح في فلكٍ، وذلك كقولك: كساهم الأمير حلة، أي كسى كلَّ واحد منهم حلَّة. ومعنى الفلك جسمٌ مستدير. وقال بعض المفسرين: إنه مذموم، وذلك بعيد. ومعنى يسبحون، أي يجْرُون أو يدورون، وهو مستعار من السبح بمعنى العَوْم في الماء. وقد قدمنا أن مجاري القمر ثمانية وعشرون، لأنه يقطع الفلك في شهر، ومجاري الشمس مائة وثمانون لأنها تقطع الفلك في سنة. ووجهه أنَّ السنة ثلاثمائة وستون يوماً ونصفها مائة وثمانون فهي تقطع في نصف السنة ستة بروج، ثم ترجع صاعدة أو هابطة فتمشي في نظائر تلك البروج. فما مجاريها في الحقيقة إلا ستة بروج، فسبحان من دَبَّر الأشياء كيف شاء وأتقنها بحكمته، فلا يعلم أحد بحقيقتها إلاَّ من أطَّلَع عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) ، أي حفظنا أمْرَ سليمان وما صنع من الفساد. وقيل معناه: عالمين بعددهم. (وكذلك نُنْجِي الْمُؤْمِنين) ، أي مطلقاً من همومهم، أي إذا دعوا بدعاءَ يونس: (لا إله إلا أنْتَ سبحانك إني كنْتُ من الظالمين) . وقد قدمنا في قصة الحديث: " دَعْوة أخي ذا النون ما دعا بها مكروب إلا استُجيب له ومن دَعَا بها في مرضه أربعين مرة فمات غُفر له ". (والتي أحصَنَتْ فَرْجَها) : ضمير التأنيث يعود على الصديقة المطهرة، لقولها: (لم يَمْسَسْنِي بشَر) ، فأحصنَتْه عن الحلال والحرام، حتى أراد اللهُ فيها ما أراد، وقد قدمنا قصتها. (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) : قرئ بكسر الحاء بمعنى حرم (1) . واختلف في معنى الآية، فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أهلكها اللَّهُ أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين. وقيل حرام بمعنى حتم لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما، أَي حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتّوبة، أوْ حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا. وقيل المعنى ممتنع على قرية أهلكها اللَّهُ أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة " ولا " على هذا نافية أيضاً، ففيه رد على من أنكر البَعْثَ. (ولقد كتَبْنَا في الزَّبُورِ من بعد الذِّكْرِ) : فيه قولان: أحدهما أنه كتاب داود، والذكْر هنا التوراة التي أنزل اللهُ على موسى، أو ما في الزبور من حكم الله تعالى. والقولُ الآخر أنَّ الزبور جنس الكتُب التي أنزلها اللهُ على جميع الأنبياء، وذلك خمسين صحيفة على شيث، وثلاثين لإدريس، وعشرين لإبراهيم، والتوراة لموسى، والزبور لداود، والإنجيل لعيسى، والفرقان لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين. والذكر على هذا اللوح المحفوظ، أى كتب اللَهُ هذا في الكتاب الذي أفرد له بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ، حين كتب الأمور كلها. والأولُ أرجح، لأن إطلاقَ الزبور على كتابٍ واحد أظهر وأكثر   (1) القراءة بكسر الحاء وحذف الألف الألف هكذا (وَحِرْمٌ) وهي قراءة شعبة وحمزة والكسائي. انظر (إتحاف فضلاء البشر. ص: 394) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 استعمالاً، ولأن الزَّبور مفرد فدلالتُه على الواحد أرجَحُ من دلالته على الجمع، ولأن النصَّ قد ورد في زبور داود بأن الأرض يَرِثُها الصالحون، والأرضُ على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها. وقيل الأرض المقدسة. وقيل أرض الجنة: والأول أظهر. والعبادُ الصالحون في الآية أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففي الآية ثناء عليهم، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود، إذ فتح الله لهذه الأمَّة مشارقَ الأرض ومغاربها. (وأنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يريد) : قال ابن عطية: أنَّ في موضع خبر الابتداء، والتقدير الأمر أنَّ اللهَ، وهذا ضعيف، لأن فيه تكلفَ إضمارٍ وقطعاً للكلام عن المعنى الذي قبله. وقال الزمخشري: التقدير أن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلا للإنزال، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو، والصحيح عندي أنَّ قوله: وأن الله معطوف على آيات بينات، لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير أنزلناه آيات بينات، وهذا لمن أراد الله أن يهديه. (وكثير من الناس) : إنْ جعلنا سجودَ مَنْ في السماوات والأرض بمعنى الانقياد للطاعة فيكون (كثير من الناس) معطوف على ما قبله من الأشياء التي تسجد، ويكون قوله: (وكثير حقَّ عليه العذَاب) ، مستأنف يراد به الانقياد للطاعة، ويوقف على قوله: (وكثير من الناس) ، وهذا القولُ هو الصحيح. وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاءَ الله وتدبيره فلا يصحّ تفصيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد، لأنَّ جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: (وكثير من الناس) معطوف على ما قبله، ثم عطف عليه (كثير حق عليه العذاب) ، فالجميع على هذا يسجد، وهذا ضعيف، لأن قوله: حقَّ عليه العذاب يقتضي ظاهِرة أنه إنما حقَّ عليه العذاب بتَرْكهِ السجود. وتأوّله الزمخشري على هذا المعنى بأن إعراب كثير من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد له كثير من الناس سجودَ طاعة، أو مرفوعاً بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب، وهذا تكلُّف بَعِيد. (وذوقُوا) : التقدير يقال لهم: ذُوقوا. (ولُؤْلؤا) - بالنصب - مفعول بفعل مضمر، أي يحلَّوْن لؤلؤا أو معطوف على موضع من أساور، إذ هو مفعول، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب. (وَأذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ) : خطاب لإبراهيم. وقيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، والأول أصح لوروده في الصحيح أنه لما بنى البيت أمره أنْ ينادِي الناس، فقال: يارب، وأين يبلغ أذَاني، فقال: يا إبراهيم، منك الأذَان وعلينا الإبلاع، فصعد على جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس، إنَّ اللهَ أمركم بحج هذا البيت، فحجّوا، فسمعه كلّ مَنْ يحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم، وأجاب في ذلك الوقت كل شيء من جماد أو غيره، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، فجرت التلبية على ذلك. وقيل: مَنْ لبى مرةً حجَّ مرة، ومن لبّى غير ذلك حجَّ على عدد التلبية. (وجَبَتْ جُنوبُها) ، أي سقطت إلى الأرض عند موتها. يقال وجب الحائط وغيره إذا سقط. وقد قدمنا أنَّ هذه اللفظة تطْلَق على معان كثيرة. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) . بيَّن الله في هذه الآية عَجزَ الأصنام بحيث لو اختطف الذبابُ منهم شيئاً لم يقدروا على استنقاذِه حال ضعفه. وقد صَحَّ أنهم كانوا يجعلون على أصنامهم الطيب وغيره من ألوان الأطعمة، فيأتي الذبابُ فيخطفه، ولا يقدرون على خلاصه منه، وهو أقلُّ الخلق. وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله في تجهيل قريش ورَكاكة عقولهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وكيف لا وقد وصفوا آلهتَهم بالقدرة والعلم، ولا يقدرون على هذا الخلق الضعيف، ولا يَنْتَبِهون لعمايتهم وضَلاَلهم، فهمْ أضلّ من البهائم، ولذا ورد الحديث: " إذا وقع الذبابُ في إناء أحدكم فَلْيلْقِه فإنَّ في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء، وإنه يتَّقي بجناحه الذي فيه الداء ". فإن قلت: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك في نفسها حتى تقدِّمَ جناحَ الداء وتؤخر جناحَ الشفاء، وما حملها على ذلك؟ والجواب: أنَّ هذا غير منْكر، لأنا نجد في أنفسنا وفي أنفس عامةِ الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادّة إذا تلاقَتْ تفاسدت، ثم إن الله تعالى قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي فيها بقاؤها وصلاحها لجدير ألاَّ يذكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وإن الذي أَلهمَ النحلةَ لاتخاذ البيتِ العجيب الصنعة، وألْهَم الذرة أنْ تَدَّخر قوتها، وتدخره لأوَان حاجتها إليه هو الذي خلق الذّبابة وجعل لها الهدايةَ إلى أن تؤخَر جناحا وتقدِّمَ جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مَدْرجة التعُّبد، والامتحان الذي هو مِضْمَار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان. (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) . وقد تأملت الذباب فوجدته يتقِي بجناحه الأيسر، وهو مناسب للداء، كما أنَّ الأيمن موافق للدواء، واستفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائِع أنه يموت فيه ولا يتنجس، وفي ذلك يخرج أنَّ ما يعلم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعمّ كالخنافس والعقارب تنجس، وهو متَّجِه لا محيد عنه. (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، أي حرم الزنى. وقيل حرم تزوّج الزانية لغير الزاني، فإن قوماً منعوا أنْ يتزوجها أحد، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها، وهو بعيد لجوازِ تزوّج الزانية. وروي كراهة تزوجها. (وأنْكحوا الأيَامَى مِنكم) : معناه الذين لا أزواج لهم رجالاً كانوا أو نساء أبكاراً أو ثيِّبا. والخطاب هنا للأولياء والحكام، أمرهم اللَّهُ بتزويج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 الأيَامى، فاقتضى ذلك النهي عن عَضْلهن من التزويج. وفي الآية دليلٌ على عدم استقلال النساء بالنكاح، واشتراط الولاية فيه، وهو مذهبُ الشافعي ومالك خلافاً لأبي حنيفة. (والصالحين مِنْ عبادكم وإمَائِكم) : يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم، والمخاطبون هنا ساداتهم. ومذهبُ الشافعي أنَّ السيد يُجْبر على تزويج عبيده لهذه الآية خلافاً لمالك. ومذهب مالك أنَّ السيد يُجْبِر أمته وعبده على النكاح خلافًا للشافعي. (وأعانه عليه قوم آخرون) . هذا من قول الكفار، ويعنون قوماً من العبيد منهم عدّاس ويسار وأبو فكيهة الرومي. (وَعْدًا مَسْئُولًا) . أي سأله المؤمنون أو الملائكة في قولهم: (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) . وقيل معنى وَعْداً واجب الوقوع لأنه قد حتمه. (ولكن مَتّعْتَهم وآباءَهم) : معناه متعْتَهم بالنعم في الدنيا. وكان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) : المراد بالظالم هنا عقبة بن أبي معيط، لأنه جنح إلى الإسلام، فنهاه أبيُّ بن خلف. والآية تعمّ كلّ ظالم سواء كان كافراً أو مؤمناً ظالماً، إذ كلّ عاص يعضّ على أَنامله من الندم، وإذا كان المطيعُ يتحسَّر على ما فاته من زيادة الطاعة، فما بالك بالعاصي. (وكان الشيطان للإنسان خَذولا) : يحتمل أن يكونَ هذا من قول الظالم، أو ابتداء إخبار، من قول الله تعالى. ويحتمل أن يكونَ الشيطان إبليس، أو الخليل المذكور. (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) : يحتمل أن يكون قال هذا في الدنيا أو في الآخرة أو مجموعهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 (وكذلك جَعَلْنا لكل في عَدُوًّا مِنَ المجرمين) : العدوُّ هنا جمع، والمراد تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأسِّي بغيره من الأنبياء. (وقُروناً بين ذلك كَثِيرا) : يقتضي التكثير والإبهام، والإشارة بذلك إلى أصحاب الرسِّ وثمود وغيرهم. (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) : قد قدمنا في حرف الباء والحاء أنَّ معناه الحاجز، وضمير التثنية يعود على البحرين، لا يختلط أحدهما بالآخر، وأغربُ منه وجود اللبن مِنْ بين فَرْثٍ ودم، ووجود الشهد والسم في النحل، فالسمّ سبَب هلاك الأحياء، والشّهْدُ سببُ شفاء المرضى، وجعل بينهما حاجزًا لا يختلطُ أحدهما بالآخر، وكذلك جعل في المؤمن النفس والْقَلْبَ، فالنّفْس تميلُ إلى الدنيا، والقلب يميل إلى العقبى، فأعطى له الدين مع الدنيا، وجعل بينهما حاجزاً، فلا تضر الدنيا مع الدين بفَضْلِه وكرمه. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) . لأنَّ ما سواه يموت، والاعتزاز بمن يموت لا يبقى، فكيف يعتزّ مخلوقٌ بعد هذه الآية بمخلوق مثله، أفٍّ لقالب بلا قلب! لقد عميت بصيرتنا، وأظلمت سريرتُنا فظهرنا بالصلاح والتوكل للمخلوقين، وقَلْبنا خَلِيّ عن رب العالمين. (وسيَعْلَم الذين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلبِ ينْقَلِبون) : هذا وعيد لمن ظلم أحدًا من خلق الله. وعملَ ينقلبون في أي. وقيل إن العامل في (أيّ سيعلم. (وسبحانَ اللهِ رَبِّ العالمين) : نزَّه الله نفسَه مما عسى يكون ببال السامع في معنى النداء، وفي قوله: (بُورِكَ مَنْ في النار) .. إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه اللهِ عنه. (وأوتينا من كل شيء) : عموم معناه الخصوص. وقد قدمنا أن المرادَ بقول سليمان هذا التكثير، كقولك: فلان يَقْصِده كلّ أحد. ويحتمل أن يريد نفسه وأباه، أو نفسه خاصة على وَجْه التعظيم، لأنه كان ملكاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . اعتبربما أعطِى الله سليمانَ من الجند، واختلف في عسكره اختلافاً كثيراً، فقيل كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للإنسِ، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ فسطاطاً من ذهب وإبريسم فرسخ في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحَوْله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الإنسُ والجن على الكراسي وحَوْلَهم الناس، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع رِيح الصبا البساط، فتسير مسيرةَ شهر (1) . ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرُّخَاء تسيّره، فأوحى اللهُ إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في مُلْكك، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألْقَتْه الريح في سمعك. فيحكى أنه مَرَّ بحرَّاث، فقال: لقد أوتي آلُ داود مُلْكاً عظيما، فألقى الريحُ في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث، وقال: إنما مشيتُ إليك لكيلاً، تتمنّى ما لا تقدر عليه! ثم قال: لتَسْبِيحةٌ واحدة يَقْبَلُها الله خير مما أوتي آل داود. وروي أنه سمع قولَ النملة من ثلاثة فراسخ، وكان يفهم كلامَ الطيور ومعانيها وأغراضها، وهذا نحو ما كان نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - يسمعُ أصواتَ الحجارة بالسلام. ويحكى أن سليمان مَرَّ على طائر في شجرةٍ يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتَدْرون ما يقول، قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يقول أكلْتُ نصفَ تمرة، فعلى الدنيا العفاء. فإن قلت: الظاهر من قول نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أنْ يُوثقه في سارية من سَوَاري المسجد، فقال:   (1) كلام أقرب الإسرائيليات. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 ذكرت قولَ أخي سليمان: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فأرسلته، أنه لم يبلغ هذا الملك؟ فالجواب أن لفظة ينبغي إنما هي لفظة محتملة ليست بقَطْع في أنه لا يعطي اللهُ عز وجل نحو ذلك الملك لأحد، ونبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو ربط الجني لم يكن ذلك نَقْصاً لما أوتيه سليمان عليه السلام، لكن لما كان فيه بعْضُ الشبهة تركه جَرياً منه - صلى الله عليه وسلم - على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع، ألا ترى لما عرض عليه أن يكون نبيئاً عبداً أو نبيئاً ملكاً فاختار العبودية، وقال: إنما أنا عَبْدٌ آكل كما يَأكُلُ العبد، فعوَّضَه الله بتواضعه الشفاعة العظمى، والوسيلَة التي لا ينالها غيره. وهذا مع ما كان عليه من تسخير الكونين والثقلين. وقد ألف بعضُ العلماء في موازاة معجزاته عليه السلام لمعجزات الأنبياء على جميعهم السلام تأليفاً عجيباً، وكذلك نظم بعضهم قصيدةً في معجزاته عليه السلام موازياً لمعجزاتهم. فإن قلت: كيف يتعرض الشيطان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد إفسادَ صلاتهِ، ويفرّ من لقاء عمر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو سلك عُمر فَجًّا لسلك الشيطانُ فَجًّا غير فَجِّ عمر"؟ والجواب أنه ليس بمنكر أنْ يتعرَّضَ العفريت له إظهاراً لمعجزته وغلبته له. وأيضاً فأين يَفر منه - صلى الله عليه وسلم - وهو مالكُ الأرض كلها، بل والآخرة بأسْرها، فإلى أين يفر من ملاقاته، وعُمَرُ لا يملك إلا الفجَّ الذي هو فيه، فكان يفرُّ منه لغير ملكه، ولقد علم اللعين - أنه لو ظفر به لقتله لشدّةِ عمر وغِلْظَتِه في الله ونصرة دينه، ونبيُّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في غاية الشفقة والرحمة على من يُؤذيه. وقد حكى ولي الله أبو محمد المهدوي أن أبا مدين قال لتلامذته يوماً: أيّما أفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أمة سليمان، فأجيب بأن الفضل بينهما معروف. فقال لهم: ما بالُ آصف أوتي علماً من الكتاب تمكَنَ به من الإتيان بعرش بلقيس، وأنت يا محمدي أوتيت عِلْمَ الكتاب، ولم تتمكن من الإتيان برغيف، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 فلم يذكر أحد جواباً عن هذا. قال: فألقي عليَّ في النوم، فرأيتُ قائلاً يقول لي: لو خصّ أحد بسر الخفاء، لعدّ في حق غيره خفاء، وأمةُ محمد من أهل الصفاء والاصطفاء، وحين استيقظتُ لاح لي سرُّ ما رأيتهُ، وعلمتُ أنَّ آصف خُصّ بمزية عن كل أمة سليمان عليه السلام لرفْعَةِ مرتبته، وليس لتلك الأمة من العناية ما لهذه الأمة، فلو عَمّ ما هم محتاجون إليه لبطلت حكمةُ الله في طلب الجد والسعي الذي عليه يُثَابون، فلو خُصّ واحد من هذه الأمة بدرجة قالوا: إن مَنْ سواه منحطٌّ عن حصول الاعتناء به في تناول معاشه دون سبب لهم. بهذا الاعتبار قد تساووا في الكسب، لا فَضْلَ لواحدٍ منهم عن صاحبه في تطلَّبه، فهم متحدون في الاقتداء، فما شرفوا إلا من أجله صلوات اللهِ وسلامه عليه. (ولو يؤَاخِذ الذُ الناسَ بظُلْمهم) . أي بظلمهم أنفسهم، أو بظلم بعضهم بعضا، فهو للفاعل والمفعول، لأن الناس عام في الظالم والمظلوم. وإنما أضاف الظّلْمَ إليهم لأجل الكسب الذي لهم فيه، ألا ترى أنك تقول عبد فلان، وثواب فلان، وليس لهم فيه إلا المنافع. وأما الأعيان فما يملكها إلا الله. وذكر الزمخشري هنا آثاراً عن أبي هريرة وابن عباس تقتضي عمومَ الهلاك في بني آدم وغيرهم بسبب شُؤْم ظلم الإنسان، وكذا نقل ابن عطية أنَّ الطير والحوت يهلكان بسبب ظلْم الإنسان، وهذا مما لا يتم الاستدلال به إلا مع ضميمة ما قاله الأصوليون في أنَّ قول الصحابي إذا كان دليله مخالفاً للقياس فإنه يكون حجة، لأنه حينئذ لم يكن قاله من عنده، بل يكون سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وأمّا إنْ وافق القياس فهو مذهبُ صحابي، فلا يحتج به. وهذا مخالف للقياس. قال تعالى: (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى) . وأجاب ابنُ عطية بأن هلاك من لم يظلم إنما هو لكونه لم يغيِّرْ على الظالم. ويعضده ما تقدم في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) ، وفي قوله: (كانوا لا يتَنَاهَوْنَ عن مُنْكرٍ فعلوه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وأجاب بعضهم أن هلاك الظالم بظلمه وهلاكَ مَنْ لم يظلم إنما هو ابتلاء له ليصبر، فيعظم بذلك أجْرُه ومثوبته، فهو رحمة به بهذا الاعتبار. قال الفخر: واستدل بعضُهم بالآية على عدم عِصْمَةِ الأنبياء، واستدل بها مَنْ جوّز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها لجميع الناس. ورُدَّ بأنَّ العمومَ في الآية إنما هو بالمؤاخدة وأمّا الظلم فإنما ذُكر على سبيل الفَرْض والتقدير، أي لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأوخذوا به لم يبق أحد، ولا يلزم من فرض الشيء وقوعُه، كما قال: (لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا) . فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: (لا يَسْتَأخِرون ساعةً) . نفْي تأخرهم عن أجلهم، لأنه كان متوهماً، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر بمستحيل إذ الماضي لا يعودُ، فلم احتيج إلى نَفْيه، وجُعل جواباً للشرط؟ والجواب أنه على معنى التأكيد لذلك، وإشارة إلى تسوية الأمْرِ الضروري بالمشكوك فيه، لأنَّ استحالة تقدمهم عن أجلهم إذا حضر أمْرٌ ضروري. وتأخرهم عنه مشكوك فيه، ألا تَرى مَنْ حلّ عليه دين مؤجل يمكن أن يؤخّره ربّه عنه، ولا يمكن أن يقدمه هو عن أجله بعد حلوله بوَجْه، فكأنه يقول: كما يستحيل تقدّمهم عن أجلهم إذا حل كذلك يستحيل تأخّرهم عنه، لأن ما علمه الله وقدَّره لا بدّ من وقوعه. (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) : هذا من قول سليمان لَمّا أنعم الله تعالى عليه بالملك، وعلم أنه رخاء لا ينفعه عند الله إلا بإلْهَامِه الشكر. وحقيقةُ (أوْزِعني) اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفّه وأربطه، لا ينفلتُ عني، حتى لا أنفكّ شاكراً لك. وأدخل والديه في الدعاء، لأن النعمةَ عليهما للولد منها نصيب بالوراثة، فيجب شُكْرُ الوالد على ذلك، لأن موجبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الشكر مشترك بين الولد والوالدين، ومِنْ رؤية النعمة عند سليمان أنه أمر أن يعمل حولَ كرسيّه ألف محراب فيها ألْفُ رجل عليهم المسوح يصرخون بالشكر دائماً ويقول لجنده إذا ركب: سَبّحُوا اللهَ إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوا إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: كبروا إلى ذلك العَلَم الآخر، فلج الجنود بالتسبيح والتهليل والتكبير لجةً واحدة، شكراً لما أعطاه الله، فاستعملوه من أجله. وقد صح أنَّ الله يحتجّ على الأغنياء يوم القيامة بسليمان، لأنه لم يشغَلْه ما أعطاه اللَهُ عن القيام بحقه، وعلى العبيد بيوسف، وعلى المرضى بأيوب، لما هلك جميع ما ملك دخل بَيْتَه وألقى ثيابه، وقال: هكذا خرجت إلى الدنيا، وعلى الفقراء بعيسى، كان له إناء يشرب فيه، ومشط يمتشط به، فألقاهما وصار يتخلّل بأصابعه، ويشرب في يديه، فقال له قومه: ألا تتخذُ لك حماراً تركبُ عليه إذا أعياك المشي، فقال: أنا أكرم على الله من أنْ يجعلني خادمَ حمار. (وتفَقَّدَ الطَّيرَ فقال مَا لِيَ لا أرَى الْهُدْهدَ) - بضم الهاءين وإسكان الدال بينهما: طائر معروف ذُو خطوط وألوان. قال الجاحظ: وهو وفّاء حفوظ، وذلك أنه إذا غابت أنثاه لم يأكل ولم يشرب ولم يشْتَغل بطلب طعم. ولا يقطع الصياح حتى تعودَ إليه، فإن حدث حدث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبداً، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها من طعم، بل ينال منه ما يمسك رمقه إلى أنْ يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيرا. فإن قلت: قد طلب سليمان الشُّكرَ من الله تعالى على هذا الملك، وإنه لم يكن في باله ولا له به تعلّق، فما بالُه تفقَّد الْهُدْهُد حين كان يظّله وتوعَّده بالعذاب الشديد أو بالذبح، وهذا الفعل يقتضي العنايةَ بالمملكة والتهمم بكل جزءٍ منها؟ والجواب ما في الكامل وشعب الإيمان للبيهقي: أن نافعا سأل ابْنَ عباس. فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خَوَّلَه اللَهُ من الملك وأعطاه، كيف عني بالهدهد مع صغره، فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والْهدْهد كانت له الأرض كالزجاج. فقال ابن الأزرق لابن نافع: قِف يا وَقاف، كيف يُبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطّي له بقَدْر أصبع من تراب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 فقال ابن عباس: إذا نزل القَدَر عَمِي البصر. قال الزمخشري: وكان السبب في تخلفه عن سليمان عليه السلام أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلّق الهدهد، فرأى هُدْهداً واقعاً، فوصف له مُلكَ سليمان وما سخّر له، وذكر له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف، فذهب له لينظرَ فما رجع إلاَّ بعد العصر، فدعا سليمان عريفَ الطير وهو النسر، فلم يجد عنده عِلمه، ثم قال لسيد الطير - وهو العقاب: عليَّ به، فارتفع ونظر فإذا هو مُقْبل، فقصده، فناشده وقال له: بالذي قَواك عليَّ وأقدرك إلا رحمتني، فتركه، وقال: ثكلَتْكَ أمُّك، إن نبيَّ الله حلف ليعذبنك. قال: وما استثنى، قال: بلى. قال: أوليأتِيَني بسلطان مبين. فلما قرب من سليمان أرْخَى ذنبَه وجناحيه يَجُرهما على الأرض تواضعاً له، فلما دنا منه أخذَ رأسه فمدَّه إليه، فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفَك بين يدي الله خاضعاً ذليلاً. فارتعد سليمان وعفَا عنه، ثم كان تعذيبه لمن خاف أمْرَه من الطير أن ينتف ريشه ويشمسه. وقيل يلقيه للنمل يأكله. وقيل إيداعه القفص. وقال الهدهد: يا نبي الله، كنت تعذِّبني العذابَ الشديد، قال: أفَارقك من إلْفِكَ وأجعلك تعاشر الأضداد. فإن قلت: لِمَ أُبيح له تعذيبُ الهدهد؟ قلت: يجوز أنْ يبيح الله له ذلك كما أباح ذَبْحَ البهائم والطيور للأكل وغيره من النافع. قال عِكرمةُ -: إنما صرف سليمان عن ذَبْح الهدهد للخبر الذي أتى به من أمْر بلقيس. وقيل: لأنه كان بارًّا بأبويْه ينقل الطعامَ إليهما فيزقّهما (1) . وحكى القزويني أنَّ الهدهد قال لسليمان: أريد أن تكونَ في ضيافتي. فقال: أنا وَحْدي، قال: لا، أنت وعسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا، فحضر   (1) لا يخفي ما فيه من بعد، وما ذُكر قبله لا دليل على صحة شيء منه. والأولى الوقوف عند خبر القرآن وما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 سليمان وجنوده، وطار الهدهد، فاصطاد جرادةً وخَنقها ورَمَى بها في البحر، وقال: يا نبي الله، مَنْ فاته اللحم ناله المرق، فضحك سليمان من ذلك عاماً كاملاً. (وَجَدْتُ امرأة تملِكهم) : هي بلقيس بنت شراحيل كان أبوها ملك اليمن، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك. والضمير يعود على قومها. (ولها عَرْشٌ عظيم) : يعني سرير مُلكها، ووقف بعضهم على عرش، تم ابتدأ: عظيم وجَدْتها وقَوْمَها يسجدونَ للشمس. وهذا خطأ وغير منكر عليه وَصْف العرش بالعظمة. (وأتوني مسْلمين) ، يحتمل أن يكونَ من الانقياد، بمعنى مستسلمين، أو يكون من الدخول في الإسلام. (وكذلك يفعلون) : من كلام الله تعالى، تصديقا لقول بلقيس: إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قَرْية أفسدوها، أو هو من قولها تأكيداً للمعنى الذي أرادَتْه، أو يعني كذلك يفعل هؤلاء بنا. فإن قلت: كيف استعظم الْهدْهد عَرْشها مع ما كان يرى من مُلك سليمان؟ فالجواب: أنه استعظم عَرْشَها بالنظر إلى حالها وأمثالها، وأنه وصفه بالعظم إغراء له عليها، ووصفه له بأنه ثمانين ذراعاً في ثمانين، وأنه مكلّل بأنواع الجواهر وأن قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودُرّ وزمرّد، وغرابة ما فيه من البناء، وفي ذلك تقويةٌ لعذره عن غيبته، ورفع للعقاب عنه، ولعظمه عندهم أراد سليمانُ أن يُريهم قدرةَ الله، وبعضَ ما خصَّه به من العجائب على يده، ويشهد بنبوءته. (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : يعني الفساد العام في كل ما فيه مضرةٌ لأبناء جنسهم. وقيل: كانوا يقرضون الدنانير والدراهم. والمراد بالمدينة مدينة ثمود، فانظر رحمةَ الله بعباده حيث لا يريد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 مضرَّة أحدٍ منهم، وبعث الله إليهم صالحاً يَنْهاهم عن الفساد، فجرى لهم ما قدمناه. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) : قد قدمنا أنَّ إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو في الحياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر. ونفخة الصعق. ونفخة القيام من القبور. وانظر كيف عَبّر هنا بـ (يُنْفَخُ) و (فَزِعَ) ، وهو أمْر لم يقع بَعْدُ إشعاراً بصحة وقُوعه. وخُصَّت هذه السورة بالفزع موافقةً لقوله تعالى: (وهُمْ مِنْ فَزعَ يومئذٍ آمِنُون) . وخُصت سورة الزمر بالصعق موافقةً لما قبله، لأن معناه: مات وقد تقدم قوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) . (وهم لا يَشْعرون) ، أي قوم فرون لا يشعرون بأنّ إهلاكهم يكون على يَد موسى، أو لا يشعرون أنَّ الذي دلَّت على إرضاعه أخته. (وَكَزه) ، أي ضربه بأطراف الأصابع، وقيل بِجمْع الكف فقتله، ولم يرد أن يقتله، لكن وافقت وكْزته الأجل. فإن قلت: لم يعمل عملاً يوجب له الاستغفار منه، لأن المقتول كافر؟ فالجواب أن الله لم يأذن له في قَتْله، ألا تراه يقول يوم القيامة: قتلت نفساً لم آذن بقتلها. (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : الضمير لقريش. وقيل لليهود. والأول أظهر، لأن الكلام من أوله معهم. . والعمومُ أحسن لهم ولغيرهم ممّن يأتي بعدهم، يعني بلّغْنَا لهم القرآن، وبيًنَّا لهم الحلال والحرام، ووعظناهم بحكاية مَنْ تقدم من الأمم، لعلهم يتذكرون. وهذا مِثْل قوله: (وَذكِّرْ فإنً الذكْرَى تَنْفَع المؤمنين) . فكيف يكون للعاصي حجة مع هذه المواعظ والحر من العبيد تكفيه الْمَلامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 (وأكْثَرُ جَمْعاً) : معطوف على الهلاك. يعني مَنْ يرى إهلاك من كان أشدّ منه قوهْ وأكثر جمعاً للمال كيف يغتَرُّ بالدنيا وهذا حالها! نشاهد إهلاك قوم بعد قوم، ولا نَرْعَوِي عن قبيح، "ولا نَزْدَجر من رذيلة. (ولا يُسْألُ عن ذُنوبهم المجرمون) : يحتمل أن يكونَ متصلا بما قبله، والضمير في ذنوبهم يعود على الأمم المتقدمة، والمجرمون من بعدهم، أي لا يسألُ المجرمون عن ذنوب مَنْ تقدمهم مِنَ الأمم الهالكة، لأن كل أحد إنما يسألُ عن ذنوبه خاصة. ويحتمل أن يكون إخباراً عن حال المجرمين في الآخرة، وأنهم لا يسألون فيها عن ذنوبهم، لأنهم يدخلون النار من غير حساب. ورُدَّ بقوله تعالى: (فوَرَبِّكَ لنسألَنّهم أجمعين) . وأجاب بعضُهم عن هذا بأن السؤال النفي على وَجْه الاستخبار وطلب التعريف، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوَجه، ولكن يسألون على وَجْه التوبيخ، وحيثما ورد في القرآن إثبات القول في الآخرة فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ، وحيثما ورد نَفْيه فهو على وَجْه الاستخبار والتعريف، ومنه قوله: (فيومئذٍ لا يُسأل عن ذنبه إنْسٌ ولا جانٌّ) . (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) : يحتمل أن يكون من الدُّعاء بمعنى الرغبة، أو من دعوة الناس إلى الإيمان باللهِ، فالمفعول محذوف على هذا، تقديره ادعُ الناسَ. فانظر كيف أمر اللَّهُ رسولَه بدعاء الناس إليه، وخصص الهداية لإجابته، فالدعوة عامة، والهدى خاص. وقد دعا الله عباده في الدنيا بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) . (يدعوكم ليَغْفِرَ لكم من ذنوبكم) . وفي الآخرة بقوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) . (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) . فما هذا التقاعس بعد هذا الدعاء إلا من العمى، وأعظم من العمى. وأعظم من المخالفة والاستجابة غَفْلَتنا عن الاستغفار، والضحك والاغترار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 والتهاون والاستكبار، قال تعالى: (وكنْتُم منهم تضْحكون) . (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) . (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) . وقد أخبر اللَه عن نوح أنه قال: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) . وهذه كلها موجودة فينا، وما خفي عن الخلق أكثر، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا. (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) : هذا الضمير لكفار قريش، لأنهم كانوا يفخرون بالأموال والأولاد على الضعفاء من المؤمنين، ويسخرون منهم لقلة ما أعطوا من الدنيا، فأخبرهم اللهُ أنَّ ما أعطوا منها إنما هو متَاع قليل وزينة وتفاخر يشغل بها كالصي تُعْطيه أمّه خشاشة تَشغله عنها، ولو علم الله فيهم خيراً لتَنبهوا لِمآلها، لكن الله طمس بصائرهم، وأكبّوا عليها، وليس العجب منهم، وإنما العَجَبُ منكم، حَضً الله رسوله على الفرار منها، والإعراض عنها، فلم تزيدوا إلا طغيانا وكفراً، ولو لم يقع الحض على الفرار منها لكان الواجب عدم الالتفات إليها لما نرى من سرعة تقلبها، يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: " طلبتُ من خَلْقي الطاعةَ لي، والزهادة في أعدائي، فلم يفعلوا، ثم طلبت منهم إعانةَ الزهاد من أهل طاعتي فلم يفعلوا، فقلت لهم: ارضوا عنهم فلم يفعلوا، فقلت لهم: لا تمنعوهم منها إذاً، فمنعوهم. فقلت لهم: لا تدعوهم إلى ما لا يُرضيني، ولا تعادوهم عليها، إن لم يتابعوكم، ففعلوا وصاروا عندهم أنْتن من جيفة حمار، فكيف أقدّس أمة هذه أفعالهم! " اللهم اعف عنّا بفضلك. فإن قلت: ما وَجْه زيادة الزينة في هذه الآية على آية الشّورى؟ والجواب لتقدم ذكرها في قوله تعالى: (فخرج على قومه في زِينته) ، فالتحمت الآية بتلك القصة، ولم يرد في سورة الشورى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 أولها إلى آخرها ذكر حال دنيوي لأحد، بل تضمَّنت حقارةَ الدنيا ونزارة رزقها، وأنه مقدور غير مبسوط، وتلك حال الأكثر. وقيل في الجواب غير هذا حذفناه لطوله. (ويوم يناديهم فيقول أيْن شركائي الذين كنْتم تَزْعمُون) : قد قدمنا أن هذا النداء من الله تعالى قديم متعلق بالذات القديمة، وإنما يسمعهم اللَّهُ ذلكَ الخطابَ من غير واسطة مبالغةً في توبيخهمِ وتعذيبهم، ولذلك أدخل فيه همزة الاستفهام ونَسب الشُّرَكاء تعالى إلى نفْسه على زَعْمهم. والمجيبون بقولهم: (قال الّذين حَقَّ عليهم القَوْلُ) ، هو كل مقولٍ داعٍ إلى الكفر من الجن والإنس، والنداء إنما وقع للتابعين والمتبوعين، لكن لما كان السؤال مسكتا لهم مبْهتاً فكأنه لا تعلّق لجمهور الكفرة إلا بالمغوين لهم والرؤوس والأعيان منهم، فلذلك سارعوا إلى الجواب طمعاً في التبري من متبعيهم، وفي هذا الموطن صدر منهم الإقرار بربوبيته تعالى، إذ هو موطن ظهورِ الحق وانكشافه. فإن قلت: قد قلتم إنَّ دعاء الشركاءَ على جهة التعجيز، والمشركون يعلمون أنَّ الشركاء لا يجيبون، لأن الموطن ظهورُ الحق وانكشافُ الأمورِ فلم دَعَوا شركاءهم؟ والجواب: ليظهر عَجْرهم عن إجابة الدعوة على رؤوسِ الأشهاد، وتقوم عليهم بذلك الحجة، فسبحانه ما أعظمه من لطيف يحبّ المعاذير وإظهار الحق، ينطق الجمادات والجوارح على المخلوقات حتى لا يجد الإنسان فراراً من قضائه وقيام الحجة عليه. فإن قلت: كيف الجمع بين قولهم: (أغْوَيْنَاهم) ، وبين قولهم: (تبرَّأنا إليك) ، فإنهم اعترفوا بإغوائِهم وتبرَّأوا مع ذلك منهم؟ والجواب أنَّ إغواءهم لهم هو أَمْرهم لهم بالشرك. والمعنى أنا حملناهم على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الشرك كما حملنا أنفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأصنام وغيرها، فتبرَّأنا إليك من عبادتهم لنا، فتَحصَّل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغْوَوا الضعفاء وتبرءُوا من أن يكونوا هم آلهتهم، فلا تناقض في الكلام. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) . اختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، والظاهر منها عمومها فيمن كان بمكة من المؤمنين يشْقَى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة، فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مِثْلِ هذا لعظم الأمْر، وكثرة الخطر فيه، مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بِرّ الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قَررَتْه الشريعة، وأكدت فيه، وكان من القوي عندهم الملتزم قدَّم الله تعالى النهي عن طاعتهما في قوله تعالى: (ووصينا) على معنى أنا لا نخلُّ ببر الوالدين، لكنا لا نسَلط على طاعة الله تعالى، لا سيما في معنى الإيمان والكفر. و (حُسناً) : يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوُّز، ويسهِّلُه كونه عامّا لمعان، كما تقول: وصيتك خيراً، ووصيتك شرًّا، عَبّر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك "دون حرف الجر في قوله: بوالديه، لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسنى في فِعله مع والديه. والجمهور على ضَمِّ الحاء وسكون السين. وقرئ "إحساناً"، ويحتمل أنْ يكونَ مصدرا من معنى وصَّيْنَا، أي وصينا وصية حسنة، وعَبّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة، فمن أمره أحَدُ أبويه بفعل شيء فيه رضا الله، فيقدم أمرهما إذا لم يخل بشيء من طاعة الله، فإن أخَلَّ فأمْرُ الله مقدم، إذ لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق. وإنما قال في هذه السورة: (لتشْرِكَ) ، لأنه وافَق ما قبله لفظاً، وهو قوله: (ومَنْ جاهد فإنما يجَاهِد لنفسه) . وفي لقمان محمول على المعنى، لأن التقدير وإن حملاك على أنْ تشرك. وقيل: إن هذه الآية مبنية على الإيجاز، فناسب ذلك الاكتفاء باللام، وآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 لقمان مبنية على الإطالة، فناسب ذلك التعدية بعلى، وإنما أمره بالرفق في آية لقمان بقوله: (وصَاحِبْهما في الدنيا مَعْروفا) ، لأن مبنى الآية على الأمر بما يفعل بهما ومعهما من غير تقدّم مطلبٍ لهما، ووَجْه ختم هذه الآية بالرجوع إلى الله تحذير مِن طاعتهما في الشرك، وإبلاغٌ في النهي عن الصغْو إليهما في ذلك إلى الغاية لئلا يظَنّ أَن ذلك كآية الإكراه كما تقدم، ولما لم يقع في آية الأحقاف ذكر الشرك وكانت فيمن كان على الإيمان، وقد علم المؤمن رجوعه إلى ربّه، لم يَرِدْ فيها ذكر ذلك. (وما يجْحَد بآياتِنَا إلا الكافرون) . أي الجاحدون من كلّ أمة قد أمن سلفها في القديم والحادث، وأسند الجَحْد في هذه إلى الكافرين وفيما بعدها إلى الظالمين، فقيل، ليعمَّ لفطهما كلَّ مكذب بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن عظم الإشارة بهما إلى كفار قريش، لأنهم الأهم. فإن قلت: الظلم يصح إطلاقه على ما دون الكفر فلو ورد وَسْمهم أولاً بالظلم، ثم ثانياً بالكفر لكان أنسب؟ والجواب: أنَّ الظلم وإن كان يطلق على الكفر وعلى ما دونه، قال تعالى: (والكافِرونَ هم الظالمون) ، فإنه إذا ذكر بعد الكفر وصف به مَنْ وصف بالكفر لفَهْم زيادة تترتب على الكفر، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) . وعلى هذا ورد في القرآن، فقد وضح ما وردت عليه هاتان الآيتان، وليس من المشكل في شيء. (ولئن سأَلتهم مَنْ خلق السماواتِ والأرض) . الضمير في الموضعين لأهل مكة والسؤال لإقامة الحجة على الكفار، لأنهم أقرّوا بأنه سبحانه هو الخالق لهذه المخلوقات العظيمة كما قدمناه في غير ما موضع، ولذلك أنكر الله عليهم جَحْد عبادته بقوله: (فأنَّى يؤفكون) . أي يُصرَفون عن توحيده ومعرفته. ووَجْه تعقيب هذه الآية بالإفك، والثانية بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 بعدم العقل، وآية لقمان بكثرة الجهل وقلةِ العلم، لأن المراد منها الاستدلالُ بهذا الْخَلق العظيم وما هو عليه من جليل التناسب، وإتقان الصنعة وإحكامها من غير تفاوت ولا فطور. (والذين جَاهَدُوا فِينَا) . يعني جهاد الأنفس في الصبر على إذاية الكفار، واحتمال الخروج عن الأوطان، وغير ذلك. وقيل: يعني القتال، وذلك ضعيف، لأن القتال لم يكن مأموراً به حين نزول الآية. (وإنَّ الله لَمَع الْمُحْسنين) . أي بنصره ومعونته، وانظر كيف أكَّده بأن واللام ليعلمك أنه سبحانه لا يسلمه لمن أراده بسوء، وكيف لا وقد أكرمه الله بالمحبة بقوله: إن الله يحب المحسنين، والأمن: (ما عَلَى المحسنين مِنْ سبيل) ، وهو محسن. والرحمة: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) . فإن قلت: ما معنى الإحسان؟ فالجواب أن هذا المقام لم يحصل إلا لأرباب العقول. وفي الحديث: " إن كتب الإحسان على كل شيء ". والإحسان ثالث المقامات. وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أن تعبد الله كأنكَ تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". فيا ليت شعري، هل بقي منهم في هذا الرَّبْع أنيس به أو ملجأ يسند إليه! ما أرى النفوس إلا قد ماتت بحب الدنيا، ويا ليتنا نلْناها، والقلبُ مات مِنْ حبّ المولى، فمتى يحيا أهلُ الإحسان أحيا الله قلوبَهم بحبه، وأماتوا نفوسهم من حبّ ضده، ونحن على الضد. قيل لحاتم الأصم: ما علامةُ حياة القلب؟ قال: وجْدَان اللذة من الطاعة، ووجدان الألم من المعصية، فَزِنْ بهذا الميزان نَفْسك وقَلْبك يتضح لك ما ذكرت. قال حاتم الأصم: نفس المؤمن ضيعته، وقلبه أرضه، والإخلاص ماؤه، والحكمة بذْره، والشهوات حشيشته التي تغيره، والعبودية غلّته، والدنيا سفَرةه، والأيام منازله، والقيامة سوقه، والملك مشتراه، والجنة ثمنه، فنحن بعْنا ونقضنا، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 أمَا علمتَ أنَّ من أحبَّ شيئاً طلبه، ومن طلبه وجده، ومن خاف من شيء هرب منه، ومن أراد سفراً اهتَمَّ له، ومَنْ أحبّ اللحوقَ بقوم اقتدى بفعالهم، وسلك سَبِيلَهم، ومَنْ فَضل قوماً بالعلم يحق أن يفْضُلهم بالعمل، ونحن لا عِلْمَ ولا عمل، فإن للهِ وإنا إليه راجعون! أشْمَتْنا أهْلَ الآخرة من أحبابنا، وأرضينا الشيطانَ عدوَّنا، فمن رأى مصرعي فليبك معي. (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) : يعني كلما عظم خلق الإنسان في بطن أمه زادها ضَعْفاً على ضَعْفها. (ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ) : الخطاب لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أمره الله بعدم الاضطراب لكلام الكفار، وقولهم القبيح. (وإذْ أخَذْنا مِن النبِيِّين ميثاقَهم) : أي أخذْنَا عليهم الميثاقَ بتبليغ الرسالة إلى الْخَلْق وتعليم الشرائع. وقيل أخذ الميثاق يوم: (ألَسْتُ بربكم) . والأول أرجح، لأنه هو المختصُّ بالأنبياء. (وَقُلْنَ قولا مَعْروفاً) : الخطاب لأمهاتنا وأزواج سيدنا - صلى الله عليه وسلم -، نهاهن اللهُ عن الكلام اللّين الذي يُعجب الرجال ويُميلهم إلى النساء، أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه، ويعم جميع الأمة لان اللهَ أمر بالاقتداء بهنَّ. (وَطَرًا) : حاجة، يعني لمَّا لم يبق لزيد حاجةٌ في زينب زوَّجناكها. وقد قدمنا قِصتها في حرف الزاي. (وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : يعني الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل، وإنما قال هذه المقالة حين وقع الاحتجاج بما في التوراة من ذكْرِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلتفت لمن قال بين يديه يوم القيامة، لأن الذي بين يَدي الشَيء هو ما يتقدمُ عليه. (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) : أهل الأرض كلهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ذرية نوح، لأن الله أمات مَنْ نجا معه في السفينة، وتناسلت الْخَلْق من سام وحام ويافث. (وتَرَكْنَا عليه في الآخِرِين) : معناه أبقَيْنَا له ثناء جميلاً في الناس، فيقال له آدم الأصغر. وقد قدمنا أنَّ اللهَ أمره بالدعوة إلى التوحيد، وأرسله إلى الناس كافّة، وعُمر ما لم يعمر غيره، وقرنه اللهُ بالذكر مع نبينا في قوله: (ومنك ومن نوح) . (ولا تُبْطِلُوا أعمالَكم) . أي بالكفر بعد الإيمان، وقيل بالرياء والعُجب. وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها. وبهذه الآية استدل الفقهاء على وجوب النافلة، وهو بعيد. وأبعد منه مَنْ قال لا تبطلوا حسناتكم بفعْلِ السيئات، وهذا مذهبُ معتزليّ، لأن السيئات لا تبطل الحسنات. والأول أظهر. لقوله قبل ذلك في الكفار والمنافقين: (وسيُحْبِطُ أعمالَهم) ، فكأنه قال: يا أيها المؤمنون لا تبطلوا أعمالكم مثْلَ هؤلاء الذين أحبط اللهُ أعمالهم بكفرهم وصدِّهم عن سبيل الله، ومشاقَّتهم للرسول. (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) . يعني فتح مكة. وقيل بلاد فارس والروم. وقيل مغانم هوازن في حُنَيْن. والمعنى لم تقدروا أنتم عليها قد أحاط اللهُ بها ووهبها لكم وذكَّرَهم بالنعم ليشكروا عليها. وإعراب أخرى معطوف على (عَجَّل لكم هذه) ، أو مفعول بفعل مضمر تقديره أعطاكم أخرى، أو مبتدأ. (وبالأَسحارِ هم يَسْتَغْفِرونَ) : قد قدمنا أن الاستغفار يُطلق على الصلاة، والمراد هنا الاستغفارُ، هو طَلبُ المغفرة للذنوب. وقد ذكرْنَا مراراً أن الله يقول في هذا الوقت: هل من مستَغْفِرٍ، هل مِنْ دَاع، هل من تائب، ولَمَّا أكرم اللَّهُ خمسة من الأنبياء بخمسٍ: ليلة نُودِي موسى من الشجرة، وليلة النجاة للوط، (نجيناهم بسَحَر) .