الكتاب: الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الانتصار للقرآن للباقلاني الباقلاني الكتاب: الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب: الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدِّمَة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ذي القدرة والجلال والعزّ والسّلطان والطَّول والامتنان منزل الفرقان، والناسخ بما أودعه من البيان وتفصيل الحلال والحرام ما سَلَفَ من الشرائع والأحكام، والضامن للرسول عليه السلام حفظه وحراسته من الناس أهل الكفر والبهتان ومطاعن ذي الجهل والشَّنآن، فقال جلّ ثناؤه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . وقال سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . وقال فيه تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . وجعله مهيمناً على الكُتُب، وقال عز وجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) وجعله بما فيه من عجيب نظمه وجزالة لفظه وبديع وصفه وخروجه عن جميع أوزان كلام العرب ونظومه، آيةً لرسوله ودلالةً قاهرةً وحجةً ظاهرةً لنبوته، وفطر الخلق على القصور عن مقابلته، وبالغَ في تعريفهم بالعجز عن معارضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سورة من مثله، وحَسَمَ بعظيم بلاغته وأنواع فصاحته أطماع الملحدين والمنحرفين في تكلُّف نظيره والتمكن من الإتيان بشبهه وعديله، وأخبر أنّه ليس من بحار كلام المخلوقين ولا شبه ما أضافوه إليه من أساطير الأولين وتلفيق المتكلمين ونمط كلام الشعراء والمترسلين، فقال عز وجل في نص التلاوة: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) ، ثم قال تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، ثم قال جل وعز: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) . وقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ، يقول إنه لشرف لك ولقومك، وقال تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) . ثم نبّه تبارك وتعالى إلى أن مجيءَ القرآن من مثله خرق للعادة ونقضٌ لما عليه تركيب الطبيعة مع علم القوم بنشوه وتصرفه في ظعنه ومقامه، فقال جل اسمه: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) . وقال عز وجل: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) . وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) . وقال عز وجل في قصة نوح: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) . فنبه ونصّ وبيّن في نفس التلاوة على أنه إنما علم ذلك وتلقاه من قبل وحيه إليه به، ثم أمر بالرجوع عند التنازع إليه، والاقتباس منه، والعمل بموجبه، والمصير إلى محكمه، والتسليم لمتشابهه علماً منه بأنه تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 متولي لحفظه وحياطته، وعرفنا أنه ما فرط فيه من شيء، وأنه تبيان لكل شيء، فقال عز وجل: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) . أي إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقال جل ثناؤه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) . وقال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . وقال جل ذكره: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . وقال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) . في نظائر لهذه الآيات أخبر فيها عن حفظه لكتابه وحراسته، والأمر بالرجوع إليه والعمل عليه، وتشريفه على سائر الكتب، وشدة تعظيمه له، وأنه محفوظٌ مصون من كيد الزائغين وتحريف المبطلين، فالحمد لله الذي هدانا بنور كتابه وأرشدنا لتصديقه ووفقنا لاتباع متضمنه، والتمسك بمعالمه والنقض لمطامع القادحين في تنزيله، والكشف عن شُبه الملحدين في تأويله، وصلى الله على رسوله محمدٍ القائم بما كلّفه من أدائه، والمناصح المجتهد فيما نصب له من كشف غامضه وتبيانه، وعلى السلف الصالح من أوليائه الذين جعلهم شهداء على عباده وخلفاء نبيّه وورثة علمه وحفاظ كتابه، والذابين عن دينه، والدّاعين إلى سبيله، والقائمين بحقه، والحافظين لعهده، وإيّاهُ جل ثناؤه نسألُ، وإليه نرغبُ في التوفيق، لما ألزَمنَاه من موالاتهم. والاقتداء لآثارهم، وسلوك سبيلهم، والمضي على نهجهم، ويجنبنا الغضَّ من أقدارهم، والطعن على أماناتهم وآرائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أما بعد: فقد وقفتُ - تولى الله عصمتكم، وأحسن هدايتكم وتوفيقكم - على ما ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام في نقل القُرآن، وإقامة البرهان على استفاضة أمره وإحاطة السلف بعلمه، وانقطاع العُذر في نقله وقيام الحُجة على الخلق به، وإبطال ما يدعيه أهلُ الضلال، من تحريفه وتغييره ودخول الخَلَل فيه، وذهاب شيءٍ كثيرٍ منه، وزيادة أمور فيه، وما يدّعيه أهلُ الإلحاد وشيعتُهم من منتحلي الإسلام، من تناقُض كثيرٍ منه، وخلوّ بعضه من الفائدة، وكونه غير متناسب، وما ذكروه من فساد النظم، ودخول اللحن فيه، وركاكة التكرار، وقلة البيان، وتأخّر المقدم، وتقديم المؤخر، إلى غير ذلك من وجوه مطاعنهم، وذكر جُمَلٍ مما رُوي من الحروف الزائدة. والقراءات المخالفة لمصحف الجماعة، والإبانة عن وَهَاءِ نقل ذلك وضعفه، وأن الحجة لم تقم بشيءٍ منه، وعرفت ما وصفتموه من كثرة استطراد الضعفاء بتمويههم وعظم موقع الاستبصار والانتفاع ببعضِ شبههم، ونحن بحول الله وعونه نأتي في ذلك بجُمَلٍ تزيل الريبَ والشبهة. وتوقف على الواضحة، ونبدأ بالكلام في نقل القرآن وقيام الحجة به. ووصف توفّر هِمَمِ الأمة على نقله وحياطته، ثم نذكر ابتداء أبي بكر رضي الله عنه لجمعه على ما أنزل عليه بعد تفرقه في المواضع التي كتب فيها. وفي صدور خلقٍ حفظوا جميعه، وخلق لم يحيطوا بحفظ جميعه، واتباع عمرَ رضي الله عنه والجماعة له على ذلك، وصوابه فيما صنعه، وسبقُه إلى الفضيلة به، والسبب الموجب لذلك، ثم نذكر جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحفٍ واحد، وحرف زيد بن ثابت، ونبين أنه لم يقصد في ذلك قصد أبي بكر في جمع القرآن في صحيفةٍ واحدةٍ على ترتيب ما أوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 به، إذ كان ذلك أمرا قد استقر وفُرغَ منه قبل أيامه، ونبين صواب عثمان رضي الله عنه في جمع الناس على حرف واحد، وحظره ومنعه لما عداه من القراءات، وإن الواجبَ على كافة الناس اتباعه، وحرامٌ عليهم بعده قراءةُ القرآن بالأحرف والقراءات التي حظرها عثمانُ ومنع منها، وأنّ له أخذَ المصاحفِ المخالفةِ لمصحفه، ومطالبة الناس بها، ومنعهم من نشرها والنظر فيها، ونذكر ما يتعلق به من ادعاء نقصان القرآن وتغيير نظمه وتحريفه من الرويات الشاذة الباطلة عن عمر وعثمان وعلي وأبيّ وعبد الله بن مسعود، وما يرويه قومٌ من الرافضة في ذلك عن أهل البيت خاصة، ونكشف عن كذب هذه الروايات، ونبين أيضاً ما خالف عبد الله بن مسعود عثمان والجماعة، وهل دار ذلك على جهة التخطئة ونسبته إيّاهم إلى زيادة فيه أو نقصانٍ منه أو تغيير لنظمه وما أنزل عليه، أو التصويب لما فعلوه، وإن استجاز بعد ذلك قرآنه والتمسك بحرفه، ونذكر ما شجر بينه وبين عثمان رضي الله عنه، ونَصِفُ رجوعَه إلى مذهب الجماعة وخنوعَه لعثمان وقدر ما نقمه من أمر زيد بن ثابت وعنّف عليه وعلى الجماعة لأجله، ثم نبين أن القراَنَ معجزةٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالة على صدقه، وشاهد لنبوته، ثم نبين أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافِ كافٍ، ونوضح ما هذه السبعة أحرف، والروايات الواردة فيها وجنس اختلافها، ونذكر خلافَ الناس في تأويلها. ونفصّل من ذلك ما ليس بصواب، وندل على صحة ما نرغب فيه ونجتبيه. ونذكر حالَ قراءات القراء السبعة، وهل قراءاتهم هي السبعة أحرف التي أنزل القرآن بها، أو بعضها وهل هم بأسرهم متبعون لمصحف عثمان وحرف زيد أو مختلفون في ذلك وقارئون أو بعضهم بغير قراءة الجماعة، ونصف جُملاَ من مطاعن الملحدين وأتباعهم من الرافضة في كتاب الله عز وجل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ونكشف عن تمويه الفريقين بما يوضح الحق، ونذكر في كل فصل من هذه الفصول بمشيئة الله وتوفيقه ما فيه بلاغ للمهتدين وشفاءٌ وتبصرة للمسترشدين توخيّا لطاعة الله وتوفيقه عز وجل ورغبة في جزيل ثوابه، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 تمهيد واعلموا رحمكم الله أن معرفةَ صواب القول في هذه الفصول والأبواب مما تعم الحاجة إليه، إذ كان أصل الدين وأسّه، وكان مما شهد الكتاب ببطلانه وجب إلغاؤه واطّراحه، وما أيده ودلّ على صحته لزم الإذعان له وإثباته، ولأن بالمتكلمين والفقهاء وقراء القرآن وأهل التفسير والمعاني ألمَ فاقة إلى الوقوف على حقيقة القول في هذه الفصول ومعرفة الصواب منها. لكثرة تخاليط أهل الضلال فيها، وقصدهم إلى إدخال الشُبهة والتمويه بما يوردونه منها، وذهاب كثيرِ من حفاظ التنزيل والمتكلمين في التأويل عن تحقق معرفتها، وحاجة الكل إلى تبين الحق من ذلك والعلم به، والمصير إلى موجبه. وقد رأيتُ أن نبدأ بذكر جُمل ما نذهب إليه في نقل القرآن ونظمه. وقيام الحجة به، وما يقوله المخالفون، ثم نشرع في ذلك حجاجنا ونقض أقاويل مخالفينا وعللهم، والذي نذهب إليه في ذلك، القولُ بأن جميع القرآن الذي أنزله الله عز وجل وأمرنا بإثبات رسمه، ولم ينسخه ويرفع تلاوته بعد نزوله، هو هذا الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان رضي الله عنه، وأنّه لم يُنْقَصْ منه شيء، ولا زِيدَ فيه، وأن بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بجميعه بياناَ شائعا ذائعا، وواقعاَ على طريقة واحدة، ووجه تقوم به الحجة، وينقطع العذر، وأن الخَلفَ نقله عن السلف على هذه السبيل، وأنه قد نُسخ منه بعض ما كانت تلاوته مفروضة، وأن ترتيبه ونظمه ثابتٌ على ما نظمه الله سبحانه، ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدّم من ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 مؤخراً، ولا أخّر منه مقدماً، وأن الأمة ضبطت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ترتيبَ آي كل سورة ومواضعها، وعَرَفَت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القرآن وذات التلاوة، وأنه قد يمكن أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحفُ عثمان، كما رتب آياتِ سوره، ويمكن أن يكون قد وكَلَ ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتولّ ذلك بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، وأن هذا القول الثاني أقربُ وأشبه أن يكون حقاً على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله. وأن القرآن لم تثبت آيُهُ على تاريخ نزوله، بل قد قدّم فيه ما تأخر إنزالُه، وأخّر بعض ما تقدم نزولُه على ما وقف عليه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وأن القرآن منزل على سبعة أحرف كلّها شافٍ كافٍ وحقٌّ وصواب، وأن الله تعالى قد خيّر القَرَأة في جميعها، وصوّبَهم إذا قرؤوا بكل شيءِ منها، كما رُوي ذلك في الآيات التي سنقصّها، ونبين قيام الحجة بنقلها، وظهورَ أمرها وانتشارها. وأن هذه الأحرف السبعة المختلف معانيها تارةَ وألفاظها أخرى مع اتفاق المعنى، ليس منها متضاد ولا متنافي المعنى ولا أحاله، وفساد يمتنع على الله جلّ ثناؤه، وأنه لم يقم علينا حجة في أنها مجتمعة في سورةٍ واحدةٍ من القرآن، بل هي متفرقة فيه، وأننا لا ندري أيها كان آخر العرض، وأن آخر العرض كان بعضها دون سائرها، وأن جميعَ هذه الأحرف السبعة قد كانت ظهرت واستفاضت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضبطتها الأمة عنه، ولم يكن شيء منها مشكوكاً فيه، ولا مرتابا به، وأن عثمان والجماعة قد أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف، وأخبرت بصحتها، وخَبَّرت الناس فيها، كما صنع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن من هذه الأحرف حرفَ أبيّ، وحرف عبد الله بن مسعود، وأن عثمان والجماعة إنما ألغت وطَرَحَت أحرفا، وقرأت أحرفاً غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 معروفة ولا ثابتة، بل منقولة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نقل الآحاد التي لا يجوزُ إثبات قرآن وقراءات بها. وأن معنى إضافة كل حرف مما أنزله الله عز وجل إلى أبى، وعبد الله. وزيد، وفلان وفلان، أنه كان أضيف إليه إذا أكثر قراءةً وإقراءً به، وملازمة له وميلاً إليه، فقط لا غير، وأنه لا يجوز إثبات قرآن أو قراءة وحرف يقال إن القرآن أنزل عليه بخبر الواحد الذي لم تقم به الحجة، على أن يثبت ذلك به حكماً، لا علما وقطعا، لما سنوضحه - إن شاء الله -. وأن الحجةَ لم تقم علينا بأن القرآن منزل بلغة قريش فقط دون جميع العرب، وإن كان معظمه منزلاً بلغة قريش. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وأن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . قرآن منزَل من سورة النمل، وأنها ليست آيةً من الحمد ولا فاتحة لكل سورة، ولا من جملة كل سورة، ولا آيةً فاصلةً بين السورتين، ومفردةً من جميعها. وأن المعوذتين قرآنٌ منزَلٌ من عند الله تبارك وتعالى، وأن استفاضة نقلهما وإثباتهما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة استفاضة جميع سور القرآن، وأن عبد الله بن مسعود لم يقل قط إنهما ليستا بقرآن، ولا حُفظ عليه في ذلك حرف واحدٌ، وإنما حكّهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلاتٍ سنذكرها فيما بعدُ إن شاء الله، وأنه لا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو أبيّ بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحدٍ من ولده وعترته حَجدُ آية أو حرفٍ من كتاب الله عز وجل، أو تغييرُه وقراءتُه على غير الوجه المرسوم في مصحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الجماعة بأخبار الآحاد وما لم يبلغ منها حدّ التواتر والانتشار، وأن ذلك لا يحلُّ ولا يسَعُ بل لا يصلح عندنا إضافةُ ذلك إلى أدنى المؤمنين منزلة من أهل عصرنا بخبر الواحد، وما لا يوجب العلم، فضلاً عن إضافة ذلك إلى جلة الصحابة والأماثل، وتعليقه عليهم بما دون التواتر والانتشار من الأخبار التي لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل، بل هو ضربٌ من الدعاء، وأنه لو كان قرآناً لنُقل نقْلَ القرآن، وحصل العلم بصحته، وأنه يمكن أن يكون منه كلاماً كان قرآناً منزلاً ثم نُسخ وأبيح الدعاء به وخُلط بكلام ليس بقرآن. وأنّ أبيّا لم يُحفظ عليه قط أنه قال: إن كلام العرب قرآنٌ منزَل، وإنما روي أنه أثبته في مصحفه، وقد يثبِت في مصحفه ما ليس بقرآن، من دعاء وتأويل مع تنزيل، وغير ذلك لوجوه من التأويل سنبينها فيما بعد إن شاء الله. وأن أُبياً وعبدَ الله بن مسعود لم يطعنا قط على مصحف عثمان والجماعة، ولا نسباه إلى أن فيه تحريفا أو تغييراً وتبديلاً، وزيادةً ونقصاناً. أو مخالفةَ نظمٍ وترتيبٍ، بل اعتقدا صحته، وأخبرا بسلامته، وإن رَأيا جواز القراءة بجميع ما انطوى عليه مصحفُهما، من غير قدع في مصحف الجماعة. وأن عبد الله بن أبي سَرح وغيره من كَتَبةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يجوز أن تسبق يدُه وقلمُه ولسانُه إلى تلاوة آية وكلمة وآيتين مما نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إظهار الرسول لذلك، إذا كان ما تقدم من إملائه يقتضي ما تسبق إليه يد الكاتب ولسانه، وأنه لم يجز أن يتفقَ مثل ذلك في السورة بأسرها، وما هو معجزٌ وآيةٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن موافقة الكاتب وسبقَه إلى مثل هذا يجعل الحَدْسَ وصحيح العلم بما يقتضيه الكلام لا يوجب الشك في صدق الرسول، والارتياب بنبوته، والقول بأنه يثبت القرآن برأيه، فكما يتفق له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 على ما روي من أن ابن أبي سرح ظن ذلك وتوهمه، فإن ما رُوي من أنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهم لترتجى غير مقطوع على أنه مسموع منه، وأنه وإن كان مسموعاً منه فإنه يجب أن يكون كلامه على وجه التقريع لهم والتفنيد لرأيهم، واعتقادهم في أصنامهم، وأنه لا يمكن على قول بعض الناس أن يكون قد كان قرآنا منزلاً ثم نسخ لموضع الشبهة به، وذهاب قريش وقومٍ من الناس عن أنه إنما تنزل على وجه الاستفهام لهم، والتعجب من قولهم، وأنه قد يمكن أيضاً أن يكون بعض قريش قال ذلك عقيب تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعظيم للأصنام فاختلط الكلام، وظن من سمعه ولم يعرف الحال أنه من تلاوة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الرسول، وأنه لا يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ساهياً ولا ناسيا، سوى كان من كلامه أو ممّا أنزل عليه ونُسخ، كما سنوضحه إن شاء الله. وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجوز منه ويصح أن ينسى شيئاً من القرآن بعد تبليغه، وسَيُذَكره ويستثبتُه من حفاظ أمته، وأنه يجوز أن يسهو عن بعض عباداته التي أمر بها، ويوقعها على غير الوجه الذي أخذ عليه، مثل ما كان منه من السهو في الصلاة، وأن ذلك أجمع غيرُ قادح في نبوته ولا مقتضي الارتياب به، ولا حاط له عن رتبة الفضل والكمال. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنَّ جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأنه لم يَمُتْ - صلى الله عليه وسلم - حتى حفظ جميع القرآن جماعة من أصحابه، وحفظ الباقون منهم سائرهُ مُتَفرِّقاً، وعرفوا مواقعه ومواضعه على وجه ما يعرف ذلك أحد ممن ليس من الحفاظ لجميع القرآن. وأن أبا بكر وعمرَ وزيدَ بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا في جمع القرآن بين اللوحين، وتحصينه وإحرازه وصيانته، وجَرَوا في كِتبتِهِ على سننِ الرسول وستته - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، وأنهم لم يثبتوا منه شيئاً غير معروف، ولا ما تقم الحُجة به، ولا أجمعوا في العلم بصحة شيء منه وثبوته إلى شهادة الواحد والاثنين ومن جرى مجراهما، وإن كانوا قد أشهدوا على النسخة التي جمعوها على وجه الاحتياط من الغلط، وطريق الحكم والإنفاذ. وأن أبا بكر رضيَ الله عنه قد أحسنَ وأصاب، ووفَق لفَضل عظيم في جمع الناس على مصحف واحد وقراءات محصورة، والمنع في غير ذلك. وأن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعترتَه، وشيعته متبعون لرأي أبي بكر وعثمان، في جمع القرآن، وأن عليا أخبر بصواب ذلك نطقا، وشهد به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وأن عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروضة على الرسول، وإلغاء ما لم يجرِ مجرى ذلك، وأخذهم بمصحف عثمان لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه، ومفروض قراءته وحفظه، وتسليم ما في أيدي الناس من ذلك، لما فيه من التخليط والفساد، وخشية دخول الشبهة على من يأتي من بعد، وأنه لم يُسقط شيئاً من القراءات الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا منع منها، وحَظَرَها. وأن جميع من رُوي عنه من الصحابة قول في تغيير القرآن أو فساد نظمه، أو ذهاب شيء منه، أو كون بعضه ملحونا أو أن إعرابه وتقويمه مأخوذ من بعض الأمة، فإن صحت الرواية إما أن أن تكون باطلة متكذبة، أو منصرفة، أو لما سنذكره ونبينه من التأويل الذي لا يعود بجحده أو بشكه في شي ءمما في مصحف الجماعة. وأنه لا مجال لإعمال الرأي والقياس في إثبات قرآن، أو قراءة وحرفٍ يقرأ القرآن عليه، وأن ذلك الجمع سنةٌ متبعةٌ وروايةٌ مأثورة، وأن هذا هو باب إثبات القرآن والقراءات وطريقه الذي لا مصرف عنه ولا معدل، وأن من أعمل الرأي في ذلك فقد ضل وأخطا الحق، وتنكّبه. وأن القراء السبع متبعون في جميع قراءاتهم الثابتة عنهم، التي لا شكوك فيها ولا أنكرت عليهم بل سوّغها المسلمون، وأجازوها لمصحف الجماعة. وقارئون بما أنزل الله جل ثناؤه، وأن ما عدا ذلك مقطوعٌ على إبطاله وفساده وممنوعٌ من إطلاقه والقراءة به، وأنه لا يجوز ولا يسوغُ القراءة على المعنى دون اتّباع لفظ التنزيل، وإيراده على وجهه، وسببه الذي أنزل عليه، وأداه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأنه لا يمكن أن يكون الحجّاج بن يوسف أو غيره من الأمراء، أو من الملوك أو من الخلفاء قد أسقط شيئاً من مصحف عثمان رضي الله عنه أو زاد فيه أحرفا، أو غيّر شيئا مما تَضمنه من قراءة أو خطٍ أو رسمِ، فلم يظهر ولم ينتشر انتشاراً تقوم به الحجة وينقطع به العُذر، ويعرف بعينه، ويضاف إلى فاعله. وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقرأ القرآن بخلاف جميع الأحرف والوجوه التي أنزل عليها، وإن كان ما قرأه لغةً للعرب، أو لبعضها، وأنه ليس في المتكلمين بلغة العرب من لا يَطُوعُ لسانه ويجري ببعض الأحرف والوجوه التي أنزل القرآن عليها، وأنّه لا يجوز القراءة بالفارسية، وأنه يجوز ويحل للألثغ والألكن والتمتام أن يقرأ القرآن على وجه ما ينطق به لسانه. وإن كنا نعلمُ أن الله جل ثناؤه لم ينزله بلفظ الألكن والتمتام. وأن القرآن آية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعجز شاهدٌ بصدقه، دالّ على نبوته من ثلاثة أوجه: أحدها: ما فيه من عجيب النظم، وبديع الوزن والرصف المخالف لجميع أوزان العرب ونظومه، وأنه لا قدرة لأحدٍ من الخلق على تأليف مثله، ونظم مثل سورة منه، أو آية من طوال سوره أو من قصار سوره، ولو كان في فصاحة يعربٍ وقحطان ومعد بن عدنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والوجه الآخر ما تضمنه من أخبار الغيوب، وذكر ما سيحدث ويكون. والوجه الثالث: ما انطوى عليه من شرح أقاصيص الأولين وسنن النبيين، وأحوال الأمم المتقدمين التي لا يعرفها ولا يحيط بها إلا من أكثر لقاء الأمم، ودراسة الكتب، وصحبة الأحبار وحملة الآثار، مع العلم بنشوء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقامه وظعنه، وأنه لم يكن يتلو قبل ذلك كتابا ولا يخط بيمينه، ولا ممن يعرف مداخلة أهل السبرِ وملابسات أصحاب الآثار وحفاظ الكتب والأخبار. هذه جُمل ما نحتاج إلى الوقوف عليه من قولنا في هذه الفصول والأبواب، وقد قال الملحدون وأشياعهم من الطاعنين على النبوة والتوحيد أن القرآن مدخول، وأنه غير ثابت ولا مضبوطٍ، وأن منه ما يعلم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يأتي به، وفيه ما لا يعرف ذلك من حاله، وأن فيه لحناً وتناقضاً وفساداً كثيراً، وما لا معنى له، ولا يحسُن التكلمُ به، وتعلقوا في ذلك بأمور سنذكر عُمَدها، ونأتي على نقضها والكشف عن فسادها. وزعم قوم من الرافضة أن القرآن قد بُدِّل وغُيّر وخولف بين نظمه وترتيبه، وأحيل عما أنزل إليه، وقُرئ على وجه غير ثابت عن الرسول. وأنه قد زيد فيه ونُقص منه، وقال بعضهم: قد نُقص منه ولم يزد فيه، وأن لو قُرئ كما أنزل لوُجد فيه لعنُ قوم من قريش وصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأسمائهم وأنسابهم، ولوُجد فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصاً عليها، كما نص على ذكر الرسول جمييه وغيره من الأنبياء. وأننا لا ندري لعل الذي في أيدينا من القرآن أقلّ من عُشر ما أنزله الله تبارك وتعالى، وأن الداجنَ والغنم قد أكل كثيراً مما كان أُنزل وأُوجب على الأمة حفظُه وضبطه، وأن علمَ ذلك ومعرفته عند الإمام الوافر المعصوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وجماعةَ الأمة أخطؤوا في جمع القرآن وجعله بين لوحين، وأنهم لم يرجعوا في ذلك إلى ثقة ويقين، بل إنما تلقطوه وأخذوه من الواحد والاثنين، ومن الرقاع واللخاف، واستشهدوا على ذلك الواحد والاثنين ومن لا تقوم الحجة بقوله وشهادته، وأن هذا هو سبب اختلاف المصاحف والقراءات، وذهاب أهل الحجاز إلى حرف. وأهل الشام إلى غيره، وأهل العراق إلى خلاف ذلك. ويحكى أن قوماً قالوا: إن القرآن موجود الذات غير مزيد فيه ولا منقوص منه، ولا متلو على غير الوجوه والحروف التي أنزل عليها، غير أن نظمه وترتيبه ليس على ما أنزل وركب، فنفس القرآن صحيح ثابت، وتأليفه ونظمه هو الفاسد، ولأجل فساد نظمه اختلف الناس في الناسخ منه والمنسوخ، والمجمل المفسَّر، والعام والخاص، قالوا: ولو قد وُضع كلُّ شيءٍ منه في موضعه وضُمّ إلى ما قُرن به، لعُرفت معانيه، وزال الاختلاف فيه، لأنه منزلٌ بلسان العرب، وبأفصح لغة، وأبيَن لسانٍ منها، فمن أين يأتيه الرّيب والاختلافُ لو رُتّب على سنته ونُظم على وجهه؟ ! قالوا: إلا أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما والجماعةَ قد أصابوا في جمعه على ما هو اليوم عليه، لأن ذلك كان جهد رأيهم وغاية وسعهم وطاقتهم، ومنتهى ما عندهم من الحزم والاحتياط، لأن القرآن لم يكن محفوظاً على تاريخ نزوله وترتيبه فيثبته القوم كذلك، وإنما كان متفرقاً في الجماعة، ومحفوظا لهم على حسب طاقتهم وما يُيسر لهم، فلم يمكنهم مع ذلك غير الذي صنعوه، فقد أصابوا فيما حاطوه من دخول خلل تحريف أكثر مما لحقه ودخل فيه، وكان الرأيُ معهم، والصواب في أيديهم حيث حاطوه وحصنوه من تزايد الغلط فيه وإيجاد السبيل إلى الإلباس فيه، وهذا القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ليس بمحفوظٍ عن أحد من السلف، ولا من التابعين، ولا من الفقهاء المعدودين، ولا من أئمة أهل القرآن والحديث، بل مذهبُ جميع من ذكرناه صدُّ هذا القول ونقضه، وأن القوم اتبعوا في نظمه وترتيبه ما سُن وشرع. فيه، وحُفظ من ضبط عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال خلق من المعتزلة وشذوذ من ضَعَفة القرّاء والمنتسبين إلى الحديث، لا يُعرف لهم في ذلك مصنف ولا ناصر مذكور يرجع إليه: إن عثمان جمع الناس على بعض الأحرف التي أنزلها الله تعالى ومنع من باقيها وحظر، لما حدث من الاختلاف والفتن، وكثرةِ التشاجر بين قرّاء القرآن. وأنه وفق في ذلك ورفق به وأقام الحق، لأن الذي جمعهم عليه كان الغرض. وقال منهم قائلون: إنه لم يحظر ما خالف حرفَه ولا منع منه، ولكن استنزل الناسَ عنه بطيب القلوب وكثرة الترغيب في حرفه، وتنبيهه لهم على أنه أحوطُ الأمور وأولاها، فانقادوا له مذعنين، ورغبوا عن ما عدا حرفه. فضعف لذلك ووهى نقله وزالت الحجة به لا عن إكراهٍ وقع في الأصل. وقال قومٌ من الفقهاء والمتكلّمين: يجوز إثبات قرآنٍ وقراءةِ حكماً لا علماَ بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه، وقال قوأ من المتكلمين إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات القرآن وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صواباً في اللغة العربية ومما يسوغ التكلّم بها. ولم تقم حجة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ تلك المواضع بخلاف موجب رأي القايسين، واجتهاد المجتهدين، وأبا ذلك أهلُ الحق وأنكروه، وخطأوا من قال بذلك وصار إليه، واحتجوا على فساده بما سنوضحه فيما بعد إن شاء الله. وهذه جملةُ ما يجبُ الوقوف عليه، وسنأتي منه عند تفصيل الكلام وترتيب الأبواب ما يأتي على البقية إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فصلٌ فيما اعتَرَض به أهلُ الفساد على مصحف عثمان وردّ شُبَههم قال جميعُ من دان بما وصفناه في مصحف عثمان رحمة الله عليه: إننا وجدنا الأمةَ مختلفةً في نقله اختلافاً شديداً بشيعاً، حتى صرنا لعظيم اختلافهم لا نقف على صحيحه من فاسده، ولا نعرفُ الزائدَ منه ولا الناقص، ولا نعرفُ موضع كلّ شيءٍ منه الذي أُنزل فيه وما قبلَه وما يليه، وقال قومٌ منهم: إنه لا يعرفُ الناقص منه إلا الإمامُ الذي أُودع علمَه وشيعتُه، وهذا قول من أنكر الزيادة فيه وأقر بنفصانه، قالوا: لأن أبا بكرٍ وشيعتهُ هم الذين تولّوا نظمه وترتيبه وجعله سوراً أو كثير منه وقدّموا منه المؤخر، وأخّروا المقدّم، ووضعوا كثيراً منه في غير حقه، وأزالوه عن موضعه الذي هو أولى به، قالوا: والحجة لذلك أنه قد عُلم أن المصحفَ الذي في أيدي الناس إنما هو مصحف عثمان الذي جمعه، وجمعَ بعضَه من قبله أبو بكرٍ وعمر، وإنما كانوا يجمعونه - زعموا - ويتبينونه بشهادة اثنين إذا شهدا على أنه قرآن. وخبرُ الاثنين وشهادتُهما لا توجب علماً ولا تقطع عذراً. قالوا: وقد قامت الأدلة القاطعة على نقصانه وفساد كثيرٍ من نظمه، وكونه غيرَ متناسبٍ ولا متلائم، قالوا: وما نجده من اختلاف القَرَأةِ السبعة، وأصحاب الشواذّ، وما رُوي وظهر من اختلاف سلفهم لزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ، وما خرجوا إليه من المنافرة والمشاجرة وإعظام القول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وإدخال بعضهم في القرآن ما ليس منه، كأبي وإدخاله دعاءَ القنوت في مصحفه، وعبد الله بن مسعود وإلغائه الحمدَ والمعوذتين من مصحفه. وإنكاره أن يكون من القرآن: أوضحُ دليل على ضعف نقل القرآن ووهائه. ، وأن الحجةَ غيرُ قائمةٍ به وأن القومَ إنما جمعوه ورتبوه على آرائهم وما استصوبوه بغالب ظنهم واجتهادهم، وأنهم يقدّمون بذلك بين يدي مُنزِله الحكيمِ العليم، وأن القَرَأَةَ مثلَ عبد الله بن مسعود وأبيّ وزيد بن ثابت ومن أخذ عنهم إلى القراء السبعة إنما قرؤوا القرآنَ بحسب اجتهادهم وما قوي في ظنهم، وما استحسنوه ورأوا أنه أولى وأشبه من غيره، فلذلك صار أهلُ مكة إلى قراءة، وأهل الكوفة إلى أخرى وأهل البصرة إلى غيرها، وأهل الشام إلى خلاف ما عليه سواهم من أهل الأمصار. قال أهل الإلحاد: فكل هذا يدل على اضطراب نقل القرآن وضعفه وأن الحجة غيرُ قائمةٍ به، وإن أحسن أحواله أنه لا يُعرف ما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - منه، وأيُّه على ما أتي به من غيره، ولا يوقف على صحيحه من فاسده، وناقصه من زائده، وموضعه الذي أنزل فيه من غيره. وقال كثيرٌ من الشيعة إن الأمر في هذا أجمع على ما قاله الملحدون. غير أننا نعلم أن علمَ ذلك أجمع عند الإمام المعصوم العالم المنتظر، وأنه حافظٌ له على سبيل ما نزل، وأنه يجبُ الرجوعُ إليه في معرفة هذا الباب. وقال فريقٌ من الرافضة: إن جميعَ هذه المطاعن على القرآن والصحابة صحيحةٌ، إلا ما ادُّعي من الزيادة في القرآن فإنه لا أصلَ - لذلك، وأنه لا يمكن أن يزادَ فيه شيءٌ من مجازه ونظمه، قالوا جميعاً: وإنما تورّطَ سلفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 هذه الأمة وخلفها في هذا الجهل والاختلاف والحيرة والتضييع لمّا قهروا وتآمروا وتجبّروا وغَصبُوا الإمامَ حقه وأزالوه عن رتبته، وخالفوا ونقضوا عهدَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولو قد كانوا ردّوا الأمر إلى أهله وأقرّوه في نصابه وسلّموه لمستحِقّه ووقفوا حيثُ رتبوا، وأخذوا علمَ ما كُلفوا من بابه ومعدنه وعظّموا من أمروا بتعظيمه والرجوع إليه والاقتباس منه: لاجتمعت كلمتُهم، وزال اختلافهم، ووصلوا إلى الحق الذي أمروا به وسَلِمُوا من تضليل الإمام والوقوع في الجهل والضلال، فيقال لهم: أما ادعاؤكم أن علة تورّط الناس فيما وصفتم مخالفتُهم الإمام المعصوم المنصوصَ لهم على إمامته ووجوب اتباعه وأخذ الدين عنه والانقياد له، فإنه باطلٌ لا أصلَ له، لما قد أوضحناه وبيناه في كتابي "الإمامة" من بطلان النصّ وثبوتِ الاختيار، وإطباقِ الأمة من السلف على العمل بذلك وتسليمهم الأمرَ إلى من عقد له جهة الاختيار، وأن هذه الجملةَ مذهبُ أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام ودينُه، والظاهرُ المشهورُ عنه في أفعاله وأقواله من حيثُ لا سبيلَ إلى دفعه وإنكاره. وأما ادّعاؤكم لتخطئة الخلف والسلف في نقل القرآن، وتضييعه وإهمال أمره وذهابهم عن علم صحيحه من فاسده، وعملهم في ترتيبه ونظمه والحرف الذي يقرأ به على آرائهم وظنونهم من غير عملٍ على توقيفٍ وخبر. ولا حفظٍ لرواية وأثر، فليس الأمرُ في ذلك على ما ادعيتم ولا مما يذهب تخليطكم فيه على ذي تحصيل، وأن الصّدر الأول ثم من بعدهم من التابعين وجميع المسلمين وقادتهم وحكّامهم وفقهائهم في سائر الأعصار كانوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 حالةٍ معروفةٍ من تعظيم شأن القرآن وإجلاله، وعظم محلّه من قلوبهم. وقدره في نفوسهم، والتقرّب إلى الله عز وجل بتعلُّمه وتعليمه، وتحصيل أعظم الثواب والشرف بحفظه، واعتقاد انحطاط كل عالم عن رتبة الكمال بالتقصير في حفظ جميعه، وتدبر مواقعه ومواضعه، إلى غير ذلك من كثرة فضائله عند كافّة المسلمين في كلّ وقت وأوان، متّبع عند كل عاقلٍ عرفهم ، وعرف حالَ القرآن في نفوسهم، وحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضه على تعليمه والتحذيرُ من تضييعه ونسيانه، وتغليطُ الأمر في ذلك. من أن يُظن بهم التشاغلُ عن ضبطه والتفريطُ في حفظه، وقلةُ الاحتفال به، وإثباتُ حفظ غيره، والعدول عنه إلى سواه. وكيف يتفقُ ذلك لهم أو يمكن في العادة وقوعه منهم والقرآنُ عندهم كتابُ ربهم، وأسُّ شريعتِهم، ويُنبوع علومهم، ومجموع فضيلتهم. والمحتوي على أحكامهم وتفصيل دينهم، وهو مفزَعُهم ومعقلهم، والقاضي عليهم والفاصلُ بينهم، ومدارُ أمرهم وقطبُ دينهم، الذي لا شيءَ عندَهم أعظمُ منه شأنا، ولا أحق بالحياطة والحفظ والتحصين من كل سبب يوهنه. وكيف لا يكون ذلك كذلك عندهم وقد سمعوا الله جلَّ ثناؤه يقول: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) . ويقول تعالى (فَرُدُّوُه إلى اللَّهِ وَاَلرسُولِ) . ويقول سبحانه: (تِبيانا لِكُلِ شَيءٍ) . و (مَّا فَرطْنَا فِى اَلكتاب) . ويقول تعالى: (بَيَان للِنَّاسِ) ، ويقول جلَّ وعزَّ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) . ويقول جلَّ اسمه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . و (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) . ويقول جلَّ ثناؤه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويقول تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) . ويقول تعالى ذكره: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) . ويقول: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) . ويقول سبحانه: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) . ويقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) . يمكن أن يتفق من مثل الصدر الأول مع شدة تَبيّنهم وتشدّدهم وتبسُّطهم وتمسُّكهم بالواجب عليهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة دينهم. والجهاد عن نبيهم، وقتل الآباء والأبناء في طاعته، وفرض الاتّباع له، أن يغفُلوا عن حفظ كتاب الله وضبطه، مع ما قد سمعوه من تعظيم الله سبحانه لشأن كتابه وإجلاله، والأمر بالرد إليه والإذعان لحكمه، وهم قد علموا مع ذلك أنّه أسُّ دينهم، وأصل شريعتهم، وأنّ الصحيح ما نطق بصحته والباطل ما أفصح بفساده. وهم مع هذه الحالة التي ذكرناها من حياطة الدين، وبذل النفوس والأموال، ومفارقة الأوطان في نصرة الرسول، من ذرابة الألسن، وجودة القرائح، وثاقب الأفهام، وسهولة الحفظ عليهم، ولصوق الكلام بقلوبهم. على حال لم يكن عليها أحدٌ قبلهم، ولا ساواهم فيها أحدٌ بعدهم، فإذا لم يكن بهم من قلَّة الدين والتهاون بأمر رب العالمين، وشأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على ترك الإحفال بالقرآن، والتصغير لشأنه، ولم يكونوا من سوء الإفهام وجلافة الطباع، وقلة الحفظ وتعدد الكلام، والعيّ واللّكنة، بحيث يصدهم ذلك عن حفظ كتاب ربّهم، ومدار شريعتهم، فأيُّ سبب يقتضي جواز توافي هممهم ودواعيهم على ترك تحفظ القرآن وضبطه، والتشاغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بغيره عنه، وقد عُلم بمستقر العادة أنّه لا يجوز أن يذهب أهل كلّ علمٍ انتصبوا له، وقالوا بتعظيمه وتفضيله، ورأوا الشرف في حفظه، والنقص التامّ بالذهاب عنه، وعن حفظ أشرف بابٍ فيه، وضبط أعلى ضربٍ من ضروبه، ولا يجوز أن يتفق منهم - على كثرة عددهم - تركُ حفظ كلام من هو أصل ذلك العلم ومنبعه والرجوع إليه فيه والتشاغل بغيره. هذه قصة الشعراء والخطباء وأصحاب الرسائل وعلم العربية وطلب علم العروض، والأطبَّاء والفلاسفة، وأهل كل علم وصناعة، بها يصونونه وعليها يعوّلون، في أنه لا يجوز عليهم التهاون بحفظ ما عظم قدره عندهم. والاشتغال بما دونه، ولا حفظ كلام الجاهل عندهم والعُدول عن حفظ قول العالم المبرّز، فإذا كان ذلك كذلك وكان شأن المسلمين في التديُّن والتمسك بالشريعة ما وصفناه، وحال القرآن عندهم وفي نفوسهم، وقدره في دينهم ما ذكرناه كان ذلك مانعاً من ذهابهم عن حفظهم له، وتوافي هممهم على إهمال أمره، والتشاغل بغيره. وكل ما وصفناه من حالهم وحال القرآن من نفوسهم من أدلّ الأمور على جهل من ظنّ بهم احتقاره وتضييعه والاشتغال بغيره عنه، وأنّ الغنم والداجنَ أكلَ كثيراً منه لم يكن له أصلٌ ولا نسخة عند غير من أُكل من عنده، وأنّه لم يكن المكتوب في المصحف مما أكل ومما لم يُؤكل محفوظاً في صدور كثير من الأمّة بأسره، ومتفرقا عند آخرين منهبم، فإنه لو ظنّ ظان أن الغنمَ والداجنَ أكل كثيراً من كتاب إقليدس، أو "المجسطي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لبطليموس، الذي كان عند علمائهم وأصول هذا العلم منهم، فضاع ودرس لكان جاهلاً غبيّا أو متجاهلاً، وكذلك لو توهم متوهمٌ أن نصف (قِفا نبكِ) ، (وألا هبي) ، وثلثي شعر الأعشى والنابغة، وشطر كتاب سيبويه، وثلثَي كتاب (الأم) للشافعي ومعظم موطَأ مالك قد ضاع وذهب وأكلته الغنم والدواجن من عند كل عالم بهذا الباب، وأنه لم يكن بقي منه إلا نسخة واحدةٌ عند رجلٍ واحد، ولم يكن حفظ تلك النسخة عند غيره بعد أن استفاض ذلك العلم وانتشر، وسُمع من قائله وحُفظ ودوِّن لكان من الجهل والتخلف والذهاب عن معرفة عادات الناس في حفظ هذه الأبواب من العلوم بمحل من لا يستحق الكلام. إذا كان ذلك كذلك وكانت الصحابة أشدّ في دينها من كل أحد، وفي حياطته وحراسته من جميع من ذكرنا وكانوا قد مكثوا نَيْفا وعشرين سنة ينزل فيهم القرآن على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويسمعونه منه ويتلَّقونه عنه، ويعملون بمحكمه، ويسألون عن متشابهه وغامضه، ويتَعظون بمواعظه، ويصيرون إلى موجبه، ويعرفون أسبابه والأحوال التي نزل عليها، وهو آية نبيهم وأعظم حجةٍ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقد عرفوا تحدِّي النبي - صلى الله عليه وسلم - للعرب أن تأتي بمثله مجتمعين ومتفرقين، وأنه أعجزهم وأفحمهم، وكان شجىّ في حلوقهم، وأنّهم تَشَتَّتَتْ آراؤهم واختلفت أقوالهم لمّا تُحُدُّوا أن يأتوا بمثله، ومنهم من كتبه مصحفاَ ودوّنه، كأبي وعبد الله بن مسعود وعليّ بن أبي طالب على ما ترويه الشيعة وغيرهم: لم يُجز على الصدر الأول ومن بعدهم - مع أنّ حالَهم ما وصفناه، وحالَ القرآن عندهم ما نزلناه ورتّبناه - أن يهملوا أمرَ القرآن ويتشاغلوا عن حفظه، ويقصّروا عن واجبه، أو يغيروا شيئاَ من نظمه، أو يضعوا مكان كلّ شيء منه غيره، وأن يتساهلوا في ذلك وهم قد ضُيِّق عليهم هذا الباب، وأخذوا بتلاوته وإقرائه على ما لُقنوه وتلقّوه، وشُدد عليهم الأمر في هذا الباب. فمَن ظن أنه لم يكن القرآن يوم أَكل الداجنُ بعضَه إن صح هذا الخبر عند أحد من الأمة، ولا في صدره، ولا عند أكثرهم عدداَ، حتى ذهب وسقط منه شيءٌ كثير عند كثير، فليس هو عندنا بمحل من يُكلَّمُ، ولا يُنتفَع بكلام مثله، لأنه بمثابة من لا يعرف الضرورات، وما عليه الفِطَرُ والعاداتُ. وهو إذا كان ذلك أبعد عن معرفة ما يُحتاج فيه إلى لطيف بحثِ واستخراجِ. وكيف لا يكون حال الأمة في أمر حفظ القرآن والقيام به وبتحصينه وحياطته والمحافظة على درسه وتأمُّله وتعلّمه وتعليمه، التقديم له على كل مهم ماسّ من أمر دينه، مع الذي وصفناه مما ورد في نفس التنزيل المحفوظ من تعظيم شأن القرآن، والأمر بتدبره والرجوع إليه، والعمل عليه، مع كثرة ما سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحض على تعلمه وتعليمه والأمر بالتفقه به، والحث على حراسته، والإكثار من تلاوته، وضمانه الثواب الجزيل على قراءة كل حرفِ منه، وتفضيل أهل القرآن على سائر الناس، والتعظيم لشأنهم والإخبار عن رفيع درجتهم عند الله، وما أعده لهم، إلى غير ذلك مما قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تظاهرت الأخبار بذكره، وعُلم في الجملة ضرورةً من دين النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ به والدعاء إليه، والتفخيم لشأن القرآن وإجلال حملته نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ هذا القرآن مأدُبة الله "، و "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه "، و "ليؤمّكم أقرؤكم لكتاب الله ". فلقد أخرجهم تكرر سماع هذه الأقاويل من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إكثار وصيّة بعضهم لبعضٍ بحفظ القرآن وتعلُّمه وتعليمه، والمحافظة عليه، والتحذير من تضييعه حتى رُوي عنهم في ذلك أمرٌ عظيمٌ يطول تتبعه واقتصاصه، وكيف يظنُّ بالأمّة التي حالها ما ذكرناه تضييعها لوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوافي هممها على العدول عن حفظ القرآن على وجه ينفي عنه الخلل والتضييع، لولا الجهلُ وقلة الدين. وقد روى أنسُ بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لله من خلقه أهلون، فقيل: من هم يا رسول الله، قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصّته "، وروى أنسُ بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ مائةَ آيةٍ كُتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آيةٍ لم يُكتب من الغافلين، ومن قرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ثلاثمائة آيةٍ لم يُحاجه القرآن "، وروى الضخاك عن عبد الله بن عباس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشرف أمتي حملةُ القرآن وأصحاب الليل". ورُويَ بهذا الإسناد أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاثة لا يكترثون بالحساب، ولا تُفزعهم الصيحة، ولا يحزنُهم الفزع الأكبر: حامل القرآن، المؤدي إلى الله بما فيه، يقدُمُ على ربه سيداً شريفاً حتى يُرافق المُرسلين، ومؤذن أذن سبع سنين لا يأخذ على أذانه طُعما، وعبد مملوك أحسنَ عبادة ربه ونصحَ لسيدة، أو قال: لمواليه ". وروت عائشةُ زوجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله " - صلى الله عليه وسلم -: "قراءة القرآن في صلاةٍ أفضل من قراءة القرآن في غير صلاة، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح والتكبير، والتسبيحُ والتكبيرُ أفضلُ من الصدقة، والصدقةُ أفضلُ من الصوم، والصومُ جُنة من النار"، وهذا تفضيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقراءة القرآن على سائر أعمال البر. وروى عبدُ الله بن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان الكتاب الأول نزل من بابٍ واحدٍ على حرفٍ واحد، ونزل القرآنُ من سبعةِ أبوابٍ وعلى سبعةِ أحرف، زاجر وآمر، وحلال وحرام، ومحكَم ومتشابه، وأمثال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، واعملوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم. واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا"، وفي هذا الخبر من الحث على حفظه والأمرِ بالنزول عند حكمه والقطع على موجبه ما لاخفاءَ به على أحد. وروى عاصمُ بن ضمرةَ عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ القرآن ظاهراً أدخله الله الجنة مع عشرة من أهل بيته، كلهم قد استوجبوا النار"، وروى أبو الدرداء قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) ، إلى آخر الآية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فقال: أما السّابقُ فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصدُ فيُحاسبُ حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة بفضل رحمةِ الله، وأما الظالم لنفسه فأولئك يُوقَفون يومَ القيامة موقفا كريهاً حتى يُنال منهم، ثم يُظلّهم الله برحمته، فهم الذين قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) . وفي هذا الخبر من التعظيم لشأن حافظ القرآن وحسن منقلبه وإن كان ظالماً لنفسه ما لا خفاءَ فيه. وروى الناسُ أنّ عمر بن الخطاب تلا هذه الآية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) إلى آخرها ثم قال: "سابقكُم سابق، ومقتصدكم ناجٍ، وظالمكم مغفور له ". وروي أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "ألا إنَّ أصفر البيوت من الخير بيت صُفر من كتاب الله، والذي نفسُ محمدٍ بيده إنَّ الشيطانَ ليخرج من البيت أن يسمع سورةَ البقرة تُقرأ". وروى ابنُ عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا حسدَ إلا في اثنين: رجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار ورجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقومُ به آناءَ الليل وآناءَ النهار". وهذا حث وترغيب شديد على حفظ القرآن والقيام به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وروى عبدُ الله بن مسعودٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن هذا القرآن مأدبةُ الله، فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إنَّ هذا القرآن حبلُ الله، وهو النورُ النيِّر، والشفاءُ النافع، عصمةُ الله لمن تمسكَ به، ونجاةٌ لمن تبعه، لا يعوجُّ فيقوّم، ولا يزيغُ فيُستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلُوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرفٍ عشرَ حسنات، أما إني لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر"، وهذا غاية الحث على حفظ القرآن والتعظيم لشأنه. وروى أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القرآنُ شافعٌ ومُشفع، وماحِلٌ مصدّقٌ، ومن شفع له القرآنُ يوم القيامة نجا، ومن محل به القرآن كبَّه الله يوم القيامة على وجهه في النار"، وأحق من شفع فيه القرآن أهله وحملته، وأولى من محلَ به من عدل عنه وضيعه، والصحابة أجل قدراً وموضعا من أن يتفق لسائرهم الدخول في هذه الصفة والنقيصة. وروت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الذي يتعاهد القرآن ويشتد عليه له أجران، والذي يقرأه إنيٌ وهو خفيفٌ عليه من السفرة الكرام البررة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وروى عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصف فقال: "أيكم يحب أن يغدو إلى بُطحانَ والعَقِيق، ويأتي كل يوم بناقتين حمراوتين زهراوين يأخذهما من غير إثمٍ بالله ولا قطع رحم. قالوا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، قال رسول الله: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ من ثلاث، وأربعٌ خيرٌ من أربعٍ، ومن أدادٍ من الإبل". وروى أبو عبد الرحمن السُّلمي، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضَلُكم من تعلم القرآن وعلَّمه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وروى إسماعيل بن عيّاش قال: سمعت أبا أمامةَ الباهلي يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من علم رجلاً آيةً من كتاب الله فهو مولاه، لا يخذُله ولا يستأثر عنه ". ثم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بتعليمه لله وطلب مرضاته فقط، ويحرم أخذ الأجر عليه، فروى ضمرة بن حُبيب عن زيد بن ثابت، أن رجلاً كان يُعلّمه أتاه بقوس، فقال: هي في سبيل الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قوسٌ من نار، تَقَلّدْها أو دَعْها"، فردّها إليه". وهذا غاية الوعيد. ثم لا يقنع بحثهم على حفظ القرآن وتعلمه حتى يأمرهم بالتنغُم به. وبحسن تلاوته، فرُوي من غير طريقٍ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لـ أسيد بن حضير: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود"، يريد حسنَ صوته بالقرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وروى أبو هريرةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فسمع قراءةَ رجلِ فقال: "من هذا، " فقيل: عبد الله بن قيس، فقال: "لقد أوتيَ هذا مزماراَ من مزامير آل داود"، في كثيرِ من الروايات، وروى أيضًا أبو هريرة وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن أحسن الناس صوتاَ بالقرآن، فقال عليه السلام: "الذي إذا سمعتَه رأيته يخشى الله ". وفي خبرِ آخر: أيُّ الناس أحسن قراءةَ، فقال: "الذي سمعته وأُريته يخشى الله ". ثم إنه بالغ في زجرهم عن نسيان ما حُفظ من القرآن وتضييعه، وضيّق الأمرَ فيه وشدده، وكرر القول في ذلك تكراراَ يردع من به أدنى مُسكةِ في الدين عن مخالفته، فضلاَ عن الصحابة الجلة عليهم السلام، وروى أنسُ بن مالكِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عُرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجلُ من المسجد، وعُرضت عليّ ذنوبهم، فلم أرَ منها ذنباَ أعظمَ من رجلِ تعلم آيةَ أو سورةَ من كتاب الله ثم نسيها". وهذا تحذيرٌ وتشديدٌ من تضييعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وروى سلمان الفارسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أكبر ذنب يوافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم فنسيها"، وهذا كالأول. وروى سعدُ بن عبادة قال: قال رسول الله - عز وجل -: "ما من أحدٍ تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقيَ الله أجذَمَ ". وروى عبد الله بن مسعودٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بئسَ ما لأحدكم أن يقول: نسيتُ آية كيتَ وكيتَ، بل هو نُسّي، استذكِرُوا القرآن فإنه أسرعُ تفلُّتاً من قلوب الرجال، من الإبل من عُقُلِها"، وفي روايةٍ أخرى عن موسى بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أبي علي بن رباح، عن أبيه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلّموا كتابَ الله، وتعاهدوه، وتغنوا به، فوالذي نفس محمدٍ بيده لهو أشدُّ تفلتاَ من المخاض من العُقُل ". وهذا غاية الوعيد والتحذير من نسيانه. وروى أبو سعيدٍ الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تعلّموا القرآن وسَلُوا الله به قبلَ أن يتعلمه قومٌ يسلون به الدنيا، فإنّ القرآن يتعلمه ثلاثةُ نفر: رجلٌ يباهي به، ورجلٌ يستأكل به، ورجلٌ يقرؤه لله عز وجل ". وفي روايةِ أخرى أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا القرآن قبل أن يجيء قومٌ يقيمونه كما يُقام القدح، يتعجّلون أجره ولا يتأجلون ". ويتبع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير جداً، وفي بعض ما ذكرناه كفاية فيما قصدناه. فمن ظن أن الصحابةَ مع ما وصفناه من حالهم، وفضل دينهم وشدة حرصهم وقوة دواعيهم على حفظ الدين والنصيحة للمسلمين، أنهم يضيّعون ما وجب عليهم من حفظه ويُهملون أمره، ويحرفونه عن مواضعه، ويتلونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 على غير وجه ما أُمروا به، وهم يسمعون هذه الأقاويل وأضعافها مما أضربنا عن ذكره من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويسمعون من تعظيم الله لشأنه، ويُقدِمُون على مخالفة الله ورسوله: فقد أعظمَ الفرية عليهم، وبالغ في ثلبِهم، وفارقَ بما صار إليه من ذلك مذهب العقلاء، وجحد العادةَ التي ذكرناها الموجبةَ لحفظ القرآن وشدة الاعتناء بتحصيله وحياطته، ولقد رُوِيَ عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدَهم من التابعين في حثّ بعضهم لبعضٍ على حفظ القرآن وتلاوته، والعملِ بموجبه والإعظامِ لشأنه ما يطول ذكره واقتصاصه. فروى حسّان بن عطيةَ قال: قال أبو الدرداء: "لا يفقه الرجلُ كل الفقه حتى يعرف القراءاتِ ووجوهَها"، وروى الحكمُ بن هشامٍ الثقفي عن عبد الملك بن عُمَير قال: كان يقال: أنقى الناس عقولا قرّاءُ القرآن ". وقال عطاءُ بن يَسار: "بلغني أن حملة القرآن عُرفاءُ أهل الجنة"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وروى سالمُ بن أبي الجعد عن معاذ قال: "من قرأ في ليلة ثلاثمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ ألف آية كان له قنطارٌ من بر، القنطارُ منه أفضلُ مما على الأرض من شيء". وروى حِطّان بن عبد الله الرقاشي عن السَّدُوسي قال: "قدم علينا جُندُب بن عبد الله البصرة، فلما أراد أن يخرج شيّعناه وقلنا له: أوصِنا يا صاحبَ رسول الله، فقال: من استطاع منكم أن يجعل لا في بطنه إلا طيبا فليفعل، فإنه أول ما ينتن من الإنسان، ومن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الجنة مِلء كفّ من دم امري، مسلم يُهريقه كأنما يذبح به دجاجة، لا يأتي بابا من أبواب الجنة إلا حالَ بينه وبينه: فليفعل، وعليكم بالقرآن فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 هُدى النهار ونورُ الليل المظلم، فاعملوا به على ما كان من جَهدٍ وفاقة. فإن عَرَضَ بلاءٌ فقدّموا أموالكم دون دمائكم، فإن تجاوزها البلاءُ فقدّموا دمائكم دون دينكم، فإن المحروبَ من حُرِبَ دينُه، وإنّ المسلوبَ مَن سُلِبَ دينُه، إنه لا فقرَ بعد الجنّة، ولا غنى بعد النار، وإن النارَ لا يُفَك أسيرُها. ولا يستغني فقيرُها، والسلامُ عليكم ورحمة الله ". فكيف يعدلُ قومٌ هذه صفتهم وحالهم عن حفظ كتاب ربّهم، وتضييع ما وجب عليهم. وقال أبو هريرة: "نعمَ الشفيعُ القرآنُ ". قال شعبةُ، وهو راوي الحديث عنه: "نعم، وأحسبه قال: يقول يوم القيامة: يا ربّ حلّه، فيُلبسه تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربّ زِدْهُ، فيُكسى حُلّةَ الكرامة، فيقول: يا ربّ ارضَ عنه، فإنه ليس بعدَ رضاك شيءٌ. قال: فيرضى عنه ". وقد روي مئل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريقٍ آخر ذكر فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني. فيقول له: ما أعرفك، فيقول له: أنا صاحبُك، القرآنُ الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرتُ ليلك، إنَّ كل تاجرٍ من وراء تجارتُه، وإني اليوم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وراء كل تجارة، قال: فيعطى المُلكَ بيمينه، والخُلدَ بشماله، ويُوضَع على رأسه تاجُ الوقار، ويُكسى والداه حُلّتين لا يقوم لهما أهلُ الدنيا، فيقولان: بما كُسينا هذا، فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغُرَفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ، حدراً هدراً أو ترتيلاً". وكيف يصحّ أن يتفق الأمة جميعا أعلى، تضييع كتاب الله وهم قد سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثال هذه الأقاويل وهذا التفخيم لشأن القرآن وحَمَلته من التعظيم، والمُرادُ بذكر القرآن في هذا الخبر. وفيما يروى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: البقرةُ وآل عمرانَ يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان يُظلاّن صاحبهما". ونحو ذلك: أي ثوابُ القرآن يأتي كذلك، وكذلك ثوابُ القرآن هو الذي يقول: يا رب، ويصوَّر في تلك الصورة، لأنّ الثوابَ فعلٌ مخلوق، وليس كذلك القرآن، نعنى كلام الربّ جل وعز لا القراءة التي في مقابلتها الثواب، ويمكن أن يبعثَ الله ملكاً يتصوّر للمؤمن الحامل لكتاب الله في تلك الصورة ليُسكِّن روعه، ويُزيل خوفَه، ويسميه قرآنا على معنى أن كلامه وتسكينه من ثواب قراءة القرآن، وكذلك يخلق الله تعالى جسمَين عظيمَين يوم القيامة، يبشّران قارئ القرآن، على معنى أن بُشراهما من ثواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قراءة البقرة وآل عمران، فلا معنى لرد ما ورد من نحو هذه الأخبار من تعظيم شأن حَمَلة القرآن من طريقٍ ثبتت إذا احتملت من التأويل ما وصفناه، قال عبدُ الله بن عمر: "من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوةُ بين جنبيه، فلا ينبغي لصاحب القرآن أن يلعبَ مع من يلعب، ولا يرفُثَ مع من يرفُث، ولا يتبطّل مع من يتبطّل، ولا يجهلَ مع من يجهل". وهذا تعظيم منه لشأن القرآن وأهله بيّنٌ شديد. ولما قدم أهل اليمن أيامَ أي بكرٍ سمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر: "هكذا كنا ثم قست القلوب "، يعني بذلك أن قلوبَ كثيرٍ من أهل ذلك العصر قست، دونه ودُون الأئمة ومن جرى مجراهم من جفة الصحابة، وقد يمكن أن يكون ذلك على وجه العظة وطلب الزيادة والخشوع. وقد روى الناس أن عمر بن الخطاب قرأ مرةً: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) . قال: فرن لها رنةً عيدَ منها عشرين يوما، فكيف يُضيّع كتابَ الله من هذا تأمُّله له واتعاظُه به، وانتفاعُه بقراءته واستماعه. وكان ابن عمر إذا صلى يترنح ويتمايل حتى لو رآهُ راءٍ ممن يجهله لقال: أُصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مرَّ بقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ولو قُصد بالتقصّي جميعُ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين من فضائل القرآن وقراءته، وما خصّ الله به أهله، لأخرَجَنا كثرةُ ما رُوي فيه عن غرض الكتاب، وإنما ذكرنا هذه الجمل في فضائل قراءة القرآن وحملته والاتعاظ به، وإيجاب الرجوع إليه، والتعلّق به، ليَعلم متأمّل الحال في ذلك أن من صريح عادات الناس في حفظ القرآن وما قصُر عن رتبته من أصول الشرع بخلاف ما تدّعيه الشيعةُ من اضطراب نقله، وذهابِ أهل الإسلام عن صحيحه من فاسده، وسلميه وسقميه، وزائده من ناقصه، وأنّ مثل هذا الاضطراب إذا لم يَجُز أن يقعَ في أشعار الشعراء، وخُطَب الخطباء، ورسائل البُلغاء، والأمثال السائرة، وسائر الأمور التي بالناس إلى علمها حاجةٌ مما ظهر أمرُه واشتهر، وقد بيّنا أن ظهور القرآن فوق ظهور جميع هذه الأمور، وأن بالناس إلى معرفة جميعه وترتيب نظمه والإحاطة به ومعرفة لُبابه ومخارجه: أتمّ فاقةٍ وأشدّ حاجة، وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ بطلانُ ما يدّعونه من اضطراب نقل القرآن، وذهاب الناس عن علم صحيحه من سقيمه، وإمكانِ دخولِ الشبهة فيه والزيادة عليه والنقصان منه. (فصلٌ) ، دليلٌ آخر: ومما يدل أيضاً على أن القرآن المرسومَ في مصاحفنا هو جيمعُ كتاب الله الذي أنزله على رسوله، وفوَّض حفظَه وإثباته والرجوع إليه، نقلُ جميع السلف والخلف الكثير من بعدهم الذين ببعضهم تثبت الحجة وينقطعُ العذرُ أنّ هذا القرآن الذي في أيدينا هو جميعُ كتاب الله الذي أنزلهُ وأمر بحفظه وإثباته والرجوع إليه، وقد عُلِمَ أن التشاجر والتراسل واتّفاق الكذب متعذرٌ ممتنعٌ على مثلهم، فوجب لذلك العلمُ بصحة ما نقلوه، وسقوطُ كل روايةٍ جاءت من جهة الآحاد بخلاف ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وما يجوز أن يروى من ذلك ويُفتعل ويكذَّب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المستقبل، لأن نقل ما ذكرناه أوجبَ لنا علم الضرورة بصحة ما نقلوه. وانتفاءَ السهو والإغفال والكذب والافتعال عنهم لما هم عليه من كثرة العدد واختلاف الطبائع والأسباب والهِمَم. ولو ساغ لمدعي أن يدّعي أن القرآن قد نقص منه لأجل ما روي عن عمر وعبد الله بن مسعود في المعوذتين وغيرهما، أو زيد فيه ما ليس منه لأجل ما روي عن أبي من إثباته القنوت في مصحفه، أو لأنه لا يدري أن القرآن الذي في مصاحفنا زائد أو ناقص، أو على ترتيب ما أُنزل أم لا. لأجل ما رُوي عن الآحاد من الزيادة فيه أو النقصان منه، ولأجل ما رُوي من اختلاف مصاحف الصحابة، وبجعل ذلك ذريعةً إلى دفع النقل الظاهر المشهور: لساغ لآخر أن يدّعي أنه لا يدري أن هذا المصحف الذي في أيدينا هو مصحف عثمان على وجهه ونظمه وتأليفه، أو قد زِيد فيه ونُقص منه، أو نقطعُ على أنه مغيّر ومبدل عما كان اجتمع عليه عثمانُ والجماعةُ في وقته، وإن كان هذا المصحف قد نقل عن عثمان نقلاً متواتراً مستفيضاً. لأجل ما يرويه ويظنه كثير من الناس - ومن الشيعة خاصةً - من أن الحجّاجَ بن يوسف قد غيّر المصحف الذي هو إمام عثمان وزاد فيه أحد عشر حرفاً. ونقص منه، وأخذ مصاحف أهل العراق ونشر فيهم ما كان غيّره وزاده ونقصه، فلما لم يجُز ذلك ووجب القطعُ على صحة نقل من نقل مصحف عثمان، وترك الإحفال والاكتراث، بخلاف من خالف في ذلك وادّعى أنه مغيّرٌ ومبدّلٌ عما أمر به عُثمان ورسمه زيد والصحابةُ والجماعةُ وجبَ لمثل هذا بعينه القطعُ على صحة من نقل أن مصحف عثمان هو جميعُ الثابت من القراءات عن الرسول، وأنه مثبتٌ على ما أنزله ورتبه الرسول، لأنهم قومٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ببعضهم يثبت التواتر وتقومُ الحجَّة، ولزم لأجل ذلك تركُ الإحفال بما رُوِيَ مما يُخالف ذلك. فإن قال قائلٌ: ما أنكرتم أن يكون الفرقُ بين الأمرين أنه لم يُروَ عن أحد خلافٌ في أن هذا هو جميع مصحف عثمان الذي جمعه وألَّفه على حسب ما نظمه ورتبه، ولا وقع في ذلك تشاجر بين الناس، وقد اختلف في أن هذا المصحف هو جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله سبحانه على وجهه وترتيبه، أم لا؟ فادعى قومٌ أنه أقل من ذلك، وأنه مزيدٌ فيه، وادعى آخرون أنه منقوصٌ منه، وشك في ذلك شاكون، وقطع قوم على أنه مغير عن ترتيب ما أُنزل عليه، وإذا كان ذلك كذلك افترقت الحال فيما ادعيتم الجمع بينهما، يقال لهم: أولُ ما في هذا أننا لا نسلِّم قطعاً ويقيناً أنه لا مخالفَ في العالم في هذا الباب، ولا شاك فيه مع سماعه لنقل الحجة، ولا ندري لعل في الناس من يدعي تخليطَ النقلة لمصحف عثمان، وأنه مغيرٌ مبدّل، أو يُشك في أنه على ما رتبه عثمان، بل قد علمنا أن في الناس من يدّعي تغيير الحجاج لمصحف عثمان، وإذا كان ذلك كذلك بطل فرقكم هذا، على أننا لو تيقنا أنه لا مخالفَ في ذلك. لم يمنع هذا من جواز حدوث خلافٍ في هذا الباب، وأن ينشأ خلق كثير يدّعون ويرون غلطَ النقلة لمصحف عثمان، أو تعمدهم للكذب فيه، ودعوى تغيير النقلة له عما رتبه ونظمه عليه عثمانُ، فإن حدوثَ مثل هذا الخلاف غيرُ متعذرٍ ولا ممتنغ في عقلٍ ولا سمع، وقد تيقنَا أن مثل هذا الخلاف لو حدث وقاله قائلٌ واعتقده معتقدٌ لم يجب لأجله جحدُ نقل الكافة أو الشك في صحته، لأجل ما يُروى من خلاف ذلك، مع قيام الحجة وانقطاع العذر بنقل من نقل أن هذا المصحف هو مصحفُ عثمان على وجهه وترتيبه الذي أتفه عليه، فبطل بذلك ما فَضلوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 (فصل في القول فيما يُعتبر في العلم بصحة النقل) واعلموا رحمكم الله أنه ليس المعتبرُ في العلم بصحة النقل والقطع على ثبوته بأن لا يُخالف فيه مخالف، وإنما المعتبرُ في ذلك مجيئه عن قومٍ بهم يثبت التواتر وتقوم الحجةُ، سواء اتُفق على نقله أو اختلف فيه، ولذلك لم يجب الإحفال بخلاف السمنية في صحة الأخبار، وقولهم إنه لا يُعلم بها شيءٌ أصلاً، ولم يجب أن يبطل النقل، أو يُشك في صحته بعد ظهوره واستفاضته. وعدم الخلاف عليه إذا حدث خلافٌ في صحته لم يكن من قبله. ولغير ذلك من الأمور، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما فصّلوا به بين الأمرين. فإن قال قائلٌ، ولو صرنا إلى أننا لا ندري أيضاً أن هذا هو مصحف عثمان والجماعة على وجهه وتأليفه أم لا، ما الذي كان يمنعنا ويصدُّنا عن ذلك؟ قيل له: يمنع منه أن فيه جحداً للضرورات، وأن قائل ذلك صائرٌ بمثابة من جحد وجودَ عثمانَ في العالم، وأن يكون كان له مصحفا جمع الناس عليه، ومنعم من غيره، وأن يكون ولي الخلافة، وقُتل بالمدينة، إلى غير ذلك من الجهالات، فإن نقل مصحفه بمثابة نقل وجوده وخلافته وقتله والفتنةِ التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 جرت وحدثت في أيامه، وبمثابة نقل: "قفا نبكِ،، و: "ألا هبي "، وكتاب سيبويه، وموطّأ مالك، وغير ذلك من الأمور الظاهرة المشهورة، فجحدُ ذلك بمثابةٍ واحدة، ولا فائدة ولا طائل في مناظرة من صار إلى مثل ذلك. وإذا لم يجُز الشك في شيءٍ مما وصفناه أو الجحدُ له لأجل خلافٍ يُروى في ذلك أو خلاف يجوز أن يحدث فيه: لم يجز الشكُّ في أن ما في أيدينا هو مصحف عثمان بعينه وعلى جهته، وقد بيّنّا من قبلُ أن طريقَ العلم بأنه مصحف عثمان لم يغيّر ويبدل هو طريق العلم بأن جميع ما أتى به الرسولُ من القرآن الثابت رسمُه على وجهه وترتيبه الذي أمر - صلى الله عليه وسلم - به، فوجب القطعُ على صحة ما قلناه، وإبطالُ جميع مطاعن الشيعة والملحدين وغيرهم من أهل الضلال والقدح في القرآن. فإن قال قائلٌ: باضطرار يُعلم أن المرسوم في هذه المصاحف هو جميعُ مصحف عثمان، على وجهه وترتيبه، ولسنا نعلم باضطرارِ ولا غيره أن هذا المصحف هو جميعُ كتاب الله الثابت الرسم، المنزل على الرسول عليه السلام بالترتيب المدعو بأن يقال له: على الفصل بينك وبين من قال باضطرار يعلم أن هذا المصحف هو جميع المنزل على رسوله، على وجهه وترتيبه، ولسنا نعلم باضطرارٍ ولا غيره أنّ جميعَ مصحف عثمان الذي ألفه وجمع الناس عليه، على وجهه وترتيبه، وأن ذلك لو كان معلوما لما اختلفت مصاحف أهل الشام ومكةَ والعراق، ولما اختلفت القرّاءُ السبعة. ولما شكّ في ذلك أحد، فإن رام في ذلك فضلاَ لم يجده، وإن مرّ على الأمرين ردّ عليه ما سلف من جواب جحد عثمان، وكون مصحف له، وغير ذلك مما ذكرنا، وإن عاد إلى أنّ ذلك أجمعُ مما لا خلافَ فيه بُيّنَ له سقوط التعلُّق بذلك بما بيناه من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ويقال للشيعة أيضاً: إن وجبَ بطلانُ نقل الكافة والدهماء والسواد الأعظم أن المرسومَ بين اللوحَين الذي في أيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول، الثابت الرسم والتلاوة، لأجل خلافِ من خالف في ذلك. ونشك فيه منكم ومن غيركم ممن له تناقلُ الأخبار، ويعرف السير ويخالط النقلة مخالطةً تقتضي له علم الضرورة، وجبَ لأجل هذا بعينه بطلانُ نقلكم للزيادة في القرآن والنقصان منه، والتغيير له أو الشكّ فيه، لأجل خلافنا وخلافِ سائر سلف الأمة لكم على ذلك، وخلاف جميع فرق الأمة، خلفها وسلفها لكم في صحة نقلكم عن الأئمة وغيرهم نقصانَ القرآن وزيادته وتغييره، وتكذيبنا لكم في هذه الدعوى، ولزمكم أيضاً لأجل هذا الفصل بعينه بطلانُ نقلكم للنص على علي عليه السلام، لأجل مخالفة سائر فرق الأمة لكم في ذلك، وتكذيبهم إياكم، فإن مرّوا على ذلك أجمع أقروا ببطلان مذاهبهم ونقلهم، وكفينا مؤنتهم، وإن راموا فيه فضلاً أبطلوا اعتلالهم وأسقطوا فصلهم، وإن عوّلوا على أن الحجة قد قامت بنقل الشيعة للنص على عليّ، وتغيير القرآن، ونقصانه وإفساد نظمه، وترتيب كثير منه، وأنه لا معتبرَ في ذلك بخلاف من خالفهم، قيل لهم: وكذلك الحجة قد قامت بنقل من ذكرناه في أن الذي في أيدينا هو جميع ما أنزل الله على رسوله، أُثبت رسمه، وفرض حفظه، على وجهه وترتيبه، فلا معتبر خلاف من خالف في ذلك، وهذا مما لا فضلَ لهم فيه أبداً، وسنتكلم إن شاء الله فيما بعدُ على دعواهم صحةَ نقل الشيعة لتغيير القرآن، ونُوضح تكذبهم في ذلك، ونقيمُ الحجةَ على فساد قولهم ونقلهم بما يُوضح الحق. ثم يقال لهم: ارووا لنا حرفاً واحداً عن عبد الله بن مسعود، أو عن أبيّ، أو عن علي رضي الله عنهم أنهم قالوا: إن المعوذتين ليستا من كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الله، وأن دعاء القنوت مما أنزله الله على رسوله، وأن عليا قال: هذه الآية أو هذا الحرف ليس من كتاب الله، أو قد نقص من كتاب الله، وهذا مما لا يقدرون عليه أبداً، وإنما يروون برواية الآحاد أن عبد الله بن مسعود لم يثبت المعوذتين في مصحفه، وأنه حكهما من المصحف، وأن أبيا أثبت دعاءَ القنوت في مصحفه، ولم يقل إن كل ما أثبته في مصحفي من كتاب الله المنزل، بل قد ثبت فيه الدعاء والتفسير، إذ كان ذلك مصحفا له وحده يرجع إليه، وقد يمكن أن تكون سورة القنوت من القرآن نُسخت تلاوةً أثبته أبى. وكذلك قد يمكن ابن مسعود اعتقد أن المعوذتين من القرآن الذي لا يجوز إثبات رسمه في المصحف، إما لظنه أنه منسوخ أو لغير ذلك من العلل. وقد ثبت بما سنصفه فيما بعد أن ما أنزل الله تعالى ونسخَهُ مما لا يجوز إثباته في المصحف، وإذا كان ما يرونه من ذلك محتملاً لهذه التأويلات وغيرها، ولم يُروَ عن أحدٍ منهم ذكرناه أنه جحد شيئا من كتاب الله، أو التصريح بأن من جملته ما ليس منه، لم يجز أن نجعل هذه الرواياتِ معارضةً لنقل الكافة بأن جميعَ ما في الدنيا هو جميعُ ما أنزل الله على الرسول وثبت رسمُه، فبطل بذلك ما يدّعونه من الرواية لمخالفة قومٍ من السلف في هذا الباب، وثبت بذلك أنه لا حقيقةَ لما رُوي من ذلك. وأما ما يختصون هم بروايته عن الصادق والباقر وغيرهما من أهل البيت وغيرهم، مما لا يعرفه أصحابُ الحديث ومصنفو جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المصاحف، والخلاف فيها، فسنبين فيما بعدُ إن شاء الله أنها من الأخبار التي يجب القطعُ على فسادها وتكذيب نقلتها وتنزيهِ أهل البيت عنها. دليلٌ آخر: ومما يدل أيضاً على أن القرآنَ المرسوم بين اللوحين هو جميع القرآن الذي أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترتيب ما أنزل نقلُ الكافّة الذين ببعضهم يثبتُ التواتر أن هذا القرآنَ هو جميعُ ما رُسم حفظه، وأُلزمنا الرجوع إليه، لم يغيَّر ولم يبدَّل، فوجب لذلك القطع على صحة نقلهم وثبوت علم الضرورة بصدقهم، لأنه لو جاز أن يُقال في نفس البقرة وآل عمران والأحزاب (لم يكن) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) . ليست على ما أنزلت، وأن يكون قد سقط من هذه السور شيء كثير أكثرَ مما بقي، أو زيدَ فيها ما ليس منها أو غُيِّرت وبُدّلت عن نظمها وترتيبها الذي أُنزلت عليه، لساغ كذلك في الحمد والناس والفلق و (قُل هُوَ اَللهُ أَحَد) ، وأن يقول قائل: إن ذلك أجمعُ مزيد فيه أو منقوص فيه، ومرسوم في المصحف على خلاف ما أنزله الله، وما كان يتلوه الرسول ويكرره مدةَ أيام حياته، في صلواته، ويجهر به، ويأخذ الناس بحفظه، ولو جاز على الجماعات الناقلة للحمد والمعوذتين و (قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد) الكذبُ والافتعالُ، والسهو والإغفالُ، لجاز عليهم ذلك أجمع في نقل وجود الرسول بمكةَ والمدينة، ودعائه إلى نفسه، واحتجاجه بالقرآن، وتحدِّيه العربَ أن تأتيَ بمثله، وفي نقل وقائعه ومغازيه وفتوحه، وغير ذلك من أحواله الظاهرة المستفيضة، فلمّا لم يجُز جحدُ شيءٍ من ذلك أو الشك فيه لم يجز الشكُّ في شيءٍ من القرآن، وأنه هو جميع ما أتى به الرسول على وجه ما أُنزل، ولا الجحدُ لشيءٍ من ذلك. فإن قال قائل: نحن نعلمُ باضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكةَ والمدينة وأنه دعا إلى نفسه وتحدَّى بمثل الكتاب الذي أتى به، وغير ذلك مما ذكرتم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فلم يجُز جحدُ شي، من ذلك أو الشك فيه، قيل: فما الفصلُ بينكم وبينَ من قال: إننا نعلم باضطرار أن هذا القرآنَ هو الذي أتى به الرسول، وثبت رسمه، ولزم القيامُ بحفظه، لم يغيَّر ولم يبدَّل، وإن سورةَ البقرة والحمد والأحزاب و (لَم يَكنْ) مرسومةٌ محفوظةٌ على ما أُنزلت عليه، من غير تغيير ولا تبديل، ولا زيادةٍ ولا نقصان، وأنه مضطرٌ إلى العلم بصحة ذلك عند سماع نقل النَّقلَة عن رسول - صلى الله عليه وسلم -، فهل يجدون في ذلك فصلاً، فإن قالوا: الفصل بين الأمرين أنه لا مخالفَ في ظهور الرسول عليه السلام ودعائه إلى نفسه، وما كان من حروبه ووقائعه، وقد خالف قومٌ من الناس في أن المرسومَ بين اللوحين هو جميعُ ما أنزل الله على وجه ما أنزله. غير مُغيَّرٍ ولا مبدَّل، فلم يجب القطع على صحة النقل بذلك لأجل هذا الخلاف، قيل لهم: قد بيّنا فيما سلف أنه لا معتبرَ في قيام الحجة بالنقل والعلم بصحته بعدم الخلاف عليه ولا بوجوده، وإنما المعتبرُ في ذلك بمجيئه على وجهٍ يوجب العلمَ ويقطع العذر، فبطل بذلك ما أصّلتموه. ثم يقال لهم: فيجبُ لأجل فعلِكم هذا جحدُ ما ترونه من النص على عليّ وما ترونه من تغيير القرآن ونقصانه أو الشك في صحة نقلكم هذا. لأجل خلافِنا وخلافِ سائر الأمة لكم في ذلك وتكذيبنا إياكم، ولا فصلَ لهم من ذلك إلا بما يُبطل ما فصلوا به، ثم يُقال لهم: فخبرونا هل علمتم ضرورة وجودَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وظهورَه في العالم بخبر جميع الناس أو بخبر بعضهم، فإن قالوا: بخبر جميعهم لنا بذلك، كذَبوا وبُهِتوا لأنهم لم يلقَوا جميعَ الناس في شرق الأرض وغربها، وإن قالوا: بخبر بعض الناس علمنا ذلك إذا لم يخالفهم في نقلهم مخالف، قيل لهم: وبأي شيءٍ تعلمون تصديقَ جميع الناس لذلك البعض في نقلهم وأنه لا مخالفَ لهم، أبِلِقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 جميع الناس أم بخبر بعضهم، فإن قالوا: بلقاء جميع الناس بُهِتوا وكابروا ولزمهم أن لا يعلموا تصديق جميع الناس بشيءٍ من الأخبار، إذ كان لقاء جميع الناس متعذراً، وإن قالوا: بخبر بعض الناس عن باقيهم أنهم مصدّقون لما نقل وغير مخالفين فيه، قيل لهم: فإذا جاز أن تكون الجماعاتُ الكثيرة التي نَقلت عن الرسول الحمدَ والمعوذتين و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) قد افتعلوا وتكذبوا واعتمدوا التحريف والتغيير فيما أخبروا أنه عنه، أو وهموا أو ظنوا الأمرَ بخلاف ما كان، ونقلوا ما لا أصلَ له، فما يؤمنكم أن يكون من نقل إليكم ظهورَ النبي في العالم وأنه لا مخالفَ له في نقله لذلك كاذبا في نقله أنّه لا مخالفَ له، وأن يكون في الناس مَن يخالف في ذلك، فإن نقل هذا البعض أنه لا مخالف له فيما نقله فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلاً. وهذا يبطل عليهم طريق العلم بأنه لا مخالفَ على النقل. ويقال لهم إذا وجب إبطالُ الخبر واطّراحه لوجود الخلاف في نقله. فإن كان قد نقله أهلُ تواترٍ وجب اطّراحه أيضاً لجواز كون الخلاف وإن لم يتيقَّن، ولجواز حدوث الخلاف عليه في المستقبل ولا فصلَ في ذلك. ثم يقال لهم: إذا جاز على الجماعاتِ الكثيرة نقلُ الكذب فيما خولفت عليه، فلمَ لا يجوز عليها نقل الكذب فيما لم يتخالف عليه، فإن جاز الكذب على أهل مصر ومصرَين فلمَ لا يجوز على أهل جميع النواحي والأمصار. وسائر الشرق والغرب. فإن قالوا: العادة تمنع من ذلك في أهل سائر الأمصار، قيل لهم: وكذلك هي تمنع منه في أهل مصر واحدٍ ومسجدٍ واحدٍ وقبيلةٍ واحدة. ونَقَلةُ القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثرُ عدداً من أهل أمصار وأقاليم كثيرة فوجب بذلك تصديقهم، وإحالة الكذب والغفلة والتوهم عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثم يُقال لهم: من أين يُعلم صدق الجماعة في أنه لا مكذِّبَ لهم في نقلهم لما نقلوا. فإن قالوا: بخبرهم عن أنه لا مكذبَ لهم، قيل لهم: فإذا جاز عليهم الكذب في بعض ما يخبرونكم به فما أنكرتم من جواز الكذب عليهم، في أنه لا مخالف لهم في نقلهم، ثم يقال لهم: ومن أين نعلم أيضاً أنه لا مخالفَ لهم فيما قالوا إنه لا مخالف لهم فيه فالكذب جائزٌ عليهم. ويقال لهم: إذا لم تعلموا صحةَ نقلهم حتى تعلموا أنه لا مكذّب لهم فيه ولا تعلموا أنه لا مكذّبَ لهم فيه حتى تعلموا صحةَ نقلهم عن أنه لا مكذّبَ لهم فيه، وأمكن أن تكذبوا في نقلهم إنه لا مكذّبَ لهم فيما نقلوه لم يصحّ أن يعلموا أبداً صحة نقلهم من حيثُ لم يصحّ أن يعلموا صدقَهم في قولهم ونقلهم أنه لا مكذب، ولم يأمنوا أن يكونوا في دعواهم لذلك كاذبين، هذا ما لا خلاصَ لهم منه أبداً. ويقال لهم: إذا لم تعلموا صحةَ النقل إلا إذا علمتم أنه لا مخالفَ لهم فيه، ولم تعلموا أنه لا مخالفَ لهم فيه حتى تعلموا أنه صحيحٌ: لم يصح أن يعلموا أبداً صحةَ الخبر، لأنكم تجعلون الشيءَ شرطاً فيما هو شرطٌ فيه. ويقال لهم: يجبُ على اعتلالكم إبطالُ جميع الأخبار لخلاف السمنية عليها، ويجب أن يصيرَ العلمُ بصحة الخبر إذا لم يكن منه مخالفٌ جهلاً وإذا حدث مخالفٌ في صحته وجاحدٌ لموجبه، وأن ينقلبَ العلمُ جهلاً لحدوُ الخلاف على الخبر، وتجويز انقلاب العلم بصحته جهلاً بجواز حدوث خلافٍ فيه، وهذه غايةٌ من الجهل لا يبلغها ذو تحصيل، فوجبَ بذلك سقوطُ جميع ما تعلقوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ومما يدل أيضا على بطلان قولهم في إمكان نقصان القرآن وضياعِ شيءِ منه أو القطع على ذلك أو الزيادة فيه: أنه لو جاز مع ما وصفناه من حال نَقَلته وحُفّاظه أن يكون قد ذهب منه شيءٌ كثيرٌ لا نعرفه ولا نقف عليه لجاز أن يكون قد ذهب أكثره وما يزيد على سبعةِ أعشاره، وأن يكون الذي في أيدينا منه أقل من العُشر، ولو جاز ذلك لم نامنه ولم نأمن أن يكون معظم الدين والفرائض والسنن قد ذهب في القدْر الذي سقط منه وذهب على الناس ضبطه، ولعل فيه أيضًا نسخ جميع العبادات التي في أيدينا وتبديلَها بغيرها، ولعل فيه توقيفاَ على أنبياء يأتون بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسخ شريعته، ولعل في ذلك القرآن الضائع إباحةَ نكاح الأخوات والأمهات وسائر ذوات المحارم. ولعل فيما سقط منه تفسير معنى الصلاة والزكاة والصيام، أن المرادَ بذكر هذه العبادات تولّي رجالِ سُموا صلاةَ وحجا وصياماَ، وأن الخمرَ والميسرَ والأنصابَ والأزلامَ رجالٌ أُمِر الناس بلعنهم والبراءةِ منهم فقط، ولعل فيه أيضا ذم جميع من يعتقد الشيعةُ فيهم أنهم أئمةٌ منصوص عليهم وإيجابُ التبرِّي منهم، وإيجابَ تولِّي معاويةَ وزياد والحجّاج والشمّر وشيعته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولعل القرآن إن كان زائداَ على قدر ما أنزل أن يكون أكثر ما فيه من فرض الصيام والصلاة والحج ساقطا غيرَ لازم، وإنما زِيد فيه ما ليس منه، فإذا كان هذا يسدّ علينا طريقَ الأمان من جميع هذه الأمور وفيها إبطال الشرع والانسلاخُ من الإسلام فلا شبهةَ على مسلمِ في فساد كل قولِ ومذهبِ أدى إلى ذلك. وليس لهم أن يحتجوا في دفع هذا بإجماع الأمة على بطلانه، لأن الإجماع عندهم لا يجب القطع على صوابه وأمانِ الغلط على أهله إذا لم نعلم دخولَ الإمام المعصوم فيه، ونحن فلسنا نعرف مذهبَ الإمام في هذه الأبواب ولا نقبل دعواهم، وروايات الشيعة عنهُ مُداهنةَ، لأنهم عندنا كَذَبة في ذلك، وفيما هو أعظمُ منه، ودعوى التواتر بينهم عن الإمام متعذر وجهل فيمن صار إليه، وهم عندنا قد ضلّوا وفسقوا بأمورِ لا يجوزُ معها قَبول أخبارهم، ولأنهم عندنا وعندهم غيرُ معصومين من الكذبِ والسهو والإغفالِ فيما يروونه عن الإمام إن كان لهذا الإمام أصل وما يروونه عن غيره أيضًا، ولا صحةَ في رواية مَن هذه سبيلُه. وليس لهم أيضًا أن يقولوا: لو كان الأمر في هذه الشرائع والعبادات على ما وَصفْتُم لوجب أن يوجد من الأمة قائل بهذا، لأنّ الأمّة كلّها لا يجوز أن تُضيّعَ الحق والواجب، وتتركه وتعدل عنه قصدا منها وعنادا وغلطا وجهلا وسهوا وإغفالا، وإنما يجب أن تقوم بالواجب في هذه الأبواب لو كانت بأسرها حجة أو كان فيها فرقة هذه سبيلُها، ومتى لم يكونوا كذلك لم يجب أن لا يجوزَ على سائرهم تضييعُ الحق والذهابُ عنه، ولأن فيمن يُنسب إلى الأمّة ويزعم أنه أحقُّ بهذه التسمية - أعني أنهم أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 خلق كثير يقولون ذلك، وهم الغُلاة الإسماعيلية ومن صنف الكتبَ المعروفة المشهورة في أنّ المراد بذكر العبادات والمعاصي المحرمات رجالٌ أُمرنا بموالاة بعضهم والبراءةِ من بعضهم، وأن المرادَ باسم النكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك دخولٌ في البيعة وتحفظٌ من نشر الدعوة أو إذاعةٌ لها وخروجٌ عنها، وغير ذلك مما قد عُرف من أقاويلهم، وكل ذلك مروي عندهم عن أهل البيت ومَن هم الأئمة والصفوة عليهم السلام، لعلهم مثل عدد الشيعة أو أكثر عددا، والغلبةُ اليومَ لهم في كثير من الأمصار والآفاق، وإذا كان ذلك كذلك بطل قولُهم أنْ ليس في الأمة قائلٌ بهذا. فإن قالوا: هؤلاء ليسوا من الأمة، قيل لهم: إن جاز لكم أن تُدخِلوا أنفسَكم في الأمة مع قولكم بأن الأئمة الإثنا عشرَ أفضل من جميع الأنبياء إلا محمدا ونوح وإبراهيم ونفر يسير من النبيين، وأن يقولوا إن الإمامَ يعلم الغيب، وأنّه لا يحكم بنسبٍ ولا مالٍ حتى يعلم صدقَ المدعي وصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 شهوده ويقفَ على بواطنهم، وأن المعجزةَ يجوز أن تظهرَ على يدي الأئمة. وأنّ الرجلَ يجوز له أن يجمعَ بين ألف حُرّةٍ بعقد متعة، وأن العمَ لا يرث مع الابنة، ومع قولٍ كثيرٍ منكم بتصديق الخطب المروية لكم عن على من نحو الشلْشلِيةِ والشَقْشَقية التي يقول في إحديهما: أنا رفعتُ سماءها، أنا دحوتُ أرضها، أنا أنشاتُ سحابها وأخرجتُ نباتها، أنا أهلكتُ عاداً وثموداً ولو شئتُ أن يعودا لعادا، حتى يقولَ شاعرُ هذه الفرقة: ومَن أهلكَ عاداً ... وثموداً بدواهيهْ ومن كلَّم موسى ... فوقَ طورٍ إذ يناجيهْ ومن قال على المنبرِ ... يوماوهو راقيهْ سَلُوني أنَّها الناسُ ... فحاروا في معانيهْ ويقول في الشقشقية: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا ما أُخذ على العلماء من كظم الظالم وصعب المظلوم لأرسلتُ حبل غاويها، ولَسقيتُ أولها بكاس آخرها، ولألفيتُ دنياكم عندي أهونَ من عفطة عنز، وشتّان بين القولين، فإن من أهلك عاداَ وثمودَ وكلّم موسى، وأنشأ السحاب. وأخرج النبات من الأرض يقول: ألفيتُ دنياكم عندي أهونَ من عفطة عنز. يعني: من رحلة عير، هذا بعيد، فإن مثلَ هذا كان يقدر أن يُهلكَ الجميعَ الذين يخالفون عليه ولا يفتقرَ إلى بقيةٍ منهم، ومع هذا قول دِعْبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وكُثيرٍ وغيره منكم بالرجعة في الدنيا، وقول الكيسانية إن محمد بن الحنفية حيّ يرزق بجبال رضوى إلى يوم يخرج، إلى غير هذه المذاهب والتُّرَّهات. فإن ساغ لكم أن تدعوا مع هذه المذاهب والأقاويل أنكم من الأمة ساغ للإسماعيلية أن تدعي أنها من أخص الأمة، ولا جوابَ عن هذا. وليسَ لهم أيضا أن يزعُموا أنهم يعلمونَ ضرورةً من دين الرسول وجوب هذه العبادات وتحريمَ هذه المحرمات، فإن الغالبيةَ منهم ينكرونَ ذلك ويقولونَ إنهم لا يعلمونَ شيئاً مما قالوهُ، وكذلك من زعمَ أن الأنبياء باقونَ تترى إلى يوم القيامة، وكل الباطنية يرونَ في هذه الأمور خِلافَ رأيهم ويقولونَ إن الذي بُعِثَ به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما هم عليه. وليسَ لهم أيضا الاعتصامُ مما ألزمناهم بأن الأمرَ لو كانَ على ما قلناه لظهر عن الإمام ذكرُ الفرائض الذاهبة، لأننا لا نعرف هذا الإمام، ولأنه لو كان موجوداً لجاز أن يسكتَ عن ذلك تقْيَةً كما أمسك عن نقض أحكام أبي بكرٍ وعمر وأظهر الإقرار بمصحف عثمان وسوع التحكيم، لأنه أيضا قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يلقي ذلك إلى أبوابه ودُعاته، وأنّ الأمرَ في ذلك على ما قلناه، فيكتمونه ويحرّفون عليه ويكذبون، لأنّهم غيرُ معصومين، وكذلك إن عُيّرَ عِلْيَتُهم بآخرين كان حالهم كذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطل جميع ما يحاولون به دفعَ هذه الإلزامات. فإن قالوا: إن هذا أيضاً لازمٌ لكم ومنقَلِب عليكم، لأنكم جميعاً تعترفون بأن الله سجّله، فإن نسَخ منه آياب كثيرة وقرآناً كان أنزله، ونهى بعد ذلك عن إثبات رسمِه وقراءته، ونسَخَ تلاوتَه، وإذا كان ذَلك عندكم كذلك فما يؤمّنكم أن يكون فيما نسخه وأزال رسمَه جميع أحكام الباقي رسمه أو تغييرها وإزالة فرضها، ولعل فيما نسَخه نصاً على أنبياء وأئمة بعده وإطلاق جميع ما يعتقدون دلالة الباقي على تحريمه. قيل لهم: لا يلزمنا شيءٌ مما قلتم، وذلك أننا لا نجيز على الأمة بأسرها وعلى العدد الكثير الذين بهم تقوم الحجة أن تتفقَ هِمَمُهم ودواعيهم على كتمان نسخ ما نُسخ عنهم فرضُه، ووفقوا على تغيّر حكمه بغيره وتبديله، ولا أن يفتعلوا خبراً كذباً على نبيهم عليه السلام، فإنّه أوجبَ عليهم ما لم يوجبه، وشرعَ لهم ما ليس من دينهِ، بل لا يجوز ذلك عليهم فيما لا تعلُّق له بباب الديانات، لامتناع ذلك عليهم في العادة، وتعذُره من مثلهم، وأنهم متجبّرون على جميع الأئمة سوى الإمام المعصوم، أو أهل العدد الكثير، والدّهماء منها افتعالُ الكذب وكتمان ما سُمع وشوهد. ويزعمون أنهم قد كتموا قرآنا كثيراً كانوا سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحفظوه عنه، ولا مأمونَ أن يكون ما كتموه منه أضعافَ ما في أيدينا وإن كان الرسول قد وقفهم على ما كتموه كتوقيفه لهم على هذا القدر الذي نقلوه عنادًا منهم وقصداً إلى الإدخال والإلباس في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ويحكون أن القرآن كان من الكثرة إلى حدّ لا نقله عليّ وقنبَر ولا ينهضان بحمله مع شدة على وفضل قوته، وكل هذا قد كُتم واندرس وانطوى علمه إلا عن الإمام عندكم وحده، ويروون عن أهل البيت عليهم السلام أنهم قالوا: رُبع القرآن منزَل فينا وأنتم لا تحفظون من هذا الربع تمامَ خمس آيات ولا تعرفون منه إلا ما نعرفه من قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) . ويزعمون أن سائر سلف الأمة إلا أقلّ من عشرة منها كَتَمتْ النصّ على علي وجحدته، عاندت وأخفَت الحقّ، وكذلك سائرُ فرق الأمة اليوم عندكم قد اتفقوا على كتمان هذا النص على الإمام، مع علمهم به ومعرفتهم له، وأنهم جميعاَ قد افتعلوا الكذب، وتواطؤوا على نقل الباطل في نقلهم لفضائل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة، * إلى غير ذلك مما يحملون أنفسهم عليه. وإن لم تجيزوا هذا الكذب والافتعال على جميع من عدا الإمام من الأمة فإنكم تجيزونه على معظمها وجميع فِرَقها المخالفة لكم، وقد علمتم أن ببعضهم يثبت التواتر، وأنه لا فصلَ بين إجازة الكذب والافتعال على تسع فرقٍ من الأمة وبين إجازته على العشرة، وإذا كان ذلك كذلك وكنتم قد اعترفتم بكتمان جمهورٍ من السلف والخلف لأكثر القرآن مع شهرة أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقطع الرسول - صلى الله عليه وسلم - العذرَ في بابه: لديكم أيضا فيما كتموه منه نسخُ جميع ما في أيدينا من الأحكام وكتمان شرائعَ وفرائضَ أُخرَ تأتي بعد الرسول، وإطلاقُ جميع المحرمات من حيث لا يمكنكم دفع ذلك ولا الخلاصُ منه. فأما نحن فإننا نُحِيل هذا أجمع على الأمة، على قدر عدد أهل التواتر منها، ونقول: إنه لا بد في مستقَرّ العادةِ من توفر دواعيها وهممها على نقل الناسخ والمنسوخ من دينها وضبطها لذلك، فشتانَ بيننا وبينكم. فإن رجعتم إلى أنّ الإمامَ والأئمةَ من ولده هم العالمون بعلم ذلك، ومعرفته وأنهم لم يُروَ عنهم شيء في هذا الباب: لزمكم أن يكونوا قد قالوا ذلك ووقفوا عليه، غير أن الناس كتموا ذلك وكذبوا عليهم، وأنتم أول من يكذب عليهم ويُكْتم ما قد نُقل عنهم، ويفتعل عليهم ما لا أصل له، وإن ادعيتم أو واحد منكم أنكم لقيتم الإمامَ فأخبركم بأن الشرع مُبقىً وأن ما ألزمناكم لا أصل له فقد عرفتم الجواب عن هذا، وأن من جوابه ما يجبُ تنزيهُ الكتاب عن ذكره، وأقلّ ما فيه أنكم تكذبون وتعلمون أنكم تكذبون. وفي الشيعة من يقوِل إنه قد لقي الإمام وعرفه أن القرآن الذي في أيدينا على ما أنزل عليه لم يُغيّر ولم يبدل، وكذلك يدّعي أهلُ كل مذهبٍ ورأيٍ وإن به الشيعة أنهم قد لقوا الإمام فوقَّفهم على صحة ما رووه ودانوا به. وهذا كلُّه من التُّرهات وما يسترضون به الجهال والأوغاد الطغامَ. وبعد: فلو سلَّمنا لكم أن ههنا إماما معصوما وأنكم قد لقيتموه: من أين كنا نعلم صدقكم عليه وأنكم غير كاذبين فيما تروونه عنه، وأنتم باعترافكم غير معصومين من الكذب والسهو والغلط، والاعتمادُ لكونكم على هذه الصفة احتجتم إلى إمامٍ معصوم وافر؟ وإذا كان ذلك كذلك فلا سبيلَ لهم إلى دفع ما ألزمناهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ويُقال لهم: أنتم تعلمون أنّ الكَيْسانيةَ تكذبكم وتجحد إمامَكم وتدعي أن الإمام الذي عنده علمُ ذلك لا سبيلَ إلى الوصول إليه، فإنه مقيمٌ بجبال رضوى، أسَد عن يمينه، وأسَدٌ ونمر عن شماله، يحفظانه إلى يوم يخرج فيُظهر الحق، ويقمع الباطل وأهله، فأيكم يُصدق، ومن منكم أولى أن يتبع على هذه الخرافات والترهات. ومنكم من يقول إنه بعسقلان، ومنكم من يقول بالطالقان، ومنكم من يقول: لا أعرفُ دارَه، ولا أصدّق من أخبرَ بلقائه، وكل هذا يدل على علمِكم ببطلان ما أنتم عليه في هذه الدعاوى، وأن تعلقَكم في دفع ما تُسألون عنه أحيانا أو تصحيحه بإقرار الإمام له أو إنكاره: من المهرب والفرار، ومن جنس اللعب والمجون، نعوذ بالله من التلاعب بالدين والإدغال لأئمة المؤمنين. قال أيده الله: وما يُجابون به عن هذا الاعتراض أيضا: أن في الأمة من يقول: لا أعلم أن من القرآن ال منزَل ما قد نُسخ رسمُه ورُفعت تلاوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأنّ جميع الأخبار في ذلك أخبار آحادٍ لم تقم بها الحجة، ولا يجوز القطعُ على إنزال قرآنٍ ونسخه بأخبار آحادٍ لا حجةَ فيها، وهذا يُبطل أيضاً اعتراضَهم إبطالاً ظاهراً. دليل آخر : مما يدلّ على صحة القرآن وبطلان ما يدعونه فيه من النقصان والفساد ما صحَّ وثبت من شدّة نُصرة السلف للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبذل أموالهم وأنفسهم والجهادِ بين يديه، وقتلهم لآبائهم وإخوانهم في نُصرته وتشييد دعوته وإقامة دينه وشريعته، وما كان من هجرتهم الهجرتين وما احتملوا من العذاب في الله، وحملوا أنفسَهم عليه من مفارقة العز والأهل والأوطان والدّعة، إلى القلة واحتمال الهوان والضّيم والانتقال عن الديار، وأنّ مَن هذه صفتُه وسبيلُه لا يجوز عليه أن يقصد إفسادَ ما نصره، وإبطالَ ما أيّده، والقدح فيما دان به، ورأى الاستنقاذ من النار باعتقاده والانقياد لمورده، وإذا كان ذلك كذلك وكانت الرافضة تدّعي أن فيما كتمه القوم من القرآن وغيره ما يُعلم أنّه لا غرض في كتمانه وتغييره، ولا طائل لهم فيه ولا هو مما يتعلّق بولاية أحدٍ والبراءة من غيره، ولا تقتضي تفضيل تيم وعديّ وبني أمية على بني هاشم، ولا يُنقص الولاء ولا يُفسد البراءةَ، ولا يُوجب رئاسةً، ولا يقتضي عاجل نفعٍ ورئاسة، ولا يعود بصلاح عاجلةٍ ولا آجلَةٍ في النفس، ولا في العاقبة والذرية، وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ من هذه سبيلُه لا يجوز أن يحمل عاقل ليس بذي دين نفسَه عليه، فضلاً عن أهل الوَقار والدين وحسن النسك والمسألة والجهاد. فمن التغيير الذي ادّعوه ولا غرضَ لعاقلٍ منه قولهم إنَّ أبا بكرٍ وعمر وعثمانَ والجماعة فصلوا بين الكلام المتصل المتناسب وعضُوه حتى صار مُنبَتراً غير مقيد، وقدّموا المدنيّ على المكي في الكتابة والرسم، فالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سبحانه بزعمهم قدّم المكّي على المدني في التأليف والترتيب، ونقصوا قوله (وهي صلاة العصر) من قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) . وحذفوا قوله: (ونوائب الدهر، وإن فيه إلى آخر الدهر) من سورة العصر، وأسقطوا قوله: (والشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالا من الله، والله عزيز حكيم) ، أثبتوا مع ذلك الحكم وفرضَ الرجم على المحصنين، وأبدلوا مكانَ قوله: "صراطَ من أنعمت عليهم" ب: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، وحذفوا من قوله: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) "متتابعات" ذكر التتابع، وحذفوا من قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) . قولَه: (صحيحة) ، وأبدلوا مكانَ قوله: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء" بقوله: (وَأَنتُمْ أَذِلة) . وأسقطوا من قوله: (حتى تُسلّموا وتستأنسوا) ذكر الاستئناس، أسقطوا من قوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) "أنا أنا أنظر في كتاب ربي الله، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" في أمثالٍ لهذه الترّهات التي قد رُويت رواية الآحاد عن قومٍ من السلف يطول تتبعها، قد نقلوها من تصانيف أصحاب الحديث ورُواة الشواذّ، وعلّقوها على الصحابة، وادعوا أنّ الأئمةَ والعترةَ الهادية وقفتهم على حذف القوم لها وقصدهم إلى نقصانها، وهي بأسرها موجودةٌ في كتب من صنف القراءاتِ وذكر الشواذّ من الروايات، وقصد إلى الإلباس على الجهال من أتباعهم، وقد بينّا فيما سلف أنه لا غرضَ لعاقلٍ في هذا الباب ولا نفع في عاجل ولا آجلٍ يجري بذلك إليه. وإذا كان ذلك كذلك ثبت كذبُ هذه الروايات وكذب من ادّعى على القوم اعتمادهم التخليط في التأليف ونقصان ما لا غرضَ في حذفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكونوا إنما قصدوا بذلك الإفساد للشريعة وإيقاع الخلل والتخليط في الكتاب معاندةً للدين والرسول فقط، قيل لهم: ما قدمناه من وصف دينهم وتشددهم وعظيم عنائهم ونُصرتهم وإنفاقهم وجهادهم في تأييد الدين ونصرة الرسول وإقامة كلمة الحق: ما ينفي ذلك عنهم، وكيف يقصد مثلَ هذا من قتل أباه وأخاه وعشيرته في نُصرة الدين ومورده، وأنتم إلى التهمة بإفساد الدين والطعن على الشريعة والقرآن وإيقاع التخليط والإلباس فيما يتعلق بالدين أقرب، فلذلك يُقدِمُون على قذف الصحابة والجلّة من الأئمة بمثل هذه الأمور، ليحمل العامة أنفسهم على ثلْب السلف، ثم ثَلْب من قدمهم الله وأجلهم وأظهر إكرامهم، وأنتم تعترفون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل بهم ذلك، ثم بثلْب من وادَع هؤلاء، وأخذ عطائهم وحكم مصحفهم وقرأه وأقرأ أصحابه به، ولم يعرض لنقض أحكامهم، وأورد التمويه والكلام المحتمل للتأويلات في بعضهم، ثم ثَلْب من أظهر تسليم الأمر إلى من هو شرّ من الطبقة التي قبله، ثم كذلك إلى وقتنا هذا. وقد علمتم أن كثيراً من الناس من يحكي أن كثيراً منكم يبرأ من الرسول حيث قرّب هؤلاء القوم ولم يكشف للناس حالهم، ثم يرقى إلى ثلْب جبريل وصاحب الرَّوشَن، ثم يختم ذلك بأن يقول: كل هذا التخليط من قبل الله الذي وثق هؤلاء وجعلهم وسائطا إلى خلقه متحملين لرسالته، وربما كنَّى عنه - جل ثناؤه - بالقَبَسي، وكل هذا تلاحد وتلاعب بالدين وإدغالٌ له ولأهله، وفتحُ باب مَاحِلٍ به، فأنتم في شتم السلف وقذفهم بما قد نزههم الله عنه أقربُ إلى قصد عناد الرسول والطعن في الدين والقدح في أئمة المسلمين. دليل آخر : ومما يدل أيضا على أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف إلا ما كان ظاهراً مشهوراً بينهم وأن نقلهم لجميع القرآن واقع على وجه تقوم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الحجة وينقطع العذر عَلِمنا بأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألقى القرآن إلى جميع الأمة وبيّنه ونشره وأظهر أمره فيهم على طريقةٍ واحدة، وأنه بيّن لهم أنّ يوسفَ، والرعدَ والأحزابَ و (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) . مما أُنزل عليه وأقر برسمه كما بيّن لهم ذلك في الحمد و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والبقرة وآل عمران، وأنه كان يبلّغ ذلك ويؤدّيه ويُظهره ويعلنه تبليغاً واحدا وعلى طريقةِ واحدةِ متساوية، وأنه لا يجوز في وضع العادة أن يكون قد عُرف من حال الرسول أنه ربما بيّن بعض القرآن للكافّة أو من ينقطع به العذرُ منهم في نقله عنه، وربما لم يفعل ذلك في بعضه وبيّنه الواحدُ (والاثنان) ومن لا يَحُجُّ خبره، ولا يُعلم صدقه ولا ينقطع العذرُ بقوله، لأمرين: أحدهما: أنه لا يخلو مدّعي إلقاء ذلك من أن يكون مفصّلاَ لهذا الباب وعارفا بما يُذكر أن رسول الله ألقاه وبلّغه بلاغاً قطع به العذر، وأقام به الحجة وما ليس هذه سبيله منه أو غير عارفٍ بتفصيل ذلك، فإن كان عارفا به وادّعى أن البيانَ العامَّ وقع منه في البقرة وآل عمران ولم يقع في الأحزاب و (لَمْ يَكُنِ) قيل له: ما أنكرتَ أن يكون ذلك إنما وقع منه في الأحزاب و (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) والعصر، ولم يقع منه في البقرة وآل عمران والرعد، فلا يجد إلى دفع ذلك طريقاً، لأن الأمة تنقل ذلك عن نبيها نقلاَ واحداَ متساويا، وإن كان غير عارفٍ بذلك قيل له: فأنت لا تعرفُ ما قامت به الحجةُ من القرآن من غيره، ولعل الحمدَ وجميعَ المفصَّل مما لم يقم به الحجة به، ولعل قولَه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) . وقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) . وجميعَ ما يدّعونه في عليّ وأهل البيت ما لم تقم الحجّة به، ولعلَّ الحجَّة لم تقم بقوله: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) . وجميع ما يدعون أنه نزل فيمن يَبرؤون منه من الصحابة مما لم تقم به الحجَّة فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلاً. والوجه الآخر: أنه لو عُرف من حال الرسول أنّه ربّما ألقى القرآن إلقاءً خاصاً إلى الواحد والاثنين لوجب أن ينقل ذلك الأمةُ عنه وأن يُعرفَ من دينه كما عُرف ذلك من حاله في الأحكام التي كان بيّنهما على الوجهين جميعاً. فلّما لم يكن ذلك كذلك ولا كان هذا معروفاَ من حال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بطل ما قالوه. ويدل على فساد ذلك أنّه لو جاز لمدَّعٍ أن يدّعيَ أنّ ما هو من أصل الدين وأُسُّ الشريعة ومعدن علمها، ومفزع الأمّة المتعبَّدَةِ بها وملجئها. ومنتهى علمها والفاصل بينها: ما كان يبشِّرُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بياناً خاصاَ لا تقوم به الحجّة لَساغَ أن يدّعي مثل ذلك عليهم في النصّ على الإمام المفروض الطاعة عندهم بعده، ولَساغت هذه الدعوى في بيان كثيرٍ من أركان الصلاة والحج وصيام رمضان وتحريم القتل والخمر والزنا واللواط وغصب الأموال، وأن يقولَ قائلٌ ويتوهَّمَ متوهم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ربما ألقى كثيراً من أحكام هذه الأمور إلقاءَ خاصَّاً لا تقومُ الحجةُ بمثله، وأنه كان يستثني في حكم جميعها أموراً يسوِّغها لبعض أمته ويلقيها إليه وحدَه دون غيره من تجويز الأكل في أيام الصيام، وإباحة الصلاة بغير وضوء، وترك حضور عرفةَ وطوافِ البيت ورمي الجمار، ويسوغُ له في كثيرٍ من الأوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تركُ الصلاة لغير علَّةٍ ولا عذرٍ يبيحُ له الإفطار في بعض أيّام الصيام من رمضان، وأن يترك سائر الكفارات، وأن يشربَ الخمرَ، ويقتلَ النفس. ويستبيحَ الفرجَ، ويغصبَ الأموال، وأنّ ذلك كان معروفا من عادة الرسول وحاله في بيان هذه الأمور، وأنّنا لا نأمن أن يكون قد حضَّ كثيرا من صحابته بإطلاق هذه الأمور وإباحتها، وفي هذا تعطيلُ الدين، والشكُّ فيه. والخروجُ عنه، ولا سبيلَ إلى الخلاص منه. وإن هم قالوا في جميع هذا: لا يجوز ما طالبتمونا به في هذه الأمور لإجماع الأمّة على أنّ ذلك لم يقع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل لهم: أنتم لا تحفُلُون بالأمّةِ ولا تكترثون بقولها، إنما يجب أن تعرفوا مذهبَ الإمام المعصوم في ذلك فقط فإنه هو الحجّة، ولعلَّ مذهب الإمام في بيان هذه الأمور والفرائض ما ألزمناكموه، وأنتم لا تعرفون ذلك من دينه، وإن ادّعيتم أنكم قد عرفتم دينه في هذا لم تكونوا حجّة في الخبر عنه وقَلَبْنَا دعواكم، وقلنا لكم: فكذا تقولُ الشيعةُ الموافقةُ لنا على أنّ نقلَ جميع القرآن شائعٌ ذائعٌ قد قامت به الحجّةَ، وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيَّنه بيانا واحداً: إننا لا نعرفُ أنّ هذا دينُ الإمام في نقل القرآن وإذاعته، وبيانُ الرسول، فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا، وإذا كان ذلك كذلك صحَّ بهذه الجملة أنّ نقْلَ جميع القرآن قد قامت به الحجة وانقطع العذر، وأن بيانَ الرسول له وقعَ على وجهٍ واحد، وأنّ كل طريقٍ يثبت به قيامُ الحجّة بالبقرة وآل عمران والحمد و (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد) وكلّ آيةٍ يحتجُّ بها الشيعة هو الطريقُ الذي يجب به قيامُ الحجة بنقل سورةٍ من القرآن وآيةٍ من آياته وكلمةٍ من كلماته. وكذلك فلا يجوز أن يكون الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يُلقي بيانَ بعض القراءات والأحرف التي نزل عليها القرآنُ إلقاءً خاصًّا لا تقوم به الحجَّةُ، لأنه ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 مدع ذلك في بعض الأحرف أسعدَ من مخالفيه ومدّعيه في غير ما ادَّعاه. ولأن ذلك لو كانَ كذلك من الرسول لوجب أن يُعرفَ من دينه، وأن يُنقل ذلك عنه نقلا تقوم به الحجّةُ، ولأنه بمثابة دعوى ذَلك في بيان بعض أحكام الفرائض العامّة اللازمة للأعيان المشهورة من دين الرسول. وإذا كان ذلك كذلك بان أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّنَ جميعَ القرآن وصدَعَ به وقطع العذر في بابه في بيان جميع وجوهه وأحرفه التي تدلُّ عليها، وأطلقَ القراءة بها، وأخبرَ أنّ الله شرعَ تسويغَ القراءة بها. وممّا يدلُّ على ذلك أيضاً ويوضَّحُه وجودنا جميع الأمّه في زمن أبي بكر ووقت جمعه للقرآن، وفي أيام عثمانَ وجمعه الناس على الأحرف والقراءات التي أثبتها وأخذَ الناسُ بها متفقين مطبقين على إثبات ما أثبتوه من القرآن والقراءات، فلو كان من ذلك ما نُقل إليهم نقلَ الآحاد وما لم يقم به الحجَّة ولا انقطع العذر لم يجز في مستقِرِّ العادة وموضوعها أن يُطبقوا على إلحاق قرآن وقراءة تُروى لهم من جهة الآحاد لم تقم به حجةٌ بالقرآن والقراءة الثابتة المعلومة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخبر الظاهر المستفيض القاطع للعذر، وأن يخلطوا ما لم يُعلم من ذلك ولم يثبت بالخبر الظاهر المعلوم، ولكانَ لا بد في مستقرِّ العادة من أن يمتنعوا من ذلك أو أكثرُهم، أو أن يقول خلقٌ منهم: كيف يجوز أن يُلحَقَ بما قد علمناه من القرآن والقراءات وتيقَّناه وانقطع عذرنا فيه ما لم نعلم صحَّته ولا ندري لعل الرسول لم يبلّغْه ولم يُنزلْ عليه، أو لعلَّه بلَّغه وأُنزل عليه على غير هذا الوجه وأن يمرجوا ويموجوا في ذلك، ويكثر خوضُهم ويكون الرادُّ لذلك والمنكِرُ له والمانعُ من إثباته وإلحاقه بالظاهر المعلوم أكثرَ وأغلبَ من الراضي به والمسوّغِ له، لأنه لا يجوز على مثل عددهم في فضلهم ودينهم وأماناتهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 يُهملوا ذلك وأن يستجيزوا تركَ قراءة قرآنٍ قد قامت به الحجَّة إلى قراءةٍ وقرآنٍ وتلاوة على وجهٍ لم تقم به الحجة ولا انقطع العذر، ويدوّنونه ويعظّمونه تعظيمَ ما علموه في دين نبيهم عليه السلام، كما أنّه لا يجوز على مثلهم في حالهم تعظيمُ الشعرِ والآداب وكتب الفلسفة والتنجيم على كتاب ربِّ العالمين، وإلحاقُه بدرجته، أو أن يُعطموا هذه الكتبَ ويمتهنوا المصاحفَ ويحتقروا القرآن، ولأجل أنّ العادةَ ممتنعةٌ من كل أهل علم وصناعةٍ تعظيمٌ لعالم وعلمٍ صنفَه وكتابٍ وضعه هو مُعظَمُ علمه وموضعُ شرفه وفضيلتِه. وقد عرفوا ما وضعه منه وتيقَّنوه ولُقَنوه عنه، وشاهدوا إثباته له وحثَّهُ عليه وأمرَه بالرجوع إليه أن يلحقوا بما في ذلك الكتاب ما يرِدُ عليهم عن ذلك العالم المصنّفِ ورودَ الآحادِ الذي لا يُعرف صدقُ ناقِلِهِ وراويه. وكذلك ما لا يجد الفقهاء والمتكلِّمين والشعراءَ والمتأدّبين والفلاسفةَ والمنجِّمين يستجيزوا أن يُلحقوا "بموطأ مالكٍ " و"مختصرِ المُزَني " و"المقتضب " و"إقليدس " و"المجسطي " و (قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل) ما يَرِدُ عليهم الورودَ الشاذَ الذي لا يعرفونه ولا يُحقِّقونه تحقيق معرفتهم بما تضمنته هذه الكتب من الأمر الظاهر المشهور، هذا معلوم بالعادةِ والطباعِ، فكتابُ الله أولى بذلك، والسلفُ الصالح من الأمَّةِ أحقُّ مَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سبق إلى إنكار إلحاق شيءٍ غير معلومٍ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ثبت وعُلم عنه من كتاب الله الذي هو الأملُ والمفزع، وعليه عند الكافة العمادُ والمعولُ. وإذا كان ذلك كذلك وَضُحَ بهذه الجملة قيامُ الحجة بنقل جميع القرآن الثابت في مصحفنا والقراءات، وأن ذلك أجمع ثابث معلوم من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإثباته لجميعه وقليلِه وكثيره ولطوالِ سُوَرِه وقصارها، كان على وجهٍ واحدٍ في الإذاعة والإعلان والإشاعة والقصدِ إلى إقامة الحجة وإثباتِ الحفظ له عنه، وحصول العلم به، وهذا ما لا شبهةَ على عاقلٍ فيه. ومما يدلُّ أيضاً على أنه لا يجوز أن يكون قد ذهب وسقط على الأمة حفظُ شيءٍ من كتاب الله مما قل أو كثر، وأن الذي بين الدفتين هو جميعُ كلام الله الذي أقرَّ برسمه وإثباته وحفظه أنه لو كان قد ضاع منه شي بلا وذهب علمه وحفظه على الأمّة لم يخلُ ذلك الضائع الذاهب من أن يكون سورةً كاملةً من سور القرآن أو آياتٍ من سورةٍ معروفةٍ أو كلماتٍ من آياتٍ من السور، ولكان أيضاً لا بد من أن يكون سببُ سقوطِ ذلك وذهابِ علمه ومعرفته عن الأمّة هو أنّ الرسول لم يبلغ ذلك ويصدع به ويؤدّيه، لو أن الأمة لم تُصْغِ إلى ما أدّاه الرسول من هذا الضائع ولم تَعِهِ ولا حفظته عنه ولا أحفلت به وأعظمته، بل كذّبته فيه وردَّته وصغَّرت شأنه وحفرته، ولم تُحِلَّه محلُّ غيره مما تُلي عليها فحفظته وأعظمت شأنه وانصرفت همُمها إلى حفظه والعلم به، فإن كان ذلك لأجل أن الرسول لم يؤده ويبلغه ويقوم بحقِّ الله فيه وفي تلاوته عليهم وأمرهم بحفظه، فهذا طعن على الرسول وقدح في نبوته ودينه وأمانته لا شيءَ على الأمة فيه ولا لومَ ولا عيب، ونحن فلم نوجب على الأمّة حفظَ ما لم يبلُغْها ويؤدَّى إليها، وليس في المسلمين من يستجيزُ وصفَ النبيّ بهذه الصفة ويَحِلُّون في هذه المنزلة مع اعتقاد تصديقه ونبوّته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وإن كان السببُ في سقوط حفظ ذلك وذهابه على الأمّة أنها لم تُصغِ إليه ولا أحفلت به ولا صدَّقت الرسول فيما أتى به منه فذلك محالٌ، لأنّه ليس من دينِ أحدٍ من المسلمين اعتقادُ شيءٍ من هذا في القرآن ولا فيما دونه من السنن والآثار، ولأنّ الأمّةَ مطبقةٌ وغيرُهم من المِلَلِ وكل من عرَفَ سيرةَ المسلمين في تلقي القرآن من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه لم يكن هذا دينَ المسلمين أو رأيَهم أو أحداً منهم في شيءٍ من القرآن الذي يتلوه عليهم ويخبر بأنه منزَّلٌ من عند الله، بل كانوا على سَجِيةٍ واحدةٍ ونمطٍ متساوٍ في حفظ القرآن عن الرسول وتعظيمِ جميعِهِ وانصرافِ هممها إلى تحفظه واعتقادِ تعظيمِه وتصديقِ من جاء به. ولو ساغت مثلُ هذه الدعوى لمدعيها لساغَ لآخرَ أن يدَّعيَ أنَّ القرآنَ الذي تلاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمّته وأمَرَهُم بحفظه كان أكثر من مائةِ ألفِ ألفِ ألفِ آية، وإنه كان يزيدُ على ألف حمل بعير، غير أن الأمة لم تحفظ منه إلا هذا القدْرَ، ولم تعِ الباقي عن الرسول ولا اكترثت به ولا عظّمته ولا أصغَتْ إليه، ولا كانت حالُها في قبوله والحرص على تحفظِهِ وتعلُّمِهِ كحالها في قبول هذا القدر الحاصل في أيدينا والحرص على تحصيله والإحاطةِ بعلمه، فذهبَ كلُّ ما تلاه عليهم عنهم، وبقيَ هذا القدرُ اليسيرُ لشهوتهم بحفظه وخِفّةِ ذلك على قلوبهم، أو لتعظيمِ هذا القرآن أكثرَ من تعظيمهم كان لما لم يصغوا إليه ولا يعلموا بحفظه، وهذا جهلٌ ممن صار إليه ودان به، ولو ساغَ مثلُ هذا لقائِله لساغ لآخرَ أن يقول: إنَّ الثابت في شريعة الرسول من الفرائض والسنن والحدود والأحكام أضعافُ ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أيدينا من ذلك، وأنه قد ذهب على الأمّة حفظُ أكثر ما شرعه الرسولُ لها. وإن كانت قد حفظت هذا القدرَ الباقي لأجل أنّها لم تحفظ تلكَ الأحكامَ والحدودَ والفرائض لتركِهم للإصغاء للرسول عليه السلام وقبولِ ذلك منه. وقلَّة إحفالهم به، وإئَما حفظوا هذا القدرَ لخفَّته على قلوبهم، أو لسببٍ أوجبَ ذلك لا يعرفونه، ومن بلغ إلى هذا فقد ظهر جهلُه، وكُفينا مؤونةَ كلامه. وإن كان هذا والذي قبلَه محالاً وكانت الأمّة قد حفظت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ما أتى به من القرآن وعظّمته وجرت في تفخيم شأنِه على سبيلٍ واحدٍ غير أنّها أسقطت ذلك فتركت نقلَه وضبطَه بعدَ أن كانت وعَتْهُ وحَفِظَتْهُ فذلك أيَضاَ محال، لأئَه لا يخلو سقوطُ ذلك عليها وتركُها لإثباته من أن يكونَ عن قصدٍ منهم إلى ذلك ومواطأةٍ وتراسلٍ على طيَّه وكتمانه، أو باتفاقِ ذلك وسهوِ سائرهم عنه عن غير قصدِ إلى ذلك ولا اعتمادِ لتركه وتواطىءِ على كتمانه فيستحيلُ أن يكون ذلك واقعاً منهم بعدَ حفظه ومعرفته على سبيل القصد والاعتماد والتشاعُرِ والتراسلِ على كتمانه، لأنّه لو كان ذلك كذلك لوجبَ في مستقرِّ العادةِ ومقتضاها أن يظهرَ عليهم وعنهم ذكرُ هذا التواطىء أو التراسل، وأن يدورَ الحديثُ به بينهم، ويُعلمَ ذلك من حالهم في يسير الوقتِ وأقصرِ المدّة، فإن يذكروا أسبابهم ودواعيهم الباعثة لهم على كتمان ما قد عرفوه وسمعوه من القرآن حتى لا يخفى على أحدِ عرَفَهم وتأمَّلَ بأحوالهم وخالطهم ألِّهم أهلُ تراسلِ وتشاعرٍ على إنكار ما عرفوه ودفع ما علموه، فلمَّا لم يظهرْ ذلك عليهم ويُعلم من حالهم ثبتَ بذلك أنهم لم يتواطؤا على كتمان شيءِ من كتاب الله. ولو جاز أن يكتموا من القرآن سورةَ أو سوراَ أو آياتِ بقَدْرِ سورةٍ أو سورِ منه لأسباب تعنيهم أو أغراض وبواعثَ حَدَتْهُم عليه، ثم لا يَظْهَرُ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 عليهم ولا يُعرَفُ من حالهم لجازَ أن يقع منهم تواطؤ وتراسلٌ على كتمان فرائضَ كثيرةٍ، وأحكامٍ وحدودٍ هيَ أكثرَ مما نقلوه لأسبابٍ دعتهم إلى ذلك. ثم لا يُعرَفُ ذلك من حالهم وأن يتفقوا على كتمان وقائعَ كثيرةٍ وغزواتٍ وحروبٍ هُزموا فيها، ونال الرسول في سائرها جراحٌ وكُلُومٌ، وقُتِلَ كثيرٌ من أصحابه وجِلّةُ الأئمّةِ الأربعة، وأن يتفقَ لهم التواطؤ على كتمان أسر قريشٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - مراتٍ، وأن يُطبقوا على كتمان معارضة القرآن وسائرِ آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ينكتمُ ذلك عليهم، ولا يُعرَفَ الاتفاقُ عليه من أحوالهم، فكذا لا نأمنُ أن يكون قد كتَموا فَرْضَ عشر صلواتٍ كانت مفروضةً مع هذه الخمسة، وَفَرْضَ صيام شهور أُخرَ فُرِضَ صومُها كفَرضِ رمضان، وحجّ واجبٍ وحدودٍ وأحكامٍ هي أكثرُ مما في أيدينا، وأن لا نأمنَ أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غزى ألفَ غزاةٍ وأُسِرَ ألف مرةٍ وقُتل من أصحابه خلقٌ هم في مَحَل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وحمزةَ بن عبد المطلب وسعد بن معاذ، غير أنّهم كتموا ذلك أجمع، واتَّفقوا على طيِّه. وأن لا يأمن بأن يكون القرآنُ قد عُورضَ بمثله وسائر آياته، واتَفقت الأمّةُ أو معظمُها على جَحدِ ذلك وإنكاره، فإن مرُّوا على ذلك هذا كُفِينا مؤونةَ الكلام معهم، وصاروا إلى القدح في الرسالة وجحدِ العادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وإن أبَوهُ وقالوا: لو وقع منهم اتّفاقٌ على كتمان شيءٍ من هذا لوجب ظهورهُ عليهم والعلمُ به من حالهم، وأن يعلم ذلك أيضاً مَنْ ليس من أهل ملَّتِهم، لأنَّ ذلك هو موجبُ العادةِ في كتمان الجمِّ الغفير والعَدَد الكثير فيما يتفقونَ على كتمانه، وإن جاز حقّاً تواطؤ الاثنين والنفَّرِ اليسير على ما يتَفقونَ على كتمانه. قيل لهم: وكذلك لو اتَّفقت الأمّةُ أو عددٌ كثيرٌ منها على كتمان شيءٍ من كتاب الله لوجبَ أن يظهرَ ذلك عليهم ويحدَّثَ به من أمرهم ويُعرَفَ من حالهم، وهذا ما لا جواب عنه. ويستحيلُ أيضاً أن ما أسقطوا ما كان حفظوه عن الرسول من القرآن وَوَعَوْهُ بعد ذكرهم له ومعرفتهم به، وتركوا إثباته لأجل سهوٍ عن ذلك عمَّهم، ونسيانٍ شَمِلَهم، وعمَّ سائرهم، لأنّه ممتنعٌ على مثل عدَدهم في العادة، ومن هو أقلُّ منهم في العدد الكثير، ولو جازَ ذلك عليهم لجاز أن يكونوا جميعاً قد تركوا ذكرَ فرائضَ وحدودٍ، وأحكامٍ وحروبٍ، وغزواتٍ. ومقاتل فرسانٍ جِلَّةٍ، كانوا بمحل الصدر الأوَّلِ، وتركوا أيضاً ذكر آياتٍ أخَرَ للرسول هي أكثرُ مما نَقَلُوه بأمرٍ عظيمٍ، لا عن سهوٍ عن ذلك عمَّهم، ونسيانٍ لَحِقَ سائرَهُم وغفلةٍ اقتطعتهم عن ذكر شيءٍ منه، ومن صار إلى ركوب مثل هذا فقد بلغ في الجهل حدَّاً لا يُرجى معه برؤُه واستقامته، ولا يُطمع في الانتفاع بكلامه، لأنَّ هذا أجمع دفعٌ للضرورة وجحدٌ لموجب العادة، أو آفةٌ وغَلَبةٌ تقطع صاحبها عن التمييز، ويستحيل أن يكونوا إنّما تركوا إثبات ما سقط عليهم من القرآن لأجلِ هلاك من كان يحفظُ تلك السورِ والآيات، التي ترك القومُ إثباتها إمّا بالقتل أو الموت لأمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أحدهما: أنه كان لا بد في وضع العادة ومستقَرها من أن يتحدث الباقون من الأمّة بأنّه قد ذهب قرآن كثير وسور وآيات من سورٍ بقيت منتثرةً بذهاب حفاظها، لأنه لا بدّ أن يكون علمُ ذلك مشهوراً مستقراً عندنا في الأمّة، وإن كانوا لا يحفظون ذهاب الذاهب على ترتيبه ونظامه وتعيُّنه كما يعلمُ أهلُ بلدٍ وإقليم من أقاليم المسلمين وقريةٍ من قراهم اليوم أنّ من حفظ من الكهف إلى الناس فإنّه لم يحفظ جميع القرآن، وأن من حفظ عشرين آيةً من سورة البقرة فلم يحفظ سائرها، وإن ما لم يحفَظْه زيد من السور هي السورة التي تُسمَّى كذا وسورةَ كذا، وإن لم يحفظوا هم أيضاً ذلك القدْرَ، لأنَّ القرآن كان أشهر عندهم وأظهر من أن يُخفى أمرُه، لأنهم كانوا يَتَلَقون ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه، سُورُهُ مرتبة منظومة على سبيل ما يتلقنه الناسُ اليوم، وكان من لا يحفظ السورة منه يعلمُ أن في القرآن سورةً تُدعى بكذا وإن كان لا يحفظها، هذه هي العادةُ في علم الناس بالقرآن ومعرفتهم بجملته حُفاظاً كانوا له أو غير حُفاظ. وإذا كان ذلك كذلك وجب أنه لو سقط من القرآن سورٌ وآياتٌ لهلاك من كان يحفظُ ذلك أن يَعلَم الباقونَ من الأمةِ أنّه قد ذَهَبَ كثيرٌ من القرآن، وأن يتحدثوا بينهم حديثاً لا يمكنُ معه الجهلُ بما ضاع من القرآن لذهاب حَفَظَته. ولو كان منهم قولٌ في ذلك وتُحُدّثَ به لوجب أن يُنقل ذلك عنهم، ويتسع ذكرُه فيهم، وفي علمنا بأنَ ذلك لم يكن: دليلٌ على بطلان هذه الدعوى. والوجه الآخر: أنه لا يجوز في مسقرّ العادة أن يتفقَ القتلُ والموتُ والهلاكُ بأي وجهٍ كان بجميع من كان يحفظُ الذاهب من القرآن وبقاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الحافظين لغيره، كما أنه لا يجوز أن يتَفق هلاك جميع من يحفظُ سورةَ الكهف وبقاءُ جميع من يحفظُ مريمَ وعَطَبُ كل حافظٍ لشعر جريرٍ وبقاءُ كل حافظ لشعر الفرزدق، وهلاكُ جميع المرجئة وبقاءُ سائر المعتزلة. وعَطَبُ جميع من يحفظُ مسائل وبقاءُ جميع الحفَّاظِ للوصايا، كلُّ هذا باطلٌ ممتنعٌ في مستقر العادة، وذلك لا يجوز فيها هلاكُ جميع من حفظ شيئا من كتاب الله، وبقاءُ الحافظين لغيره منهم. وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنّه لا يجوز سقوطُ شيءٍ من القرآن بهذا الضرب من الضياع وهلاكُ الحفاظ له دون الحافظين لغيره، فإذا كان كذلك ثبت بهذه الجملة أنه لا يجوز ضياعُ شيءٍ من كتاب الله تعالى وذهابه على الأمة بوجهٍ من الوجوه التي عددناها ووصفناها، ولا فرق بين أن يقول القائل إنّ الذاهب على الأمة سُورٌ من القرآن أو سورة منه طويلةٌ أو قصيرة أو آيات أو آيةٌ من سورة لأجل أنّ جميع القرآن كان ظاهراً مستفيضا عندهم على عصر الرسول وحين أدائه إليه وتبليغهِ لهم، فكما أنّه لو هَلَكَ حفّاظُ سورةٍ منه ليس عند الباقين حفظُها وجَبَ علم الباقين من الأمة بها وإن لم يحفظوها ، لأجل شهرَتها فيهم وظهور أمرها، فكذلك يجمث عليهم بذهاب الآية منه سقوطُها بهلاك حُفاظها لأجل شهرتها، ومعرفتهم في الجملة بها. ولو ساغ وجاز أن يذهب عليهم حفظُ آيةٍ أو آياتٍ نزلت ورتبت في بعَض السور بذهاب حفَّاظها لساغ أيضا وجاز أن يذهب عليهم سورٌ كثيرةٌ من القرآن أو سورة منه قد كانت أنزلت مع السور، وأن يخفى أمرها لذهاب حفاظها وهلاكهم، فإن مرُّوا على ذلك تجاهلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وإن أبَوْهُ قالوا: يجبُ أن لا يخفى نزولُ السورة على من حفظها منهم ومن لم يحفظها، قيل لهم: وكذلك لا يجوز أن تخفى عليهم آيةٌ منه إذا سقطت لأجل ذهاب حُفّاظها، لظهور أمرها وعلمهم بنزولها، وأمر الرسول لهم بإثباتها. فإن قالوا: نزولُ السورة أظهرُ فيهم وأشهرُ من نزول آيةٍ مضافةٍ إلى سورة. قيل لهم: ما الفصلُ بينكم وبين من قال: بل نزولُ الآية والآيتين المضافة إلى سورةٍ من سور القرآن، فقد كانوا عَرَفوا نزولَها من قبل، وأنّ تلك الآيةَ لم تكن فيها، ولا مضافةً إليها، أشهرُ وأظهرُ فيهم من نزول سورةِ بكمالها، لم يتقدم علمهم بها وتحفُّظهم لها لأجل أنّ ما تقدّمَ نزولُهُ وحُفظَ عارياً مجرَّدا مما أضيف إليه يجب في العادة أن لا يخفى ألبتَّة نزولُ ما نزل بعدَه وأضيف إليه، لأنَّ الناس يعمدون أبداً لحفظ ما نزل وتجدَّد وأُضيفَ إلى ما سلف، وإلى ذكر سبب نزوله وقصّته وفيمن نزل ولأجل ماذا أُلحِقَ بتلك السورة، وبنقل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يضعوها في السورة المعيَّنةِ دون ما قبلها وبعدها، وكلُّ هذا يوجبه أن يكون نزولُ الآياتِ الزوائد المضافة إلى السُّور أشهر من نزول سورةٍ كاملةٍ، فإن لم يكن الأمرُ فيها كذلك فلا أقلَّ من أن يكون في الشهرة كهيَ، وإذا كان ذلك كذلك صحَّ بجميع ما وصفناه أنّه لا يجوز أن يكون قد سقطَ وذهبَ على الأمّة شيءٌ من كتاب الله تعالى، وأن يكون الذي بين اللوحتين هو جميع ما أنزل الله تعالى، وبقي رسمُه وأمر بحفظه وإثباته، والعمل به والرجوع إليه، وأنّ من اذَعى ذهابَ شيءٍ منه لبعض الوجوه والأسبابِ التي قدَّمنا ذكرها فقد قال باطلاً وجَهِلَ جَهْلاً عظيماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 دليل آخر: وممّا يدلُّ أيضاً على صحَّة نقل القرآن وأنّه هو المرسوم في مصاحفنا على وجهه وترتيبه الذي رتَبه الله جل وعزَّ عليه، اتفاقنا والشيعةَ على أنَّ عليَّاً عليه السلام كان يقرأُه ويُقرىءُ به، وأنه حكمه أيامَ التحكيم من فاتحته إلى خاتمته، وأقزَ من حكَّمه بإحياء ما أحيا وإماتة ما أماته، وأنه كان يحتجُّ ويستدلُّ به ورجعَ إليه، هذا ما لا خلاف بيننا وبينهم فيه، فوجب بذلك أن يكون نقلُه وتأليفه صحيحاً ثابتا وأن يكون غيرَ منقوصٍ منه ولا مزيدٍ فيه، ولا مرتَبٍ على غير الوجه الذي أمر عليه السلامُ بترتيبه عليه، لأنه لو كان فيه شيءٌ من ذلك لسَارعَ عليّ عليه السلامُ إلى إظهاره وإشهاره، ولكان تشدُّده فيه أعظم من تشدُّده في كل ما حاربَ ونابذَ عليه، ولم يُحكِّمْه ولم يقرَّهُ، وكان أحقَّ الناس وأولاهُم بذلك. وقولُهم بعدَ هذا إلَّه وإن كان قد فعلَ جميعَ هذا فإنّه قد أظهر أحياناً ضد ذلك، وأنه كان في إظهاره لذلك في تُقيةٍ وتحت غَلَبة: قولٌ باطلٌ ودعوى لا برهانَ معها ولا شبهةَ في سقوطها، وأيُّ تقيةٍ تُعاب عليه مع كثرة أجناده ونُصَّارِه، ونصبه الحربَ سجالاً مع أهل البصرةِ وصفَّينَ وحَرُوراء والنخيلة والنهروان وقتل من قُتل في هذه المواقف لولا القِحَةُ وقلَّة الدِّين والتحصيل، وسنتكلمُ بعد هذا في إبطال تعلُّقهم بهذه التقية، وشدّة وَهَاءِ قولهم، ونذكُرُ ضروباً من الكلام فيها وما يعني اليسيرُ منها إن شاء الله. فبطل بذلك ما قالُوه، وثبت أنَّ من مذهب علي عليه السلام في اعتقاده: صحّة مُصحف الجماعة وسلامةَ نقله وتأليفه من التخليط والفسادِ مذهبُ سائر الأمةِ في وقته ومن حدَثَ بعدَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 دليل آخر على صحة نقل القرآن وصحة تأليفه وترتيبه ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . وقولُه: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) ، وقد ثبت بإجماع الأمّة منا ومنهم أن الله تعالى لم يُرِدْ بهاتين الآيتين أنه تعالى يحفظُ القرآنَ على نفسه ولنفسه، وأنّه يجمَعُه لنفسه وأهل سمواته دون أهل أرضه، وأنّه إنّما عنى بذلك أنّه يحفظُه على المكلفينَ للعمل بموجبه والمصير إلى مقتضاه ومتضمِّنه، وأنّه يجمعُهُ لهم فيكونُ محفوظاً عندهم ومجموعاً لهم دونه ومحروساً من وجوه الخطأ والغلط والتخليط والإلباس. وإذا كان ذلك كذلك وجبَ بهاتين الآيتين القطعُ على صحةِ مصحفِ الجماعة وسلامتِه من كل فساد، وليس لأنّه لو كان مغيَّراً أو مبدَّلا أو منقوصا منه أو مزيداً فيه ومرتَباً على غير ما رتَّبه الله سبحانه لكان غير محفوظ علينا ولا مجموع لنا، وكيف يسوغُ لمسلمٍ أن يقولَ بتفريق ما ضَمِنَ الله جمعَه، وتضييع ما أخبر بحفظه له، وليس ها هنا مصحفٌ ظاهرٌ في أيدي الشيعة أو غيرهم يدعون أنَّه هو كتابُ الله الظاهرُ المنقطعُ العذرُ به الذي حفظه الله على عباده! وكيف يدَّعون ذلك وهم يزعمون أنّ ربعَ القرآن نزل في أهل البيت وأنّهم وسائرَ الأئمة مسمَّون فيه كما سُمِّيَ مَن قبلهم، وهم لا يعرفون من هذا الربع، وهذه التسمية شيئاً، ويدعونَ أن سورةَ (لم يكن) كانت في طول البقرة، ولا يعرفون من الساقط عندهم منها شيئاً، ويدَّعون أنَّ معظمَ الأحزاب قد سقط، ولا يعرفون ذلك، وأن سورةً نزلت في طول البقرة ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مع الناس مِن حفظها إلا كلمةً أو كلمتين: "لو أنَّ لابن آدم واديانِ من ذهبٍ لا بتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ عينَ ابنِ آدمَ إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب "، ولا عندَهم مصحفٌ يدَّعون تواترَ الشيعة أو غيرهم في نقله عن عليّ عليه السلام أو عن أحدٍ من الأئمة من ولده. وإذا لم يكن القرآنُ الصحيحُ السليمُ من عوارض الإلباس والشُبه عندَنا ولا عندَهم ولا عندَ غيرهم من فِرَقِ الأمة، وجبَ لذلك أن يكونَ غيرَ مجموعٍ لنا ولا محفوظٍ علينا، وهذا تكذيبٌ لله تعالى في خبره، وقُبحُ افتراءٍ وجُرأةٍ عليه، فوجَبَ بذلك القطعُ على سلامة مُصحفِ عمرَ والجماعة. وكذبُ كلِّ من ادَّعى دخولَ خللٍ فيه ببعض الوجوه. فإن قالوا: ما أنكرتم أنه وإن لم يكن محفوظاً عندَنا ولا عندَكم ولا عندَ أحدٍ من فِرَقِ الأمّة أن يكون محفوظا على وجهٍ وهو أن يكونَ مودعاً عندَ الإمام القائم المعصوم المأمور بإظهارِه لأهله، في حين ظهورِ وانبساطِ سيفه وسلطانه، فهذا ضربٌ من الحفظ له، يقال لهم: أقلُّ ما في هذا أنه لا أصلَ لما تدَّعونه من وجودِ إمامٍ معصومٍ منصوص عليه، ْ وقد أوضحنا ذلك ودللنا عليه بوجوه من الأدلة في كتابَي الإمامة، وغيرها من الشروح والأمالي بما يغني اليسيرُ منه، وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنه لا أصلَ لوجود هذا الإمام ولا معنى في التعلق في حفظ القرآن وجمعه بإيداعه إياه. ثم يقال لهم: فيجب أن يكون الله سبحانه ما حفظ القرآنَ ولا جمعه لأحدٍ من المكلفين منذ وقتِ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى وقتنا هذا، لأنَ عليا عندَكم كان في تُقيةٍ في أيام نظرة وقبلها وإلى أن توفي عليه السلام، ولا يظهر ما عنده ظهوراً تقوم به الحجة، وإنما كان يعتمد في الظاهر على مصحف عثمان والقوم كذلك، وإلى وقتنا هذا، وإنما يجبُ أن يكون القرآنُ محفوظا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقتَ ظهور المهدي فقط، وعلى أهل عصره دون سائرِ الأعصار، وهذا خلافُ الظاهرِ والإجماع، وإن ساغَ ذلك لمدعيه ساغ لآخرَ أن يقول: أنّه ما جُمع ولا حُفظ إلا على أهل عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أيام حياته فقط، وأنّه مضيَّع في سائر الأعصار إلى يوم القيامة، ولا فصلَ في ذلك. وكذلك إن قالوا: فكل إمامِ في وقته لا يخلو من دعاة وأبوابِ يُوعَزُ إليهم صحيحُ القرآن الموح عنده، قيل لهم: فيجب أن يكون محفوظاَ على الأبواب دون غيرهم، وإن ساغ ذلك ساغ لآخر أن يقول: إنه محفوظٌ على أهل عصر واحد فقط، وعلى قريش دون مَن سواهم أو على الأنصار دون غيرهم، وكلّ هذه الدّعاوى باطلةٌ فارغةٌ. فإن قالوا: فإن الدعاةَ والأبوابَ يجب أن يُؤخَذَ ذلك عنهم، ويرجع الناسُ إليهم، قيل لهم: كيف يجبُ ذلك وهم عندكم غيرُ معصومين ولا كالإمام، بل يجوز عليهم الكذبُ والغلطُ والتغييرُ والتبديل، فكيف يُحفَظُ على المكلَّفين القرآنُ بقومِ هذه صفتهم، فإن صاروا إلى أنهم معصومون كالإمام، تركوا قولهم وألزموا عناءَ الأمة بعصمة هؤلاء الأبواب عن الأئمة. ثم يقال لهم: ويجب أيضاً على قولكم أن لا يكونَ القرآنُ محفوظا على جميع الأمة إذا ظهر الإمامُ وانبسط السلطان وتمكَّن من إظهار مكنون علمه ومخزونه، لأنه إنما يظهر في بعض بلاد المسلمين ولا يمكنه لقاءُ أهل الشرق والغرب، وإنما يمكنه المشافهةُ بالبيان لأهل داره فقط، دونَ أهل سائر دور الإسلام. فإن قالوا: لا يجب ما قلتم لأنه يرسلُ رسله وأبوابه إلى أهل الأقاليم والأطراف، قيل لهم: وما ينفعهم ذلك وهم قد علموا أنّ الرُّسلَ والأبوابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 غيرُ معصومين، وأنّه يجوز عليهم الكذبُ والتبديلُ والتغيير والتحريف على الإمام والشهود والأغفال. ثم يقال لهم: أيُّ فائدةٍ ونفعٍ في إيداعِ صحيح القرآن إماما غائباً لا يقدر على إزالة جهالة، ولا إيضاح حجة، ولا كشفِ نقمة، ولا تجديدِ نعمة، ولا رد مظلمة، ولا يوصلُ إليه ولا يُعرَف له دار ولا قرار، ولا تقدَّم منه قُبيل غَيبتِه بيانُ ما عنده، فيكونُ ذلك عذراً وغيرَ مُضرّ بالعباد غَيبتُه وتقيته. وإن قالوا: هذا أجمع لازم لكم في تجويز تُقية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت غيبته واختفائه في الغار، يقال لهم: ولا سواء، لأننا نحن إنما أجزنا تقيةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد تقدُّم بيانه وإيضاحِ ما حُمِّله وكثرة صبره على الأذى والمكاره، ومناظرته وتركه دعاةً إلى دينه ومباينين لمخالفيه، وإن كانوا تحت الضَّيم والغَلَبة، ومنهم أميرُ المؤمنين عمر بنُ الخطاب الذي يقول: "والله لا يُعبَدُ الله سرّا بعدَ اليوم " صلوات الله عليهم، ويقول لهم: "لو بلغت عدتنا مائةً لعلمتُم أنكم تتركونها لنا أو نترُكُها لكم " يعني مكة، وأنه كان ينصِبُ الحربَ معهم بمائة، ويقول لهم في جموعِهم يومَ هجرته ووقتَ غَيبة الرسول عليه السلام: "شاهت الوجوه، لا يُرغِمُ اللهُ إلا هذه المعاطِس، ألا مَن أرادَ أن يُرفَل زوجته ويُوتم ولدَهُ فليلحقْ بي وراءَ هذا الوادي "، ثم يخرج عنهم مهاجراً مُعِدّاً شاكياً في سلاحه. فلو تُوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار لم يكن بقيَ عليه شي لا يحتاج إلى إنفاذٍ وبيان، وليست هذه حال إمامكم ولا صفته، لأنه لم يتقدم منه بيان ولا إعداد، فشتّان بيننا وبينكم. فإن قالوا: أفليس القرآنُ عندَكم محفوظاً والشرع أيضاً كذلك، وقد أُدخل في تأويل القرآن وفي أحكام الشرع ما ليس منه، وأُخرج منه بعض ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 هو منه، وطعنَ في ذلك أهلُ الزَيغِ والإلحاد، فكذلك حُكم القرآن في جواز تغييره وتبديله، وإن كان الله تعالى قد حفظه على الأمة وجمعه. يقال لهم: لا معنى لما أوردتموه، لأن مطاعنَ الملحدين وغلطَ المتأولين، وتحريفَ الزائفين والمنحرفين، لا يمنع من إظهار الله تعالى تأويلَ كتابه بواضح الأدلة والبراهين المنصوبة الناطقة بالحق، وصحيح النقل لأحكام الشرع، إما على وجهٍ يوجب العلمَ أو العملَ دون العلم، على ما رتِّبت عليه عباداتنا، ولن يخلّينا الله تعالى في جميع ذلك من حجة لائحة، ودلالة قاطعة ناطقة، وإن صَرفَ النظرَ فيها أهلُ التقصير والجهل، فهم عندَنا في ذلك بمثابة المكذّب بتنزيل القرآن، والجاحدِ أن يكونَ من عند الله، وأن يكونَ مُعجزا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك لا يُخرجه عن صحةِ نزوله وكونه آية للرسول، إذ كانت الحجج على ذلك باهرةً ظاهرةً، والقرآن الصحيح الذي يدّعون ضياعَه وذهابَ جمعه على الأمة غيرُ ظاهر ولا موجوب ولا منصوبٍ لنا عليه دليل يوصلنا إليه بعينه، ويُفرقُ لنا بينه وبين غيره، فشَتّان ما شبَّهتُم به وظننتم الاعتصامَ بذكره. وإن قالوا: أفليسَ قد قال الله جل وعز: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) . وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) . فضمن هُدى العالمين وإن ضل منهم خلق كثير، يقال لهم: ليس الأمرُ على ما توهَّمتم، لأن الله جل وعز أراد بهاتين الآيتين أن يهديَ المؤمنين فقط ومَن في معلومه أن يهديَه وأن يأخذَ خلقه لنفعه والمصير إلى جنته، دون من أضلَّهُ وختمَ على قلبه وسمعه، وأخبر أنّ القرآنَ عمىً عليه، وأنه قد أضلَّه وضيق صدرَهُ وجعله حرجا وخلقه لنارِه، فإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمتُم من أنه إذا جاز أن يهديَ الله من يُضل، ولا ينفعَ من يستضِر جاز أن يحفظَ ما ضاع، ويجمعَ ما افترقَ وتشذَّر وتبدَّل، وكلُّ هذا يدلُ على الهرب والوَغادةِ والتلفيق من المتعلَّق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون المرادُ بقوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . نفسَ الرسول عليه السلام دونَ القرآن، لأنه هو المبدأ بذكره، لأن الله تعالى قال: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) . ، إلى قوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . يعني الرسولَ وأنه محفوظٌ من الجنون الذي قذفوه به، وأضافوه إليه، يقال لهم: هذا أيضاً من ضيق الحيلة والعَطَن. وتطلُّب الغَمِيزة والطعن في كتاب الله تعالى، لأنه لا خلافَ بين الأمة في أن المرادَ بالآية حفظُ القرآن، وأنه بمعنى قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . فلا معنى لما قلتموه، ولأنه أيضاً قطعٌ لسياق الكلام ونظمه، وردُّه إلى أمرٍ مستبعَدٍ غيرِ مستعمل في اللسان، لأن الظاهرَ من قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . أنه حافظٌ للمنزَّلِ من الذكر، فلا معنى لقطع الكلام عن نظامه وحملِه على المستبعد، ولأنه لا تعلُّق بين إنزاله للذكر، وبين حفظه للرسول، لأنه قد يحفظه وإن لم يُنزل عليه الذكر، فما معنى إناطته إنزالَ القرآن بحفظ الرسول من الجنون، هذا ما لا وجهَ له، على أنه يكفي في تصحيح ما قلناه التعلُّقُ بقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . فوجب بذلك سقوطُ ما ظنوا الانتفاعَ به، اللهمَ إلا أن يقولوا إنَّ تنزيل هذه الآية الأخرى عندنا: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . فيصيرون بذلك إلى التُّرَّهات، وإلى فتح بابٍ يجبُ تنزيهُ الكتاب عن ذكره، ولا طائلَ في مناظرة من انتهى إلى هذه الجهالات. ثم يقال لهم: إنَّ التنزيلَ ورد كذلك أن قولَه: (لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ) . يقتضي جواباً وتماما وصلة، يجعل الكلام مقيّداً، فإذا وُصِل ب (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) ، لم يكن الكلامُ مفيدَ شيء، لأنه لا ينبغي أن لا يحرِّك به الرسولُ صلى الله عليه لسانَه، ويشتدُّ حرصُه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 حفظه وتحصيله، لأن علياً عليه السلامُ جمَعَه وقرأ به، لأن ذلك ليس مما يُوجب حفظَ الرسول له، وتمكينَه من أدائه، ولا ضمانَ من الله سبحانه لمعونته على جمعِه وتسهيلِ سبيلِه له، وكذلك لو قال بأن جبريلَ جمعه وقرأ به لم يكن مفيدا لشيء، وإنما قال اللهُ سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) ، على سبيل الإخبار له عن معونته في جمعه له وحفظه إياه، على وجهٍ يتمكَّنُ به من تعلمه وأدائه، وحفظُ الغير له لا يُوجبُ كونَ النبي صلى الله عليه على هذه الصفة، فبطلَ ما قالوه. ثم يُقال لهم: قد أجمع المسلمون وسائرُ أهل التأويل على أنَّ هذا الكلامَ إنما خُوطِبَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقتَ نزول القرآن عليه وعندَ تلقيه الوحيَ من جبريل، وشدةُ حرصه على تحفُّظه لتفهُّمه وأدائه، لم يكن حفظُ ذلك والقراءةُ له عند عليِّ ولا عندَ غيره من الأمة، فكيف يجوز أن يُقال له: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) ، وبعدُ لم يحصل للرسول حفظُه ولا كان منه أداؤه، وترى أنه متى جمعه علي وقرأ به في الذرِّ الأول أو في القِدَم، أو بُعِثَ به إليه قبلَ الرسول ونسخه، أو ألهمهُ واضطر إليه وصَعُبَ حفظه وتلقيه على الرسول، ولولا جهل من يتعلق بهذا ويورده لوجب تركُ الإخبار به. ثم يقال لهم: إذا كان السلفُ قد أسقط من القرآن شيئا كثيراَ وحذفه جملةً ولم يصحِّفه ولم يبينه إلى غير معناه وكانوا قد سمعوا هذه الآيةَ في تعظيم شأن علي عليه السلام وهم من قلة الدين والإدغال له والعناد لعلي عليه السلام على ما وصفهم: وجبَ أن يحذفوا أيضًا هذه الآيةَ من الكتاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ويقطعوا بذلك تعلقَكم بها، كما صنعوا في إسقاطِ ربع القرآن المنزَّل في أهل البيت، وحذفِ أسماء الأئمة من غير تصحيفٍ ولا تركٍ لما يُحتمل جُملةً وتوهمه على ما أُنزل عليه، فكيف لم يحذفوا منه هذه الفضيلةَ العظيمةَ لعليّ وتركوها على وجه يمكن حمله على تعظيمه وما نزلت عليه؟! وهل هذه الدعوى إلا بمنزلة دعوى مَن قال إنما قال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) . وإنما جعل آل عمران قصداً وعناداً، وكل هذا مما لا شبهةَ على نَقَلتِهم في فساده وإنما يوردونه ليُوهموا به العامة والجُهّال، وأن يكون طريق العلم بصحة نقل القرآن وثبوته هو طريق العلم بظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه إلى نفسه وسائر ما ظهر واستفاض من أحواله ودينه وأحكامه، وهذا ما لا سبيلَ إلى الخلاص منه. وهذه جملةٌ مقنعة في صحة نقل القرآن تكشف عن بُطلان قول من ادّعى فيه الزيادةَ والنقصان، وذهابَ خَلْقٍ من السلف والخلف عن حفظ كثيرٍ منه وإدخالهم فيه ما ليس منه، وموقفَ مَن نصح لنفسه وهُدِيَ لرُشده، على سلامة نقل القرآن من كل تحريفٍ وتغييرٍ وتبديل، وقد بيّنا فيما سلف من عادات الناس في نقل ما قَصُرَ عن حال القرآن في عِظَمِ الشأن ووجوب توفّر هِمَمِهم ودواعيهم على إشاعته وإذاعته واللَّهَجِ بتحفُّظه، وأخذ الأنفس بحياطته وحراسته وإعظامه وصيانته بما يوجبُ أن يكونَ القرآنُ من أظهر الأمور المنقولة وأكثرها إشاعةً وأرشدها إذاعةً وأحقِّها وأولاها بالإعلان والاستفاضة، وأبعدها عن الخطأ والخمول والإضاعة والدُّثور، وأن تكونَ هذه حال جميعه وكلِّ سورةٍ وآيةٍ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقد وصفنا أيضاً فيما سلفَ ما كانت عليه أحوالُ سَلَف الأمة من إعظام القرآن وأهله، وأخذهم أنفسَهم بتحفظه وإجلال مؤدِّيه إليهم، وبذلهم أنفسَهم وأموالهم في نُصرته وتثبيت أمره وتصديقِ ما جاء به، والخنوعِ لموجَبِه، وأنَّ ذلك أجمع يمنع في وضع العادة وما عليه الفطرةُ من ضياع شيء من كتاب الله تعالى وإدخال زيادةٍ فيه يشُدُّكَ أمرُها، ويخفى على الناس حالُ المُلتبس بها. ولقد أخرج الصحابةُ ظهورَ القرآنِ بينهم وشهرتَه فيهم وشدةَ تعليم الرسول وتعلُّمهم إياه منه، ومُداومتهم على ذلك، وجعله دَيْدَناً وشعاراً إلى ضربِ المثل به، وإقرائه بما شُهِرَ تعليم الرسول له على وجهه وترتيبه الذي لا يجوزُ ويسوغُ مخالفته وتقديمُ مؤخَّرٍ منه أو تأخير مقدَّم. وكانوا يقولون في حديث التشهُّد: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهُّدَ كما يُعَلمُنا السورةَ من القرآن ". وإنما قالوا ذلك على وجه تعظيمِ أمرِ التشهُّد والإخبار عن تأكُّد فريضته، ولزوم ترتيبه على سَنَن من لقَّنوه، وكيف يجوز مع هذا أن يذهبوا عن حفظ القرآن الذي هو الأصل أن يؤخروا منه مقدَّماً أو يقدِّموا مؤخَّراً. ويجتهدوا في إحالة نظمِه وتغيير ترتيبه. ولقد كانوا يأخذون أنفسَهم بكثرة دراسة القرآن، والقيام به والتبتل له. حتى ظهر ذلك من حالهم وانتشر، حتى تظاهرت الرواياتُ بأنّ الصحابةَ كان لهم إذا قرؤوا في المسجد دَوِيّ واشتباكُ أصوات بقراءةِ القرآن، حتى يروى أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إذا قرأوا أن يُخفضوا أصواتهم لئلا يُغلِّطَ بعضُهم بعضاً، ورُوِيَ عن عبد الله بن عُمرَ أنه قال: "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 سورةَ السجدة سجد فنسجدُ معه حتى لا يجد أحدُنا مكاناً لجبهته ". ورُوي عنه أيضاً أنه قال: "كنّا نقرأ عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجدةَ فنسجدُ حتى يزحم بعضُنا بعضاً". وهذا من أوضح الأدلة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُلقي القرآنَ إلقاءً شائعاً ذائعا ويجمعُهم له ويأخذُهم بتعليمه والإنصاتِ له، وأنّ الحَفَظةَ له كانوا في عصره خلقاً كثيراً. وكان عبدُ الله بن مسعود يقول: "تعلّمت مِن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة، وإنّ زيداً له ذؤابة يلعبُ مع الغلمان ". وقال معاذ بن جبل: "عرضنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَعِبْ على أحد منّا، وقرأتُ عليه قراءةً سفرتها سفراً فقال: يا معاذ هكذا فاقرأ". وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على أُبَى وهو أعلمُ بالقرآن منه وأحفظُ، ليأخذَ أُبَيّ نمطَ قراءته وسنته، ويحتذيَ حَذْوه. وقد رُوِيَ هذا التأويل عن أُبي وابن أُبي. وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعرِّفهُم قدرَ القَرَأة، ويأمرهم بتعظيمِهم، وأخذ القرآنِ منهم، ويقول: "خذوا القرآنَ من أُبي وعبد الله بن مسعود وحذيفة" فرُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خذوا القرآنَ من أربعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عبد الله بن مسعود، وسالمِ مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل "، ثم يحثُّهم على كثرة دراسته، ويأمرُهم بتزيين القرآنِ بأصواتهم، ويحثُّهم على ذلك خوفَ الكلال والملال، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "زيِّنوا القرآن بأصواتِكُم ". ورُوِيَ عنه روايةَ مشهورةَ أنه قال وقد سمعَ قراءةَ أبي موسى الأشعريِّ: "لقد أوتيَ هذا مزماراً مِنْ مزامير آل داود". ورُوِيَ عنه أنه قال لـ أسَيدِ بن حُضَيرِ وكان حسنَ الصوتِ بالقرآن وقد قرأ من الليل فسمع حِسّاً جالت منه فرسُهُ حتى خشي أن تطأ ابنَه، فانصرف من صلاته إلى فرسه، ونظر فإذا مثلُ الظلّةِ من السماء، فيها كالمصابيح، فأخبر بذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الملائكة دنَت لصويك، ولو مضيتَ لرأيت العجائب ". وكان مع ذلك يأمُر بتقديم القرأةِ وتعظيمِهم، ويعزفُهم ما لهم من عظيم الثواب في تحصيلِه، وشدةِ الأمر في الإبطاءِ عنه والنسيان له، ويأخذُ كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 داخلٍ في الإسلام بقراءةِ القرآن وتعلُّمه إياه بعدَ الشهادتين، ولا يقدمُ على ذلك شيئاً غيره، ويعرّفهم قدرَ موقعه، ولا يدع ذلك ببلده ودار مُهاجَره وسائر الآفاق والأقطار التي افتتحها وفشا الإسلامُ فيها، ولا يخلِّي أهل ناحيةٍ وجماعة من الأمة من مُعلِّم القرآنِ ومنتصبٍ له فيهم، كما لا يخليهم من معلم للإسلام وأركانه وفرائض دينهم التي لا يَسَعُهم جهلُها والتخلُّفُ عن حفظه ومعرفتها، وظهر ذلك من أمره واشتهر لكثرة إبدائه وإعادته بالقرآن وتعظيمِ الشأن فيه والحثِّ عليه وكثرةِ تلاوته بقوله على أهل المواسم والمحافل في أيام الحجِ وغيرها، والإذاعة له في أنديةِ قريشٍ ومجالسهم. وذكرِ أصحابه ورسله والداعين إليه للقرآن، وأخذهم الناسَ بتعليمه وتحفطُه حتى صارَ كثير من قريشٍ ومن اليهودِ والنَّصارى يحفظون كثيراً منه كما يحفظ المسلمون، ويعرفون ما يتلى عليهم منه كما يعرفه الناظر في المصحف من المسلمين والذي كثُر طرقُه لسمعه وإن لم يُحط حفظاً به. ولم يكن هذا أمراً خافياً ولا مكتوماً، فروى الناسُ روايةً ظاهرةً أنّ النفرَ من الأنصار الذين منهم النقباءُ والأفاضلُ لما لقوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم فأجابوه إلى الإسلام ولم يرجعوا إلى المدينة حتى حفظوا في وقتهم صدراً من القرآن وكتبوه ورجعوا به إلى المدينة، فلما كان من قابل كانت العَقَبةُ الأولى، ونشأ الإسلام في المدينة، فأرسلت الأنصارُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون رجلاً يُقرئهم القرآنَ ويفقِّهُهم في الدين، فوجَّهَ إليهم مصعَبَ بن عمير، وكانوا يسمُّونه المقرئ، وما زال مقيماً عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ويقرئهم القرآنَ إلى أن انتشرَ الإسلام بالمدينة واستعلى، وكانت العَقَبةُ الثانية، وذُكِرَ أنّ مصعبَ بن عمير عاد إلى النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام إلى مكة ثم عاد إلى المدينة وهاجر ابنُ أمّ مكتومِ معه. أو بعده، وكان مصعبٌ وابنُ أم مكتوم يُقرِئان القرآنَ بالمدينة إلى توافي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجرينَ إليها. ولما افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ خلَّفَ بها معاذَ بن جبلِ يُعلّم الناسَ القرآن، ويفقِّههم في الدين، وقال عبادة بن الصامت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قَدِمَ عليه الرجلُ مهاجراَ دفعه إلى رجلِ منا يُعلمه القرآن، قال: فدفع إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وكان معي في البيت أعشِّيه عشاءَ البيت وأُقرِئه القرآن، وقال عبادةُ أيضًا: "علّمتُ رجلاً من أهل الصُّفّة القرآنَ والكتابة". وكان المسلمون بأرض الحبشة لما هاجروا إليها يتدارسون القرآنَ ويحاجُّون به مخالفيهم، ويستظهرون به على الطاعن في دينهم، وذكروا أنه لمّا أُنزلت: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) . مع آياتِ أنزلها الله تعالى في مُحاجّة أهل الكتاب كتب بهنّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إلى جعفرِ ابن أبي طالبٍ عليه السلام وأمره أن يُحاجَّ بهن النصارى فيما كان يحاجهم به من القرآن. ولما قدم وفدُ الحبشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكةَ ودعاهم إلى الإسلام واحتجَّ عليهم وأوضح لهم، فأسلموا وحسُن إسلامهم، وأقاموا عندَه ثلاثاً، فيُقال إنهم أخذوا عنه في تلك الأيامِ قرآناً كثيرا ورجعوا به إلى بلادهم. ولما جاء وفدُ ثَقِيفٍ كان منهم عثمانُ بن أبي العاص، فجعل يستقرئ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ ويتعلّمه منه ويختلف إليه فيه، حتى أعجبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى من حرصِه على تعلم القرآن فأمَّره على قومه، وكان من أحدثِهم سِنًّا. وروى عبدُ الله بن مسعود قال: "جاء معاذٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله أقرئني، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبدَ الله أقرئه، قال: فأقرأتُه ما كان معي، ثم اختلفتُ أنا وهو إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأتُ ومعاذٌ وصار مُعلماً من المعلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما هاجر رسولُ الله صلَّى الله عليه إلى المدينة لقيه بريدةُ ابن الحُصَيب في بعض الطريق، فعرض عليه الإسلامَ فأسلم، وعلمه من وقته صدراً من سورة مريم، ثم قدم بريدةُ بعد ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله: ما معك من القرآن با بريدة، فقال: يا رسول الله علمتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بالغميم ليلةَ لقيتك صدراً من السورة التي يذكر فيها مريم، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أُبى بن كعب، فقال: "يا أبى أكمِلها له "، ثم قال: "يا بريدة تعلم سورة الكهف معها، فإنها تكونُ لصاحبها نوراً يوم القيامة". وكان بريدة يقرئ قومه، واستعمله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقاتهم. وقد عرفتَ حالَ الصحابة في حسنِ طاعة النبي صلى الله عليه والانقياد له وإيثار نصرته والانتهاء إلى أوامره، وأنهم قتلوا الآباء والأبناء في طاعته. فكيف يجوزُ مع ذلك أن يُهملوا القرآنَ ويحتقروا شأنه وهم يرَون ويسمعون من تعظيم النبي صلَّى الله عليه وحثهم على تعليمه، وأخذِهم بدرسه وإقرائه بالشهادتين، وجعله تاليَ ما يدعو إليه من فرض التوحيد. ولقد ظهر من حرصهم وشدة عنايتهم لحفظ القرآن ودراسته، والقيام به في آناء الليل وآخر النهار ما ورمت معه أقدامهم، واصفَرَّت ألوانهم. وعُرفت به سيماهم من أثر السجود والركوع، حتى همَ خلقٌ كثيرٌ منهم بالتبتُّل والرهبانية والإخلاد والاجتهاد إلى العبادة فقط، وقطع الحرث والنسل حتى أنكر ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم عنه، حتى ظهر عن سعد بن مالكٍ أنه قال: "لقد ردَّ رسول الله صلَّى الله عليه على عثمان بن مظعون التبتل، ولو رخص فيه لاختصَينا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ولقد كثرت قراءةُ رسولِ الله صلَّى الله عليه والصحابةِ للقرآن وإقراؤهم إياه وتدارسُه بينهم ومواظبتُهم عليه وكثرةُ دعائهم الناس إليه حتى حفظ كثيراً منه البوادي والوفودُ والأعراب، فضلاً عن المهاجرين والأنصار، فرُوِيَ عن عمرو بن سلمةَ قال: "كنا على حاضرٍ فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدنوا منهم فأسمع حتى حفظتُ قرآناً كثيراً"، وهذا لا يكون إلا مع كثرة الراجعين بالقرآن من عنده، وانطلاق ألسنتهم به، ولصقه بقلوبهم، وحرصهم على معاودته ودراسته. وفي روايةٍ أخرى عن عمرو بن سلمةَ قال: "كان ركبان يأتوننا من قِبَلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فنستقرئهم فيخبروننا أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِيَؤمَّكمُ أكثركُم قرآناً" فكنتُ أؤمُّهم وكنتُ من أحدثهم سناً، وكنتُ من أكثرهم قرآناً"، وهذا يدل على حفظ الوفود له وشهرة إمرة القرآن فيهم، وكثرة الحافظين له منهم، ولقد حفظوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظ كثيراً منه النساءُ والصبيان، لظهورِ أمره وتعاظُمِ قدره وكثرةِ حثِّ الرسول عليه السلامُ وحَضِّه على تعليمه. قالت عائشةُ رضوانُ الله عليها في قصة الإفك لما قصّتْها وذكرتها لما نزلت به من القرآن في الوقت الذي أجابت فيه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "وكنتُ جاريةً حديثةَ السن لا أقرأ كثيراً من القرآن "، فدلت بذلك على أنها قد كانت تقرأ منه وأنّ كبارَ النساء آنذاك كُنّ يحفظنَ كثيراً من القرآن. وأن الحداثةَ منعتها من مُشاكلَتِهن في ذلك. وجاءت الأخبارُ بأنه قد كان إذ ذاك نساءٌ كنَّ يحرِصْنَ على قراءة القرآن وجمعِه وحفظِه، وأن أخت عمرَ بن الخطّاب رضوانُ الله عليها كانت تقارِىءُ زوجَها سورةَ طه، وأنَّ عمرَ عليه السلامُ دخل عليها فجأةً فسمعهما يقرآن، وسأل عن ذلك، وكان ما سمعه واستعادَه سببَ إسلامه. وروى الوليدُ بن عبد الله بن جُمَيع: مما حدّثتني جدّتي أم ورقةَ بنتُ عبدِ الله بن الحارث الأنصاري، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسميها الشهيدة. وكانت قد جمعت القرآن، ورُوِيَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزورُها ويقول: "انطلقوا بنا نزور الشهيدة"، وأقرَّ أن يُؤذَّن لها، وأن يُؤذَّن في أهل دارها في الفرائض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وكانت أمُ الدرداء من المشهوراتِ بحفظ القرآن وأخذِ نفسِها بدرسِه والقيامِ بإعرابه، وروى يونسُ بن ميسرةَ الجيلاني عن أم الدرداء قالت: "إني لأحبُّ أن اقرأه كما أُنزل، وكانت أم عامر الأشمليةُ مقن تقرأ القرآن ويُكتب لها، وجاءت بما كانت تحفظه إلى زيدِ بن ثابتٍ أيامَ جمعِ أبي بكرٍ القرآنَ مكتوبا لها بخط أبى بن كعب. وروى داودُ بن الحُصَين عن أبيه عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال: سمعتُ أمَّ عامرٍ تقول: قرأتُ قبلَ أن يقدُمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا من مكةَ إحدى وعشرين سورة، ثم عَدتها في الروايةِ عنها، منها من الطوال ومنها من المفصل، ومن الطوال يوسف، وطه، ومريم، ومن الحواميم. فنرى أنه كم يجب على هذا أن يكون حفظُ القرآن وكثيراً منه عند انتشار الإسلام وظهوره في الآفاق، وكثرةُ أهل العلم والشدةُ فيهم وسماعُ أزواجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الرسول عليه السلام كحفصة وأمِّ سلمةَ وعائشةَ عندَ ترادفِ نزول الوحي به وتلاوته في بيوتهن، وأخذِه من منازلهن، وحضورِ من يحضر من النساء عندَهن، ويقرأ عليهن ويحتَجْنَ إلى تدريسهن، ويأمرُهن الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بتعليمهن. وكان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يأخذ الصحابةَ بتعليم الولايد والأطفال والأخذ لهم به، حتى روى سعيدُ بن جبيرٍ عن عبدِ الله بن عباسٍ أنه قال: "جمعت المحكَمَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، يعني المفصَّل وكانت سنُّهُ إذ ذاك ثلاثَ عشرةَ سنةً أو دونَها. وقد تحفَّظ أيضاً زيدُ بن ثابتٍ شيئاً كثيراً في حال صِغَرِ سنه. فروى ابنُ أبي الزِّناد عن أبيه أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ أنه أخبره أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، قال زيد: فذُهِبَ بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُعجَبَ بي، فقالوا: يا رسولَ الله هذا غلامٌ من بني النجار معه مما أنزل الله عليك سبعَ عشرةَ سورة، قال: فأعجَبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا زيد، تعلَّم كتابَ يهود، فإني والله ما آمنُ يهودَ على كتابي "، قال: فتعلّمتُ له كتابَهم، فما مرت بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 خمسةَ عشرَ حتى حذقْتُه، وكنتُ أقرأ كتبَهم إذا كتبوا إليه، وأجيبُ عنه إذا كتب، وذُكِرَ أنه كانت سنه إذ ذاك إحدى عشرةَ سنة. وأن زيدَ بن ثابت قال: "كانت وقعةُ بعاث وأنا ابنُ ست سنين، وكانت قبلَ هجرة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس سنين، فقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وأنا ابنُ إحدى عشرةَ سنة، فلم أُجَز في بدر ولا أحد، وأُجِزتُ في الخندق ". وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع أمره للصحابة بتعليمِ القرآن والانتصارِ له وتأكيد الوصية بذلك ينهاهم عن أخذ رفدٍ أو أجرة عليه. إعظاما له، وحثا على طلب القربة والمثوبة به، فرُوِيَ أن رجلا قَدِمَ وأبيّ يقرىءُ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يختلف إليه يُعلِّمه، فأعجبت أبيًّا قوسٌ كانت مع الرجل، فسأله أن يبيعه إياها، فوهبها له الرجل، ثم سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنهاه عن قبولها. وذكر في بعض الأخبار أنه قال: "قوسٌ من نار". وذكر أن هذا الرجل كان الطُفَيل بن عمرو الدَّوسي، قال بعض الرواة: إن المقرىء كان زيدَ بن ثابت، وقال آخرون: كان عبادةَ بن الصامت، وقال آخرون: أُبيَّ بن كعب، مع اتفاقهم على تصحيح هذه القصة وثبوت الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ولقد كثر حفَّاظ القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتشروا وعُرفوا به حتى كانوا يُدعون أهلَ القرآن وقُرّاءَ القرآن والقرأةَ من الصحابة، ويُنادَوْن به في المغازي وعندَ المعترَك وشدة الحاجة إلى الجهاد والإذكار بالآخرة، ويتنادَون بأصحاب سورة البقرة، هذا مع العلم بأن طالبَ القرآن منهم لم يكن يبدأ بتحفُّظ البقرة وأمثال ها وإن كان منهم الشاذُ النادر ممن يفعل ذلك، وإنما كانوا يبدأون بالمفصَّل وما خفَّ وسَهُل حفظُه على النفس، وإنما كان يتعرَّض لحفظ البقرة وأخواتها من الطوال من قد حفظ سائرَ ما أنزل ولم يبق عليه منه إلا القليل، وربما جعل البقرةَ آخرَ شيءٍ يحفظه، هذا هو العادةُ والمعروفُ من أحوال من سبقت هجرتُه وطالت صحبتُه، وحالُ من ابتدأ الدخول في الإسلام ومن بلغ الحُلُمَ واحتاج إلى التعليم والتدريج، فثبت بذلك أن أهلَ سورةِ البقرة إنما كانوا حُفّاظ القرآن، وكان يُكْنى بذكر البقرة عن حفظ سائر القرآن لكونها أصعبَ سورةٍ منه وأطولَها. وقد روى الناس أنه لما كان يومُ حنين خاضت بغلةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت بغلةً بيضاء، فكره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينهزم فاعتنق البغلةَ حتى مال السرج حتى كاد يقع عن بطنها، قال عبد الله: فأتيته فأدخلتُ يدي تحت إبطِه، ثم رفعته حتى عدّلتُ السرج، ثم قلت: "ارتفع رفعكَ الله "، ثم أخذتُ بلجام البغلة فوجهتُها في وجه العدو، ونُودِي في الناس: يا أصحابَ سورة البقرة، يا أصحاب الصُّفَّة، فأقبلوا بالسيوف كأنها الشُهب، وأخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبضةً من ترابٍ فرمى بها في وجوه القوم، فهزمهم الله جلَّ وعزّ. وفي رواية العباس مثلُ ذلك، وأنه قال: فرمى بالتراب وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 "شاهت الوجوه "، وأن المؤمنين وأهلَ القرآن توافَوا بالسيوف، وأحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفوا به إحداقَ البقر بأولادها، قال: حتى خفتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني من الزحام حوله وشدةِ الذيادة عنه. والأغلب من حال هذه الرواية أن يكونَ أكثرُ من أحدقَ برسول الله صلى الله عليه هم أهل سورة البقرة، وحفاظ كتاب الله، وأهل الصفّة الذين كانوا متبتَلين لعبادة ربهم، ومنتصبين لقراءة القرآن ولحفظه، وأخذِ أنفسهم به، ولعل سائرَ أهل الصفة كانوا حفاظاً لكتاب الله جلَّ وعزَّ على ما يُوجبه ويقتضيه ظاهرُ حالهم، لأنهم لم يكن لهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملٌ ولا معيشةٌ ولا حرفة غيرُ ملازمة المسجد والصلاة وتعلّم القرآن والتشاغل بصالح الأعمال، لا يتشاغلون بشيءٍ سوى ذلك، وكان الناس قد عرفوهم بذلك فكانوا لأجل ما ذكرناه من أحوالهم يَحنُون عليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، ويراعون أمورهم، ويُشرِكونهم في أقواتهم، ويرون تفضيلَهم على أنفسهم، وإجارتَهم عظيمَ الفضل بما انقطعوا إليه من التشاغل بأمر الآخرة والانتصابِ لحفظ القرآن وتدارسه والصلاةِ به. والأشبهُ بمَن هو دون هؤلاء في الفضل والدين وحسن البصائر، وثاقب الأفهام، وصحة القرائح والنحائر، وسرعة الحفظ والاقتدار على الكلام ، وحفظ ما قَصُر وطال: أن لا يُبطئوا ويتخلفوا عن حفظ القرآن الذي هو أصلُ دينهم، وعمادُ شريعتهم، وأفضلُ أعمالهم، وأعظمه ثواباً عند الله تعالى، فوضعُ العادةِ يقتضي إحاطةَ جميع أهل الصفّةِ بحفظ جميع ما كان ينزلُ من كتاب الله تعالى، فكيف يجوز مع ما وصفناه أن يُهملوا أمرَ القرآن. ويعرِضُوا عن تحفظه، ويحتقروا شأنه، ويتشاغلوا بغيره عنه، وقد سمعوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الله ومن رسوله في الحثِّ عليه والتفضيلِ لقرأته ما حكيناه من حالهم في إعظامِه وإعظامِ أهله ما وصفناه. وهم مع ذلك لم يحولوا طولَ تلك الأيام عن صفتهم، ولا ارتدوا عن دينهم، ولا لحقهم عناءٌ ولا فتورٌ في طاعة ربهم، ونُصرة نبيهم، وحُسن الإصغاءِ والإنصاتِ لما يورده عليهم، ويأخذُهم بحفظِه، ويأمرُهم بحياطتِه. بل يزدادون في كل يوم بصيرةً وتيفناً وتمسُّكاً بطاعة الله تعالى وتثبيتاً. وبذلك وصفهم الله تعالى في غير موضعٍ من كتابه وعلى لسان رسوله، فمن أي ناحيةٍ يتجه عليهم الظنّةُ في تضييع القرآن وإهمالِه والذهابِ عن تأليفه وترتيبه واستجازةِ تغييره وتبديلِه والزيادةِ فيه والنقصانِ منه لولا قلةُ الدين والذهاب عن التحصيل؟! ولقد اتسع حفظُ القرآن في الناس في زمن عمرَ بن الخطاب رضوانُ الله عليه وكثر حُفاظه، والقائمون به، والتالون له، حتى إنه كان لهم في ذلك هَيعةٌ وضجةٌ وأمرٌ عظيمٌ مشهور. وروى عبدُ الرزاق عن مَعمرٍ عن ابن سِيرِين قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 "كان أُبي يقوم للناس على عهد عمرَ في رمضان، فإذا تمت عشرون ليلة انصرف إلى أهله وقام للناس أبو حليمة". وروى ابنُ عُيَينةَ عن إبراهيمَ بن ميسرةَ، عن طاووس قال: سمعت ابنَ عباس يقول: "دعاني عمرُ أتسحَّر عندَه، أو أتغذى عنده في شهر رمضان، فسمع عمرُ هيعةَ الناس خرجوا من المسجد، فقال لي: ما هذا. قلت: الناسُ حين خرجوا من المسجد، قال: ما بقيَ من الليل أحبُّ إليَّ مما ذهبَ منه ". وروى عاصم عن أبي عثمان قال: "كان لعمرَ ثلاثةُ قُرَّاء، فأمر أسرعَهم قراءة بأن يقرأ ثلاثين آية، وأوسطهم بخمسٍ وعشرين، وأدناهم بعشرين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وروى حمّاد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أن عمرَ بن الخطّاب رضوانُ الله عليه أمر أُبيّاً أن يصلِّيَ بالناس في رمضان. وروى يزيدُ بن خَصِيفة عن السائب بن يزيد عن عمه قال: "جمع عمرُ الناسَ على أُبيِّ بن كعب وتميمٍ الداري ". وروى محمد بن سيف عن السائب بن يزيدَ أنه قال: "أمر عمرُ بن الخطاب أبيَّ بن كعب وتميمَ الداري أن يقوما للناس، قال: فكان القارىء يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمدُ على العُصِيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بُزُوغِ الفجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وروى ابن جُرَيجٍ أنّ أولَ من قام لأهل مكّة في خلافة عمرَ بن الخطّاب زيدُ بن منقذ بن زيد بن جُدعان، وكان مَن شاء قام معه، ومَن شاء قام لنفسه، ومَن شاء طاف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 (سببُ جمع عمرَ بن الخطّاب رضيَ الله عنه الناسَ في صلاة التراويح على إمامٍ واحد) وروى مالك بن أنسٍ عن ابن شِهاب عن عروةَ بن الزُبير عن عبد الرحمن بن عبد الله القاري قال: "خرجتُ مع عمرَ بن الخطاب ليلةً في شهر رمضانَ إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجلُ لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي لصلاته الرَّهْط، فقال عمر: "إني لأرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئٍ واحدٍ لكان أمثل"، ثم عزم فجمعهم على أُبى بن كعب، ثم خرجتُ بعدَ ليلةٍ أخرى والناس يصلون، فقال عمرُ بن الخطاب: "نعمت البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون " يريد آخرَ الليل، وكان الناسُ يقومون أوله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وذكر أصحابُ التواريخ أنّ عمرَ بن الخطّاب أمر بالقيام في شهر رمضانَ في المدينة، وكتب إلى البلدان في سنة أربعَ عشرةَ، ثم لم يزل كذلك طولَ سنينه وأيام نظره إلى أن مات رضوانُ الله عليه، ولم يزل الأمرُ كذلك إلى أيام عثمانَ وعلي والتلاوةُ تكثر، والحفظُ يتّسع، والقرآنُ ينتشر، والإصغاءُ إليه يحصلُ من الصغير والكبير، والحاضرِ والبادي، والقاصي والداني، فلا يُحفَظُ على أحدٍ من الناس أنه قال في طول تلك الأيام: إنَّ القرآنَ مبدَّلٌ ومُغَيّر، ومَزِيد فيه ومنقوص منه، ومرتَّب على غير سَنَنِه ووجهه الذي أُنزِلَ عليه، ولا يقدح بهذا على راعٍ ولا رعية، ولا تابعٍ ولا متبوع، ولا يتناكرُ الناسُ شيئا مما يظهر بينهم منه، ولا يَتحزَّن مُتحزِّن ولا يتأسَّفُ متأسِّفٌ على ضياع شيءٍ منه، ولا يطعن طاعنٌ، ولا يقدح قادح على تاليه ومقرئه وكاتبه وناسخه بتغيُّر شيءٍ منه، أو الزيادةِ فيه، أو النقصان منه، وكل هذا يدلُّ دلالةً بيِّنةً على تكدُّب مَن ادَّعى تغييرَ القرآن وانقطاعَ نقله وخفاءَ أمره، وقلةَ حُفاظه، وانصرافَ هِمَم الناس ودواعيهم عن حفظِه وإحرازِه، وأنه لو وقع فيه تغييرٌ أو تبديلٌ، أو زيادة أو نقصان، أو مخالفةٌ في الترتيب لسارع الناسُ إلى نقل ذلك والمذاكرة به، والتذامرُ لأجله، والإبداءِ والإعادة له، وفي فقدِ العلم بذلك دليل على بطلانِ ما يدعونه من هذا الباب. فإن قال قائل: هذا الفصلُ من الكلام ومِنْ فعلِ عمرَ وسيرتِه وإن كان شاهداً لكم على ما قلتم، وحجةً لصحةِ ما اعتقدتم، فإنه من أوله إلى آخره طعن على عمرَ وقدحٌ فيه، وغضّ في عمله وقدره، لأنكم جميعاً تشهدون عليه بأنه أحدثَ في هذا الباب سُنَّةً لم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعلَ ما لم يره الرسولُ صواباً، وقدَّم رأيه لرأي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقد أنه قد استدركَ من مصلحةِ الأمة وحُسن الاحتياطِ لها ما ذهب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الرسول علمُه، وكل هذا طعنٌ على من اعتقده في نفسه وأبدعَ في الدين ما لم يشرعه الله سبحانه ولم يسُنَّه رسوله، فما العذرُ عندكم لعمرَ في هذا الباب، وما المخرَج له منه؟ فيقال لمن اعترضَ بهذا من أغبياء الرافضة وأوغادِها: ليس الأمرُ في هذا على ما توهَّمتم، بل ما وصفناه: من فضائل عُمرَ الشريفة وسُنَنِه الرضية الحميدة التي رَضِيَها المسلمون، ونوَّر بها مساجدَهم، وقوَّى بها هِمَمَهم ودَواعِيهم على طاعة ربهم، وحفظِ كتابه، وإعظامِ دينه، وإقامةِ مَعالمه. وكان ما صنعه من ذلك متَّبِعا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وحاضّا على ما حثَّ عليه ودعا إليه ورغَّب فيه، وذلك أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان صلى بالناس هذه الصلاةَ في شهر رمضان، جمعَهم لها وقام بهم فيها، ثم ترك ذلك مع إيثارِه له ورغبته فيه خوفا من فرضه على أمته، أو خوفَ توهُّمِ متوهّم من بعده أنها لمداومة الرسول عليها من اللوازم المفروضات، وأخبرهم بأنه إنما تركها لهذه العلة، لا لقُبحها ولا لكونها بدعة في الدين، ولا لأجل أنها مَفسَدةٌ للدين والمسلمين، ولا مما يجبُ أن يزهدوا فيه ويرغبوا عنه. وروى أحمد بن منصور الرَّمادي عن عبد الرزاق عن مَعْمَر عن الزُهْري عن عروةَ عن عائشةَ رضوان الله عليها قالت: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس في شهر رمضان في المسجد، ثم صلى الثانية واجتمع تلك الليلةَ أكثرُ من الأولى، فلما كانت الليلة الثالثةُ والرابعةُ امتلأ المسجد حتى غصَّ بأهله، فلم يخرج إليهم، فجعل الناسُ ينادونه الصلاةَ، فلم يخرج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فلما أصبح قال عمرُ بن الخطاب: ما زال الناسُ ينتظرونك يا رسولَ الله. البارحةَ، قال: أمَا إنه لم يخفَ على أمرُهم، ولكني خشيتُ أن تكتَبَ عليهم ". وروى قُتَيبة بن سعيدٍ عن مالكٍ عن ابن شِهابٍ، عن عروةَ عن عائشةَ رضيَ الله عنها أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذاتَ ليلةٍ فصلى بصلاته ناسٌ، ثم صلى من القابلةِ فكَثُرَ الناس، ثم اجتمعوا من الليلةِ الثالثةِ أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسولُ الله صلَّى الله عليه، فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن يُفرَضَ عليكم ". وذلك في رمضان. وقد تظاهرت الأخبارُ بصلاةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه بهم، وإخبارِهم بأنه إنما امتنع من ذلك لما ذكره، فبيَّن بهذه الأخبار أنّ هذه الصلاةَ سنةٌ حسنة، فإن الاجتماعَ لها والقيامَ بها فضلٌ كثير، وسنة جميلة، ولو كان ذلك مكروهاً عندَ الله تعالى في دينه لم يفعله وإنما وقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده: لكان خليقاً بأن جبريلَ نهاه عن ذلك وأخبره أنّ هذه الصلاةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بدعةٌ مكروهة، وأن الاجتماعَ لها ليس من المصلحة، فلمّا عدلَ عن ذلك إلى القول بأنه إنما ترك ذلك مخافةَ أن تُفرَضَ عليهم ثبتَ أنّ هذه الصلاةَ والتجمُّعَ لها سُنةٌ حسنة، وأنه إنما امتنع من ذلك - مع إيثاره لها - خِيفةَ أن تُفرَض، فلما تُوفَي رسولُ الله صلَّى الله عليه وانختم الوحيُ وانقطعت الرسالة، أُمِنَ فَرضُ ذلك وزال الخوفُ منه عادت الصلاةُ والتجمُّع لها إلى ما كانت عليه من الحسن، واستُحِب لكل مسلم فعلُ مثلِ ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فعله - على وجه التقرب - ودعا إليه، ورغَب فيه، وقد تظاهرت الأخبار عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكثِرُ الترغيبَ في هذه الصلاةِ ويحث على فعلِها، ويرى الناسَ مجتمعين للقيام بها وأفذاذاً، فيُقِرُّ الفريقين جميعا ويستحسن ذلك من صنيعهم. وروى عبدُ الرزاق عن ابن جُرَيجٍ عن عطاء أن القيامَ كان على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ يقوم النفرُ والرجلُ كذلك، والنفرُ وراءَ الرجل، فكان عمرُ أولَ من جمع الناس على قارئٍ واحد، ومن المُحال أن يكثر هذا منهم ويتردّد على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى عليه السلامُ اجتماعَهم، ولا يسمعَ منه بذلك، ولو كان الاجتماعُ لهذه الصلاة مُنكراً لأنكره وزجره عنه، ورغّبَ في سواه، وإنما ترك هو التقدمَ بهم لعلةِ ما ذكره، ولعلهم أو كثيراً منهم مجمّعون لأنفسهم ويبلغه ذلك فلا ينكر عليهم، وكيف يُنكر عليهم ذلك وهو يحثهم ويبعثهم على هذه الصلاةِ والمحافظةِ عليها بغاية الترغيب؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وروى الزُّهري عن أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرغِّب في قيام شهر رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيه، فيقول: "مَن قام رمضانَ إيماناَ واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذنبه ". وروى الزُّهري قال: أخبرني أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن وعُبَيدُ الله بن عبد الرحمن عن أبي هريرةَ أنّ رسولَ الله صلَّى الله عليه قال: "مَن قام رمضانَ إيماناً واحتساباَ غفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه ". وفي أمثالِ لهذه الرواية كلُّها بهذا المعنى، وقريبة من هذا اللفظ، فكيف تكون هذه الصلاةُ بدعة. وهذا قدرُ حثِّ رسولِ الله صلَّى الله عليه عليها، وترغيبِه فيها، وقد ثبت مع ذلك أنه جمعَ الناسَ للقيام بها، ثم امتنع من ذلك للعلة التي ذكرناها. وقد بيّنا أن هذه العلةَ مأمونة غيرُ مَخُوفٍ وقوعُها بعد وفاة النبي صلى الله عليه فوجب أن يكونَ القيامُ بها والاجتماعُ لها سنةَ حسنةَ جميلةً مع ما في ذلك من أخذ الإمام نفسَه بتجويدِ الحفظ وإقامة القراءةِ والحذرِ من عيبِ الغَلَط وشدةِ إصغاء مَن خلفه وتذكُّرِهم وضبطِهم لما يسمعونه، وتفريغ قلوبهم وأذهانهم كذلك، وانصرافِ هِمَمِهِم إلى سماعه وتأمُّله وتصفحِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والاتِّعاظِ به، فإنّ لسماعه من قارئه في المحرابِ من عظيمِ الاتعاظِ والموقع والتديُّن من نفوس المؤمنين ما لا خفاءَ به، فأي بدعةٍ في هذا ومخالفةٍ للسنة! وهي سنة جميلة في تعظيمِ الدين ومصالح المسلمين وإكادةِ عدوهم. وإقامةِ معالم دينهم وتنويرِ مساجدهم، والترغيبِ في طاعة ربهم، والتشاغلِ بعبادته وتعظيمِ كتابه، فمن ظن هذا بدعةً من أغبياء الشيعةِ وعامّتِهم فلا حيلةَ في أمره، ومن قال ذلك وناظرَ عليه ممن له أدنى مُسْكةٍ منهم فلا شكَّ ولا شُبهةَ علينا ولا على أحدٍ في تلاحُدِه وتلاعُبِه، أو فرطِ تعصُّبه وتنقُّصه لعُمر رضوانُ الله عليه والحرصِ على بخسِه حظَّه، وتحيُّفِه فضائلَه، وتطلُّبِ العنتِ له والعيبِ عليه بما لا عيبَ فيه ولا نقيصة، ولا أقل - مع الإنصاف وترك العناد - من سلامة عمرَ من هذا الفعل، كَفافاً، لا له ولا عليه، فأما الطعنُ عليه والغضُّ منه ومن قدره لأجله فإنه إفراط في الجهل والعنادة، والله المستعان. فإن قيل: ما معنى قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعني أن أخرُجَ إليكم إلا خشيةَ أن تكتبَ عليكم "؟ قيل له: معنى ذلك ظاهر، وهو إيثاره التخفيفَ عن الأمة، ويمكن أن يكونَ قد أخبره الله جلَّ وعزَّ على لسانِ جبريلَ أنه إن خرجَ إليهم وواصلَ هذه الصلاةَ فُرِضَت عليهم، إما لإرادته فرضَها فقط على ما يذهب إليه، أو لأنه إن دامَ عليها حدثَ فيهم من الاعتقاداتِ وتغيُّرِ الحالاتِ والأسباب ما يقتضي أن تكون أصلحَ الأمور لهم كتبُ هذه الصلاة عليهم، وأنه إذا تركها لم يكن منهم ما يوجبُ كونَ فرضِها صلاحُ حالهم. ويُحتمل أيضاً أن يكون ظن أن ذلك سيُفرضَ عليه، وأن تكونَ قد جرت عادتُه وعادةُ الصحابة في أعمال القُرب أنهم إذا داوموا عليها على وجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الاجتماع عليها والاشتراك فيها كُتِبَ عليهم، فامتنع من ذلك على وجه إيثار التخفيف عن الأمة، وقد يمكن أيضاً أن يكونَ عنى بقوله: "خشيةَ أن تكتَب عليكم " إنني أخاف أن يظن ظانّ بعدي من خليفة وإمامٍ أنها واجبةٌ في شريعتي لمداومتي عليها فيُلزمَكم إيّاها ويأخذَكم بها وبالقول إنها مفروضةٌ في الدين، وما قُلناهُ أولاً أقرب، لأن إطلاقَ القول إنها تكتَبُ وتُفرَض عليكم إنما يُعقل منه أن يكتبها ويفرضها مَن له - تعالى - تعبُّد خَلْقه وتكليفُهم وامتحانُهم، دون مَن ليس له ذلك ممن يُظَنّ أن الله قد فرض وكتب على خلقه ما يدعوهم هو إليه، وكل هذه الأسباب مأمونةٌ بعدَه - صلى الله عليه وسلم -، وفي إقامتها والاجتماع عليها ولها من الفضل والانتفاع بها ما قدمنا وصفَه، فبطل بذلك جميعُ ما توهموه قادحاً في فضيلة عمرَ بهذا الباب وإضافة بدعة إليه، وأنه شرعَ في الدين ما ليس منه. فإن قال قائلٌ: جميعُ ما ذكرتموه من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحث على حفظ القرآن وإقرائه له، الشهادةُ الحق، وكلمةُ التوحيد، وتعليمُه إياه كلَّ داخلٍ في الإسلام، وقراءته على الوفودِ أيامَ المواسم، وحفظُ خلقٍ من أهل الكفر لكثيرٍ منه، فضلاً عن المسلمين بحفظ النساء والصبيان له، وإنفاذ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خلفاءَهُ ودعاته به إلى البلاد، وسبقِ الأنصار بحمله إلى المدينة قبلَ الهجرة، وحصول قُرّاء له عندَهم ومنتصِبِين لإقرائه الناسَ قبل مُهاجَره وظهور تسميةِ حُفّاظه بأنهم أهلُ القرآن، وأهلُ سورةِ البقرة، ووجوبِ توافي هِمَمِ أهل الصُّفة على حفظه، وتشاغلِ سائرهم به دونَ غيره. ومما رُوِيَ من تغليظ القولِ في نسيانه بعد حفظه، وشدة تفَلُّته وعظيم المأثَمِ في تركه، إلى غير ذلك مما أطنبتُم في ذكره، يقتضي في مستقِرِّ العادة وتركيب الطبيعة وما فُطِرَ الناسُ عليه أن يكون في الصحابة خلقٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كثير من المهاجرين ثم من الأنصار قد حفظوا جميعَ القرآن وجمعوه. وأحاطوا به حتى لم يذهب عليهم شيء منه، بل يجب أن تكون هذه حالَ كافةِ أهلِ العلم والفضل والهجرةِ والسابقة من الصحابة، فإذا لم يكن الأمرُ على هذا عُلِمَ أنّ الحجَّة َ لم تقم بهذه الأخبار التي روَيتمُوها، وأن الأمرَ في حالِ القرآنِ وتعظيمِ شأنه لم يكن عندَ القوم ولا في صدر الشريعة على ما وصفتم، والأخبارُ قد تظاهرت من الجهات المختلفةِ بأن الذين جمعوا القرآن على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أربعةَ نفرٍ فقط أو خمسة، وهذه الأخبار هي من طُرُقكم ورواياتكم، وعن الرجال الذين توثِّقون نقلَهم وتسكنون إلى أخبارهم، فروى الحَكَمُ عن مِقْسَمٍ عن ابن عباس قال: "جمع القرآنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة: معاذُ بن جبل، وأُبي بن كعبٍ، ومجمع بنُ جاريةَ، وسالمُ مولى أبي حُذَيفة، وكان ابنُ مسعود قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعينَ سورة"، في أمثالٍ لهذا الخبر كلُّها وردت بأنَ قدرَ عدد الذين جمعوا القرآن على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرناه، وهذا نقيضُ ما ادعَيتموه. يُقال لهم: جميعُ ما قدّمناه من أحوال الصحابة وشدّة تديُّنهم وتمسُّكهم بالدين والقرآن وتحفُّظه وتلقُّنه، والإقبال عليه، وحثِّ الرسول عليه السلامُ لهم على حفظه ودراسته، وإنفاذ الدُّعاة به، إلى غير ذلك مما وصفناه، مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قد تواترت وتظاهرت به الأخبارُ على المعنى وإن اختلفت في ذلك الألفاظُ والعبارات، وعُلِمَ ضرورة ثبوتُه، كما نعلم في الجملة تمسُّكَ الصحابة بالإيمان وتصديقَهم الرسولَ وإعظامَهم له وشدةَ نُصرتهم إياه، وإن اختلفت الرواياتُ فيما كان من أفعالهم وألفاظهم وحالاتهم الدالة على صدق جهادهم، وشدة إيثارهم له، وعداوتهم لأهل الشرك، وليس هذا مما لعاقل فيه شبهة ولا يجبُ تركُ هذه الرواياتِ المتوافيةِ على المعنى والعلمِ بما عليه العادات وما كانت عليه الصحابةُ بمثل الأخبار المرويةِ في أنه لم يجمع القرآنَ من الصحابة إلا أربعةُ نفر، بل يجب أن يُعتقَدَ فيه أحدُ أمرين: الضعفُ والوَهاء، والسهوُ والإغفالُ لما هيَ عليه من اختلافِ المتونِ والألفاظ، وزيادةِ عدد الحفّاظ في بعض الأخبار ونقصانِهم في بعضها. والشكِّ في حفظِ آخرين، وتنافي ما جاءت به أو تصحيحها وتخريجها وتأويلها على وجهٍ صحيحٍ يمكن معه الجمعُ بينها وبين ما قدّمناه، واعتقاد حفظ هؤلاء النفر وحفظ خَلْقٍ معهم من المهاجرين والأنصار، هذا ما لا بذَ منه. وأوّلُ ما نقول في هذا أنّ الأخبارَ المرويةَ في حفظ هؤلاء النفرِ قد وردت من جهةِ الآحادِ وروداً مختلفا متفاوتاً يدل على الاضطراب وقلة الضبط وضعف المخرَج والنقل، وذلك أنه رُوِيَ عن عبد الله بن عبّاسٍ ما حكيناه عنهم، ورَوى أيضاً عبدُ الله بن إدريس عن شعبةَ عن قتادةَ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سمعتُ أنساً يقول: "قرأ معاذ وأُبي وزيد وأبو زيد، قال: قلت: من أبو زيد، قال: أحد عمومتي " يعني: على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلمُ بن إبراهيمَ عن قُرّةَ قال: حدَّثنا قتادة قال: "قرأ القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبيُّ بن كعبٍ وزيدُ بن ثابتٍ ومعاذُ بن جبلٍ وأبو زيد، قال: قلت: مَن أبو زيد، قال: من عمومة أنسٍ "، ولم يُخبر قتادةُ في هذين الخبرَين ولا عبدُ الله بن العبّاس بذلك عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن النفرِ الأربعة بلفظ ينفي حفظ غيرِهم للقرآن، وإنما قالا ذلك من جهة غالب الظن والرأي، أو على وجهِ ما يذكره من التأويل. وكذلك كل روايةٍ وردت في ذلك ليست عن الرسول ولا بلفظ عن قومٍ يَحُجُّ خبرُهم يقتضي أن لا حافظَ للقرآن سوى من ذكره الرواة. وروى غيرُ واحدٍ في غير خبر عن محمد بن سيرينَ في ذلك رواياتٍ مختلفة، فمنها أنه قال في بعض: "جَمع القرآنَ على عهد رسول الله صلّى الله عليه أُبيُّ بنُ كعب وزيدُ بن ثابتٍ وعثمانُ بن عفانَ وتميمُ الداري "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وفي روايةٍ أخرى عنه أنه قال: "كان أصحابنا لا يختلفون أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ماتَ ولم يجمع القرآنَ من الصحابة إلا أربعةٌ كلُّهم من الأنصار: معاذْ بن جبل وأُبيُّ بن كعب وزيدُ بن ثابت وأبو زيد"، وروى الواقدي قال: حدثني مَعمَر وجماعةٌ عن أيوب عن محمد بن سيرينَ قال: "لم يختلفوا في أربعةٍ جمعوا القرآنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في رجلين، قال: "جمعَ القرآنَ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أُبي ومعاذُ بن جبل وزيدُ بن ثابتٍ وأبو زيدٍ الأنصاري، واختلفوا في رجلين: عثمان بن عفان وتميم الداري،، وقال بعضُهم: عثمانُ بن عفان وأبو الدرداء". وروى سعد بن إسحاق عن أُبيّ بن كعب القُرَظي قال: "جمعَ القرآنَ على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة من الأنصار: أبي بن كعبٍ وأبو أيوب وعبادةُ بن الصامت ومعاذُ بن جبلٍ وأبو الدرداء". وروى أيضا ربيعةُ بن عثمان عن أُبى بن كعبٍ القُرَظيّ قال: "علي وابنُ مسعود وعثمان جمعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 القراَنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وروى عن سليمانَ بن يسارٍ قال: "كان عثمانُ بن عفّانَ قد جمع القرآن من المهاجرين على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فقلتُ: غيرُه، قال: "لا أعلمه ". وروى الأصبعُ بن أبي منصور عن زيد بن أسلم أن عثمان بن عفان جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وروى الثوري عن إسماعيل عن الشعبي قال: "جمع القرآن على عهد رسولِ الله صلّى الله عليه خمسةٌ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبيُّ بن كعب، وزيدُ بن ثابت. وأبو زيد، وأبو الدرداء". وروى عاصم عن الشعبي أنه قال: "ستةٌ بعدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 هؤلاء" قال: "ونسيتُ السادس ". وروى ابنُ أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن ابن مسعود أنه جمعَ القرآنَ على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وروى صالحُ بن محمد بن زائدة عن مكحول: قال أبو الدرداء: "ممن جمعَ القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبيُّ بن كعب، ومعاذ، وزيدٌ، وأبو الدرداء، وسعد بن عُبيد، ولم يقرأه أحد من الخلفاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عثمان بن عفان، وقرأه مجمَعُ بن جاريةَ إلا سورة أو سورتَين ". وروى ابن عيينةَ عن زكريا عن الشعبي قال: "لم يقرأ القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ستة، كلُّهم من الأنصار: معاذُ بن جبل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأُبي بن كعب، وزيدُ بن ثابت، وأبو الدرداء، وسعدُ بن عُبَيد، وبقيَ على مجمَعٍ بن جاريةَ سورة أو سورتين "، وروى موسى بن عُقبة عن شيخٍ مِن ولدِ عُبادة ابن الصامت، عن عبادة بن الصامت قال: "جمعَ القرآنَ أبيُّ بن كعب، وعُبادةُ بن الصامت، ومعاذُ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وعثمان ابن عفان ". وأكثرُ هذه الروايات مختلفة متفاوتةٌ مضطربة على ما نراها من الزيادة والنقصان، عن الرجال وعن الرجل الواحد أيضاً، وليس فيهم أحدٌ أخبرَ بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد الصحابة أو جماعةٍ منهم بلفظٍ يقتضي لا محالةَ نفيَ حافظِ القرآن غيرَ مَن ذكره، وقد يجوز إن صحّت الأخبارُ عن هؤلاء القوم أن يكون ذلك إخباراً عن تقديرهم وغالب رأيهم واجتهادهم، وأن يكون معناها ما سنذكره فيما بعد، وإذا أُحصيَ عددُ مَن ذُكر في هذه الأخبار من الحفّاظ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا نحو خمسةَ عشرَ رجلاً، لأنه قد ذُكر منهم: أُبيٌّ، ومعاذٌ، وسالم، وزيدُ بن ثابت، وعبدُ الله بن مسعود، وأبو زيد، ومَجمَع، وأبو الدرداء، وسعدُ بن عُبَيد، وتميمٌ الداريّ، وأبو أيوبٍ الأنصاريّ، وعُبادةُ بن الصامت، وعليُّ بن أبي طالب، وعثمانُ بن عفان، وهؤلاء أربعةَ عشرَ رجلاً من المهاجرين والأنصار، والمعترضُ علينا بهذه الأخبار وبهذا الضربِ من المطالبة والسؤال أراد أن يجعلَ الحفّاظَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة نفرٍ فقط، والأخبارُ التي حاول التعلُّق بها تُوجبُ أنّ الحفّاظ أضعافَ ما قاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فهذه جملةٌ تدل على اختلافِ الرواياتِ واضطرابها في هذا الباب، وأنه لا يجوز أن يترَكَ ما قدّمنا ذكرَه من الأخبار المستفيضة عن الصحابة وما عليه تركيبُ الطبائع والعادةِ لأجل هذه الروايات، فإما أن تكونَ مدخولةً أو مُنصرِفةً إلى ما سنذكره من التأويل، على أنه قد رَوى جماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان ممن جمع أيضاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يُوجب أن يكونَ أبوه عمرو بن العاص ممن جمعه أيضاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورُوِيَ أيضاً ما يُوجب أن يكونَ عثمانُ بن أبي العاص ممّن حفظه وجمعه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأه في ليلة، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي أخشى أن يطولَ عليك الزمانُ وأن تملّ، فاقرأ به في شهر"، فراجعه في ذلك ونازله إلى أن بلغَ إلى تقريره له سبعَ ليال. وروى سِمَاكُ بن الفضل عن وهب بن منبّه، عن عبد الله بن عمرو أنه سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في كم يقرأ القرآن، فقال له: "في أربعين "، قال عبد الله: إني أُطيق أكثرَ من ذلك، قال: "في شهر، " قال: إني أُطيق أكثرَ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ذلك، قال: "في خمسةَ عشر"، ثم قال: "في عشر"، ثم قال: "في سبع ". ولم ينزل من سبعٍ. وروى مَعمَرٌ عن قتادةَ أنّ عبدَ الله بن عُمر سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: في كم تقرأ القرآن، قال: "في شهر"، فقال: إني أطيق أكثرَ من ذلك. فذكر مثلَ حديث سِمَاك، حتى انتهى إلى ثلاث، ثم قال النبيُّ صلَّى الله عليه: "مَن قرأهُ فيما دونَ ثلاثٍ لم يفهمه ". وظاهرُ هذه الرواية تقتضي أن عبدَ الله كان ممن جمعَ القرآنَ على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وإن كان يُحتمَلَ أن يكون جمعَ كثيراً منه من المكي إلى وقت سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا السؤال، غيرَ أنَّ ذلك خلافُ الظاهر. وروى الحارثُ بن سعدٍ العتقي عن عبد الله بن مُنَين من بني عبد هلال عن عمرو بن العاص أن النبى صلَّى الله عليه أقرأه خمسَ عشرةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 سجدة في القرآن، منها ثلاثٌ في المفصَّل وفي الحج سجدتان "، وهذا الخبر يُوجب ظاهرُه في غالب الحال جمعَ عمرو بن العاص جميعَ القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لا يمكن أن يتفق أن لا يتحفظ عمرو من هذه السورة إلا سجودَ القرآن فقط، ولا اتفق هذا لغيره، ولا يُعلَمُ أنّ أحداً اعتمدَ على ذلك وقصَدَهُ وحدَه، ولو كان ذلك مما انفرد به عمرو لكان مُفارِقاً لعادة القوم وما نحن أيضاً عليه في هذا الوقت ولَوجبَ أن يظهرَ ذلك عنه وأن يبحث عن غرضٍ فيه وأن يكونَ من الناس قولٌ في هذا الباب. وفي عدم ذلك دليلٌ على أنه كان يَعرِضُ القرآنَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنّه وقفهُ على السجدات التي في القرآن وفصَّلها له، وعرَّفه مواضعَها، وهذا أمرٌ لا يُصنَعُ مع المبتدىء ولا يُؤخَذ به، فوجبَ لظاهر الحال من هذه الروايةِ أن يكونَ عمرو ممن جمعَ القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى مباركُ بن فَضَالة قال: حدّثني أبو مُحرِز مولى عثمانَ بن أبي العاص، عن عثمان بن أبي العاص قال: "وفدتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ناس، فكنتُ أنا أصغرَهم، قال: فلمّا قدمنا المدينةَ خلّفوني أحفظُ متاعهم، قال: فقلت لهم: إني أشترطُ عليكم أن تنتظروني حتى آتيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلبَ إليه حاجة، قالوا: نعم، فلما رجعوا أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألتُه عن أشياءَ قال أبو فَضالة: حفظتُها قال: قلتُ: أعطني المصحفَ الذي عندَك، قال: فأعطاني واستعملني عليهم، فكنتُ أؤُمُّهم حتى جئت ". وما على أحد شك ولا شبة فيما كان عليه عثمان بن أبي العاص من التوفر والحرصِ على تعلم القرآن لمّا وفَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلقُّنه منه، حتى قيل إنه لم يلبث إلا يسيراً حتى تحفَّظَ القرآنَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه مصحفَهُ فأعطاه، ولولا أنه أكثرُ قومِه الوافدين معه قرآنا وأخْذا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يولِّهِ الصلاةَ عليهم، ولم يوقّره ويستعمِله عليهم، ولم يُقدِّمُوه في صلاتهم، ولم يخصَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بإعطائه مصحفَه على ما ورد في هذه الرواية، وهذا الظاهرُ من الأمرِ يدل على أنّ عثمانَ كان أيضاً ممن حفظ القرآنَ وجمعَه على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولو تُتبعَ هذا لطالَ وكَثرُ واتسعَ الخَرْقُ فيه، وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لقولِ من قال إلَّه لم يَجمع القرآن على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعةُ نفر: معنىً، ومثلُ روايته التي يتعلقُ بها في ذلك يقتضي أن يكونَ قد حفظه نحوُ عشرينَ رجلاً، وإذا كان ذلك كذلك زال التعلُّقُ علينا بما ذكروه، فإنّ القولَ بأنّ فلاناً جمع القرآنَ كلَّه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دونَ غيره قولٌ يتعذرُ العلمُ بالوصولِ إلى حقيقته، لأنه لا يمكنُ علمُ ذلك مع قيامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، واتصالِ نزولِ الوحي عليه، والعلمِ بتجويزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قرآنٍ ينزلُ عليه في كل يوم وليلة إلى يوم يموتُ - صلى الله عليه وسلم - مع العلم أيضاً بأنه لا يمكنُ أن يُقال في كلّ سورة نزلت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنّها قد كَمُلت لجوازِ أن ينزلَ بعد ذلك ما يُضَمُّ إليها، ويُكتَبُ معها، على ما كان يأمُرُهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان ذلك مما اتفق عليه تعذر العلمُ بأنّ فلانا قد حَفِظَ جميعَ القرآنِ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن ذلك أمر لا يتحقَق ويتيَقَّن إلا بعدَ وفاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي. وإذا كان ذلك كذلك لم يَستجِز كثير من الصحابة أن يُخبِرَ عن نفسه أنه قد حفظَ جميع كتابِ الله وهو لا يدري لعله سينزلُ على الرسول بعدَ ذلك مثلُ قدر ما حفظه عنه، ولا يدري لعل فيما نزل ما قد نُسِخَ ورُفِعَت تلاوتُهُ فلم يحفظه، ولعله قد نزل على الرسول في الساعة التي فارقه عليها قرآن كثير غير الذي قرأه لم يُقرئه الرسول إياه وحفظه غيرُه وألقاه إلى سواه، وإذا كان جوّز العلماءُ والفضلاءُ منهم جميعَ هذه الأمور لم يستجيزوا أن يُخبِرَ كلُّ واحد منهم عن نفسه ولا عن غيره أنه قد حفظَ جميعَ القرآن وجَمَعَه، بل يجبُ أن يتجنبوا هذا القولَ وأن يَعدِلُوا عنه. وإذا وجبَ ذلك لم يستفض بينهم عددُ حُفّاظ جميع ما نزل، ولم يكن لهم إلى ذلك سبيل ولا طريق، ولم يُنكَر لأجلِ هذا أَن يكون حفظَ القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ لم يُخَبروا بذلك عن أنفسهم ولا خبر به عنهم غيرُهم، لأنّ ذلك أمر لا ينتشرُ ويستفيضُ ويتقرَّرُ علمُه إلا بعد موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقطاعِ الوحيِ والعلم بآخرِ ما نزلَ وخُتِمَ به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الكتابُ، وأن السورةَ قد كَمُلَت واستقَرّت وتم نَظمُها ورتبت في مواضعها. وجُمِعَت فيها آياتُها. وإذا كان ذلك كذلك وجبَ بهذه الجملة أن لا يكونَ فيما رُوِيَ من هذه الأخبار حجة تدفعُ ما قلناه، وأن يكون القومُ الذين قالوا ذلك وخبّروا بما أخبروا به عن الاجتهاد وغلبةِ الظنّ وأمرٍ غير متيقَّنٍ وعلى قدر ما سمعوه ممَّن قال: حفظتُ جميع القرآن، أو فلان قد حفظ جميعَه، والظنُّ في هذا لا حجةَ فيه، وقد يمكن أيضاً أن يكونَ على عهدِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير قد حفظوا القرآنَ وكتموا ذلك على أنفسهم ولم يُذيعوه ولا دعاهم داعٍ إلى إظهاره والتحدُّث به، ورأوا أن كتمانَه وتركَ المفاخَرةِ والتَّبجُّح به أولى وأفضلُ لأجل أن التزينَ بذلك قدح في العمل وشَوْبٌ ونقص يلحق صاحبه، وإن اتفقَ أن يقولَ ذلك قائل من الصحابة فلأجل سببِ يدعوهُ إلى ذلك غيرِ القصد إلى التزيُّن به والإخبار بكثرةِ علمِه وعمله، وعِظَمِ مرتَبته، هذا أولى الأمورِ بالصحابة. وقد رُوِيَ ذلك عن جلّة منهم، فرُوِيَ أنّه قيل لعبد الله بن مسعود في رجل يزعم أنه قرأ القرآنَ البارحة، فقال: "ما له إلا كَلِمتُه التي قال ". ورُوِيَ عن تميم الداريّ أنّ رجلاً قال له: كم جزءاً تقرأ، فغضب تميم وقال: لعلَّك من الذين يقرأُ أحدُهم القرآنَ في ليلةٍ ثم يصبحُ فيقول: قرأتُ القرآنَ الليلةَ! هذا شأنُ القوم وشَجِيتُهم، فكيف يمكن مع ذلك استفاضةُ حال حفظة القرآن واشتهارُهم به وهذه صفتُهم؟! وقد رُوِيَ عن الحسن البصريّ أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال: "لقد أدركنا أقواما إنَّ أحدَهم قد جمعَ القرآنَ وما شعرَ به جارُه، ولقد أدركنا أقواماً ما كان في الأرض عمل يقدرون على أن يعملوه سراً فيكونُ علانيةً أبدا". وكذلك رُوي أن رجلاً قال بحضرة قومٍ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأتُ الليلة كذا وكذا، فقالوا: "حظك منه هذا"، وهذا تغليظ منهم شديد في التحدُّث بذلك، فكيف لا تتوفَّرُ دواعي خلقٍ منهم على أن لا يشعر غيرُه بما يحفظه، ولا يرون إظهارَه. وقد يجوز أيضاً أن يكونوا إنما كرهوا أن يُقال فلان حافظ للقرآن كلّه أو جامعٌ له أو قرأ جميع القرآن لأجلِ أنه لا يأمنُ قائلُ هذا قد سقط عليه من الحفظِ أو الدرسِ كلمةٌ أو آيةٌ، أو شيءٌ منه، أو بعضُ حروفه التي أُنزل بها. فيكونُ إطلاقُ القول لذلك تزيداً في المعنى، فتوَزَعوا عن ذلك، ويمكن أيضاً أن يكونوا إنما كرهوا أن يُقال ذلك لأجل أنهم كانوا يرون أن المستحق لهذه الصفة والتسمية هو المتمسكُ العاملُ بجميع حدودِ القرآن، والعالمُ بأحكامه، وحلاله وحرامه. وقد روى أبو الزاهدية أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: يا أبا الدرداء. إن ابني هذا قد جمعَ القرآن، فقال: "اللهمَّ غفر"، إنما جمع القرآنَ من سمعَ له وأطاع "، فهذا إنكار يدلُّ على أنّ هذا الوصفَ عندَهم بجمعه إنما يجري على مَن عمل بموجَبِه ووقف عندَ حدوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ورُوِيَ أن بعضَ التابعين ذُكرَ عنده إنسانٌ فقيل: "أَحْكَمَ القرآنَ"، "فكره ذلك فقيل: "حامل قرآن " فكرهه، وقال: "قولوا: حَفِظَ ". لأنّه اعتقدَ أنّ الحفظَ إنما يُراد به التلاوةُ. وقولَهم: أحكمَ، وحمل القرآن، وحافظُ القرآن إنما يجري على القائم بحدوده السامعِ المطيعِ لموجَبِه. وحُكِيَ عن الحسن البصري أنه كان يقول: إنَّ أحدَكم ليقول: والله لقد قرأتُ القرآنَ كله، وما أسقطتُ منه حرفاً واحداً، وقد واللهِ أسقطه كله ". يعني بذلك تركَ العمل بموجَبِه، والمحافظةَ على حدوده ومراسمه. ورُوِيَ أن عقبةَ بن عامر كان من أحسنِ الناس صوتاً بالقرآن، فاستقرأهُ عمر فقرأ عليه براءة، فبكى عمر، ثم قال: "ما كنتُ أظن أنّها نزلت ". إنما قال ذلك لما وجد من نَضارتها وجِدّتِها بحسنِ قراءةِ عقبة، وما جدَّدَته وأحدثته له من الخوفِ والوَجَلِ والإذكارِ بأمرِ الله تعالى، والتحذيرِ من وعيده، والترغيبِ في ثوابه على نحو ما يقولُ القائل: كأني ما قرأتُها قطُّ ولا سَمِعتُها. ومن ظن بعمرَ رضيَ الله عنه أنّه لم يعرف أنّ سورةَ براءةَ قد نزلت مع شُهرتها وإنفاذِ الرسول بها إلى أهلِ مكةَ مع أبي بكرٍ وعلي، وتذلُلِ أبي هريرةَ بها، وما تضمنته من حال العقود والعهود وغير ذلك: فهو الغبيُّ المغرور، بل من ظنَّ ذلك بأدنى المؤمنين منزلةً فقد جَهِلَ جهلاً فاحشاً. وقد يجوزُ أيضاً أن تكونَ كراهتُهم لإطلاقِ القول بأنّ فلاناً حافظٌ للقرآن وجامعٌ له لأجل أنهم اعتقدوا أن ذلك إنما يجري على من حَفِظَ ناسخَ القرآنِ ومنسوخَه، وجميعَ وجوهِه وحروفِه التي أُنزل عليها، فلا يُوصَف به عندَهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 إلا من أخذه وجمعه مِن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأه عليه لما لا يُؤمَنُ من الغَلَطِ بكلمة أو آية أو حرف أو قراءةِ شيءٍ منه بوجهٍ لا يجوز ويسُوغ مثلُه. وإذا كان ذلك كذلك وجبَ حملُ الأمرِ في إنكارِ هذه الألفاظِ والامتناعِ من هذه الإطلاقات، ودعوى القومِ حفظَ القرآن والحملَ له والإحاطة به: على الوجوه التي ذكرناها دون ما ظنّوه وتوهّموه من سقوط شيءٍ من القرآنِ على سائر الأمة أو عدم حافظ لجميعه فيهم، وكونه غيرَ مشهورٍ ظاهرٍ بينهم. وإذا كان ذلك كذلك كان هذا أيضاً أحدَ الأسبابِ المانعةِ من العلم بجميع عدد حَفَظةِ القرآنِ على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وما يُنكر أيضاً على هذا الأصل أن لا يُعرف ذلك بعد موته، لأنه لا يُنكرُ أن يحفظه بأسره قومٌ منهم، وماتوا بعدَ موتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُطلع على ذلك من أمرهم وإن عُلم في الجملة أنهم من حَمَلةِ القرآنِ ودَرَسَتِه، وهذا يمنعهم من التعلق بما ذكروه منعاً عنيفاً. فإن قالوا: فما تأويلُ هذه الأخبارِ المرويةِ في تحديد عددِ حَفَظةِ القرآن على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل لهم: يَحتمل أن نُثبتَ وجوهاً من التأويل، فمنها: - أن يكونَ معنى قولهم: ما جمع القرآنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعةُ نفرٍ أو خمسة أنه لم يجمعه على جميع الوجوهِ والأحرفِ والقراءاتِ التي نزل بها وخبر الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أنها كلها شافٍ كافٍ إلا أولئكَ النفرُ فقط، وهذا غيرُ بعيد، لأنه لا يجبُ على سائرهم ولا على أولئك النفر أيضاً أن يحفظوا القرآنَ على جميع أحرفه ووجوهه السبعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 - ويمكنُ أيضاً أن يكون معنى ذلك أنه لم يجمع ما نُسخ منه وأُزيل رسمُه بعدَ تلاوته مع ما ثبتَ رسمُه وبقيَ فرضُ حفظِه وتلاوته إلا تلكَ الجماعةُ وحدَها، لأنه قد ثبت أنه قد كان أُنزل قرآن نُسخ رسمُه، وأُزيلت تلاوتُه. - ويجوزُ أيضاً أن يكونَ معنى ذلك أنه لم يجمع جميعَ القرآنِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويأخذَه مِن فِيه تلقِّياً غيرُ تلك الجماعة، فإنّ أكثرَهم أخذَ بعضه عنه وبعضَه عن غيره. - ويُحتمل أيضاً أن يكونَ معنى هذا القول أنه لم يجمع القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ممن ظهرَ به وأبدى ذلك من أمره وانتصَبَ لتلقينه عن تلك الطبقةِ المذكورة، مع جوازِ أن يكونَ فيهم حفّاظٌ لا يعرفهم الراوي إذا لم يظهر ذلك منهم. هذا ما لا بدَّ من صرف الأخبار إليه إن ثبتَ وحملِها عليه، لأجلِ ما قدمناه ولأجلِ تظاهُرِ الرواياتِ أيضاً بما يوجبُ ويقتضي حفظَ الأئمةِ الأربعة لجميع القرآنِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإحاطتِهم به، ولأجلِ أنّ هذا هو الواجبُ من حالهم في العادة وما كانوا عليه من الأحوال في السبق إلى الإسلام والتقدُّمِ وإعظامِ الرسول لهم وما تُوجبه العادةُ في مثلِهم، وتأمينِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وتقديمِه إياهم، وما رُوِيَ من طُول قراءتهم وكثرةِ تعليمهم الناسَ القرآنَ له عنهم، وهم عندَنا أولى الناسِ بحفظِ كتاب الله، وأحقُّهم بالسبق إلى ذلك، والرغبةِ عن الإبطاء عنه والتمادي فيه، مع ما كانوا منصُوبين ومُرشَّحين له، ومع ارتفاعِ أقدارهم وعلو شأنِهم، وامتدادِ الأعينِ والأعناقِ إليهم، وتعويلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوائبِ والمهمّاتِ عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 (فصلٌ في فضل أبي بكرٍ الصدِّيق رضيَ الله عنه وحفظِه للقرآن) فأما أبو بكرٍ الصدّيق صلواتُ الله عليه فقد وردت الأخبارُ المتظاهرةُ بدوامِ تقدُّمِه في الصلوات وقراءتِه لطوالِ السور في المحراب التي لا يتهيأ إقامتُها إلا لأهل القَدْر والإتقان والقوة في الحفظ، وكثرةِ الدرس والدُّربة بقراءة القرآن، فروى هشام الدَّسْتَوائي قال: حدّثنا قتادةُ عن أنسٍ: "صلى بنا أبو بكر الصدِّيق رضوانُ الله عليه صلاةَ الصبح، فقرأ آل عمران، فقالوا له: يا خليفةَ رسولِ الله كادت الشمسُ أن تطلُع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين ". وروى سفيان بن عيينة عن الزُهْري عن أنس بن مالك: "أنّ أبا بكرٍ رضوانُ الله عليه قرأ في صلاة الصبح البقرة، فقال عمر: كادت الشمسُ أن تطلُع، فقال: لو طلعت لم تجدْنا غافلين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقد عُلِمَ أنّ كثيراً من الحفّاظ وأهل الدُّربة وإدمان درسِ القرآن يتهيبون الصلاةَ بالناس مثلَ هذه السُّور الطوال، وما هو دونَها بالشيء الكثير، وهذا يقتضي أن أبا بكرٍ كان حافظاً للقرآن، وليس بين هذين الخبرَين معارض. لأجل أنه ذُكر في أحدِهما صلاتُه بالبقرة، وفي الأخرى صلاتُه بآل عمران. ووقوعِ جوابٍ واحدٍ عن ذلك، لأنه لا يمكن أن يكونَ ذلك في وقتين وفي صلاتين، وأن يكونَ جوابُه لعمرَ قد وقع له ولغيره بلفظٍ واحد، وهذا غيرُ مستنكرٍ ولا بعيد. وقد تظاهرت الرواياتُ بأن أبا بكرٍ رضوانُ الله عليه بنى مسجداً بمكةَ قبلَ الهجرة في فِناءِ داره، وأنه كان يقوم بالقرآن فيه ويدعو إلى الله وإلى رسوله، ويشتري عِرْضَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزيِّنُ صوتَه بالقرآن، ويكثر بكاؤه ونَشِيجُه، فإذا كان ذلك منه أسرعَ عوامُّ المشركين ونساؤهم وولدانهم يسمعون قراءته وتسبيحَه، حتى قالت عائشةُ رضوانُ الله عليها في خُطبتها: "أبي وما أبيه، أي واللهِ لا تعطوه الأيدي، ذلك واللهِ طَود منيف، وظل مديد، صدَّقَ واللهِ إذ كذّبتُم، وسبقَ إذ وثبتُم سبق الجواد إذا استولى على الأمَد، فتى قريشٍ ناشئاً وكد لها كهلاً، يكلأ عانِيها، ويُريش مملِقَها، يَرأبُ صَدْعَها، حتى خلبته قلوبُها، ثم استشرى في دينه، فما بَرِحَت تلك شكيمتَه في ذاتِ الله، حتى اتّخذَ بفِنائه مسجداً، يُحيي به ما أماتَ المبطِلون، وكان رحمةُ الله عليه غزيرَ الدمعة، وقِيدَ الجوارح، شَجِى النَّشِيج، فأصفقت إليه نسوانُ قريشٍ وولدانُها، يسخرونَ منه ويستهزئون به، (اللهُ يستهزئُ بهم ويمدُّهم في طُغيانهم يعمَهون) ، وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحَنَّت له أفئدتُها، وفوَّقَت يمامها، وامتثلوه عرضاً فما ملوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثم مرَّت رضوانُ الله عليها في صفته وصفة دعائه إلى الله تعالى، وعظيمِ عنائه في الإسلام، وتمسُّكِه به، وكيف لا يُظَنُّ بمثل أبي بكرٍ في فضله وسابقته وقيامه في الدعوة إلى الإسلام يقرأ بالقرآن، وتزيينه لصوته، وشدّة نَشِيجه: إنه أولى الناس بحفظِ كتاب الله عزَّ وجلَّ وأحرصُهم عليه وأقربُهم إليه، فكيف لا يُظَنُّ بمثله أنّه حافظ؟ وكان عثمانُ بن أبي العاص لمّا دخلَ في الإسلام وقصدَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليتعلّم القرآنَ يختلفُ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يَجدْه جاء إلى أبي بكرٍ فاستقرأه القرآن، وربما جاءَ إلى أُبيِّ بن كعبٍ على ما ذُكر، فلولا أن أبا بكرٍ كان إذ ذاك محل من يحفظُ القرآن، ويُؤخَذُ عنه لم تكن هذه حالَ من اختلفَ إليه، إذا لم يجد الرسولَ صلَّى الله عليه ولولا علمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك من أمره لم يقدِّمه لإمامة المسلمين، وهو حاضر يشاهدُ مكانَ غيره ويقول: "يأبى الله ورسولُه والمؤمنون إلا أبا بكر، وإنكنَّ لصُوَيحِباتِ يُوسُف "، هذا مع قولي: "يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ الله، وأكثرُهم قرآناً". وفي خبرٍ آخرَ إلى ذكر الهجرة والسن، إلى أن قال: "فأثبتُهم صلاحاً"، وقوله: "أئمتكم شُفعاؤُكم إلى الله، فانظروا بمن تستشفعون ". وقوله: "ليَؤُمَّ القومَ أفضلُهم ". في أمثالٍ لهذه الأخبار كلُّها تدلُّ على أنه يجبُ أن ألا، يتقدَّم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ذلك المقامِ الشريفِ إلا أقرأُ الأمة لكتاب الله تعالى وأثبتُهم فضلاً وصلاحا. ولولا علمُ الرسول بذلك من حاله وسكونه إليه لم يُؤمِّره على الناس في المواسم سنةَ تسع، وتقديمُه يومَ المجتمع الأعظم للصلاةِ بالناس وتعليمِهم المناسكَ وأركانَ الحج وتقويمِهم وإرشادِهم في هذا الشأنِ العظيم والخطرِ الجسيم، فكل ما ذكرناه مع مقتضى العادة وموجَبِها في مثل حال أبي بكرٍ يُوجِبُ أن يكونَ من كبارِ الحفاظ والأماثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 (فصلٌ في فضل عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه وحفظِه للقرآن) وأما عُمر بن الخطاب صلواتُ الله عليه فقد تظاهرت الرواياتُ عنه بمثل ذلك، فروى الناسُ عنه أنّه كان يَؤُمّ الناسَ بالسُّوَرِ بالطوال، وحَفِظُوا عنه أنّه كان قرأ مرةً سورةَ يوسُفَ فبلغَ إلى قوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) ، فأنشَجَ حتى سُمِعَ بكاؤُه من وراءِ الصّفوف، وأنه قرأ يوماً سورةَ الأحزاب فلمّا بلغَ إلى قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، جهرَ جهراً شديداً، فقيل له في ذلك فقال: "أُذَكِّرُهُن العهد". وأنّه قرأ من سورةِ الحجِّ فسجدَ فيها سجدتَين. وروى عبدُ الله بن عمرَ أنّه قال: "لقد رأيتُ أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطّاب وأنّه لجالس على المنبر والمهاجرون والأنصارُ حوله يعلِّمُهم الدينَ والقرآن كما يعلِّمُ الكاتبُ الغلمان " وكيف تكون هذه حاله وقدرَه إلا وحفظُ القرآن سجِيّتُه وشأنه، وتلاوتُه دأبُه ودَيْدَنُه. وروى أبو معاوية عن ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الأعمش عن زيد بن وَهْب قال: "جاءَ رجلانِ إلى عبدِ الله - يعني ابن مسعود - فقال أحدُهما: يا أبا عبد الرحمن، كيف نقرأ هذه الآية، فقال عبد الله: من أقرأك، قال: أبو حكيم المُزَني، وقال للآخر: مَن أقرأك. قال: أقرأني عمر، قال: اقرأ كما أقرأك عمر، ثم بكى حتى سقطت دموعه في الحصى، ثم قال: إنَّ عُمرَ كان حصناً حَصِينا على الإسلام، يدخلُ فيه ولا يخرجُ منه، فلما مات انثَلَمَ ذلك الحصنُ بفريقٍ يخرجُ منه ولا يدخل وروى زائدة قال: قال عبد الملك بن عمير: حدَّثني قَبِيصةُ بن جابر قال: "ما رأيتُ أحداً كان أعلمَ بالله، والقراءة لكتاب الله، ولا أفقهَ في دينِ الله من عُمرَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وروى أيضاً عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب قال: قال عبد الله يعني ابنَ مسعود: "ما أظنُّ أهلَ بيت من المسلمين لم يدخل عليهم حزنٌ على عُمر يومَ أُصِيبَ عمر إلا أهلَ بيت سُوء، إنَّ عمر كان أعلَمنا بالله. وأقرأنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله ". ولولا أنّ هذه كانت حالَه وصفتَه في حفظ القرآن وأنه من أقرأ الناس لكتاب الله لم يكن أبو بكر الصدّيق بالذي يضُمُّ إليه زيد بن ثابت ويأمُرُهما بجمع القرآن واعتراضه، ويجعلُ زيدا تبعا له، لأنه لا يجوزُ في صفة مَن هو دون أبي بكر في الفضل والحزم أن يُنصِّبَ مع مثل زيد بن ثابت لاعتراض القرآن وجمعِه مَن ليس بحافظ له، ولا كلُّ حافظ أيضاً يصلح لهذا الباب. فبان بذلك أنّه أحدُ حفّاظ القرآن المتقدِّمين، فمَن هذه حالُه وصفتُه في تقدمه وفي قراءته بالطِّوال، وإقرائه الصحابةَ وتعليمِهم بالقرآن مع الفقه والدين. وقول ابن مسعود فيه: "ومحلُّه مِن حفظِ القرآن محلُّه، كان أقرأنا لكتابِ الله "، كيف يمكن أن يكونَ غير حافظ لكتابِ الله الذي هو أقرؤهم له؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 (فصلٌ في فضلِ عثمان بن عفان رضي الله عنه وحفظه للقرآن) وأما عثمان بن عفانَ رضوانُ الله عليه فقد وردت الرواياتُ بأنه كان ممن جمع القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قد بينا، وقد كان من المشهورين بقراءة القرآن وكثرة درسِه، والقيام به في آناء الليل والنهار. وإكثاره من ذلك وبلوغ الغاية القصوى منه، هذا مع سِنِّهِ وسابقته وتقدُّمِ إسلامه، وعِظَمِ محله من الدين والمسلمين. وقد روى الناس أن عثمانَ رضوانُ الله عليه لما دخلَ عليه المصريُّون ليقتلوه ابتدروه ضربةَ بالسيف، فوقعت على يده فمدَّها وقال: "إنّها واللهِ لأوَّلُ يَدِ خَطَّت المفصَّل ". وقد روى الناسُ أنّ إحدى نساء عثمان إما نائلةُ بنتُ الغرافصة أو غيرها قال: "لما هجموا عليه الدارَ ليقتلوه إن يقتلوه أو يتركوه فإنّه كان يُحيي الليلَ بجميع القرآن في ركعة"، وفي روايةِ أخرى: "فلطالما ختم القرآنَ في ركعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ورُوِيَ أنّ عبدَ الرحمن بن عثمان التيمي قال: قلت: لأغلبَن الليلةَ على المقام، فلما قمتُ إذا أنا برجلٍ يزحمني عليه، فنظرتُ فإذا عثمان. فتأخرتُ عنه فصلَّى، فإذا هو يسجدُ سجودَ القرآن، حتى إذا قلتُ هذه هوادي الفجر أوترَ بركعةٍ لم يُصَلِّ غيرَها ثم انطلق ". ورُوِيَ أنّ عليَّ بن أبي طالبٍ عليه السلام كان إذا سُئل: كم بقي من الليل، قال: "انظروا أين بلغَ عثمانُ من القرآن "، وكلُّ هذا وما هو أكثرُ منه ظاهرٌ مشهورٌ من حال عثمان، فمَن هذه حاله في ختم القرآن في ركعة. ومن تُقَدَّرُ ساعاتُ الليل وماضِيه وباقِيه بدرسه للقرآن وقيامه به، كيفْ يتوَّهَّمُ أنّه لم يكن حافظاً جامعاً للقرآن؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 (فصل في فضل عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه وحفظه للقرآن) وأما عي بن أبي طالب صلواتُ الله عليه فقد عُرفت حالُه وفضلُه وسابقتُه وجهادُه، وثاقبُ فهمِه ورأيِه وسَعةُ علمه، ومشاورةُ الصحابة له. وإقرارُهم بفضله، وتربيةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له ونشوؤه عندَه، وأخذُه له بفضائل الأخلاق والأعمال، ورغبتُه في تخريجه وتعليمِه، وكثرةُ أقاويلِه فيه، وما كان يُرشِّحُه له ويُنبّهُ عليه من أمره، نحو قوله: ْ "أقضاكُم عليُّ، وإن تُوَلُوها عليّاً تجدوه هادياً مهدياً، يحملكم على المحَجّة البيضاء والطريقِ المستقيم ". ومن البعيدِ الممتنعِ أن يقول مثلَ هذا فيه وليس هو من قُرّاءِ الأمة للقرآن، وممَّن إن تقدَّم في الصلاة كان أقرأَهم لكتاب الله، أو من الطبقة الذين هذه سبيلهم. وقد كان ممّن يُقرىءُ القرآنَ ويُؤخَذُ عنه، وأحدُ من قرأ عليه أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ وغيرُه، وكان من المشهورين بقراءة القرآن والتبحُّر فيه، ومعرفةِ تنزيلِه وتأويله، والكلامِ في مُشكِلِه وغامضِه، وقد كان سائرُ أصحابه الدعاةِ إلى طاعته يُظهِرون عند استدعاءِ الناس إلى نُصرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والدخول في بيعته أنّه أفقهُ الأمَّة وأعلمُها وأقرؤُها لكتاب الله، ولا يردُّ عليهم أحدٌ ولا يَعترِضُ فيه، منهم الحسنُ وعمار وعبدُ الله بنُ عباس، وزيد، وصَعْصَعةُ بن صَوحانَ العَبْدي وغيرُهم من شِيعتِه، وهو أولُ من نشرَ المصحفَ بالبصرةِ ثم بصِفين، ودعا إلى تحكيمه والرجوع إلى ما فيه، على ما سنشرحُه فيما بعدُ إن شاء الله. ورُوِيَ عن سعيدِ بن عمرو بن سعيدِ بن العاص أنه قال: قلتُ لعبدِ الله بن عباسٍ بن أبي ربيعة: ألا تُخبرني عن أبي بكر وعلي، قال: "إن أبا بكرٍ كانت له السِّن والسابقةُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل الناسِ صاغيةٌ إلى على"، قال: "يا ابنَ أخي، كان له والله ما شاء من حَرَسٍ قاطع، والبَسطةُ في المنصِب، وقرابةٌ من الرسول ومُصاهرتُه، والسابقةُ في الإسلام، والعلمُ بالقرآن، والفقهُ في السنة، والنجدةُ في الحرب، والجودُ في الماعون ". فهذا وغيرُه ممن ذكرنا بفضيلة له، وشرح خُطَبِه ومقاماته بفضل علي في كتابي الإمامة يذكرون أنه مِن أعلمِ الناس بالقرآن وإقرائِهم له، فلا يعترض في ذلك معترضٌ يُحفَظُ قوله. وقد كان أبو عبد الرحمن السُّلَمي من حفّاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 كتاب الله تعالى وأهل العلم به، وهو يعترفُ لعلي بأنّه ما رأى رجلاً أقرأ للقرآن منه. روى همام بن أبي نَجِيح عن عطاءِ بن السائب أن أبا عبد الرحمن السُّلَمى حدَّثه، قال: "ما رأيتُ رجلاً أقرأَ للقرآنِ مِن عليِّ بن أبي طالب. صلى بنا الصبح فقرأ سورةَ الأنبياء فأسقط آية، ثم قرأ تدرجا ثم رجعَ إلى الآية التي أسقطها فقرأها ثم رجع إلى المكان الذي انتهى إليه، لا يتتعتَع ". ورُوِيَ أيضاً عن أبي عبد الرحمنَ السُّلَميِّ قال: "صلى بنا علي في شهر رمضان فقرأ بنا عشر آيات عشرَ آيات "، وهذا لا يكونُ إلا مع تقدُّم الحفظ وكثرةِ الدراية وحسن الإتقان. وإذا كان ذلك كذلك وجب بما وصفناه في وضع العادة وما عُرِفَ من أخلاقِ هؤلاء الأئمةِ وطرائِقهم وما كانوا عليه ومنصُوبين له، وما ظهرَ من قراءتهم وتقدُّمهم، وتقدمة الرسول لهم أن يكونوا حُفّاظا للقرآنِ وجامعينَ له، وأن يكونَ العملُ بذلك والرجوعُ إليه أولى من الرجوعِ إلى الأخبار التي يُذكَر فيها أنّ الحفّاظ كانوا على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعةَ نفر ليس فيهم أحد من هؤلاء الأئمةِ القادةِ الذين هم عُمُدُ الدين وفقهاءُ المسلمين. وعلى أننا أردنا بما بسطناه ووصفناه من حال هؤلاء الأئمة ما تقتضيه العادةُ من وجوب كثرة الحفاظ للقرآن على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده: تأكيدَ أمرِ القرآن، ودفعَ قولِ من قال على القطع والبتات أنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 يجمع القرآنَ على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعةُ نفر، لأننا لا نحتاجُ في حفظ جميع الأمة للقرآن وظهورِ نقله والإحاطةِ بجميعه إلى أن يُعتَقَدَ ويتبَيَّن أنّ فيهم حفّاظاً لجميعه، لأنه لو اتفقَ مع بُعد ذلك في العادة وتعذُّره أن لا يجمعه أحد منهم لوجب بالعادة المعلومة من تركيب الطباع وعظمِ شأن القرآنِ وموردِه والداعي إلى حفظه والتمسُّك به والتحاكم إليه، والردِ إلى موجَبِه وإخباره بأنّ معدنَ العلم ويُنبُوعَه أن لا يذهبَ على جميع الأمّة حفظُ سائره، وأن لا بُدَّ أن يتفقَ لخَلْقٍ منهم أن يحفظوا مواضعَ منه، ولآخرين أن يحفظوا مواضعَ أُخَرَ، ولخَلْقٍ الاستكثارُ منه، ولقومٍ الاقتصارُ على ما يُجزىءُ به من قراءته، ولقومٍ إيثارُ الطِّوالِ منه، ولآخرينَ إيثارُ حفظِ المفضَلِ السهل. ولخلقٍ منهم حفظه ومعرفتُه ضبطاً ونَظَراً في المصاحف، ولخلقٍ منهم التفقُّهُ به، ولآخرينَ القيامُ للصلاة به، ولآخرينَ الانتصابُ لتعليمه، حتى لا يذهبَ شيء منه على كافّتهم، ولا يتوهَّمَ من له أدنى مُسْكةٍ وفهمٍ ومعرفةٍ بعلوم التجربة والعادة توافي هِمَمِ جميع الأمّة على تضييع شيء منه وذهابه عليهم، وأن الشاةَ دخلت فأكلَت كثيرا منه! كانوا جمعوه فلم يوجد في غير تلك النسخة، ولا في صدرِ رجلٍ من الأمة، ولا عند أحدٍ ممن يقرأ نظراً حفظَه والعلمَ به، وأن اعتقادَ ذلك من الأمور الدالّةِ على فرط الجهل والغَباوة. فوضح بهذه الجملة أنه لا حاجةَ ماسّةً ولا غيرَ ماسّةٍ إلى إقامة الأدلّة والبراهين على كونِ حفاظ لجميع القرآن على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وأنّ ذلك إن ذكرناه فعلى سبيل التأكيد والكشف عن صورة الحال وموجَبِ العادة في ذلك. فإن قال قائلٌ: فإذا كانت الحال في موجَب شُهرة الأخبار التي رويتموها في كثرة الحفَّاظ وارتفاع النزاع في حفظ الأربعة نفرٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 في وضع العادة في وجوب حفظ جِلّة المهاجرين والأنصار للقرآن لما هم عليه مما وصفتموه، فما وجه القول عندَكم في الأخبارِ المرويةِ بأنّ هؤلاءِ الأربعةَ لم يكونوا ممن حفظَ جميعَ القرآنِ ولا الأئمةُ الأربعةُ ومن جرى مجراهم في الفضل، وهيَ واردةٌ بنقيض ما ادّعيتموه بموجَبِ العادة والأخبار التي قدَّمتم ذكرَها، فمن هذه الأخبار ما رواه ابنُ عُلَئة عن منصورِ بن عبد الرحمن عن أبي عبد الرحمن عن الشعبي قال: "مات أبو بكرٍ وعُمَر وعليٌّ ولم يجمعوا القرآن "، ورُوِيَ عنه من طريق آخر "أنّ عمرَ مات ولم يجمع القرآن، لأنه كان يُحِبُّ أن يموتَ وهو في زيادةٍ ولا يموتُ وهو في نقصانٍ بنسيان القرآن ". وروى عُبَيدُ بن جُبَير قال: "قلتُ لزيد بن ثابت عندَ مقتَل عثمانَ: اقرأ عليَّ الأعراف، فقال زيدٌ: لستُ أحفظُها، ولكن اقرأها أنتَ عليَّ. فقرأتُها فما أخذَ عليَّ ألفاً ولا واواً"، ورُوِيَ أنّ جماعةً من الصحابة أتَوا عبدَ الله بن مسعودٍ ليقرأ عليهم (طسم) الشعراء فقال: "ما هي عندي، عليكم بأبي عبد الله خَبّاب "، فأتينا خَبّاباً فسألناه يقرأها علينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وروى أبو إسحاقَ الهمداني عن سعيدِ بن وهبٍ قال: "قَدِمَ علينا عبدُ الله - يعني ابنَ مسعود - فقلنا: اقرأ علينا البقرة، فقال: لستُ أحفظها". وروى الهيثمُ بن واقدٍ عن عطاءِ بن أبي مروان قال: "قلتُ للطُفَيل بن أبي: أبوكَ جمعَ القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بعدَه. قلت: إن أناساً أخبرونا أنّه جمعه أربعةٌ على عهد رسول الله، فيهم أبوك. فقال الطُفَيل: أترى أنّ أناساً أعلمُ بأبي منِّي، ". وروى عكرمةُ عن ابن عباس: "إنّ القرآنَ لم يجمعه أحدٌ على عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وروى بشر بن حُمَيد المُرِّيّ عن أبيه قال: "سمعتُ أبا قِلابَة يُحدِّثُ عمرَ بن عبد العزيز في خلافته أنّ أربعةً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعوا القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل، وأبيَّ بن كعب، وزيدَ بن ثابت، وأبا زيد، فقال عمر: قد بحثتُ عن هذا الحديث بالمدينة إذ كنتُ عليها والياً فقلتُ لخارجةَ بن زيد: إنَّ الناسَ يقولون إنَّ أباك جمعَ القرآنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: جَمَعَه بعدُ، أو جمع أكثرهُ ". في أمثالٍ لهذه الأخبار والألفاظِ كثيرة، وردت تنفي حفظ أحدٍ من هؤلاء وغيرهم للقرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما وجهُ هذه الأحاديث عندكم؟ قيل له: وجهُ القول عندَنا فيها أنّها أخبارُ آحاد غيرُ ثابتة، ولا سبيلَ إلى العلم بصحتها، وأنّها حالةً في الظهور والانتشار محلَّ الأخبار الواردة بحفظ هذه الجماعة، والشيءُ الظاهرُ المعلومُ لا يترَكُ لما ليسَ ثابتاً وما لا سبيلَ إلى العلم بثبوته، فوجبَ تركُ الإحفار بهذه الأخبار، ولأجل أنّ العادةَ في الصحابة وما كانوا عليه وجميعِ ما وصفناه يدلُّ على ضعف هذه الأخبار واضطرابها وأنها مما لم تقُم الحجةُ بها، وأقصى أحوالِ هذه الأخبار أن تكونَ مُعارِضةً للأخبار الواردة بحفظ هذه الجماعة للقرآن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ الله أن يكون كذلك لإطباق أهل النقل على أنّها ليست في الثبوتِ والظهورِ وصحّة المخارج والطرق واتفاقِ الألفاظ: بجارية مجرى الأخبار المرويّة في حفظ هذه الجماعة للقرآن وشهرتها. وقد روى مِقْسَمُ عن عكرمةَ عن ابن عباس أنه قال: "جمعَ القرآنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة. وعدَّ معاذ بن جبل وأُبيّاً وعبد الله وزيدَ بن ثابت "، وهذا معارِض لما رُوِيَ عنه من أنّه لم يجمع القرآنَ أحدٌ في حياة الرسول، فيجبُ إذا كان ذلك كذلك اطِّراحُ هذه الأخبار، والرجوعُ إلى ما ذكرناه من الأخبارِ الثابتة ومُقتضَى العادة في مثل الصحابة. على أنّنا لو سلَّمنا للسائل صحةَ هذه الأخبار التي تعلق بها وسلامتَها من التخليط والفساد، وأحللناها محلَّ الصحيح الذي رويناهُ في حفظِ الجماعة التي تقدَّم ذكرها للقرآن لوجبَ حملُها على وجوه من التأويلاتِ توافِقُ موجَبَ الأخبارِ بالعادة التي ذكرناها، فإنها كلَّها معرَّضة لتأويلٍ لا يُخالف ما قلناه، فمنها: - أن يكون معنى قولهم إنّهم لم يحفظوا الفرآنَ أنّهم لم يحفظوا جميع ما نزل من ناسخِه ومنسوخِه الذي سقط رسمُه وزالَ فرضُ حفظِه بعدَ ثبوته. وهذا ليس ببعيد، لأنّهم لا يجبُ عليهم ولا على غيرهم أن يُعنَوا بحفظِ ما نُسخَ ورُفع رسمُه، ويكونُ معنى قول خارجة بن زيد: "جمعه أو أكثرَه بعد ذاك "، أي: جميعَ المنسوخِ المُزال فرض رسمِه وتلاوته أو أكثرُه بعدَ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - ويُحتَمَلُ أيضاً أن يكونَ معنى ذلك أنّ هؤلاء الأربعة لم يحفظوا جميعَ حروف القرآنِ السبعةِ التي أُنزل عليها، وأخبر الرسولُ عليه السلام أنه أقرىءَ بها، ولا أحاطوا بجميعها ولا أحدٌ غيرُهم أيضاً من الأمّة في حياةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ جمعَ ذلك منهم من يعمل بحفظها وأخذ نفسَه بها كأبُي وغيره من المبرزين في حفظ القرآن على جميع وجوهِه وأحرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 - ويُحتملُ أن تكونَ روايةُ الشَّعبيِّ وغيرِه ممن رَوى مثلَ روايته أنَّ أبا بكر وعمرَ وعليّا عليهم السلام لم يجمعوا القرآن أنّهم لم يجمعوا ناسخَه ومنسوخَه، ولم يجمعوهُ بجميع قراءاته وحروفه التي أُنزلَ عليها. - ويُحتمل أيضاً قولُ عبد الله بن مسعود في البقرة والشعراء أنّهما ليستا عنده وأنه لا يحفظهما، وقولُ زيد بن ثابت لعُبيد بن جبير: "لستُ أحفظُ الأعراف " أنهما لا يحفظان ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنّهما لم يقرآ هذه السورةَ عليه ولا أخذاها مِن فِيه بغير واسطة، وإنّما حفظاها عمن أخذ عنه، فلذلك قال عُبَيدُ بن جُبَير: "فقرأتُ الأعرافَ على زيد فما أخذ عليَّ ألفاً ولا واوا". يعني أنه لم يحفظ عليه فيها غلطا واحداً ولا عرف، ولولا أن زيدا كان يحفظُ الأعراف كيف كان يجوزُ أن يأخذ عليه فيها الغَلط، وليس يُنكَر أن يكونَ لم يتفق لهما جميعاً ولا لغيرهما من الأمة أن يكونا حفظا جميع القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعاه منه، وإن أخذا عنه الأكثر وسمعاه منه وأخذا باقي ذلك وسمعاه ممن أخذ عنه وسمع منه، وإذا كان ذلك كذلك ساغ هذا التأويل أنّ أحداً لم يجمع القرآن على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يُريدون هذا أو بعض ما تقدَّم. ويمكن أيضاً أن يكونَ كلّ واحد من هؤلاء النفر قد سُمع منه قبلَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبِّرُ عن نفسه أنّه لم يجمع القرآن، وإنّما كانوا يقولون ذلك - وإن حفظوا جميعَ ما نزل - لما لا يأمنون من نزول ما ينزل بعد ذلك، وعلمِهم بأنّ الوحيَ ونزولَ القرآن غيرُ مأمونين منه ما دام الرسولُ حيّاً، فامتنعوا لذلك أن يقولوا:حَفِظنا جميعَ القرآن، وإن كانوا قد حَفِظوا جميعَ ما أُنزل على الرسول إلى وقتِ سُمِعَ منهم هذا القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وبعدُ، ما ندري مَن قال إنهم لم يحفظوا جميعَ القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدٌ غيرُهم أنّ ما قاله على ما ذكره، وقد بيّنّا مِن قبلُ أنّهم كانوا يحفظون ولا يُمارون ولا يتحدَّثون بذلك، ولا يُشعَرُ به من أحوالهم، خوفَ المدح في الطاعة، وإيثارَ الاستسرار بفعل الخيرِ والتقرُّبِ إلى الله تعالى، وإذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه الأخبارُ التي اعترضُوا بها تحتملُ من التأويل ما قد ذكرناه وجبَ حملُها إن صخَت على موافقةِ موجَبِ العادة في باب الصحابة والأخبار المشهورةِ التي قدَّمنا ذكرَها في حفظ هذه الجماعة وغيرها للقرآن، وهذا بتنٌ في زوالِ الشُّبهة بما تعلقوا به. وإن هم قالوا: إن موجَبَ العادة التي وصفتُم في أمرِ الصحابة لأجل سبْقِهم وجهادِهم وحرصِهم على نُصرةِ الدين وحفظِه والأخذِ بمعالمِه. وتقديمِ الأعظمِ فالأعظم، والأهمِّ فالأهمِّ منه يُوجِبُ حفظَ جميع الفُضلاء الأماثل منهم للقرآن، وأنّهم لا يتأخَّرون عن ذلك لقاطعٍ يصُذُهم وأمبر يكون التشاغلُ به أولى وأهئمَ من التشاغل بحفظِ القراَن. قيل لهم: أجل، كذلك تُوجِبُ العادةُ والحالُ عندَنا في أمرِهم. فإن قال: كيف يكونُ ذلك كذلك وقد رُوِيَ عن عبدِ الله بن عباس أنه كان يُقرىءُ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمرَ بن الخطّاب، وعبدُ الرحمن عندَكم من الفضل والسابقةِ والجهادِ والعلمِ والسِّنِّ والعَناءِ في الإسلام ولحوقه بالطبقة الأوَّلةِ من الصحابة بالمحلِّ المعروف، وعبدُ الله مِن حَداثةِ السنِّ وقرب العهدِ بحيثُ يعرفون، وقد روى الزُّهريُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أنّ عبيدَ الله بنَ عبدِ الله بن عُتبةَ بن مسعود أخبره أنّ عبدَ الله بن العباس أخبره أنه كان يُقرىءُ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمرَ بن الخطّاب، قال: فلم أرَ أحداً يجدُ من القَشْعَريرة ما يجدُ عبدُ الرحمن عند القراءة، قال ابن عباس: فجئتُ ألتمسُ عبد الرحمن يوماً فلم أجده، فانتظرتُه في بيته حتى رجعَ من عند عمرَ وهو يومئذ بمنى آخرَ حجة حَجها عمر، وهذا خلاف موجَب أخبارِكم والعادة التي وصفتم. يُقال لهم: فظاهرُ تلك الأخبار وما ذكرناه من موجَب العادةِ في مثل عبد الرحمن في فضله وتقدمه ونُبْله يُوجِب المصيرَ إلى ما قلناهُ من وجوبِ حفظِهِ القرآنَ وإيقاف خبرِكم هذا، وإحالة علم طريقه وتخرُّجه على الله سبحانه الذي هو أعلمُ به، فإما أن نتركَ ما وصفناه من المتيقن لأجله، فذلك غيرُ سائغ، على أن الخبرَ إن صحَّ وثبتَ فمعناه محمول على موافقة ما ادّعيناه، وذلك أنّ الناسَ كانوا يتحفَّظون القرآن بأن يقرؤوه على الحفّاظ. وبأن يقرأه عليهم الحافظ، ويأخذُونه من لفظِه، وفي الناس إلى هذا الوقت مَن ذلك أسهل عليه وأقربُ إلى فهمه، وأكثرُ من يعملُ ذلك إنما يعمله ليأخذ نمطَ القارىء الحافظ ويسلكَ في القراءة سَنَنه، ويتّبعَ ألفاظه، وكذلك كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، إنّما قرأ على أُبيٍّ على وجهِ التخصيصِ والتعظيم ليأخذ أُبيُّ طريقتَه، ويحكي لفظه، ويقفُوَ أثره، وكذلك ذُكر عن أُبيٍّ وابن أُبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وإذا كان ذلك كذلك وجبَ حملُ قراءةِ عبد الرحمن على عبد الله على هذا التأويل، مع أنّ عبد الله بن عباسٍ قد صرَّح بهذا المعنى عن نفسِه، في خبرٍ آخرَ وردَ من هذا الطريق، فروى معمرٌ عن الزُهريِّ عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن ابن عباس أنّ عبدَ الرحمن بن عَوفٍ رجعَ إلى منزله بمنى. قال ابن عباس: "وكنت أُقارىءُ رجلاً من المهاجرين، فكان عبدُ الرحمن ممن أقارىءُ، فوجدني عبد الرحمن بنُ عَوفٍ في منزله أنتظِرهُ في آخرِ حجَّةٍ حجها عمر، فقد صرَّح عبدُ الله بأنّه كان يُقارىءُ الصحابة، والرجلُ لا يقارىء إلا الحَفَظة، ولا يقارىءُ مَن لا يحفظ أو مَن هو دونَه، فوجبَ حَمْلُ الخبر على ما قلناه، على أنّ اختلافَ عبدِ الله إلى عبد الرحمن إلى منزله وانتظارَه له يدُلُّ على أنّه كان يقصِدُه ليتعلَّم القرآن منه ويُذاكِرَه به، لأنّ العادة لم تَجْرِ بقصد الملقِّن إلى المتعلِّم وانتظارِه إلا عادة الأجراء والمتكسِّبين بإقراء القرآن، والصحابةُ أجلّ قدرا من أن يُنسَب أحد منهم إلى ذلك، فإذا كان هذا هكذا سقطَ ما ظنه السائل. ومما يدُلّ أيضاً على تعظيمِ منزلةِ عبدِ الرحمن وشدّةِ تقدُّمه، وأنّه كان من المشهورين بحفظِ القرآن ومن أقرأ الناسِ وأكثرِهم قرآناً ما رواه الناسُ من تقدُّم عبد الرحمن بن عَوف رضيَ الله عنه للصّلاة بالناس وصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خلفَه، وذلك من المشهور المدوَّن في كتب فقهاء الأمصار. وقد روى عُروةُ بن المُغيرة عن المغيرة بن شُعبة أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 غزوة تبوك، قال: فبَرَزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ الغائط، فحملَ معه إداوة قبلَ الفجر، فلما رجعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذتُ أُهْرِيقُ على يده من الإدواة، وهو يغسلُ يدَيه ثلاثَ مرّات، ثمّ غَسَلَ وجهَه، ثم ذهب يَحسِرُ جُبّته عن ذراعيه، فضاق كِمامُ جُبّته، فأدخل يده في الجُبّة حتى أخرجَ ذراعَيه من أسفل الجُبّة، وغَسَلَ ذراعيه إلى المِرفق، ثم توضّأ ومسحَ على خُفّيه، ثم أقبل، قال المغيرةُ: ثم أقبلتُ معهُ حتى نجدَ الناسَ قدَّموا عبد الرحمن بن عَوف قد صلّى بهم، فأدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين وصلّى معه الناسُ الركعة الآخرة، فلما سلّم قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأتمَّ صلاتَه، فلما قضى صلاته أقبلَ على الناسِ يُعلِّمُهم، ثم قال: "أحسنتم "، يَغبِطُهم أن صلُّوا الصلاةَ لوقتها، قال المغيرة: وفي رواية أخرى: فأردتُ تأخير عبد الرحمن فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهم". ولولا أنّ عبدَ الرحمن كان أقرأَ أهل تلكَ الغَزاةِ وأشهرَهُم بذلك أو كان كأقرئهم وأكثرِهم قرآناً لم يُقدِّموه ويعدلوه عمّن هو أقرأ منه وأحقُّ بالتقديم، ولولا علمُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك لم يقرهم على ذلك، ولم يُخَلِّهم من التنبيه والتصريح على وجوب تَقدِمة غيره وأنّهم قد عدلوا عن الواجبِ أو الأفضل وهو يقول: "يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتابِ الله " و"أئمتكم شفعاؤُكم " و"أئمتكم خِيارُكم ". وفي تركِه لهم وقوله: "أحسنتم " أوضحُ دليل على فضلِ عبد الرحمن، وأنّه كان يومئذ من حملةِ القرآن، وأهلا للإمامة والتقدُّم بالناس، فإذا كان ذلك كذلك زالت هذه الشُّبهة، ووجبَ صحةُ ما قلناهُ من موجَبِ العادة والأخبار المتظاهرة التي قدَّمنا ذكرَها في حفظ أفاضل الصحابةِ والأماثل منهم لجميع كتابِ الله تعالى قبلَ موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن الأخبار المروية في نقيض ذلك محمولةٌ على ما ذكرناه وبيّنّاه مِن قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 (باب) (القولِ في بيانِ حكم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والناسِ والفلق، ودعاءِ القنوت وترتيبِ سُوَر القرآن ونظمِ آياتِه وعددِها والقولِ في أوَّلِ ما أنزل منه وآخره) فإن قالوا: جميعُ ما وصفتُم وأكدتُم القولَ فيه من ظهورِ أمرِ القرآنِ على عصرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعدَه، وكثرةِ حفّاظه والقائمين به، والمنقطعين إلى تحفظه وتبحُّره وظهورِ نقلِه وإذاعته، وكثرةِ فضائله وتوفُّر الهِمَمِ والدواعي على الإحاطةِ به، ومعرفة أحوالِه وأسبابِه وتنزيلِه وفاتحته وخاتمته إلى غير ذلك مما قلتموه: يقتضي لو كان الأمرُ في بابه على ما وصفتم علمَ جماعةِ الصحابةِ وكافّةِ الأمةِ بحكم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وهل هي آية من كتابِ الله تعالى في افتتاح كل سورةٍ أم لا، وهل هيَ آيةٌ من سورة الحمد أم لا، وهل هيَ إن كانت آيةً في افتتاح كل سورةٍ من جملة السُّوَرِ أو منفصلةً عنها وغيرَ داخلةٍ فيها، وهل كان يَجهرُ بها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أم لا، وقد علمتم أن كل هذا مختلَف فيه من حُكمها، فمِن مُثبتٍ له، ومن رادٍّ منكِر، وإذا كانت هذه حالَهم في البُعد عن العلم بحكمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كانوا عن تحصيلِ حكمِ غيرِها أبعدَ، وإلى التخليطِ فيه أقربَ، وهذا يمنع أشدَّ المنعِ من أن يكونَ أمرُ القرآنِ في الظهورِ والانتشارِ وقيامِ الحجةِ به على ما وصفتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وكذلك كل الذي وصفتم وأطنبتم فيه وأسهبتم يُوجِبُ لو كان على ما ادعيتم ظهورَ أمرِ المعوِّذتين، وهل هما من كتاب الله ال منزَل أم لا، وأن يرتفع اللبسُ والإشكالُ عن الصحابة في أمرِهما، وأن لا يخفى ذلك على عبد الله بن مسعودٍ حتى يُخرِجَه جَحدُهما إلى حكِّهما من مُصحفِه، وإلى أن يقول: "لا تُدخِلوا فيه ما ليسَ منه " وأن يقولَ إذا سُئلَ عنهما: "سألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "قيل لي قل، فقلتُ "، فنحنُ نقولُ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وكان يجبُ أيضاً أن لا يختلفَ ترتيبُ المصاحف وفواتِحِها إن كان قد وقفوا على ترتيبِ السُّوَرِ فيها، وقد رُوِيَ ذلك في اختلافٍ كثير سنذكر طَرَفاً منه عند القولِ في جمعِ أبي بكرٍ الصديق رضوانُ الله عليه للقرآن بينَ لوحَيْنِ، فواحدٌ يثبتُ فاتحةَ الكتابِ أوَّلهَ وآخَرُ يثبتُ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وآخرُ يثبتُ غير ذلك، ثم يخالفونَ أيضا بين ترتيبِ باقي السُّوَرِ، وكان يجبُ أن لا يختلفوا في عددِ آيِ القرآنِ ورؤوسِها، وقد ظَهَرَ من حالهم في ذلكَ ما لا خَفاءَ به. وكانَ يجبُ على كافَّتهم العلمُ بأوَّلِ شيءٍ أُنزلَ منه وآخِره وارتفاعُ تنازعِهِم في هذا الباب. وكل هذا يدُلُّ دلالةً قاطعةً على بطلانِ ادعائكم لظهورِ نقلِ القرآنِ وكثرةِ حفظته، وقيامِ الحُجّةِ على المكلَّفينَ بجمعيهِ، وأن بيانَ سائرِهِ وقعَ في الأصلِ شائِعا ذائعا على حالةٍ تقتضي تظاهُرَ نقلِه وإحاطةَ الأمّةِ بمعرفته. يقال لهم: ليسَ في شيءٍ مما ذكرتموه دليلٌ على فسادِ ما ادَّعَيناه، وبعض ما ذكرتُموه قد وقفوا عليه وظهرَ بينَهم وحصلَ عليهم به، وبعضُه مما لم يوقفوا عليه ولم تقُم الحُجةُ بِظُهُورِهِ، ولم تكن الحاجةُ إلى معرفتهِ كالحاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إلى معرفةِ نفسِ التلاوةِ ونظمِ آياتِ السُّوَرِ، ونحنُ نفصِّلُ كلَّ شيءٍ من ذلكَ ونكشِفُ عن حقيقةِ القولِ فيه إن شاءَ الله. وأما بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرَحيم فإنّها عندَنا ليست ثابتةً من فاتحة الكتاب ولا هيَ فاتحةُ كلِّ سورة، وإن كانت قرآناً في سورةِ النمل، وقد زعمَ قوئم من أهل العلم أنّها آية من فاتحةِ الكتاب، وقال آخرون: هيَ آيةٌ في فاتحة كل سورة، ووقَفَ آخرونَ مع اعتقادِ كونها قرآناً في أنها آية فاصلة مفردة أو من أولٍ كلِّ سورة، ونحنُ نبدأ بإبطالِ قولِ من زعَمَ أنّها كذلكَ مُنزلة، وذِكرِ ما تحملُه، ثم نُبيِّنُ ما نقولُه. وقد استدلَّ من يزعمُ أنه قرآنٌ منزل على ذلك باتفاقِ الصحابةِ في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو في زمنِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ عليهم السلامُ على القولِ بأن ذلكَ قرآن منزل، وأن جميعَ ما في المصحف مِن أوَّله إلى آخره كلام لله تعالى وَوَحْيُهُ ومنزَل من عنده، وأنهم قد وقَفُوا على ذلك وأخبروا به هذه الجملةَ مما لا شُبهةَ على أحدٍ في قولِ الجماعةِ بها. واتفاقِهم على نقلِها والإخبارِ بها. وليسَ لأحدٍ أن يقولَ إن هذا الإجماعَ منهم والنقلَ إنما وقَعَ على ما عدا بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ المرسومةِ في فواتِحِ السُّوَرِ، لأنّ ذلك مما لم يُوقفونا عليه ولا عُرِف من قصدِهِم ولا بِعَادةٍ وعُرْفِ مواضعةٍ بينَهم، كما أنه ليسَ لأحدٍ أن يدَّعيَ ذلكَ فيما عدا تبَّت أو الناس والفَلَق، فلما اتفقوا على أنَّ جميعَ ما انطوى عليه المصحفُ - الذي هو الإمامُ - كلامُ الله ووَحيُه بغيرِ اختلافٍ بينَهم: ثبتَ أن ذلك كلامُ الله وقرآنٌ منزل، وهذا مما لا خلافَ بينهم في اعتقادِ جُملتِه، وليس هذهِ حالَ الأمّة في جميعِ ما انطوت عليه المصاحفُ التي هي عن الإمام المجمَعِ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أن بِسمِ اللهِ الرحمن الرحيمِ آيةٌ وقراَنٌ منزلٌ في كل موضعٍ رُسِمَت فيه، لأنّ إطباقَ الأمةِ على ذلكَ قائم مقامَ توقيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصِّهِ على أنّ جميعَ ما في ذلكَ الإمامِ قرآن منزل وتلاوةٌ ونصُّ قرآنٍ بذلك، فكما أنّه لو وقفَ على ذلك وتلا به قراَناً يجبُ حملُه على ما عدا بِسمِ اللهِ الرحمن الرحيمِ مع معرفةِ قصده إلى التوقيف، على أن جميعَ ما فيه قراَنٌ منزل فكذلكَ سبيلُ توقيفِ الأمَّةِ على هذا البابِ. قالوا: وقد تظاهرت الأخبارُ بذلكَ عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ونقلَ أهلُ الآثار ِ أنّ النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمينَ إنما كانوا يعرفون انقضاءَ السورةِ والابتداءَ بغيرها إذا نزلت بِسمِ اللهِ الرحمن الرحيمِ، ولا يجوزُ أن يُقال: نزل في جُملةِ القرآن، ومع ذكره وبَواديه وخَواتِمه ما ليس بقرآن. قالوا: وقد روى عمرو بن دينار عن سعيدِ بن جبيرٍ عن ابن عباس: "إنّ جبريلَ عليه السلام كان إذا نزلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عرفَ أنها سورةٌ قد خُتِمَت واستقبل السورةَ الأخرى". وروى ابنُ جُرَيج عن ابن أبي مُلَيكةَ عن أمّ سلمة "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَعُدُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيةً فاصلة"، وروى ابنُ جُرَيجٍ وسفيانُ بن عُيَينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير قال: "ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف انقضاء السورة حتى تنزِلَ عليه بسم الله الرحمن الرحيم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وروى ابن جُرَيج عن عمرو بن دينارٍ عن ابن عباس قال: "كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فيعلمون أنّ السورة قد انقضَت ". وروى عطاء عن ابن عباس قال: "كنّا نتعلمُ القرآنَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يُعرَفُ فصلُ السورة حتى تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وكلُّ هذا يُنبئُ عن أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منزلةٌ عندَ فواتح السور، ولفظُ الأخبار توجبُه. قالوا: على أننا نعلمُ علما لا شك فيه أنه قد ادّعى كونَ بسم الله الرحمن الرحيم قرآنا منزلاً عند فواتح السُّور جماعةٌ من الصحابة، وأعلنوا ذلك وظهرَ عنهم وعُرِفَ القولُ به من دِينهم، فلم يُنكِر ذلك عليهم أحد ولا ردَّهُ ولا قال فيه قولاً يمكن ذكره وحكايتُه، وهذا أيضاً يدل على ظهور هذا القول بينَهم وتسويغه والرضا به والمصير إليه، لأنّه ليس مما يجوز أن يُقال إنَّ كل مجتهدٍ فيه مُصِيب أو إنَّ الإثم عن مُخطىء الحق فيه موضوع، لأنّه إدخال في القرآن ما ليسَ منه، وهو بمثابة إخراج بعضه منه، وليس ذلك كمسائل الأحكام، والقولِ في الحلال والحرام الموكول إلى الاجتهاد بالرأي عند عدم النصوص، فيُظَن تسويغُ إطلاقِه مع الخلاف فيه واحتمال الأمر. وقد تظاهرت الأخبارُ والرواياتُ عن عبد الله بن عباس "أنه كان يقولُ قولاً ظاهراً فيمن يتركُ افتتاح السُّوَر بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حتى ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الناسُ من كتاب الله تعالى آيةً وسرق الشيطان من إمام المسلمين آية، ومن تركَ أن يقرأ بهذه الآية فقد ترك آيةً من كتابِ الله عزَّ وجل ". وروى حَنْظلة وشَهْر بن حَوْشَب عن ابن عباس قال: "مَن ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أن يقرأ بها فقد ترك آيةً من كتاب الله ". وروى عمر بن قيس عن عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال: "تركَ الناسُ من كتابِ الله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وروى جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: "إتهم ليتركون من القرآن آيةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وروى عطية عن ابن عباس وغيره أيضاً عنه أنّه قال: "سرقَ الشيطانُ من إمام المسلمينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فهذه قصة ظاهرة عن ابن عباس وظاهر من قوله لا يُنكِرُ عليه أحد ولا يرُدُّه، ولا يقول له قد فرّقتنا بتركِ آية من كتاب الله، وما هذا نحوه، وكل ذلك ينبئ عن كونِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منزلة عندَ فواتح السور. ومما يدلُّ على علمِ الصحابة بأنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منزلة عندَ افتتاح كل سورة وأنّ التاركَ لقراءتها في درسه إنما يترك عندَ نفسه آية منزلة ليست من جُملة السور بل منفردةً عنها: اتفاقُ جميعِهم على إثباتِ بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاحِ كل سورة، وتركِهم لذلك في افتتاح سورةِ براءة. فلولا أنهم موقوفون على إثباتِها وكونها آية عند افتتاح كل سورة سوى سورة براءة لأثبتوها أيضاً في أولِ سورةِ براءة، لأنهم كانوا إنما فعلوا ذلك بالرأي والاستحسان على وجهِ الافتتاح للتلاوة بها، وجبَ لهذه العلةِ افتتاحُ براءة أيضاً بها، وفي عدولِهم دليل على أنها ليست بآية في ذلك الموضع وإن كانت آية منزلة في افتتاح كل سورة. قالوا: ومما يدل أيضاً على هذا القول ويؤكِّدُه ما ظهر وعُرِفَ من كراهة جماعةٍ من سَلَف الأمةِ الأفاضل النبل أن نثبتَ في المصحف شيئاً ليس منه. من ذكر اسمِ السورة وذكر خاتمتِها وأعشارها وغير ذلك من تزيين المصاحفِ بالذهب وإحداث أمرٍ فيه لم يكن مرسوما في مصحف الجماعة الذي هو الإمام، إلى أن أعظموا القولَ في ذلك، وقالوا إنه بدعة ممن فعله. وطلبت العِلَلُ والمعاذِيرُ لمن فعل ذلك بأخذه لحاجته إلى معرفة أسماء السور، ومواضع الأعشار منها، هذا مع ظهور الحال في ذكر أسماء السورةِ وخاتمتِها، وعددِ أعشارها وأخماسها، وأنه لا شبهةَ على أحدٍ في أنّ ذلك ليس بقرآن منزل، فكيف بهم في إثباتِ ما يلتبس ويُشكل، وقد شاع ذلك عنهم، فلو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من جُملةِ القرآن ولا مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أُمروا واتفقوا على رسمه وإثباته لظهر أيضًا اختلافُهم في ذلك وإنكارُه والخوضُ فيه ظهورا يجبُ لنا العلمُ به، فلما لم يكن ذلك كذلك صح هذا القولُ وثبت. فروى ليثٌ عن مجاهدٍ أنه كره التعشيرَ في المصحف، وروى أيضا ليثٌ عن مجاهدٍ أنه كان يكره أن يَكتُبَ في المصحف تَعشِيراَ أو تفصيلا وروى هشامُ بن الغاز عن مكحولٍ أنه كَرِهَ نقطَ المصاحف، وروى ابنُ جريجٍ عن عطاءٍ قال: "هذه بدعةٌ"، يعني ما يُكتَبُ عن كل سورة خاتمتها، وهيَ كذا وكذا آية، وروى أيضا عن عكرمةَ أنه قال: "هو بدعة". قالوا: فأمّا جِلةُ الصحابة فذلك أيضا مرويٌ عن كثيرٍ منهم، فروى إسرائيل عن عامر قال: "كتب رجلٌ مصحَفاً عندَ كل آيةٍ تفسيرُها، فدعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 به عُمرُ بن الخطاب رضوانُ الله عليه فقرَّضَه بالمقارِيض ". وروى يحيى بن وثاب عن مسروقٍ عن عبد الله أنه كره تَعشِيرَ المصاحف، وروى سَلَمةُ بن كُهَيل عن أبي الزَعْراء عن ابن مسعودٍ قال: "جرِّدوا القرآنَ " يقول: "لا تُعشَروه ". ورُوِيَ عن عبد الله أيضاً أنه رأى خَطا في مصحفٍ فحَكَهُ وقال: "لا تَخلِطُوا به غيرَه " وهذا أكثرُ مما يحصى جمعُه ويتَّسع. وكل هذه الأخبار تدل على اتفاق الأمة أن جميعَ ما في الإمام الذي كتبه عثمانُ قرآن منزَل مِن عندِ الله جل وعز، ولو كان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مكتوبا على وجهِ الفصل والخاتمة لوجبَ أيضا إنكارُ هؤلاء القومِ لذلك. لأنه ليس من جُملة ال منزَل، بل هو مثل ما أنكروه بعينه. ويُوضح ذلك أيضاً ويكشفه أن قوماً من التابعين ومَن بعدَهم من السلَف قد استجازوا كَتْبَ التَعشِير وخاتمةَ سورةِ كذا وعددَ آياتها كذا وكذا، فأنكرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ذلك عليهم مَن بَدَّعهم فيه، فلم يحتَجُّوا لصواب فعلِهم بكتابة عثمانَ بسم الله الرحمن الرحيم في فواتح السور، وأنه لم يكن من القرآن في شيء. ولو كانوا يعتقدون ذلك لسارعوا إلى الاحتجاج به، ولم يَجُزْ على سائرهم إغفال هذا الأمر الظاهر الناقض لقولِ من خالفهم وبَدَّعهم، فهذا أيضاً يَكشِفُ عن أن إثباتَ عثمانَ والجماعةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لم يكن على وجهِ الفصل والافتتاح، والعلامةُ تدل على أنه منزَلٌ من عند الله سبحانه. قالوا: فإن قال قائلٌ: كيف يسوغُ لكم أن تَدَّعوا أن أحداً لم يدفع أن تكونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيةً منزلةً عند كل سورة، وقد وردت الأخبارُ عن الحسن البصري بأنه أنكر ذلك، وقال لما سُئِلَ عنها: "صدورُ الرسائل "، وصحَّ عنه أنه كان لا يفتتح الجهر بها ويقول: "إنني رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمةَ من بعدِه لم يجهروا بها". يُقال لهم: ليس في هذه الرواية ما يدل على إنكار الحسن لكونها آيةً منزلةً في فواتح السور، وإنما فيها أنه كان يُنكِر أن تكونَ من الحمد ولا يعدها آيةً منها، ولا يرى الجهرَ بها، وكل ذلك لا يدل على أنها ليست بآيةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 منزَلة وإن لم تكن من الحمد ولا من جُملة غيرِها سوى النمل، ونحن لا نعتقدُ أنها آية من الحمد ولا نرى افتتاحَها بها ولا يتبين بهذا القدرِ فقط أنها ليست بآية من كتابِ الله منزلةٍ في فواتح السُّوَر، وعلى هذا خَلْقٌ من أهل العلم جِلّةٍ أماثل. وقوله: "صدورُ الرسائل " ليس فيه أنها ليست بآيةٍ منزَلة، لأنها قد تكون آيةً وإن صُدِّرَت بها الرسائل، وقد تُصدَّرُ بها أيضاً السُّوَرُ وتُفتَتَح وإن صُدِّرَت بها الرسائل، وقد كان المسلمون يصدِّرون (باسمِكَ اللهمّ) حتى أُنزلَت: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) . فصَدَّر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وقد يجوز أيضاً أن يكونَ الحسنُ ممن اعتقد أنه تُصدَّرُ بها الكتبُ والرسائل، وأنه يجب أن تُصدر بها السور، ويُستفتَحَ بها في الكتابة، كما كان يفعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكما اتفقَ عليه المسلمون مِن بعدِه وإن لم يجب أن يُفتَتَحَ بها في القراءة. وكل ذلك إذا أمكنَ لم يكن في قول الحسن هذا نُطقٌ بإنكار كونها آيةً منزلةً. قالوا: فأما ما رُوِيَ أيضاً عن الحسن من أنه قال: "يُكتَب في أول الإمام، واجعلوا بين كل سورتين خطّا"، فإنه خبرٌ باطل، لأن فاعلَ ذلك والآمرَ به مخالِفٌ لسُنةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وما قد اتفقوا عليه، لأنّ الحسَنَ وكل أحدٍ من أهل عصره يعلم علماً لا شُبهةَ عليه فيه أن الأمةَ كانت تكتُبَ ذلك، ولم يكن مِن رأيه مخالفةُ فعلِ الأمة، وكيف يصنع ذلك وهو يحتَجُّ لترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بتركِ الأئمةِ لذلك، والأئمةُ بأسرها قد أثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بين كل سورتين، ولو صحت هذه الرواية لوجبَ حملُها على وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أحدُهما: أنه يمكن أن يكون بلغه أن قائلاً قال: إنها من كل سورة، أو ظن ذلك كما يقول هذا ويظنه بعضُ أهل عصرنا فقال: "يجعل بين كل سورتين خطّاً" لزوال هذه الشبهة، وإن كان السلف قد كتبوها غيرَ أنه لم يدخل عليهم في ذلك شُبهة، والآن فقد تغيّرت الحال. - ويمكن أيضاً أن يكون الحسن قد اعتقدَ أنه لا يجبُ أن تكتَبَ في فواتح السور إذا دُوِّنت واتصلت الكتابةُ مما لا يجب أن يُقرأ إذا اتصلت قراءةُ السُّوَر، وهذا لا ينبني عن أنه يعتقد أنها ليست بآيةٍ منفردةٍ منزَلةٍ عندَ افتتاح كل سورة وإن لم يكن منها، ولم يجب على كاتبِ القرآنِ وتالِيه وخاتمه أن يكتبَها ويتولها. قالوا: فإن قال القائل: فخبرونا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أهيَ عندكم آيةٌ من الحمد أم لا؟ قيل له: لسنا نعلم أنها آية من الحمد أم لا، كما لا نعلم أنها آيةٌ من غيرها أم لا وإن كنّا نعلم أنّها آية مفتَتَحة بها، لأنه ليس معنا توقيف على ذلك يوجب العلمَ ولا توقيفٌ على أنها ليست منها، وليس فيما يتعلّق به مَنْ زعم أنها آية من الحمد لأجل أنّ الحمدَ سبعُ آيات، وبسم الله الرحمن الرحيم مُشبِهةٌ لآياتها وما بعدَها في العدد والطول، فإذا اتُّفِقَ على أنّ الحمدَ سبعُ آياتٍ ولم تُعَدَّ بسمِ الله الرحمن الرحيم آيةً منها وجبَ على مسقِطِها أن يعُدَّ مكانَها (أَنعَمتَ عَلهِيم) آيةً، وليست مُشبِهةً لآيات الحمد، أو يَعُدُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مكانَها (إِياكَ نَعبُدُ) آيةً منها كما رُوِيَ عن الحسن البصري، و (إِيَّاكَ نَعبُدُ) لا تُشاكل أيضاً مثيلاتِها من آيات الحمد، فوجب إذ ذاك عدُّ بسم الله الرحمن الرحيم آية منها وجعلُها من جُملتها. فهذا عندَنا مما لا شُبهةَ فيه ولا تعلقَ لأحدٍ لأجلِ الاتفاق على أنه لا يجب أن تكونَ آياتُ السورة كلها متساويةً متشابهة، لأن أهلَ البصرة قد عَدوا (لذًةِ لِلَشَّارِبِينَ) آية من سورة الصافّات وفي سورة محمد صلى الله عليه، وليست مُشبِهةً لآياتها، وعَدُّوا في لم يكن (مخلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ) آية وليست مشاكِلة لما قبلَها ولا لما بعدَها، وعدَّ الناسُ جميعاً (إِذَاجَاَءَ نَصرُ اللهِ وَاَلفَتْحُ) آيةً وهي لا تُشبِهُ ما بعدَها، وعدَّ أهلُ الكوفة في سورة طه (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيتهُم ضلُّوَا) آيةً وهي غيرُ مُشبِهةٍ لشيءٍ من آياتِ طه، وعدُّوا في بني إسرائيل (يَخِرونَ لِلأَدقاَنِ سُجَّدَا) آيةً وليست كآياتها، ولو"تُتبعَ ذلك لكَثُر، وإذا كان ذلك كذلك بطلَت هذه الشُبهة. والصحيح عندَنا أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست بآية من الحمد ولا من غيرها سوى سورة النمل فإنَّها قرآن من جُملتها، لأنّه قد ثبت وصحَّ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الجهرَ بها وإن كان قد رُوِيَ أنه ربّما جَهرَ بها وأن الأئمةَ بعده تركوا الجهرَ بها، وقد ثبت وجوبُ الجهرِ بجميع سورة الحمد في صلاة الجهر وموضِعِه، فلو كانت آيةً من الحمد لوجبَ الجهرُ بها كوجوبه في سائرِ آياتِها، لأنه لا وجهَ للجهرِ ببعض السورة في موضع الجهر وترك الجهرِ ببعضها، ولا مثلَ لذلك في الشرع ولا نظير، فهذا يدلُّ على أنّها ما تُستَفتَحُ بها السور، وأنّه لا يجبُ تقديمُها أمامَها، ولا اعتقادُ كونها أنها من جُملتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ومما يدل أيضاً على أنّها ليست بآيةٍ من الحمد اتفاقُ الكل من الأئمة والقُرّاء على أنها ليست بآيةٍ من غير الحمد وإن كانت مرسومةً في افتتاحها. لأنه لا خلافَ بينَهم في ترك عدِّها مع آياتِ كل سورةٍ وإن اختلفوا في عدِّها آيةً من الحمد، فيجبُ حملُها مع الجهر على وجهِ حملِها مع غيرها من السُّوَر في أنّها ليست من جُملتها. غيرَ أنّ القائلَ بأنّها من جُملة الحمد أعذَرُ ممّن قال: هيَ منها ومن كل سورة، لارتفاع الخلاف في أحد الموضعَين، وعلى أنّه ليس ببعيدٍ أن يجعلَ الله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيةً من الحمد وبعضاً لها، ولا يجعلَها بعضاً لغيرها بل آيةً مفردةً منها تُفتَتَحُ السُّوَرُ بها أو كلاماً ليس بقرآنٍ يُندَبُ إلى افتتاح سُورِ القرآن بها، ولكنّا سنذكرُ بعدُ ما يدلُّ قطعاً على أنّها ليست من الحمدِ ولا من غيرِها. قال الزاعمون إنّها آية فاصلة بين السور، وأننا لا ندري أنّها من الحمد أو لا. إن قال قائل: خبِّرونا عمّن قرأ جميع القرآن وأسقط تلاوةَ بسم الله الرحمن الرحيم من أوّلها أهوَ عندَكم خاتم للقرآن، كما أنّ قارئها في افتتاح كل سورةٍ خاتم للقرآن؟ قيل له: أجل، وقد جعل الله تعالى ختمَ القرآن على وجهين: أحدُهما ختمُ سائر سُوَرِه مع إسقاط بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وختم له مع تلاوةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كلاهما ختمٌ للقرآن. قالوا: فإن قال: كيف يكون مسقِطُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خاتماً لجميع القرآن وقد أسقط عندَكم منه كلاماً كثيراً وحروفاً كثيرة؟ قيل له: لأجل أنّ الله سبحانه ورسوله والمسلمين جعلوا فاعل ذلك خاتماً للقرآن، يُرادُ بذلك لجميع سُوَر القرآن وإن أفردَ منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 لأنها ليست من جُملتها، وإن كان قارئُ جميع السور مع بسم الله الرحمن الرحيم قد ختمَ جميعَ السُّور وضمَّ إليها قرآنا ليس منها، ولو كان مُسقِطُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ غيرَ خاتمٍ للقرآن لأنه قرأ ما هو أقل عددَ حروفٍ من عددِ الحروفِ التي قرأها تالي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لوجبَ أن يكون قارئُ جميع سُورِ القرآن مع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ غير خاتمٍ للقرآن إذا قرأه على غير قراءةِ أهل مكة، بل بإسقاط واو الجمع وحذفه في قوله عليهِمُوا وعليكُمُوا وهُمُوا وأنتُمُوا وإليكُمُوا، وما أشبهَ ذلك في جميع سُوَر القرآن: غيرَ خاتمٍ القرآنَ، لأنه تركَ ما قد اتفِقَ على أنه أصلُ الكلام وتحقيقُ لفظِه، وقد تَرَكَ بتركِ ذلك حروفا لا تُحصى كثرةً، وقارئُ القرآنِ بحرفِ أهل مكةَ قد أتى بذلك أجمع. ولقا لم يجب ذلك وكانت الأمةُ متفقةً على أن قارئَ القرآن على الوجهين خاتمٌ له لأنّ الله جلَّ ذكرُه جعلَ التلاوتَين ختما لكتابه، كذلك حكمُ خاتمِ القرآن بإسقاط بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلا في سورة النمل، وخاتمُه مع تلاوة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فواتح سوره إلا (بَرَاءةٌ منَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وحدها، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قالوه. قالوا: فإن قال: أفترون مع قطعِكم على أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيةٌ منزَلةٌ فاصلةٌ بين السور أنّ ثوابَ خاتمِ جميعِ القرآن مع إسقاطه تلاوةَ بسم الله الرحمن الرحيم كثواب خاتم مع تلاوتها والافتتاح بها؟ قيل له: كثرة الثواب وقِلَّتُه مما لا تعلُّقَ له في هذا الكتاب، ولو قلنا: إنّ ثوابَ خاتمِه مع الافتتاح ببسم الله الرحمن الرحيم أكثرُ من ثواب خاتمه مع إسقاطِها لم يدلَّ ذلك على أن من قل ثوابُه ليس بخاتمِ للقرآن، لأنّه قد يكون له ختمتان، ثوابُ أحدهما أكثرُ من ثواب الأخرى، على أنّ هذا مما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 سبيلَ أيضاً إلى علمه، كما أنّه لا سبيلَ لنا إلى أنّ خاتمَ القرآن بحرف أهل مكةَ والنطق بواو الجمع أكثرُ ثواباً من مُسقِط هذا الواو، وإن تيقّنا أنّ عددَ حروف إحدى الختمتين أكثرُ من عدد الأخرى بشيءٍ كثير، لأجل أنّ الاجتهادَ إذا أدى إلى أنّ حذفَ هذا الحرف - الواو - أولى وأخفُّ على القلب واللسان وألطف موقعاً في قلوب سامعي القراءة، أو أدعى لهم إلى التعلم والإصغاء كان ذلك بمنزلةِ من أدّاهُ اجتهادُه إلى أنّ إثباتَها أولى. والنطقَ بها لأجلِ وجوهٍ أُخَرَ، ولأنّها الأصلُ في الكلام، وغير ذلك. فكذلك من أدّاه اجتهادُه إلى إسقاطِ قراءةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عند افتتاح كل سورةٍ يُريد وصلَها بغيرِها التي بعدَها لأجل ما يقصده من تذليلِ لسانه ورياضةِ نفسه واقتداره على وصل آخر السورة بابتداء غيرِها لمعرفة حكم الابتداء والإعراب في ذلك، مع اعتقاده فيه الوقفَ عندَ فراغه من آخر السورة، وإتْباعها فيه الوصلَ لافتتاح ما بعدَها، ولِيَعرِفَ كيف يفعل ذلك، وكيف كلامُ أهل العلم واللغة فيه، فإنّ هذا الجمعَ اجتهاد وتوصُّل إلى علمٍ نافعٍ وتدربٌ بهذا القرآن والتبسُّطِ في تلاوته وحُسنِ الإفصاح به. فما يُمكننا مع قصدِ مُسقِط الافتتاح بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من ختمته إلى ما ذكرناه أن نعلمَ أنّ ثوابه أقلُّ من ثواب المفتَتحِ بما في مبادىء السور في ختمته. وربّما كان أيضاً ثوابُ الخاتمين مع تلاوةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أكثر من ثوابِ الآخر لِمَا تُقارِبُ ختمته من الخُنُوعِ والخشوع والاتّعاظ والإخلاص وصدق العمل، وربّما كان ثوابُ الختمة الواحدة أكثرَ من ثواب الختمات الكثيرةِ إذا توافرت مثلُ هذه الأسباب، وربّما كان ثوابُ قراءة الآية وأقل أو السورة الواحدة أكثر من ثواب الختمة إذا قادت الآية ُإلى الإخلاص وصدقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 النيّة، وارتفاع الشَّوبِ والقصدِ إلى القربة، ما لم يقارف الختمة، وإذا كان ذلك بطل هذا السؤال، وزال عن القوم ما ظنوه. واعلموا وفّقكم الله أن الذي نختاره ونذهب إليه أنّ بسم الله الرحمن الرحيم ليست بآيةٍ من الحمد، ولا من سورةٍ سوى النمل، فإنها قرآن من جُملتها، وأنّ القطعَ بذلك واجبٌ، وأنّه لا حجّةَ في شيءٍ مما قدَّمناه عن القوم قاطعة على أنّها آيةٌ من القرآن مفرَدة فاصلةٌ بين السورتين، ولا على أنّها من جملةِ كل سورة. والدليلُ على ذلك أنّنا نحنُ وجميعُ مَن خالفَنا في هذا الباب مِمّن يعرف أصولَه وطريقَ نقل القرآن وكيفيةَ بيانِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له وتلقِّيه عنه: متَّفقون على أنه قد ثبتَ أنّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بيَّن جمعَ القرآن بياناً واحداً على وجهٍ تقومُ به الحجّةُ وينقطعُ العذر، وأنّه لم يبين بعضَه بياناً ظاهراً معلناً تقوم به الحجّة، وبيَّن بعضَه بياناً خفيّاً مُوعِزاً إلى الواحد والاثنين ومَن لا تقومُ الحجّةُ بإخباره عنه لِمَا سَمِعَه منه - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وأنّ هذه العادةَ في بيانِ جميعِ القرآن كانت عادةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه لو كان ذلك كذلك لوجبَ في مستقِرِّ العادةِ وطريقةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيانِ القرآنِ وترتيبه وما يجبُ فيه وتضييقِ تركه وتحريمِ الجهلِ به وأن يكون قد بيَّن ذلك للأمة بياناً تقوم به الحجة، وأن يعرِّفَها هذين الوجهين اللذَين لكل واحدٍ منهما إذا قُرِئت السورةُ عليه خاتمة مخصوصة، ويكشفَ لهم عن ذلك كما عرفه ابنُ مسعود، ويوضحَه لهم الإيضاحَ الذي إذا شكَّ فيه ابنُ مسعودٍ ووَهِمَ لم يشكَّ غيره، ولم تجرِ العادةُ بتوافي هِمَمِ جميعِ من بيَّن ذلك له على إهماله أو السهو عنه والشكِّ فيه، وأنْ لا يُلقِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ذلك إلى ابن مسعودٍ وحدَه إلقاءً خاصا لا تقومُ الحجةُ به ولا يعرفه مِن دينه غيرُ عبدِ الله وحدَه، لأنه لم تكن هذه عادتَه صلى الله عليه في بلاع القرآن. ولو جازَ ذلك عليه لجازَ أن يُبين بعضَ الحروف السبعة وبعضَ ترتيبِ السُّور لعبد الله بن مسعودٍ وحدَه، ولا يُوقِفَ عليه غيرَه، ولو أمكنَ ذلك لأمكنَ أيضا وجاز أن يُتينَ بعض القرآن الذي كان أُنزِلَ عليه ويبلغه إلى ابن مسعودٍ وحدَه دونَ غيرِه، فإذا كان هذا باطلاً مِن قولنا جميعاً وجب أحدُ أمرين: - إما أن يكون هذا الخبرُ ضعيفاً مدخولاً لم تقم به الحجّة عن عبد الله. - أو يكون ثابتاً، ويكون ذلك مما كان مباحاً أن يَختِمَ السورةَ بخاتمتين على التخيير بغير اشتراطِ وجهين من القراءة ثم نُسخ ذلك وذهبَ عن عبد الله، أو يكون مما كان مباحاً ومشروطاً أن تُقرأ السورةُ على وجهين، لكل وجهٍ فيهما خاتمةٌ مخصوصة، فنُسِخَ أحدُ الوجهين ونُسخت خاتمتُه وبقيَ الوجهُ الآخر وبقيَ أيضا خاتمته، وذهبَ ذلك على عبدِ الله وعرفَتْهُ الأمَّة. فإما أن يكونَ باقياً ثابتاً ولا تعرفه الأمَّة ولا تقف عليه الأمّة، ولا تقف عليه من دين الرسول إلا عبدُ الله وحدَه، فإئه باطلٌ بعيدٌ لما بيناه مِن قبلُ، فيسقط بما وصفناه من تعلقهم بهذه القصة. فإن قالوا: أفليسَ قد روى ابنُ جُرَيج عن عطاءٍ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بأبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - وهو يُخافِتُ في قراءته، ومر بعمرَ - رضي الله عنه - وهو يجهر، وببلالٍ وهو يقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة، فقال: "كل ذلك حسن " أو نحوَه من الكلام، وهذا إقرارٌ منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لبلالِ على جوازِ خلطِ السُّور وإدخال بعضِها في بعض، كما أنه إقرارٌ على المخافتة والجهر. يقال لهم: قد روى أبو عُبَيدِ عن الحجّاج عن اللّيث بن سعد عن عمرَ مولى غُفْرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه مرَّ بأبي بكر وهو يُخافت، ومر بعمرَ وهو يجهر، ومرَّ ببلالِ وهو يقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة، فقال لأبي بكر: مررتُ بكَ وأنتَ تخافت، فقال: إنّي أَسمعتُ من ناجَيتُ، فقال: ارفع شيئا، وقال لعمرَ: مررتُ بك وأنتَ تجهر، فقال: أطردُ الشيطانَ وأُوقِظُ الوَسْنان، فقال: اخفِض شيئا، قال لبلال: مررتُ بك وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة فقال: أخلطُ الطيبَ بالطيِّب، فقال: إذا قرأتَ السورةَ فأنفذها"، يعني - صلى الله عليه وسلم - اقرأها على وجهها إلى آخرها، لا معنى لإنفاذها ها هنا إلا هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فهذا أمرٌ منه لبلالٍ ولكل قارئٍ لسورةٍ بأن ينفِذَها ويقرأها على وجهها. وهذه الروايةُ أظهرُ وأشهرُ من الرواية التي ذكروا فيها أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل ذلك حسن "، فوجبَ العملُ على التفضيل والتفسير الذي وردت به الرواية الزائدة. وقد يجوز أن يكونَ أراد بقوله: "كل ذلك حسن " لصنع أبي بكرٍ وعمرَ فقط من الجهر والمخافتة، وواجههما بذلك لمّا أقبلَ عليهما، ولم يسمع الراوي تمامَ كلامه لبلالٍ فادرجَ القصةَ ولم يفصِّل من غير اعتمادٍ لتحريفٍ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطعن، يتعلَّق قومٌ مِن بعده بهذا في جواز خَلْطِ السور بعضِها ببعض، وبعضِ ترتيبِها، ومخالفةِ تاليها فلا تعلقَ لهم في لفظ خبرهم - لو ثبتَ - مع جواز ما قلناه، وقد رَوَينا من قبلُ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلالٍ عند ذلك: "اقرأ السورةَ على نحوها". وقد رُوِيَ: "على وجهها"، وروى ذلك سعيدُ بن المسيِّب عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان ذلك كذلك بطلَ تعلّقُهم بهذه القصة. فإن قالوا، أفليس قد روي أن علياً عليه السلامُ كان يقرأ سورةَ الأنبياء فأسقطَ آيةً، ثم قرأ بعدَها ثم رجعَ إليها فقرأها ثم عاد إلى الموضع الذي كان بلغ إليه، وهذا فعلٌ منه يدلُّ على جوازِ تقديمِ بعضِ آياتِ السورة على بعضٍ ومخالفةِ تأليفها، ولولا أنّ ذلك عنده كذلك لم يستجز بعد أن رجع إلى ما أسقطه وقرأه أن يتبعه من الموضع الذي بلغ إليه، وإنّما كان أن يتبعه بما يليه حتى يكونَ جميعُ ما قرأه إلى حيثُ بلغ، ويَصِلَه بما بعدَه. يقال لهم: ليس في الأمَّة ممن روى هذا الحديثَ ومِن غيرِ روايةِ ابن عمرَ أنّ عليا عليه السلام اعتمدَ ذلك وقصدَه، بل كان من صحَّح هذه الرواية عن ابن عمرَ أنّه فعل ذلك على طريق العُذر ووجه السهو، وأنّه لم يكن من دينه خلطُ آياتِ السور بعضها ببعض، ونقصها، ومخالفة ترتيبها وإفساد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 تأليفها، لأنّ ذلك فسادٌ وتخليط، وعائدٌ بدخولِ الخَلَلِ والفَبس وقِلَّةِ الضبط لكتابِ الله تعالى، والذهابِ ببهائه وبَهجته، وقد يسوغُ من هذا الباب على وجه السهو والنسيان ما لا يجوزُ مع الذِّكر والاعتماد، كما يجوز التفرقةُ بين حكم الأفعالِ الواقعة على وجه السهو والنسيان والأفعالِ الواقعة على وجه العمد والقصد في الصلاة، وكثيرٌ من أحكام الشرع في باب سقوط الإثم في آخر الفعل إذا وقع على وجه السهو، وإفساده إذا وقع على وجه العمد. وقد استقَرَّ مِن عمل الأمّة ودينها جوازُ مثل فِعل علي عليه السلام إذا وقع لعذرٍ وعلى وجه السهو، وعلى حَظْره ومنعه إذا وقع على وجه القصد والعهد، والحكمُ بأنّه إفساد لنظم القرآن، ونقضٌ لتأليفه، ومخالفةٌ لسنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح مِن بعده، فلا وجهَ للجمع بين الأمرَين أو حمل ذلك الفعل من على عليه السلامُ على أنّه قصده واعتمده، وقد يجوز أن يكون الله سبحانه إنّما أباحَ ذلك في حال السَّهو وعُذرِ فاعله، " لأجل علمه سبحانه بأن أحداً لا يكاد يسلَم من السهو والإغفال، وأنهم لمَّا كُلّفوا متى سَهَوْا عن آيةٍ أن لا يقرؤوا ما بعدَها حتى يذكروها لمِنُعُوا بذلك من الدرس، واكتسابِ عظيمِ الأجر وتهذيبِ الحفظ، ولو كُلِّفوا إذا ذكروا الآيةَ التي أسقطوها في الخمس الأول من البقرة بقُربِ آيةِ الدَّين أن يرجعوا فيقرؤوها ثم يعيدوا جميعَها ما كانوا قرؤوا بعدَها إلى حيثُ بلغوا: لعاد ذلك بتغليظِ المشقّة عليهم والسآمةِ منهم والضجر والمَلال بما كُلِّفوا، وشِدّةِ الاستثقال لما أُلزِمُوا، وقلة الحرصِ عليه والقيامِ به، والله تعالى أعلمُ بتدبير خَلْقِه ومصالح عبادِه ووجوه الألطاف فيما تعبَّدَهم به، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ تعلُّقُهم بهذا الخبر إن صح، ولزمَ قلوبَنا العلمُ بثبوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فإن قال قائل: فهل يجوزُ مثلُ هذا إن نال الإنسان أو لَحِقَه في سورة الحمد؟ قيل لهم: أما مَن قال إنَّ قراءةَ الحمد على ترتيبها ركنٌ من أركان الصلاة أو فرضٌ من فروضها فإنّه لا يجوز ذلك ولا يقيم به العذر، كما أنّه لا يُجِيزُ الصلاةَ مع ترك الإحرام والركوع والسجود ولكلٍ فرض فيها وإن وقع على وجه السهو، وأمّا مَن لم يقل من العلماء إن قراءةَ الحمدِ من فرائض الصلاة فإنه يُجِيزُه ويجعل الصلاةَ صحيحةً، وليس الكلامُ في هذا مما نحن فيه من جواز نقص آياتِ السور، ومخالفةِ ترتيبها مع القصد والذكر في الصلاة وغيرها فكُنَّا نُغرِق فيه، وهذه جملة كاشفة عن صحَّة ما قلناه مع ثبوتِ النصوص والإجماع على وجوب ترتيبِ آياتِ السُّور وقراءتها على وجهها، وأنّ ذلك لم يكن عن رأيٍ واجتهادٍ من الأمَّة، وإن كان تأليفُ السور وتصنيفُها ممّا لا نصَّ فيه ولا توقيفَ عندَها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 (باب) ذكرِ اختلافِهم في عددِ الآي وتقديرِها ومعنى وصفِها بأنها آية فإن قالوا: كيف سُوع لكم أن تدَّعوا ظهورَ نقلِ القرآن وإذاعةَ الرسول لشأنه وإشاعته وإقامةَ الحجَّة على المكلَّفين به ونحن نجدُهم يختلفون في قدر الآية، فيَعُدُّ بعضُهم قدراً من الكلام آيةً ويُنكر ذلك غيرُه، ويَعُدُّ بعضُهم السورةَ مائةَ آيةٍ مثلاً ويعُدُّها غيرُه أكثرَ من ذلك وأقل، وما ذكرتموه من ظهورِ توقيفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - على بيانِ القرآنْ وكشفِ ترتيبه وتأليفه وأحكامه الواجبةِ له في حفظه وتلاوته، وإحصاءِ آياته، فوجبَ علمُ جميعِهم بذلك، وارتفاعُ النزاعِ بينَهم فيه. يقال لهم: ليس فما وصفتموه قدح فيما قلنا ولا توهين لما ادعيناه وبيناه، وذلك أننا إنما ادَّعَينا وجوبَ ظهورِ نقلِ ما فَرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمّة حفظَه وحَظَرَ عليهم الذهابَ عنه، وألزمه الله تعالى إشاعتَه وإذاعتَه، لتقومَ الحجَّة ُ به، وعُرِفَت عادتُه عليه السلامُ من إظهارِ البيان وشدَّة القصد، والإيثار له للكشف والإعلانِ به، وإذا كان ذلك كذلك وكنا لا نقولُ إن من هذا الباب عددَ آياتِ سُوَر القرآن وقدرَ ما هو آية من الكلام، بل نقول: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَحُدَّ في عددِ آياتِ السُّوَر حدًّا، ولا وقفهم عليه في ذلك على شيء، ولا كان هو - صلى الله عليه وسلم - يَعُدُّ ذلك وإن جاز أن يكونوا هم قد كانوا يعُدُّون في عصره وعندَ القراءة عليه لأنفسهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فلا يُنكِرُ ذلك عليهم، بل يُخَلِّيهم وما عدُّوا إذا لم ينقصوا من السورةِ ولم يزيدوا فيها شيئاً، ولا غيَّروا من تأليفِ آياتِها أمراً، ولا قدَّموا مؤخراً، ولا أخَّروا مقدَّماً، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزمنا شي مما قلتم، لأنه لا نص من الرسول على عددِ الآي ومقاديرِها. فإن قالوا: وما الدليلُ على ذلك؟ قيل لهم: من الأدلّة عليه علمُنا بأنّه لو كان صلى الله عليه قد نصَّ لهم على عددِ الآياتِ وقدرِ الكلام الذي يكون آيةً، ومواضعِ الفصولِ من السور، وضيَّقَ عليهم معرفةَ ذلك وجَعَلَه من فرائضِ دينهم، وحدَّ لهم فيه حَدّاً أخذهم به وحدَهُ ومنعَهم من تجاوزه أوجبَ أن يكونَ بيانُه لذلك كبيانِه لتأليفِ آياتِ كل سورة، وكبيانه للقرآنِ نفسِه، ولوجبَ في مستقِرِّ العادة ظهورُ ذلك عنه، وتوفُّر الدواعي والهِمَمِ على ضبطِه وذكره وحراسته وتقييدِه، كما وجبَ عليهم بتأليفِ آياتِ كلِّ سورة، وبالقرآنِ نفسِه. ولارتفَعَ الخلافُ عليهم في ذلك والنزاع، ولمَّا لم يظهر ذلك ولم نجد أنفسَنا عالمةً بهذه الجُملةِ من توقيفِ الرسولِ ودينه كما نجدُها عالمةً بتوقيفه على نزول جميعِ القرآن من عند ربِّه، وعلى تأليفِ آياتِ السور وكلماتِها: علمنا أنه لا نصَّ كان منه على هذا الباب، ولا قولَ ظهرَ منه في ذلك ولا أمرَ يجب حفظُه وإذاعتُه، ولزم القلوبَ العلمُ به. ومما يقوِّي ذلك ويَشهدُ له أن ثبتَ أنّه قد وردت بهذه الرواية، فروى يحيى بن سعيدٍ الأموي عن الأعمش عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 عاصمٍ عن زِرِّ بن حُبَيشٍ عن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: "تمارَينا في سورةٍ من القرآن، فقال بعضُنا خمسٌ وثلاثون، وقال بعضُنا سث وثلاثون، فأتَينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيَّر لونُه، وأسرَّ إلى عليّ عليه السلامُ شيئاً، فسألنا عليّاً: ما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن الله يأمرُكم أن تقرؤوا القرآنَ كما عُلمتُموه ". وهذا الخبرُ يدل على أنّه لم يأمرهم بعَدِّ الآي بل نهاهم عنه إذ ذاك، أو أطلقَه لهم ووكله إلى آرائهم وما يؤديهم الاجتهادُ إلى أنّه فصلٌ وموضعُ آخرِ الآية، ليستعينوا بذلك على الحفظ ويقيِّدوه، ويدلُّ أيضاً على أنّهم كانوا يعُدُّون عدّاَ مختلفا. فإن قالوا: فهل تقطعون بهذا الخبر على أنّ القومَ كانوا يعُدُّون في زمن الرسول صلى الله عليه أم لا؟ قيل لهم: لا لأنه من أخبار الآحاد التي لا تُوجِبُ علما. فإن قيل: أفتُجوِّزون أن يكونوا قد كانوا يعُدُّون إذ ذاك؟ قيل لهم: يجوز ذلك. فإن قيل: فهل تجوِّزون أن يكونَ عددُهم لآياتِ السور وقدر الآياتِ متفِقاً أو أن يكون ذاك مختلفا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قيل لهم: أجل، يجوز أن يكونوا قد عدُّوه في عصره صلى الله عليه عددا متفِقاً غيرَ مختلف، غيرَ أنّهم عدُّوا ذلك لأنفسِهم استعانةً به على تقييد الحفظِ وضبط السور من غير أن يَنُصَّ لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فلذلك لم ينقل عنه شيءٌ في هذا الباب، فلما انقرض ذلك العصر ولم يُنقل ذلك العددُ عنهم لأنّه لم يكن من فرائضِ دينهم ولا مما نصَّ لهم الرسول عليه وأحْدَّهم به: ذهب على من بعدَهم العددُ الذي كانوا اتفقوا عليه في زمن الرسول، والناسُ من بعدهم يعُدُّون ذلك لأنفسِهم، وبحسب ما أدّاهم الاجتهادُ إليه. ويجوز أيضاً أن يكونوا قد عدَّوا على عصر الرسول وعندَ القراءةِ عليه عدّاً مختلفاً، وعرضوه على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعرَفَ اختلافَهم فيه، وأقرَّهم على جميعِه، وسنح لكل واحدٍ منهم العملَ بما غلبَ على ظنه، إذا عَلِمَ أنّه يقصد بذلك تقييدَ حفظِه وضبطَه، والاستعانةَ عليه، ولم يكن الله سبحانه قد أمره بتوقيفهم على حذً محدودٍ وشيءٍ معلومٍ في ذلك ولا ألزمَهم إيَّاه، فما ندري أنّه كان ذلك كذلك، فكيف كان حقيقةُ هذا الأمر منهم على زمن الرسول. وقد يجوزُ أيضاً أن لا يكونوا تشاغلوا بعدد متفَقٍ ولا مختلَفٍ في زمن الرسول، بل أقبلوا على حفظ القرآن فقط على سياق آياتِ سُوَره وتعرُّفِ أحكامه وحلاله وحرامه، ورأوا أن التشاغلَ بعدد الآي ومواضعِ الفُصُول من السور شاغلٌ لهم عن حفظ القرآنِ نفسِه وتعلمِ ما يُحتاجُ إلى العلمِ به من أحكامِه، ويكونُ حالُهم في ذلك حال خَلْقٍ من حُفّاظ القرآن في هذا الوقت، الذين يحفظونه ويتقِنُونه ولا يشتغلون بوضعِ عددٍ لآياته من عند أنفسِهم وعلاماتٍ لهم على مواضع الفصول، ولا يتعرَّف ما قاله غيرُهم في العدد لاعتقادِهم العناءَ به والاشتغالَ بما هو أهمُّ وأمسّ، من علمِ تأويله وأحكامِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ومعانيه وغيرِ ذلك من فروضِ الدِّين كلُّ هذا الذي وصفناه جائزٌ من أمر الصحابةِ وغيرُ بعيدٍ ولا ممتنع. فإن قالوا على هذا الجواب: فكيف يجوزُ أن يُخَلِّيَهم الله تعالى من نصٍّ لهم على عدد الآي ومواضع الفصول التي هي عندَه وفي معلومه سبحانه أنّها مواضع الفصول؟ قيل: يجوز ذلك من حيثُ أمكنَ أن يكونَ تعالى قد عَلِمَ أنّ نصّه لهم على حا في ذلك تضييق عليهم وشغل لهم عن حفظِ القرآنِ نفسِه، ومؤدٍّ إلى رغبتهم عن طاعته وإيثاراً إلى معصيته، وأنّه إذا وكَل ذلك إليهم وجعلهم في فُسحةٍ من عدّه بحسب اجتهادهم وعلى وجهِ إيثارهم كان ذلك رفقاً لهم وعوناً على ضبط ما يحاولون ضبطَه، ولطفاً لهم في فعلِ الطاعة وتركِ المعصية، كما عَلِمَ سبحانه أنّه إذا أفقدَهم النصَّ على حكمِ كثيرٍ من الحوادث ووكلهم فيها إلى العمل بآرائهم وما يؤدِّيهم إليه اجتهادُهم كان ذلك تخفيفاً لمحنتهم وتوسعةً عليهم ولطفاً لهم في فعلِ الطاعة وتركِ المعصية، وادعاً الأمورَ لهم إلى حُسنِ الانقياد والخنوع. وكما أنه يجوزُ أن يعلم أن تركَ نصِّه لهم على عدد حروف السورة وكلماتِها من أصلحِ الأمور لهم وأن نصَّه على ذلك مما لا ينتفعون به ولا يصلحون عنده بل يكون مفسَدة وشاغلاً لهم أو لكثيرٍ منهم عن حفظ القرآن نفسِه وما يجبُ ويلزمُ من معرفة أحكامه وتأويله، وإذا كان ذلك كذلك بان بما وصفناه سقوطُ التعجُّبِ من تركِ النصِّ لهم على عدد الآي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 (فصل) مِن الكلام في هذا الباب فإن قال قائل: فهل تقولون: الآيةُ التي يختلف الناسُ في عددها لا بدّ أن يكونَ عندَ الله وفي معلومه تعالى على ما يقوله أحدُ العادِّين لها، أم ليس الأمرُ كذلك؟ يُقال لهم: قد اختلفَ الناسُ في ذلك، فقال فريقٌ منهم: إنَّ الآية َ عند أهل العدد وفي مُواضَعَتِهم لها سُقَيت آيةً لأنها علامةٌ للفصل بين الكلامين. وأنّ الله سبحانه جعلَ ذلك كذلك ليستعينَ الناسُ بما يظنونه فصلا مَوضِعَ آيةٍ على تقييد السور وحفظِها وضبطِها، فإذا أفقدهم مع ذلك النصَّ منه على الفصول، ولم يجد لهم في ذلك حداً فقد عرفنا أنه إنما وكَلَ هذه التسميةَ إلى آرائهم واجتهادِهم وما يظنه كل قارئٍ منهم أنّه موضعُ علامةٍ وفصل وأنّه يجبُْ على هذا أن يَرجِعَ في حصول هذه التسميةِ إلى ما يضعه القُرّاء ويغلب على ظنونهم من مواضع الفصول. لأنّ قولَنا حينَئذٍ إنه لا يُفِيدُ حقيقةً هي علَّتُه وصفةٌ لازمةٌ لها، وقدرٌ من الأحرفِ والكلماتِ لا يجوز الزيادةُ عليه والنقصانُ منه، بل هو اسمٌ. مقصور على اجتهادِ القُرّاء، فهو في هذا البابِ بمثابةِ تسميةِ الشيءِ حراماً على قول بعض الفقهاء إذا أدّاه اجتهادُه إلى أنّه حرام، وتسميةِ الآخرِ حلالاً إذا أدّاه الرأي أنّه حلال إذا كان هذا هو حكمَ الله تعالى في تسمية الأفعالِ والحوادثِ التي لا نصَّ له فيها ولا حكمَ سوى ما أدّى إليه اجتهادُ العلماء، والحادثةُ مستحِقة للاسمين في الحقيقةِ على القولين وفي المذهبَين، فكذلك الآية ُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مستحِقة للتسمية بأنها آيةٌ على الحقيقة عندَ من أدّاه اجتهادُه إلى أنه موضعُ الفصل، وغير مستحِقةٍ لذلك في الحقيقة على قول من لم يؤده الاجتهادُ إلى ذلك، وهذا القولُ قريب لا دَخَلَ عليه. وقال فريق آخرُ من الناس: إن الآيةَ إنما سُمِّيت آيةً لانفصالِها عن الآيةِ الأخرى، وأنّها في القرآنِ بمثابةِ البيتِ من القصيدة والقوافي في الشعر، غيرَ أنه لا يتميَّزُ كتميزِ القوافي في موضع الرَّوِفيَ من الشعر، لأنّ الآية َ ليست منفصِلة عن الأخرى بمثل القافيةِ والزَوِي من الشعر، ولذلك اختُلف في قدرٍ كثيرٍ من الآيات، وإنّما تنفصل الآية ُ منَ الآية ِ الأخرى بقصد المتكلِّم بالقرآن إلى فصلِ ذلك القدرِ منه مما بعده وقطعه عنه، وإذا لم يقصد ذلك لم تكن آية ولا موضع الفصل، وقصدُه إلى ذلك لا يتبين ويظهر للحسّ. ولكن لو جعلَ عليه علامةً من الكتابة عندَ رسمه لعُرِفَ ذلك من حالِهِ. كنحو ما يجعله الكاتبُ في كتابته في البياض ومدِّ الأحرف في مواضع الفصول، وإن كان من لم يشاهد ذلك ولا يعرف قصدَه إلى الفصل إذا أمكن أن يكونَ بعضُ الكلام متعلقاً ببعض. وإذا كان ذلك كذلك فلا بد على هذا مِن أن يكونَ الله تعالى قد قصدَ إلى قطع الكلام عمّا بعده وإفرادِه عنه، فيكون ذلك موضعَ الآيةِ عندَه وفي معلومه، وأن لا يكون قصدَ ذلك، فلا يكون موضعُ آيةٍ عندَه، غيرَ أنه لم ينُص للعباد على ذلك ولا كلَّفهم إياه ولا أمَر الرسول بحَدٍّ فيه، فهو إذن بمثابةِ قولِ القائل: أي شيءٍ يُحسِن زيدٌ، وقوله: سلالم عليكم الذي يصح أن يقصد الاستفهامَ عما يُحسِنه أو التقليلَ له أو التفخيمَ والتعظيم. ويصح أن يقصدَ بقوله: سلامٌ عليكم الهَزْلَ والاستجهال ويصح أن يريد التحية والإكرام، فيصير مرةً تحيةً واستفهاماً بالقصد، ويصير الكلامان تارةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أخرى تقليلاً واستجهالاً بالقصد إلى ذلك وإنّما يكون القصدُ بهذا ضربَ المثل لما يصيرُ الشيءُ به مستحِقّاً للوصف بالقصد وإذا لم يكن هذا المثلُ مستمراً فى نفس الكلامِ القائمِ في النفس عندَنا، لأنّ الاستفهامَ منه استفهامٌ لنفسه لا لمعنى، وكذلك الأمرُ به والنهي والخبر وجميعُ أقسامِه، غيرَ أنّ هذه الأصواتَ التي هي عبارةٌ عنه عندَنا تُسمّى استفهاماً إذا قُصدَ به التعبيرُ عن استفهام في النفس لدلاتها على الاستفهام، وتُسمّى تارةً أخرى تقليلاً لما يحسنه المذكور للقصد بها إلى التعبير عن التقليل الذي في النفس لدلالتها عليه. وهذا الجوابُ الثاني أيضاً قريبٌ مستمرٌ لا دخلَ فيه، وقد بيّنا أنّ ذلك في الجملة ليس من فرائض الدِّين ولا ممّا نصَّ الرسولُ عليه، فضلاً عن أن يكونَ نصه عليه مستفيضا متواتراً يقتضي حصولَ العلم به وارتفاعَ النزاع فيه، وهذا هو الذي حاولوه، وقد أوضحنا عن فساده بما أبطل ما حاولوه. فأما تسميةُ الآية ِ بأنها آيةٌ على طريقة أهل اللغة فإنّما تفيد أنّها علامة، وعلى هذا المعنى سُمِّيت الآيةُ من القرآن آيةً، لأنّها علامةٌ على موضع الفصل. قال النابغةُ الذبياني: توهَّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لسِتّةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ فسَمّى ما عرفها به آيةً، وقولهم في آياتِ الرسل إنها آياتٌ لما يعنون بها أنها دلالةٌ على صدقِهم والفصلِ بينهم وبين الكذّابين، وقوله تعالى: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول: علامةُ مُلكه ما ذكره، وقولهم آيٌ وآيات إنّما هو اسمُ الجمع. فأما فائدةُ تسميةِ السور من القرآن بأنها سورة، فقد قيل فيه أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 - أحدُها: أنه يفيدُ فيه الإبانةَ لها من غيرها من السور المنفصلةِ عنها. وقال النابغة: ألم ترَ أنّ الله أعطاكَ سُورةَ ... ترى كلَّ مُلْكِ دونَها يَتذبذَبُ يريدُ انقطاعاَ من الناس والملوك ومباينةَ لهم. وقيل: إن فائدةَ وصفها بأنها سورةٌ أنّها قطعةٌ منه وطائفة من القرآن. مأخوذٌ من قولهم: إنَّ فيه لسورةَ من جمال، أي: طائفةَ وبقيةَ منه. وقيل أيضًا: إن فائدةَ وصفِها بذلك أنّها سورةٌ معظَّمةٌ شريفة، وأنّ ذلك مأخوذ من معنى قولهم: فلانٌ له سُور في المجد وسُؤددٌ فيه، والمعنى في ذلك أنّ له شرفاَ فيه وارتفاعاً، مِن سادَ يسُود، قالوا: ومنه سُمّي سُورُ المدينة سُوراً لعلوه وارتفاعِه. وأمّا تسمية القرآنِ قرآناً فإنّه قد قيل فيه أقاويلُ، نحن نذكرها، ونقولُ قبلَ ذلك إنّه من قرأتُ قراءةَ وقرآناً فيكون مصدِّقاَ، وإنما قال الله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، يعني قراءته، فهو على هذا المعنى مصدرٌ، وقال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) . هو ها هنا اسمٌ لا مصدر، ومرادُهم بقوله: قرأتُ قرآناَ أي: قراءةً، وهو على نحو ما جاء من قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) . أي: إنباتاً، وقولهم: كتبتُ كتابا، وشربتُ شَرابا، أي كتبتُ كتابةً، وشربتُ شرابا، فيقيمون الاسمَ مقامَ المصدر. قال حسّانُ بن ثابتٍ يرثي عثمانَ بن عفّان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ضَحُّوا بأشمطَ عنوانِ السجود بهِ ... يقطَعُ الليلَ تسبيحاً وقُرآنا أي قراءةً، فأقام الاسمَ مقامَ المصدر، فأخذُ ما قيل في تسميته قرآناً لأئَه جُمعَ وضُمَّ وضُمَّت آياتُ كلِّ سورةٍ منها إلى أخواتها، قال: وقول عمرو بن كلثوم: ذراعيَ عَيْطَل إذ ما بِكَرٍّ ... هجانِ اللون لم تقرأ جَنِينا أي أنّها لم يضم رحمُها ولداً. وقيل أيضاً: إنّما سمي قرآناً لأنه يحمله ويجمعه حَفَظتُه، وأنّه مأخوذٌ من قولهم: قرأت المرأةُ إذا حمَلَت الجنينَ في بطنَها. وقيل أيضاً: إنّما سُمي بذلك لألِّه يُلقى من الفم إذا تُلي وهُذّ ويظهر بالنطق والدرس، وأنّ ذلك مأخوذٌ من قول العرب: ما قَرَأتِ الناقة سَلايقَطّ، أي: لم ترمي به وتلقيه. وقيل: إنه سُمّي فرقاناً لأنّه يفرِّق بين الحقِّ والباطل، وقيل إنَّ معنى قوله: (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) ، أي مخرَجا وطريقاً، وكأنّ القرآنَ طريقٌ ومخرَجٌ إلى معرفة الحق من الباطل ومُفرق بينهما، وليس الكلامُ في هذه الأسماء مما قصدنا له وما يُريده القادحون في نقل القرآن وإنّما ذكرناه لاتصاله بالباب الذي ذكرناه، ولأنّه رُبّما مسَّت الحاجةُ إلى ذكره ومعرفته في خِطابِ القوم، وإنَّما قصدهم ما قدّمنا ذكرَه من دعوى النصوص على الآيات، وذهابِ الأمّة عن معرفتها ليُسهلوا بذلك سبيلَ القول بنصّ الرسول على قرآن قد ذهبَ علمُه على الأمّة ولم ينتشر ويظهرَ نقلُه، وقد بيّنا فسادَ ما ظنّوه بما يوضّحُ الحقّ إن شاءَ الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 (باب) الكلامِ في بيانِ الحكم في أول ما نزل من القرآنِ وآخِرِه ومكِّيِّه ومدنِيِّه، وهل نصَّ الرسولُ عليه السلام على ذلك أم لا فإن قال قائلٌ: كيف يمكن أن يكونَ أمرُ القرآن مي الظهور والانتشار واستفاضةِ النقل وحصول علمِ السلف والخلف به، ومعرفتهم لجُملتِه وتفصيلِه وأوّلِه وآخرِه، ومكيّه ومدنيّه، والأحوالِ التي خرج عليها، والأسبابِ التي نزل لأجلِها: صحيحاً على ما قلتموه مع اختلافِ الصحابة الذين هم القدوةُ فيه عندَكم في أول ما أُنزِلَ منه وآخره، ومكيهِ ومدنيّه، وذهابِ بعضهم في ذلك إلى ما يزُده غيرُه ويدِينُ بخلافه، وما ذكرتموه من شهرةِ نقله ووجوبِ إحاطةِ السلفِ به يقتضي - إن كان على ما ادعَيتموه - معرفةَ القول بأول ما نزل منه وآخره، ومكيه ومدنيه، ومتى اختلفوا في ذلك عُلِمَ أنّ الأمرَ في ظهور نقله وانتشاره وقيامِ الحجَّة به بخلافِ ما قلتم وأنه لا سبيلَ إلى منع دخولِ التحريفِ فيه والتغيير له والزيادةِ والنقصان فيه، وعدم قيام الحجّة بكثير. يُقال لهم: ليس فيما ذكرتموه من اختلافهم في هذين الفصلَين ما يُفسد شيئا ممّا ادعيناه وكشفناه بواضح الأدلة عن صوابه، وذلك أننا لم ندعِ وجوبَ ظهور ما نُقل ما لم ينصّ الرسول عليه، وتوفّر الهِمَمِ على معرفة ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لم يكن منه قول فيه، ولا أوجبنا اتفاقَ الأمّة وحصولَ معرفةِ مَن تقوم الحجّةُ منا بما ليس من فرائض دينها ولا هو من نوافله أيضاً ومما يسعها تركُ الخوضِ فيه، وإنما أوجبنا هذا أجمعَ فيما نصّ الرسولُ عليه نصّا جليا مُعلِنا قطعَ العُذْر فيه وفيما فَرَضَه على أمّته، وضيّقَ عليهم وجوبُ معرفته. ولم يعذرهم في التخلّف والإبطاءِ عن علمه وإدراكه، وفيما يقتضي موضوعُ العادة تحريكَ البواعث لهم على نقله وحفظِه واللهَجِ بذكره والإشاعةِ والإذاعةِ له. وإذا كان ذلك كذلك وكنّا لا نعتقدُ مع هذه الجملةِ أنّ الرسولَ قد نصّ لصحابته على ما نزل عليه من القرآنِ أولاً وما نزل منه آخرا وعلى جميعِ مكّيه وسائر مدنيّه، ولا كان منه قول في ذلك ظاهراً جليّا لا يحتمل التأويلَ ولا ألزمَ الأمّة حفظَه والتديّنَ به ولا جعلَه أيضاً من نوافل دينهم كما أنه ألزمهم نظمَ سُوَرِ القرآنِ وترتيبِ كلماتهِ وحروفهِ على وجهٍ مخصوصٍ وحدّ مرسومٍ أخذَ عليهم لزومَه ومَنَعَهم من تغييره والعدولِ عنه: لم يجب أن يظهرَ ويَنتشرَ نقلُ ذلك عنه، وكيف يجبُ نقلُ ما لم يكن وما لا أصلَ له والإخبارُ به فضلاً عن وجوبِ ظهورِه وانتشاره! وإذا كان ذلك كذلك فقد بأن سقوطُ ما سألتم عنه وزوالُ ما توهمتُموه. فإن قالوا: ما الدليلُ على أنّه لم يكن من الرسول نصّ على ذكرِ أولِ ما أُنزل عليه من القرآن وعلى آخره، وعلى مكيّه ومدنيّه، وأنّه لم يُلزم الأمّةَ علمَ ذلك ويدْعُهم إلى معرفته حسب نصه على ترتيب آيات السور وكلماتها وإلزامِهم العلمَ بها، ولزومِ المنهجِ الذي شرعه ونصّ عليه في تلاوتها؟ قيل لهم: الدليلُ على ذلك أنّه لو كان كما تدّعون وكان نصّه على الأمرين قد وقع سواءً وفرضُه لهما على الأمّة قد حصلَ حصولاً متماثلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 معتدلاً لوجبَ في مستقِرّ العادة نقلُ ذلك وظهورُه وحفظُ الأمّة له، وعلمُهم به وتأثيمُ مَن خالفَ المنصوصَ عليه في ذلك، وتخطئةُ مَن عدلَ عن الواجبِ عن معرفةِ ما فُرِضَ العلمُ به، ويجري أمرُهم في ذلك وتخطئته على حسب ما جرى أمرُهم عليه من حفظِ للقرآن نفسِه، ومعرفةِ نظمِه وترتيبِ آياتِه وكلماتِه، وعلى وجهِ ما أوجبَ حفظَهم لترتيبِ صلواتِهم وما يجبُ أن يكونَ متقدّماً منها ومتأخّراَ، وما يُفعلُ منها في النهار دونَ الليل، وفي الليل دونَ النهار، وغيرِ ذلك من فرائضِ دينهم الواجبةِ عليهم، والتي وقعَ النص لهم عليها وقوعاً شائعاً ذائعاً. ولما لم يكن ذلك كذلك ولم يدّعِ أحد من أهل العلم أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد نص على ذكرِ أولِ ما أُنزل عليه من القرآنِ وآخرهِ نصّاً جَلِيا ظاهرا فَرْضُ علمِه، ولم يكن بينَ سَلَفِ الأمّةِ وحلَفها اختلاف في أنّ العلمَ بذلك ليس من فرائض الدين، وأنه مما يَسَعُ الإبطاءُ عن علمه والسؤالُ عنه، ولا يأثمُ التاركُ للنظرِ فيه إذا قرأ القرآنَ على وجهه ولم يغيّرْهُ عن نظمه ولم يَزِدْ فيه ولم يُنقِص منه: عُلِمَ بهذه الجملةِ أنه لا نصّ من الرسولِ قاطع على أوّل ما أُنزل عليه من ذلك وآخرِه، وعلى تفصيل مكّية ومدنيّه، وإذا ثبتَ ذلك بطلَ ما حاولتُمُوه. وممّا يدلّ أيضا على صحّةِ ما قلناه أنّ المختلفين في ذلك من الصحابة لا يرَونَ اختلافَهم فيه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بل إنّما يُخبرون بذلك عن أنفسِهم وما أدّاهم إليه اجتهادُهم واستدلالُهم بظاهرِ الأمر، وإن روى بعضهم في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لم يَرَوْهُ نصّاً قاطعاً، وإنّما يُحكى عنه قولاً مُحتَمِلاً، وقصّةً للتأويلِ والظنون عليها سبيل وطريق، وليس يجبُ اتفاقُهم على ما هذه سبيلُه، ولا أن يكونَ نقلُهم لما سَمِعُوه منه في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الباب من الكلام المحتَمِلِ ظاهراً منتشراً إذا كان لم يقع من الرسول وقوعاً معلَناً بحضرة مَن تقومُ به الحجّةُ، ولا هو ممّا أراد وقصدَ وقتَ قوله ذلك للواحدِ والاثنين أن يُذاعَ عنه ويَنتشِرَ من قِبَلِه حتى يكرره ويرددَه ويقصدَ إذاعتَه وإقامةَ الحجّة بإظهاره، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب شيء مما قلتموه. وقد اختلفَ الصحابةُ ومَن بعدَهم في أولِ ما أُنزل من القرآن وآخره. ورُوِيَت في ذلك روايات كلها محتملة للتأويل، فقال قوم منهم: أولُ شيءٍ أُنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . وقال آخرون: أولُ ما أُنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) . وقال قومٌ: أولُ ما أُنزل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى آخر فاتحة الكتاب. فروى يحيى بن أبي كثيرٍ قال: سألتُ أبا سلمةَ بنَ عبد الرحمن: أي القرآنِ أُنزل أولاً، فقال: سألتُ جابرَ بنَ عبد الله: أي القرآنِ أُنزل أولاً، قال: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . قلتُ: أو (اقرَأ) ، قال جابر بن عبد الله: ألا أحدّثكم بما حدّثنا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني جاورتُ بحِراءَ شهراً، فلما قضيتُ نزلتُ استبطَنتُ بطنَ الوادي، فنُوديتُ فنظرتُ أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرَ شيئاً، ثم نُوديتُ فنظرتُ أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرَ شيئاً، ثم نظرتُ إلى السماء فإذا هو على العرش - قيل: يعني أنه المَلَكُ على العرش - في الهواء، فأخذتني رجفة، فأتيتُ خديجةَ، فأَمَرَتْهم فدَثّروني، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 صبّوا علي الماء، فأنزلَ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) . وروى الزُّهري عن عروةَ بن الزّبير عن عائشةَ رضوانُ الله عليها قالت: "أولُ سورة أُنزلت من القرآنِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) . وروى هَمّامٌ عن الكلبي عن أبي صالحٍ أنّ أول شيءٍ أُنزِلَ من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، حتى بلغ (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) . وقال قتادة أيضاً بمثل ذلك، وفي بعض الروايات التي أُسند فيها هذا الحديثُ أنّ حجّاجاً قال: "ثم أُنزِلَ بعدَها ثلاثُ آياتِ من أول نون، وثلاثُ آياتِ من أولِ المدّثر". وروى سفيانُ عن ابنِ أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ قال: "هيَ أول سورةِ أُنزلت على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، ثم نون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فأما مَن قال: إن أولَ سورة أُنزلت الحمدُ لله رب العالمين، فإنّهم يروون ذلك من طريقِ إسرائيلَ بن أبي إسحاقَ عن أبي ميسرةَ قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ سمعَ من يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوتَ انطلقَ هاربا، فأتى خديجةَ فأخبرها، فأسَرَّت ذلك إلى أبي بكرٍ الصديق، فقال: انطلقي بنا إلى وَرَقة، فحدّثه، فقال ورقةُ: هل رأيتَ شيئاً، قال: لا، فقال: إذا سمعتَ النداء فاثبُت حتى تسمعَ ما يُقالُ لك، فلما سمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد قال: لبيك، قال: قل: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمدا عبدهُ ورسولُه، ثم قل: الحمدُ لله رب العالمين.. فاتحةَ الكتاب " وساقَ الحديث. وهذا الخبرُ مُنقطِع غيرُ متصل السند، لأنّه موقوف على أبي ميسرةَ، وأثبتُ الأقاويل من خلاف الصحابةِ قولُ مَن قال: إنَّ أولَ ما أُنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، وما يليه في القوةِ قولُ جابر،. ومَن قال أول ذلك (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) . وليس في هذه الأخبار نصّ من الرسول لا يَحتملُ التأويل َ ولا فيها ما يقتضي لفظهُ ومجيئُه أنّه قال ذلك للكافّةِ وألزمهم نقلَه واعتقادَه وحَظَرَ عليهم التخقف عن حفظهِ ومعرفتهِ، فلذلك لم يجب ظهورُ هذه الأخبار، ولزومُ القلوبِ العلمَ بصحتِها والقطعَ عليها، وإن كنَّا في الجملة نقول: إنَّ الحق لا يخرجُ عن اختلاف الصحابة للدليلِ القائمِ على ذلك، وهذه الأخبارُ المرويةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 في هذا الباب وإن لم يكن متضَمّنُها من فروضِ الدين فهي مُحتمِلةٌ للتأويل أيضا، لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل في خبرِ عائشةَ وخبرِ جابرِ بنِ عبد الله وخبرِ أبي ميسرةَ إنَّ الله تعالى أنزلَ عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . ولم يُنزِل عليّ شيئا قبلَ ذلك، وكذلك القصةُ في قوله: "قيل" في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وقوله: قيل لي: قل: (الحمدُ لله رب العالمين) ، لأنّه لم يقل في القصتين: ولم يَنزلْ عليّ شي لا قبل ذلك، ولا قال في كل قصة: وكان ذلك أولَ شيء أُنزل على من القرآن لم يتقدمه شيء، ولا نحوَ ذلك من الكلامِ الظاهرِ الجليّ الذي لا يحتمل غيرَ ما صَرّحَ به فيه، فيحتمل إذا لم يقل ذلك. وقد كان يُنادَى مراتٍ كثيرة، ويَرى النورَ ويسمعُ الصوتَ ويَرجُفُ لذلك، ويتردّد ذلك عليه عندَ استفتاح النبوة، حتى أوجب ذكرَه لخديجةَ عليها السلامُ ولورقةَ بن نوفلَ أن يكونَ قد كانَ ابتُدِأ بأن أُنزلَ عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) في بعض تلك المرات، ثم نُوديَ بعد ذلك فمضى إلى خديجة، ودُثّرَ ثم أُنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) . فيكونُ بعدَ شيءٍ أُنزلَ قبلَه، وكذلك خبرُ أبي ميسرةَ يَحتمِلُ أن يكونَ قيل له في أحد تلك المرّات: قل الحمد لله رب العالمين إلى آخرها، بعد أن قد كان أُنزلَ عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) و (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . وإذا احتَمَلَ الأمرُ ما ذكرناهُ ساغَ فيه التنازعٌ والخلافُ والاجتهادُ وترجيحُ الظنون. وقد كان يُسمَعُ مَن تكلم في ذلك من الصحابة وروى فيه ما روى تَرَكَ الكلامَ فيه، ولم يكن مأثوما لو ترك الكلامَ فيه، ولم يكن ليمنعه أن لا يتلوَ السورةَ على ترتيبِ آياتها ونظامها، لأن ذلك من آكَدِ شيء فُرِضَ عليه وأُلزِمَه، وحُظِرَ عليه خلافُه على ما بيَّنَّاه من قبل، فافترقَ الأمران في هذا الباب، وكذلك مَن تركَ من أهل عصرِنا الخوضَ في أول ما أُنزِلَ من القرآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وعدلَ عنه لم يكن بذلك مأثوماً ولا تاركا للفرض، وأن يُوجَبَ عليهم إذا خاضوا في ذلك أن لا يخرجوا عن أقاويلِ السلف التي اتفقوا على أن الحقّ في أحدِها، وغيرَ خارجٍ عنها إذا حصل لهم إجماع على ذلك متيقنٌ معروف. كذلك أيضًا فقد اختلفت الصحابةُ ومَن بعدَهم في آخرِ ما أُنزل من القرآن، فرُويَ عن أُبيّ بن كعب أنه قال: "آخرُ آية أُنزلَت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) ، وروى سعيا عن عليّ بن زيد عن يوسفَ بن مهران عن ابنِ أُبى بن كعبِ عن أبيه قال: "آخرُ آيةٍ أُنزلت على رسولِ الله صلى الله عليه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) الآية َ. وابنُ أُبيّ هذا إما أن يكون محمداً أو الطّفَيلَ، وهما المعروفان، وكلاهما مقبولُ الحديث. ورُويَ ذلك عن أبي قتادةَ أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وروى ابن عباسٍ قال: "آخرُ ما أُنزِلَ من القرآن، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) . ورَوى عبدُ الحميد بنُ سهلٍ عن عُبَيدِ بن عُدي قال: قال لي ابنُ عباس: "تعلَمُ آخرَ سورةٍ من القرآن أُنزلت جميعا، قلتُ: نعم، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ، قال: صدقتَ ". ورُوِيَ أنّ عائشةَ رضوانُ الله عليها قالت: "آخرُ سورة أُنزلت المائدة". وروى أبو الزاهر عن جُبَير بن نُفَيير قال: "حَجَجتُ فدخلتُ على عائشةَ رضيَ الله عنها فقالت: يا جُبَير، هل تقرأُ المائدة، قلت: نعم. قالت: أمَا إنّها آخرُ سورةٍ أُنزلت، فما وجدتم فيها من حلالٍ فاستحِقوه. وما وجدتم فيها من حرامٍ فحرّموه ". ورُوِيَ أنّ البراءَ بن عازب قال: "آخرُ سورةٍ أُنزلت كاملةً سورةُ براءة". وروى هنّادُ بن السّرِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عن أبي الأحوَص عن أبي إسحاقَ عن البراءِ بن عازبٍ قال: "آخرُ سورةٍ من القرآن أُنزلت كاملةً سورةُ براءة، وآخرُ آيةٍ أُنزلت خاتمةُ النساء". ورُوِيَ أن أبا صالحٍ وسعيدَ بن جُبَير قالا: "آخرُ آيةٍ نزلت من القرآن: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) . ورُوِيَ أن إسماعيل السّدّيّ قال: "آخرُ آية أنزلت: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) . ورَوى ابنُ شهابٍ عن سعيد بن المسيب أنه أخبره أن أحدثَ آية بالعرش آيةُ المواريث: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) . وليس في شيءٍ من الرواياتِ ما رُفع إلى النبي عليه السلام، وإنّما هو خَبَر عن القائل به، وقد يجوزُ أن يكونَ قالَ بضربٍ من الاجتهاد، وتغليبِ الظنِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وبظاهرِ الحال، وليسَ العلمُ بذلك أيضاً من فرائضِ الدين، ولا هو مما نصّ الرسولُ على أمر فيه بيّنه وأشاعه وأذاعَه وقصدَ إلى إيجابه وإقامةِ الحجّة به. فلذلك لم يَجُزْ ظهورُه عنه وحصولُ الاتفاقِ عليه وثبوتُ العلم به قطعاً يقيناً. وقد يَحتمِلُ أن يكونَ كلُ قائلٍ مفن ذكرنا يقولُ إن ما حكمَ بأنَّ ما ذكره آخرُ ما نزل لأجل أنّه اَخرُ ما سمعه مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي ماتَ فيه، أو ساعةَ موته على بُعد ذلك، أو قبلَ مرضه الذي ماتَ فيه بيومين أو ساعة، وقد سمع منه غيرُه شيئاً نزل بعدَ ذلك وإن لم يسمعه هو لمفارقته له ونزولِ الوحي بقرآنٍ بعدَه، ويقد يحتمل أيضاً أن تنزلَ الآية ُ التي هي آخرُ آيةٍ تلاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم مع آياتٍ نزلت معها، فيُؤمَرُ برسمِ ما نزلَ معها وتلاوتِها عليه بعدَ رسم ما أُنزل أخيرأ وتلاوته، فيظنّ سامعُ ذلك أنه اَخرُ ما نزلت في الترتيب، ويُحتمل أيضا أن ينزل عليه آية في الليل مُنع من أدائها وشُغِلَ بعُذرٍ عن ذلك وانتَظَرَ النهار، فلما أصبح أُنزلت عليه آية لا شيءَ نزلَ عليه بعدَها، ثم قيل له: اُتلُ عليهم هذه أولاً واكتبها ثم اتلُ عليهم بعدَ ذلك ما كان نزل قبلَها ومُرْهُم برسمه وإثباته، هذا ما لا سبيلَ إلى منعه وإحالتِه، فيظن سامعُ الأخيرِ من القرآن أنه آخرُ ما أُنزِلَ عليه، وليس كذلك، بل قد أُنزِلَ بعدَه ما قُدِّمت تلاوتُه وإثباتُه. وإذا كان ذلك كذلك وكان الرسولُ لم يكشف ولم يفرض على الأمّةِ علمَه، ولا أمره الله سبحانه بإلزامِهم ذلك وبيانِه لهم، ولا رأى ذلك من مصالحهم ومراشِدِهم ولا مما تمسهم الحاجةُ إليه في دينهم: لم يجب أن يَظهَرَ ذلك عن الرسول ولا أن يُنقَلَ نقلا متواتراً، ولا أن لا يُختلَف فيه ولا يُعمَلَ الاجتهاد، وتُزحَمَ الظنونُ فيه، ولم يُرْوَ في شيءٍ من هذه الآثار إن كلّ قائلٍ بمذهبٍ من هذه المذاهب سُئِلَ فقيل له يُقطع ويتيقّنُ أن هذا هو آخرُ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أُنزل أو أولُه مِن حيث لا يجوزُ غيرُ ما قلتَه فقال: نعم، ولا نَقلت الأمّة عنه أنها عَرفَت من دينه أنّه لا يقول ذلك على ظاهرِ الحال وغالبِ الظن والرأي. إذا كان ذلك كذلك بأن صحةُ ما قلناهُ، وبطلَ ما حاولوا به الطعنَ على نقل القرآنِ وجوازُ تغييره وتبديله. فأما المكّيّ والمدنيّ من القرآن فلا شبهةَ على عاقلٍ في حفظ الصحابةِ والجمهورِ منهم إذا كانت حالُهم وشأنهم في حفظ القرآن وإعظامه وقدره من نفوسهم ما وصفناه لِما نزل منه بمكةَ ثم بالمدينة، والإحاطة بذلك والأسباب والأحوالِ التي نزل فيها ولأجلها، كما أنّه لا بُدّ في العادةِ من معرفةِ معظَمِ العالم والشاعر والخطيب وأهلِ الحرصِ على حفظِ كلامه ومعرفةِ كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما نظمه وصنّفه أولا وآخراَ، وحالُ القرآنِ في ذلك أمثل، والحرصُ عليه أشد، غيرَ أنه لم يكن من النبي عليه السلامُ في ذلك قولٌ ولا نصّ، ولا قال أحد ولا روى أنّه جمعه، أو فرقةٌ عظيمةٌ منهم تقوم بهم الحجّة وقال: اعلموا أن قدَر ما أُنزِلَ عليّ من القرآن بمكةَ هو كذا وكذا، وأن ما أُنزِلَ بالمدينة كذا وكذا، وفصّله لهم وألزمَهم معرفتَه، ولو كان ذلك منه لظهرَ وانتشَر، وعُرفت الحالُ فيه. وإنما عدل - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لأنّه مما لم يُؤمَر فيه، ولم يجعلِ الله تعالى علمَ ذلك من فرائضِ الأمّة، وإنْ وجبَ في بعضِه على أهلِ العلم مع معرفة تاريخ الناسخِ والمنسوخ، ليُعرَفَ الحكمُ الذي ضِمنها، وقد يُعرَفُ ذلك بغير نصّ الرسول بعينِه وقوله هذا هو الأولُ والمكّي وهذا هو الآخرُ المدنيُ. وكذلك الصحابةُ لمّا لم يعتقدوا أنّ مِن فرائضِ التابعين ومَن بعدَهم معرفة تفصيل جميعِ المكّيّ والمدنيّ وأنّه ممّا يسعُ الجهلُ به، لم تتوفّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الدواعي على إخبارِهم به ومواصلةِ ذكرِه على أسماعهم وأخذهم معرفَته. وإذا كان ذلك كذلك ساغَ أن يختلفوا في بعضِ القرآنِ هل هو مكّيّ أو مدني، وأن يُعمِلُوا في القول بذلك ضرباً من الرأي والاجتهاد، وإن كان الاختلافُ زائلاً عنهم في جُلِّهِ وكثيرِه، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزمْ أيضاً أن يُنقلَ عن الصحابةِ نقلاً متواتراً ذكرُ المكّيّ والمدنيّ، ولم يجب أيضاً على الصحابة وعلى كل داخلٍ في الإسلام بعدَ الهجرة وعندَ مستقَرّ النبى - صلى الله عليه وسلم - في المدينة أن يَعرِفَ أنّ كل آية أُنزلت قبلَ إسلامه مكيةٌ أو مدنيةٌ، يجوز أن يقفَ في ذلك أو يَغلِبَ على ظنه أحدُ الأمرين، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما توهموه من وجوبِ نقل هذا وشهرته في الناس ولزومِ العلمِ به لهم والتفريطِ بالتخلّف عن علمِه ووجوبِ ارتفاعِ الخلافِ والنزاعِ فيه. وقد روى شُعبةُ عن قتادةَ ويزيدَ النحوي عن عكرمةَ والحسنِ بن أبي الحسن قال: قال قتادةُ: "إنّ الذي أُنزل بالمدينة البقرةُ وآلُ عمرانَ والنساءُ والمائدةُ، وآية من الأعراف: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) ، والأنفالُ والرعد، غير أن فيها مكّيا، (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) ، إلى آخرها، ومن إبراهيم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) . إلى آخر السورة، والحجُّ غيرَ أربع آيات أولُهن: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) . إلى قوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) . والنورُ وعشرة من العنكبوت، والأحزابُ والحمدُ والفتحُ والحجراتُ والرحمنُ والحديدُ والمجادلةُ والحشرُ والممتحنةُ والصفُّ والجمعةُ والمنافقون ويا أيها النبي إذا طلقتم النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ويا أيها النبيّ لم تحرّم، ولم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، وإذا زلزِلت، وإذا جاء نصرُ الله، وبقيةُ السور مكيّ كلّه ". وروى شعبةُ عن قتادةَ هذا الحديثَ على سياقِ ما ذكرناه، وذكرَ ابنَ مسعودٍ أنه قال: "كلّ شيءٍ في القرآنِ (يا أيها الناس) أُنزِلَ بمكة"، وذكر ذلك عن علقمة، وذكر عن علقمةَ قال: "كلّ شيءٍ في القرآنِ (يا أيها الذين آمنوا) مدنيّ ". والرواياتُ عنهم في ذلك كثيرة، ولا يُعرَفُ منها ما يرفعونه عن الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسببُ في ذلك ما قدّمناه من أنه لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك نصق على تفصيلِ ذلك وقول قاطع، ولا هو مما عُنِيَت الصحابةُ بذكره للتابعين وإن كان قد ذَكَرَه منهم القُرّاء ومَن انتصبَ لذلك لمَن أقرأه القرآنَ إذا سُئل عن الآية ِ والسورة، غيرَ أنّ ذلك لم يقع وقوعاً ظاهرأ منتشراً. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه قادحاً في نقلِ القرآن وعائداً بالطعن عليه، وأنّ هذا الذي ذكرناه هو الذي يمنعُ تجويزَ كونِ قرآنٍ كثيرٍ أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وإن كانَ لا سبيلَ لنا إلى العلم والقطع على أنه قرآن مُنَزل من الله سبحانهُ على رسولهِ، وأنّنا لا نأمَنُ أن يكونَ عندَ عليّ أو أُبيّ وعبدِ الله بن مسعود أو بعضِ آحادِ الأمة عشرُ اَياتٍ أو عشرُ سُوَرٍ بيّنها الرسولُ له وحدَه، دونَ جميعِ الأمة، وأنّ مُدّعي ذلك مُبطِل لا شبهةَ علينا في كذِبِه لعلمنا بعادةِ الرّسول في بيانِ جميع ال منزَل عليه. وإذا كان ذلك كذلك وجبَ أن نعلمَ بهذا الدليل قطعا أنّ بسم الله الرحمن الرحيم ليست بقرآنٍ مُنَزلٍ في غير سورةِ النمل، وأنّها ليست من جُملةِ كل سورة، ولا أنّها فاصلة بين السورتين، لأنّها لو كانت آيةً منزلة إمّا على أن تكونَ مفرَدةً فاصلةً بين السورتين أو على أن تكونَ من جُملةِ كلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 سورة لوجبَ أن يُبينَ ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بياناً ظاهراً مكشوفاً، موجِباً للعلم، قاطعاً للعُذر، مُزِيلاً للريب، رافعاً لاختلافِ الأمَّة ِ ودخولِ شبهةِ على أحد منهم في هذا الباب كما فعل ذلك في جميعِ آياتِ السّورِ وسائر ما أَنزلَ الله تعالى من كلامه الذي ضمِنَ حفظَه وحِياطتَه وجمعَه وحراستَه. فلمّا لم يكن ذلك كذلك، ولم نجد أنفسَنا عالمةً بذلك، ولا وجدنا الأمةَ متفقةً على هذا البابِ اتفاقها على جميع سُوَر القرآنِ وآياتِها المبيّنةِ فيها، بل وجدنا فيهم مَن يقولُ إنّها آية من الحمدِ وحدَها، وفاتحة لغيرها. ومنهمُ مَن يُحَمّلُ نفسَه عندَ حدّ النظرِ على أن يقولَ إنّها من كلّ سورة. ومنهم مَن يقولُ إنّها آية فاصلة بين السورتين وليست من جملةِ كلّ سورة. وإنّني أعلمُ ذلك قطعا وإنني لا أدري أنّها من جملةِ سُورةِ الحمد أم لا لموضعِ الخلافِ فيها، ومنهم مَن يقول: لستُ أدري أنَّها من كل سورةٍ أم لا ، وأنه يجوز أن تكون مفردةً فاصلة، ويجوزُ أن تكونَ من جملةِ كلّ سورةٍ هيَ فاتحتُها: عُلِمَ بذلك أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُوقف على شيء من هذه المذاهبِ والأقاويل، فلم يبيِّن للأمةِ أنها قرآنٌ منزل. ولو جازَ لمدّعي أن يدعيَ أنّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن أنها قرآن منزل وإنْ خَفِيَ ذلكَ على أكثرِ الأمّة لجازَ لآخرَ أن يدّعيَ أنّ عندَ الإمامِ وآحادٍ من الصحابة قرآناً كثيراً وإن خَفِيَ ذلك على أكثر الأمة لجازَ أيضاً أن يدّعيَ مدعٍ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد نصَّ نصّاً بيِّناً قاطعاً مُعلَناً على أنها آية من الحمد وحدَها وفاتحةٌ لغيرها، وإن خالفَ في ذلك كثيرٌ من الأمّة وخفيَ ذلك عليهم، وأن يدعيَ مدّعٍ أنهُ قد نصَّ - صلى الله عليه وسلم - نصاً قاطعاً مُعلَناً على أنّها آية منزلة مفردة فاصلة بين السور، وليستُ من جُملة شيءٍ منها، وإن خالفَ أكثرُ الناس في ذلك، وخفيَ عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ولمّا لم يُسمَع هذه الدّعاوي وبطلت وتكافأت عُلِمَ أنّه لو كان منها حقّ قد بُيّنَ على حَسَبِ ما ادُّعيَ لكان ظاهراً مشهورا كظهور سائرِ آياتِ القرآنِ وسُوَرِه، ووجبَ القطعُ على أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست بقرآنٍ مُنزَلٍ في غير النملِ، ولا فاصلٍ بين السور، ولا من جملتها أيضاً، فلهذا لم يجب عندَنا علمُ الأمة بأنّها قرآنٌ وأنّها من سورة الحمد على ما طالَبَنا به القادحون في نقلِ القرآنِ وصحّته، لأنّه إنما يجبُ تواترُ النقلِ وحصولُ الاتفاق على ما بيّنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأُنزِلَ عليه من القرآن دونَ ما لم يبيّنْه ولم ينزل عليه. وهذا الذي قالوه أيضاً بأن يدلّ على صحّة ما قلناه في وجوبٍ ظهورِ نقل القرآن والعلمِ به أولى، وذلك أنّه إذا اختلفت الأمّة في إثباتِ ما يَظُنُ قومٌ أنّه قرآنٌ لأجلِ افتتاح الرسولِ به وإثبات الأمّة له في أوائل السور. فقطعوا لذلك على أنّه قرآنٌ ودانوا به وتوفّرت هِمَمُهم ودَواعِيهم على حفظِه والإحاطةِ به وبلغَ به قومٌ إلى أنّه قرآنٌ منزَلٌ: وجبَ أن يكونَ حفظُهم وتوفّر هِمَمُهم ودَواعِيهم على نقلِ ما بيّنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من القرآنِ أَولى وأحرى، وأن يكونَ ذلك فيهم أظهرَ وهُم به أعرفَ، فكلُّ هذا يدل على وجوبِ حفظِ الأمّة لما نصّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أنّه قرآنُ، وعلى أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من جُملةِ القرآنِ في غيرِ المواضع التي اتفقوا عليها، وعلى أنّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بيّنَ كونَها قرآناً فيه وقطعَ العذر، وهذا أيضاً أحدُ الأدلّة على أنّه لم يكن من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيان لكون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآناً منزلا وفاصلاً بين السّور ولا من جُملتها ولا من جُملة الحمد، لأنّه لو كانَ منه بيانٌ لذلك لجرى مجرى بيانه لكوبها قرآناً في سورة النمل بقوله: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ولارتفعَ لأجلِ بيانِه لذلك الشكّ والرّيبُ عن جميع الأمّة في كونها آيةً مفردةً فاصلةً إن كانت أو من جملة الحمد وحدَها إن كانت كذلك، وإن لم يكن هذا هكذا بطلت جميعُ هذه الأقاويل، وثبتَ بما وصفناه أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من القرآنِ إلا في السورة التي يذكر فيها النملُ. فإن قال قائلٌ: فقولوا لأجل دليلِكم هذا إنَّ المعوّذتين ليست بقرآنٍ منزلٍ أصلاً، وإنّ الرسولَ لم يبيّن كونَها قرآناً منزلاً بيانَه لسائرِ سورِ القرآنِ وآياته، لأجلِ خلافِ عبدِ الله بن مسعودٍ في ذلك وجَحْده أن يكونا من القرآن! قيل له: ليسَ الأمرُ عندَنا في جحدِ عبد الله كذلك على ما ادّعيتَ، بل ذلكَ كذبٌ وزور لا ينبغي لمسلمٍ أن يثبته على عبدِ الله ويُضيفه إليه بأخبارِ آحاد غير موجِبة للعلم كلها معارَضةٌ بما هو أقوى وأثبتُ عن رجال عبدِ الله في إثباتِها من القرآن وإقرائهم إياها، وسنستقصي القولَ مما رُوِي عنه في ذلك وقَدْرَ ما قاله وتأويله، وأنّه ليسَ فيه ما يُوجِبُ إخراجَها من القرآن إن شاء الله. فأمّا ما اعتمدَ عليه مَن زعم أنّ الأمَّة َ اتفقت على أنّ جميعَ ما بين اللوحين قرآنٌ منزلٌ من عند الله تعالى، وأنّ ذلك بمنزلةِ قولِ النبي أو أخذِ ، المصحف ونشرِه ورقةً ورقة وقال: اعلموا أن جميعَ ما فيه قرآنٌ وتلِيَ عليهم أيضاً بذلك قرآنا فإنه لا تَعَلّق فيه، لأنها دعوى باطلة، لأنّنا لا نعلمُ مِن دين الأمّة المتفقةِ على كَتَبة المصحف أنّها وقفت على أنّ جميعَ ما فيه من فواتح السور وغيرِها قرآنٌ منزَلٌ من عند الله، وإن علمتَ أنّهم قد أثبتوا بسم الله الرحمن الرحيم فاتحةً للسّوَرِ، وكيف نعلم ذلك ونحنُ وجميعُ من يوافقنا على قولنا يعتقدُ أنّ الصحابةَ لم تتفق قطُّ على القول بذلكَ وإضافته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونقولُ: إنه لو ثبتَ ذلك من عَقدِهم ودينهم لوجبَ القطعُ على أنه قرآنٌ، لأن الأمّةَ عندَنا لا تجتمع إلا على حقّ وصواب، فبان أنّه لا شُبهةَ في فسادِ هذه الدعوى. وأما قولُهم بعدَ هذا إنّهم لا يخالفون في إطلاقِهم القولَ بأنَّ ما بين اللوحَين قرآن منزل، وليس لنا أن نقيدَ ما أطلقوه ولا أن نَخُصّ ما عَمُّوه. فإنّه تعليلٌ وتدقيق عن مَبُوحٍ به، لأنّ العمومَ عندَنا وعندَ أكثرِ الأمة ما ثبتَ له الأمة للعموماتِ في الأحكام والمواضع التي اعتقدت العمومَ بها بإطلاقِها لقفظ الذي يُدعي أنّه موضوغ للعموم، وإنّما يُعلم ذلك عند مشاهدتِها ضرورةً بالأماراتِ الظاهرةِ المقارنةِ لإطلاقِها، ويُعلم ذلك من دِينها عند الغَيبة عنها بنقل من يُوجِبُ خبرُه العلمَ أنَّه عَلِمَ ذلك من دينها ويُحقّقُ قطعَها عليه، ولا يسألهُ عن وجه علمه بذلك ويعلَمُ أنّه لم يعلم ذلك من حالِها بنفسِ اللفظِ ولا الإطلاقِ الذي يَحتمِلُ الخصوصَ والعموم، ولكن بالأسبابِ والقرائنِ والأماراتِ المقارِنةِ للفظ الذي لا يمكنُ نعتُها ووضعُها وتجديدُها وتحبيسُها لما قد بيَّنَّاه في أصول الفقه وغيره في فصول القول في إبطالِ العموم، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى للتَّعلُقِ والتشبّثِ بانّه لا وجهَ لتقييدِ ما أطلقوه، وتخصيصِ ما عَمّوه. وأما قولُهم إنّه لو لم يُعلَم ذلك بنفسِ قولِ الأمّة وإطلاقِها لم يُعلَم ذلك أيضا بقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإطلاقِه ونشرِه المصحفَ ورقةً ورقة، فإنه كذلك يقول لأنّه قد يُطلِقُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اللّفظَ الذي يدّعي قوم أنّه العمومُ ويكونُ مرادٌ به الخصوصُ، ويتلو أيضاً بذلك قرآناً يظُن قومٌ أنّه على العموم والمرادُ به الخصوصُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وليس قولُه - صلى الله عليه وسلم - لو قال: كلّ ما في مصحفِ عثمانَ كلامُ الله، تأكّدْ من قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) . 