، وليلة المغفرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 ليعقوب، (سوفَ أستغْفِرُ لكم رَبّي) . وليلة المعرفة للخليل: (فلما جَنَّ عليهِ الليلُ) ، وليلة المؤانسة والمحبة: ليلة الإسراء: (سبحان الذي أسْرَى بعَبْدِه) ، أكرمك الله يا محمديّ بسحر كلِّ ليلة تنَاجِي فيها ربَّك، فقمْ على قدَم الاعتذار كاشفَ رأس الافتقار. مخاطبا بلسان الفقر والاضطرار، ملقياً عن ظهَرك حمل السيئات والأوزار، مقنَّعاً بقناع الرجاء والندم والاستففار: إن لم تغفر لي فمَنْ يغفر لي! إن لم تتبْ عليَّ فمن يتوب علي، إن لم ترحمني فمن يرحمني إذا غضبتَ عليَّ؟ ومَنْ يأويني إذا أعرضتَ عني، أنتَ العزيز، وأنا الذليل، أنتَ الغنيّ وأنا الفقير، وأنْتَ القويُّ وأنا الضعيف، وعزتِك ما يزيد في خزانتك ما منعتني، ولا ينقص منها ما أَعطيتني، إن تعف عني فأنْتَ أهل لذلك، وإن تعاقِبْني فبِمَا قدمت يدايَ، وما أنت بظالم للعبيد. فيا أكرم مَنْ أقرَّ له بذنب، ويا أعزّ مَنْ خضِع له بذلٍّ. بكرمك أقررتُ لكَ بذنبي، بعزّتك خضعْت لك بذلّي، فلك الْمنَّة عليَّ يا مَنْ قلَّ له شكري فلم يحرمني، ويا مَنْ قل له صَبْري فلم يَخْذلني، ويا من تقويت بنعمته على المعاصي فلم يعاقبني، ويا مَنْ رآني على الخطايا فلم يفْضَحْني، أقِلْ عثرتي بِجَاهِ نبيك الكريم عليك صلَّى الله عليه وسلم. (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) : هذا الضمير عائد عليه - صلى الله عليه وسلم. وقرئ بالمحفض والنصب في السبع، فأما الخفض فهو معطوف على لفظ (الساعة) ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله (بالحق) . وأما النصب فهو معطوف على: (سرَّهم ونجْوَاهم) . وقيل هو معطوف على موضع الساعة، لأنها مفعول أضيف إلى المصدر. وقيل معطوف على مفعول: (يكتبون) . وهو محذوف تقديره يكتبون أقوالهم، وقيله. وقرئ في غير السبع بالرفع على أنه مبتدأ: وخبره ما، بعده. وضَعّفَ الزمخشري ذلك كلَّه، وقال: إنه من باب القسم، فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم، كقولك: الله لأضربنَّ زيداً. أو الرفع كقولهم: أيم الله، ولعمْرك، وجواب القسم - قوله (إنَّ هؤلاء قوْمٌ لا يؤمنون) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 كأنه قال: أقسم بقيله يارب إنَّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. (وفي السماءِ رِزْقكم وما توعَدون) . أي من الوعد أو الوعيد، أو الجنة أو النار. أو الخير أو الشر. قال ابن عباس: لا أعلم في السماء رِزْقاً غير المطر، وهو كذلك، لأن المطر أصلٌ للرزق، والماء الذي في الأرض منه، فلو انقطع المطر انقطع الرزْق. (وفي أموالهم) : معطوف على قوله: (في جنات) ، أو على (آتاهمْ رَبُّهم) ، أو تكون الواو للحال. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) . بالبناء للمفعول، فعلى هذا يراه الْخَلْقُ يوم القيامة، أو يراه صاحبه الذي فعله، وهو الأصح، لأن الله يضَع ستره عليه حين قراءته، لقوله بعد ذلك: (ثم يُجْزَاهُ الجزاءَ الأوْفى) . (وَرْدَةً كالدِّهَان) . ذكر الجواليقي أنها غير عربية. ومعناه أحمر كالوردة، وقيلَ هو من الفرس الورد. (ولِمَنْ خافَ مقامَ رَبِّه جنَّتَان) . أي القيام بين يديه للحساب. ومنه: (يَوْمَ يقوم الناسُ لربِّ العالمين) . وقيل قيام الله بأعماله، ومنه: (أفَمَنْ هو قائمٌ على كل نَفْسٍ بما كسَبتْ) . وأفهم المقام، كقولك: خفْت جانبَ فلان. واختلف هل الجنّتان لكل خائف على انفراد، أو لصنف الخائفين، وذلك مبنيّ على قوله: لمنْ خاف، هل يُراد به واحد أو جماعة، وقال الزمخشري: إنما قال جنتان لأنه خطاب الثقَلَيْن، فكأنه قال جنة للإنس وجنّة للجن، والأَظهر هنا قول الصوفية: إنها جنَّة معجلة وهي التلذّذ بمناجاتهم مع مولاهم، وهي ألذّ عندهم من كل نعيم، وجنة مؤجّلة وهي المعلومة. فإن قلت، ما معنى الحديث: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة، وهل هو موافق للآية؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 والجواب معناه نصف جنّته المدخرة له، فيفتح له في قبره مِنْ ريحها ونعيمها. والتلذذ برؤيتها. وقد وافق الآية، ولا مضادة بينهما، وقد وصف الله الجِنَان في الواقعة، والرحمن، وهل أتاك حديث الغاشية، وهل أتى على الإنسان، وبَيَّن ذلك سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - أوْضَح بيان. قال ابن عباس ترجمان القرآن: الجنات سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عَدن، وجنة المأوى، وجنة الْخُلد، وجنة الفِرْدوس، وجنة النعيم. وفي بعض الروايات ثمان، وذكر دار القرار. وقيل الجنان أربع، لأنه ذكر أوَّلاً جنتان، ثم قال بعد: (ومِنْ دُونِهما جَنَّتَان) . ولم يذكر جنةً خامسة. فإن قلت: قد قال تعالى: (عندها جَنَّةُ الْمَأوَى) ؟ والجواب: أنَّ جنة المأوى اسم لجميع الجِنَان، يدلّ عليه قوله تعالى: (فلهم جَنَّاتُ الْمَأوى نزُلاً بما كانوا يعملون) . والجنة اسم الجنس، فمرة يقال جنة، ومرة يقال جنات، فكذلك جنات عَدن، وجنة عدن. (وقعت الواقِعَة) : اسم من أسماء القيامة، وقد قدمنا جملة أساميها، وهي الواقعة، الصيحة، وهي النفخة في الصور، وقيل الواقعة صخرة بيت المقدس تقَعُ يومَ القيامة، وهذا بعيد. (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) . هو المغلوب عليه بحيث لا يقدر عليه. ونبدِّل أمثالَكم معناه نهلككم ونستبدل قوماً غيركم. وقيل نمسخكم قردة وخنازير. (ونُنْشِئَكم) : معناه نبعثكم بعد هلاكِكم. (في مَا لاَ تَعْلمون) . أي في خِلقة لا تعلمونها على وَجْهٍ لا تصلُ عقولكم إلى فَهْمه. ومعنى الآية أن الله قادر على بَعْثهم بعد هلاكهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 (وكلاَّ وَعَد الله الحُسْنى) : أي كل واحد من الطائفتيْن الذين أنْفَقُوا وقاتلوا قَبْل الفتح وبعده. (وغَرَّتْكم الأمانِيُّ) . الإشارةُ إلى الكفار والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتمنَّوْنَ وفاةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أو هزيمتهم، إلى غير ذلك من الأمانيّ الكاذبة. (وَلاَ يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قَبْلُ) : معطوفة على (أن تخْشع) . ويحتمل أن يكون نَهْياً. والمراد بها تحذيز المؤمنين من أن يكونوا كالمتقدمين من اليهود والنصارى في طول أملهم وقسوة قلوبهم. وقد وقعنا فيما حذِّرنا منه، فلا يخفاك ذلك، وإن طول الأمل يقَسّي القلب، ويُبْعد عن الآخرة، ويكثر الحرص، ويقلُّ القناعة، وهذه موجودة فينا ظاهراً وباطناً. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ ". وهل هذا كلّه إلا مِن خلطتهم والتقرب منهم، لأن المرء على دِين خَليله. وانظر حكاية المحمدي في زمان معاوية لما أن ألْقَتِ الريح مركبهم في جزيرة من جزائر. . . نزلوا في البر، فأتى ملكهم وعليه كساء ملبّد ورجلاه حافيتان عاري الرأس، فنزل معهم، وقال: ما لكم أيها العرب تطَئُون القمح والشعير تحت أقدامكم، وتغلفون سيوفكم بالذهب والفضة، وتتزيّون بزي اليهود والنصارى في أواني الذهب والفضة، فقال أحدهم: هذا كله من مخالطتهم. فقال: اذهبوا عني لئلا يصيبني ما أصابكل، وزوَّدَهم وأمرهم بالانصراف. فقال له أحدهم: أنْتَ ملك هذه الجزيرة، وأنت على هذه الهيئة، فقال: يحقَّ لمن رفعه الله بالنعمة أن يَزْدَاد تواضعاً، وإني قد ملكني اللَّهُ أهْلَ هذه الجزيرة فيحقّ لي ألاَّ أتكبّر عليهم، ثم انصرف عنهم وتركهم. (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) : ضمير الجمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 يعود على اليهود والنصارى، لأنهم كانوا يحيّونه بقولهم: السامُ عليك يا محمد. فيرد عليهم بعليكم. (ويقولون في أنفسهم لولا يُعَذبُنَا الله بما نَقول) : يعني قولهم: لو كان نبيّاً لعذَّبنَا الله بإذايته، فقال الله: (حَسْبُهم جهنّم يَصْلَوْنها فبئْسَ الْمَصير) . (ولا نُطِيع فيكم أحداً أبداً) . أي لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذْلاَنكم، ثم كذّبهم الله في هذه الواعد التي وعدوا بها. فإن قلت: كيف قال: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) بعد قوله: (لَا يَنْصُرُونَهُمْ) ؟ والجواب: يعني على الفرض والتقدير، أي لو فرضنا أن ينصروهم لوَلَّوا الأدبار. (وأحْصُوا العِدَّةَ) : أمر بذلك لما يَنْبَني عليها من الأحكام في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك. (وأشْهدُوا ذَوَيْ عدْل منكم) : هذا خطابٌ للأزواج، والإشهادُ المأمور به هو على الرجعةِ عند الجمهور وقد اختلف فيه: هل هو واجب أو مستحبّ على قولين في المذهب. وقال ابن عباس: هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة، وذلك أظهر، لأن الإشهادَ يرفع الإشكال والنزاع، ولا فَرْق في هذا بين الرّجْعَه والطلاق. ويفْهم من الآية أنه لا يشهد إلا من المسلمين والرجال. وقيل من الأحرار، فيؤخذ من ذلك ردُّ شهادة العبيد. (وأقيموا الشهادةَ للَه) : يحتمل أن يريدَ به القيام بها، فإذا استشْهد وجب عليه أنْ يَشهد، وهو فَرْض كفايةٍ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الغرس. ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون مَيْل ولا غَرض، وبهذا فسره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 الزمخشري، وهو أظهر، لقوله: (لله) ، فهو كقوله: (كونوا قَوَّامِين بالقِسْطِ شهَداء للَه) . واختلف في أخذ الأجرة عليها وعلى كتب الوثائق. والمشهور عدم الجواز. أما من انتصب لها وترك التكسُّب المعتاد لأجلها فجائز له أخْذ الأجرة عليها. وإلا لم يجد الإنسان مَنْ يشهد له بيسير، وأخذها ممن يحسن كتب الوثيقة كتاباً وعبارة على كتبه وشهادته لا يخْتَلف فيه ويكون له أخْذ الأجرة بما اتَّفقا عليه مِن قبل. وروي أن بعض الشيوخ أهدى له صِهْرُه أبو زوجته الفقيه أبو علي بن القداح لبناً فشَربه، ثم اجتمع به بعد ساعة من شربه فتحدثا، فأخبره صِهْرُه أنَّ ذلك اللبن أهداه له فلان بعض الشهود الذين يأخذون الأجْر في شهادتهم، فقام وقاء ذلك اللبن، هكذا كانت حالهم رضي الله عنهم، ونحن على الضد منهم، فأين حالنا من حالهم، نأخذ على كتب الوثائق ما لا يجوز، ونَدعي أنه أجرة على الكتب، وهل هذا إلا مِن تحليل ما حرَّم الله، ورضي الله عن الشيخ الأبيِّ أبي القاسم حيث قال: لأن تغزو على بلاد المسلمين، وتأخذ متاعهم ورقابهم وتبيعه خير من أخذ الأجرة على كتب الشهادة. وصدق لأن الغازي يعتقد التحريم فتجد قَلْبَه منكسراً، والله عند المنكسرة قلوبهم، والكاتب يدَّعي أنه حقّه، فصاحبُ المكس أفضل منه لما ذكرناه، فبالله أيها الأخ تعال نَنْدب على أنفسنا فيما وقع منا لعلنا تهبّ علينا نفحات القبول، والله المعين على ما نقول. (ويُدعَوْن إلى السُّجُودِ) : قد قدمنا تفسيره. (واهِيَة) . أي مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية، أي ضعيفة الْجُدْران. (وَتِين) . عِرْق متعلق بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. (وبيلا) : مفعول به، وناصِبُهُ (تتقون) ، أي كيف تتقون يوم القيامة وأهوالَه إنْ كفرتُم. وقيل هو مفعول به على أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 يكون كفرتم بمعنى جحدتم. وقيل هو ظرف، أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة. ويحتمل أن يكون العاملُ فيه محذوفاً تقديره: اذكروا. وقوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) . أي اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هوْلِه، ويحتمل أنْ يعودَ على الله، أي تنفطر بأمره وقُدْرته. والأول أظهر. والسماء مؤنثة، وجاء (مُنْفَطِرٌ) بالتذكير، لأن تأنيثها غير حقيقي أو على الإضافة. (وَزَر) : ملجأ، بالنبطية. (وهَّاجاً) : وقاداً شديد الإضاءة. وقيل الحار الذي يضطرم من شدَّة لهبه. (واجفة) : شديدة الاضطراب. والوَجيف والوَجيب بمعنى واحد. وارتفع (قلوب) ، بالابتداء وواجفة خبره. وقال الزمحشري: واجفة صفة والخبر (أبصارها خاشعة) . (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) : هذه الآية مُخْبرة أنَّ السماوات في انقيادها لله حين يريدُ انشقاقَها تفعلُ فعْلَ الْمِطْوَاع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنْصَتَ له وأذْعَن ولم يمتنع، كقوله: (أتَيْنا طائعين) ، فجميعُ المخلوقات منقادَةٌ لخالقها إلا نحن، قال تعالى: " أوحيت إلى البحر أن انفلق لموسى، فبات يضطرب من خَوْفي تلك الليلة، وأنتم خاطبْتُكم بكلامي وأمرتكم بأوامري فلم تمتثلوا، قلوبُكم كالحجارة أو أشدُّ قسوة ". فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية في هذه السورة؟ فالجواب: أن كلَّ واحد من الإخبارَيْن معقباته غير ما أخبر به الآخر. فالأول إخبار عن السماء في طاعتها وانقيادِها، والآخر إخبار عن الأرض بمثل ذلك، وأنَّ كلّ واحدة منهما سمعَتْ وانقادت فانفطرت السماءُ وتشقّقت، وانتثرت نجومها، وانقادت وأُزيلت الجبال عن الأرض فامتدَّتْ وألقَتْ ما تحمله من الأموات، وغير ذلك مما استودعته من المعادن والكنوز، وتخلّتْ عنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 سامعةً مطيعة، وإن كان الإخبار الأول عن السماء والآخر عن الأرض فلا تكرار. (والليلِ وما وَسَق) ،: أقسم اللهُ بالليل وما جمع فيه لأنه يضمُّ الأشياء ويسترها بظلامه. ومنه الوَسْق. (والقمر إذا اتَّسَقَ) ، أي امتلأ نوره، مشتق من الوَسْق. (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) . الضمير عائد على النار، يعني أنَّ من تنفعه الذكرى وتؤَثّر فيه لا تحرقه النار الكبرى، وسماها بذلك بالنظر إلى نار الدنيا وقيل بالنظر إلى غيرها من نار جهنم، فإنها تتفاضَلُ بالنظر إلى مَنْ فيها، وكِلاَ القولين صحيح، إلا أن الأوَّل أظهر للحديث: " ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، أو عُتبة بن ربيعة، وضمير المفعول للذكرى. (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) . أقسم اللهُ بهذه المخلوقات. وقد أكثر علماؤنا رضيَ الله عنهم الأقوالَ فيها، فقيل: إن الفجر الصبح، وقيل بانفجار الماء من أصابع نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل بانفجار الصخرة، وإخراج الناقةِ لقوم صالح، وقيل بانفجار دموع العاصين، وقيل بانفجار الموتى من القبور، وقيل بانفجار الملائكة من السماء في قوله: (يوْم تَشَقَقُ السماءُ بالغَمَامِ) ، وقيل بانفجار المعرفة من قلوب المطيعين، لقوله: (أفَمَنْ شَرحَ اللهُ صَدْرَه للإسْلاَم) ، وانفجار المعصية من قلوب العاصين، لقوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) . وكذلك الليالي العشر، قيل: هي الليالي العشر من أول ذي الحجة، وقيل أوائل المحرم، وقيل أوائل رمضان، وقيل العشر المذكورة في قوله تعالى: (وأتممناها بعَشرٍ) . وقيل بالعشر الآيات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 المذكورة في قوله تعالى: (فأتُوا بعَشْرِ سوَرٍ مثله مفْتَريات) . وهذا بعيد لعدم دخول الليالي فيها. (تواصَوْا بالصَّبْرِ وتواصَوْا بالْمَرْحمة) . أى وصى بعضُهم بعضاً بالصبر على قضاء الله ورحمة المساكين وغيرهم من المخلوقات. وفي هذه الآية إشارةٌ إلى صبر المسلمين على إذايةِ الكفار، وعلى هذا فهي منسوخة بآية السيف. والظاهر أنها عامةٌ بالتحذير من الانزعاج والصبر على مَنْ أوذي من المسلمين، ورحمتهم بالدعاء لهم بالهداية والتوفيق. (والشمس وضُحَاهَا) . بالفتح والمد ارتفاع الضوء وكماله إلى الزوال، وقيل الضحى النهار كلّه، والأول هو المعروف في اللغة. (والقمر إذا تلاَها) . أى تبعها، والضمير للشمس، واتباعه لها بكثرة ضَوْئه، لأنه أضوأ الكواكب بعد الشمس ولا سيما ليلة البدر، أو يتبعها في طلوعه، لأنه يطلع بعد غروبها، وذلك في النصف الأول من الشهر، أو يتبعها في أخذه من نورها، لقوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمَحَوْنَا آيةَ الليلِ وجعلنا آيةَ النهار مُبْصِرَة) . وقد صح أن جبريل مسحها فأذهب بعْضَ ضوئِها، وبهذا احتجت الشمس بتفضيلها على القمر. (والنهارِ إذا جَلاَّها) . أي كشفها وأظهرها، وضمير المفعول للشمس، وضمير الفاعل للنهار، لأن الشمس تنجلي بالنهار، فكأنه هو جَلاَّها. وقيل ضمير الفاعل للَه. وقيل: الضمير المفعول للظلمة أو للأرض أو للدنيا. وهذا كله بعيد، لأنه لم يتقدم ما يعودُ الضمير إليه. فإن قلت: النصب في (إذا) مُعْضل، لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها فتخير في العطف على عاملين، وفي نحو مررت أمس بزيد واليوم عمرو. وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه؟ والجواب فيه: أنَّ واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلِّيًّا، فكان لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 شأن حيث أبرز معها الفعل، وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادٌّة مسدَّهما جميعاً، والواوات العواطف نوائِب عن هذه الواو، فحقيقته: أن تكون عوامل على الفعل والجار جميعاً، كما تقول: ضرب زيد عمراً وبكر خالدًا، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) . هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة. وقال الزمخشري: يجوز أن يعرب إعرابَ الجمع المذكر بالواو والياء. وأن يلزم الياء ويحرك النون بحركات الإعراب، وهذه أقسام، أقسم اللَّهُ بالتين والزيتون وبجبل الطور الذي كلَّم عليه موسى. والبلد الأمين، من الأمانة أو الأمن، لقوله: (اجْعَلْ هذا بلدًا آمِنًا) . وقد استجاب الله دعَاءه فجعله آمِنًا من كل شيء، لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . (واسجد واقْتَرِبْ) . أي تقرَّب إلى الله بالسجود، وهذه الآية موضع سجدةٍ عندنا خلافاً لمالكٍ. (والعادياتِ ضَبْحا) . اختلف في العاديات والمُوريات والمغيرات، هل يراد بها الخيل، وعلى هذا فهل هي خيل الْمجاهدين أقسمِ اللَه بها، أو الخيل على الإطلاق. وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل هي إبل غزْوة بدر، أو إبل المجاهدين مطلقا، أو إبل الحاج، أو الإبل على الإطلاق. ومعنى العاديات التي تعدو في مَشْيها. والضَّبح: هو تصويت جَهير عند العَدْوِ الشديد ليس بصَهيل، وهو مصدر منصوب على تقدير: يضبحن ضَبْحاً، أو هو مصدر في موضعِ الحال، تقديره العاديات في حال ضَبْحها. والمورِيات من قولك: أوريت النارَ، إذا أوقدتها. وقد قدمنا أن القدح صكُّ الحجارة فيخرج منها شعلة نار، وذلك عند ضَرْب الأرض بأرجل الخيل أو الإبل. وإعراب (قَدْحاً) كإعراب (ضبحاً) . والمغيرات من قولك: أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على أعدائها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 و (صبْحاً) : ظرف زمان، لأن عادةَ أهل الغارة في الأكثر أنْ يخرجوا في الصباح. (وَسَطْنَ به جَمْعاً) ، أي توسطن. واختلف هل المراد بالْجَمْع جَمْع الناس، أو المزدلفة، لأن اسمها جَمْع. والضمير المجرور للوقت، أو للمكان، أو للعدو، أو للنقع. وقد قدمنا معناه في حرف النون. (وإنه على ذلك لشَهيد) . معطوف على الإنسان، يعني هو شهيد على نفسه بكنوده. وقيل: هو الله تعالى، على معنى التهديد. والأول أرجح، لأنَّ الضمير الذي بعده للإنسان باتفاق، فيجري الكلام على نَسَقً واحد. (وإنه لحبِّ الْخَيْرِ لَشديد) . المعنى إنَّ الإنسان شديد الحبّ للمال، فهو ذَمّ لحبّه والحض عليه. وقيل الشديد البخيل. والمعنى على هذا إنه لبخيل لأجل حبِّ المال. والأول أظهر. (وحصِّل ما في الصدور) . أي جمع في الصحف وأظهر محصّلاً، أو ميّز خَيْرُه من شرِّه. (وآمَنَهمْ من خَوْف) . أي من خوف أصحاب الفيل، أو آمنَهم في بلدهم، أو في أسفارهم، لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين لا يتعرَّض لهم أحَد بسوءٍ لبركة البيت، ويطلب منهم الدعاء لمجاورتهم له، وكان غيرهم تؤخذ أموالهم وأنفسهم. وقيل آمَنَهم من الجذَام والطاعون والدجال. قال الزمخشري: التنكير في (جوعٍ) و (خوفٍ) لشدتهما، ولا ترى مجذوماً بمكة. (وُسْعَها) . بضم الواو: طاقتها، وهذا إخبار من الله أنه لا يكلِّف النفسَ إلا طاقتها، ووقوع تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً عند الأشعرية محال عقلاً عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقَعْ في الشريعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 (والْمُوسِعِ) : الغني أي واسع الحال، وهو ضد المقتر. (وإنّا لمُوسِعون) : قيل أغنياه، وقيل قادرون. (وَارَى) يُواري، أي ستر، ومنه: (يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) . و (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) . وتوارى، أي استتر واستخفى. (وَعَى) العلم يعني حفظه ومنه: (وتَعِيَها أذُنٌ وَاعِيةٌ) . قال - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: اللهم اجعلها أذُنَ عليٍّ، فاستجاب الله له، وجعله البابَ لمدينة العلم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا مدينةُ العلم وعلي بابها ". هذا ما خُصَّ به من الفضائل، وقد شهد الله في كتابه بإبراهيم في قوله: (وإبراهيم الذى وَفَّى، وقال فيه: (يوفونَ بالنّذْرِ) ، وبالخوف بالملائكة: (يخافون ربَّهم من فوقهم) . وقال فيه: (ويخافون يوماً كان شَرُّهُ مستطيراً) . وبالصبر بأيوب: (إنَّا وجَدْناه صابراً) . وقال: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) . وذكر الله أنه يطعم ولا يطعم، وقال فيه: (ويطعمون الطعامَ على حبِّه) . ولما نزلت: (يا أيها الذين آمَنوا إذا ناجَيْتم الرسولَ فقدِّموا بين يدي نَجْوَاكم صدقة) ، قال علي: كانت لي عشرة دراهم فتصدقت بها، وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عشر كلمات، ولم يعمل بهذه الآية غيري، ورفق الله بالأمة. قلت: يا رسول الله، كيف أدعو؟ قال: بالصدق والوفاء. قلت: ما أسأل الله؟ قال: العافية في الدارين. قلت: ما أصنع لنجاتي؟ قال: كلْ حلالاً وقلْ صدقاً. قلت: فما الحيلة؟ قال: تَرك الحيلة. قلت: فما أمر الله ورسوله؟ قال: الحق. قلت: فما الحق؟ قال: الإسلام والقرآن وولاية من انتهى إليك. قلت: فأين الراحة؟ قال: في الجنة. قلت: فما السرور؟ قال: الرؤية. قلت: فما العبودية؟ قال: إظهار الوفاء. قلت: فما الوفاء؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وأما أوعى بالألف يُوعي فجَمْع المال في وعاءً، ومنه: (وجمع فأوْعَى) . (وُجْدِكُمْ) . بضم الواو وفتحها: سعتكم، والضمُّ أكثر وأشهر، وبكسر الواو لكنه قليل، ومعناه أسْكنوا المرأة مسكناً تقدرون عليه. وإعرابه عطف بيان، لقوله: (حيث سكنتم) . (وقِّتَتْ) بالواو والألف بمعنى جمعت لوقتٍ، وهو يوم القيامة. (وَجْه) : قد قدمنا تقسيم الوجه على أوجه، ووجه الله طلَب رضاه، وقدمنا أنه من المتشابه، ويراد به الجهة، ومنه: وجهة ترضاها، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان وقيل إنه مصدر ثبتت فيه الواو على غير قياس. (وِرْدًا) : مصدر: عطاشا، لأن مَنْ يرد الماء لا يرده إلا لعطش. (وِزْر) ، بكسر الواو وإسكان الزاي له معنيان: الذنب، ومنه: (لا تزِر وازِرَة وِزر أخرى) . والحمل الأصل، ومنه: (أوْزَاراً مِنْ زينَةِ القَوْمِ) ، أي أحمالاً. (وِلْدَانٌ مخَلَّدون) : الولدان صغار الخدم. وقد قدمنا أن " المخلدون " الذين لا يموتون أو المقلَّدون بالخَلَدات، وهي ضربٌ من الأقراط. وقد ورد في الحديث: " إن الولدان يطوفون على أهل الجنة بكأس من مَعين ". وهو الإناء الواسع الفَم الذي ليس له مقْبض سواء كان فيه خمر أم لا. (الواو) : جارة وناصبة وغير عاملة: فالجارةُ واو القسم، نحو: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) . والناصبة واو (مع) فتنصب المفعول معه في رأي قوم، نحو: (فأجْمِعُوا أمْرَكم وشركاءَكم) . ولا ثاني له في القرآن. والمضارعَ في جواب النفي أو الطلب عند الكوفيين، نحو: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . وواو الصرف عندهم، ومعناها أَنَ الفعل كان يقتضي إعراباً فصرفته عنه إلى النصب، نحو: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) . في قراءة غير النصب. وغير العاملة أنواع: واو العطف، وهي لمطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه، نحو: (فأنجَينَاه وأصحابَ السفينة) .، وعلى سابقه، نحو: (أرسَلنَا نوحاً وإبراهيم) . ولاحقه، نحو: (يُوحِي إليكَ وإلى الذينَ من قَبْلك) . وتفارق سائر حروف العطف في اقترانها بإما، نحو: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . وبلا بعد نفي، نحو: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) . و (لكن) ، نحو: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) . وتعطف العقد على النيِّف، والخاص على العام، وعكسه، نحو: (وملائكتِه ورسله وجبريل) . (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) . والشيء على مرادفه، نحو: (صلوات مِنْ ربهم ورَحْمة) . (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) . والمجرور على الجوار، نحو: (بِرءوسكم وأرجلَكم) . وقيل: وترد بمعنى أو، وحمل عليه مالك: (إنما الصدقَات للفقراء والمساكين) . وللتعليل، وحمل عليه الخوارزمي الواو الداخلة على الأفعال المنصوبة. ثانيها: واو الاستئناف، نحو: (ثم قَضَى أجلاً وأجَلٌ مسمًى عنده) (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 (واتَّقوا الله ويعَلِّمُكم الله) . (مَنْ يضْلِلِ الله فلا هادِيَ له ويَذَرُهم) - بالرفع، إذ لو كانت عاطفة لنصب ونقر. ولجزم ما بعده ونصب (أجل) . ثالثها: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية، نحو: (ونحن نسبح بحمْدِك) . (يَغْشَى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمَّتْهم أنْفسهم) . (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) . وزعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة، لتأكيد ثبوت الصفة للموصوف، ولصوقها به، كما تدخل على الحالية، وجعل من ذلك: (ويقولون سبعة وثامِنُهم كَلْبهم) . رابعها: واو الثمانية، ذكرها جماعة كالحريري وابن خالويه والثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عدّوا يدخلون الواو بعد السبعة إيذانا بأنها عددٌ تام، وأن ما بعده مستأنف، وجعلوا من ذلك قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) . وقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) إلى قوله (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، لأنه الوصف الثامن. وقوله: (مسلماتٍ. . .، إلى قوله: (وأبكارًا) . والصواب عدم ثبوتها، وأنها في الجميع للعطف. خامسها: الزائِدة، وخرج عليه واحدةٌ في قوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ) . سادسها: واو ضمير المذكور في اسم أو فعل، نحو: (المؤمنون) . (وإذا سمِعوا اللَّغْوَ أعرضوا عَنْه) . (قل لعبادي الذين آمَنوا يقيموا الصَّلاة) . سابعها: واو علامة الذكرين في لغة طيّ، وخرّج عليه: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) . ثامنها: الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها، كقراءة قنبل: "وإليه النّشور وأمِنتم ". (قال فرعون وآمنتم به) . (وَيْكَأَنَّ) : قال الكسائي: كلمة تندم وتعجّب، وأصله وَيْلك، فالكاف ضمير مجرور. وقال الأخفش: وَيْ اسم فعل بمعنى أعجَب، والكاف حرف خطاب، ِ وأنَّ على إضمار اللام: والمعنى أعجب لأن الله. وقال الخليل: وَيْ وحدها، وكأن كلمة مستقلة للتحقيق لا للتشبيه. وقال ابن الأنباري: يحتمل (وَيْكأنَّه) ثلاثة أوجه: أن تكون ويك حرفاً، وأنه حرف. والمعنى ألم تر. وأنْ تكونَ كذلك، والمعنى ويلك. وأن تكون وي حرفاً للتعجب، وكأنه حرف. ووُصِلا خطًّا لكثرة الاستعمال، كما وصل يبنؤمَّ. (وَيْل) : قال الأصمعي: ويل تقبيح. قال تعالى: (ولكم الْوَيل مما تصِفون) . وقد توضع موضع التحسر والتفجيع، نحو (يا ويلتنا) . (يا وَيْلَتَى أَعجَزْتُ) . أخرج الحربي في فوائده من طريق إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك" فجزعْث منها، فقال لي: يا حميْراء، إنَّ " ويحك " أو " وَيْسك "، رحمة، فلا تجزعي منها، ولكن اجزعي من " الويل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 (حرف اللام ألف) (لأعْنَتَكمْ) : لضَيَّقَ عليكم بالمنع من مخالطتهم. ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكْلِكم لأموال اليتامى. (لا تَنْكِحوا) ، أي لا تتزوجوا. والنكاح مشترك بين العقد والوطء لأمَة، أي أمة الله، حرة كانت أو مملوكة. وقيل أمة مملوكة مؤمنة خير من حرة مشركة. (لأوْضَعوا خلالَكم) ، أي أسرعوا السير. والإيضاعُ: سرعة السير. والمعنى أنهم يسرعون بالفساد والنميمة بينكم. (لأحْتَنِكنَّ) : معناه لأميلنهم ولأقودنهم. وقيل: لأسْتَأصِلَنهم. يقال احتنكَ الجراد، إذا أكله كلّه. (لاهِيةً قلوبُهم) : الضمير للكفار، يعني أن قلوبهم غافلة مشغولة عن الحق وتذكره، لأن القَلْب إذا اشتغل بشيء لم يكن لشيء آخر فيه محل، لقوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قَلْبَيْنِ في جَوْفه) . (لا يَسْبِقونَه بالقَوْل) : الضمير للملائكة، يعني أنهم لا يتكلمون بشيء حتى يكلِّمهم الله تأدّباً معه، وخوفاً من سطْوته، ولا يشفعون لأحد من عبادِ الله حتى يستأذِنوا، فإن أذن لهم شفعوا وإلاَّ سكتوا. (لازِبٍ) ، ولازم: بمعنى واحد، وهو الممتزج المتماسك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 الذي يلزم بعضه بعضاً، وأمَر الله بهذه الآية سؤال المشركين عن خَلْق الله الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب: (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) ، ومنْ لازم جوابهم بأنهم أشدّ خلقاً منهم تقوم عليهم به الحجة في إنكارهم البعث في الآخرة، كأنه سبحانه يقول: هذه المخلوقات أشدُّ خلقاً منكم، فكما قدرنا على خلقتكم كذلك نَقْدِر على إعادتكم بعد فَنَائكم، لأنكم أضعف خَلْقه، وكيف لا وأنتم من طين لازِب! (ولا هُمْ عَنها ينزَفُون) ، عن هنا سببية، كقوله: فعلته عن أمرك. والنزف: السكر، يعني أنَّ شاربَ خمر الآخرة لا يسكر منها، لأنها حُلْوة طيبة، بخلاف خمر الدنيا. والعجب ممَّنْ يكون في عقله ويُذْهِبُه بشربها، وأقل ما فيه من الوعيد الحديث: " منْ شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ". فإن قلت: هل هذا الوعيد يتناولُ مَنْ تاب مِن شُرْبها أم لا؟ والجواب: أنَّ هذا فيمن لم يَتُب، وأما التائب فيبدِّل الله سيئاتِه حسنات، كما قدمنا في غير ما موضع. (لا تَسْمَعُ فيها لاَغيةً) : هو من لَغْو الكلام، ومعناه الفحش وما يكره، فيحتمل أنْ يريد كلمة لاغية، أو جماعة لاغية. (لإيلافِ قريش) . لإِيْلاَفِ: آلفت إيلافاً. وقيل هذه اللام موصولة بما قبلها. المعنى: (فجعلهم كعَصْفٍ مأكول) ، (لإيلاف قريش) . وكانت لهم رِحْلتان في كل عام: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام. وقيل: كانت الرحلتان جميعاً إلى الشام. وقيل: كانوا يرحلون في الصيف الى الطائف حيث الماءُ والظلّ فيقيمون بها، ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسُكنَاهم بها. واختلف في تعلق قوله: (لإيلاف قريش) على أقوال قيل إنه متعلق بقوله: (فلْيَعْبُدوا) ، والمعنى فليعبدوا الله من أجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 إيلافهم للرحلتين، فإن ذلك نعمة من الله عليهم. وقيل: إنه يتعلق بمحذوف تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل: إنه يتعلق بسورة الفيل. والمعنى أن الله أهْلك أصحابَ الفيل لإيلاف قريش، فهو يتعلق بقوله: (فجعلهم) ، كما قدمنا. ويؤيد هذا أنَّ السورتين في مصحف أبَي بن كعب سورة واحدة لا فَصْلَ بينهما، وقد قرأهما في ركعة واحدة في المغرب، وذكر الله الإيلاف أولا مطلقا، ثم أبدَل منه الإيلافَ المقيد بالرحلتين تعظيما للأمر، ونصب (رحلة) لأنه مفعول بإيلافهم، وقال: (رحلةَ) وأراد رحلتين، فهو كقول الشاعر: " كلُوا في بعض بطنكم تعفُّوا ". وقد قدمنا من هذا الحرف أشياء عند حرف اللام، والحرف الذي قبل هذا فلا فائدة في الإعادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 (حرف اليَاء) (يحيى) بن زكرياء عليهما السلام، وُلد قبل عيسى بستة أشهر، ونُبيء صغيراً، وهو اسم أعجمي، وقيل عربي. قال الواحدي: وعلى القولين لا ينصرف. قال الكرماني: وعلى الثاني أنه سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، وقيل لأنه حيى به رحم أمه، وقيل لأنه استشهد، والشهداء أحياء. وسبَبُه أن ملك زمانه كان له زوجة ولها بنت من غيره، فأرادت المرأة ُ تزويجها منه غيرةً وخوفاً من تزويج غيرها، فزينتها وعرضتها عليه، وقالت له: أتريد أحسن منها، فقال لها: لا أحبّ غيرها. فاتخذت وليمةً، ودعت إليها يحيى، وعرضت عليه الأمر، فقال: معاذ الله في ذلك، فَسَقَتْ زوجها الخمر، وقالت: أما علمت أنَّ يحيى يَأبَى من زواجك لهذه الشابة، فدعا به وقتله بين يديها، فبكت الملائكة ُ في السموات، وقالت: إلهي، بأيّ ذنب قتلوا يحيى، فقال تعالى: لم يذنب، ولم يُهمّ بذنب، ولكن أحبَّني فأحببتُه، ولا بد في الحب من القتل، وسلّط الله على قاتله بخت نصر فقتله، وأخرب ملكه، وسبَا حَرِيمَه، وملك رعيته. فاسْمَعْ يا مدَّعِي الحب، أما علمْتَ أن المحبةَ أولها فكرية وآخرها بَلِيَّة، وإذا كان الحبُّ بين الخلق يذهب النفوس فكيف بمحبة الله! ولذلك قال تعالى: (والذين آمَنُوا أشدُّ حبًّا لله) . ولذلك قال الجُنيد: كم تقتل من الأحباب، وكم تريق من دَم الأصحاب، فسمع هاتفا يقول: أقتل النفس، وأعطي دِيَتها. فقال: يا رب، ما دِيتها، فقال: دِية مقتول الخَلْق الدنيا ودية مقتولِ الحقِّ رُؤية الجبَّار. (يوسف) بن يعقوب بن إبراهيم خليل الرحمن، ألقي في الجب وهو ابنُ ثنتي عشرة سنة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 ولقي أباه بعد الثمانين، وتوفي وله مائة وعشرون سنة. وفي الصحيح أنه أعطِيَ شَطْرَ الحسن، قال بعضهم: وهو من المرسلين، لقول موسى: (ولقد جاءكم يوسف من قَبْلُ بالبينات) . وقيل: ليس هو يوسف ابن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب. ويشبه هذا ما في العجائب للكرماني في قوله: (وَيرِثُ مِنْ آل يعقوب) ، إن الجمهور على أنه يعقوب بن ماثان، وإن امرأةَ زكَرياء كانت أخْتَ مريم بنت عمران، قال: والقول بأنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غريب. وما ذكره أنه غريب هو المشهور، والغريب الأول، ونظيره في الغرابة قول نَوْف البِكاليِّ إن موسى المذكور في سورة الكهف في قصة الخضر ليس هو موسى نبي بني إسرائيل بل موسى بن مَنشا بن يوسف. وقيل ابن إفرائيم بن يوسف، وقد كذبه ابن عباس في ذلك. وأشدُّ من ذلك غرابة ما حكاه النقَّاش والماوردي أن يوسف المذكور في سورة غافر من الجن، بعثَه الله رَسولاً إليهم، وما حكاه ابن عسكر أن عمران المذكور في آل عمران هو والد موسى لا والد مريم. وفي يوسف من اللغات تثليث السين مع الياء والهمزة وبتركه، والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له. فإن قلت: أين يوسف من فرعون في مخاطبة موسى له؟ والجواب: ما قدمناه لك من أنَّ ملك مصر يسمى فرعون، وإنكارهم لبعث الرسالة لا يدلُّ على أنهم مؤمنون برسالة يوسف، وإنما مُرادُهم أن يأتي أحد يدَّعي الرسالة بعد يوسف، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: إنما هو تكذيب لرسالةِ مَنْ بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. (يونس) بن مَتّى، بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور. ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمِّه. قال ابن حجر: وهو مردود بما في حديث ابن عباس في الصحيح، ونسبه إلى أبيه، قال: فَهَذَا أَصَحّ. قال، ولم أقِفْ في شَيءً من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمان ملوك الطوائف من الفرس، فبعثه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 الله إلى أَحدهم فأعرضوا عنه، ووعدهم بالعذاب، فخاف منهم وهرب فالتقمه الحوت كما قدمنا أنه مكث في جوفه أربعين يوماً. وقيل الْتَقَمَه ضحى ولفَظَه عشية. وفي يونس ست لغات: تثليث النون مع الياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم الياء مع النون قال أبو حيان: وقرأ طلحة بن مصرّف بكسر يونِس ويوسِف، أراد أن يجعلهما عربيين مشتقين من أنِس وأسِف وهو شاذّ. (يسومونَكم سوءَ العذابِ يذَبِّحونَ أبناءكم) . قد قدمنا أنَّ الخطاب لبني إسرائيل قبل هذا الحرف. فإن قلت: أي فائدة لخطاب المعاصرين بهذا، وتعبيره في سورة الأعراف بالقَتْل؟ والجواب: لأنهمٍ من ذرّيتهم وعلى دينهم ومتّبعون لهم، وهم راضون بذلك، فعدّد عليهم بما مَنَّ على آبائهم وهم عالمون بذلك. وورد في آية البقرة مضعّفاً، لأن المقصود فيها كما قدمنا تعديد وجوهِ الإنعام عَليهم، وبيانُ المنَّة، ومقابلتهم لهذه النعمة بالكفْر من الأمر الشنيع، ألاَ ترى أنه لما ذكر دعوة الناسِ عموماً، وذكر مبدأهم دعا بني إسرائيل خصوصاً. وأيضاً لما كان الذبح منبئ عن القَتْل وصِفَته، ولا يُفهم من القتل غير إعدام الحياة بتناول من غير المقتول في الغالب عَبَّر هنا بما يوفي المقصود من الإخبار بالقتل وصِفته، مع إحراز الإيجاز، إذ لو ذكر القتل وأتبع بالصفة لما كان إيجازاً، فعدل إلى ما يحصلُ منه المقصودُ مع إيجاز، فقال (يُذَبِّحون) . وعَبَّر في سورة الأعراف بالقتل، لأنه أوجز من لَفْظِ (يُذَبِّحون) ، لأجل التضعيف، إذ لفظ يذبحون أثقل لتضعيفه. وقد حصلت صفة الفعل في سورة البقرة. (يَهْبِطُ مِنْ خشيةِ الله) : صفة للحجر، وذلك أنَّ الله تعالى جعل خَوْفَه في المتحرك والساكن، فكلّ حجر يرمى من علو إلى سفل فمِنْ خشية الله، ومنهم من يتفجَّر منه الأنهار، كما قال تعالى، هذا مع أنهم غَيْر مخاطبين ولا مكلفين، وأنْتَ يا محمديّ مكلّف مخاطب، وقد قسا قَلْبك، فهل هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 إلا من مخالفة أمْرِ ربك، تَلين الأحجارُ، ولا تلين القلوبُ! وأعظم من ذلك عدمُ الانكسار والخشوع! لو تُليت هذه الآيات على الجماد لانَ، كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) . فلا حيلةَ لنا يا رب إلا إلقاء نفوسنا بين يديك، والتفويض لما أردْتَ بنا، وإلاّ الصبر لنا على عذابك، وكيف يصبر الجسم الضعيف على العذاب المقيم، فصبِّرْنا إنْ قضيتَ علينا، واجعلنا كالإسرائيلي الذي عبدك سبعمائة سنة، فأوحيت إلى نبيء ذلك الزمان: قلْ لعَبْدي فلان تعبَّدْ ما شئْتَ، فأنْتَ من أهل النار. فلما بلغه وَحْيك قال: مرحباً بحُكم ربي! ثم قال: إلهي، عَبَدْتك، وأنا لا أظنُّ أني لا أزِنُ عندك قليلاً ولا كثيرا، فإذا أنا أصْلح لنارِك، وعزَّتك ما زادني هذا إلا حُبًّا وتلهّفا فيك، فأوحى الله إلى دانيال عليه السلام: قل لعَبْدي المستحق لِوَلاَئِي بالصبر والرضا: رضيت عني بأصعب حكم وقضاء، وعِزَّتي وجلالي لو ملأتْ ذنوبك الأرضَ والسماء لغفرتها لك، ولا أبالي. وأنت تعلم كربتي وذِلَّتي وشدةَ محنتي بذنوب اقترفْتها وعظائم ارتكبتها، وأنتَ تعلمُ أنه ليس لي مَنْ يتفقَّدني عند الموقف بين يديك غير رحمتك الواسعة التي أخْبرتنا بها، فقيِّضْ لي مَنْ يشفع عندك، أقسم عليك بجاهِ نبيِّك الكريم، واسمك العظيم، وعمْدَتنا على لسان نبيك أنه أعدَّ شفاعته لكبائر أمته، فأذَنْ له فينا، ولا تخَيِّبنا من فَضْلك العظيم وإحسانك العميم، وأسألك أنْ تصلِّي على نبيك الكريم، وتَرْضَى عن أصحابه ذوي الفضل والتكريم. (يَسْتَفْتِحون) : يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم. فَالسًينُ على هذا للطلب، يعني أنهم كانوا يقولون: اللهم انْصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمانُ نبئ يخرج نقاتِلكم معه قَتْلَ عادٍ وإرم. وقيل يستفتحون أي يعرفون الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم. فالسين على هذا للمبالغة، كالسين في استعجب واستسخر، وعلى كلِّ قول فبغْضهم واجب وقَتْلهم جائز لجحدهم ما عرفوا في كتبهم، ولذلك قال الله فيهم: (فَلعْنَة الله على الكافرين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 (يتَمَنَّوه أبداً) : الضمير يعود على الموت، وذلك أنَّ الله أمرهم أن يتمنَّوا الموتَ إن كانوا صادقين في قولهم على وَجْه التعجيز والتبكيت. لأنّ مَنْ علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، ولو تمنَّوه لماتوا من ساعتهم، ولمَّا علموا ذلك لم يتمنوه لذنوبهم، لأنهم أرادوا الحياةَ الدنيوية. فإن قلت: لم عَبَّر في آية البقرة بـ (لن) بخلاف الجمعة؟ والجواب: أنه لما كان الشَّرط فيها مستقبلاً، وهو قوله تعالى: (إنْ كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصةً) ، الآية - جاء جوابه بـ (إن) التي تخلِّص الفعل للاستقبال. ولما كان الشرط في الجمعة حالاً، وهو قوله: (إنْ زَعمْتم أنكم أولياءِ للَه) ، جاء جوابه بلا التي تدخل على الحال، وقد تدخل على المستقبل. فإن قلت: ما النافية أخصّ بالحال فهي أنسب؟ قلت: قد يفهم من "ما" نَفْي مجرد الحال دون ما يتصل به، فقد يقول القائل: ما يقوم زيد - يريد ما يقوم اليوم، ولا يريد أنه ما يقوم غداً، وما صالحة لهذه المعنى، وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك، وأنَّ تلكَ صِفَتهم على الحال وما يليه إلى آخر حياتهم، إذ ذاك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصةً من دون الناس كما زعموا، فلما كان زَعْمهم هذا ناسبه نَفْي دَعْوَاهم وتكذيب زعمهم بحرف نص في نفْي ذلك، وأنه لا يقع منهم التمني في حالهم ولا فيما بعده أبداً. فإن قلت: إن قوله: (أبداً) قد أحرز هذا؟ قلت: تأكيد ذلك أبلغ، فنفى بـ لا وأكّد بالتوكيد. فجاء على أعلى البلاغة. (يَتْلُونَ الكِتابَ) . أي يقرأونه، والضمير عائد على اليهود والنصارى، وهذا تقبيحٌ لقولهم وذَمِّهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولِمَا جاءَ به، مع تلاوتهم كتابهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 (يَلْعَنهم اللاعِنون) : قد قدمنا أنهم جميع مَنْ تقَع منه اللعنة، وإذا تلاعَن اثنان، وكان أحدهما غير مستحق للعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود. (ينْعِق) . أي يصيح بالغنم فلا تدري ما يقول لها إلا أنها تنْزَجر بالصوت، وشبَّه الله الكفار بالبهائم في قلّة فَهْمِهم وعدم استجابتهم لمن يَدْعوهم، أو يكون تشبيهاً للكفار في دعائهم وعبادتهم لأصنامهم بمن ينْعِق بما لا يسمع، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً، وفيه تفصيلٌ قدمنا ذكره. (يطهُرْن) : من الدم، ويتطهرن بالماء، وقرئ حتى يطهرن بالتشديد، وهو حجة لمالك. (يتَسنَّهْ) . ومعناه يتغير، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقاً من السنة، لأن لامها هاء فتكون الهاء في "تسنَّه" أصلية، أي لم تغيره السنون. ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك: تسنّنَ الشيء إذا فسد، ومنه الْحَمَأ المسنون، ثم قُلبت النون حَرْفَ علة، كقولهم: قَصّيت أظفاري، ثم حذفَ حَرْفُ العلة للجزم، والهاء على هذا هاء السكت. وقيل إن طعامَه كان تيناً وعِنبا، وإن شرابه كان عصيراً ولبناً، فأراه اللهُ أعجوبة في بقائه هذه المدة الطويلة على حالته. (يَؤُودُه) : يثقله، من قولهم: ما آدَكَ فهو بمُوئد، أي ما أثقلك فهو لي مُثقل. (يمحق الله الرِّبا) . أي يذهبه في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بالعقوبة. وقد قدمنا أنَّ عقوبتَه في الآخرة بقيامه من القَبْر كالمجنون يعرفُه أهْلُ الحشر بتلك العلامة، وأيُّ عقوبة أكبر من هذا. وحكى القاضي عياض في مَدَاركه: أنَّ ترك رُبع دانق ممّا حرم الله أفضلُ من سبعين ألْف حجة، وأفضل من سبعين ألف غزوة، وسبعين ألف بدنة مقلَّدة أُهديت إلى بَيْتِ اللهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 الحرام، قال: فبلغ ذلك عبد الجبار، فقال: نعم، وأفضل مِنْ ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً وفضة اكتسبْنَ من حلال وأنفقن في سبيل الله، تَرْكُ ربع دانق مما حرم أفْضل من ذلك كله. (يَلْوونَ ألْسِنَتَهم بالكتاب) : الضمير عائد على أهل الكتاب، يعني يحرِّفونَ لفظَه أو معناه. (يَضرُّكم) . من الضير، بمعنى الضرر. (يَكبِتَهم) : يَغيظهم ويخْزيهم. وقيل يصرعهم لوجوههم. (يمين) : له أربعة معان: اليد اليمنى، والجهة اليمنى، وبمعنى القوة، وبمعنى الحلف. وأيمن الإنسان جهة يمينه. (يسير) : له معنيان: قليل، ومنه كيل يسير. وهين، ومنه: (وذلك على الله يسير) . واليسر ضد العُسر. (يئس) ، من الأمر ييأس، أي انقطع رجاؤه، ومنه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) ، و (إنه ليئوسٌ) . وأما: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فمعناه أفلم يعلم، وهي لغة هوازن، وقرئ: "أفلم تتَبَيّن". (يستبشرون) : يفرحون: والضمير عائد على قوم لوط لَما سمعوا بذكر الأضياف أسرعوا إليه فرحين ببغْيتهم ونكاية للوط عليه السلام، وكرره في آل عمران،، ليذكر له من النعمة والفضل. (يَمِيزَ الخبيثَ مِنَ الطيّب) . أي ما كان الله ليدعً المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه مَيّز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غَزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدلُّ على الإيمان أو على النفاق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 وما كان الله لِيطْلعكم على ما في القلوب من الإيمان أو النفاق، أو يطْلعكم على ألا تغلبون أو تُغْلبون. (يَفْقَهون) : يفهمون، ولذا سمي الفقيه فقيهاً. وفي الحديث: " ما أعطي المرء أفضل من حسْنِ سَمْتٍ وفِقْهٍ في الدين ". وانظر كيف عَبَّر عنهم تارة بالفهم، وتارة بالعقل، وتارة بالهداية، وعن الكفار بضِدِّها، وكلها ألفاظٌ بمعنى واحد. (يَشْتَرون الضَّلالَة) : عبارة عن إيثارهم الكفْرَ على الإيمان، فالشراء مجاز، كقوله تعالى: (اشْتَروا الضلالَة بالهدَى) . وفي تكرار قوله: (وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيراً) - مبالغة. (يَشْرونَ) : يبيعون، ومنه: (ومِنَ الناس مَنْ يَشرِي نَفْسَه) . (يَسْتَنبِطُونَه منهم) ، أي من المسلمين. والمعنى لو ترك هؤلاء القوم الكلامَ بذلك الأمْرِ الذي بلغهم وردّوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر منهم، فـ (مِن) على هذا لابتداءِ الغاية، وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر. وقيل: إن الذين يستنبطونه هم أولو الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه - أنه سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه فدخل عليه، فقال: أطَلَّقْتَ نساءَك، قال: لا، فقام على باب المسجد، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُطَقَق نساءه، فأنزل اللَّهُ هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا الذين يستنبطونه هم أولو الأمر. والضمير المجرور عائد عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطُهم على هذا هو سؤالهم عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنظر والبَحث، واستنباطه على التأويل الأول هو سؤال الذين أذَاعوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأولي الأمر. (يَألَمون) ، أي يصيبهم ألَمٌ منْ قتالكم، ومعناها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 التحريض على قتالهم، لأنهم يتألون من ملاَقاتكم، ومع ذلك فإنكم ترْجون إذا قاتلتموهم النصر في الدنيا والأجْرَ في الآخرة، وهذا كقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) . (يتِيهُونَ في الأرض) . أي في أرض التيه، وقد قدمنا أنها بين مصر والشام، وكانوا يسيرون النهارَ والليل، ويجدون أنفسهم في الموضع الذي ارتحلوا منه مساء وصباحاً عقوبةً لهم على ما صدر منهم. (يَسْتَفْتونَك) . أي يسألونكَ عن الحكم الشرعي على وَجْه النظر. والمستفتي هو المستَخْبِر عن الحكْم الشرعي على غير وَجه النظر، فكلَّ مستفتٍ مستخبر، وليس كل مستَخْبر مستفتياً، لأن السائل على وَجْه النظر مستخبر، وليس بمستفتٍ في عُرف الفقهاء. (يعْصِمُكَ من الناس) . أي يحفظك، وفي هذا وعْدٌ وضمان لعصمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان محترس من أعدائه، فلما نزلَتْ أخرج رَأسَه من البيت الذي كان فيه، وقال: اذهبوا فقد عصمني الله، فكلّ ما أصيب به قبل نزول الآية، وأما بعد نزولها فلا، فالعصمة للأنبياء، - والحفظ للأولياء. (يَا أهْلَ الكتابِ لسْتم على شيء) : من فَضْلِ هذه الأمة المحمدية أنَّ اللهَ خاطبهم بالإيمان، وخاطب أهْلَ الكتاب بكتابهم، ففي الأولى جَمَعَ الله أوصافَ المؤمنين ونعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنةٌ إلا دخلت تحته، وفي الثاني إهانة وتوبيخ، ألا ترى أنه قال لهم: (لَسْتم على شيء) ، أي على دين يُعتدُّ به حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل، ومن إقامتها الإيمانُ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: (وما أنْزلَ إليكم) . قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة، ورافع بن حريملة. وسلام بن مشْكم، وغيرهم من اليهود، جاءوا إلى رسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 (يَنْعِه) . أي ينْضَج وَيطيب، والمعنى انظروا إلى ثمره أوّل ما يخرج ضعيفاً لا مَنْفَعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يَيْنع. (يَقْترِفون) : يكتسبون. (يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) : أصله يتَصَعَّد، ومعناه أن مَنْ يريد اللَه ضلاله كأنما يحاول الصعود في السماء، وذلك غَيْر ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان. وقرئ بالتخفيف. وأما: (إلَيهِ يَصْعَدُ الْكلِمُ الطَّيِّب) - فمعناه لا إله إلا الله، واللفظُ يعمُّ كلَّ ذكْر ودعاء وتعليم علم، فإنَّ الله يقبله ويثيب عليه بفضله وكرمه، وهذا معنى قوله: (والعمَل الصالح يَرْفَعُه) . وقيل: إن ضمير الفاعل للكَلِمِ الطيب، وضمير المفعول للعمل الصالح. والمعنى على هذا أنه لا يقبل العملَ إلا مِنْ موحِّد. وقيل: إن ضمير الفاعل للعمل الصالح وضمير المفعول للكم الطيب. والمعنى على هذا أنَّ العمل الصالح هو الذي يقبل الكلام الطيب، فلا يقبل الكلام إلا مَنْ له عمل صالح. روي هذا المعنى عن ابن عباس، واستبعده ابنُ عطية ولم يصحّ عنه، لأن اعتقادَ أهلِ السنة أنَّ اللهَ يتقبَّل مِنْ كل مسلم، قال: وقد يستقيم بأن يتناول أن يزيد في رفعه وحسن رفعه. فإن قلت: آية قوله تعالى: (إنما يتَقبَّلُ اللَّهُ من المتقين) تدل على قول ابن عباس؟ والجواب: أنَّ معنى المتقين يعني الذين اتقوا الشركَ، لأن التقوى على درجات، كما قدمناه مراراً. فلا نطيل بذكره. وقد قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . فلا السيئة تُبْطل الحسنة، ولا العكس، على هذا يكونُ اعتقادك لا على غيره. (يَخوضونَ في آياتِنا) : الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 إذا سمعوا القرآن طعنوا فيه واستهزءوا به، فأمَر اللهُ نبيه بالإعراض عنهم حتى يحكمَ اللَّهُ فيهم بعدْله. (يَغْنَوْا فيها) : يقيموا فيها، أو ينزلوا مستغنين. والمغاني: المنازل، واحدها مَغْنى. (يذَرَك وَآلهَتَك) : معطوف على، (ليفسدوا ) ، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو. وقيل كان فرعون جعل للناس أصناماً يعبدونها، وجعل تفْسَه الإله الأكبر، ولذلك قال: (أنا رَبُّكم الأعلى) ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام. وقرأ عليٌّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس: إلاَهتك، أي عبادتك، والتذلل لكَ. (يُسْتَضْعَفون) : هم بنو إسرائيل استضعفوهم قوم فرعون، فجعلوهم خدماً يمتهنونهم في الخدمة ويُتْعبونهم في المناولة. (يَعْرِشون) ، أي يبنون. وقيل الكروم وشبهها. (يَعْدون في السّبْتِ) . يعني يتجاوزون حد الله فيهم باصطِيادهم الحوتَ. (يَسْبِتونَ) ، يَدَعون العمل فيه. وبضم الياء يدخلون في السبت. (يَلْهَث) : اللهث: تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثَر ما يَعْترِي ذلك الحيوانات مع الحَرِّ والتَّعَبِ، وهو حالة دائمة للكلب، ومَثل الله الذي انسلخ من آياته بالكلب، لأنه لا يعرفُ قَدْرَ اللؤلؤ والياقوت، بل يعرف الجِيفَ والقذرات الْمُنْتنة، وبلعام لم يعرف قَدْرَ ما أعطاه الله، فسُلب، وفي هذا من الإشارة لك يا محمدي ما يُذْهِل العقول في كونك أكرمك الله بآياته، وفضَّلك على كثير من مخلوقاته، فأعرضْتَ عنها، واشتغلت بالجيفة النتنة الذي قال فيها الصادق الصدوق: " الدنيا جيفة وطلابها كلاب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وإن أعرضت عنها في بعض أوقاتك فما أسرع نَكْث العهد في رجوعك إليها، أما سمعتَ قول الصادق المصدوق: نحن أمةٌ ليس لنا مثل السوء " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ". فافهم إن كنت ذا فَهْم، والسلام. ووَجْهُ تشبيه ذلك الرجل به أنه إنْ وعظْتَه فهو ضالّ، وإن لم تَعظْه فهو ضالّ، فضلاَلَتُه على كل حال، كما أن لهث الكلب على كل حال. وقيل: إن ذلك الرجل خرج لسانُه على صدره، فصار مِثْلَ الكلب في صورته ولهثه حقيقة، وهذه حالُنا لولا أنْ مَنّ الله علينا بني عظيم يشفع فينا لكنّا أعظم من هذا، وكيف لا وفِعْلُنا أعظم، وجرائمنا أجسم، لكن سيئات المحبوب حسنات، اللهم كما سترتها علينا بجاهه عندك اسْتُرْها علينا في الآخرة. (يَمْشُونَ بِهَا) : أخبر اللهُ بهذه الآية عن اعتراف المشركين أنَّ أصنامَهم لا تمشي ولا تَبْطش ولا تسمع ولا تُبْصر، فقال لهم: كيف تعبدونها، وبين بها كفرهم وإعراضهم عن عبادة المتصف بالسمع والبصر والقدرة والإرادة، فتعالى الله الملك الحقَّ لا إله إلا هو. (يَتَولى الصَّالِحين) ، في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم. ومَنْ كان لله كان الله له، ومَنْ راقب يراقب، ومَنْ غفل غفل عنه. أنْتَ تريد وهو يريد، فإنْ تركتَ مرادَك لمراده أنَالَكَ ما تريد، كيف تطلب خرق العوائد وأنتَ لم تخرق من نفسك العوائِد. (يَنْزَغَنَّك من الشيطان نَزْغٌ) : قد قدمنا أن الخطاب بهذا لأمته، إذ الإجماعُ على عصمته، ونَزْغ الشيطان: وَسْوسته، والأمر بالمعاصي، وتحريك الغضب، وفي هذا من التعليم لأمته بوجوده - صلى الله عليه وسلم - ما يعجزُ اللسان عن شكره، وكيف لا وقد بَين لنا - صلى الله عليه وسلم - كيفيَة الفعل إذا اعْتَرَانا هذا اللعين بقوله: إن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع، ويستعيذ بالله من شره. وفي حديث آخر لما رأى رجلا اشتدّ غَضَبه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يَجِد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وقد وَفّق اللهُ بعْض هذه الأمة لكظْم الغيظ، وعَفْوهم عمن ظلمهم، لو ذكرنا ذلك لطال ذكرهم، كالذي كان يناول طعاما لسيده فعثر ووقعَت الصحْفَة من يده، فقتل ابْنَ سيده، فدهش، فقال له السيد: لا رَوْع عليك! فقال الغلام: (والكاظِمين الغَيظَ) . قال: قد كظَمْتُه. فقال الغلام: (والْعَافِين عن الناس) . فقال: قد عفوت. قال الغلام: (والله يحبُّ الْمُحْسنين) ، فقال: قد أحسنتُ إليك. اذهب فقد زوَّجتك ابنتي. وآخر دخل على فرسه الذي كان يركبه، فوجده على ثلاث قوائم، فقال: مَنْ فعل هذا، فقال له الغلام: أنا. قال: ما الذي حملكَ على ذلك، قال: أردت أن أغمَّك. فقال: لأغمنَّ الذي أمركَ بذلك. اذهب فأنْتَ حُرٌّ لوجه الله. هكذا فلتكن حالُك إن أردْتَ اللحوقَ بهم، وإلا ظنَّ مباينَة حالك لحالهم. هؤلاء يملأ اللهُ قبورهم نوراً، كما ملأها في الدنيا إيماناً، وأما نحن فلا ندري ما نصير إليه لا نحن فيه من غَلبة النفس والهوى والشيطان. (يَمُدُّونَهم في الْغَيِّ ثم لا يُقْصِرُون) : قرئ بضم الياء وفتحها، ومعناها لا يقصر الشيطان على إمداد إخوانهم من الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم. (يَسْألُونَكَ عن الأنفال) : يعني أن الصحابة يوم بَدْر كانوا على ثلاث فرق: فرقة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تَحْرسُه وتُؤْنسه، وفرقة تبعت المشركين تقاتلهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدوّ وعسكره لما انهزموا، فلما انجلت الحرْبُ ونَصرَ الله نبيه رأت كلّ فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية: إن الأنفال، وهي الغنيمة، للهِ ورسوله. وقيل الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، فأعطاهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ما غنموا وقَسمها بينهم، وفي بعض الغزوات قال لهم: لي معكم الخُمس، وهو مردود عليكم لزُهْدِه - صلى الله عليه وسلم - وإيثارِه الصحابة عليه. وقد اختلف الفقهاء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 هل يكون هذا النفل الذي يعطيه الإمام من الخمس، وهو قول مالك، أو من الأربعة أخماس، أو من رأس الغنيمة قَبْل إخراج الخمس. (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبِه) : قيل يُميته. وقيل يصرفُ قَلْبَه حيث شاء، فينقلب من الإيمان إلى الكفر، وشبه ذلك، ولذلك كان المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل صباح ومساء: اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يتقلَّب ويدعو لأمته ويسأله ثَباتهم. وفي الحديث: القلبُ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقَلّبه كيف يشاء، يعني أصابع القدرة والإرادة لا أصابع الجارحة. وقيل لبعضهم: بِمَ عرفْتَ ربَّك، قال: بنقض العزائِم، عزمت فنقض عَزْمي، وهممت فنقض همي، فعلمت أنَّ لي ربًّا يدَبِّر أمري. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) : نور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث في قلوب الناس، فمن حيث سمَّاه نُوراً سمّى محاولة إفساده والصدّ في وجهه إطفاء. وقالت فرقة: النور القرآن. وقوله: (بِأَفْوَاهِهِمْ) عبارة عن قلّةِ حيلتهم وضَعْفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومةَ أمر جسيم بعمل ضعيف، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه. ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فَهْم سامع. وقوله: (ويأبى) إيجاب يقَعُ بعده أحياناً (إلاَّ) ، وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أنْ يُتِمَّ نورَه. وقال الفراء: هو إيجاب فيه ضرب من النفي. وردَّ الزجاج على هذه العبارة، وبيانُه ما قلناه. فإن قلت: ما حكمةُ زيادة آية براءة على آية الصفِّ، واختلاف العبارتين؟ والجواب: ناسب زيادة براءة ما ورد من الطول المحكي فيها من قَوْل الطائفتين من اليهود والنصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) . وأما آيةُ الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً) ، ثم قال تعالى: (فلما جاءهم بالبيِّناتِ قالوا هذا سِحْرٌ مبين) ، وليس هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 في الطول وعِدَّة الكلم كالمحكي في سورة براءة، ألا ترى أنَّ الواقع في براءة ست كلمات، وفي الصف ثلاث كلمات، والقائِل طائفةٌ واحدة. وهذا مراعى. (يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) : ضمير الجماعة يعود على المنافقين الذين يحلفون: (لو استَطَعْنَا لخَرَجْنَا معكم) ، فأخبر الله رسولَه بكذبهم، وأنهم كانوا يستطيعون الخروج، ولكن تركوه كفرا ونفاقاً، وهذا كلّه في الجملة لا بتعيّن شخص، ولو عُيِّن لقُتِل بالشرع. وانظر كيف عَبَّر هنا بالعلم بخلاف الآية بعدها. وفي الحشر والمنافقين لأنَّ الاستطاعةَ وعدمها حكم لا يطَّلع عليه في الغالب، بل ينفرد كلّ بحاله في ذلك، إلا أنْ يعلم ذلك بقرينة، فقول المنافقين في إخبار الله تعالى عنهم: (لو استَطَعْنَا لخرَجْنَا معكم) ، غير مشاهد من ظاهرهم، فقد كان يمكن صدقهم أو صدق بعضهم لوْلا أنّه سبحانه أعلم بحالهم، فناسب التعين بالعلم. (يَرْكُمَهُ جميعاً) . أى يضمّه ويجعل بعضه فوق بعض. (يوم يُحْمَى عليها) : الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير (ينفقونها) ، والعامل في الظرف (ألِيم) ، أو محذوف. فانظر ما أوعد الله للمُمْسك مالَه ولا ينفقه. وقد أخبرنا اللهُ بعذابه في آياتٍ من كتابه كقوله تعالى: (وَيْل لكلِّ هُمَزَةٍ لمَزَةٍ) . (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) ... إلى قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) . (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) . (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى) . وأكرم الله الْمُنْفق بخمس كرامات: جعل الصدقَة تقَعُ في يده قبل وقوعها في يد السَّائل، فيربيها له كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وتكون وقايته من المكاره، كما صحَّ أن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء، يعني في الدنيا والآخرة، لقوله عليه السلام: دَاوُوا مرضاكم بالصدقة. وتحرس المال، للحديث: " حَصِّنُوا أموالكم بالزكاة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 وتطهره لقوله سبحانه: (خُذْ من أمْوالِهم صدَقَة تطهِّرُهم وتُزَكيهم) . هذا مع ما فيها من الخلف والبركة، والكلام عليها طويل جداً. (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) . أي تارة يحلون وتارة يحرمون ولم يُرِد العامَ حقيقة، إذ كانت أحوالُهُم مختلفة. (يُهْلِكون أنْفسهم) : الضمير يعود على المنافقين، لأنهم كانوا يستعذرون بالأعذار الكاذبة والأيمان الباطلة. (يَفْرَقونَ) : من الفَرق وهو الخوف. (يَجِدُون مَلْجَا) . أي يلجئون إلى موضع من المواضع التي تمنعهم من رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (يَكْنِزُونَ الذّهَبَ والفِضَّةَ) . ورد في الحديث: " كل ما أدِّيت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤدَّ زكاته فهو كنز ". وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد: كلّ ما فضَلَ عن حاجةِ الإنسان فهو كنز. وقوله هذا أفضى به إلى الخروج من الشام ومن المدينة حتى لحق بالرَّبذة، فمات بها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد أن ينظر إلى زُهد عيسى فلينظر إلى أبي ذَر رضي الله عنه ". (يضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كفرُوا من قَبْل) ، أى يشابهون. فإنْ كان الضمير لليهود والنصارى فالإشارة بقوله: (الذين كفروا من قَبْل) للمشركين من العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر. وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. (يَلْمِزكَ في الصّدقَاتِ) . أي يَعِيبك على قسمتها، وذلك أنَّ المنافقين كانوا يقولون: يعْطِي مَنْ أحبَّ من أصحابه، ويمنعنا. وقيل هي في الذي قال: اعدل يا محمد، فإنكَ لم تعدل. (يُؤْمِنُ بالله ويؤْمِن للمؤمنين) . هذا من أوصافه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 يقال: أمنت لك إذا صدقتك، ولذلك تعدَّى هذا الفعل بإلى، وتعدّى يؤمن بالله بالباء. (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) : الضمير في (عَلَيْهِمْ) و (تُنَبِّئُهُمْ) و (قُلُوبِهِمْ) عائد على المنافقين، يعني أنهم كانوا يخافون أن ينزَّل في شأنهم سورةٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم -) تُخْبره بما في ضمائرهم من النقص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، وذلك على جهة الاستهزاء والسخرية. وقال الزمخشري: إن الضمائر في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، والأول أظهر. (فإنْ يتُوبوا يكُ خَيْرًا لهم) : فتح الله في هذه الآية بابَ التوبة للمنافقين، فتاب منهم الجُلاَس. وحَسُنَ إسلامه بفَضْل الله عليه. (يسْخَرُون منهم) : الضمير للمنافقين، وذلك أنهم كانوا يستخفُّون بالمسلمين الذين يتصدَّقون بما يجدون ويقولون: إن الله كنيّ عن صدقةِ هذا. (يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) : يعني أنهم كانوا يؤذون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: إنه يسمعُ فيهم أصحابه إذا أخبروه بعداوتهم لهم. فردَّ الله بقوله: (قل أُذُنُ خَيْرٍ لكم) ، لأنه يصفح عنكم ولا يؤاخذكم بأقوالكم، ولو لم يسمع فيكم لأستأصلكم. وقد كان بعض الصحابة يستأذن في قَتْل بعضهم، فيقول: أو يتحدث أنَّ محمداً يقتلُ أصحابه. (يَقْبِضُونَ أيديهم) : كناية عن بخْلهم وعدم إنفاقهم، في، طاعةِ الله ورسوله. (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) . أي يُمْتَحنون بالأمراض والجوع. وقيل بالأمر بالجهاد. واختار ابنُ عطية أن يكون المعنى: يفضحون بما يكشف من سَرَائرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 (يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : كان سبب خوفهم أنْ ينقل عنهم كذبُهم، فكان ينظر بعضُهم إلى بعض، ويقول: إياكم أن يُنْقَل عنكم هذا الاستخفَافُ. وقيل: كان ينظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجّب ومِمَّا ينزل في القرآن مِنْ كشْف أسرارهم. (ويهْدي مَنْ يشاء) . قد قدمنا أنَّ الله تعالى عَمَّ الدعوة وخَصَّ الهداية، إذ ما كلُّ مدعوّ داخلٌ، ولا كل مُضِل مقيم، واحد قاعد عند الباب ينتظر الدخول ولم يدخل، وآخر وجد الباب مفتوحاً فدخل. (يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : في هذه الآية احتجاج على الكفار بأنَّ شركاءهم لا يقدرون على بدء الخَلْق ولا عَوْده. فإن قلت: كيف يحتجّ عليهم بإعادة الخَلْق وهم غير معترفين به؟ فالجواب أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة، ففي ذلك إبطال لهم ولربوبيّتهم، فوضعت الإعادة عليه موضع المتفق عليه لوضوح برْهانها. (يَهِدِّي) . بتشديد الدال: معناه لا يهتدي في نفسه، فكيف يهدي غيره. وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره. والقراءةُ الأولى أبْلَغ في الاحتجاج. (يَأتهم تأويلُه) : الوعيد الذي في القرآن لهم. (يلبثوا إلا ساعة من النهَار) : تقليل لمدة بقائهم في الدنيا أو في القبور. (يتعارَفُون بينهم) : يعني يوم الحشر، فهو على هذا حالٌ من الضمير في (يلبثوا) . (يستَنْبِئُونك) . أي يسألونك عن الوعيد والدين والشرع: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 أحق هو، فأمره الله بأن يقول: (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) . (يرْهَق) : يغشى. (يوم القيامة) ، ظرف منصوب بالظرف. والمعنى أي شيء يظنون أن يُفعل بهم في ذلك اليوم. (يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) ، أي لا يغيب عن علم الله مثقَال ذرة. وقد قدمنا أن الذرة صغار النمل أو بيضها. فإن قلت: ما فائدة تقديم الأرض على السماء في آية يونس بخلاف سبأ؟ والجواب لأن الشهادة على أهل الأرض، وقُدمت السماء في سبأ لأنَّ حقَّها التقديم، لأنها مصعد الأمر، ومحلّ العلو، ومسكن الملائكة، وهي مشاهدة لهم، ومستقبل الداعين، ومنها ينزل الأمر، ورزق العباد، وفيها الخزَنَة من الملائِكة، وإليها يُصعد بأرواح المؤمنين، وتعرج الملائكة السياحون في الأرض المسؤولون عن أعمال العباد، فكان العلمُ بما فيها أجلى وأظهر، وكان العلم بما في الأرض أخفى، وهذا بالنظر إلينا، وبحسب متعارَفِ أحوالنا، وإلا فعِلْم بارئنا سبحانه بما في الأرض وما في السماء على حدٍّ سواء، كما أن علمه بالسر والجهر مستوٍ: (سواءٌ منكم مَنْ أسَرَّ القوْلَ ومَنْ جَهَر به) . (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق والنعم والخيرات. وقيل: هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائِه، لأن الكافر يمتَّعُ في الدنيا بالأرزاق، والضمير في " فَضْله " يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذِي فَضل. (يثْنُون صدُورَهم ليستَخْفوا منه ألاَ حين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا إذا لقيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يردون إليه ظهورهم لئلا يَرونه من شدة البغض والعداوة. والضمير في " منه " على هذا يعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن ذلك عبارة على ما تنْطَوِي عليه صدورهم من البُغْض والغل. وقيل: هو عبارة عن إعراضهم، لأن من أعرض عن شيء أتى عليه الخوف. والضمير في (منه) على هذا يعود على الله تعالى، أي يريدون أن يستخفوا على الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ما في قلوبهم. (يستَغْشُونَ ثيابَهم) . أي يجعلونها أغشية وأغطية، كراهةً لاستماع القرآن. والعاملُ في (حين) (يعْلَم ما يُسِرّونَ وما يعلنون) . وقيل: المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابَهم، فيوقف عليه على (هذا) ، ويكون (يعلم) استئنافاً. (يكونوا مُعْجزين) ، أي مُفْلتين. (يضاعف لهم العَذَابُ) : إخبار عن تشديد عذابهم، وليس بصفة لأولياء. (يَئُوس) : فعول، من يئستُ، وأخبر الله في هذه الآية أن الإنسان يقْنَط عند الشدائد، ويفخر ويتكبَّر عند النعم. (يُجَادِلنا في قَوْم لوط) : معنى جدال إبراهيم مع الملائِكة في رَفْع العذاب عن قوم لَوط، لأن الله وصفه بالحلم والرحمة. (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) : الضمير للجدال. أمره الله أن يسكتَ عنهم، لأن القضاء نفذ بعذابهم. (يقْدُمُ قومَه يَوْمَ القيامة) : الضمير لفرعون، يعني أنه يتقدمهم إلي النار، وقد قدمنا أنَّ كل طائِفة تتبعُ ما كانت تعبد، ويعقد لكل صاحب خصلة لواء فيتبعونه مَنْ كان يفعل فِعْلَه في الدنيا. (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ، أي يحضره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 الأوّلون والآخرون، ويجمعون الحسنات والثواب والعقاب، وإنما عَبَّر باسْمِ المفعول دون الفعل ليدلَّ على ثبوت الجمع ذلك اليوم، لأن لفْظ مجموع من لفظ يجمع. (يوم يأت) : العامل في الظرف (لا تَكلَّم) أو مضمر، وفاعل (يَأتِ) ضمير يعود على يوم (مشهود) . وقال الزمخشري: يعود على الله تعالى كقوله: (أو يأتي رَبُّك) . ويعضده عَوْد الضمير عليه في قوله، (بإذنه) . (يا أبَتِ) ، أي يا أبي، والتاء للمبالغة، وقيل للتأنيث. وكُسرت دلالة على ياء المتكلم، والتاء عوض من ياء المتكلم. ودَعَا يوسف أباه باسم الأبوة ولم يدْعه باسمه، لأن مَنْ دعا أباه باسمه غلط، فكيف بمن جفاه. وقد أمرك الله أنْ تعاملَ أباك بمعاملتك مع الرسول، قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) . وقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وهو كان أباك في الدين، وكذلك علمك مع أبي النسب، كما علمك العاملة مع أبي الدين. ويوسف قال: يا أبت - اقتدى فيه بجده إبراهيم، لأنه دعا أباه الكافر باسم الأبوة، والله تعالى أعطاك أبوين مؤمنين، أنت أولى بتحليتهما، فإن الله تعالى أعطى خليله وحبيبه أبوين كافرين، وكان يتحلاَّهما وأنْتَ يا عَبْدَ الله تلحق بأبويك وتدخل معهما الفردوس الأعلى، قال تعالى: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) . (يَخْل لكم وَجْه أبيكم) : إخوة يوسف طلبوا ألاَّ يشاركهم أحد في محبته لهم وإقباله عليهم، فلما رأوه مال إلى يوسف دونهم وصلتهم الغيرة، والحبيب يغير على حبيبه، وأنْتَ يا عبد الله إن طلبت الخَلْوَة مع غير مولاك تضيق عليك المسالك، لأنه سبحانه غيور لا يطلع على عبده، فيجد فيه غيرة. قال تعالى: إن طلبتني أخدمتك المكونات، وإن طلبت غيري أعوزتها عليك، ولا يكون لكَ إلا ما أريد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) : السيارة جمع. وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة وغيرها، ومنه قولهم: لقيته التقاطاً ووردت الماء التقاطا: إذا لم ترده. (يعْصِرون) . أي يعصرون الزيتون والعِنَب والسمسم وغير ذلك مما يعْصر. (يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) : خاف يعقوب على أولاده من العين إن دخلوا مجتمعين، إذ كانوا أهْل جَمَال وهيْبة، ويؤخذ من هذا الحذر، والحذَر لا يغني من القدر، ولكن الله أمر بالتحرز مما يخاف منه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن كَيِّس حذر ". وفي رواية: " الحزْم سوء الظن ". (يدَبِّر الأمْرَ يفَصِّل الآياتِ) : يعني أمر الملكوت وآيات كتبه. (يغْشِي الليلَ النَّهارَ) . أى يلبسه فيصير له كالغشاء، فيصير أسود مظلماً، كما كان أبيض مشرقاً. والأَول فاعل في المعنى، وهو على إضمار فِعْل، أي ويغشي النهار الليل. ويحتمل أنْ يراد في الآية الزمان الذي بين الفجر وطلوع الشمس على القول بأنه من النهار، فهو إشارة إلى أن الليل يخالط النهار في ذلك الزمان، ولذلك اختلفوا هل من الليل أو من النهار أو قسم ثالث قائم بنفسه، فقيل الكلام في ذلك الزمان باعتبار الشرع، وفي الآية باعتبار اللغة. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) : قد قدمنا تسبيحَ الرعد وأنه يسبح الرعد من خيفته بحمده، والملائكة بحمده من خيفته، والصواعق النازلة من السماء عذاباً لله شعلة يصيب بها من يشاء من عباده وخَلْقه. (يُريكم البَرْقَ خَوْفاً وطَمعاً) . نسب الرؤيَة للبرق والإنشاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 للسحاب، لأن الأشياء المرئية أسهلها على البصر السواد والخضرة، وأصعبُها البياض الساطع، فنحن نعجز عن مداوَمَةِ النظر إليه. وانظر قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَا) . وأما السحاب فجِرْم يقبل حدًّا. فالنعمة التي فيه هي إبرازهُ من العدم إلى الوجود. وخوفاً وطمعا حالان، ويحتمل أن يكونا مفعولاً من أجلهما، إذْ ليسا عنده فعلين لفاعل الفعل المعلّل في أن الله لم يخلق الشر ولا أراده، ونحن نجيز ذلك، ونقول: أراده وخلق في قلوب بَعضِنا الخوفَ منه، وفي قلوب آخرين الطمعَ فيه، والفَرْقُ بين إرادة الخوف وبين الخوف أنكَ تريد من زيد أن يخاف منك ولا تقدر على إيقاع ذلك به. الزمخشري: يخاف المطر مَنْ يضرّه كالمسافر، ومن في جَرِينه التمر والزَّبيب، ومَن له بيت يقطر عليه، ومن البلاد من يتضررُ أهلُها بالمطر كأهْل مصر، فإنه يفسد عليهم أبنيتهم ونزولُ المطر فيها قليل جداً. (يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) . انظر هل تارك الصلاة مستجيب لنُطْقِه بالشهادتين والظاهرُ أنه مستجيب بالشهادتين فقط لا مطلقاً. (يَسْتَحِبّون الحياةَ الدنيا) . أي يختارونها على الآخرة. والضمير عائد على الكفار، ومَنْ تشبَّه بهم في فعلهم يخاف عليه من اللحوق بهم في حبّه للدنيا وتفضيلها على الآخرة. (يتَجَرَّعه ولا يَكاد يُسِيغُه) : الضمير يعود على مَنْ أُدخل النار، يعني أنه يتكلف جرعه، وتصعبُ عليه إساغته، يعني بَلْعه، ونَفْي (كاد) يقتضي وقوعَ الإساغة بعد جهد. (يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) : قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان. وفي هذه الآية دليل على تحريم القُنوط، ووصف القانط في هذه الآية بالضلال، وفي سورة يوسف بالكفر، وكلاها بمعنى واحد، لأن سببه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 تكذيب الربوبية، وجهل بصفات الله وقدرته، وماذا يزيد في ملكه أو ينقص تعذيب الخلق كلّهم أو رحمتهم. (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) : المقصود بهذه الآية الاعتبار والنظر، ولذلك ابتدأها بقوله تعالى: (أولَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ الله من شيء) . والرؤية بصرية بسبب تعديها بإلى، كما قال تعالى: (أفَلاَ ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) ، والإنكاز ليس هو لنفس الرؤية، بل للازمها. وانظر هل وقع التوقيف بمجموع تفيّؤ الظلال وكونها سجداً لله، أو بكونها سجداً لله فقط، وهل قوله: يتفيّأ ظلاله حال أو صفة، ونظيره قولك: ألم آتكَ بزيد العالم راكباً، وقوله: ألم آتك بزيد عالما راكباً. والصواب الأول، لأن نفيها أمر حسّي مشاهد، وكونها سجداً للهِ لا يدْرَك بالمشاهدة، بل بالدليل العقلي. وعلى هذا التأويل تكون الآية حجة لمن يقول: إنَّ العرض لا وجود له. والمشهور عند المتكلمين أنه أمر وجودى، حكى القولين المقترح. ووجة الدليل أنَّ الآية دلّت على أنَّ كل شيء مخلوق لله تعالى، وأن ظله متفيّأ ساجد للهِ تعالى، والتفيّؤ من صفات الأجرام والذوات، والعَرض ليس بذات، فليس بمخلوق للَه تعالى، وهذا كفْر، وإذا جعلنا يتفيأ صفة لشيء يكون المعنى أن كلَّ شيء موصوفٌ بالتفيؤ، فهو مخلوق للهِ، فأنكر عليهم عدمَ الاعتبار به حالَ سجوده، وقوله يتفيأ، أي يرجع إلى اليمين، أي يريد يمين الناظر إليه لأن الناظر إلى الظل أو النهار ينظر إلى جهةِ القبلة، حيث محلّ طلوع الشمس، فيكون الظلّ حينئذ عن يمينه، فلذلك بدأ باليمين، فالظلّ يرجع عن جهة اليمين إلى جهة الشمال، لأن " عن " تقتضي المجاوزة، فالمراد مجاوزَتُه جهةَ اليمين إلى جهة الشمال، والعكس. فإن قلت: لم أفرد اليمين وجمع الشمال؟ فالجواب: بوجهين: الأول أنَّ الظلّ حالة كونه عن يمين الناظر، وذلك أول النهار، يَأخذ في النقص، فكانت له جهة واحدة نقص عنها، وفي آخر النهار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 يأخذ في الزيادة إلى الشمال والجهة التي طال ظلّه إليها لم تكن له قبل ذلك، وكلما زاد بعد إلى جهة يسار الناظر، فكأنّ تلك الزيادة بتكثرها واختلافها شمائل، بخلاف أول النهار فإنه لم يزدْ، بل نقص عن حدِّه الذي كان، فصار كأنه بعْض اليمين، فضلاً عن أن يكون أيمان. الوجه الثاني أنَّ اليمين مأخوذ من اليمن، وذلك راجع إلى طريق الحق. والشمال راجع إلى طريق الباطل بدليل قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) . (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) . وطريق الحقّ واحدةٌ وطرقُ الباطل متعددة، والآية دالَّةٌ على كمال التوحيد لله عزّ وجل، لأن مذهبنا أنَّ الأعراضَ لا تبقى زمانين، فما مِنْ جوهر إلا وهو مفتقرٌ في كلّ زمن إلى أعراض يستمد بها، ولا بد لذلك مِنْ فاعل، ولا يصح تعدّد ذلك الفاعل لما تقرَّرَ في دلالة المانع. فإن قلْتَ: هلا قيل: أولم يَرَوْا إلى ما خلق من شيء - فقط، ويكفي هذا في الاعتبار، فإنَّ العبرةَ بالتفكر بالنظر إلى لقاح الشجرة التي في رؤية العين: عود يابس، وبروزُ الثمر منها والورق أقوى من العبرة بالنظر إلى ظلالها؟ والجواب: أنَّ الظلال إنما تنشأ عن ملاقاة نور جرم الشمس جرم الشجر الكثيف المظلم. ومذهبنا أنَّ الأجسامَ متساويةٌ في الحد والحقيقة، فلا فَرْقَ بين الشمس والشجرة، فحجبت الشجرة بكثافتها وظلمتها نورَ الشمس، وما ذاكَ إلا لتخصيص أوْجبه الله تعالى. ولا بدّ لذلك من مخصِّص، ويستحيل تعدّده، فدلّ ذلك على أنه واحد. قال الزمخشري: والسجود هنا الانقياد، وجعله متَنَاوِلاً للعاقل وغيره، لأنه قال: أي يرجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرَها له من التفيؤ، والأجرام في نفسها صاغرةٌ منقادة لأفعال الله فيها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 وهذا مما يردّ به على من قال: إن صيغة أفعل للقَدْرِ المشترك بين الوجوب والندب. ويقول: إن القَدْرَ المشترك لا وجودَ له في كلام العرب، مع أن الزمخشري أثبته هنا، واستعار هنا الأيمان والشمائل لأنهما في الحقيقة للإنسان. (يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) : المعنى يريد وينظر هل يمسك الأنثى التي بشتر بها على هوَانِ وذل، أو يدفنها في التراب حيَّة، وهي الموءودة المذكورة في: (إذا الشَّمسُ كورت) . (يَجْحَدونَ) : يعني أن هؤلاء الكفار ينْكرون نعَم اللَهِ عليهم في جَعْلهم أزواجاً من أنفسهم زيادة في لذاتهم، وجعل للأنثى ما للذكر من الشهوة، ليكملَ مرادهم، ورزقهم من الطيبات، فهل ينْكِر هذا إلا مَنْ طبع على قلبه، لأنه يشاهدها. فإن قلت: لم جمعت حواء في قوله تعالى: (والله جعل لكم مِنْ أنفسكم أَزواجاً) ؟ والجواب اعتباراً بنسلها، وأطلق عليهم أزواجاً مجازاً، استعمالاً للفظ في حقيقته ومجازه. (يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) . يعني السماوات والأرض والجبال. وقيل: بل أحال فكرتهم على ما هو كبير عندهم، أي لو كنتم حجارةً أو حديداً أو شيئاً أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقَدَرْنَا على بعثكم. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) : الدعاء هنا عبارة عن النَّفْخ في الصور للبعث، والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين. و (بِحَمْدِهِ) في موضع الحال، أي حامدين له. وقيل معنى (بِحَمْدِهِ) أي بأمره. (ينْقَضَّ) : وزنه ينفعل. وقيل يفعل بالتشديد كيَحْمَرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 ومعناه يسقط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز. ومثل ذلك كثير في كلام العرب، وحقيقته أنه قارب أنْ ينقضَّ. (يَظْهَرُوه) : الضمير يعود على السد، ومعناه يعلوه. (يَفْرُط) : يُعَجّل بالشر. (يُخَيَّلُ إليه مِنْ سِحْرِهم أنها تَسْعَى) : استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ السِّحْر تَخْييل لا حقيقة. وقال بعضهم: إن حِيَل السحرة في سعْي الحبال والعصيّ هي أنها حشَوْها بالزئبق، وأوقدوا تحتها ناراً، وغطوا النارَ لئلا يراها الناس، ثم وضعوا عليها الحبال والعصيَّ. وقيل جعلوها معرضة للشمس، فلما أحس الزئبق بحرِّ النار أو الشمس سالَ وهو في حَشْو الحبال والعصي فحملها، فيخيّل للناس أنّها تمشي. فألقى موسى عصاه فصارت ثعباناً ابتلعت ذلك كلَّه. (يَبَسًا) . أي يابساً، وهو مصدر وُصِفَ به، وإنما كان يابساً ليستطيعوا المرور عليه ويسرعوا فيه، فيذهب روعهم مِنْ لحوقِ فرعون لهم. وأعظمُ من ذلك أنَّ الله فتح لهم في البحر طاقاتٍ ليرى مَنْ في هذا الطريق من في هذا، فيتأنّسونَ لأنها كانت اثني عشر طريقاً، فسبحان مَنْ لا يُعْجزه شيء. (يَتَخَافَتُون بَيْنَهم إن لبثْتم إلاَّ عَشْراً) : يعني عشر ليال. والضمير يعود على أهل القيامة فيسِرّ بعضُهم إلى بعض، ويقول: هل لبثتم إلا يوماً. وقيل: يعني الْمُكْثَ في القبور. والذي قال: إن لبثْتُم إلا يوماً أعلمهم بقلةِ الْمكْثِ فيها. وفي الحقيقة فالدنيا والْمكْث في القبور كلَمْحِ البصر أو هو أقرب، ولذلك يقول تعالى في آية أخرى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) . فإنّا للَه وإنا إليه راجعون على غَفْلتنا على ما يُراد بنا. الدنيا كلها ساعة، وليس لك منها إلا النَّفَس الذي أنْتَ فيه ة إذ كم مَنْ تنفَّس نَفساً فَفَجَأَة الموت قل النفس الآخر. وسيظهر لك تحقيق ذلك إذا انْجَلَى الغبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) . أي يجعل الجبالَ كالغبار ثم يفرقها. (يَمّ) : قد قدمنا أنَّ المرادَ به البَحْر بالسريانية. وقال ابن الجوزي بالعبرانية. وقال شيذلة بالقِبطية. (يرْكضون) : الضمير يعود على الكفار، والمعنى أنهم يوم القيامة يَرْكضُون على أرجلهم تشبيهاً لهم بمَنْ يركض الدابّة. فإن قلت: قد قدمتم أنهم يحشَرون على وجوههم؟ فالجواب أنَّ الملائِكة تسوقُهم بعصيٍّ من نار، فإذا رأوهم قاموا على أقدامهم يركضون فراراً منهم، فتقول لهم الملائكة على وَجْه التهكم: لا تركضوا اليوم. (يَدْمَغُه) . أي يَقْمَعه ويبطله. وأصله من إصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل. (ينْشِرون) : يعني أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أَنْ يَنْشروا الموتى من الأرض، فكيف تدعونها بالآلهة. والإله مَنْ له القدرة على الإحياء والإماتة. (يَغوصونَ) : يعني أن الشياطين كانت تدخل في الماء لاستخراج الجَوهر من البحار. (يَنْسِلون) : أي يسرعون. ويقال مر الذئب ينسل ويعسل. والضمير ليأجوج ومأجوج، أي يخرجون في كل طريق لكثرتهم. وقيل لجميع الناس. (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) . أي يُذَاب، وذلك أنَّ الحمِيمَ إذا صبَّ على رؤوسهم وصَلَ حَرّه إلى بطونهم، فأذاب ما فيها. وقيل: معنى (يُصْهَرُ) ينضج بلسان أهل المغرب، حكاه شيذلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 (يوْمٍ عَقِيم) : يعني يوم بَدْر، لأنهم كانوا يظنون استئصالَ المسلمين، لأن الله قلّلهم في أعين الكفار. وقد حضر فيها صنادِيد المشركين وشجْعانهم فأمكن الله منهم المسلمين، وكان يوماً عظيما، لأنها كانت أول غزوة أرعب الله بها الكفار وأرغمهم. (يكادون يَسْطون) : من السطوة، وهي سرعة البَطْش. والضمير يعود على الذين كفروا. ويُعْرَف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها. (يجْأرون) . أي يستغيثون ويصيحون. والضمير راجع على المأخوذين بالعذاب، فإن أراد بهم قتالَ المتحرفين يوم بَدْر فالضمير في (يجْأرون) لسائر قريش، أي ناحوا على القتلى. وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة فالضمير لجميعهم. (يَأْتَلِ) . أي يحلف، فهو من قولك: آليتُ إذا حلفتُ. وقيل معناه: يقصر، فهو من قولك: ألوت، أي قصرت، ومنه: (لا يألونكم خَبَالاً) . ونزلت الآية بسبب مِسْطح، فإن أبا بكر كان ينْفِق عليه، فلما وقع في عائشة حلف أَلاَّ ينْفِقَ عليه، فعاتبه الله على عدم النفقة، وأمره برَدِّها. وهذه أرْجَى آية في كتاب الله، لأن الله عاتب حبيبه على عدوِّه، وأمره بالعفو عنه. (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) . مبالغة في وصف صفائه وحسنه. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) . أي يوقق الله مَنْ يشاء لإصابة الحق. فهنيئاً لكَ يا محمدي على هدايتك وتوفيقك. وكيف لا وقد سمّى اللَه الإيمانَ في كتابه بنحو الثلاثين اسماً، وهل ذلك إلا لعظمه، قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 (اهْدِنا الصراط المستقيم) . (ذلك الدِّين القَيِّم) . (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الكلمة الطيبة: مثل كلمةٍ طيبة، (قولاً سديداً) . (العرْوة الوثقى) . (وكلمة الله هي العليا) . (وجعلها كلمة باقية في عقبِه، (وألزمهم كلمةَ التَقوى) ، (وقال صواباً) ، (إنَّ الدِّين عند الله الإسلام) . (إن الله يَأمر بالعدل والإحسان) . (ولكن البِرَ من اتَّقَى) . (من جاء بالحسنةِ) . (هل جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان) . (قُلْ أمر رَبِّي بالقِسط) ، (هو الذي أرسل رسولَه بالهدى ودِين الحق) . (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) . (صبغة اللَه) ، (ملَّة أبيكم إبراهيم) ، (شهد الله) . (يخافون أَنْ يَحيفَ الله عليهم) : ضمير الفاعل يعود على الذين في قلوبهم مرض. وضمير المفرد يعود على الله، وإنما أسنده إلى الرسول، لأنه يحكم بأمره وشَرْعه. (يَتَسلّلُون) : يخرجون من الجماعة واحداً واحدا، كقولك: سللت كذا من كذا إذا أخرجته منه. (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) : القائل لذلك هو الله عزّ وجل، والمخاطب المعبودون مع الله على العموم. وقيل الأصنام خاصة. والأول أرجح لقوله: (ثم يقولُ للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) . وقوله: (أأنْتَ قُلْتَ للناسِ اتَّخِذوني وأمي إلهين من دون الله) . و" أم " هنا معادلة لما قبلها. والمعنى أن الله تعالى يقول للمعبودين: أأنتم أضْلَلْتُمُوهمْ أم هم ضلُّوا السبيل مِنْ تِلْقَاء أنفسهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 باختيارهم، ولم تضلوهم أنتم، ولأجل ذلك بَيّن هذا المعنى بقوله: (هم) ليتحقق إسناد الضلال إليهم، وإنما سألهم الله تعالى هذا السؤال مع عِلْمِه بالأمور ليوبخ الكفارَ الذين عبدوهم. (يكون لِزَاما) . أي يكون العذاب ثابتاً، وإنما أضمره وهو اسْمُ كان، لأنه جزاء التكذيب المتقدم. واختلف هل يكون العذاب هنا القَتْل يوم بَدْر، أو عذاب الآخرة. (يَضِيقُ صَدْرِي) : بالرفع عطفاً على أخاف، أو استئناف. وقرئ بالنصب عطفاً على يكذبون. (يوم لا يَنْفَعُ) ، وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم، وهو من كلام الله تعالى. ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم. (يَنْبغي لهم وما يَسْتطِيعون) . أي لا يستطيعون من الكهانة، لأنهم منعوا من استراق السمع مُذْ بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا يقدرون عليه. فكيف يقولون إن هذا القرآن كهانة تنزلَتْ به الشياطين. ولفظة (ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق. (يَهيمون) ، استعارة وتمثيل. والمعنى أن الشعراء يذهبون في كل واد من الكلام الحقّ والباطل، ويفرطون في التجوّز حتى يخرجوا إلى الكذب. (يسْتَصرخه) . أي يستغيث بموسى. وذلك أنه لقيه قاتلُ القبطي بالأمس يقاتلُ رجلا آخر من القبط، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس، فعَظُم ذلك على موسى، وقال له: (إنك لَغَوِي مُبين) . (يَتَرَقَّبُ) . أي يتحسس هل يطلبه أحد، لأنه شاع خبره من الإسرائيلي الذي قال له: (أتريد أنْ تقْتُلني كما قتلْتَ نفساً بالأمس) ، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 سمع القبطي ما قال الإسرائيلي انطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، فأمر فرعون بقَتْل موسى، ولهذا قيل: عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل، والإشارة فيه أن موسى عليه السلام كان كريماً، والإسرائيلي لئيما، فلم ينظر موسى إلى لؤمه، ولكن عامَلَه بكرمه. وأنْتَ يا محمديّ كيف يعاملك ربُّك، وقد أقررْتَ له بالوحدانية ولنبيِّه بالرسالة، وقد أعطاء واصْطَفاك من غير سؤال منك، أحبَّك وأقرضك، وأسبغ عليك نِعَمَه ظاهرةً وباطنة، وأعذر إليك بقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ، ووَعدكَ بإجابتك. فمَنْ أولى منك بالكرامة! فإنْ قلت: كيف يستغيثُ الإسرائيلي بموسى وقد أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لهما، ثم قال له: (أتريد أنْ تَقْتلني) ؟ والجواب: يحتمل أن الإسرائيلي لما رأى موسى يبْطش بالقبطي وهو غضبان كغضبه بالأمس خاف أن يكونَ أراده، ولم يُرِده موسى. أو لما رأى عَجْزَ موسى عن استصراخه لما صدر منه بالأمس مِن القتل فضَحه الإسرائيلي. (يَأتَمِرُون بكَ ليقتلوك) : لما أمر فرعون بقَتْلِ موسى أخبره مَنْ حضر عند فرعون، أو أخبره من سمع الخبر، وقال له: سمعتهم يتآمرون بك لما قتلت القبطي. وخصت آيةُ القصص بتقديم الرجل في قوله تعالى: (وجاء رجل) ، لأن قبله: (فوجد فيها رجلين يَقْتَتِلان) . وخصت سورة يس بالتأخير، لأنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خَبرَ الرجل سَعى مستعجلاً. وقد قدمنا أنَّ السعي من أوصاف الإسراع في قوله تعالى: (يأتِيْنَكَ سَعْياً) . فانظره هناك. (يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) . بضم الياء وكسر الدال فعل متعدٍّ. والمفعول محذوف تقديره يصدر الرعاء مواشيَهم. وقرئ بفتح الياء وضمِّ الدال، أي ينصرفون عن الماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) : روي أنَّ غلب الروم لفارس وقع يوم بدْر. وقيل يوم الحدَيبية، ففرح المسلمون بنَصْر الله لهم على قريش. وقيل: فرح المؤمنون بنصر الله لهم على الفرس، لأن الروم أهْل كتاب، فهم أقرب إلى الإسلام، وكذلك فرح الكفّار من قريش بنَصْر الفرس على الروم، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب، فهم أقرَب إلى كفار قريش. وروي أنه لما فرح الكفَّار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا عن الله أنهم سيغلبون، وراهنهم عشر قِلاَص إلى ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحَرّم القمار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " زِدهم في الرهن واستَزدْهم في الأجَل "، فجعل القلاص مائة والأجَل تسعة أعوام، وجعل معه أبيّ بن خلف مثل ذلك فلما وقع الأمر على ما أخبر الله به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبيّ بن خلف، إذ كان قد مات، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصدّق بها. (يَرْبُو) : يزيد. وقدمنا أن عقوبة الربا مَحْق المال، ومحاربة الله والكفر، والخلود في النار. وقيل: إن شرب الخمر، وأكل الربا، وأموال اليتامى، وتَرْك الصلاة، والزنى يُخَاف على صاحبها من سوء الخاتمة. وهذا كله موجود في كتاب الله. اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رَبّ أن يحضرون. (يومئذِ يصَّدَّعون) : من الصدع، وهو الفرقة، أي يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السَّعِير. (يَمْهَدون) : يوطئون، وهو استعارةٌ من تمهيد الفِرَاش ونحوه. والمعنى أنهم يفعلون ما ينتفعون به في الآخرة. (يخرج من خِلاَله) . أي يخرج المطر من شقاق السحاب الذي بيْنَ بعضه وبعض، لأنه متخلّل الأجزاء. (يؤفكون) . أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق. والتحقيق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 (يوم البَعْث) : تقرير لهم، وهو في المعنى جوابُ الشرط مقدر، تقديره إنْ كنتم تنكرون البَعْثَ فهذا يومُ البعث. (يستَخِفَّنك) : من الخفة، أي لا تضطرب لكلامهم، واصبر، ما وعدك الله به من النصر فعن قريب يكون. (يستَعْتَبون) . من الْعُتْبى، بمعنى الرضا، أي لا يرضون، وليس استفعل هذا للطلب، ويفهم من هذا أن المؤمن يستعتب، أي يطلب منه الْعُتْبى، وقد قدمنا أنَّ الله قال: لولا أني أحبّ العتابَ ما حاسبْتُ أمتك. وقال بعضهم: تَبَادَلْنَ العتابَ على ارتياب ... وصَفْوُ الوُد يُعْرَفُ بالعتابِ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) . أي واحد الأمور. وقيل: المأمور به من الطاعات. والأول أصح. (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) : قال ابن عباس: المعنى ينفِّذُ الله قضاءه من السماء إلى الأرض، ثم يَعْرج إليه خَبَرُ ذلك في يومٍ من أيام الدنيا مقداره، لو سِير فيه المسيرُ المعروف من البشر، ألف سنة، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة، فألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء وقيل: إنَّ الله يُلقي إلى الملائكة أمورَ ألفِ سنة من أعوام البشر، وهو يَوْم من أيام الله، فإذا فرغتْ ألقى إليهم مِثْلَها، فالمعنى أنَّ الأمور تنفذ عنده لهذه المدة، ثم تصير إليه آخراً! لأن عاقبةَ الأمورِ إليه، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمورِ إليه. (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) : قد قدمنا أنَّ اسمه عزراييل، وبين يديه ملائكةٌ، مِنْ تَوَفي العدد واستيفائِه. والتوفي من الله الإذن في قبض الأرواح، ومن الملائكة نزْع الروح، ومن ملك الموت القبض، ومن الرسل معاونة ملَك الموت، وبهذا يتَّضِحُ لك الْجَمْعُ بين الآيات الثلاث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 (يَثْرِبَ) : مدينة الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وسُمّيَتْ به حكاية عن المنافقين، وكان اسمها في الجاهلية، فقيل لأنها اسم أرْض هي في ناحيتها. وقيل سُميَتْ بِيَثْرب بن مهلائيل من بني إرم بن سام بن نوح، لأنه أول مَنْ نزلها. وقد صحَّ النَّهْى عن تسميتها به، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الاسْمَ الخبيث، وهو يُشعر بالتثريب، وهو الفساد، أو التثريب، وهو التوبيخ. ومنه: (لا تَثْرِيبَ عليكم الْيَوْمَ يَغْفِر الله لكم) . وقوله: (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه. وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار. وقيل: إنه يتعلق بـ (يَغْفر) ، وذلك بعيد، لأنه تحكُّم على الله، وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حقَّ نفسه بقوله: (لا تَثْريب عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أنْ يغفر لهم حقَّه. (يَقْنُت) : بالياء حملاً على لفظ من. وقرئ بالتاء حملاً على المعنى وكذلك (تعمل) . والقنوت هنا بمعنى الطاعة. (يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهم في النار) . العامل في (يوم) قوله: (يقولون) ، أو (لا بجدون) ، أو محذوف. وتقليبُ وجوههم تصريفُها في جهاتِ النار كما تدورُ البضعة في القلب إذا غلَتْ من جهة إلى جهة، أو تغيرها عن أحوالها. (يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : معنى (مُزِّقْتُمْ) أي بَليتم في القبور وتقطعت أوصالكم، و (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر. (والخلق الجديد) ، هو الْحَشْر في يوم القيامة والعامل في " إذا " معنى (إنكم لفي خَلْق جديد) معمول يُنبئكم، وكسرت إن لللام التي في خبرها، ومعنى الآية أنَّ ذلك الرجل يخبركم أنكم تُبْعَثون بعد أنْ بَليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر. (يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 الضمير للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخَلْفهم، لأنهما محيطتان بهم. والمعنى ألم يَرَوْا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما قادر على بعْث الناس بعد موتهم. ويحتمل أن يكون المعنى تهديدا لهم، لأنه فسره بقوله: (إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بهم الأرض أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء) . (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) : الضمير لداود، تقديره: قلنا يا جبال. والجملة تفسير للفضل. ومعنى أوّبي سبِّحي، وأصفه من التأويب بمعنى السَّير بالنهار، وقيل كان ينوح فتسعده الجبال بصَدَاها. (وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على لفظ (يَا جِبَالُ) ، وبالنصب عطف على موضع (يَا جِبَالُ) . وقيل: هو مفعول معه. وقيل عطف على (فضلاً) . (يَبْسط الرزْقَ لمن يشاء ويَقْدر) . أخبار تتضمن الردَّ على قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) . لأنَّ بسْطَ الرزق وقبْضه في الدنيا متعلق بمشيئة الله، فقد يوسع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع، وبالعكس. وقد حكي أن مدينة ببلاد السودان إذا ملكها المسلمون صار أرْضها ترابا، وإذا ملكلها الكفار صار أرضها تِبْراً، فأسلمها المسلمون للكفار على إعطاء الجزية، وهذا ليس بعَجيب، إذ لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جناحَ بعوضة ما سقي كافرٌ جَرْعة ماء. والمقصودُ منها التقوّت لما يوصل إلى الآخرة. وحكى وهب بن منبه أنَّ ملكين التقيا في السماء الرابعة يهبطان إلى الأرض، فقال أحدهما للآخر: إن الله أمرني أنْ أوصل الحوتَ الفلانيّ لليهوديّ الفلاني لأنه اشتهاه. فقال الآخر: وإن العابد الفلاني يصوم وأراد إفطاره على الخبز والزيتون، وأمرني أن أهْبِط له. فانظر هذا، فإنَّ تيسير الشهوات ليس من أسباب السعادة، وإن الله ليذود وليَّه عن الدنيا ويحميه عنها لئلا يشتغل بها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 (ولولا أنْ يكونَ الناس أمَّة واحدة) . ونحن قد بُسط لنا فيها، وتمتّعْنَا بها، فانظر عاقبتَنا بِمَ تكون! فإن قلت: ما فائدة تكرار هذه الآية، وإبراز (من عباده) في الثانية من سورة؟ والجواب: أنَّ الله كرّرها لاختلافِ المقاصدِ، والرد على الكقار في أقوالهم. وترغيب المؤمنين في الإعراض عنها والرجوع إلى مَنْ بيده مقاليدها. وأبرز الضمير في ثانية سبأ ترغيباً لعباده في إنفاقها والخروح منها، وسلاّهم بوعده بالخلف، وأنهم إن خرجوا عنها يخلفه لهم، ووَعْده حق، ولهذا أشار عليه السلام بقوله: " ما نقص مالٌ من صدقة ". فإن قلت: قد وجدناه ينقص في العَدد؟ والجواب أنه ليس بنقص، لأنه لا يأتي عليه إلا أيام قلائِل فيعود أكثر مما كان، وهذا مشاهدٌ. وقد يكون الخلف من حيث لا يظنّ. وقد يكون بالثواب المدَّخر أو بتكفير السيئات، كما قال تعالى: (إن تبْدُوا الصدقات) الآية. أو بالطهارة، كما قال: (خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطَهِّرهم) ، والإضعاف، قال تعالى: (الذين يُنْفِقُون أموالَهم في سبيلِ الله) . والقَبول: (هو يَقْبَلُ التوبةَ عن عباده ويأخذ الصدقات) . وقد جعل الله جميعَ الطاعات على ثلاثة أقسام: جعل على اللسان التوحيد والذكْر والاستغفار والدعاء، وثوابها عشر أمثالها. وعلى المال الصدقة والزكاة والنفقة، وثوابُها واحد لسبعمائة. وعلى القلب الصبر والقناعة والشكر والرضا، وثوابُها بغير حساب. (يَقْذِفُ بالحق) : القذف: الرَّمْي، ويستعارُ للإلقاء، فالمعنى يلقي الحقَّ إلى أنبيائه، أو يرمي الباطلَ بالحق فيذهب، ولذلك قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) ، فنفى الإبداء والإعادة عبارة عن أنه لا يفعل شيئاً ولا يكون له ظهور، أو عبارة عن ذهابه. (يَقْذِفون بالغيْبِ مِنْ مكان بَعيدٍ) .: معطوف على (كفروا) . والمعنى أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة، فيقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار. ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام: شاعر أو ساحر، والمكان البعيد هنا عبارة عن بطْلان ظنونهم وبُعْد أقوالهم عن الحق. (يَزِيدُ في الْخَلق ما يشاءُ) : قيل حسن الصوت. وقيل حسن الوجه. وقيل حسن الَخطِّ. والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكةِ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادةٍ في المخلوقين. (يسر) . بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل باليسر، وجمعه أيسار. وهو القِمَار في النَرْدِ والشطرنج وغير ذلك. وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب. وقد قدمنا أن مَيْسر العرب عشرة أقداح، وهي الأزلام لكل واحد نصيب معلوم من ناقة يجَزّئُونَها عشرة أجزاءٍ، ثم يدخلون الأزلام في خريطة ويضَعونها على يدي عدل، ثم يدخل يده فيها، فيخرج باسم كل رجل قدحاً، فمن خرج له قدح له نصيب أخذ ذلكَ النصيب، ومن خرج له قدح لا نصيبَ له غرم ثمنَ الناقةِ كلها. (يَحِيقُ) : يحيط. (يس) : من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه يا إنسان، بلسان الحبشة، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جُبير: يا رجل، بلغة الحبشة. (يَخِصِّمُون) : أصلُه يختصمون ثم أدغم، ومعناه يتكلمون في أمورهم. وقرئ بفتح الخاء وكسرها واختلاس حركتها. (يَحِقَّ القَوْلُ على الكافرين) . أي يجبُ عليهم العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 (يَسْتَسْخِرُون) : معناه يسخرون، فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد. وقيل معناه يستدعي بعضُهم بعضاً لأنْ يسخر. وقيل: يبالغون في السّخْرِية. (يَقْطين) : كل شجر لا يقوم على ساق كالقرع والبطيخ ونحوهما. والمعنى أنَّ الله أنبتَ على يونس لما خرج من بَطْن الحوت القرع يظله من حَرّ الشمس. وقد كان رق جلْدُه، وكانت الذباب تؤذيه. والسرُّ فيه أن ورقَه كبير، ومسّه فيه لين، والذباب لا يقربه، ولذلك قال النقاش: إن من رش بمائه البيت لم يقربه الذباب. فهذه شجرةٌ منَعَتْ يونس من الإذاية، أفلا تمنَعُ يا محمدي شجرةُ الإيمان من إذاية الشيطان، وينجيك بركتها من الدخول في النيران، وفي الخبر: لما صَحَّ يونس، ورجع إلى قومه، وجد الشجرة قد جفّتْ فاغْتَمّ لذلك، فأوحى الله إليه: اغتممْت على شجرة يبست ولم تغْتَمَّ على هلاك مائة ألف أو يزيدون! (1) . فلذلك أمر الله نبيّه بالصبر على أمته، والدعاء لهم، فقال: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. هؤلاء دعا لهم، واعتذر عنهم، وقد عصوه، وكسروا رباعيته، وشَجُّوا وجهه، كيف لا يغتم للمصلّي عليه وذاكره وكل ساعة بالسلام عليه. وقد أمره الله بألاَّ يكون كصاحب الحوت في الفرار من قومه، يعني تفارق أمتك حين ينزل العذاب عليهم، فقال: رب عامِلْهم بخلاف ما تعامل به الأمم، فأنزل الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ، بالْخَسف والمسخ، والريح والصواعق، فقال: اللهم إني أعوذ بوجهك من ذلك، فرفع الله عنهم العذابَ وهم كفار ومنافقون، أفَلا يرفَعه عنك يا محمديّ وأنتَ مؤمن به ومصدِّق له! اللهم بحرمته لدَيْكَ لا تحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة. (يَزِفونَ) ، أي يسرعون. وقرئ بضم الياء ونصب الزاي، أي يصيرون إلى الزفيف.   (1) لا يصح ولا يثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 (يستَمِعُون القولَ فيتّبعُون أحْسنَه) : يعني يستمعون القولَ على العموم فيتبعون بأعمالهم أحسنَه، من العفو الذي هو أحسنُ من الانتصار، وشِبْه ذلك. وقيل: هو الذي يسمع حديثاً فيه حسَنٌ وقبيح، فيحدّث بالحسن ويكفُّ عما سواه. وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر. وقال ابن عطية: هو عام في جميع الأقوال. والقَصْدُ الثناء على هؤلاء ببَصَرٍ ونظر سدِيد يفرِّقون به بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك. (ينابيع) : جمع ينبوع، وهو العين. (يهيج) : ييبس، لقوله: (فتراهُ مُصْفَرًّا) . (يُرِيكم آياتِه) : يعني العلامات الدّالة على مخلوقاته ومعجزات رسله. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . من أعظم آيات الرجاء، لسؤال الملائِكة لهم بالرحمة والجنّة. فإن قلت، حَمَلَةُ العرش والملائكة كلهم مؤمنون به سبحانه، فما فائدة الإخبار بقوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ؟ والجواب: إظهاراً لفضيلة الإيمان وشرَفه، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياءَ في غير ما موضع من كتَابهِ بالصلاح، كقوله: (ونَبِيّا من الصالحين) . ومعلوم أن الأنبياء من أهل الإيمان والصلاح، وكما أعقب أعمالَ الخير بقوله: (ثم كان مِنَ الذين آمَنُوا) ، فأبانَ بذلك فَضْل الإيمان. وقد ذكر الزمخشري أن فيه فائدةً أخرى، وهي أنَّ معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال كسائرِ الخلق لا بالرؤية، وهذه نزعةٌ منه إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤْية الله تعالى. وتأمَلْ يا محمديّ إلى عظيم التناسب المرعيّ بين قوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تجد فيه تنبيهاً على أن الاشتراكَ في الإيمان يجبُ أن يكون أدْعى شيءٍ إلى النصيحة، وأبعثه على إمْحَاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناسُ، وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضيّ قطّ، ولما جمع الإيمان جاء معه التجانس الحقيقي، والتناسب الكلّي، حتى استغفر مَنْ حَوْلَ العرش لمَنْ في الأرض مع عظم أجرامهم وقُوّتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: " أذِنَ لي أن أحدِّث عن ملك من حَمَلة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة ". فانظر يا محمديّ ما أعظم قيمتك! الأنبياء والملائكة يستغفرون، ونبيّك أمر إخوانك بالاستغفار لكَ، قال: " من استغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات كل يوم خمساً وعشرين مرَّة أو سبْعا وعشرين - أحد العدديْن - كان من الذين يُسْتجَاب دعاؤهم، ويرزق بهم أهْلُ الأرض ". ودعاء الأبدال أنْ تقول بعد كلَ صلاة: اللهم أصْلح أمَّةَ محمد، اللهم ارحم أمةَ محمد، اللهم فَرج عن أمة محمد، اللهم اغفر لأمَّة محمد، ولجميع مَنْ آمن بك. ولما دحا الله مبسوطَ بساطِ الأرض، ومهَّدَ مِهَادَها لترتيب المكونات فَخَرتْ عليها السموات، فنكست رأس الانكسار، ومدَّت يدَ الاستعطافِ إلى عين الجود، فجادلها بقَطْعِ حجة مَنْ جادلها: (يا سماء) : إنْ كنت فخرتِ بالشمس لظهور الموجودات، فأين مثل شريعةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظهور الغَيْب، شمْسُ السماء لها أفول، وشمس شريعةِ محمدٍ ليس لها أفول. وإن افتخرت بحسن القمر ونوره فأينك من حسن سُنَنِه المشرق ونوره إذا كُسِفت شمسك، وخسف قمرك، فالشفاعة من أهل الأرض، والشافعُ أفضلُ من المشفوع فيه. وإن افتخرتِ بالنجوم للاهتداء فنجومُ الصحابة معلومة للاقتداء على مقعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 صدق، إن كان من النجوم رجوم للشياطين! فعُمر فقأ عين الرئيس إبليس. وشهب إيمانه توفيه فترميه فلا يسلك عمر فَجًّا إلاَّ هرب منه إبليس. وإن فخرتِ باللوح المحفوظ فَلوْح الغيب يكتب بيد الخالق، كتب في قلوبهم الإيمان. وإن فخرت بسعة الكرسيّ فأين هو من سعةِ: وسعني قَلْبُ عبدي المؤمن. وإن فخرت بنفخ إسرافيل للأرواح لإحياء الأجساد فأين أنْتِ من نفخةٍ حَيِيت بها القلوب إلى يوم التَنَاد. وإنْ فخرت بعلو مَنْ في العلو من الأملاك فقصيدة الاقتصاد أشهر من " قفَا نَبْكِ ". هذا عزرائيل كان إمام المقربين فتنفَّس بنفس فسقي كأس أسف. هاروت وماروت، استعير لهما شهرة الشهرة فجرى ما جرى، وعند جهينة الخبر اليقين، فكيف بمن عجنت بها طينة تركيبه، وعقل عَقْله بعقال الهدى! وإن فخرت بالصافّين المسبحين، فكم على أرض الدّجَا من أمة قائمة، كم في رواشن الأسحار من سمّار المستغفرين. وإن فخرت بشفقة ميكائيل وحيائه، فكم حيى أحياء بشفقة أبي بكر وأحبائه. وإن فخرت بقوَّةِ جبريل وإقدامه فأينك من قوة عمر وإقدامه يوم قال: واللَه لا يُعْبَد الله سرًّا بعد اليوم، فسرى نحو الكعبة، فسُرِّي عن الإسلام غُمة الغم. وإن فخرتِ بنزول القَطْرِ لإحياء مَوَات النبات، فأين أنْتِ من سواكب العبرات لإحياء القلوب الموات، فكم صدرٍ شرح للإسلام، فهو أوسع من سِدْرَة المنتهى. وإن افتخرتِ بأنَّ الجنة فيك فقد اشتاقت إلى تسليم سلمان إذا تمهد ملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 الجنة للساكن، فالملائكةُ خدّام يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم ليحظَوْا بحظ الردّ، إنما علا قَدر الْمُقربين لما أطلق لهم من ديوان الخاص والعام، (ويستغفرون للذين آمَنوا) . وإنْ فخرْتِ بالعرش والطائفين، فأين أنت من البيت والطائفين ما في زاوية العَرْشِ حَجَر سوّد بالسؤدد أدرج في درجة درج الميثاق. يوم السبت لما أهبط آدم بمنشور الولاية إلى الأرض مُهِّدت له دار المملكة قبل الوصول، وزينت حرمة الحرم للحرمة والإحرام باب الاستغاثة، وعرفات باب دخول المَسائل لنيل الوسائل، فلما ئني البيتُ أذِن الله لخليله عليه السلام بالأذان على صوْمعة أبي قبيس بتأذين، وأذّن قال: يا ربّ، وأين يبلغ أذاني، قيل: يا إبراهيم منك الأذان وعلينا البلاغ. فلما دنا النداء من باطن الحجر أوقع من وقع له يوم: (ألستُ بربكم) بفيض المبلّغ، فتزاحموا على باب الإجابة، شعارهم لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ! فإن قلت: كيف يصح أن يقال: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) ؟ فالجواب أنَّ الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل وسع كلَّ شيء رحمتُك وعلمك، ولكن أزيلَ الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز، لا إغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأنَّ ذاته رحمة و3علم ويسعان كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحماً، وتصببت عَرقاً. فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أنْ يكونَ ما بعد الفاء مشتملاً على حديثهما جميعاً، وما ذكر إلا الغفران وَحْده؟ والجواب: فاغفر للذين علمْتَ منهم التوبة، واتباعَ سبيلك. فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائِبون صالحون مَوعودون بالمغفرة، واللَه لا يُخْلف الميعاد؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدتُه زيادةُ الكرامةِ والثواب. فإن قلت: هل قيدت هذه الآية الآية المطلقة في حم عسق، وهي قوله: (ويستَغْفِرُون لمنْ في الأرض) ، لأنه معلوم أنَّ الملائِكة صلوات الله وسلامه عليهم لا يستغفرون لكافر؟ والجواب: يحتمل أن يكون استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك، كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، واستغفار نبينا للمنافقين، ولما تقدم هذه الآية: (غافِرِ الذَّنْبِ وقَابِلِ التَّوْب) ، ناسب استغفارَ الملائكة للمؤمنين منهم، يَشْهد لهذا قوله بعده (فاغْفِرْ للذين تَابُوا) . ولما تقدم آية الشورى: (تكاد السموتُ يتَفَطَّرْن من فوقِهنّ) ، ناسب استغفارَ الملائكة لمن في الأرض لإبقاء الستر، إذ لا يفوتونه. وقد يُؤْمن مَنْ سبقت له السعادة منهم. (يُرِيكم آياته) : هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة، ولذلك وبَّخهم بقوله: (فأيَّ آياتِ اللَهِ تنْكرون) . (تكاد السماوات يَتَفَطَّرْنَ من فَوْقهن) ، أي يتشقَّقْن من خوف الله وتعظيم جلاله. وقيل من قول الكفار: (اتَّخذَ الله ولداً) ، فهي كالآية التي في مريم. قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين من ذكر الثقل هنا مردود، لأنَّ الله تعالى لا يوصَف به. فإن قلت: لو أراد تشقّق السماء من قوْلِ الكفار لقال مِنْ فوقهم، وما وجْه اتصال التسبيح والاستغفار من الملائكة بهذه الآية؟ والجواب: أن المعنى تشقق السماوات من أعلاهن، وذلك مبالغة في التهويل. وقيل الضمير للأرضين، وهذا بعيد. وقيل للكفار، كاْنه قال من فوق الجماعات الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات تتَفَطرْن. وهذا أيضاً بعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 ووَجْه تسبيح الملائكة تعظيم للهِ تعالى من تشقق السماوات من عظمته وجلاله، أو مِنْ كفْر بني آدم فينزهون الله من ذلك. (يوم الجَمْعِ) : قد قدمنا أنَّ هذا من أسماء يوم القيامة، لأنه يوم يجمعون فيه الأولون والآخرون في صَعِيدٍ واحد. (يَذْرَؤكم فيه) . أي يخلقُكم نسلاً بعد نَسل، وقَرْناً بعد قرن. وضمير المجرور يعود على الجعل الذي تضمّنه قوله: (جعل لكم) ، وهذا كما تقول: كلمت زيداً كلاماً أكرمتُه فيه. وقيل الضمير للتزويج الذي دلّ عليه قوله: (أزواجاً) . وقال الزمخشري: تقديره يَذْرَؤكم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً، غلب فيه العقلاء على غيرهم. فإن قيل: لِمَ لمْ يقل يذرؤكم به؟ فالجواب أنَّ هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. (يُحَاجُّونَ في الله) : أي يجادلون المؤمنين في دِين الله، يعني كفَّارَ قريش. وقيل اليهود. (يسْتَعْجِلُ بها) . أي يطلبون تعجيلَها استهزا: بها، وتعجيزًا للمؤمنين. (يُمَازونَ) : يجادلون ويخافون. (يرْزُق مَنْ يَشَاءُ) . أي الرزق المضمون الزائد لكل حيوان، فإن الرزقَ الذي تقوم به الحياة على العموم لكل حيوان طولَ عمره، والزائد خاص بمن شاء الله. (يَخْتِمْ على قَلْبِك) : في المقصد بهذا قولان: أحدهما أنه ردّ على الكفّار في قولهم، (افْتَرى عَلى الله كَذِباً) ، أي لو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 افتريت على الله كذباً، يختم على قلبك، لكنّك لم تفتر عليه كذباً فقد هداك وسدّدك، والآخر أنَّ المرادَ إنْ يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار واحتمال أذاهم. (يَمْح الله الباطل) : هذا فعل مستَأنَف غير معطوف على ما قبله، لأن الذي قبله مجزوم، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله، ويبتدأ به. وفي المراد به وجهان: أحدها أنه مِنْ تمام ما قبله، أي لو افتريت على الله كذباً بالْخَتْم على قلبك ومَحْو الباطل الذي كنْتَ تفتريه لو افتريته. والآخر أنه وَعْد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يمحو الله الباطلَ وهو الكفر، ويحقّ الحق وهو الإسلام. (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) : أي من عباده. وقبولُ التوبة من الكفر مقطوع بها، ومِن مظالم العباد فهي متوقّفة حتى يردَّها لأهلها أو يستحلّ منها، ومن المعاصي التي بين العبد وبين الله فيُرْجى أنها مقبولة لهذه الآية. وقيل هي في المشيئة، وهو أكرمُ أنْ يقول له العبد: رجعت، فلا يقول له: قبِلْت. وقد قدمنا مِراراً شرطَ التوبة وصحةَ قبولها. وفي بعض كتبِ الله المنزلة: وعزَّتي وجلالي، وارتفاعي في علوّ مكاني. لأقطعنَّ أمَل كل مؤَمل أمّل غيري باليأس، ولألْبِسنَّه أثوابَ الذلة بين الناس. ولأقصِيَنه من قُرْبي، ولأباعِدَنّه من حوضي، أيؤمّل غيري في الشدائد. والشدائد بيدي، وأنا الحيُّ ويرجو سواي، ويطرق بالذكر باب الغير ومفاتحُ الأبواب بيدي، وبابي مفتوح لمَنْ دَعاني، من الذي دعاني فلم أجبه، مَنِ الذي استغفرني فلم أغفر له، من الذي رجع إليَّ فلم أقبله، مَن الذي دعاني لنوائِبه فقطعتُ به دونها، مَنِ الذي رجاني لعظيم جرمه فأقطع رجاء له، من الذي قرع بابي ولم أفْتَح له، جعلتُ آمالَ عبادي متصلة بي فقطعوها، وجعلت أرجاءهم مذخورةً عندي فلم يرضوا بحفْظِي، وملأت سمائي ممَّنْ لا يملون من ذكري، وأمرتهم ألاَّ يُغْلِقُوا الأبوابَ بيني وبين عبادي فلم يثق الآدميون بقولي! ألا يعلم من طرقَتْه نائبةٌ من نوابي أنه لا يملك كَشْفَها إلا من بعد إذني! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 مالي أرى عَبْدي معرضاً عني أعطيه بجودٍ فلم يسألني، ثم انتزعْتُه منه فلم يسألني ردّه! أفتراني أبتدئ بالعطية قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب! يا سائلآ غيري، أبخيل أنا فيبخِّلني عَبدي! أليست الدنيا والآخرة لي، أليس الكرم والجود لي، أليس الرحمة والفضل لي، أنا محلّ الآمال، من يعْطيها دوني، وما عسى أن يؤمل المؤملون لو جمعتُ أهْلَ سائي وأرضي، ثم أعطيتُ كلً واحد منهم ما أمل الجميع ما نقص مِنْ ملكي، وكيف ينقص ملك أنا فيه! فيا بُؤْسَ للقانطين مِن رحمتي، ويا بؤس لمَنْ عصاني، وتوثَّب على محارمي، ولم يسْتَحِ مني! اللهم إني لم أسْتح منك، وبارزتُ بالعظائم، لكن رجائي فيك قويٌّ، وتوسلتُ إليك بجاهِ النبي الأميّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) : العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا. وأما العفو دون تَوْبة فهو على أربعة أقسام: الأول: العَفْو عن الكفر، فلا يكون أصلاً، وعن مظالم العباد فلا يكون إلا لبعض خواص عباده، وعن الصغائِر إذا اجتنبت الكبائر، فهو حاصل بحسب وَعْده الصادق. وعن الكبائرِ فأهل السنَّة أنه في المشيئة، وأهل البدعة على عدم غفْرانها، وقد أخطأوا لنَصِّ الآية والحديث. (يَسْتَجِيبُ الذين آمَنوا) : قيل يجيب. و (الذين آمنوا) مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، أي يجيبهم فيما يطلبون منه. وقال الزمخشري: أصله يستجيب للذين آمنوا، فحذفت اللام. وقيل إن معناه يجيب. والذين آمنوا فاعل، أي يستجيب المؤمنون لربهم باتِّباع دينه. وقيل إن معناه يطلب المؤمنون الإجابةَ من ربهم، واستفعل على هذا على بابه من الطلب. والأول أرجح، لدلالة قوله: (ويَزِيدهم من فَضْلِه) ، أي يزيدهم ما لم يطلبوا زيادة على الاستجابة فيما طلبوا، وهذه الزيادة صَحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنها الشفاعةُ والرضوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) . قيل لعمر رضي الله عنه: اشتدَّ القَحْط، وقنط الناس، فقال: الآن يُمْطرون. وأخذ ذلك من هذه الآية. ومنه الحديث: " اشتَدِّي أزْمَةُ تنفرجي ". وقال تعالى: (إنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً) . وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا كان وقت الشدائد والمخاوف رُئي عليه أثر السرور، وإذا كان وقت السرور رُئي عليه أثَرُ الخوف، لعلمه بربه. (يَنْشر رحمته) ، يعني المطر، فهو تكرار للمعنى الأول بلفظٍ آخر. وقيل يعني الشمس. وقيل بالعموم، وهو أظهر، إذْ رحمته سبحانه تعمّ جميع الموجودات. (يَعْلَم الذين يُجَادلون في آياتِنا) ، أي يعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله. وقرئ يعلم بالرفع على الاستئناف، وبالنصب. واختلف في إعرابه على قولين: أحدهما أنه نصب بإضمار أنْ بعد الواو لما وقعت بعد الشرط والجزاء، لأنه غير واجب. وأنكر الزمخشري ذلك، وقال: إنه شاذّ، فلا ينبغي أن يُحْمل القرآن عليه. والثاني قول الزمخشري: إنه معطوف على تعليل محذوف لينتقم منه، ويعلم، قال: ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف كثير في القرآن، ومنه قوله: (ولِنَجْعَلَه آيةً للناس) . (يا بُشراي) : نادى البشرى، كقوله: يا حسرتى، وأضافها إلى نفسه. وقرئ يا بشرى، بحذف ياء المتكلم. والمعنى كذلك. وقيل على هذه القراءة نادى رجل منهم اسْمُه بشرى، وهذا بعيد، لأنه لما أدْلَى الدَّلْوَ في الجبِّ تعلَّق به يوسف، فحينئذ قال: يا بشراي، هذا كلام. (يُرْسِلَ) : قرئ بالرفع على تقدير: أو هو يرسل، وبالنصب عطفاً على (وحياً) لأن تقديره أن يوحي، فعطفت أن على أن المقدرة. (يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) . أي يكبر ويَنْبت في استعمال الحلي من الذهب والفضة، والمراد بهم النساء. وقرئ "ينشّأ" بضم الياء وتشديد الشين، بمعنى يُرَبّى فيها. والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائِكة بناتُ الله، كأنه قال: أجعلتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 لله من ينشّأ في الحلية، وذلك صفة النّقْصِ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي أنَّ الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أنْ تبيّن حجَّتَها لنَقْص عقلها، وقلما تَجِد امرأةً لا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف يُنْسب لكامل من اتصف بنقصٍ. وأغربُ من ذلك أنهم يجعلون لأنفسهم المذكور، (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشْتَهُون) . وإعراب (من ينشأ) مفعول بفعل مضمر، تقديره: أجعلْتُم للَه مَنْ ينشأ في الحلية، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: أو من ينشأ في الحلية خَصَصْتُم به الله. (يَسْتَغِيثانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ) : ضمير التثنية يعود على الوالدين اللذين يستغيثان بالله مِن كراهتهما لما يقول ابْنُهما من الكفر، فيقولان له: وَيْلك آمِنْ، ثم يأمرانه بالإيمان فيقول: (ما هذا إلا أساطِيرُ الأولين) ، أي قد سطّره الأوَّلون في كتبهم، وذلك تكذيبٌ بالبَعْث والشريعة. واختلف فيمن نزلت هذه الآية، فقيل في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كفْرِه، كان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإيمان فيأبى، ويقول لهما: أفٍّ لكما. وأنكرته عائشة رضي الله عنها، وقالت: واللَه ما نزل في آلِ أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي. وكان عبد الرحمن بن أبي بكر من خِيَار المسلمين، وكان له في الجهاد غناء عظيم. وقال السُّدِّي: ما رأيت أعبد منه. والصحيحُ أنها على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفْر والعقوق لوالديه، ويدل على أنها نزلت على العموم قوله: (أولئِكَ الذين حَقَّ عليهم الْقَوْلُ في أمَمٍ) ، بصيغة الجمع، ولو أراد واحداً بعينه لقال ذلك الذي حقَّ عليه القول. (يَتَدَبَّرون القرآنَ) . أي يتفكرون في معانيه، لتظهرَ أدِلَّتُه وبراهينه، وفيها حضّ على التدبر والتفكر فيه. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه بخشوع من غير هَذْرَمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 (يَبْخَلُ) : البخل هو الغمّ بالإعطاء والفرح بتَرْكه، وأما البخيل فهو الذى يغتمّ بالإعطاء ويذمّ عليه، ويفرح بتركه، وهذا من صفات البخل كما قدمنا: (وأحْضِرت الأنْفُس الشحَّ) . (يَتِرَكُمْ أعمالكم) . أي ينقصكم، يقال وترت الرجل ترةً، إذا نقصته شيئاً. وكيف ينقص السيد عَبْده، هذا في مخلوق فكيف بالغنيِّ على الإطلاق، ولما نزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . شقَ ذلك على الصحابة. وقالوا: يا رسولَ الله، إذا جازانا الله بأعمالنا هلكنا، فأنزل الله المضاعفة لأعمالهم، والمضاعفة في الحسنة لا حَصْرَ لها ولا مضاعفة للسيئة. (يُطِيعكم في كثير من الأمْرِ لَعَنِتمْ) : إنما لم يقلْ أطاعكم، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرارَ طاعتِه عليه السلام لهم. والحقّ خلاف ذلك، وإنما الواجب أن يطيعوه لا أن يطيعهم، وذلك أنَّ رأيه عليه الصلاة والسلام خير وأصوب مِن رأي غيره، ولو أطاع الناسَ في آرائِهم لهلكوا، فالواجب على الناس الانقياد إليه والطاعة لأمره. (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) : نهى الله في هذه الآية عن الاستهزاء بالناس واحتقارهم. ولما كان "القوم" لا يقَع إلا على الذكران عطف النساء عليهم. فالسخريةُ بالنساء من أعظم العيوب عند علاَّم الغيوب. ولعلَّ المسخور منه خَيْرٌ من السَّاخر عند الله، والأعمال بالخواتم، ولا تقعُ هذه الخصلة الذميمة إلا من جاهل بنفسه راضٍ عنها، فيتكبَّر ويعجب، ولو رأى نفسه أقلَّ خَلْقِ الله لم يسخر ممَّنْ هو عند الله أعلى منه، ولذلك قيل: مَنْ ظنَّ أنه خير من الكلب فالكلب خير منه. فالعاقل يرى الصغير أفْضَلَ منه، ويقول: أنا عصيت الله، وهذا لم يعصه، والكبير يقول: هذا عَبَدَ الله أكثر مني، فهو أفضل، لأن مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 زادك في العبادة فَضَلك، والذي هو مثله يقول: لم يَعْصِ الله، وربما له خَبِيّة من عمَل صالح لم أطلع عليها، وأنا ليس لي شيء، وبالجملة فلم يصدر هذا إلا مِنْ معْجب بعمله، متكبًر، وكم أهلكا من عالم وعابد وزاهد. (يغْتَبْ بعضُكم بعْضاً) : الغيبة: ما يكره الإنسان ذِكْرَه من خَلْقه أو خُلُقه أو دِينه أو أفعاله أو غير ذلك. وفي الحديث: قيل: يا رسول اللَه، وإن كان حقّا، قال: إذا قلتَ غيْرَ الحق فذلكَ البهْتان. وقد رخّص في التجريح في الشهادة والرواية وفي النكاح وشبْهه، وفي التحذير من أهل الضلال، ولا غيبةَ في فاسق أو مجاهر بالكبائر، وسامِعها شريكه ما لم ينكرها بلسانه، ومع خوْفه فَبِقَلْبه، وعليه قطعها بكلام، وإلا ينصرف، فإنْ عجز لزمه شغل قَلْبه ولسانه عنْها. روي: مَنْ أذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الخلائق. وروي: من حَمَى مؤمنا مِن منافق يغتابه بعث الله له ملكاً يحمِي لَحْمَه يوم القيامة مِنْ نار جهنم، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادّها، كما سعد بها قائلها. وبواعث الغيبة التشكي، وموافقة ونحوها لذاكرها، أو رفعة لنفسه أو حسد أو لعب، ومتى رأى عَيْباً حرم التصديق ما احتمل تأويلاً، ومتى تحقَّق نَصَح حتما، وسكت ستراً للنهي عن المتلفظ به، فاعلاً أو مفعولاً حيث قال: (بعضكم بَعْضا) . وتشبيه المغتاب بآكلِ الميتة وهو منفِّرٌ طبعاً وشَرْعاً، والإتيان بهمزة الإنكار، ثم بلفظ المحبة، ثم بقوله: (أحَدكم) كأنه يقول: هل يوجد في العالم أحدٌ يحب أكْلَ الميتة، ثم المبالغة بلَحْمِ الأخ، ثم بأكله. وجه المناسبة إدارة حنكه، فالغيبة كالأكل، ثم بقوله: (ميتاً) ، فإنه أبلغ في النفرة، ثم التأكيد بقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 (فكرهْتموه) ، ثم التعريف بأن من التقوى تَرْكَ ذلك، ثم التحريض على التوبة بقوله: (واتقوا الله إنَّ الله توَّابٌ رحيم) . قال أبو علي الفارسي: كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل، وهو أحقّ أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل. وصَحَّ أنَّ " دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ". ونواهيها مشهورة جدًّا، فما ظنّكَ بكلمة لا تسلم منها بتوبةٍ للمظلمة حتى تبرأ، فهي أشدّ على النفس من الربا والزنى، وتنقل حسناتك لغيرك، وتعذَّب بذنوبه التي تحملتها بغيبته، وعرّضتك لسخْطِ الله ومَقْته، وكان تعالى فيها خصيمك. ويقال ليتكَ استحيَيتَ من الله كاستحيائك من مخلوق لا تغتابه بحضرته، فإنا للَه وإنّا إليه راجعون من خصلةٍ نحن فيها ليلاً ونهارا ولا ازدجار منها، ولا تَوْبَة، ونتهاون بها، ونعظم الربا، مع أنها أعظم كما تقدم ويظهر لك بالحديث: " الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل أنْ يطأ الرجل أمَّه ". وفي حديث آخر: " إن من أربى الربا استطالَة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق ". فانظر بُعْد ما بينهما يلُحْ لك عظيم ما ارتكبناه، إلا أن يعفو الله بإرضاء خصمائنا وإلا هلكنا. (رَبَّنَا ظلمْنَا أنفسنا وإنْ لم تَغْفِرْ لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين) . وكان الواجب علينا ألاَّ نخاطب ربَّنا بهذا الخطاب إلاَّ بعد التوبة النصوح. وحسن الارتجاع، لكنا نرجو من كرم الكريم العفْوَ عن اللئيم بجاهِ نبيه الكريم. (يَرْتابوا) : يشكّوا. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) . نزلت في بني أسد من خزيمة، وهي قبيلةٌ كانت تجاورُ المدينة، وكانوا مسلمين ظاهرًا ويحبون المغانم وعَرَضَ الدنيا، فقالوا: يا رسول اللهِ، إنَّا آمنّا بكَ وصدقناك، ولم نحارِبْك كما فعلَتْ هوازنُ وغطفان وغيرهم. فَردَّ الله عليهم بقوله: (بل الله يَمُنُّ عليكم) : يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم، أو بمعنى يذكر إنعامَه. وهذا أحسنِ، لأنه في مقابلة: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 (يَلِتْكم) : ويألتكم بهمزة قبل اللام - قراءتان، بمعنى ينقصكم. والخطاب لمن أطاع الله ورسوله. فإن قلت: هذا الخطابُ وقع في بني أسد، فكيف يعطيهم أجُورَ أعمالهم. وقال: إنهم لم يؤمنوا، ولا تقبل الأعمال إلا من مؤمن؟ والجواب: أن طاعةَ الله ورسوله تجمَعُ صِدْقَ الإيمان وصلاح الأعمال، فالمعنى إن رجعْتم عما أنْتُم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالاً صالحة، فإنَّ الله لا ينقصكم منها شيئاً. (يوم ينَادِ الْمنَاد من مكان قريب) : المنادي هنا إسرافيل الذي ينفخُ في الصور. وقيل: إنما وصفه بالقُرْب، لأنه يسمعُ جميعَ الخلق. وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقُرْب لقربها من مكة. وقيل لقُرْبها من السماء، لأنها أقرَب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وهذا ضعيف. (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم سِرَاعاً) : العامل في هذا الظرف معنى قوله: (حَشْرٌ علينا يَسير) ،وهو بَدَل مما قبله. (يُسْراً) : صفة لمصدر محذوف، ومعناه أنَّ السفن تجري في البحر بسهولة. (يُؤْفَكُ عنه مَنْ أُفكَ) ، أي يصرف. والضمير في (عنه) يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو للقرآن، أو للإسلام. والمعنى يُصرف عن الإيمان به مَنْ صُرِف، أي مَن سبَقَ في عِلْم الله أنه مصروف. وقيل: إن الضمير لما (توعدون) ، أو للدين المذكور. والمعنى يصرف عن الإيمان به من صُرف. وقيل: إنَّ الضمير للقول المختلف. والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام مَنْ قضَى الله بسعادته، وهذا القولُ حسن، إلا أنَّ عُرْفَ الاستعمال في أفك يؤفك إنما هو في الصَّرْف مِنْ خيرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 إلى شر، ومن شر إلى خير. وقيل: إن الضمير للقول المختلف، وتكون (عن) سببية. والمعنى يصْرَف عن ذلك القول مَنْ صرِف عن الإيمان. (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) . يحرقون ويعذّبون. ومنه قيل للحَرَّة فَتِين، كأنه الشمسَ أحرقَتْ حجارتها. ويحتمل أن يكون (يوم هم) معرباً، والعامل فيه مضمر، تقديره يقع ذلك (يَوْمَ هم) على النار يُفْتنون أوأن يكون مبنيا لإضافته إلى متى. وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع، والتقدير هم يوم هم على النار يفْتنون. (يهْجَعُون) : في معنى هذه الآية قولان: أحدهما - وهو الصحيح: كانوا ينامون قليلاً من الليل، ويقطعون أكْثَرَ الليلِ بالسهر فى الصلاة والتضَرّع والدعاء. والآخر أنهم كانوا لا ينامون بالليل لا قليلا ولا كثيرا. ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين، فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه: الأول أن يكون (قليلاً) خبر كانوا، و (ما يَهْجَعون) فاعل بقليل. لأن (قليلا) صفة مشبَّهة باسم الفاعل، وتكون (ما) مصدرية، والتقدير كانوا قليلاً هجوعهم من الليل. والثاني مثل هذا إلا أنَّ ما موصولة، والتقدير كانوا قليلا الذين يهجعون فيه من الليل. والثالث: أن تكون ما زائدة و (قليلاً) ظَرْف، والعامل فيه (يَهْجَعون) ، والتقدير كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل. والرابع مثل هذا إلا أن (قليلا) صفة لمصدر محذوف، والتقدير كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً. وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 أحدهما أنْ تكونَ (ما) نافيه، و (قليلاً) ظرف، والعامل فيه (يَهْجَعون) . والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلاً من الليل. والآخر أن تكونَ (ما) نافية و (قليلاً) خبر كان، والمعنى كانوا قليلاً في الناس، ثم ابتدأ بقوله: (من الليل ما يهجَعون) ، وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعْف هذا المعنى ببطلانِ إعرابه. (يَوْمَهم الذي فيه يصْعَقون) : يعني يوم القيامة، وذلك لشدة هَوْلِه. (يلتقيان) : ضمير التثنية يعود على البَحْرَين المذكورين في قوله: (هذا عَذْبٌ فرَاتٌ) ، (وهذا مِلْحٌ أجَاج) ، أي يلتقي ماء هذا وماء هذا، وإذا نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر، وأما على القول بأنَّ البحر العذب هو الأنهار والعيون، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر، وأما قول القائل بأن البحرين بحر فارس والروم وبحر القلزم واليمن فضعيف. (يَسألُه مَنْ في السماوات والأرض) . أى يسألونه حوائجهم، فمنهم من يسأله بلسان المقال، ومنهم من يسأله بلسان الحال، لأنَّ جميعهم مفتقر لفَضْله ونَوَاله وإمداده. وقد قدمنا أنَّ المراتب السبع من جماد ونام - وحيوان، وناطق وممتحن ومؤمن ومحب، جميعهب متضرعون مقبلين أو مدبرين. فسبحان من وسع سَمْغه أصواتهم وحركاتهم وسكنَاتهم. (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) : يعني بعلامتهم، وهي سواد الوجه وغير ذلك، وقد - قال في آية أخرى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) . يعني أنَّ الكفارَ يتقلَّبون من الزمهرير إلى الحر، ومنَ الحرّ إلى الزمهرير، رجاء الاستراحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 مما هم فيه، فلا يجدون إلا أشدَّ من منازلهم، فهم في عذابِ جهنم مخلَّدون: (لا يُفَتَرُ عنهم وهم فيه مبْلِسون) . (يَطْمِثْهُنَّ) : المعنى أنهن أبكار لم يطمثْهنَّ. . . بخروج الدم. وقيل: الطمث الجماع، سواء كان لبكر أو غيرها، أو نفي أنْ يطمثهن إنس أو جانٌّ مبالغة، وقَصْداً للعموم، فكأنه لم يطمثهنَّ شيء. وقيل: أراد لم يطمث نساءَ الإنس إنس، ولا نساء الجنِّ جِنٌّ. وهذا على القول بان الجن يدخلون الجنة، ويتلذّذون فيها بما يتلذَّذ البشر. وقد قدمنا أنهم في رَبض الجنة لا يسكنون مع الإنسان، وأن رؤيةَ الله خاصة بالإنْس على المشهور (1) . وقد صحَّ أن الله تعالى إذا خلق الجاريةَ من الحور العين خلق عليها خيمة من الدّرّ ستْرًا لها وغيرة على مَنْ خلقها له ألَّا يراها غيره. فما لَك يا محمدي لا تغير أنْتَ عليه إنْ كنت تحبّه، ولا أرى لكَ ذلك. لأنك تقول رضيت بالله ربًّا ولم ترض بقضائِه. وتقول تحبه، وأنْتَ تحب غيره وتقول وجّهْت وجْهيَ له، وقد وجّهْته لدنيا وأهلٍ ومالٍ ووَلدٍ. أما علمْتَ أن حقيقةَ العبودية الإقرار لمعبودها، لا رَاعَى الله من لا يراعي الذمم. ربّك يعاملك بكل ما تريد ولا تَفْعل له ما يريد، كلّ ذلك لكَ لا له، إذ هو غني عن العالمين. (ياقوت) : هو حجر عزيز يضيء أعلاه كالقمر، وهو قليل الوجود، وهو أنواع. وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي، وشبَّهَ الله نساءَ الجنة بالياقوت، وأين الياقوتُ منهن، ولكن خاطب عبادَه بما يفهمونه. وقد قدمنا أنَّ أحوالَ الدنيا إنما هي أنموذج على ما في الآخرة لا مِثْلها. (يُصِرُّونَ) . أى يدومون من غير إقلاع. قال ابن الجوزي: معناه يضجون بالحبشية. (يُنَزِّلُ على عَبْده آياتٍ بيِّنَات) : المراد به سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - للتشريف والتكريم.   (1) لا يوجد دليل على عدم رؤيتهم لربهم في الجنة، والعول عليه فضل الله وسعته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 وقد قدمنا أنَّ هذه الإضافة خاصة به، كقوله تعالى: (وأنه لما قام عَبْدُ الله) . (سبحان الذي أسْرَى بعبده) . فما أشرفها من إضافة، وما ألذّه من خطاب! (يسْعَى بين أيديهم وبأيْمَانهم) : الضمير للمؤمنين، يعني أنهم يكون لهم نور يوم القيامة أمامهم ومِنْ خلفهم على قَدْر إيمانهم، منهم مَنْ يكون نوره كالنخلة السَّحُوق، ومنهم ما قرب من قدميه، ومنهم مَنْ يضيء مرة وينطفي، أخرى كالشمعة. والكافرون والمنافقون لا نُورَ لهم، فيرون المؤمنين الأنوار محدقة فيقولون: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) . وقيل: إن هذا النور استعارة يرادُ به الهدَى والرضوان. والأول أصح، لوروده في الصحيح. (يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) : أنى الأمْر إذاَ حان وقتُه، وذِكْر الله " يحتمل أن يريد به القرآن، أو الذّكر، أو التذكير، أو المواعظ. وهذه آيةُ موعظةٍ وتذكير، قال ابن عباس: عُوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفُضَيل بن عياض هذه الآية فكانت سببَ رجوعِه. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابْنُ المبارك وتاب. وحكي أنه كان في غار السودان عابد فأتى بعض الشباب بعود وكوز من الخمر، فجلس بأعلى الغار من غير عِلْم بالعابد، فلما شرع في ضَرْب العود والسكر قرأ العابد: (ألَمْ يأن للذين آمَنوا) الآية، فسمعه الشابُّ فقال: بلى، آنَ، وكسر العود والكوز، وخرج فارّا بنفسه، فتبعه العابد، فعرضت له برْكة السودان فمشى على الماء. قال العابد: فتبعتُه فغرقت، ولم أقدر على اتباعه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 فرفعت رأسي، وقلت: إلهي لي على بابك أربعون سنة، ولم أنَلْ ما نال هذا في ساعة، فسمعت هاتفاً يقول: ذلك فَضْلي أوتِيه من أشاء. وأنت يا محمديّ تتلوها كلَّ ساعة ولا ترجع إلى ربك! أهكذا شأن مَنْ يريد الرجوعَ إلى اللَه! كلاّ والله، ليس ثَمَّ رجوع ولا ندم، وإنما هو انهماك في المعاصي وقلةُ الخضوع، إلهي لا التوبة تدوم لي، ولا المعصية تنصرف عني، ولا أدري بمَ يخْتم لي، غير أنَّ سابقة الحسنى أوجبت لي حسْنَ الظنّ، وقد قلتَ: أنا عند حسْن ظَن عَبْدِي بي فليظنَّ بي ما شاء، فهَبْ لي توبةً منك باقية، واصرف أزمةَ الشهوات عني، وامْح زينتها من قلبي بزينة الإيمان بجاه سيد الثقلين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، ما اختلف الْمَلَوَان. (ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتابَ من قَبْل فطال عليهم الأمد) . عطف: (ولا يكونوا) على (أنْ تخشع) . ويحتمل أن يكون نَهْياً، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهلِ الكتب المتقدمة، وهم اليهود والنصارى، في حِرْصهم على الدنيا وعرف هممهم إليها، فكم خوَّفَنا سبحانه ونهانا قولا وفعلا، أدَّب الملائكة بإبليس: بعد عبادة ثمانين ألف سنة ترك سجدةً طُرِد. أبونا آدم عليه السلام بأكلة لم يُؤْذَن له فيها، أهْبِط إلى الأرض وبكى مائتي سنة، وأتعب ذريته (1) . نوح عليه السلام بكلمة (إني أعِظك) لم يرفع رَأسَه حيا - أربعين سنة (2) ، فالحذَر مِنْ مَيْل إلى دُنْيَا تعدك بمال، فإنه مهلك، كبلعام سلب ولم يقبل أبدا، وكان يعلم الاسْمَ الأعظم. وبرصيص العابد بعد عبادة مائةِ سنة قرنه الله مع إبليس في قوله تعالى مثَله (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) . وَتأمّل الحدودَ المرتبَة على الذنوب مِن حدّ قطع عضو فيِ خمسة دراهم. ولو لم يكن من التخويف "إلا قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) ، وإذا سأل الصادقين عن صدقهم فكيف بمن عصى؟ قال بعضهم: الصدق على ثلاث مقامات: صدق في العزم، وصدق في   (1) مردود بما في البخاري برقم: 4367 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ آنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى (2) لا يصح ولا يثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 اللسان، وصدق في الأعمال، فصدق العَزْم تجديد الإرادة، وصدق اللسان محاسبة النفسِ قَبْل إطلاق القول، وصدق الأعمال ركوبُ الجهد بترك العادة النفسية. فآفَةُ صدقِ العزم العجز، وآفة صدق اللسان المعارضة، قال تعالى في بعض كتبه: إذا استوَتْ أقدام الأنبياء في الآخرة في صفّها أسأل الصادقين عن صدقهم، فتحتاج إذ ذاك الأنبياء إلى عفوي، وأقدم حبيبى أمامَهم بخطوة الصدق الذي أتى به بارزا على جميع الأنبياء، وهو مقام الوسيلة الذي وعدتُه بنَيْلِه، ولا سؤالَ أعظم من سؤال الصادقين عن صدقهم، لأني أطالبهم بصدق الصدق، وقد عجز المخلوقون أجْمَعُ عن الصدق، فكيف يجيبون عن صِدْقِ الصدق. اللهم لا حيلةَ لنا في الوصول إلى منزل الصدق عندك إلا باطِّراح أنفسنا قولاً وفِعْلاً، لأنكَ أنْتَ أنت ونحن نحن، َ ولا بدّ لنا منك، فارحم ذلَّنَا بين يديك يا أرْحمَ الراحمين.. (يظَاهِرون منكم مِنْ نَسائِهم) : بالتشديد والتخفيف بحذف الألف وإثباتها مع التخفيف، ومعناهما واحد، وهو أن يقول الرجل لامرأته: أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمّي، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأةٍ محرَّمةٍ على التأبيد، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، سواء ذكر لفْظَ الظّهْر أو لم يذكره، كقوله: أنتِ عليَّ كأمي، أو كبطن أمي، أو يدها أو رجلها، خلافاً للشافعي، فإنَّ ذلك كلَّه ليس عنده بظِهَار، لأنه وقف عند لفظ الآية. وقاس مالك عليه، لأنه رأى أن القصد تشبيه حلال بحرام. (يَتَمَاسَّا) : المراد بالمسيس هنا الوطء، وما دونه من اللمس، والتقبيل، فلا يجوزُ للمظاهر أنْ يفعلَ شيئاً من ذلك حتى يكفِّر. وقال الحسن والثوري: أراد الوطء خاصة، فأباحوا ما دونه قبل الكفَّارة. وذكر الله قوله: (قبل أن يَتَمَاسَّا) في التحرير والصوم، ولم يذكره في الإطعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 واختلف العلماء في ذلك، فحمل مالك والشافعي الإطعام على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلا قبل المسيس، وجعل ذلك من المطلق الذي يحْمَل على المقيد. وقال أبو حنيفة: يجوز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطَأ قبل الكفَّارة، لأنَّ الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسِيس. (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) : أمّا إخرابُ المؤمنين فهو هَدْم أسوارِ ألحصون ليدخلوها، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله: (يُخْرِبُونَ) ، لأنه كان بسبب كفرهم وغَدْرِهم، وأما إخرابُ الكفار لبيوتهم فلثلاثةِ مقاصد: أحدها حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواهَ الأزقّة ويحصِّنوا ما أخْرَبه المسلمون من الأسوار، والآخر ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسَّواري وغير ذلك. والثالث ألاَّ تَبقى مساكنهم مبنيّة للمسلمين، فهدَموها شُحًّا عليها. (يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) : بالقتل والفيء والأسْرِ وغيرها. (يثْقَفوكم) .: يظفروا بكم. (يَنْهَاكُم اللَّهُ عن الذين قاتَلوكم في الدين) : هم كفار قريش، والآية في النهي عن الإحسان إليهم والتحبّب إليهم. وأما مَنْ لم يقاتل فقد قدمنا في حرف اللام أنَّ الله رَخَّص للمسلمين في صلتهم. وقد صحَّ أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسولَ الله، إنَّ أُمِّي قدمَتْ عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟ قال: صِلِي أُمَّك. (يَئِسُوا من الآخِرَة) . أي من خيرها والسعادة فيها. (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدِّقا) . هذا القول من عيسى عليه السلام تعريضٌ لهم واستدعاء لهم أن يتديَّنوا بدينه، وأن يصدفوا بما صدَّقَ به. (ومصدقاً) حال مؤكدة، (ومبشراً) ، عطف عليه. والمعنى أرسلتُ إليكم في حال تصديقي بما تقدمني من التوراةِ وفي حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 تبشيري برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، وأن ديني التصديق بكتاب الله وأنبيائه جميعا ممَّنْ تقدّم أو تأخّر. فإن قلت: لمَ لمْ يقل: يا قوم، كقول موسى عليه السلام: (يا قومِ لم تُؤْذُونَني) ؟ والجواب أنَّ عيسى عليه السلام لما نسبَ له فيهم، فيكونوا قومه، إذ لم يكن له فيهم أب. فإن قلت: لم جاء قولُ عيسى عليه السلام فيما يرجع إلى التوراة بلفظ التصديق، وفيما يرجع إلى النبي عليه السلام بلفظ البشارة، ولِمَ قال: (مصدقاً) بالتوراة ولم يقل بموسى؟ قلت: المراد أنْ يخبر عليه السلام بأنه مصدّق بمَنْ تقدم وتأخر من رُسله وكتبه، فجاء لفظُ التصديق بالتوراةِ على الأمر المقصود، والتصديق بالتوراة يستلزمُ التصديقَ بمَنْ جاء بها، وكأنه نزَّهَ الرسولَ الذي جاء بها عن أن يُسْتَراب برسالته حتى يحتاج إلى مَنْ يصدقه ممن هو مثله. ولما كان مجيء محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمراً منتظرا حَسُنَ التبشير به، والبشارةُ به تتضمَّن تصديقَه سيما وقد سمَّاه رسولا وعرفه بأحمد، الاسم المسمَّى به في السماء عند الملأ الأعلى، وهو أفخم للمسمى، وأبلغ في تفخيمه. وهنا نكتة لطيفة، وهي أنَّ المبشَّر به يشعر بأن البشارة به تقتضي بأنه يأتي بأمور فيها البشرى لمَنْ جاءهم بها وقبلوها منه. قال ابن عطية: وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص، وليست على حدِّ قولك: جاءنا أحمد، لأنك ها هنا أوقعْتَ الاسْمَ على مسمَّاه، والآية إنما أراد فيها باسمه هذه الكلمة. ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اشتقاق اسمه أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الخَتْم أن يكونَ من نوع المبدأ، فاشتقَّ له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماه هو أحمدهم، وأهل الأرض هو محمدهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 فإن قلت: لم أخَّرَه - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلْق؟ والجواب لخصائصه وخصائص أمته، منها أن مَنْ تقدم ظهرت فيهم الصناعة المحتاج إليها، فظهرت الحراثةُ من آدم، والخياطة من إدريس، والنجارة من نوح، والقيانة من داود، والخرازة من إلياس، وغير ذلك من الصنائع التي احتيج إليها، فجاءت إليهم مهذَّبة، ومنها لئلا يطلع على مساويهم أحدٌ من الأمم. ومنها لئلا يطول مكثهم في التراب. ومنها ليكونوا شهداءَ على مَنْ تقدّم، وغير ذلك من الخصائص التي نالوها بسببه - صلى الله عليه وسلم - ويطول ذكرها. فإن قلت: هل لتسميته في الأحزاب حكمةٌ، لأنها مخالفة لتسمية عيسى؟ فالجواب: أنهم كانوا لا يعرفون في الكتب الماضية إلا هذا الاسم، وسِرّ تسميته به أنه أشار إليهم فيها بأنه أحمدهم، وهذا الاسم لمْ تغيره ألسنةُ العامة، لأنهم يقولون محمد بفتح أوله أو بضم أوله، ويستعظمون ذِكْره على وجهه للمواطأة فيه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتغيير نسبة، إذ قال: " إنَّ الله صرف عني إيذاءَ قريش وسبَّهم، يسبّون ويذمُّون مذمَّما، وأنا محمد ". ولما اتصف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بكونه أباً للمؤمنين في سورة الأحزاب، لأنهم كانوا لا ينادونه إلا بهذا الاسم تجد المؤمن إذا دهمه أمْرٌ أو حدث له حادث لا يفزع إلا لهذا الاسم الشريف، إذ لا أحسن للإنسان من أبيه عند الفَزع. وبهذا يندفع ما نحا إليه النووي في الأذكار حيث يزعم أنه لا يذكر اسمه عند العشرة فما فوقها، ولعلَّ السرَّ في هذه الآية هو من ناحية نفْيِ أبوَّة الأشباح، وصحة كونه أباً للأرواح مع كونها مقتضية للرسالة، وختم النبوءة. وفي شرح البخاري لابن بطال أنَّ الأبوة أشهر من الأمومة، بدليل: (ادْعُوهُم لآبائِهم) ، وللحديث: " ينصب للغادر لواء يوم القيامة ثم يقال: هذا لواء فلان ابن فلان ". وإنما فرع من قال بالنسبة للأم، لأنه رأى الستر يوم القيامة أدْخَل في باب الإغضاء، وفيما قاله نظر، إذ الأبوة نسبة ظنّية والأخرى يقينية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وفي حديث القاضي المعافي: إنما الإشكال في دعوى ولد الزنى يوم القيامة لأبيه، مع أنه ليس بأب شرعي. وأجاب باحتمال دَعْوىَ المجاز كأبي الأرامل، أو أنَّ أحوال الآخرة على خلاف أحوال الدنيا يُدْعَى إلى الإسلام الداعي إليه نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم. (يَغْفِرْ لكمْ) : جزم في جواب (تؤمنون) ، لأنه بمعنى الأمر، فقد قرأ ابن مسعود: آمِنوا وجَاهِدوا - على الأمر. وقال الفراء: هو جواب (هل أدلُّكم) ، لأنه يقتضي التحضيض. (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) . منّ الله على عباده ببَعْثِ رسول منهم وإليهم يعلِّمهم بيانَ الشرائع والفهم، ويزَكيهم: يطهرهم، ونسب التعليم إليه، لأنه يعلم ما في الكتب وطرق النظر بما يلقيه جبريل إليه، فأعرضوا عنه، وقالوا: هل بعث الله ملكا. وقد قدمنا سِرَّ بَعْثِ الرسل من البشر، إذ البشرية لا تطيق مباشرةَ الروحانية. أَلاَ ترى جبريل، كان يخرجه - صلى الله عليه وسلم - من البشرية حين يُلقى إليه الوَحْي. فإن قلت: ما فائدة تقديم العلم في البقرة، وتأخيره في الصف وآل عمران؟ والجواب: لأنه لما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام قبل وجود الضلال في الذرّية المدعوّ لها، وإنما تحصل لهم تزكيتهم ورَفْع ضلالهم المتوقّع لوقوعه بما يمنحونه من التعليم وما يُتْلى عليهم من الآيات، لأن ذلك هو السبب في حصول التزكية والسلامة من الضلال إذا وققوا للانقياد له، ألا ترى ارتباطَ التزكية بأعمال الطاعات، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) ، وإنما كان تزكية لهم لانقيادهم بالطاعة فما يطلبهم به من ذلك ويأخذه منهم، فتأخَّر ذكر التزكية المسبّبة عما به تحصل، وذلك بعد هدايتهم للإيمان، فجاء على الترتيب من بناء المسبَّب على سببه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 ولما كان مقصود الآيتين الأخيرتين إنما هو ذِكرُ الامتنان عليهم بهدايتهم بعد الضلال الذي كان وُجِد منهم والتعريف بإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام أخر ذِكزَ تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم، ليكونَ تلوهم ذِكْر الضلال الذي أنقذهم الله منه بما علمهم وأعطاهم وامْتَن عليهم، وهو ثاني المسببين، فكان الكلام في قوةِ أن لو قيل: ويعلمهم ما به زوَالُ ضَلاَلِهم. وأخَّر في هاتين الآيتين ذكرَ السبب ليوصل بذكر مسببه الأكيد هنا الذي قد كان وقع، وهو رفع ضلالهم وانقيادهم من عظم مِحْنته، ولو أخَّر ذِكْرَ التزكية لما أحرز هذا المعنى المقصود هنا، فاختلافُ الترتيب إنما هو بحسب اختلافِ القصدين ودَفْع ما ذكر، فورد على ما يجب. (يَلْحَقوا بهم) : معطوف على آخرين، أي لم يلحقوا بهم. واختلف مَنْ هم الآخرون، والصحيح الذي ورد في الصحاح أنهم أهلُ فارس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنهم، فأخذ بيدِ سلمان، وقال: لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء، يعني فارس. وقيل: هم الروم، و (منهم) على هذين القولين يريد في البشرية وفي الدين لا في النسب. وقيل: هم أهلُ اليمن وقيل هم التابعون وقيل هم سائر المسلمين. (يحْسَبُون كُلَّ صَيْحةٍ عليهم هم العَدُوُّ) . عبارة عن شدة خوفهم من المسلمين، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحاً ظنوا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلهم، وفي هذا دليل على أنه كان يعلمهم. (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) : الضمير يعود على المنافقين، يعني أنهم يميلونها إعراضاً واستكباراً. وسببُ نزول هذه السورةِ ما جرى في غَزْوَة بني الْمُصْطلق بين جَهْجاه بن سعيد أجير عمر بن الخطاب وبين سنان الجُهني حليف لعبد اللَه بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين على الماء الذي وقع الزحام فيه، فلطم جَهْجَاه سناناً فغضب سنان، ودعا بالأنصار، ودعا الجَهْجَاه بالمهاجرين، فقال عبد الله بن أبَيّ: والله ما مثلنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 ومثل المهاجرين إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك. ثم قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، يعني بالأعزّ نفسه وأتباعه، ويعني بالأذَلّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لقومه: إنما يقيم هؤلاء بالمدينة بسبب مَعُونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعْتُم عنهم ذلك لفَرّوا عن مدينتكم، فسمعه زيد بن أرقم، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك عبْدَ الله بن أبيّ، فحلف لرسول الله أنه ما قال شيئاً من ذلك وكذَّب زيداً، فنزلت السورة عند ذلك، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد، وقال له: صدَّقك الله يا زيد، فخزي عبد الله بن أبَيّ ومقَتَهُ الناس، فقيل له امْضِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لك، فإنه رحيم بالأمة، فلوَى رأسه استكباراً، وقال: أمَرْتموني بالإسلام فأسلمْتُ، وبأداء الزكاة ففعلت، ولم يبق لكم إلا أنْ تأمروني بالسجود لمحمد، فعاش قليلاً ومات، فإنا لله وإنا إليه راجعون. لا حيلة في القدر: جمع الحبس والتعذيبُ بين بلال وعمار على نبذ الدين. فزوّر على عمار على خط قلبه، فلم يعرف التزوير، وأسر بلال على دعوى الإبلاس فسلموه إلى صبيانهم في حديدة يصرونه في حَرِّ مكة، ويضعون على صدره وقت الرمضاء صخْرَةً، ولسانُ محبته يقول: بعينك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبْقَ مني وما بقي وجيء بأبي جَنْدَل يجرَّ قيودَه، فردّه - صلى الله عليه وسلم - إليهم ودموعُه تسيل على صدره، وأنشد أبياتاً آخرها: وعلى ما صفحوا أو نقموا ... لأرَى يا طيبة منك يدا وكذلك أبو سهيل وغيره حبسوهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، فجرى القَدَر بِلقْياه، والإيمان به، وهؤلاء لم تسبق لهم سابقة سَبْق. من أنْتَ يا بلال حتى عرج بك على براق العناية إلى حضرة القرب للقرب. وخلف عن نيْل المطالب أبو طالب، جئتَ يا سلمان من فارس حق نظمتك يدُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 العناية في سِلْكِ سلمان مِنا أهْل البيت. يا صهيب، ما الذي سمعتَ من الأخبار حتى تنعلت، ولبسْتَ سربالَ الهموم حتى سبقْت. يا ابْنَ أدهم، مَنْ أنت حتى طرَّزْت حلَل المنابر برقوم مدحتك. يا عتبة، مَنْ أنْتَ حق تزينَت مجالِس الأذكار بحديثك. يا رابعة، مَنْ أنْتِ حتى لبيت المنادي، وحلَلْتِ من القرب في النادي، وقيل لك: مِن أجلك قبلت مَنْ أتى إليك، اللهم إنك نبَّهْتَ قلوباً نائمة، وأيقظت أسماعاً ساهية، وأقمتَ بالمواعظ إلى بابك قلوباً ناسية حتى سمعوا الإشارةَ، فأسرعوا وصفَتْ قلوبهم لمحبتك فيهم، فإنهم لم يحبوك حتى أحبَبْتَهم، ولم يقربوا منك حتى أوصلْتَهم، ارحمنا بذكرهم واقْبَلْنَا كما قبِلْتَهم، فإنه لا مانعَ لما أعطيْتَ، ولا مُعْطِيَ لما منَعْتَ، ولا تحرم مَنْ نظر في كتابي هذا وقال: اللهم ارْحَم المحرومَ برحمتك، وإن كان غَيْرَ مستأهل القبول، فضلك الكريم لا يرد الطفيليَّ والمتعلق. فإن قلت: ما فائدة الجمع في قوله: (وإذا قيل لهم تعالَوْا يستغْفِر لكمْ رسولُ الله) ، مع أن الخطاب لواحد؟ والجواب: أن الإسناد للتحقير وإبقاء الستر على العُصَاة حيث لم يعيّن القائِل. وقد كان له أتباع من المنافقين يوافقونه على ما قال، فالخطابُ لهم. (يأتِينَ بفاحشَة مُبَيِّنَة) : ضمير الإناثِ يرجعُ إلى المطلقات. والمعنى أن الله نهى عن أن يُخْرج الرجلُ المطلقةَ من المسكن الذي طلَّقها فيه. ونهاها هي أنْ تخرجَ باختيارها إلا أن تأتي بفاحشة. واختلف في هذه الفاحشة التي أباحَتْ خروجَ المعتدَّة على خمسة أقوال: الأول أنها الزنى، فتخرج لإقامة الحدّ! قاله الليث بن سعد، والشعبي. والثاني أنه سؤال وكلام مع الأصهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى. ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب، قاله ابن عباس. ويؤيّده قراءة أبيّ بن كعب: " إلا أنْ يفحشن عليكم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 والثالث أنه جميع المعاصي من القَذْف والزنى والسرقة وغير ذلك، فمهما فعلت شيئاً من ذلك سقط حقُّها في السكنى، قاله ابن عباس أيضاً، وإليه مال الطبري. والرابع أنه الخروج من بيتها خروج انتقالِ، فمهما فعلَتْ ذلك سقط حقُّها في السكنى، قال ابن الغرس: وإلى هذا ذهب مالكَ في المرأة إذا نشزَتْ في العدّة. الخامس أنه النشوز قبل الطلاق، فإذا طلَّقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى، قاله قتادة. (يُحْدِث بعْدَ ذلكَ أمْراً) : المراد به الرجعة عند الجمهور، أي أحْصوا العدَّة وامتثلوا ما أمرتم به لعلَّ الله يُحْدث الرجعةَ لنسائكم. وقيل المعنى: لعل الله يحدِث أمرا من نسخ هذه الأحكام، وهذا بعيد. وقيل: إنَّ سببَ الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي - صلى الله عليه وسلم - لحفصة بنت عمر، فأمره الله بمراجعتها. (يتَنَزَّلُ الأَمْر بينهنَّ) . أي بين السماء والأرض. وقد قدمنا آنِفاً أن المراد بالأمر الوحي أو إحكام الله وتدبيره لخَلْقِه. (يَفْعَلون ما يُؤْمَرون) : الضمير يعود على الملائكة الغلاظ، لقساوة قلوبهم على مَنْ عصاه، ويتقربون بتعنيف بني آدم وتعذيبهم مما هو مشاهدٌ في حَرَس ملوكِ الدنيا كلما ازدادوا عُنْفاً على المأمور به ازدادوا محبةً عند الأمير. فإن قلت: قوله (لا يَعْصونَ الله ما أمرهم) ، يُغْني عن قوله: (ويَفْعَلون ما يؤْمَرون) ؟ والجواب: أنه أكَّدَه بذلك، ليزداد خوْفُ المخاطب. أو معنى (يفعلون ما يؤمرون) بنشاط وجدٍّ فيما أمروا به من عذاب الناس. اللهم أعِذْنا من عذابك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) : العامل في يوم يحتمل أنْ يكونَ ما قبله أو ما بعده أو محذوفاً، تقديره اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك. (يَسطرونَ) : الضمير للملائكة على قول من قال: القلم هو الذي يُكتب به في اللوح المحفوظ. وعلى مَنْ قال إنه القلم المعروف عند الناس يكون الضمير لبني آدم. (يبدِلَنا خيراً منها) : الضمير لأهل الجنة التي رأوها كالصَّرِيم، وقصتهم معروفة. فطلب المؤمنون منهم البدَل في الدنيا أو في الآخرة. وهكذا المؤمن يرجعُ إلى الله في نوائبِه ولا يضجر بما يناله. (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) . يعود ضمِير (بَنِيهِ) فيها إلى الحميم، لأنها في معنى الجمع. والمعنى أن كل في يبصر حمِيمه يوم القيامة، فيراه ولكنه لا يسأله، لأنه مشغول بنفسه، وأيّ شغل وهو يودّ حينئذ أن يفدي نفسه ببنيه الذين هم أحبُّ إليه من نفسه، ولا يجد ذلك، ولذلك عطفه بـ (ثم ينْجِيهِ) ، لبعْد النجاة وامتناعها. والفاعل الذي يقتضيه: (لو يَفْتَدِي) ، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدي، ولذلك زجرة عن ذلك بقوله: (كلا) . (يَوْمَهم الذي يوعَدون) : قد قدمنا مراراً أنه يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه: (يوم يَخْرجونَ من الأَجداث) ، وهي القبور. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) : هذا من قول نوح، وعَدَهم أَن يغفر لهم ما قبل إسلامهم لا بَعده، لأن ذلك في مشيئة الله، فمِنْ هنا للتبعيض، وقيل لبيان الجنس، وقيل لابتداء الغاية، وهذان ضعيفان، والأول أولى، لأن التبعيضَ فيها متَجه. وتعلَّق المعتزلة بهذا، فقالوا بالأجَلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 وردَّ تعلقهم، لأن المعنى أنَّ نوحاً عليه السلام لم يعلم هل هم ممَّنْ يؤخر أو ممن يعاجل، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد جاء، لكن سبق في الأزَل أنهم إما ممن قضِي له بالإيمان والتأخير أو ممن قضِي له وعليه بالكفر والمعاجلة، فكان الاحتمال يقتضيه ظاهر الآية إنما هو يبرزه الغَيْب من حالهم، إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير وإما الكفر والمعاجلة، وأمَّا ما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدَّر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم مقدَّرٌ محتوم. فإن قلت: ما المانع من كون (من) للغاية، أعني الابتداء والانتهاء. كقولك: أخذت المالَ - من الصندوق؟ والجواب لا يصح هنا، لأنَّ الصندوق غير مأخوذ، بل مأخوذ منه، فيلزمِ هنا أن تكونَ الذنوب غير مغفورة، ونقل عن أبي الربيع أنه إشارة إلى أنّ الإسلامَ يحبط ما قبله. وردّ بأنه يلزم صدق الذنوب على الماضي والمستقبل، لأن الخطابَ للكفار، فيلزم المجاز، لأن الآتي لم يعملوه، فكيف يصدق عليه أنه ذنوب قبل الفِعْل. ونقل عن ابن عصفور أنه قال: يغفر لكم جملةً من ذنوبكم. ورد بأن تلك الجملة بعض الذنوب، فلا حاجةَ إلى تقديرها، ولفظة من النائبة مناب بعض يغني عنها. فتأمل يا محمديّ هذه العناية الربانية بكَ حيث خاطب هذه الأمّة، قال في حقهم: (يغْفِرْ لكم ذنوبكم) ، وحيث خاطب الأمم المتقدمة أنبياؤهم خاطبوهم بالبعض، لتعلم الفَرْقَ بين خطاب المولى الكريم من خطاب عبيده. (يقول سَفِيهنَا على الله شَطَطاً) : هذا من كلام الجنّ، والمراد بالسفيهِ أبوهم إبليس. وقيل هو اسْمُ جنس لكلّ سفيهٍ منهم، وهو المختارُ عند ابْن عطية. (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) : الضمير يعود على العرب، لأنهم كانوا إذا حلَّ أحدهم بوادٍ صاح بأعْلَى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجني الذي بالوادي يحميه، وهذا جهلٌ منهم وإنكار للربوبية، ولذلك قال الله: (فزادوهم رهقا) . (يَدْعُوه) : الضمير لعبد الله المتقدم. وقد قدمنا مراراً أنَّ اللهَ سمّاه هذا لإضافته للتشريف والتكريم. وقال الزمخشري: إنما لم يقل الرسول أو النبي لأن هذا وقع في كلام رسول الله عن نفسه، لأنه مما أوحي إليه، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَه على ما يقتضيه التواَضع والتذلل، وهذا بعيد مع أنه إنما يتمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفاً على (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ) . وأمّا على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، ومن جملة كلام الجن، فيبطل ما قاله. (يكونون عليهِ لِبَداً) : يحتمل أن يكون الضمير للكفار من الناس، أيْ كادوا يجتمعون على الرد إليه وإبطال أمْرِه، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماعِ القرآن للتبرُّك به. (يَجعل له رَبِّي أمَداً) . أي لا أدري أقريب ما توعدون مِن قتلكم يوم بَدْر أو موتكم بعد، ولذلك قال: (عالمُ الغيب) ، يعني هذا أمر مغيب. (يوم تَرْجفُ) . العامل في يوم معنى الكلام المتقدم، وهو (إنَّ لدينا أنْكالاً) . (يجعَل الوِلْدَان شِيباً) . يعني أن الأطفال يشيبون يوم القيامة من شدَّة الهول، فقيل إن ذلك حقيقة، وقيل إنه عبارة عن هَوْل ذلك اليوم، وأخذ من الآية أنَّ الهمَّ يسرع الشيب، وهذا مشاهَد في كثيَر من الأشخاص في كل عصر. وقد رأينا مَنْ شاب من هَمِّ ساعة، ورأينا حكايات شتّى أنهم شابوا من ذلك، فإذا كان هذا في الدنيا المنْقَرِضة همومها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 لا خيرها يدوم ولا شرها يبقى، فما بالك بيوم تذهل فيه كلّ مرضعةٍ عمّا أَرضعت، ويفرّ المَرءُ من أخيه! اللهم لا محيص من هَوْله إلاَّ بك، ولا مَفَرّ منه إلا بعفوك، فاجعله لنا يوم رحمةٍ لا يوم نِقْمة، إليك المشْتَكى، وبكَ المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك. (يَطمَعُ أَنْ أَزِيد) . أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، ويظن أن حِرصَه واجتهاده يوصّله لمراده، وهذا غاية الجهل، ولذلك قال مهدّداً له: (كلا إنه كان لآياتنا عَنِيداً) . (يقول الذين في قلوبهم مَرَضٌ والكافرون) : المراد بالأولين المنافقون، لأنه وصفهم بمرض قلوبهم. فإن قلت: ذلك في البقرة، وهذه الآية مكية، فكيف يصحّ إطلاقها عليهم وليسوا بها؟ والجواب: أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا، ففيه إخبار بالغيب، أو يريد مَنْ كان بمكة من أهل الشك. (لِيَفْجُرَ أمَامَه) . أي يفعل أفعالَ الفجور. وفي معنى " أمامه " ثلاثة أقوال: أحدها أنه عبارة عما يستقبل من الزمان، أي يفجر بقيةَ عمره. الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته، يقال: مشى فلان قدَّامه إذا لم يرجع عن شيء يريده، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان. الثالث أَن الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يَفْجرَ قبل يوم القيامة. (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) . أي يسأل الإنسان على وجه الاستخفاف والاستهزاء متى يوم القيامة. وهذا لِجَهلِه إما على أن من مات فقد قامت قيامتُه وهو يشاهد الموت بَغْتة، فكيف يستبعدها وليس الخبر كالمعاينة. لكن الجاهل أعمى، ولا يقال لهذا جاهل بل أحمق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) . أي بجميع أعماله المقدمة في عمره، وما أخر منها بعد مماته، هل سَنَّ سنَّةً حسنة أو سيئة أو صلة أَوصى بها تضره أو تنفعه، أو ما قدم من المعاصي وأخّر من الطاعات، أو ما قدم لنفسه من ماله وما أخّره منه. أو ما قدم في أول عمره وما أخّر في آخره. ويحتمل أنه ينبَّأ عن مجموعها. وفي الحديث: " يدنو أحدكم من ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول عبدي خلقْتكَ بتدبيري، وصوّرْتك بحكمتي، وأتممت عليك نعمتي، فلِمَ عصيتني؟ ". فأيّ جوابِ لك أيها العبد، وفي حديث آخر: " لا تزول قَدَمَا عَبد حتى يسأل عن خمس: عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه، أتدرون مَنِ المفْلس؟ قالوا: لا، يا رسولَ الله. قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله أمثال الجبال من الحسنات، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وأكل مالَ هذا، فهذا يأخذ من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته طرحت عليه سيئاتهم، ثم طرح في النار ". اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوْمَ الوقوفِ بين يديك، أقسمتُ عليك بأكرم الخَلْق عليك وأرْفعهم مكانة لديك محمد - صلى الله عليه وسلم. (يومئِذٍ المَسَاق) : مصدر من السوق، كقوله تعالى: (إلى اللَهِ المصِير) . (يَتَمَطَى) . الضمير يعود على أبي جهل، وذلكَ أنه كان يبختر في مشيته ويتعجّب من نسمته، ويرى انه أَفضل قومه، فردّ الله عليه بقوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) أي مَنْ كانت هذه حاله كيف يتبختر، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم، وختم هذه الآية بقدرته تعالى على إحياء الموتى، لأن مِنْ لازم خَلْق الإنسان وتصويره على هذه الهيئة المشاهدة القدرةَ على إحياء الموتى من باب أولىَ. (يَتِيما) : قد قدمنا أن اليتيمَ مَنْ فقد أباه من الآدميين، وِمنَ الحيوان مَنْ فقد أمَّه، وسَمَّى الله نبيه بقوله تعالى: (ألَم يَجِدْكَ يتيما فآوى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وذلك أنه قال ليلةَ الإسراء: يا رب، اصطفيتَ آدم، وسلمت على نوح، ورفعتَ إدريس، وكلمتَ موسى، فقال له: (ألم يَجِدْكَ يتيما فاَوَى) . . .) ، إلى آخر ألم نشرح. وهذا الاستفهام على ذكر المنة والتسلية بما أعطاه الله وفَضّله على سائر الرسل، هذا ما أعطاه الله في الدنيا والآخرة وأعظمها قوله: (ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فتَرْضَى) ، ففي إبهام هذا العطاء ما لا يُوصف. (يَوْمَا عَبوساً) . قد قدمنا أنه عبوس على الكافر، لأنه يعبس يومئذ حتى يسيلَ الدم من عينيه، مثل القطران، وأما المؤمنُ فيسرّ بما يلْقَى من الرحمة الخاصة به، جعلنا الله منهم. (يا ليتني كنْتُ تُرَاباً) . هذا من قول الكافر لما يرى مِنَ اقتصاص البهائم بعضها من بعض، ثم ترجع تراباً فيقوله ليسلم من العذاب كما سلمتِ الحيوانات، وأنّى له ذلك! وقيل المرادُ به إبليس، لأنه احتقر الترابَ في قوله: (خلَقْتَنِي من نارٍ وخلقْتَهُ من طين) ، فيتمنى حينئذ أن يكونَ مثل آدم وأولاده لما رأى ما أنعم الله على المؤمنين منهم. (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) . العامل في " يوم " محذوف، وهو الجوابُ المقدر، تقديره لتبعثن يوم تَرْجُف الراجفة. وإن جعلنا (يَوْمَ تَرْجُفُ) الجواب فالعاملُ في يوم معنى قوله: (قلوبٌ يومئذ وَاجِفة) ، أي شديدة الاضطراب كما قدمنا في حرف الواو، ويكون (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) في موضع الحال. ويحتمل أن يكون العاملُ فيه (تَتْبَعُهَا) ، وقد قدمنا أن هذين الاسمين من أسماء القيامة، فقيل الراجفة النفخة الأولى في الصّور، والرادفة الثانية لأنها تتبعها. وبينهما أربعون عاماً. وقد قدمنا في حرف الثاء أنَّ الراجفةَ الأرض، والرادفة السماء، لأنها تنشقّ يومئذ. وقيل الراجفة الموت، والرادفة القيامة. وقد قدمنا أنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 النَّفْخ على ستة أوجه: لآدم، (فإذا سَوَّيْتُه ونفخْتُ فيه مِنْ رُوحِي) . ولذي القرنين: (قال انْفُخوا) . ولمريم: (فنَفَخْنا فيها من رُوحِنا) . ولعيسى عليه السلام: (فَأَنْفُخُ فِيهِ) . وفي هاتين النفختين: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) . هذه حكايةُ قول الكفار في الدنيا، ومعناه على الجملة إنكارُ البعث، فالهمزةُ في قولهم (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) للإنكار، ولذلك اتفق القُرّاء على قراءته بهمزتين إلا أنَّ منهم من سهّل الثانية، ومنهم مَن حقّقها. واختلفوا في (أإذا كُنا عظَاماً) ، فمنهم من قرأه بهمزةٍ واحدة، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيداً للإنكار المتقدم. (يَقْضِ ما أمَره) : مجزوم بـ (لمَّا) ، ومعناه أنه لا يقضي الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، إذ لا بدَّ للعبد من تفريط، وإذا كانت الأنبياء والرسل والملائكة المقرّبون يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حَقّ عبادتك، فكيف يقضي العاصي لربه حَقَّه، أو كيف تقضي العبودية حقّ الربوبية! (يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين) : الظرف منصوب بقوله: (مبعوثون) . وقيل بفعل مضمر، أو بدل من (يوم عظيم) . وقيام الناسِ يوم القيامة على حسب اختلافهم، فمنهم مَن يقوم خمسين ألف سنة وأقل من ذلك على حسب أعمالهم، ومنهم مَن يقوم من قبورهم إلى قصورهم، ومنهم على قَدْر صلاة مَكتوبة. (يَشْهَده المقَرَّبون) : يعني الملائكة لقربهم من الله. (يَشْرَبُ بها) . يعني يشربها، فالباء زائدة. ويحتمل أن تكونَ بمعنى يشرب منها، أو كقولك: شربت الماءَ بالعسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 (يَحُور) . أي يرجع بلغة الحبشة، قاله ابن عباس. (يخرج من بين الصُّلْبِ والتَرَائبِ) : الضمير للماء. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للإنسان، وهذا بعيد جداً. (يوم تُبْلَى السّرَائِر) . يعني تنكشف سرائر العبد التي كانت في قلبه من عقائد ونيّات، وتاللَه لا يجد فيها في هذا الزمان إلا ضغائن وحقائد وخبث طويات. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن السرائِر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ". وهذه معظَمها، ولذلك خَصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله (رَجْعه) ، أي يرجعه (يوم تُبلى السرائِر) . واعتُرض بالفصل بينهما. وأُجيب بقوةِ المصدر في العمل. وقيل: العامل (قادر) . واعتُرض: بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقةً فقد أخبر الله أن البعث إنما يقَع في ذلك اليوم. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) . يعني كيف تنفعه حينئذ الذكرى، وقد انقطعت علائقه. والإنسان جنس يشمل جميعه، وتذكره إنما هو بنَدمه على تفريطه، ويومئذ بدل من (دُكَّت) ، ويتذكر هو العامل، وهو جواب (دُكَّت) . (يقول يا ليتني قدَّمْتُ لحيَاتِي) . أي قدمتُ عملاً صالحاً وقتَ حياتي، فاللامُ على هذا كقولك: كتبت لعشر من الشهر. وقيل الحياة في الآخرة. والمعنى: يا ليْتني قدمتُ عملا صالحاً للآخرة. وكيف ينفَعه هذا القول وقد أخبر الله بعذابه ووثاقه؟! (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) . قد قدمنا أنَّ النفوس ثلاثة: لوّامة، وأمَّارة، ومطمئنة، وهي المرادة هنا بالخطاب، لأنها المُوقِنة بحيث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 لا يتطرق إليها شكٌّ في الإيمان. وقيل المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيدُ هذا قراءة أبيّ بن كعب: " يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ". (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) . بضم اللام وكسرها. بمعنى الكثرة. والقائل لهذا عند قوم الوليد بن المغيرة، لأنه أنفق أموالاً في إفساد أمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم. (يَتَزَكَّى) . من أَداء الزكاة، أو من الزكاء، أي يصير زاكياً عند الله، أو يتطهر من ذنوبه. وهذا الفعل بدل من (يؤتي ماله) ، أو حال من الضمير. والمراد به أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا نزول هذه السورة فيه لكان فيها كفاية، فكيف وقد شبّهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآصف لما أتي ببركة من مكة إلى المدينة. وسمي صدِّيقاً لأَنه صدَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، وعتيقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت عتيق من النار. ولما نزلت: (ولسوف يَرْضَى) ، قال: يا رسول الله، لا يرضيني أنَ أحداً مِنْ أمَّتك يدخل النار. فتبسَّم - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن الله يقول لك: إن شئت وقفت في يوم القيامة تشفَع فيمن أحببت وإن شئت مضيْت. وقد ألَّفتُ تأليفاً سميته الوثيق في نصرة الصديق. وبالجملة فالصحابة كلهم عدول لا يجحد عدالتهم إلا منافق مبتدع، وكيف لا والله يقول: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، فرضي الله عنهم وعمَن رضي عنهم وأحبَّهم. (يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) : الخطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم. ولما نزلت قال: لا أَرضَى أنْ يَبقَى أحد من أمَّتي في النار. فقال الله له: لا بدّ من نفاذ الوعيد على طائِفةٍ. فطلب فيهم الشفاعة. والصحيح أنَّ هذا وعْد يعمّ كلَّ ما أعطاه الله في الدنيا من النصر، والفتوح، وكثرة المسلمين، وغير ذلك، وفي الآخرة من الوسيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود الذي لا ينَالُه أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 فإن قلت: ما فائدة الامتنان عليه باليتم؟ والجواب: لئلا يكون عليه حقّ لمخلوق، ولما مات أبوه تركه في بطْنِ مولاتنا آمنة، ثم ماتت وهو ابْنُ خمسة أعوام، وقيل ثمانية، فكفله جدُّه عبد الطلب، ثم مات وتركه ابْنَ اثنتي عشرة سنة، فكفله عمُّه أبو طالب، ورام المعاندون قَتْله وخموده فلم يَقْدروا عليه لحِفْظِ الله له صبيّاً وكَهْلاً، فلهذا عدّد نِعَمَه عليه سبحانه كما قدمنا. (يتلو صُحُفاً مُطهَّرة) . الضمير لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه يتلو القرآن في صحُف مطهرة. وقد قدمنا معناها. (يومئذ تحَدِّثُ أخبارَها) . هذه عبارة عما يحْدث الله فيها من الأهوال، فهو مجازٌ وحديث بلسان الحال. وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظَهرها، فهو حقيقة. وتحدّث يتعدَّى إلى مفعولين، حذف الأول منها. والتقدير تحدث الخَلْقَ أخبارها. وانتزع بعض المحدثين من قوله: (تحدث أخبارها) أن قول المحدِّث: حدثنا، وأخبرنا سواء. وهذه الجملة في جواب: (إذا زلزلت الأرضُ) ، و (تحدث) هو العامل في إذا، و (يومئذ) بدل من (إذا) . ويجوز أن يكونَ العامل في (إذا) مضمر و (تحدث) عامل في (يومئذ) . (يَوْمئذ يصْدر الناس أشتاتاً ليُرَوْا أعمالَهم) . أي مختلفين في أحوالهم، وصدر الناس هو انصرافهم من موضع وردهم. فقيل الورد هو الدفن في القبور والصدر هو القيام للبعث. وقيل الورد القيام للمحشر، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار، وهذا أظهر. وفيه يَعْظم التفاوت بين أحوال الناس، فيظهر كونهم أشتاتاً. (يوم يكون الناسُ) : العامل في الظرف محذوف دلَّ عليه القارعة. تقديره في يوم. (يحسب أنَّ ماله أخلده) . أي يظنَّ بفَرْطِ جَهْله واغتراره أنَّ مالَه يخلّده في الدنيا. وقيل: يظن أنَّ ماله يوصِّله إلى دار الخلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 واختلف على من يعود الضمير من الكفار على أقوال. (يدعّ اليَتِيم) . أي يدفَعه بعُنْف، وهذا يحتمل أن يكونَ عن إطعامه والإحسان إليه، وعن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ. (يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) : هذه الجملة في جواب (أَرَأَيْتَ) ، لأنَّ معناها أخبرني، فكأنه سؤالٌ وجواب. والمعنى انظر الذي يكذب بالدين تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة والأعمال السيئة، وإنما ذلك لأنَّ الدين يحمل صاحِبه على الحسنات، وترك السيئات. فمقصود الكلام ذَمُّ الفاعل لذلك. قال الجنيد: عرضت نفسي ليلة على هذه السورة، فلم أجد فيها ذلك، ثم عرضت عليها (قد أفلَحَ المُؤْمِنُون) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) ، فقلت: سبحانك لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فسمعت هاتفاً يقول: من الذين (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . هذا الجنيد فكيف حالك يا خويْد؟!! (يُرَاءُونَ) الناس، فكانت صلاتهم للناس لا لله، فلذلك ذمَّهم الله في الدنيا وعذّبهم في الآخرة، وفي هذا تحذير لمن اتَّصفَ بصفتهم، فالأحْمَق مَنْ يعمل لرضا الناس، وهو لا يُدرك، وأجهلُ الناس مَنْ طلب ما لا يُدرك، وعن قريب يظهر له فِعله. وهذا يختلف باختلاف المقاصد، لأن مَنْ عمل لإظهار الله جميله وستره قبيحه، أو لأنه يفعل به ذلك في الآخرة، أو لقُدْوتهم به أذلَّه مثل أجورهم، أو فرح بثنائهم لحبهم الطاعة والمطيع وسلامتهم من أضدادها، أو ليعرف حبَّ ربه تعالى إذا أحبه حَبَّبَهُ إلى عباده، أو لئلا يشغله ذمهم ونحوه فحسن. (يَمْنَعون المَاعُون) : قد قدمنا في حرف الميم أن هذا وصف لهم بالبخل وقلّة المنفعة للناس، ومَنْ لا ينفع الناس لا ينفعه الله، وأنفَعُ الناسِ عند الله أنفَعُهم للناس إلا إن أوجب الله طردهم وبعدهم وهجرانهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 فالبغضُ في الله أوجب، ولذلك اختلف الفقهاء في التصدق على تارِك الصلاة، قال بعضهم: الحمد للهِ الذي قال: (عن صَلاَتهم) ، ولم يقل في صلاتهم. (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) سبب نزول هذه السورة أنَّ قوماً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاصي بن وائل، وأبو جهل ونظراؤهم - قالوا: يا محمد، اتَّبع ديننا ونَتَّبع دينك، اعبُدْ آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة. فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً. ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قرأها فقد برئ من الشرك. وفي هذا المعنى الذي عرضت عليه قريش نزل قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت السّورة بسببها. فإن قلت: لم كرر قوله تعالى: (ولا أنا عابِدٌ ما عبدْتم) ؟ فالجواب: في تكرار هذه الآيات أقوال جَمَّة ومعانِ كثيرة، وتلخيصها أنَّ الله تعالى نفى عن نبيه عبادةَ الأصنام في الماضي والحالَ والاستقبال، ونفى عن الكفار المذكورين عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فاقتضى القياس تكرار هذه اللفظة ستَّ مرات، فذكر لفظ الحال، لأن الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: (ولا أنا عابد ما عَبَدْتم) ، وكان اسم الفاعل بمعنى الماضي فعمل على مذهب الكوفيين. واقتصر من المستقبل على المسند إليه، فقال: (ولا أنتم عابدون ما أَعبد) ، وكان اسم الفاعلين بمعنى المستقبل. (يُشْعِرُكم) . أي يُدريكم، وهو من الشعور بالشيء. (يُلْحِذون في أسمائه) . أي يجورون في أسمائه ويشتقّون اللات من الإله، والعزّى من العزيز، وقيل تسميته بما لا يليق به، ولما قال أبو جهل ما قال نزلت الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 (يوم حُنين) : عطف على (مواطن) ، أو منصوب بفعل مضمر. وهذا أحسنُ لوجهين: أحدهما أن قوله: (إذ أعجبتكم كثْرَتُكم) : مختص بحُنين، ولا يصح في غيره من المواطن، فيضعف عطف أحدهما على الآخر، إلا إن أريد بالمواطن الأوقات. وحُنين اسم علم لموضع عُرف باسم رجل اسمه حُنين، وانصرف لأنه مذكر، وهي قرية قرب الطائف. (يُحَادِدِ الله ورسوله) . أي يخالفهما ويعاديهما. وقيل: اشتقاقه من الحد، كقولك: يكون الله ورسوله في حدّ، وهو في حدّ. (يُغَاث الناسُ) : يحتمل أن يكون من الغيث، أي يمطرون، أو من الغوث، أي يفرج الله عنهم. (يُحَاوِرُهُ) . أي يراجعه في الكلام. (يقَلِّبُ كَفَّيْه) : يصفّق بالواحدة على الأخرى كما يفعل المتندم المتأسّف على ما فاته. (يُغادِر) . يخلف ويترك. (يضَيِّفوهمَا) . ينزلوها منزلةَ الأضياف في إطعامهما والإحسان إليهما. (يُعَقِّبْ) : يرجع على عَقبِه إلى خلف. وقيل يلتفت. (يوزَعون) : يكفّون ويحبسون. وجاء في التفسير يحبس أولهم على آخرهم حتى يدخلوا النار. ومنه قول الحسن رضي الله عنه لما تولّى القضاء وكَثر الناس عليه: لا بدَّ للناس من وزيعة، أي من شرطة يكفّون الناسَ عند القاضي. (يُؤْتون ما آتوْا) . من الزكاة والصدقة. وقيل: إنه عامّ في جميع أعمال البر، أي يفعلون وهم يخافون ألاَّ تقبل منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنها قرات (يأتون ما أتوا) بالقصر، فيحتمل أنْ يكون الحديث تفسيراً لهذه القراءة، وقيل: إنه عام في الحسنات والسيئات، أَي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله. فإن قلت: ما فائدة حذف الضمير في هذه الآية المثبت في الآيتين قبلها؟ فالجواب: أنه أكد في الأوليين بالضمير، وفي هذه بقوله: (وقلوبهم وَجِلَة) ، أي خائفة. (يكَوِّر اللّيْلَ على النهار) . أي يلف هذا على هذا، ككور العمامة، وهو هنا استعارة على ما قال ابْن عطية يعيد من هذا على هذا، فكأنّ الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه جزء على الآخر فيستره، وكأن الذي يقصر يدخل في الذي يطول فَيْستَتِر فيه. ويحتمل أن يكون المعنى أنَّ كلَّ واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه. فشبه في ستره له بثوبٍ يلف على آخر. (يوبِقْهنَ بِمَا كسبوا) . ضمير التأنيث يعود على السفن، يعني يهلكها بما يكسب أهلها. وهذا عطف على (يسْكِنِ الريحَ) ، ومعناه لو شاء اللَّهُ أغرق السفن من شدة الرياح العاصفة، أو يسكنها فيظْلَلْنَ رَوَاكد على ظهره لا يتحركْنَ بالجري. (يُزْلِقونَك بأبْصارِهم) . أي يزيلونك بعيونهم، لأنهم غاروا من فصاحته، فقال له قائل منهم: ما أفصحك! وقصد أخْذَه بالعين، لأنه أعياهم أمره، فلم يبقَ لهم من الحِيَل إلا هذا، فأنزل الله عليه هذه الآية، وحفظه منهم، فلذلك لا تجد أنفع رُقْية منها لمن أصابه العين، وقرِئت (ليزلقونك) بضم الياء، أَي يستأصلونك من قولهم: أزلق رأسه إذا حلقه. (يُوفِضون) : يسرعون الخروجَ من القبور إلى المحشر، كما يسرعون الْمَشْي إلى أصنامهم في الدنيا، لكنه خلاف إسراعهم إليها، لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 الدنيا دارُ مُهْلة وتَنَعُّم، وهناك كما وصف الله حالَهم (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) . ووجوههم مغبرة ترهقها قَتَرة. (يُوعُون) . أي يجمعون في صدورهم من الكفْر والتكذيب، أو هو سبحانه عالم بما يجمعون في صحائِفهم من الأعمال. يقال: أوعيت المالَ وغيره إذا جمعته. ولنختم معاني هذه الحروف بذكر دخول مَنْ أورثه الله هذا الكتاب العظيم من الظالم والمقتصد والسابق، وأن الله وعدهم بجنةِ عَدْن يدخلونها، والضمير راجع إلى الثلاثة، قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْ نَ) . قالت عائشة رضي الله عنها: لو علموا ما تحت واو الجماعة لماتُوا فَرَحاً. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " سابقُنا سابق، ومقتصدنا لاحق، وظالمنا مغفور له ". فإن قلت: ما فائدة تقديم الظالم، وهلاَّ جاءتِ الآيةُ مثل الحديث؟ فالجواب: عادةُ المخلوق يقَدِّمُ الأفضل، فخاطبهم الله على عوائدهم، ألا ترى قوله: زُرْ كغُبًّا تَزْدَد حُبًّا. وقال الله: (واعْبُدْ رَبك حتّى يأ تِيَك اليَقِين) . ويقولون: لا تعير فتبلى. وقول الله: (فاعْتَرَفُوا بذَنْبهم) : ويقولون: أحْسِن إلى مَنْ أحسن إليك. ولما كان السابق قريباً، والظالم بعيداً، والقريب يحتمل ما لا يحتمل البعيد. والظالم منكس الرأس من حياءِ جُرْمه ومعصيته، فلما نكس رأسه رفعه الله كما أنَّ الجوديّ وطور زيتا لما لم يرفعا رؤوسهما أكرمهما الله كما قدمنا، والظالم ضعيف، والسابق قويّ، والعادة في القافلة تقديم الضعيف والرجالة، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم الضعفة إل مِنى قبل الفجر، فقدم الظالم لئلا يفتضح ولا يَعَاب، وأيضاً الظالم غير مدع والسابق مدع، ولو قدم السّابق وأخّر الظالم لبان منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 العَدْل، والظالم رفع قصته إلى الله فوقع له توقع الرحمة في قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنْفسهم) ، وللمقتصد توقع التوبة في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . وللسابق توقع الرضوان، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) . فالمقاماتُ على ثلاثة أسْماء: الله الرحمن الرحيم، فانظر كيف اصطفاهم كما قال في إبراهيم: (ولقد اصْطَفينَاه في الدُّنيا وإنه في الآخرةِ لَمِن الصَّالِحين) . فإن قلت: ما الفرق بين الاصطفاء والإفضال، ولِمَ لَمْ يقل فضّلنا؟ والجواب: أن الاصْطِفاء كلّي بجميع الأشياء، والإفضال بعض لبعض دون بعض، والاصطفاء أخروي، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . والإفضال دنيوي، (والله فَضل بَعْضَكم على بَعْض في الززْق) ، والإفضال عام، (وأني فَضَّلْتكم على العالَمين) ، أي على عالمي زمانهم، والاصطفاء خاصّ، والخاص مقدَّم على العام. فإن قلت: ما الحكمة ُ في أنَّ الله أعطى القرآن بلفظ الميراث؟ والجواب: لأنه ليس شيء أطيب وألذّ وأجلَّ من الميراث، فذِكْرهُ بلفظ الميراث أحلى وأطيب وأشهى. وأيضاً الميراث لا يُنْزعَ من يَدِ الوارث بخلافِ العطايا والهبات، فذكره بلفظ الميراث ليعلم أنه لا يريد أن ينزعه عنك. وأيضاً الميراث يعمّ الأولاد عصاة أو مطيعين، كذلك القرآن. وإذا أكرم الله المؤمن على الجملة باثنتي عشرة كرامة فكيف بمن اصطفاه بهذا القرآن، قال تعالى: (الذين آمَنُوا ولم يُلْبِسُوا إيمانَهم بظُلم) . (وإن الله لَهَادِي الذين آمنوا) ، (يثبِّتُ الله الذين آمنوا) . (وبَشّر الذين آمَنوا) ، (وبشِّر المؤمنين) . (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) . (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 (وكذلك ننجي المؤمنين) . (ربّنا آمَنّا فاكتبنَا مع الشاهدين) . (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات) . (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) . فإن قلت: قد ذكرت لنا فضيلةَ الثلاثة فميِّز لنا مَنْ هم؟ والجواب: قد قدمنا مَنْ هم، وكثرت أقاويل الناسِ فيهم حتى أنهاه بعضهم إلى عشرين قولاً، وتلخيصهم أن السابق الذي يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، والمقتصد الذي يدخلها بفضل الله. والظالم الذي يدخلها بشفاعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وقيل السابق المحافظ على الجماعة. والمقتصد المحافظ للوقت، والظالم الغافل عنهماجميعا. وقيل الظالم الذي خلط عمَلاً صالحاً وآخر سيئاً. والمقتصد الذي لم يخلط. والسابق الذي لم تقع منه هفوة. وقيل الظالم أهل الكبائر. والمقتصد أهل الصغائر. والسابق المجتنب لها جميعاً. فإن قلت: لم وقعت الإشارة (ذلك هو الفَضل الكبير) ؟ فالجواب أنه قد كثرت الأقاويل أيضاً في ذلك، فقيل إشارة إلى الإرْث والاصطفاء أو الظالم، أو إلى إذْنه، أو إلى دخول الجنة أو إلى الله، أي ذلك الذي فعل هذا هو الفَضْل الكبير. اللهم بَلغنا هذا الفَضْلَ، ولا تعاملنا بالعدل، وقد ابتدأنا بالفضل، وفعلك مبنيٌّ على الابتداء (كما بدأكم تَعودون) . (يا) : حرف لنداءَ البعيد حقيقة أو حكماً، وهي أكثر حروفه استعمالاً. ولهذا لا يقدر عند الحذف سوَاها نحو: (رَبّ اغفِر لي) . (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 ولا ينادي اسم الله، وأيتها، إلا بها. قال الزمخشري: وتفيد التأكيد الْمُؤْذِن بأنّ الخطاب الذي تتلوه معتنىً به جدًّا. وترد للتنبيه، فتدخل على الفعل والحرف، نحو: (ألا يا اسجُدُوا) . (يا ليت قَوْمي يعلمون بما غَفرَ لي رَبِّي) . وقد ختمْتُ الكلام على هذه الحروف ومعاني أدواتها على وَجْه مُوجز مفيد محصِّل للمقصود منه، يكظم غيْظَ حبيب النجار، وحَطه عن قومه، والترأف بهم في حياته بالتشمّر في هوايتهم والتلطف معهم في دعائهم إلى الإيمان، وبعد موته بعدم الدعاء لقتلته والباغين له الغوائِل وهم كفرةٌ عبدةُ أصنام، بل تمنى لهم علمهم بأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا وسعادة، راجياً من الله أن يعاملني بما عامل به قومه مع كفرهم وطغيانهم، وهو عبد مثلهم، فكيف بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. فأسألك اللهم أن تحنَن عليَّ قلوباً تفكرت في هذه الفوائِد التي جعلْتَ لهم قلوباً يفقهون بها، وأعيناً يبصرون بها، فيتذكروني إذا وصلوا إلى حضرتك بذكري عندك، لأنك عالم أني لسْتُ بأهل أن أكون دليلاً إليكَ، لكني أدل المنقطعين عليك، فاهْدِ الدليلَ، ولا تردَّ المدلول، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك. (فصل في أقوال كلِّية محتوية على ألفاظ قرآنية) قال ابن فارس في كتاب الأفراد: كلّ ما في القرآن من ذِكْر الأسف فمعناه الحزن إلا: (فلمّا آسَفُونا) ، فمعناه أغضبونا. وكلّ ما فيه مِنْ ذكر (البروج) فهي الكواكب إلا: (ولَوْ كُنْتُم في بُروج مشيّدةٍ) ، فهي القصور الطوال الْحَصينة. وكلّ ما فيه من ذكر البَرِّ والبحر فالمراد بالبحر الماء، وبالبر التراب اليابس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 إلا قوله: (ظهر الفَسادُ في البَرِّ والبَحرِ) ، فالمرادُ به البرية والعمران. وكلّ ما فيه من (بَخْس) فهو النقص إلا: (بثمن بَخْس) ، أي حرام. وكل ما فيه من (البَعل) ، فهو الزوج إلا: (أتَدْعُونَ بَعْلاً) ، فهو الصنم. وكلّ ما فيه من (البكم) فالخرس عن الكلام بالإيمان إلا: (عُمْياً وبُكْماً وَصُمًّا) في الإسراء. (وأحَدهُمَا أبْكم) في النحل، فالمراد عدمُ القدرةِ على الكلام مطلقاً. وكلّ ما فيه (جِثيًّا) فمعناه جميعاً، إلا: (وتَرَى كُلَّ أمةٍ جاثية) . فمعناه تَجْثُو على ركبها. وكل ما فيه من (حُسْبان) فمن العدَدِ، إلا: (حُسْباناً من السماء) في الكهف، فهو العذاب. وكل ما فيه من (حسرة) فالندامةُ إلا: (ليَجْعَلَ الله ذلكَ حسْرَةً في قلوبِهم) ، فمعناه الحزن. وكلّ ما فيه من (الدحض) فالباطل، إلاَّ: (فكان من الْمُدْحضِينَ) ، فمعناه من المغلوبين. وكلّ ما فيه من رجز فالعذاب، إلا: (وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ) ، فالمرادُ به الصنم. وكلُّ ما فيه من (رَيْب) فالشكّ، إلا: (رَيْبَ الْمَنُون) ، يعني حوادثَ الدهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 وكل ما فيه من (الرجم) فالقتل، إلا: (لرَجَمْنَاك) : لشتمناك، و (رَجْماً بالغيب) ، أي ظنًّا. وكلُّ ما فيه من (الزور) فالكذب مع الشِّرْك، إلا: (مُنْكَرًا مِنَ القَوْل وَزُوراً) ، فإنه كذب غير شرك وكلُ ما فيه من (زكاة) فالمالُ، إلا (وحَنَاناً منْ لدُنا وزَكاةً) ، أي طهرة. وكلُّ ما فيه من (الزيغ) فالميلُ، إلا: (وإذْ زاغَتِ الأبصار) ، أي شخصت. وكلّ ما فيه من سخر فالاستهزاء، إلا: (سُخْريًّا) ، في الزخرف فهو من التسخير والاستخدام. وكلّ (سَكِينَةٌ) فيه طمأنينة، إلا التي في قصة طالوت فهو شيء كرأس الهرة له جناحان (1) . وكل سعيرٍ فيه فهو النار والوقود، إلا (في ضَلاَل وسُعُر) ، فهو العناء! وكلُّ (شيطان) فيه فإبليس، أي الشيطان وجنوده، إلا: (وإذا خَلَوْا إلى شَيَاطينهم) . وكلُّ شهيدٍ فيه غير القتلى فمَنْ يشهد في أمور الناس، إلا: (وادْعُوا شهَداكم) ، فهو شركاءَهم. وكل ما فيه من (أصحاب النار) فأهلها، إلا: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) ، فالمراد خزَنَتُها. وكلُّ صلاة فيه عبادة ورحمة إلا: (وصَلَواتٌ ومساجد) ، فهي الأماكن.   (1) من الإسرائيليات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 وكل (صمم) فيه ففي سماع الإيمان والقرآن خاصة، إلا الذي في الإسراء. وكلّ عذاب فيه فالتعذيب إلا: (ولْيشْهَدْ عذابهما) ، فهو الضّرْب. وكلّ قنوت فيه طاعة، إلا: (كلّ لَهُ قانِتُون) ، فمعناه مقِرون. وكلّ (كنز) فيه مال إلا الذي في سورة الكهف، فهو صحيفة علم. وَكُلّ (مصباح) فيه كوكب إلا الذي في النور، فالسراج. وكلّ نكاح فيه تزوّج إلا: (حتى إذا بَلغُوا النكاح) ، فهو الحُلُم. وكلُّ نَبأ فيه خبر، إلا: (فعَمِيَتْ عليهم الأنباء) ، فهي الحجج. وكلّ (ورد) فيه دخول إلا: (وَلمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَن) . يعني هجم عليه ولم يدخله. وكلّ ما فيه من: (لا يكلِّف الله نَفْساً) فالمراد منه العمل، إلا التي في الطلاق، فالمراد منه النفقة. وكل إياس فيه قنوط إلا الذي في الرعد، فمن العلم. وكل " صبر " فيه محمود، إلا: (لَوْلاَ أنْ صَبَرْنا عليها) . (واصْبِروا عَلَى آلهتكم) . هذا آخِرُ ما ذكره ابن فارس. وقال السجستاني: ليس في كلام العرب كلمة أولها ياء مكسورة إلا قولهم يسار ويَسار - بالفتح والكسر: اليد. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 وقال بعضهم: كلّ صوم فيه فمن العبادة، إلا: (نَذَرْتُ للرحمن صوْماً) ، أي صَمْتاً. وكلّ ما فيه من (الظلمات والنور) فالمرادُ الكفر والإيمان إلا التي في أول الأنعام فالمرادُ ظلمة الليل ونور النهار. وكلّ (إنفاق) فيه فهو الصدقَةُ إلا: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) ، فالمراد به الْمَهْر. وقال الداني: كلّ ما فيه من (الحضور) فهو بالضاد من المشاهدة إلا موضعاً واحداً فإنه بالظاء من الاحتظار، وهو قوله: (كهَشِيمِ الْمُحْتَظِر) . وقال ابن خالويه: ليس في القرآن (بعد) بمعنى قَبْل إلا حرفاً واحداً: (ولقد كتَبْنَا في الزَّبُورِ مِنْ بَعْد الذكْرِ) . وقال غيره: قد وجدنا حرفاً آخر، وهو قوله: (والأرْضَ بعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا) . قال أبو موسى في كتاب المغيث: معناه هنا (قبل) ، لأنه تعالى خلق الأَرض في يومين ثم استوى إلى السماء، فعلى هذا خلق الأرْضَ قبل خَلْق السماء. قُلت: قد تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون لشيء من هذا النوع، فأخرج الإمامُ أحمد في مسنده، وابنُ أبي حاتم وغيرهما من طريق درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة ". هذا إسناد جيد، وابن حِبَّان يصحِّحهُ. وأخرج ابنُ أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن (أليم) فهو الموجع. وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن (قتل) فهو لعن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وأخرج من طريق الضحاك، عن ابن عباس، كلّ شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب. وقال الفِرْيابي: حدثنا قبس عن عمّار الدّهني، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كلّ تسبيح في القرآن صلاة، وكل سلطان في القرآن حجة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن (الدين) فالحساب. وأخرج ابنُ الأنباري في كتاب الوقف والابتداء من طريق السّدِّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: كل ريب شك إلا مكانا واحدا في الطور: (رَيْبَ الْمَنُون) ، يعني حوادثَ الأمور. وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن أبي بن كعب، قال: كلّ شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل لشيء فيه من الريح فهو عذاب. وأخرج عن الضحاك قال: كلّ (كأس) في القرآن إنما عني به الخمر. وأخرج عنه، قال: كل شيء في القرآن (فاطر) فهو خالق. وأخرج عن سعيد بن خبير، قال: كل لشيء في القرآن (إفْك) فهو كذب. وأخرج عن أبي العالية، قال: كلّ آية في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام، والنهي عن المنكر فهو عبادة الأوثان. وأخرج عن أبي العالية أيضاً، قال: كل آيةٍ في القرآن يذكر فيها حفظ الفَرْج فهو من الزنى، إلا قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، فالمرادُ ألًا يراها أحد. وأخرج عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن: إن الإنسان كفور إنما يعني به الكفار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وأخرج عن عمر بن عبد العزيز، قال: كل شيء في القرآن (خلود) فإنه لا أوْبة له. وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: كلّ شيء في القرآن (يقدر) فمعناه يقلّ. وأخرج عنه، قال: (التزكي) في القرآن كله الإسلام. وأخرج عن أبي مالك، قال: (وراء) في القرآن كله أمام، غير حرفين: (فمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) ، يعني سِوَى ذلك. (وأحِل لكمْ ما وَرَاءَ ذلكم) ، يعني سوَى ذلكم. وأخرج عن أبي بكر بن عياش، قال: ما كان (كِسْفاً) فهو عذاب، وما كان (كِسَفاً) فهو قطع السحاب. وأخرج عن مجاهد، قال: (المباشرة) في كلّ كتابِ الله الجماع. وأخرج عن ابن زيد، قال: كل ما في القرآن (فاسق) فهو كاذب، إلا قليلاً. وأخرج ابن المنذر عن السدي، قال: ما كان في القرآن (حنيفاً مسلماً) . وما كان في القرآن حنفاء مسلمين: حجاجاً. وأخرج عن سعيد بن خبير، قال: (العفو) في القرآن على ثلاثة أنحاء، نَحْو تجاوزٌ عن الذنب، ونحو في القصد في النفقة: (ويسألونك ماذا يُنْفِقُون قُل العَفْو) . ونحو في الإحسان فيما بين الناس: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) . وفي صحيح البخاري، قال سفيان بن عُيينة: ما سمّى الله المطر في القرآن إلا عذاباً، وتسمِّيه العرب الغيث. قلت: استثني من ذلك: (إنْ كَانَ بكُمْ أذًى مِنْ مَطرٍ) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 فإن المرادَ به الغيث مطلقا. وقال أبو عبيدة، إذا كان من العذاب فهو أمطرت، وإذا كان من الرحمة فهو مطرت. وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال: قال لي ابنُ عباس: احفظ عني: كل شيء في القرآن: (وما لَهم في الأرض مِنْ وَليّ ولا نَصير) ، فهو للمشركين. فأما المؤمنون فما أكثر أنصارهم وشفعاءهم. وأخرج سعيد بن منصور، عن مجاهد قال: كلّ طعام في القرآن فهو نصف صاع. وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن مُنَبه، قال: كل شيء في القرآن (قليل) ، و (إلا قَليل (فهو دون العشرة. وأخرج عن مسروق، قال: ما كان في القرآن: (على صلاتهم يحافظون) . (حافظوا على الصلوات) فهو على مواقيتها. وأخرج عن سفيان بن عُيينة، قال: كل شيء في القرآن: (وما يُدْرِيك) فلم يخبر به. وأما (أدراك) فقد أخبر به. وأخرج عنه، قال: كلّ (مكرٍ) في القرآن فهو عمل. وأخرج عن مجاهد، قال: ما كان في القرآن قتل ولعن، فإنما عُني به الكافر. وقال الراغب في مفرداته: قيل كل شيء ذكره الله في كتابه (وما أدراك) فسَّره. وكل شيء ذكره بقوله: وما يدريك تركه. وقد ذكر: (وَمَا أدْرَاكَ ما سِجّين) . (وما أدْراكَ ما عِلِّيُّون) ، ثم فَسر الكتاب لا السّجِّين، ولا العلّيون. وفي ذلك نكتة لطيفة. قال بعضهم: ليس في القرآن على كثرة منصوباته مفعول معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 والصواب أنَّ فيه عدةَ مواضع أعرب كل منها مفعولا معه: أحدها: (فأجْمِعُوا أمْرَكم وشركاءَكم) ، أي أجمعوا أنتم مع شركائكم أمركم. الثاني: (قُوا أنْفُسكم وأهْلِيكم نَاراً) . قال الكرماني في غرائب التفسير: هو مفعول معه أي مع أهليكم. الثالث: (لم يَكُنِ الَّذين كفَرُوا من أهْلِ الكتاب والْمُشْرِكين) . قال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: " والمشركين " مفعولاً معه من الذين. أو من الواو في كفروا. فائدة فيما قرئ بثلاثة أوجه: الإعراب أو البناه أو نحو ذلك. وقد رأيت تأليفاً لطيفاً لأحمد بن يوسف بن مالك الرُّعيني، سماه تحفة الأقران فيما قرئ بالثلاثة من حروف القرآن: (الحمدُ لله) : قرئ بالرفع على الابتداء، والنصب على المصدر، والكسر على إتباع الدال لللام في حركتها. (رَبّ العالمين) : قرئ بالجر على أنه نعت، وبالرفع على القطع بإضمار مبتدأ، وبالنصب عليه بإضمار فعْل، أو على النداء. (الرحمن الرحيم) : قرئ بالثلاثة. (اثنتا عَشْرَة عَيْناً) : قرئ بسكون الشين، وهي لغة الحجاز، وكسرها، وهي لغة تميم، وفتحها وهي لغة هوازن. (بين المرء) : قرئ بتثليث الميم، لغات فيه. (فبهتَ الذي كفَر) : قراءة الجماعة بالبناء للمفعول. وقرئ بالبناء للفاعل بوزن: ضَرَب، وحَسُن، وَعلِم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) : قرئ بتثليث الذال. (واتقوا الله الذى تَساءَلونَ بهِ والأرْحام) : قرئ بالنصب عطْفا على لفظ الجلالة، وبالخفض عطفاً على ضمير به، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي والأرحام مما يجب أنْ تتَّقوه، وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه. (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) : قرئ بالرفع صفة للقاعدون، وبالجر صفة للمؤمنين، وبالنصب على الاستثناء. (امْسَحوا برءوسِكم وأرْجلَكم) : قرئ بالنصب عطفاً على الأيدي، وبالجر على الجوار أو غيره، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف دَلّ عليه ما قبله. (فجزَاء مِثْل ما قَتَلَ من النَّعَم) : ق رئ بجر (مثل) بإضافة " جزاء " إليه، وبرفعه وتنوين (مثل) صفة له، وبنصبه مفعول لجزاء. (والله رَبِّنا) : قرئ بجر (ربنا) نعتاً أو بدلاً، وبنصبه على النداء، أو بإضمار أمدح، وبرفعه ورفع لفظ الجلالة مبتدأ وخبر. (ويَذَرَكَ وآلهَتَك) : قرئ برفع (يذرك) ، ونصبه، وجزمه للخفّة. (فأجْمِعوا أمْرَكم وثرَكاءَكم) : قرئ بنصب (شركاءَكم) مفعولاً معه، أو معطوفاً، أو بتقدير: وادعوا، وبرفعه عطفاً على ضمير (فأجْمعوا) ، أو مبتدأ خبره محذوف، وبجره عطفاً على (كم) في (أمركم) . (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) : قرئ بجر (الأرض) عطفاً على ما قبله، وبنصبها من باب الاشتغال. وبرفعها على الابتداء، والْخَبَرُ ما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 (موْعِدَكَ بِمَلْكنَا) : قرئ بتثليث الميم. (وحرامٌ على قرية أهْلَكنَاها) : قرئ بلفظ الماضي بفتح الراء وكسرها، وبلفظ الوصف بكسر الراء وسكونها مع فتح الحاء، وبسكونها مع كسر الحاء وحرام بالفتح وألف، هذه سبع قراءات. (كوكبٌ دُرِّى) : قرئ بتثليث الدال. (يس) : القراءة المشهورة بسكون النون. وقرئ شاذًّا بالفتح للتخفيف، والكسر لالتقاء الساكنين، وبالضم على النداء. (وَلاَتَ حِينَ مَنَاص) : قرئ بنصب حين ورَفْعه وجره. (سَوَاءً للسائلين) : قرئ بالنصب على الحال، وشاذًّا بالرفع، أي هو، وبالجر حَملاً على الأيام. (وقِيله ياربِّ) : قرئ بالنصب على المصدر، وبالجر، تقدم توجيهه، وشاذًّا بالرفع عطفاً على (عِلْمُ الساعةِ) . (ق) : القراءة بالسكون. وقرئ شاذّا بالفتح والكسر لِمَا مرَّ. (الحُبُكِ) : فيه سبع قراءات: ضم الحاء والباء، وكسرهما، وفتحهما، وضم الحاء وسكون الباء وضمها، وفتح الباء وكسرها، وسكون الباء وكسرها، وضم الباء. (والحبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحان) : قرئ برفع الثلاثة ونصبها وجرها. (وحُور عِين. كأمْثَال اللّؤْلؤ) : قرئ برفعهما وجرهما، وبنصبهما بفعل مضمر، أي يُزَوَّجُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 (فصل في قواعد مُهمّة يحتاج المفسّر إلى معرفتها) أولها: قاعدة في الضمائر: ألَّف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين، وأصْلُ وضع الضمائرِ للاختصار، ولهذا قام قوله: (أعَدّ الله لهم مَغْفِرَةً وأجراً عَظيما) ، مقام خمسة وعشرين كلمة، لو أتى بها مظهرة. وكذلك قوله: (وقُل للْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ) : قال مكي: ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها، فإنَّ فيها خمسة وعشرين ضميراً، ومِنْ ثَمَّ لا يعدل إلى المنفصل إلا بعد تعذر المتصل، بأن يقعَ في الابتداء، نحو: (إياك نعبد) ، أو بعد (إلا) : نحو: (أمر ألاَّ تَعْبدوا إلاَّ إيَّاه) . مرجع الضمير لا بد له من مرجع يعودُ إليه ملفوظا به سابقاً مطابقاً، نحو: (ونادَى نوح ابْنَه) ، (وعَصَى آدم رَبّه) . (إذا أخْرجَ يدَهُ لم يَكدْ يَرَاها) . أو متضمناً له، نحو: (اعْدِلُوا هو أقرب للتَقْوى) ، فإنه عائد على العَدْل المتضمّن له (اعدلوا) . (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) . أي المقسوم، لدلالة القسمة عليه، أو دالل عليه بالالتزام، نحو: (إنّا أنزلناه في لَيْلَةِ القَدْر) ، أي القرآن، لأن الإنزال يدلّ عليه التزاماً. (فمن عُفِيَ له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأدَاء إليه بإحسان) . فعُفي يستلزم عافياً أُعيد عليه الهاء من (إليه) . أو متأخر لفْظاً ورتبةً مطابقا، نحو: (فأوْجَس في نفسهِ خِيفةً موسى) . (ولا يُسْالُ عن ذنوبِهم المجرمون) . (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أو رتبة أيضاً في باب ضمير الشأن والقصة، ونعم، وبئس. والتنازع، أو متأخراً دالاًّ بالالتزام، نحو: (فلولا إذا بلغَتِ الْحُلْقوم) . (كلا إذا بَلَغتِ التَرَاقي) : أضمر الروح أو النفس، لدلالة الحلقوم والتراقي عليها. (حتى توارَتْ بالحجاب) ، أي الشمس لدلالة الحجاب عليها. وقد يدلّ عليه السياق فيضمر ثقة بفَهْمِ السامع، نحو: (كل مَنْ عليها فان) . (ما ترك على ظَهْرِها) ، أي الدنيا. (ولَأبَوَيْه) ، أي الميت، ولم يتقدم له ذِكر. وقد يعود على لفظِ المذكور دونَ معناه، نحو: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) ، أي معمَّر آخر. وقد يعود على بعض ما تقدم، نحو: (يوصيكم الله في أولادكم) ..، إلى قوله: (فإن كُنّ نساءً) . (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) ، بعد قوله: (والمطلقات) ، فإنه خاصّ بالرجعيات. والعائد عليه عامّ فيهنَّ وفي غيرهن. وقد يعود على المعنى، كقوله في آية الكلاَلة: (فإنْ كانتَا اثنتين) ، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه. قال الأخفش: لأن الكلاَلَة تَقع على الواحد والاثنين والجمع، فثنّى الضمير الراجعَ إليها حَمْلاً على المعنى، كما يعود الضمير جَمْعاً على " مَن " حمْلاً على معناها. وقد يعود على لفظ شيء، والمراد به الجنس من ذلك الشيء. قال الزمخشري كقوله: (إنْ يكن غنيًّا أو فَقِيراً فالله أوْلَى بهما) ، أي بجنْس الفقير والغني، لدلالة غنياً أو فقيراً على الجنسين، ولو رجع إلى المتكلم به لوحَّده. وقد يذكر شيئان ويعَاد الضمير إلى أحدهما، والغالب كونه الثاني نحو: (واستَعِينوا بالصبْر والصلاة وإنها لَكَبِيرة إلا على الْخَاشِعين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 فأعِيد الضمير للصلاة، وقيل للاستعانة المفهومة من (استعينوا) . و (جعل الشمْسَ ضياءً والْقَمر نُورا وقَدَّرَه منازِلَ) ، أي القمر، لأنه الذي يعلم به الشهور. (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، أي يرضوهما، فأفرد، لأن داعِيَ الرسول هو دَاعِي العباد، والمخاطب لهم شفاهاً. ويلزم من رِضاه رضا ربَّه تعالى. وقد يثنَّى الضمير ويعود على أحد المذكورين، نحو: (يخْرُجُ منهما اللؤْلؤُ والمرجَان) ، وإنما يخرج من أحدهما. وقد يجيء الضمير متصلاً بشيء، وهو لغيره، نحو: (ولقد خلَقْنَا الإنسانَ من سُلاَلةٍ من طين) ، يعني آدَم، ثم قال: (ثم جعَلْنَاهُ نُطفَةً) ، فهذا لولده، لأن آدَم لم يخلق من نُطْفة. قلت: هذا هو باب الاستخدام، وقد قدّمْنَاه، ومنه: (لا تَسألُوا عن أشياءَ إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال: (قد سألها) ، أي أشياء أخر مفهومة من لفظ أشياء السابقة. وقد يعود الضمير على مُلاَبس ما هو له، نحو: (إلًا عَشِيَّة أو ضُحَاها) ، أي ضحى يومها لا ضحى العشيَّة نفسها، لأنه لا ضُحى لها. وقد يعود على غير مشاهَدٍ محسوس، والأصلُ خلافه، نحو: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فضمير له عائد على الأمر، وهو إذ ذاك غَيْر موجود، لأنه لما كان سابقا في عِلْمِ الله كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود. قاعدة في عود الضمير الأصلُ عَوْده على أقرب مذكور، ومِنْ ثَمّ أخّرَ المفعول الأول في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 ليعودَ الضمير عليه لقرْبهِ، إلا أنْ يكونَ مضافاً ومضافاً إليه، فالأصلُ عَوْده للمضاف، لأنه المحدَّث عنه، نحو: (وإنْ تعدُّوا نعمتَ الله لا تحْصوها) . وقد يعودُ على المضاف إليه، نحو: (إلى إلهِ موسى وإني لأظنه كاذباً) . واختلف في: (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، فمنهم مَنْ أعاده على المضاف، ومنهم مَنْ أعاده إلى المضاف إليه. قاعدة الأصل توافق الضمائر في المرجع حذَراً من التشتّت، ولهذا لما جوَّزَ بعضهم في: (أنِ اقْذِفِيه في التابوتِ فاقْذفيه في الْيَمِّ) ، أنَّ الضمير في الثاني للتابوت وفي الأول لموسى عابه الزمخشري، وجعله تنافُراً مُخْرِجا للقرآن عن إعجازه، فقال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لا تؤدي إليه من تنافُرِ النظْمِ الذي هو أمّ إعجاز القرآن، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. وقال في: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) . الضمائر لله، والمراد بتعزيره تعزير دينه ورسله، ومَنْ فرَّق الضمائر فقد أبعد. وقد يخرج عن هذا الأصل، كما في قوله: (ولا تسْتَفْتِ فيهم منهم أَحَداً) ، فإنَّ ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف. (ومنهم) لليهود، قاله ثعلب والمبرد. ومثله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) . قال ابن عباس: ساء ظَنًّا بقومه وضاق ذَرْعاً بأضيافه. وقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الآية فيها اثنا عشر ضميراً كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ضمير: (عليه) فلصاحِبه، كما نقله السهيلي عن الأكثرين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم تنزل عليه السكينة، وضمير (جعل) له تعالى. وقد يخالَف بين الضمائر حذَراً من التنافر، نحو: (منها أربعةٌ حُرُمٌ) ، الضمير للاثني عشر، ثم قال: (فلا تظلِموا فيهنَّ أنْفسَكم) : أتى بصيغة ضمير الجمع مخالفاً لعَوْدِه على الأربعة. ضمير الفصل ضمير بصيغة المرفوع مطابق لما قبله، تكلّما وخطاباً وغيبة، إفرادا وغيره. وإنما يقَع بعد مبتدأ أو ما أصلُه المبتدأ وقَبْلَ خبرٍ كذلك، اسماً، نحو: (وأولئكَ هم الْمفْلحون) . (وإنا لنَحْن الصَّافون) . (كنْتَ أنْتَ الرقيبَ عليهم) . (تَجِدوه عِنْد الله هو خَيْرًا) . (إنْ تَرَن أنَا أقَلَّ منك مالاً) . (هؤلاء بناتي هنَّ أطْهَر لكم) . وجوَّز الأخفش وقوعَه بين الحال وصاحبها، وخرَّج عليه قراءة: (هنَّ أطهَر لكم) - بالنصب. وجوَّز الجرجاني وقوعَه قبل مضارع، وجعل منه: (إنّه هو يبْدِئُ ويعِيد) . وجعل منه أبو البقاء: (ومَكر أولئكَ هو يَبور) . ولا محلّ لضمير الفصل من الإعراب. وله ثلاث فوائد: الإعلام بأنّ ما بعده خبر لا تابع. والتأكيد، ولهذا سماه الكوفيون دعامة، لأنه يدْعَم به الكلام، أي يَقْوَى ويؤكد، وبَنَى عليه بعضهم أنه لا يجمع بينه وبينه، فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل، والاختصاص. وذكر الزمخشري الثلاثة في: (وأولئك المفلحون) ، فقال: فائدته الدلالة على أنَّ ما بعده خبر لا صِفَة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دونَ غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 ضمير الشأن والقصة ويسمى ضمير المجهول، قال في المغني: خالف القياس من خمسة أوجه: أحدها عَوْده على ما بعده لزوماً، إذ لا يجوز للجملة المفسّرة له أن تتقدَّم عليه، ولا شيء منها. والثاني أنَّ مفسّره لا يكون إلا جملة. والثالث أنه لا يتبع بتابع فلا يؤكد، ولا يُعطف عليه، ولا يبْدَل منه. والرابع أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو ناسخ. والخامس أنه ملازمٌ للإفراد، ومن أمثلته: (قلْ هو الله أحَد) . (فإذا هِيَ شاخِصَةٌ أبصارُ الذين كفروا) . (فإنّها لا تَعْمَى الأبصارُ) . وفائدته الدلالةُ على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه، بأن يذكر أولاً مبْهَماً ثم يُفَسر. تنبيه: قال ابن هشام: متى أمكن الحَمْلُ على غير ضمير الشأن فلا ينبغي أن يُحْملَ عليه، ومِنْ ثَمَّ ضعف قول الزمخشري في: (إنَّهُ يَرَاكم هُوَ وقَبيلهُ) : إن اسم (إن) ضمير الشأن، والأوْلى كونه ضمير ْالشيطان، ويؤيده قراءة: (وقَبِيلَه) بالنصب، وضمير الشأن لا يعطف عليه. قاعدة جمع العاقلات لا يعودُ عليه الضمير غالباً إلا بصيغة الجَمْع، سواء كان للقلَّة أو للكثرة، نحو: (والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ) ، (والمطلَقَاتُ يَتَرَبَّصْن) . وورد الإفراد في قوله: (وأزْوَاجٌ مُطَهَّرة) ، ولم يقل مطهرات. وأما غَيْر العاقل فالغالب في جمع الكثرة الإفراد، وفي القلّة الجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 وقد اجتمعا في قوله: (إنَّ عِدَّةَ الشّهُورِ عند الله اثْنَا عشَر شَهْراً في كتاب الله) . . . إلى أن قال: (منها أرْبعَة حُرُم) ، فأعاد (منها) بصيغة الإفراد على الشهور وهي للكثرة، ثم قال: (فلا تظْلموا فِيهنَّ أنْفُسَكم) ، فأعاده جمعاً على (أربعة حُرُم) وهي للقلّة. وذكر الفراء لهذه ال قاعدة سرًّا لطيفاً، وهو أنَّ المميّز مع جمع الكثرة - وهو ما زاد على العشرة - لما كان واحداً وحّد الضمير، ومع القلّة، وهو العشرة وما دونها، لمّا كان جمعاً جمع الضمير. قاعدة إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللَّفْظِ والمعنى بُدِئَ باللفظ ثُمَّ بالمعنى، هذا هو الجادّة في القرآن، قال تعالى: (ومِنَ الناس مَنْ يقول) ، ثم قال: (وما هم بمؤمنين) . أفردَ أوّلاً باعتبار اللفظ، ثم جمع باعتبار المعنى. وكذا: (ومِنْهمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ وجَعلْنَا على قلوبهم أكِنةً) . (ومنهم مَنْ يَقُول ائْذَنْ لي ولا تفْتِنِّي ألا في الفتنة سقَطوا) . قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجئ في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) ، فأنَّثَ (خَالِصَةٌ) حَمْلاً على معنى ما ثم راعى اللفظَ فذكّر فقال: (وَمُحَرَّمٌ) . قال ابن الحاجب في أماليه: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى. وإذا حمل على المعنى ضعف الحَمْل بعده على اللفظ، لأن المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف. وقال ابن جنّي في المحتسب: لا تجوز مراجعةُ اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى، وأورد عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) ، إلى قوله: (حتى إذا جاءنا) ، فقد راجع اللفظَ بعد الانصراف عنه إلى المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وقال محمود بن حمزة في كتاب العجائب: ذهب بعض النحويين إلى أنه لا يجوز الحَمْل على اللفظ بعد الحَمْل على المعنى، وقد جاء في القرآن بخلاف ذلك، وهو قوله: (خالدِين فيها أبَداً قد أحسنَ الله له رِزْقاً) . وقال ابن خالويه في كتاب " ليس "، القاعدة في (من) ونحوه الرجوع من اللفظ إلى المعنى، ومن الواحد إلى الجمع، ومن المذكر إلى المؤنث، نحو: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا) ، و (منْ أسْلَم وجْهَه للهِ وهو محسن) ، إلى قوله: (ولا خَوْف عليهم ولا هم يحزنون) ، أجمع على هذا النحويون. قال: وليس في كلام العرب ولا في شيء من العربية الرجوع من المعنى إلى إلى اللفظ، إلا في حرف واحد استخرجه ابْن مجاهد، وهو قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) ، وَحَّد في (يؤمن) و (يعمل) و (يدخله) ، وجمع في قوله: (خالدين) ، ثم وَحَّدَ في قوله: (أحسن الله له رِزْقاً) ، فرجع بعد الجمع إلى التوحيد. قاعدة التذكير والتأنيث التأنيث ضربان: حقيقي وغيره، فالحقيقيُّ لا تُحذَفُ تاء التأنيث من فعله غالباً إلا إنْ وقع فَصْلٌ، وكلما كثر الفصل حسنَ الحذف، والإثبات مع الحقيقي أولى، ما لم يكن جمعاً. وأما غَيْر الحقيقي فالحذفُ فيه مع الفَصْل أحسن نحو: (فمنْ جاءَه موعِظة مِنْ ربِّه) ، (قد كانَ لكم آية) ، فإن كثر الفَصْل ازداد حسناً، نحو، (وأخذ الّذِين ظَلَموا الصّيحةُ) ، والإثبات أيضاً حسن، نحو: (وأخذت الذين ظَلَموا الصّيحةُ) ، فجمع بينهما في سورة هود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 وأشار بعضهم إلى ترجيح الحَذْفِ، واستدلّ عليه بأنَّ الله قدَّمه على الإثبات حيث جمع بينهما. ويجوز الحذف أيضاً مع عدم الفَصْل حيث الإسناد إلى ظاهره، فإن كان إلى ضميره امتنع. وحيث وقع ضميرٌ أو إشارة بين مبتدأ وخبر أحدهما مذَكَّر والآخر مؤنث، جاز في الضمير والإشارة التذكير والتأنيث، كقوله تعالى: (هَذَا رَحْمَة مِنْ رَبي) ، فذكّر والخبر مؤنث لتقدم السَّدِّ وهو مذَكّر. وقوله تعالى: (فذَانكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ) . ذكَّر والمشار إليه اليد والعصا، وهما مؤنثان لتذكير الخبر وهو برهانان. وكلّ أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير والتأنيث حَمْلاً على الجماعة، كقوله: (أعْجازُ نخْلٍ خاويةٍ) ، و (أعجاز نَخْل منْقَعِر) ، (إنَّ البَقَرَ تشابَه علينا) . وقرئ: تشابهت. (السماءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) ، (إذا السماءُ انفطرَتْ) . وجعل منه بعضُهم: (جاءَتْها رِيح عاصِفٌ) . (ولسليمان الريح عاصفةً) . وقد سئل، ما الفرق بين قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) . وقوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ؟ وأجيب بأنّ ذلك لوجهين: لفظي، وهو كثرةُ حروف الفاصل في الثاني. والحذف مع كثرة الحواجز أكثر. ومعنويّ، وهو أن " مَنْ " في قوله: (مَنْ حقَّتْ) راجعة إلى الجماعة، وهي مؤنثةٌ لفظاً، بدليل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) ، ثم قال: (ومنهم من حقَّتْ عليه الضلالة) : أي من تلك الأمم، ولو قال: ضلّت لتعيَّنتِ التاء، والكلامان واحد، وإذا كان معناهما واحداً كان إثبات التاءِ أحسن مِنْ تَرْكها، لأنها ثابتة فيما هو من معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وأما: (فريقاً هَدى) الآية. فالفريقُ مذكّر، ولو قال: فريقاً ضلّوا لكان بغير تاء، وقوله: (حَق عليهم الضلالةُ) في معناه، فجاء بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب أن يَدَعُوا حُكْمَ اللفظِ الواجب في قياس لغتهم إذا كان في مرتبةِ كلمةٍ لا يجب لها ذلك الحكم. قاعدة في التَّعريف والتَّنكير اعلم أنَّ لكل منهما مقاماً لا يليقُ بالآخر. أما التنكير فله أسباب: أحدها: إرادةُ الوحدة، نحو: (وجاء رَجُل مِنْ أقصا المدينة يسْعَى) ، أي رجل واحد. و (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) . الثاني: إرادة النوع، نحو: (هذا ذكْر) ، أي نوع من الذكر. (وعلى أبصارِهم غشاوَة) ، أى نوع غريب من الغِشَاوة لا يتعارفه الناس، بحيث غطّى ما لا يُغَطيه شيء من الغشاوات. (ولتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ الناسِ على حياةٍ) ، أي نوع منها، وهو الازدياد في المستقبل، لأن الحِرْص لا يكون على الماضي ولا على الحاضر. ويحتمل الوحدة والنوعية معاً قَوْلُه تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ، أي كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء، وكلّ فردٍ من أفراد الدواب من فرد من أفراد النّطف. الثالث: التعظيم، بمعنى أنه أعظم من أنْ يعينَ ويُعرف، نحو: (فأذَنُوا بحَرْب من الله) ، (ولهم عَذَاب أليم) . (وَسَلاًم علَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) . (سلام على إبراهيم) . (أنَّ لَهمْ جَنَّاتٍ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 الرابع: التكثير، نحو: (أئنَّ لَنَا لأجْراً) ، أى وافراً جزيلاً. ويحتمل التعظيم والتكثير معاً: (وإنْ يكذِّبوكَ فقد كُذبَتْ رُسل من قبلكَ) ، أي رسل عظام ذَوو عدَد كثير. الخامس: التحقير، بمعنى انحطاط شأنه إلى حَدٍّ لا يمكن أن يعرف، نحو: (إنْ نَظنُّ إلاَّ ظَنًّا) ، أي ظنًّا حقيراً لا يُعبَأ به، وإلا اتبعوه. لأن ذلك دَيْدَنهم، بدليل: (إنْ يتّبِعونَ إلا الظَّنَّ) . (مِنْ أَيِّ شيءٍ خَلَقه) ، أي من شيء حقير مهين، ثم بيّنَه بقوله: (مِنْ نطْفَةٍ خَلَقه) . السادس: التقليل، نحو (ورِضْوان من الله أكبر) ، أى رضوان قليل منه أكبر من الجنّات، لأنه رأس كل سعادة: قليل منك يكفيني ولكن ... قَلِيلُك لا يُقالُ له قليل وجعل منه الزمخشري: (سبحان الذي أسْرَى بعَبْدِه ليلاً) ، أي بعض ليل. وأُورِد عليه أنَّ التقليل رد الجنس إلى فردٍ من أفراده، لا تنقيص فرد إلى جزء من أجزائه. وأجاب في عروس الأفراح بأنَّا لا نُسلّم أن الليلَ حقيقة في جميع الليلة، بل كل جزء من أجزائها يسمّى ليلاً. وعدّ السكاكي من الأسباب ألا يعرف من حقيقته إلا ذلك، وجعل منه أنْ تقصدَ التجاهلَ وأنكَ لا تعرف شخصه، كقوله: هل لكم في حيوان على صورة إنسان يعمل كذا، وعليه من تجاهل الكفار: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، كأنهم لا يعرفونه. وعدّ غيره منها قَصْد العموم بأن كانت في سياق النفي، نحو: (لا رَيْبَ فيه) . (فلا رَفَثَ) . الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 أو الشرط، نحو: (وإنْ أحد مِنَ المشركين استجارَكَ) . والامتنان، نحو: (وأنْزَلْنَا مِنَ السماءَ ماءً طَهوراً) . وأما التَّعريف فله أسباب، فبالإضمار، لأنَّ المقام مقام التكلم أو الخطاب أو الغيبة. وبالعَلمية لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختصّ به، نحو: (قل هو الله أحد) . (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) . أو لتعظيم أو إهانة حيث علمه يقتضي ذلك، فمن التعظيم ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل لما فيه من المدح والتعظيم، ولكونه صفوة الله، أوْ سريّ الله، كما قدمنا في حرف الألف. ومن الإهانة قوله: (تَبتْ يَدَا أبي لَهَب) ، وفيه أيضاً نكتة أخرى، وهي الكناية به عن كونه جهنمياً. وبالإشارة لتمييزه أكملَ تمييزٍ بإحضارِه في ذهن السامع حسًّا، نحو: (هذا خَلْق الله فأَرونِي ماذا خلَق الذين مِنْ دونه) . وللتعريض بغباوة السامع، حتى إنه لا يتميز له الشيء إلا بإشارة الحسِّ. وهذه الآية تصلح لذلك. ولبيان حاله في القرب والبعد، فيؤْتَى بالأول بنحو هذا، وفي الثاني بنحو ذلك وأولئك. ولقَصْد تحقيره بالقرب: (أهَذَا الذِي يَذْكرُ آلِهَتَكم) . (أهذَا الذي بعَثَ الله رسولاً) . (ماذا أَرادَ الله بهذَا مَثَلاً) ، وكقوله تعالى: (وما هَذِهِ الحياة الدّنْيَا إلا لَهْو ولعِب) . ولقصد تعظيمه بالبُعْد، نحو: (ذلك الكتاب لا رَيْبَ فيه) ، ذهاباً إلى بُعْدِ دَرجته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وللتنبيه بعد ذِكْر المشارِ إليه بأوصافٍ قبله على أنه جدير بما يرد بعده من أجلها، نحو: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وبالموصولة لكراهةِ ذِكْرِه بخاصّ اسمه، إمّا سَتْراً عليه، أو إهانة، أو لغير ذلك، فيؤْتَى بالذي ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول، نحو: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) . (وراوَدَتْه التي هو في بيتها) . وقد تكون لإرادةِ العموم، نحو: (إنَّ اتَذِينَ يَسْتَكبِرون عن عبادتي) الآية. وللاختصار، نحو: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) ، أي قولهم إنه آدر، إذ لو عدّد أسماء القائلين لطال، وليس للعموم، لأن بني إسرائيل كلهم لم يقولوا في حقه ذلك. وبالألف واللام إشارة إلى معهودٍ خارجيّ أو ذِهني أو حضوريّ. وللاستغراق حقيقة أو مجازًا، أو لتعريف الماهية. وقد مرَّتْ أمثلتها في حروف المعجم. وبالإضافة لكلونها أخصر طريق. ولتعظيم المضافِ، نحو: (إن عِبَادِي ليس لكَ عليهم سلْطان) . (ولا يَرْضَى لعِبَادِه الكفْرَ) ، أي الأصفياء في الآيتين، كما قال ابن عباس وغيره. ولقصد العموم نحو: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عن أمْرِه) . أي كل أمر لله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 فائدة سئلتُ عن الحكمة في تنكير (أَحَدٌ) وتعريف (الصَّمَدُ) في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . وألّفت في جوابه تأليفاً مودَعاً في الفتاوى، وحاصله أن في ذلك أجوبة: أحدها: أنه نكر للتعظيم، والإشارة إلى أنَ مدلوله - وهو الذات المقدسة - غير ممكن تعريفها والإحاطة بها. الثاني: أنه لا يجوز إدخال (أل) ، كغير وكل وبعض، وهو فاسد، فقد قرئ: قل هو الله الواحد الصمد. حكى هذه القراءة أبو حاتم في كتاب الزينة عن جعفر بن محمد. الثالث: مما خطر لي أنَّ هو مبتدأ واللَه خبر، وكلاهما معرفة، فاقتضى الحَصْر، فعرِّفَ الجزآن في: (اللَّهُ الصَّمَدُ) ، لإفادة الْحَصْر ليطابقَ الجملة الأولى، واستغني عن تعريف (أَحَدٌ) لإفادة الحصر دونه، فأتي به على أصله من التنكير، على أنه خبر ثان. وإن جعل الاسْم الكريم مبتدأ و (أَحَدٌ) خبر ففيه من ضمير الشأن ما فيه من التفخيم والتعظيم، فأتي بالجملة الثانية على نحو الأولى، بتعريف الجزأين للحَضْر تفخيمًا وتعظيمًا. قاعدة أخرى تتعلق بالتعريف والتنكير إذا ذكر الاسْم مرتين فله أربعة أحوال: لأنه إمَّا أنْ يكونا معرفتين، أو نكرتين، أو الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس، فإنْ كانا معرفتين فالثاني هو الأوَّلُ غالباً، دلالة على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة، نحو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) . (وَقِهمُ السيئاتِ ومن تَقِ السيئَاتِ) . (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) . وإن كانا نكرتين، فالثاني غَيْر الأول غالباً، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً، نحو: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ، فإن المرادَ بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولية، وبالثالث الشيخوخية. وقال ابن الحاجب: في قوله تعالى: (غُدُوُّها شَهر ورَوَاحُها شَهْر) . الفائدة في إعادةِ لفْظِ الشهر الإعلام بمقدار زَمَنِ الغدوّ وزمن الرواح. والألفاظ التي تأتي مبيّنة للمقادير لا يحسنُ فيها الإضمار، ولو أضْمِر فالضمير إنما يكونُ لما تقدّم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب العدولُ عن المضمر إلى الظاهر. وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . فالعسْرُ الثاني هو الأول، واليسر الثاني غير الأول، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الآية: " لن يغلب عُسْر يسرَين ". وإن كان الأول نكرة والثاني معرفة، فالثاني هو الأولُ حَمْلاً على العهد. نحو: (أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) . (فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) . (إلى (صِرَاطٍ مستقيم. صِرَاطِ الله) . (مِنْ سَبِيل. إنّمَا السبيلُ) . وإن كان الأول معرفة والثاني نكرة، فلا يُطلَق القول، بل يتوقف على القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير، نحو: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) . (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) . (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 قال الزمخشري: المراد بالهدى جميع ما آتاه الله من الدين والمعجزات والشرائع، وهدى الإرشاد. وتارة تقوم قرينةٌ على الاتحاد: نحو: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا) . تنبيه: قال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح وغيره: الظاهر أنَّ هذه القاعدة غَيْرُ محرّرة، فإنها منتَقَضةٌ بآيات كثيرة، منها في القِسْم الأول: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) ، فإنهما معرفتان. والثاني غير الأول، فإنَّ الأول العمل والثاني الثواب. (أنَّ النَّفْس بالنفس) ، أي القاتلة بالمقتولة. وكذا سائر الآيات: (الحرّ بالحرِّ) . (هل أتى على الإنسان حين من الدَّهْر) ، ثم قال: (إنَّا خلقْنَا الإنسانَ من نُطْفَة) ، فإن الأول آدم، والثاني ولده. (وكذلِكَ أنْزَلْنا إليك الكتاب فالذين آتَيْنَاهم الكتابَ يُؤْمِنون به) . فإنَّ الأولَ القرآن، والثاني التوراة والإنجيل. ومنها في القسم الثاني: (وهوَ الَّذي في السماء إلهٌ وفي الأرضِ إله) . (يسألونكَ عن الشَّهْرِ الحرام قتالٍ فيه قُلْ قِتَال فيه كبِير) ، فإنَّ الثاني فيهما هو الأول وهماَ نَكرتان. ومنها في القسم الثالث: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) . (ويُؤْتِ كلَّ ذِي فَضْل فَضْلَه) . (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) . (ليزْدَادوا إيماناً مع إيمانِهم) . (زِدْنَاهم عذاباً فَوْقَ العذَابِ) . (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 فإن الثاني فيهما غير الأول. وأقول لا انتقاضَ بشيء من ذلك عند التأمل، فإنَّ اللام في الإحسان للجنس فيما يظهر، وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة، وكذا آية النّفْس والحر، بخلاف آية العسر، فإنَّ " أل " فيها إما للعَهْد أو للاستغراق كما يفيد الحديث، وكذا آية الظن لا نسلم أنَّ الثاني فيها غير الأول، بل هو عينه قطعاً، إذ ليس كلّ ظن مذموماً، كيف وأحكام الشريعة ظنية، وكذا آية الصلح لا مانع من أن يكونَ المراد منها الصلح المذكور، وهو الذي بين الزوجين. واستحباب الصلح في سائرِ الأمور، ويكون مأخوذاً من السنَّة أو من الآية بطريق القياس، بل لا يجوز القول بعموم الآية، وأنَّ كلّ صلح خير، لأنَ ما أحلّ حراماً من الصلح، أو حرًم حلالاً فهو ممنوع، وكذا آية القتال ليس الثاني فيها عَيْن الأول بلا شك، لأن المراد بالأول المسؤول عن القتال الذَي وقع في سَرِيّة ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة، لأنه سبب نزول الآية. والمراد بالثاني جنسن القتال لا ذاك بعينه. وأما آية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ، فقد أجاب عنها الطيبي بأنها من باب التكرير لإفادة أمْر زائد، بدليل تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) . ووجه الإطناب في تنزيهه سبحانه عن نِسبةِ الولد إليه. وشرط القاعدة ألاَّ يقصد التكرير. وقد ذكر الشيخ بهاء الدين في آخر كلامه: أن المراد بذكر الاسم مرتين كونه مذكوراً في كلامٍ واحد أو كلامين بينهما تواصل بأن يكون أحدهما معطوفاً على الآخر، أوْ لَهُ به تعلّق ظاهر وتناسب واضح، وأن يكون من متكلم واحد، ودفع بذلك إيراد آية القتال، لأن الأول فيها محكيّ عن قول السائل، والثاني محكيّ من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 قاعدة في الإفراد والجمع من ذلك السماء والأرض: حيث وقع في القرآنِ ذكر الأرض فإنها مفردة ولم تجمَع بخلاف السماوات، لثقل جمعها وهو أرَضون، ولهذا لما أُرِيد ذِكْر جميع الأرض قال: (ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهنَّ) . وأما السماء فذُكرت تارةً بصيغة الجمع، وتارة بصيغة الإفراد لنكتةٍ تليقُ بذلك المحلّ، كما أوضحتُه في أسرار التنزيل. والحاصل أنه حيث أريد العدد أتيَ بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة، نحو: (سَبَّحَ لله ما في السماوات) ، أي جميع سكانها على كثرتهم، (تُسَبِّحُ له السماوات) ، أي كلّ واحدة على اختلاف عددها. (قل لا يَعْلَم مَنْ في السماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ الله) ، إذ المراد نَفْيُ علم الغيب عن كلِّ مَنْ هو في واحدة من السماوات. وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد، نحو: (وفي السماء رزْقُكم) . (أأمنْتم مَنْ في السماءِ أنْ يَخْسفَ بكم الأرض) ، أي من فوقكم. ومن ذلك الريح حيث ذكرت مجموعة ومفردة، فحيث ذُكِرت في سياقِ الرحمة جمعت، أو في سياق العذاب أفردت. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبيّ بن كعب، قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب. ولهذا ورد في الحديث: " اللهم اجعلها رِياحاً ولا تجعلها رِيحاً ". وذكر في حكمةِ ذلك أنَّ رِياحَ الرحمة مختلفة الصفات والهبات والمنافع، وإذا هاجَتْ منها رِيح أثير لها من مقابلها ما يكسر سَوْرتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفَعُ الحيوان والنبات، فكانت في الرحمة رياحاً، وأما في العذاب فإنها تأتي من وَجْهٍ واحد، ولا معارض لها ولا دافع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وقد خرَج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: (وَجَرَينَ بهم بِرِيح طيِّبَة) . وذلك لوجهين: لفظي، وهو المقابلة بقوله: (جاءتها ريحٌ عاصف) . ورُبَّ شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالاً، نحو: (ومَكَروا ومَكَر الله) . ومعنوي، وهو أنَّ تمامَ الرحمةِ هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها. فإنَ السفينةَ لا تسير إلا بريح واحدة من وجْهٍ واحد، فإذا اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك، والمطلوب هنا ريح واحدة، ولهذا أكّد هذا المعنى بوصفها بالطيب، وعلى ذلك أيضاً جرى قوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) . وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأنَّ سكونَ الريح عذابٌ وشدة على أصحاب السفن. ومن ذلك إفراد النور وجَمْع الظلمات، وإفراد سبيل الحق وجمع سبيل الباطل، في قوله: (ولا تَتَّبِعوا السّبلَ فتَفرًقَ بكم عن سبيله) ، لأنَّ طريق الحقّ واحدة، وطرق الباطل متشعبة متعددة، والظلمات بمنزلة طرق الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما، ولهذا وحّد وَلِيّ المؤمنين، وجمع أولياءَ الكفار لتعدّدهم في قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) . ومن ذلك إفراد النار حيث وقعت والجنة حيث وقعت مجموعةً ومفردة، لأن الجنان مختلفة الأنواع، فحسُنَ جمعها، والنار مادة واحدة، ولأن الجنة رحمة والنار عذاب، فناسب جَمْعَ الأولى وإفراد الثانية على حدِّ الرياح والريح. ومن ذلك إفراد السمع وجمع البَصر، لأنَّ السمْعَ غلب عليه المصدرية. فأفرد، بخلاف البصَر، فإنه اشتهر في الجارحة، ولأن متعلّق السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلقه. ومن ذلك إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 وحكمته كثرة الشفعاءِ في العادة وقلَّة الصديق. قال الزمخشري: ألاَ ترى أنَّ الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وإن لم يسبق له بأكَثرهم معرفة. وأما الصديق فأعزّ من بَيْضِ الأنوق. ومن ذلك الألباب لم يقع إلا مجموعاً، لأن مفرده ثقيل لفظاً. ومن ذلك مجيء المشرق والمغرب بالإفراد وبالتثنية وبالجمع، فحيث أفردا. فاعتباراً للجهة، وحيث ثنّيا فاعتبارا لمشرق الصيف والشتاء ومغربهما، وحيث جُمعَا فاعتبار لتعدّد المطالع في كل فصل من فصول السنة. وأما وَجْه اختصاص كل موضع بما وقع فيه، ففي سورة الرحمن ورد بالتثنية، لأنَّ سياقَ السورة سياق المزدوجين، فإنه سبحانه ذكَر أولاً نَوْعَي الإيجاد وهما الخَلق والتعليم، ثم ذكر سراجي العالم: الشمس والقمر، ثم نَوْعي النبات: ما كان على ساق وما لا ساق له، وهما النّجم والشجَر، ثم نوعي السماء والأرض، ثم نوعي العدل والظلم، ثم نَوْعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والرياحين، ثم نوعي المكلّفين وهما الإنس والجان، ثم نوعي البحر: العذب والملح، فلهذا حَسُن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجمعا في قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) . وفي سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة والعظمة. فائدة حيث ورد البارّ مجموعاً في صفة الآدميين قيل: أبرار، وفي صفة الملائكة قيل برَرَة، ذكره الراغب، ووجَّهه بأن الثاني أبلغ، لأنه جَمع بارّ، وهو أبلغ من "بر" مفرد الأول. وحيث ورد الأخ مجموعا في النَّسَب قيل إخوة، وفي الصداقة قيل إخوان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 قاله ابن فارس وغيره. وأُورِد عليه في الصداقة: (إنما المؤمنون إخوة) ، وفي النسب: (أو إخْوانهنَّ أوْ بَني إخْوَانهنَ أوْ بني أخواتهنَ) . فائدة ألّف أبو الحسن الأخفش كتاباً في الإفراد والجمع في القرآن ذكر فيه جَمْعَ ما وقع في القرآن مفرداً، ومفرد ما وقع فيه جمعاً، وأكثره من الواضحات. وهذه أمثلة مِنْ خَفِيّ ذلك: المَن: جمع لا واحد له. والسَّلْوَى: لم يسمع له بواحد. النصارى: قيل جمع نصراني، وقيل نصير كنديم، وقَبيل. العَوَان: جمعه عون. الهدَى: لا واحدَ له. الإعصار: جمعه أعاصير. الأنصار: واحده نصير، كشريف وأشراف. الأزلام: واحدها زلم، ويقال زلم، بالضم. مِدْرار: جمعه مَدَارير. أساطير: واحدها أسطورة، وقيل أسطار جمع سَطْر. الصّور: قيل جمع صورة، وقيل واحد الأصوار. فرَادى: جمع أفراد، جمع فرد. وقِنْوان: جمع قِنْو. وصنوان: جمع صنو. وليس في القرآن جمع ومثنى بصيغة واحدة إلا هذان ولفظ ثالث لم يقع في القرآن، قاله ابن خالويه في كتاب ليس: الحوايا جمع حاوية، وقيل حاوياء. نشر جمع نَشور. عِضين وعِزين جمع عِضه وعِزه. المثاني جمع مثنى. تارة جمعها تارات، وتيَر. أيقاظ جمع يَقظ. الأرائك جمع أريكة. سري جمعه سِريان، كخصي وخصيان. آناء الليل جمع إنَا، بالقصر كمِعَى. وقيل إفى كقرد، وقيل إنوة كفِرقة. الصيَاصي جمع صِيصية. مِنْسأة جمع مناسي. الحَرور جمعه حُرور بالضم. غَرَابيب جمعه غِربيب. أتراب جمع ترب. الآلاَء: جمع إلَى كمِعَى، وقيل ألَى كقَفَا، وقيل إلْي كقِرْد، وقيل ألو. التراقي: جمع تَرْقُوة بفتح أوله. الأمشاج: جمع مَشِج. ألفافاً: جمع لِف - بالكسر. العِشار: جمع عُشر. الخُنس: جمع خانسة، وكذا الكنس. الزبانية: جمع زبنية، وقيل زابن، وقيل زباني. أشتاتا: جمع شتّ وشتيت. أبابيل: لا واحد له، وقيل واحده إبّوْل مثل عِجَّول. وقيل إبّيل مثل إكليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 فائدة ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلا ألفاظ العدد: مثنى، وثلاث ورباع. ومن غيرها طوى فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور. ومن الصفات أخر. قال تعالى: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . قال الراغب وغيره: هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف واللام، وليس له نظير في كلامهم، فإن " أفعل " إما أن يذكر معه " من " لفظاً أو تقديراً، فلا يثَنَّى ولا يجمع، ولا يؤنث، أو يحذف منه " من " فتدخل عليه الألف واللام ويثنى ويجمع، وهذه اللفظة من بين أخواتها جُوز فيها ذلك من غير الألف واللام. وقال الكرماني في الآية المذكورة: لا يمنع كونها معدولة من الألف واللام كونها وصفاً لنكرة، لأن ذلك مقدر من وَجْه غير مقدر من وَجْه. قاعدة مقابلة الْجَمعِ بالجمع تارة تقتضي مقابلةَ كلّ فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله: (واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهم) ، أي استغشى كلّ منهم ثَوبَه. (حرِّمَتْ عليكم أُمَّهاتكم) ، أي على كل من المخاطبين أمّه. (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، أي كل في أولاده. (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) ، أي كل وأحدة ترضِع ولدها. وتارة يقتضي ثبوتَ الجمع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه، نحو: (فاجْلدوهم ثمانين جَلْدَة) . وجعل منه الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (وبَشَرِ الًذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات أنً لهم جنّات) . وتارة يحتمل الأمرين، فيحتاج إلى دليل يعيِّن أحدهما. وأما مقابلة الجمع بالفرد فالغالب ألا يقتضي تعميم الفرد، وقد يقتضيه كما في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 المعنى على كلّ واحدٍ لكل يوم طعام مسكين. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، لأنه على كل واحد منهم ذلك. قاعدة ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه من ذلك الخوف والخشية، لا يكاد اللغوي يفرِّق بينهما، " لا شك أنَّ الخشية أَعْلَى منه، وهي أشدّ الخوف، فإنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية، أي يابسة، وهو فَوات بالكلية. والخوف من قولهم ناقة خَوْفاء، أي بها داء وهو نَقْص، وليست بفوات، ولذلك خصت الخشية بالله في قوله: (يَخْشَوْن رَبَّهم ويَخَافونَ سوءَ الحسَابِ) . وفُرق بينهما أيضاً بأنَّ الخشية تكون من عظم المخشى، وإن كان الخاشي قويًّا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً. ويدلّ لذلك أنَّ الخاء والشين والياء في تقاليبها تدُلُّ على العظمة، نحو: شيخ للسيد الكبير. وخيش لما غَلُظ من اللباس، ولذا وردت الخشية غالباً في حقِّ الله، (مِنْ خَشْيةِ الله) . (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . وأما (يخافون رَبهم مِنْ فَوْقهم) ففيه نكتة لطيفة، لأنه وصف الملائكة، ولما ذكر قوتهم وشدة خلقهم عبَّر عنهم بالخوف لبيان أنهم وإن كانوا غلاظاً شداداً فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم أردفهُ بالفوقية الدالة على العظمة، فجمع بين الأمرين. ولما كان ضَعْف البشر معلوما لم يحتج إلى التنبيه عليه. ومن ذلك الشح والبخل. والشحّ هو أشدّ البخل. قال الراغب: الشح: بخل مع حِرْص. وفرَّقَ العسكريّ بين البخل والضَّن بأن الضن أصله أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 بالعَوَاري، والبخْل بالهبات، ولهذا يقال: هو ضنين بعلمه، ولا يقال بخيل، لأنَّ العلم بالعارية أشبه بالهِبة، لأن الواهب إذا وهب شيئاً خرج عن مِلْكه، بخلاف العارية، ولهذا قال تعالى: (وما هو على الغَيْبِ بضنِين) ، ولم يَقل ببخيل. ومن ذلك السبيل والطريق، والأولُ أغلب وقوعاً في الخير، ولا يكاد اسمُ الطريق يرَاد به الخير إلا مقترناً بوصْف أو إضافة تخلِّصُه لذلك، كقوله تعالى: (يَهْدي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم) . وقال الراغب: السبيل الطريق التي فيها سهولة، فهو أخص. ومن ذلك جاء وأتى، فالأول يقال في الجواهر والأعيان. والثاني في المعاني والأزمان، ولهذا ورد في قوله: (ولمنْ جاءَ بهِ حمْل بَعِير) . (وجاءوا على قَميصه بدَمٍ كذِب) . (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) . وأتى في: ً (أتَى أمْرُ الله) ، (أتَاهَا أمْرُنا) . وأما (وجاء ربك) ، أي أمره، فإن المراد به أهوال القيامة والمشاهدة وكذا (فإذا جاء أجَلُهم) ، لأن الأجل كالمشاهد، ولهذا عبِّر عنه بالحضور في قوله: حضره الموت، ولهذا فَرق بينهما في قوله: (جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) . لأنَّ الأول العذاب، وهو مشاهد مرئيّ بخلاف الحق. وقال الراغب: الإتيان: مجيء بسهولة، فهو أخصّ من مطلق المجيء. ومنه قيل للسيل المارّ على وجهه أتاويّ، وأتيّ. ومن ذلك مدَّ وأمدَّ، قال الراغب: أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، نحو: (وأَمْدَدْناهم بفاكهة) . والمدُّ في المكروه، نحو: (ونمدّ له مِنَ العذَاب مَدًّا) . ومن ذلك سقى وأسقى، فالأول لما لا كُلفَة فيه، ولهذا ذكر في شراب الجنة، نحو: (وسقَاهمْ رَبّهم شَرَاباً طَهورا) . والثاني لما فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 كلفة، ولهذا ذُكر في الدنيا، نحو: (لأسْقَيْنَاهم ماء غَدَقا) . وقال الراغب: الإسقاء أبلغ من السقي، لأنَّ الإسقاء أنْ يجعل له ما يستقي منه، ويشرب. والسقي أن يعطيه ما يشرب. ومن ذلك عمل وفعل، فالأول لما كان مع امتداد زمان، نحو: (يَعْمَلُون له ما يشَاء) . (مما عمِلَتْ أيدينا) ، لأنَ خلق الأنعام والثمارِ والزروع بامتداد. والثاني بخلافه، نحو: (كيف فعل رَبُّكَ بأصحاب الفيل) . (كيف فَعَلَ رَبُّكَ بعَاد) . (فَعَلْنَا بهم) ، لأنها إهلاكات وقعت من غير بطء. (ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون) ، أي في طرفة عين. ولهذا عبر بالأول في قوله: (وعَمِلوا الصالحاتِ) ، حيثُ كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة أو بسرعة. وبالثاني في قوله: (وافْعَلُوا الْخَيرَ) ، حيث كان بمعنى سارعوا، كما قال: (فاسْتَبِقوا الخيراتِ) . وقوله: (والذين هم للزكاة فاعِلون) ، حيث كان القَصْد يأتون بها على سرعة من غير توان. ومن ذلك القعود والجلوس، فالأوّل لما فيه لبث، بخلاف الثاني، ولهذا يقال قواعد البيت، ولا يقال جَوَالسه للزومها ولبثها، ويقال جليس الملك ولا يقال قَعيده، لأن مجالس الملوك يستحب فيها التخفيف، ولهذا استُعمل الأول في قوله: (مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، للإشارة إلى أنه لا زوَال له، بخلاف: (تَفَسَّحُوا في المجالس) ، لأنه يجلس فيه زماناً يسيراً. ومن ذلك التمام والكمال، وقد اجتمعا في قوله: (أكْمَلْتُ لكم دِينَكم وأتممْتُ عليكم نعْمتي) ، فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نُقْصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كان قوله تعالى: (تلك عَشَرةٌ كامِلة) ، أحسن من " تامة "، لأنَّ التمام من العدد قد عُلم، وإنما نفى احتمال نَقْص في صفاتها. وقيل: تَتمَ يشعر بحصول نقْص قبله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 وكمل لا يشعر بذلك. وقال العسكري: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به. والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف، ولهذا يقالُ للقافية تمام البيت، ولا يقل كماله. ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه. ومن ذلك الإعطاء والإيتاء! قال الخويي: لا يكاد اللغويون يفرقون بينهما. وظهر لي بينهما فرق ينبئ عن بلاغةِ كتاب الله، وهو ان الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله، لأنَّ الإعطاء له مطاوع، تقول: أعطاني فعطوتُ، ولا يقال في الإيتاء: أتاني فأتيت، وإنما يقال آتاني فأخذت. والفعل الذي له مطاوع أضعفُ في إثبات مفعوله من الذي لا مطَاوع له، لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدلّ على أنَّ فعل الفاعل كان موقوفاً على قبول في المحل، لولاه ما ثبت المفعول. ولهذا يصح قطعته فما انقطع. ولا يصح فيما لا مطاوعَ له ذلك، فلا يجوز ضربته فانضرب، أو فما انضرب، ولا قتلته فانقتل ولا فما انقتل، لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعولُ في المحل، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوعَ لها، فالإيتاء أقوى من الإعطاء. قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدتُ ذلك مراعى، قال تعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) ، لأن الملك شيء عظيم لا يعطاه إلا مَنْ له قوة، وكذا قوله: (يؤْتي الحكمةَ مَنْ يشاء) ، (آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) ، لعظم القرآن وشأنه: وقال: (إنّا أعطيناكَ الكوثر) ، لأنه مورود في الموقف مرْتحل عنه قريباً إلى منازل العزّ في الجنة، فعبَّر فيه بالإعطاء، لأنة يُترك عن قرب، وينتقل إلى ما هو أعظم منه. وكذا (يعْطيكَ رَبُّكَ فَترْضَى) ، لما فيه من تكرر الإعطاء والزيادة إلى أن يرضى كلّ الرضا، وهو مفسر أيضاً بالشفاعة، وهي نظير الكوثر في الانتقال بعد قضاء الحاجة منه. وكذا (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ، لتكرّر حدوثِ ذلك باعتبار الموجودات. حتى يعطوا الجِزْية، لأنها موقوفة على قبول - منا، وإنما يعطونها عن كُرْه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 فائدة قال الراغب: خص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء، نحو: (أقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاة) . (وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة) . قال: وكل موضع ذكر في وصف الكتاب "آتينا " فهو أبلغ من كل موضع ذكر فيه " أوتوا "، لأن أوتوا قد يقال إذا أوتيَ من لم يكن منه قبول. وآتيناهم يقال فيمَنْ كان منه قبول. ومن ذلك السَّنَة والعام، قال الراغب: الغالب استعمال السَّنَة في الحَوْلِ الذي فيه الشدَّة والجَدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة. والعام ما فيه الرخاء والخصب، وبهذا تظهر النكتة في قوله: (ألْفَ سَنة إلا خمسين عاماً) . حيث عبر عن المستثنى بالعام، وعن المستثنى منه بالسنة. قاعدة في السؤال والجواب الأصل في الجواب أن يكونَ مطابقاً للسؤال إذا كان السؤال متوجّهاً. وقد يعْدَل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيه اً على أنه كان مِنْ حقّ السؤال أن يكونَ كذلك، ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم. وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال. وقد يجيء أنْقَص لاقتضاء الحال ذلك. مثال ما عدل عنه قوله تعالى: (يَسألوتك عن الأهِلة قلْ هي مَوَاقِيت للناس والحَجِّ) ا. سألوا عن الهلال لِمَ يَبْدو رقيقاً مثل الخيط، ثم يتزايَد قليلاً قليلاً حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأجيبوا ببيان حكمةِ ذلك تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه. كذا قال السكاكي ومَنْ أتى بعده، واسترسل التفتازاني في الكلام إلى أن قال: ليسوا ممّن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وأَقول: ليت شعري من أيْنَ لهم أنَّ السؤال وقع عن غير ما حصل الجوابُ به، وما المانِع من أن يكون إنما وقع عن حكمةِ ذلك ليعلموها، فإنَّ نظْمَ الآية محتمل لذلك، كما أنه محتمل لما قالوه. والجواب ببيان الحكمة دليلٌ على ترجيح الاحتمال الذي قُلْناه، وقرينةٌ تُرْشد إلى ذلك، إذ الَأصلُ في الجواب المطابقة للسؤال، والخروج عن الأصْلِ يحتاج إلى دليل، ولم يرد بإسنادٍ لا صحيح ولا غيره أَنّ السؤال وقع عما ذكروه، بل ورد ما يؤيد ما قلناه، فأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسولَ الله، لم خلقت الأهِلة، فأنزل الله (يسألونك عن الأهِلّة) ، فهذا صريح في أنهم سألوه عن حكمة ذلك لا عَنْ كيفيته من جهة الهيئة، ولا يظنّ ذو دِين بالصحابة الذي هم أدقّ فهماً، وأغزر علماً، أنهم ليسوا ممن يطّلع على دقائق الهيئة بسهولة، وقد اطلع عليها آحاد العجم الذي أطبق الناس على أنهم أبلد أذهاناً من العرب بكثير. هذا لو كان للهيئة أصل معتبر، فكيف وأكثرها فاسد لا دليل عليه. وقد صنَّفْت كتاباً في نَقْض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي صعد إلى السماء ورآها عياناً، وعلم ما حوَتْه من عجائب الملكوت بالمشاهدة، وأتاه الوَحْي مِنْ خالقها، ولو كان السؤال وقع عمّا ذكروه لم يمتنع أنْ يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم، كما وقع ذلك لما سألوا عن المجرة وغيرها من الملكوتيات. نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) ، لأنه سؤال عن الماهية أو الجِنس. ولما كان هذا السؤال في حقِّ الباري تعالى خطأ لأنه لا جنس له، فيذكر ولا تدرك ذاته، عدل إلى الجواب بالصواب ببيان الوصف المرشد إلى معرفته، ولهذا تعجَّبَ فرعون من عدم مطابقته للسؤال، فقال (ألاَ تستمعُون) : أي جوابه الذي لم يطابق السؤال، فأجاب موسى: (ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين) ، المتضمّن إبطال ما يعتقدونه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 ربوبية فرعون نصًّا، وإن كان دخل في الأول ضمناًْ إغلاظاً، زاد فرعون في الاستهزاء به، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا أغلظَ في الثالث بقوله: (إنْ كنْتم تعقلون) . ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى: (فلِ الله ينَجيكم منها ومن كل كرب) ، في جواب (مَنْ يُنَجيكم من ظُلماتِ البر والبَحْر) . وقول موسى: (هي عَصَايَ أتَوَكَّأ عليها وَأهش بها على غَنمي) ، في جواب: (وما تلكَ بيمينك يا موسى) . زاد في الجواب استلذاذا بخطاب الله. وقول قوم إبراهيم: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) ، في جواب: (ما تَعْبدون) ، زادوا في الجواب إظهارا للابتهاج بعبادتها والاستمرارِ على مواظبتها ليزداد غيْظ السائل. ومثال النقص منه قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) ، في جواب: (ائْتِ بقرآن غَيْر هذا أو بدِّله) ، أجاب عن التبديل دونَ الاختراع. قال الزمخشري: لأن التبديلَ في إمكان البشر دون الاختراع، فطوَى ذكْرَه للتنبيه على أنه سؤال محال. وقال غيره: التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانَه فالاختراع أولى. تنبيه: قد يُعْدَل عن الجواب أصلاً إذا كان السائل قَصْده التعنيت، نحو: (ويسألونَك عن الروح) . قال صاحب الإيضاح: إنما سأل اليهود تعجيزاً أو تغليظا إذْ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان، والقرآن، وعيسى وجبريل، وملك آخر، وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أنْ يسألوه، فبأيّ مسمّى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجمَلاً، وكان هذا الإجمال كَيْداً يردّ به كيدهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 قاعدة قيل أصل الجواب أنْ يُعَادَ فيه نفس السؤال، ليكون وفْقَه، نحو: (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ) ، فأنا في جوابه هو " أنت " في سؤالهم، وكذا (أأقْرَرْتُم وأخذْتُم على ذَلكم إصْري قالوا أقْرَرْنَا) ، فهذا أصله، ثم إنهم أتوا عِوَض ذلك بحروف الجواب اختصارا وترك التكرار. وقد يحذف السؤال ثقةً بفهم السامع بتقديره، نحو: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) . فإنه لا يستقيم أن يكونَ السؤال والجواب من واحد، فتعيَّن أن يكون (قُلِ اللَّهُ) جوابَ سؤال، فكأنهم سألوا لمَّا سمعوا ذلك: مَنْ يبدأ الخلق ثم يعيده. قاعدة الأصل في الجواب أن يكون مشَاكِلاً للسؤال، فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب كذلك، ويجيء كذلك في الجوابِ المقدَّر، إلا ابن مالك قال: قولك زيد - في جواب مَنْ قرأ: إنه من باب حَذْف الفعل، على جَعْل الجواب جملة فعلية. قال: وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله، جَرْياً على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها، قال تعالى (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) . (ولئن سألْتهم مَنْ خَلقَ السماوات والأرضَ ليقولنَّ خَلَقهنّ العزيز العليم) . (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) . فلما أتى بالجملة الفعلية مع فواتِ مشاكلة السؤال عُلم أنَّ تقدير الفِعل أولى. قال ابن الزَّمْلَكَاني في البرهان: أطلق النحويون القولَ بأن زيداً في جواب مَنْ قام، فاعل على تقدير قام زيد، والذي توجبه صناعة علم البيان أنه مبتدأ. لوجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 أحدهما: أنه يطَابق الجملةَ المسؤول بها في الاسمية، كما وقع التطابق في قوله: (وقيل للذين اتقَوْا ماذَا أنْزَلَ ربكم قالوا خَيْراً) ، في الفعلية. وإنما لم يَقَع التطابقُ في قوله: (ماذَا أنْزَل رَبُّكم قالوا أساطِيرُ الأوَّلين) ، لأنهم لو طابقوا لكانوا مقرين بالإنزال وهم من الإذعان به على مفاوز. الثاني: أن اللَّبْس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل، فوجب أن يتقدم الفاعل في المعنى، لأنه متعلق غرَضِ السائل. وأما الفعلُ فمعلوم عنده، ولا حاجة به إلى السؤال عنه، فحريٌّ أنْ يقعَ في الأواخر التي هي محل التكملات والفَضَلات. وأشكل على هذا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ، - في جواب (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا) ، فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل، فإنهم لم يستفهموه عن الكسر، بل عن الكاسر، ومع ذلك صدر الجواب بالفعل. وأجيب بأن الجوابَ مقدرٌ دلَّ عليه السياق، إذ " بل " لا يصلح أن يصدر بها الكلام، والتقدير: ما فعلته، بل فعله. قال الشيخ عبد القاهر: ولما كان السؤال ملفوظاً به فالأكثر ترْك الفعل في الجواب والاقتصار على الاسم وحده، ولما كان مضمراً فالأكثر التصريح به لضعف الدلالة عليه. ومن غير الأكثر: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ) - في قراءة البناء للمفعول. فاعدة أخرج البزار عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ محمد، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلَّها في القرآن. وأورده الإمام الرازي بلفظ أربعة عشر حرفاً. وقال: منها ثمانية في البقرة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) . (يسألونكَ عن الأهلَّة) . (يسألونكَ ما ينفِقُون قل ما أنْفَقْتُم) . (يسألونك عن الشّهْرِ الحرام) . (يسألونك عن الخَمْر والميْسر) . (ويسألونك عن اليتامى) . (ويسألونك ماذا ينْفقون قل العَفْو) . (ويسألونك عن المحِيض) . قال: والتاسع: (يسألونك ماذا أُحلَّ لهم) في المائدة. والعاشر: (يسألونك عن الأنفال) . والحادي عشر: (ويسألونك عن الساعة أيان مُرساها) . والثاني عشر: (ويسألونك عن الجبال) . والثالث عشر: (ويسألونك عن الرُّوحِ) . والرابع عشر: (ويسألونك عن ذي القَرْنَيْنِ) . قلت: السائلُ عن الروح وذي القَرْنين مشركو مكة أو اليهود، كما في أسباب النزول لا الصحابة، فالخالص اثنا عشر كما صحت به الرواية. فائدة قال الراغب: السؤال إذا كان للتعريف تعدَّى إلى المفعول الثاني، تارةً بنفسه، وتارة بعن، وهو أكثر، نحو (ويسألونكَ عن الروح) . وإذا كان لاستدعاء مال فإنه يعدَّى بنفسه أو بمن، وبنفسه أكثر، نحو: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) . (واسألوا ما أنْفَقْتُم) . (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) . قاعدة في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل الاسمُ يدلّ على الثبوت والاستمرار، والفعلُ يدلُّ على التجدد والحدوث، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر، فمن ذلك: قوله: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 لو قيل " يبسط " لم يؤد الغرض، لأنه يؤذن بمزاولة الكلب البَسْط، وأنه يتجدد له شيئاً بعد شيء، فباسط أشعر بثبوت الصفة. وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) ، لو قيل: رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئاً بعد شيء، ولهذا جاء الفعل في صورة المضارع مع أنَّ العامل الذي يفيده ماضٍ، نحو: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) ، إذ المراد أنْ يفيد صورة ما هم عليه وقْتَ المجيء. وأنهم آخذون في البكاء يجدِّدونه شيئاً بعد شيء، وهو المسمّى حكاية الحال الماضية، وهذا هو سر الإعراضِ عن اسم الفاعل والمفعول، ولهذا أيضاً عبَّر بالذين ينفقون، ولم يقل المنفقون، كما قيل المؤمنون والمتّقون، لأن النفقةَ أمر فِعْليّ شأنه الانقطاع والتجدد، بخلاف الإيمان، فإن له حقيقةً تقوم بالقلب يدوم مقتضاها. وكذلك التقوى والإسلام، والصبر والشكر، والهدى والضلال. والعمى والبصر، كلّها لها مسمَّيَاتٌ حقيقية أو مجازية تستمرُّ، وآثار تتجدد وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين. وقال تعالى في آية الأنعام: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) . قال الإمام فخر الدين: لما كان الاعتناء بإخراج الحيّ من اليت أشدّ أتى فيه بالمضارع ليدلَّ على التجدد، كما في قوله: (الله يَسْتَهزئُ بهم) . تنبيهات الأول: المراد بالتجدد في الماضي الحصول، وفي المضارع أنَّ من شأنه أنْ يتكرر ويقع مرةْ بعد أخرى، صرح بذلك جماعة منهم الزمخشري في قوله: (الله يستهزئُ بهم) . قال الشيخ بهاء الدين السبكي: وبهذا يتَّضِح الجواب عما يذكر من نحو: علم الله كذا، فإنَّ علم الله لا يتجدد، وكذا سائر الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 وجوابُه أنَّ معنى علم الله كذا وقع عِلْمُه في الزمن الماضي، ولا يلزم أنه لم يكنْ قَبْل ذلك، فإن العلم في زمن ماض أعمّ من المستمر على الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره، ولهذا قال تعالى - حكاية عن إبراهيم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، الآيات. فأتى بالماضي في الخلق، لأنه مفروغ منه، وبالمضارع في الهداية والإطعام والإسقاء والشفاء، لأنها متكررةٌ متجددة تَقَعُ مرةً بعد أحْرى. الثاني: مضمر الفعل فيما ذُكر كمظْهره، ولهذا قالوا: إنَّ سلام الخليل أبلغُ من سلام الملائكة حيث: (قالوا سلاما قال سلام) ، فإن نصب سلاماً إنما يكون على إرادة الفعل، أي سلَّمنا سلاماً. وهذه العبارةُ مؤْذنة بحدوث التسليم منهم، إذ الفعلُ متأخرٌ عن وجود الفاعل، بخلاف سلام إبراهيم، فإنه مرتفع بالابتداء، فاقتضى الثبوتَ على الإطلاق، وهو أولى مما يعرض له الثبوت، فكأنه قَصد أن يحييهم بأحسن مما حيَّوه به. الثالث: ما ذكرناه من دلالة الاسْم على الثبوت والفعل على التجدد والحدوث هو المشهورُ عند أهلِ البيان، وقد أنكره أبو المطرف بن عميرة في كتاب التمويهات على التبيان لابن الزَّمْلَكاني، وقال: إنه غريب لا مستَند له فإنَّ الاسْمَ إنما يدل على معناه فقط، أما كونُه يثبت المعنى للشيء فلا، ثم أورد قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) . وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) . وقال ابن المنير: طريقةُ العربية تلوين الكلام، ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه، وقد رأينا الجملةَ الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد، نحو: (ربَّنَا آمَنَّا) ، ولا شيء بعد (آمَنَ الرسولُ) . وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين، فقالوا: (إنما نحنُ مُصْلِحون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 قاعدة في المصدر قال ابن عطية: سبيل الواجباتِ الإتيانُ بالمصدر مرفوعاً، كقوله: (فإمْسَاكٌ بمعروف أو تَسريح بإحْسان) . (فاتَباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) . وسبيلُ المندوبات الإتيانُ به منصوباً، كقوله: (فَضَرْب الرِّقابِ) ، ولهذا اختلفوا: هل كانت الوصية للزوجات واجبة لاختلاف القراءة في قوله تعالى: (وصِية لأزْوَاجهم) - بالرفع والنصب. قال أبو حيان: والأصلُ في هذه التفرقة قوله تعالى: (قالوا سلاماً قال سلام) ، فإنَّ الأول مندوب، والثاني واجب، والنكتةُ في ذلك أنّ الجملة الاسمية أوْكد وأثبت من الفعلية. قاعدة في العطف هو ثلاثة أقسام: عطف على اللفظ، وهو الأصل، وشرْطُه إمكان توجّه العامل إلى المعطوف. وعطف على المحل، وله شروط ثلاثة: أحدها: إمكانُ ظهورِ ذلك الملّ في الفصيح، فلا يجوز مررتُ بزيد وعمرًا، لأنه لا يجوز مررت زيداً. الثاني: أن يكونَ الموضع بحق الأصالة، فلا يجوز: هذا الضارب زيدا وأخيه، لأن الأصل المستوفي لشروط العمل، والأصل إعماله لا إضافته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 الثالث: وجود المحرز، أي الطالب لذلك المحل، فلا يجوز إن زيداً وعمراً قاعدان، لأن الطالب لرفع عمرو هو الابتداء، وقد زال بدخول " إن ". وخالف في الشرط الكسائي مستدلاً بقوله تعالى: (إنَّ الذين آمَنوا والذين هَادوا والصَّابِئُون) . وأُجيب بأن خبر (إن) فيها محذوف أي مأجورون، أو آمنون، ولا تختص مراعاةُ الموضع بأن يكون عامل اللفظ زائداً. وقد أجاز الفارسي في قوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) . أن يكون يوم القيامة عطفاً على محل هذه. وعطف التوهم، نحو: ليس زيد قائما ولا قاعدٍ - بالخفض، على توهّم دخول الباء في الخبر. وشرط جوازِه صحة دخول ذلك العامل المتوهم، وشرط حُسْنِه كثرة دخوله هناك. وقد وقع هذا العطف فَي المجرور في قول زهير: بدَا لِيَ أَني لسْتُ مدْرِكَ ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا وفي المجزوم في قراءة غير أبي عمرو: (لولا أخرْتَنِي إلى أجل قريب فأصَّدقَ وأكنْ) ، خرجه الخليلُ وسيبويه على أنه عطف على التوهم، لأن معنى (لولا أخرتني فأصدَّق) ومعنى أخرني أصَّدَّق واحد. وقراءة قنبل: (إنه مَنْ يتَّقي ويصبر) . خرجه الفارسي عليه، لأن من الموصولة فيها معنى الشرط. وفي المنصوب في قراءة حمزة وابن عامر: (ومِن وَرَاء إسحاقَ يعقوب) . وقال بعضهم في قوله تعالى: (وحِفظاً مِن كلِّ شيطان) : إنه عطف على معنى (إنا زَينَّا السماء الدنيا) ، وهو إنا خلقنا الكواكبَ في السماء الدنيا زينة للسماء. وقال بعضهم في قراءة: "وَدّوا لو تدهِنُ فيدهنوا ". إنه على معنى ودّوا أن تدهن. وقيل في قراءة حفص: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 - بالنصب: إنه عطفٌ على معنى لعلي أن أبلغ، لأن خبر لعل يقترن بأن كثيرا. وقيل في قوله تعالى: (ومِنْ آياتِه أنْ يُرْسلَ الرِّياحَ مبشِّراب وليُذِيقكم) : إنه على تقدير ليبشركم وليذيقكم. تنبيه: ظن ابنُ مالك أن المراد التوهم الغلط، وليس كذلك، كما نَبّه عليه أبو حيان وابن هشام، بل هو مقصود صواب، والمراد منه عطف على المعنى، أي جوّز العربيّ في ذهنه ملاحظةَ ذلك المعنى في المعطوف عليه، لا أنه غلط في ذلك، ولهذا كان الأدب أنْ يقال في مثل ذلك في القرآن: إنه عطف على المعنى. مسألة اختلف في جواز عطْفِ الخبر على الإنشاء وعكسه، فمنعه البيانيُّون وابنُ مالك وابنُ عصفور، ونقله عن الأكثرين، وأجازه الصفّار وجماعة ٌ مستدلين بقوله تعالى: (وبَشِّرِ الذين آمَنُوا) . (وبَشِّرِ الْمُؤْمنين) . وقال الزمخشري في الأولى: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مشاكل، بل المرادُ عطف جملة ثوابِ المؤمنين على جملة ثواث الكافرين. وفي الثانية - أن العطف على تؤمنون، لأنه بمعنى آمنوا. ورُدَّ بأن الخطاب به للمؤمنين وب (بَشِّر) للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وبأنَّ الظاهر في (يؤمنون) أنه تفسير للتجارة لا طلب. وقال السكاكي: الأمران معطوفان على " قل " مقدرة قبل يا أيها، وحَذْف القولِ كثير. مسألة اختلف في جواز عطف الاسمية على الفعلية وعكسه، فالجمهور على الجواز. وبعضُهم على المنع، ولقد لهج به الرازي في تفسيره كثيراً، وردَّ به على الحنفية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 القائلين بتحريم أكل متروك التسمية أخْذاً من قوله تعالى: (ولا تأكلوا مِمَّا لم يذْكر اسْمُ الله عليه وإنه لفِسْق) . فقال: هي حجة للجواز لا للحرْمة، وذلك أن الواو ليست عاطفة لتخالُف الجملتين بالاسمية والفعلية، ولا للاسئناف، لأن أصلَ الواوِ أن تربط ما بعدها بما قبلها، فبقي أن تكونَ للحال، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي. والمعنى: لا تأكلوا منه في حال كونه فسقاً. ومفهومه جواز الأكلِ إذا لم يكن فسقاً، والفسقُ قد فسَّره الله تعالى بقوله: (أو فِسْقاً أهِلَّ لغير الله به) . فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سمِّيَ عليه غَيْرُ الله. ومفهومه: فكلوا منه إذا لم يسمّ عليه غَيْرُ الله تعالى. قال ابن هشام: ولو أبطل العطف بتخالف الجملتين بالإِنشاء والخبر لكان صواباً. مسألة اختلف في جواز العطف على معمولي عاملين، فالمشهور عن سيبويه المنع، وبه قال المبرد وابن السراج وابن هشام. وجوَّزَه الأخفش والكسائي والزجاج. وخرج عليه قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) . إلى قوله: (وتصرِيف الرياح آيات لقوم يَعْقِلون) . فيمن نصب آياتٍ الأخيرة. مسألة اختلف في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فالجمهورُ من البصريين على الْمَنْع، وبعضهم والكوفيون على الجواز، وخرج عليه قراءة حمزة: (واتقوا الله الذي تَساءلون به والأرْحامِ) . وقال أبو حيان في قوله: (وصَدّ عَنْ سبيل الله وكُفْر به والمسجِدِ الحرام) : إن المسجد معطوف على ضمير به، وإن لم يُعَد الجار. قال: والذي نختاره جواز ذلك، لوروده في كلام العرب كثيراً نظماً ونثراً، قال: ولسنا متعبّدين باتباع جمهور البصريين، بل نتبع الدليل. واللَه الموفق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 (فصل في أحاديث نبويَّة تفسِّرُ آياتٍ قرآنية منقولة محذوفة الأسانِيد من صحيح البخاري راجياً من اللَه حُسْن الخاتمة للناقل والقارئ: (غير الْمَغْضوبِ عليهم) : اليهود. (ولا الضالَين) : النصارى. (أزْوَاج مطَهَّرَة) : من الحيض والغائط والنّخامة والبصاق. (عَدْل) : فدية. (سجَّدًا) : على وجوههم، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا حبة في شعرة. (وَيْل) : وادٍ في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغَ قَعْرَه. (يتْلونَه حَقَّ تِلاَوَته) : يتّبعونه حقّ اتباعه. (لا ينَالُ عَهْدِي الظَّالين) : لا طاعةَ إلا في المعروف، وليس لظالم عليك عهد أنْ تطيعه في معصية الله. (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) : اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي. (الذين إذا أصابَتْهم مصيبةٌ) : ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة. (يَلْعَنهم اللاَّعِنون) : يُضرب الكافر ضربة بين عينيه فيسمعه كل دابة إلا الثقلين، فتلعنه كلّ دابة سمعَتْ صوتَه، فذلك قوله: (أولئكَ يَلعَنهم الله ويلعَنهم اللاَّعنون) : يعني دوابَّ الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 (الحجُّ أشْهُر معلومات) : شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. (فلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جِدالَ في الحج) : الرفَثُ: التعرض للنساء بالجماع، والفسوق المعاصي، والجدال: جدال الرجل صاحبه. (لا يؤَاخِذكم الله باللغْوِ في أيمانكم) : هو كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله. (الطّلاَقُ مَرَّتان) ، والثالثة تسريح بإحسان. (الذي بِيَدهِ عُقْدَة النكاح) ، الزوج. (الصَّلاَةِ الوسْطَى) : صلاة العصر. (سَكينة) : ريح خَخوج. (يؤْتي الحكمَةَ) ، أي القرآن والعمل به، لأنه قد قرأه البَرّ والفاجر. (فيَتَبِغونَ ما تشَابَهَ منه) : هم الخوارج. وهم الذين تسوَدّ وجوههم. (الرّاسِخون في العِلْم) : من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم. (القَنَاطِير الْمقَنْطَرة) : القنطار ألف أوقية. (ولَه أسْلَم مَنْ في السماوات والأرْضِ طوْعاً وَكَرْهاً) . أما من في السماوات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن وُلد على الإسلام، وأما كَرْهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقَادون إلى الجنة وهم كارهون. (مَنِ استطاعَ إليه سبِيلاً) : الزاد والراحلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 (ومَنْ كفَر فإن الله غَنيّ عن العالَمين) : مَنْ تركه يخاف عقوبته ولا يرجو ثوابه. (اتّقوا الله حَقَّ تقَاتِه) : أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنسى. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) : الخير اتباع القرآن وسنّتي. (مسَومِين) : معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بَدْر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر. (ولا يَحْسَبَنّ الذين يَبْخَلون بما آتاهم الله مِنْ فَضْله) : مَنْ آتاه الله مالاً فلم يؤَدِّ زكاته، مثل له شجاع أقْرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمَيْهِ يقول: أنا مالك، أنا كنْزك. (ألاَّ تَعولوا) : ألاّ تَجوروا. (بَدَّلْنَاهم جلوداً غيرها) : تبدل في ساعةٍ مائة مرة. (فجزَاؤه جَهنَّم) : إن جازاه. (فيوَفِّيهم أجُورَهم ويزِيدهمْ مِنْ فَضله) : الشفاعةُ فيمن وجبت له النار ممَّنْ خرج إليهم المعروف في الدنيا. (الكلاَلَة) : ما خلا الولد والوالد. (ملوكاً) : كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً. (فسوف يَأتي اللَّهُ بِقَوم يحِبُّهم) : أبو موسى الأشعري منهم. (أو كِسْوَتهم) : عباءة لكل مسكين. (لا يَضُرّكم مَنْ ضَلَّ إذا اهتَدَيْتُنم) : إذا رأيت شُحًّا مطاعاً، وهوًى مَتّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 نفسك، ودعَ العوام. وفي حديث آخر: لا يضركم من ضَل من الكفار إذا اهتديتم. (يَتَوَفَّاكُمْ بالليل) : مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذُ نفسه، فإن أذن الله بقَبْض روحه قبضه وإلا ردّه إليه، فذلك قوله تعالى: (يتوفّاكُم بالليل) . (ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بظلْمٍ) : ليس الذي تعنون من الظلم، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إنَّ الشركَ لظلْمٌ عظيم) ، إنما هو الشرك. (لا تدْرِكهُ الأبصارُ) : لو أن الجنّ والإنسَ والملائكة والشياطين منذ خُلقوا إلى أنْ فنوا صُفَّوا صفًّا واحداً ما أحاطوا بالله أبداً. (فَمَنْ يرِدِ الله أنْ يَهْدِيه يَشْرَحْ صَدْرَه للإسلام) : قالوا كيف يشرح صَدْرَه، يا رسولَ الله، قال: نور يقذف به فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها، قال: الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قَبْل لقاء الموت. (وآتوا حَقّه يَوْمَ حَصَادِه) : ما سقط من السنبل. (لا نُكلِّفُ نَفْساً إلا وُسْعَها) : من أربى على نفسه في الكيل والميزان، والله يعلم صحةَ نيّته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ، وذلك تأويل وسعها. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) . طلوع الشمس من مغربها. (إنّ الذين فرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً) : هم أصحابُ البِدعَ وأصحاب الأهواء. (خُذُوا زِينَتَكمْ عند كل مَسْجد) : صلوا في نعَالكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) : إذا قُبضت روح العبدِ الكافر يُصعد بها إلى السماء فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفْتح له، فيقول اللَه: اكتبوا كتابه في سِجِّين في الأرض السّفْلى، فتطرح روحه طرْحاً، اقراءوا إنْ شئتم: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) . (ونَاَدَى أصحابُ الأعرافِ) : هم من استوت حسناته وسيئاته. وفي حديث آخر: هم ناس قُتلوا في سبيل الله. وفي حديث آخر: إنهم مؤمنو الجن. (الطُّوفَان) : الموت. (تجلّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جعله دَكًّا) : أشار - صلى الله عليه وسلم - بطرف إِبْهامه على أنملة أصبعه اليمنى فساح الجبَل وخَرَّ موسى صَعِقاً فمن نورها جعله دَكًّا. (وكتبنا له في الألواح) : كانت من سِدْرَة النتهى، طول كلّ لوح اثنا عشر ذراعاً. (وإذْ أخذَ رَبُّكَ مِنْ بني آدمَ من ظُهورهم ذُرِّيَّتَهُم) : إن الله أخذ الميثاقَ من ظَهْر آدم يوم عرفة، فأخرج من صُلْبِه كلّ ذرية ذرّاها فنثرها بين يديه ثم كلّمهم، فقال: (ألَسْتُ بربكم قالوا بلى) . وفي رواية: أخذ من ظهره كما يؤخذ بالْمشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى. قالت الملائكة: شهدنا. (فلما آتاهمَا صالحاً جَعَلاَ له شُرَكاء) : لما ولدت حوَّاء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال لها: سمِّيه عبد الحارث، فإنه يعيش، فسمَّتْه عبد الحارث، فعاش، فكان ذلك من وَحْي الشيطان وأمْرِه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 (خُذِ العَفْوَ) : هو أن تَعْفُو عمن ظلمك، وتُعْطِى مَنْ حرمك، وتصِل مَنْ قطعك. (تخافونَ أنْ يَتَخَطَّفَكم الناسُ) : هم أهْل فارس. (وهم يَسْتَغْفِرون) : أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي: (وما كان الله ليعذِّبهم وأنْتَ فيهم) ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة. (وَأعِدوا لهم ما استَطَعْتُم من قوة) : ألاَ إن القوةَ الرَّمْي. (وآخرين مِنْ دونهم لا تَعلَمونهم) : هم الجن. (يَوْمَ الحجِّ الأكبر) : يوم النحر، وقيل: يوم عرفة. (إنما يَعْمرُ مَساجدَ الله) : إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشْهدوا له بالإيمان. (ومَساكِنَ طَيّبةً في جنات عَدْن) : قال: قصر من لؤلؤ، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سرير، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش زوجة من الحورِ العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووَصِيفة، ويعطى المؤْمن في كل غداةٍ من القوة ما يأتي على ذلك كله أجمع. (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ) : هو مسجدي. (يحبون أنْ يتطَهَّروا) : هو الاستنجاء بالماء. (السائحون) : هم الصائمون. (للَّذِينَ أحسنوا الحسْنَى وزِيادة) : الحسنى الجنة، والزيادة: النَّظَرُ إلى ربهم. (قل بفَضْلِ الله) : القرآن، (وبرحمته) : أن جعلكم من أهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 (ألاَ إنَّ أولياءَ الله لا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحْزنُون) : إن من عباد الله ناساً يَغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: مَنْ هم يا رسول الله، قال: قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، لا يفزعون إذا فزع الناسُ، ولا يحزنون إذا حزنوا. (لهم البشْرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة) : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له، فهي بشراه في الحياة الدنيا، وبُشْراه في الآخرة الجنة. (إلاَّ قَوْمَ يونس لما آمَنُوا) : لما دعوا. (ليَبْلوَكُمْ أيكمْ أحسَنُ عَمَلاً) : أحسنكم عقلاً، وأحسنكُم عقلاً أورعكم عن محارم الله. وأعملكم بطاعة الله، لم أرَ شيئاً أحسن طلباً ولا أحسن إدراكاً من حسنةٍ حديثة لسيئة قديمة، (إن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات) . (وما كانَ رَبُّك لِيُهْلِكَ القُرَى بظلْم وأهلُها مصْلحون) : أي يُنْصف بعضهم بعضاً. (إني رأيتُ أحدَ عشر كوكبا) : خرثان، وطارق، والذيال، وذو الكنعان، وذو الفزع، ووثاب، وعمودان، وقابس، والذروح، والمصبح، والفيلق، والضياء، والضوء، والنور، يعني أباه وأمه رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قصَّ رؤياه على أبيه قال: أرى أمْراً مشتتاً يجمعه الله. (أني لم أخنْه بالغَيْبِ) : لما قالها يوسف قال له جبريل: اذكر همَّك. قال: (وما أُبَرِّئُ نَفْسي) . (ونُفَضِّل بَعْضَها على بعْض في الأكُل) : الدقل، والفارسي، والحلو والحامض. (ويسَبِّح الرَّعْد) : هو ملك من ملائكةِ الله موكَّل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 بالسحاب يسوقُه حيث أمره اللَه، وهذا الصوت الذي يسمع صوتُه. وفي رواية: الرعد يزجر السحاب، والبرقُ طرف ملك يقال له روفيل. وفي حديث آخر: إن ملكاً موكّلٌ بالسحاب يلمّ القاصية ويلحم الرابية، في يده مخراق، فإذا رفع برقَتْ، وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت. (طُوبَى لهم) : هي شجرة في الجنة، مسيرة مائةِ عام. (يمحو الله ما يشاءُ ويُثْبِت) ، من المحو، ويزيد فيه. وفي رواية: كلّ ذلك في ليلة القدر، يرفع ويجبر، ويرزق غير الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإن ذلك لا يبدَّل. وفي رواية عن علي: أنه، سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية، فقال: لأقِرنَّ عينكَ بتفسيرها، ولأقِرَّنَّ عين أمتي من بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصْطناع المعروف يحول الشقاء سعادة، ويزيد في العمر. (لئنْ شَكرْتُمْ لأزِيدَنَّكم) : من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة. (ويُسْقَى مِنْ ماء صَدِيد يتَجرَّعُه: يقربه الله منه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوَى وَجْهَه، ووقع فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) . وقال: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) . (سواء علينا أجَزعْنا أم صَبرنَا ما لنا مِنْ مَحِيص) : يقول أهلُ النار: هَلُموا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: هلمّوا فلنجزع فيبكون خمسمائة ِ عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: (سواء علينا أجزِعْنَا أم صَبَرْنَا ما لنا مِنْ مَحِيص) . (مَثَلاً كلمةً طيبة كشجرةٍ طَيِّبة) : هي النخلة. (ومَثَلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) : هي الحنظل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) : إذا سُئل المسلم في القبر ويشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فذلك هو التثبيت. (يوْمَ تبَدَّلُ الأرضُ غَيْرَ الأرضِ) . يكون الناس يومئذ على الصراط. وفي رواية: أرض بيضاء كأنها فضّة لم يسفَكْ فيها دَمٌ حرام، ولم يُعمل فيها خطيئة. (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) : يخرج الله ناساً من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقْمَته منهم لما أدخلهم النار مع المشركين، قال لهم المشركون: تدّعون أنكم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار، فإذا سمع الله ذلك أذِن الله في الشفاعة لهم فتشفَعُ الملائكة ُ والنبيئون والمؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: يا ليتنا كنّا مثْلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم، فذلك قول الله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) . (لكل بابٍ منهم جُزْءٌ مَقْسوم) : جزء أشركوا في الله، وجزء شكّوا في الله، وجزء غفلوا عن الله. (كما أنزلنا على الْمقْتسِمين) : اليهود والنصارى. (الذين جعلوا القرآن عِضِين) : آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. (فورَبِّك لنسألنَّهم أجمعين) : عن قول لا إله إلا الله. (زِدْنَاهُمْ عذَابا فَوْقَ العذابِ) : عقارب مثل النخل الطوال ينهشونهم في جنوبهم. (جعلنا الليلَ والنهار آيتين) : كانا شمْسين. (فمَحَوْنَا آيةَ الليلِ) : فالسواد الذي رأيت هو المحوُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 (ولقد كَرَّمْنَا بني آدم) : بالأكل بالأصابع. (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) : يُدْعَى كلّ قوم بأصنام لهم، وكتاب ربهم. (أقِم الصلاةَ لدلوكِ الشّمْسِ) : هو زوالها. (إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كان مشهوداً) : تشهده ملائكة الليل وملائِكة النهار. (عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاماً محموداً) : هو المقام المحمود أشفع فيه لأمتي. وفي لفظ: هي الشفاعة. (ونَحْشُرهم يَوْمَ القيامة على وجوههم) : قيل: يا رسول الله، كيف يحشرون على وجوههم، قال: الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ أن يُمشيهم على وجوههم. (سُرادِقُها) : لسرادق النار أربعة أجدر، كثافة على جدار مثل مسافة أربعين سنة. (يغَاثُوا بمَاءٍ كالمُهْل) : كعَكر الزيت، فإذا قرّبه إليه سقطت فروةُ وجْهه فيه. (الباقِيَاتُ الصالحات) : التهليل والتكبير، والتسبيح والحمد للهِ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله. وفي لفظ آخر: سبحان الله، والحمد للهِ، ولا إله إلا الله، والله أكبر هي الباقياتُ الصالحات. (فظَنُوا أنهم مُوَاقِعوها) . فينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. (وكان تحته كَنْزٌ) : هو لوح من ذهب مصمت عجبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 لمن أيقن بالقَدر كيف ينصب، وعجبت لمن ذكر النار كيف يضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل. لا إله إلا الله محمد رسول الله. (جناتُ الفردوس نُزُلاً) : إذا سألْتُم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تُفجَّرُ أنهار الجنة. (تحْتَك سريًّا) : نهراً، أخرجه الله لتشربَ منه. (يا أختَ هارون) : كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم. (وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسْرَة) : هو يوم يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهل النار النار، ويجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا، قال: فيشرئبُّون وينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، فيؤمَر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة، خلود لا موتَ، ويا أهل النار، خلود لا موت، ثم أشار بيده، وقال: أهل الدنيا في غفلة، غيّ وآثام بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديدُ أهلِ النار. (وإنْ منكُمْ إلاَّ وارِدُها) : لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بَرْداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم يُنَجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا. (ولا يُفْلحُ الساحِرُ حيث أتى) : إذا وجَدْتم الساحر فاقتلوه، ولا يُؤمَّنُ حيث وُجد. (مَعيشةً ضَنْكاً) : عذاب القبر. (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) : كل شيء خلق من الماء. (ومَنْ يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلْم) : احتكار الطعام بمكة إلحاد. (البيت العَتيق) : إنما سمِّي البيت العتيق، لأنه لم يظهر عليه جَبَار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 (واجتَنِبُوا قَوْل الزور) : عدلت شهادة الزورِ بالإشراك. (والذِين يُؤتُون ما آتوا وقلوبهم وَجِلةٌ) : هو الذي يصلّي ويصوم ويتصدق ويخاف الله. (وهم فيها كالِحون) : تشويه النار فتقلص شفَته العليا حتى تبلغَ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفْلَى حتى تضرب سُرَّته. (حتى تَسْتأنِسوا) : يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنَحْنَح فيؤذِن أهلَ البيت. (وإذا ألْقُوا منها مكاناً ضَيقاً مقَرَّنين) : والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. (أيَّمَا الأجلَيْنِ قضَيْتُ) : قضى أوفاهما وأبرهما، وتزوّج الصغرى من البنتين. (وتأتُون في نادِيكم المنْكر) : كانوا يخوّفون أهْلَ الطريق، ويستخرجون منهم، فهو المنْكر الذي كانوا يأتون. (ومِنَ الناسِ مَنْ يَشْتري لَهْوَ الحديثِ) : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلمونهن، ولا خير في تجارة فيهنّ، وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت: (ومن الناس. . .) الآية. (أحْسَنَ كلَّ شيء خلقَهُ) : أما إن است القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خَلْقها. (تتجَافَى جُنوبُهم عن المضاجع) : قيام العبد من الليل. (وجعلناه هدى لبنى إسرائيل) . قال: جُعل موسى هدى لبني إسرائيل. (فلا تَكنْ في مِرْيةٍ مِنْ لقائه) : من لقاء موسى ربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 (فمنهم مَنْ قَضَى نَحْبَه) : طلحة ممن قضى نَحْبه. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) : دعا فاطمة وعليًّا وحسناً وحُسيناً، فجلّلهم بكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذْهِبْ عنهم الرٌجسَ وطهرهم تطهيراً. (لقد كان لسبأ) : هو رجل ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستةٌ، وبالشام منهم أربعة. (ثم أوْرَثْنَا الكتابَ الذين اصطفَيْنَا مِنْ عِبَادنا) : أما الذين سبقوا فأولئك يدخَلون الجنةَ بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا. وأما الذين ظلموا أنْفُسهم فأولئِك الذين يُحْبَسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، وهم الذين يقولون (الحمد لله الذي أذْهَب عنا الحزنَ. . .) الآية. (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) : إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) . (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) : مستقرّها تحت العرش. وفي لفظ آخر: إنها تسجد تحت العرش. (حُورٌ عِين) : العِين: الضخام العيون، شُفْر الحوراء، مثل جناح النسر، وهو بالفاء مضاف إلى الحوراء، وهو هدب العين، وإنما ضبطته وإن كان واضحاً لأني رأيتُ بعْضَ المهملين من أهل عصرنا صحّفه بالقاف. وقال: الحوراء مثل جناح النّسر مبتدأ وخبر، يعني في الخفة والسرعة، وهذا كذبٌ وجَهل وإلحاد في الدين وجرأة على الله ورسوله. (كأنهن بَيْضٌ مَكنون) : رقتهن كرقة الجلدة التي داخل البيضة التي تلي القِشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) : حام، وسام، ويافث. وأخرج من طريق آخر، قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم. (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) : قال: يزيدون عشرين ألفاً. (وإنا لنَحْنُ الصافّون) : أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد لله. (له مَقَالِيدُ السماواتِ والأرض) : تفسيرها لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا حوْلَ ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت ... الحديث غريب، وفيه نكارة شديدة. (فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَن في الأرض إلا مَنْ شاء الله) : هم الشهداء. (إنَّ الذِين يستَكبرُون عن عِبَادتي) ، أي دعائي. (إنَّ الذين قالُوا رَبُّنا الله ثم استقَامُوا) : قد قالها ناس من الناس، ثم كفر أكثَرُهم، فمن قالها حتى يموت فهو من استقام عليها. (ما أصابَكم مِن مُصِيبة) . أي من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبَتْ أيديكم، والله أحلم مِنْ أن يثنّي عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فاللهُ أكرمُ من أن يعودَ بعد عفوه. (ما ضَرَبُوه لكَ إلا جَدَلاً) : ما ضلَّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدَل. (وتِلْكَ الجنّةُ التي أُورِثتُموها بما كنْتُم تَعْمَلون) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 كلّ أهل النارِ يرى منزلته في الجنة حسرةً، فيقول: لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين، وكلّ أهل الجنة يرى منزلته من النار فيقول: (وما كُنّا لنَهْتَدِيَ لولا أنْ هَدانا الله) ، فيكون له شكر. وما مِنْ أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافرُ يرِثُ المؤمنُ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة. (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تأتي السماء بدُخَان مُبين) : إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه. والثانية الدابة. والثالثة الدجّال. (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) : ما من عَبْد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزْقُه، وباب يدخل فيه عمله وكلامه، فإذا مات فقَداه وبَكيَا عليه. وذكر أنهم لمَ يكونوا يعملون على وَجْهِ الأرضِ عملا صالحا تبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عَمَلٌ صالح، فتفقدهم فتبكي عليهم. وفي رواية: ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكتْ عليه السماء والأرض. (أو أثارةٍ مِنْ عِلْم) : الخط. (وألزمَهُمْ كَلِمةَ التًقْوى) : لا إله إلا الله. (ولا يغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضاً) : إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّهُ. (هل مِنْ مَزيد) : لا يزال يلقي في النار، وتقول: هل مِنْ مَزِيد، حتى يضعَ قَدمه فيها، فتقول: قط قط. (والذَّارِيات ذَرْواً) : هي الرياح. (فالجاريات يُسْراً) : هي السفن. (فالْمُقَسمَاتِ أمْراً) : هي الملائكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار. (وإبراهِيم الذِي وَفَّى) : وفَّى عَمَلَ يومِه بأربع ركعات من أول النهار. وقي رواية: كان يقولُ كلما أصبح وأمسى: (فسبحان الله حين تُمْسُونَ وحين تصبحون. . .) حتى ختم الآية. (وأنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : تفكروا في مخلوقاتِ الله، ولا تفكروا في ذاتِ الله. (كُلَّ يَوْم هُوَ في شَأن) : من شأنه أنْ يغفِرَ ذَنْبا، ويكشف كَرْباً، ويرفع قوماً، ويضَع آخرين. (ومِنْ دونِهما جَنَّتان) : جنتان من فضةٍ آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتُهما وما فيهما. (هَلْ جزَاءُ الإحسان إلا الإحسانُ) : هل تدرون ما قال ربّكم، قالوا: الله ورسولهَ أعلم. قال: يقول هل جَزاءُ مَنْ أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة. (في سِدْرٍ مَخْضُودٍ) : خضد الله شوكه، فجعل مكانَ كلِّ شوكة ثمرة. (وظِلٍّ مَمْدُود) : إن في الجنة شجرة يسير الراكبُ في ظلّها مائةَ عام لا يقطعها: اقرؤوا إن شئتم: (وظِلٍّ مَمْدُود) . (وفرُش مَرْفوعَة) : ارتفاعُها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام. (إنَّا أنْشأنَاهُنَّ إنشاءً) : كنّ في الدنيا عجائز عُمْشاً رُمصاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 (أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) : قالت أم سلمة: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله: (حور عين) ، قال: حور عين بيض ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر. قلت: أخبرني عن قوله: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ؟ قال: صفاؤهنَّ كصفا الدُّر الذي في الأصدَاف الذي لم تمسه الأيدي. قلت: أخبرني عن قوله: (فيهَنَّ خيراتٌ حسَان) قال: خَيرات الأخلاق، حِسان الوجوه. قلت: أخبرني عن قوله: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، قال: رِقتهنَّ كرقّة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القِشرة قلت: أخبرني عن قوله: (عُرُبًا أَتْرَابًا) ؟ قال: هن اللواتِي قُبِضْنَ في الدنيا عجائز رُمصاً شُمْطاً، خلقهُن الله بعد الكبر فجعلهنّ عذَارى عرُباً متعشقات محببات. أتراباً على ميلادٍ واحد كلامهنّ عربي. (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) : هما جميعاً من أمتي. (ولا يَعْصِينَكَ في مَعروف) : هو النوح. (ن والْقَلم) : لوح من نور، وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة. وفي لفظ آخر: أول ما خلق الله القلم والحوتَ قال: اكتب. قال: وما أكتب، قال: كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة. (عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيم) : تبكي السماء من عبد أصحَّ الله جسمه، وأرْحَبَ جَوْفَه، وأعطاه من الدنيا مقضماً، فكان للناس ظلوماً، فذلك العتُل الزنيم. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق) : عن نور عظيم، يخرون له سجَّداً. (كان مِقْدَارُهُ خمسين ألْفَ سنَةٍ) : والذي نفسي بيده ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا. (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) : قال: مائةُ آية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 (سارْهِقُه صَعُوداً) : هو جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا، ثم يَهْوِي به كذلك. (هو أهْلُ التَّقْوَى وأهْلُ المغفرة) : قال ربكم: أنا أهلٌ أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أنْ أغْفِر له. (لابثين فيها أحْقَاباً) : الْحُقب بضع وثمانون سنة، كلّ سنة ثلاثمائةٍ وستون يوماً مما تعدّون. (إذا الشمسُ كُورَتْ) : تكويرها وانكدارها في جهنم. (وإذا النفوسُ زُوِّجَت) : القرناء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله. (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) : قال - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة: ما وُلِدَ لك؟ قال: ما عسى أن يولَد لي، إمَّا غلام أو جارية قال: فمَنْ يشبه، قال: ما عسى أن يشبه إمَّا أباه أو أمه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ، لا تقولنَّ هذا، إن النطفة إذا استقرَّتْ في الرحم أحضرها الله كل نسبٍ بينها وبين آدم، أما قرأت: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) . قال: سلَككَ. (الأبرار) : إنما سماهم الأبرار، لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء. (يوم يَقُومُ الناسُ لربِّ العالمين) : حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف اذنيه. (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قَلْبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله في القرآن. (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) : قالت عائشة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 قلت: يا رسول الله، ما الحسابُ اليسير، قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه مَنْ نوقش الحساب يومئذ هلك. (واليوم الموْعود) : يوم القيامة. (وشاهد) ، يوم الجمعة. (ومشهود) : يوم عرفة. (في لوح محفوظ) : إن الله خلق لَوْحا محفوظاً من دُرّة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمهُ نور، وكتابه نور، لله فيه كلّ يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق، ويحيى ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء. (قد أفْلح مَنْ تزَكّى) : من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) : هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والاهتمام بها. (وليال عَشْرٍ) : عشر الأضحى، و (الوتر) يوم عرفة. (والشّفع) : يوم النحر. وفي رواية: الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر. (فكُّ رَقبة) : هو الإعانة في عِتْقها، وعتقها أن تنفرد في عِتقها. (قد أفْلح مَنْ زكاها) : أفلحت نَفْس زكاها الله. (ورفَعْنَا لك ذِكْرَك) : أتاني جبريل، فقال: إنَّ ربك يقول: أتَدْري كيف رُفِع ذكرك، قلت: الله أعلم. قال: إذا ذُكِرتُ ذكرتَ معي. (يومئذ تُحذثُ أخبارَها) : قال: أتدْرُونَ ما أخبارها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهدَ على كل عبد أو أمة بما عمل على ظَهْرها بأن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا. (إنّ الإنسانَ لربه لكَنُود) : الذى يأكل وحْدَه، ويضرب عَبْده، ويمنع رفْده. (ثم لتُسألُنًّ يومئذ عن النعيم) : الأمن والصحة والماء البارد. (مؤْصدة) : مطبقة. (عَنْ صلاتهم ساهُون) : الذين يؤخرونها عن وَقْتِها. (الكوثر) : نهر أعطانيه ربي في الجنة، له طرق لا تحصى. (إذا جاء نَصْر الله والفَتْح) : لما نزلت قال - صلى الله عليه وسلم -: نُعيت إليّ نفسي. (الصَّمَد) : الذي لا جَوْفَ له. (الفَلَق) : جُبٌّ في جهنم مغَطى. (ومن شَرِّ غاسق إذا وَقَب) : النجم الغاسق. وفي رواية عائشة قالت: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ييدي فأراني القَمر حين طلع، وقال: تعوَّذِي بالله من شر هذا، هذا الغاسق إذا وَقَب. (الوسواس الخَنَّاس) : إن الشيطان واضع خطمه على قَلْب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيَ التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس. *** فهذا ما حضرني من التفاسير المرفوعة المصرح برفعها صحيحها وحسنها، ولم أعول على الموضوعات والأباطيل، واختصرت فيها وفي كلّ هذا الكتاب للتحريض عليه، ولعل عبدة الناس تَهْوي إليه، إذ العمْرُ قصير، وفي العمل تقصير، فأسأل من الناقد أن يكونَ غير بصير، لأنه إن بصرَ رأى من المعايب ما لا يخطر ببال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا من غير الدجال أخوفُ عليكم من الدجال ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 فقيل: وما هو يا رسول الله، قال: العلماء السوء. وهذا لأنَّ الدَّجال غايتُه الإضلال، ونحن نصرفُ الناس عن الدنيا بألسنتنا ومقالنا، وندعوهم إليها بأفعالنا وأعمالنا، ولسانُ الحال أنطقُ من لسان المقال، وطباعُ النظر إلى المساعدة في الأعمال أميلُ منها إلى المتابعة في الأقوال، فما أفْسَدْنَا بأعمالنا أكثر مما أصلحنا بأقوالنا، إذ لا يستجرئ الجاهل إلا باستجرائنا، ولو اشتغلت بإصلاح نفسي كان أولى بها وأعظم من هذا، إنه يخيل لنا أنا خير من كثير من عباد الله، وهذا هو أعظم من كل ضلال. فإن قلت: قد أخرج البزار عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفَسِّر شيئاً من القرآن إلا آياً بعد تعليمه إياهن من جبريل؟ والجواب: أن الصحيح عند ابن تيمية وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن لأصحابه جميعَ تفسير القرآن أو غالبه. ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجة، عن عمر - أنه قال: مِنْ آخر ما أنزل الله آية الربا، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبض قبل أنْ يفسرها. دَلّ فَحْوى الكلام على أنه كان يفسر لهم كلّ ما أَنزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة مَوْته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وَجْه. وقد أوَّل ابن جرير وغيره حديث عائشة أنه إشارات إلى آياب مشكلات أشكلن عليه، فسأل الله عِلْمهن، فأنزله الله على لسان جبريل. فإن قلت: قد صح أنَّ آخر آية نزلت: (يستفتونك قل الله يُفْتيكم في الكَلاَلة) . وآخر سورة نزلت: براءة. وفي رواية: آخر آية نزلت: (واتَّقُوا يوماً تُرْجَعُون فيه إلى الله) . وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية سبع ليال. وفي رواية سعيد بن المسيب أنَّ أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّيْن، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة، فكيف يجمع بين هذه الأحاديث؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 والجواب: أن إخبار بعضهم بآية الربا بأنها ختام الآيات المنزّلة في الربا، إذ هي معطوفة عليها والآخرى في آخر النساء مقيّدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه. والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول. قال البيهقي: يجْمع بين هذه الاختلافات إن صحّت الرواية أن كل واحد أجاب بما عنده. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوالُ ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلٌّ قاله عن الاجتهاد وغلبة الظن. ويحتمل أنَّ كلاًّ منهم أخبر عن آخر ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه. ويحتمل أيضاً أن تنزل الآية التي هي آخر آية تلاها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مع آياتٍ نزلت معها فيأمر برَسْمِ ما نزل معها بعد رَسْمِ تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب. ومن غريب ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلى هذه الآية: (فمَنْ كان يَرْجُو لِقَاءَ ربه) . وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن كثير: هذا آخر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغيّر حكمها، بل هي مثبتة محكمة. ولنختم هذا الكتاب بما ختم اللهُ كتابَه آمِراً لنبيه بالاستعاذة من شَرِّ الحاسد الذي غلب عليه الجهْل وطمّه، وأعماه حبّ الرياسة وصَمَّهُ لحَمْلِه على الاعتراض عليَّ، وينسب ما يرى فيه من التكرار والنقص إليّ. ولعمري لو علم ما أنا فيه من شغل البال، وتغيّر البلبال لالْتَمس لي عُذْراً، وصفح عما يرى فيه من التقصير ستراً. لكن الواجب على مَنْ كان في زمان يتلاعب به الجهال والصبيان. والكامل عندهم مذموم داخل في كفَّةِ النقصان، أن يلزَم فيه السكوت، ويصير حلْساً من أحلاس البيوت، ويردّ العلم إلى العمل، ولا يتقاعس في القعود مع أهْل الكسل، لكن أرْقُب ممن مَنَّ عليَّ بتلخيص هذا التفسير مع بعض زيادات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 شريفة، ونوادر لطيفة، أن يجعله نافعاً ولا يذهب ضَبعاً لَبْعاً، وأن يعصمنا والناظر فيه، ومَنْ دعا لنا من شرور أنفسنا، ومِنْ سيئات أعمالنا بجاهِ سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ما دامت أشهراً وجُمعاً. *** تمَّ الكتابُ المباركُ الميمون المُسَمَّى بمعترك الأقران، في إعجاز القرآن للإمام الحافظ السيوطي نفعنا الله به وبعلومه وسائرِ العلماء بجاهِ المفضَّل على أهل الأرض والسماء سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، على يَدِ كاتبه لنفسه ثم لمن شاء المولى بعده. الحاج أحمد بن محمد المستغانمي منشأ، الجزائري وطناً، أصلح الله أحوالَه. وسدَّد أقوالَه وأفعاله وَعقبه إلى يوم القيامة بجاه المدفون في تهامة، لثمانية وعشرين يومًا مضت من شهر الله المعظم ذي القعدة عام 1106 هـ. والحمد لله رب العالمين عرفنا الله خيره، ووقانا شره. اللهم اغفر لكاتبه ووالديه وأشياخه وأزواجه وذريَّاته وأحبابه والناظرين فيه. وكل مَنْ دعا لنا بالرحمة ولجميع المسلمين. وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين عدد ما ذكره الذاكرون وغَفَل عن ذِكره الغافلون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523