25) . (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، و (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) . (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وقد ثبتَ أن ذلك على الخصوص بقول الله تعالى وقولِ رسوله، وقولُ الأمّة في هذا سواءٌ في أنّه كلّه على الاحتمال للخُصوص والعُموم، فإن لم يَظهَرْ معنى قولِ الرسولِ إن كلّ ما في المصحَفِ أو جميعَه وسائرَه وقليله وكثيرَه وسوادَه وعمومَه وبوادِيه وخواتمَه أماراتٌ وأحوالٌ يُضطر عندَها إلى مرادِه ومعرفةِ قصدِه إلى استيعابِ جميعِ ما في المصحف. ولم يقطع على مراده ووقَفْنا، وليس هذا من الحجَّة ِ لثبوته والشكّ في خبرِه على ما يظنّه بعضُ الجهّال بسبيل، ولكنه وقفٌ في مراده باللفظ المحتَمِلِ لأمرَين ليسَ أحدُهما أولى به من الآخر لفقد الدليل على مراده به. وإن كان ذلك كذلك وكنّا لا نعلمُ ضرورة لمشاهدةِ السلفِ وسماع توقيفهم على أن جميع ما في المصحفِ قرآن منزَلٌ ورؤيةَ أماراتهم ومخرَجِ خطابِهم ومعرفةِ أسبابِهم والأحوالِ التي صدر عليها خطابُهم، ولا يَنقُلَ من يضطر إلى صدقهِ أنه عرفَ ذلك من قصد الأمّة واعتقادِهم لعمومِ إطلاقها. كما نعلمُ ضرورة من دينها أنّ (تَبَّت يَدَاَ أَبي لَهَب) من القرآن، وأنّ قولَه: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) . من القرآن: بانَ وظهر أنه لا جدوى ولا طائلَ لأحدٍ من التعلّقِ بإطلاقِ السلفِ لهذه الألفاظ، ولا سيّما مع قيامِ الدّليل على أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من القرآن، وأن ما بينه الرسولُ صلى الله عليه منهُ لا يحتاجُ في إثباته إلى حصولِ إجماعٍ عليه، وإنّما يجبُ أن يكون متواترا، ومما يُعلم صحّتُه وبيانُ الرسولِ له اضطراراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وأما قولُهم إنّه قد ساغَ وظهرَ في الصحابةِ أنّ قوماً منهم ادعوا أنّ بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من القرآن فلم يُنكِر ذلك الباقونَ ولا اعترضوا فيه بشيءٍ: فإنه باطلٌ، وأولُ ما فيه أنّنا لا نعلمُ أنّ ذلك شاعَ وظهرَ في الصحابة، لأن ذلك لم يُروَ عن أحد منهم إلا عن عبدِ الله بن عباس. والأخبارُ الواردةُ عنه بذلك أخبارُ آحادٍ لا نجدُ أنفُسَنا عالمةً بصحّتها لا اضطراراً ولا نظراً واستدلالاً، فلا حجّةَ فيها. على أنّه يمكنُ لو صحّت الأخبار التي قدّمنا ذكرَها عن ابن عباسٍ في هذا الباب وعُلِمَ بثبوتها: أن يكونَ كفُّ القومِ عن إنكارِها لأنّه لم يظهر ويشيعَ فيهم، وإنّما يجبُ أن يُنكِروا ما تأدّى إليهم، وقد يمكنُ أن يكونَ أيضا إنما تركوا إنكارَ قوله لذلك، وإنما قال: "سرقَ الشيطانُ من إمام المسلمين آيةً، ومن تركَ قراءةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ترك من كتابِ الله آيةً" ونحو ذلك، وهذا كلّه قولُه ورأيُه وليسَ فيه ما رفَعَه إلى رسول الله صلى الله عليه، فقد بيّنَ بتركِ الذكرِ لذلكَ الشك في صحةِ مذهبه وعدم العلم بأنه حق أو باطل، وقد يترَكُ كراهةَ المناظرةِ عليه والعلم بأنّه ليس من الأمّة قائل بذلك، وأنه لا شبهة في بطلانه، وأن المناظرة عليه تغري صاحبَها بالتمسُّك به، وقد يُنزل الله عليه لاعتقادِ كثيرٍ منهم أنّ ذلك مسألةُ اجتهاد وأن الغلطَ فيها سهل مغفور لموضع أنّ الرسول كان يفتتح السُّوَرَ بها، وربما جهر بها إمام الجهر في صلاته، وأنّ ذلكَ قائم مقامَ توقيفه على أنّها قرآن منزل. فيصيرُ ذلك محَقه التأويل، والصحيحُ أن هذه الأخبارَ غيرُ ثابتةٍ ولا معلومةٍ عن ابن عباس، فلا وجهَ لدعوى ظهورِ هذا القولِ وانتشارِه في الصحابةِ مع الإمساكِ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وأما قولُ ابن عباس: "كانَ المسلمونَ لا يعرفون انقضاءَ السورة حتى تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فيعلمونَ أنّ السورةَ قد انقضت " فإنه لا تعلّقَ فيه لأمرين: أحدهما: أن قولَه حتى تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إخبارٌ عن ظنّه أنّها تنزل لاعتقاده كونَها قرآناً، وليس في اعتقاده لذلك وإخبارِه به لا عن توقيفِ الرسول: حجةٌ. الوجه الآخر: أنّ قولَه: (حتى تنزل) محتمل لأن يكونَ تحقيقا لنزولها. وأنّ الرسول وقفَ على أن المَلَكَ ينزلُ بها، ويُحتمَلُ أن يكونَ أراد على أنها كلامٌ تُفتَتَحُ به السور ويُعرَفُ بها انقضاءُ ما قبلَها، ويكون علامةً لذلك وإن لم يكن قرآناً منزلا أمامَ السور، لأنّه قد ينزل المَلَكُ على الرسول بقرآنٍ وما ليس بقرآن من الوحي. وقولُهم بعدَ ذلك: "ظاهرُ قولي (يَنزلُ) يقتضي أنّها منزلة قرآنا" لا حجّةَ فيه، لأنّه قول يحتمل، لأنّ الظاهرَ والإطلاقاتِ غيرُ مُقنعة في إثباتِ قرآنٍ منزَل مقطوع به على الله سبحانه، فبطلَ ما قالوه. وهذا الجوابُ عما رُوِيَ مِن قول ابن عباس: "كان جبريلُ إذا أتى النبيّ صلى الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم عَلِمَ أنَّها قد خَتَمت سورة فاستقبلُ الأخرى"، لأنها قد جعلت علامة للرسول ولغير ذلك عند التلاوة والكتابة. وإن لم يكن من القرآن. فأمّا ما رُوِيَ عن أم سلمة من أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعُد بسم الله الرحمن الرحيم آيةً فاصلة فإنّه من أخبار الآحاد التي لا نعلم بثبوتها اضطرارا واستدلالا، وقد بتنّا فيما سلفَ بما يزيلُ الشكّ والرّيب أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لو عدَّ ذلك وبيَّنه لوجبَ علمُنا به ونقلُ الأمَّة له نقلاً ظاهراً متواتراً كنقلِ سائرِ ما عداه من آياتِ القرآن وبيّنه، وما هذا الخبرُ عندَنا إلا بمثابةِ روايةِ راو عن أم سلمةَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه يصلّي صلاةً سادسةً وسابعةً مفروضةً واجبةً ويعرفُ الناسُ ذلك من حالها في وجوب ردِّ هذا الخبرِ والعلم بأنه لو كان صحيحاً عن أمّ سلمةَ لوجبَ أن تنقُلَ الأمةُ تلك الصلاةَ نقلَها الخمسَ صلواتٍ وسائرَ الفروض العامة، وكذلك لو بيَّن أنّ بسم الله الرحمن الرحيم آية وعدّها كبيانِه لغيرِها لظهر واستفاض نقلُها. ولَلَزِمَ القلوبَ العلمُ بكونها قرآناً منزَلاً، فإذا لم يكن ذلك كذلك لم يجب تصحيحُ هذا الخبر. على أنّها لم تُجِب بذلك عن قول الرسول، وإنما قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدّها آيةً فاصلة". وذلك إن صح عنها خبر عن رأيها واعتقادِها، وليس ذلك بحجّة بخلافِ غيرها لها في ذلك. وأما كراهةُ عبد الله بن مسعود وغيره مما قدمنا ذكرَه من قتادةَ وغيره من التابعين لتفسيرِ القرآن وكَتْبِ آيةِ كذا وعدها كذا وكذا آية، وإنكارُ عمرَ لكتبِ التأويل والتفسيرِ مع التنزيل، مع تسويغِه وتسويغ جماعةِ الصحابة والتابعين لكتبِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصلاً في فواتح السور، فإنّه أيضاً مما لا حجةَ فيه ولا تعلُّق، وذلك أنهم إنما أنكروا ذلك وقال بعضُهم إنه بدعة لعلمِهم بأنّ الرسولَ لم يبين ذلك ولا أمرَ بكتابته، وأنه قد أمرَ بكتبِ بسم الله الرحمن الرحيم في فواتح السور ما نزل عليه مما أُمر بكتبه، وليس يجبُ أن يسوّغوا كَتْبَ ما لم يَأمُر به الرسولُ لتسويغهم رسمَ ما سَن كَتْبَه، ولا يجبُ أن يعتقدوا أيضاً أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكتب في افتتاحِ السورةِ المنزَلةِ إلا قرآناً منزلاً، لجوازِ أن يُؤمَرَ بافتتاحِها في الكتابة بِما ليس بقرآنٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 على ما بيّنّاه من قبل، ولأجل أنّهم سمعوا الرسولَ يفتتحُ في الصلاةِ ببسم الله الرحمن الرحيم، ويجهَرُ بها أحيانا إمامُ الجهر، فأجُيزَ الائتمامُ به في افتتاح السور في الكتابةِ بها، وليس مثلَ عددِ مَن فعله في تَعشِيرِ القرآنِ وكتبِ رأسِ الأجزاء والأسباع والأخماس وخاتمِ كذا وعددِ آياتها كذا، وكَتْبِ التفسيرِ مع التأويل. وإذا كان ذلك كذلك بأن أنه لا حجَّةَ لهم في شيءٍ مما أوردوه، وأن بسم الله الرحمن الرحيم ليست بآيةٍ من القرآن، وأنّها جُعِلت علامة وفاصلةً بين السور، وأمارة على ختم السورة والأخد في الأخرى. فإن قال قائل: فإذا كان الأمرُ فيها على ما وصفتم فلمَ لم تكتَب في أول سورةِ براءة للفصل بينَها وبينَ الأنفال؟ قيل له: لأمرَين: أحدُهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلُ ذلك ليُشعِرَ من بعد أهل عصرهِ أن السلفَ من الأمّة الآخذِين عنه لم يكتبوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فواتح السور باجتهادِهم وآرائهم، وإنّما اتّبعوا في ذلك ما سُن وشُرعَ لهم، وأن ذلك لو كان برأيهم لوجبَ عليهم أن يكتبوا بين الأنفالِ وبراءة، لأنه لا معنى يقتضي الفرقَ بين الفصل بين هاتين السورتين بها وبين الفصلِ بين غيرِهما بها، ولو فعل ذلك في غيرِ سورة براءةَ وأسقطَها من افتتاحها لسد ذلك مسدَّ اطراحها من أولِ سورة براءة في إشعارهم بهذا الباب، ولو أعلمهم أيضاً - سبحانه - أنّ السلفَ ما كتبوها في أوائل السور إلا لسُنَّة الرسول بغير هذا الوجه وشيء سوى إسقاطِها من أولِ سورةِ براءة لصح ذلك منه وجاز، غيرَ أنه يمكن أن يكون إعلامُهم هذا الباب بهذا الضرب من التنبيه وبإسقاطها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أول براءةَ دونَ غيرِها: لُطفاً لهم أو لبعضِهم، وأدعى الأمورِ لهم إلى التصديق بالقرآن وتحفُظه والعملِ بموجبِه، وإعظام مؤدّيه ومتحمّله. وقد يمكنُ أيضاً أن يكونَ إنّما أُسقطت في أول سورة براءة لأنّها نزلت بالسيف والوعيد والتهديدِ والطردِ والإبعادِ والإخافةِ والإهانةِ، وكانت إنّما تكتب في أوائل ما يتلى من السور على وجهِ الرفقِ والإيناسِ والتسكينِ بالابتداءِ بذكرِ الله تعالى ووصفِ فضلِه ورحمتِه. وممّا يدل على بطلانِ قول مَن زعمَ أنّ السلفَ أجمعوا على اعتقاد كونِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيةً أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فيها معنى الرحمة والأمان، وبراءة لم تجىءْ في هذا المعنى، وإنّما جاءت بضده ونقيضه. فلم تكتب كذلك في أولِها، وقد روى علي بن عبد الله بن عباسٍ عن أبيه عبد الله قال: سألتُ علي بن أبي طالب: لِمَ لم يكتب بين براءة والأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: "لأنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمانٌ، وبراءةُ نزلت بالسيف لا أمانَ فيها"، فهذا هو نفسُ التأويلِ الذي قلناه وعلِمَه الجمهورُ من أهل العلم، وإذا كان ذلك كذلك زال ما اعترضوا به. ومما يدل على بطلان قول من زعمَ أنّ السلفَ أجمعوا على اعتقادِ كونِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أنها آية من الحمد ومن كل سورةٍ ما ظهرَ على ما ذكر وانتشر من قول ابن عباس: "تركَ الناسُ آيةً من كتاب الله، وسرقَ الشيطانُ آيةً من كتابِ الله "، وقد عُلِمَ أنّه لا يقول ذلك حتى يتركَ الناسُ قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فاتحة الكتاب وفاتحة كلّ سورة، ويكونُ هو وحدَه هو المتمسك بذلك، هذا هو الذي يقتضيه ظاهرُ قوله: "سرقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الشيطانُ آيةً من كتاب الله، وتركَ الناسُ آيةً من كتاب الله "، لأنّهم لو كانوا يقرؤونها لما قال ذلك، فهذا يدلّ على مخالفةِ الجماعة لهُ على قوله هذا وتركِهم لقراءتها وذلك بأن يدلّ على فسادِ ما قالوه أولى. فإن قيل: فإذا كان قد اعتمدَ عندَهم أنّها من القرآن وهم يعلمون أتها ليست من القرآن، فلِمَ تركوا النكيرَ عليه، وأن يقولوا له: قد أعظمتَ الخطأَ والفريةَ في إدخالك ما ليسَ من القرآن فيه؟ يقال لهم: يكفي في الرد لقوله والخلافِ عليه تركُهم الرجوعَ إلى قوله مع سماعِ ذلك منه وتكرُّرِه وكثرةِ ضجيجِه هو بقوله: "تركَ الناسُ آيةً من كتاب الله، وسرقَ الشيطانُ آيةً من كتابِ الله "، لأنّ هذا القولَ مع ظهورِه منه يدل على أن القومَ لا يعتدّون بقوله هذا ولا يثبتون به بسم الله الرحمن الرحيم قرآنا، ولعلّه أن يكونَ فيهم مَن قال في خلافه ما ذكروه وخرجَ عن الإغلاظِ له إلى مثلِ ما وصفوه. ويُمكنُ أيضاً أن يكونوا إنّما تركوا الإنكارَ عليه وأن يقولوا له في أخطأتَ ليستْ من القرآن، لأجلِ أنه لم يتحقّق عندَهم أنّه اعتقدَ أنّها آيةٌ منزلةٌ من كل سورة، وظنهم أنّه اعتقدَ أنّه كلامٌ يُفتتح به السورُ والجُمَل، وأن السنةَ قد جرت بذلك عندَه، وأنه إنما قال: "سرقَ الشيطانُ من كتابِ الله آيةً، وتركَ الناسُ من كتابِ الله آيةً" يريدُ أنّه سرق منهُ ما يقومُ مقامَ آيةٍ مما جَرَت السنة عندَنا بالافتتاحِ به، وقد قال الله سبحانه: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) . فلو تركَ تاركٌ الاستعاذةَ عندَ قصده عرضَ القرآن، لساغ أن يقول قائلٌ: سرق الشيطانُ الاستعاذة، وسرق آيةً من كتابِ الله، يريدُ بذلك أنّه سرقَ ما يقومُ مقامَ آيةٍ من الاستعاذة التي أُمِرَ بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وساغ أن يقولَ أيضا: "سرقَ الشيطانُ آية" أي: أنه سرَقَ موجبَ آيةٍ وهو قولُه: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ، إذا احتملَ قولُه جميعَ ما ذكرناهُ وبطلَ التعلّقُ به. ويمكنُ أن يكونَ معنى قوله: "سرَقَ الشيطانُ آيةً من كتابِ الله "، أي: سرقَ قرآناً ثابتا في النمل، ومفتَتَحاً به في الحمد، وفي كلّ سورةٍ، لأنه قرآن من النملِ يُفتتح به عندَه في غيرِه، وقد كانَ أنسُ بن مالك يُنكرُ ما يقولُه ابنُ عباس، ويُروي أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم ومن بعدَه من الأئمةِ لم يكونوا يقرؤون ببسم الله الرحمن الرحيم، فَروى مالكٌ عن حُمَيدٍ عن أنس: "أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا لا يقرؤون ببسم الله الرحمن الرحيم ". فإن قيل: أرادَ أنهم كانوا لا يجهرون بقراءَتها. قيل لهم: ظاهرُ الخبرِ تركُ القراءةِ بها جملة، لأنّ تركَ الجهرِ بالقراءة ليس بترك للقراءة، فلا وجهَ للعدولِ بالخبرِ عن ظاهرِه. وشيءٌ أَخرُ وهو أنه إن كان معنى الخبرِ تركَ الجهرِ بها فذلك دليل على أنها ليست من الحمد لاتّفاقِهم على الصلاة التي يجب الجهرُ فيها، لا يَجهَرُ فيها ببعضِ السورة ويُخافتُ بالبعضُ، كما لا يفعل ذلك فيما عدا الحمد من السورة التي يجبُ الجهرُ فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقد روي أيضا عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا لا يجهرون ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ولو كانت من الحمد لجهروا بها في صلاة الجهر، وقد ظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي كيف تقرأ إذا كبرت؟ فقال: الله أكبر (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فلم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركت آية من الحمد، كما قال ابن عباس على ما رووه عنه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه الصلاة وترك الأخذ بقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أولى أن يعمل به ويكون حجة. وقد روى عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سئل أنس: أيفتتح الرجل الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فقال: ما قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولاعمر ولاعثمان حتى كانت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الغشية"، فهذا إنكارٌ منه شديد واعتقاد لكونِ قراءتها والافتتاحِ بها بدعةً في الدين. وروى الناسُ أنٌ عبدَ الله بن مغَفّل سمعَ ابناً له يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: "يا بُنى إياك والحدَثَ، فإني صلّيت خلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ فلم أسمع أحداً مثهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم "، وهذا أيضا إنكار من عبد الله بن مغفّل لقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وإخبار عن اعتقاده واعتقادِ السلفِ أنّ فعلَ ذلك بدعة وحَدَثٌ في الدين، فكيف يمكنُ أن يُقال إنه لم يكن في السلف منكِر غيرُ ابن عباس. وحالُهم ما وصفناه. ومما يدل على أنّها ليست بآيةٍ من الحمد أيضاً ومن كل سورةٍ اتفاقُ الدهماء على أن: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ثلاثين آية، وظهورِ الخبرِ بذلك عن الرسول، وقد روى شُعبةُ عن قتادةَ عن عباس الجُشَمي عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من القرآنِ سورةً ثلاثين آية، جعلت تجادلُ عن رجلٍ غُفِرَ له، وهيَ تبارك ". وقد اتُفق على أنّها إذا عُدّت مع "بسم الله الرحمن الرحيم " كانت إحدى وثلاثين آية. وكذلك قد اتفقَ القرَّاء كلّهم على أنّ الكوثرَ ثلاثُ آيات، فلو كانت بسم الله الرحمن الرحيم آيةً منها لكانت أربعَ آيات، وذلك خلافُ الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فإن قيل: هي في تبارك والكوثر بعضُ آية، وفي الحمد آيةٌ تامةٌ. قيل: هذا محال، لأنّه لا يجوز أن تكون آيةً كاملةً في موضعٍ وفي غيره بعضَ آيةٍ وهي كلامٌ واحدٌ غيرُ مختلفٍ ولا متفاضِلٍ في نظمه أو عددِ حروفه، فكلُّ هذا يدلُّ على أنّها ليست بقرآنٍ ولا آيةً من الحمد ولا مِن غيرها إلا في سورة النمل. وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . فلو كانت من الحمدِ ومن كل سورةٍ لحفظها الله تعالى علينا. وجعلَ لنا إلى العلمِ بذلك طريقاً، ولم ينكر سلفُ الأمّة وأكثرُ خَلَفها كونَها قرآناً من الحمدِ ومن كل سورة، كما أنّها لمّا كانت قرآناً من النّمل لم يُنكر ذلك أحدٌ ولم يُختَلَفُ فيه. فإن قيل: فإن لم تُثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآناً، باختلافٍ وخَبَرٍ غير متواتر فلا تثبتوا أيضاً المعوّذتين قرآناً لوقوعِ الخلافِ فيهما؟ قيل لهم: معاذَ الله أن يكونَ السلفُ اختلفوا في أن المعوّذتين قرآن. وإنّما اختلفوا فى إثباتها في المصحَف، وكان عبدُ الله بنُ مسعودٍ لا يرى ذلك، لأنّه لم يكن عنده سُنّةٌ فيهما، فأمّا أن يُنكِرَ كونَها قرآناً فذلك باطل. وشيء آخر، وهو أنّه قد ثبتَ القرآنُ بإعجازِ نظمِه وإن لم يثبت بالتواتر. والإعجاز قائم في المعوّذتين وليس هي في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا خبر متواتر يعلَمُ في ذلك، فبطل ما قالوه. فإن قيل: فإذا قلتم إن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست آيةً من الحمد ولا من جمل سورةٍ هيَ في افتتاحها، فهل تكفّرون مَن قال إنّها من الحمد وأنّه بمثابةِ من قال إنَّ: "قِفا نَبْكِ" من الحمد أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قيل له: لا، وإنما يلزمُ هذا الكلام مَن قال من أصحابنا: لو كانت من الحمد ومن كل سورةٍ لوجبَ إكفارُ من أنكر كونَها من الحمد، فيُقال له: ولو لم تكن من الحمدِ لوجب إكفارُ من قال إنّها من الحمد، وليست هذه عندَنا طريقةً صحيحةً ولا مَرضِيةً في النظرَ، ولا واجبةً في حكم الدّين، بل الواجبُ أن نقول: إن معتقِدَ كونها من الحمد ومن كل سورة، أو آيةً منزَلةً مفردةَ فاصلة بين السور: مخطىءٌ ذاهبٌ عن الحق، لأجل عُدُوله عمّا وجبَ عليه من العلم بأن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لو كان قد نصّ على ذلك من حكمها لوجبَ تواترُ نقلِه وظهورِه وانتشاره، ولَزِمَ في القلوبِ العلمُ بصحته، وأن ذلك عادةُ الرسول في بيانِ جميعِ ما أنزل عليه من القرآن، فلما عَدَل عن ذلك وعمل على ظاهرِ افتتاحِ الرسولِ بها وأمره بكتبها للفصل بين السّور، وجهره بها تارة، فظَنّ بهذا أنَّها من جملة القرآن: كان بذلك غالطاً وعادلا عن بعضِ ما لزمه ووجبَ عليه في العلمِ ببيانِ الرسولِ بمثل القرآنِ وعادتهِ فيه، وكان بذلك متأوّلاً ضرباً من التأويل لا يُصيِّرُهُ بمنزلةِ من ألحقَ بالقرآنِ ما قد عُلِمَ ضرورةً من دين الرسول، وباتفاقِ أمّته أنّه ليس من القرآن. ولأننا أيضا لسنا نقول - مع قولنا إنها ليست بقرآنٍ من الحمدِ وأولِ كل سورة - أنّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قال قولا ظاهرا معلِنا أنّ بسم الله الرحمن الرحيم ليست بآيةٍ من كتاب الله، ولا هى من جملة الحمدِ ولا مِن جملةِ غيرها، وأنّ هذا التوثيقَ سُمِعَ منه، ونَقَلَتْهُ الحجَّة ُ القاطعةُ عنه، حتى يكون من حجتِه هذا القولُ، وقال إنها من القرآنِ كافة أو بمثابةِ مَن سمع ذلك من الرسول فرده وامتنعَ من قبوله، فلم يجب إكفارُ المتأوِّل لكونها من القرآن. وكذلك مُخطئو مخالفينا يقولون إنّه لا يجبُ إكفارُ مَن قال إنّها ليست من الحمد ولا من كل سورة سوى النمل، لأنّ الرسولَ لم يوقف توقيفيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ظاهرا معلَنا بادياً منقولا متواترا على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآن وبعضٌ لسورةِ الحمد ولكل سورةٍ هي افتتاحُها، وإنما يُعلَمُ ذلك بدليلٍ وضربٍ من الطلب والاجتهاد، فلم يجب إكفارُ جاحدِ كونها آيةً من الحمدِ أو غيرها مِن حيثُ وجَب إكفارُ جاحدِ الحمدِ جملةً أو آيةِ الدين أو غيرها من آياتِ السوَرِ المعلومِ ضرورةً من دِين النبى - صلى الله عليه وسلم - توقيفُه على أنهما قرآنٌ. وإجماعِ الأمّة على ذلك، وإذا كان هذا هكذا سقط ما توهموه، وبانَ بطلانُ التعلّق بهذا الفصل من الفريقين جميعاً، والله الموفق للصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 (باب) القولِه في ببانِ حكمِ كلامِ القنوت، وما رُوِيَ عن أبي من الخلاف في ذلك فإن قاه قائل إذا كان أمرُ القرآن في الظهورِ والانتشار، وحصولِ علمِ الأمهّ بما هو مته وما ليس من جُملته على ما ذكرتم، وجب أن يكون أبي بن كعبٍ من أعلم الناس بذلك، وأحفظِهم له، وأشدهم حرصا عليه. وأعرفهم بما هو منه مما ليس منه، فكيف جاز أن يذهبَ عليه مع ذلك أن يذهب عليه أن كلام القنوت ليس من القرآن الذي أنزل، ووقفت الأمة عليه، ويجبُ - كيف دارت القصة - أن يكون أمر القرآن على خلافِ ما ادعَيتم من الظهورِ. والانتشار بين الصحابة ومَن بعدهم، لأجل أن سورتي القنوت إما أن تكونَ قرآنا أو ليستا بقرآن، فإذا كانتا غير قرآن فقد ذهب على أُبي وأثبتَهما فى مصحفه، واعتقدَ أنهما قرآن، وإذا جاز ذلك عليه جاز مثلُه على غيره، وجاز منه ومِن غيره أن يعتقدوا أيضا فى كلام آخرَ مِن كلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والأدعية أنه من كلام الله تعالى، ولم يَأمن أن يكون فيما أثبتوه كثير. هذه سييلُهم فيه، وإن كان دعاء القنوت من القرآن فقد عرفه أُبي وحدَه وأثبته، وجَهِلَه وذهبَ عن علمِه جمعُ الأمَّة سوى أبى وحدَه، وإذا جاز ذلك في سورتَي القنوت، جاز مثله فى غيرهما، وبان بذلك أن إثباتَ جميعِ ما هو من القرآن وما ليس منه، لم يقع مِن النبى - صلى الله عليه وسلم - على وجهٍ واحدٍ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الإشاعةِ والإذاعةِ والإعلامِ، وقطعِ عُذرِ الكافّةِ فيه، وأنّ منه ما قد أُثبِتَتْ بظن واجتهاد، وإعمال رأيٍ وظنّ بمَن رواه لهم من جهةِ الآحاد، وشَهِدَ عندَهم من العدول بأنه سمعه من الرسول وتلقّاه، وكل هذا نقض لما أصَّلتُموه، وخلاف لما ادّعيتمُوه. يقال لهم: الذي عندنا في هذا أنّ دعاءَ القنوت ليس من القرآنِ بسبيل. ولأنه لو كان من القرآنِ لكانَ بيانُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإيعازه في أمرِه كبيانه لسائر القرآن، ولكانت الحجَّة ُ قائمةً والعادةُ جاريةً بضبطه عنه وحفظِه، وتوفر الهِمَمِ والدّواعي على إظهاره وإشهاره، فإذا لم يكن أمرُه كذلك بطلَ بُطلانا بيناً أنّه من القرآن، ولأننا أيضاً قد عَلِمنا قصورَ نظمه في البلاغة والفصاحة عن رتبة القرآن وإن كان أفصح وأوجز وأحسنَ من كثيرِ من كلام العرب، وإنما يَعلمُ ذلك ويتأملُه أهلُ العلم والفصاحة وأهلُ البيانِ والبلاغةِ والمعرفةِ بنظوم الكلام وأوزانِه وموقع معانيه، وشرفِ تأليفه ومعانيه، ومباينته لسائرِ ما قَصُرَ عن بلاغته. ويدل على ذلك أيضاً ما سنذكرُه من اتفاق أُبيّ وعبد الله وجميع الأمَّة على تصحيح مصحف عثمانَ وأنّ ما انطوى عليه هو جميعُ القرآنُ الثابت الرسم، وأنّ ما خالفه وزادَ عليه فليس بقرآن، والأمّة لا تجتمعُ على خطأ وضلال، وقد ثبتَ أنّ أُبيّا عُمِّرَ إلى زَمَنِ جمعِ عثمانَ الناسَ على مصحفه. وأنه كان أحد من حضرَ ذلك وأشادَ به بما سنذكره فيما بعدُ إن شاء الله فلعلّ أُبيًّا إن كان قال ذلك أو كتبَ الدعاءَ في مصحفه ورُقَعِهِ التي كان يثبت فيها القرآنَ إنّما قاله وأثبته على وجهِ التوهم والغَلَطِ ثم استدرك ذلك واسترجع لمّا وجدَ الأمّة دافعة لذلك وراغبةً عنه، ولمّا عَلِمَ أنها لا تجمع على خطأ وتضييع للحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وهذا هو المعتمد، لأن ذلك لو كان قرآناً على ما ظنه لوجَبَ ظهورُهُ وانتشارُه ومعرفةُ الكافة به، وعُلِمَ أن هذا هو العادةُ في نقل ما يقتضي أحواله تحزُكَ الدواعي والأسباب على نقلِه وإذاعتِه، فكلّ هذا يدل دلالةً قاطعةً على أنّ القنوتَ ليس من القرآن بسبيل. وأوّلُ ما نقولُ ما رُوي عن أُبيّ بعد تقريرِنا لهذه الدلالة على أن دعاءَ القنوت ليس من القرآن في شيءٍ أنّ أحداً لا يقدرُ أن يرويَ عن أُبيّ لفظةً واحدةً في أنّ دعاءَ القنوت قرآن نزَل، وإنما رَوى قوم عنه أنّه أثبتَ دعاءَ القنوت في مُصحفِه، وإذا لم يقُل ذلك تصريحاً ولا حُفِظَ عليه ولم يكن إثباتُه له في مُصحفه أو رقعةٍ من مصحفه يدل دلالةً قاطعة على أنّه يعتقدُ كونَه قرآنا لما سنُبينُه فيما بعدُ: بأن بهذه الجُملة أنّه لا حجَّةَ لأحدٍ فيما يُروى من إثباتِ أُبى لهذا الدعاء. ثم إذا صرنا إلى القول فيما رُوِيَ عنه من إثباتِ هذا الدعاءِ في مصحفه لم نجده ظاهراً منتشراً ولا مما يَلزَمُ قلوبنا العلمُ بصحته ويلزَمُنا الإقرارُ به والقطعُ على أُبيّ بأنه كتبَ ذلك، بل إنّما يُروى ذلك من طُرقٍ يسيرةٍ نزرةٍ روايةَ الآحاد ِ التي لا تُوجبُ العلم ولا تَقطعُ العُذر، ولا ينبغي لمسلمٍ عرفَ فضل أُبى وعقله وحُسن هَدْيِه وكثرةَ علمه ومعرفتَه بنظم القرآن ووزنه وما هو منه مما ليس من جُملته: أن تُنسَبَ إليه أنه كتب دعاءَ القنوت في مصحفه أو اعتقد أنه قرآن فإن اعتقادَ كونه قرآنا أَبْيَنُ وأفحَشُ في الغلط من كتابته في المصحف وأن يُقطع على أُبي الشهادةُ بذلك من جهة أخبار الآحاد ويُشهَد بذلك عليه، ويُشهدَ به على مَن دونَ أُبيّ من العلماء المؤمنين، وإذا كان ذلك كذلك وكنّا لا نعرفُ صحّة إثباته له بهذه الرواية: فسقطَ التعلق بها سقوطا ظاهراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ومما يدلُّ على وهاء هذا الخبر عن أُبي علمُنا بأن عثمانَ يُشدّدُ ويُصعّبُ في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه، وفي المطالبةِ بها وتحريقِها ودرسِ آثارِها، والمنعِ من العملِ على ما فيها، وإذا كان ذلك كذلك كانت العادةُ توجبُ أن يكونَ مصحفُ أُبي أولَ مقبوض ومأخوذ، وأن يكون عثمانُ تَسَرعَّ إلى مطالبته وحرصِه على قبضه وتحصيلهِ أشدّ من تسرعه إلى مصحف غيره ممن تَنقُصُ رتبتُه عن منزلته، ولا تتعلَّقُ القلوبُ وتتطَلّعُ النفوسُ إلى ما عندهُ وما في مصحفه، وقد جاءت الروايةُ عن محمد والطُفَيل ابنَي أُبيّ بن كعبٍ وأنّهما قالا لوفدٍ من أصحابِ عبد الله عليهما يطلبُ مصحف أبيهما، فذكرا أنّه قد قبَضه عثمانُ منه، وإذا كان ذلك كذلك، وجبَ أن يكونَ مصحفُ أُبيّ الذي فيه إثباتُ هذا الدعاء - إن كان ذلك على ما رُوِي - مما قد أُخذ وقُبِض، فكيف بَقِيَ حتى رآه الناسُ ورووا أنّه كان عند أنس بن مالك وأنّه كان فيه دعاءُ القنوت! ويقولُ بعضُهم: هذا لا أصلَ له، وقد رأينا مصحف أنسٍ الذي ذكر أنه مصحفُ أُبيّ وكان موافقا لمصحفِ الجماعة بغيرِ زيادةٍ ولا نقصان، ولو صحّ وثبتَ أنه وُجِدَ مصحفٌ يُنسب إلى أُبيّ فيه دعاءُ القنوت لوجب أن يُعلم أنّه متكذّب موضوعٌ قُصِدَ بوضعه لفساد الدين وتفريق كلمة المسلمين والقدح، في نقلِهم، والطعن في مصحفهم الذي هو إمامُهم، ولا ينبغي لعاقلٍ أن يقطعَ الشهادةَ على أُبيّ بأنّه أثبتَ دعاءَ القنوتِ في مصحفه واعتقد أنه قرآنٌ بوجود صحيفةٍ ذلك فيها يُذكَرُ أنّه مصحَفُ أُبيّ من وجهٍ لا يُوجبُ العلم ولا يقطعُ العُذر ولا يَحُلّ في الظهور والانتشار محلّ ما من شأنه أن يظهر عن مثل أُبيّ ويكثرُ الخوضُ فيه والروايةُ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكذلك فلا يجبُ أن تُقطع الشهادةُ بذلك برؤيةِ صحيفة هذه سبيلُها على مَن هو دونَ أُبي من المؤمنين، وأن الوضعَ والكذبَ والتلفيقَ قد يُرسَمُ في المصحف ويُنسَبُ إلى أهل الفضل لقصد ما ذكرناه، وإنَّما يجبُ أن يُقطَعَ على أن الكتابَ والمصنَّفَ كتابُ الرجل وتأليفُه، وثبتت الشهادةُ عليه بذلك بالأخبارِ المتظاهِرة المستفِيضة الموجِبة للعلم دونَ وجود الكتابِ فقط. وبمثل هذه الأخبار أثبتنا مصحف عثمانَ وأنّه جمَعَه، وبمثلِها علمنا أنّ "موطأ مالك " و "رسالة الشافعي " و "مختصر المُزَني " و "العينَ " للخليل و"المقتَضَب " للمبرد: من تصنيفِ من يُنسَبُ إليه من العلماء، لا بوجود الكُتُب والصحف فقط التي لا تُبينُ عن نفسِها ولا تُخبِرُ عن صحتها وبطلانها، فإذا كان ذلك كذلك لم يكن في وجودنا أيّةَ نسخةٍ أو بأيّة نسخةٍ فيها دعاءُ القنوت منسوبةً إلى أُبيّ ما يوجبُ القطع عليه بدلك والعلم بأنه مِن جمعِهِ وإثباتِه، فبان أنه لا تعلُّقَ لهم في هذه الآية. وقد ذكر الناسُ أن الذي لَهَجَ بذكر ذلك على أُبي وخاض فيه وأشاعَ ذكره عنه أصحابُ عبد الله بن مسعود، وأن الداعيَ كان لهم إلى ذلك شدةُ حرصهم وعنايتِهم بطلب كلّ مصحفٍ يُخالِفُ مصحف عثمان بما قلّ أو كثر ليجعلوا ذلك حجّةً وذريعةً إلى تسهيل سبيل مخالفة الناس لمصحفِ عثمانَ والعملِ به وبغيره من مصحفِ عبدِ الله وأُبيّ وغيرِهما، وكان هذا سببَ ذكر الناس لهذه القصة عن أُبيّ، فروى بِشْرُ بن سعيدٍ عن محمد بن أُبى بن كعبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أنه قال: "قَدِمَ ناس من أهل العراق إليَّ فقالوا: إنا قد أعمَلْنا إليك المُطِيّ ، من العراق، فأخرِج لنا مصحفَ أُبيّ، فقُلت لهم: قد قبضه عثمانُ، فقالوا: سبحانَ الله! أخرجهُ إلينا، فقلت: قد قَبضَه عثمان. وروى صدقةُ بن زياد عن أبي نُعَيم عن الطُفَيل بن أُبي بن كعب أنه قال: قَدِمَ أربعةُ نفرٍ من أهل الكوفة بعدَ وفاة أُبى في خلافة عثمان فقالوا: إنا قدمنا إليك لتُخرِج إلينا مصحف أبيك لنَنظُر فيه، فإن أباك كان أعلم الناس بالقرآن، فقُلت: قد قبضَه عثمانُ، فقالوا: سبحان الله! ما لعثمانَ ولمصحفِ أبيك؟ قلت: ما لعثمانَ ولكن عمرَ بن الخطاب حَزقها". فهذا يُنبِىءُ عن قبض عثمان لمصحف أُبي على ما قد بيناه مِن قبلُ. وعلى ما ذكرناه من شدة حرصِ أهل العراق وطَمَعِهم في أن يَعثرُوا على مصحفٍ يُخالِفُ مصحف عثمان، فقد يجوزُ إذا كان ذلك كذلك وتحدث متحدث وقال: إتي رأيتُ عندَ أنسِ بن مالكٍ أو غيره مصحفاً هو مصحَفُ أُبي فيه دعاءُ القنوت: أن يُكثِرَ أصحابُ عبد الله ذكر ذلك ويجعلوه حجةً في الامتناع من تسليم مصحفِ عبد الله وغيره من المصاحفِ المخالفة لمصحف عثمان، لظنّهم صدقَ هذا الراوي وإن لم يكن لذلك أصل، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ التعلق بهذه الروايةِ الشاذّةِ الموجبة لخلاف ما عليه العادةُ في شُهرة ذلك عن أُبي وما هُو عليه من معرفة القرآن وحُسن تلقّيه ووجوب علمه ومعرفته بتمييزِه مِن غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 على أنه لو صحَّت الروايةُ عن أُبى بإثباتِ دعاءِ القنوتِ في مصحفه من وجهٍ لا يمكن جحدُه والشك فيه لوجَبَ أن يُحمَلَ ذلك منه على وجهٍ لا يقتضي اعتقادَ كويهِ قرآناً ومخالفةِ الجماعة في ذلك، بل على ما يُوجِبُ موافقةَ الأدلة التي قدَّمنا ذكرَها، وهو أنْ يكون أُبى لمَّا وجدَ دعاءَ القنوتِ وداوَمَ عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصارَ سُنةً متأكدةً وبابا من أبواب الشريعة وعملاً من أعمال الصلاة يجب حفظه والمواظبةُ عليه: رأى أن يثبِتَه في آخر مصحَفه أو تضاعِيفه إن كان مصحفُه مثبَت على قدر ما كان من أخذِه وحفظه للقرآن على غيرِ ترتيبِ السُّور وتاريخ نزوله، لكي لا يذهب عليه كلمة ولا حرف من الدعاء، لا على أنه قرآن منزَل ومما قد قامت الحجة به، فهذا غيرُ ممتنعٍ ولا مدفوعٍ. ويمكنُ أيضاً أن يكونَ لم يثبت دعاءَ القنوت في مصحفه، ولكن في صحيفةٍ أو ورقةٍ كان فيها كلام أرادَ نقلَه وضمه إلى المصحف، وكما يتفقُ للناس مثلُ ذلك عند الحاجَةِ إلى التعليق والضبط، فلما حُمِلَت الصحفُ والرقاعُ إلى أبي بكرٍ الصديقِ رضوانُ الله عليه لِيَجمعَ ما فيها ويَضُمه ويجعلَه إماما وجد دعاءَ القنوت في بعض ما كان عند أبى، ثم درس ذكرُ ذلك والخوضُ فيه والسؤالُ لأبى عنه لعلمه بارتفاعِ الشُبهة عنه في أنه دعاء ليس بقرآن، فلما تمادى الزمانُ وجمع عثمانُ الناس على مصحفه وحرقه جدد ذكره لذلك مجدداً وأعاده وأبداه ليجعل ذلك ذريعةً إلى مخالفة عثمانَ وتسهيل سبيلٍ لقرآنٍ غير ما في مصحفه وظهوره. وقد يُمكن أيضاً أن يُحمَلَ أمرُ أُبي في هذا الباب على غاية ما حاولوه من أمره، وهو أن يُقال إن ذلك إن صحَّ عن أُبي فإنه إنما فعلَ ذلك لأنه اشتبَه عليه دعاءُ القنوت وظن لفصاحته وبلاغته ووجدانه مداومةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عليه في صلواته وفتتاحِ عمر بن الخطاب وغيوه من الصحابة ببسم الله الرحمن الرحيم في قُنوته وفي أول التشهد في الصلاة، فقدر لأجل هذا أجمع أنه من جُملة القرآن فأثبته معه، فقد روِي عن عطاء عن عبيد بن عميرٍ أنّ عمر بن الخطابِ كان يقول في قتوته بعد دعائه للمؤمنين ودعائه على الكَفَرة: "بسم الله الرحمن الرحيم اللهم نستعينك ونستهديك ونثني عليك الخيرَ، ونشكرُكَ ولا نكفرك" ونخلع وتترك من يكفرك، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتكَ ونخافُ عذابك، إن عذابك الجد بالكفار مُلْحَق. وهذا القدرُ لا يدل على أنّ الدعاءَ من القرآن، كما لا يدل افتتاح كثير من كلامِ التشهدِ ببسم الله الرحمن الرحيم على أنه قرآن.. وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لنافع كيف كان ابن عمر يتشهد، قال: كان يقول: بسم الله الرحمن الرحيم التحيات لله الصلوات الطيبات ا@طييأ@) ! . وروَي عن طاووس أنه كان يقول في التشهد: "بسم الله الرحمن الرحيم التحيات المباركات والصلوات والطيبات لله " إلى آخر كلام التشهد وروى الحارث عن عليّ عليه السلام أنه كان إذا تشهد قال: بسم الله الرحمن الرحيم فإذا رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أبي مداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وافتتاح علي وعمر به جاز أن يظن أن ذلك كان قرآنا منزلا فيلحقه بالمصحف. فإن قالوا على هذا الجواب: فأبي على قولكم لم يكن يعرف وزن القرآن من غيره! قيل لهم: معاذ الله! بل كان من أعرف الناس بذلك، ولكنه ظن أن دعاء القنوت وإن قصر عن رتبة باقي السور في الجزالة والبلاغة فإنه يجوز أن يكون قرآنا، وأن يتعذر أن يؤتى بمثله، وإن كان غيره أبلغ من القرآن، كما قد قال الناس: إن من القرآن ما هو أوجز وأفصح وأبدع مما سواه عنه، وإن كان معجزا كله، قوله تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) ، وقوله تعالى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) ، وقوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) . فهذا أوجز وأفصح من مثل قدره من غيره ولو كان معجزا كله إذا بلغ قدر سورة أو آية في طول السورة. وقد زعم قوم أنه لا يمتنع أن يكون دعاء القنوت كان قرآنا فنسخ أو أزيل فرض كتابته وتلاوته مع القرآن لما فيه من فصاحة النظم وجزالته ومناسبته ومقاربته لنظم القرآن، وإن كان هذا هكذا فإثبات أبي له كإثبات قوم غيره لأشياء نسخت بعد أن أنزلت، وإنما لم يجب أن يسيغ نقل دعاء القنوت ما يظهر على هذا الجواب كظور نقل غيره مما يثبت، لأجل أنه لما نسخ انصرفت الهمم والدواعي عن نقله وإحاطته إلا في موضع الدعاء به فقط، كما انصرفت هممهم عن نقل كثير مما نسخ رسمه وتلاوته، ففي هذا نظر! أعني قولهم إنه معجز، لأن نظمه مباين لنظم القرآن وغير خارج عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وزن كلام العرب، ولكن يحتاجُ ذلك إلى لطيفِ فكرٍ وتدبُر ونقلٍ وتأملٍ. وما يُعلَم أن أحداً من الأمَّة يُنكِرُ أن لا يكونَ العلمُ بكون جميع القرآن معجزاً مما يُعلم بالبَدِيهةِ وبأول سماعٍ حتى يعرف أن دعاءَ القنوت ليس بمُعجِزٍ كما يَعرِفُ أنه كلامَ أعيى الناسِ وألكَنهم ليس بمعجز، ويعرفُ أن الناسَ والفَلَقَ مُعجِزتانِ بأولِ سماعٍ لهما، كما يَعرِفُ بأن البقرةَ وآل عمران مُعجز باهِرٌ بأول سماع، بل لا يُنكر أن يكونَ مما ليس بمُعجزٍ من الكلام ما يكادُ أن يخفى ويُقارب، فيحتاج إلى تأمل، وأن بعضَ ما هو مُعجز إذا كان يسيراً قليلاَ كالناس و (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) احتاج في العلمِ بأَنه مُعجِزٌ إلى نظرٍ دقيقٍ وفكرٍ وتحر بقدرِ شَرَفِ نظم الكلام ومعانيه، وعدد ما يشتملُ عليه من المعاني الصحيحةِ والمقاصدِ الكثيرة، وإذا كان ذلك كذلك جازَ أن يكونَ حالُ أُبي محمولةً في ذلك على بعض هذه الوجوه التي ذكرناها. وقد زعمَ أيضًا بعضُ الناس أن دعاءَ القنوتِ مُعجزٌ قاهر من كلام رسولِ الله صلى الله عليه، وإنه لا يمتنعُ أن يكونَ المعَجزُ من الكلام والنظم ضربَين: أحدُهما: كلامُ الله، والآخرُ: كلام لرسوله، وفي هذا نظرٌ أيضاً. لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما ظهر عندَ التحدي بمثلِ شيءٍ من كلامه، ولا ادعى ذلك قط لنفسه، ولو كان ذلك كذلك لظهرَ ذلك عنه وعُلِمَ من حاله، ولكان ذلك زيادةً في حُجته، ولأن ذلك أيضا لو فعلَه عند قومٍ لعادَ بتهمته ودخولٍ الشُبهة على سامع كلامِ الله منه، وظنه أنه من بلاغته هو صلى الله عليه ونظمه، ورجع بالشك في ثبوته، والله تعالى قد حماهُ مما هو دون ذلك من قول الشعر المعروف عندَهم، ومن أن يَخُط كتاباً أو يتلُوَه قبلَ نبوته، لئلا يظنوا أنه من تقوله وأنَّه افتراه ونَظَمَه، أو أنه مما وجده في الكتبِ ولُقنَه. ولأجل أن تأملَ كلام القُنوت ينبي مَن عرفَهُ أنه ليس بمُعجِز البشر عن الإتيانِ بمثله وإن كان من فصيح الكلام ووَجِيزِه وبليغه، فوجَبَ أنه لا معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لهذا القول ولا الذي قبلَه، ووجبَ أن يُحمَلَ أمرُ أُبى في ذلك إن صحَّ الخبرُ عنه على بعضِ ما قدمناه، وإن لم يصحَّ فقد كُفِينا مُؤنة تَطَلُّب تأويلٍ له. وهذا هو الثابتُ أعني بطلانَ هذه الروايةِ عنه وتكذُبَها، وليس يُروى ذلك إلا عن ابنِ سِيرينَ وآخرَ معه، أنهم قد وجدوا مصحَفا عند أَنس ذكر أنه مصحفُ أُبى، فيه دعاءُ القنوت، ومثلُ هذا لا يثبتُ فيه على أُبيّ إدخالُ شيءٍ في القرآن ليسَ منه. وروى بعضُ المعتزلة القَدَرية عن عمرو بن عبيدِ أنّه قال: "رأيتُ مُصحَفا كان لأنس بن مالك قرأه على أُبي بن كعب، فكان فيه دعاءُ القنوت"، وهذا أوهى وأضعفُ وأولى بالرّد من الأول، قال أبو الحسن علي بن إسماعيلَ الأشعري: "وقد رأيتُ أنا مصحف أنسٍ بالبصرة عندَ بعض ولد أنس، فوجدتُه مساويا لمصحفِ الجماعةِ لا يغادرُ منه شيئا"، وكان يُروى عن ولدِ أنسِ عن أنسٍ أنّه خَط أنسٍ وإملاءُ أُبي، وإذا كان ذلك كذلك وجبَ أن يكونَ ما رواه من ذلك باطلاً لما ذكرناه من العادة في بيانِ القرآن وقلة شهرة ذلك عن أُبيّ، ومعارضة الأخبارِ الثابتةِ لهذه الروايةِ بأن مصحفَ أنسٍ كان موافقاً له، وشهادةِ الطُفَيل ومحمد ابنَي أُبيّ أن عثمانَ قبضَ مصحف أُبيّ، فوجبَ بهذه الجملة وضوحُ سقوط التعلُّل بهذه الرواية. والاستنادِ في الطعن في نقل القرآن وإبطال شهرة بيانه، وظهور نقله، وحفظ الأمة لجميعه إلى مثلها والاعتماد عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 (باب) القول في ترتيبِ سُوَرِ القرآن وهل وقع ذلك منهم عن توقيف أو اجتهاد فإن قالوا: كيف يسوغ لكم أن تدعوا أن بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع شائعا ذائعا مستفيضا، وأن القوم حفظوا ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم غير عالمين بترتيب سور المصحف ونظامها بل مختلفون في ذلك اختلافا شديدا، فمنهم من رتب في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وهذا أول مصحف علي عليه السلام فيما رواه عنه الزبير بن عبد الله بن الزبيرعن زياد الأخرم قال: مررت على محمد بن عمر بن علي فقال: ألا أريك يا زياد مصحف علي؟ قال فأراه فإذا أوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فأما مصحف ابن مسعود فإن أوله فيما رواه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ثم البقرة. روى ذلك طلحة بن مصرف أنه قرأ على يحيى بن وثاب وقرأ يحيى على علقمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وقرأ علقمةُ على عبد الله، وأنّ تأليفَ مصحفه كان (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، ثم سورةُ البقرة ثم سورةُ النساء، ثم كذلك على ترتيبٍ مختلف لا حاجة إلى الإطالةِ به، وأما مصحفُ أُبيّ فقد روى بعضُ ولد أنسٍ عن أنس أن مصحفَ أُبي كان عنده، وأن أولَه الحمدُ والبقرةُ والنساءُ، ثم آلُ عمرانَ ثم الأنعامُ ثم الأعرافُ ثم المائدةُ ثم كذلك على اخَتلافٍ شديدٍ في ترتيب السور. وقد رُوِيَ من الاختلافِ ما هو أكثرُ من هذا، فإن جازَ أن يكونَ الرسولُ - قد وقف على ترتيبِ السورِ وتأليفها، وقد ذهب عليهم علمُ ذلك حتى صاروا في الاختلاف إلى مثل هذا الحد، فلِمَ لا يجوزُ أن ينُص على قرآنٍ ويُوقِفَهم عليه وإن جازَ أن يختلفوا فيه عنده وأن يُقَر به قوم ويجحدَه آخرون، وهذا يُبطل أيضاً ما ادعيتموه من ظهور نقل القرآن وحصول بيانه على وجه يُوجبُ العلم ويقطع العذر. فيقال لهم: أما اختلافُ مصاحفهم في ترتيب السُّورِ فإنه كالظاهر المشهور وما يدفعه، وإن كان في الناس من يُنكرُ ذلك ويقولُ إن هذه الأخبار أخبارُ آحادٍ غير أننا لا نقول - مع إثبات اختلافهم في ترتيب السور - إنه قد كان من الرسول صلى الله عليه توقيف على ترتيبها وأمر ضُيق عليهم في تأليفها إلا على حسب ما حده ورسمه لهم، بل إنما كان منهم تأليفُ سُوَرِ المصحف على وجه الاجتهاد والاحتياط وضم السُّوَر إلى مثلها وما يقاربُها، وإذا كان ذلك عندَنا كذلك سقط ما توهمه السائلُ - وقد زعم قوم أنّ تأليف السور على ما هو عليه في مصحفنا إنما كان توقيفا من الرسول لهم على ذلك وأمر به، وأن ما رُوِيَ من اختلاف مصحف أبيّ وعلي وعبد الله ومخالفة سائرهم لمصحف الجماعة إنما كان قبلَ العصر الأخير، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رتب لهم تأليفَ السُّور بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أن لم يكن فعل ذلك، والذي نختارُه ما قدّمناه، وفيه سقوط ما ظنّوا القدح به في ظهور نقل القرآن واستفاضته. واعلموا رحمكم الله أن مَن قال من أهل العلم إنَّ تأليفَ سور المصحف كان واجباً عن توقيف من الرسول لا يقولُ مع ذلك إنَّ تلقين القرآنِ وتلاوته والصلاة به يجبُ أن يكونَ مرتّباً على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنّما يُوجبُ تأليف سُوَرِه كذلك في الرسم والكتابة، ولا نعلمُ أحداً منهم قال إنَّ ترتيبَ ذلك واجب في الصلوات المفروضة وغيرها، وفي تلقِين القرآنِ ودرسه، وإنه لا يَحِل لأحد أن يتلقّن الكهف قبلَ البقرة، ويقرأ في صلاته الحجّ بعدَ الكهف، ولا أن يدرس البقرة ثم يدرس بعدها النحل والرعد، هذا مما لا نعرفُه مذهبا لأحدٍ وإن كان وجوبُ الترتيب في الرسم والكتابة مذهبا لجماعةٍ من أهل العلم والقرآن، والذي نقوله: إنَّ تأليف السور ليس واجباً في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم، وإنّه لم يكن من الرسول في شيءٍ من ذلك نصّ على ترتيب وتضييق لأمر حدّه لا يجوزُ تجاوُزُه، فلذلك اختلفت تأليفاتُ المصاحف التي قدَّمنا ذكرَها، واستجازَ الرسولُ والأئمةُ من بعده وسائرُ أهل أعصار المسلمين تركَ الترتيب للسور في الصلاة والدرس والتلقين والتعليم. فإن قالوا: وما الدليلُ على صحَة قولكم هذا؟ قيل لهم: الذي يدلّ على ذلك أنه لو كان من الرسول نص وتوقيف ظاهر على وجوب ترتيب تأليف السور في الكتابة والرسم لوجب ظهورُ ذلك وانتشارُه وعلمُ الأمَّة به، وأن يُنقَل عنه نقل مثلُه، وأن يَغلبَ إظهارُ ذلك وإعلانُه على طَيه وكتمانِه، كما أنه لمّا كان منه نص وتوقيف على سُوَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 القرآن وجب نقلُه وظهورُه، كذلك لما كان منه نص وتوقيفٌ على سُوَر القرآن وجب نقلُه وظهورُه، وكذلك لمَّا كان منه نصّ وتوقيفٌ على وجوب ترتيب آيات كل سورة من السور والمنع من تقديمِ كتابة بعضِها على بعض وتلاوة بعضِها قبل بعضِ: نقِل ذلك عنه وظهر، واتفقت الأمَّة على وجوب ترتيب الآيات ِ وحَظْرِ تقديم بعضِها على بعضِ وتغييرها في الكتابة، والتلاوةُ وغيرُ ذلك، فكذلك لو كان منه صلى الله عليه توقيفٌ على ترتيب سور القرآن لنُقِل ذلك عنه، وعُرِف من دينه، ولم يُختَلف في تأليفِ السور في المصاحف الاختلاف الذي قدّمناه، فوجبَ بذلك أنه لا توقيفَ من الرسول صلى الله عليه على ترتيبِ تأليف سُور القرآن. ومما يدلِّ أيضا على صحة ما قلناه ويؤكّده ما رواه يزيذ الرقاشي عن ابن عباسِ قال: فلت لعثمانَ بن عفان: ما حمَلَكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ووضعتموها في السبع الطِّوال، فقال عثمان: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي عليه الزمانُ وهو ينزلُ عليه من السُّور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيءُ دعا من يكتب له فيقول: "ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا"، وإذا نزلت عليه الآيات قال: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وإذا نزلت عليه الآيات قال: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" قال: وكانت الأنفال من أول ما نزلَ بالمدينة، وكانت براء" من آخر القرآن فكانت شبيهةَ بقصتها، فظننت أنّها منها، وقُبض - صلى الله عليه وسلم - ولم يبيّن أنّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 منها، فمن أجل ذلك قَرَنتُ بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعناها في السبع الطَوال ". فهذا تصريحٌ من عثمان بأنَّه لم يكن من الرسول نص على وجوب تأليف الأنفال إلى براءة، وأنهم إنما عملوا ذلك بالرأي والاجتهاد الذي ذكره عثمانُ عن نفسِه، وما غلب على ظنّه، وليس في الأمّة من يفرق بين تأليف السورة فيجعلُ بعضَه مضيّقاً مُوقَفَا على ترتيبه وبعضه موسّعا ومخيّراً فيه وغير منصوص على تأليفه، فلذلك لم يجز لأحد أن يقول: إنما ترك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التأليف والترتيب في الأنفال وبراءة فقط، وأوجبه ونصّ عليه في غيرها. فإن قال قائل: فهل تزعمُون أنّ ظن عثمان لكون براءة من الأنفال لشبه قصتها بقصتها صحيحٌ وأمرٌ يجوزُ الاعتلالُ به؟ قيل له: لا، ولسنا نعلمُ قطعاً أن كلام عثمان خرج على هذا الوجه، بل لعله خرج على وجه آخرَ بزيادةِ لفظة ونقصان لفظة اختصرَه الراوي أو زادَ فيه، ويدل على ذلك أيضا أنّ عثمانَ قد قال وعَلِمَ أن كلّ واحدة من السورتين لها اسمٌ يخُصها وعَلَمٌ تُعرَفُ به، وأنه قد كان يتلقى إحدى السورتين على عهد الرسول، وبعده مَن لا يحفظُ الأخرى ولا يعلمُها ومَن يضمُ إلى تعلُّم الأنفال سورةً أخرى مما بعدَ براءة، وكلُّ هذا يُوجِبُ أنّهما سورتانِ منفصلتانِ تُعرَفُ كل واحدة منهما بغير التي تُعرَفُ بها الأخرى. وليس تركُ الفصل بينهما بكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دليلاً على أنّهما سورة واحدة، لأنه قد يجوزُ أن يكون إنما لم يكُتب في أول براءة بسم الله الرحمن الرحيم لما قدَّمناه من قبلُ من كونها نازلة بالسيف لا أمانَ فيها، أو لغمر ذلك، لا لأنها من جملة الأنفال، ويدلُّ على صحة ما قلناهُ ويوضحُه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 رواه ابن جريج عن يوسف بن ماهك قال: "إني عند عائشة إذ جاءها عراقي فقال: أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنا نقرؤه غير مؤلف، قالت: فلا يضرك أيُّهُ قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس نزل الحلال والحرام، لقد أُنزل بمكة - وأنا جارية ألعب - على محمد - صلى الله عليه وسلم - (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) . وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" ثم أخرجت إليه مصحفا، فجعلت تملي عليه. فهذا أيضا نص من عائشة - رضي الله عنها - على سقوط فرض ترتيب سور القرآن، وأنه لا يجب أيضا تأليفه على تاريخ نزوله، ولو قد كان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص في ذلك يوجب العلم ويقطع العذر لوجب شهرته، وأن تكون عائشة أقرب الناس إلى علمه وأعرفهم به، ولم تكن بالذي يقول لا تبالي بأيه بدأت قبل" وهذا يدل على أنهم كانوا مخيرين في تأليف السور، وكان مردودا إلى رأيهم واجتهادهم. فأما استلال من استدل على إسقاط وجوب ترتيب السور والمصحف وتأليفها على ما هي به في الإمام بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في إحدى الركعتين ويقرأ في التي بعدها بغير التي تليها، وأنه كان يعلم أن في الناس من يتحفظ السورة ويأخذ بعد الفراغ من حفظها في حفظ غير التي تليها، وأن فيهم من يتعلم المفصل قبل الطوال ويقتصر عليه، وأن فيهم من يدرس السور على غير هذا الترتيب الذي في المصحف فلا ينكر ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ولا يرُدُّه، وأن عمل الأمّة بذلك مُستَقْرَأٌ إلى اليوم في تلقي القرآنِ على هذه السبيل، ودرسه أيضاً كذلك، والصلاةِ به على غير تأليف، وأن ذلك أجمعَ ينبني عن أنه لا توقيفَ من الرسول في تأليف سوره، فإئه باطل لا حجة في شيء منه، لأنّ هذا أجمع يدلُّ - لعَمْرِي - على أن تأليف السور غيرُ واجبٍ في التلاوة والدرس وفي الصلوات وفي الحفظ والتلقين والتعليم، وذلك لا يدل على أنه ساقط في الكتابةِ وتأليفِ المصحف، لأن رسولَ الله صلى الله عليه لو قال نصّا: " إذا تحفَّظتُم القرآنَ أو درستُمُوه أو لَقنتموه أو تَلَقيتموه أو صليتم به فلا جُناحَ عليكم في البداية بأي السور شئتم، ولكم الخيارُ في ذلك، وإذا أنتم درستموه وكتبتموه فعليكم أن تُؤلفوه على هذا الضرب من التأليف الذي عليه مصحفُ عثمانَ، ويجبُ أن تكتبوا كذا قبلَ كذا، وكذا بعدها، لم يكن ذلك مستحيلاً ولا ممتنعا ولا مما لا يجوز أن يكونَ لطفاً ومصلحةً وعائداً بالاحتياطِ للإمام الذي يُكتَبُ فيه القرآنُ لا يقع مختلِطاً اختلاطاً يمكنُ أن يُوقَع معه الشك فيه، وإن يُدخَلَ فيه ما ليس منه وإن لم يكن يجبُ الترتيبُ في التلقين والتحفُظ والدرس وفي الصلاة، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يكون ما دل على سقوط الترتيب في أحد الموضعين يدلُّ على سقوطٍ في الآخر وقد أجاز المسلمون اللفظَ بأحرفٍ في القراءة. لا يجوز إثباتُها في المصحف على ذلك اللفظ، وإثباتُ أحرف في المصحف لا يجوز التعلق بها كذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطل اعتبارُ أحد الأمرين بالآخر بطلاناً بيناً. واستدل أيضاً قوم على سقوط ترتيب تأليف السور بأنه قد عُلمَ أنه ليس في الدنيا مترسِّل أديبٌ ولا شاعر مُفلق ولا خطيب مصقعٌ يأخذُ الناسَ بترتيب تأليفِ قصائدِه وخُطَبِه ورسائِله، وإنما يريدُ أن يحفظوا قصيدةً منها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ترتيب نظمها وتأليف أبياتها وسياقِ بيانها، ثم لا يُبالي أيهما كُتِبَ في ديوانه أولاً وآخراً ووسطاً، كذلك المترسلُ والخطيب. قالوا: فكذلك رسولُ الله صلى الله عليه إنما أرادَ من الأمّة حفظ السُّوَر وتلاوتها على نظامها وترتيبِ آياتِها فقط، ولم يُرد منهم تأليفَ كل سورةٍ منها قبلَ صاحبتها. وهذا أيضاً باطل من الاعتلالِ لا حجّةَ فيه، وذلك أنّه لا يجبُ القياسُ في مثل هذا، لأنّه لا يمتنع على قول أحدٍ أن يعلم اللهُ سبحانه أنّ من مصالحِ الأمَّة أو بعضها أو من اللطف للرسولِ فقط: الأمرَ بتأليف السور على وجهٍ مخصوصٍ لا "يتجاوَزُ ولا يَحِل سواه، وكذلك الأمرُ في الحفظ والتلاوة، ولا وردَ بذلك سمع وأن ذلك واجب كان نصه واجباً علينا، وإن لم يجب حملُ وجوبِ ترتيبِ قصائد الشاعر وخُطَب الخطيب. وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما قالوه. ويدلُّ على فساد ذلك أيضاً أنه حرام غيرُ جائزٍ قراءةُ السورة منكوسةَ الآيِ والأحرف مِن آخرها إلى أولها وإن لم يُحرم ذلك في كلامِ الخُطبة والرسالةِ وإنشادِ القصيدة، وليس ذلك إلا لأن الله سبحانه أوجبَ ذلك في القرآنِ وحظَرَ تجاوزه، وأسقطه في الخُطَب والرسائلِ والشعرِ ولم يُوجِبْهُ. وإذا كان ذلك كذلك سقطَ هذا الاعتبار، وفيما قدمناه من الأدلة على ذلك غِنىً عن هذه التلفيقات. فأما مَن زعم أنّ الرسولَ قد نصَّ على تأليف سُوَرِ القرآنِ ورسمِها في المصاحف على ما هيَ عليه من الإمام فقد استدلَّ على ذلك بأمورٍ لا حُجةَ في شيءٍ منها، فمِن ذلك أن قالوا: قد اشتُهِرَ عن بعض الشَلَف وهو عبدُ الله ابن مسعود وعبد الله بن عمرَ أنهما كَرها أن يُقرأَ القراَنُ منكوساً، فرُويَ أنّ عبدَ الله بن مسعودٍ سئِلَ عن رجلٍ يقرأ القرآنَ منكوساً فقال: "ذاك منكوسُ القلب". وأن عبدَ الله بنَ عمرَ ذُكِرَ له أن رجلاً يقرأ القرآنَ منكوساً فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 "لو رآه السلطان لأدبه" وكلام هذا نحوه، قالوا: يدل ذلك على وجوب ترتيب السور وتأليفها في القراءة والرسم. وهذا لا حجة فيه، لأنهما إنما عنيا بذلك من يقرأ السور منكوسة ويبتدأ من آخرها إلى أولها، لأن ذلك حرام محظور، وفي الناس من يتعاطى هذا في القرآن وفي إنشاد الشعر فيُذلل عند نفسه بذلك لسانه ويقتدر به على الحفظ، وذلك مما حظره الله تعالى ومنعه في قراءة القرآن لأنه إفساد للسورة ومخالفة لما قصد بها وتجاوز لما حد في كتابتها وتلاوتها، وليس يريد بذلك من قرأ القرآن من أسفل إلى فوق، ومن بدأ بـ آل عمران وثنى بالبقرة وكيف يريدون ذلك وهم قد علموا اختلاف تأليف المصاحف، وأن في الأمة من يبدأ بحفظ ما خف من المفصل ثم يرتفع إلى حفظ ما طال وصعب، ومنهم من يحفظ متفرقا من المواضع المختلفة ويتلوه كذلك، ومن يصلي به في فرائضه ونوافله على هذا الوجه، وهو مذموم بل عمل الأمة على تجويز ذلك وأنه شائع مستقر إلى اليوم، وقول ابن مسعود: "ذاك رجل منكوس القلب" إنما خرج على وجه الذم، فلا ذم على من قرأ البقرة وثنى بالنحل لو صلى كذلك، فثبت أن التأويل ما قلناه. ويدل على ذلك قول ابن عمر: "ولو رآه السلطان لأدبه أو عاقبه"، وقد عُلم أنه لا أدب ولا عقاب على من قرأ البقرة وثني بالحج، فصح أن تأويل منكِّس القرآءة تنكيس آيات السور، وقول عبد الله بن مسعود: "ذاك رجل منكوس القلب" يعني أنه مقيم على معصية الله تعالى ومخالف لأمره في لزوم ترتيب آيات السور وترك قلبها أو قلب حروف آياتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 واستدلوا أيضا على وجوب ترتيب سور القرآن على ما في الإمام بما رواه أبو قِلابةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن شهد خاتمةَ القرآن كان كمَن شهِدَ فتحا في سبيل الله تعالى". وأن المسلمين أجمعوا على أنّ للقرآن قاتحة وخاتمه وهذا أيضا لا حجةَ فيه، لأن قوله من حضرَ خاتمةَ القرآن إنما يريد آخر ما يقرأ منه، الذي يكون قارئه مع قراءة ما قبله خاتما لكتابِ الله، ولم ينص على خاتمته فلا حجّةَ لهم في ظاهر الخبر، ولكنا لا ننكرُ مع ذلك أن تكونَ الحمدُ قد جُعِلَته فاتحةَ ما يُكتب ويتلى، والناسُ خاتمةً لذلك وإن لم يُوجِب ترتيبَ ما بينهَما من السور، فلذلك اتفقَ أصحابُ المصاحف على الافتتاحِ بالحمدِ في القراءة والختمِ بالناس، وإن لم يُرتبوا ما بينهما، وأنه يمكن أن تكونَ الفاتحة والخاتمةُ قد جعلتا فاتحةً وخاتمةً في التلاوة دون الرسمِ والكتابة، فلا حجَّةَ في التعلق بهذا، ونرى أن هذا الخبر لم يسمعه أصحابُ المصاحفِ المختلفةِ الترتيب. راستدلوا أيضا على وجوب تأليفِ السور على ما في الإمام ونص الرسول على ذلك بأن عمل أهل مكةَ استقر على التكبير عندَ ختمِ القرآن إذا بلغ القارئ إلى سورة الضحى، وأنهم يكبرون عندَ ختم كل سورةٍ إلى آخر القرآن. قالوا: وذلك لا يكونُ إلا عندَ توقيفٍ على ترتيب السور، وإيجاب التكبير. وهذا أيضا ما لا شُبهةَ فيه، لأنه قد يجوزُ أن يكونَ الجماعهّ لما رتبَ المصحفُ هذا الترتيبَ عمل أهلُ مكةَ على التكيير عندَ مقاربةِ الختمة. تعظيما للقرآن وتوخياً للثواب وإنذار الناسِ بقرب ختمه والبلوغِ إلى آخره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 للحضور إلى ذلك، والاجتماع للدعاء عنده والتبرك به وغيرِ ذلك مما أصلُوه، وليس يدلُّ ذلك على وجوبِ التكبير ولا وجوبِ التأليف. واحتجوا أيضاً لذلك بأنه قد رُوِيَ أنه كان عندَ عبد الله بن الزبير مصحف فيه القرآنُ على نظمه وتاريخِه الذي أُنزل عليه وألف، وهذا باطل. لأنها من رواياتِ الآحاد، وما رُوِيَ أن أحداً رأى هذا المصحف أو وجده. ولو رُؤيَ ذلك لم يدل تأليفُه على ما هو به أنه مما أَمر الرسولُ بتأليفه كذلك، لأن للناس آراءَ في التأليف، فلعل مُؤلًف ذلك المصحفِ رأى أن يجمعَ سوره على تاريخ نزوله المكي منها ثم المدنيّ، وإن لم يمكنه ذلك في آياتِ السُّوَر لما نُبينه فيما بعدُ إن شاء الله، فوجبَ بهذه الجملةِ أنّه لا حجةَ لأحدٍ في صحة توقيفِ الرسولِ على تأليفِ سوَرِ القرآن وترتيبها في التقديم والتأخير. فإن قال قائل: فإذا أثبتم بما وصفتم أنه لا نصَّ في ذلك، وأنهم ألفوا سورَه بالرأيِ والاجتهادِ وضمَ الشيء إلى ما أشبَههُ وقارَبه، فألا ألفُوه على تاريخِ نزوله فبدأوا بالمكي منه قبلَ المدني، وبما أُنزل منه أولا ثم بما أُنزل بعدَه على ترتيبِ نزوله، فيكونون بذلك أقربَ إلى الصوابِ وترتيبِ إنزاله أو إلى معرفةِ تاريخِ الناسخِ والمنسوخِ وما يُحتاجُ إليه في معرفة الأحكام؟ قيل له إنما لم يفعلوا ذلك لأنه أمر لا يصح إلا بنقضِ آياتِ سُورِ القرآنِ وإفسادِ نظمِها وتغييرِها عما حُد لهم، وقد صحَّ وثبتَ أنه لا رأيَ لهم ولا عملَ ولا اجتهادَ في ترتب آيات سُوَر القرآنِ على ما سنذكره فيما بعدُ إن شاءَ الله، وقبلَ أن نبيًن ذلك فإنا نقول: إن كل عاقلٍ يعرفُ فضلَ عقول الصحابة ولطيفَ نظرِهم وقوة أفهامِهم ومعرفتِهم بالتنزيل وأسبابه، وأنهم أولى الناسِ بصحيحِ الرأي والتدبير، فمَن ظن بنفسِه فضلَ تقدمٍ عليهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ذلك واستدراكَ عَجْزٍ وتفريطٍ وتركَ حُرَمٍ كان منهم: فهو من الغباءِ والجهل بحيثُ لا يُنتفَعُ بكلامه. ثم نقول: ليس لأحدٍ أن يقول: لِمَ لم يُؤلفوا سُورَ القرآنِ على تاريخِ نزوله ليكونوا بذلك متوافقين في التقديم والتأخير أوقاتَ نزولِه، وليس هو بقوله هذا بأولى ممن قال: بل الواجبُ هو ما فعلوه من تصنيفِ السور وضم كل شيءٍ إلى مثلِها وشكلِها، لا سيما إذا علموا أن اللهَ سبحانه ورسولَه عليه السلام قدَّم في السورة الواحدةِ إثباتَ المنسوخ على الناسخ، وأنّه كان مُنزَل منه المدني فيُؤمروا بإثباته في السور المكية، وأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُراعِ في إثباتِ آيات السُّوَر وتاريخِ نزولِها، فكذلك لا يجبُ عليهم هم أن يُراعُوا في تأليفِ تاريخِ نزولها، ولجازَ أيضاً لأحدٍ أن يقول: ما الحق إلا فيما فعلوا من تقديمِ طِوالِ السور على القِصار، لأنها أعظمُ قدراً في النفوس وأخرَقُ للعادة، وأعظمُ في الإعجاز، وأجمعُ للفوائد، وأكثرُ اشتمالاً على المواعظِ والأقاصِيصِ وضربِ الأمثال وتفصيلِ الحلال والحرام، وكان ذلك مِن فعلهم أولى. وقد يسوغُ أيضاً لآخرَ أن يقول: بل كان الواجبُ عليهم تقديمُ قِصارِ السور لكونها أقربَ مأخذاً وأسهلَ وأخف على المتعلِّم من التشاغُل بطِوالها، وكل هذا تخليط وتعنَّتٌ للصحابة، ومحاولة للقدح في آرائهم بما يعودُ بالدلالة على غَباوة المعترِضِ وجهلِه، والذي يدلُّ على أنه لا يجوزُ لهم تأليفُ سُوَر القرآنِ على تاريخ نزوله أنهم لو فعلوا ذلك لوجبَ أن يجعلوا بعضَ آيات السور في سورة أخرى، وأن ينقضُوا ما وقفوا عليه من سِياقِ ترتيبِ آياتِ السور ونظامها، لأنّه قد صحَّ وثبتَ أنّ الآيات ِ كانت تَنزِلُ بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السور المكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ويقال لهم: "ضعوا هذه في السورة التي يُذكَرُ فيها كذا"، فلو أتلفوا السورةَ على تاريخ النزول لوجبَ أن ينقضُوا ترتيبَ آياتِ السور ويخلطوها ويجعلوا بعضَ هذه السورة في هذه السورة، وبعضَ هذه في هذه، وهذا تخليط وإفساد قد حُرمَ عليهم. ولو قصدوا أيضاً إلى تأليف معظم ما نزلَ من الآي متتابعا، فجعلوه في صدر السور وأخَّروا ما نزل بعدَ ذلك لم يكن فيه فائدة ولا دلالة على تاريخ الناسخ والمنسوخ، لأن الآيةَ الناسخةَ قد تنزلُ بعد المنسوخة في سورتها فيُؤمروا بإثباتها قبلَ المنسوخة، وربما كانت الناسخةُ مدنيّةً فيؤمروا بإثباتِ ذلك في سورةٍ مكيةٍ وأن لا يثبَتَ في شيءٍ من المدنيّة، فلا معنى لضم ما يُقارِبُ نزولُه وتوالي ذلك وجعلِه في صدورِ السور لأجل ما وصفناه. وقد يجوزُ أن يكونوا إنما عدلوا أيضاً عن هذا خوفاً من أن يَظُنَّ ظان أن ترتيبَ جميع آيات السور على هذا التاريخ، وذلك أمرٌ يُدهِشُه، ويخيَّلُ إليه أنّ الآية َ الناسخةَ ليست بناسخة لما تقدَّم من نزوله إذا وجدوها في آخرِ السورة وكانت المنسوخةُ متقدمةَ النزول وفي صدر السورة، فإذا خِيفَ ذلك ولم يُؤمَن توهمُ مثلِه وجبَ العدولُ عن مراعاةِ تاريخ نزولِ القرآنِ في تأليف سُورِه، ووجبَ أن يكون ضمهما على وجه المشاكلة والمقاربة والتصنيف لذلك، وضمُ الشيء إلى ما يقاربه أولى، وسقطَ بذلك ما سألَ عنه السائل. فإن قال قائل: وما الدليلُ على صحّةِ ما ادَّعَيتموه مِن أنّ الرسولَ كان يأمرُ بإثباتِ الآية ِ النازلةِ في سورةٍ متقدمة النزول دونَ الموضع الذي قبلَها في قربِ نزوله؟ قيل: هذا ظاهر مكشوف من دينِ الرسول وحالِه وأمرِه برسمِ القرآن. وقد وردت بذلك الأخبارُ وتظاهرت، فروى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 عباس في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) . قال: "هذه آخرُ آيةٍ نزلت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإنّ جبريلَ نزل عليه فقال: ضعها على رأسِ ثمانينَ ومئتين من البقرة"، وقد عُلم أنّ ذلك الموضع ليس هو الذي يلي نزولها، فهذا يدلُّ على صحّةِ ما قلناه. وروى الزُهري عن عُبيَد الله بن عبد الله بن عُتْبة عن ابن عباس قال: حدَّثني أُبيُّ بن كعب قال: ربّما نزلَ على رسول - صلى الله عليه وسلم - الصدرُ من السور فأكتبُها، ثم ينزل عليه فيقول: "يا أُبيُّ اكتب هذه في السورة التي يُذكرَ فيها كذا وكذا"، وربّما نزل عليه فأقفُ حتى أنظرَ ما يقولُ حتى يحذدثَ إليّ فيقول: "تلك الآياتُ ضعها في سورةِ كذا وكذا"، وهذا أيضاً تصريح بأنّه كان يُلحِقُ ما يتأخرُ نزوله بما دونَ ما يليه، وكان أُبي قد علم أنّ إثباتَه على تاريخ نزوله باطل غيرُ واجب، ولولا ذلك لم يكن ليُوقِفَه، وانتظارِ أمرِ الرسولِ بأن يثبتها معنيّ، وهو قد أعلمه واستقرَّ من دينه أنّه يجبُ إثباتُ الآياتِ على تاريخ نزولها، فهذا يقضي على صحةِ ما قلناه. وروى عبدُ الرحمن بن شُماسةَ المهري عن زيدِ بن ثابتٍ قال: بينما نحنُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُؤلِّفُ القرآنَ من الرِّقاع إذ قال: "طوبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 للشام "، قيل: يا رسولَ الله، ولِمَ ذلك، قال: "إنّ ملائكةَ الرحمن باسِطُو أجنحتِها عليه "، وهذا حديثٌ يُنبىءُ أيضاً عن أنّ القرآنَ كان سُوَره تؤلَّف على غيرِ تاريخِ نزوله، لأنه لو كان مرتَّبَ الآياتِ على تاريخِ النزول ما احتاجَ إلى تأليف وترتيب، ويدلُّ على ذلك أيضا ما رواه عبدُ الله بن عباس عن عثمان بن عفان رضوانُ الله عليه لمَّا سأله: لِمَ لم يجعلوا بين الأنفال وبراءة سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال عثمان: إن الآية َ والآياتِ كانت إذا نزلت يقول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضعوا هذه الآية َ في سورةِ كذا". وكل هذه الأخبار تكشف عن صحةِ ما قلناه من وجوبِ تركِ مراعاة تاريخِ نزول القرآن، وأنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُراعي في تأليف آي السور تاريخَ نزول الآيات، فإذا ثبتَ ذلك لم يكن تاليفُ سُوَر القرآنِ على تاريخ نزوله إلا بخلطِ بعضِ السور ببعضٍ وإفسادِ نظمِها ونقصِ تأليفِها الذي أُمروا بقراءتِها عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 (باب) الكشفِ عن وجوبِ ترتيبِ آياتِ السور وأنّ ذلك إنّما حصلَ بالنصِّ والتوقيفِ دونَ الاجتهاد وأنّه ليس لأحدٍ أن يَخلِطَ آياتِ السُّورِ بغيرِها ولا يضعَ مكانَ الآية ِغيرَها مما قبلَها أو بعدَها فإن قال قائلٌ: قد قُلتم في غير موضعٍ إنَّ ترتيبَ آيات السُّور فيها واجبٌ وإنّ ذلك لم يكن إلا عن نص وتوقيف، فما الدليلُ على ذلك، وما الحجَّة ُ في أنّه ليس لأحدٍ أن يَخلطَ في التلاوة بعضَ آياتِ السورةِ بغيرِها، وأن يقدِّم من آياتِها المؤخر، ويؤخِّر المقدَّم؟ قيل له: يدلُّ على ذلك أمورٌ، أحدها: جميعُ ما قدَّمناه من الأخبار في الباب الذي قبلَ هذا" لأنّ جميع ذلك يدلُّ على أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يأمُرُهم ويُوقِفُهم على إثباتِ آيات السورة وترتيبها، وأنّه ليس لهم في ذلك خيارٌ، ولا هو مما رُدَّ إلى آرائهم، فيجبُ أن تكونَ هذه حالَ التلاوة والدرس ومما يدلُّ على ذلك أنّه لا يخلو أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه قد أخذ على القَرَأةِ والكتبةِ أن يُرتِّبوا سورَ القرآن في الرسم والتلاوة، وضَيَّق ذلك عليهم، وجعلَهم في فُسحةٍ من تقديمِ بعضِ الآيات ِ على بعض، وجَعلِ أول السورة آخرَها وآخِرَها أولَها، وجَعْلِ شطرِها في غيرها وشطرِ غيرِها فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وأن يضعوا في ذلك كيف رأوا وأحبوا، فإن كان قد وقفهم على الترتيب وتأليف آياتِها على النظام الذي هيَ عليه في الإمام فذلك ما نقولُ، وإن كان قد نصَّ لهم على التخيير في ذلك وجبَ أن يظهر هذا من دِينه ويُعرَفَ من حالِه وتتوفَّر الدواعي على نقله وذكره، وأن لا يَسُوغَ أن يقعَ من الأمّة ترتيب للسور وحصر لها وتتميزَ بأسماءٍ تُدعى بها، وأمورٍ تُذكَرُ فيها، كما أنّه لو نصَّ - صلى الله عليه وسلم - على جوازِ تقديمِ الآية ِ على غيرِها وتأخيرِ المتقدِّم منها من كلماتِها وحرفها وتقديمِ المتأخِّر، وعلى جوازِ القراءة من آخر السورةِ إلى أوّلها: لوجب أن يكونَ ذلك ظاهراً منتشراً عنه ومعلوماً من دينه، وفي العلمِ ببطلانِ ذلك وعدمِ ذكره، وعملِ الأمّةِ بخلافِه بأخذهم أنفسَهم ومَن يُعلِّمونه بقراءةِ السورة على ترتيبِ آياتِها، وحظرِ تأخيرِ المقدَّم منها وتقديمِ المتأخِّر وخلطِها بغيرِها: أوضحُ دليلٍ على فسادِ هذا القول، فأمّا نصه على الترتيبِ الذي قلناه، فقد ذكرنا تظاهُرَ الأخبارِ به مِن قبل، وبينّا أنّ عملَ الأمّة مستقِرّ بذلك، وحاصل إلى اليوم. ويدلُّ على ذلك أيضا ويُوضِحه ما قدَّمنا ذكرَه من قول عبدِ الله بن مسعودٍ وابنِ عُمرَ فيمَن يقرأ القرآنَ منكوساً: "ذاك رجل منكوسُ القلب "، و"لو رآه السلطانُ لعاقَبه "، وقد بيّنا أنّ ذلك غيرُ واجبٍ في تقديم بعض السور على بعض، فيجبُ أن يكونَ في تقديمِ بعضِ آياتِ السور على بعض، وعلى أنّهما إن كانا عَنَيا بذلك تقديمَ بعضِ السور على بعضٍ فلأن يكون تقديمُ بعضِ آياتِ السور على بعضٍ وخلطُها بغيرها أولى وأحرى أن تستحق ذلك، فهذا أيضاً يدلُّ دلالةً قاطعةً على علمِهم بوجوبِ ترتيبِ آياتِ السور في الكتابةِ والتلاوة. ولو كان الأمرُ على ما يدَّعيه السائلُ عن هذا الباب لم تَحتَجِ السورُ إلى أن يكونَ لها أوَّل وآخِر، وابتداءٌ وخاتمة، ولم يكن على أحدٍ في حفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 القرآن كلفة إذا كان له خَلْطُهُ وتلاوتُه كيف شاء، ومما يدلُّ أيضا على صحة ما قلناه ويؤكَده ما رواه عبد الرحمن بن حَرْملة عن سعيد بن المسيّب قال: "مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بلالٍ هو يقرأُ القرآنَ من هذه السورة ومِن هذه السورة، قال: مررتُ بك يا بلالُ وأنت تقرأُ من هذه السورة ومن هذه، فقال: بأبي أنتَ يا رسولَ الله، إني أردتُ أن أخلِطَ الطيبَ بالطيب، فقال: اقرأ السورةَ على نحوِها"، يعني - صلى الله عليه وسلم -: على نظامِها وترتيبِها من غيرِ خلطٍ لآياتِها بغيرِ ما هو منها، وهذا نص على ما قلناه. ومما يدلُّ على ذلك ويوضحه، أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان ربما سهى وأسقطَ من تلاوته آيةً فيستعِيدُها ممن حَفظها عنه، وإذا أسقطَ آيةً وهو في الصلاة شعرَ بذلك مَن خلفَه، وكانوا يسألونه إذا فرغ ويقولون له: تركتَ آيةَ كذا يا رسولَ الله، ليتعلَّموا بذلك أنه قد سها، أو حدث نسخٌ أو رفع وتغيير، ولذلك قال له أُبيّ وغيرُه في مثل هذا: "يا رسولَ الله نسيتَ آيةَ كذا، فقال: "نُسيتُها"، ولو كان له أن يؤخرَ ويقدّمَ ويضعَ موضعَ الآية ِ غيرها ويجعل بعض آيات السورة في غيرِها لساغَ له أيضاً أن يترك قراءةَ بعضِ السور، ويزيدَ في ذلك ويُنقِصَ منه، ولم يكن لقولهم "نُسيت " أم "نُسِخَت " معنىً، وكلُّ هذا يدلُّ دلالةً قاطعةً على أن الواجبَ رسمُ السورة وتلاوتُها في الصلاةِ وغيرها على نظامِ آياتها وترتيبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ومما يدلُّ على ذلك ويؤكِّدُه ما رواه الفَضْلُ بن دُكَينٍ عن الوليدِ بن جُمَيعٍ أنّ خالدَ بن الوليد أمَّ الناسَ بالحِيرة فقرأ مِن سُوَرٍ شتّى، ثم التفت حينَ انصرفَ فقال: "شغلني الجهادُ عن تعلُّم القرآن ". وفي روايةٍ أخرى أنّه قال: "إنّي بطّأتُ عن الإسلام وشغلني الجهادُ عن تعلُّم القرآن "، ولو كان للناس تقديمُ المؤخَّر من الآي وتأخيرُ المقدَّم، وخلطُ آياتِ السور بآياتِ سُوَرٍ غيرِها، ولم يكن عليهم في ذلك ترتيبٌ وحدٌّ محدودٌ: لم يحتج خالدٌ إلى اعتذار، ولم يقل: "شغلني الجهادُ عن حفظ القرآن "، لأنّ القرآنَ لا يجبُ حفظُه عندَ الخصم إلا على ما قرأه خالدٌ وأورده، فهذه أيضاً روايةٌ تنبىءُ عن وجوبِ ترتيبِ آياتِ السُّورِ وتلاوتها على سياقِها، اللهم إلا أن يَعرِضَ عارضٌ مثلُ الذي عرضَ لخالدٍ من النسيان والأمور الصادَّة عن ذلك. فإن قال قائلٌ: أفليسَ قد رُوِيَ عن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: "نَزَلَت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سورةُ المرسَلات ونحنُ في غار فأقرأنيها، وأنا أقرؤها قريباً مما أقرأني، فلا أدري أخَتَمَها بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) . أو بقوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وهذا نص منه على أنه لا يعلم خاتمتَها، وأنّه قد يختمُ تارة بهذا وتارةً بهذا، وأن الأمرَ في ذلك عندَه سهلٌ قريبٌ بقوله: "فأنا أقرؤها قريباً مما أقرأني "، ولأجل أنه ترك أن يستثبتَ ذلك من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات، فلو كان ترتيبُ آياتِ السور وختمُها بآيةٍ منها مخصوصةٍ لا يجوزُ وضعُ غيرِها مكانَها أمرا مضيَّقاً: لم يُهمِل عبدُ الله سؤالَ رسول الله صلى الله عليه عن ذلك، ولم يَستجِزْ أن يقول: "فأنا أقرؤها قريبا مما أقرأني "، وهذا يدلّ على خلاف ما ادَّعيتم. يقال له: ليس فيما ذكرته ما يدفعُ قولَنا، بل هو من أدل الأمور على صحّة ما نذهبُ إليه وفسادِ قولكَ، لأجلِ أنّ عبدَ الله لو لم يجب عندَه مراعاةُ خاتمة السورة وسياقِها على نظمِ آياتِها وعلى وجه ما لُقَنوه عن رسولِ الله صلى الله عليه ولولا ذلك لم يكن لذكر إقراءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - له معنىً ولذكر خاتمةِ السورة، ولقوله: "فأنا أقرؤها قريباً مما أقرأنيها"، فهذا الخبرُ بأن يدل على صحّةِ قولنا أولى. فإن قيل: فإذا كان ذلك عندَكم كذلك فلمَ لم يستثبت عبدُ الله ذلك من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرفْه حتى لا يخالف نهجَ قراءته ونظمِه، قيل لهم: إنّما لم يفعل ذلك لأجل أنّه كان يعتقدُ أنّ لسورة المرسَلات خاتمتين إذا قُرئت على وجهين، فيَختِمُ بإحدى خاتمتيها إذا قُرئت على وجه وبالآية الأخرى إذا قُرئت على وجهٍ آخر، لأنه قد صرّح بذلك فيما صحَّ عنه من الرواية لهذه القصة، وذلك أنّ الأعمشَ روى عن ابن رزين عن زرِّ بن حُبَيش قال: قال ابنُ مسعودٍ: "نزلتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) ونحن في غارٍ، فأقرأنيها، فإني لأقرؤها قريباً مما أقرأني، فما أدري بأي خاتمتها ختم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) ، أو (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وهذا نص منه على أن لها عندَ الرسول خاتمتَين يختمُ بهما هذه السورة، وليس يمتنعُ أن يجعلَ اللهُ سبحانه لبعضِ السُّور خاتمتين، إما على التخييرِ بأن يختمَ القارىءُ بأيهما شاء، ويجعلَ الخاتمةَ الأخرى قبلَ أن يختمَ بها وأقربَ الآيات ِ إليها لكونها خاتمةً مثلها، أو يجعلَها حيثُ شاءَ من السورة، أو بأن يجعلَ لها خاتمتين إذا قُرِئت على وجهين مختلفَين في الترتيب، فإن قُرِئت على وجهِ كذا كانت خاتمُها كذا، وإن قُرِئت على الوجه الآخر ختَمْتَها بالآيةِ الأخرى. ويكونُ هذا الوجهُ أحدَ الأحرفِ السبعةِ التي أُنزل القرآنُ عليها، أو أحدَ الوجوه من سبعةِ أحرف أُخَرَ غيرِ السبعةِ الثابتة، وأن يكون اللهُ سبحانه قد نسخَ إطلاقَ ذلك بعدَ أن أطلقَه وجعلَ للمرسَلات خاتمةً واحدة، وعرفَ ذلك المسلمون وذهبَ على عبدِ الله بن مسعودٍ إذ لم يسمعه، لأن نسخَ ذلك كان قريبا من موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمَّة قد أجمعت على أنّه ليس لهذه السورة بعد موت النبي صلى الله عليه إلا خاتمة واحدة، ويكونُ عبدُ الله قد تمسَّكَ بالحكم الأول، فلمّا عرفَه المسلمون ذلكم عرفه وعَلمَ صحّة ما نقلوه، من نسخِ ما كان مباحاً، والدليلُ على ذلك اتفاقُ جميع أصحاب عبد الله وكلّ مَن أخذَ القراءةَ منه وروى عنه على أنه ليس لهذه السورةِ عندَه فيما ثبتَ واستقرَّ به عملُه وقراءتُه إلا خاتمةٌ واحدة، فيجبُ إذا كان ذلك كذلك أن يكونَ نُسِخَ إحدى خاتمتيها. فإن قيل على هذا: أفَليسَ من دينكم أن السبعة الأحرف والوجوه من القراءاتِ كلها شافيةٌ كافيةٌ باقيةٌ لم تُنسخ؟ قيل لهم: أجل، وقد ينزلُ القرآنُ على سبعة أوجهِ وأحرفِ أُخَرَ يُنسَخُ بعضُها ويبقى البعضُ، ويتركُ على ثلاثة أحرف، وقد وردت بذلك الأخبارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وفُسِّرت السبعةُ الأوجُه بتفسير وردَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لا يجوزُ أن تُلغي من الوجوهِ السبعةِ وجها ثابتاً غير منسوخ، فوجبَ أن لا يكونَ للمرسَلات خاتمتان بإجماعهم على منعِ ذلك، وأن لا يكون هو من السبعةِ الأوجهِ من القراءات الثابتة على ما سنبيّنه فيما بعدُ عندَ بلوغِنا إلى الكلام في هذا الباب إن شاء الله. فإن قيل: فلمَ لم يظهر في الناس نقلُ هذا الحكم وهو أن للمرسَلات خاتمتين نُسِخَت إحداهما؟ قيل لهم: لأنّه ليس من شأنِ الناسِ في العادة أن يَصرِفوا هِمَمَهم إلى نقلِ ما كان ورُفِعَ وإذاعته، وإنّما يأخذون أنفسَهم بذكرِ ما ثبتَ واستقرَّ عليهم فرضه، وربّما نقلوا فرضَ التلاوةِ المنسوخة والحكمَ الذي تضمَّنها وعدلوا عن نقلِ التلاوةِ الموجِبةِ لها إذا نُسِخَت وأُزيلَت وبقيَ حُكمها، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يعبأَ الناسُ بأنّه كان للمرسَلاتِ خاتمتان نُسخَت إحداهما، وإنّما ذكرَ ذلك ابن مسعود لنسيانٍ كان عن نسخِ إحدى الخاتمتين. فلما عرفَ ذلك بنقلِ مَن نقله إليه وأخبرَه به استقرَت قراءَتُه وعملُه بذلك، وهذا ينفي التخييرَ الذي ادّعوه، وهذا الذي ذكرناه أولى مِن قول من قال إنّه قد كان لها خاتمتان إذا قُرئت على وجهين، وإنّ عبدَ الله شكَّ في الوجهِ الذي قُرِئت عليه كانت خاتمته كذا وكذا ولم يشك في الخاتمتين. وإنّ إطلاقَ قراءَتِها على الوجهين وخَتْمَها بالخاتمتين ثابت مستقِر إلى أن ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 (باب) الكلامِ في المعوِّذتَين والكشفِ عن ظهورِ نقلِهما وقيامِ الحجةِ بهما، وإبطالِ ما يدَّعُونه من إنكارِ عبدِ الله بن مسعودٍ لكونِهما قرآناً منزَلاً، وتأويلُ ما رُوي في إسقاطِهِما من مُصحفِه وحكِّه إياهُما، وتركِه إثباتَ فاتحةِ الكتابِ في إمامه وما يتصلُ بهذه الفصول فإن قال قائلٌ: كيف يسوغُ لكم أن تدَّعوا وجوبَ تظاهُرِ نقل جميع القرآن وقيام الحجّةِ وتساوي حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيانِه إلى الكافة على وجهٍ يُوجبُ العلم ويَقطَعُ العذر ويُزيلُ الرَّيبَ والشكّ مع الذي قد ظهرَ وانتشر عن عبد الله بن مسعود من إنكاره أن تكونَ المعوّذتان من جُملة القرآن ومنافرته في ذلك وإسقاطِه إياهما من مصحفه، وحكّه لهما من مصحف غيرِه، وما يقوله عند حكّه لهما: "لا تخلطوا فيه ما ليسَ منه " (1) ، فكيف يمكن أن يُعتقَدَ أنّ ظهور بيانِ المعوّذتين والتوقيف على أتهما قرآن مُنزَل كظهور النصّ على غيرهما من السور، بل كيف يمكنُ أن يُقالَ إنَّ الصحابةَ   (1) هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في "المصنف " (7: 193 كتاب فضائل القرآن، باب في المعوذتين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 قد كانت أحاطت علماً بجميع كتاب الله لظهورِ أمره وإقامةِ الحجّةِ به، وهذه حالُ عبد الله بن مسعود في إنكار بعضه وجَحدهِ وهو من جملتهم وعمد من عُمدِهم في حفظ الكتاب، والمتبتلِين لقراءته وإقرائه والتبحُّر في علمِ أحكامِه ووجوهه وحروفه والمناظرةِ عليه، الذابّين عنه، ولو لم يُرْوَ عن الصحابة إلا هذه القصةُ وحدها لكان ذلك كافياً في إبطال ما أصَّلتموه وفساد ما ادّعيتموه. فيقال لهم: أما دعوى من ادّعى أن عبد الله بن مسعود أنكر أن تكونَ المعوذتان قرآناً منزلاً من عند الله تعالى وجحدَ ذلك فإنها دعوى تدلُّ على جهل من ظن صحتها وغباوته وشِدةِ بُعده عن التحصيل، وعلى بُهتِ من عرفَ حال المعوذتين وحالَ عبد الله وسائر الصحابة، لأن كل عاقلٍ سليم الحسن يعلمُ أن عبد الله لم يجحد المعوذتين ولا أنكرهما، ولا دفعَ أن يكون النبي صلى الله عليه تلاهما على الأمّة، وخبّر أنهما منزلتان من عندِ الله تعالى، وأئه أُمِرَ بأن يقولَهما على ما قيل له في أولهما، وكيف يمكنُ عبد الله ابن مسعودٍ أو غيره من الصحابة جحدُ ذلك وإنكارُه، وذلك مما قد أعلنه الرسولُ وأظهره وتلاه وكرّره وصلى لله به وجهر به في قراءته، وخبَّرَ أنّه من أفضل ما أُنزل عليه، وكشف ذلك وأبانه بيانا قد اتصل بنا نحنُ ولزم العلمُ به قلوبَنا، وارتفع منه شكُّنا ورَيبُنا. حتى لو حاول أحدُنا وغيرُنا من أهل الملل السامعةِ لأخبارنا والعارفةِ بما أتى به نبينا أن يجحدَ ذلك ويدفعه لم يجد إلى ذلك سبيلاً، هذا مع تطاولِ المدّة وتباعُدِ عصرِنا من عصر النبى صلى الله عليه، فإذا كانت الأخبارُ متواترةً متظاهرةً علينا بذلك تواتراً قد أصارنا في اليقينِ وزوالِ الرَّيب إلى ما وصفناه، فكيف بأهلِ عصر الرسول الذي تلقَّوه وسمعوه، وأخبروا به من بعدهم ونقلوه، لأنه لا بد أن يكون عبد الله بن مسعودٍ أحد من حضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 تلاوة الرسول لها، وإخباره بنزولها، أو واحداً ممن خبّر بذلك، وجاءته الأخبارُ من كل طريقٍ وناحيةٍ مجيئاً لا يمكنُ معه الشكّ في ذلك، كما لا يمكنه الشَّكّ في جميع ما ظهر وانتشر من دين الرسول وأقواله وأفعاله التي لم يسمعها منه ولم يشاهدها، ولو تهيّأ لأحدٍ من أهل عصر الرسول أن يشكَّ في نزول المعوّذتين وتلاوة الرسول لهما طولَ حياته، وإلى بعد وفاتِه بخمسٍ وعشرين سنة، والحالُ ما وصفناه لأمكنه لحقُ ذلك. وفي العلم بفسادِ هذا ولزوم العلم بما وصفناه لقلوبنا وزوال الريب عنَّا: دليل واضح على أنّه لقلب عبد الله ألزَمُ، وأنّه عنده أظهرُ وأشهرُ، وإذا كان ذلك كذلك بأن أنّ عبد الله بن مسعود لا يجوزُ منه مع عقله وتمييزه وجَرَيان التكليف عليه، أن يحمل نفسه على جحد المعوذتين وإنكار نزولهما وأن الله تعالى أوحى بهما إلى نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. ومما يوضح ذلك أيضاً ويُبيّنه أنّه لو كان عبدُ الله قد جحد المعوّذتين وأنكرَهما مع ظهور أمرهما وإقرار جميع الصحابة بهما لم يكن بُد من أن يدعوه داعٍ إلى ذلك وأن يكون هناك سبب يَعتدّ عليه، ولو كان هناك سبب حداه على ذلك وحزَكه لخلافٍ فيه لوجب في موضوع العادة أن يحتجّ به ويذكره ويعتد به، ويُبدِيَ ويُكثِرَ اعتذارَه له وتعويله عليه، ولكان لا بُدَّ أيضاً في مقتضى العادة من ظهور ذلك عنه وانتشاره وحصول العلم به، إذا كان خلافاً في أمرٍ عظيم وخطرٍ جسيمٍ، وأعظمَ مما نُهي عنه من الإقامةِ على التطبيق في الصلاة، وقوله في تزويج بنتِ فاسق، وخلافه في الفرائض. وغير ذلك، مما شُهِرَ من مذاهبه وكلَّما عظُم الخطرُ في الأمر وجل وقعُه في النفوس كان الخلافُ فيه أظهر والعنايةُ به أشدّ، واللهجُ بذكره وتطلّب النقض والرد له أكثر وأشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ولو كان من عبد الله هذا الخلاف على الصّحابة مع العلم بأنهم يعتقدون كونَ المعوّذتين قرآنا، ويرون أن جاحدهما بمنزلة جاحد الكهف ومريم. لوجب في مستقر العادة أن يَعظُمَ ردهم عليه وعسفُهم له، وتبكيتُهم إياه. والمطالبةُ له بذكر ما دعاه إلى ذلك، والمناظرةُ له على ما يحتج به ولكان ذلك أعظم معايب عبد الله وسقطاته عندَ مخالفه ومنافِره، ولوجبَ أن يحتج بذلك عثمانُ عليه في عزله والعدول في كتابة المصحف عنه، ولوجب تغليطُ القومِ له، والحكمُ عليه بالكفر والردة، وأنه بمثابة من جحدَ جميعَ كتاب الله، وأن يطالبوا الإمامَ بإقامةِ حق الله تعالى عليه في ذلك، ومفارقته وترك مقاربته على جحد ما يعلمون أنه سورتان من كتاب الله، لأنهم أنكروا عليه ما هو دون هذا، وكرهوه من قوله حيثُ قال: "معشرَ المسلمين أعزلُ عن كتابة المصحف، والله لقد أسلمتُ، وإنّ زيداً لفي صلب رجلٍ كافرٍ". قال ابنُ شهابٍ وغيره: "ولقد كره مقالته هذه الأماثلُ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وما هذا نحوه من اللفظ، وقد كان ناظره عثمانُ وراسله مناظرةً ظاهرةً على امتناعِه من تسليمِ مصحفه، فكيفَ لم يُناظرهُ على إنكاره المعوذتين ويهتِفْ به ويجعل ذلك ذريعةً وسبيلاً إلى الدلالة على سُوء رأيه وشدّة عناده، وأنّه لا يجبُ أن يُعبأ بمَن جحدَ سورتين من كتاب الله قد اشتُهرَ نص الرسول عليهما في الخاص والعام، والصغير والكبير، والقاصي والداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وفي عدم العلم بظهور الخلاف من عبد الله في ذلك وذكر السبب الباعث له عليه، والعلمِ بأن الأمَّة َ وإمامَها لم يناظروه على ذلك بحرف واحد ولا أغلظوا له فيه ولا ظهر عنهم أمر يجبُ ظهورهُ في مثل ذلك، ولا عرضُوا عبد الله على السيف ولا أقاموا عليه حداً، ولا شهدوا عليه بتفسيق وتضليلٍ تجبُ الشهادةُ به على من جحد كلمةً من كتاب الله فضلاً عمن جحد سورتين منه: أوضحُ دليلٍ على أنه لم يكن من عبد الله قطُّ جحدُ المعوذتين، وإنكارٌ لكونهما قرآناً منزلاً. ومما يدلُّ أيضاً على كذب من أضاف إلى عبد الله جحد المعوّذتين وعنادَه إن كان عالماً بما رُكبت عليه الطباعُ والعاداتُ، أو جهله وغفلته إن كان مقصراً عن منزلة أهل البحث عن هذا الباب، اتفاقُ الكل من جميع فِرَقِ الأمّة وأهل النقل والسيرة على أن عبد الله كان أحد القُرّاء المبرِّزين، ووجهاً من وجوه المقرئين المنتصبين لتدريس كتاب الله جلّ وعز وتعليمه والأخذ له عنه، وأنّه من المعروفين بذلك على عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى حين وفاته صلى الله عليه، وأنه قد أخذ عنه القرآن ولُقنه منه ورواه عنه جماعة جلَّة مشهورون معروفون منهم عَبِيدةُ السَّلمانئ، ومسروقُ بن الأجدع، وعلقمةُ بن قيس، وعمرو بن شُرَحبيل، والحارثُ بن قيس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والأسودُ بن يزيد بن قيس، وجماعة غيرُ هؤلاء أخذوا عنه ورَوَوا قراءته، فما ذكر عن جميعهم ولا عن أحدٍ منهم رواية ظاهر ولا غيرُ ظاهرة أنّه أنكرَ كون المعوّذتين قرآناً ولا أسنده عن عبد الله، ولا قال - مع إضافته ذلك إلى عبد الله - إنه حق على ما ذكره ولا أنّه باطل يُرغبُ عنه، وقد عُلم بمسقر العادة أنه إن كان قد صح عن عبد الله كونُ المعوذتين غير قرآن فلا بُد من معرفة أصحابه والمتمسِّكين لحرفه، والمنحازين إلى كتبته، والناصرين لقوله من أن يعرفوا ذلك من دينه وأن يكونوا أقرب الناس إلى العلم به، وأنّه لا بدّ مع ذلك أن يُصوبوه على قوله هذا ويتَّبعوه، أو يردوه ويُنكروه، ولا بُدّ من ظهور ذلك عنهم وانتشاره من قولهم، وأن يكون قولُهم فيه من موافقة عبد الله على ذلك ومخالفته أشهر وأظهر من تمسُّكهم بحرفه وأخذهم أنفسهم به، ولو قد كان منهم أحدُ الأمرين لاستفاضَ وظهر ولزم قلوبنا العلمُ به والخنوعُ بصحته، فلمّا علِمنا وعلم الناسُ جميعاً أنه لم يُروَ عن جميع الصحابة ولا عن أحدٍ منهم قول ولا لفظة في هذا الباب - أعني إنكار عبد الله لكون المعوذتين قرآنا - عَلمْنا أنّه لا أصل لما يُدعى عليه من ذلك وأنّه زُور وبُهتان. فإن قيل: فلعلّ أصحابَ عبد الله إنما لم يَعرضوا لذلك عن عبد الله لقُبحِ هذا القول عندهم وشناعته وخروج قائله عن مذهب الأمَّة، وتركه ما يجبُ عليه عن الإقرار بتوقيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المعوذتين ونصّه. قيل له: فقد كانوا مع هذا قوماً مسلمين أخياراً أبراراً، فكان يجبُ انحرافهم عن عبد الله في هذا القول وإظهارُهم لغَلَطِه، وتفنيدُ رأيه، لأنّ العادة لم تَجْرِ بإمساك مثلهم عن إنكار منكر لأجل تعصُّبٍ وميلٍ وطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 رئاسة، على أنه لو أمكَن مثلُ ذلك منهم مع تعذُره في العادة لم يكن إمساكُ جميع الناس عن مسألتهم في هذا الباب والمطالبة بما يصح عندهم من قول عبد الله في ذلك، وما الذي يعتقدونه ويَدِينُون به فيه، ولكان لا بُدَّ لهم عند ذلك من الجواب بتصويبه أو تخطئته أو تصحيح هذا القول عليه والشهادةِ به، أو إنكاره ونفيه عنه، ولكان لا بُدَّ من أن يظهر ذلك عنهم وينتشر ويلزم القلوبَ لزوما لا يمكنُ الشك فيه ولا الارتيابُ به، وفي إطباق الأمّة من أهل السيرة وجميع أهل العلم على أنه لا شيء يُروى عن أحدِ من أصحاب عبد الله في هذا الباب: أبينُ شاهدِ على تكذُب هذه المقالة، ووضع هذه الرواية. ومما يُبيِّن أيضاً أنّ عبد الله لم يجحد كون المعوّذتين قرآناً ووحياً منزَلاً. علمُنا بما هو عليه من جَزالة الوصف ومفارقة وزنهما لسائر أوزان كلام العرب ونظومه، وأن عبد الله مع براعتِهِ وفصاحته وعلمه بمصادر الكلام وموارده وأنّه من صاهلة هُذَيل وهيَ من أفصح القبائل: لا يجوزُ أن يذهبَ عليه أن المعوذتين ليستا بقرآن وأنّهما على وزن كلام المخلوقين وبحاره. ويجبُ في حُكم الدّين نفيُ مثل ذلك عمن هو دون عبد الله بطبقات كثيرة في الجلالة والقدر وحُسن الثناء والمعرفة وعظيمِ السابقة والصحبة وتدربه بمعرفة حال القرآن ونظمه، والفرقِ بينه وبينَ غيره، وإذا كان ذلك كذلك وجب إبطالُ هذه الرواية عنه والحكمُ بتكذُبها عليه. ومما يدلُّ على وجوب إنكار هذه الرواية عن عبد الله وتنزيهه عنها أنّه قد صح وثبتَ إيمانُ عبد الله وجلالتُه وفضلُ سابقته ووجوبُ تعظيمه وموالاته، وأن الواجبَ على المسلمين من سَلَفِ الأمّة وخَلَفها خلعُ ولاية من جحد ما قد صحَّ وثبت أنّه سورتان من القرآن ولعنُه والبراءةُ منه، والحكمُ بقتله وردّته، وإذا كان ذلك كذلك وجب إنكارُ هذا القول عن عبد الله لأنّنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 لا نعرفُ صحّته ولا نقفُ عليه، فلو كان من الأخبار التي يمكنُ أن تكون صحيحةً لوجب اطِّراحُها، لأنّ مُثبِتها على عبد الله والشاهد بذلك عليه قد عمل على مطالبتنا بوجوب إكفار عبد الله بن مسعود ولعنه والبراءة منه والقدح في إيمانه والحكم عليه بحُبُوط عَمَله بخبر واحدٍ لا يُوجبُ العلم ولا يقطعُ العُذر. وهو مع ذلك مما لا يمكن أن يكون صحيحاً لأمور، منها: ما قدّمناه من وجوب ظهور ذلك عن عبد الله لو ثبت وانتفى الشكوكُ عنّا فيه، وغيرُ ذلك مما قدّمناه، ومنها: أنّه لو كان صحيحاً عليه وقد علمنا أنّه لم يكن من الصحابة إنكار عليه ولا إغلاظ ولا عسف، ولا قتل ولا عقوبة ونكال ولا حكم مما يجبُ أن يُحكمَ به على جاحد آية من كتاب الله تعالى وكلمةٍ فضلاً عن جاحد سورتَين منه لوجب الحكمُ على جميع الأمّة بالضلال والانسلاخ من الدين، لأنّ ذلك يُوجبُ حينئذٍ أن يكون عبد الله قد ضلّ وأخطأ وفسق بإنكاره وجَحدِه سورتين من كتاب الله، وأن يكون جميعُ باقي الأمّة الذين هم غيرُه قد ضلُّوا وفسقُوا بترك تكذيبه والردّ عليه وإقامة حدّ الله فيه وكشف حاله للناس والعدول إلى تركه ومسامحته والتمكين له من الترأس والتصدُّر، وإقراء ونشر الذكر، والتوصُّل إلى الأسباب التي يصيرُ بها إماماً متَّبعاً وحجّةً مقتفى. فمن ظنّ أننا نحكُم على عبد الله وعلى الأمّة في تركه وتمكينه من ذلك بهذه الأحكام لأجل خبر واحدٍ ضعيفٍ واهٍ يجيء من كل ناحيةٍ متَّهمةٍ وسبيلُه وغيره يكون معارضاً بما هو أثبتُ وأظهرُ منه، فقد ظنّ عجزاً وحلَّ من الجهل محلاً عظيماً، وهذا لو أمكنَ أن يكون هذا الخبرُ صحيحاً، فكيف وقد بيَّنا بغير طريقٍ أنّه من أخبار الآحاد التي يجبُ كونُها كذبا لا محالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 واعلموا رَحِمَكم الله أنّ هذه سبيلُ القول عندنا في كل أمرٍ يُروى من جهة الآحاد يُوجِبُ تفسيق بعض الصحابة وتضليله أو تفسيق من هو دونه من المؤمنين وإلحاق البراءة منه واعتقاد الذم له في أنّه لا يجبُ قبولُه ولا العملُ به، كما أنّه لا يجبُ العملُ بصحّته، وإنّما يُوجَبُ العمل بخبر الواحد الذي لا يُوجبُ العلم في مواضع مخصوصة من الشريعة لموضع التعبد بذلك، فأمّا أن نعلمه في تفسيق المؤمنين الأبرار وإيجاب خلع موالاتهم والقضاء على إحباط أعمالهم، وفي الحكم على الأمَّة قاطبةً بالضلال والفسق وفي ترك إنكار ذلك الشيء المرويّ الذي يجبُ إنكارُه وأنّه غيرُ جائزٍ، فهذا أيضا جملةٌ تُوجبُ الحكم بإبطال هذه الرواية وبترك الإحفال بها والعمل عليها. وكيف يجوزُ لمسلم الشهادةُ على عبد الله بن مسعود بجَحدِ سورتَين من القرآن وبما يُوجبُ الكفر والارتداد والتبرِّي بخبر الواحد ويعدلُ عما ثبت عنده من إيمانه وسابقته وكثرة أقاويل الرسول فيه، وكونه مرضيّاَ مقبولاَ عند الصحابة، نحو قوله صلى الله عليه: "من أحبَّ أن يقرأ القرآن غَضاً كما أُنزل فليقرأ بحرف ابن أمّ عبد"، وقوله: "رَضِيتُ لأمتي ما رَضِيَ لها ابنُ أمّ عبد، ولو كنتُ مستخلِفا أحداً من أمتي استخلفتُ ابن أم عبد". وقول عمر فيه مع جلالة قدره: "كشفَ طيّ علمها"، إلى غير هذا مما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 معروفٌ من فضائله ومناقبه وشدّة نُسكه ومسألته، وكلما وصفناه من حاله يقتضي نفيَ هذا التكدُّب عليه. قال بعض أصحابنا: ومما يدلُّ على أنّ المعوذتين قرآنٌ منزل من عند الله تعالى اتفاقُ الأمَّة في هذا العصر وقبلَه من الأعصار من لدن التابعين وإلى وقتنا هذا على أنّهما من جملة القرآن، فلو ثبتَ أن عبد الله خالف في ذلك أهل عصره لوجب أن يكون حصولُ الإجماع بعده على خلاف قوله قاطعاً لحكم خلافه، لأن الإجماعَ بعدَ الاختلاف حجة ٌ، كما أنه حجة ٌ إذا انعقد وانبرم ابتداءً عن غير اختلافٍ تقدم، وقد أوضحنا نحنُ فيما سلفَ أن هذه الروايةَ متكذبةٌ مفتعَلةٌ، وأنّه لم يُحفظ على عبد الله حرفٌ واحدٌ في التصريح بأن المعوذتين ليستا من القرآن فلم يُحتَج مع ذلك إلى التعلُّق بالإجماع بعدَ الاختلاف. وممّا يدلُّ أيضاً على تكذُّب هذه الرواية على عبد الله والغلط والتوهم للباطل في هذه الإضافة إليه تظاهرُ الأخبار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالنص على أنّ المعوذتين من القرآن، ومن أفضل ما أنزله الله عليه، وكثرةُ أقاويلهم وتضخيمُ شأنهما وصلاتُه بهما جهراً، وإن مثل هذا إذا كَثرُ وترددَ وجب ظهورُه وانتشارُه، وأن يكون متواتراً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المعنى وإن لم يكن اللّفظُ متواتراً، وإن مثل هذا لا يكادُ يخفى على عبد الله وينطوي عنه حتى لا يسمعه ولا شيئاً منه من الرسول، ولا يَبلُغَه عنه من الجهات المختلفة فيحصُل العلمُ به حسب حصوله بجميع ما اشتهر من دينه وظهرت فيه أقاويله. فمن هذه الأخبار المروية عن الرسول في هذا الباب ما رواه قيسُ بنُ أبي حازم عن عُقبةَ بن عامر الجُهني قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 "أُنزلت عليّ آياتٌ لم ينزل علي مثلُهن قط: المعوّذتان ". وروى أيضا عقبةُ بنُ عامر قال: اتّبعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكبٌ فوضعتُ يدي على قدمه، وقلت: أقرِئني من سورة هود أو سورة يوسف، فقرأ، وقال: "لم تقرأ شيئا أبلغ عند الله من (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلفَلَقِ) . وروى زيدُ بنُ أسلم عن معاذِ بن عُبيد بن خبيبٍ أعن أبيه، قال: "كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكةَ ومعنا صحابة، فوقعت علينا ضبابةٌ من الليل حتى سترت بعضَ القوم، فلمّا أصبحنا قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل يا خُبَيب "، فقلتُ: ما أقولُ يا رسول الله، قال: (قُلْ أَعُوُذ بِرَبِّ اَلنَاسِ) ، فقرأها وقرأتُها حتى فرغ منها، ثم قال: "ما استعاذ أو ما استعان أحدٌ بمثل هاتين السورتين قَطّ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وروى ابنُ عابسٍ الجُهَنيُّ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابن عابس، ألا أُخبرُكَ بأفضل ما تعوذَ به المعوذون، " قال: "قل أعوذُ بربِّ الفلق، وقُل أعوذُ بربِّ الناس ". وروى عقبةُ بنُ عامر الجُهَنيُّ قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأ بالمعوّذتين كُلما نمتَ وكلّما قُمت ". وروى جابرُ بنُ عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ قل أعوذُ بربِّ الفَلَق "، ثم قال: "اقرأ"، قلت: وما أقرأ، قال: "اقرأ (قُل أَعُوُذ بِرَبِّ اَلنَاسِ) يا جابرُ، اقرأهُما ولن تقرأ مثلهما". وروى أيضاً عقبةُ بنُ عامرٍ الجُهَنيُ قال: كنتُ أقودُ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السَّفر، فقال: "يا عقبةُ، ألا أُعلِّمك خير سورتين قُرئتا، فعلَّمني (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلفَلَقِ) و (قُل أَعُوُذ بِرَبِّ اَلنَاسِ) . وروى معاويةُ بنُ صالحٍ عن عبد الرحمن بن جُبَيرٍ عن أبيه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 عقبة بن عامرٍ أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوّذتين، وقال: "أمَّنا بهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر"، وفي رواية أخرى قال: "سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين، أمِنَ القرآن هما، فأَمّنا بهما في صلاة الفجر". وروى وكيع عن هشام بن الغاز عن سليمانَ بن موسى عن عقبة بن عامر قال: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه في سفر، فلمّا طلع الفجرُ " أذَّنَ وأقام وأقامني عن يمينه، ثم قرأ بالمعوّذتين، فلمّا انصرفَ قال: "كيف رأيت، " قلتُ: قد رأيتُ يا رسول الله، قال: "واقرأهُما كُلما نمتَ وقُمتَ ". فكل هذه الأقاويل وإن اختلفت صِيغُها نص من رسول الله صلى الله عليه على أن الفلق والناسَ قرآن مُنزَلٌ من عند الله سبحانه، ولم يرد في أكثر سور القرآن من النصوص عليها مثلُ هذه الأخبار، ولا بدّ أن يكون عُقبةُ بنُ عامر قد سال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين أمِنَ القرآن هما، على ما ذكرناه فيما روُيَ وظهرَ منه ما يُعلم به أو يغلبُ على الظنّ عند رؤيته وسماعه أن عقبة قد ظنّ أنّ المعوّذتين ليستا بقرآن، فلمّا اعتقد الرسولُ فيه ذلك صلى بهما الفجر من حيثُ يسمع عقبةُ وغيرهُ ليؤكّدَ في نفسه أنّهما قرآنٌ مُنزَلٌ، فلذلك قال له: "وكيف رأيت أني قد صلّيتُ بهما" ويمكن أن يكونَ عُقبةُ لم يسمع الرسول قط يُصلي بهما، فسبَقَ لأجل ذلك إلى اعتقاده تجنبَ النبيّ صلى الله عليه للقراءة في الصلاة بهما لكونهما غيرَ قرآن فصلّى بهما رسولُ الله، فقال له: "كيف رأيت، " ليعلم بذلك أنّهما قرآن، وأنّه لم يتجنّب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الصلاة بهما للسبب الذي خطر له، وهذا غايةُ التأكيد وأبلغُ في النصّ على أنّهما قرآنٌ، فكيف يجوزُ أن يذهبَ سماعُ هذا أجمع وعلمُه عن عبد الله بن مسعود وأن يخفى عليه خفاءً يجوزُ معه إنكارُ كون المعوّذتين قرآنا؟! وقد بيّنّا من قبلُ أنّه لو صحّ عن عبد الله جحدُ المعوّذتين لوجب أن يكون أصحابهُ أعلم الناس بذلك عنه وأنّه لم يكن من أحدٍ منهم لفظة في هذا الباب، بل المرويُّ عن جلَّتهم الإقرارُ بأنّهما قرآن، وروى سفيانُ عن الأعمش عن إبراهيم قال: "قلتُ للأسود: أمِنَ القرآن هما، قال: نعم "، يعني المعوّذتين، وروى زائدةُ وابنُ إدريسَ عن حُصينٍ عن الشّعبيّ قال: "المعوذتان من القرآن "، فهاذان وجهان من وجوه أصحاب عبد الله يُخبران بأن المعوّذتين من القرآن، وفي بعَض ما ذكرناه أوضحُ برهان على كذب من ادّعى على عبد الله جَحدَ كون المعوّذتين قرآناً منزَلاً. فإن قال قائل: جميعُ ما قدّمتموه من مُوجبِ العادة في إيجاب ظهور إنكار عبد الله للمعوّذتين إذا كان ذلك صحيحا، ووجوب مشاجرة الصحابة له، ووجوب علم أصحابه به وحرصهم فيه، وإقرار ذَلك من قلبه، أو إنكاره إلى غير ذلك مما وصفتموه يقتضي بأن يكون قد كان من عبد الله بن مسعود أو غيره أمرٌ اقتضى الخوض في أمر المعوّذتين وحصول كلامٍ فيهما، وحال أوجبت إضافة مثل هذا القول إلى عبد الله وأنّه لو لم يكن منه فيهما شيء لم يجب في وضع العادة إضافةُ جحد المعوّذتين إليه دون غيره من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وسائر أهل عصره، ولم يَجُز أيضاً أن يُضاف ذلك إليه في المعوذتين خصوصاً من بين سائر القرآن كما لا يجوزُ أيضا أن يُضاف شيءٌ من هذا إليه في البقرة وآل عمران وكُلِّ ما لم يكن فيه قول منه. يُقال له: أما هذا الذي قلتَه فصحيح لا شك فيه، ولا بد من أن يكون قد كان منه سبب يقتضي تعليق ذلك عليه وإضافته إليه، أو كان من غيره أمرٌ واجب عنده أن يكونَ منه في أمرهما شيء يسُوغُ مع مثله افتعالُ الكذب عليه أو التوهمُ والغلطُ عليه، والذي كان منه عندَنا في هذا الباب أمور، منها: - أنه أسقط المعوذتين من مصحفه ولم يرسمهما فيه، فتوهم لأجل ذلك عليه قوم من المتأخرين الذين لم يعرفوا ما دعاه إلى ذلك أنه إنما أسقطهما لكونهما غير قرآن عنده. - ومنها: أنه قد رُوِيَ عنه أنَّه حك من المصحف شيئاً رآه فيه لا يجوز عندَه إثباتُه فظن من سمع ذلك - مع سماعه أنَّه لم يكن يثبتُ المعوذتين في مصحفه - أنّه حكّهما من مصحف غيره، وقد ذكِرَ في بعض الروايات أنّه حكهما ولم يقُل الراوي المعوّذتين بل بهذا اللفظ، وقال: "لا تخلطوا به ما ليس منه "، فظنّ سامعُ ذلك أنّه حكّ المعوذتين. - ولعلّه أن يكونَ حكّ حرفين أو كلمتين الفاتحة والخاتمة لأن منه من كان يكتبُ فاتحة كذا وخاتمة كذا، وكان هو يُنكر ذلك ولا يراه. - وقد يمكنُ أيضاً أن يكونَ بعضُ الناس سأل عبد الله بن مسعود عن عَوذةٍ من العُوَذ رواها عن رسول الله فظنّ السائلُ عنهما أنهما من القرآن. فقال عبدُ الله: "إن تلك العَوذةَ ليست من القرآن "، فظن سامعُ ذلك أو من روى له عنه أنه قال ذلك في المعوّذتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 - وقد يجوزُ أن يكونَ منها سماعُه سؤال أُبيّ بن كعب للنبيّ صلى الله عليه عن المعوّذتين على ما رواه أبو عُبيدٍ عن عبد الرحمن عن سفيان عن عاصم عن زرِّ بن حُبَيشٍ عن أُبيّ بن كعبٍ قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه عن المعوذتين، فقال: "قيل لي: قُل، فقلتُ "، قال أُبيّ: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نقول كما قال "، فلما سُمِعَ هذا الجوابُ من الرسول أو أخبره به أُبيٌّ أو غيرُه اعتقد أنّهما من كلام الله تعالى ووحيِه، غيرَ أنه لا يجبُ أن يسميّا قرآنا، لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسمّهما بذلك. وقد يمكن أن يكون أحدُ ما قوّى هذا في نفسه سماعُهُ لسؤال عقبةَ بن عامرٍ الجهني لمّا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمِنَ القرآن، "، قال: "فصلى الصبحَ بهما"، فيمكنُ أن يكونَ عبد الله لمّا لم يسمع جواب النبى - صلى الله عليه وسلم - بأنّهما قرآنٌ وعرف أنّه صلى الصبح بهما قَوِيَ عندهُ أنهما من كلام الله تعالى ال منزَل عليه غير أنّه لم يُحبّ أن يُسقى قرآنا، لأنّ رسول الله لم يسمِّه بذلك. - ومنها: أن يكونَ لم يسمع قط الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلّي بهما في صلاة كما صلى بغيرهما ولا سمعه يُفرِدُهُما بالدرس، فلما سُئِلَ عبد الله عن جواز الصلاة بهما قال لسائله: "ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهما قط"، فظنّ به لأجل ذلك أنّه يعتقدُ أنّهما ليستا من جُملة القرآن. فهذه الأسباب هي التي طَرَحَتْ عليه إضافةَ جحدِهما إليه، ودخولَ الشبهة على بعض من ليس من أهل عصره، ولا ممّن شاهده وعرفَ أحواله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ومقاصده، ولولا أن ذلك قد كان منه لم يكن إلى التأويل عليه سبيلٌ ولا طريقٌ، وليس لأحدٍ أن يقولَ: ما يكونُ السببُ الذي كان منه غير ما وصفتم، لأنه لا شيء ظهر عنه وحالٌ بدتْ يُوهّم بها عليه ما أُضيف إليه غيرُ ذلك، ولو قد كان منه أو حدث هناك في باب المعوّذتين شيء غيرُ ما وصفناه لوجب ذكرهُ وتوفُّرُ الدواعي على نقله، وليس في شيءٍ من هذه الأمور ما يدلُّ على أنّ عبدَ الله لم يكن يعتقدُ كون المعوذتين قرآناً مُنزَلاً من كلام الله تعالى ووَحيه وإن رأى أن لا يسمّيه قرآناً. فإن قال القائل: فخبّروني قبل أن تكلّموا على تأويل سبب كل خبرٍ كان منه في هذا الباب: إذا كنتُم قد عرفتُم أنه ليس فيما ذكر عنه من هذه الأمور ما يدلُّ على إخراجه المعوّذتين من القرآن، فلم سأل زِرّ بنُ حُبيشٍ أُبيّاً عن ذلك، ولم سأل الناسُ علقمة والأسودَ وغيرهما من أصحاب عبد الله عن المعوّذتين وعن قولهم وقول عبد الله في ذلك؟ قيل لهم: إنَّ هذا أيضاً مما لا يلزمُنا عُهدتُه وتطلُّبُ المخرج منه، ولا معرفةُ السبب الباعث على السؤال عن ذلك والمبين له، غير أنّنا نقول: ليس يمتنعُ أن يكون زِزٌ بنُ حُبَيشٍ وغيرُه ممّن سأل أصحاب عبد الله عن هذا الباب توهّموا أو خطرَ لهم أنّ عبد الله قد اعتقدَ أنّهما ليستا من القرآن لتركه الصلاة بهما أو تركه تسميتهما قرآناَ وتركه إثباتهما في مصحفه، ولم يكن منهم نظر في ذلك وتَوفيةٌ للفحص عنه حقّه، فلمّا نظروا وتأمّلوا عرفوا أنّه ليس في شيءٍ من ذلك ما يدلُّ على ماظنُّوه، ولمّا لم يجد زِرُّ بنُ حُبَيشٍ عندَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 أُبيّ إلا الإخبارَ بأنهما من وحي الله تعالى وكلامه، ولم يجد من سأل أصحابَ عبد الله عندَهم إلا الإقرارَ بكونهما قرآناً وأنّه مذهبُ عبد الله، انقطعَ الكلامُ والخوضُ وقلّ خطرُه ودَرَسَ ذكرُه، وزالت الشبهةُ عن الناس في هذا الباب، فلما نبغ المُلحِدُون والمنحرفونَ والطاعنونَ على القرآن والسلَف ونصبوا الحبائل والغوائل في ذلك لأهل الإسلام وتطلَّبوا لكفرهم وبدعتهم الأباطيل والتعاليل أكثروا وأعادوا وأبدَوا بذكر سؤال زِرِّ لأبيٍّ عن ذلك، وسؤال من سأل أصحاب عبد الله عن هذا الباب، وخَيَّلوا للناس أنّ كل من سأل عن ذلك فإنّما كان يسألُ لدفعه أن يكون قرآنا، ولظهور شك الناس في ذلك ونزاعهم وتشاجُرِهم فيه، وليس الأمرُ في ذلك على ما أوهموا به، وإنما قصدُهم الطعنُ على الشريعة والقدحُ في نقل القرآن فقط، فأما أن يكون على أحد من الصحابة والتابعين شك في أنّ المعوّذتين من كلام الله تعالى ووحيه ومما أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمعاذ أن يكون ذلك كذلك. فإن قالوا: فلم زعمتُم أنه ليس في شيءٍ مما ذكرتموه، وقلتُم إنّه هو الذي طرقَ سوء التأويل على عبد الله، ما يدلُّ على أنّه لم يكن معتقداً لجحد المعوّذتين وإنكاره أن يكون من كلام الله تعالى؟ قيل لهم: يدلُّ على ذلك أنّ إسقاطَه للمعوّذتين من مصحفه يحتمل أموراً غير جحده لكونهما قرآناً وكلاماً لله تعالى، فمنها: أنّه يمكنُ أن يكونَ إنّما لم يثبت الحمد والمعوّذتين في مصحفه لشهرة أمرهما في الناس وكثرة الحقاظ لهما وفى دوام الصلاة بالحمد والمعوّذتين في كل ليلة، وكثرة تعوُّذ الناس بالناس والفَلَق، واعتقاده أنّ حفظهما وحفظ الحمد في الناس فاشٍ ظاهرٌ لا يحتاجُ معه إلى إثباتهما وتقييدهما بالخطّ، فدعاه ذلك إلى ترك إثبات هذه السورتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ويمكنُ أيضا أن يكون إنّما لم يكتبهما ولا الحمد لأنه لم يرَ قطُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكتبَهنَّ أحدا ولا أمر بكتابتهن، ولا اتفقَ أنّه بلَغَه ذلك من وجه يُوجِبُ العلمَ عنده، ورآه صلى الله عليه قد كتبَ جميعَ سور القرآن، وأمرَ بأن تكتبَ فكُتب منه ما كتَّبه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكُتِبَ بحضرته وأمرَ بأن يُكتب، ولم يكتَب الحمدَ والمعوذتين، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم، يُكتبها، فتكون شدة ُ إيثاره للاتباعِ وترك الإحداث في القرآن لما لم يفعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حداه على ذلك، وهذا غايةُ التشدد. وأدلُّ الأمور على الوَرعَ، ويكون باقي الناس، إنما كتبوا هذه السورة لعلمهم بأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبهن كما كُتب غيرُهن. فإن قال قائلٌ: هذا الذي قُلتم مما لم يُذكر ولا رُوِيَ عن عبد الله. يقالُ لهم: يمكن أن يكون لم يُقَل ذلك كله لأنه لم يُسأل عنه، لأن الناس لما سمعوه - مع ترك كتابته هذه السورة - يقرؤهن ويصلي بهن. ويديمُ الصلاة بهنّ والدرس لهُن، وإن كان لا يُفرِدُهنّ في الصلاة ولا في الدرس: زالت عنهم الشُّبهةُ في أن يُعتقَدَ كونُهنّ قرآناً، فلم يُباحثوه عمّا دعاه إلى ترك كتابتهن في مُصحفه، وهذا جائز ليس ببعيد، وإذا احتَمَلَ تركُ كتابة هذه السورة ما وصفناه بطل التعلقُ بهذا الباب. ويجوزُ أيضاً أن يكون عبد الله إنما لم يكتب الحمدَ والمعوّذتين في مصحفه على خلاف ترتيب إثباتها في مصحف عثمان، بل كان يرى أن يثبته على تاريخ نزوله، فلمّا رتّبَ ذلك لنفسه كَرِهَ أن يُقدّمَ على سُورة في المصحف السُّور التي أُنزِلت قبلها على ما أوجبه التاريخ وترتيبُ مصحفه. لأجل تسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الأمّة الحمدَ فاتحةَ الكتاب وأمّ الكتاب، فامتنع لذلك من أن يفتتحَ المصحف بغيرها لئلا يخالف السُّنّة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 هذه التسمية ويؤخَر كتابةَ ما هو الفاتحة، وكره أيضاً مع ذلك أن يثبتها في أول المصحف مقدَّمَةً على ما نزل قبلها، فيكونُ بذلك كاتبا لها على غير تاريخ النزول، ومُفسِدا به ما أصَّل كتابةَ مصحفه عليه، فترَكَ لأجل ذلك أن يكتبها لا لأجل جحده أن تكون قرآناً منزَلاً، فلمّا فعَلَ ذلك في الحمد الذي هو فاتحةُ الكتاب فعلَ مثله في الخاتمة، لاعتقاده أنّه قد نزل بعدَ نزول الناس والفَلَق شيءٌ من القرآن، فكَرِهَ أن يختمَ بذلك النازلَ الذي هو آخرُ ما نزل لأنّ السُّنّةَ غيرُ ذلك، وكَرِهَ أن يثبتَ الناسَ في خاتمة مصحفه فيكونَ قد قدّم على الناس والفَلَقِ في الرسم ما هما قبله في النزول، فيُفسدُ أيضاً بذلك تأليف مصُحفه على التاريخ الذي عمل عليه، وإذا احتمل الأمرُ ما وصفناه لم يجب حملُ ذلك منه على جحد ما ترك رسمه وكتابته وإن كان عنده كونَه قرآناً مُنزَلا. فإن قال القائل: ما قلتموه في الخاتمة من التأويل إنّما يتم لكم في الناس التي هي الخاتمةُ، فما بالُه لم يثبت الفَلَقَ - وهي سور منفصلة عنها - على تاريخ نزولها؟ قيل له: يُمكنُ أن يكون إنما فعل ذلك لأنّه لم يَسمَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطُّ يتلو الناسَ مفرَدةً منفصلةً من الفَلَق، ولا رأى أحداً يكتبُها مفرَدة عنها، فرأى أن السُّنَّة في إثباتها ما فعله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الجمعِ بينهما في الرسم، وذلك كان عنده ناقضاً لتأليف مصحفه أو فعله، فلم يفعَلْه، أو لأنّه رأى أنّ السُّنّة في إثبات هاتين السورتين في الوصل بينهما كالسُّنّة في تلاوة الرسول لهما، فلم يجب أن يُفرّق بينهما في الرسم ولا أن يَحْتِمَ بهما جميعاً مصحفه، وقد نزل قبلهما قرآن غيرُهما، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما سأل عنه السائلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقد يُحتملُ أيضاً أن يكونَ إنما تركَ كتابةَ الحمدِ في مصحفه لأجل أنه كان المستحب المندوبَ إليه عنده أو من سُنَنِه هو وعادته أن لا يقرأ شيئا من القرآن إلا قرأ قبله سورة الحمد، فإذا قطعَ القراءة وأخذ في عملٍ غيرها ثم أرادَ العَودَ إليها ابتدأ أيضاً بالحمد من حيثُ قَطَعَ، ثم كذلك أبداً كُلّما قطع وابتدأ، ورأى مع ذلك أن المستحبَّ في كتابةِ القرآن من هذا مثلُ المستحَب منه في تلاوته، ولم يُمكِنه التبتلُ لكتابة مصحفه من أوله إلى آخره دفعةً واحدةً من غير قطعه وتشاغُلٍ بعملٍ غيره، وأن يستكتب له كَتاباً يكتبُهُ له على هذه السبيل، وهو مُستسلِمٌ يحتاجُ إلى إقامة صلاته وأكل ما يُقيمُ رمقه وغير ذلك مما تَمس الحاجةُ إليه ويقطعُه الاشتغالُ به عن كتابتِه للمصحَف، فرأى عند ذلك أنّه يجبُ أن يكتب الحمد في كلّ موضعٍ قُطِعَ عند الكتابة ثم يصلُها بما بعد الذي انتهى إليه، فيحتاجُ أن يكتُبها في مواضع كثيرة من المصحف، وفي ذلك نقضٌ لتأليف المصحف وإفسادٌ له، فعدل لأجل ذلك عن إثبات الحمدِ جُملةً، ورُوِيَ عن إبراهيم النخعيّ أنّ عبد الله بن مسعود كان لا يكتبُ فاتحة الكتاب، ويقولُ له: "لو كتبتُها لكتبتُها في أوّل كلّ شيء"، يعني بذلك أنه كان يكتبُها عند كل شيءٍ ابتدأ به بعد قطع ما قبله على ما قلناه من قبلُ، وأن يكتبَه في أول كل جزءٍ إذ قَسَّمَ المصحف وجعله أجزاءً مفرداً، وذلك نقضٌ لتأليف المصحف، فهذا إن صحَّ عنه يدلُّ على أن الأمرَ في ذلك كان عندَه على ما تأوَّلناه. وفي الجُملة فإنّنا قد علمنا أن عبدَ الله بن مسعودٍ لم يكتب الحمد في مصحفِه، وجاءت بذلك الأخبارُ عنه كمجيئها بأنّه لم يكتب المعوذتين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 مصحفه، وقد عُلِمَ وتُيُقِّنَ أنّ عبد الله لم يكن يُنكرُ كون الحمد قراَناً منزلاً. وأنّه كان يعتقدُ هو وكل مسلم إكفار من جَحَدَ كونَها من القرآن، وكيف لا يكونُ ذلك كذلك وأمرُها أظهرُ وأشهرُ وأقاويلُ الرسول صلى الله عليه فيها أكثرُ منه في غيرها، وهو يراه ويسمعُه ويصلّي بها في اليومِ والليلةِ يبيتُ مراتٍ يجهرُ بقراءتها فيها ويداومُ عليها، ويسمعُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويحث على تعلمها وحفظِها ويُعَظمُ شأنَها ويُعيدُ ويُبدي بذكر فضلها. وروى أبو هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قرأ عليه أُبيُّ ابنُ كعبٍ أمَّ القرآن فقال: "والذي نفسي بيده ما أنزلَ الله جلّ وعزّ في التوراةِ ولا في الإنجيل ولا في الزَبُور ولا في القرآن مثلها، إنها السبعُ من المثاني ". وروى أبو هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه أنّه قال: "هيَ فاتحة الكتاب، وهي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم ". وروى الحسنُ عن النبي صلى الله عليه أنه قال: "مَن قرأ فاتحة الكتاب فكأنّما قرأَ التوراةَ والإنجيلَ والزَبُورَ والفرقانَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وروى أيضا ابو هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه أنه قال: "يقولُ الله سبحانه: قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفَين، نصفُها لي ونصفُها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقومُ العبدُ فيقول: الحمدُ لله رب العالمين، فيقول الله تعالى: حمدني عبدي، ويقولُ العبدُ: الرحمن الرحيم، فيقولُ الله: أثنى علي عبدي، ويقولُ العبدُ: مالكِ يومِ الدين، فيقولُ الله تعالى: مجَّدَني عبدي. ويقولُ العبدُ: إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعين، فيقول الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي: أؤلُها لي وآخِرُها لعبدي، وله ما سأل، ويقول العبدُ: "اهدنا الصراط المستقيم" إلى آخرها، فيقولُ الله تعالى: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ". في نظائر لهذه الأخبار وردت في تعظيمِ شأن الحمد وفضيلتها، والنصّ على كونها قرآناً، فقد أصارَها إلى ما هيَ عليه من الظهور، فلا شُبهةَ على عبد الله بن مسعود ولا على غيره في كفر من أنكرها وجَحَدَها، وعبدُ الله مع ذلك يتركُ كتابتها في مُصحفه لوجهٍ ما، فكذلك يجبُ أن يكون إنما ترك كتابةَ الناسِ والفَلَقِ لوجهٍ ما. وروى أبو عُبَيد عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سِيرِين قال: "كتب أُبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين، واللهم إنّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 نستعينُك، واللهمّ إيّاك نعبُد، وتركَهُن ابنُ مسعود، وكتب عثمان منهم فاتحة الكتابِ والمعوّذتين ". وروى الشَعبي عن ابن عَوفٍ عن محمدِ بن أُبي بن كعب: "كتب أُبي خمس سُوَر في المصحف، فاتحة الكتاب والمعوّذتين، واللهمُ إنّا نستعينك، واللهمّ إياك نعبدُ، ولم يكتبهُنَّ ابنُ مسعود، فلمّا جمع ابنُ عفّان المصحف كتب ثلاثا وأخر اثنتين، فاتحة الكتاب والمعوذتين، وأخر اللهمّ إنا نستعينك، واللهمّ إيّاك نعبد". فمَن ظنّ بعبد الله أنّه إنما أسقط المعوذتين من مصحفه لكونهما غير قرآن عنده لزمه مثلُ ذلك في إسقاطه الحمدَ من مصحفه، ومن اتَهمَ عبد الله بذلك وقَذَفَه به واعتقد فيه فليس هو عندنا بمحل من يُكلم في العلم ولا ممّن يُرجى فهمه واستدراكُه. فأما تركُ عبد الله لإفرادهما في درسه وإفرادهما في الصلاة بهما إذا صلى ويملأُ وقته أبدا في الصلاة والدرس بغيرهما، إن كان فعل وثبت من اختياره فإنّه لا يدُل أيضاً على أنه كان لا يعتقدُهما قرآنا مُنزَلاً، لأجل أنّه قد يعتقدُ أن السُّنّة والفضل والاختيار في أن لا يفرِدَهما في الدرسِ ولا في الصلاة، لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك فيما رواه وسمعه. وقد كان مجاهدٌ فيما ذكر عنه يَكرَهُ ذلك، وروى يحيى بنُ أبي بُكَيرٍ عن إبراهيم بن نافعٍ قال: سمعتُ سُلَيماً مولى أم علي أنّ مجاهداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 كان يكرهُ أن يَقرَأ بالمعوذاتِ وحدها حتى يجعل معها سورةً، ولم يجب لأجل ذلك أن يكون مجاهد منكراً لكون المعوذتين قرآنا، وكذلك عبدُ الله. إن ثبت ذلك عنه، وقد قال الشافعيُ: إنه لا يُقتَصَرُ في الأربع ركعاتٍ على فاتحة الكتاب وحدها، ولم يدل ذلك على أنها ليست بقرآنٍ عندَه وكذلك حكمُ الناس والفَلَق عند عبد الله ومجاهدٍ في أنّهما لا يُفرَدانِ في الصلاةِ والدرس عن غيرهما، ولا يُقرَآنِ إلا متَّصلتَين بسواهُما، وإن كانتا من القرآن ال منزَل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما التأوُّلُ عليه في إخراج المعوّذتين من كلام الله تعالى بهذا الضرب من التأويل. وأمّا جوابُه لمن قال له: "إن العَوْذَ من القرآن " بأنّها ليست من القرآن. فإنّه رد يدلُّ على إنكاره إن كان قد سُئِلَ عن ذلك في عَوْذةٍ ليست من القرآن، وقال ذلك لأنه لم يسأل عن العَوْذةِ التي هيَ الفَلَقُ والناسُ أو هما. وإنّما سُئِلَ عن عَوذةٍ ليست من القرآن، وليس كل عَوذةٍ رُوِيَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وكان يجبُ لمتوَهم ذلك على عبد الله أن يتأمل ما الذي يُسأل عنه من العوذ وأن يستفهم عبد الله: أفيُ عوذة أنكرت كونَها من القرآن، الناسُ والفَلَقُ أم غيرُها، ولا يتسرعَ إلى اعتقاد الباطل فيه بالتوفهم والظن، فبطلَ أيضا التأوُّلُ عليه بهذا الجوابِ وإن كان قد وقعَ منه. وأما التأويلُ عليه في جحدهما وإنكارهما بمنعِهِ تسميتَهما قرآنا - إن كان قد امتنعَ من ذلك - فإنه أيضاً باطلٌ، لأنّ الله تعالى لو نصَّ لنا أو رسوله عليه السلام على أن لا يُسمى يوسفُ والرعدُ قرآنا لوجَبَ أن لا يُسميها بذلك لأجلِ السمع والاتباع، وإن لم يدُل تركُنا لهذه التسمية على اعتقادنا أنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ليستا من القرآن، فكذلك سبيلُ مَن تأوَّلَ تأويلاً أداه إلى الامتناعِ من تسميةِ المعوذتين قرآناً في أنه لا يجبُ بهذا القدر أن يُعتقدَ فيه إنكارُ كونهما قرآناً. وسواءٌ غَلِطَ وتوهمَ في ذلك الاجتهادَ أم أصاب وصحّح. فأما تعلقُ عبد الله في منع تسميتها قرآناً وغيرِها بروايةِ أُبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال لمَّا سأله: أمِنَ القرآن هما،: "قيلَ لي: قُل، فقلتُ "، فإنه لا تعلُّق في ذلك لعبدِ الله ولا لأبى ولا غيرِهما مِن كلِّ مَن توفهم ذلك، لأنّ قولَ الرسول صلى الله عليه: "إتما قيل لي: قُل، فقلت "، ليس بنفي لتسميتهما قرآناً، بل هو تنبيهٌ منه على أنه قرآن، قيل له: "قل، واقرأ على حسب ما أُوحِيَ إليك وقيل لك، ولو كان قولُ الله تعالى له في السورتين: (قل) وإخبار الرسول بأنّه أقرَّ بذلك دلالةً على أنّهما ليستا من كتابِ الله لوجبَ أن تكون هذه سبيلَ كل موضع قيل له: قل. وقد قال الله سبحانه لنبيه: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) . وقال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) . و (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) . في نظائرَ لهذه الآيات قد قيل له - صلى الله عليه وسلم - في جميعها: (قل) ، ولم يُصير ذلك شُبهة لأحدٍ في أنها ليست بقرآن، ولا مما يجبُ أن يسمى قرآنا، وكذلك قوله: (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلفَلَق) و (قُل أَعُوذ بِرَبِّ اَلناسِ) لا يدلُّ على ذلك، وقولُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "قيل لي: قل.. " ليسَ فيه تصريحٌ بأنّ ما قيل له فيه: (قل) ، ليس بقرآن ولا تنبيهٌ على ذلك أيضاً، فبطل التأويلُ في إخراج المعوذتين عن أن تكون قرآناً بهذه الروايةِ وهذا الجوابِ مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 روى عبدُ الله بن محمد بن أبي شيبة عن حسين بن علي عن زائدة عن عاصم عن زِرِّ بن حُبَيش قال: قلتُ لأبي: إنَّ ابن مسعود لا يكتبُ المعوِّذتين في مصحفه، فقال: "إني سألتُ عنهما النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قيل لي: قل، فقلت "، فقال أُبيّ: نحن نقولُ كما قيلَ لنا"، وقد عُلِمَ أنّ أُبيّا مع ذلك ومع قوله: "فنحن نقولُ كما قيلَ لنا" قد كتب المعوِّذتين ولم يعتقد خُروجَهما عن كلام الله جلَّ وعزَّ ولا منعَ تسميتَها قراَناً، وهو الأصل في هذه الرواية، فوجبَ أنّه لا تعلُّق لأحدٍ فيها مع نفيِ كون المعوِّذتين قرآناً، ولا في من تسميتها بذلك. فأمّا ما رُوِيَ مِن حَكِّ عبدِ الله للمعوِّذتين مِن المصحف فإنّه بعيد. ويجبُ أن يكون ذلك إنّما رُوِيَ عنه عن طريقِ الظنِّ به والتوهم عليه، لأنه لو كان مِن عبد الله حَكُّ المعوذتين من المصحفِ ظاهرا مشهورا معلوماً لم يَخْلُ ذلك الحكُّ الذي كان منه وظهرَ من أن يكون حَكّا لهما من مصحفه ومصاحف أصحابه التي انتُسِخَت منه أو من مصحف عثمان وفروعه التي انتُسِخَت منه، فإن كان ذلك إنّما كان حكّاً من مصحفه، فذلك باطل، لأنّه لم يُلفِهما ثابتتَين من مصحفه ولا كتبَهما، فكيف يمحوهما منه! وكذلك سبيلُ فروعِ مصحفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وإن كان إنّما حكَّهما من مصحفِ عثمانَ أو بعض فروعِه فذلك أمر عظيم وخَطْب جَسِيم وعمل لنفسِه على خَطِّه من الخلاف الشديد وشقِّ العصا، وقد عُلِمَ أنّ ذلك لم يكن مما يمهيّأ لعبدِ الله بن مسعودٍ، ولأنه لو كان منه لَعظُمَ الخَطْبُ بينه وبينَ عثمانَ والجماعة ويجري في ذلك ما تَشِيبُ منه النواصي، وما يجبُ أن يَهجُمَ علمُه على نفوسِنا فيُلزِمَ قلوبَنا، وفي عدمِ العلمِ بذلك دليل على أن ذلك لم يكن من عبد الله. وإن كانَ إنما فعل ذلك سراً وفي خفيةً عن الناس في بعضِ المصاحف فقد دلَّ هذا الخوفُ منه أنّ أمرَ المعوِّذتين في المسلمين مشهور ظاهر، وأنّه لا يمكن لمسلمٍ أن يُكاشِفَ بإنكارهما أو حكِّهما من المصحف، وعبدُ الله أولى الناسِ بعلمِ ما عرفَه المسلمون وإنكار ما أنكروه، على أنه إن كان قد فعلَ ذلك فمَن ذا الذي رآه منه وخَبَّر به عنه وهو قد استسرَّ بذلك؟! وإن كان قد استسرَّ بينَ جماعة يُعلَم أنّه لا يَكتُمُ عليه ما يُظهِرُهم عليه من أفعاله وأقواله فليس ذلك بسِرٍّ منه، بل يجبُ أن يكونَ ظاهراَ عنه، وإن كان قد استسَرَّ به بحضرةِ الواحدِ والاثنين ما يجبُ أن تضيفَ إلى عبد الله ذلك ويُقطع عليه ومِن دينه بخبر واحد ومَن جرى مجراه ممّن لا يُوجبُ خبرُه علماً ولا يقطعُ عذراً، فيجبُ إذا كان ذلك كذلك إبطالُ هذه الروايةِ عنه. وقد رُوِيَ عن عبدِ الله أنّه كان يحكُّها بلفظِ الواحد دونَ التثنية، وهذه الروايةُ خلافُ روايةِ مَن روى: كان يحكُّهما، فلعل بعضَ المنحرفين زاد فيه ميماً، أو لعلَّ بعضَ الرواة توهَّم ذلك، أو لعلَّ بعضَ الكَتَبة غَلِط فزاد ما يدلُّ على الكناية عن الاثنتين وهذا ليسَ ببعيد. وقد روى عبدُ الرحمن بن زَيدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 قال: "كان عبدُ الله يحكُّها ويقول: لا تخلطوا به ما ليس منه " يعني المعوذتين، وهذا تفسيرُ الراوي ليس هو النص من عبد الله على ذلك فيُحتمل أن تكونَ التي حكَّها هيَ الفواتحُ والفواصلُ التي لا يجوزُ عندَه أن تكتَبَ في المصحف على ما رويناه عنه وعن غيره في باب الكلام في بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه الروايةُ التي ليس فيها لفظُ التثنية تقوِّي ما قلناهُ من تاويلِ ذلك عليه أو توهُّمه، فقد رُوِيَ عن عبد الله بن مسعودٍ أنه رأى خطأً في مصحف فحَكَه وقال: لا تخلطوا به غيره "، فيمكنُ أن يكونَ مَن رآه يُحك لم يره يحُك الخط، وقد كان سبقَ علمُه بأنه لا يكتُبُ المعوِّذتين فتسرع إلى أنّه كان يحُك المعوذتين، فروى على التأويل أنه كان يحكُهما. على أنّه لو رُوِيَ بلفظِ التثنيةِ أنه كان حكَّهما لاحتملَ ذلك التأويل. فيُحتملُ أن يكونَ كان يحُك حرفين وقراءتين لم يَثبُتا عنده، وكلمتين قد كُتبتا ملونتَين، أو على وجهٍ لا يجوزُ عندَه. ويُحتمل أيضاً أن يكونَ المرادُ بلفظ التثنيةِ أنه كان يحُك الفاتحةَ والخاتمةَ، فعبَّرَ عن جِنْسِ الفاتحةِ والخاتمة اللتين كان يكتبُهما بعضُ الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بلفظ التثنية، وقد رُوِيَت أخبار بأنه كان يحُكُهما ليسَ فيها ذكرُ المعوِّذتين. وإذا كان ذلك كذلك حُمِلَ الأمرُ فيما رُوِيَ عنه على ما وصفناه على بيانه. ولو ثبت عنه بنص لا يحتَمِلُ أنه كان يحُكُّ الناسَ والفَلَق من المصحف لاحتَمَلَ ذلك تأويلات عن إنكارِه أن يكونوا قرآناً، فمنها أن يكونَ إنّما حكَهما لأنه لم يَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبها بحضرته، ولا أمرَ بذلك فيهما، فاعتقدَ لهذا أنّ السُّنَّة فيهما أن لا يُكتبا. ومنها أن يكونا قد كُتِبا في بعضِ المصاحف في غير موضعهما الذي يجبُ أن يُكتبا فيه وأن يكون الذي كتبَهما حيثُ تيسر له وإلى جنبِ البقرة لمّا حَفِظَها، فحكَهما وأراد بقوله: "لا تخلطوا به ما ليس منه ": التأليف الفاسدَ الذي ليسَ منه، دون ذاتَي السورتين. ومنها أن يكونَ قد رآهما كُتبتا بزيادةٍ ونقصانٍ وضربٍ من التغيير فحكَّهما لما لحقهما في الرسم ممّا يُفسدُ نظمَهما وترتيبَهما وقال: "لا تخلطوا به ما ليس منه " يعني: فسادَ نظمِها وترتيبهما، ولم يَرَ في ذلك شيئاً لحقَه الفسادُ والتغييرُ غيرَهما فخصهما بالذكر لهذه العلّة. ومنها أن يكونَ إنّما حكَهما لأنه كان من رأيه أن لا يثبِتَ القرآنَ إلا على تاريخ نزوله، وأنه يجبُ لذلك إسقاطُ رسمِ فاتحة الكتاب والمعوذتين لأنّهما قد جُعِلَتا خاتمتَين في التلاوة، وتقديمُ نزولهما يمنعُ مِن تأخيرِهما في الرسم وإن تقدَّم عليهما ما نزلَ بعدَهما، فحكَّهما لذلك وقال: "لا تخلطوا به ما ليس منه "، يعني بذلك إنْ ختموه في القراءةِ والتلاوة بهذه الخاتمةِ وافتتحوه بالفاتحة، ولا تكتبوهما على غيرِ تاريخ نزولِهما. وإذا كان ذلك كذلك واحتَمَلَ حكُهما ما وصفناهُ بطلَ مَن زعم أنه يجبُ حملُ هذا الفعلِ منه على جحدِ المعوذتين وإنكارِ كوبهما قرآنا، وفي بعضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 هذه الجملةِ دلالةٌ باهرةٌ واضحةٌ على أنّ هذه الأخبارَ متكذَّبةٌ على عبد الله بن مسعودٍ لا أصلَ لها، أو محمولة متأوَّلة على ما قلناه دون الجَحْدِ والإنكار منه لكونهما قرآنا، وأنّه لا خلافَ بين سَلَفِ الأمّة في كونِ المعوذتين قرآنا مُنزَلاً وكلاما لله تعالى، وأنّ النقلَ لهما والعلمَ بهما جارٍ مجرى نقلِ جميعِ القرآنِ في الظهورِ والانتشار وارتفاعِ الريب في ذلك والنزاع. وأمّا اعتراضُهم بأنه لو كان نقلُ القرآن ظاهراً مشهوراً عندَهم لم يحتجْ أبو بكرٍ في إثباتِ ما جمعه منه إلى شهادةِ شاهدَين عليه، ولم يَشُك زيد في آياتٍ منه لمّا جمعَه في أيام عثمان، فسنقولُ في ذلك قولاً بيّناً عندَ القولِ في جمع أبي بكرٍ القرآنَ وجمعِ عثمانَ الناسَ على مصحفه، ونُجِيبُ هناك عن جميعِ ما يَسُوغُ التعلق به إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 (باب) ذكرِ اعتراضِهم في نقلِ القرآنِ بما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "أنزِلَ القرآنُ على سبعة أحرف، كلّها شافٍ كافٍ ". ووصفُ تواترُ الأخبارِ بذلك، وذكرُ تأويلها واختلافِ الناسِ في تفسيرها، وهل نصَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للأمّةِ على جميعِها وجملتِها وتفصيلِها ووقفَهُم على إيجابِها على حسبِ نصِّه وتوقيفِه على نفسِ القرآنِ وجميعِ ما ظهرَ مِن ديِنه من الأحكامِ أم لا، ووصفُ ما نختارهُ في هذه الفصول. فإن قالوا: كيف يجوزُ لكم أن تدَّعوا أنّ ظهورَ نقلِ القرآن، وما يجبُ له وفيه، وأنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ألقى ذلكَ إلى مَن تقومُ الحجّةُ بنقلِه ويجبُ العلمُ بخبرِه، وأنتم قد رَوَيتُم رواياتِ كثيرةَ متظاهرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أُنزلَ القراَنُ على سبعةِ أحرفٍ، كلُّها شافٍ كافٍ "، ثمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أنتم مع ذلك مختلفون في تأويلِ هذه السبعة الأحرفِ ومُدْهَشونَ في تفسيرها ولا تعرفونَ شيئاً نحكُونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. فإن كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَكم قد بئنَ هذه الأحرفَ السبعةَ ونصَّ عليها، وعرفَ أجناسَ اختلافِها وما هي، وكيفَ يجبُ أن يُقرَأَ بها، وأوضحَ ذلكَ وقطعَ العُذرَ فيه وأنتم مع هذا مختلفون في ذلكَ الاختلافَ الكثير، فلا تجدون خبراً تَرْوونه عن النبي صلى الله عليه في تفصيل هذه الأحرفِ السبعةِ والنص عليها والتعريفِ لكلِ شيءٍ منها، إما لانقطاعِ الخبرِ عن النبى صلَّى الله عليه عن ذلك أو دُثُورِه، أو لعناد الأمة وغَلَطِ سائرِ النقَلةِ أو لغيرِ ذلك، فما أنكرتمُ أن يكونَ رسولُ الله صلَّى الله عليه قد نصَّ على قرآنٍ كثيرٍ شُهِرَ أمرهُ وأُعلن النصُّ عليه وقُطِعَ العُذرُ في بابه، وإن جازَ أن يجهَلَه بعضُ الأمّة ويُنكِرَه ويذهبَ عن معرفتِه، وجازَ أيضا أن ينقطعَ ذكرُه ويعفُوَ أمرهُ ويَهِيَ نقلُه ويَندرِسَ ذكرُه، حتى يصيرَ إلى حدّ ما لا يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يُذكر كما جرى مثلُ ذلك في اندراسِ ذكر تفصيلِ الأحرف. وإن كان الرسول صلى الله عليه عندَكم لم يُبين هذه الأحرفَ التي أُنزِلَ القرآنُ بها وجرت الأمّة في القراءةِ بأنها شاؤوا، وأُمروا أن يعتقدوا أنها كلها منزَلة مِن عندِ الله ومما لا يجوزُ ردُّه وإنكارُه وتَسخُطُه، وأنّ ذلك رخصة منه وتيسير على عبادِه واستصلاح لخَلْقِه، ومما يجبُ أن يعلموا أنه منزَلٌ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَحيهِ ومشروعٌ في دينه، أو بيَّنها لآحادِ وأفرادِ من أُمتِه لا يُحتَج بخبرِهم ولا تقطَعُ العذرَ نقلُهم، فما أنكرتم أيضا من أنَّه يجوزُ أن لا يبيّنَ كثيراَ من القرآن الذي أُوحِيَ به إليه، ولا ينص عليه ولا يبلغُ كثيراَ من فرائضِ الذين ونوافِلِه وما شُرعَ للأمةِ معرفتُه وأن يَصْدِفَ عن ذكرهِ جُملة، أو يثبتَه لآحادِ وأفرادِ لا تقومُ الحجَّة ُ بهم، ولا يُوجِبُ العلمَ خبرُهم، كما صنعَ ذلكَ في الأحرفِ التي أُمِرَ بتعريفها وبلاغِها والنص عليها. قالوا: وهذا مما لا جوابَ لكم عنه، وهُو من أدل الأمورِ على تخليطِكم هذا، على أنكم قد رويتم أيضًا في هذه الأخبارِ تفسيرا لهذه السبعةِ الأحرفِ عن النبى صلَّى الله عليه والصحابةِ لا يجوزُ ولا يمكنُ أن تكونَ تفسيراَ لها على قولنا وقولكم، لأنكم رَوَيتم أنها تحليلٌ وتحريم ووعدٌ ووعيدٌ وقَصَص وأمثال وأمر ونهي، وأنتُم مع هذا ترَون أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاقرؤوا كيف شِئْتُم"، وقال فيمَن قرأ عليه بالأحرفِ المختلفة: "أصبتُم وأحسنتم". وأنّه قال: "فبأيها قرأتُم فقد أصبتُم وأحسنتم ". فيجبُ على قولكم وروايتِكم هذه أن يكونَ مَن جعلَ مكانَ الأمرِ نهيا وموضعَ الوعيدِ وعداَ ومكانَ القَصَصِ أمراَ ونهياَ فقد أصابَ وأحسَنَ وأجمل، وهذا جهل مِن قائِلهِ وخلافُ دينِ المسلمين. وكيف يكونُ أمرُ القرآنِ فيهم ظاهراَ مشهوراَ، وقد رَوَيتم في هذه الأخبارِ أنّ أُبيًّا وعُمرَ بن الخطاب وعبدَ الله بنَ مسعودِ نافروا هشامَ بن حكيمِ وغيرَه لما قرأ بخلافِ قرائتهم وردوها حتى ترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه فأقرَّهم جميعا على ما قرؤوا به، وشُهرةُ القرآن تُوجِبُ علمَهم جميعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ثم رَوَيتم بعدَ ذلك كلِّه ما ينقضُ ما روَيتمُوه أولاً! لأنكم قد رَوَيتُم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُنزِلَ القرآنُ على أربعةِ أحرفٍ "، وأنه قال مرةً أخرى: "أُنزل القرآنُ على ثلاثةِ أحرفٍ "، وهذا ينقضُ أن يكونَ أُنزِلَ على سبعةِ أحرف. وهذا كله يدلُّ على أنّ أمرَ القرآنِ لم يكن مشهوراً عندَهم ولا كان عُذرُهم بيناَ منقطعاً، وأنّهم لم يعلموا في جميعِ ما كانوا فيه على نصِّ الرسول في ذلك، بل اجتهدوا واستحسنُوا واستعملوا غالبَ الظنِّ والرأيِ وتغيروا وتأمَّروا وعدَلوا عن معرفةِ الصواب وأخذِ الأمرِ عن أهلِه، ومن أُمِرَ بالرجوعِ إليه، وأن لا يُفرِّقوا بينَ الكتابِ وبينه حيثُ قال لهم صلَّى الله عليه: "إئي مُخلِّف فيكم الثَقَلَينِ وما إن تمسكتُم به لم تضِلوا: كتابَ الله وعِتْرَتي أهلَ بيتي، ألا وإنهما حبلانِ ممدودانِ ولن يَفْترِقا حتّى يَردا عليَّ الحوضَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قالوا: على أن في الخبرِ إحالةً عن وجوهٍ أُخَر، منها: - أنّه لا يجوزُ أن يُقال: أُنزل القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ قبلَ نزولِ جميع القراءاتِ الكاملة، وأنتم ترون أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلكَ قبل موتهِ بدهرٍ طويل، فهذا إحالة منكم. ومنها: أنّ في الخبر ما يُوجِبُ إبطالَه، لأنه إذا نزلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ أدّى ذلك إلى الاختلافِ والنزاع والهَرَج والرَّيبِ والشكِّ وإلى مثلِ ما رَوَيتم أنّه جرى بينَ عُمرَ وهشامِ بن حكيمٍ وأُبيٍّ وعبدِ الله بن مسعود مع مَن سمعوه يقرأ بخلافِ ما أقرأهُما الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - حتى شك أُبيّ واضطربَ على ما رويتُم، وذلك ما لا يجوزُ رده. فيقالُ لهم: ليسَ في جميع ما وصفتُم شيءٌ يُعترَضُ على نقلِ القرآنِ ولا يُوهِنُه ولا يُوجِبُ دخولَ زيادةٍ فيه ولا نقصانٍ منه، ولا تغييرٍ له ولا إمكانِ ذلكَ فيه، وليسَ الخبرانِ اللذانِ يُذكر فيهما أن القرآنَ أُنزلَ على أربعةِ أحرفٍ وثلاثةِ أحرفٍ مناقضين للخبرِ الذي فيه أن القرآنَ أُنزل على سبعةِ أحرف، وليسَ منافرةُ عُمَرَ بنِ الخطاب لهشامِ بنِ حكيم، ومنافرةُ أبي وعبد الله لمن نافراه واستشنعا قراءته بدليلٍ على أنّ أمرَ القرآنِ نفسِه وما أُنزلَ منه لم يكن ظاهراً معلوما عندَهم، وكذلكَ ليسَ اختلافُنا نحنُ اليومَ في تأويلِ هذه السبعةِ الأحرفِ دليلاً على أن نصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفس القرآنِ وتأليفِ آياتِ سُوَرِه لم يكن ظاهراً مشهوراً، ونحن نبينُ ذلكَ بما يُوضَحُ الحق إن شاءَ الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فأمّا شهرةُ أمرِ القرآنِ نفسهِ وظهورُ نصِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جميع ما أنزلَه الله على طريقةٍ واحدةٍ ووجهٍ يُوجِبُ العلمَ ويقطعُ العذر، فقد بيناه وأوضحناه مِن قبلُ بما يغني عن إعادته، وليسَ يُوجِبُ ذلك عندَنا على الرسول ولا في حكمِ التعبُّدِ والشريعةِ أن يَنُصَّ الرسولُ لكافةِ الأمَّة أو مَن تقومُ به الحجَّة ُ على كلِّ حرفٍ من تلكَ الحروفِ والفصلِ بينَه وبينَ غيرِه، وأن يُوقِفَه على أنّ هذا الحرفَ الذي أقرأتُك به أو الحروفَ التي أقرأتُك بها هيَ من جملة الحروفِ السبعةِ التي أنزَلَها الله تعالى دون وجوهٍ أُخَر قد كان أنزلها فيما سلف ومما نزلَ من القرآن، ووجوهٍ قد كان يُقرِىءُ بها. ولا يمتنعُ ولا يستحيلُ أن يكونَ الرسولُ عليه السلام قد أعلم في الجملةِ أنّ القرآنَ قد أُنزلَ على سبعةِ أحرفٍ وأوجهٍ نُص له عليها وعلى تفصيلها، وخُيرَ في أن يُقرِىءَ أمته مجتمعين ومتفرقين كيفَ أحب وشاءَ على أيَ وجهٍ سَهُلَ عليه وعلى الأخذِ عنه وتيسر له، وأن يُقرىءَ واحداً منهم جميعَ السبعةِ الأحرفِ في سُوَرٍ كثيرةٍ من القرآنِ أو في جميعِه ولا يَنُصَّ له على أن هذه الوجوهَ على السبعةِ الأحرف أو من السبعة الأحرفِ، ويُقرِىءَ آحاداً منهم بواحدٍ منها فقط ولا يَنُص له على أنه أحدُ الأحرفِ السبعة، فيظُن القارىءُ أنّ ذلك الوجهَ ليس هو من السبعةِ الأحرف، ويُقرىءَ آخرَ باثنين منها أو ثلاثةٍ ولا يُعرفَ ذلك كما لم يُعرف الواحد، فلا يخرجُ عليه السلامُ من الدنيا حتى يُقرءَ جميعَها على هذه السبيل وإن لم يكن منهُ نص على تفصيلِها لكل آخذٍ عنه وإن كانت قد حصَلَت لجميعِهم وعُرِفَت عندَهم على السبيل الذي وصفناه، وأن يكونَ تعالى قد عَلِمَ أن إلقاءَ هذه الأحرفِ وبيانَها على هذه السبيل من الجملةِ دونَ التفصيلِ مِن أصلحِ الأمورِ للأمة وأدعاها لهم إلى الإيمانِ وقبولِ القرآنِ والحرصِ على حفظِه ودراستِه، وأنّه لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 جَمَعَهم ونص لهم على تفصيلِ عددِ هذه الأحرفِ وجنسِ اختلافِها لنفروا عن طاعَتِه وخالَفوا رسولَه. وإذا لم يمتنعْ هذا ساغَ أن يكونَ بيانُه لهذه الأحرفِ لم يقع إلى كل واحدِ منهم وإلى جماعتِهم مفصلاَ مبيَّنا بيانا يمكن أن يتقِنَه ويُحكِمَه، وإن كان الرسولُ قد لَقَّنَ تلك السبعةَ الأحرف جميعَ الأمَّةِ على سبيل ما وصفناه. حتى إنه لم يبقَ منها حرف إلا وقد أقرأ به بعضَ أمته ونص على جوازِه. ونظيرُ ذلك أنّ إنسانا منا لو عرفَ قراءةَ السبعةِ الأحرفِ وعُلِمَ ذلك من حاله واتساع معرفته بالقراءاتِ ثم آثرَ أن يُقرىءَ الناسَ بالجائز من ذلك وأن لا يلقنَ كلَ أحدِ حرفا مجرداَ على وجهه من هذه الأحرفِ لساغَ له وجازَ أن يُقرىءَ بعضَ الناس بحرف أبي عمروِ ولا يعرفَه أنه حرفُه، ويقرىءَ آخرَ شيئا من القرآن بحرفِ ابن عامر، وشيئا منه بحرفِ عاصمِ ويقرىءَ آخرَ شيئا بحرف حمزة، وشيئا بحرف ابن كثير، وشيئا بحرف يعقوبَ الحضرمي، ثم لا يعرفه تفصيلَ هذه الحروفِ بل يعلمَه أن ذلك كلّه شائعٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 جائزٌ وأنّه حقّ وصوابٌ: لكان ذلك من فعله حسناً جائزاَ ولا سيّما إذا كان ذلك أسهلَ عليه وأيسر. وإذا ظن أنّ أخْذَه على المتعلم بالجائز أقربُ عليه وأسهلُ وأن تجويزَ إقرائه بحرفٍ على وجهِه مما يَشُق ويصعب ويُنفرُه عن الحفظ والضبط. فكذلك الرسولُ عليه السلامُ إذا خُيِّرَ في إقراء الناس بالسبعةِ الأحرفِ المنزلةِ عليه وجُعِلَ له فعلُ الأخف عليه، ولم يُؤخَذ عليه تفصيلُ تعريفِ ذلك الناس، وظنَّ أنّ إقراءَهم بالجائز من ذلك أسهلُ عليهم وأيسر: جاز له له تلقينُه على هذه السبيل وأن يقرىءَ رُبعَ القرآنِ بحرفٍ منها ويقرىءَ الربعَ الآخرَ بحرفٍ آخرَ ويقرىءَ كل سُبعٍ منه بحرفِ من تلك السبعة، ويخلطَ ذلك فلا يُفضَلَه تفصيلاً تعرفُه الأمةُ والآخذون عنه حرفا من حرف، بل يظنون ذلك حرفاً واحداَ من السبعة يُقرأُ على وجهينِ وثلاثةٍ أو سبعة، أو حرفان منها يُقرآنِ على تلك الوجوه. ويجوزُ أن تكونَ هي كل السبعةِ قد أُقرِئوا بها شائعاً في جميع القرآن. ويكونَ ذلك أصلحَ لهم وأنفعَ وأقربَ إلى تحفُّظِهم وحرصهم وتسهيل دواعيهم على جميع القرآن ومعرفةِ تأويله وأحكامه دونَ عدد حروفه. وتجريدِ كلِّ حرفٍ منه، غيرَ أنه لا بدَّ في الجملةِ مِن أن يُشتهرَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جملةُ ما أقرأ به من الحروف، إما بتلقَيهِ منه أو بالإخبارِ به عنه، وإن لم يُعرَف بذلك تفصيلُ السبعةِ الأحرف. فإن قال قائل: فهذا الذي ذكرناه من إقراءِ الرسول والصحابةِ على هذا الوجه يُوجِبُ أن تكونَ الصحابةُ غيرَ عالمةٍ بأنّ القرآنَ أُنزل على سبعةِ أحرفٍ ولا متَّبعِين لذلك: أنّها إذا لم تَعرف ولا كلُّ واحدٍ منها تلكَ السبعةَ الأحرفَ وتُفصِّلَها لم تكن عالمةً بأنه مُنزَلٌ على سبعةِ أحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 يُقالُ له: لا يجبُ ما قلتَه لأجل أنهم إذا ظهر بينهم نص الرسول صلّى الله عليه بأنه منزَل على سبعةِ أحرفٍ ويكونُ ذلك على أسماعهم وعندَ التنازع والترافُعِ إليه وتواترِ الخبر بذلكَ عنه على مَن لم يسمعه مِن فِيه: حصلَ لجميعِهم العلمُ بأنهُ على سبعةِ أحرف، وإن لم يعرفوا تفصيلَ ذلك وظنوا أن بعضَها إذا سمعوه ولم يكن تقدَّم علمُهم به ليسَ منها، ولهذا أن يعلمَ اليومَ أكثرُ الناسِ بالخبرِ المتواترِ أنّ للقراءِ السبعةِ سبعةَ أحرفٍ يقرؤونها لا يشكُون في ذلك، وإن لم يعرفوا تفصيلَها ولم يحيطوا علما بجميعها، ولم يعلموا أنّ بعضَ ما يسمعونه يُقرَأ بشيءٍ منها هو مِن جملتها، وكذلك أكثرُ الناس يعلم أن للرسول أحكاماً كثيرةً هيَ معظَمُ دينه وجُلُّ شريعته، وإن لم يعرف تفصيلَها، ولم يحفظ ألفاظَ نصوصه - صلى الله عليه وسلم - عليها، وجَوَّزَ إذا لم يكن من أهلِ هذا الشأن أن يكونَ بعضُ ما يُحكى له من الأحكام ويُذكَرُ له فيه من الآثار ليسَ من جُملةِ ما استقرَّ في دينه ولا مما قاله ونصَّ عليه. ولهذه العلة بعينها ساغَ لأبيٍّ وعُمرَ بنِ الخطاب وعبدِ الله بن مسعودٍ أن يُنكروا بعضَ القراءاتِ التي سمعوها مخالِفةَ لما لُقِّنوه من الرسول، لأنَّهم لمّا لم يكن كل واحدٍ منهم يحفظ جميعَ هذه الحروف ويحيطُ علماَ بتحصيلِها وتفصيلها، ولم يكن مَن سمعوه يقرأُ ممَّن يُوثَق بضبطِه وحفظِه أو ممن يُسكَنُ السكونُ التامُ إلى رضائه وأمانته، ظنوا به الغَلَطَ أو التحريفَ أو القراءةَ على المعنى أو التساهلَ في ذلك، وكان أمرُ القرآنِ عندَهم أشدَّ وأضيقَ من أن يقعَ فيه ضرب من التساهلِ أو التغافل، فلذلك خرجَ عُمرُ وأُبيّ وعبدُ الله إلى ما خرجوا إليه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما حاولوه من القدح في نقلِ القرآن متى لم يبيِّن الرسولُ جميعَ هذه الأحرفِ ويُفصِّلْها لكل الأمة مجتمعين أو لكل واحدٍ من الأمة، وزال جميعُ ما طالبوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فإن قالوا: فإذا قلتم إن الرسولَ صلى الله عليه لم يكن يبينُ لكل واحدٍ ممَن يُقرئه جميعَ الأحرفِ والوجوهِ التي نزلَ القرآنُ عليها ويُفصلُها لكل الأمة مجتمعين، وأنَّه كان يُقرِئهم قراءةً مختلفةً من تلك الحروفِ وعلى سبيلِ ما تيسَّر له: وجبَ أن لا تقومَ الحجَّة ُ على الأمَّة بكل حرفٍ مما أقرأ به، وأن لا يتيَقَنَ ذلك من دينه، وأن يَجدَ المُلحِدُ والمعاندُ سبيلاً إلى إدخالِ حرفٍ ووجهٍ في القرآن ليسَ هو مما أُنزل على الرسول، ويعملَ له إسناداً وطريقا ويُضيفَه إلى النبى صلى الله عليه ويُدخل بذلك فيما أنزل الله تعالى - من الوجوه ما لم يُنزِله، ويُفسدَ القرآنَ ويوقعَ الشبهةَ والإلباسَ على أهل الإسلام، كما زعمتُم من قبلُ أنه لو كان يبينُ بعضُ القرآن بيانا خاصًّا لا تقوم به الحجَّة ُ لصارَ ذلك طريقا إلى أن يُدخَلَ في القرآنِ كلمات وأيات تقصُرُ عن حدّ المعجز، وأن يُضافَ ذلك إلى الرسول أو أن يكونَ ذلك ذريعةً إلى الشبهة والإلباس، وهذا ما لا فصلَ لكم فيه. يقال له: لا يلزمُ ما وصفتَه، لأننا قد قُلنا مِن قبلُ إن رسولَ الله صلى الله عليه وإن كان لم يبيِّن تفصيلَ الحروفِ السبعة لكل واحدٍ ممَن أقرأه وأخذَ عنه ولا جمَعَ الأمَّة ووقفهم على ذلك، وأنَّه كان يُقرىءُ بما يَسْهُل وُشرُ له وللمتعلم منه، فإنه لا بُدَّ أن يظهرَ عنه ويستفيضَ كل وجهٍ وحرفٍ قرأ به وأقرأه، إما بتكررِ سماعِ ذلك منه أو بالنَّقل له عنه، ولا بُدَّ أن يَبلُغَ الحديثُ والسماعُ في طول تلكَ السنين، وتكرير عرضِه صلى الله عليه القرآنَ على جبريلَ عليه السلامُ في كل عام، وعرْضِه إيَّاه مرتين في العام الذي ماتَ فيه، وتكزُرِ قراءته وإقرائه إيَّاه وأخذهِ عنه مبلَغا يظهرُ ويستفيضُ حتى يزولَ عن الناس فيه الرََّيبُ والشك، وأنه مما قرأه رسولُ الله صلَّى الله عليه وأقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 كما أنّه لا بدَّ إذا بيَّن الآية َ إذا نزلت عليه في منزله لأهلِهِ وقرابته ومَن حضره من الآحاد ِ مِن أن يبينه أيضا لغيرهم ومن أن يتحدَّث بذلك عنه، ومِن أن يَبْلُغَه الحديثُ به عنه ودعوى نزولِه له عليه، وأنّه ممّا ألقاه وبلغه حتى يَبلُغَ مبلغا يزول معه الرَّيْبُ والشك في أنه مما أُنزلَ عليه وبلَّغَه، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما ظننتَه وبطلَ ما حاولتَه. ونظيرُ هذا أنّنا إذا عرَفنا عدالةَ رجلٍ في وقتِنا هذا وطهارته وشدةَ تديُّنه وحسنَ منسكه وعلمَهُ بقراءة الأئمة السبعة وأنه يُقرىءُ الناسَ بها، غيرَ أنّه لا يجرِّدُ كلَّ حرفٍ منها ويفردُ للأخذِ عنه ولا يبينُ ذلك له ويفصِّلُه ويقولُ له: هذا حرفُ فلانٍ وهذا حرفُ فلان وروايةُ فلان: لا يُمتنَعُ علينا مع ذلك أن نعلم أنّ الحروفَ والوجوه التي يُقرىء بها هي الأحرفُ السبعةُ المشهورةُ ويتيقنها، وإن كنَّا لا نعرفُ تفصيلَها ونعلمَ أنّه لم يفصلها للآخذين عنه، وأن نعلمَ مع ذلك كذِبَ من يكذِبُ عليه وأضافَ إليه القراءة بالشَّواذ، ومما يُستنكَر ولا يجوزُ مثلُه ومما لم يُقرىء به أحدأ لأنّه وإن كان لا يجرِّد لكل أحدٍ عنه حرفاً واحداً يقرِئُه جميعَ القرآن به، فإنه مع ذلك قد اشتُهِرَ عند كل وجه وحرفٍ مما يُقرىءُ به وعُرف من رأيه، فإذا أضيفَ إليه مع ذلك أنه يقرأُ أو كان يُقرىء في أيامِ حياتِه قراءةَ ابنِ شُنْبوذ والشَواذَّ المنكرة، والقراءةَ المرويةَ عن السبعة علمنا بكَذِبِ ذلك عليه لشهرةِ ما كان يقرىءُ به عنه والعدولِ عما سوى ذلك، وإن كان يُقرىءُ قراءة مختلِطةً ممتزجةً من قراءةِ جميع الأئمة. وكذلك الرسولُ إذا كان لم يَمتْ حتى ظهرَ عنه وانتشرَ جميعُ الوجوه والأحرفِ التي كان يُقرىء بها ويداومُ عليها ولا يُقرِىءُ بغيرِها لم يَسُغْ أن يتَوَهمَ عليه متوهم صحة َ ما يُروى عنه أنّ ما كان يُقرىء به: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) . وأنَّه كان يُقرىءُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ (بعلى) } ، وأمثالِ هذا إذا كان قد ظهرَ وانتشرَ عنه جميعُ ما أقرأ به وليس هذا من جُملتِه، وإذا كان ذلك كذلك فقد بطلَ ما سألوا عنه بطلانا ظاهرا. فأما قولُهم: كيف يسوغُ أن تدّعوا ظهورَ إقراءِ الرسول بهذه الوجوهِ وأنتم تختلفون في تفسيرها فإنّه لا تعلُقَ فيه، لأنّنا قد بيَّنّا أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه أقرأ بجميعِها وظهرَ منه ذلك، وأنّه مع هذه الحال لم يفسر تلكَ الوجوهَ ويُسمي كلَّ شيءٍ منها باسمٍ يخُصه، فنحنُ نعلَمُ في الجملةِ أنّه منزَل على سبعةِ أحرفٍ وأنّ الرسولَ قد بفلغها وأقرأ بها وظهرت عنه، وإن اختُلِفَ في تأويلِها لعدمِ نصِّه على التأويلِ والتفسير، كما أنّنا نعلمُ أن ما بلّغه قرآن مِن عند الله، وأنّه قد بينهُ وظهرَ عنه وقامت الحجّة بانّه كلام الله تعالى، وإن كنّا نختلف في تفسير كثيرٍ منه ونتنازع في تأويله الذي لم ينص لنا صلّى الله عليه ولا وقَفَنا عليه، فاختلافُنا في تفسير الآية ِ لا يمنعُنا من العلمِ بأنّها قرآن،، وكذلك اختلافُنا في تأويل السبعة الأحرف والأوجه لا يمنعنا من العلم أنّه مُنزَل على سبعة أحرف، وأنّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قد بلَّغها وأقرأَ بها، فبطلت بذلك شبهتُهم باختلاف الأمّة في هذا الباب. وأمّا قولُهم: إنكم قد روَيتُم في تفسير هذه الأحرف ما لا يمكنُ ولا يجوزُ في صفة الرسولِ أن يُفسِّرها به، نحوَ روايةِ مَن روى أنها: أمر ونهي وقَصَصٌ ومواعظُ وأمثالٌ وحلال وحرام ونحو ذلك، وأنّه لا يجوز أن يكون الجاعلُ مكانَ الأمر نهياً وموضعَ الوعظ مثلاً ومكانَ الوعدِ وعيداً: مُحسناً مصيباً، وأنتم قد روَيتم أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لكلِّ مُختَلِفَين في هذه الأحرف: "أحسنتُما وأصبتُما"، و"هكذا أقرأتكما"، والرسولُ عليه السلام يَجِلُّ من هذه الصفة ويرتفعُ عن هذه الرتبة، بل يجبُ تبرئةُ أدنى المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 منزلةً عن ذلك، فإنّه باطل لا تعلُقَ لهم فيه، وذلك أنّ إخبارَه عليه السلام بأن القرآنَ منزَل على سبعةِ أحرفٍ وأوجهٍ من القراءاتِ كلها جائزة وحسنة وصواب، لأنّها في الخبر، غير أنّه قد أنزَله على سبعةِ أحرفٍ هي أوجه أُخَرُ منها أمر ومنها نهى ومنها وعدٌ ومنها وعيد ومنها قَصَصٌ وأمثالٌ وتحليل وتحريم، فلا تكونُ هذه السبعةُ هي التي إذا اختلفَ المختلفون فيها وجعلوا مكانَ كل شيءٍ منها غيرَه فقد أحسَنوا وأصابوا، بل لا يمتنعُ أن تكونَ هذه السبعةُ الأوجهُ والأقسامُ قسما من السبعةِ الأحرفِ التي أنزلَ الله القرآنَ عليها، وباقي السبعة يصوبُ المختلفون فيها سوى هذا الوجه، ولا يمتنعُ غيرُ ذلك على ما سنشرحه فيما بعدُ إن شاءَ الله، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ توهُّمُهم لتعارضِ هذين الخبرين، وإحالة هذا التفسيرِ على الرسول عليه السلام. وأمَّا قولُهم: إن روايَتكم في هذا متناقضة لأجلِ أنكم قد روَيتُم عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أن القرآنَ نزلَ على ثلاثةِ أحرف، وأنه قال في خبرٍ آخر: "أُنزل على أربعةِ أحرفٍ "، فإنه أيضا لا شبهةَ فيه لعالم ولا تعلق، وذلكَ أن أولَ ما في هذا الباب أن الثلاثةَ والأربعةَ داخل في السبعة، فيمكنُ أن تكونَ هذه الأحرفُ أُنزلت أولاً فأول، وأُنزل منها ابتداءً ثلاثة فقط، ثم زِيدَ الرسولُ عليه السلامُ رابعَها، ثم زِيدَ ثلاثةً فصارت سبعاَ، هذا غيرُ ممتنعٍ لولا أن في لفظِ إخبارنا بأنَّه أُنزلَ على سبعةٍ ما يمنع هذا التأويل، ولكنْ لهم من الزيادةِ ما لم يُدخِلُوه في شيءٍ من اعتراضهم، وهو أنّ في كثيرٍ من الرواياتِ أن المَلَكَ قال: على حرفٍ أو حرفين، فقال المَلَك الذي معي عن شمال: على حرفين، فقال المَلَكُ: على حرفين أو ثلاثة، فقال:. على ثلاثة، إلى أن بلَغَتْ سبعةَ أحرف، وهذا اللَّفظُ يقتضي أن يكونَ قد أُقرىءَ بالسبعةِ جُملة، وشُرِعَ له ذلك في مجلسٍ واحد، على أنّه يُحتمَلُ أن تكونَ بعضُ تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الأحرفِ السبعةِ يُقرأُ على ثلاثةِ أوجهٍ كلها جائزة، وبعضُها يُقرأُ على أربعةِ أوجهٍ تسمى أحرفا كلها جائزة، فيكون قولُه: أنزل على أحرفٍ وأربعةِ أحرفٍ منصرفاً إلى وجهين من وجه القراءات السبعة، يُقرأُ أحدُهما على ثلاثة أوجهٍ والآخرُ على أربعةِ أوجه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما توهموه من التعارض. ويُحتمل أيضاً أن تكونَ الثلاثةُ الأحرفُ والأربعةُ اللاتي خبَّر في هذين الخبرَين وأن القرآنَ أُنزل عليها غيرُ الأحرفِ السبعة التي خبَّر فيها، وليسَ يمتنعُ أن يُنزَلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفِ ويُنزَلَ أيضا على أربعةِ أحرفٍ وثلاثةِ أوجهٍ أُخَرَ غيرِ الأربعةِ وغير السبعة على ما نبينه فيما بعد، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما توهموا من تعارضِ هذه الأخبار وتنافي موجبِها. وأما قولُهم: كيف يكون أمرُ القرآنِ ظاهراً مشهوراً وعُمرُ وأُبيّ وعبدُ الله يُناكِرُون من قرأ خلافَ قراءتِهم وينافرونَه ويرافعونه إلى الرسول، وقد قُلنا في ذلك من قبلُ ما يُغني عن إعادته، وهو أن الرسولَ كان يُقرئهُم قراءةً مِن وجهٍ من السبعة الأحرف، ولم يكُنْ كل واحدِ منهم يعرفُ جميعَها ولم تكن الأخبار بذلك ظهرت واستفاضت بجميع ما يُقرئُه الرسولُ على الأوقات. فلذلك أنكروا خلافَ ما لُقِّنوه عن الرسول. ويُحتمَلُ أن يكونَ الرسول كان يقرىءُ عمرَ وأُبيّا وعبدَ الله بوجوهٍ وأحرفٍ جائزةِ قبلَ نزول هذه السبعةِ الأخَرِ التي خبَّر الرسولُ عنها، ثم نزَلت هذه الأحرفُ وأقرأ بها رسولُ الله صلَّى الله عليه وقتَ نزولِها أو يومَ ذلك، ولم يكن انتشر عنه، فلمَّا سمعَ القومُ ذلك أنكروه واحتاجوا إلى البحثِ عنه وسؤالِ الرسول عن صحته. ويُحتمَلُ غيرُ هذا مما لعلَّنا أن سنذكُرَه فيما بعد إن شاء الله، وإذا كان ذلك كذلكَ بطلَ قدحُهم في ظهور نقل القرآن بإنكار هذه الفرقة ما لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 تقدَّم سماعُها له، ولم يمر من الزمانِ وتطاوِلِ الوقت ما يقتضي ظهورَهُ وحصولَ الغنى عن السؤال عنه، وهذا يُبطِلُ جميعَ ما عوَّلوا عليه وموَّهُوا به في نقل القرآنِ وعدمِ قيام الحجَّة. فإن قال منهم قائل: إن في خبرِكم هذا إحالةً وتناقضا ظاهراً من وجهٍ آخر، وهو أنه قد ثبتَ وعُلِمَ أن القرآنَ لم ينزل على الرسول صلَّى الله عليه جملةً واحداً وإنما نزلَ في نيفٍ وعشرين سنة، وأنّه لم يتكامل نزولُه إلا عندَ تقاربِ وفاةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآخرِ عهده بالدنيا، وهذا الخبرُ الذي رويتموه لا شكَّ أنه قد قاله قبلَ موته بدهرٍ طويلٍ وقبلَ نزولِ كثيرٍ من القرآن، فهذا تناقضٌ بيِّن؟ يقال له: لا يجبُ ما قلتَه، لأنّ مِن الناس مَن يقول: إن هذا الظاهرَ لا يقتضي أكثرَ من أن يكونَ في القرآنِ كلمة واحدة أو اثنتين تُقْرأُ على سبعةِ أوجه، فإذا حصلَ ذلك فيه وُفِّيَ الخبرُ حقّه وموجبَه، ومنهم من يقول: ذلك إنما يُستعمَلُ إذا قُرئ جملةُ القرآن أو كثير منه على سبعة أحرفٍ وأوجه. وهذا هو الذي نختارُه، وسندل على ذلك فيما بعدُ إن شاء الله. وإذا كان ذلك كذلك ولم ينُكَر أن يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال هذا القولَ بعد أن نزلَ شطرُ القرآنِ أو ثلثاه أو ستةُ أسباعه: ساغَ أن يُقال إذ ذاك إنه منزَل على سبعة أحرف، ويعني بذلك - صلى الله عليه وسلم - هذا الذي نزل، ويكونَ جبريلُ عليه السلامُ قد أخبرَه أن قدْرَ ما نزل عليكَ هو معظَمُ القرآن وكثيرُه، وأنّ ما ينزلُ عليكَ فيما بعدُ قليل بالإضافة إليه، فَيَحسُنُ لذلك، وجاز أن يُقال: أُنزل القرآنُ على سبعة أحرفٍ لأنّ معظَمَه قد أُنزل كذلك، فبطلَ بذلك ما قلتُمُوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ولو حُمِلَ الأمرُ في هذا على أن قولَه: أُنزل القراَنُ على سبعةِ أحرف لا بُدَّ أن يتناول كل سورة لوجبَ أن يُحمَلَ على أنه قد أُريدَ به أنّ كل آية منه تُقرأُ على سبعةِ أوجه، وعلى أنّ كلَّ كلمة من الآية ِ يجبُ أن تُقرأَ على سبعةِ أوجه، بل يجبُ أن يُحمَلَ على أنّ كل حرف من حروف الكلمة منه تُقرأ على سبعة أوجه، ولمّا لم يجب ذلك كما لا يجبُ إذا قلنا هذه القصيدةُ تنشدُ على وجهين، وهذه الخطبةُ والرسالةُ تروى على وجهين، ومصنفُ فلان في الفقه يُروى على وجهين، أن يكونَ كل بيت من القصيدة، وكلّ مصراعٍ وكل كلمةٍ وكل حرف من الكلمة تُنشَدُ على وجهين، وكل مسألة من الكتاب وكل كلمة منه تُروى على وجهين، لم يجبْ إذا قيل إن القرآنَ أُنزلَ على سبعةِ أحرف أن تكونَ كلُّ سورة منه وكلُّ آيةٍ وكل كلمةٍ وكل حرفٍ من الكلمة منزَلا على سبعة أحرف، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما ظنُّوه من إحالةِ هذا القول. على أنّه قد يجوزُ أيضاً أن يكونَ جبريلُ لما أقرأ الرسول عليهما السلام في ابتداء أمره شيئا من سور القرآن أنزل مواضعَ منها على سبعةِ أوجهٍ ووقفَهُ على أنَّها جارية في جميع ما يُنزّل عليه على هذه السبيل والطريقة، كأنه قال له: اقرأ غير المغضوب عليهم وعليهمو، فكل ما جاء من كتابة الجمعِ فهذه طريقتُه نحو إليهم وإليهمو، وأنعمتَ عليهمو، أو قرأ هذا الحرف بالهمزة. وترك الهمزة، وكلّ حرف مثله مما نزل عليك، ومما سينزل مثله، وكذلك القولُ في الإمالة وترك الإمالة في الحرف والكلمة التي يجوزُ فيها الرفعُ والنصب، وغير ذلك، فيعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك أنّ جميعَ ما نزلَ وينزلُ عليه من القرآن، فهذه سبيلُ اختلاف حروفه ووجوهه، وإذا كان ذلك كذلك بأن سقوطُ ما تعلّقوا به من أنّه لا يجوز أن يقول مثل هذا القول حتّى يتكامل نزولُ جميعِ القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فأمّا قولهم: إنَّ في الخبر ما يدل على فساده، وأنّ متضمنه لا يجوزُ على الله سبحانه، وهو أنّ القرآنَ منزل على سبعة أحرف مختلفة، وقد عُلم أنه جهتُه، ولا معنى في إنزالِه على سبعة أحرفٍ إلا القصدُ إلى حصول الخلاف والتنازعِ والتنافرِ فيه، والتحريف له، ووجودِ السبيل إلى أن يدخُل فيه حرف ليس منه وإلى تعذُر حفظِ هذه السبعة والإحاطة بها، وتثقيلِ العبادة بتكليف معرفتها، حتى يؤدي ذلك إلى ما روَيتم من تلبب عُمر بن الخطاب بهشام بن حكيم، وأخذه إلى النبي صلى الله عليه منكراً عليه حرفا أقرأه به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقرأه عُمَرُ ولم يعرفه. مثل ما رويتم أنه قال أبي بن كعب لما أنكر على رجلٍ آخر سمعَه يقرأ بخلاف ما كان لُقِّنه هو من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قرأ عليه وقال لهما: "فيما رَويتُماه أحسنتُما وأصبتُما، هكذا أقرأتكُما"، فقال أبي: فأخذني عند ذلك من الشك أشدَّ مما أخذني في الجاهلية، فضربَ النبي صلى الله عليه صدري وأخسأ عني الشيطان، فقال: يا أبي، أعندك من الشكِّ والتكذيب، قال: ففضتُ عرقاً، وكأني أنظرُ إلى الله فرقاً، ثم قال لي: إنّ جبريلَ أتاني فقال لي: اقرأ القرآن على حرفٍ فقلت: ربِّ خفِّف عن أمتي، فلم يزلْ يقول كذلك حتى قال له - فيما رويتم: إن الله تعالى يأمُركَ أن تقرأ القراَنَ على سبعة أحرف، فلا معنى لإنزاله على سبعة إلا ما رويتموه، ويؤدي إليه من هذه الشكوك والرّيب والتخاصُم والخلاف، وذلك مما لا يجوزُ على الله سبحانه، فوجبَ بذلك بطلانُ ما رويتموه. فيقال لهم في جواب هذا وجواب جميع ما قدّمناه عنهم: فإن كان هذا الخبرُ باطلاً مفتعلاً فقد نالَ طعنُكم على نقلِ القرآن بأنّ الرسولَ لم يبين تلك السبعة الأحرف، وأنّه كان يجبُ ظهورُها، وأن لا تختلفَ الأمّة وأزلتُم عنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بذلك كلفته، وإن كان هذا عندكم صحيحا وهو ذاك على أنّ أمرَ القرآن لم يكن عندكم ظاهرا مستفيضا فقد بطلَ مدحكم فيه بهذه المطاعن، وهذا اختلاط منكم أنتم إلى أن نُبيّن عن فسادِ كل شيء توهمتموه مُبطلاَ لهذه الأخبار، فهذا مما تجبُ موافقتُهم عليه عند المطالبة بواجب كل اعتراضٍ يوردونه على هذه الرواية. ثم يقال لهم: لا يجب أن يكون هذا الذي توهمتُموه قادحا في الخبر. وذلك أنّه لا يُمتنع أن يعلمَ الله سبحانه أنّ مصلحةَ عباده متعلقة بإنزال القرآن على سبعة أحرفٍ أو أكثر منها، كما لا يُمتنعُ أن يعلم أن مصلحَتَهم متعلقةٌ بإنزاله على حرفِ واحد، لأنه إذا علم سبحانه أنّ طباعَ الناس وسجاياهم مختلفة في النطق والكلام، وأنّ منهم من يألف التكلم بالكلمة والحرف على وجهِ وطريقةِ هي أخف عليه وألصقُ بقلبه وأسهلُ وأجرى على لسانه، ومنهم من يصعُبُ عليه ويستثقلُ أن يميلَ ويهمزَ الحرف ويزيدَ الواو من قوله: عليهمو وإليهمو، ويخف عليه إليهم وعليهم، وأنّه لو كُلف كل واحد منهما ما هو في طبعِ غيره وأسهلُ عليه لشقّ ذلك عليه، وصارَ طريقا إلى نفورِه واستثقاله وملالِه وصعوبة حفظِه، وأنه إذا لم يلزمه إلا قدرُ ما تيسّر عليه منه كان ذلك لطفا له، ساغ لهذا أن يكونَ إنزاله الحرفين والسبعةِ أحرفٍ أصلحَ من تضييق الأمر فيه، وحملِ الناسِ في النطقِ به على وجهٍ واحد صعب متعشرٍ ثقيلِ على أكثرهم، فلعلّه لو كُلف هشامُ بن حكيمٍ والرجلُ الذي خالف أبيًّا أن لا يقرأ إلا بما أقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر وأبياَ لثقل ذلك عليهم أو أعرَضا عنه وشكّا في نبوة الرسول، وصارا جرباً للرسول صلى الله عليه وعمر وأبي على أصل الدِّين ودعوة الحق، وإذا كان ذلك ممّا لا يمتنعُ في المعلوم بطل ما توهموه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وكذلك إذا عُلم أن في الناس الألكنَ والفصيحَ والألثغَ والطلق الذرب والتمتام العيّ، والقادر المنبسط ساغَ أن ينزلَ القرآنَ بالهمز وغير الهمز. وأن يجعلَ مكان الحركة التي تثقل على التمتام تسكينا لا يثقُلُ عليه، وهذا أولى وأجدر وأقربُ في تخفيف المحنة وتيسير العبادة وأحرس للعباد إلى الطاعة. وكذلك إذا جاز أن يُعلم أن من الناس السكتة النزر الكلام القليل الحفظ، وأن منهم الذكى الحفوظ الذي يميل طبعُه إلى تشويق الكلام والتبسط والتصرف في وجوه الألفاظ والعبارات، وأنه يُنقلُ عليه لزومُ نهجِ واحدِ وسبيلِ لا يختلفُ في النطقِ ويعظم عليه حفظُ ذلك، ويؤديه تكليفُه إيَّاه إلى الضجر والملل وقلة الرغبة والإعراض، جاز لذلك أن ينزله على حرفين وسبعةِ وعشرة ليحفظه على الوجه الواحد مَن قدَّمنا ذكره. ويحفظ على هذه الوجوه الكثيرة من وصفنا قدرته وتبشطه وميله إلى الإكثار والتنفُل في وجوه الخطاب. وكذلك أيضا فقد يجوز أن يعلم سبحانه أنَّه إذا أنزل القرآنُ على حرفِ واحد، لزم الأمَّة بأسرها أن لا تُقرأ الآية، جاز أن يشُك شاك في ذلك الحرف ويتبناه، وينطلق لسانُه بحرفِ غيره يقوم مقامه ولا يُبطلُ معناه. وأنهما إذا ترافعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقرأهما فأخطأ أحدُهما وترك القراءة بذلك الحرف الواحد المنزل، وقال له الرسول عند ذلك: أخطات، أو أسات، أو ما هكذا أقرأتك، انكسفَ باله وصغرت حاله ونفسه، وانكسرت حدته، وفترت شهوتُه، وقل حرصُه، وصار ذلك طريقا إلى ضجره وملاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقلَّت دواعيه في تعلُّم القرآن وتحفُظه أو لحقه عند ذلك من الأنفة والحميّة وعزّة النفس وكراهة الغلبة عند المناقشة والمشاحة والهرب من عارِ القهر ونسبته إلى السهو والغفلة وسوء الفهم وجلافة الطبع وقلّة الحفظ والضبط، ما يكونُ أدعى الأمور إلى الزهد في الإسلام جملةً والرغبة عنه، ومتى أمكن أن يكونَ هذا أجمعُ مما قد سبق في علمِ الله سبحانه، بطل بذلك طريقُ من توهَّم أنّه لا وجه لإنزال القرآن بسبعة أحرفٍ إلا الاستفساد للعباد والتهارج والفساد وهذا ما لا مدخل لهم عليه. ثم يقال لهم: فيجب على اعتلالكم أن لا يُنزلَ الله سبحانه في كتابه مجمَلاً ولا محتملاً ولا متشابهاً بل يجعله كلُّه نصّاً جليّاً، لأنّنا نعلم أنّ في الناس من يُلحد في تأويله ويتعلّق بمتشابهه ويُلبسُ ويوهمُ الباطل في التعلُّق بمجمله ومحتمله، وهذا أولى مما قلتُم وأقربُ لو كنتم مقسطين ولأنّ الله سبحانه قد نصّ على هذا، والذي قلناه من فساد خلقٍ بمتشابهه ولم ينصّ على ما ادّعيتم من فساد قومٍ بإنزاله على سبعة أحرف، ولا رأينا هشام بن حكيم ولا أبياً ولا عبدَ الله، ولا من خالفهم كفروا ولا ارتدُّوا عند الترافعَ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بل استجابوا لقوله وخنعوا لطاعته، ورضوا جميعا بما أقرّهم به على اختلافهم. وقد قال سبحانه فيما عارضناكم به: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) . فكان يجبُ على موضوع اعتلالكم أن لا يُنزلَ من القرآن متشابهاً يُبتغى العسر به ويُلبس على العباد في تأويله ويُلحد في صفات الله سبحانه عند تنزيله، فإن لم يجب هذا عندكم فقد بطل جميع ما أوردتموه في هذا الفصل بطلاناً بيّنا، وبان لكم أنّ هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الضرب من الطّعن في نقلِ القرآن وإنزاله من مطاعن الملحدين على الله وعلى رسوله وعلى جملة كتابه وتفصيله، وهكذا فعلَ الله سبحانَه بمن صدّ عن دينه وصدفَ عن صحيح النظر في براهينه، واشْرأبّ قلبُه إلى التعلّق بالشبهات والميل إلى الزيغ والضلالات. فإن قالوا: أفليس قد رويتم أنّ الذين بعث عثمان رضي الله عنه على جمع الناس على مصحفه، وقراءته والمنع من باقي الحروف التي أنزلها الله جل وعز ما حدثَ في عصره، وشدّة الاختلاف والتشاجر والتبرِّي والإكفار في القراءات بهذه الحروف المختلفة، فألا علمتُم أنّ إنزالَه على سبعة أحرفٍ سببٌ لما قلناه؟ يقال لهم: ليس الأمرُ في هذا على ما وصفتم، لأن القومَ عندنا لم يختلفوا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلى الله عليه التي لم يمُت حتى عُلم من دينه أنه أقرأ بها وصوب المختلفين فيها، وإنما اختلفوا في قراءاتٍ ووجوهٍ أخر لم تثبت عن الرسول عليه السلام ولم تقم بها حجّة. وكانت تجيء عنه مجيءِ الآحاد ِ وما لا يُعلمُ ثبوتُه وصحتُه، وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل نحو قوله: والصلاةُ الوسطى، (وهي صلاة العصر) . فاؤوا (فيهن) ، ولا جُناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم (في مواسم الحج) ، وأمثال هذا ممّا وجدوه في بعض المصاحف، فمنعَ عثمانُ من هذا الذي لم يثبت ولم تقُم الحجّة به وأحرقه وأخذهم بالمُتيقّن المعلوم من قراءات الرسول عليه السلام. فأما أن يستجيز هو أو غيرُه من أئمة المسلمين المنعَ من القراءة بحرفٍ ثبت أنّ الله أنزلَهُ ويأمرَ بتحريقه والمنع من النظر فيه والانتساخ منه، وتضييق على الأمة ما وسّعه الله تعالى، ويُحرمُ من ذلك ما أحلّه اللهُ ويمنعُ منه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أطلقَه وأباحه، فمعاذَ الله أن يكون ذلك كذلك، لماذا كان هذا هكذا سقط ما قلتُموه، على أننا لو سلَّمنا لكم نظرا أن أهل عصرِ عثمان رضوانُ الله عليه اختلفوا في هذه الأحرف السبعة، وأدَّى ذلك خلفا منهم إلى البراءةِ من أهل الحقً، لم يجب أن لا ينزلَ الله سبحانَه القرآنَ بها إذا علم أن من يصلحُ بقراءته بها على اختلافها أكثرُ ممن يُفسد، أو أنه لا أحد يفسدُ عنه ذلك إلى - زمن عثمان، فيسوغُ حينئذِ لعثمان على قول بعض الناس أخذُه للأمة ببعض تلك الأحرف والمنعُ من باقيها لأجل حدوثِ ما حدث مما لم يكن من قبل. أو لعله سبحانه قد علم أنه لو لم يُنزِل القرآنَ على سبعة أحرف كان منكرُ حرفِ منها والمختلفين فيها يُعرِضون عن الإسلام جملةَ والانخلاع من الإيمان وإلى أن يكونوا حربا للرسول صلى الله عليه وإن اختلافهم في القراءات أسهلُ من اليسير من ذلك. فإننا نُنكر عليكم ونقولُ لكم: فيجبُ على اعتلالكم أن لا ينزلَ اللهُ سبحانه المتشابهَ المحتملَ من كتابه لموضع إخباره باتباع أهل الزيغ لما تشابه منه ابتغاء الفتنة والإلحاد في تأويله، فإن لم يلزم ذلك لم يلزم شيء مما قلتموه، وقد بينا - رحمكم الله - في غير موضع من الكلام في التعديل والتجويز أنه لا يجبُ على الله استصلاح جميع خلقه، وفعلُ أصلح الأمور لهم، والمساواةُ في اللطف لجميعهم، وأنه لا يصح منه أن يَضر بعضهم ويطبعِ على قلبه ويختم على سمعه وبصره، وأنَّه قال سبحانه فى كتابه: إنه (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، وقال في أخرى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وقد بينا ذلك بما يُغني الناظرَ فيه، ولولا أننا لم نصنع كتابنا لهذا الفن من الكلام لأسهبنا في ذلك، غير أنه مخرج لنا من غرض الكتاب، وفيما أجبناهم به بلاغ وإقناع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 (فصل) ونحن الآن نذكرُ بعض ما جاء من الروايات في أن القرآن منزل على ثلاثة أحرفٍ وأربعةٍ وسبعةٍ ليعلَم قارئُ كتابَنا ظهور ذلك وانتشاره في علماء الأمة من سلفها وخلفِها، ونتكلّمُ على ما يجبُ الكلامُ عليه من هذه الأخبار ثم نبيِّن القولَ في تفسير السبعة الأحرف بما يوضح الحق ويزيلُ الشكَّ والريب، وما توفيقنا إلا بالله. وقد روى الشعبي عن ابن عوفٍ عن محمد عن ابن مسعود قال: "أنزل القرآنُ على سبعة أحرف كلُّها شاف كاف " كقولهم: هلُمَّ، تعال، أقْبِل. وروى حمَّاد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبيِّ صلى الله عليه قال: "أنزل القرآنُ على ثلاثة أحرف "، وروى سعيد بن أبي سعيد المقبريُ عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 "أعرِبوا القرآنَ والتمِسوا غرائبه، وغرائبُه فرائضُه، فإنّ القرآن أنزل على خمسة وجوه: حلالٍ وحرامٍ ومحكمٍ ومتشابهٍ وأمثال، فخذوا بالحلال ودعوا الحرام، واعملوا بالمحكم وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال ". فهذه الثلاثةُ الأخبارُ تقتضي أن يكونَ القرآنُ منزلاً على ثلاثة أحرف وعلى أربعة أحرف وعلى خمسة أحرف، وقد بيّنا فيما سلف أنّ ذلك لا يُناقضُ ما رُوي من أنه منزل على سبعة أحرف، وتكلمنا على ذلك بما يوضِّحُ الحق، وقلنا إن ذلك الحلالَ والحرام، وما أتبع يُحتمل أن يكونَ وجهاً من وجوه السبعة، وأن الأظهرَ أنه غيرُها، لأنّ تلك مُخيرُ في القراءة بأيها شاء القارىء على ما وردت به الرواياتُ التي سنذكرها، وقلنا إن الثلاثةَ الأوجه والأربعةَ التي لم تُفسِّر بهذه الأقسام من الأمر والنهي وغيرهما. يحتمل أن يكون بعض السبعة التي خُيِّرَ الناسُ في القراءة بأيها شاؤوا. ويُحتمل أن تكونَ غيرَها. وقد تحتملُ أيضا هاتان الروايتان أن يكون معنى قول النبى صلّى الله عليه أنزلَ القرآنُ على ثلاثةِ أحرفٍ وعلى أربعةِ أحرف، أن من الحروفِ السبعةِ حرفا يُقرأ على ثلاثة أوجه، وإن حرفا منها آخرَ يُقرأ على تلك الثلاثة وعلى وجهٍ رابع، أو أن حرفا منها يقرأ على أربعةِ أوجهٍ غير الثلاثة الأوجه التي يُقرأ حرف آخرُ من السبعة عليها، ويكونُ باقي السبعة الأحرف لا يُقرأ كل شيءٍ منها إلا على طريقةٍ واحدة، فلا يكون في هذا تعارض ولا تناقض. ويمكن أيضا أن يكون أراد بهذين الخبرين أنّ ثلاثةَ أحرفٍ من تلك السبعةِ الأحرف يُقرأ على وجهٍ ونحوٍ من الاختلاف متقارب، ليس بالمتباينِ الشديد وهو حرفُ زيدٍ والجماعة، والذين أكثرُهم كان يألفُه ويقرأ به ويعلق بقلبه وينطلقُ به لسانُه، وأربعةُ أحرفٍ أخر من السبعة منزلةٌ على تباينٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 شديد غير متقارب، وعسى أن تكونَ هي حروفَ الأربعة النفر الذي أمر رسول الله صلَّى الله عليه بأن تُؤخذ القراءةُ عنهم وهم أبي بن كعب وعبدُ الله ابن مسعود ومعاذُ بن جبل وسالمٌ مولى أبي حذيفة، أو لعل هذه الأربعةَ الأحرف المتقاربة التي ليست بشديدة التباين هي التي كان يقرأ الناسُ كثيراً بها وعليها الجمهورُ وعامة الناس. ولسنا نقف على حقيقة هذا غير أنّنا قد بيَّنَّا أن قوله صلى الله عليه: أنزل القرآنُ على ثلاثة أحرفٍ وأربعةٍ وخمسةٍ لا تنافي قوله: إنه منزلٌ على سبعة أحرف، وهذا هو الغَرضُ المقصودُ دون تفصيل أجناس الاختلاف بين الثلاثة والأربعةِ والخمسةِ والسبعة، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ إكثارُهم بذكر هذا الباب ووجبَ حملُ الأمر فيه على ما قُلناه. فأما الرواياتُ الوارد" عنه صلى الله عليه بأن القرآنَ منزلٌ على سبعةِ أحرفٍ فإنها كثيرة متظاهرة مشهورة عند أهل العلمِ والنقل، وهي أكثرُ شيءٍ رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها مع اختلاف ألفاظِها وطرقِها متوافية على المعنى، فيجب لذلك وصولُ العلمِ بمتَضمنها وإن اختلفت ألفاظها وتشعَّبت طرقها فمنها ما رواه عُبيد الله بن عمر عن أبي الحكم عن أبي بن كعبٍ أن رسولَ الله صلَّى الله عليه قال: "أتاني آتٍ من ربِّي جل وعز فقال: يا محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 اقرأ القرآنَ على حرف، فقلت: يا ربِّ، خفف على أمتي، ثم أتاني آتٍ من ربِّي فقال: يا محمد اقرأ القرآن على حرفين، فقلت: خفِّف على أمتي، ثم أتاني فقال: يا محمد اقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكلِّ ردةٍ مسألة لك، فقلت: يا ربِّ اغفر لأمَّتي، ثم قلت: يا ربِّ اغفر لأمَّتي، وأَخرتُ الثالثةَ شفاعة لي يومَ القيامة، والذي نفسي بيده إنَّ إبراهيمَ عليه السلام ليرغب في شفاعتي ". وروى يونس عن ابن شهاب قال: حدّثنا عبيدُ الله بنُ عبد الله بن عباس حدثه أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقرأني جبريل عليه السلام على حرف، ولم أزلْ أستزيدُه ويزيدُني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ". قال ابنُ شهاب: "بلغني أنّ تلك السبعةَ إنّما هي في الأمر الذي يكونُ واحدا لا يختلفُ في حلالٍ ولا حرام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وروى حميدٌ قال: قال أنس: قال أبيّ بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه قال: "جاءني جبريلُ وميكائيلُ فقعد جبريلُ عن يميني وميكائيلُ عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعةَ أحرفٍ وكل كافٍ شاف ". وروى سعدٌ عن الحكم عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبى بن كعب "أن النبيّ صلى الله عليه كان بأضاة بني غفار فأتاه جبريلُ فقال: إن الله تعالى يأمُرك أن تقرأ القرآن على حرف، قال: أمتي لا تطيقُ ذلك، ثم أتاه فقال: على حرفين، فقال: أمَّتي لا تطيقُ ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال: على ثلاثةْ أحرف، فقال: أمتي لا تطيقُ ذلك ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك على سبعة أحرف، فايُّما حرفٍ قرؤوا عليه فقد أصابوا". وروى أنس بن عاصم قال: أخبرني أبو حازم عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرةَ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنزل القرآنُ على سبعة أحرف، والمراءُ في القرآن كفرٌ ثلاث مرات فما عرفتُم فاعملوا به وما جهلتم فردُّوه إلى عالمه ". وروى أيضا أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ عليما غفوراً رحيما". وروى عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أبيه عن ابن مسعود عن رسول الله صلَّى الله عليه قال: "كان الكتابُ الأولُ أنزل من باب واحد، وكان على حرفٍ واحد، فنزل القرآنُ من سبعة أبوابٍ على سبعة أحرف: أمر ونهي وحلالٍ وحرامٍ ومحكمٍ ومتشابهٍ وأمثالٍ فأحلوا حلالَه وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتُم به وانتهوا عما نُهيتم عنه. واعتبِروا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا". وروى بشرُ بن سعيد بن أبي قيسٍ مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزلَ القراَنُ على سبعة أحرف، فأي حرف قرأتم فقد أصبتم، فلا تماروا فيه، فإنّ المراء فيه كفر". وروى واصل بن حيان عن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ القرآن أنزلَ على سبعة أحرف كل آيةٍ منها ظهر وبطن ولكلِّ حدٍّ مطلع ". وروى عمرو بن أبي قيس عن عاصمٍ عن زر عن أبى بن كعب قال: لقي رسولَ الله صلَّى الله عليه جبريلَ عليه السلام عند أحجار المرقي - أحجار بالمدينة - فقال له: يا جبريلُ أرسلتُ إلى أمةِ أمّيين منهم الغلامُ والجاريةُ والشيخُ والعجوزُ والرجلُ الفارسيُ لم يعلم كتاباً قط، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه سمعَ عمرَ بن الخطاب يقول: سمعتُ هشامَ بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها، فكدتُ أن أعجلَ عليه ثم أمهلت حتى انصرف، فلما انصرفَ لببتُه برادئه ثم جئتُ به إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولُ الله، إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال عليّ عليه السلام: أرسله، فأرسلته، فقال: اقرأ، فقرأ القراءةَ التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ فقرأت، فقال: "هكذا أنزلت، إنَّ هذا القرآنَ أنزلَ على سبعةِ أحرفٍ فاقرؤوا ما تيسَّر منه ". وروى عبد الله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة أن بكيرا حدثهما: أنّ عمرو بن العاص قرأ آيةَ من القرآن، فسمع رجلاَ يقرأها خلافَ قراءته، فقال له: من أقرأك، فقال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب إليه فذكر له ذلك وقرأ عليه كلاهُما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصبتُما إنَّ القرآن أُنزلَ على سبعة أحرف ". قال بُكير: فذكر لي أنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قيل لسعيد بن المسيب: ما سبعة أحرف، قال: كقولك هلُمَ وتعالى، وأقبل وكل ذلك سواء. وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيّ بن كعب قال: "كنتُ في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءةً أنكرتُها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءةً سوى قراءة صاحبه، فقُمنا جميعا فدخلنا على رسول الله صلَّى الله عليه فقلت له: يا رسول الله إنَّ هذا دخل فقرأ قراءةً أنكرتُها عليه، ثم دخل اَخرُ فقرأ غير قراءة صاحبه، فقال لهما النبى صلى الله عليه: اقرأ، فقرأ، فقال: أحسنتما، فلمّا قال لهما النبي صلى الله عليه الذي قال، كبُر على ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي ما قد غشيني ضربَ على صدري ففضتُ عرقا وكأنّي أنظرُ إلى الله فرقاً، فقال: يا أبيّ إن ربي أرسل إليَّ أن أقرأ القرآنَ على حرف، فرددت إليه أن هوِّن على أمَّتي، فأرسلَ إليّ أن اقرأ على سبعة أحرفٍ ولك بكل ردة مسألة تسألنيها. قال: قلت: اللهم اغفر لأمّي اللهم اغفر لأمّتي. وأخرت الثالثة ليومٍ يحتاجُ إليّ فيه الخلقُ حتى إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام ". وفي روايةٍ أخرى عن سقير العبدي عن سليمان بن صُرد عن أبى بن كعب قال: "دخلتُ المسجدَ فإذا رجل يقرأ قلتُ له: من أقرأك هذه القراءة، قال: النبى - صلى الله عليه وسلم -، قلتُ: انطلق إليه، قال: فانطلق، قال: قلتُ: استقرىء، قال: فاستقرأ، فقال: أحسنت، قال: قلت: ألم تُقرئني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 كذا وكذا، قال: بلى، قال: وأنت فقد أحسنت، فنكّبتُ بيدي هكذا، وقد أحسنت، قال: فضربَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدري وقال: اللهم أذهب عن أبي الشك، قال: فارفَضضتُ عرقاً وامتلأ جوفي فرَقاً، ثم قال صلى الله عليه: يا أبيُّ أتاني مَلَكان اثنان فقال أحدُهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، قال: قلتُ: زدني، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر زده، قلت: زدني قال: اقرأ على ثلاثةِ أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على ستةِ أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على سبعةِ أحرف ". وروى قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صُردٍ الخزاعي عن أبيّ بن كعب، قال: "قرأت آيةً وقرأ ابن مسعود خلافها فأتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ألم تُقرئني آيةَ كذا وكذا، قال: بلى، قال ابن مسعود: ألم تُقرئنيها كذا وكذا، قال: بلى، كلاكُما محسن مجمل، فقلت: كلانا ما أحسنَ ولا أجمل، فضرب في صدري وقال: يا أبي إنِّي أُقرئتُ القرآن، فقيل لي: على حرفٍ أو حرفين، فقال الملك الذي معي: قل على حرفين. قلت: على حرفين، فقيل: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، قلت: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ السبعة أحرف ليس منها إلا شافٍ كاف، إن قلت غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم، عزيز حليم هو كذلك، ما لم تختم عذاباً برحمة أو رحمة بعذاب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وقد رُوي في ذلك أخبارٌ كثيرةٌ يطولُ تتبعها، وفي بعض ما ذكرناه منها ما يدلُّ على ما نقصده من العرض وكشفِ الشبهة، وأدلُّ ما نقول في هذا: إنّ هذه الأخبار التي ذكرناها أخيراً من مشاجرة عُمر لحكمِ بن هشام وأبيّ لعبد الله بن مسعود ورجلٍ آخر، وعمرو بن العاص لآخر خالف ما لُقنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وترافعهم إليه وتخاصُمِهم بحضرته واستعظامهم الأمر في ذلك، من أدلِّ الأمر على تشدد القوم في هذا الباب وتصعُّبهم وتدينهم بقراءة القرآن على ما أقرِئوا عليه من اللّفظ دون المعنى والعملِ والاجتهاد في القراءة على غلبة الظن فيها، وأنّهم كانوا لا يَرونَ وضع الآية والكلمة منه في غير الموضع الذي وُضعت فيه، وأنّهم كانوا يُحرِّمون ذلك ويأخذون أنفُسهم بترتيبه على ما أنزلَ وقراءته على ما وقفوا عليه من غير تغييرٍ ولا تبديلٍ ولا تقديمٍ ولا تأخير ولا تساهُل في القراءة بالمعنى، على كذب من ادّعى عليهم شيئاً من ذلك واستجازته وأنهم أجازُوا تقديم المؤخَّرِ وتأخير المقدّم والقراءة على المعنى والاستحسان وغالب الظن والرأي والاجتهاد، لأنّ ما يجوز فيه ذلك عندهم لا يقع فيه هذا التخاصم والتشاجر والإعظامُ له، فوجب بذلك نفيُ ما فرقوا به الصحابةَ من ذلك وأضافوه إليهم منهم. وكيف يستجيزون ذلك، وقد علموا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعرَضُ عليه القرآن في كلِّ مرةً وظهرت الروايةُ بينهم بذلك، حتّى رووا أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعرضُ عليه القرآن في كل عام مرة، حتى كان العامُ الذي توفي فيه يُعرض عليه مرّتين، قالوا: فكأنّهم يرون أنّ العرضة الأخيرة في قراءة ابن عفّان، وكلّ هذا يدلُّ على إحاطة القوم بعلم ترتيبِ القرآن على الوجه الذي رتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنّه لا يجوز أن يذهب عليهم ذلك مع تكرُّر عرضِ الرسول له في كل عام، ولا أن يتسمّحوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ويتساهَلوا في نظمِه وترتيبه على خلاف ما رتَبه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعرضه، ولا أن تتوافى هِمَمُ الجميعِ منهم على تركِ ذلك وتسويغ خلاف ترتيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو تركِ الإنكارِ والتغليظ على من فعلَ ذلك وأجازه، ولو كان هذا مما قد وقع وفُصل وأنكره مُنكر، لوجبَ في مستقر العادة ظهور هذا الإنكار وشُهرته، وعَلمنا ضرورةَ لخلاف من خالف نظمَ الرسول وترتيبه وإنكار المنكرين لذلك، وفي عدم العلم بذلك وحصولِ الإجماع بخلافه دليل على سقوطِ جميعِ هذه الدعاوى وتكذبُّها وسلامةُ أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وسائر الصحابة مما قذفوهم به وأضافوه إليهم من التبديل والتغيير والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير وغير ذلك مما رموهم به. ثم رجع بنا الكلامُ إلى معنى السبعة الأحرف المروية وتفسيرها ووجوبِ إطلاق القراءة بسائرها، فنقول أولاَ: إنَّ جميع ما قدّمنا ذكره من الأخبار المتظاهرة عن الرسول نص منه على أن القرآن منزلٌ على سبعة أحرف وسبعةِ وجوه من القرآن كلها صواب وحلالٌ مطلق القراءة بها، فلذلك قال جبريلُ عن اللهِ سبحانه: "بأيها قرأتُم فقد أصبتُم وأحسنتم ". وقال الرسولُ صقى الله عليه لعمرَ وهشام وأبى وعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص والرجل الذي رافعه إليه: "قد أصبتُم وأحسنتم ". ثم أخبرهم أن كل تلك القراءات منزلةٌ من عند الله تعالى، ومن جملةِ السبعة الأحرف التي راجع فيها وسألَه التخفيفَ عن أمته، وأنه استزاد الملكَ فزاده حتى بلغ سبعةَ أحرف، فوجبَ بذلك القطعُ على تصويب كل قارىء ببعض هذه السبعة الأحرف، وأنّها بأسرها من عند الله تعالى، وأن عثمانَ وأبيّا وعبدَ الله بن مسعود لم يختلفوا قط في شيءٍ من هذه الأحرف السبعة، ولا أنكر أحدٌ منهم على صاحبه القراءة ببعضها والإخبار له وإطلاق الباقي لمن قرأ به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وأن عثمانَ لم يَحرِق شيئاً من المصاحف لتضمنها شيئاً من هذه القراءات، وأنّه إنما حرَّق منها ومنعَ من التمسك به لتضمنها شيئاً لم يثبت أنّه قرآن، وما أُثبتَ على خلاف ما أنزل الله، أو لتضمنه الآيةَ وتفسيرَها التي يخافُ على غير مثبتها توهمه لكون التفسير قرآناً، أو لتضمُّن تلك المصاحف لقرآنٍ كان أُنزلَ ثم نُسخَ ومُنع وحُظرَ رسمُه، فلم يعرف ذلك من سَمِعَهُ أو أثبته بذكره لنفسه لا ليجعل مصحفَه إماماً. وقد روى رواية ظاهرةً أنّ عمر رضيَ الله عنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت آية الرّجم: والشيخُ والشيخة فارجموهما ألبتّة، أثبتها يا رسول الله، فقال له: لا أستطيعُ ذلك لقوله عليه السلام إنه مما نُهيَ عن رسمه، ولو كان مما أمِرنا بإثباته لاستطاعَ أن يثبته ولم يكن لتركه وإجابة عُمر بأنّه لا يستطيع ذلك وجه. فيجب إذا كان ذلك كله أخذُ المصاحف المتضمِّنة لمثل هذه الأمور وتصفية آثارها والمنعِ من التمسُّك بها والانتساخِ منها إذا كان ذلك من أجلبِ الأمورِ لفساد نقلِ القرآن وإدخال السنة والتخاليط فيه، وخلطِه بما ليس منه على مارتبناه وبيّنّاه من قبل. ووجبَ لذلك أن لا يكونَ بين عثمانَ وعبد الله وأبيّ خلافٌ في هذه القراءات، وفي تسويغ جميعها وإطلاقه والقطعِ على أنَّها من عند الله جلّ ذكره، وأنّه لا يجوز لعثمانَ ولا لغيره منعُ القراءة بشي، من هذه الأحرف وحظره وتخطئةِ القارىء به وتأثيمِه بعد توقيف الرسول على صواب القارىء بكل شيء منها، لأنّه لا يسوغ لأحد أن يُحرِّم ويحظر ما أحقه الله جلَّ وعزَّ ويُخطَىءَ من حَكمَ اللهُ بصوابه، وحكم الرسولُ بأنّه محسنٌ مُجملٌ في قراءته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وأنه لا يجوزُ أبداً أن تتفق الأمَّة ُ على حظرِ ما أحقه اللهُ تعالى وتخطئة من أخبر اللهُ بصوابه، لأنّ ذلك إجماع على خطأ وهو ممتنعٌ على الأمَّة. وأنه لا يسوغ أيضا لمذعٍ أن يدّعي أن ما أحقهُ اللهُ وأطلقه وحكمَ بصوابِ فاعله حلالٌ بشريطة أن لا يُحرِّمه إمامُ الأمَّة ويمنعُ منه أو بأن لا يُجمِع المسلمونَ على خلاف ما حكمَ الله به، لأن الإجماعَ على ذلك خطأ وإجماعٌ على مخالفة حُكمِ الله سبحانه، ولن يجوز أن يتّفق منهم أبداً، ولأن ذلك لو ساغ أن يقالَ في بعض ما حكم الله به لساغ أن يقالَ مثلُه في جميع أحكام الله تعالى، وأنّ جميعَ ما أحقهُ وحرّمه وأوجبه وأباحه وأطلقه إنما أوجبه وأباحَه وحرمه بشريطة أن لا يحكمُ إمام الأمَّة فيه بخلاف حكم الله تعالى، ويرى أنّ مخالفةَ حكمِ الله من مصالح الأمّة، وبأن لا يجمع الأمَّة على مخالفة حُكمِ الله بذلك الشيء، ويرى أنّ منعَهُ أصوبُ وأحوطُ للأمَّة من إطلاق مقال لا ينكر سقوطَ قطع السارق وجلد الزاني والقصاص إذا أدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تهارُج الأمّة وسفكِ الدماء وتعطيل جميع الحدود والأحكام. وأن يُسقط أيضاً لمثل ذلك في بعض الأحايين فرضَ الصلاة والحج والصيام، إذا خيفَ في تيقنه فرضَه على الناس تهارج وفتنةٌ وتعطيل الأحكام والارتداد واللحوق بدورِ الكفر، فإنّ من صارَ على ذلك أجمعَ خرقَ الإجماع وفارق الدين، وإن أباه لم يجد فصلا. وإن قال: إنّه لا يجوز أن تفسُدَ الأمَّة أو بعضُها بنفيه بعض الأحكام على ما حكم به، ويكون ذلك لطفا في فسادها، قيل له: وكذلك لا يجوز أن يتّفق مثلُ هذا في إطلاق القراءات التي أنزلها اللهُ سبحانه وأحقها وحكمَ بصواب القارىء بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وإن قالوا: بالضرورة يُعلمُ أن حكمَ الله تعالى بوجوب قطع السارق وجلدِ الزاني وفرضِ الحجِ والصلاةِ دائمٌ مؤبدٌ على الأمَّة بغير شرط، قيل لهم: وبمثل هذه الضرورة يُعلم أنّ إطلاقَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه القراءات والحكمَ بصوابها مؤبَّد، ولا جوابَ عن ذلك، وقد أشبَعْنا هذا الكلام فيما سلف بما يغني عن إعادته. وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ صوابُ جميع هذه الأحرف والقراءات وإطلاقُها على التأبيد، وأنّ الصحابة لم يكن بينهم خلافٌ في هذا الباب، وأنّه يجبُ أن يُحملَ الأمرُ في كل خلاف رُوي عنهم في المصاحف والقراءات، خرجوا فيه إلى المنافرة والإنكار والمنع من القراءة بما اختلفوا فيه، على أنّ ذلك الاختلافَ ليس من هذه الأحرف السبعة والقراءات التي أحل الله سبحانَه جميعَها في شيء، وإنّما هو في بعض ما تقدم ذكرُه ممّا لم يصحّ وتقوم الحجّة بأنّه قرآنٌ منزل، أو فيما كان نزلَ ونُسخ أو فيما أُثبتَ من تأويل مع تنزيل على وجه التذكرة، أو مما أُسقطت كتابتُه وحُذف، وهو قرآن ثابت، قد أمرَ اللهُ سبحانَه به وألزمَ إثباتَه وقراءته، ونحو هذا مما يجبُ إنكارُه ومنعُه والمنافرةُ فيه، وهذه جملةٌ كافيةٌ في هذا الباب، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 (باب) القولِ في تفسير معنى القراءاتِ السبعِ التي أنزل الله جل وعز القرآن بها فإن قال قائل: فما هذه الأحرف السبعة، وما تأويلُها وحسنُ الاختيار فيها، قيل له: هي في الأصلِ على أربعة أضْرُب، فثلاثة منها مرويّ تفسيرُها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض التابعين، والضربُ الرابعُ ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن نصَّ في تفسيرها، وقد اختلف الناس في تأويلِه اختلافا سنذكره فيما بعدُ إن شاء الله، ونَصِفُ ما نختارُه ونقيمُ الدّليلَ على صحتِه، وحرفان من الأحرفِ الثلاثة المرويِّ تفسيرُها قد وردَ تفسيرها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو ما قدّمنا ذكرَه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الكتابَ الأوّلَ أنزِل من بابٍ واحد، وكان على حرفٍ واحد، وأنزلَ القرآن من سبعةِ أبوابٍ على سبعة أحرف: نهي وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابهٌ وأمثال، فأحلّوا حلالَه وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عمّا نُهيتم عنه، واعتبِروا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا". فهذا نص منه على تفسيرِ هذه السبعةِ الأحرف بما يمنعُ ويحظرُ من زيادةٍ عليها ونقصانٍ منها، أو تفسيرِها بغير ما فسّره - صلى الله عليه وسلم - وبيّنَه، وليست هذه السبعةُ الأحرف هي الأحرفُ التي أجاز لعُمر وهشام وعبد الله وأبيّ وعَمرو ومن رافَعَه إليه القراءةَ بجميعِ ما اختلفوا فيه وصوّبهم عليه، وقال لهم في سائرِه أصبتُم وأحسنتم، وهكذا أقرأتكم، لأن القرآن على عصرِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وبعده لم يُختلف في أنه لا يجوز التحريم موضعُ التحليل والمُحكم موضعُ المتشابِه والأمر في مكانِ النّهي، هذا مما لم يختلف قَطُّ فيه سلفُ الأمّة ولا خلفُها، ولا يجوز أن يقَع ذلك منها، وإنما اختلفت في وجوه الإعرابِ والإمالةِ والتقديمِ والتأخيرِ وتغييرِ الاسمِ بما ينوب عنه إلى أمثالِ ذلك من وجوه الأحرفِ السبعةِ مما سنشرحه فيما بعدُ إن شاء الله وكذلك قال ابن شهاب عند ذكره السبعةَ الأحرفَ التي رواها: "بلغني أن تلك السبعةَ الأحرفَ إنّما هي في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلفُ في حلالٍ ولا حرام ". وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أنّ هذه السبعةَ المفسّرةَ عن الرسول ليست هي السبعة الأحرف التي يسوغُ الاختلافُ فيها، وليس يجب إذا أنزل اللهُ القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ هي: أمر ونهيٌ وتحليل وتحريم وغيرُ ذلك أن لا يُنزله على سبعةِ أحرفٍ أخَرَ وهي: أوجه وإعراب مختلِفٌ وإنّها مختلفةُ اللفظِ متفقةُ المعنى، وغيرُ ذلك، وأن تكون الأخبارُ عن أنه أُنزلَ على سبعةِ أحرفٍ لا يسوغُ بغيرها، والاختلافُ فيها منافياً للإخبارِ بأنّه منَزَّل على سبعةِ أحرفٍ أخَرَ ليست من هذه الضروب، يسوغ الاختلافُ فيها. وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلناه وثبت أن هذه السبعةَ الأحرف المفسرة ليست هي القراءاتُ السبعةُ المختلفُ في تأويلها. فإن قال قائل: الأمرُ والنهيُ والتحليلُ والتحريمُ لا يُسمى في اللغة حرفاً، وإنَّما يُسمّى كل ضرْبٍ منه وجهاً وضربا من الكلام وكلمة، فكيف استجازَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أن يسميَ الأمرَ والنهيَ حرفين. يقال له: هذا اعتراض على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وسؤالٌ لازمٌ له إن كان لازماً دوننا. فإن كان السائل عن ذلك معترفاً بالنبوةِ فلا سؤالَ له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وإن كان مبطلاً لها لم يجبْ أن يُكَلمَ في تفسير الأحرفِ والقراءات، ثم يقال له: قد صح بما سنبينه فيما بعد إن شاء الله أن الوجهَ الذي يقعُ عليه الفعلُ والكلامُ يسمّى في اللغة حرفاً ولذلك قال اللهُ سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) . وإنما عنى بالحرف - وهو أعلمُ وأحْكَمُ - الوجهُ الذي تقعُ العبادةُ عليه، يقول إن منهم مَن يعبدُ على النعمةِ والرخاءِ والغِنا ويطمئنُ إلى ذلك، فإن تغيّرتْ حالُه إلى فقْرٍ وشدّة وغير ذلك، تركَ عبادةَ ربه وكفَرَ به، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الأمر وجها والنهيُ وجها آخر منه، وكذلك التحليلُ والتحريم، جاز أن يُسميَ رسولُ اللهِ كلَّ ضربٍ من هذه الضروبِ حرفا، على تأويلِ أنّه وجهٌ من وجوه الكلام، وإذا كان ذلك كذلك سقط السؤالُ وزالت الشبهةُ والاعتراض. وأما الضرب الثاني من الثلاثةِ التي رويَ تفسيرُها فهو ما قَدمنا ذكرَه في رواية أبى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا أبيّ إني أقرِئْتُ القرآن، فقيل لي على حرفٍ أو حرفين، فقال الملَكُ الذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، قلت: على ثلائة، هكذا حتى بلغت سبعةَ أحرف، ليس منها إلا شافٍ كاف، إن قلت: غفورٌ رحيمٌ سميعٌ عليم، أو عليمٌ حكيمٌ عزيزٌ حكيم هو كذلك ما لم تَختِم عذابا برحمةٍ أو تَخْتِم رحمةً بعذاب ". هذا آخرُ الخبر. وفي هذا الخبرِ أيضا من نص الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على تفسيرِ هذه الأحرفِ ما يمنعُ من التأويل ِ والاختلافِ فيه، وتكليفِ غير ما قالَه الرسولُ أو تغييرِه، وهل السبعةُ الأحرفُ الأخَرُ أيضا ليست السبعة الأولةَ التي فسرها بالأمر والنهيِ على ما قدمناه، ولا السبعةَ التي هي وجهٌ من القراءات، واختلافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 اللفظِ والإعرابِ والتقديمِ والتأخير، وإنّما هي سبعةُ أوجهٍ من أسماءِ الله تعالى لها سبعةُ معاني وسبعُ عباراتٍ مختلفة، وليس يجب إذا أَنزلَ اللهُ تعالى القرآنَ على هذه السبعةِ الأحرفِ والتي قبلها أن ينزلَه على سبعة أحرفٍ على السبعتين الأولتين، لأن ذلك غيرُ متنافٍ ولا متضادٍ ممتنع. فإن قال قائل: فما تقولون في بقاءِ حكمِ هذه السبعةِ الأحرفِ الثابتة. وممّا رُوي من تفسيرها، وأنه يجوزُ أن يُجعل مكانَ غفورٍ رحيمٍ ومكان حكيمٍ عليمٍ ومكان عزيزٍ عليمٍ ما لم يُختم عذابٌ برحمةٍ أو رحمة بعذاب. هل حكمُ ذلك باق، وهل يجوزُ أن يكون مكانَ كلّ اسمٍ لله تعالى من هذه الأسماءِ غيره مما هو بمعناه أو مخالف لمعناه أم لا؟ يقال له: نقولُ في ذلك إن هذه الروايةَ إذا صحَّت وثَبَتَت، وجب أن يُحملَ الأمرُ فيها على أنّ ذلك كان شائعا مطلقا ثم نُسخ ومُنع وأُخذَ على الناس أن لا يُبَدلوا أسماءَ اللهِ تعالى في آيةٍ وموضعٍ من المواضعِ بغيره، مما هو بمعناه أو مخالف لمعناه، لأنّ ذلك مما قد اتفقَ المسلمون عليه، ولذلك لم يَسُغ أن يُقالَ قلْ أعوذ برب البشرِ مكانَ الناس، وقل أعوذ بخالقِ الناسِ مكانَ ربِّ الناس، وتبارك اللهُ أحسنُ المقدرينَ أو المخترعينَ أو المنشئين مكانَ قوله الخالقين، في أمثال ذلك مما قد اتُفِق على منعِه وحظْرِه، فثبت أنّ هذا ممّا كان مطلقاً مباحا، ونُسخ. ويجوز أن يكون قد شُرع في صدرِ الإسلام أن يُجعلَ مكانَ الحرفِ الواحد خلافُه مثلُ مكان عليمٍ قدير، وأن يُجعلَ مكانَه مثله مثلُ مكان غفورٍ رحيم، ثم نُسِخَ ذلك من بعد، فأما أن يُجْعلَ مكانَه ضده مثلُ مكان غفورٍ شديدُ العقاب، فلم يكن ذلك جائزاً بالإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقد يجوز أن يقول قائل: إن المباحَ كان من الأسماء المبدَّلة التي يسوغُ وضعُ كل شيءٍ منها مكانَ غيره سبعة من أسماء الله فقط، حتى لا يلزمُه ذلكَ في سائر أسمائِه تعالى، وذلك غير ممتَنع، إلا أنه لما اتفق المسلمون على أنّه ليسَ في شيءٍ من أسمائِه تعالى الثابتُ في آيةٍ من الآي ما يُجَوزُ أن يُبدلَ بغيره عُلم بذلك نَسْخُ ما تضمَّنه هذا الخبر من إطلاق هذا الباب ورفعه بعد تحليله، وليس بمحالٍ أن ينزل اللهُ سبحانَه القرآنَ على وجهٍ ثم يُنسخ ذلك الوجه من القراءة بغيره، كما أنه ليس بمحالٍ أن يُنزله في الأصل إلا على وجهٍ واحدٍ وليس بمحال واحد، وليس بمحالٍ رفعُ التلاوةِ نفسِها ونسخِها بعد إنزالها وإيجاب القراءة لها، وإذا كان ذلك كذلك ثبت ما قدمناه. فأمَّا الوجهُ الثالثَ المرويُّ تفسيرُه عن بعضِ التابعين، فهو ما قدَّمنا ذكرَه عن عمرو بن الحارث وابن لهيعةَ روايتان رواهما بُكير: إحداهما: أن عمرو بن العاص قرأ آيةً من القرآن فسمعَ رجلاً يقرؤها خلافا لقراءتِه، فقال من أقرأكَ هذا، فقال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبَ به إليه، فذكرَ له وقرأ عليه كلاهُما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصبتُما، إن القرآن نزل على سبعة أحرف "، فقال بُكير: وذُكر لي أنه قيل لسعيدِ بن المسيب: ما سبعةُ أحرف، فقال: كقولك هَلُمّ وتعالَ وأقبِل، وكل ذلك سواء. وهذا التفسير وإن كان مما لا يلزمنا قولُه والقطعُ على صحتِه لكونه مذهباً وقولاً لسعيد بن المسيب ولا سأل بكير عن ذلك سعيد. وقولُه: بلغني أن سعيداً قيل له، ولم يَذكر من بقغه ذلك عن سعيد، فإنّه يمكن أن يكون صحيحاً، وأن يكون الله سبحانَه قد كان أباحَ للقارىء في صدرِ الإسلامِ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 يجعلَ مكان اسم الشيء المذكور في الآية غيرَه من أسمائِه التي هي بمعنى ذلك الاسم، أو أباحَ ذلك في سبعةِ أسماءٍ فقط، إما من أسماءِ اللهِ تعالى أو من أسماء غيره، أو أباحَ ذلك في سبعِ كلماتِ ليست بأسماءَ له، معنى كل واحدةِ منها معنى الأخرى، وأطلق القراءةَ بأيها شاءوا وخَيّرهم في إبدال الاسمِ والكلمة بما هو بمعناها في تلك السبعِ الكلماتِ أو الأسماء المخصوصة. ثم إنه سبحانه حظر ذلك بعد إباحته ومنَع على ما بيَّناه من قبل. وتحتمل هذه الرواية أيضا أن يكون من سعيدِ بن المسيبِ تفسيرٌ لبعض الحروفِ السبعة، الشافي حكمُ القراءةِ له، فكأنه قال: هذه سبيلُ السبعةِ الأحرفِ أو أكثرها في أنه اختلافٌ بالإعرابِ والتقديم والتأخير والإمالة وتركها، والجمعِ والتوحيدِ لا يفسدُ معنىَ ولا يغيره، مثلُ الصوف المنفوش مكان العهن، وقوله إن كانت إلا زقيةَ واحدةَ مكان صيحة، وطعامُ الفاجر مكان الأثيم، مثل هَلُمَ وتعال وأقبل، وكأنّه فَسر السبعةَ بوجهِ منها، ليبينَهُ بذكره على أنّها أو أكَثَرها جارية مَجَرى ذلك الوجه، في أنّها لا تغيرُ مَعنى ولا تُفْسِدُه، وإن كان فيها ما يختلف معناه اختلافا لا يُتضاذُ ويتنافى على ما سنبينه فيما بعد إن شاءَ الله، فهذا وجهُ القول في هذا التفسير المروي عن سعيد بنِ المسيب وما جرى مجراه مما رُوي عن غيره. وأما الوجهُ الرابعُ من ضروبِ السبعةِ الأخَر: فهو الضربُ الذي صوب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة بجميعِها، وأنّه وافاه عُمَر وهشامٌ وأبى وعبدُ اللهِ وعمروُ ومن خالفَه على سائرها، وهي التي راجعَ اللهَ تعالى فيها فزادَهُ وسهّلَ على أمتِه لعلمِه بما هم عليه من اختلافِ اللغاتِ واسستصعابِ مفارقةِ الطبعِ والعادةِ في الكلام إلى غيره، وتأويل هذا الضرب من السبعةِ الأحرف أنه أنزلَ على سبعِ قراءاتِ وسبعةِ أوجه، وقولهُ أحرفِ وقراءاتِ ولغاتِ وأوجهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 بمعنىً واحد، والدليل على صحةِ هذا التأويل أن الحروفَ في اللغة إنّما تستعملُ في الأصل في أحد شيئين: أحدهما: طرَفُ الشيء وشفيرُه وحاشيتُه، ومنه قولُهم: حرفُ الطريقِ وحرفُ الوادي وحرفُ الإجانة وحرفُ الرغيف، وكذلك قولُهم في حرفِ الدرهمِ والدينارِ وطرفِ كل جسمٍ وشفيرِه وحاشيتِه وهذا مما لا خلاف فيه. ويستعمَلُ أيضا في المثال المقطوع من حروفِ المعجمِ التي فيها الألفُ والباءُ والتاءُ وغير ذلك، وتستعملُ أَيضا في الكلمةِ التامةِ التي هي حروف كثيرة مجتمعة وذلك ظاهر بينهم معروف في الاستعمال، وذلك أنهم يقولون ما سُمع عن زيد في هذا الباب حرف ولا تكلمَ فيه بحرف ولا به في هذا العلمِ من الكلامِ حرف واحد، وما ذكر فلانٌ من خَبَره، وما سُئلَ عنه حرفا ألبتة، وقد نغّم فلانٌ في هذه القصة بحرفِ سوء. وقد عُرفَ أنّهم لا يعنون بذكر الحرفِ في جميع هذا الكلام عنه حرفٌ واحدٌ مقطوعٌ أنّه لم يُسمع ممن نقلَ الكلامُ عنه، حرف واحدٌ مقطوعٌ من أل أو يا، أو واو، ولأنّ الحرفَ الواحدَ لا يصِحُّ التكلم به فيُسمع أو لا يُسمع، وكذلك إذا قالوا ما نَطقَ ولا تكلَّم بحرفٍ واحد، فإنهم إنَّما يَعنونَ أنه ما تكلّم بكلمةٍ ولا أورد نقطة، لأن الحرفَ الواحدَ المنقطعَ لا يكون قولاً ولا كلاما فلا يصح أن يُنفى التكلمُ به أو يثبت، وكذلك إذا قيل: ما صنفَ فلانُ ولا تكلمَ في هذا العلمِ بحرف، فليس يعني بذلك إلاّ نفيَ كلامِه فيه، ولا يعني أنه لم يوردْ فيه ألفا أو واواً. وكذلك إذا قالوا: ما تكلّمَ فلانٌ من خَبر فلان بحرف، إنّما يعنون أنه لم يتكلم بكلمةٍ هي خَبرٌ عن بعضِ أمورِه، لأن الكلّ قد أطبقوا على أن الحرفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 المقطوعَ من حروفِ المعجمِ ليس بِخَبَر، ولا يصحُ أن يكون خبراً حتى يُقالَ إنه ما أخبرَ به الرجلُ أو أخبرَ به، وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أنّهم يُسمُون الكلمةَ المجتمعةَ من حروفٍ كثيرة حرفاً. ويبيّن ذلك أيضاً ويوضحُه أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لما أخْبَر على وجه الترغيبِ بأنّ للقاريء بكلِّ حرف عشرُ حسناتٍ بَيّنَ ذلك وفَسّره، فقال: "أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام وميم حرف " فتبينَ أنّه أرادَ بذلك الصُّورَ المقطّعةَ من حروفِ المعجمِ التي هي اب ت ث، لئلا يظنوا أنّه أرادَ بذكره الحروفَ الكلمةَ المنظومةَ التامةَ من حروفٍ كثيرةٍ ولو الم، تُسَمّ الكلمةُ عندهم حرفاً، لم يكن لهذا التفسير معنى، وكل هذا يوضِحُ عن أن الكلمة تسمى في اللغة حرفا، وكذلك الكلمةُ قد استعملت عندهم في أقلِ الكلام وأكثره واستعملت في القصيدة بأسرها والخطبةِ بطولها والرسالةِ بتمامها. وقال الشاعر: إنكِ لو شاهدتِنا بالخندَمةْ ... إذ فرَّ صفوانٌ وفرَّ عكرمةْ لم تنطقي باللومِ أدنى كلمةْ يريد أقلّ كلمةٍ وأيسرَها لشدة ذلك وصعوبته، وما قالوا ما يسرهم. قال الشاعر في كلمةِ كذا وكذا يريدون بذلك في قصيدته، لأنّهم ربما حكوا عنه كلاما كثيراً من كلماتٍ فقالوا مع ذلك هذا، قالوا في كلمته، وليس يجوز أن يقولَ في كلمةٍ واحدةٍ كلماتٍ كثيرة، وربّما حكوا أنه قال في كلمةٍ وصفَ حربٍ طال، أو حالَ رجلٍ شجاعٍ أو جبانٍ أو حكوا عنه شيئاً طويلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 يقولون: قالَه في كلمته، فعُلم أنّهم يعنونَ بالكلمةِ القصيدة، وشهرةُ هذا عنهم يغني عن الاحتجاج له، وإن كان ما ذكرناه يزيلُ ريبَ من عُلمَ له بجوامع كلام القوم، وكذلك إذا قالوا: قال المترسّلُ أو الخطيبُ في كلمته كذا وكذا، إنّما يعنون به الخطبةَ والرسالة. وإذا كان ذلك كذلك وثبتَ أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يُرد بقوله: أنزلَ القرآنُ على سبعةِ أحرف، حروفَ المعجمِ المصوّرةِ على المثالِ الذي يكون منها ألف وباء وتاء، لأنّ ذلك لا معنى له، لأنّه منزل إذاً على التسعةِ والعشرين، ولأنّ كلَّ مثالٍ منها حرف على الحقيقة إلاّ لامُ الألفِ لأنّها مؤلّفةُ من حرفين وأدخلت الألفُ في اللام، فصارت صورتها صورة لا. وإذا كان ذلك كذلك وكان القرآنُ منزلاً بسائرِ حروفِ المعجم، فما معنى حملِ الخبرِ على أنّه سبعةُ أحرفٍ منها، هذا ليس من كلام أهل العلم والتحصيل بسبيل، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ بذلك أنّه أُنزِلَ على سبعِ كلماتٍ فقط، لأنّ الكلامَ المنزلَ أكثرُ من سبعِ كلماتٍ وسبعٍ وسبع بشيء كثير، فما معنى تأويل الخبرِ على أنّه منَزل على سبعِ كلمات، هذا أيضاً مما لا محصولَ له ولا تعلّقَ لأحد فيه. فثبًتَ بذلك أنّ الأحرفَ السبعةَ التي ذُكرت إنّما هي سبعُ لغاب وسبعةُ أوجهٍ وسبعُ قراءاتٍ مختلفات، والوجهُ والطريقة التي يكونُ الكلامُ وغيره أيضاً عليها يسمّى في اللغة حرفا، قال اللهُ تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) . ولم يُرد تعالى بذكره الحرف في هذه العبارة الحرفَ من حروف المعجم ولا أرادَ الكلمة، وإنما أرادَ وهو سبحانَه أعلم الوجهَ والطريقةَ التي تقعُ عليها العبادة، وأنّ منهم من يعبد اللهَ على الخيرِ يصيبه والنماءِ في مالِه، وإكمالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 صحتِه ووُفُورِ نِعَمِه، ومنهم من يعبُده على الشدةِ والبأساء والرجاء، وكيف تصرفت به الأحوال، لأنه عنده أهل لأن يعبُدَه مع التفضلِ والامتحانِ وعلى الخيراتِ والإنعام. وقد قيلَ: إن معنى قوله تعالى: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) أي على شك وغيرِ استبصار وطمأنينة، وجعلُ الحرفِ مثلا لقلةِ الطمأنينة، كما يقال فلان على شفا جُرُف، إذا كان غير متمكن في الأمر، قال أبو عبيد: وكل شاك في شيءٍ فهو على حرف. وقيل: إن الآية نزلت في أعاريبَ من بني أسَد أسلموا على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا إذا سَلِمَتْ مواشيهم وأُعطوا من الصدقة استقاموا على الإسلام، وإذا لم يعطَوْا وهلكت مواشيهم ارتدوا عن الإسلام، وهو العبادةُ لله سبحانه أيضاً عباد له على وجه وطريقةٍ هي الشك وعدمُ اليقين، ومخالفة لعبادتِهِ باليقين، والصبر على البأساء والضراء، فلا معنى لقول من زعموا أن الوجهَ لا يُسمّى حرفا. وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أن الوجهَ والطريقةَ التي لا يقعُ الشيء عليها تُسمّى في اللغة حرفا، فوجبَ لذلك أن يكون قولَه سبعةُ أحرفٍ أنه أنزلَ على سبعةِ أوجهٍ وسبعِ لغاتٍ وسبعِ قراءاتٍ مختلفة، والاختلافُ فيها إما أن يكون في تبيينها وصوريها، أو في معناها بحركةٍ أو إمالةٍ أو وجهٍ من وجوه الإعراب بغير معناها، وإن كانت الصورةُ في الكتابة بعينها غير مختلفةٍ على ماسنبيّنه من بعدُ إن شاء الله. ومما يدل على صحةِ هذا التأويلِ قولُ الناسِ إنَّ هذه الكلمةَ مقروء في حرفِ أبي بكر أو في حرفِ عبد الله بغير هذا، وفي حرف زيدٍ والجماعةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بخلاف حرفِ عبد اللهِ وأبيّ، وإنما يعنون بذكر حرفِ كل واحدٍ منهم قراءَتَه واللغة التي يختارُها، والقراءَةَ التي اجتباها وآثرها على غيرها. وإنما سُميَت القراءة حرفا، وإن كانت كلاماً كثيراً، لأن منها حرفا غُيِّر نظمُه أو كُسِر وقُلِب إلى غيره أو أميلَ أو زيدَ أو نُقصَ أو قُلِبَ نحو قيّوم، إذا قلبت فقيل قيّام، وقد جُعلت الواو من قيوم ألفا، فينسب القراءُ واو الكلمة الثابتة إلى الحرف المغيَّر المختلف الحُكْمِ من القراءتين، وممّا يدل أيضاً على صحة ما قلناه ويزيده وضوحا أنّ الناس اختلفوا في تأويل ما رُويَ في ذلك على وجوه: فقال قومٌ السبعةُ الأحرف: حلالٌ وحرام وأمر ونهي وموعظةٌ وقصص وأدب، وقال قوم: محكمٌ ومتشابهٌ وقصَص، وقال آخرون: تأويل الأحرف أنها سبعةُ أنواعٍ من الكلام، خبر واستخبار وأمر ونهي وتمنٍ وتشبيه وجحد. وقال قوم: معنى الأحرفِ أنّها سبعة أسماءَ تترادف على الشيء الواحدِ يكونُ معناها واحداً، واختلفت صُوَرُها مثلُ قولك أقبل وهلُمَّ وتعالَ وجيءَ واقْصُد وتقدَّم وادْنُ واقْرب، وما جرى مجرى ذلك، وقال آخرون: معنى الأحرف أنها أسماءٌ وصفاتٌ لله تعالى، مثل عليمٌ حكيم وسميع عليمٌ وبصيرٌ وعزيزٌ حكيم، وأمثال ذلك. وقال قوم: الأحرفُ المذكورةُ في الخبر: وعد ووعيد وحلالٌ وحرام ومواعظُ وأمثالٌ واحتجاج، وقال آخرون: معناها حلالٌ وحرامٌ وأمر ونهى وخبرُ ما كان قبل وخبر ما هو كائن بعد وأمثال، وقال آخرون: معناها سبعُ قراءات بلغاتٍ سبع في حرف واحد، إما بتغييرِ إعرابِ سبعِ جهاتٍ أو في حرفٍ للسبعِ لغاتٍ بغير تغييرِ إعرابٍ بل بصور مختلفةٍ أو زيادةٍ أو نقصان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ثم اختلفوا في تأويل الخبر من وجهٍ آخر، فزعمَ قوم أنّ كلّ كلمةٍ تختلف القراءةُ بها فإنها مقروءة منزلة على سبعةِ أوجهٍ وإلا بطلَ معنى الحديث. قالوا: ولكنّا نعرفُ بعضَ هذه الأوجهِ في الكلمة المختلفة القراءةِ لظهور نقلِه ومجيءِ الخبرِ به، ولا يُعرفُ بعضُها، لأنّ الخبرَ لم يأتنا بذلك. وقال منهم قائلون: ليس بموجبِ ظاهر الحديثِ أكثرُ من أن يوجدَ في القرآن كلمة أو كلمتان تقرآن على سبعة أوجه، فإذا حصلَ ذلك تمّ معنى الحديث. وأنّنا لا نعرفُ قدرَ ما فيه ممّا أُنزلَ على سبعةِ أحرفٍ على التحقيق، غير أننا نعرفُ أن ذلك شي بلا كثير لاختلافِ القراءة في مواضعَ كثيرة، ولو لم توجد فيه إلا كلمةُ تُقرأ ليقرأ على سبعةِ أوجهٍ فهي أوفت الحديث معناه. والذي نختارُه أن معنى ذلك: أنه وجه وطريقة يُقرأ عليها جميعُ القرآنِ أو معظمُه أو قريباً من معظمِه، وهذا التأويل هو المراد بقول الناس: حَرْفُ عثمانَ والجماعةِ يخالفُ حرفَ عبدِ الله بن مسعود، وحَرْفُ أبيّ غيرُ حَرْفِ زيد، وفلان يقرأ بحرف عاصمٍ دونَ حمزة، يعني بذلك وجهاً وطريقةً من القراءةِ يقرأُ معظمَ القرآنِ عليها. ومن البعيد أن يكون ذلك منصوباً إلى كلمةٍ منه أو اثنتين فقط تُقرآن على سبعة أوجه، لأن قولَه: أنزلَ القرآنُ على سبعة أحرف". عبارة لا تستعملُ في العادةِ إلا في جميع القرآنِ أو معظمه، يدل على ذلك أنّ الناسَ إذا اختلفوا في بيتٍ من قصيدةٍ أو كلمة أو رسالةٍ أو مسألةٍ أو كلمةٍ من كتابٍ مصنف، لم يَجُزْ في العادة أن يُقال: هذه القصيدةُ أو الخطبةُ أو الرسالةُ تُنشد وتُروى على وجهين أو وجوه، وإنما يجبُ أن يُقال: إن الكلمةَ الفلانيةَ من الخطبةِ أو البيت الفلاني من القصيدةِ تُنشد وتروى على وجوه، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 لا يُقال: هذا الكتاب مروي على وجهين ونسختين لاختلافٍ وَقعٍ في كلمةٍ فيه، وإنما يقال هذه المسألةُ فيه والكلمة تُروى على وجهين، فوَجب بذلك أن تكون العادة في هذا الاستعمالِ على ما وصفناه. وقد زعمَ قومٌ أن معنى قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل القرآن على سبعة أحرف "، أنّه منزل على سبعِ لغاب مختلفات، وهذا أيضاً باطل إن لم يُرد باللغات الوجوه المختلفة التي يتكلّمُ بجميعها وتستعملُ في اللغة الواحدة، والدليل على فساد ذلك عِلمنا بأنَ لغةَ عمرُ بنُ الخطابِ وهشامُ بنُ حكيمِ وأبيُّ بنُ كعبِ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودِ وزيدُ بنُ ثابتِ كلّها لغة واحدة وإنها ليست لغاتٍ متغايرة، وهم مع ذلك قد تنافروا وتناكروا القراءةَ وخرجوا إلى ما قدَّمنا ذكرَه، ولو كانوا أيضًا يتكلمون بلغاتٍ مختلفةِ لم يكن ما بينهما من الاختلاف مع كونها لغةَ العرب ولسانَها، يوجبُ خروجَهم إلى ما خرجوا إليه، لأنه لم يكن في تلك اللغات مستشنع ولا مستضعف مرذول يجب إنكاره وردُّه. فوجبَ بذلك أن يكون ذلك الاختلافُ في حروفِ ووجوهٍ من القراءات أنزلَ القرآنُ عليها، وإن كانت كلها لغةُ قريشٍ ومن جاوَرَهم وقارَئهم. فوجبَ أن يكون التأويلُ ما نذهبُ إليه، ومتى أقمنا الدليلَ على بطلانِ جميع هذه التأويلاتِ صح ما قلناه من أن المعنيّ في الأحرف أنها أوجه وقراءات ولغات مختلفة بالذي نذكره فيما بعد إن شاء الله. والذي يبيًن فسادَ جميعِ هذه التأويلاتِ توقيفُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على إباحة القراءة بجميعِ الأحرفِ السبعة وإطلاقُه لذلك وإخبارُه بأنه كذلك أنزل، وقولُه في غير خبر: "فاقرؤوا كيف شئتم واقرؤوا منه ما تيسَّر". وإذا كان ذلك كذلك بطلَ قولُ من زعمَ أنّ معنى الأحرفِ أنّه حلال وحرام ووعد ووعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ومواعظُ وأمثال وجحود وتشبيه وخبرُ ما قبلُ وخبر ما بعد، وأنها أسماء اللهِ تعالى وصفات أو أنها أسماء سبعة تترادفُ على شيءِ واحدٍ بمعنىَ واحدِ وغير ذلك مما حكيناه، لأنه لو كان الأمرُ على ما ذكروه لكان القاريء لكتاب اللهِ تعالى مخيراً في أن يجعلَ مكانَ الأمر نهياً، ومكانَ الخبرَ استخباراً، ومكانَ الوعدَ وعيداً، ومكانَ التمنّي تشبيها، وموضعَ التشبيه جحوداً، وموضعَ الجحود مثلاً، وأن يجعلَ مكانَ عزيزٍ حكيم سميع عليم. وأن يجعلَ موضعَ قديرٍ جواد كريم، وأن يجعلَ مكان نزلَ به الروحُ الأمينُ هبطَ به، ومكان إني ذاهب إلى ربي إني منصرف إلى ربي، وموضعَ قوله تعالى: (وَجَاء ربكَ) أقبل ربك. ولمَا أجمعَ المسلمونَ على فساد ذلك أجمع، وحظرِه وتحريمهِ وأنَّه لا يحل ولا يسوغُ إبدالُ الوعيدِ بالوعدِ والجحدِ بالمثلِ والخبرِ بالاستخبار والذهاب بالانصراف، وأنّ الواجبَ قراءةُ كل شيءٍ من ذلك على ما هو مكتوب مرسوم بغير تغيير ولا تبديل، سقطت هذه التأويلات سقوطاً ظاهراً. ومما يوضّح فسادَ ذلك أيضاً ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن جبريلَ أقرأهُ القرآنَ بحرفٍ ثم استزادَه فزادَه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما زِلت أستزيدُ جبريلَ ويزيدني حتى أقرأني بسبعةِ أحرف ". وقد عُلمَ أنَّه لا يستزيدُ مكان الأمر نهياً وموضعَ الوعد وعيداً، ومكان الخبر استخباراً وأمثال ذلك مما قالوه. ولا خلاف بينَ الأمةِ في إحالة هذه الاستزادة على الرسول، وإذا كان ذلك كذلك بطلت هذه التأويلات بطلاناً بَينا. ومما يدلّ على فساد تأويل قول من قال: معنى الأحرف، عليمٌ حكيمٌ وسميع بصير أن هذا في القرآن أكثر من سبعين اسماً وَصِفَةً وكل أسماء اللهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 سبحانَه وصفاتِه الذاتيةِ والفعلية أسماءٌ وصفات، وقد جاء الأثر: "إن لله تعالى تسعةً وتسعينَ اسماً من أحصاها دخلَ الجنة"، وذلك لا يدلُّ على أنه ليس له أكثر من هذه الأسماء، ولكن يقتضي ظاهرُ الخبر أنّ من أحصى تلك التسعةَ والتسعينَ اسماً على وجه التعظيم لله تعالى دخلَ الجنة، وإن كان له أسماءٌ أخر، فكيف يقال إن هذه الأسماءَ والصفاتِ سبعة فقط. وعلى أننا قد بيّنا أنّ القراءةَ بالأحرفِ كلها مباحة مطلقة، فلو كان معناها أنها أسماءُ اللهِ وصفاتُه لحل وساغَ أن يَقرأَ القارىءُ مكانَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، الشكرُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وموضعَ: (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنَاسَ) ، قُل أعوذ بخالق الناس، وموضعَ: (الخلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، هو الرزاق العليم، ومكانَ: (قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، قل هو الخالق الفرد، فلمّا أجمعَ المسلمون على تضليل من صَنَعَ ذلك في قراءتِه وتأثيمهِ إذا كان قاصداً إلى ذلك غير غالطٍ ولا ناس ولا ساه، فسد التأويل فساداً بيّنا لأنّ ذلك لو كان كما قالوه لم يجب حفظ القرآن على وجه، ولم يكن على الناس كُلفة في حفظِه ودرسِه وترتيبه، وإذا جاز أن يجعلوا موضعَ الربِّ الإله، ومكان الخلاّقِ الرزّاقَ وموضعَ العزيز المنيع ومكان العليم الحكيم، هذا ممّا لا يصيرُ إليه أحدٌ من المسلمين فبانَ بذلك فساد ما ذهبوا إليه، وقد ثبت أنه لا يجوز إن كان ذلك مباحا في سبعة أسماء فقط من أسماء الله تعالى ثم نُسخ. فأمّا أن يكون تأويلُ السبعة الأحرفِ التي اختصمت الصحابة فيها فلا. وأما من قال إنَّ معنى الأحرفِ السبعةِ أنها: أمرٌ ونهي وخبر واستخبار وتمنٍ وأمثال، فقد بيّنا فسادَ ذلك حيث قلنا إن القاريء ليس بمخير في أن يجعلَ كل ضربٍ من هذه الضروب مكان غيره، وقد استُدِلّ على فساد ذلك بما ليس بالقوي، فمَيل: ويدل على فساد ذلك أيضاً أن أهل العربيةِ قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أدخلوا بعضَ هذه الأقسام في بعض، فقالوا الكلامُ خمسةُ أنواع، وقالوا أكثر من ذلك شيء كثير، ثم حصروا ذلك بأن قالوا: خبر واستخبارٌ وأمر ونهيٌ. ودعاء دخل في الأمر نحوَ قولك: اللهم افعل بي كذا وكذا، وجَحدٌ دخل في الخبر نحوَ قولك: ما قامَ زيد، وكذلك القسمُ خبر، والإعرابُ داخل في الأمر، والتمني داخل في الطلب، فمنهم من يقول الذي يحيط بجميع ضروب الكلام خبر واستخبار وأمر ونهي، وإذا كان ذلك كذلك بطل قولُهم إن السبعةَ الأحرفَ هي هذه الأقسام، لأنّها أربعة على التحقيق بَدَلَ السبعة. فبانَ فسادُ ما قالوه من أنَّه لا معنى للسبعةِ الأحرف المذكورة إلا هذا. ولكن يمكن أن تكون هذه سبعة أحرفٍ أنزلت على ما فسّره الرسول جمييه، وهي غير السبعةِ التي صوّب المختلفين فيها من الأوجه والقراءات. فحصرُ أوجهِ السبعة بأربعة أوجهٍ لا يدلُّ على فساد هذا التأويل. وأما ما يدل على فساد قول من زعم أن معنى الأحرفِ السبعةِ أنَّها أسماء مترادفة على شيء واحد، إنَّ ذلك لو كان كذلك لوجبَ أن يكون القرآنُ منزلاً على أكثرَ من سبعةِ أحرفٍ وعلى أقل منها أيضا، لأنّ من الأشياء التي ذكرها اللهُ تعالى أكثرُ من سبعةِ أسماءٍ في اللغة، ومنه ما له أقلُّ من سبعةِ أسماء، ومنه ما لا اسم له إلا واحداً، فبطل ما قالوه. فإن قيل: أراد بذلك أن الأسماءَ التي ذكَرها اللهُ تعالى وأودعَ اسمَها كتابهُ ما ذكَرَه لسبعةِ أسماءَ من أسمائِه فقط وإن كان له أكثرُ من تلك الأسماء، قيل لهم: هذا فاسد لأنّنا لا نعرف في شيء مما ذكره اللهُ تعالى ، مما له سبعةُ أسماءَ ذكره اللهُ تعالى بها في موضعٍ واحدٍ أو في مواضعَ متفرقة، وإن كان ذلك كذلك سقط ما قالوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ويدلُّ على فساد هذا التأويل أيضا أنّ قارئاً لو قرأ مكان (وجاء ربُّك) ، ووافى ربّك، وقرأ: "إني ماضٍ إلى ربي" مكانَ، (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) ولو قرأ: "جيئوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم" أو: "وافوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينَكم" مكانَ قولِ اللهِ تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) لم يَسُغْ ذلك ولم يَحِلَّ بإجماعِ المسلمين، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قالوه من كل وجه، ولسنا ننكرُ مع ما أفسدنا به قولَهم أن يكونَ من الحروف السبعةِ التي أُنزل بها القرآنُ هذا الوجه بأن يكون اللهُ تعالى ذكر شيئا أو أشياءَ من كتابه باسمين مختلفين ولفظين متغايرين أو أسماءَ متغايرةٍ مختلفةِ الصور، ويكون هذا البابُ حرفاً ممّا أنزلَه وطريقةً وقراءةً معروفة، ولكنها تكون مع ذلك بعضُ السبعةِ الأحرف، ولا يكون معنى جميعِ السبعةِ الأحرفِ هذا الوجهَ. وقد رُوي أن عبدَ اللهِ قرأ "كالصوف المنفوش" مكان (العهن المنفوش) . وقرأ: "إن كانت إلا زَعْقَةً واحدةً" مكانَ: (صَيْحَة وَاحِدَةً) . وقرأ بعضهم: "إنّ شجرةَ الزقوم طعامُ الفاجر" مكانَ: (طَعَام اَلأَثيم) . فيكون هذا الاختلاف في الأسماء التي معناها واحدٌ وجهاً مما أنزلَه اللهُ تعالى وسمّاه الرسولُ حرفا، وجعلَه بعضَ السبعةِ الأوجهِ التي أنزلَ الكتابُ بها، وإنّما ننكرُ أن يكون هذا الضربُ فقط هو معنى جميعِ الوجوه والأحرفِ التي أنزلت على ما قالَه أصحابُ هذا التأويل، فهذا هو الفصل بيننا وبينهم في تنزيل هذا الوجه ومرتبتِه، فدلّ ما ذكرناه على أنّ المرادَ بذكر الأحرف السبعةِ المطلقة للاختلاف إنّما هو أوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 (فصل) القولُ في تفسير اللغاتِ والأوجه والقراءاتِ السبعةِ التي قلنا إنها المعنيةُ بقوله: "أنزلَ القرآنُ على سبعة أحرف " فإن قالوا: قد أوضحتم أن معنى الأحرفِ أنها أوجه ولغاتٌ وقراءات سبعة وأفسدتم ما عدا هذا التأويل، فخبرونا ما تلك الأوجهُ واللغات؟ قيل لهم: أول ما نقولُ في جواب ما سألتم عنه أنه إذا صحَّ ما قلناه أن معنى هذه الأحرف أنّها أوجهٌ ولغاتٌ وقراءات متغايرة، ولم يدلُّ نصُّ الرسولِ على أعيانِها بأسرِها وأجناسِ اختلافِها وطرُقِ اللغات فيها، ولم تتفق الأمةُ على ذلك فيما علِمنا في عصرٍ من الأعصار اتفاقاً بلَغَنا، وقامت الحجة به علينا، ولم ينتشرْ تفسيرُ ذلك عن السلف ولا عن إمام في هذا الباب، ظهرَ قوله وعُلمَ تسليمُ الأمة له صحةَ ما قالَه وفسره، وثبت أنه ليس في كتاب الله سبحانَه حرفٌ أو كلمة أو آية قُرِئت على سبعةِ أوجهٍ فينصرفُ الخبرُ إليها، وجبَ أن نقولَ في الجملة: إنَّ القرآنَ منزل على سبعةِ أوجهٍ من اللغات والإعراب وتغييرِ الأسماءِ والصور، وإن ذلك متفرق في كتابِ الله تعالى، ليس بموجودٍ في حرفٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ أو سورةٍ واحدةٍ تقطعُ على إجماع ذلك فيها، وإن لم يُعرف أعيانُ تلك القراءات والأوجه واللغات، وتحيط بحقيقةِ أجناس تلكَ الضروب من الاختلاف، غير أنّنا نعلمُ أنّها سبعةُ أوجهٍ موجودة في كتابِ الله تعالى كما أخبرَ الرسول، ولم يثبت لنا توقيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 عنه تقومُ به الحجةُ علينا في تغيير تلكَ الضروبِ من اللغات والقراءاتِ فيخبرُ بتعيينه ويقطعُ على ذلك من أمره. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون اعتقاد هذه الجملة في معنى الأحرف السبعة من غير تفصيل وتعيين مقنعاً كافيا، فسقطَ عنا بذلك تكلفُ تفسيرِ هذه اللغات والأوجه السبعة، وهذا أبينُ في صحةِ الاعتماد على هذا الجواب ومع هذا فإنّا لا ننكرُ أن يكونَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن للصحابة أو للعلماء منهم وحملةِ القرآن والعلم عنه عددَ تلكَ اللغات والقراءاتِ السبعة بأعيانِها، ووقفهم على عددها وأجناسها، وعلى كل شيءٍ منها أو الفرقِ بينَه وبينَ غيره، وعلى موضعِه الذي أنزلَ فيه دونَ غيره، وأوضحَ لهم ذلك إيضاحا قامت به الحجةُ على من ألقاه إليه، ثم لم يُنقل ذلك إلينا نقلاً تقومُ به الحجة، إذ كان معرفةُ تلك اللغات والأوجهِ وتفصيلُها وتنزيلُها ليس من فرائض ديننا، وكأن من قرأ بوجهٍ منها أو بما تيسر من ذلك أجزأه وكفاهُ عن غيره، فيكون العلمُ بعدد تلك الأجناس وتفصيل ذلك الاختلاف من فرائض من قامت الحجةُ به عليه، وإن لم يكن ذلك من فرائضنا، إذا لم يكن شاذاً لها نادراً تقومُ به الحجةُ علينا وينقطعُ عند سماعه عذرنا. فبانَ أيضاً أن عدمَ علمِنا وقطعِنا على أعيانِ تلكَ القراءات السبعةِ وتفصيلِ اختلافها وأجناسها، لا يدلُّ على أنّه لا بد أن تكون هذه حالَ الصحابة، بل يمكنُ أن يكون حالُهم في ذلك حالُنا إذا لم يوقَفوا على أجناسِ الاختلاف. ويمكن أن يكون قد بُينَ ذلك لهم، فهذا ما يجبُ ضبطُه في هذا الباب. ومع ذلك قد يمكنُ أن يقالَ إنَّ السبعةَ الأحرفَ واللغاتِ التي نزلَ بها القراَنُ محصورة معروفة بما يقربُ أن يكون هو المراد بالخبر ولا يبعد، وأن من هذه الأوجه الاختلافُ في القراءةِ بالتقديم والتأخير نحوَ قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) ، وقد قُرئ: "وجاءت سكرة الحق بالموت" (1) وهذا اختلافٌ في التقديم والتأخير. والوجه الثاني: أن يكون الاختلافُ في القراءتين في الزيادة والنقصان مثل قوله تعالى: "وما عملت أيديهم" (وَمَاعملَتهُ أَيدِيهِم) ، بزيادة هاء، وقوله تعالى في موضعٍ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) . وقوله في موضعٍ آخر: (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، بنقصان هو. وقرأ بعضُهم: "يا مال" موضعَ: (يَا مَالِكُ) ، بنقصان الكاف، ومنه أيضاً قولُه تعالى: (عِظَامًا نَخِرَةً) ، و "ناخرة" و (سِرَاجًا) و (سُرُجاً) ونحو ذلك، ورويَ أن بعضَ المتقدمين قرأ مع قوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) قرأ: "أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها". وقرأ بعضهم أيضاً بعد قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) . وزاد فقرأ: "تسعٌ وتسعونَ نعجةً أنثى"، وهذا اختلافٌ لم يثبت وهو اختلافُ القراءة بالزيادة والنقصان، ويقول إن الرسول أقرأ بالتقديم تارةً وبالتأخير أخرى، وبالزيادة تارةً وبالنقصان أخرى، ووقف على ذلك إذا ثبت هذا الباب في الاختلاف وأنّه مروي عن الرسول عليه السلام. والوجه الثالث: أن يكون الاختلافُ في القراءة اختلافاً يزيدُ صورةَ اللفظ ومعناه، وذلك مثل قوله تعالى: (وطلعٍ منضود) مكان قوله: (وَطَلح مَّنضُود) ، ونقول أيضاً: إنَّ هذا إذا ثبت فقد أقرأ بهما الرسولُ عليه السلام، وأُنزلَ عليه كذلك، وقد رُويَ عن بعض السلف أنّه قال: معنى الطلع والطلح واحد، وأنهما اسمان لشيءٍ واحد، فإن كان ذلك كذلك فهما   (1) ليست هذه القراءات مما تناقلَهُ العلماءُ بالتواتر وإنما هي نقلُ آحادٍ عن أصحابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بمنزلة العِهن والصوف والأثيم والفاجر، فيكون مما تختلف صورتُه في النطق ولا يختلف معناه. وقال الجمهورُ من الناس غير هذا، فزعم بعضُ أهلِ التفسير أن الطلحَ هو زينةُ أهل الجنة، وأنه ليس من الطلعِ في شيء، وقال كثيرٌ منهم إنَّ الطلحَ هو الموز، وقال آخرون إن الطلحَ هو الشجر العظامُ الذي يُظلُ ويُعَرش. وإن قريشا وأهلَ مكة كان يُعجبُهم طلحاتُ وج - وهو واد بالطائف - لعظمِها وحُسنها، فأخُبِروا عن وجهِ الترغيبِ في الجنة طلحا منضودا يرادُ به متزاحم كثير، قالوا إنَّ العربَ تسمي الرجلَ طلحة، على وجه التشبيه له بالشجرةِ العظيمةِ المستحسنة، وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أن الطلعَ والطلحَ إذا قُرئ به كان مما تختلف صورُهُ ومعناه. والوجه الرابع: أن يكون الاختلافُ في القراءتين اختلافا في حروف الكلمة بما يُغَيرُ من معناها ولفظِها من السماع ولا يغير صورتها في الكتاب. نحوَ قوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) ، (نُنشرها) بالإعجام، والانتشارُ الإتيان والزيادة، والإنشارُ الإنشاء والإحياء بعد الممات، وقد أنزلَ القرآنُ كذلك، لأنّها منشأةٌ مبدعةٌ ومنشورٌ ومحياةٌ بعد الممات فأريد إيداعُ المعنيين في القراءتين. والوجه الخامس: أن يكون الاختلافُ بين القراءتين اختلافاً في بناءِ الكلمةِ وصورتها بما لا يزيلها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: (وَهَل نُجَازِىَ إِلا اَلكَفُوَر) ، و (هل يجازى إلا الكفور) ، وصورة ذلك في الكتاب واحدة، وقوله تعالى: (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بالضمة، و (بالبَخْل) بالفتح، و (ميسُرة) و (مَيْسَرَةٍ) بالنصب والضم. و (يَعكفُونَ) ، و (يعكِفون) بالرفع والكسر، والصورة واحدةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وأمثال ذلك، ومنه أيضا قولُه: (وَفُومهَا) ، أو (ثومها) ، وأمثال ذلك كثير. والوجه السادس: أن يكون الاختلافُ بين القراءتين بما يغير صورتها ولا يغيِّر معناها، نحو قوله: (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) و"كالصوف المنفوش"، و (إِن كاَنَت إِلا صَحية واحدة) و "إن هي إلا زعقة واحدة"، و (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) . و (طعام الفاجر) ، ومنه قولُه: (وَفُومهَا) و (ثومها) ، وأمثال هذا مما لا تختلف به صورُ الأسماءِ وحروفُها، وإن لم يختلف معناها، وهذا مما أنزلَه اللهُ تعالى، لأن في العرب من يثقُلُ عليه مفارقةُ طبعِه ونمطِ كلامه، وأن يقول صوف مكان عهنٍ وزعقة مكانَ صيحة، فأنزلَ القراءتين وأطلقَهما رخصةً وتخفيفا عن عباده مع حصول السلامةِ والاستقامة وإرادة الرخصةِ لهم وتخليهم وطباعَهم وعادتهم وسجيةَ أنفسهم في الكلام. والوجه السابع: أن يكون الاختلاف بين القراءتين للاختلاف في الإعراب للكلمة وحركات بنائها، بما يُغيّر معناها ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحوَ قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، على طريق الخبر، و (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، و (رَبَّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، و (رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) بفتح العين وكسرها، وقوله: و (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) و (بعد أمه) ، ومعنى أمَّة حين، وأمَه معناها النسيان، وذلك صحيح لأنه ادّكر بعد حين، وبعد أن نسي أيضا، فضم الله تعالى المعنيين في القراءتين، وقوله تعالى: (رَبَّخَابَخعِذتتن أَشفَارِنَا@ بكسر العين، معناه: الطلب والمسألة من أهل سبأ أن يُفرِّقهم الله ويباعدَ بين أسفارهم، وقد كانوا سألوا ذلك، ومنه أيضا: (يَعكُفُونَ) ، و (يعكِفون) بالضمَ والكسر، والصورة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الكتاب واحدة، فحكى سبحانه السؤالَ والطلبَ عنهم في قوله: ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) للإخبار عنهم بأنّهم قد بوعد بين أسفارهم، وقد كان من أهل سبأ أمران لأنهم سألوا الله سبحانه أن يفرِّقهم ويباعد بين أسفارِهم فحكى ذلك عنهم، فلمّا فعلَ ذلك بهم وأجابَهم إلى مسألَتهم، أخبروا عن أنفسهم بأن الله أجابَهم وباعدَ بينَ أسفارِهم، فحكى اللهُ تعالى ذلك عنهم. وكذلك قوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ) ، لأن فرعون قال لموسى: إنَّ ما أتيتَ به السحرُ والتخييل، فقال موسى مُخبراً عن نفسه: إنني ما أتيتُ إلا بآيات وبصائر، وقال أيضاً لفرعونَ مرةَ أخرى: لقد علمتَ أنت أيضًا أن ما جئتُ به بصائرَ وآياب ليست بسحر، فحكى الله تعالى الأمرين جميعا، وهما صحيحان يأتيان غيرَ متضادين ولا متنافيين، وكذلك كلّ ما وردَ من هذا الضرب. فهذا الذي ذكرناه والله أعلمُ هو تفسيرُ السبعة الأحرف دون جميع ما قدمنا ذكره، وقد أخبَرْنا فيما سلف أنَّه لا يجبُ علينا الإخبارُ عن عددِ اللغات والأوجهِ السبعة، وذكرُ أجناسِ الاختلاف بينها وضروبه إذا لم يكن عندنا توقيف في ذلك، وهذه جملةٌ كافيةٌ في هذا الباب إن شاء الله. فإن قالوا: فإذا قلتم إن الحروفَ المنزلةَ إنما هي قراءات وأوجه مختلفة بإعرابٍ مختلف، كالضمِّ والفتح والكسر، أو إمالةٍ وترك إمالة، أو إدغامٍ وترك إدغام، أو قلب حرف إلى حرف، أو تقديم وتأخير وزيادة حرف في الكلمة أو نقصان حرفٍ منها، لا غير ذلك، فكيف سمّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأوجه والحركات والإعراب المختلف وقلبَ الحرف إلى غيره حرفاَ، والإعراب الذي هو الضمُ والفتحُ ليس بحرف، وإمالةُ الحرفِ ليس بحرفِ وقلبُ الحرفِ إلى غيره ليسَ بحرف، وإبدالُ الاسم بحرفٍ وتقديمُ الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 على كلمةٍ أخرى، وجميع ما قلتموه في هذه القراءات ليس بحرف لأنّ نَقصان الحرف ليس بحرف، وزيادة الحرف في الكلمة لا يُصير الكلمة باسرها حرفا، فما وجهُ تسميةِ هذه الوجوه في القراءات حرفا؟ يقال لهم: قد نبّهنا على جوابِ هذا فيما سلف، وذلك أنّه قد ثبتَ أنّ العربَ تُسمي الشيءَ باسم ما هو منه وما قارنَه وجاوَره وكان بسببٍ منه وتعلّقَ به ضربا من التعلق، وتُسمي الجملةَ باسم البعض منها، وتُسمي القصيدة والخطبةُ والرسالةُ كلمة، وتسمّي الكلمةَ التامةَ حرفا فنقول: (الم) حرف على ما قلناه من قبل، وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يُسميَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلمةَ التامةَ والقراءةَ الطويلةَ حرفا على تأويل أنّ منها وفيها حرفا يغير كلمةً وحالةً في القراءة، فيُقرأ مرةَ بالفتح ومرةً بالضم، أو أنّ سببَ هذه القراءةِ حرفاً يثبتُ تارةً فيها وتارةً ينقُص، أو أنّ منها حرفاً مرةً يقرأ على ما هو به ومرةً يُقلبُ إلى غيره ويبدلُ بسواه، أو أن منها حروفاً تُقدّمُ في القراءة، ومرةً تؤخَّر، وتسمى الحروف حروفا وتريد به جنسَ الحروف. وإذا كان هذا بيِّنا جاريا في استعمال العرب وجبَ صحةُ ما رُويَ واتُفق عليه من قولهم: هذا يقرأُ من حرفِ عبد الله بكذا، ومن حرف أبيّ بكذا. ومن حرف زيد بكذا، فتنسبُ الكلمةُ والقراءةُ إلى الحرفِ الذي فيها، فبطلَ تعجب من ظن بعدَ هذا أو استهجانَه في اللغة. ويجوزُ أيضاً أن يقالَ إنّه - صلى الله عليه وسلم - سمّى الكلمةَ والقراءةَ حرفاً مجازاً واتساعا واختصاراً، كما سُميت القصيدة كلمة، كذلك الرسالةُ والخطبةُ على ما بيَّناه من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ويجوزُ أيضا أن يكون إنّما سمّى جميعَ هذه الوجوه واللُّغات المختلفة والقراءاتِ المتغايرة حرفا على تأويل أن كلّ شيءٍ منها طريقة وسبيلٌ على حذَتها غير الطريقة الأخرى، كما قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) ، أي على سبيلٍ وطريق، وإن تغيَّرت عليه تغيَّر عن عبادته وشُكره على حسب ما شرحناه من قبل، وإذا كان ذلك كذلك سقط قولُه إنّ الإعرابَ في الإمالَةِ لا يُسمّى حرفا، لأنّ الحرفَ ها هنا على هذا التأويل، ليس المراد به الصورُ من الخط المُمَثَّل، وإنّما هي الطريقة والوجه والسبيل فقط. وليس في جميع القراءات المنزَّلة التي يسوغُ الاختلاف فيها وصُوِّب القارئون لسائِرها ما يتضادُّ معناهُ وينفي بعضُه بعضاً وإنَّما فيه مختلفُ اللفظ والإعراب، وإن كان معناه واحداً ومختلفُ الصورة واللفظ والإعراب والبناء، لتضمُّنه معاني مختلفةً غيرَ متضادةٍ ولا متنافيةٍ مثلُ قولهم: (بَاعِدْ) ، بكسر العين و (باعَد) بفتحها على الخبر، وأمثالُ ذلك مما يختلفُ ولا يتضاد، وإنما المحالُ المنكَر أن يكون فيه قراءات متناقضة متضادةُ المعاني، والله تعالى عن إنزالِ ذلك وتصويب جميع القراءة به. وقال قوم من الناس: إنَّ تأويلَ السبعة الأحرف هو أنّ الاختلاف الواقعَ في القرآن بجميعه، ويحيطُ به سبعةُ أوجهٍ منها وجا يكون بتغيير اللفظ نفسه، والوجوه الستّةُ تكونُ بأن يثبتَ اللفظُ في جنسِها ويتغير من قبل واحدٍ منها، فإنّ الستةَ الباقيةَ تكونُ في الجمعِ والتوحيدِ والتذكير والتأنيث والتصريف والإعراب، واختلافُ الأدوات، واختلاف اللغات. قالوا: والوجهُ الأول من السبعة الذي هو تغيُّر اللفظِ في نفسِه وإحالَتِه إلى لفظ آخر: هو كقوله: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) . قالوا: وننشزها بالزاي المعجمة، وما جرى مجرى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والوجه الأول من الستة: الجمعُ والتوحيدُ كقوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ (وكتابه) ، وكقوله: (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (وللكتاب) . والوجه الثاني: التذكير والتأنيث نحوَ قوله: (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) ، بالنون ولتحصنكم بالتاء المعجمة من فوقها. والوجه الثالث: هو التصريف كقوله: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) ، بكسر النون ويقنَط بنصبها. والوجه الرابع: الإعراب كقو له: (ذُو العَرشِ اَلمجيدُ) بكسر الدال والمجيدُ برفعها، وأمثال ذلك. والوجه الخامس: اختلافُ الأدوات كقوله تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) ، بتشديد لكنّ وبتخفيفها إذا قلت لكن مخففاً. وقوله: (لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) ، بالتخفيف ولمّا بالتشديد إلى أمثال ذلك. والوجه السادس: اختلاف اللغات كقوله: (وَاَلصابئونَ) والصابون بالهمزة وإسقاطِها، وقوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) ، بالإمالة والتفخيم، فهذه سبعةُ أوجه كلّها منزلة وسائغة جائزة. وفي بعض ما ذكرناه من تأويل هذه الرواية ما يوضحُ الحق ويمنعُ أهلَ التأمّل والاستبصار من التورّط في الشبهات والأحوال بتعلل أهلِ الزيغ والضلال، وبالله التوفيق والتسديد والعصمة والتأييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 (باب) ذكرِ ضروب أخَرَ من اعتراضات الرافضة وشُبههم وغيرهم من الملحدين والمنحرفين، ووصف حال الروايات التي يتعلقون بها في هذا الباب مما ادّعوا فيه نقل المؤالف والمخالف، ومما انفردت الشيعةُ خاصةً بنقله عن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام والعِتْرةِ من ولده، والكشفُ عن فسادِها فأمّا ما يتعلّقون به ويكثرون ذكرَه عن عبدِ الله بن مسعود في إسقاطه الحمد والمعوذتين من مصحَفِه، فقد ذكرنا ما يجبُ فيه والوجهَ في ذلك، وضروبا من التأويلات والوجوه فيه، أبما، يغني عن إعادة القول في ذلك. فأمَّا ما يتعلّقون به من منافَرته لعثمانَ وامتناعِه من تسليم مصحفه وما كان من كراهيته لعزله عن كتب المصحفِ وتوليتِه زيدَ بن ثابت وما قال فيه. فسنُفرد له بابا عند ذكرنا جمعَ عثمانَ الناس على حرفه وكتبِ الإمام الذي أخذهم به، ونذكر فيه جميعَ ما رُوي عنه وعن عثمان وعن الجماعة. ونَصِفُ قدرَ ما نَقَمهُ وتبيّن أنّه لم يقرن عثمانَ ولا أحداً من الجماعة بتغيير القرآن ولا بالزيادة فيه ولا النقصان منه، ولا خطأهم في اختيار حرفهم الذي صاروا إليه، ونصفُ رجوعه إلى قولِ عثمانَ ورأي الجماعة وحثة وحضّه على ذلك ونأتي منه على جملةٍ توضِّح الحقَّ إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 (باب) ذكر ما رُوي عن أبيّ بن كعبٍ في هذا الباب فأمَّا تعلقُهم بالروايات عن أبي بن كعبٍ في هذا الباب وأنّه قال: "إنّا كتا نقرأ سورة الأحزاب، فوالله الذي أنزل القرآن على محمد لقد كانت توازي سورة البقرة، وإن فيها آية الرجم "، فإنّه لا تعلق لهم فيه أيضا، لأجل أن هذه الرواية عن أُبن لو كانت صحيحة ثابتةً لوجب أن يشتهر عن أبي الشهرةَ التي تلزمُ القلوبَ ثبوتها، ولا يمكن جحدها وإنكارها، لأن هذه هي العادةُ في مثل هذه الدعوى من مثل أبن في نباهته وعلو قدره في حُفّاظ القرآن، فإذا لم يظهر ذلك عنه الظهورَ الذي يُلزم الحجّة بمثله عُلمَ بطلانُ الخبر، وأنّه لا أصلَ له. ومما يدلّ أيضاً على بطلان هذه الرواية أنه لا يجوز أن يضيعَ ويسقُطَ من سورة الأحزاب أضعاف ما بقيَ منها فيذهبُ ذكرُ ذلك وحفظه عن سائر الأمّة سوى أبيّ بن كعب مع ما وصفناه من حالِهم في حفظ القرآن والتدين بضبطه وقراءته وإقرائه والقيام به والرجوع إليه والعمل بموجبه وغير ذلك من أحكامه، وأنّ مثلَ هذا ممتنع في سائرِ كلامِ البشر الذي له قوم يعنون به ويأخذون أنفسهم بحفظه وضبطه وتبحُّر معانيه والاستمداد فيما يثورهم منه أو الاحتجاج به والتعظيم لقائله، فلأجل ذلك لم يجز أن يظن ظان أن "قفا نبك" كانت أضعافَ مما هي كثيراً فسقط معظمها ولم يظهر ذلك وينتشر عند رواة الدواوين وحفّاظ الشعر وأصحاب كتب الطبقات، ومصنفي غريب هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 القصيدة والمتكلمين على معانيها والمعروفين بهذا الشأن، ولم يَسُغ لعاقلٍ عرف عادات الناس في امتناع ذهاب ذلك عليهم أن يقبل رواية راو يروي له من جهة الآحاد عن لبيد أو حسان أو كعب بن زهير أو غيرهم من أهل عصرهم أو من بعدهم أنّهم كانوا ينشدون قصيدة امرىء القيس أضعاف ما هي وأنّها كانت خمس مائة بيت، وأطول من "ديوان ابن الرومي " أو أبي نواس، وأكثرُها ومعظمها ذهب وسقط ودرس أثره وانطوى علمُه وانقطع على الناس خبرُه، هذا جهلٌ لا يبلغ إلى اعتقاده وتجويزه من له أدنى معرفة بالعادات في الأخبار وما يعلم بالفطرة كونه كذباً أو صدقا أو يمكن الشك والوقف فيه. وكذلك لو ادّعى مدَّعٍ مثل هذا فيما يُروى ويُقرأ من "موطأ مالك " و"الأم للشافعي " و"مختصر المزني "، و"جامع محمد بن الحسن "، و"الصحيح للبخاري " و"المقتضب " وغير ذلك من الكتب المشهورة المحفوظة المتداولة، وقال: إنَّ كل كتاب من هذه الكتب قد كان أضعاف ما هو. وأنه قد ذهب وسقطَ أكثرُها ومعظمها، وبقي الأقل اليسير منها، وروى لنا في ذلك الأخبار والحكاياتُ لوجبَ أن يقطعَ على جهله ونقصه وعلى أنّ كلّ ما يروونه في هذا الباب كذبٌ موضوع ومردودٌ مدفوع لا يسوغ لعاقلٍ تصديقُ شيءٍ منه والسكون إليه. وإذا كان ذلك كذلك، وعلمنا أنّ هذا القولَ المروي عن أُبيّ لم يكن ظاهراً في الصحابة ولا متداولاً بينهم، ولم نعلم أيضاً أن أحداً قاله ورُوي عنه، ولم يُعلم أيضاً صحة هذه الرواية نفسُها فضلاً عن شهرتها ووجوب ذكرها عنه وعن غيرها، علم بذلك وتيقّن تكذُبها على أُبى واحتقارُ واضعها عليه لعظم الإثم والبهتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ولو نشطنا لقبول مثل هذا عن أُبن لوجب أن نقبلَ خبرَ الشيعةِ عن النص على إمام بعينه وروايتهم لأعلام الأئمة من أهل البيت وما يروونه من فقههم وأحكامهم، ومن ذمّ عليّ عليه السلام وولده للسلف والتبري منهم ووصف ظلمهم وغشمهم، فإنّ هذه الروايات عندي أظهرُ وأشهرُ من هذه الرواية عن أُبى، وقد بينا بغير حجّة الدلالةَ على تكذّب هذه الأخبار وما جرى مجراها فسقط ما قالوه. على أن هذه الرواية لو أمكن أن تكون صحيحة ثابتة، وأمكن أن تكون كذبا لوجب اطراحُها بما هو أشهر وأظهر منها، لأنّ الكافة والدّهماء رووا جميعا عن أبيّ أنّه كان يقرّ بأنّ هذا القرآن هو جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله، وأمر بإثبات رسمه، وأنه كان على مذهب الجماعة ورأيهم في هذا المصحف وأنّه أحد من أملاهُ على زيد والنفر القرشيين ونصبه عثمانُ لذلك. وسنذكر ما ورد في هذا من الروايات فيما بعد إن شاء الله، وأنّ أُبيًّا كان يُقرِأ ويُقرأ بهذا المصحف كما يقرؤه غيره لا يدعي زيادة فيه ولا نقصانا منه. وهذه الرواية هي الظاهرة المعروفة، وأقل أحوالها أن تكون كرواية من رُوي عنه سقوط كثيرٍ من الأحزاب وأن تكون مكافئةً لها، وإذا تكافئتا سقطتا جميعا، ووجبَ حملُ أمر أبي على ما عليه الكافّة من تسليم صحةِ هذا المصحف فكيف وقد دلّنا بأدلة قاطعة على تكذب هذه الرواية عن أبيّ. وممّا يدلّ على بطلان هذا الخبر عن أبيّ روايةُ جماعة الناس عن أبيّ أنّه أدخل في مصحَفه دعاء القنوت، وأئبتَه في جملةِ القرآن، فإذا كان أبيّ قد حفظَ دعاء القنوت وحرصَ عليه وأدخله في مصحفه لتوهمه أنّه مما أنزلَ اللهُ من القرآن، فكيف يجوز أن يذهبَ عليه أكثرُ سورة الأحزاب، وأن تذهب عليه وعلى أبي موسى وغيرهما من الصحابة سورة أنزلت مثلُ البقرة ذهبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بأسرها حتى لم يذكروا منها إلا كلمة أو كلمتين، وهم قد حفظوا عن الرسول سننه وآدابه وأخلاقه وطرائقَه ومزاحَه وكيف السنة في الأكل والشرب، وفي التغوُّط والبول إلى غير ذلك، حتى أحاطوا علما به ودونوه وشهروه وتداولوا به، ثم يذهبون مع ذلك عن حفظ سورة بأسرها إلا كلمة واحدة منها أو اثنتين، وعن حفظ الأحزاب إلا أقلها، وهذا جهل وغباء ممن أجازه على من هو دون الصحابة في التدين بحفظ القرآن وجودة القرائح والأفهام وسهولة الحفظ وانطلاق الألسن وانشراح الصدور لحفظ ما يأمرهم الرسول بحفظه ويحثهم ويحضهم على تعلمه وتعظيمه، ويعرفهم عظيمَ الأجر على تلاوته ويحذِّرهم أليمَ العقاب في نسيانه وذهابه عن القلوب بعد حفظه. فإذا كان ذلك كذلك عُلم ببعض ما ذكرناه سقوطُ هذه الروايات وتكذبها. وأنه لا أصلَ لشيءٍ منها، ولما يجري مجراها من الحروف الزائدة المرويّة عن جماعة من الصحابة على ما سنذكره مفصّلاً فيما بعد إن شاء الله. ثم يقال لهم: إنَّ هذه الرواية لو صحَّت عن أبيّ لم توجب نقصان القرآن ولا سقوط شيءٍ منه عليه ولا على سائر الصحابة مما يلزمهم حفظُه وتلاوتُه ويلحقُهم التقصيرُ والتفريطُ بتضييعه، وذلك أنّه قولٌ محتمل لأن يكون ما كانوا يقرؤونَه في سورة الأحزاب قد نُسخت تلاوتُه وزالَ عنهم فرضُ حفظه، فلذلك لم يثبتوه ولم يقرؤوه، وأبيٌّ لم يقل مع قوله: "إنّا كنّا نقرأ سورةَ الأحزاب، وأنها - كانت توازي سورة البقرة"، أنّه ضاع أكثرُها ومعظمُها، ولا أنّهم وأنَّا جميعاً ذهبنا عن حفظها وفرّطنا فيما وجب علينا من ذلك، وإنّما قال: "كنّا نقرؤها، وأنها كانت توازي سورةَ البقرة وأنه كان فيها آية الرّجم "، فما في هذا ما يوجب أنّ فرضَ تلاوتِها وحفظِ جميعِها باق، وأنّ القومَ فرّطوا في حفظِها وضيعوا، مع كونه قولاً محتملاً للنسخ لتلاوة أكثرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وهذا هو الأشبه الأليق به وبالصحابة، وليس يُستنكر أن يكون كان أكثرها قصصا وأمثالاً ومواعظ فنُسخت التلاوةُ ونُسخ فيها التلاوة في الرجم، ولهذا قال: "وإن كان فيها آية الرجم "، وقد بينا أن آية الرّجمِ منسوخةَ التلاوة، وإن كانت باقية الحكم فكأنه قال لنا: نقرؤُها قبل النسخ، وكان فيها آية ُ الرجم فنُسخَ منها أكثرُها وكان مما نُسخ آيةُ الرّجم. وقال عمر بن الخطاب: لولا أن يقال: زاد عمرُ في كتاب الله لأثبتها وتلا: "والشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة"، ولم يقل ذلك إلا لعلمه وعلم الأمّةِ بأنّ الآية َ منسوخة وأنّ إثباتها زيادة على ما ثبت فرضُ إثباته وحفظه على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان ذلك كذلك لم يُنكر أن تكون سور بأسرها قصصا وأخباراً وأمثالاً، أو عظمها كسورة يوسف والكهف وأمثالهما، وأن لا يكون فيهما ما فيه حكم ثابت إلا اليسير الذي بقيَ فرضُه، أو نُسخَ وبقي حكمُه وحُفظت تلاوتُه مع زوال فرضه لموضع تضمنه للحكم اللازم لهم، لم يجب مع إمكان ذلك أن يجعلَ قولُ أبي هذا دلالةً على نقصان القرآن، أو أنّ أبيّا كان يعتقدُ ذلك أو أنّه عرضَ به في هذا القول، وهذا بيّن في إبطال تعلُّقهم بهذه الرواية من كل وجه. فأمَّا ما يذكرونَه عنه في الحروف والكلمات الزائدة في مصحفه نحو ما ذكر أنه كان يقرأ وغيره من الصحابة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) ، (وهي صلاة العصر) ، ونحو ذلك فإنه أيضا ممّا لا أصلَ له، ولو ثبت لاحتمل من التأويل ما نذكره فى هذا الفصل من الجواب عن القراءات الزائدة على ما في مصحف عثمان، وهذه جملة تكشفُ عن إبطال ضجيجهم وتهويلهم بخلاف عبد الله وأبى، وهذان الرجلان هما العهدة فيما يدّعى من خلافهما للجماعة وكثرة مخالفة مصحفيهما لمصحفِ الجماعة، وقد ثبتَ أنّه لا حجّة لهم في شيء مما يَرْوونه عنهما بما في بعضه إقناعٌ وبلاغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 (باب) ذكر ما يتعلقون به من الروايات عن عمرَ بن الخطّاب رضوان الله عليه والإبانةُ عن فسادِه وأما ما يروونَه عن عمر بن الخطاب من أنه قال: "لقد قُتِلَ يوم اليمامة قوم كانوا يقرؤون قرآناً كثيراً لا يقرؤه غيرُهم فذهب من القرآن ما كان عندهم "، فإنه أيضا من الأماني الكاذبة والترهات الباطلة، وممّا لا يذهبُ فسادُ التعلق به على ذي تحصيل، لأننا قد رَوينا فيما سلف من تظاهر أبي بكر وعُمر وجماعة الصحابة على جمعِ القرآن وعرضِه وتدوينِ عُمرَ له وعرضه عرضةً ثانيةً وضبطِه في الصحيفة التي خلَّفها عند ابنته حفصةَ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذه الناسَ بذلك وتعريفهم أنّه جميعُ الذي كان أنزلَه اللهُ سبحانَه ما هو أظهرُ وأشهرُ وأثبتُ من هذه الرواية، بل هو الثابتُ المعلوم من حاله ضرورةً فثبت بذلك تكذُّبُ هذه الرواية على عمر، وأنها لا أصلَ لها، وأقل ما في ذلك أن تكون هذه الرواية معارضةً بالروايات التي ذكرناها، فلا متعلق لأحد فيها ولا سبيل له إلى تصحيحها عن عمر. ثم يقال لهم: إن هذه الرواية لو صحَّت عن عمرَ لكانت محتملةً لتأويلٍ صحيحٍ غير الذي قدمتموه، وذلك أنّ قوله: "لقد قتل يومُ اليمامة قومٌ كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يقرؤون قرآناً كثيراً لا يقرؤه غيرهم، فذهب من القرآن ما كان عندهم ". يُحتمل أن يكون أراد به أنَّهم كانوا يكثرون دراسةَ القرآن وتلاوتَه والتهجدَ به والانتصابَ لقراءته في المحاريب وغيرِها في آناء الليل وأطراف النهار ويقدرون من ذلك على ما يثقُل ويتعذَّرُ على كثير ممن بقي من الأمّة، وإن كان منهم اليسيرُ ممّن يساوي من قُتل باليمامة من هذا الباب، ويكون قوله: "فذهبَ من القرآن ما كان عندَهم " محمولا على أنّه ذهبَ أكثرُ درسة القرآن وتلاوته وتركِ التهجد والابتهال به ما كان عندهم، وهذا هو الذي أرادَه وقصدَه إن صحَّ هذا القولُ عنه دون ذهاب شيء من القرآن على سائر من بقيَ من الأمَّة. وكيف يقولُ ذلك وهو يعلمُ أنّ القومَ الذين قُتلوا إنما أخذوا القرآن عن أبيّ وعبد الله وأمثالهما، وأئمتُهم باقون، أو أخذوه عن الرسول والرسولُ قد أقرأَه وحفظه عن أبيّ وعبد الله بن مسعود وستة من أمّته حفّاظ، وأنّ العادةَ مستقرّةٌ موضوعةٌ على إحالة انكتام أمر قرآن كثيرٍ وذهابِ حفظِه عن مثل من بقي من أمَّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وفيهم أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعلي وأبيٌّ وعبدُ الله بن مسعود وزيدُ بن ثابتٍ لولا غباوة من يظن أنّ في التعلُّق بمثل هذه الرواية شبهة، فوجبَ بما وصفناه بطلان هذه الرواية أو حملها على التأويل الذي وصفنا إن سلمنا صحتها يوما ونظرا. وأما ما يتعلّقون به في هذا الباب من الرّواية عن عمر بن الخطاب من أنه خطبَ وقال على المنبر: "أيّها الناسُ إئاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم فلقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نزلت وقرأ بها، ولولا أن يقول الناسُ زاد ابن الخطاب في كتاب الله، لكتبتُ فيه أو لألحقت في حاشيته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 والشيخُ والشيخة فارجُموهما ألبتَّة "، وأنّه قال في موقف آخر: "إنّ اللهَ تعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحقِّ وأنزلَ عليه الكتاب، وكان مما أنزل إليه آيةُ الرجم فرجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجَمنا بعده، ألا وإنّ آية َ الرجم في كتاب الله حق: "والشيخُ والشيخةُ فارجُموهما ألبتّة جزاءً بما قضيا من الشهوة نكالاً من الله، والله عزيزٌ حكيم ". وقولهم إنَّ هذا تصريحٌ منه بنقصان القرآن وسقوط آية الرّجم، فإنّه أيضاً جهلٌ من المتعقق به وذهابٌ عن الواجب، لأنّ هذه الروايةَ بأن تكون عليهم وحخة على فساد قولهم أولى من أن تكون دلالة لهم. وذلك أنّه لمّا كانت هذه الآية ُ مما أنزلَه اللهُ تعالى من القرآن لم يذهبْ حفظُها عن عمر بن الخطاب وغيره، وإن كانت منسوخةَ التلاوة وباقية الحكم، وقد زالَ فرضُ حفظ التلاوةِ مع النسخِ لها ولم تنصرف هممُ الأمّةِ عن حفظِ ما نزلَ ممّا تضمَّن حُكما خيف تضييعُه، وأن يحتجّ محتجّ في إسقاطه بأنه ليس من كتاب الله تعالى، فلو كان هناك قرآنٌ كثير منزلٌ غيرُ الذي في أيدينا ثابتٌ غيرُ منسوخٍ ولا مزالٍ فرضُه لم يجزُ أن يذهبَ حفظُه على عُمرَ وغيره من الصحابة، كما لم يجز أن يذهبَ عليهم حفظُ هذه الآيةِ الساقط فرضُ تلاوتها بالنسخ لها، بل العادةُ موضوعةٌ جاريةٌ بأنهم أحفظُ لما ثبتَ حكمُه وبقيَ فرضُ حفظِه وتلاوتِه وإثباتِه، وأنهم إذا لم يجز أن يذهب عليهم حفظُ القليل الزائلِ الفرض، لم يجزُ أن يذهبَ عليهم حفظُ الكثير الباقي فرضُ حفظه وتلاوته وإجزاء الصلاة به، وإذا كان ذلك كذلك كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 هذه الرواية من أدل الأمور على إبطال قولهم بسقوط شيءٍ كثيرٍ من القرآن وذهاب الأمة عن حفظه. والدليلُ على أن هذه الآية كانت محفوظةَ عند غير عمر من الأمّة قوله: "كنا نقرؤها"، وتلاوتُه لها بمحضرٍ من الصحابة وترك النكير لقوله والرد له. وأن يقولَ قائل في أيّام حياتِه أو بعده أو مواجها له أو بغير حضرته متى نزلت هذه الآية ُ ومتى قرأناها، والعادةُ جارية بمثل هذا في قرآن يُدعى إنزاله لا أصلَ له ويُدعى فيه حضورُ قومٍ نبلٍ أخيار أبرار، أهلِ دينٍ ونسكٍ وحفظٍ ولسنٍ وبراعة، وقرائح سليمةٍ وأذهانٍ صافية، فإمساكُهم عنه أوضحُ دليلٍ على أن ما قالَه وادّعاهُ كان معلوما محفوظاَ عندهم، وكذلك سبيلُ غيرهم لو كان هناك قرآن أكثرُ من هذا قد نزل وقُرىء على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه، ولا سيما مع بقاء رسمه ولزوم حفظه وتلاوته، وهذا واضح في سقوط قولهم. وأمّا ما يدلّ على أنّ هذه الآية منسوخة برواية جميع من روى هذه القصّة، وأكثر من تكلم في الناسخ والمنسوخ: أن هذه الآية كانت ممّا أنزلت ونُسخت فهي في ذلك جارية مجرى ما أنزلَ ثم نُسخ، وهذه الروايةُ حخة قاطعة في نسخ تلاوة الآية في الجملة، فإنها لمّا كانت قرآنا منزلاً حُفظت واعترفَ الكلُّ بأنها قرآن منزل، وإن خالف قوم لا يُعتَدُّ بهم في نسخها، فكذلك يجبُ لو كان هناك قرآن منزل غيرُ هذا أن يكون محفوظا لا سيّما مع بقاء فرضه وتجبُ الإحاطة به، وإن اختلفت في نسخ حُكمه وتلاوته لو اتفق على ذلك. ومما يدلُّ أيضا على أن آيةَ الرّجم منسوخةُ الرسم قولُ عمرُ بنُ الخطابِ في الملأ من أصحابه: "لولا أن يُقال زاد ابنُ الخطاب في كتاب الله لأثبتها"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ولولا علمه وعلم الجماعة بأنّها منسوخةُ الرسم لم يكن إثباتُها زيادةَ في كتاب الله تعالى، ولم يحسُن من عمرَ أن يقول ذلك، ومن يقولُ هذا في قراَنٍ ثابت التلاوة غير منسوخِ فإظهاراً لهذا القول، وتركُ أن يقولَ له القومُ أو بعضُهم كيفَ زيدَ في كتاب الله إذا أثبت ما هو باقِ الرسم والحكم. أوضحُ دليلِ على أنّه وإياهم كانوا عالمين بنزول هذه الآية ونسخِ رسمها. وبقاء حُكمِها، وكل هذا يُنبي عن أنّ القومَ يجبُ أن يكونوا أحفظَ لسورةِ الأحزاب التي رووا أنّها كانت توازي سورة البقرة ولغير ذلك ممّا أسقطَ من كتاب الله تعالى لو كان هناك شيءٌ منزلٌ غيرُ الذي في أيدينا، فبانَ بهذه الجملة كونُ هذا القولِ من عمرَ حجة عليهم وبرهانا على بطلان دعواهم. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 (باب) الكلام فيما يتعلقون به عن أبي موسى الأشعريِّ في هذا البابِ والدَّخل عليه فأمّا احتجاجُهم بما يَرْوونه عن أبي موسى الأشعري من أنّه قال: "والله لقد كنّا نقرأ سورةَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنّا نشبّهها ببراءة تغليظاً وتشديدا ونسيناها غير أنّي أحفظُ منها حرفا أو حرفين: "لو كان لابن آدمَ واديان من ذهبٍ لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوبُ اللهِ على من تاب ". وما رووه من قوله - أعني أبا موسى - "كانت الأحزاب مئتا آية وخمسا وسبعين) آية، فذهب منها مئتا آية، فقيل يا أبا موسى، ذهبت من سورةٍ واحدةٍ مئتا آية، فقال: نعم، وقرآنٌ كثير". وذُكر أن سورة "لم يكن " كانت مثل البقرة، فلم يبقَ منها إلا سبعُ آيات، فإنّها روايةٌ باطلةٌ والدليل على بطلانِها كلُّ شيء ذكرناه من إبطالِ مثل هذه الرواية عن عمرو وأبى بن كعب وهي مع ذلك معارضةٌ بروايةِ للكافةِ والدهماء الثبت الثقات عن أبي موسى أنّ هذا الذي بينَ اللوحين هو جميعُ كتاب الله الذي أنزله، وأنّه مرسومٌ على ما أنزل وأنّه كان يقرأه ويُقرئه ويُلقّنه من غير قدح فيه ولا وصفِ له بزيادةٍ ولا نقصان، وهذه الرواية أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بالثبوت والصحَّة من الروايةِ التي ذكروها، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلّقوا به، لأن من شأن الخبرين المتعارضين أن يتساويا، فإمّا أن يكون أحدُهما خبرُ واحدٍ والآخرُ تواتر، ونقلُ الكافة بأنّ هذا هو القرآنُ كلُّه تواتر، وجميعُ ما يُروى من خبر أبي موسى وعائشةَ وغيرهما أخبارُ أدلّةٍ ضعافٍ لا يُرتفع بها، فسقط ما قالوه. وعلى أنّ هذه الروايات لو صحَّت عن أبي موسى لاحتملت من التأويل الصحيح غير ما ذهبوا إليه، وذلك أن قوله: "والله لقد كنّا نقرأ سورةً على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كنّا نُشبِّهها ببراءةَ تغليظاً وتشديداً فنسيناها غير أنَي أحفظُ منها حرفاً أو حرفين " إلى آخر الخبر ليس بتصريح منه ولا يُقرُّه فكأنّهم ذهبوا عن حفظ ما لزمهم حفظه وبقي رسمُه، ولا بأنّ غيره كان لا يحفظُ من هذه السورة المنسوخة ما يذهبُ عليه حفظه، وإنما هو إخبارٌ منه بأنّهم كانوا يقرؤون سورة هذه صفتُها، فيمكن أن يكون ذلك صحيحا عنه، وأن تكون تلك السورةُ نُسخَ رسمُها فتشاغلَ أبو موسى بحفظ الواجب الباقي رسمُه عن حفظِها فلم يبقَ عليه منه إلا حرفٌ أو حرفان، وأن يكون غيرُه قد كان يحفظُها بأسرها أو كثيراً منها، وهو لم يصرّح بأنهم أسقطوها ونقصوها وأنّها باقيةٌ غيرُ منسوخة، وإنّما أخبر أنّهم كانوا يقرؤونها فقط، وهذا لا يدلّ على بقاءِ رسمِها ويدل على أنّ هذه الروايةَ إن صحّت فهذا قصدُه بذكرِ ما قالَه في قوله: "غير أنِّي أحفظُ منها لو كان لابن آدم". وهذا من جملةِ ما قد تظاهرت الأخبارُ بأنَّه منسوخ، فيجبُ أن يكونَ حكمُ ما نسيه في أنه منسوخٌ حكمُ ما ذكره معه، في ظاهرِ الحال وقد يجوزُ أن يذهبَ الناسُ عن حفظ ما يسقطُ فرضُ حقَه ونسخَ رسمُه، ولا يجوز في مستقر العادة ذهابُهم جميعا عن حفظ الباقي الرسم الثابت الفرض، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 احتملت هذه الرواية ما ذكرناه بطل أن تكونَ دلالةً على اعتراف أبي موسى بنقصان القرآن الباقي الرسم وذهابِ الأمَّة عن حفظ كثير منه. وأمَّا قوله: "إن الأحزاب كانت مائتي آيةٍ وخمساً وسبعين آيةً فذهبَ منها مئتا آية، وقولهم له: ذهبَ من سورةٍ واحدةٍ مئتا آية، وقوله: نعم وقرآنٌ كثير، فإن معناه أيضاً - إن صح - أنه نُسخ قرآن كثيرٌ من سورةِ الأحزاب ومن غيرها فذهبَ حفظُه لمّا سقطَ وزالَ فرضُ تلاوته، نُسخ رسمُه، وكذلك قوله: إنّ (لم يكن) كانت مثلَ البقرة فبقي منها سبعُ آياتٍ معناه: أنها نُسخَ أكثرُ رسمِها وبقيَ منه سبعُ آيات، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ توهمُهم، وظن من ظن بأبي موسى أنه اعتقدَ في نفسِه وباقي أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم قد ذهبوا عن حفظِ قرآنٍ كثيرٍ ثابت باقي الرسم، وهذا واضح في بطلان قولهم. وكذلك الجواب عمّا يَرْوونه في هذا الباب من نحوِ قولِ عبد الله "إنه كان إذا سمعَ الإنسانَ يقول مع فلانٍ القرآنُ كله يقول: ما يدريكَ لعلَّه قد ذهبَ قرآن، فما وُجدَ بعد" ونحوُ روايةِ عبدُ الله بنُ عباسِ عن أبي أنه سمعه وقد قال له رجل: "يا أبا المنذر إني قد جمعت القرآن، فقال له: ما يدريكَ لعله قد سقطَ قرآن كثير فما وُجد بعد". وأنّ عائشةَ رضوانُ الله عليها قالت: "واللهِ لقد أنزلت رضاعةُ الكبير عشراً ورجمُ المحصن فكانت في ورقةٍ تحت سريري، فلّما قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 تشاغَلنا به فدخلَ داجنُ الحيّ فأكله ". وروى الناسُ عنها أنّها قالت: "كان فيما يُقرأ من القرآن فسقط: يُجزئُ من الرضاع عشرُ رضعات، ثم نُسخت إلى خمس معلومات "، وفي بعض الروايات عنها أنّها قالت: "وكان ممّا يقرأ إلى أن ماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ". ونحوهما رُويَ عن أبي بكرٍ وعمرَ من أنه كان ممّا نزل: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ". ومن نحو ما رَويَ من قصة أهل بئر معونةَ وأن الله تعالى أنزلَ فيهم قرآنا فروى أنسُ بنُ مالك عن النبي صلى الله عليه "أنه دعا على الذين قتلوا أهلَ بئر معونة ثلاثين غداةً يدعو على رعل وذكوان وعُصَيَّة، عصت اللهَ ورسوله " قال أنس: "أنزل في الذين قُتلوا ببئر معونةَ قرآن كثير حتى نُسخ بعد، أن بلغوا قومَنا أنّا لقينا ربنا فرضيَ عنا وأرضانا". فجوابُنا عن كل ما يردُ من هذا الجنس أنه مما كان قرآناً رُفع ونُسخت تلاوتُه، وذلك ما لا ينكره ولا يُدفعُ في الجملة أن يكون الله سبحانَه قد أنزلَ قرآناً كثيراً ثم نسخَ تلاوتَه وإن كنَّا لا نتيقن صحة كل خبر من هذه الأخبار. وقرآن من هذا الذي رُوي أنّه نزل ثم نُسخ إذا لم يتّفق عليه المسلمون ولم يتواتر الخبر به تواتراً يلزم معه العلمُ بصحّته، ولم يدكَ على ثبوته دليل قاطع، وليس يُوقِفُنا في غيره كلُّ خبرٍ من هذه الأخبار يُوجِبُ عدمَ علِمِنا بأنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قد أُنزل في الجملة قرآنٌ ثم نُسِخَ ورُفع بقول أُبي وعبدِ الله، وما يدريكَ لعله سقطَ أو ذهبَ قرآن كثير، فما وُجِدَ بعدُ إنما هو أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يدَّعي أنه قد جمعَ ما أُنزلَ من ناسخِ القرآن ومنسوخِه، وقولُهم: "فيما وُجِدَ بعدُ" فما نجدُ اليومَ من يحفظُ جميعَ ما نُسِخَ وسقطت تلاوتُه، وهذا مما لا بدَّ منه، ونحوُه من التأويل لأجلِ ما ذكرناه من شُهرة أمرِ القرآنِ وظهورِ نقلِه. وقد يمكنُ أيضاً أن يكونَ أُبي وعبدُ الله بنُ عمرَ قد عَلِمَا من حال مَن قالَ أو كان يقول: "إنّي جمعتُ القرآنَ " أي: قد جمعتُه على جميعِ وجوهِه وحروفِه التي أُنزل عليها، فقالا له: وما يدريكَ لعلَّه قد ذهبَ أو سقطَ قرآنٌ كثير لم يوجَدْ بعد، أي: لم تجِدْهُ أنتَ ولا وقعَ علمُه إليك، أو لم تَجِدْ بعدُ مَن يحفظ جميعَ تلك الأحرفِ والقراءاتِ التي أُنزل القرآنُ عليها" وإن كانت ظاهرةً في الناس ومتفرقةً منهم، على ما سنبينُه فيما بعد، لأنّ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ كان يُقرِئُهم بما سَهُلَ عليه وعليهم، ولا نَعلَمُه أقرأَ رجلاً فيهم بجميعِ الأحرفِ السبعةِ وحفَّظَهُ إيّاها وأفردَه بها، لأن ذلك مما لا يجبُ عليه ولم يَرَهُ من مصالحِ الأمّة، أو لم يتَفقْ له أو لمن أخذَ عنه نشاطٌ لحفظِ جميعِ تلك الأحرف، وإذا كان ذلك كذلك صحَّ ما قلناه من التأويل الذي هو أَليقُ وأشبهُ أن يكونَ الصحابةُ قصَدَتْهُ وأرادَتْهُ مع ما ظهرَ من إقرارِها جميعا بأن ما بين اللوحتين هو جميعُ الثابتِ الرسمِ الذي أنزلَه تعالى. وأمَّا ما رُوِيَ عن عائشةَ رضيَ الله عنها في الرَّضاع فإنه أيضاً دليلٌ على ما قلناه، لأنّها قالت: "كان مما أُنزل ثم نُسِخَ بخمسٍ ". وقولُها: "نُسِخَ " ليس فيه دلالةٌ أنّه نُسخ بقرآن، لأنّه قد يُنسخ بوحيٍ ليس بقرآنٍ لقيام الدلالةِ على جوازِ نسخِ نفسِ التلاوةِ ونفسِ حكمِها بالسُّنّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وقد بيَّنا ذلك وأوضحناه في كتاب "أصول الفقه " بما يُغني الناظرَ فيه، وبينت ذلك أنها قَرَنَت نَسخَ العشرِ رضعاتٍ المحرّماتِ بنسخِ آية ِ الرجم، وهي قوله: (والشيخ والشيخة) ، وقد عُلِمَ أنَّها إنّما نُسِخَت تلاوتُها بسُنَّة، فبينَتْ ذلك لا بقرآن. وقولُها: "لقد كانت مكتوبة في ورقةٍ تحتَ سريري " يدلُّ أيضاً على ذلك، لأنّه دلالةٌ على قلّة الحفظِ له والاحترازِ والاعتناءِ بحِياطته، لأنّ عادتَهم في الثابتِ الباقي الرسم صيانتُه وجمعُه وحراستُه دونَ طرحِه في الظهورِ تحتَ الأسِرّة والرجْلِ وبحيثُ لا يُؤمَن عليه، فأما إذا نُسِخَ وسقطَ فرضُه جازَ تركُ حفظِه والاعتناءُ به، وجُعِلَ ما يُكتب فيه ظُهُورا يُنتفَعُ به ويثبِتُون فيها ما يُريدون. وقولها: "فدخل داجِنُ الحي فأكله " لا يدلُّ على أنه لم يكن عند أحد غيرها لم يأكله مِن عنده شيء". وقولُها: "ولقد كان يُقرأ إلى أن مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ممّا يُقرأ" تعني به أنه كان مما يحفظه كثير من الناس أقربَ عهدٍ بنسخِه، ولم تقُل بالخبر: "إنه كان مما يُقرأ" على أنه ثابت باقي الرسم، ونحنُ اليومَ نقرأ ذلك ونقرأ ما رُوِيَ لنا من المنسوخ على سبيل الحفظ والمذاكرةِ به، وكما يَقرأ كثير منا التوراةَ والإنجيلَ والزَّبوُرَ لا على أنه واجب علينا حفظُه وتلاوتُه، وإذا كان ذلك سقطَ أيضا التعلقُ بهذه القصة. فأمَّا ما ذكروه من القرآنِ المُنزَلِ في بئر مَعُونة فإننا لا نُنكِرُ أن يكونَ ذلك صحيحة قد كان، إلا أنه قد نُسِخَ وزال لأن نسخَه مرويّ، ولأنه لو كان ثابتا باقيا لوجبَ نقلُه وحفظُ الأمَّةِ له كأمثاله مِن القرآنِ الثابت، وقد قال أنس - رضي الله عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وهو راوي الخبر: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثَ حَراما زوجَ أمَ سُلَيم في سبعين رجلاً - وذكرَ قصتهم - وقال: فأنزِلَ علينا وكان مما نقرأ فنُسِخ: (أنْ بَلغوا قومَنا أنا لَقِينا ربَّنا فرَضِيَ عنا وأرضانا) ، وليس يجبُ على الأمَّةِ حفظُ ما نُسِخَ من القرآنِ وضبطُه وإلحاقُه بما ثبتَ منه وخلطُه به، ولا سيما إذا لم يكن مما وردَ في حكمِ ثابتِ أو زائلِ يَهُتمُ الناسُ بمعرفةِ تاريخِه وسببه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ أيضا التعلُقُ بهذه القصة، وقد قال اللهُ سبحانه: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . فنصَّ على أنه ينسخُ الآية َ ويُزيلها، وقد ينسخُ التلاوةَ ويُبقي الحكمَ، ويَنسخُ الحكمَ وتبقى التلاوةُ، وربما نُسخا جميعا. وقد ذَكر قوم أنّ المرادَ بقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي: نرفَعْها أو ننسِها، أي: نأمر بتركِ العملِ بها إلا أتينا بمثلِها أو خيرِ منها لكم أن نأتيَ بعبادةِ مثلِ التي تُرِكَت، ويكون الثواب على الاَتي أكثر، أو بأن يكونَ عملُ الناسخِ أخف والثوابُ متساوي، فيكون ذلك خيرا لكم. وقيل أيضا في معنى: (نُنْسِهَا) أن اللهَ جلً ذكرُه كان إذا أراد نسخَ الآية ِ أذهبَ بحفظِها عن قلوبِ جميعِ الحافظين للآية، فإذا أصبحوا عرضوا ذلك على الرسول وسألوا عنها فأخبرَهم أن الله قد نسخَها ورفعَ تلاوتَها، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 عندَنا صحيح غيرُ مستحيل، وإن كان مثلُه اليومَ متعذراً على وضع العادة مع كمالِ العقل، لأن اللهَ جل وعز إنما خرقَ العادةَ بحفظ ذلك على زمنِ الرسول، لكي يجعلَ ذلك آيةً له ودلالةً قاهرةً على صدقه في الناسخ والمنسوخ، وليردَّ بذلك قولَ مَن حكى عنه أنّ ذلك افتراءٌ من الرسولِ في قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، فهذا عندَنا أحدُ آياتِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. وقال قومٌ: إنما كان يذهبُ بحفظِها من قلوبِ جماعةٍ منهم يجوزُ على مثلِهم النسيان، فأمّا على سائرِهم فلا، فإذا عرض ذلك البعضُ الآيةَ خُبروا بأنها قد نُسِخَت عن الكل، فوقعَ عندَ ذلك الفتورُ من الجميعِ والإعراضُ عن التحفُظ، فعمَ النسيانُ جميعَهم. وقال آخرون: إنما كان نَفَرٌ منهم يَنسَونَ منها مواضعَ قد جرت بنسيانِ مثلِها فيضطربُ عليهم ضرباً من الاضطراب، فإذا عرضوا ذلك على الرسول خُبروا بأنها قد نُسِخَت عن الجميع، فأما أن ينسى النفرُ منهم جميعَ الآية ِ فإنه محالٌ ممتنِعٌ في مستقِرِّ العادةِ مع بقاءِ الفهم وكمالِ العقل. وقال آخرون: بل كان اللهُ تعالى يُذْهِبُ عن قلبِ كل واحدٍ منهم حِفظَ موضعٍ منها غيرِ الموضع الذي يذهبُ بحفظه عن قلبِ الآخر، فينسى كلُّ واحدٍ منهم غيرَ ما ينساهُ الآخر، وذلك جائزٌ في العادة، فإذا عرضوا ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لاضطرابِ جميعهم فيها على هذه السبيل خُبِّروا بأنها قد نُسِخَت عنهم، فاما أن يتفقَ لجماعتهم نسيانُ جميعِ الآيةِ أو نسيانُ موضع واحدٍ منها أو مواضعَ متساويةٍ فذلك محال. وكل هذا ممكنٌ عندَنا وإن كان في بعضه خرقُ العادة، لأنه آية للرسول. وليس الكلامُ في هذا الباب مما قصدنا له فكنا نُسهِبُ فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وإذا كان الأمرُ على ما وصفناه ثبتَ بهذه الجملةِ حصولُ العلم لنا بأنَ الله تعالى قد كان نَسخَ أشياءَ كثيرةً من كتابه بعدَ أن أنزلها على رسوله. فيجبُ حملُ جميعِ ما رُوِيَ عن الصحابةِ والتابعين من ذهاب قرآنٍ كثير وسقوطِه وقولهم لمن ادّعى جَمْعَ القرآنِ كله: "فما يدريك لعله قد ذهبَ قرآنٌ كثيرٌ لم يوجد بعد" على التأويل الذي وصفناه، وهذا بَينٌ في سقوط جميعِ ما يتعلَّقون به من هذه الألفاظ. وليس على جديدِ الأرض أجهلُ ممن يظُنُ أن الرسولَ والصحابةَ كانوا جميعا يُهملون أمرَ القرآن ويعدِلون عن تحفُظه وإحرازِه ويعوِّلون على إثباته في رقعةٍ تُجعَلُ تحتَ سريرِ عائشةَ وحدَها، وفي رقاعٍ ملقاةِ ممتهَنةٍ حتى دخلَ داجنُ الحى فأكلَها أو الشاةُ ضاع منهم وتفقَت ودرسَ أثرُه وانقطعَ خبره! وما الذي كان تُرى يبعثُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا التفريطِ والعجز والتواني وهو صاحبُ الشريعة والمأمورُ بحفظِه وصيانتِه ونصب الكَتَبةِ له، ويَحضُرُه خَلْقٌ كثيرٌ متبتلون لهذا الباب ومنصوبون لكتبِ القرآنَ الذي يَنزِل وكتبِ العهودِ والصلح والأمانات وغير ذلك مما نزل ويَحدُثُ بالرسول خاصةً وبه حاجةٌ إلى إثباته. وكان - صلى الله عليه وسلم - يَعرِضُ القرآنُ في كل عام، وعَرَضَهُ في العام الذي ماتَ فيه عرضتَين، ويقولُ لهم: "إذا أُنزِلَت الآية ُ ضعُوها في السورة التي يُذكَر فيها كذا" وينظمُ لهم الآيات ِ في السور، ويقول لعمرَ وقد قال له في آيةِ الرجم "الشيخ والشيخة": ألا نُثبِتُها يا رسولَ الله، قال: "لا أستطيعُ ذلك "، يعني: أنها قد نُسِخَت وأُزيلَ رسمُها وبقيَ حكمُها، وسنذكر في بابِ جمع أبي بكرِ القرآنَ جملةً من ألفاظِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إثباتِ ما نزل عليه من القرآن مما قاله لأبيٍّ وزيدِ بن ثابتٍ وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وقد كان له عليه السلامُ جماعة أماثل عُقَلاءُ أفاضل، كُلهم كَتَبةٌ له ومعروفونَ بالانتصابِ لذلك من المهاجرينَ والأنصار، فمَن كتبَ له من قريشٍ من المهاجرين: أبو بكر الصديق، وعمرُ بن الخطاب، وعثمان. وعلي، وزيدُ بن أرقم، خالد بن سعيد وذكر أهل السير أنه كان ائتمنَهُ حتى كان يأمرُه بطَي ما كُتِبَ وختمه، وكان أيضاً كاتبا لأبي بكرٍ وعمرَ ليستعمله على بيت المال. ومنهم أيضاً: الزُّبَير بن العوام، وحنظلة الأسَدي، وخالد بن أسَد، وجُهَيم بن الصَّلت بن مَحرَمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والعلاء بن الحضرميّ، وشرحبيل بن حسنة، وحاطبُ بن عمرو بن عبدِ شمس، وأبو سلمةَ بن عبدِ الأسد، ومُهاجِر بن أبي أُميّة، وحُوَيطِب بن عبد العُزّى، وأبو حذيفةَ بنُ عتبةَ بنِ ربيعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وأبان بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخو عثمانَ بن عفّان لأمه، وعمرو بن العاص، وعبد الله ابنه، وأبو سفيانَ بن حرب، ومعاويةُ بن أبي سفيان. وكتب له من ثقيفٍ: المغيرةُ بن شعبة، وحنظلة بن الربيع، ومات نفر فنسينا، يُذكر أن امرأته رثته فقالت: إن سوادَ الشَّعْرِ أودى به ... وجدي على حنظلةَ الكاتِبِ وكتبَ له - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار: زيد بن ثابت، وأمَرَه أن يتعلمَ كتابَ اليهود فتعلمه، فكان يكاتبُهم عنه، وكتبَ له عبدُ الله بن مَسْلَمة، وعبدُ الله بن رَواحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وأبو أمامةَ أسعدُ بن زرارة، والمنذر بن عمرٍ و، وأُبيُّ بن كعب، وكان - فيما ذكر - أولَ مَن كتبَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينَ قدمَ المدينة، وكان يكتبُ هو وأبو بكرٍ وعلي في آخرِ كُتُبِ رسولِ - صلى الله عليه وسلم - من العهود والنشر وكان: "كتبَ أُبى"، وكان أولَ من كتب ذلك، وكانا يكتبان في آخر كُتبِ رسول - صلى الله عليه وسلم -: "شهدَ عبدُ الله ابن أبي قحافةَ وعلي بن أبي طالب ". وكتبَ لرسولِ الله أيضاً: مالكُ بن العَجْلان، وأُسَيدُ بن حُضَير. ومَعْنُ بن عَدِي، وأبو عيسى بن جُبَير، وسعدُ بن الربيع وأوسُ بن خولي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وبشيرُ بن سعد، وأسدُ بن الصامِت، وسعدُ بن عُبَادة، وعبدُ الله بن أبي سلول، والسِّجِل، ومنه يُقال: (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) روى ذلك عبدُ الله بن عباس، وكتبَ له عامرُ بن فُهَيرةَ، وغيرُ هؤلاِ أيضا. وقد عُلِمَ أن هؤلاءِ جميعاُ وإن لم يكونوا كَتَبة ملازمين لحضرةِ الرسولِ فقد كتبَ الكلُّ أو كان ممن يُحسِنُ يكتب ما استكتبه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يمكنُ أن يكونَ الرسولُ ممن يسثقل إثباتَ ما نزل مِن القرآن حتى لا يحصلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 إلا عندَ عائشةً في رقعة تحتَ سريرها، وعندَ آخَرَ أكلته الشاةُ مِن عنده! لولا الجهلُ والغباوةُ! والرسولُ عليه السلامُ منصوبٌ للبيان وحِياطةِ القرآنِ وحفظِ الشريعةِ فقط، لا حرفةَ له ولا شيءَ يقطعُه من أمورِ الدنيا غيرُ ذلك إلا بنَصَبٍ يعود بنُصرةِ الدين وتوكيدِه، ويثبِتُ أمرَ القرآن ويُشِيدُه، وكيف يجوزُ في العادةِ أن يذهبَ على هؤلاءِ وعلى سائرِ الصحابةِ آيةُ الرضاع والرجمِ فلا يحفظها ويذكرها إلا عائشةُ وحدَها لولا قلةُ التحصيلِ والذهابِ عن معرفةِ الضروراتِ وما عليه تركيبُ الفِطَرِ والعادات. فقد بأن بجملةِ ما وصفناه من حالِ الرسولِ والصحابةِ أنه لا يجوزُ أن يذهبَ عليهم شيءٌ من كتاب الله تعالى قلَّ أو كَثرُ، وأنّ العادةَ تُوجِبُ أن يكونوا أقربَ الناسِ إلى حفظِه وحراستِه وما نزلَ منه وما وقع وتاريخهِ وأسبابهِ وناسخِه ومنسوخِه، وأن مَن حملَ قولَ قائلهم: "وما يدريك لعله قد سقط به أو ذهبَ قرآنٌ كثيرٌ" على أنه دُثِرَ وضاعَ ونُقِلَت عن سائر الصحابةِ وجميعِ الأمة لإعراضِها عن إعظامه وقلةِ رغبتها في حفظه وحراسته واشتغالِها عنه بغيره وما هو عندَهم أهمُّ منه: فقد صارَ من الجهلِ بالعاداتِ وما عليه أحوالُ الناس إلى أمرٍ عظيم. فوجبَ بذلك حملُ جميعِ ما رُوِيَ عن آحادِ الصحابة من هذه الأقاويلِ التي ذكرناها وما لم نذكره منها أيضا على التأويلِ والتفسيرِ الذي أوضحناه. دون ما يظُنه من لا علمَ له ولا تحصيلَ عندَه، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 (باب) تعلُّقِهم بما يروونه من مشاجرة الحسن بن علي عليه السلام لسعيد بن العاص رحمةُ الله عليه فأمَّا تعلقُهم في ذلك بما رُوي من مشاجرةِ سعيد بن العاص للحسن بن علي، وإن سعيداً قال للحسن: "أما إني قد أدخلت في كتابكم ألفَ حرف، وأسقطت منه ألفَ حرف، فقال له الحسن: فأنا مؤمنٌ بما أسقطتَ كافرٌ بما أدخلت، فقال له: ليس حيثُ يذهبُ إنما أردت إصلاح اللحن منه، فقال له الحسن: فأيُّ الثلاثة لَحَن: اللهُ تعالى الذي تكلَّم به، أم جبريلُ الذي نزل به، أم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلَّغه، " فإنه أيضاً مما لا تعلق لهم فيه من وجوه. أحدُها: إنَّ هذه الرواية باطلةٌ غيرُ ثابتةُ ولا تُعرفُ صحَّتُها باضطرارٍ ولا بنظرٍ واستدلال. والثاني: أنّها معارضةٌ بما نعرفُه ضرورةً من جمعِ عثمانَ لزيد بن ثابتٍ وعبد الله بن عباسٍ وعبد الله بن عمرَ وعبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ابن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وغيرِهم على كتابة المصحف. وأمرِه لهم بإثبات ما اختلفوا فيه على ما يقولُه النفرُ القرشيُّون، وقوله إنّه بلسانهم نزل وإنهم لم يختلفوا إلا في التابوتِ فقالَ القريشيون: التابوت. وقال الباقون: التابوه، وأنهم رفعوا ذلك إلى عثمان فأمَرهم أن يكتبوه بلغة قريش، وهذه روايةٌ ظاهرة مستفيضة، ولو كانوا قد اختلفوا في ألفي حرفٍ ساقطٍ وزائدٍ من جهة اللَّحنِ لوجبَ في مستقرِ العادةِ ظهورُ ذلك وإشهارُه واللهجُ بذكرهِ، لأنّ اللّحنَ في هذا الباب أعظمُ وأفحشُ وأخطرُ من اختلافِ لغتين سائغتين، فكيف ذهبوا عن حفظِ ألفي حرفٍ وحفظوا اختلافهم في التابوت والتابوه حتى شهروه وأظهرُوه. وإذا لم يجزُ مثلُ ذلكَ عُلم تكذُّبُ هذه الرواية على سعيدِ بن العاص. وإن الثابت عنه وعن العبادلة القرشيين ما وصفناه، وسنزيدُ ذلك شرحاً وبياناَ في الاحتجاج لصحّة صُنع عُثمان في جمعِ القرآن. والوجه الثالث: أن سعيداً إن صحَّت عنه هذه الرواية قد اعترفَ أنّه إنما أراد بالزائد والناقص اللحن، فإمّا أن يكون قَصَدَ إزالة إثبات حروفِ يصيرُ الكلامُ لحنا بإسقاطها، ونقصانِ حروف يصير لحنا بزيادَتِها، وأراد بذكر الحروفِ الحركاتِ والإعراب، وليس هذا من نقصان القرآنِ وذهاب كثيرِ منه في شيء، وإذا كان ذلك كذلك بأن أيضاً أنّه لا شبهة لهم في هذه الرواية ولا تعلُّق من كل وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الجزء الثاني (باب) تعلُّقِهم بالشَّواذِّ والزَّوائد المرويّةِ عن السَّلَف روايةَ الآحاد، وبيانُ فساد تعلُّقِهم بذلك فأمَّا تعلُّقُهم بما رواه أبو عبيدٍ وغيرُه من النَقلة عن كثيرٍ من السلف من قراءة كلمات وحروفٍ زائدة على ما بين الدفَتين، ونقصان حروفي وتقديمِ كلمةٍ على كلمة، وقولهم: إن هذه الروايات إذا كانت من روايتكم وجبَ أن تكونَ حجّةً عليكم ولازمةً لكم، فإنّه أيضاً باطل من وجوه: أوَّلُها: أنّه لا يجوز لأحد من الشيعةِ التعلُّق بشيءٍ منها ولا بشيءٍ مما قدمناه أيضا من الروايات التي ذكروها عن أبى وعبد الله بن مسعود وعمرَ وأبي موسى وغيرهم، لأن هذه الأخبارَ إذا لم تبلغ في الشهرة والظهور مبلغا تقوم به الحجّة، وتُلزمُ القلوبَ العلمَ بصحَّتها ضرورة، وكانت من روايات الآحاد، وكان هؤلاء الآحادُ الذين رَووها عن هذه الطبقةِ ليس هم علياً والحسن والحسينَ وفاطمةَ ولا عمارَ وسلمانَ وأبا الذر وقنبراً وهذه الطبقة من الشيعة، وإنما هم عبد الله بن عمرَ وعبد الله بن عباسٍ وعائشةَ وأبو هريرةَ وعبدُ الله بنُ مسعود وأبو موسى الأشعريّ. وهؤلاء إذا قالوا قولاً، وروى بعضُهم عن بعضٍ عن النبيِّ صلى الله عليه فهم فيه غيرُ ثقاتٍ مأمونين، لأنهم نواصبُ كفَّارٌ ضُلاَّلٌ غَشَمَة يجب عندهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 لعنتُهم والبراءةُ منهم، فضلاً عن العمل بأخبارهم والتوثيقِ لروايتهم، ولم يجُز أن يعتقدَ الشيعةُ نقصانَ القرآن بقول هؤلاءِ الكفَرَةِ الضلال، وإن كانوا عند غيرِهم عدولاً أبراراً. وكذلك حالُ من يُروى عنهم من شيعتهم وأتباعهم في أنهم غيرُ مأمونينَ ولا مبرئين من الكذب ووضْعِ الزور، فلا حجَّةَ في رواية أحد من هؤلاء وأتباعهم لنقصانِ القرآن ولا لغيرِه من الأمور فإنما يجب أن يعلمَ الشيعةُ ويُقطع على نقصانِ القرآنَ بخبرٍ يُعلمُ صدقُه ضرورة، أو دليلٍ قاطعٍ إذا كان خبرَ بارٍّ عدلٍ أو بخبر الإمام المعصوم من الكذب، فأمَّا التعويلُ على خبرِ من ليس بمعصومٍ من الشيعةِ كان أو من الناصبةِ فإنه لا حجَّةَ فيه. فإنّ قالوا: فنحنُ لسنا نعملُ في ذلك على رواية هذه الطبقة، وإنّما نعلمُ نقصان القرآنِ بنقل الشيعةِ وتواترِ خبرِهم عن الأئمة الهاديةِ من أهلِ البيت. أن القومَ قد أسقطوا من القرآنِ شيئاً كثيراً. قيل لهم: قد علِمناكم على خبرِ الشيعةِ هذا الذي تدعونه من قبلُ بما يُغني عن إعادته، وسنذكرُ فيما بعدُ ما يروونه عن أهل البيت من التُرهاتِ في هذا البابِ الذي لا أصلَ لها، وأمَّا نحنُ فإننا وإن كنا نوثقُ جميعَ من ذكرناه من السلفِ وأتباعهم، فإنّا لا نعتقد تصديقَ جميعِ ما يُروى عنهم، بل نعتقدُ أنّ فيه كذِبا كثيراً قد قامت الدلالةُ على أنّه موضوعٌ عليهم، وأنّ فيه ما يمكنُ أن يكونَ حقا عنهم، ويمكن أن يكون باطلاً ولا يثبتُ عليهم من طريقِ العلم البتاتُ بأخبارِ الآحاد، وإذا كان ذلك كذلك وكانت هذه القراءاتُ والكلماتُ المرويّةُ عن جماعة منهم المخالفةُ لما في مصحفِنا مما لا يُعلم صحتُها وثبوتها، وكنا مع ذلك نعلمُ اجتماعهم على تسليمِ مصحف عثمانَ وقراءتِهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وإقرائهم ما فيه والعملِ به دون غيره، لم يجبْ أن نحفلَ بشيءٍ من هذه الرواياتِ عنهم لأجلِ ما - ذكرناه. وَقَدْ رُوِيَ من هذه القراءات شيء كثير رواه أبو عُبَيدٍ القاسمِ بنِ سلامِ في كتابهِ المترجم ب "فضائل القرآن" عن رجالِه وغيرِه روايةً غيرَ ثابتةٍ عن أبي عُبيدٍ على ما ذُكر ولا عندَ غيرِه، فمن ذلك ما رُوي أن عمرَ بنَ الخطابِ كان يقرأ: "غيرِ المغضوبِ عليهم وغيرِ الضالين"، ومنه ما رُوي عن عبدِ الله بن الزبيرِ أنه كان يقرأ: "صِراط مَن أنعمتَ عليهم". ورُوِيَ أن ابنَ عبّاصٍ كان يقرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وأنهُ كانَ يقرأ، "وعلى الذينَ يُطوَّقونَه فدية"، يعني يكلفونهُ ولا يطيقونه، وأنهُ كانَ يقرأ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) "في مواسم الحج". وأنهُ كانَ يقرأ: "للذين يُقسمون من نسائهم تربص أربعة أشهر". وأن أبي بنَ كعبٍ كان يقرأ: (فَإِنْ فَاءُوا " (فيهن" فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وإن حفصةَ زوجَ النبى صلى الله عليهِ كانتْ تقرأُ وأثبتت في مصحفها الذي أمرت بكتابته: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) ، أن تكتب بعد ذلك "صلاة العصر"، وأن أبي بنَ كعبٍ كان يقرؤها: "والصلاةِ الوِسطى صلاةِ العصر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وأنّ عبدَ الله بنَ عباسٍ كان يقرؤها كذلك، وأنّ عبد الله بن مسعودٍ كان يقرأ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ "يَومَ القِيامَة") . وأن عمرَ كان يقرأ افتتاحَ آلَ عمران: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ "القِيامِ") ، مكانَ (الْقَيُّومُ) . وأن سعدَ بن أبي وقاص قرأ: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ "من أمَّه") . وإنّ ابنَ عبّاسٍ كانَ يقرأ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ "إلى أجل مسمى" فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . وأن أبي بنَ كعبٍ وعبدَ الله بن مسعود كانا يقرآن: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "وأنَا كتبتُها عليك") . وأن عبد الله بنَ مسعودٍ كان يقرأ: (بل يداه بسلطان) ، وأن سلمان كان يُسألُ عن هذه الآية: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) فقال لسائله: دع القسيسين في الصوامع والحِرَب، أقْرَأنِيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ِ ذلك بأن منهم صديقين رُهبانا. وإن ابنَ مسعودٍ كان يقرأ: (فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ متتابعات) ، وأنّ عثمانَ كتبَ في مُصحفه: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ "صحيحةٍ وصالحة" غَصْبًا) . وأن أنس بنَ مالكٍ كانَ يقرأ: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا "وَصمتَاً") . وأن عمرَ بن الخطاب كان يَقْرأ: (وإن كان مكرهم لِتزولَ منهم "الجياد") ، وأن عليَّا كانَ يقرأ: (وإذا أردنا أن نُهلك قريةً "بعثنا أكابرَ مجرِميها" فمكروا فيها فحق عليهم القول) . وأن ابن عباسٍ كان يقرأ: (حتى تُسلّموا على أهلها "وتستأذنوا") . وأن ابنَ مسعودٍ كانَ يقرأ: (فعلتُها إذاً وأنا من الجاهلين) ، وأنه كان يقرأ: "أنا أنظرُ في كتابِ ربي ثمَّ آتيك بهِ قبلَ أنْ يرتد إليكَ طرفُكَ"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وأن ابنَ عباس كان يقرأ: (بَلى أدرك علمُهم) ، وأنّ أبن بن كعبٍ قرأها: (أمْ أدرَك علمهم في الآخرة) ، على الاستفهام، وأنّ ابنَ جُبيرٍ كانَ يقرأ: (والصوفِ المنفوشِ) ، وأنّ عليًّا كان يقرأ: (والعصر ونوائب الدهر لقد خلقنا الإنسان في خسر وأنَّ فيه إلى آخر الدهر) . وأن أسماء بنتَ أبي بكرٍ قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ِ يقول: (ويل أمكم قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) . وأن ابن عباس قرأ: (إذا فتح الله النصرَ) ، إلى أمثال هذا مما يكثرُ ويطولُ تعداده. وقد قلنا من قبلُ إن هذهِ أخبارُ آحادٍ غيرُ مقطوع عليها ولا موثوقِ بصحتها، وإننا لا نجؤز أن نُثبت قراَناً بطريقٍ لا يوجبُ العلمَ ولا يَقطعُ العذر، وإنّ الشهادةَ على أدنى المؤمنينَ منزَلة بمثلِ ذلك، وأنهُ قد زادَ في كتابِ اللهِ تعالى ما ليسَ منهُ أو نقَصَ شيءٌ منهُ غيرُ مقبولة، فلا يجبُ الاعتدادُ بمثلِ هذهِ القراءاتِ على وجه. وقلنا أيضاً: إننا نعلمُ إجماعَ الأمةِ وسائرَ من رُويت عنهم هذه الرواياتُ من طريقٍ يوجب العلمَ تسليمَهم بمصحف عثمانَ والرضا به والإقرارَ بصحة ما فيه، وأنه هو الذي أنزلهُ اللهُ على ما أنزلهُ ورتّبه، فيجبُ إن صحت هذه القراءات عنهم أن يكونوا بأسرِهم قد رَجعوا عنها وأذعنوا بصحة مصحف عثمان، فلا أقل من أن تكونَ الرواية لرجوعهم إلى مصحفِ عثمانَ أشهر من جميعِ هذه الرواياتِ عنهم، فلا يجب الإحفال بها مع معارضة ما هو أقوى وأثبتُ منها. وقلنا أيضا: إنّه لا يجوزُ للشيعةِ التعلقُ بالنقصانِ من كتاب الله تعالى أو الزيادةِ فيه بهذه الأخبار، لأنّها عندهم أخبارُ قوم كَذَبة ضُلالٍ كُفّار، لا يؤمَن عليهم وضعُ الكذبَ والزيادةَ والنقصانَ في كتابِ الله، هذا لو تواتر الخبرُ عنهم بهذه القراءات، فكيف وهي في أدْوَن طبقاتِ أخبارِ الآحاد ِ الواهيةِ الضعيفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ومما يجبُ أن يُعتمدَ أيضاً عليهِ في إبطالِ كونِ هذه القراءاتِ كلها من كتابِ الله الواجبِ قراءتُه ورسمُه بين الدفتين، إجماعُ المسلمينَ اليومَ وقبلَ اليوم وبعدَ موتِ من رُويت هذه القراءاتُ عنه على أنها ليست من كلامِ الله الذي يجب رسمُه بين اللوحين، والإجماعُ قاضٍ على الخلافِ المتقدم وقاطع لحُكمِه، ومحرم للقولِ به لما قد بيَّنَّاه في كتابِ الإجماع من كتاب "أصولِ الفقه"، بما يغني الناظرَ فيه، فوجب بذلك إبطالُ جميعِ هذه القراءات. وقد يُحتملُ أن يكونَ جميعَ هذه القراءاتِ قد كانت منزَلةً على ما رويت عن هذه الجماعة ثم نُسخت الزيادةُ على ما في مصحفنا والنقصانُ منه وإبدالُ الحرفِ بغيره، والكلمةِ بغيرها، ونُهي القومُ عن إثباتها وتلاوتها، فظن كلُ من كان لُقن شيئا منها أنه باقيَ الرسمِ غيرَ منسوخٍ وعلمَ ذلكَ عثمانُ والجماعةُ ونهوهم عنه، ثم علم أصحابُ هذه القراءاتِ صحة ما دعاهم إليه عثمانُ من إزالة هذه القراءات ونسخِها، وأن الحجة لم تقم بها، ولم يتيقن من وجه يوجبُ العلمَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها فرجعوا عند التأملِ والتنبيهِ إلى قولهِ وأذعنوا بصحة مصحفه. ويحتملُ أن يكون جميعَ ما سُمع منهم أو أكثرَه أو وجد مُثبَتا في مصحفٍ لهم إنما قرأوه وأثبتوه على وجه التفسيرِ والتذكير لهم أو الإخبار لمن يسمعُ القراءة بأن هذا هو المراد بها، نحو قوله: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) ، (وهي صلاةُ العصر) ، وقوله: (فإن فَاءوا "فيهن") وأمثالُ ذلك فقدر من سمعَهم يقولون ذلك أو رآه مثبتا في مصحفهم، أنهم إنما قالوه وأثبتوه على أنه قرآن منزل، ولم يكن الأمرُ عندهم كذلك ولا قصدوا لكَتبه بمصاحفهم وجعلها إماما ومدرسةً للناس، وكانوا لا يثبتون فيها إلا ما ثبت أنه قرآن، دون غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وإذا احتملَ أمرُ هذه القراءاتِ جميعَ هذه الوجوهِ كان القطعُ على أنها من كلامِ الله تعالى الذي يجبُ إثباته وقراءته جهلاً وتفريطا ممن صار إليهِ ولا سيما مع العلمِ بحصولِ إجماعِ الأمةِ على مصحف عثمانَ رضوان الله عليه. وإذا كان ذلكَ كذلكَ بأنَ بهذه الجملةِ سقوطُ كل ما يتعلقون به من هذه الرواياتِ وأن العملَ في هذا البابِ على ما نقله المسلمون، خلَفٌ عن سلَف على وجه تقومُ به الحجة، وينقطعُ العذرُ عن عثمانَ والجماعةِ وأن عليا وغيرهُ من الصحابةِ كانوا لا يقرؤون إلا هذه القراءة ولا يرجعون إلا إليها. ولا يُحكَمون غيرَ هذا المصحف فيما نزلَ بهم، وبالله التوفيق.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 (باب) ما رُوِيَ من الآيِ المنسوخةِ ووجهُ القولِ فيها وأما تعلقهُم بما ذكروا من الآي المنسوخةِ من نحو قوله: "إنا أنزلنا المالَ لإقامةِ الصلاةِ وإيتاء الزكاةِ، ولو أن لابنِ آدم واديا لأحب أن يكون إليه الثاني، ولو كان الثاني لأحب أن يكونَ إليهما الثالث. ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم إلا الترابُ، ويتوبُ اللهُ على من تاب ". وما قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 في روايةٍ اخرى: "لو أن لابن آدم واديان من ذهب وفضةٍ لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ بطنَ ابنِ - آدم إلا التراب، ويتوبُ الله على من تابَ ". وما روي في رواية أخرى: "لو أن لابنِ آدمَ واديا مالاً لأحبَّ أن يكونَ إليه مثلُه،ولا يملاُّ* جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ويتوبُ اللهُ على من تاب ". وما رُوي أنه كانَ في مصحفِ عائشةَ رضوان الله عليها: "إن الله - وملائكتهُ يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، وعلى الذين يصُلَّون الصفوف الأولى". وما رُوي عن عمر بن الخطابِ وقوله: "كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفر"، ثم قال لزيدِ بن ثابتٍ أكذلكَ يا زيد، قال: نعم، وإنه قال - أعني عمر - لعبد الرحمن بنِ عوف: ألم تجد فيما أنزلَ علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أولَ مرًةٍ فإنا لا نجدها،، فقال عبدُ الرحمن: أُسقطت فيما أُسقط من القرآن "، وما روى من آية الرجمِ والشيخُ والشيخةُ فقد مضى عنه أجوبة. وجملةُ القولِ في ذلكَ أن جميعَ هذه الرواياتِ أخبارُ آحادٍ لا سبيلَ إلى صحتها والعلم بثبوتها، ولا يخيلُ لنا أن ننسبَ إلى أحدٍ من الصحابة ومَن دونهم إثباتُ قرآنٍ زائد على ما في أيدينا، أو نقصاناً منه بمثلها، ولا نضيفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 إليهم مِن ذلكَ أمراً غيرَ معلومٍ ولا متيفَن، مع أن نظمَ ما روى من قوله: لو أن لابنِ آدم، نظم خفيف يُباينُ وزنَ القرآنِ ويفارقه، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ سَقَطَ التعلُّق بهذهِ الأخبارِ واقتضى ما فيها أنها لو صحت لوجبَ القطعُ على أنه قرآنْ كان أنزلَ ونسخَ رسمه وأسقط، وحُظر علينا إثباته بين الدفتين وتلاوته على أنه قرآن ثابت. وكذلكَ سبيلُ ما رُوي عن عائشةَ من قولها: "كان مما أنزَل الله تعالى عشرُ رضعات معلوماتٍ يُحرمنَ ثم نُسخن بخمسِ رضعات ". ولعل قولها ثم نُسخن من كلامها، والصحيح في هذا أنه ليس شيء من هذه الروايات مستقراَ متيقَنا معلوماً صحته، فلا يجبُ الإحفال بها. وكذلك ما رُوي عن ابن عمر في قوله: "لا يقولُ أحدكُم أخذتُ القرآن كله وما يُدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل أخذتُ ما ظهر منه "، وما ذُكر في سورةِ الأحزاب وغيرها مما قدمنا ذكرَه، وقد كان القومُ يعلمون ويعلمُ أكثرُهم أن ما صحَّ من هذه الكلمات والقراءات التي ليست في مصحف عثمان مرفوعةٌ منسوخةْ فربما عبروا عنها بالنسخ، وربما قالوا سقطت، وقد رُوي: "أن عثمانَ بن عفان رضوانُ الله عليه مر برجلٍ يقرأ في المصحف: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) "وهو أبوهم" فقالَ عمر: لا تفارقني حتى يأتي أبي بن كعب، فأتى أبي بن كعب فقال عمر: يا أبي، ألا تسمعُ هذا كيف يقرأ هذه الآية، فقال أبي: كانت فيما أسقط. وقد عُلم أنه لا يجوز أن يذكرَ عمرُ وأبي وعائشة، وهذه الجماعةُ وأمثالُهم في الفضل والسابقة قرآنا كانوا يعلمون أنه كان أنزلَ النبي صلى الله عليه وأنه لم يُنسخ وترتفع تلاوته ولا أزيل رسمُه، فيتركوا قراءته وإثباته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 المصحف، وأخذ الناس بحفظه، ويعتذرونَ في ذلك بأنه مما أسقط. ويعنون بذلك أنه أسقطه الناسُ من المصحف، وتركوا حفظِه وإثباتَه، لأنه لو كان مثلُ هذا عذراَ في ترك حفظه وإثباته لكان لو أسقطَ الناسُ جميع القرآنِ على هذا المعنى أو ثلثيهِ ونصفهِ على اعتماد إسقاطه والذهاب عن حفظهِ وضبطه، أن يجب على من كان لُقنه وعرفه وحفظه أن يترُك قراءته وإثباته ورسمه لأجل أن غيره من الناس عصى الله وأسقطه، وهذا جهلٌ لا يظنه بالصحابة إلا غبيٌّ مغرور، فإن حالَ أدوَن المؤمنينَ منزلةً يرتفعُ عن هذه الرتبة، فكيف بالصحابة في فضلهم وجلالة قدرهم وشدة تدينهم، وما وصفهم الله تعالى به من أنهم خيرُ أمةٍ أُخرجت للناس، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهونَ عن المنكر، إلى غير ذلك مما وصفهم به، فبانَ بما وصفناه أنه لا تعلق لهم في شيءٍ مما حكيناه من كل وَجْدٍ وطريق. قال أبو عبيدِ عقِيب القراءاتِ الشاذة التي قدَّمنا ذكرَها، وهذه الآيات التي ذُكرَ أنها كانت مما أنزل ثم رُفع وأسقط، وقد ذَكر في بابين شيئا كثيراً قد ذكرنا بعضه، فقال أبو عبيد: " هذه الحروفُ التي ذكرناها في هذين البابينِ الزوائد لم يَروْها العلماء، واحتملوها على أنها مِثلُ الذي بين اللوحين من القرآن، ولا أنهم كانوا يقرؤون بها في صلاة، ولم يجعلوا من جَحدها كافراً بما يقرأ في الصلاة، ويُحكم بالكفر على الجاحد لهذا الذي بين اللوحين، وهو مما يثبتُ في القرآن الذي نسخه عثمانُ بإجماعٍ من المهاجرينَ والأنصار وإسقاطُ ما سواه، ثمَّ أطبقت عليه الأمة فلم يُختلف في شيءٍ منه، يعرفُه جاهلُهم كما يعرفُه عالمُهم، وتوارثه القرونُ بعضُها عن بعض، ويتعلمهُ الولدان في المكتب، وكانت هذه إحدى مناقب عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 العظام، ثم مرّ في ذكرِ أخبارِ ورواياتِ عن الأماثلِ في تفضيل عثمانَ في هذا الباب إلى أن قال: "فالذي ألفه عثمانُ هو الذي بين ظهراني المسلمينَ اليوم، وهو الذي يُحكمُ على من أنكر منه شيئا بما يُحكم على المرتدّ من الاستتابة فإن أبى فالقتل ". فأمّا ما جاءَ من هذهِ الحروفِ التي لم يؤخذ علمها إلا بالإسنادِ والرواياتِ التي يعرفُها الخاصةُ من العلماء دونَ عَوام الناس، فإنما أرادَ أهلُ العلم منها. أن يستشهدوا بها على تأويل ما بين اللوحين، ويكونُ دلائلُ على معرفةِ معانيهِ وعلمِ وجوهه، قال: "وكذلك قراءةُ حفصةَ وعائشة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (صلاة العصر) . وكقراءةِ ابنِ مسعودٍ: "والسارقونَ والسارقاتُ فاقطعوا أبدانهم"، ومثلُ قراءةِ أُبي بن كعب: (فإن فاءوا "فيهن") ، وكقراءة سعد: (فإن كان له أخ أو أخت "من أمه") ، وكما قرأ ابنُ عباس: (لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم "في مواسم الحج") . وكذلك قراءةُ جابر: (فإن الله من بعد إكراهِهِنّ "لهُنّ" لغفور رحيم) ، فهذه الحروفُ وأشباهٌ لها كثير قد صارت مفسرةً للقرآن، وقد كانوا يَرْوونَ مثل هذا عن بعض التابعينَ يعني بذلك استجازة كتابة التفسير مع الآية، ثم هل في كلامٍ هذا معناه من تضعيفِ هذه الروايات تارة، وأنها ليست توجبُ علماً، بأن ما رُوي قرآن منزل يجبُ إكفارُ من جَحدَةُ واستتابتهُ وإلا قُتل كالمرتد، ويكونُ بمثابةِ ما يعلمُ أنه قرآن، مما ثبت بين اللوحين، ومن أن العلماءَ إنما احتملوه إن صح عندهم على وجهِ التفسيرِ بهِ لمعاني القرآن، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ ثبتَ أنّ أبا عبيدِ يعتقدُ في هذه الأخبارِ ما يُعتقدُ من أنّ الحجَّة لم تقم بها، وأن معناها إن صحَّت بعض ما ذكرناه، وهذا رأيُ جميعِ أصحابِ الحديث وفِرق المسلمين الرواة لهذهِ الأخبارِ من مخالفي من يَدّعي الزيادة - فيه والنقصان منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ولو سُئل كلّ واحد منهم عما يرويه من هذه الحروف، لقالَ فيها وفي معتقِدِ إثباتها: والقطعُ على أنّها قرآنٌ أكثرُ وأغلظُ مما قالَ أبو عبيد، هذا معلومٌ من حال جميعهم، وإذا كان ذلكَ كذلك لم يكن في قولِ المخالفِ لنا أنّنا إنما ندل برواياتِ هذه الآثار عن رواتكم لإقامةِ الحجةِ بها عليكم، لأنّ هؤلاءِ الأئمةَ عندهم في هذه الروايات ما ذكرناه مما يُبقي اعتقادُ القطع على صحتها، ويوجبُ أنّ الصحيح غيرُها، لأنّهم قد قالوا صريحاَ: إنَّ الذي أجمع عليه المسلمونَ هو الذي بين اللوحين، وهو الذي يُحكم على جاحدِ شيءٍ بحكم المرتدين، وقالوا أيضاً: إنَّ ما أجمع عليه المسلمون هو الحق والصواب، وأنّ ما عداه مطرح مرذول لأنّنا نعلمُ ضرورةً من مذاهبهم اعتقادُ صحة الإجماع، واطراحَ ما عداه، فكيفَ تكونُ رواياتُهم لأخبارٍ يعتقدون هذا فيها حجةً عليهم لولا الغباوةُ والجهل، ولو كانوا قاطعين على أن هذه الحروف والكلمات قرآن لم يُعبأ بهم عند المخالف، لأنّهم عند المخالف قوم حشو طِغام، وعلى النّصب ومخالفة الرسول والإمام المعصوم، ولا معتَبر بقول من هذا دينُه ومذهبُه، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما يتعلقون بهِ من الاحتجاجِ بروايةِ مخالفِيهم من أهل الحديث سقوطاً بيّناً. ثم يقال لهم: إذا لم تكن هذه الأخبارُ مما قد بلغت حدّ التواتر، ولا مما يَلزَم قلوبَنا العلمُ بصحتها، وكان راويها عندكُم ممن يصحُ عليهمُ الغلطُ والإغفالُ ووضعُ الكذب فما الذي يدلُ على صحة هذه الإخبارِ وصدق رُواتها، فلا يجدون في ذلك متعلّقاً. فإن قالوا: لو جازَ أن يكونوا قد غلَطوا وتكذبوا في هذه الأخبار لجاز أن يكون جميعُ ما رُوي من الأخبار التي أجمع عليها المسلمونَ من إعلامِ الرسولِ وغيرها تكذُّبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 قيل لهم: ولم قُلتم إنه إن جاز عليهم الغلط، والاعتمادُ في هذه الأخبار جاز ذلك فيما أطبق عليه المسلمون من الإعلام وغيرها من الأخبار، فلا يجدون في ذلك متعلقا. ثم يقالُ لهم: إذا كانت هذه الأخبارُ أخبار آحاد لم تبلغ حدّ التواتر. ولم يدلّ عقل ولا سمع ولا شهادة من سائر الأمة على صحتها، ولا ادعي سماعُها من الرسول صلى الله عليه، وحضور إلقائها على جماعة يستحيل في العادة عليهم الإمساكُ عن إنكار كذبِ من يدّعي عليهم، ويضاف إلى مشاهدتهم وسماعهم، ولا غير ذلك من وجوهِ الأدلة لم يجب القولُ بصحتها، وليس هذه سبيلُ الإخبار التي يروونها الأمةُ قاطبةً ويعرِفها الخاصةُ والعامة، وسبيلُ ما دل على صحته بعضُ هذه الأدلة، فجمعُهم بينَ الأمرين دعوى لا برهان عليها ولا معها. ثم يقالُ لهم: فقد روى هؤلاء القوم من أهل الأحاديث كأبي عبيدٍ وغيره ممن ذكر هذه القراءات من طريقٍ هي أسلمُ من الطرق التي ذكروها. وعن قوم هم أثبتُ ممن رُوي عنه هذه القراءات، وبإسنادٍ هو أظهرُ وأشهرُ من أخبار الرؤية والشفاعة، ووقوع الطلاق في الحيض، وتحريم المتعةِ بعد إطلاقها، والمسحِ على الخفين وإيجاب غسل الرجلَين، وأن النبى صلى الله عليه لا يورث، وأن ما ترَكه صدقة، وأنه شهد للعشرة بالجنة، قال صلى الله عليه: "اقتدوا بالذين من بعدي أي أبي بكر وعمَر". وأنهما من الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 بمنزلة السمع والبصر من الرأس "، و "أنهما سيدا كُهول أهلِ الجنة". و"أنهما وزيراه من أهل الأرض "، وأنَّه "لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أن يتقدمَهم غيره"، وأن "لو كان بعده نبى لكان عمَر"، ولأن أبا بكرٍ خيرُ الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسَلين ممن مَضى في سالفِ الدهر ومَن في غابره"، ورووا في كل واحد ممن تكفرون أنتم وتشهدون عليه بالضلال والكفر من الفضائلِ والمناقبِ أمراً عظيما كثيراً، وقالوا كلهم: هذه الفضائلُ أظهرُ وأشهرُ عندَهم مِن نقل هذه الأحرف الشواذ، فيجبُ لذلك أن يوثقهم ويصدقوهم فيما رووه من هذا أجمع. ومتى قلتم إنهم قد كذبوا أو غلطوا ووهموا في جميع ما رووهُ من هذهِ الأخبارِ وجب على اعتلالكم أن لا تأمنوا أن تكون جميعُ الأخبارِ التي أطبق عليها المسلمون من إعلام الرسل وغيرها كذباً وزوراً، وأن لا تثقوا بصحة خبرٍ ألبتَّة، وهذا ما لا فصل لهم فيه، وقد بينا فيما سلف وسنبين في باب الكلام في جمع عثمانَ المصحفَ وأخذهم بالقراءات الثابتة أنه لا يسوغُ إطلاقُ ما روي من روايات الآحاد، ومن وجه لا يوجبُ العلم بما يقطعُ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 أنه قرآن، وخلطِ المعلومِ المتيقّنِ من ذلك بالمجهول، وأنّه أَجلبُ الأمور لإدخال اللّبس والشكوكِ في المصحف، وأن يثبت كلّ أحد فيه ما يريد ويوقن مما ورد هذا المورد من القرآن والقراءات، وأن يدّعي أنه أثبت من الحمدِ والبقرةِ وآل عمرانَ وذلك من الفساد والتخليلط ما لا خفاء به. وسنوضحُ أيضاً فيما بعدُ أنه لا يجوز إثبات شيءٍ من هذه القراءات في المصحف على حكم الظاهر، والعملُ بخبر الواحد دُون القطع على أنه قرآن، وأن ذلك من أدعى الأمور إلى خلط الصحيحِ بالفاسد والسليم بالسقيم. وفتح دعاوى الملحدين بأنَّ كلَ ما بين الدفّتين ثابت على طريقة. واحدة، وأنّه معلوم، أو أن يدّعوا أنه كلّه غيرُ متيقّنٍ ولا معلوم، أو أن يقولوا: ما نعرفُ ما قامت الحجةُ به مما لم يَقُم ولا المعلومُ منه ولا المجهول، وأنّ ما أدى إلى ذلك وسهّل سبيله وجبَ منعه والحظر له ونكشفُ ذلك يما يوضحُ الحقّ إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ( فصل ) ومما يدلُ عملى أنه جميع هذه القراءات، والقرآن الذي يُدّعى إنزالهُ والكلمات الزائدة ليست بمثابة القرآن المتيقن المعلوم، إجماعُ الأمةِ على أن من جحد الحمدَ والبقرةَ أو بعض القرآن، وقال: إنها ليست بقرآن، أو قال: لستُ أدري أنها قرآن أم لا، وجبَ إكفارهُ والحكمُ بردّته وخروجه عن جملة المسلمين، ولا سيّما إذا كان ممن ينسبُ إلى العلم وحفظ القرآن وسماع النقل والأخبار، وأن من جحد قوله: (وهي العصرُ) ، (والسارقُ والسرقةُ فاقطعوا (أبدانهم)) ، (ويأخذُ كل سفينة (صحيحةٍ) غصبا) ، (وأن تبتغوا فضلاً من ربكم في (مواسم الحج)) ، (والشيخُ والشيخةُ، ولو أن لابن آدم وادٍ من ذهب) ، (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفْر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) ، وأنكر أن يكون ذلك قرآناً، وقال: إني لستُ أدري أقرآن هو أم لا،، وقال: أقرأهُ كما رُوي على الظاهر دون القطع عليه، لم يكفُر بذلك ولم يكن خارجاً عن جملة المسلمين باتفاق، فوجب لذلك جهلُ من اعتقد أنّ هذه الشواذّ جارية في ظهورها وثبوتها وحصولِ العلم بها، مجرى الحمدِ والنمل والكهف، وبعض سور القرآن، وثبت بذلك افتراقُ الأمر فيهما. فإن قالوا: ولو لم تكن هذه الكلماتُ والأحرفُ الزائدةُ قرآنا، ولا من سبيل يوجبُ أن يكون من أدخلهما في القرآن واعتقد أنها منه كافراً، وبمثابة من أدخل (قِفا نبك) ، (وألا هُبّي) ، (وودعّ عُميرةَ) في القرآن واعتقد أنّها منها، فلما لم يكن ذلك كذلك، وجب أن تكون هذه الكلماتُ من القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 يقال لهم: لا يجبُ بما قلتم، لأن هذه الأمورُ وإن لم نقطع ونعلمْ أنها قرآن من عندِ الله، وكان الدليلُ قد قام على أنها ليست من القرآن، فإنه قد روي روايات الآحاد أنَّها قرآن منزل، وقال بعضهم: قد نُسخ ذلك. وقال آخرون: بل هو ثابت فصارت هذه الرواياتُ شُبهةً لمن ظن أنها قرآن إذا خَفي عليه الدليل، على أنه لا يجوزُ إثباتها وإلحاقُها بالثابت المعلوم، وصار ذلك على ضربٍ من التأويل الذي قد غُلط فيه، وإن لم يقصِد الجهلَ والغباءَ فلم يجب إكفاره، ومن قال ذلك في شعر امرئ القيس، وبعض كلام الله فلا تأويلَ ولا شبهة، فوجب إكفارهُ وافترقت الحال في ذلك. فإن قالوا: فكذلك لا يحبُ إكفارُ من جحدَ أن تكون الكلماتُ الزائدةُ من القرآن، وأنكرَ ذلك، وأن يكون بمثابة من جحدَ الحمدَ وثبتْ المتفق بغيرٍ خلاف على أنها قرآن، لأن هذه الكلماتُ الزائدةَ لم تتفق الأمةُ على أنّها قرآن منزل ولا تواترَ الخبرُ بكونها قرآنا، ولا قامت بذلكَ حجة، وإن رويت الأخبارُ الكثيرةُ في أنها قرآن، وليس كذلكَ سبيلُ الحمد وثبت بحصول الإجماع والتواتر على أنهما قرآن، وزوالُ الريبَ والشكوك في ذَلك. يقال لهم: فقد صرتمُ لنا إلى ما أردناكم عليه، وأخبِرنا بصحته من أقرب الطرُق، لأنكم لمّا طالبتمونا بجعلِ هذه الكلمات من القرآن لموضعِ هذه الروايات، قلنا لكم: لا يجبُ ذلك لأنّه لها اتفاق من الأمة حصل على أنها من القرآن ولا تواترَ الخبرُ بذلك ولا عُلم ضرورةً من دينِ الرسول. وليس كذلك سبيلُ الحمد وآلِ عمران، وإنما هي روايات جاءت مجيء الآحاد التي لا توجبُ علماً، ولا تقطعُ عذراً في إثباتها، وأنَّه لا يجبُ إثباتُ ما هذه سبيله، فقلتم في جواب ذلك: إن ساغت لكُم هذه الدعوى في هذا القرآن ساغ مثلُها في دعوى ظهور الرسل والإعلامِ من جميع ما رُوي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الأحكام، وأجبنا عن ذلك بما قطعَ شغَبكُم، وأنتم الآن قد التجأتُم عندَ حيزِ النظر وتحقيق الأمرِ إلى الاعتراف والإذعان بأن حال الروايات الواردة بهذه الأحرف الشواذ والكلمات الزائدة في أنها غيرُ مقطوعٍ على صحتها، ولا مما ظهر أمرُها واتُفق عليها، فوجب الاعترافُ بأنها قرآنٌ منزلٌ حال الرواية بسورة ألهاكم، والعصر، وهكذا يفعلُ الله سبحانهُ بمن حاول الطعن في الدين والقَدح في أئمةِ المسلمين وإيقاعَ الشكوك واللبس في التنزيل. دليلٌ لهم آخر: وقد استدلّ قومٌ منهم على تغيير الأمة للقرآن، وفساد نظمه وتحريفه والنقصان منه والزيادة فيه بما رُوي عن النبى صلى الله عليه أنهُ قال: "لَتسلُكُن سنَنَ الذين من قبلكم حَذوَ النعلِ بالنعل، والقُذة بالقُذة حتى إن أحدهُم لو دخل جُحر ضبٍ لدخلتمُوه، قيل يا رسولَ الله: اليهودُ والنصارى، قال: فمن إذن، ". قالوا: وقد صح أن اليهود غيرت كتاب الله وحرفتهُ ونقصت منه أشياء كانت فيه، وزادت فيه أشياء ليست منه، وأن النصارى أيضا حرَّفت الإنجيل وغيرته وأفسدته، بخلط ما ليس منه وإسقاط ما هو منه، وقد خبره الله تعالى بذلك من أمرهم، فقال تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) . وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) . وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 فنصُ هذه الآي على تغيير أهل الكتاب لكتابهم وزيادتِهم فيه ونقصانِهم منه، وإذا ثبت ذلك وصح أن الرسول قد ختر عن سلوك هذه الأمة لسنَنَهم في جميع ما كانوا عليه، وجب القطعُ على أن فيهم من غيّر الكتاب، وأحال نظمَه وقصدَ إيقاعَ التخليط والإلباس فيه، وساوى في ذلكَ مَن سبقه من أهل الكتابين. يقال لهم: لا تعلق لكم فيما ذكرتُم من وجوه: أولُها: أنكم قد علمتم على القطع بأن الأمة قد غيّرت القرآنَ وبدّلته ونقصت منهُ من جهة هذا الخبر، وهذا عجز منكم وتقصيرٌ بيّن، لأجل أن هذا الخبر من أخبار الآحاد التي لم نعلم صحّتها ضرورةً ولا استدلالاً، ولا هوَ مما تلقته الأمةُ بالقَبول، ولا دل عليه بعضُ الأدلة الذالة على صحة الأخبار، وإذا كان ذلك كذلك، لم يجُز أن نَتيقَّنَ ونقطع على أن الأمة أو بعضها قد غيّرت القرآن وحرفته من جهة خبر لا سبيل إلى العلم بصحته. لأننا إذا لم نعلم صحته كنّا عن العلمِ بتضمنه أبعدَ وهذا مما لا خلاف فيه. أعني أنّه لا يجوزُ إثباتُ أصلٍ يُقطع به على الله تعالى بخبرٍ لا يُعلمُ بثبوته. ولا نقطعُ بصحته، وإذا كان ذلك كذلك سقط تعلقكم بهذه الرواية سقوطا ظاهراً. فإن قالوا: هذا الخبرُ من أخبار التواتر، بُهتوا وكابروا وسقطت مؤونةُ كلامهم، وادُّعيَ في كل خبر ينكرونهُ ويجحدونهُ أو يقفون في صحته أنّه خبرُ تواتر، ولا سبيل إلى دفع ذلك. وإن قالوا: قد قام الدليلُ على صحة هذا الخبرِ وإن قصَر عن حدّ التواتر؟ قيل لهم: وما ذلك الدليل، فلا يجدون إلى ذكر شيءٍ سبيلا، ثم يُقالُ لهم: أنتم تجحدونَ خبرَ الرؤية والشفاعة، أو كثيرٌ منكم، وتجحدونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم ممن تتبّرءون منه من الصحابة، وتكذّبون ما رُوي من قول النبيّ صلى الله عليه لمعاذ: "بِمَ تحكم، إلى قوله أجتهدُ رأيي وأحكم "، وقوله صلى الله عليه عقِب ذلك: "الحمدُ لله الذي وفّقَ رسول رسول الله ". وقوله: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب فلهُ أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فلهُ أجر". وقوله لعمرو بن العاص: "اجتهد، فقال: أجتهد وأنت حاضرٌ، قال: نعم ". وما رُوي من غسل الرجلَين، والمسح على الخفّين وأمر الرسول بذلك، وأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سها وقال لذي اليَدين عند قوله: "يا رسولَ الله أقُصرت الصلاةُ أم نَسيت، قال: كلّ ذلك لم يكن، وقوله: "إنما أنا بشرٌ مثلُكم أنسى لأسُنّ ". وغير هذا من الأخبار الظاهرة المشهورة عند الثّبت الثقات مع إطباق سلف الأمَّة وجميع الفقهاء، ومن خالفكم من المتكلمينَ في سائرِ الأعصارِ عليها، واعتقادُهم لثبوتها، فكيف يسوغُ لكم التعلقُ في هذا الأصل العظيم بمثل هذا الخبر الذي لا يجري مجرى ما أنكرتموه، ولا يقاربهُ ولا يدانيهِ في الصحة والثبوت، ولولا القحةُ وقلة الدين لم تقولوها في مثل هذه الأخبار الثابتة المعلومةِ هذهِ من أخبارِ المروانية وشيعة معاوية ووضعِ ( ... ) والحنابلة، وتدّعون في مثل خبركم الذَي تعلقتم به أنّه من الأخبار الثابتة التي يجبُ أن يُقطعَ من جهته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 على تحريف كثيرِ من الأمة للقرآن وتغييره، نعوذُ بالله من الجهل والعناد وقصد التمويه والإلباس. ثم يقالُ لهم: لو سلمنا لكم صحة هذا الخبر ووجوب القطع على ثبوته لم يكن لكم فيه متعلّق من وجوه: أحدها: أنه لو قال صلى الله عليه: "لَتَسلُكُن سنَنَ الذين من قبلِكم حَذوَ النعلِ بالنعل، والقُذة بالقُذة إلا في تَغيير القرآن، وإفساد الدين، وعبادة العجل والمسيح، وكذا وكذا" لصح ذلك وجاز، ووجب أن يُعتقدَ عمومُ سلوكِهم لسنَنَهم إلا فيما استثناه، وإذا كان ذلك كذلك، وكان قد ورد عنه ما هو قائم مقام هذا الاستثناءِ وأبلغَ منه وجب الحكمُ بما قالهُ من ذلك، وقد وردَ عنه صلى الله عليه من الجهات المختلفة والطرق الواضحة المشهورة عن الثبت ورُوداَ متواتراً على المعنى، وإن اختلفَ اللفظ: "أن الأمة لا تجتمعُ على ضلال ولا خطأ"، فوجب أن تكون ما شهدت بأنه حق أو باطل، فإنه على ما شهدت به، فرُوي عنه صلى الله عليه أنه قال: "سألتُ الله تعالى أن لا يجمع أمتى على ضلالِ فأعطانيها". وأنه قال: "أمتي لا تُجمع على خطأ، ولا تزالُ طائفة من أمتي على الحق حتى يقاتلوا الدجال". وفي خبرِ آخر: "حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك". وفي خبرِ آخر: "على الحق لا يضرهم خِلافُ من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وأنه قال: "فمن سرَّه بحبوحة الجنة فليلزمِ الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد". وفي رواية أخرى: "فإن يد الله على الجماعة، لا يبالي الله شذوذ من شذ"، إلى نظائر هذه الأخبار التي يطول تتبعها، وقد ذكرناها وبينا صحَّتها وثبوتها وتسليم الأمّة لها وتواترها على المعنى وإن اختلفت ألفاظها. وأوضحنا فساد جميع ما يعترضون به عليها في كتاب الإجماع من كتاب "أصول الفقه الصغير" بما يغني متأمله والناظر فيه. وإذا كان ذلك كذلك وكنا قد بيّنا فيما سلف، وسنبيّنُ أيضا فيما يأتي إجماعَ الأمة في عصر أبي بكر عند جمعه للقرآن، وفي زمن عثمان وجمعه الناسَ على القراءات والأحرفِ الثابتة، أن ما بين اللوحين من القرآن الحاصلِ في أيدينا هو جميعُ كتابِ الله الذي أنزله على رسوله، ومرسومُ تأليفهُ الذي ألف عليه، ومقروء على وجه ما أُنزل عليه، وجبَ لذلك أن تكون صادقةً مُحقة فيما شهدَت به من هذا الباب، لإخبار الرسول عنها بأنّها لا تُخطىء وتضِلُّ ولا تُصدقُ كذباً، ولا تكذبُ حقاً وصدقا، فوجب لأجل ما وصفناه حملُ قوله: "لتَسلُكُنّ بكم سنَنَ الذين من قبلكم على سلوك سنَنَهم فيما عدا تغيير المصحف وتحريف الكتاب" لأجل هذا الإجماع وشهادة الرسول والأمة على أنّه محفوظ إلى يوم القيامة، وأنّ قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 و (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، دالاَ على ذلك ومقتضِ له، فيجبُ الأمانُ من تخوُّفِ تغيير وتحريف للكتاب، لا تقومُ الحجّةُ بفساده ويوجبُ إحباط صحيحه بفساده. فإن قالوا: ما حصل على هذا إجماع، لأنّ عليًّا وشيعته وأُبيًّا وعبدَ الله ابن مسعود لم يتفقوا على ذلك، فقد أوضحنا فساد هذه الدعاوى وبيّنا دخول عليّ عليه السلام في الجماعة، وتحكيمه مصحف عثمان وقراءَته له وإقرائه إيَّاه، وتسليمهم كذلك، وأنه لا معنى لدعواهم التقية في ذلك، ولا صحة عليه، وإذا كان ذلك كذلك وجب استثناءُ هذا القدر من سُنن أهل الكتاب ومنعُ وقوعه من الأمة. فإن قالوا: الإجماعُ أصل يقطعون بصحته على الله تعالى، وهذه الأخبارُ التي روَيْتُموها عن الرسول في تصحيح الإجماع، ونفي الخطأ عن أهله أخبارُ آحادِ غيرُ ثابتة. قيل لهم: هذه الأخبارُ متواترة ثابتة، ومتلقاة بالقبول ومتواترة على المعنى، ومن أكثر شيءٍ رُوي عن الرسول، فلا معنى لجحدها ولا أقل من أن تكون على كل حال أثبتَ وأظهرَ من خبَركم الذي تعلقتم به، فلا معنى للغطرسة والمدافعة، ثم يقالُ لهم: إن صحّ ما قلتموه فصنيعُنا في هذا الكتاب كصنيعِكم، لأنكم أنتم استدللْتُم على أصلِ تقطعون به على الله تعالى بخبر واحد، فإن كنّا قد أخطأنا فخطأنا في ذلك مثلُ خطئكم، وإن كنتم على صوابِ فيما تعلقتُم به فلا ينبغي أن ترفعوا عنه النظر وتعيّروا به خصومكم. وفي بعض ما ذكرناهُ ما يُسقط تعلقكُم بالخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ومما يدل على أنّ تأويلَ الخبر إن صح بما قلناه،، وأنه لم يقصِد ذهابَ القرآن وتغيير الأمة له وتحريفه وتضييع أحكامه وحدوده، علمنا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد كان يخبرهم بآيات الساعة وأشراطها، وعن الحوادث التي تحدثُ بينهم، والحروب،، ويحذرُ من التسرع فيها ويكررُ عليهم أمثالَ هذه الأقاويل، فلو علم صلى الله عليه أنّ الأمة ستضيعُ القرآنَ وتغيرهُ وتبدله لوجب أن يخبرهم بذلك ويعرفهم أنه من إحداثهم، ومما يخافه عليهم، فلمّا عدل عن هذا إلى إخبارهم بما يَدل على أن القرآن أبداً هاد، وأن التمسّكَ به والرجوع إليه وحمل السّنن والآثار عليه لأنه باقٍ فيهم، وإن خاف عليهم عدم الانتفاع به كما عدمت اليهودُ والنّصارى الانتفاع بكتابهم، فما أغنى عنهم شيئا، دل ذلك على ظهور أمر القرآن أبدا، وقيامِ الحجة به وانقطاع العذر فيه. وقد روى التاسُ على طبقاتهم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته على الناس في الحرم في حِجة الوداع، ويوم الجمع الأعظم بعد أن عرفهم حُرمة الشهر والبلد، وتحريم دمائهم وأموالهم، وأمرهم بأمور ونهاهم عن أمور: "قد خَلَّفتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسُنّتي ". ولو علم أنّ كتاب الله سيذهبُ ويصيرُ من التغيير والفساد إلى حال لا تقومُ به الحجة لم يكن للأمر بالرجوع إليه والتمسُّك به وجه، ولكان يجبُ أن يخبرهُم بأن الكتاب سيذهب، فلا يبقي معهم مَا يرجعُون إليه ويهتدون به، وكيف يكونُ ذلك كذلك وهو يحذّرهم في هذه الخُطبة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الكذب عليه ويحثهم على الأداء عنه كما سمعُوا، ويأمرهُم بضبطه وأخذ العلم عنه قبل فوته، فيقول: "خُذوا العلم قبل رفعه، وقبل ذهابه " في نظائر هذه الألفاظ سنذكرُها فيما بعدُ إن شاء الله، ولا يخبرهم في شيءٍ من هذه الأخبار بذهاب القرآن، ولا ضياع شيءٍ منه ولا بتحريفٍ وتغيير يقعُ فيه، بل يأمُرهم بالردّ إليه والعمل عليه، وفيِ هذه الخُطبةِ قال صلى الله عليه "نَضَّر الله أمراً سمع مقالتي فحفظها وأداها فرُبَّ حامل فقه غير فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقهُ منه ". وفي بعض الروايات: "فأداها كما سمعها فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقهُ منه ". ويحذرهم من الكذب عليه، ولو علم أن القرآن سيُغير ويُبدل لأخبرهم بذلك وحذرهم أيضا منه. وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال: «سَيَأْتِيكُمْ عَنِّى أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا جَاءَكُمْ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِسُنَّتِى فَهُوَ مِنِّى وَمَا جَاءَكُمْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِسُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى» (1) . ورُويَ عن ميمون الحُضرمي أن أبا موسى الغافقى سمع عُقبة بن عامر الجهني يُحدثُ على المنبر عن النبي صلى الله عليه أحاديث، فقال أبو موسى: إن صاحبَكم لحافط أو هالك، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان آخرُ ما عَهِد إلينا أن قال: "عليكُم بكتابِ الله وسنتي، وسترجِعونَ إلى قوم يُحدثون الحديث عنِّي فمن قال علي ما لم أقلُ فليتبَوّأ مقعده من النار، ومن حفظ شيئا فليحدِّث به.   (1) صَالِحُ بْنُ مُوسَى ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وروى الأعرجُ عن عبد الله بن بُحينه قال خطب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما أتاكم عني يُوافقُ القرآن فهو عني، وما خالف القرآن فليس عني " فإذا كان صلى الله عليه قد أمرهُم بعرض حديثه على القرآن، فكيف يُظن به أنه قد علم من حالِهم تضييعَه وتغييرَه وتحريفه وبلوغه إلى حدّ لا يجوزُ أن يدين به موافقة الحديث له أو مخالفته إياه، فكل هذا يدل على أنه لم يقصد بقوله: "لتَسلُكُن سنَنَ الذين من قبلكم" تغير القرآن وتحريفه وتضييعه. وروى وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعدِ عن زياد بن لبيد قال: ذكر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: "وذلك عند أوانِ ذهاب العلم. قال: قلتُ يا رسول الله كيفَ يذهب العلمُ ونحن نقرَأ القرآن، وفي رواية أخرى: وفينا كتاب الله نُقرئه أبنائَنا ويقرئُه أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة. قال: ثكلتك أمُّك يا زيادُ إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة". وفي رواية أخرى: "إن كنتُ لأعُدُّك من فقهاء المدينة، أو ليس هذه اليهودُ والنصارى يُقرؤون التوراة والإنجيلَ لا يعملُون بشيء مما فيهما، " ولو علم ذهاب القرآن لرد عليهم قوله: ويُعلمهُ أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة. ويُقال: إنكم ستضيعون القرآنَ أيضا وتغيرونه تغييراً لا يمكنُ معهُ معرفةُ العلم. وروى القاسمُ بنُ عبد الرحمن عن أبي أمامةَ الباهلى أن رسول الله صلى الله عليه قال: "خُذوا العلمَ قبل أن ينفد ثلاثا، قالوا: يا رسول الله وكيف ينفدُ وفينا كتابُ الله، قال: فغضب لا يُغْضبهُ إلا الله، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ثكلتكُم أمهاتكم أو لم تكن التوارةُ والإنجيلُ في بني إسرائيل ثم لم تُغْنِ عنهم شيئاً، إن ذهاب العلم ذهابُ حمَلته ". وروى أيضاً القاسمُ بنُ عبد الرحمنِ عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حِجّة الوداع وهو مُردفٌ الفضل بنَ عباسٍ على جمل آدم، فقال: "يا أيها التاسُ خذوا العلم قبل رفعه وقبضه ". قال: "وكنّا نهاب مسألته بعد نزول الآية: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) . فقّدمنا إليه أعرابياً فرشَوناهُ بُرداً على مسألته، فاعتمّ به حتى رأيتُ حاشية البُردِ على حاجبه الأيمن، وقُلنا له: سَل رسولَ الله صلى الله عليه كيفَ يُرفع العلمُ وهذا القرآنُ بين أظهرُنا، وقد تعلّمناهُ وعلَّمناهُ نساءَنا وذرارينا وخدَمِنا، قالَ: فرفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ وقد علا وجهَه حمرةٌ من الغضبِ فقال: ثكِلَتك أمُّك، أو ليست هذه اليهودُ والنصارى بين أظهُرها المصاحفُ وقد أصبحوا ما يتعلقونَ منها بحرفٍ مما جاءت به أنبياؤهم، إنَّ ذهاب العلم أن يذهبَ حملتهم". وكل هذه الأخبار أيضاً تنبىءُ عن بقاء الكتابِ بين المسلمين وتعقُلهم له ومحافظتِهم عليه، ولو عُلم أنّ القرآن سيضيعُ ويُحرّفُ ويغير وتزولُ الحجةُ به لقالَ لهم: وأولُ ذهاب علمِكم ضياعُ القرآن منكُم وتغييرُه وتبديلُه، وهذا هو الذي أريده بذهابِ العلم، ولم يُحلهُم على أنّ ذهابَ العلم وقبضِه ورفعِه هو ذهاب حملَته، ولا ردهم إلى قوم قد كان الكتابُ بينهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وأنه لا يُغني عنهم شيئا، وليس يجوزُ أن يَعنى بهذه الأخبار إلا كتابا صحيحا لا يعنيهم شيئا، لأن المُسقط والمحرف والمغيرُ ليس بكتاب الله، ولو تأملوا أيضاً ما أغنى عنهم شيئاً، وهذا بيّن يوضحُ أن الكتاب بادٍ ظاهر مستفيض عار من كل شبهة وتحريف، على هذا دل قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ طائفة من أمتي على الحق " في سائر الأخبار التي قدّمنا في صحة الإجماع، ولو علم أنّ القرآن سيضيعُ عقيب موته ويُحرفُ ويُغيّرُ ويبّدلُ حتى لا تقوم به الحجة لكانت الأمةُ كلّها قد عرفت وعطلت من قام لله بحقه في حفظ الكتاب وحراسته. وقد دلّ على هذا أيضا قولُه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . وقوله تعالى، (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، وقد بينا ذلك فيما سلَف بما يُغني عن رده، وأنه لو ضُيعَ القرآنُ وحُرفَ وصارَ إلى حد لا يُعرفُ صحيحهُ من سقيمه لم يكُن تعالى حافظا لهُ ولا جامعا لهُ على خلقه. وكذلك قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . يوجبُ ذلك ويقتضيه. فكذلك قولهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) . وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) . وهذان خبران من الله تعالى بأنه سيُظهرُ دين الرسول صلى الله عليه على الدين كله وأن يمكنه، ولو علم تعالى أنّ أصلَه وأُسهُ ومعدِنه سيذهبُ ويُغيرُ ويُبدلُ ويحرفُ وتسقطُ الحجةُ به عقِيبَ موته صلى الله علعه لم يُخبر بمثل هذا، ولكان إخبارُه عن وهايته وعدم تمكُنه وشدة ضعفه ودُروس أثره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 أولى بالإخبار عن ظهوره وتمكلينه، وكل مسلم تدبر هذه الآيات والآثارِ التي ذكرناها عرف أنه لم يقصد الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بقوله "لتسلكُن سنَنَ الذين من قبلكم" تضييعَكُم القرآن وتحريفَه وتبديله. فإن قالوا: أفليس قد زعمتُم أن النَبي صلى الله عليه قد حذرهم في هذه الأخبار من تضييع العلم، وأمرهم بتعلمه قبل ذهابه، فيزعُمون أن العلم يذهبُ دون القرآن على ما أصلتُم. قيل له: لا، لأنه أراد عندنا بذهاب العلم ذهاب كثير من أهله وقلتهُ في الناس، كما يقولُ القائل: ذهب الإسلام، وذهب الجودُ وارتفع الخير، ونفَد العلمُ والأدب، أي: قد قل ذلك وقل أهله وطلابُه، ولا يعني به أنه لم يبق قائم بذلك ولا معروف به، ويدلُّ على أن هذا هو مرادُه بقوله: (وَلَيُمَكِنَن لَهُم دِينهمُ) ، و (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، ولو ذهب بأسره وانقرض جميعُ أهله لم يكن مُظهراً له على الدين كله، ولا ممكنا له، ويدل عليه قولُ الرسول صلى الله عليه: "لا تزالُ طائفة من أمَّتي على الحق حتى يأتي أمرُ الله وهُم على ذلك". ولو علم أنه سيضيعُ جميعُ العلم، أو بابٍ من أبوابه حتى لا يوجد في الأمَّة قائم، لوجب أنها قد عُطلت، وخلت من قائم بالحق في ذلك. فأما تحذيرهُ ونهيهُ عن تضييع العلم، وحثهُ عليه وأمرهُ به ونهيُه عن تركه، فإنه لا يدلُ شيء منه على أنهم سيضيعونه ويفعلون ما نهُوا عنه، هذه حالةُ أمرهِ بطلبِ العلم ونهيه عن تركه، أو تجرد أو كيف بهما إذا قارنهما ما يدل على أنه لا يذهبُ من قول النبي صلى الله عليه: "لا تزالُ طائفة من أمتي على الحق"، وقوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وقد قال الله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، ولم يُجِب ذلك علمَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 بمواقعته صلى الله عليه للشرك، وقال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، ولم يقتض ذلك علمه بأنه يتبعُ أهواءهم، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ، فحثة وحضَّه على أداء ما حُمِّل، وقال له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ، ولم يوجب أن يكون تعالى قد عَلِم من حاله صلى الله عليه أنه سيترك البلاغ والصّدع بما أنزل، بل المعلومُ من حاله أنه سيفعلُ ذلك ويبالغُ ويجتهدُ في حُسن القيام بهِ والحرص عليه، فهذا إذا تجرد لم يدل على أنه لا يُبلغُ ما أنزل إليه، فكيف به إذا انضم إليه قولُه تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) . في أمثال هذه الآيات مما خبّر فيها عن مناصحته صلى الله عليه واجتهاده وإيذائه في الله جل وعز، وكذلك تجرّدُ أمره للأمة بطلب العلم ونهيهم عن تضيعيه لا يدلان على أنهم سيضيعونه، فكيف بهم إذا انضمّ إليهما ما وصفناه من إخبار الله تعالى ورسوله أنَّهم لا يزالون على الحق ظاهرين، وأن دينهم ظاهر على الأديان وأنه سيمكنهُ لهم، في أمثال ذلك، فإذا كان ذلك كذلك سقط ما توهموه ُ في هذا الفصل. ثم يقال لهم: أليس قد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما وصفتُم، وإن علمنا أن الأمة لم تعبُد ولا أحد منهم عندَ غيبتهِ عنهم في غزواته عجلاً ولا وثنا، ولم يقُولوا ولا أحد منهم: يا محمدُ اجعل لنا إلها كما لهمُ آلهة، ولا قالوا له: أرنا الله جهرة ولا أخذتهمُ الصاعقة. فإذا قالوا: أجل، قيل لهم: فما أنكرتُم أيضاً أن لا يكونوا حرَّفوا القرآن ولا غيروا نظمه، وإن كان قد فعل ذلك أهلُ الكنائس وأنه يجبُ لأجل ما وصفناهُ أن نعلم أنه أراد سلوك سنَنَهم في كثيرٍ من سيرتهم وأبواب دنياهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 فإن قالوا: أراد بقوله "لتسلُكُنَّ" في المستقبل بعد وفاتي، فإن قومَ موسى لم يعبُدوا العجل، ولا سألوا من شيء أن يُريهمُ الله جهرة، وأن يجعل لهم إلها يعبدونه بعد وفاته، وإنما سألوا ذلك وفعلوهُ في أيام حياته وحرفوا الكتاب بعد وفاته، يقالُ له: وما الدليلُ على أنه أراد بعد وفاته. وقولهُ "لتسلُكُنَّ" لا يقتضي ظاهرهُ سوى وقوع ذلك في المستقبل منهم وهو متناوِل لأيام حياته المستقبلية، ولِما بعد وفاته من الأزمان فما الموجِبُ لتخصيص هذا الكلام، ولا سبيل لهمُ إلى ذلك، بل الواجبُ بطلانُ قوله "لتسلُكُنَّ" أن يكون خطاب مواجهةِ للصحابة دون المعدومين الذين يأتون بعده، وقد عُلم أن الصحابة لم تعبد العجلَ ولا تحُدث إلها دون الله تعالى ولا عبدت وثنا في أيام حياته ولا بعده صلى الله عليه فزال بما قالوه. فإن قالوا: أراد إلاّ عبادة العجل، وسؤال جعلِ إله مع الله، وأن يَرَوهُ جهرة، قيل لهم: وأراد إلاّ تحريف الكتاب وتغييره ولا فصل في ذلك. فإن قالوا: قد علمنا أنّ ما ذكرتموه لم يقع من الأمَّة، قيل لهم: فقد بطل التعلّقُ بعموم الخبر، والاستدلالُ به على أنه لا بد أن تفعل هذه الأمَّة ُ مثل جميع ما فعلتهُ اليهودُ والنصارى، وقيلَ لهم أيضاً: وقد علمنا أنهم لم يحرفوا القرآن ولا غيّروهُ فأراد ما سوى ذلك. فإن قالوا: ظاهرُ الخبر يوجبُ وقوع تحريف الكتاب لأنه من سنن الذين من قبلهم، قيل لهم: وظاهرهُ يقتَضي وقوع عبادةِ تحصلُ منها للعجل وطلب إله مع الله، وأن يروهُ جهرة، لأن ذلك من سنن الذين من قبلهم. ولا جواب عن هذا وإنّما أراد النبي صلى الله عليه إن صحّ هذا الخبرُ عنه حدوث خلاف كثيرِ وتنازعٍ بينكم وفِتن غير هذا الباب، على ما بيناه من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 ثم يقالُ لهم: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ليَلحقَن كتابكم من الفساد والتغيير باختلاط حقه بباطله والتباسه بالحق كَدَأبِ من قبلكُم من اليهود والنّصارى، وإنَّما يقتضي هذا الظاهرُ على ما قلتم أن يقع من الأمَّة أو قوم منها تغييرُ الكتاب وتحريفهُ فقط، ولا يوجبُ ذلك أن يصير كتابُنا بذلك التغيير مُفسداَ أو بالغا إلى حدّ في الوَهاء وضعف النّقل وقلة الحفاظ والضبط. لا نعرفُ صحيحه من فاسده وسقيمه من سليمه ولا تقومُ الحجَّة ُ به، وإذا كان ذلك كذلك لم يُنكَر أن يكون قوم من المنافقين والمدغِلين للدين في صدر الإسلام قد قصدوا إلى تغيير القرآن وتقديمِ مؤخره، وإدخال ما ليس منه فيه، وإخراج بعض ما هو منه عنه، وأن يكون عثمانُ والجماعةُ قد ألغت ذلك وأبطلته، وأوضحت عن فساده، وقامت بالحق والواجب في حفظ القرآن ورسمه ونقله وضبط قراءته الثابتة التي أُنزِل عليه بيانا قُطع به العُذرَ وأوجب الحجّةَ ونفى عنه تحريف الزائغين وكيد المُبطلين، وأن يكون قد كان في كثرة تلك المصاحف التي حرقها شيء كثير من هذا الباب، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلقتُم به، فكذلك لا ننكرُ أن يُحدث قوم في بعض الأعصار يقصدون إفساد نظم القرآن وتغييرَه وتحريفه وإكثار دعاوى الأباطيل فيه، وإن لم يخلهم الله تعالى فمن يَرُد قولهم ويكشفُ شُبههم ويبين باطلهم لأجل ضمان الله سبحانه لحفظه وجمعه على ما بيناه من قبل. فإن قالوا: ما أراد بهذا القول إلا أن عثمان وشيعتَه يحرفون القرآن ويغيرونه، قيل لهم: لا، بل أراد إلا من رد عليه عثمانُ في أمر القرآن وبَرِئ منه، وما أراد بذلك غيركم وغير أتباعكم في باب القرآن، وما تدعونه فيه من التغيير والنقصان والحروف والكلمات التي تروُونها وتدعون اعتماد السلفِ لإسقاطها، وأنتم أقربُ إلى ذلك وأحق به، وأشبهُ أن يكون الذي عناكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الرسولُ صلى الله عليه بالوصف لتحريف القرآن، ولا جواب عن هذا أيضا، ويقالُ لهم: هل عنى الرسولُ بقوله "لتسلكُن سنَنَ الذين من قبلكم"، جميع الأمة أو بعضها. فإن قالوا: جميع الأمَّة، قيل لهم: فعلي ووَلداهُ عليهم السلام، وعمار وسلمان، وجميعُ الشيعة المعاصرين كانوا للرسول ومن حدثَ بعده داخلوُن في هذا القول وهذا ما لا يصيرُ أحد منهم إليه. وإن قالوا: أراد بعضَ الأمة دون بعض، قيلَ لهم: هذا مسلم لكم، فما الدليل على أن ذلك البعض هو عثمانُ والمتفقون معه على مصحفه دون أن يكون هو المختار، وابنُ عبيدٍ قتله مصعبُ بنُ الزبير صبراً مع سبعةٍ من أصحابه، وكانَ يدَّعي النبوة ويقول: جبريلُ عن يميني وميكائيلُ عن شِمالي وأمثالهُ من قادتكم، ومَن قال منكُم: (إنّ من القرآن، وإن علينا جمعُه وقرءانه) ، (وإنّ الله اصطفى آدم ونُوحا وآل إبراهيم (وآل محمد) على العالمين) ، ومن روى عن علي عليه السلام: (والعصر ونوائب الدهر إنّ الإنسان لفي خسر وإن فيه إلى آخر الدهر) ، ومن روى عن بعض أهل البيت أنّه قال: (أنزِلَ ربعُ القرآن فينا وربعهُ في عدوّنا) ، وروى عنهم أنَّهم قالوا: "لو قُرئ القرآنُ كما أنزلَ لألفيتمونا مسمّين فيه كما سُمي مَن كانَ قبلَنا". إلى أمثال هذه الخرافات والترهات، ورواةُ هذا والقائلون به أقربُ إلى التُهمة والظنّة بنقصان القرآن وتحريفه من عثمان ومن سائر السلف الصالح. بل هم عندنا مقطوع على موضوعهم وتكذُبهم وإكادتهم الدين، ونصبهم له الحبائل والغوائل وطلبهم أهله والناصرين له والقائمين بحثِّه بالطوائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وتكسبهم بالمذهب معروف، وإحرافُهم له معلوم، وما هم عليه من مذموم الطرائق وشدةِ الرغبة في العاجل، وقلة اكتراثهم بأمر الآخرة، ويقالُ لمن استدل بهذا الخبر منهم - ممن يزعُم أن قد نقص منه ولم يُزد فيه ولا يمكنُ أن يزاد فيه، لإعجاز نظمه تعذر الإتيانُ بمثله -: أنت في غفلة مما تخوضُ فيه لأنك قد اعترفت بأن أهل الكتابين زادوا في القرآن ونقصوا منه، وأن الله سبحانهُ خبَّر بذلك حيثُ يقول: (وَيَقُولون هُوَ مِن عِندِ اللهِ) . وقوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، فيجبُ إذا كانَ ذلك كله أن يدل هذا الخبرُ دلالة قاطعةَ على أن القرآنَ مَزيد فيه ومدخَل فيه كثير ليس منه، كما دل على أنه نقص منه حتى يكون من ضيع ذلك مِن الأمَّة سالكا لسَنَن من قبله حَذوَ النعل بالنعل، فإن مرَّ على ذلك ظهر عجزهُ ورغب عن مذهبه، دهان أباهُ أسقط استدلالهُ بالخبر سقوطا ظاهرا. وإن قالوا: أراد أنهم يسلُكون سنَنَ أهل الكتاب إلا في الزيادة في الكتاب، قيل له: وأراد سلوك سنَنَهم إلا في النقصان من الكتاب، وإلا تحريفه وتغييرهُ وقصد ما عدا ذلك، وهذا ما لا حيلة فيه ولا جواب عنه. وكذلك الكلامُ على من قال: إنه مزيد فيه وليس بمنقوصِ أو مغير النظم والتأليف فقط من غير زيادةِ ولا نقصانِ منه، وفي بعض ما أشرنا إليه أوضحُ دليل على سقوط تعلُّقهم بهذه الرويات. دليل لهم آخرُ على نقصان القرآن وتحريفه: بأن الشيعة تنقلُ خلفا عن سلفِ عن علي والأئمة من عترته، عن سلف لهم تقومُ بهم الحجةُ وينقطعُ العُذر: أن القرآن قد نُقص منه وغُير وبُدلَ وأحيل عن نظمه، قالوا: والكذبُ ممتنع على من ذكرنا، والعُذرُ ببعضِهم، فوجب لذلك صدقُهم فيما نقلوهُ من هذا الباب، والقطعُ من جهة خبرهم على نقصان القرآن وتغييره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 يقال لهم: ما الدليلُ على صحة نقلكم هذا مع مخالفتنا لكم فيه، وما أنكرتم من أنه لو كان نقل الشيعة لذلك صحيحا فيه شرطُ التواترِ لوجب أن نعلمَ ضرورة أن في صدر الأمة من قال إن القرآن قد نُقص منه وغُيرَ عما أنزل عليه على ما ذكرنا من قبل، فلمَّا لم نعلم من ذلك شيئا عُلم فسادُ إدخالهم، ولأن الإسماعيليةَ والغالية يزعمون أنّهم قد نقلوا خلفا عن سلف لهم عن الأئمة أن الأمر في أصول الدين وفروعه على ما يعتقدونه ويُنزلونه. ولأن الشيعة معترفة بحجج بعضها إذا نُقل عن سماع ومشاهدة، وكلُ فريق منهم يذكرُ أنه أخذ دينه في الأصول والفروع جميعا عن سلف لهم، والسلفُ عن سلفٍ إلى أن ينتهي ذلك إلى الأئمة وإلى قوم منهم في الأصل تقومُ بهم الحجة، فيجبُ لذلك العملُ على قول جميع الشيعة مع اختلافها، وإذا كانت هذه دعاوى متكافئة لا يُعلمُ صحةُ شيء منها بطل جميعها، ولأنهم مثلُ هذا النقل يدعون في النص على علي عليه السلامُ ورواية الأخبار الكثيرة في وجوب شتم السلف ولعنهم والبراءة منهم ومن سائرِ أتباعهم، ونحنُ فلا شبهة علينا في كذب هذا الخلف الذي يدينُ بذلك في الأئمة وجُلة الصحابة، فلا مُعتبر بهذه الدعاوى التي قد أُخلقت وعُرِف جوابُها وأغراضُ مدعيها، وقد بسطنا الأدلةَ عليهم في هذه الفصول وما جانسها والدعاوى وما أشبهها في كتاب:الإمامة" بما يُغني الناظر فيه. فأمَّا ادعاؤهم أنّ عبد الله بن مسعود كان يقرأ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ (بعلي) وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} . وأنه كان يقرأ في آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ (وآل محمدِ) عَلَى الْعَالَمِينَ} . فإنه بُهتٌ وزُورٌ وليس هذا بمعروفِ، في أصحاب الحديث ولا مروي رواية ما قدمنا ذكرهُ من السواد، ولو كان بمثابته السداد لكانت الحالُ فيه لهي كما قدمنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 ذكرنا له من القراءة التي لم تقم الحجةُ بها، وقد عُلم أنهم ليس يدافعون عن هذا لتضمُّنه معنىً فاسداً عند مخالفتهم، لأنّ الله قد كفى النبي والمؤمنين القتال بعليّ في مواطن كثيرةِ حَسُن فيها إبلاؤه وجهادُه، وأن آل محمدٍ مصطفونَ كآل نوح وآل إبراهيم، فمذهبُ الشيعة والسنة في هذا سيان فلا معنى لقولهم: النّصَبُ حَمَلَهُم على جحد هذه القراءات وما جرى مجراها. كذلك سبيلُ ما يدعونه من أمر روايات الذين لا يُعرفونَ بالرفض والطعن على الصحابة وأمّ المؤمنين عائشة رضوانَ الله عليها، أنّ ابن عباس قال: "إن لله تعالى حُرمات ثلاث ليس مثلُهنّ، كتابهُ وهو حكمتهُ نطقَ به وأنزَله، بيتُه الذي جعله للناس مثابة وأمنا، وعترةُ نبيه فيكم - صلى الله عليه وسلم - فأما الكتابُ فحرّفتُم، وأما البيتُ فخربتم، وأما العترةُ فشردتُم، وقتلتُم "، أن حُذيفة قال للصحابة: "أرأيتم لو حدّثتكُم أنكم تأخذون مصاحفكم فتحرِّفونها، وتُلقونها في الحُشوشِ أكنتُم مصدقيّ، قالوا: سبحان الله ولمَ نفعل ذلك. قال: أرأيتم إن قلتُ لكم إن أمكم تخرجُ من فئة فتقاتل أكنتُم مُصدّقيّ. قالوا: سبحان الله ولم نفعلُ ذلك! قال: أرأيتم إن قلت لكم أن يكون فيكم قردة وخنازير، أكنتم مصدّقي، فقال رجل: يكونُ فينا قردة وخنازير،! قال: وما يؤمّنُك من ذلك لا أمّ لك. فإنّها أيضا كذب وزور وبهتان لأصحاب الحديث، لأنّهم كلُّهم يروون عن عبد الله بن عباس وحذيفة نقيضَ هذه الأخبار، ووصف الأمّة بالفضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفضيلِ لعائشة، وجميع من يتبرأُ منه الشيعةُ من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أظهرُ عندهم وأكثرُ من أن تُحتاج إلى تكلف الرّوايات عنهما في تفضيل الصحابة ووصف الأمة. وقد تواتر من الأخبار التي لا يمكن دفعُها أن أولَ من خاطب عثمان في جمع القرآن وأشار به عليه وناشدُه الله في ذلك حذيفةُ بنُ اليمان، وأنه لما قدم عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذَرْبيجانَ مع أهل العراق، فأفزَعَ حذيفة اختلافُهم في القرآن، فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين. أدرِك هذه الأمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى". فشرَع عثمانُ رضوانُ الله عليه عند ذلك في جمع الناس على القرآن، وأرسل إلى حفصة زوج النبي صلى الله عليه في شأن الصحيفة التي كانت عندها. فكيف يأمرُ عثمانُ بذلك -، ويُقسمُ عليه فيه من بعده ويعيبُ فعله، هذا بهتٌ ممن صار إليه وأضافه إلى أحد من ثقات أصحاب الحديث الذين لا مغمَز عليهم في قلة أمانة وابتداعِ في الدين، فأما ما يروونه قوم منهم من أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 الأخبار قد ورَدت متواترةً مستفيضةً من جهة نقل هذه الفرقة من الشيعة بأنّ القرآن مُغير ومُبدل وأنه قد نُقص منه وأسقط أسماءُ الأئمة الإثني عشر المذكورين فيه، وأسماءُ سبعينَ رجلاً من قريش ملعونين فيه باسمائهم وأنسابهم، وأن ربُع القرآن منزل في فضائل الأئمة الإثني عشَر وأهل البيت. وأن عثمان والجماعةَ وضعت مكان رجل مسمّى ملعون من قريشِ: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) . ومحوا اسمه، إلى غير هذه الجهالات والأماني الكاذبة والتلاحُدِ الذي يستهوون به العامة الطغام، ويقصدون به إبطال الإسلام فإنّه لا شبهة على من له أدنى مسكة في فساده وتكذُب مفتريه وواضعه، وسنتكلم على تكذُب جميع هذه الروايات وعند مفتَعلها عند فراغنا من حكاية عمل ما يروونه في هذا الباب إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فصل فيما ذكرُوه في هذا الباب وادعوا انتشاره وظهوره، ومعتقدي نقصان القرآن من الشيعة أن عليا عليه السلام جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وجاء به يحمِله قنبَر لا يغلانه فوضع، ثم تلى عليهمِ آيات يكبتُهم بها في تقدمهم بن يديه، وهي قوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) . فقال له عمرُ عند ذلك: ارفع ارفع مصحفك لا حاجةَ لنا إليه. ومن ذلك - زعموا - ما تواترته نقلُ الشيعة خلفا عن سلف عن علماء أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم علي بنُ موسى بن جعفر، وموسى بنُ جعفر بن محمد، وجعفر بنُ محمد بن عليّ بن الحسين. والحسنُ بنُ علي بن محمد، وعلي بنُ محمد بن على بن موسى، وأمثالهم من أهل البيت، أنهم جميعا قالوا: أنزِل القرآنُ أربعة أرباع، رُبعا فينا، وربعا في عدُونا، وربع سِيَر وأمثال، وربع فرائضَ وأحكام، ولنا أهل البيتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فضائلُ القرآن، وأنهم قالوا: لو قُرئ القرآنُ كما أنزل لوُجد فيه أسماءُ سبعين رجلاً من قريش ملعونينَ بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم. وأن رجلاً قرأ على جعفر بن محمدِ الصادق من سورة آل عمران: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، فقال لهُ الصادق: يا ويحك كيف تكونُ أمة قتلت عترة نبيها، وحرفت كتاب ربها وهدمت بيته، خير الأمم كلها، بل كيف تأمرُ بالمعروف وهي تخالفه، وكيف تنهى عن المنكر وهي تأتيه، فقالَ له الرجل: جُعلتُ فداك، فكيف نزلت، فقال: كُنتم خير أئمة أخرجت للنّاس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر". وأن رجلا آخر قرأ عليه - أعني جعفر بن محمد - في سورة هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) ، فقال الصادق: ما هكذا أنزل الله تعالى، إنما أنزل الله: "أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى". وأن رجلاً قرأ عليه من سورة التحل: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) ، فقال له: ويحك! ما أربى، إنما هو: "أن تكون أمة هو أزكى من أمة". وأن آخَر قرأ عليه: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) . فقال الصادق: ولقد سأل هؤلاء القومُ عظيما أن يجعلهم أئمة للمتقين، فقال له الرجل: كيف أقرأُها، فقال له: واجعل لنا من المتقين إماما. وأن رجلا قرأ بحضرته: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) . فقال له: إن الجن كانوا يعلمون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 أنهم لا يعلمون الغيب. وأن رجلاً قرأ على الصادق: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ، فقال له: يا هذا كيف يذل قوم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له الرجل: كيف أقرأ، قال: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء". وأن الصادق كان يقرأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ (ولا محدث) إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . ، وأنه كان يقرأ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (لتَعْمهوا فيها) } . وأنه قرأ: (والعصر إن الإنسان لفي خسر وأنه فيه إلى آخر الدهر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وائتموا بالحق وائتموا بالصبر". وأنه كان يقرأ في النّور: "ليس (عليهنّ) جناح أن يضعن ثيابهنَّ غير متبرجات لزينة"، وأنّه كان يقرأ في سورة النساء: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ (يا علي) فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . وأن الباقر كان يقرأ: "لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار". ويقرأ في سورة التوبة: "فأنزل الله سكينتهُ على رسوله وأيدهُ بجنود لم تروها"، وأن الأئمة كانت تقرأ: "إن علينا جمعهُ وقراءٌ به "، وإن من الشيعة ينقلُ نقلاَ متواتراً عن العترة أنهم كانوا يقرؤون في: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) } "وأيدْنَاكَ بَصِهْرِكَ" إلى أمثال هذا مما يروونه ممّا لا أصل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فصل مما يدل على كذب الرافضة في هذه الدعوى، صحةُ ما قلناهُ في ثبوت القرآن والإطباق عليه، وعلمُنا وعلمُ الكافة من الشيعة وغيرِهم بدخول على عليه السلامُ في الجماعةِ التي اتفقت على كتب المصحف وأخذ الناس به. وإلغاء ما عداه، والتصويب لعثمان فيما صنعه من ذلك، حتى لم يُحفظ عليه كلمةٌ ولا حرف واحدٌ في الطعن على هذا المصحف والحرف الذي اتفقُوا عليه، بل روى الناسُ عنهُ روايةً ظاهرةً أنه كان يُقريءُ به ويُعلمه كما يُقريءُ به غيره، وروى ذلك عنهُ أبو عبد الرحمن السُّلمي وغيره: أنه أقرأهُ فلم يُختلف عنه في ذلك، ولا روِي عنه خلافٌ للجماعة فيما اتفقت عليه، لا من جهة الآحاد ولا من طريق التواتر. ولو كان من خلافٍ في هذا الباب أو يسير قولٍ لوجب في مستقر العادة أن يظهر ويستفيض حتى لا يمكنه جَحدهُ وإنكارهُ كما ظهر عن عبد الله بن مسعودٍ اختيارُ القراءة بحرفه، وكراهيةُ نصبه وبدلُ كتبة المصحف، ولو كان مثلُ هذا قد وقع من علي والأئمة العلماء من ولَده لوجب أن يكون نقلهُ أظهر وأشهر، وأن يكون العِلمُ به أثبت في النفوس وألزم للقلوب بجلالة قدر علي وعِترته، وعظيم شأنهم في النفوس، وقد ثبت أن نقل كلام ممن ارتفع قدرُه وعظُم شانُه وكثُرت شيعتهُ والاقتداءُ به يجبُ أن يكون أظهر وأكثر من نقل كلامٍ قصرُ عن محِله، وفي رجوعنا إلى أنفسنا وعلمِنا بأنه لم يُروَ عنه حرف واحد في هذا الباب بل روِيت موافقتهُ وتصويبهُ ومتابعتهُ أوضحُ دليلٍ على أنه صلى الله عليه كان أخذ القراءة بحرف عثمان والداخلين فيها عليه، ودَانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 بتصويبه، ولو كان الأمرُ عند علي عليه السلامُ في أمر القرآن كما يدعيهِ الشّيعةُ من تغييره وتبديله ومخالفة نظمه الذي أنزل عليه، وإسقاط كثيرِ منه أو الزّيادة، لم يسعهُ السكوتُ عن إنكاره لذلكَ وتوقيف الناس على تغيير كتاب الله وتبديله، وتحريفه وتصحيفه ودخوله الخلل فيه، وإشاعة ذلك في شيعته والمنحرفين عنه، لأنه أحق من أمر بمعروفٍ ونهى عن منكر، ولا شيءَ في المنكر أعظم وأفحشَ من تغييرِ الكتاب وتحريفه وإفساد نظمه وترتيبِه، لأن ذلك إفساد للدين وإبطال للشّرع، وعلي عليه السلام أجلُّ قدرا وأرفعُ موضعا وأشد احتياطا لدينه وللأمة من أن يتَساهل في إقرار مثل هذا ويُسامحُ نفسه به، ولو كان منه قول في ذلك لوجب أن يعلمهُ على حدّ ما وصفناهُ من قبل. فإن قالوا: قد نقلت الشّيعة، وببعضُهم تثبُتُ الحجَّة ُ عن مثلهم عن عليّ عليه السلامُ أنه أنكر على القومِ وخالفَهم وعرفهم أن القرآن ناقص مغير محرَّف. قيل لهم: هذا بهتٌ منكم وشيء وضعه قوم من غُلاتكم، والقادحين في الشريعة، وإلا فما نقل أحد من أسلاف الشيعة في ذلك حرفا واحدا، بل نُقل أنّه كان داخلاَ في الجماعة ومُقرا بما اتفقوا عليه ومُصوّباَ له، وأنه كان يقريءُ به ويعلّمه، وعلى ذلك الدهماءُ من الشيعة والسوادُ الأعظمُ إلى اليوم، وبعدُ فما الذي قالهُ لهُم لمَّا وقَّفهم على تبديل القوم وتغييرهم وما الذي عرفهم به مما غيره، وما الذي لقنهم مما أسقطوه وكيف يمكنه أن يقول لهم: إن القومَ حرّفوا كتاب الله وغيروه، ولم يمكنه أن يوقفهم على موضع التّغيير ويذكُر لهم الذي ألغوه منهُ وكتموه، وهو لو قال لهم ذلك لكان أظهر لحجّته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وأشد تأييداً لقوله، ولتذكر عند توقيفه على ما كتموه الساهي، وتبينهُ العاقلُ ولحفظ الناسي، ولم يجُز أن يذهب ذكرُ ذلك ومعرفته على سائرهم وقد سمعوا ذلك، وكان يكون هذا من أفصح الأمور لهم، وأدل الأشياء على ضلالهم وسوء اختيارِهم، وخُبث اعتقادهم في الدين وأهله، فإن كان قد ذكر من ذلك شيئا فاذكروا ما هو، ولن يجدُوا إلى ذلك سبيلاً، إلا زيادة أحرُفٍ وكلمة وكلمتين لم تقم الحجّةُ بشيء منه، وسنذكر فيما بعدُ ما يروونه من هذه الأحرُف عن علي عليه السّلام، وعن الصّادق وغيره من أهل البيت ونبين بطلان ما يروونه عن العترة، وأنهم براءٌ ممّا يضيفونه إليهم، ولم يجدوا إلى ذكر شيءِ عن هذه الأحرف سبيلا، اللهم إلا أن يفتعلُوا كلاما سخيفا متفاوتا غير ملئتم ولا متناسب، أو خارج عن أوزان كلام العرب المعروفة من الشعراء أو الخطابة أو الرّسائل، ويضيفونه إلى عليّ عليه السلام، فلا يبعد على كل أحد نظمُ ضده وخلافه وإضافتِه إلى عليّ عليه السّلام، ولا يُشكلُ على أحد أنه ليس من نظم القرآن في شيءٍ وهم لعلهم بهذا لا نراهم يتعاطونَ حكاية ما يدّعون نقصانهُ وروايتهُ عن عليّ ولا عن غيره من ولَده ولا اللفظة والحرف والحرفين، ويُحيلون معرفة ما طال وكَثُرَ على القائمِ المنتظر، وكلُ هذا تخبط وتخليط وإدغال للدين وأهله، وكلُّ هذه الأقاويل والدعاوى باطلة مخالفة لظاهر ما عليه علي عليه السلامُ فيجبُ تركُها وإطراحُها، لأنّه كان باتفاق جميعنا يُحكمُ مصحفَ عثمان، ويدعو الناس في المحافل إلى العمل بما فيه دون قرآن يدّعيه ومصحفِ يظهرُه غيرُه ويجتبيه، ويحلفُ مع ذلك أنّه لا شيء عنده، ولا عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير ما في صحيفةٍ أخرَجها وغيرها على قائم سيفه على ما ذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وروى عبدُ الله بنُ عباس قال: "لما تواقعنا يوم الجمل وعلى عليه السلامُ بين الصفين أعطاني مصحفا منشورا وقال: اذهب به وقل لطلحة والزبير وعائشة يدعوكم إلى ما فيه. قال ابنُ عباس: فخرجتُ والناسُ على صُفوفهم وعلي عليه السلامُ قائم ينتظُرني، فجئتُ القوم فقلت: إنما يدعُوكم إلى ما في هذا المصحف، فاتقوا الله ولا تقتلوا أنفسكم، فصاحوا صيحةَ واحدة: والله لا يكون ما يريدُ صاحبُك ويُراد، لا نعطيه إلا السيف. فقلت: والله أذن نُنزلُ بكم السيف حتى تخافوه، فرجعتُ إلى على فقلت: لا يريدُ القومُ إلا السيف ". وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال: "أرسلني على عليه السلامُ إلى طلحة والزبير بمصحف فدعوتُهما إلى ما فيه وجئتُهما به منشورا تُقَلُّبُهُ الريحُ ورقةَ ورقةَ فعرضتُ عليهما ما قال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 فقالا: يا ابنَ عباس، ارجع إلى صاحبك فإنه يُريد ما نُريد، يعنيان الإمارة، فلما رجعتُ إليه وهو يُرشق بالنبل: فقال: جلعتنا عرضا للقوم، خل عنّا وعنهم، قال: لا والله حتى تاتُوني بقتيل فأتيناهُ بقتيل من أصحابه وهو يشحطُ دما فلمَّا رآه كبّر وقال: احملوا فحملنا فلم يلبث القومُ أن انهزموا. وروى مسلم الأعور عن حبة بن جوين العُرني قال: "قام علي عليه السلام يوم الجمل ومعه مصحف فقال: من يأخذُ هذا فيأتي به إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول، فلم يُجبهُ أحد، فقام رجل يقالُ له مُسلم، عليه قباءٌ أبيضُ جديد، فقال: أنا، فنظر إليه ثم أعرض عنه ثم قال: من يأخذُ المصحف فيدعوا القوم إلى ما فيه وهو مقتول، فلم يجبه أحد. وقامَ مُسلم فقال: أنا، فأعطاهُ إيّاه ثمَّ دعاهم فضربهُ رجل بالسيف فقطع يده وأخذهُ بيده الأخرى فقَطعها، ثمَّ احتضنه حتى قُتل، وذكر بعضُ الرواة لهذه القصة أن شاعر أهل العراق قال في ذلك: لاهُمَّ إن مُسلِما أتاهُم ... يتلو كتاب الله لا يخشاهُم فَزَمّلوهُ من دمٍ إذ جاهُم ... وأمُّهم قائمة تراهُم يأتمرونَ الغى لا تنهاهم ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 يعني عائشة رضي الله عنها وأنها أنكرت هذا الشعر وعاتَبت عليه، ولما دعاهُ معاويةُ وأهلُ الشّام إلى التحكيم أمر الحكَمَين بالرجوع إلى كتاب الله وتحكيمه من فاتحته إلى خاتمته، فكان يقول: والله ما حكمتُ مخلوقاً وإنما حكّمتُ القرآن. ولو كان عندهُ قرآن غيرُ هذا ومصحف يجتبيه غير مصحف عثمان لكانت هذه المواطنُ وقت إظهاره وإعلانه والاحتجاج له وإدخال الناس بما فيه، ولكان ذلك من أكبر الحُجج على القوم وأشدها كشفا لباطلهم وتنفير الناس عنهم، وكان ذلك لعليّ من تحكيمه وإظهاره لصحابته والرّضا بما فيه، وقد زالت التقية وشُقَرت السيوفُ ووقعت المكاشفةُ والمكاسرة. وأصلُ جميع ما كانوا فيه وأسُّه قتلُ عُثمان وما خرج معه إليه، ولو قد كان مصحفهُ مغيّراً ومبدّلاً ومنقوصاً منه ومنظوماً على القراءة بغير ما أنزل الله تعالى، والمنعُ من القراءة بصحيح ما أنزله علينا وتحريمه، لَلَزمَ عليا فرضُ إظهار ذلك، ولكان التغافُل عنه أضرّ بالأمّة والدين من تولية معاوية الشام. ومن ترك عائشة وطلحة والزبير بالعراق، ولا شيء إذ ذاك يمنعهُ من إظهار كلام الله تعالى والقدح في المصحف له، ولم يكن حالهُ إذ ذاك دون حال عبد الله بن مسعود، لما نافر عثمان في الامتناع من تسليم مصحفه وعزله عن كتبة المصحف بزيد بن ثابت، حتى قال ما قال إلى أن عرف الصوابَ ورجع، وكان لا أقلّ من أن نكذب من ادّعى أن عنده قرآنا وأشياءَ أخذها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس عند الأمَّة ولا مما بينه للجماعة، فإن ذلك أيضا ممّا يزيدُ في الشُبهة ويقؤي الباطل ويُوهنُ الحق وأهله ويضعفُ شأنه، وقد رُويَ عنه التكذيبُ لمن ادّعى لهُ شيئا من ذلك والحلف عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وقد روى الأعمشُ عن إبراهيم التيمى عن أبيه قال: خطبنا علي بنُ أبي طالب عليه السّلام، فقال: من زَعم أنّ عندنا شيئا نقرأهُ إلاّ كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة، صحيفةٌ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المدينةُ حرمٌ فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى مُحدثا فعليه لعنةُ الله والملائكة والنّاسِ أجمعين، لا يقبلُ الله منه صَرفا ولا عدلا". وفي روايةِ أخرى عن إبراهيم التيميّ عن أبيه قال: "خطبنا علي عليه السلامُ وفي قائم سيفه صحيفة، فقال: إيه والله ما عندنا كتابٌ نقرؤُه ليس كتاب الله، ولا في هَذه الصحيفة، فأخذها فنشَرها فإذا فيها: المدينةُ حَرمٌ فمن أحدَث فيها ... نحو الخبر الأول إلى قوله صَرفا ولا عدلا". وروى أيضا الأعمشُ عن إبراهيم التيمى عن أبيه قال: "ما عندنا شيءٌ إلا كتابُ الله وهذه الصحفيةُ عن النبي صلى الله عليه قال: "من تولى مولى قوم بغير إذنِ فعليه لعنةُ الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا قبل الله منه صرفا ولا عدلا. فلو كان كتابُ الله الذي عنده غير الذي جمعهم عثمانُ عليه لوجب أن يُظهره، وكان ذلك أولى من إظهار الصحيفة، وقد اتفق الكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 على أنّه ما أظهر مصحفا غير مصحَفهم، ولا ادّعى لله كلاما غير الذي معهُم، وليس ما يدكُ في بعض الروايات من أنه كان لهُ مصحف، أولهُ اقرأ باسم ربك، فخالفهُ عليهم، لأنه ليس في ترتيب السُّور نص ولا توقيف على ما بيَّنَّاه من قبل، وليس بين هاتين الروايتين أيضا تعارض - أعني قوله: المدينةُ حرمٌ إلى آخر ما ذكرها، وقولَه: من تولى مولى قوم بغير إذن مواليه - لأنه يجوز أن يكونا جميعا كانا في الصحيفة، وأن يكون قرأ ذلك في وقعتين. وحُفظ عليه مرّتين لما رآه من المصلحة في ذلك، لا تعارُض بين هذه الروايات وبين ما رُويَ في بعض الآثار من أنه كان في الصحيفة أسنان الإبل يعني إبل الصَّدقة، وأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتَلنَّ مؤمنٌ بكافرٍ ولا حُرٌ بعبد، لأنه قد يكون ذلك أجمعُ فيها ويقرأها في مرات، ويذكرُه في مواقف شتى. وقد كان عليه السلام يُلقنُ أولادَه وأصحابَه القرآن، فما رُوي عنه أنه أقرأ أحداً منهم شيئا يخالفُ مصحف الجماعة، وكان أبو عبد الرحمن يقرىءُ الناس في مسجد الكوفة أربعينَ سنةً بحرفِ الجماعة ويقولُ: أقرأني بذلك علي وعثمانُ وزيدُ بن ثابت، فلم يعترض عليه أحد في هذه الدعوى ولا ردها، كل هذا يدلُّ على كذب من ادّعى على على عليه السلامُ مخالفة الجماعة على مصحفهم، ويقرَأه بقرآنٍ عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 ثم يقال لهم: لو كان نقلُ الشيعة الذي ذكرتموهُ وارداَ على شرط ما وصفتُم، كثرةَ عن كثرة حتى ينتهي في الأصل إلى قومِ بهم تقومُ الحجَّة. سمعوا إنكارَه على علي وخلافِه على القوم بما قل أو كثُر، لوجبَ لنا علمُ الضرورة بصدقكم، وللزم قلوبُنا العلمُ بصحةِ نقلكم وثبوت روايتكم، لأن هذه سبيلَ العلم بكل خبرٍ تواتر نقلُه واستوى طرفاه ووسُطَ، وفي رجوعنا إلى أنفُسنا مع سماعِنا لقولِ مُدعي ذلك منكم، ووجودنا أنفسنا مع سماعِنا غيرَ عالمةِ بصحة دعواهُ وروايته أوضحُ دليلٍ على كذبكم في هذه الرواية. وبمثل هذه الطريقة بعينها يُعلم بطلانُ نقلكم لنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عليٍّ عليه السلام، وأمره للناس بالانقياد والخنوع لطاعته، وقد أشبَعنا القولَ في ذلك في كتابي "الإمامة" وغيرِها بما يُغني متأمله. فإن قالوا: لم يبلُغ نقلُنا لذلكَ عَن عليٍّ عليه السلامُ مبلَغا يوجبُ علمَ الضرورة، وإنَّما يُعلمُ صحّةُ نقلِنا بدليل، قيل لهم: فما ذلك الدليل، فإنا غيرُ عالمينَ بصحَّة ما ذكرتم، ولا عارِفي الدليل على ثبوته. فإن قالوا: الدليلُ عليه كثرةُ نقلةِ هذا الخبر من الشيعة، ونعرِف هممهُم ودواعِيَهم واعتراضَهم وتباعد ديارِهم وأوطانهم، وامتناعَ اتفاقِ الكذب من جمِيعهم في الأمر الواحد لداعٍ واحدٍ ودواعِ متفرقة، أو تراسُلهم وتشاعُرهم بذلك مع إكتامِه عليهم واستمرارِ السلامة بهم فيه، قيل لهم: فبدون العدد الذي وصفتُم تقع الضرورةُ إلى صدقِ النقَلةِ ويزولُ الشك والشبهة، وبنقلِ مثلِ هذا العدد ودونه حصلت لنا الضرورةُ إلى العلم بأن في العالم صينا وخراسانا، وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون نقل من ذُكر حاله ممّا نحتاجُ في العلمِ بصحته إلى نظرٍ وتفكُرٍ وإقامةِ برهانٍ ودليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وإن هم قالوا: أنتم تعلمون ضرورةً صحة َ نقل من نقلَ هذا من الشيعة عن علي، ولا تشكُون عند سماعِ نقلِهم أن عليّا قد خالف القومَ وأنكر ورودَ ما - صنعوه، قيل لهم: ما الحيلةُ عندنا في أمرِكم إلا السكوتُ عنكم وتنبيهُ الناس على بُهتكم، وكثرةِ التعخب مما أحوجَكم في نصرتِه إلى هذا البُهت والعِناد والمكابرة، فإنكم تعلمونَ ضرورةً أن قلوب جميعِ مخالفيكم خاليةٌ فارغة من العلم بما وصفتم، وأنهم جميعاً معتقدون لتكفِير مَن دان بذلك والبراءة منه، وإن كنتم تقنَعون منا بالإيمان على وجودنا أنفسنا غير عالمة بما قلتم واذعيتُم عليها، بَذَلنا لكم منها ما يُقنعكم، وإن أبيتم إلا القحاح والمكابرة، فما الفرق بينكم وبين من قال: إنكم تعلمون ضرورةً أنكم تكذبون في دعواكم هذه على علي، وتجدون أنفسَكم عالمةً بخلاف ذلك. وتعلمون ضرورةً أننا نعلم أنكم تكذبون، ولولا أنكم قد اضطررتم إلى العلم بأنكم تكذبون لم نجد أنفسنا مصرةً إلى العلم بكذبكم، وهذا مما لا سبيلَ لهم إلى الخروج عنه أبداً. فإن قالوا عند تحصيل هذا الكلام: ما أنكرتم أن يكون ما نقلتموه من متابعة علي الجماعةَ وإظهارِه، والاقتداء بمصحف عثمانَ والعمل به، فيه تفضيل لأبي بكرٍ وعمر وعثمان، وحسنُ الثناء عليهم وجميلُ القول فيهم. صحيحا على ما وصفتُم، وأن يكون إنّما فعلَ ذلك على وجه التقية والخوف من إظهارِ حقهِ وإنكارِ باطله، - وكشفِ تحريفهم وتحيرهم وقد كانت التقيةُ دينه، قيل لهم: وما الذي خافه في ذلك، وأيُّ شيء منعهُ منه، ومَن الذي قُتل أو سُجن أو عُسّف في أيام عثمانَ بحضور الجماعة على حقٍ قالَه ودَعا إليه، ولو جرى ذلك على علي عليه السلام لا مِن مثله عليه معَ عظم قدره وشجاعته وعزةِ نفسه والعلمِ بتقدمه في الإسلام وسابقته وقرابته وفضله ومنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 بني هاشمٍ وشيعتِهم منه وحمايتهم لجانبِه، فقد كان يحبُّ أن يُظهر ما عنده في ذلك وينظر ما الذي يُحدث عنه، وإنّما كان يكونُ له عذر في ذلك لو تكرر مِن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وشيعتهم إخافةُ قومٍ وقتلُهم لدُعائهم إلى حقٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر، وترادفَ ذلك منهم ترادفا يخافُ معه القتل، فأما وجميعُ هذه الأسباب معدومةُ الغميزةِ على عثمان إذ ذاك واقعة. وعلى غيره نجد كثيراً من الناس يثلُبُه وينتقِصُهُ له كعمار وابن أبي بكر وابن أبي حذيفة، وأهل مصر والكوفة، ومن سارَ من البصرة والأشترِ النخعي. وحُجر بن عَدي والتجيبي والغافقي وعمرو بن الجُمق، وأبي بديل بن ورقاء. والجمهور من الصحابة، فإنه قد كان يجبُ عليهم الإنكارُ على عثمانَ ومن كان قبله، وكشفُ ما صنعوا من تغيُّر القرآن ونقصانِه وإفسادِ نظمه، وكان ذلك وقتَ التغييرِ والمقال، وقد كان الناسُ عتِبوا على عثمانَ وتعقبوه وثلبوه ونقصوه بما لا تعلق فيه من حميته الحمى وإتمامِ الصّلاة بمنى، وأنه رجعَ يومَ أحدٍ ولم يحضر بدراً، وولى أما اربه، وأمثالُ ذلك. مما لا عُتب عليه فيه. وقد رويتم أنتُم أن عليا عليه السّلام أيام أفضت الخلافةُ إليه، وطُعن عليه وعلى الوالِيَين: قبله، وقال في خطبه الشقشقية (1) بعد ذمه لأبي بكر وقوله في عمر: "وصاحِبُها كراكب الضبعة إن أسلس لها عسفت، وإن غمزتها جريت، ثم قام ثالث القوم ( ... ) ، يخصمون مالَ الله تعالى خصمَ الإبل بيتَ الربيعِ حتى أموتَ به بِطنتَه، وأهجمَ عليه عمله " وأنه خطبَ الناسَ أيام   (1) هذه الخطبة ليس لها أصل في كتب الحديث صحيحها ولا ضعيفها وهي خطبة مكذوبة على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكل ما جاء فيها من ذم للصحابه على لسان علي فهو مكذوب، وحال علي رضي الله عنه ومقاله ينفيان ذلك نفيا قاطعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 نظره خُطبة قال فيها: "أما إني لو أشاءُ أن أقولَ لقلتُ عفا الله عما سلف. مضى الرجلان وقام الثالثُ كالغُرابِ همَّته بطنُه يا وَيْحَهُ لو قصَّر جناحَه. وقطعَ ريشه كان خيراً له شُغل من الجنة، والنارُ أمامه، ثم قال: ألا إن كل قطيعةٍ اقتَطعها عثمانُ بن عفان أو مالٍ أعطاهُ من مال الله فهو مردود على المسلمين في بيتِ مالهم "، وأنه بعد ذلك قبض كل سلاح كان في دارِ عثمان ومال به على الناس، وأنه قبض سيفه ودِرعه وكانت في داره متخذة له، وأنه قال في أبي بكرٍ وعمر: "ألا إنهما منعاني حقي وهما يعلمان أن محلها مني محل القطب من الرَّحى، وقالا: ألا إن في الحق إن نأخذه وفي الحق إن نمنعه، فأصرَّا وجئت حبواً متأسفا، فصبرت من كظم الغيظ على أمرِّ من ، العلقم وأمرَّ للقلب من حرِّ الشغار"، في كلامٍ له يروونه طويل، وأنه قال: "أما واللهِ لقد نقص بها أوجودهم وهو يعلمُ أن مكانها مِني مكانَ القُطب من الرحى يتحادرُ إلى السيل ولا يرقى إلى الطير، لكني سدلتُ دونها ثوبا وطويت عنها كشحا"، في أمثال لهذا كثيرةٍ يروونها عنه، وقد نزَههُ الله عنها ورفعَ قدره عن التلفظ بها، بل قد حفظَ عليه الثبتُ الثقاتُ ضدها ونقيضها. غيرَ أنكمُ تعتقدون صحة هذه الروايات عنه وثبوتها، وكل هذا نقضُ التقية، وكلام من لا يخافُ السطوة، وهو مبطلٌ لقولكم عند ضيق المطالبة إنه لم ينقُض أحكام أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ويرد فدك على مستحقها، وأنفذ ما أمضاه القومُ وأقرَّه، لأن أنصاره كانوا شيعةَ أبي بكر وعمرَ وعثمان، فإذا لم يكن عليه إظهارُ ما رويتموه من ذمه لهم وتبزيه منهم وقُبحِ الثناءِ عليهم والوصف لظلمهم وتجبُّرهم تُقيَة، لم يكن عليه أيضا تُقيةٌ في إظهاره لتحريفهم القرآنَ وإلغاء كثيرٍ منه، وذكرٍ لما عنده من الضحيح ودعائه إليه وإذكارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 إياه فكان ذلك لو فعله من أوضح حُجَجِه على ظلمهم وأقوى أسبابه، وذريعةً إلى ما يدعون الناس إلى البراءة منهم والكشف عما يدعونه من ضلالاهم. وبعد: فأيُّ تُقية عليه بعد حصول الأمر له وإشهارِ سيفِه وقتلِ من قتلَ بصفينَ والبصرة، ونصب الحرب بينه وبين مخالفيه فيما هو دون تغييرِ القرآن وامتناعه من إقرارِ معاويةَ على الشام، وقوله: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) . فقد كانَ يجبُ أيضا أن يكشفَ الحال في تغيير القوم للقرآن وذكر ما فيه من نقصان، ويكون جهاده على ذلك أعظمَ وتعلُّقه به أشد. وكان لا أقل مِن أن يترك إظهارَ متابعة القوم أن يقرأ ويُقرىءَ بقراءتِهم إذ لم ينفرد بقراءةِ حرفٍ غيرَ ما كانوا يقرؤون كانفراد ابن مسعود وترك متابعته له، وكان ذلك كافيا في تشكك القوم وانقطاع التهمة والريب ولكان أعذر له من اتباع القوم على ما كانوا عليه. وبعد: فكيف أمكن خلافُ عبد الله بن مسعود وزالت عنه التقيةُ في انفراده بحرفه ومنافرته لهم في تركِه وإخراج مصحفه إليهم وتركِ متابعته لهم على قراءةٍ يعلم أنها منزلةٌ له ومباحةٌ مطلقة، واستبداده بحرفه إلى حين رجوعه إلى قولهم، ويتميزُ الحقُ له، ولم يُمكَن علي أن ينفرد عنهم، ويُظهر ما عنده ويصنع كصنيع ابن مسعود، وقد رآه فارق الجماعةَ فلم يُقتل صبراً ولا خيف ولا سُجن، وقد كانَ عليه السّلام أقوى نفسا وأعز عشيرةً وأكثرَ شيعةً وأنصاراً من عبد الله بن مسعود، فقد كان يجب أن يفعل كفعله حتى يكون ذلك عذراً له وحجةً لشيعته والمتَبعين له، ولو كان ذلك قد وقع لوجبَ علمنا به على حد ما وصفناه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ تعلُّقهم بالتقية بطلانا ظاهراً، وصح تسليمُ عليٍّ عليه السلامُ على إقراءه الجماعة وفرقهم والمتابعة لهم على ثبوت نقلِ القرآن وصحّته من حيثُ لا يمكن دفعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 والارتيابُ به، - وجميعُ هذا الذي وصفناه يدلُّ على كذبهم على الأئمة من ولَده بنقصان القرآن. ثم يقال لهم: إن جميعَ أخباركم هذه التي تدَّعون تواتركم فيها إنما هيَ مروية عن نفرٍ من أهل البيت، وقد روينا عن سائرِهم ومن هو أكثرُ منهم عدداً من أهلِ البيت نقيضَ ما رويتموه، وأنهم جميعا كانوا يعظمون عثمانَ والصحابة، ويفضلون أبا بكرٍ وعمَر وعثمان، ويشهدونَ لهم بالجنّة ويصونوهم عن جميع أفعالِهم وسيرَيهم، وقدرُ ما رويتموه عن علي عليه السلام من أنه حمل المصف هو قُنبرُ لا يقيلانه لا يدلُّ على أن القرآن الذي حمله كان أكثرَ مما جمعوه، وعلى خلاف ترتيبه، ولعله كان فى جلود كثيفة ثقيلة المحمَل، وقدرُ ما قراه عليهم لا يدلُّ على أنهم نقصوا وضيعوا من القرآن، بل إنّما قرأ عليهم منه ما في مصحَفه، والرّواياتُ عنهم متظاهربلا متواترة على ما سنضيفه بعد ما وصفتم، وتصويبُ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ والإخبارُ بأنَّ ما فعلاه كان بملأَ من الأمة، وأحوطُ الأمور لكتاب الله غيرَ أنّنا نعدلُ في هذا الموضوع عن ذلك أجمعَ ونذكره على التفصيل وقتَ الحاجة إليه. ونسلم لكم نظراَ صحّة - جميعِ وواياتِكم عن أهلِ البيت لتغييره ونقصانه وأنها قد ثبتت وعُلم صحتُها، ونقطعُ على صدقكم فيها، فخبرونا مع تسليم ذلك، ما الدليلُ على صحة قراءة هؤلاء النّفر من أهل البيت لما قرؤوه وقولهم أن ربُع القرآنِ كان منزلاً فيهم فأسقط، وأنه قد خنَس منه ما فيه لعنُ سبعينَ رجلاً من قريشٍ بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم، وأنتم جميعا تروون عنهم روايةً لا تشكُون فيها أنهم كانوا يعتقدون - أن أول هؤلاء السبعين أو من جملتهم أبو بكر وعمر وعثمان، وطلحةُ والزّبيرُ وعبدُ الرحمن ابن عوف، وسعدُ بنُ مالكٍ وسعيدُ بن زيدٍ بن عمرَ بن نفيل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وأبو عبيدة بنُ الجراح، وغيرُ هؤلاء ممن لا حاجةَ بنا إلى ذكره، وقد عرفتم أن جميعَ من خالفكم يعتقد أنه ليس فيما أنزل الله سبحانه لعنُ أحدٍ من هؤلاء، بل فيه تقريظهم وتعظيمهم وحسنُ الثناء عليهم والأمرُ بالاستغفار لهم والاقتفاء لآثارهم، وأن جميعَ من اعتقد نقصَ هذه الطبقة من سلف الأمَّة وخلَفها وأن اللهَ قد أنزلَ في لعنِها قرآنا في نص كتابه ومحكم تنزيله فقد ضل وأخطأ، وأنهم جميعا - أعني مخالفيكم ينزهون جميع أهلِ البيت الذين رويتم عنهم هذه الروايات، وغيرَهم منهم عن هذا الذي أضفتُموه إليهم وعلَّقتموه عليهم، ويَنْسبونكم إلى الكذب والافتعال عليهم ووضع هذه التلفيقات عليهم للتأكُل والتكسب، وتروون عن أهل البيت وصفكم بالكذب عليهم والتأكُل بهم واللعن لكم، والبراءةِ منكم، فإن أبيتم إلا دفعَ الأخبار التي يروونها مخالفوكم عن أهل البيت وتصحيح رواياتكم هذه عنهم، فما الدليلُ على صحة قولكم هذا، أو صحة رِواياتكم عنهم وعلى صدقكم عليهم، وما البرهانُ على أنهم لم يغلَطوا، عليهم السلام، ولم يتأؤلوا في ذلك أقاويلاً ليس على ما قدروه، ولم يأخذوا كثيراً من هذه الأقوال والروايات عن قومٍ وضعوها لهم وتخرصوها وأسندوها إليهم إلى النبي صلى الله عليه، أو عن أبيهم علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وأنتم لم ترووا أن قراءة جعفر بن محمد، وما رويتموه أيضا عن غيره من أهل البيت مرفوعةٌ عندَهم عن النبي صلى الله عليه، ولا عن علي عليه السلام، وإنَّما رويتم أنهم قالوا: لو قُرئ القرآنُ كما أنزل لوجدوا فيه كذا وكذا، وأن كل رجلٍ منهم قرأ بكذا وكذا، وإذا لم يُسندوا ذلك ولم يرفعوه إلى جدهم وإلى أبيهم فما يُدرينا لعلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 قالوه برواية راوٍ لهم لا تقوم الحجَّة ُ بمثله، ويمكنُ الكذِب والافتعالُ في قوله وروايته، أو لعلَّهم بضرب من الرأي والتقدير، ولعلَّهم استجازوا القراءة بالمعنى وقالوا في ذلك ضرباً من التأويل، فمن أينَ نعلمُ صوابَ هذه القراءات التي رويتموها عنهم مع تجويزها عنه مع تجويز ما وصفناه، وليس هم أيضا أهلَ تواترٍ فيما يروونه، هذا مع أن قراءتَهم هذه مخالفةٌ لقراءةِ عثمانَ وعلي والجماعة، وقد اتفق عليه عندنا سائرُ سلفِ الأمَّة، الذين كل من حدَّث بعدَهم من أولادِ نبيهم وغيرهم محجوجين بقولهم وإجماعهم. فإن قالوا: الذي يدلُّ على صحة ما قرأوه أنه هو كتابُ الله المنزل دونَ ما خالفه من قول مَن كان قبلكم وقد يحدُثُ بعدهم، ما صحَّ وثبت مِن إمامتهم ونص الرسول عليهم، وما هم عليه من العصمةِ التامة والوقارةِ الكاملة، وامتناع الكذب والسهو والخطأ والإغفال والتقصير عليهم، لما أفردهم الله تعالى من عصمَتهم وألزمَ العالمَ من فرض طاعتهم والانقياد لهم، لأن اللهَ تعالى لا ينص على إمامة قوم على لسانِ رسوله إلا أن يكونوا أبراراً معصومين من كلِ زلةٍ وسهوٍ وخطيئة، ويسيرِ الذنوب وكثيرها. فيقال لهم: من سلّم لكم النص عليهم، وأنهم أئمة الأمّة، وأنهم من الوقارة والعصمَة بحيث وصفتم، وأنتم تعلمون أننا نمنع ذلك أجمعَ في على وأبي بكر وعمرَ وعثمانَ ونُبطلُ هذه الجملة، فما الحجَّة أيضا على صوابِ هذه الدعوى، وأن الخلافَ فيها كالخلاف في أمرِ القرآنِ بل لعله أعظمُ وأخطر، فإن كان صحةُ هذه القراءات المرويَّة عنهم منوطا معقوداً بصحَّة ِ إمامَتهم وثبوت النصِّ عليهم، فيجبُ أن تدعوا أولا عن ثبوت هذه الجملة. وأن فرضَ الإمامة واجبٌ من جهةِ العقل وأنها لا تثبتُ إلا بنص من الرسول. وأن ذلك النص إذا وجبَ لا يجوزُ أن يقعَ إلا على وافرٍ معصومٍ فإننا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 نخالفكم في هذا أجمع، ونرده أشد مِن ردنا لصحة هذه القراءات التي رويتمُوها عن هذا السلف الصالح، وقد يجبُ أن يقولوا على هذا الباب دون ذكرِ التواتر والاستفاضةِ وإيجابِ خبر الشيعة للعلم وقطعه للعذر، وهذا مُحير منهم، فإن عدلوا إلى تثبيت هذه الأصول وتصحيح النص كُلِّموا في ذلك بما ذكرناهُ وشرحناه في كتاب "الأمامة"، وفي "شرح اللُمَع" وغيرِه من الكتب، ولولا كراهِتنا التطويل والإكثار لذكرنا منه طرفا. وإذا فسد بما ذكرنا هناك النص وصح الاختيار، ولم يكن هذا العددُ من أهل البيت الذين رووا هذه القراءاتِ عنهم عدداً يثبُت بهم التواترُ لو رفعوا أقاويلهم هذه التي رويتموها وقرآنهم إلى النبي صلى الله عليه، وإلى أبيهم على بن أبي طالبٍ عليه السلام، وكان الخطا والسهوُ والإغفالُ والغلطُ في التأويل وقبولِ روايةِ من لم يقطَع خبرهُ العذرَ جائزاً عليهم كما أنه جائز عندنا على أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان، لم يكن معهم حجة على صواب قولهم وصحة قراءاتهم، إذا كانت الحالُ على ما وصفناهُ ولا محيص لهم من ذلك إلا تنقلُ الكلام إلى الإمامة وتصحيحِ النص، والأمرُ في ذلك أسهلُ وأقربُ فما نحن معهم فيه. ويقال لهم أيضاً: اعلموا على أننا قد سلَّمنا لكم عصمَتهم ونص الرسولُ عليهم، فمن أين لنا أنكم صادقون مما تروونَه عنهم مِن هذه القراءات، ولستم بمعصومينَ من السهو والإغفال والكذب والافتعال، بل ما نشك في أنكم تكذبون عليهم في هذا وغيرِه من الضلالات التي تُضيفونها إليهم فبان أنه لا تعلق لكم أيضا في عصمتهم وثبوت النص عليهم. ثم يقال لهم: ألستم جميعا تزعمون أن عليًّا عليه السلام وجماعة ولده وعِترَته قد أظهروا في أوقاتٍ كثيرةٍ متغايرةٍ القولَ بصحَّة مصحفِ عثمان؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وأنّه هو كتابُ الله المنزّلُ على ما أنزل، وقرأوا به وأقرأوه على سبيل التقية والخوف من قتلِ الظالمين وسيوفِهم وسطوتهم؟! لأن القوم كانوا شيعةَ أبي بكر وعمر وعثمان. فإن قالوا: نعم، ولا بُدَّ من ذلك لأنّه دينُ جميعهم، قيل لهم: فهل دل إظهارُهم لذلك على أنهم كانوا يعتقدون ما يُظهرونه. فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فما أنكرتم إذا كان هذه جائزاَ على الأئمة من أن يكون جميعُ ما أظهره علي عليه السلام وولَدهُ من بعده من هذه القراءات والأقاويل في القرآن إنما أبدوه وقالوا على سبيل التقية من مالكٍ الأشتر وعَمرو بن الحمق، وبُديل بن ورقاء الخزاعي ومحمد بن أبي حذيفة. والتجيبي والغافقي وحكيم بن جبلة العبسي، وسائر أهل الفتنة الذين كانوا يدعون إلى إمامته ويُظهرون موالاته، وأنهم كانوا مع ذلك لا يتعلّقون في الدّين بشيء، وأنّهم تهددوهُ وتوعدوه بأنه لم يُظهر مخالفةَ القوم في المصحف، والوصفِ لهم بالظلم اغتالوه وسفكوا دمه، فخاف عند ذلك سطوتهم وعلمَ مخالفَتهم ومفارقَتهم للدين، وأنّهم ليسوا بشيعةٍ لأبي بكرٍ وعمر وآله، فلمّا خافهم على نفسه أظهر ولده من ذلك ما رَويتُم، ولم يكن هؤلاء عِترته على اعتقاد شيء من ذلك، وكذلك كانت حال محمد بن الحنفيّة، والصادق والباقر في أنهم جميعا كانوا يخافون سطوةَ من يتأكَل بهم ويُنسبُ إليهم وإلى موالاتهم، ويرهبونَهم ويخافونهم على أنفسهم، فأظهروا هذه ْالقراءات وهذه الأقاويل في القرآن على وجه التقيَة والخوف من المختار بن عبيد، وأمرائه من جنده من كان في عصرِهم ممن يُنسب إلى التشيع، وتعلَمُ هذه الفرقةُ من أهلِ البيتِ أنهم ليسوا من المسلمين - في - شيء -، وأن تكون بواطنهم منظومةَ على خلاف ما أبدوه أظهروه، فإن ذلك ليس بأعظم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 إظهارِ علي والحسن والحسين بصحة مصحف عثمان وقراءته به والإقراء به دهراً طويلاً على وجه التقية مع علمهم عندكم بانّه مغير ومبدل ومرتَب على التخليط والفساد، وهذا ما لا جوابَ لهم عنه. ويقال لهم: فلعل القرآن المرتب على حساب ما أنزل ليس هو عند علي والأئمة من ولَده مما في مصحف عثمان، ولا هو هذه القراءة التي رويتموها عنه وعنهم، وأن يكون غير ذلك أجمع، إلا أن التقية منعت من إظهاره فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلاً. فإن قالوا: المتقي الخائفُ لا بدَّ له مع إظهارِ ما يُظهره مما هو متقٍ فيه عن أسباب ورموز وإشاراتٍ وأحوالٍ لا يمكن نقلها وأسبابٍ تظهر منه يُعلم بها ما هو الحق عند شيعته وأتباعه ودعاته وإن خفي ذلك على عدوه ومن خافه على نفسه، ومن لم يفعل ذلك كان غاشاً مُلبِّسا، وقد كانت هذه الأسبابُ كلها موجودةً في علي والأئمة من ولده وقت إظهارهم القولَ بتسليم مصحفه - أعني عثمانَ وصحبه - وعُلم من حالهم استبطانُهم لخلافِ ما أظهروه، ولم يكن منه ولا من ولَده شيء من هذه الأمور عند إظهارِهم للقراءةِ التي رويتموها عنهم والأقوال التي قالوها في القرآن، فوجب لذلك أن يكون دينهم في القرآن ما رويناه عنهم دون ما رواه سائرُ فرق الأمة. وفيل لهم: ما الفصل بينكم وبين مَن قالَ لكم إن جميع هذه الأسباب كانت مفقودةً من علي وولَده عند إظهمارهم القولَ بصحَّة مصحف عثمان والاعترأف به،، وأنها بأسرِها قد وجُدت من علي وولده عند إظهارهم لهذه القراءاتِ والأقوال التي رويتموها عنهم في القرآن، فعُلم بذلك أن دينَهم في القرآن وأنه بأسره الذي بين اللوحين على ترتيب ما أنزِل مذهبُ عثمانً " والجماعة، فهل تجدون في ذلك فصلاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فإن قالوا: قد نقلت الشيعةُ خلفا عن سلف، وهم قوم أثبتت الحجةُ أنهم علموا ضرورةً مِن دينِ علي والأئمة مِن ولَده أن دينهم في القرآن ما رَوُوه عنهم دُون ما رَواه أصحابُ الحديث وسائر فرق الأمَّة، فوجبَ أن يكون القولُ في ذلك ما قالت الشيعة. قيل لهم: ما الفصلُ بينكم وبينَ مَن قالَ إن أصحابَ الحديث وسائرَ فِرَق الأمَّة قد روُوا جميعا، وببعضِهم تثبتُ حجة ُ التواترِ خلفا عَن سَلفٍ أنهم علِموا ضرورةً من دِين علي وولَده أنهم يعتقدونَ في القرآن صحة مذهبِ عثمانَ والجماعة، فوجبَ أن يكون الحق ما قاله مخالفكم. فإن قالوا: لو علموا ذلك ضرورةً لعلمناه كما علِموه، ولاشتركنا في ذلك ونحن نجدُ أنفُسنا غيرَ عالمةِ بصحَّة دعواهم هذه. قيل لهم: لو علِمتم أنتم ضرورةً عند تلقيكم لهذه الأخبار عَن رُواتها أن مذهبَ علي والجماعة من ولَده ما وصَفتم، لعلمنا نحنُ وسائرُ مخالِفيكم ضرورةً من ذلك ما علمتُموه، فلما لم نجد أنفسنا عالمةَ بذلك بأن كذبُكم في هذه الدعاوي. فإن قالوا: أنتم تعلمون صحة قولنا ضرورةً ولكنكم تجحَدون وتعانِدون. قيل لهم: وكذلك أنتم تعلمون صحة نقلنا عن علي وأهل البيت ولكنكُم تجحَدون وتعانِدون. فإن قالوا: لو لم تضطرونا إلى صحة ِ قولنا فيما ندعيه على أهل البيت لم نضطر نحن إلى ذلك، فلمَّا كنَّا إليه مضطرين علمنا أن حالكم في ذلك حالنا؟ قيل لهم: ولو لم تضطروا إلى صدق ما ندعيه على علي وولده وأنكم تكذبون في ادعائكم عليهم خلافِ ذلك لم نُضطر نحن إلى أنكم تكذبون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وإلى أن دينَ عليٍّ والجماعة ما وصفناه، فلمَّا اضطُرِرنا إلى ذلك علِمنا أنكم قد اضطررتم إلى ما نحنُ إلى العلمِ مضطرون، ولا جواب لهم عن هذا أبداً - فإن قالوا: إنما يعلمُ دينَ أهلِ البيت مَن توالاهُم وثبت النص عليهم وتبرأ من أعدائهم، وهذه هي صفةُ الشيعة. قيل لهم: نحن نتوالهم ونتبرّأ من أعدائهم ولا نُثبتُ النص عليهم، ولو كنتم مُحقين في إثباتِ النص عليهم وكنَّا نحن في إنكارِه مبطلون، لم يدلّ ذلك على أنكم لا بد أن تضطروا إلى العلم بدينهم في القرآن إذا جازت عليه التقيةُ مع ثبوتِ النص، وقد يُعرف دينُ الرجل وما يقصد أن يضُر به مخالفُهُ وعدوه كما يعرفُه موافقه ومُواليه، فلا متعلق ولا طائلَ فيما ذكرتُم فبطل بذلك توهيمُكم بذكر الولاءِ والبراءِ وعودِكم إلى النص. ثم يقالُ لهم: إن وجبَ القطعُ على صدقِ هذه الطبقةِ من الشيعة في روايتهم عن علي والسلفِ الصالحِ من ولده في تغيير القرآن ونقصانه، فما أنكرتُم من وجوبِ تصديقِ الفريقِ الآخرِ من الشيعةِ الذين يروون عن مثلهم مع كثرة عددهم واختلاف هممهم وتفرق ديارهم عن عليٍّ والأئمة من ولَده أن هذا القرآنَ المرسومَ بين اللوحين هو جميعُ كتاب الله المنزل على رسوله على ترتيبه ونظامه غيرَ مغيّر ولا مبدّل ولا مزيدٍ فيه، وأنهم كانوا يقرؤونه ويُقرئونه ويوقفونهم على اعتقادهم لصحته وكماله وتمامه، والكذبُ مستحيل على مثلهم، وخبرهُم هذا معارض لخبركم في نقيض موجبِه، وقد علمتم علما لا يتخالجكم فيه الشك والريب أن في الشيعة خلقاً عظيما يعتقدون في صحة القرآن ونظمِه وترتيبه اعتقادَ أصحابِ الحديثِ وسائر فرقِ الأمة، وأئهم يروون ذلك عن علي عليه السلام والأئمة من ولده، فما الذي جعل خبرُكم بالتوثيق والتصديق أولى من خبرِهم وهم في الكثرة كأنتم بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 أكثر، لأن الدهماءَ من الشيعة والسواد الأعظمِ ينكرُ نقصان القرآنِ وتغييرَه وتبديله، ويُعظم ذلك ويتبرأ من قائله ويكفّرُ الدائن به، ويُفرقُ في ذمِ معتقده والناصر له كثرَ من افتراق جميعِ فرقِ الأمَّة، والقليلُ منهم القائلُ بقولكم والناصرُ له، ولا جواب لهم عن ذلك. فإن قالوا: القائلُ بهذا من الشيعة يناقضُ بهذا القولِ مذهبه، ودافع بمقالته هذه للولاء، ومتولٍّ بقوله الأعداءَ من ظالمي أهلِ بيت رسول الله صلى الله عليه ومصوّر لهم على ما كانوا عليه، وهذا لا يشبهُ اعتقادهم فيهم ويبرئه منهم ونحن على سنن في فرقِ القوم بما قلناه وإضافة هذه الضّلالة إليهم. يقالُ لهم: ما قلتموهُ لا يخرجُ القومَ عن أن يكونوا كثرةَ يخبرونَ أنهم نقلوا عن كثرة إلى أن يتصل ذلك بعلي والأئمة من ولده أن القرآن بأسره هو الذي بين اللوحين غير مغيرٍ ولا مبدَّلٍ ولا منقوصِ منه، فنقلُهم لهذا بمثابةِ نقلكم لضد روايتهم، فإن كانت هذه الرّوايةُ توجبُ عليهم تركَ الولاء والبراء فيجبُ أن يصيروا إلى ذلك، ويجبُ أن تصيروا أنتم أيضا إلى ذلك إذا كان هذا الخبرُ الذي رَووهُ حجة ً كاعتقادهم وآباءِهم بشيءٍ يوجبُ نقيضَ موجَب الخبر، لا يخرج الخبر أن يكون صحيحا، فالتعللُ في هذا بما قلتم لا معنى له. ثم يقالُ لهم: إن الولاء والبراء غيرُ مفتقرٍ على أصولكم إلى اعتقاد تغيير أبي بكرِ وعمرَ وعثمانَ وسائرِ الأمَّة للقرآن، وإنَّما يجبُ تولي علي والأئمة. واعتقاد كونهم أئمةَ منصوصا عليهم، والتبري ممن ظلمَهم وغَصبهم ودفعهم عن حقوقِهم وتآمر عليهم، وقد أمر بأن يكون رعية لهم. وما يتصلُ بهذه الجملة مما هو في معناها، وليس يفتقرُ اعتقادُ الولاء والبرأءِ إلى الكذب على أبي بكر وعُمر وعثمانَ بنقصان القرآنِ وتغييره، كما لا يوجب ذلك أنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 يعتقد فيه الزندقة، وأنهم كانوا ثنوية أو براهمةَ أو عبدة الدِّيك والتدرج. ومظهرين لذلك ومناظرين عليه حتى يجبُ أن يكونَ من لم يعتقد أن هذه الأمورَ كانت دينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ فقد نقضَ قوله بالولاء والبراء، وإذا كان ذلكَ كذلك بطلَ تعللُ النفس بهذا الضرب من الجهل، ووجبَ أن يكونَ نقلُ هذه الطبقة من الشّيعة عن عليّ والأئمة من ولَده تصحيحَ هذا القرآن وتسليمه، وأنه على ما أنزل غير مغير ولا مبدل مع كثرةِ عددهم وامتناع اتفاقِ الكذب منهم ووقوع تواطىء عليه، مع انكتامه عليهم يوجبُ توثيقه والقطعَ على صحته، ولا حيلةَ لهم في دفعِ ذلك. فإن قالوا: قولُ هذا الفريق من الشيعة والمفضلين لعلي وعترته قول محدَث، وإلا فقد صحّ أن يذهب علي وجميعُ السلف والأئمّة من ولَده أن القرآن مغيرٌ مبدَّلٌ منقوص، فلا معتبرَ بخلافهم. يقال لهم: افصلوا بينكم وبينَ من قالَ إن قولكم مذهبُ علي وولده القولُ بنقصانِ هذا القرآنِ وتغييره، مذهب محدَث قريبُ الحدوث، وأن شيوخَ الشيعة وغيرِهم أكثرُ وأقدمُ منه، وأن القولَ بأن مذهبَ عليّ والأئمة من ولَده أن جميعَ ما أنزلَ الله تعالى من القرآن على نبيه صلى الله عليه هو هذا المرسومُ بين اللّوحين على وجهه وترتيبه، هو المذهبُ القديمُ المعروفُ المروي عن الثبّت الثّقات وعن الكافة فلا معتبر بقولكم وخلافكم، فهل ترون لكم من هذا مخرجا؟ ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 ويقال لهم أيضاً: إن وجبَ ولزم القولُ بصحةِ خبرِكم والقطعِ بصدقكم. والمصيرِ إلى موجبِ روايتكم عن على وولَده في نقصانِ القرآنِ وتغييره وتبديله، وإفسادِ نظمه وإيقاعِ التخليط فيه لأجل ما أنتم عليه من كثرةِ العددِ واختلافِ الهِمم وتعذر اتفاق الكذبِ مِن مثلكم، واستحالةِ التواطؤ والتشاعر عليكم، فما أنكرتم من وجوب القطع على صحة خبر سائر أصحاب الحديث، وجميعِ فرقِ الأمَّة: من المعتزلة والمُرجئة والنجادية والمثبتة، في روايتهم عن علي وولده الاعتراف بصحَّة هذا القرآن المرسوم بين اللّوحين وأنه جميعُ كتاب الله تعالى، ومرتب منظوم على ما أمرَ القومَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنظمه وترتيبه، وإخبارُهم عن على وولَده بما هو معنى هذا القولِ بتفضيل أبي بكرٍ وعمر وعثمان، وحسنِ الثئاء عليهم والمدحِ لهم والتمني المضي على سبيلهم، واللعن للطاعن عليهم والتبري منهم، وما يروونه عنهم من ذم الرافضة ولعنِ الرسول لهم والإخبار عنهم بأنهم هم المعتقدون لدينكم ومذهبكم في الصحابة، لأجل أن رواةَ هذا أجمعَ عن علي وولَده من أصحاب الحديث وغيرِهم من فِرق الأمَّة أكثرُ منكم ومن سائرِ الشيعة عدداً وأشد تفرقا في البلاد وتباينا في الأحوال والأنساب، وحالُهم أثبتُ وسندهُم أظهرُ وأشهرُ عن قومٍ معروفين، وهم مع هذا أجمعَ غيرُ متهمين على علي وولده، ولا طاعنينَ عليهم ولا متبرئين منهم، وأنتم متهمون في جميع ما تروونه من ذم أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وشتمهم والتبري منهم، فسوءُ اعتقادهم فيه وشدةُ طعنكم عليهم واعتقادكم لبرءاتهم من الإسلام جملة، وإخبارُكم بأن هذا دينُ عليٍّ وولَده فيهم، والروايةُ للعنِ القومِ وذمهم، إذا جاءت ممن هذا دينُه فيهم كان من التهمة والظنة ما تعرفون، وإذا كان ذلك كذلك وكانت أخبارُ جميع هذه الفِرق المخالفةِ لكم متواترةً على علي وولده بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وصفناه وجب تصديقُهم والقطعُ على صحة رواياتِهم دون رواياتكم، فإن لم تجب هذه الجملةُ فلا أقل من أن يكون خبرُكم معارِضا لخبرهم ومقاوما له. وهيهاتَ أن يكون ذلك كذلك، وأخبارُكم عند أهلِ النقل وأصحاب الحديث التي تدعونها على أهل البيت معروفةَ النقل والطرق والرجال، وأخبارُ أصحابِ الحديث المرويَّة عن مثل: مالكٍ والثوري وطبقتهما في عصرهما، وعن معمَرٍ والزُهري وعلقمة وإبراهيم والنخعي وسعيد بن المسيب وأحزابهم من أهلِ عصرهم، إلى أن ينتهيَ ذلك إلى النبي صلى الله عليه فشتانَ بين هذه الطبقةِ وبين غيرهم من جملةِ أخبارهم ممن لا حاجةَ بنا إلى ذكره، فوجبَ بهذه الجملة سقوطُ خبركم، والعملُ على ما ترويه هذه الفرقُ والطبقاتُ المعروفةُ عن علي وعترته في أمر القرآن، وغيرِه من تفضيل الصحابة وتقريظهم، والبراءة ممن دان فيهم بدينكم، وقال عليهم قولكم. فإن قالوا: فما هذه الروايات التي ترويها هذه الفرقُ الموجبةُ لضد رواياتنا عن علي وأهلِ البيت. قيل لهم: هي أكثرُ من أن تُحصى ويُحاط بها، فمنها ما رواهُ التاسُ عن سفيانَ عن السُّدي عن عبد خيرٍ عن علي عليه السلام أنَّه قال: "رحمةُ الله على أبي بكرٍ هوَ أول من جمع القرآنَ بين اللوحين"، ولو كان جمعه له بين اللوحين ضلالةً وبدعةً على ما يصفون، أو كان جامعا له على خلافِ ما أمرَ الله جل وعز في نظمه وترتيبه، لكان عليه السلام خبرنا بذَمه وإظهارِ رُكوبه المحظور في هذا الباب، وذكرَ تأليفه له على غير وجهه، ونقصانِ ما نقصه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وكان ذلك أولى به من الترحُّم عليه، وجعل ذلك منقبةً له، والتَوهمِ لصوابِ فعله وصحةِ تأليفه. ورُوي أيضا عن عبد خيرٍ في خبرٍ آخرَ عن علي عليه السلام أنّه قال: "أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، رحمةُ الله على أبي بكر، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين "، ورووا جميعا عن شعبةَ بن علقمةَ بن مرثد، عن سُويد بن غفلة عن على عليه السلام قال: "لو كنتُ وُلِّيتُ الذي وَلِيَ عثمانُ لفعلتُ الذي فعل "، يعني في المصاحف، قالَ جميعُ من روى ذلك: إنهم علموا من قوله هذا أنَّه قد قصد إلى أنه كان يصنعُ كصَنعته في المصاحف. وروى بعضُهم أيضا عن علقمة بن مرثد عن سُويدٍ بن غفلة قال: سمعتُ على بن أبي طالب عليه السلام يقول: "أيها الناسُ الله الله وإياكُم والغلوَّ في عثمانَ وقولكم حرَّاق المصاحف، فوالله ما حرَّقها إلا عن ملأٍ منا أصحابَ محمد" في كلامٍ له في مدحهِ طويل سنذكره فيما بعد، إلى أن قالَ عليه السلام: "لو وُلِّيتُ مثل الذي وَلِيَ لصنعتُ مثلَ الذي صنع " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 فهذه الرِّواياتُ كلها أظهرُ وأشهرُ من رواياتكم عنه بخلاف ذلكَ وأصح سنداً وأثبت رجلاً، وإنّما نعني بصحّة السند وثبتِ الرجال، الطريقَ في غير خبرٍ من هذه الأخبار إذا أفرد وخُصَّ، فأما أن نحتاج إلى ذلكَ في علمنا في الجملة بأن علياً عليه السلام كان يقرأ هذا المصحف ويُلقَنه ويحكَمه ويعترفُ بصحته، ويقولُ بقولِ الجماعة فيه فإنه باطل، ولا ما نعلمُ ضرورةً إظهارَ علي عليه السلام القولَ بهذا، وأنه كان على هذه الطريقة، ولا نعلمُ ضرورةً ولا باستدلال أن علياً أظهرَ في وقتٍ من الأوقات خلافَ ذلك على ما يدّعيه قوم من الشيعة، ولا خلافَ بيننا وبينهم وبين مخالفينا من الشَيعة في هذا الباب بأن عليا عليه السلامُ كان يُظهرُ القولَ بهذه الجملة، وأن دينَه في المصحف لعثمانَ ما وصفناهُ ولا يمكنُ أحدٌ منهم دفعَ هذا أو جحده. وقولُهم بعد هذا: أنه أظهر ذلكَ برهةً من الزمان ثمَّ أظهرَ خلافه، وأنه كان ابتدأ بإظهار خلافه باطلٌ لا أصل له. ويقال لهم: إن كان ابتدأ بإظهار خلاف ثم أظهر بعد ذلك خلافَه بما وصفناه فَذلك رجوع منه عن قوله الأول، ويجبُ العملُ في مذهبه إلى ما صار إليه، وإن كان أظهرَ خلافَ ما قلناه، وعلمنا إظهارَه له ضرورةً، وكان إنما أظهرَ ما قلناهُ أوَّلاً على سبيلِ التقية، ولم نأمنْ أن يكون أيضاً إنما أظهرَ الثّاني لأجلِ تقُيةٍ أخرى من قوم آخرين هم أشر من القومِ الذين خافهم على نفسه أولاً أو مِثلهمْ في الشر، بل لعل القولَ الصحيحَ عنده هو الذي وقفَ عليه وهو معتقدٌ له القولُ الأولُ الذي هو دينُ عثمانَ والجماعة، وأن يكونَ القولُ الثاني إنما ظهرَ منه على سبيل التقية ِ من أشرارِ قومٍ كانوا مختلطين بأصحابه، قليلي البصائرِ والرغبةِ في طاعةِ الله تعالى وكثيري الخلافِ عليهِ والشقِ لعصاهُ والتعقُبِ على أمره، وهم الذين حملُوه على التحكيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وكفِّ الحربِ، وهم الذين عناهُم بقولهِ: "بدَّل الله لي بكم أصحابَ معاويةَ صرفَ الدرهمِ بالدينارِ"، وكثرةُ الذم لهم والدعاءِ عليهم، وتمني الخلاصِ منهم، وما حُفظ عليه شيء من ذلك في فريقٍ من الأمَّةِ قبلَ أيام نَظرِه بأواخرِ أفعالهِ وأقوالِه الواقعةِ منه في هذه الأيامِ أشبهَ بأن تكونَ واقعةً على سبيلِ التُقيةِ إذ كانت أسبابُ التُميةِ ظاهرةً، وقد بئتا في غيرِ موْضعٍ بطلانَ هذه التُقية، وأنَّه لا أصلَ لها ولا دليلَ لهم عليها بما يُغني عن رَده. وكلُ هذه الرواياتِ عن علي في القرآنِ وفي القِراءاتِ المنسوبةِ إلى مصحفِ عثمانَ نقيضُ تواتُركمِ عنه الذي تدعونه، ومع ذلكَ فقد وافقتمونا على أنه كان مُظهراً للجملة التي ذكرناها عنه في باب القرآن، ونحنُ غيرُ موافقين لكم في روايَتكم عنهُ أنه قالَ في بعضِ الأوقات غيرَ ذلك، وأنَّه إنما أظهرَه على سبيل التقية، وإذا كان ذلكَ كذلكَ كانت أخبارنا أولى بالثبوتِ والصحةِ من أخبارِكم من كلِ وجهٍ وطريق. وكذلك أيضا فقد روى أصحابُ الحديثِ كافةً عن كافةٍ خلَفا عن سلَفٍ من تفضيلِ علي عليهِ السلامُ لأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، وتعظيمِ شأنِهم وجميلِ الثناء عليهم ما في بعضهِ دلالة على أنهم لم يغيروا القرآنَ ولا بدلُوه ولا شيئا من أحكام الدينِ، فمِن هذهِ الأخبارِ ما رَوتهُ الجماعةُ عن أبي الأحوصِ عن أبي جحَيفة قالَ: "سمعتُ علي بنَ أبي طالبٍ عليهِ السلامُ على منبرِ الكوفةِ يقول: إن خيرَ هذهِ الأمَّة ِ بعدَ نبيها أبو بكر، ثمَّ خيرهُم بعد أبي بكرٍ لم أجده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 عُمر، والثالثُ لو شئتُ لسميتُه "، وروي عن شريكٍ عن الأسود بن قيسٍ عن عمرَ عن سفيانَ قالَ: قال عليُ بنُ أبي طالبٍ عليهِ السَّلامُ: "سبقَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وثنى أبو بكرٍ وثلث عُمرُ". ورُوي عن عليِ بنِ هاشم عن أبيه عن أبي الجحاف قال: "قام أبو بكرٍ بعدَ ما بُويعَ له، وبَايعَ علي وأصحابُه، قامَ ثلاثا يقول: "أيها التاسُ قد أقلتكم بيعتكم هل من كارهٍ، فيقومُ علي عليهِ السَّلامُ أوائلَ الناسِ يقولُ: لا نُقيلُكَ ولا نستقيلك، قدَّمكَ رسولُ الله فمن الذي يُؤَخركَ ". ورَوَوا عنه عليه السَّلامُ أنه قال: "قَدَّمَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ أبا بكرٍ يصلي بالناس، وقد رآني وما كنتُ غائبا ولا مريضا، ولو أرادَ أن يُقدِّمني لقدَّمني، فرضينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 لدُنيانَا من رضيَهُ رسولُ الله لديننا". وروى عبدُ خيرٍ قال: "سمعتُ عليا يقولُ: قبضَ اللهُ تعالى نبيّه على خيرِ ما قُبضَ عليه نبيا من الأنبياء، وأثنى عليه، ثمَّ استُخلِفَ أبو بكرٍ فعمِلَ بعملِ رسولِ اللهِ وسنته، ثمَّ قُبضَ أبو بكرٍ على خيرِ ما قَبض اللهُ عليه أحداً وكان خيرَ هذه الأمَّةِ بعد نبيها، ثمَّ استخُلفَ عمرُ فعملَ بعملِها وسننهما، ثمَّ قُبض على خيرِ ما قَبض اللهُ عليه أحداً، وكان خيرَ هذهِ الأمَّة بعد نبيها وبعد أبي بكرِ". وروَى عن كُثير النواء عن أبي سريحة قال: "سمعتُ عليا يقولُ على المنبر: ألا إن أبا بكر كان أواها منيب القلب، وأن عمرَ ناصحَ الله فنصَحه ". وروي عن سالمٍ بنِ أبي حفصَة عن عبد الله بنِ مليلٍ عن على ابن أبي طالبٍ أنه قالَ: "لكل نبيٍ سبعةُ نُجباءٍ مِن أمّته، وإنّ لنبينا أربعةَ عشَرَ نجيِباً منهم: أبو بكرٍ وعُمر". ورَوَوا من غير طريقٍ عن منذرٍ الثوري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وغيرهِ عن محمد بنِ الحنفية قال: قلت لأبي علي بنِ طالبٍ: من خيرُ الناسِ بعدَ رسولِ اللهِ، قال: أبو بكر، قلتَُ -: ثمَّ مَن، قال: ثمَّ عمر، ثمَّ بادرتُ فخفتُ أن أسالَه فقلتُ: ثم أنتَ، قال: أبوكَ رجل من الناسِ له حسنات وسيئات يفعلُ اللهُ ما يشاءُ". ورَوَوا أن علياً عليهِ السلامُ قيلَ لهُ: استخلف علينا، قال: ما أستخلف. لكن إن يردِ اللهُ بهذه الأمَّة خيرا يجمعُهم على خيرِهم كما جمعَهم بعد نبيهم على خيرِهم ". ورَوَوا عن عبيدة السلماني وغيرهِ من الرواةِ عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنه أرسلَ إلى رجلٍ بلغهُ أنه عيبُ أبا بكرٍ وعمرَ ويطعنُ عليهما، فجيء بالرجلِ فعرضَ علي عليهِ السلام بعيبهما عنده، فَفَطِنَ الرجلُ فقال: أما والذي بعثَ محمداً بالحقِ لو أني سمعتُ منكَ الذي بلغني عنكَ أو يثبتُ به عليكَ بنيَّة لألقيتُ عنكَ أكثرك شعراً، يعني رأسَه". ورَوَوا عن جعفرِ بنِ محمد أنه رَوى عن أبيهِ قال: قالَ رجل لعلي: يا أميرَ المؤمنين، سمعتك تقولُ في الخُطبةِ أيضا: اللهمَ أصلحنا كما أصلحتَ به الخلفاءَ الراشدينَ المهديين، فمن هم، فاغر ورَقت عيناهُ ثمَّ أهَملهُما، وقال: هما حبيبايَ وعمَّاكَ أبو بكرٍ وعمرُ رضي الله عنهُما، إماما الهُدى وشيخَا الإسلامِ ورجلا قريشٍ المقتدى بهما بعدَ رسول اللهِ - صلى اللهُ عليهِ، من اقتدى بهما عُصم، ومن تبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 آثارهما هُدي إلى صراطِ مستقيمٍ، ومن تمسكَ بهما فهو حزبُ الله وحزبُ الله هم المفلحون". ورَوَوا عن علي بنِ أبي طالبِ عليهِ السلامُ وأبي أيوبِ الأنصاري أن النبي صلى الله عليهِ قالَ: (إن اللهَ أمرني أن أتخذَ أبا بكرِ والداً (1) . ورَوَوا عن أبي رجاءٍ العَطارديَ قال: "سمعتُ عليا والزبيرَ بن العوامِ يقولانِ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضلُ أمتي أبو بكرِ". ورَوَوا أيضا عن أبي رجاءٍ العطاردي عن على بنِ أبي طالبٍ والزبيرِ بن العوامِ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليهِ يقولُ: "الخليفةُ بعدي أبو بكرِ ثمَ عمرُ". قال أبو رجاءٍ فدخلنَا على علي فقلُنا يا أميرَ المؤمنينَ، سمعنا الزبيرَ يقولُ: سمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ يقولُ: الخليفةُ بعدي أبو بكرٍ ثم عمرُ، فقال: صدَقَ، وسمعتُ ذلكَ مِن رَسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ، ورَووا أيضا عن غيرِ واحدٍ من أصحابِ علي عليهِ السلامُ أنه كان إذا ذُكر عنَده   (1) ذكر ابن الجوزي في "الموضوعات " (1: 402 في كتاب الفضائل باب في فضائل الأربعة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 أبو بكرٍ قالَ: السَّباقَ تذكرونَ يقولُها ثلاثا: والذي نفسي بيدِه ما استبقنا إلى خيرِ قط إلاسبقنَا إليه". ورُوي عن جابرِ بن عبد الله وأبي جحيفة وجعفرِ بن محمدِ عن أبيه عن جدهِ عن علي عليهِ السَّلامُ قال: "كنتُ جالسا معَ رسُولِ الله صلى اللهُ عليهِ فأقبل أبو بكر وعمرُ، فقال لي: يا علي هذان سيدا كُهولِ الجنةِ من الأولينَ والآخرِين، ما خلا النبيينَ والمُرسلين، لا تُخبْرهما يا على". ورووا في أكثرِ الروايات عنه: "ما خلا النبيين والمرسلينَ ممن مضى في سالف الدهر، ومن بقيَ في غابرة، يا علي: لا تخبرهما بمقالتي هذه ما عاشا،. وقد روى عن النبى صلى الله عليه هذا الخبر خلق من الناسِ غيرُ علي. منهم أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. وأبو هريرة، وجابرُ بن عبد الله، والحسنُ بن علي، وأبو مريم السلولي، وأنسُ بن مالك، كل روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ روايةِ علي عليه السلام يزيدُ لفظة، واللفظتين أو يُنقِص، وروى هذا الخبرَ عن علي بن أبي طالب خلق من الرواة منهم: سويدُ بن غفلة، وزرُّ بن حبيش، وعبدُ الله بن أبي ليلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 وعمرو بن شرحبيل أبو ميسرة، وعاصم بن ضمرة، والحارثُ الأعور. وعامر الشَعبي، وأبو البختري الطائي، وأبو عبد الرحمن السلمي. وغيرهم أيضا، وبدون هؤلاء يثبت التواتر عنه، وليس في أخباركم خبر تروونه عنه في نقصان القرآن وتغييره يجري مجرى هذا الخبر ولا يقاربه، بل لا رواية تعلم عنه أصلاً في ذلك إلا ما تصنعونه وتلفقونه. ورووا أيضا عن مالك بن مغول عن السُّديّ عن عبد خير قال: "كنتُ عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام جالسا فقال له رجل: يا أميرَ المؤمنين. من أولُ من يدخلُ الجنّة من هذه الأمة، فقال أبو بكر وعمر: فقال له رجل اَخر: يا أمير المؤمنين، ويدخلانها قبلك، قال: أي والله ويشبعان من ثمارها" وروي أيضا عبد خير عن علي عليه السلام قال: سبقَ رسولُ الله وصلى أبو بكرٍ وثلث عمرُ ثم خبطتنا فتنة يعفو الله عمّا شاء". وروى أبو الطفيل عن علي قال: "سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ وثلّث عمر، وخبطتنا فتنة، فهو ما شاء الله عز وجل ". وفي رواية أخرى عنه: "فما شاء الله "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وفي رواية أخرى: "يصنغ الله فيها ما شاء" وفي رواية أخرى عن عبد خير قال: "سمعت عليا يقول: سبق رسول الله، وصلى أبو بكرِ، وثلث عمر، ثمّ خَبطتنا فتنة فهوَ ما شاء الله، فمن فضلني على أبي بكرِ وعمرَ فعليه حدُّ المفترِي من الضرب، وطرح الشهادة". ولولا خوفُ الإطالة والإكثار لذكرنا من كلامه في تفضيلهما في خُطبه على المنابر ومقاماته ومشاجراته أضعاف ما ذكرنا. فأمَّا ما يرويه جماعةُ أصحابِ الحديث روايةً ظاهرةَ مستفيضةَ عن علي في عمرَ من التفضيل والتقريظ فهو أيضا أكثرُ من أن يُحاط به، فمنها ما ذكرناهُ من قوله: "إن أبا بكرِ كان أواها منيبا، وإن عمرَ ناصحَ الله فنصحُه. وقد كئا نرى شيطانه يهابُه أن يأمُره بمعصيته ". وهذا مروي من طريقِ الشعبي ومن رواية الشعبي أيضا عن علي أنّه قال: "كان عمرُ ليقول الحق فينزلُ القرآنُ بتصديقه ". وروى مجالدٌ عن عامر الشعبي عن على كرّم الله وجهَه، أنه قال: "إنَّ في القرآن من كلام عمرَ كلاما كثيراً". يريد من الأوامر والأحكام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ورُويَ عن واحدٍ عن علي عليهِ السلامُ أنَّهم سمعوه يقول: لأدخلتُ على عمرَ حين وجأة أبو لؤلؤة وهو يبكي، فقلت: ما أبكاك يا أميرَ المؤمنين، فقال: أبكاني خبرُ السماء، أيُذهب بي إلى الجنة أو إلى النار، فقلتُ: أبشر بالجنة، فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ ما لا أحصِي: "سيدا كهول أهلِ الجنة أبو بكرٍ وعمرُ، وأنعما، فقال: أشاهد أنتَ يا على بالجنة، فقلتُ نعم، وأنت يا حسنُ فاشهدَ على أبيك رسولِ الله، أن عمرَ من أهل الجنة". وروى جعفرُ بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: "لمَّا طُعنَ عمر عليه السلام قال: أعَن ملإ منكم هذا، فقال علي: ما كان عن ملإ منا ولودِدنا أنه قد زِيد في عُمرك من أعمارِنا". ورَووا جميعا عن عُقيلٍ بن خالد عن محمدٍ عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله ابن عباس قال: قال لي علي بن أبي طالب: ما علمتُ أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفيا إلا عمرَ بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرةِ تقلَّد سيفَه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وتنكب قوسه وانتضى أسهما في يده وأحضرَ عِترتِه، ومضى قبل الكعبة. والملأ من قريش بفنائها، فطافَ بالبيت سبعا متمكنا، ثمّ أتى المقام فصلى متمكنا، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه لا يُرغمُ الله إلا هذه المعاطِس، من أرادَ أن تثكُله أمّه أو يوتَّم ولَده أو يُرمّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ عليه السلام: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين عليهم دارَ شَرُّهم ومضى لوجهه". ورووا جميعاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة أن عمر لما ماتَ دخلَ عليه علي بن أبي طالبٍ عليهما السّلام وهو مسجا بثوبه، فقال: ما أحد أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجَّا بينكم، ثم قال: رحمك الله يا ابن الخطاب أن كنت بذات الله لعليما، وأن كان الله في صدرك لعظيماً وأن كنت لتخشى الله في النّاس ولا تخشى الناسَ في الله، كنت جواداً بالحقّ بخيلاً بالباطل، خميصاً من الدنيا بطينا من الآخرة، لم تكن غيّاباً ولا مدَّاحا". في أمثالٍ لهذه الأقاويل كثير قالها ورواها في عمر، فيها من تفضيلِه وتعظيمِ شأنه وذكر قدره ومحلِّه عند الله ورسوله، ومكانِه من الذين، يُؤذِنُ بفضلٍ عظيمٍ وتقديمٍ شديدٍ، كرهنا الإطالة بها، كل هذه الأقاويل والروايات لا تجوز عندنا وعندهم أن نقولها ونرويها في قومٍ ابتدعوا في الدين ما ليس منه بجمع كتابِ الله بين لوحين، وغيَّروا القرآن وبذلوا كثيراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 منه ونقْصوا منه أمراً عظيما، وأسقطوا أسماء رجالٍ ملعونين في نص تنزيله. وحذفوا أسماء آخرينَ ممدوحينَ مقرَّظين مأمورٌ باتَباعهم في نصه، فإن فاعلَ هذا بالخروجِ عن الدين والإدغال له والاستحقاق للعن والإهانة وقبيح الأسماء وعظيم الذّم أولى بما وصفه ورواه عليٌّ فيه، وكل هذه الروايات أشهرُ وأظهرُ وأعلى وأكثرُ رجالاً وأوضحُ طرقا من رِواياتكم، ونحنُ وإن لم نعلمْ عين كل خبرٍ من هذه الأخبار ضرورة، فقد عرفنا في الجملة ضرورة مدحَ علي لهما وحسنُ ثنائه عليهما، وقد قُلتم معنا بذلك وادعيتُم عليه التقية، وأنه قال في مقاماتٍ أخرَ نقيضَ هذه الأقوال، وهذأ منكم غيرَ مسموعٍ ولا مقبولٍ ولا معلومٍ صحته، فصح ما قلناه وبطلَ تسويفكم أنفسُكم بالتعاليل والأباطيل، وأما رِواياتُ أهل البيت عن علي وسائرِ أسلافهم بتفضيل الصَّحابة وتقديمهم وحُسنِ الثناء عليهم والتَبري من أعدائهم والقادح في فضلهم، فأكثرُ من أن يحاط بها، فمن هذه الأخبار: ما رَووه عن محمد بن فُضيل عن سالم ابن أبي حفصة قال: "سألتُ أبا جعفرٍ محمد بن عليّ وجعفر بن محمدٍ عن أبي بكر وعُمرَ. فقالا: يا سالمُ توالاَّهما، وابرأ من عدؤوهما فإنهما كانا إمامي هُدى". ورووا أيضا عن بشير بن ميمون أبي صيفي عن جعفر بن محمد عن أبيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 قال: "توالوا أبا بكر وعمر، فما أصابكم من ذلك فهو في عنقي ". ورووا عن أبي عقيلٍ عن كثيرٍ النواء قال: "قلتُ لأبي جعفرَ بن محمد بن علي: أخبرني عن أبي بكر وعمر أظَلَما من حقكم شيئا أو ذَهَبا به فقال: لا ومنزَل الفرقان على عبده ليكونَ للعالَمين نذيراً، ما ظلما من حقنا من يزنُ حبةَ خردلة، قال: قلتُ: أتتوالاهُما جعلني الله فداك قال: نعم يا كثير أتوالاَّهما في الدنيا والآخرة، قال: وجعلَ يصلُ عنق نفسه بعنقي، قال: ثم قال: برئ الله ورسوله من المغيرة بن سعيد وبيان، فإنهما كذبا علينا أهل البيت ". ورووا أيضاً عن خلفِ بن حوشب عن سالمٍ بن أبي حفصة، قال: دخلتُ على جعفر بن محمد الصّادق وهو مريض، قال: فقال: اللهمَ إني أحبُّ أبا بكرٍ وعمرَ وأتوالاهما، اللهمَّ إن كان في نفسي غيرُ هذا فلا تنالني شفاعةُ محمد صلى الله عليه ". ورووا أيضاً عن سالم بن أبي حفصة قال: قال لي جعفرُ بن محمد يا سالم: أَيسبُّ الرجلُ جده، أبو بكرِ جدّي، لا نالَتني شفاعة محمد صلى الله عليه يوم القيامة إن لم أكن أتوالاهما وأبرأ من عدُوهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 ورووا عن عبد العزيز بن محمد الأزدي، قال: حدَّثنا حفص بن غياث قال: سمعتُ جعفر بن محمد يقول: "ما أرجو من شفاعة عليٍّ عليه السلام شيئاً إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. ورووا عن علي بنِ الجعد عن زهير بن معاوية عن أبيه، قال: "كان لي جارٌ يزعمُ أن جعفر بن محمد بن على بن الحُسين يتبرأ من أبي بكر الصديق وعمرَ، قال: فغدوتُ على جعفر فقلتُ له: إن لي جارا يزعمُ أنك تتبرأ من أبي بكرٍ الصديق وعمرَ، فما تقول له: قال برئ الله من جارك، إني لأرجو أن ينفعني الله بِقرابتي من أبي بكر الصديق، ولقد اشتكيتُ شكاةً أوصيتُ فيها إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ورووا عن أبي حازم عن أبيه، قال: "سُئل عليّ بنُ الحسين عن أبي بكر وعمر ومنزلتهما عن النبي صلى الله عليه قال: لمنزلتُهما اليومَ منه هما ضجيعاه ". ورَوي عن إسحاق الأزرق عن بسام بن عبد الله الصيرفي قال: "سألت أبا جعفر محمدٍ بن علي قلتُ: ما تقولُ في أبي بكرِ وعمرَ رضي الله عنهما؟ فقال: والله إني لأتوالاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتوالاهما". ورووا عنه أيضا أنه قال: "من جعلَ عمرَ بن الخطاب بينه وبين الله فقد استوثق ". ورووا عن جعفر بن قيس قال: "سألتُ عبد الله بن حسن عن المسح على الخفين فقال: امسح فقد مسح عمرُ بن الخطاب، قلت: إنما أسألك. أنت، أمسحُ، قال: ذاكَ أعجز لك، أخبرك عن عمرَ وتسالُني عن رأيي؟ ! فعمر كان خيراً مني وملءِ الأرضِ مثلي ملزوما، يا محمدُ إنَ ناسا يقولُون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 هذا منكم تقيةً فقال لِي، ونحن بين القبرِ والمنبَر: اللَّهُمَّ إنَ هذا قَولي في السر والعلانية، فلا تسمعَن قولَ أحدِ بعدي، ثُمَّ قال: مَن هذا الذي يزعُم أنَ علياً كان مقهوراً، وأن رسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ أمرهُ بأمرٍ لم يُنفِّذه، وكفى بهذا أزرَاً على علي ومنقَصةً أن يزعُمَ قوم أن رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ أمرهُ بأمرٍ فلم ينفذه ". ورَوَوا أيضا عن محمدِ بن شُعبةَ الباهلي عن علي بن هاشم عن أبيه قال: "سمعتُ زيدَ بن علي بنِ الحُسينِ، يقولُ: "البراءةُ مِن أبي بكرٍ وعمرَ البراءةُ من علي عليهم السلامُ ". ورَوَوا عن ابنِ داوودَ عن فضيلِ بن مرزوقٍ قال: قال زيد بنُ عليٍ بن الحسين: "أما أنا فلو كنتُ مكانَ أبي بكرِ لحكمتُ بمثلِ ما حكمَ بهِ أبو بكرٍ في فَدَك ". ورُوِيَ عن عمرو بن سَمرةَ عن عروةَ بنِ عبدِ الله الجعفيٍ قال: "قلتُ لأبي جعفرَ أنسَفَي أبا بكرٍ الصديقِ قال: سمّاه رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصديق، فمن لم يسمه الصديقَ فلا صدَّق اللهُ لقولهِ في الدنيا والآخرة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ورَوَوا عن زيدِ بن علي أنه قال: "أبو بكرٍ الصديق إِمامُ الشاكرين، وقرأ (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) . ورَوَوا عن السَّريِ بنِ يحى عن هلالِ بنِ حيانَ عن الحسنِ بنِ محمد بنِ الحنفية أنه قالَ: "يا أهلَ الكوفةِ اتقوا الله ولا تقولوا لأبي بكرٍ وعمرَ ما ليس له بأهل، إن أبا بكرٍ الصديقَ كان معَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليهِ في الغار، ثاني اثنين، وإن عمر عزَّ اللهُ بهِ الدينَ "، ورُويَ عن أبي خالدٍ الأحمر قال: "سألتُ عبدَ الله بنَ حسنٍ بنِ حسن عن أبي بكرٍ وعمرَ، فقال صلى الله عليهما، ولا صلى الله على من لا يصلي عليهما". وروي عن نِصاحَ بنِ حسانَ عن فُضيلِ بنِ مرزوقٍ قالَ سمعتُ عبد الله بنَ حسنِ بنِ حسنِ يقولُ لرجلٍ من الرافضةِ: "إنَّ قتلَكَ لقربة إلى الله تعالى". ورَوَوا أيضاً عن جعفرَ بنِ عونٍ عن فُضيلِ بن مرزوقٍ قالَ: "سمعتُ الحسنَ بنَ الحسنِ وقال له رجل: ألم يَقُل رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاَه، قال: بلَى، أما واللهِ لو يعني بذلكَ الإمارةَ والسلطانَ لأفصحَ لهم بذلكَ، فإنّ رسُولَ الله صلى اللهُ عليهِ كانَ أنصحَ النَّاسِ للمسملمينَ لقالَ لهم: "أنَّها الناسُ هذا وليُّ أمركم والقائمُ عليكم مِن بَعدي، فاسمعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 له وأطيعوا، ما كانَ هذا يَشق فوالله لئن كانَ اللهُ ورسولُه اختار عليا لهذا الأمرِ، والقيامِ به للمسلمين مِن بعدهِ ثم تركَ على عليه السَّلامُ أمرَ اللهِ ورسولهِ أن يقومَ بهِ أو تعذر منه إلى المسلمينَ إن كان أعظم الناسِ في ذلك خطيئةً لعلي إذ تركَ ما أمرَ اللهُ ورسولهُ واختارهُ الله ورسولهُ له وحاشاهُ من ذلك!. ورووا أيضا عن مصعبِ بنِ سلامٍ عن جعفرَ بنِ محمدٍ عن أبيه أن عبد الله بن جعفر قال: "رحم الله أبا بكرٍ كان لنا واليا فنِعمَ الوالي كانَ لنا. ما رأينا قاضيا قطُ كان خيراً منه ". ورَوَوا عن محمدٍ بنِ الصباحِ عن يحيى ابن سليمان قال: "سمعتُ جعفرَ بن محمد يقولُ: سمعتُ أبي يقولُ: سمعت عبدَ الله بنَ جعفرٍ يقول: ولِينا أبو بكر رضوان الله عليه فَخيرُ خليفة، وأرحمهُ بنا، وأحناهُ علينا". ولو أردنا تتبعَ ما رُوي عن أهلِ البيتِ وولَدِ عليٍّ خاصة في تفضيلِ أبي بكرٍ وعمرَ، ونشرِ محاسِنهما، وجميلِ الثناءِ عليهما والقولِ فيهما لخرجنا بذلك عن غرض الكتاب، وقد أسهبنا فيما ذكرناه من هذه الأخبار صوبا من الإسهاب للحاجة إلى معارضةٍ بنقيضها، وليعلم قارئ ما ذكرناه أن الروايات عن أهلِ البيتِ ظاهرة منتشرة بضد ما يروونه عنهم، وأما ما رُوي عن على عليهِ السَّلامُ وولَدِه في سبِّ الرافضةِ ولعنهم والبراءةِ منهم فكثير أيضا، وظاهر مستفيض بين أهلِ النقلِ، فمِن هذه الأخبارِ ما رَواه الناسُ عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 حُصينِ بنِ عبد الرحمنِ عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلمي عن علي عليهِ السلام ُ قال: "قالَ لِي رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ سيأتي من بعدي قوم لهم نبزٌ يقال لهُ الرافضة، فإن أدركتَهم فاقتلهُم فإنهم مشركون، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ والعلامةُ فيهم، فقال: يُقرِّظونكَ فيما ليسَ فيك، ويطعنونَ على السَّلفِ ". ورَوَوا أيضاً عن على عليهِ السلامُ قالَ: قال لِي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "أنتَ وشيعتك في الجنَّةِ، وإن قوما لهم نبزٌ يقالُ لهم الرافضة، فإن لقيتَهم فاقتُلهم فإنّهم مشركون ". وقال على عليهِ السَّلامُ: "ينتحلون حُبَّنا أهلَ البيتِ وليسُوا كذلك، وآيةُ ذلك أنهم يشتمون أبا بكرٍ وعمرَ عليهما السَّلامُ " ورَوَوا عن كثير النواء عن إبراهيمَ بنِ حسنِ بنِ حسن عن أبيه عن جدهِ على بنِ أبي طالبٍ عليهِ السَّلامُ أن النبى صلى اللهُ عليهِ قالَ: "يظهرُ في أمتي في آخرِ الزمانِ قوم يُسمونَ الرافضة، يرفضونَ الإسلامَ ". ورُوِيَ عن أبي الجحافِ داودِ بنِ أبي عوفٍ عن محمد بنِ عَمرٍ الهاشمى عن زينبَ بنتِ على عن فاطمةَ بنتِ محمدٍ قالت: "نظر النبي صلى الله عليهِ إلى علي كرم اللهُ وجهه، فقالَ: هذا في الجنَّةِ، وإن من شيعَته قوماً يغطُّونَ الإسلامَ ثمَّ يلفِظونه، لهم نبز يُسَمَّونَ الرافضة، من لقِيهم فليقتُلهم فإنهم مشركون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 ورَوَوا عن الفضلِ بن غانمٍ عن سِوارِ بن مُصعبٍ عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخُدري عن أم سلمةَ قالت: "كانت ليلتي، وكان النبي صلى اللهُ عليهِ عندي فأتَتهُ فاطمةُ ومعها علي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا علي أنتَ وأصحابُكَ في الجنَّةِ، أنتَ وشيعتك في الجنَّة، ألا إن ممن يزعُم أنه يحبكَ لأقوام يُظهرون الإسلامَ، ثم يلفِظونه يقرَؤون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيهم، لهم نبَز يقالُ لهم الرافضة ُ فجاهِدهم فإنّهم مشركون، قالَ: يا رسولَ اللهِ ما العلامةُ فيهم، قال: لا يشهدونَ جمعةً ولا جماعة ويطعنون على السلفِ الأول ". فإن قالوا: جميعُ هذه الأخبارِ وما رَويتُموه من تفضيلِ على ووَلده لأبي بكرٍ وعمرَ، وجميلِ القولِ فيهما، وما رويتموهُ من قولِ علي في أبي بكر: "رحمةُ الله على أبي بكرٍ كان أول مَن جمعَ القرآنَ بين اللوحين "، وقوله في جمعٍ عثمانَ لمُصحفه: "ولو ولِّيتُ مثلَ الذي ولِيَ، لصنعتُ مثلَ الذي صنعَ "، وقوله: "إياكمُ والغلوَّ في عثمانَ وقولكم حرَّاقُ المصاحفِ " إلى آخرِ الخبر، وجميعِ ما يروونه عن الرسول ِ عليهِ السلامُ من فضائل أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وغيرِهما من أعداءِ أهلِ البيت، أخبار مُفْتَعَلَةٌ متكذبة لا أصلَ لها. وإنّما هي مِن وضع أبي هُريرة وشيعةِ معاويَة، وأكَلَةِ المضائر وأتباعِ المروانية، وتكذُب الحنابلة والبربهازية، ولا يجبُ القولُ بشيءٍ منها ولا العملُ به، وأخباركم التي روَيناها في نُقصان أئمتكم من القرآن وغيرِ ذلكَ من الأخبارِ عن ظُلمهم وتجبرهم وسُوءِ الثناء عليهم مَرويٌّ عن العِترةِ والصّفوةِ والقدوَةِ من أهل البيت، يوجبُ العملَ على روايتنا دونَ روايتكم لأنكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 ترُدون أخبارَ أهلِ البيت، وتقبلون رواية مَعْمر والزهري وابن المسيبِ ومالكٍ وسفيان وأمثالِ من ذكرنا. قيل له: هذا الكلامُ قد ألَف منكم وعُرفَ به قصدُكم والوقتُ الذي تحتاجون إلَيه، لأنكم إنّما توردونَ ذلكَ عندَ ضيقِ الأمرِ بكم، وبلوغِكم المسَاقطَ وحين تعلمون أنّه لا حيلة ولا مهرَب إلاّ إلى التشنيع والشغَبِ والإلباسِ بهذا الكلام على من ليس من العلمِ وأهلِه بسبيل، فأول ما نقولُ لكُم فِيما تعاطيتم به إثباتُ أخباركم ودفعُ ما رويناهُ لكم: أن جميعَ ما رَوَيناهُ في هذه الفصُول، وفي أقوالِ علي عليهِ السلام، وجميعِ مَن تَرون إمامتَه وعصمتَه من أهلِ البيتِ بصحّهِ القرآنِ وسلامةِ هذا المُصحفِ من التحريف والزيادةِ والتقصانِ ظاهر منتشر بين أصحابِ الحديثِ وأهلِ الآثار ِ لا يمكن أحد دفعه، وظهورُه بينهم وكثرةُ رواتِهِ، وصحةُ سنَده وثبتُ رجاله، وأنّه مِن أكثرِ شيءٍ تروُونه، وأن عِلمَهم بذلك وشهرَته عَن على وعِترَته كشُهرة جميعِ ما شُهر من مذاهب علي وأقوالِه، فلا سبيلَ إلى جحدِ ذلكَ بالقدحِ في مذاهبِ رواة هذه الأخبار، والطعنِ على دينهم وأمانتِهم فقط بغيرِ حجّة. وأمّا قولُكم إن هذه الأخبارُ من وَضع أبي هريرة وشيعةِ معاويةَ وبني مروانَ، فإنها دعوى فارغة لا حجَّةَ معها، وهي بمثابةِ قولِ من قالَ لكم: إن جميع أخبارِكم والفضائلَ التي تروونها -، وكلما تذكرونه في نقصان القرآن إنما هو في الأصلِ مِن وضعِ الأشتر النحعيّ، وحجرِ بن عدي، وعمروِ بن الحمقِ، وكنانةَ بن بشرٍ التجيبي، والغافقي، وحكمِ بن جَبَلَةَ العبسي. وعبد الله بنِ سبأ" وسودان بنِ حُمرانَ المصريِّ، والمختارِ بنِ أبي عُبيد، وشيعته، وابنِ كيسان وطبقتِه، ومنه ما وضعه هشامُ ين الحكم وعلي بقن ميتّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وأبو جعفرٍ الأحول، وأصحابُ البَراء، والقولِ بالرجعة وأهل الغلو، فلا يجب الإحفالُ بشيءٍ منها، ولا العملُ عليها. فإن قالوا: الأشترُ وعمرو بن الحمقِ والغافقيُّ وجميع من ذكرتم من سلف الشيعة، أجل قدراً من أن يحملوا أنفسهم على وضعِ الكذب. قيل لهم: وكذلك أبو هريرةَ وأنسُ بنُ مالك، وجريرُ بنُ عبد الله. والئعمانُ بن بشير، إلى مَن هو فوقَ هؤلاءِ مِن عبد الله بن مسعود، وأبيُّ. ومعاذُ بنُ جبلٍ، وسعدٌ وسعيد وأبو عبيدة، وأمثالُ هذه الطبقة مثلُ معاويةَ وعمرو بن العاص ومن تبِعهم، أجل قدراً مِن أن يحملَ أدناهم منزلةَ نفسهِ على الكذب والوضعِ على الرسول، وجميعُ ما تروونهُ من الفضائل إنما هو غير هذه الطبقات، فإن لم تغيروا عندكم من الوضع على الرسول لم يغير من ذلك مالك الأشترُ وعبد اللهِ بنِ سبأ، وعمرو بن الحمق، وحكيم بن جبلة. وسائرُ هذه الطبقة، لأنها بأسرها دون أبي هريرة، فضلاً مِمن هو أفضلُ منه عمَن يروي أخبارنا عنه. فإن قالوا: فكل هؤلاءِ نواصبُ وأعداءٌ لأميرِ المؤمنين، والكذبُ غيرُ بعيد منهم؟. قيل لهم: وجميعُ من ذكرناهُ لكم روافضُ وخُصَمَاءُ لأبي بكرٍ وعُمرَ وعثمانَ وغيرهم، وهم غيرُ مرضيينَ ولا متبرئينَ من وضعِ الكذبِ على الرسول، ثمَّ على عليٍّ في ذمِّ السلف والطعن على مصحفِ عُثمانَ وغير ذلك ولا فصل به. فإن قالوا: بينكم وبين السلفِ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ِ خلق من الحشودِ العامة يمكن تكذُّبُهم ولا يمتنعُ الوضعُ عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 قيل: وكذلكَ بينكم وبين أئمتكم والعِترةِ التي ذكرتُم خلق من العامة لا يبعدُ تكذُّبُهم ووضعُهم، ولا يمتنعُ ذلك عليهم، ولا جوابَ عن هذا أبداَ. ثم يقال لهم: أنتم لَم تلَقُوا عليا ولا أحداَ من العِترَة والأئمة من ولدِه. وإنما تروُونَ أخباركم هذه عمَّن يرويها لكم عنِ الأئمة، والوسائطُ عندكم غيرُ معصومين من الكذب والبُهتان والافتعالِ والغَلط والنسيان، فما أنكرتم أن تكونَ أخبارُكم هذه كَذِبَا على علي والأئمةِ من ولَده، وأن يكونَ من وضعِ الدعاة والأبواب والوسائط، فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلاً. فأمَّا قولُكم: إتا لا نَقْبَل خبرَ الصادقِ والباقرِ والرضا وأمثالِهم، ونقبلُ خبرَ الزُهري وسعيدِ بن المسيِّبِ ومالكٍ وسفيانَ ومن جرى مجراهُم، فإنه بهتٌ منكم وكذِبٌ على خصومكم بل من ديننا تصديقُ جميعِ ما ذكرتم مِن أهلِ البيتِ ومن هو دونَهم والعملُ على خَبرِه، إذا سُمع منهم أو صحَّ وثبتَ عنهم، وإنَّما نَردُّ أخباركم الباطِلةَ عندنا عنهُم لعِلمِنا بتكذيبِ الوَسائطِ عنكُم بينهم ووضعِهم عليهم الكذبَ والبهتان، وإن طريقكم إليهم قبيح وعرٌ مظلم، فنحن إنما نكذبكم أنتم تارةً ونكذبُ أخرى القومَ الذين بينكم وبين هؤلاء الأئمة، فأما هم عليهمُ السلامُ فائمتنا وسادتُنا، ومَن أُخِذ علينا حجتُهم وموالاتُهم والتقرب إلى اللهِ سبحانُه في إعظامهم وإجلالهم وحُسنِ الثناء عليهم، فكيف نكذبُ قوماً هذا قدْرُهم عندنا وفي أنفسِنا. فأمَّا تقريعُكم لنا بقولنا الأخبارَ عن الزهري ومعمَرٍ وسعيلد بن المسيب ومالكِ وسفيانَ ومن جرى مجراهم، فإنه أيضا جهل منكم، لأن هؤلاءِ أعلام وأئمة في حديث رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - ِ والحفظِ له والإحاطةِ به، ونفيُ الكذبِ عنه، ولكل رجلٍ منهم من الفضائلِ والأفعالِ والأقوالِ الدالة على تَوخَي الصدقِ وشدة التحرِّي في الحديثِ والامتناع من الأخذ عن الضعفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 ومَن ليس الحديثُ من شأنه ما يطولُ تتبعه، وأعجب من هذا كله دعيتكم عن روايات هذه الطبقة والرجوع إلينا مع الظاهر من عدالتها وتشددها والمشهورِ من أمرها وتعويلُكم في أخذ أديانكم على هشام بنِ الحكم، وعلي بنِ الميثم، وشيطانِ الطاق، ويونُس بن عبد الرحمن القُمِّي، والسيد الحُميري، ودُعبل بن على الخزاعي، وأبي عيسى الوراق، وابن الراوندي، وانحطاطكم إلى السوسي، والعوني، والناشي، وأمثال هذه الطبقة، وأخذهم الحديث عن أبي محنف، وأمثاله من شيوخ أهل الكوفة لا حاجة بنا، إلى ذكرهم مع العلم بسوء مذاهبهم وقبح طرائقهم، وما ظهر منهم مما لا حاجة بنا إلى ذكره، ولولا أنكم فتحتم هذا الباب لم يكن لذكرنا له وجه، ولكنكم تتروحون إلى هذه الترهات عند ضيق العطن وصعوبة المخرج، ولا بُد من جوابكم عنه ورفع إلباسكم، فلا معنى إذا كان الأمرُ على ما وصَفناه لقولكم لنا في جميع ما يروونه لكم أنه من وضع أبي هريرة وشيعة بني مروان، وأنتم أعداء أهل البيت، فإن جوابه ما عرفتُم، وأنفعُ من هذا السكوت عنكم عند لجائكم إلى مثل هذا والإعراض عن كلامكم في مجالس التحصيل، وحيث يؤمَن اغترار العامة بهذه الشنعة التي لا محصول لها ولا يحسن لمن له أدنى مسكةٍ فى العلم الاعتصام بها والاستناد إليها، نعوذ بالله من التمادي في الأباطيل والتعلُّقِ بالأضاليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 دليل لهم آخرُ في تغييرِ المصحفِ وإفسادِ نظمِ القرآنِ، ووقوعِ الغلَطِ والتَّحريفِ فيه قالوا: ومما يدلُّ على تغييرِ القومِ للقرآنِ وإفسادِهم تأليفَه ونظمَه وجهلِهم بترتيبه وتصدِّي بعضِهم إلى الإفسادِ والعِناد في ذلك، اتفاقُنا جميعاً على أنّ القرآن نَزل مرتَباً ومكّياً أولاً ثمَّ مدنياً، وإنّ النّاسخ منه نزلَ بعد المنسوخ، والمنسوخِ في الرُّتبة والتنزيلِ قبلَه، وإنّ القرآن أولاً نزلَ لم ينزلْ قبلَه شيء منه، وإذا خُتم به لم يَنزلْ بعدَه شيء منه، وإن أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ومن اتّفق معهم على تأليفِ القرآنِ خلَطوا في هذا البابِ فقذَموا المدنى على المكى في التأليف، واللهُ تعالى قد رتَّبه بعدَه، وجعلوا النّاسِخَ باتفاقٍ في كثيرٍ من المواضعِ قبل المنسوخِ به، واللهُ سبحانه قد أخبرَه عنه وأنزَله بعده، ولم يبتدئوا في المصحفِ بما ابتدأ اللهُ سبحانه بإنزالِه ولا جعلوا آخرهُ ما ختمهُ - به، وقد كانَ من حقِّهم والواجبِ عليهم أن يُرتبوهُ كما رتبه تعالى في التنزِيل، والتقديمِ والتأخير، ولما لم يفعلوا ذلك دل ما صنعوه على جهلِهم بتأليفه أو قصدِهم إلى التخليطِ والعِنادِ بإفسادِه وتأخير ما قدمه الله وتقديم ما أخره. فيقالُ لهم: أما قولُكم إنَّ الله تعالى أنزلَ المكى قبل المدنى والمنسوخَ قبلَ الناسخَ، وأنزلَ من القرآن أولاً لا شيءَ قبله وأخر منه لا شيءَ بعده فصحيح لا خلافَ فيه بيننا وبينكم. وأمّا قولكم إنه سبحانهُ وَرسوله صلى اللهُ عليهِ كذلك رتَباه في النظم والتأليف فدعوى مجردة تعلمون يقيناً أننا وجميعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 فرقِ الأمَّةِ ومعظمِ الشيعة المخالفين لكم في هذا الباب والمقرِّين معنا بسلامةِ هذا المصحفِ من التحريف والتغييرِ والئقصان نخالفكم فيها، وننْسِبُكم نحن وجميعُ من وافقكم إلى الكذب في ادعائها، فما الدليل إذا كان ذلكَ كذلكَ على صحة قولكم إن اللهَ تعالى ورسُوله رتباه وألفاهُ على سبيلِ ما أنزل عليهِ في التقديمِ والتأخير، وخبرونا عنكم باضطرارِ تعلمون صحة هذه الدعوى أم بحجةِ ودليل؟. فإن قالوا: باضطرار، عرفنا ذلك، عارضناكم بأننا مضطرون إلى العلمِ بأن الأمرَ على خلافِ ما ادَّعيتموه، وأنهم يكذِبون في هذه الدعوى، وأن الله تعالى أمرَ بتأليف القرآنِ ونظمِه إذ ذاك على ما جمَعه أبو بكرِ وعثمانُ وجماعةُ الأمَّة، وهذه الدعوى أحق وأولى لأن نقلَ الكافة وارد بها وناطق بصحتها ودعواهم فارغة لا حجة معها ولا فصلَ في ذلك. فإن قالوا: إنَّما علِمنا أن اللهَ سبحانهُ ألف القرآنَ على حسبِ ما نزَل وقدمه في التنزيل وأخَّره بنقل مَن قالَ بهذا المذهب مِن الشيعة عن الأئمة عليهمُ السّلامُ. قيل لهم: قد مضى جوابُ هذا فيما سلَف بِما يُغني عَن إعادته، وجملتُه أننا لا نعلمُ صحة هذا النّقلِ بل نعتقدُ بطلانَه ونعرفُ بحرصِ ناقله، فإن كنتم تعلمونَ صِدقَ مَن نقلَ ذلكُم إليكم من الشَيعةِ ضرورة، فلسنا نضطرُ إلى ذلكَ، وإن كُنتم تعلمونَ صدقَهم بدليلِ فما الدليل عليه. فإن قالوا: الدليلُ على ذلكَ كثرةُ نقَلةِ هذا الخبرِ من الشيعةِ وامتناعُ الكذبِ عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 قيل: لو كان الأمرُ على ما ذكرتُم، وكان أولُ خبَرِهم كآخرِه ووسطُه كطرفَيه لوجَبتْ الضرورةُ إلى صدقهم، وإذا لم يكن ذلكَ كذلكَ بطلت أيضا هذهِ الدّعوى، ثمَّ يقالُ لهم: فقد نقلَ سائرُ من خالفكُم من جميع فِرقِ الأمَّةِ والدهماءِ من الشَيعةِ خاصةً، أنّ اللهَ تعالى ورسولَه ألقى القرآنَ على ما هوَ عليهِ في مُصحفنا ورتّبناهُ كذلك، وفرقٌ منهُم أكثرُ منكُم عدداً وأصَح سَنداً وأثبتُ رِجالاً وأوثقُ وأعدلُ من سائرِ من تروونه عنه، بل مخالفوكم الشيعةُ فقط في هذا المذهب أكثرُ عدداً منكم وأوثَقُ وأقربُ إلى الحق مِنكم وأشد أنَفَةً مِنَ احتمال عارِ الكذبِ والبُهتانِ من سائرِكم، فيجبُ إذا كانَ ذلك كذلك تَصديقُ جمِيع مخالفِيكم في نقلِهم لتأليفِ القرآنِ ونظمِه على ما هو بهِ عنِ الرسول، ولا جواب عن ذلك. وإن هُم قالوا: لسنا نستدلُ على أن اللهَ جلَّ وعزَّ رتَبَ المكى قبلَ المدني، والمنسوخَ قبلَ الناسخ، والأولَ منه قبلَ آخرهِ بالرواية ونقلِ الشَيعة أو غيرهم إذا تعلَّقنا بهذه الطَريقة، بل إنما نستدل على ذلكَ بأن اللهَ سبحانهُ لقا أنزَلَ المكى قبلَ المدني، والمنسوخَ قبلَ الناسخ، والأولَ منه قبلَ آخرِه. وَجَبَ أن يرتَبه الله تعالى في التأليف والجمع على ما أنزله عليه، وأن يأمُرَهم بتقديمِ مَا تقذَمَ إنزالهُ في الرّسم، وتأخيرِ ما أَخر إنزالَه عن المقدم. قيل لهم: هذا أيضاً هوَ نفسُ دعواكُم، فمَا الحجّةُ عليها وما الدليلُ على صحَّتِها، فإننا قد علِمنا أن اللهَ سبحانهُ أنزلَ المكى قبل المدنى والناسخَ قبل المنسوخِ ولسنا نعلمُ معَ ذلكَ أنه يجبُ أن يرتَبه في الرّسمِ والتَلاوة على ما أنزَلَه، فما وجهُ الدليلِ بما وصفتُم، خبرُونا أباضطرارٍ تعلمونَ وجوبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 تأليفِ اللهِ سبحانهُ لهُ وجمعِه إيَّاه في الرَّسمِ والتلاوةِ على حسب ما أنزَلَه عليه أم بدليلٍ. فإن قالوا: باضطرارٍ تعلمُ وجوبَ جمعهِ وتأليفهِ على وجه نزوله، بُهتوا. وقيل لهم: نحن نعلمُ باضطرارٍ كذبَكُم في هذه الدعوى وأنّهُ لا يجبُ ما وصفتم. وإن قالوا: بدليلٍ علمنا ذلك، قيل لهم: وما هو، وقد كان يجبُ أن تذكُروهُ معَ ذكرِ تنزيلِه إذ كانَ مجردُ التنزِيلِ لا يدلُّ على وجوبِ الترتيب. فإن قالوا: الدليلُ على ذلكَ أن اللهَ جلَّ وعزَّ لم يُقدِّم ذكرَ بعضِه على بعضٍ في التنزيلِ إلاّ لاستصلاحِ عبادِهِ بذلك، وعلمِه بكونه لُطفاً لهم وأدعى الأمورَ إلى صلاحِ دينهم ودنياهُم، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ وجبَ أيضاً أن يكونَ أصلحُ الأمورِ لهُم بتقديمِ ما أنزِلَ أوّلاً في الرَّسمِ والتأليفِ والتَلاوةِ على ما أُنزلَ أخيراً. يُقال لهم: أنتم تعلمُون أنكم تخالفِون في وُجوب فعلِ اللُّطفِ والأصلحِ على اللهِ سبحانه، وأنّنا وسائرَ أهلِ الحق ننكرُ أن يكونَ اللهُ سبحانَه أنزلَ كتابهُ أو فعلَ شيئاً أو يفعلُ شيئا في المستقبلِ لعلَّةٍ من العلَل وسببٍ من الأسباب هو الاستصلاحُ أو غيره، فلو ضايقناكم في هذا البابِ لاشتدَّ الأمرُ بكم وطالَ تعبُكم واحتجتُم إلى الخروجِ عنِ الكلامِ في نظمِ القرآنِ إلى الكلاَم في الأصلحِ والتعديلِ والتجويز، غيرَ أنّنا نسلِّم ذلكَ لكم قوداً ونظراً، ونُبينُ لكُم أنه لا يجبُ معَ ذلكَ ما ادّعيتُم. ويقالُ لهم: قد سلَّمنا لكم أن اللهَ تعالى ما أنزلَه مقدَّماً ومؤخراً إلا لِعلْمِه بتعلُقِ صلاحِ عبادِه بإنزالِه كذلِك، فلمَ زعمتُم أيضا أنه لا بُدَّ أن يُعلمَ أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 مصلَحة عبادِه متعلقة بتأليفهِ ونظمِه في الرّسمِ والتلاوةِ على حَسبِ ما أنزلَه، وما الحجَّة ُ في ذلك، وباضطرارٍ تعلمونَ أن المصلحةَ إذا تعلَّقت بإبراءٍ له كذلكَ وجبَ أن يتعلَّقَ بنظمِه وتأليفِه كذلكَ أم بدليل. فإن قالوا: باضطرار، ظهرَ أمرُهم وبانَ بهتُهم وعجزُهم. وإن قالوا: بدليل، سألناهُم عنه، ولَن يجدوا إلى ذِكر شيءٍ سبيلا، لأن ذلكَ لَيس مِن موجباتِ العُقول، وإنما هوَ بحَسبِ ما نعلمُ من تعلقِ مصالحِ المكلَّفين. ثم يقالُ لهم: ما المانع مِن أن يكونَ اللهُ سبحانَه قد علِمَ أن مصلحَة عبادِه متعلقةٌ بتقديمِ بعضِ المدني على المكي أو جمعَه في الرَّسمِ والتأليفِ والتَلاوة، وتقديمِ التأليفِ النّاسخِ كلهِ قبلَ المنسوخِ أو بعضِه، وأن نظمَه وتأليفَه على غير هذا الوجه، وأخذِهم بتلاوته كذلكَ مفسدةٌ لهم ولطفٌ في عصيانِهم وخلافِهم وعدولِهم عن الحقِّ والعملِ به والتصديقِ لمورده، فإن حاوَلوا ذكرَ حجة ٍ في هذا الباب، لم يجِدوها، وإن مرٌّوا على إجازةِ ما سألناهُم عنهُ أبطلوا دليلَهم بُطلانا ظاهرا. وإن قالوا: إذا عُلم أن تلاوتَهم لِما أنزَله أوّلا حين أنزلَه كانت أصلحُ لهمُ في الوقتِ من تلاوَة ما أخَّرَ إنزالَه عنه، وجبَ أن يُعلم أن هذا حالُهم في تلاوته في سائرِ الأوقات. قيل لهم: هذهِ نفسُ دعواكم وفيها اختصَمنا، فما الدليلُ على صحتها. وما المانعُ مِن أن يعلمَ الله سبحانه أن تلاوتَهم للناسخ والمنسوخِ والمكي حينَ أنزلَه أصلحُ من تلاوتهم الناسخِ في ذلك الوقت، وأن يعلمَ أن تلاوتَهم في غيرِ ذلك الوقت، وفي جميع ما بعده من الأوقات للناسخِ قبلَ المنسوخِ والمدنى قبلَ المكي من أصلحِ الأَمورِ لهم، فهل تجدون إلى دفعِ هذا سبيلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وإن هم قالوا: إنما وجبَ أن يكونَ تأليفُ المنسوخِ قبلَ الناسخ. والمكيُّ قبلَ المدني، لأنه لو لم يُفعل ذلكَ لظنَّ سامعُ المدنى قبلَ المكي. وسامعُ الناسخِ قبلَ المنسوخِ والمشاهِدُ لهُما مكتوبَينِ كذلكَ أنهما كذلكَ رتبا في التنزيل، وأن اعتقادَ هذا جهل، واللهُ تعالى لا يفعلُ ما يدعوا إلى فعلِ الجهل، ويكون شبهةَ في جوازِ اعتقاده. يقالُ لهم: ولم قُلتم إن سامعَه مفرَداَ كذلك ورائيه مكتوباَ كذلكَ يجبُ أن يعتقد أنّه كذلكَ إنزالُه قبلَ أن يَسأل عن وقتِ التنزيل، ويعرفَ التاريخَ. بل ما أنكرتُم أن يكونَ الواجبُ عليهِ في الجملةِ إذا عرَف أن إحدى الآيتينِ منسوخة والأخرى ناسخةٌ أن يعلَم أن الناسخَ نزلَ بعدَ المنسوخِ وأن ترتيب تلاوته بعده، لأن ذلكَ مما لا شبهة فيه على عاقل، ولن يجوزَ في المكيِّ والمدنيِّ إذا سُمع المدنيُّ قبل المكى ولم يُعرف أيُّهما المكي من المدني أن هذا أنزِل أولا بدلَ الآخِر، وأن يكونَ الآخرُ قُدِّم عليه، لأنّ ذلكَ غيرُ مستحيل في العقلِ وإِن رتِّب في التِّلاَوةِ على ما هو به، فلمَ قُلتم إن الواجبَ التسرعُ إلى اعتقادِ تنزيِله على حسبِ تلاوته، وتأليفه. فإن قالوا: لسنا نقولُ إن ذلكَ واجب على العُقلاء إذا سمعوه، ولكنه مما يجوزُ أن يُظهر ويتوهَّم فيجبُ نفيُ هذا الظن. يقالُ لهم: ولِمَ إذا عَلِم تعالى جوازَ توهم هذا ممن قلَّ ضبطُه وتحصيلُه أن لا يؤلفه ويجمعه كذلكَ إذا علمَ أنّ مصلحةَ عبادِه متعلقة بنظمهِ كذلك. وما أنكرتُم من أنه لا يجوزُ ما وصفتُم إنزالُ شيءِ من المحتمِلِ المتشابِه الذي لا يَعلم تأويلهُ إلا اللهُ والراسخونَ في العلم، لأنّه قد يظُن ظانٌ أن المراد به غيرُ ما قصدَهُ الله وأرادَه، فيجهلُ بذلكَ ويعتقدُ فيه غيرَ معناه، وقد قال اللهُ تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 فيجب على اعتلالِكم أن لا يُنزل متشابها ومجملاَ ومحتملاَ، وقولُه: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) ، وقولُه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) ، وقولُه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ، وقولُه: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) . وأمثالُ هذا قد تعلق به عندَكم المبطِلون، واحتج بكثيرِ منه الملحِدون، فإنْ مروا على ذلك جَحدوا التنزيل، ودفعوا قولَه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . وكُفينا بالتسرعِ إلى ركُوب هذا مؤونةِ كلامِهم، وإنْ أجازُوه معَ علمِ اللهِ سبحانهُ بأنه سَيفسُد ويضلُ عند ذلكَ المحلدينَ في آياتهِ تركُوا اعتلالَهم، َ فليسَ مع العلم بذلكَ بطريقِ لأهل الزيغ والجهلِ إلى التعلق بالمتشابهِ واعتقادِ غيرِ مُرادِه به، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ تَركوا أيضا اعتِلالَهم تَركا ظاهراً. وإن قالوا: قد نصبَ اللهُ وأوضحَ الأدلة َ على مُراده بالمجملِ والمتشابِه - المحتَمِل، فلِمَ يضر إنزالُه كذلك. قيل لهم: وكذلكَ قد نصبَ الله وأوضح الأدلة، وبيَّن البراهينَ على تقديمِ ما قدَّمَه في التنزيل، وتأخيرِ ما أخره، وحفِظَه على العبادِ ذلكَ بنقلِ من نقلَه، وحفظِ مَن حفظَه وضبَطه وعمِل المكي والمدنِى والناسخَ والمنسوخ. وذكرَ أوقاتَه وأسبابَه وأيامهُ وساعاتِه وأجهدَ نفسَه في ذلك، ولم يُخِل بشيءِ منه، فلم يضر مَع ذلكَ تقديمُ المدنى على المكى، والناسخِ على المنسوخِ في الرسمِ والتأليفِ والتلاوةِ، وهذا مما لا جوابَ لهم عنه. ويقال لهم أيضاً: وما قدْرُ المآثمِ والعصيانِ في اعتقادِ إنزال اللهِ المدني على المكى إذا صدق المرءُ بجميعِه وآمنَ به، حتى لا يجوزُ أن يفعلَ اللهُ سبحانهُ ما يكونُ شبهةً في هذا البابِ، وهو قد أنزلَ المتشابهَ الذي يعلمُ أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 يضِلُّ عندَ إنزالِه الزائغون، ويتعلقُ به الملحِدونَ لولا النقصُ وإيثارُ العَنَت. ومَن احتج بهذا الاحتِجاج من اليهودِ والنصارى في تخليطِ الرسول ِ في كتابنا الذي ادّعى إنزَالهُ عليه من قِبَلِ اللهِ سبحانه، وأنَّه لمَّا لم يُفتتح رسمُه وتلاوتُه بأول ما ادُّعيَ أنّ الله سبحانه أنزَله، عُلم أنه ليس مِن عندِ الله، كانَ الجوابُ لهُ ما أجبنا الرّافضةَ به، فإنه بأسرِه كأسرِه لتوهُّمهِم. ثم يقال لهم: لو كان ما قلتموه واجبا، لوجب الحكم بتخليط موسى وعيسى في دعواهُما نزولَ التّوراةِ والإنجيلِ عليهِما، وتخليطِ قومِهما أيضا. لأنّ النّصارى متفقونَ على أنّه ليسَ أوّلُ المرسومِ في الإنجيلِ هو أوّلُ ما أنزلَه اللهُ تعالى مِنه، وأكثرُ الأناجيلِ التي معهم أوّلُها ليس من كلامِ اللهِ جملة. وإنّما هيَ كلامُ عيسى، ووصفُ نفسِه وسيرَتِه، وذِكرُ تلامِذته ودعويه، وأولُ التوراة عند اليهودِ في التِّلاوة والرسمِ هو غيرُ ما أنزِل على موسى أولا وخُوطب به، لأنّ أوّلَ ما أنزِل عليه وهوَ عندَهم في التوراة: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) ، وليسَ هذا أوّلُ التوراةِ فوجبَ بذلكَ القَدحُ في كتابِهم، وإن لم يجِب هذا سقطَ ما تعلَّقوا به، وهم أولُ من سبقَ إلى الاحتجاجِ في الطَعن على القرآن بهذا الضرب، فظن بعضُ الرافضة ِأنه حجّة فيما قالَ أو شُبهة ينالُ بها باطلا وأنى لهُم بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 دليل لهم آخرُ على تغييرِ المصحفِ ونقصانِ القرآن، وتحريفِ السَّلفِ له واستدلُوا على ذلكَ بأن قالوا: وجدنا فيه كتابةً لا معنى لها، ولا يجوزُ أن يستعمِلها إلاّ من يَخافُ المُدَاراةَ أو يَحتاجُ إلى التّوريةِ والمُداجاة، والله تعالى يُجَل عن ذلك، وقد وجَدنا في المصحف: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) . قالوا: وهذا لا معنى له، ولا وُجِد مِن ربِّ العالَمين، وقد رُوينا عن الأئمة والسلفِ من شيعةِ أميرِ المؤمنينَ عليه السّلامُ: أنّ فلاناً هذا الذي كَنَّا القَومُ عن ذِكره، كانَ رجلاً معيناً مُسمى في نفسِ التنزِيل باسمهِ المشهور، فَحذَفَ القومُ ذِكرَه، واتّبعهم النّواصبُ على ذلكَ وجعلوا مكانه فلانا، قالوا: وكان هذا الرّجلُ عمرَ بنَ الخطابِ، قالوا وقولُه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) ، قالوا: يعني أبا بكرٍ يقولُ: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) ، يعني عمرَ، وإنَّما قال: ليتني لم أتخذ عُمرَ خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعدَ إذ جاءَني، يعني أنّ عمرَ أضلّه عن اتِّباعِ عليّ وتسليمِ الأمرِ إليه، والانقِياد له فندِم، - زعَموا - على أن لَم يؤمنْ بالرّسولِ ولم يتَّخِذ معهُ سبيلَ هدىً وحقّ، وتندَّم على اتِّخاذِه عُمرَ خليلا، وطاعتهِ في غصبِ عليّ الأمر، قالوا: وإلا فلا معنى للكتابة ممن لا يَخافُ الاستضرارَ ولا يتَّقي شرَّ العباد - فيقال لهم: ليسَ العجبُ ممن يضعُ منكم هذهِ التُّرهات والخرافات إذا كان إنما يضعُها على علمٍ منه بتكذِيبه وتجاهُله، إمّا لكوبه مُلحداً خلِيعا متلاعبا بالدين وقاصداً بِما يصنعُه من ذلكَ الغَضَّ مِن سلفِ المسلمينَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 والقدحَ في الدِّين وفي رَسُولِ رب العالمين المختص بأبي بكرٍ وعمرَ والمادحِ لهما والمحسنِ للثناء عليهِما، أو متكسِّب متأكِّل بما يُظهرهُ من ذلكَ مع خلوِّ قلبِه من اعتقادِه وخوفِ سَخَطِ اللهِ تعالى وتعجيلِ العقابِ والنَكالِ له بما يصنعُه ويفترِيه، وإنَّما العجبُ مِن العامة ِ والرُّعاع منكم الذين يتسرعون إلى تصديقِ هذا التآويلِ ويُقْدِمونَ على البراءةِ من أَبي بكرٍ وعمرَ لأجلِه. وفيهم من يُفسِّرُ للعامةِ كل آيةٍ نزلت في الظالمينَ والمشركينَ والفاسِقين في أبي بكرٍ وعمرَ وجماعةِ الصّحابةِ سِوى نفرٍ تستثنُونهم فيتسَرَّعون إلى قَبول ذلك، ويُنصِتون إلَيه إنصاتَ واثقٍ به وثِلَجِ الصدورِ بما قيلَ فيه. وهذا مِن جنسِ تفسير مَن قال: إن الخمرَ والميسِر والجبتَ والطاغوتَ هما أبو بكرٍ وعمرَ، وأن الصلاةَ والصيام والحج رجال، وأن الخمرَ والميسرَ والأنصَاب والأزلامَ رجال أمِرنا بموالاَةِ بعضهِم والبراءةِ من بعضهم، أو أنّهما أسماءُ أفعالٍ ممدوحةٍ ومذمُومة، وأن الطلاق والنكاحَ ليس هما الفُرقَة والعقدَ، وهل بينَ هذا التفسيرِ الذي ارتضُوه لأنفسِهم وبين تفسيرِ الإسماعِيلية والغُلاة فرق، وهل هُم في ذلكَ إلا بمثابةِ مَن قال: إن محمدَ بنَ إسماعِيلَ القائمَ المنتظرَ العالِمَ بما ظهر وبطن، قد فسَّر الصلاة َ المذكورةَ في الكتابِ بأنها هِي الإمامُ نفسُه، وأن إقامَتها هِي لزومُ طاعِته والانقِيادُ له، واستدل على ذلكَ بقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . والصلاةُ - زعموا - لا تَنهى عن الفحشاء، وإنَّما الإمامُ هوَ الآمرُ بالمعروفِ والناهي عنِ المنكَر، وأن الصوم إنما هُو الإمساكُ عن ذِكر علمِ البَاطِن وإظهارِه فقط، فمن فعلَ ذلكَ فقد صام، ولا يجبُ عليهِ غيرُ ذلكَ. وأن الفِطرَ هو ما أطْلَعَ الأساسُ جميعَ الأئمةِ الستة عليه من أولادِه مِن عُلومِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 الباطنِ فقط، وأنّ الزكاةَ إنّما هي كناية عن الإقرارِ بخمسةٍ روحانية وهو: الأساس، والمقيمُ وهو التّالي، واللاحقُ واليدُ والجناح، الذين عنهم يُوخذُ علومُ الباطن، ومنهم إله، ومنهم نبي، ومنهم إمام، ومنهم جناح، ومنهم ناطقٌ داعٍ مأذون في الدّعوة. وأن الحجَّ إنما هو علامة على محمدٍ صلى الله عليهِ وبابُهُ علي، والمنازِلَ دليلُ الدعاةِ حالاً بعد حالٍ إلى حين الرجوع إلى العلم، وأن الإحرَامَ إنّما هو تحريمُ النطقِ بغيرِ باطنِ الشّريعةِ فقط، وأنَّ تحريمَ الطيب والنساءِ إنّما هُوَ تحريمُ النطقِ بما عرَفه المبينُ له الحقَ، وإن كان حقا وطيِّبَا حتى يأذنَ له من فوقه فيصيرُ عندَ ذلكَ مأذونا له، وأن معنى تحريمِ الصيدِ، إنما هو تحريمُ دعاءِ المخالِف لحقهم وقولهم إلا بعدَ إذنٍ من الإمام، وأن معنى الطوافِ سبعا، إنما هو محمدٌ - والسّبعةُ أئمّةٍ من ولدِه، وأن الميقاتَ اسمُ أساسِ الدعوةِ، والتلبيةَ إنما هي اسمُ إجابة المدعُوَّ إلى الحق بالقَبول، ونزعَ الثيابِ خلعُ ما خَالفَ دينَهم، ورفضهُ فقط، وأنّ الاغتِسالَ المرادُ به غَسلُ القلبِ من الدّنس، وأن حلقَ الرأسِ اسم لرَمي ما عُلن من الناسِ، وظهرَ من الشرائع وتَركِ العملِ بها فقط، ومعنى لِبسِ الثوبين الجديدين، إنّما هو الإقرارُ بمحمدٍ وعلى والنّاطقين والأسّين. وأن الوُضوءَ إنما هو اسمُ أخذِ العهدِ على الداخلِ في دعولهم فقط. وكل من لم يَدخُل في العَهد لم يكن في الدعوة، كما أنّ من لم يتَوضأ لم يدخل في الصلاة، وأنَ معنى النكاحِ المذكور في كتابِ الله إنما هوَ العهدُ الذي يأخذُه المأذونُ له في الدعوة، وأن معنى الجِماعِ إنَّما هوَ تعليمُ الداعي للمدعُوَّ علمَ الباطنِ، وأن معنى الحملِ المذكورِ في الكتابِ أنّه حِفظُ علمِ الباطِن والفهمُ عن المأذونِ له، ومعنى أنه لا يحل للمرأة أكثرُ من زَوجٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 واحد، أنه لا يحلُّ لأحدٍ من المستَجيبةِ أن يأخذ هذا العلمَ ويتلكنه إلا مفَن أخذَ عليه العهدُ فقط، وأن معنى الطلاقِ أنه مفارقةُ من أخذِ عليه العهدُ بما حلَف عليه، وإفشاءُه السر للنّاسِ وإظهارِه، ومعنى أنه لا يحل نكاحُ المطلَّقة ثلاثاً إلا بعد زوجٍ ثاني، أن مُظهرَ السرِّ لا يُعلَّم، ويلقَّنُ حتى يؤديَ ما التُمس منه الحجَّة ثم يؤخذُ عليه العهدُ ثانياً، وأن معنى تحريمِ الزنا المحرَّم في التنزِيل أنه كَلامُ مأذونٍ له، أعني لرجلٍ أخِذَ عليه العهد، وكلَّمه مأذون آخر، فالمأذون الثّاني الداخلُ على الأولِ هو الزاني لكلامهِ لزوجةِ المأذُون الأول. والزوجةُ اسمُ المتعلِّم، ومعنى الزوجُ أنه المعلِّمُ وأن على بن أبي طالبٍ كان عندهم زوجةً للنبيِّ، ثمَّ صارَ لاحقا وإماما، وأن معنى اللواطِ أنه كلامُ المأذونِ له في الدعوة لمن لا يؤنَسُ منه، وإذا فعلَ ذلكَ فقد لاطَ وبطُلت نطفتُه، وأن معنى السرقةِ المحرمة هو أن يتسمَّع متسمِّعٌ كلامَهم ثم يُفشيه ويُظهره، وأن هذهِ الشرائعَ والأسماءَ إنَّما جُعلت دلائل على هذهِ الحقائقَ ووسيلة إليها، فإذا عَرفها الإنسانُ سقطت عنه الفرائضُ وزالَ عنه التكليف، وصاَ روحَانيا ربانيا إذا ترقى في علمِ الباطنِ رتبةً بعد رتبةٍ حتى يصيرَ لاحقا وجناحا ويداً بعد أن كان داعياً ومأذوناً. وقالت الإسماعيليّة: إن الكِناية في قولي تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) . وقوله: (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) ، و (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) . وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، كله يدلُّ على أن اللهَ سبحانهُ ليسَ هوَ منزَلُ القرآن، لأن الذي هو عندنا الله عزَ وجل الواحدُ القديم، لم يُنزلِ القرآنَ عندكُم، ولا خلقَ العالم، وأنَّه لم يخلُق إلا الأولَ فقط وهو العقلُ عندهم، ويُولدُ مِن العقلِ الروحاني، وهو الثاني عندهم وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 الخالِقُ للعالم، ومنزلُ القرآن، ولو كان الواحدُ القديمُ هو منزل لم يكن للكنايةِ معنى، ولوجب أن يقولَ بسمي بَدل بسم الله، وأن يقول ادعوني بدلاً من قوله ادعوا الله، أوِ ادعو الرحمن، ومِن قوله ادعُو ربكم، وأن يقولَ ادعُوني بدلاً مِن قوله (ادعوا اللهَ مخلِصين) ، لأنه - زعموا - لا وجهَ ولا معنى للكِناية عن نفسِه في هذه المواضع لو كان هو منزَلُ القرآن، والمتعبَّدَ به إذ كان لا يخافُ ولا يذهبُ ولا يُبقي ضررَ أحد، وهذا بعينه هُو الذي قالتهُ الرافِضة، وعمِلت عليه في تأويل قوله: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) . وأنه لا معنى للكِنايةِ ها هُنا بذكرِ فلان، وكذلكَ قالت الإسماعيلية: إن جميعَ هذهِ الكناياتِ في قوله: ادعوا الله، وادعوا ربَّكم، وادعوا اللهَ مخلِصين. والحمدُ لله، ولم يقُل لِي ولا لِنفسي، دليل على أنّ القرآنَ مِن عندِ الرُّوحاني الذي أحدثَ العالمَ وخلقَه، وأنَّه ليس مِن عندِ الباري القديمِ، وأن هذا الروحانيَّ المتولدَ عن العقلِ هوَ الذي فهَّمَ الرّسولَ هذا القرآنَ وصوَّره في قلبِه، فاتحد به، وهو معنى الوحي، ومعنى جبريل والروحِ الأمينِ أنّه يُصوِّرُ المعانيَ في قلبِ الرسول ِ بتفهيم الروحانى له وتصويرِها في قلبِه عبَّر عنها الرسولُ باللفظ العربى والكّلامُ للرسول، ومعانيهِ المتصوَّرة في قلبه للثاني الروحانيّ المتولدِ عن العقلِ الأوّلِ الذي خلقَه القديمُ الأزلي الذي هو عند المسلمين - باعثُ الرّسُلِ ومنزلُ الفرائضَ والكُتبَ وخالقُ السمواتِ والأرضَ. ولولا خوفُ الإطالةِ وخروجُ الكلامِ عن غَرَضِ الكتاب، لذكرنا من جنسِ التفاسيرِ عن الرافضة والإسماعيلية وأشياعِهم من الطاعنين على الشريعةِ ما فيه أعجوبة للمتأملينَ وأوضحُ دِلالةٍ على تمامِ نعمةِ اللهِ علينا وعلى المؤمنينَ بتوفيقِه للتمسكِ بالدِّين، ولزومِ سنن المؤمنين، والعدولِ عن التورطِ في الجهلِ والأضالِيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فيقال للرافضة - لعنهمُ الله -: إنْ وجبَ علينا قبولُ تفسيرِكم هذهِ الكنايةَ على ما ذهبتم إليه لاجتهادَاتكم إلى ذلك، أو روايتِكم له خلَفٌ عن سلفٍ عن الأئمةِ والعِترة من أهلِ البيت، وجبَ لمثلِ ذلكَ قبولُ هذه التفاسيرِ بأسرِها في الكناية عن أسماءِ الله، وفي جميعِ أسماءِ الشرائعِ والعباداتِ. لأنهم جميعا يرْوُون ذلكَ خلفٌ عن سلفٍ عن علي عليهِ السّلامُ والأئمّةِ من ولَده، وعن محمدٍ بن إسماعيلَ قيِّمِ الزمان، ويُبَدِّلون عليه العهودَ والأيمانَ ويُكذبون كل من أنكرَ أن يكونَ ما قالوا مذهبَ على عليهِ السلامُ والأئمّةِ من وَلَده، وهو عندَ كثير من الناس أحسنُ وألطفُ من تأويلاتِ الإمامية، فهل بينكم وبينهم في ذلك من فضلٍ وكُلكم تروون ذلكَ عن الأئمة، والله المستعان، وإليه سبحانَه الرغبةُ في تعجيلِ النكال والانتقامِ ممن حاولَ إبطالَ الدينِ، والقدحَ في التنزيل، وتحريفَ التأويل، إنّه سميعٌ قريبٌ مجيب. ثم يقال لهم: ليس الأمرُ على ما ادَّعيتموه من أنّ اللهَ سبحانهُ لا يجوزُ أن يُكني عن اسمِ أحدٍ ويعرضُ بذكره من غيرِ تصريح، وأن ذلكَ لا يفعلُه إلا مَن يحتاجُ إلى المداراةِ والمداجَاة، لأن استعمالِ الكنايةِ والتعريضِ مذهبُ العربِ في كلامها معروفٌ مشهور، وكذلكَ يقولون: رُبَّ إشارةٍ هي أفصحُ من عبارة، وتعريضُ أبلغُ من تصريحٍ، وقد يقولُ الرجلُ لمن يكذبه ويخالفُه ويباهِله عند الرد عليه، والتكذيبِ له: إنَ أحدَنا لكاذب، وإن أحدَنا لخائنٌ وجبان، وإنّ أحدَنا لجاهلٌ غبيّ، ويُقيم هذه الكِناية مقامَ قوله لخصمِه ومخالِفه: أنت كاذبٌ وجبانٌ وجاهل، وربما كان هذا التَعريضُ أبلغَ من التصريحِ وأبدعَ وأنكى للقلبِ وأبلغَ في الرد، وهو مع ذلكَ أحسنُ في اللَّفظ، وأجدرُ أن يُنسبَ صاحبُه إلى الوقارة والعقلِ والتوصل إلى غايةِ غرضِه بغير المستَهجن من اللَّفظ، وقد أطلقَه اللهُ سبحانهُ وأجازَه في خِطبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 النساء في عدتهنَ، فقال تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) ، وحظرَ سبحانهُ التصريحَ بذلك. وقالَ أهلُ العلِم: إن الكِنايةَ عن ذكرِ التزويجِ والخِطبة، أن يقولَ الرجلُ للمرأةِ: إن النساء لِمن حاجَتي وإني فيكِ لراغب وعليكِ لحريص، ولعل اللهَ أن يرزُقكِ بعلاً صَالحا، ووالله إنك لجميلة، ونحوِ هذا من الكلام. وقد وردَ القرآن بالكِنايةِ والتعرِيض في مواضعَ على وجوهٍ مختلفةٍ منها قوله: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) ، إلى آخر القضة. فكنَّى عن ذكرِ المَلَكَين المَتَسورَين، وقد كان يجوزُ أن يَذكُرهُما ويسميهما. ولم يعدِل عن ذلكَ لحاجة إلى مُداجاةٍ وخوفٍ من سطوةٍ ومبادأة. وكذلكَ قولُه تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) . فكنَّى عن ذكرِ النساء بذكرِ النعاج (1) ، ولم يامُرِ اللهُ سُبحانه المَلكين بهذه الكناية لخوف سطوةٍ ودفع بليّة، ولو تتبعَ هذا لكثرُ وطال. وإذا كانَ ذلكَ كذلك، وكانَ اللهُ تعالى قد أرادَ بقوله: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) ، الإخبارَ عن كل من أطمَعَ في معصيتهِ الله، وأراد بِذكر الظالمِ كل ظالمٍ وعادلٍ عمَّا وجبَ عليه، كنى عنهم بذكر فلان، ولو جُعل مكان هذه الكِناية تفصِيلَ أسمائهم لطالَ ذلكَ وكثُر واستُهجن ومجَّتْه القلوبُ والأسماع. ولخرج بذلك عن مذهبِ العرب، وطريقةِ سائرِ الئاسِ في الكلام، لأنه كان يجبُ أنْ يقول: (وَيَومَ يَعَضُ اَلظالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) فرعونُ وقارونُ وهامان، وأبو لهبٍ وأبو جهلِ بن هشام، وعتبةُ وشيبةُ والوليد، وهذا من الطُول والغَثاثةِ من مستعْمِله بحيثُ لا خفاءَ على أحدٍ به، وهو معَ ذلكَ قاصر للكلامِ عن تناوُله لكلِ من قُصد به من الظالمينَ والمطاعنِ في معصِيته الله، لأنه لو سمّى   (1) هذا الكلام فيه نظر يؤول إلى تصديق أساطير وأباطيل بني إسرائيل في حق نبي الله داوود عليه السلام والقصة مشهورة، وفيها من الافتراء ما فيها. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ألفاً أو مائةِ ألفٍ خرَجَ الكلامُ بصريحِ التشَبيهِ لمن سمّاه عن تناولِ من تقدم من الظالمينَ قبل نزولِ القرآنِ ومن يتأخرُ منهم عن وقت نُزوله، ويوجدُ في المستقبل، واللهُ سبحانَه باتَفاقِ الأمَّة إنما قصدَ بهذا الكلامِ تحذيرَ جميعِ المكلفينَ مِن الظلم، ومِن اتَخاذِ خليلٍ يطاعُ في معصية اللهِ جلَّ وعزَّ، فكانت الكِنايةُ عنْهم بذكرِ الظالمِ الذي هو للجنسِ إذا لم يكن للعهد، والتعريفُ عند كثيرٍ من الناس أولى وأجدر، وبذكرِ فلانٍ عن كلِ من أطِيع في معصِية اللهِ أولى من تعديدِ قومٍ منهم بأسمائهم والتصريحِ بذكرهم على وجهٍ يوجبُ قصرَهُ عليهم فقط، فإذا كان ذلكَ كذلكَ بطلَ ما أصلتُموه. ويمكنُ أيضاً أن يكونَ اللهُ سبحَانه إنما قصرَ بذلكَ لفلانٍ وبهذه الكناية قادةَ أهلِ الكُفر والشَرك، وأكابرِ الظّلَمةِ وأئمةِ أهلِ الضلال والظُلم والعُدوان، فكنى عنهم بذكر فلان، لأن العَرب تقولُ: ما جاءكَ اليومَ إلاّ فلانُ بنُ فلان، يعنون بذلك الأكابرَ والأماثِل المعرُوفينَ والمشهُورِينَ من النّاس، والشاعرُ يقول: أمسكَ فلانٌ عن قيل، يعني عن فلانٍ يُريدُ في عِظَم الأمر وتزايدِ الشَدة في الحربِ أو في الخَطابة والكلامِ والمفاخَرة، وليسَ يريدُ بقوله أمسكَ فلانٌ عن فلانٍ برجُلَينِ قط بأعيانهما. ومن هذا البابِ أيضاً قولُه: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) . و (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) . وإنّما أرادَ به سائرَ الكَفَرَة والنّاسِ إلاّ من استثناهُ منهم بصِفته، وفي بعض ما ذكرناه دليلٌ على فسادِ ما ظنُّه في هذا الباب، وليس هذا القدحُ والاحتجاجُ من استخراج من قالَ به الرّافضةُ، بل هَو ما سَبق إلى الطّعن والقدح في القرآنِ به الملحِدون، وقالوا: إن الكنايةَ والتعريضَ إنّما يستعملُه الخائفُ المداجِي، وليسَ هذه صفةً منزلةً لله عند الموحدين، فظنَّت الرّافضةُ أن لهم في هذا شبهةً ومتعلَّقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 ثم يقالُ لهم: لو سُلِّمَ لكم أنَّ الكناية لا يستعملُها إلا مَن ذكرتم حالَه مِن الخائفين، وأنّه يجبُ في حكمِ اللُّغة أن يكونَ في موضع فلانٍ هذا رجلاً مذكوراً باسمه وعينه، لم يدلَّ ذلك على أنّه يجبُ أن يكون هو عُمرُ بنُ الخطاب، وأن يكونَ الظالمُ هو أبو بكر، والذِّكْرُ هو عليُّ بنُ أبي طالب. ولم تكونوا بتأويلِكم هذا أولى ممّن تأوّله من الخوارجِ في ضد تأويلِكم. وزعَم أنّ فلانا هذا هو مالك الأشتر، وأن الذِّكْرَ الذي ضلَّ عنه هو عبدُ الله ابنُ وهبٍ الراسِبي، أو يزيدُ بنُ حصينٍ الفُزاريّ، وأن الظالِم هو محاربُ هؤلاء القوم، وعمِلَ لذلك إسناداً وطُرُقاً من الحديث عن عِمران بن حطانَ وقطْري بن الفُجاءةِ وأبي مالك الخارجي وغيرِهم من أئمّة الضّلال، وادعى صخة نقلِه لِما نَقلَه وحصولِ العلمِ به، ولو خِفتم مجاهرةَ مناظِركم على ما توردونه مِن هذه الجهالاتِ بمثلِ هذه المُقابلة لَقلّة دعاويكم وقصُرت ألسنتكم، وقل تبسُّطكم في شتمِ الصَّحابة، وقذفِهم بكلِّ كفرٍ وضَلال. ولكنكم لمّا عرفتم من حالِنا إعظامَ أميرِ المؤمنين، واعتقادِ موالاتِه، وقولَنا بفضلِه، وتبرِينا من كلِ من نَفصَه وغضَّ باليسير من قدرِه وتضلِيلنا له، وأنّنا لا نستحل ونستجيزُ مقابلَتكم بوصفِ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بغير صفته، وإضافةِ نقيصةٍ أو تقصيرٍ أو تبَسُّطكم وعِظم إقدامكم، وصرنا وإياكم كمسلمٍ يناظرُ يهوديا أو نصرانياً يتناولُ محمداً صلّى اللهُ عليه، ويغُض من قَدْره ويقدحُ في رِسالته، والمسلمُ مبتلاً - به مَحوجٌ إلى حل شبهَته وتعظيمِ موسى وعيسى عليهما السلامُ، والإذعانِ له بفضلهما، وليس ذلك بتقوية لحجّة اليهودي والنصراني، ولا بموهنٍ لحُجاج المسلمِ ودليلِه، ولكنّه من شُبَه جُهالِ اليهودِ والنّصارى وعامتهم إذا سمعوا اليهودي يقولُ: للمسلم أنت قد أقررتَ بنبوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 موسى وعِظَمِ قدرهِ وجلالةِ محَلِّه، وأنا منكر لبنُوة محمدٍ صلى الله عليهِ وما تدعيه من شرَف موضعه، وكذلك سبيلُ عامتكم في الاغترارِ بكم إذا قُلتم عند ضيق الخِناقِ وخلق البِطان: قد أقررتم لنا بفضلِ علي وإمامتِه، وأنكرنا نحنُ فضلَ أبي بكرٍ وعمرَ وبرئنا منهما وجَحَدنا إمامَتهما وإسلامَهما، ونحن نعوذُ بالله من التعلُّق بمثل هذهِ الأباطيل والتعاليل. واعلموا رحَمكم الله أن أهلَ التفسيرِ قد فسَّروا هذهِ الآية، وذكروا فلانا هذا الذي جُعلت الكِنايةُ عن ذكرِه عامةً متناوِلةً لجميعِ من أطِيع في معصية اللهِ بما يُزيل الريب والشك، فقال عبدُ اللهِ بنُ العباسِ: إن سببَ هذه الآية ِ أن عُقبة بنَ أبي معيطٍ صنع طعاماً، ودعا إليه أشرافَ أهلِ مكة وكان النبي صلى اللهُ عليهِ فيهم فامتنع من أن يطْعَمَ أو يشهدَ عقبة بشهادةِ الحق ففعل، فأتاه أبي بنُ خلَف الجُمَحيُّ، وكان خليلَه وصفتهُ فقال له: أصَبَأت، فقال: لا، ولكن دخلَ عليَّ رجل من قريشٍ فاستحييتُ أن يَخرجَ من بيتي ولم يَطْعم، فقال: ما كنتُ لأرضى حتى تبصُق في وجهه وتفعلَ وتفعل، ففعل عقبةُ ذلك، فأنزل اللهُ سبحانهُ هذهِ الآية عامةً في الظالمين بمثل ذلكَ الظلم، وفي جميع من أطِيع في معصيةِ الله، وسببُ نزولِها هذان الرجلان، هذا مما عليه جماعة أهلِ التفسير، وإن اختلفوا في لفظ قضَتهما وسياقِهما، فالعدولُ بها إلى أبي بكرٍ وعمرَ من القِحَةِ والغثاثة، وادعاءِ إبطالِ الخِطاب بالكناية ونقصانِ اسمِ الزجل مِن كتاب اللهِ وتغييره جهل وفرطُ غباوة، ولولا تعلّقُهم بمثل هذا وخوفُ ظن الجُهَّال لصحته وخشيةُ اغترارهم به لكان من الواجبِ تركُه وتنزيهُ الكتابِ عن ذكرِه والحشو به. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 الكلامِ عليهم فيما طعنوا على القرآنِ ونَحلوه من اللَّحنِ قالوا: ويدلُّ أيضا على تغييرِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ للمصحفِ وتحريفِهم له، وغلَطِهم فيه ولحوقِ الخللِ والفسَاد به، ما نجدهُ فيه من اللَّحنِ الفاحش الذي لا يسوغُ مثلُه، ولا يجوزُ على اللهِ سبحانه، ولا على رسُوله التكلمُّ به، والأمر بحفظه وتبقِيةُ رسمِه ودعوى الإحكامِ والإعجازِ فيه، نحوَ قوله: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، وهو موضعُ نصب، وقولهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) ، وهو موضع نصب لا إشكالَ فيهِ على أحد. وقوله: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) . وموضعِ المقيمينَ رفع واجب في هذا الموضع وجوباً ظاهراً بيّناً. وقولهِ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) . وهو الصّابرونَ بغير اختلافٍ بينَ أهلِ الإعرابِ، وقولهِ في المنافقين: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) . وهو موضعُ نصب، وهو في المصحَفِ مجزُوم. قالُوا: وقد ثبتَ وعُلِم أن اللهَ سبحانهُ لا يجوزُ أن يتكلمَ باللحنِ ولا يتزلُ القرآنَ ملحُوناً، وأَنّ ذلكَ إئَما هو تخليط ممن جمعَ القرآنَ وكتبَ المصحف، وتحريفِهم إما للجَهلَ بذلكَ وذهابِهم عن معرفةِ الوجهِ الذي أنزلَ عليه، أو لقصدِ العِنادِ والإلباسِ وإفسادِ كتابِ اللهِ وإيقاعِ التّخليطِ فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 قالوا: وهم إلى هذا الوجهِ أقربُ وهو بفعلِهم، وما أخبَروا به عن أنفسِهم أشبه، لأنه قد رُويَ عنهُم روايةً ظاهرةً أنّ في القرآنِ لحنا، وأنّ العَربَ ستقيمُهُ بألسِنتها، وأنّه مِن غلَطِ الكَاتب، واشتُهرْ ذلكَ عنهم في باقِي الصّحابة، ثمَّ لم يُغيِّر قائلُ ذلكَ ولا سامِعهُ هذا اللحنَ ولا أسقَطوه، معَ القُدرةِ عليه، والتمكُّنِ منه، فلا وجهَ لتركِهم ذلكَ إلا قصدَ العنادِ والإلباسِ وإيقاعِ التّخليطِ والفسادِ في كتابِ اللهِ تعالى، وقد رَويتم أن عثمانَ لمَّا نُسخَ مصحفُه ورُفع إليه نَظر فيه وقال: "أرى فيه لحناً وستُقِيْمُهُ العربُ بألسِنتها" (1) ، ورَوَيتم عن هِشامِ بنِ عُروةَ: "عن عائشةَ أنّها قالت: ثلاثةُ أحرفٍ هيَ في كتابِ اللهِ تعالى خطأٌ من الكاتِب: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، و: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) في المائدة، و ((لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) . فأيُّ عذرٍ للقَومِ في إقرَارهم هذا اللحنَ وتركهِ على حاله، وأيُّ مخرجٍ - لقائلِ هذا أو سَامعيه إذا لم يتسرعوا إلى تغييره وإنكارِه، وأخذِ الناسِ برسمهِ على وجهِ ما أنزلَ علمِه،. فلولم يدل على جهلِ القومِ وتخبيطهمِ وإدغالهمِ للدِّينِ ودخول الخللِ والفسادِ في الكتاب، وذهابِهم عن ضَبطه وقصدِ قومٍ منهم إلى تحريفهِ سوى ما وَصفناه، لكانَ كافيا لمن تدبر.   (1) هذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - لم يثبت، ذكره بصيغة "التمريض القرطبي - في تفسيره وجعله من كلام المتعسفين المغالين (تفسير القرطبي (2: 245) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فيقالُ لهم: قد جَمعتم في كلامِكم هذا بين ضُروبٍ من التّخليطِ: أحدُها: ظنكُم لصحّةِ هذه الروايةِ عن عثمانَ وعائشةَ وقيامِ الحجّةِ بها وَوُجوبِ القطعِ على أنّهُما قد قَالا ذلك، ووجوبِ طلبِ المخرجِ لهما منه. وليست هذه صفة هذا الخبرِ عندَنا. والوجهُ الآخرُ: توهمُكم أنّ ذلكَ إن صحَ عنهما فإنّه لا عُذرَ لهما ولا مخرجَ من إقرارِ الخطأ، وليسَ الأمرُ في ذلكَ على ما توهمتُم. والوجهُ الثالثُ: قولكمُ: إنَّ القومَ جهِلوا الصواب، وذهبوا عنهُ معَ اعترافِكم بأنّهم قد عرَفوا اللَّحنَ وذكرُوه، وهذا جهلٌ منكم وتخليط. والوجهُ الرابع: دعواكم أنّ القَومَ إنَّما قصدُوا بذلكَ إيقاعَ التَّخليطِ والإلباسِ في كتابِ الله، معَ اعترافِكم بأنّهم قد نبهوا على اللَّحن، وذكروه وذكروا مواضعه، وهذا أيضاً تخليطٌ ظاهر. والوجهُ الخامس: توهُّمكُم أن هذه المواضِعَ ملحونةٌ لا محالةَ لا وجهَ لجوَازها في اللُّغة، فليسَ الأمرُ في ذلكَ على ما تقدرون، ونحن نتكلمُ على فصلٍ ممّا أوردتموه بما يوضّحُ الحق ويكشِفُ تخليطَكم وفسادَ تعلقِكم إن شاءَ الله تعالى. وأولُ ما نقولُ في ذلك: أنكم قد زعمتُم أنّ عثمانَ وعائشةَ قد اعترفا بأن في كتابِ اللهِ لحنَا وخطأ، وأنّه من غلطِ الكاتب، وأنهما أقرَّا ذلكَ وعَصَيا اللهَ بإقرارِه، وتركِ تغييرِه، وإنكاره، وعصى اللهَ أيضا جميعُ من سمعَ ذلكَ مِن الصَّحابة ِ وعرَفهُ فلم ينكِرْه معَ ظهورِ هذا القولِ فيهم وانتشارِه بينَهم. وليسَ يجوزُ أن يقطع على تخطئةِ الصَّحابة ِ وتفسيقهم ونسبتهِم إلى العِصيانِ بقول يُحكى عن بعضهم ويُدَّعى انتشارُهُ في باقِيهم، يوجبُ ذمَّ قائلهِ وسامعهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 مع إقرارهِ له بخبرٍ وروايةٍ لم تقم بها الحجَّة ُ ولا هي مما عُلم صحتها بضرورةٍ أو دليل، بل يجبُ أن لا يُنسب إلى أدنى المؤمنينَ منزلةً شيءٌ من ذلكَ، ولا يُقطعُ بهِ عليه، إلا بخبرٍ تقومُ به الحجَّة ُ ويَلزمُ القُلوبَ العلمُ بثبوته، وبمثلِ هذا بعينهِ أبطَلنا مطاعنَ الخوارجِ على عليٍّ برواياتٍ تَروونها لم تقُم الحجَّة ُ بها، ولا عِلمَ بثبُويها لا حاجةَ بنا إلى ذكرِها، ولو عَلمنا على إضافةِ مثلِ هذا إلى عثمانَ وعائشةَ والقطعِ عليهما بهِ وذمِّهما لأجلهِ بخبرِ الواحدِ ومَن جرى مجراه، لوجبَ ذمُ سائرِ الصَّحابة ِ وقذفهِم بالخطأِ والعِصيانِ والتفريط، لأنه ليسَ فيهم إلا مَن قد رُويَ عنه أمرٌ لم يثبتْ عليه، ولم تقُم حجةٌ به، ولما لم يجب ذلكَ سقطَ ما تعلقتُم به، إذ كنا لا نعلمُ بثبوتِ هذهِ الروايةِ بضرورةٍ ولا بدليل. فأمَّا عدمُ علِمنا بصحتها ضَرورة، فأمرٌ لا شُبهةَ علينا ولا علَيهم فيه. لأنَّ أحداً لا يسوغُ لهُ دعوى الضرورةِ إلى العِلم بصحَّة ِ هذهِ الرواية، وكيفَ يسُوغُ ذلكَ وهو لو كانَ مما قَد ظَهر وانتشرَ واستفاضَ وبلغَ حد التّواتر الموجبِ للعلمِ القاطعِ للعذر، لوجبَ أن نّجدَ أنفسنَا مضطرّةً إلى العلمِ به، وغيرَ واجدةٍ للسبيلَ إلى دفعه، أو الشّكَ فيه، وباضطرارٍ يُعلم من أنفسِنا أنّه لا علمَ فينا بصحّةِ هذه الرِّوايةِ، وأن لِطوارقِ الريبِ والشُكوكِ فيه تسلُّطاً وسبيلاً على قُلوبنا كتسلطِه على ذلكَ في جميعِ ما يُروى لنا ممّا لم تقم بهِ الحجةُ من أخبارِ الآحاد، ومِن دَفعِنا عن ذلكَ لم يكن عندَنا في حدِّ من يجبُ كلامهُ ويحسنُ مناظرتهُ ولا ممن يُرجى الانتفاعُ بمشاجرِته، ولم تكن الحيلةُ في أمره، إلا أن يقالَ له: إنّكَ تعلَمُ ضرورةً أنّ هذا الخبرَ لا يوجبُ العلمَ ولا يقطعُ العذر، ويُعلمُ ضرورةً أنه متكذَّبٌ باطل، ويُضطرُ إلى أنّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 لم يثبت عن عثمانَ وعائشة، ولم ينتشَرْ في الصَّحابة فإنه لا فصلَ له في شيء من ذلك، وإذا كانَ هذا هكذا بطلت دعوى الضّرورة إلى صحة هذهِ الرواية. لمان قالوا: بدليلٍ نعلمُ صحَّتها وحجّةٍ دون الضّرورة. قيل لهم: وما ذلكَ الدليلُ والحجة، أهوَ إجماعُ الأمَّة ِ على تصحيح هذهِ الرواية عنهما، أو توقيفِ اللهِ ورسُولهِ على ذلك، أو إيجابِ العقلِ لقولهما لذلك، أم أي شيءٍ هو، فلا يجدونَ إلى ذكر شيءٍ سبيلاً. فلو كان هذا الخبرُ سليما مما يدلُّ على اضطرابِه وفسادِه، ويمكنُ أن يكونَ صحيحا عَن عثمانَ وحالُه ما وصفناه، لم يجبْ القطعُ به والعملُ عليه. فكيفَ وفي نقلهِ من الاضطِرابِ ما يوجبُ تركَ الإصغاءِ إليه والعملِ عليه. وذلكَ أن هذا الخبرَ إنَّما مدارهُ على قتادةَ وعنه يُروى، وقتادةُ إنما أرسلَهُ عن عثمانَ وتارةً يرويهِ عن يحيى بنِ يَعمُر وهوُ لم يسمعهُ من يحيى بنِ يَعمر. وإنما سمعَه على ما ذكره من قومٍ من أهل العلمِ عن نصرِ بنِ عاصمٍ الجحْدَري، ويحيى بن يَعمرَ يرويه عن رجلٍ مجهولٍ مشكوكٍ فيه غير معروفٍ وهو ابنُ فُطيمة أو ابنُ أبي فُطيمة، ولو كانَ هذا الرجلُ مشهوراً معرُوفا لمَا وقعَ مثلُ هذا الشك في أمرِه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 فروَى أبو بكرِ بنُ مجاهدٍ عن أبي أحمدَ بن محمدِ بنِ موسى قال: حدثنَا ابنُ أبي سعيدٍ قال: حدَّثنا سليمانُ بنُ خلاد: قال حدثنا شبابةُ قال: حدَّثنا أبو عمرو بنُ العلاءِ: قالَ حدَّثنا قتادةُ قال: "لما كُتبَ المصحفُ عُرض على عثمان، فقالَ: إنَّ فيه لحناً ولتقيمنه العربُ بألسنتِها". وروى ابنُ مجاهد عن محمدِ بنِ يحيى عن أبي جعفر المكفوفِ عن شَبَابة بنِ سُوارَ عن أبي عمروِ بنِ العلاءِ عن قتادة قال: "لما كُتبَ المصحفُ رُفعَ إلى عثمانَ فنظرَ فيه، فقالَ: إنَّ فيه لحناً ولتقيمنه العربُ بألسنتِها". فهذان الخبران إرسالُ قتادةَ عن عثمانَ بهذهِ الرِّواية، والمرسَلُ في مثِل هذا غيرُ مقبولٍ لأنّنا لا نعرفُ مَنْ بينَ قتادةَ وعثمان، ولعلَّنا لو عَرفنا لم يكن عندَنا وعند الشِّيعةِ ممَّن يُقبلُ خبره، ويُسكَن إلى قولهِ، بل لعلّهُ أنْ يكونَ من الناصبةِ وشيعةِ الجَملِ والمنحرفينَ عن القولِ بالنّصِّ على علي، ومن هذه صفتهُ فخبرهُ عند الشِّيعةِ مردود غيرُ مقبول، وليس لأحدٍ أن يقولَ: إنَّ قتادةَ لا يُرسلُ إلا عن ثقةٍ عندَه، لأنّه لا دليلَ على ذلك، وقد يُرسلُ الثقةُ في حديثهِ عمَّن إذا سُئل عنه وثَّقة وأحسنَ الثّناء عليه، ويُرسلُ عمَّن إذا سُئل عنه وصَفَ بالتهمةِ له أو الكذبِ والتدليس ووضعِ الحديث وأشياءَ إلينا عليه، فلا حُجةَ مَعنا في أنّ قتادةَ لا يرُسلُ إلاّ عن ثقة، وليس لأحدِ أن يقولَ إنه إذا أرسلَ عن غيرِ ثقة عنده فقد ألبسَ ودلس وغَشَّ من روَى له، لأنّه لا يُعلم أنّ أهل العلمِ لا يقلِّدون في ذلكَ، وأنّهم يعلمونَ أنّهم مأمورونَ بالبحثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 والسُّؤالِ عمَّن أرسلَ عنه والاجتهادِ في الخبرِ المرسَل، وأنّه لا معتبرَ في تعرُّفِ حالِ الوَسائطِ بالإرسالِ عنهم، والسّكتِ عن ذكرِهم، على أنّ أيضاً حالَ قتادةَ أنّه لا يُرسل إلاّ عن ثقةٍ عنده، وقد يكونُ الثّقةُ عنده غيرَ ثقة عندنا ولا عند الشِّيعة، بل يكونُ معروفاً عندَنا جميعاً بما يُسقطُ عَدالتهُ ويبطلُ خبرَه وشهادتَه ويعرفهُ غيرُ قتادةَ بما لا يعرفهُ به قتادة، ولم يوجب اللهُ علينا تقليدَ قتادةَ في تعديلِ من أرسَلَ عنه، ومن هو ثقةٌ عندَه، فإذا كان ذلكَ كذلكَ بانَ بهذه الجملةِ أنه لا حُجةَ في الأخبار التي أرسَلها قتادةُ أو غيرُه عن عثمانَ في هذا البابِ، فهذا هذا. وأمّا الرِّوايةُ المسندةُ عن قتادةَ في هذا فصِفتُها في الاضطرابِ ما قدَّمنا ذكرَه، فروى ابنُ مجاهدٍ قالَ: حدَّثنا أحمدُ بنُ عبد الرحمن، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ سِنان، قال: حدَّثنا أبو داود، قالَ: حدَّثنا عمرانُ القطانُ عن قتادةَ عن نصرِ بنِ عاصمٍ عن عبدِ الله بنِ فطيمةَ عن يحيى بنِ يعمر، "قالَ: "قال لي عثمانُ: إن في القرآنِ لحنا تُقيِّمه العربُ بألسِتتها". ورَوى ابنُ مجاهد قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ زهير، قال: حدَّثنا عمرو بنُ مرزوق، قال: أخبرنا عمرانُ القطانُ عن قتادةَ عن نصرِ بن عاصم عن عبدِ الله بن أبي فطيمةَ عن يحيى ابن يعمرٍ قال: "لما عُرضتِ المصاحفُ على عثمانَ، قال: "إنَّ في مصحِفنا لحنا تقيمهُ العربُ بألسنتها". وروى ابنُ مجاهد، قال: حدَّثني أبو عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 أحمدُ بنُ عبدُوس، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ المخزوميُ، قال: حدَّثنا أبو داودَ الطيالسيُ، قال: حدَّثنا عمرانُ القطان عن قتادةَ عن يحيى ابنِ يعمرِ عن ابن فطيمةَ، قال: "قال عثمانُ: إن في القرآن لحناً وإن العربَ ستقيمهُ بألسنتها". وفي هذه الروايات المسندةِ المرفوعةِ ضروبٌ من التخليط، فمنها أنّ قتادةَ مرةً يروي الخبرَ عن يحيى بنِ يعمرِ ولا يذكُر نصراً، ومرةً يروي عن نصرِ بن عاصمٍ عن يحيى، وتارةً تردُ الروايةُ عنه بأن يحيى بنَ يعمرٍ هو الذي يروي عن ابن أبي فُطيمةَ، وتارةً يردُ بأن ابنَ فطيمةَ هو الراوي عند يحيى بن يعمر، وهذا اختلاف وتخليطٌ ظاهر، وتارةً يقولُ الراوي ابنُ فطيمةَ وآخرُ يقولُ ابنُ أبي فطيمة، وهذا أوضحُ دليلٍ على الجهالةِ بابن أبي فُطيمةَ هذا وخفاء أمرهِ وخمولِ ذكرِه وحصولِ الشُكوكِ في أمره، وأنه غيرُ معروفٍ عن أهلِ الضبطِ والنقل، ولو كانَ معرُوفاً لَزالت عنهم الشُكوكُ في أمرِه، فمنْ ظن أننا نقطعُ على عثمانَ بصحَّة ِ هذهِ الرواية، وأنه قالَ هذا القولَ وأذاعهُ بمثلِ هذا الخبرِ فقط، فقدْ ظن بعيداً، وقد بينا فيما سلَف أنه لو سلَّم جميعَ ما ذكرناه لم يجب من ناحيةِ القطعِ على عثمانَ بموجبهِ وتصحيحِه عليه، وإذا كانَ ذلكَ بانَ أنه لا تعلُقَ لأحد على عثمانَ بمثل هذا الخبر مِن كل وَجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 فصل وأمَّا رُوِي عن عائشةَ من قولها في أحرفٍ في المصحفِ إنها لحن. وإنها من غلطِ الكاتب، فإنهُ أيضاً جاري مجرى الخبرِ المروي عن عثمانَ في هذا الباب، لأنه من أخبارِ الآحاد ِ التي لم تقُم الحجَّة ُ بها، ولا سبيلَ إلى العلمِ بصحَّتها لا من ناحيةِ الضرورة، ولا من جهةِ الدليل، وكل شيءٍ ثَبتَ أنه من الروايةِ عن عثمانَ من أخبارِ الآحاد، فإنه بتعيّنه دالٌّ على أن هذهِ الرِّوايةَ من أخبارِ الآحاد ِ فلا حاجةَ بنا إلى إعادتِه، ولم يروِ هذا الخبرُ عنها إلاّ عُروةُ بنُ الزُبير وحدَه، وعروةُ عندنا غيرُ متهمٍ ولا ظنين بل ثقةٌ أمينُ وعدلٌ صدوق، غير أننا لا نعلمُ ضرورةً ولا استدلالاً صحة َ هذه الرواية ِ عن عُروة، ولا يُقطعُ على أنه رَوَى ذلكَ عن عائشة، ولا ندري كيفَ حالُ الروايةِ كذلكَ عند عبدِ الله. ومتى كانَ ذلك كذلكَ لم نُجِز القطعَ على أن عائشةَ حكَمت أن في المصحَفِ حُروفاً ملحونةً أخطأ فيها الكاتبُ والمملي والمجتمعونَ على كَتْبِ المصحفِ وعرضه، وهُم قوم من جِلَّة الصَّحابة، وأهل ثقةٍ وأمانةٍ وبراعة. ولسِنٍ وعِلمٍ وفَهمٍ ثاقبٍ بصحيحِ الكلام والسائغِ الجائزِ منهُ في اللُّغة والملحونُ الفاسدُ الذي لا يحْسُن ولا يسوغ التكلّمُ به، لأن ذلكَ قذفاً منها لهُم بالتجهيلِ والتخطئة، والنسبةِ إلى ما يبعدُونَ عنه، أو بالتُّهمةِ وقِبحِ الطنةِ وقصدِ التمويهِ والإلباسِ في كتاب الله، وكل ذلك منفي عنهم، ويجبُ أن يُنفى أيضاً عن عائشةَ قذفُهم بذلك، لأنها أعلمُ بعدالتِهم وأعرفُ بثاقبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 أفهامِهم وصحةِ نحائرهم وفصاحتِهم ولسِنِهم، وأن اللغةَ طِباعُهم، والكلامَ بها شأنُهم ونشوءَهم وديدَنُهم، وأنه لا يمكنُ أن يذهبَ عليهم معرفةُ اللحنِ في لغتهِم وهم أفصحُ قومِهم أو مِن أفصَحِهم وأعرفِهم باللسانِ ومواقعِ الخِطابِ ووجوهِ الإعراب، فمن توهم أننا لا بد أن نُلصقَ بعائشةَ هذهِ الروايةَ ونقطعَ بها عليها ونحقَقها من قِبلِها بمثلِ هذا الخبرِ الذي الله سبحانهُ أعلمُ بحالِ طريقه إلى عروةَ بنِ الزبير، فقد توهّم علينا العجزَ والتّفريط، وإَذا كانَ ذلكَ كذلكَ بطَل أيضاً التّعلُقُ بهذِهِ الرِّوايةِ على أنّ الذي روى عنها في ذلكَ هو ما رواهُ أبو بكرِ بنِ مجاهدٍ وغيرهُ مِنَ الرواةِ يرفعُونه إلى عُروةَ بنِ الزُّبير. فَروى ابنُ مجاهد عن يحيى بنِ زيادٍ الفّراء، قال: حدَّثني أبو معاويةَ الضرير، وروى أيضاً أنه حدَّثَه فضلٌ الورّاقُ عن خلاد بن خالدٍ عن أبي معاويةَ الضرير، وروى أنّه حدثه موسى بنُ إسحاقَ عن مِنجاب عن علي بن مسهرٍ عن هشامِ بن عروةَ عن أبيه: "أنّ عائشةَ قالت: في (والمقيمينَ الصّلاة والمؤتونَ الزكاةَ) ، و (وإنّ الذين آمنوا والذينَ هادوا والصابئون) ، (إنَ هذانِ لساحِران) ، أن ذلكَ خطأ من الكَاتبِ ". وقد بيّنا فيما سلفَ أننا لا نعرفُ كيف الحالُ فيمن دونَ هشامِ بن عروةَ من الرواةِ عندَ الله، وأّنه لا حُجّةَ فيما هذه سبيلُه منَ الإخبارِ في الأمرِ الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 يجبُ القطعُ به على الله، وعلى المروي َ عنه وما يقتضيهِ مِن ذمِّة والبراءَةِ منه أوتعظيمهه ووُجوبِ موالاَته، فوجبَ بذلكَ أنّه لا حجّةَ في هذهِ الرَِّواية، على أنّ في الرَِّواية ِ ما يدلُّ على ضعفِ الخبرِ عنها وبُعدِها عن أن تكونَ قالته، وذهبَ عليها وجهُ الخطأ عنه وذلكَ أنّها ذكَرت ثلاثةَ أحرف: مِنها حرفانِ صحيحانِ جائزانِ عندَ سائرِ أهلِ العربيّة، فيها الرفعُ والنصبُ جميعا في لغة قريشٍ وغيرها وهما: قولُه: (والصابئونَ) ، وقولُه: (والمقيمِينَ الصّلاة) . وسنذكرُ وجهَ جوازِ ذلك وحجَّته إن شاءَ اللهُ، فهذهِ جملةٌ تُسقطُ تعلُّقَهم بهذه الروايةِ عن عثمانَ وعائشة. ثم إنّا نقولُ بعدَ ذلك: فإن صحَّت هذهِ الرَِّواية ُ وكانت على ما يدّعون ظاهرةً معلومةً في الصَّحابةِ مشتهرةً فيهم، فقد بطلَ بذلكَ قولُهم إنَّ الصَّحابة َجهِلت وحذفت وأثبتَت في المصحفِ ما لا عِلمَ لها بِصوابِه من خطئِه، لأجلِ أنّ عثمانَ وعائشةَ قد عَرفا اللّحنَ والخطأ وذكَرا ذلكَ عن أنفسهما. ولو لَم يعرِفاه لمَا ذكراهُ ونبّها عليه، وكذلكَ سائرُ الصّحابةِ يجبُ أن تكونَ قد عرفتْ هذا اللّحنَ والخَطأ، إن كانت هذهِ الرَِّواية ُ عن عثمانَ وعائشةَ مشهورةٌ فيهم عنهما، لأجلِ أنهم أهلُ الفصاحةِ واللّسنِ والمعرفةِ بوجوهِ العربيةِ وضُروبِ الخِطابِ والتصويبِ في الكلام، واللغةُ لغتهم، وإنما أنزِلَ القرآنُ بلسانِهم وفيهم، وليسَ يقصرُ الخلقُ الكثيرُ والدهماءُ منهم في الفَصاحةِ والمعرفةِ بلسانِ العربِ والجائزِ فيهِ وغيرِ الجائز، عن منزلةِ عثمانَ . وعائشة، بل فيهم من قَد قيلَ إنّه أفصحُ منهما وأكثرُ انبساطا وتصرُّفا في معرفةِ اللسانِ والقدرةِ على التكلمِ به، فإذا شُهِرَ فيهم قولُ عثمانَ وعائشةَ إن في القرآنِ لحناَ وإنه من خطأ الكاتب فلم نحفظَ أحداَ أنكرَ ذلكَ على عثمانَ وعائشةَ أو عارضَ فيه أو احتج فيه أَوردّه أو قدَح فيه بوجهِ من وجُوهِ الطعن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 عُلمَ بذلكَ أنَّهم لم يُمسكوا عن المعارضةِ في هذا الأمرِ العظيمِ إلا لعلمِهم بصوابِ ما قالَه عثمانُ وعائشةُ ومعرفتُهم بذلك، ولولا هذا لأنكروا هذا القولَ وردوه، ولم يكن في موضعِ العادةِ أن لا يقدحَ قادح منهم في هذا القول، مع اعتقادِهم خطاَ قائلهِ وصخةَ ما نسبهُ إلى الخطا واللّحن، ولو رَد هذا منُهم رَاد وقدحَ فيه قادح لوجبَ في مستقر العادةِ ظهورُ رده وقدحه. وأن يُعلمَ في الجملةِ أن ذلكَ أمر قد رُوي كَما رُوِيَ ما هُوَ قدح فيه من قِبلِ عثمانَ وعائشة، وإذا لم يكن ذلكَ كذلكَ ثبتَ أن هذا القولَ كان مسلَّماَ في الصحابة، وغيرَ مردودٍ إن كان قد ثبتَ صحة ُ هذه الرواية ِ وظهورِها في الصحابةِ على ما يدعون، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ وجبَ علمُ سائرِ الصّحابةِ والدهماءِ منهم بوقوعِ هذا اللّحنِ والخطأ في المصَحفِ وبانَ بذلكَ جهلُ من نسبَهم إلى الجهلِ به والذهابِ عن الصواب. وكذلك هذه الرواية ُ إن كانت صحيحةً على ما يدّعون، فقد ناقضوا في قولهم إن عثمانَ وعائشةَ وكثيراً من الصَّحابة ِ قصَدُوا إلى تحريفٍ بالمصحَفِ وتبديلهِ والإلباسِ على الأمَّةِ فيه والغِشِّ لها والإدغالِ في دينها بإثباتِ اللحنِ والخطأ فيه، لانهما لو قَصدا ذلكَ لكتما ذِكرَ اللحنِ وأعرَضا عنه وتغافَلا عنه ولم يُناديا به وينتها، وكذلك الباقونَ منهم لو قصدُوا أو بعضُهم غِش مَنْ بَعدهُم والإلباسَ في كتاب اللهِ لناقضوا عائشةَ وعثمانَ وردوا عليهما واحتجوا للحنَ والخطأ وألبسوا ترتيبه ورد قولِ من نبهَ عليه، حتى يُصوروا الباطلَ بصورةِ الحق، هذه سبيلُ من قصدَ الإلباسَ والتّمويهَ وكِتمانَ الصوابِ وطيه ونشرَ الباطلِ وإذاعتَه، والدعاءَ إليه، فلمَّا أظهرت عائشةُ وعثمانُ هذا القولَ ورضيَ بهِ الباقُون وأقرُّوهُ وصوبُوه وعدَلوا عن القَدحِ فيه والاعتراضِ عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ثبت أنَّهم جميعا أنصارُ الحقً، وأهلُ الحياطَةِ والحِراسةِ لكتابِ اللهِ والتنبيهِ على الواجبِ لهُ وفيه، وما يجبُ أن نعتقدَ في صحيحِ ما ثَبتَ فيه، وغَلطِ من أدخلَ فيه ما ليسَ منه، وكيفَ ينُسب قوم هذه سبيلُهم إلى التمويهِ وقصدِ الإلباسِ والإدغالِ للذين وأهله، لولا الغباوَةُ وجهلُ من يعتقدُ ذلكَ فيهم. ويروي مثلَ هذه الرَِّوايةِ عنهم، وبمواضعِ التخليطِ والمناقضةِ في كلامهِ واحتجاجه، ونحنُ الآنَ نبيِّنُ وَجهَ التأويلِ في هاتينِ الرِّوايتينِ لو صحتا عن عثمانَ وعائشةَ وما الذي قصَداهُ بذلك، وأنهما لم يعتقدا أن في القرآن لحناً لا يجوزُ في لُغةٍ منه وعلى كل وجه. فنقول وبالله التوفيق: إنهُ يمكنُ إن كانت هذه الرَِّواية ُ صحيحَةً أن يكونَ عثمانُ لما أرادَ بقوله: "أرى فيه لحناً وستقيمه العربُ بألسنتِها"، إن فيه لحنا في لغةِ بعضِ العربِ وعلى مذهَب قبيلةٍ منهم لا يتكلمونَ بتلكَ الكلماتِ على الوَجهِ الذي أُثبِتَ في المصحَف، وأن من لَم يألف الكلامَ بتلكَ الحروفِ على ذلكَ الوجهِ اعتقدَ أنه لحن وأئه لا يُقرأ به، وأن لسانَه لا ينطلقُ به، ولا يمكنُهُ مفارقةُ نشوءهِ وطبعِه وعادتِه في الكلام، فأرادَ بقوله إنه لحن عند من اعتقد ذلكَ وصعُبَ عليه التكلُّمُ به، واستكبرهُ وخفَي عليه وظن لأجلِ ذلكَ أن اللهَ لم ينزلهُ ولم يقل ذلكَ على سبيلِ القطعِ بأنه لحن وأنه غيرُ جائز، وأراد بقولهِ: لتقيمَنه العربُ بألسِنتها أنه ستقرأ تلكَ الكلماتُ ويَنطقُ بها كل ناطقٍ منهم على الجائزِ في لغتهِ والمألوفِ في طبعهِ وعادته، فيتكلمُ بهِ قوم على وجهِ ما ثَبتَ في المصحفِ إذا كانَ التكلمُ به على ذلكَ الوَجهِ لسانَهم، ويتكلمُ به آخرون َ على الوجهِ الشائعِ الجائزِ المألوفِ في لُغته، لأن اللهَ سبحانهُ أطلقَ القِراءةَ بتلكَ الأحرفِ على هذهِ الوجوهِ المختلفةِ نظراً لعبادهِ وتسهيلاً عليهم وتخفيفا لمحنتهم في التكليف، ولم يُردِ بقولهِ: ولتقيمنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 العربُ بألسنتها، أنّه ليس فيها متكلم به على وجهِ ما ثَبت في المصحَف. وأن ذلكَ خطأ غيرُ جائز. ويمكنُ أيضًا أن يكونَ إنّما قصدَ بقولهِ: إنَّ فيهِ لحناَ عندَ مَن توهّم ذلكَ وخفيَ عليهِ وجهُ الصّوابِ في إعرابه على ما ثبتَ رسمُه، ولم، يَعرِف الوَجهَ في جوازه، وأن يكونَ أرادَ بقولهِ: ولتقيمنه العربُ بألسِنتها، أي لتحتجّنّ العربُ وَلَيُتَيحَنَّ الوجهَ في صحةِ ذلك، وصوابِ ما ثبتَ في المصحف. وليبيحَنّ الله تعالى منهم في كلِ عصرٍ وأوانِ يظهرُ فيه دعوى وقوعِ اللّحنِ فيما يتوهم ويُظن أنّه لحنٌ مَن يُعرِبُ عن صوابِه، ويحتج بجوازه،، ويكشفُ عن وجهِ صحتِه، وتخطئةِ دعوى الخطأ فيه، وذلكَ إقامة له ممن صنعَه من العَرب وإفصاح عن معناهُ وصوابِه بلسَانه. فأمّا أن يكونَ أراد القطعَ على أن فيه لحناً، لا يسُوغُ بوجه، وهو مَع ذلكَ مقر له وغيرُ مغيره، فذلكَ غيرُ جائزِ ولا بُدَّ من حملِ كلامهِ على مثلِ هذا التأويلِ ونحوه، لأجلِ قيام الدليلِ القاطعِ على أنه لا لحنَ ولا خطأَ في المصحف، وأن هذهِ الأحرفَ جائزةٌ حسنة وصوابٌ على ما ثبتَ رسمُها في المصحف بما سنوضّحه ونكشفهُ فيما بعد، وأنّه لا بدَّ أن تكونَ عائشةُ وعثمانُ من أعرفِ النّاسِ بجوازِ ذلكَ وصحّتِه، وأنّهما أفصحُ وأعرفُ بهذا البابِ من سائرِ من بعدَهُما من أهلِ الأعصارِ وجميعِ من يُظَن أنّه يستدركُ عليهما. ومما يُعتمدُ عليهِ في تأويلِ قولِ عثمانَ: أرى فيه لحنا، هو أنّ المقصِدَ به ما وُجد فيه من حذفِ الكاتبِ واختصارِه في مواضعَ وزيادةِ أحرفِ في مواضعَ أخَر، وأنّ الكاتبَ لو كانَ كتبهَ على مخرجِ اللْفظِ وصورته لكانَ أحق وأولى وأقطعَ للقالةِ وانقى للشُبهةِ عمن ليسَ الكلامُ باللسانِ طبعا له. وقوله: "لتقتمنه العرب بألسِنتها"، معناه أنها لا تلتفت إلى المرسومِ المكتوبِ الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وضعَ للدلالة فقط، وأنّها تتكلّمُ بهِ على مقتضى اللغةِ والوجهِ الذي أنزِلَ عليه من مخرجِ اللّفظِ وصورته. فمِن هذهِ الحروفِ والكلماتِ، ما كتبَ في المصحفِ مِنَ الصلاةِ والزكاةِ والحياةِ بالواو دون الألف، وكانَ الأولى أن تكتبَ الصلاةُ والزكاةُ والحياةُ على مخرجِ اللَفظِ ومطابقتِه، وكذلكَ إبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحاقُ وصالحُ والرحمنُ وأمثالُ هذه الأسماءِ التي تُسقطُ الألفُ منها وهي ثابتة في اللفظِ والمخرج، ونحوُ إلحاقِهم في آخرِ الكلمةِ مِن قالُوا وقامُوا وكانوا وأمثالُ ذلكَ ألفا، والألفُ غيرُ ثابتةٍ ولا بينةٍ في اللفظ، فرأى عثمانُ كتابةَ هذهِ بالكلماتِ أو الأسماءِ ورسمِها على مطابقةِ اللَفظِ ومخرجهِ أولى وأحقّ، وأن المتكلمَ إنْ تكلّم بها وتلاها على حدّ ما رُسمت في المصحفِ كان مُخطئاً لاحِنا خارجا عن لغةِ العربِ وعادِتها، ومتكلّما بغيرِ لِسَانها، غيرَ أنّه عرفَ هو وكل، أحدٍ مَن كتَبَ المصحفَ وغيرهم من أهلِ العلمِ باللُّغةِ أنّ العربَ لا تلفِظ بالصلاةِ والزكاةِ والحياةِ بالواو وتُسقطُ الألفَ، ولا تحذفُ الألفَ في لفظِها بالرحمنِ وسليمانَ وإسماعيل وإسحاقَ وصالحَ ونحو ذلك، ولا تأتي بالف في قامُوا وقالُوا وكانُوا وأمثالِ ذلك، وأنها لا تتكلمُ بذلكَ، إلا على مُقتَضى اللّفظِ ووضعِ اللغةِ لشهرةِ ذلكَ وحصولِ العلمِ به، وتعذُرِ النطقِ به على ما رسُمَ في المصحف، فلذلكَ قال: "ولتقيمنّهُ العربُ بألسِنتها"، أي أنها تنطق به على واجبه ولا تشك في ذلك، لأجلِ أن الرسمَ في الخط بخلافه. ومما يدلُ على صحة ِ هذا: التأويل، وأنَّه المقصو بما صَدرَ عن عثمان. ما رواهُ، أبو عبيد عن حجاح بنِ هارونَ بنِ موسى عن الزُبيرِ بنِ حُريثٍ عن عكرمةَ قال: - "لما كتبت المصاحِف عُرضت على عثمانَ فوَجدَ حروفا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 اللَّحنِ، فقال: لا تُغيروها فإن العربَ ستغيرُها، أو قالَ: ستغيرُ بها بألسِنتها. أو كانَ الكاتبُ من ثقيفٍ والمملي من هُذيلٍ لم تُؤخذ فيهِ هذهِ الحروف. وإنما قصدَ بذلكَ واللهُ أعلم، أن ثقيفاً كانت أبصرَ بالهِجاءِ وأشد تمسُكا في الكتابةِ بمخارجِ الألفاظِ وأعلمَ بذلك، وأن هُذيلاً تُظهرُ الهَمزَ في ألفاظِها وتكثِرُ استعمالَها في مواضعَ لا تستعملهُ قريش، والهمزةُ إذا بانَت وظهرَت في لفظِ الممِلي سَمعها الكاتبُ وصورها على مخرجِ اللَّفظِ، وكانَ القاريءُ لذلكَ الرَّسمِ مخيراً بينَ أن يسلُكَ طريقةَ قريشٍ فَيُلَيِّنَ ويُسقطَ الهمز، وبينَ أن يهمرِ على لُغةِ هُذيل، ومتى لم يُحمل قولهُ هذا على ما ذكرنَاه لم يكن لذِكرِ ثقيفٍ وهُذيلٍ معنىً يُعرفُ وتقفُ عليه، ولذلِكَ قال عثمانُ: "لا يُمليَن مَصاحِفنَا ولا يكتبها إلا غِلمانُ قريشٍ وثقيف، ولم يذكر هُذيلاً، لأنه لم يكن يرى الهمزةَ في جميعَ المواضعِ التي تستعملُ هذيل فيها الهمزةَ. وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ ثبتَ أن اللحنَ الذي أرادهَ عثمانُ هو غلطُ الكاتبِ وتركهُ مُراعاةِ مَخرجِ اللَفظِ وحذفهِ في موضعِ ما هو ثابث في اللفظ. وزيادتِه في موضعِ ما ليسَ فيه، ولم يقْصِدْ بذلكَ أن فيه لحنا لا يجوزُ التكلمُ به، لأنه كانَ والصحابةُ والكتَبةُ للمصحَفِ وزيدُ بنُ ثابتٍ أجل قدراً وأفصحَ لسانا وأثبتَ معرِفةً وفهما باللغةِ من أن يكتُبوا فيه لحنا، ويَذْهبُ ذلكَ على الجماعةِ سِوى عثمانَ وعائشة، ولو قَصَد عثمانُ بذكرِ اللحنِ هذهِ الحُروفَ الأربعةَ التي يُدَّعى أنَّها لحن، لم يجُرْ أن يعدِلَ عن تغييرِها ومحوِها وإثباتِها على الواجبِ الصحيح مع قلتها ونزاردها، وأنه لا كُلفةَ عليه ولا على الكتَبةِ وكلِ مَن عندهُ نسخةَ في تغييرها ورسمِها على الصواب، فلا عُذرَ لهم في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 فوجبَ أنّه إنما أرادَ بذكرِ اللحنِ الهِجاءَ الذي رُسِمَ على غيرِ مُطابقةِ اللفظِ ومِنهاجه، وأنه لمَّا رأى ذلكَ قد اتسعَ وكثرُ في المُصحف كثرةً يطول تتبعها، ويحتاجُ معها إلى إبطالِ النُّسخةِ التي رُفعتْ إليه، واستئنافِ غيرها. إلزامَ الكَتَبةِ في ذلكَ وسائِر من عِندهُ نسخةٌ منه كُلفةً ومشقةً شديدة، وعَلم أن ذلكَ يصعبُ على أهلِ الذكاءِ والفِطنةِ الذين نَصَّبَهم لكتبةِ المصحفِ وعَرضه، لأنهم لم يعتادوا الكتابةَ إلا على ذلكَ الوجه، وأن أيديَهم لا تجري إلا به، أو خافَ نفورَهم مِنْ ذلك، وتنكُرَهُم لهُ ونسبتَهم إلى ميلٍ عليهم وقدح فيهم، وخشيَ حصولَ قالةٍ وتَفرقِ الكلمةِ فأبقاهُ على ما رُفع إليه من لحنِ الهجاء، وقال: إن العربَ ستقيمهُ بألسنتِها، لموضعِ شُهرةِ تلكَ الألفاظ، وعلمه وعلم الناس بأن العرَبَ لا تتكلمُ بها أبداً على ما قيلت ورُسمت في الخط، وإذا كانَ ذلكَ بانَ صحةُ ما قلناهُ وبطلانُ ما قَدَّروه. فإن قالوا: على هذا الجوابِ فقد صرتُم إلى أنّه قد وقعَ في خط المصحفِ ورسمهِ خطأ، وما ليسَ بصواب، وما كان غيرُه أولى منه، وأنّ القومَ أجازوا ذلكَ وأمضوه وسوّغوه، وذلكَ إجماعٌ منهم على خطأ، وإقرار بما ليسَ بصواب. يقالُ لهم: لا يجبُ ما قلُتم، لأجلِ أن اللهَ إنما أوجبَ على القُراءِ والحفظةِ أن يقرؤُوا القرآنَ ويُؤَدُوهُ على منهاجٍ محدود، وسبيلِ ما أنزلَ عليه، وأن لا يُجاوزوا ذلكَ ولا يُؤَخرِوا منه مقدماً ولا يقدموا مؤخراً، ولا يزيدوا فيه حَرفا ولا يُنقصوا منه شيئا، ولا يأتونَ به على المعنى والتعريبِ دونَ لفظِ التنزيلِ على ما بيّناهُ فيما سلف، ولم يأخذ على كَتبةِ القرآنِ وحفاظ المصاحفِ رسما بعينِه دونَ غيرِه أوجبَهُ عليهم وحظرَ ما عداه، لأن ذلكَ لا يجبُ لو كانَ واجبا إلا بالسمعِ والتوقيف، وليسَ في نص الكِتابِ ولا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 مضمونهِ ولحنِه أن رسمَ القرآنِ وخطه لا يجوزُ إلا على وجهٍ مخصوصٍ وحد محدود، ولا يجوزُ تجاوُزه إلى غيره، ولا في نص السُّنَّةِ أيضا ما يُوجبُ ذلكَ ويدلُّ عليه، ولا هُو مما أجمعت عليهِ الأمة، ولا دلتْ عليه المقاييسُ الشّرعية، بل السُّنَّةُ قد دلت على جوازِ كَتبهِ بأي رسمٍ سَهلٍ وسَنحَ للكاتب، لأن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ كان يأمرُ برسمِه وإثباتهِ على ما بيناهُ سالفا، ولا يأخذُ أحداً بخطٍ محدودٍ ورسم محصورٍ ولا يسألهُم عن ذلكَ، ولا يُحفط عنه فيه حرف واحد، ولأجلِ ذلكَ اختلفت خُطوطُ المصاحف، وكانَ منهم من يكتبُ الكلِمةَ على مطابقةِ مخرجِ اللفظ، ومنهم من يحذفُ أو يزيدُ مما يَعلمُ أنه أولى في القياسِ بمطابقتهِ وسياقهِ ومخرجه، غير أنه يستجيزُ ذلك لعلمهِ بأنه اصطلاح وأنّ الناسَ لا يخفى عليهم، ولأجلِ هذا بعنيه جاز أن يُكتبَ بالحروفِ الكوفيةِ والخط الأول، وأن يَجعل اللامَ على صورةِ الكافِ وأن يُعَوجَ الألِفات، وأن يكتُبَ أيضاً على غيرِ هذهِ الوجوه، وساغَ أن يكتبَ الكاتبُ المصحَفَ على الخط والهجاءِ القديمين، وجازَ أن يَكْتبَ بالهجاءِ والخطوطِ المُحدَثة، وجازَ أن يكتُبَ بينَ ذلك. وإذا عُلمَ وثبتَ أن خطوطَ المصاحفِ وكثيراً من حروفِها مختلفة متغايرةُ الصورة، وأن النّاسَ قد أجازوا ذلكَ أجمعَ ولم يُنكرْ أحد منهم على غيرهِ مخالفةً لرسمِه وصورةِ خطه، بل أجازُوا أن يكتبَ كل واحدٍ بما هو عادتهُ واشتُهر عنده، وما هو أسهلُ وأولى من غيرِ تأثيمٍ ولا تناكرٍ لذلك، عُلمَ أنه لم يُوجد على الناسِ في ذلكَ حد محدود محصور، كما أخِذ عليهم في القراءةِ والأداء، والسببُ في ذلكَ أن الخطوطَ إنما هيَ علاماتٌ ورسوم تجري مجرى الإشاراتِ والعقودِ والرموز وكل شيءٍ يدلُّ على اللغظِ وينبَي عنه، وإذا دكَ الرسمُ على الكلمةِ وطريقها والوجهِ الذي يجبُ التكلُّمُ عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 بها، وجبَ صحتُه وصوابُ الكاتبِ له على أي صورةٍ كان وأي سبيلٍ كَتب، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ بطلَ ما توهموه. وفي الجُملةِ فإن كل من ادّعى أنه قد ألزَمَ الناسَ وأخذَ عليهم في كَتبِ المصحَفِ رَسماً محصوراً وصُورةً محدودةً لا يجوزُ العدولُ عنها إلى غيرِها. لزِمه إقامةُ الحجَّة ِ وإيرادُ السمعِ الدالِ على ذلكَ وأنى لهُ به، وإن عارضوا بمثلِ هذا في قراءةِ القرآنِ على إيرادٍ معناهُ أي لفظٍ كان وعلى أي سبيلٍ تسنحَ وبوجه، وقد بينا من قبلُ الحجَّة َ على فسادِ ذلكَ بغيرِ طريقٍ فأغنى عن إعادته. فأما قولُ عائشةَ في تلكَ الحروفِ إنها من غلَطِ الكاتب، فقد قُلنا فيه أنه أيضا من أخبارِ الآحاد ِ التي لا حجَّةَ فيها، وأنه لا يسوغُ لذي دينٍ أن يقطعَ على أن عائشةَ لحَّنتِ الصَّحابة َ وخطأتِ الكَتَبة، ومحلُّهم من الفصاحةِ والعلمِ بالعربيةِ محلُّهم بمثلِ هذه الرِّواية، على أن فيها ما يدّلُ على بطلانِ الخبرِ عنها، لأنها خطأت الكاتبَ في جميعِ هذه الحروفِ ومنها ثلاثةٌ جائزة سائغة عند سائرِ أهلِ العربيةِ وواحد ليس هوَ من لُغةِ قريش، وهو قولُه: "إن هذانِ لَساحِران "، يُذكرُ أنه لغة بالحارث بنِ كعب، فلو كانت خطأت الكاتبَ في هذا الحرفِ فقط لخروجِه عن لغةِ قريش، لكانَ الأمرُ أقرب، فأما أن تخطئَهُ فيما لا خلافَ في جوازِه في كل لغة، وإن كانَ غيرُ ذلكَ الوجهِ أشهرَ وأظهر فإنها بعيدة فيه لبراعتِها وفصاحتِها وكونها من العلماءِ باللِّسانِ ووجوه الخطابِ والإعراب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 والأشبهَ فيما يُروى عنها وعن غيرها من الصَّحابة في هذا البابِ إن صح وسلِمَ مسندهُ وطريقه، أن يكونوا قالوا: إن الوجهَ الأشهرَ الظاهرَ المعروفَ المألوفَ في هذهِ الحروفِ غيرُ ما جاءَ به المصحفُ ووردَ به التنزيل، وإنَّ استعمالَه على ذلك الوجهِ غامض قليل، أو غلط عند كثيرٍ من الناس، ولحن عند من لا يعرفُ الوجهَ فيه ونحو هذا الكلامِ فلم بَضبطْ ذلكَ الرواةُ عنهم. ولم يسمعوا علته ولم يورِدوه على وجهِه، إمّا لسهوٍ لَحِقَهم أو لذهابِهم عن سماعِ تمامِ الكلام، أو لاقتصارِهم على شاهدِ الحالِ وإذكارِهم بذلك من كانَ سمعَ هذا الكلامَ من عائشةَ وعثمان، فأمَّا أن يقطعَ عثمانُ وعائشةُ على أن في القرآنِ لحنا وغلطا وقعَ من الكَتبةِ فذلكَ باطل لما بينَاه سالفا. فأمَّا قولهُ تعالى: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، فإنه يجوزُ قراءتهُ على موافقةِ خط المصحفِ الذي نقلتهُ الجماعةُ وقامت به الحجَّة، ويجوزُ أيضاً قراءتهُ بمخالفةِ خط المصحفِ وأن يُتلَى: "إنَّ هذينِ لساحران ". فأمّا ما يدلُّ على صحة قراءتهِ على موافقة خط المصحفِ فنقلُ جماعةِ الأمّةِ الذين ببعضِهم تقومُ الحجّةُ على أن القرآنَ منزل على وجهِ موافقةِ المصحف، وأنه يجوزُ أن يُقرأ: "إن هذان لساحرانِ "، وأنّ ما تضمنه المصحفُ مِن هذا الحرفِ وغيرهِ صحيح سليم من الخطأ، فلا وجهَ لإنكارِ ذلكَ وتخطئةِ القاريءِ بهِ مع النّقلِ والإجماعِ الذي وصفناه، وقد قالَ قائلونَ من جلَّةِ أهلِ النحو: إن إثباتَ الألفِ في الرّفعِ والنّصبِ والخفضِ في هذانِ هو الأصح وهو القياس، قالوا: لأنّ الألفَ في ذلكَ تَتبعُ فتحةَ ما قبلها كما أن الواوَ في مسلمونَ تابعة لضمة ما قبلها، والياءَ في مسلمين تابعة للكسرةِ ما قبلها، قالوا وغيرهُم من سائِر الناسِ والرواة: وهذه اللغةُ هي لغةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 بالحارثِ بن كعب، وأنهم يقولون: مررتُ برجلان، وقبضتُ منهُ دِرهمان. وجلستُ بينَ يداه، وركبتُ بغلاه، وأنشدوا في ذلك: تزودَ منا بينَ أذنَاهُ ضربةً ... دعَتْهُ إلى هابي الترابِ عقيمُ يعني موضعا كثير التراب. وأنشدوا فيه: فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما وأنشدوا أيضاً قولَ الآخر: شالوا علاهُن فشُل عِلاها ... وأشد مستاحقت حقواها وقال الآخر: أيُّ قلوصٍ راكبٍ تراها ... طارقا عِلاهن قطر عِلاها وإذا كانَ الأمرُ في جوازِ هذا الحرف، وتكلمِ أهلِ اللغةِ من فُصَحاءِ العربِ واحتجاجِ قومٍ له وقولهم إنه الأصل، وإنه أقيسُ على ما وصفناه. ووجدناه مكتوبا في المصحفِ على ذلك، وجدنا نقلَه متواتِراً قد قامت به الحجّة، وعلِمنا أن الصَّحابة َ والفصحاءَ الذينَ كتبوا المصحفَ معَ أمانتِهم وفضلِ عِلمِهم وشدةِ احتياطهم وصحةِ قرائحهمِ وأذهانهم، وقُرْبِ عهدهم بالوحي، وكونِ القرآنِ مُنْزلاً عليهِم، وثاقبِ معرفتهم بتصرفِ الكلامِ ووجوهِ الإعراب، لم يكتبوا ذلكَ في المصحفِ إلا عن علم واتباعِ سنةٍ وموافقةٍ لتوقيفٍ على جوازِ ذلكَ وصحته، وجبَ القطعُ على صحة ِ قراءةِ هذهِ الحروفِ على موافقةِ خط المصحفِ وتوثيقه، لأن نقل خطّ المصحفِ وشهادةِ الجماعةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 بصحتهِ وسلامته، وأنه لا خطأَ فيه، أحدُ الأدلة ِ على صحة ِ الخط والتلاوةِ. وعلى موافقته، فَوَجبَ بذلكَ جوازُ هذا الحرفِ وصحته، وتجهيلُ من أنكَره واستبعدهُ واستوحشَ مِن قراءَته على هذا الوجه. فإن كانَ مخالِفاً للُغةِ قريش، وكانت قريشٌ لا تكادُ تتكلمُ به على هذا الوجه، فأما وجهُ جوازِ قراءِته بخلافِ خط المصحف، وأن يُقرأ: (إن هذينَ لساحرانِ "، فهو: إن الأمَّة قد اتفقت على جوازِ ذلكَ وتركِ تخطئةِ من قرأهُ بخلافِ خط المصحف، والعدولِ عن تضليلهِ وتأثيمه، وأن ذلكَ هو لغةٌ قريشٍ مع اتفاقِها على أن القرآنَ منزَلٌ بلُغةِ قريش. وإذا كانَ ذلكَ كذلك، وكان هذا الحرفُ في لُغةِ قريشٍ فيتكلم به على خط المصحف، وجبَ أن يكونَ مُنزلا أيضا على مخالفةِ خط المصحف. وأن يكونَ القاريءُ به على مخالفةِ خط المصحفِ مصححاُ مصيبا إذا كانَ ذلكَ هُوَ لُغةُ قريش، كما أن القاريءَ لَهُ بخلافِ لُغتهم مصحح لنقلِ الجماعةِ لذلكَ وشهادَتِهم بصحَّة ِ خط المصحف، وأنه منزل على ما ثبتَ فيه، وأن الأشهرَ الواضحَ هو المعروفُ في لُغةِ قريشٍ وأكثرِ العرب، وهو المعروفُ الذي لا يُشك فيه، يوجبُ جوازَ القرائتينِ وتصحيحِهما استدلالا بما ثبتَ من خط المصحف، وتركَ التأثيمِ والتضليلِ في ذلك، ولذلكَ استجازَ كثير من السلفِ أن يقرؤوا: "إنَ هذينِ لساحرانِ". وروِيَ ذلكَ عن عائشةَ وعن عبدِ اللهِ ابن الزُبير، والحسنِ البصري وسعيد بن جبير وإبراهيمَ النّخعيّ، وقرأ بهِ جماعة من قراءِ الأمصار، منهم: أبو عَمرو بنُ العَلاء، وعاصئم الجُحدُري، وعيسى بنُ عِمران، وأبانُ بنُ تَغلب، ومسلَمةُ بنُ محارب. وهذا أشهرُ وأظهرُ عند أهلِ النّقلِ من أن يُحتاجَ فيه إلى إطالةٍ وإكثار، حتى إن في الناسِ مَن يقولُ: لا يجوزُ قراءتُه، إلا على مخالفةِ خط المصحف، وقد عُلمَ أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 هذهِ الطبقةَ لا تقرأ بما تعلمُ أنه مخالِف للتَّنزِيل، وأن الأمَّة َ لا تتركُ تأثيمهم وتضليلهم مع عِلمهم بأنَّهم قد قَرؤوا وأقرأوا الناسَ بخلاف المنزّل، وبما لا يجوزُ ويسوغ، وإذا كان ذلك كذلكَ ثبتَ بهذهِ الجُملةِ جوازُ قراءةِ هذا الحرفِ على الوجهَين واللحنينِ جميعآ. وقد كانَ عمرُ بن الخطاب رضيَ اللهُ عنه يختارُ أن لا يقرَأ النّاسُ إلا بلُغة قريش، وروى الئاسُ عنه أيضًا: أنّه سَمعَ رجلاً يقرأ هذا الحرفَ مِن يُوسُف: {لَيَسْجُنُنَّهُ (عتَّى) حِينٍ} ، فقالَ لهُ عُمر: من أقرأك هذا. قال: ابنُ مُسعود، قال عمرُ: (لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حين) ، ثمَّ كتبَ إلى ابنِ مسعود: سلام عليك، أمَا بعدُ فإنّ اللهَ أنزلَ هذا القرآنَ فجعلَه قرآناً عربياً مُبينا، وأنزله بلُغةِ هذا الحيِّ مِن قريش، فإذا أتاكَ كتابي هذا فأقريءِ النّاسَ بلُغةِ هذا الحيِّ مِن قُريش، ولا تُقرئهُم بلُغةِ هُذَيل ". فهذا عمرُ يختارُ أن لا يقرَأ النّاسُ إلاّ بموافقةِ لُغةِ قريش، وليسَ هذا القولُ مِن عُمر، ومِن كلِّ من روُىَ عنه إنكاراً لأن يقرأ الناسُ بغيرِ لغةِ قريشٍ إذا كان مُنزَّلاً بلُغةِ قريش، وبوجهٍ يخالفُ لغَتهم، وكانت الحجّةُ قد قامتْ بذلك، ولكئهُ اختيار منهم لملازمة لغةِ قريشِ، لأنها هِيَ الأظهرُ المعروفة. والناسُ لها آلفَ، والألسُن بها أجرى، والقلوبُ لها أوعى، وليسَ يمنعُ ذلكَ من أن يُنزله اللهُ سبحانهُ بخلافِ الوجهِ الأظهر، كما أنزلَه على الوجهِ الأظهرِ المعروف " وقد ينظمُ الشاعرُ قصيدةً ويُنشىءُ الخطيب خطبة، ويعملُ المترسِّلُ رسالة، فيُعربُ كل واحدٍ منهم بكلمةٍ في قصيدَته وخُطبتِه فيكونُ ذلكَ سائغاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 جائزاً، غيرَ أنه مما يقلُ استعمالُه ومعرفةُ الناسِ بجوازه، ويكونُ الأظهرُ الأشهرُ غيرُه، وكذلكَ يسوغُ أن يُنزًلَ الله الكلمةَ بقراءتينِ إحداهُما أظهرُ وأشهر، ولا ننكرُ معَ ذلكَ أن يكونَ الرسول ُ قد أقرأ في أكثرِ أيامه في آخرِ عُمره، وآخرِ عَرضهٍ عَرض القرآنَ فيها بالوجهِ الذي يخالفُ خط المصحف. ليبيًنَ لهم أنّه منزَل على ذلكَ الوجه، وليستفيضَ ويظهرَ عنه، وأن يكونَ كثرُ الناسِ قد قرأوا على عصرهِ وبعدِه بموافقةِ خطً المصحفِ للذي هو الأقل في الاستعمال، ولم يلتفتوا إلى أن ذلكَ ليسَ بمعروفٍ في لُغةِ قريش، لأن الغَرضَ في ذلكَ القراءةُ بالجائز، وما كثُرَ استعمالُه وأن يؤثروا القرَءاةَ على آخرِ ما وقعَ عليه العرض، وإن كانَ غيرهُ شائعا جائزاً، وإذا كانَ ذلكَ كذلك ثبتَ بما وصفناهُ جوازُ القرائتَين جميعا وأن الكَلمةَ منزلة على الوجهَينِ جَميعا. وأما قولهُ تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) ، فقد اختُلفت في وجهِ القراءَةِ بالصابرين. فقالَ بعضُهم: هو نصب على المدح، والعرَبُ تنصِبُ على الذم والمدح، كأنهم - زعموا - قَرنوا قراءةَ المدحِ بمدح مجددٍ غيرِ متبعِ لأولِ الكلام، وقال بعضُهم: إنما نصبَ الصابرينَ لأنه أراد: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لأن الباساءَ الفقر، وكأنهُ قالَ: وءاتى الفقراء، والضراء: البلاءُ في البَدنِ من المرضِ والزمانة، وكأنَّه قالَ: وآتى المالَ الصابرينَ من الفقراءِ وأصحابَ البلاء الصابرين على فقرِهم وبلائهم الذينَ لا يسألونَ ولا يُلحُّون، وجَعلَ المُوفينَ وُسطاءَ بينَ المعطينَ والضابرينَ نسَقا على مَن آمنَ باللهِ وهذا بين غير متعسَّف ولا مستبعد، والقراءُ جميعا على نصبِ الصابرينَ إلا عاصم الجُحدري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 فإنه كانَ يَرفعُ الحرفَ الذي قرأ به، وينصبُه إذا كتَبهُ كراهيةَ مخالفةِ خط المصحفِ الذي هو الإمام. فأمَّا قولهُ تعالى: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) ، فقد ذُكر فيه وجوه. فقالَ قوم: أرادَ به يؤمنونَ بما أنزِلَ إليكَ وإلى المقيمينَ الصلاة. وقالَ آخرونَ: أرادَ يؤمنونَ بما أُنزِل مِن قبلِكَ ومِن قبلِ المقيمنَ الصلاة َ. قالوا: وكانَ الكِسائي يردهُ إلى يؤمنونَ بما أنزلَ إليكَ ويؤمنونَ بالمقيمينَ الصلاة، واعتبروهُ بقولهِ في موضعٍ آخر: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقال خلق من أهلِ العرَبيةِ هو نصب على المدح، لأن العربَ تنصِب على المدح، وتفرِدُ الممدوحَ وتعطِفُ عن ردهِ إلى ما قبلَه، وقالَ أبو عبيدةَ وجلة من أهلِ العلمِ بالعربية: هو نصب على تطاولِ الكلامِ بالسبقِ وهم يستعملونَ ذلكَ في الكلامِ إذا طالَ أو تكررَ الوصفُ الذي يمدحونَ به أو يذمون، يتحرَّجونَ من الرفعِ إلى النصب، ومِنَ النصبِ إلى الرفع، ورُبما فَعلوا ذلكَ وإن لم يتطاول الكلامُ أيضاً ولم يُنكروا الوصفَ والذمَ والمدح. ويعملون في ذلكَ على القَصدِ والنيةِ في اتباعِ الكلامِ بعضَه بعضا، ورُبما أضمروا شيئا ينصِبون به أو يرفعُون، نحوِ ما قدمنا عنهم من أنَّه أرادَ يؤمنونَ بما أنزِلَ إليك، وإلى المقيمنَ الصلاة، أو أنه أرادَ يؤمنونَ بما أنزِلَ من قَبلكِ ومنْ قبلِ المقيمينَ الصلاة ِ ونحوِ ذلك، وأنشدوا في جوازِ رفعِ ذلكَ ونصبهِ على تطاوُلِ الكلامِ وتكُررِ الوصفِ والمدحِ قولَ الشاعر: لا يبعُدن قومي الذين هم سُمُ العُداة وآفةُ الجُزرِ النازِلينَ بكلِ معتركٍ والطيبونَ معاقدَ الأزُرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وأنشدَ في ذلكَ أيضا: وكلُّ قومٍ أطاعوا أمرَ سيدهم ... إلاّ نُميراَ أطاعت أمرَ غاويها الطاعِنينَ ولما يطعنوا أحداَ ... والقائلونَ لمن دار تُخَيلها وقد اتفقُوا على جوازِ إسناد ذلكَ على الوجهَينِ جميعا: أحدها: أن يقولوُا النّازلينَ والطّاعِنينَ منصوب، ثمَّ يقُولوا والطيبون والقائلون فيرفعون، أو أن يقوُلوا النّازِلون والطاعِنون فيرفعون، ثمَّ يقوُلوا والطيبين أو القائلين فينصبون، ويُعمِلون الكلامَ في الإعرابِ على النية وإتباعِ الكلامِ بعضَه بعضا، وقد قالوا: إنَّ رفعَ مثلِ هذا ونصبه عند تطاولِ الكلامِ شائعُ جائز، وإذا كان ذلكَ كذلكَ وجبَ القولُ بصحّةِ هذهِ القراءةِ وصوابِها وغلطِ من زعَم أنّها ملحونة. فأمّا قولهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) . فقد قيلَ فيه أيضًا: إنّه رد على موضعِ إنَّ الذينَ آمنوا، قالوا: وموضعُه رفع، لأنّ إنَّ ها هنا مبتدأ لا تحذِف في الكلامِ معنى أخواتِها، لأنك تقولُ: زيد قائم، ثمَّ تقولُ: إن زيدا قائم فلا يكونُ بينَ إدخالِ إن واطراحِها فرق في المعنى، وكذلكَ نقولُ زيد قائم، ثمَّ نقولُ: لعل زيداً قائم، فيحدُثُ في الكلامِ معنى الشك، ونقولُ: زيد قائم، ثمَّ نقول: ليتَ زيداً قائم، فُتحدِث ليتَ معنى التمني، ويَدلُّ على هذا أنّهم يقولون: إن عبدَ اللهِ قائم وزيد. فيرفعُ زيداً، لأنكَ قُلت: عبدُ اللهِ قائم وزيد، وتقولُ: لعل عبدَ اللهِ قائم وزيداً، فتنصبُ معَ لعل وترفعُ من أن لما أحدثته لعل من معنى الشك، ولأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 إن لم تُحدِث فيه شيئا، وكانَ الكِسسائي يجيزُ: إن عبدَ أللهِ وزيد قائمان، وإن عبدَ اللهِ وزيداً قائم، وإن عبدَ اللهِ وزيد قائم، والبصريونَ يجيزُونَ ذلكَ ويحتجونَ بقو له: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ويُنشدون في ذلك: فمن يَكُ أمسى بالمدينةِ دارهُ ... فإني وقيَّارٌ بها لغريبُ وهذه جمل تنبىءُ عن صحة ِ هذا الحرف، وبطلانِ دعوى كونه ملحوناً. قالوا: ومما وردَ أيضاً ملحوناً خطأ لا يجوزُ ما أثبتوه في مصحَفهم من قوله في المنافقين: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) . وموضعُه نصب وإنَّما هو فأكونَ بإثبات الواو لا غيرَ ذلك. فإنه يقال لهم: ليسَ الأمرُ على ما قدرتم، بل الوَجهانِ جميعاً جائزانِ سائغان، وقد قَرأ السلفُ الآية على الوَجهين، فقرأ بعضُهم: " وأكنْ " مجزوما، وقرأ منهم: "فأكونَ " منصوبا بإثباتِ الواو، ولكل مِن ذلكَ وَجه، وقد اشتُهر عنهم قراءةُ الوَجهينِ جميعاَ، فقرأ أبيٌّ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ وسالم مولى أبي حُذيفة: "وأكونَ " بإثباتِ الواو، وروى ابنُ مجاهد عن أحمدٍ بنِ الحسنِ. قال: حدثَنا الحسنُ بن عَرفةَ قال: حدَّثنا شُجاعُ بنُ أبي نصرٍ عن عيسى بنِ عمرَ الثقفى: "أن أبي بنَ كعبٍ وعبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ وسالما مولى أبي حُذيفةَ كانوا يقرأون "فأصدقَ وأكونَ ". وروى أيضاً ابنُ مجاهدٍ عن شُجاعٍ بنِ أبي نصرٍ عن حمزةَ الزياتِ عن الأعمش عن أصحابِ عبدِ اللهِ بن مسعود الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 قرأ عليهمُ الأعمشُ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنه كان يقرأ: "فأصدقَ وأكون "، وهذه القِراءةُ هيَ قِراءةُ ابنِ مُحيصِ وأبي عَمرو بنِ العلاءِ وعيسى بن عمرَ الثّقفيّ، وكل هذهِ الأخبارِ والروايات، وعملُ القراءِ بذلكَ وتجويزهم له. أوضحُ دليلٍ على جوازِ القِراءةِ بهذا الوَجه، أعني النصبَ لجوازِها بالجزم. لأن مثلَ هذا الحذفِ المثبَتِ في المصحَفِ على خلافِ الوَجهِ الأشهرِ الظاهرِ يُحركُ دواعيَ القومِ وهمَمهم عن البحثِ عنه، والسؤال عما لأجلِه ثبتَ في الإمامِ بخلافِ الوجهِ الأظهر، وكيفَ سبيلُه والمخرجُ عنه، وكيفَ هو في قراءةِ عبدِ اللهِ وأبى وغيرهما من القرّاءِ المشهورين المنتصبينَ لإقراء القرآن. ولا يجوزُ في مستقرِّ العادةِ وما رُكُبت عليه الطباعُ إهمالُ الأمّةِ لذلك. وذهابُ أهلِ القرآنِ عن البحثِ عن ذلك، والسؤالِ عن قِراءةٍ في حَرْفِ كلِّ مشهورٍ بالقراءة، ومعروفٍ بالأخذِ عنه، ولو كشفَ لهمُ البحثُ والسؤالُ عن أنه مقروءاً في كلِّ حرفٍ وعندَ كلِّ قارئٍ على وجهٍ واحدٍ لا يسوغ غيره، لتوفرت همُمهم ودواعيِهم على نقلِ ذلكَ عن كافتهم، واشتهارهِ ولارتفعَ الخِلاف فيه، ولم يخفَ عليهم إجماعُ القرّاءِ عليه والمُضيّ على ذلكَ الخلفُ بعدَهم والمتبعونَ لهم. ولما لم يكن ذلكَ كذلكَ وكانت القِراءةُ بالنصب، وإثباتُ القرّاءِ ظاهر مِنهم ومشهور عَنهم، وكانت مقروءَةً ومأخوذاً بها عند جماعةٍ من الأئمّة والخَلفِ الصالح، ثبت بذلكَ إشهارُ القرائتينِ جميعا، وأن الحرفَ مقروء على الوجهين، وأن القوم قد وقفوا على أن الحرفَ منزَّل على الوجهينِ جميعاً. فإن السنة قاضية بذلك فهذهِ جملة تكشفُ عن جوازَ القراءتينِ على الوجهين جميعا، وأن القومَ قد وقفوا على أنّ الحرفَ متزل على الوجهين جميعا وصحّتها، وغلطِ من زعمَ أنّه لا يجوزُ قراءةُ الحرفِ بالنّصب، وإثباتِ الواو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 فأما وجهُ جوازِ القراءةِ بالجزمِ وحذفِ الواوِ وهيَ الأكثرُ والموافِقةُ لخط المصحف، فهو أنه عطف بـ أكنُ على موضعِ الفاءِ من فأصدق، فيجعلُ حكمهُما مردوداً إلى ما يجبُ لأصدق من الإعراب لو لم تَدخِلِ الفاء في الكلام، فلما دخلَت الفاءُ عمِلت في نصبِ أصدق، وبقيت وأكن على حكمها قبلَ دخول الفاء، لأنها عَطف على الفعلِ المجزوم. وأمّا جوازُ القِراءةِ بالنصب، وإثباتِ الواوِ فهو بين ظاهر، لأنه عطف على الفعلِ المنصوبِ الذي هو التصدق، وموضعهُ نصب، وقد قالَ أهلُ العِلمِ بالعربية: إن القراءةَ بإثباتِ الواوِ لا تخالفُ خط المصحف، قالوا: لأن الواوَ إنَّما حُذفت من الكتابِ اختصاراً، وحكوا: أن في بعِض المصاحِفِ: { (فَقُلاَ) لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ، قاف، لام، ألِف، بغيرِ واو، وقالُوا: وهذا لا يكونُ وإن أثبِتَ كذلكَ وحذفت الواوُ من فقولا إلا على أن يُنطقَ بالواو. وإن كانَت محذوفة، وإن حُذفت من الكتابِ على وجهِ الاختصار، وهذا أيضا ليس ببعيد، ويجبُ أن يكونوا إنما أثبتوا الواوَ في كل موضعٍ ذكرَ فيه أكون، لأنه لا يجوزُ أن يُقرأ إلا بالنّصبِ وإثباتِ الواو، وأثبِتَ في هذا الموضع أكنُ بحذفِ الواو، وخُص بذلكَ لأجلِ جوازِ قراءَته مجزوما ومنصوبَاً، فأثبِتَ على أحدِ الوجهينِ الجائزينِ وهو الأخْصرُ لحذف الواو. وإن كانت الحجَّة ُ قائمةً لجوازِ قراءتهِ بالئصبِ وإثباتِ الواو لا يخالفُ خط المصحفِ الذي حُذف منه الواو، وعلى سبيل الاختصار، وإن لم تكُن القصة كذلك، وقد ذكرنا وجهَ جوازِ النصبِ وقيامَ الحجّةِ به وشهرَته وثبوته عن السلف، وأخذِهم وكثير مِن الخلفِ به. وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ صحَّ ما قلناه، وبطلَ قولُ من منعَ جوازَ قراءةِ هذا الحرفِ بغيرِ الجزم، وبطلان قول من ادّعى كونَ الجزم في القراءةِ ملحونا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 فإن قالوا: إذا أجزتم قراءةَ هذا الحرفِ بالجزمِ والنصب، وأجزتم أيضا قراءةَ قوله: (إنَ هذان لساحران) ، تارة كذلكَ وتارةَ: "إنَ هذين لساحرانِ" "، فألا أجزتُم أيضا قراءةَ قوله: (والمقيمينَ الصلاة) ، بالرفع، وأن يَقرأوا: إ والمقيمونَ الصلاة "، وكذلكَ فألاَ أجزتُم قراءةَ قولهِ: "والصابئونُ " بالنصب، وأن يَقرأوا: "والصابئينَ " منصوباً، وإن كانَ ذلكَ مخالفا لخط المصحَفِ، كما صنَعتم ذلكَ في "أصدقَ وأكن "، و "إنَّ هذين لساحران "، وإن خالفت القراءة خط المصحفِ حيثُ تكونوا قد أعطيتمُ القِياسَ حقّه ومضيتم مع موجبه. يقالُ لهم: لا يجبُ ما قلتم لأجلِ أننا قد بيَّنَّا جوازَ قراءةِ الحرفينِ الأولَين على الوجهينِ جميعاً، وبينا أن قوماً من السلف، وخلقاً من الخَلفِ قرأوا بذلك، فاشتُهر عنهم وقامت الحجَّة ُ به من غيرِ تناكرِ ولا ترافع، وأوضحنا ذلكَ بما يُغني عن رده، فوجبَ تجويزُ الوجهينِ جميعاً في "أصّدقَ وأكنُ ". وفي "إنَّ هذين لساحرانِ"، ولم يُنقل عن أحدٍ من السّلف، ولا قامت الحُجّةُ بأنّ أحداً منهم قرأ: "والمقيمينَ الصلاةَ" بالرفع، "والصّابئينَ بالنصب "، وهو إذا قُرئ كذلك مخالف لخط المصحف، وإذ قُرئ على موافقة خط المصحفِ فقدْ قُرىءَ بوجهٍ صحيحٍ جائز، وقد بينا صحته وسلامته لغيرِ وجه، فلا يُسوع لأحدٍ تركُ قراءتِهما على موافقةِ خط المصحفِ الذي قد نتفقُ أنه قد أنزل كذلك، وقُرىء بهِ إلى مخالفةِ الخط في المصحفِ الذي لا يُؤمن معَه أن يكونَ اللهُ سبحانهُ ما أنزله على ذلكَ الوجه، وإن كانَ جائزاً سَائغا، وقد أوضَحنا فيما سلفَ أن القِراءةَ تُثبت تارةً جوازَ ما بِخطِّ المصحَفِ ونقلهِ والشهادةِ بصحّته، وتثبتُ تارةً بالنقلِ عن السلفِ وظهورِ القراءةِ للحرفِ بينهم، وإن خالفَ خط المصحف، فوجب لأجلِ هذه الجملةِ جوازُ قراءة ما قلناه على الوجهين جميعا، ولم يَجز قراءةُ: "والمقيمينَ الصلاةَ": "الصابئُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 بخلافِ خطّ المصحف، وعلى ما لا نعلمُ أن اللهَ سبحانهُ أنزلهَ عليه، وإن كان سائغا ظاهراً وكانَ هوَ الأشهرَ في اللّغةِ العربية، لأنه قد يجوزُ أن "يتركَ الحرفُ والحرفان على خلافِ الوجهِ الأظهر الأشهرِ على ما بيَّنَّاه من قبلُ إذا كان لإنزالهِ على خلافِ ذلكَ في اللغةِ توجُّهاَ صحيحا، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ بطلَ ما سألوا عنه وطالبوا به. فأمَّا ما يُروى عن عاصمٍ الجُحدريً مِن أنه كان إذا قَرأ: "والصابئونَ " قرأهُ بالرفع، وإذا كتبهُ كتبهُ منصوبا كراهيةَ مخالفةِ خط المصحف، فإنه إن ثبتَ عنه رِواية لِذلكَ عن السّلفِ وجبَ إجازةُ قراءتهِ على الوجهين، وإن لم يكنْ عندهُ في ذلكَ رواية وكانَ مِن رأيهِ واجتهادهِ وظنهِ أن ذلك من اللّحن، فإنه خطأ منه مردود، لأننا قد بينا جوازَ ذلك ووجهَ ما يجوزُ أن يُضمر فيه فلا وجهَ لمخالفته إن لم تكن هناكَ رواية مشهورة عن الصَّحابةِ الذين همُ السلفُ في جوازِ قِراءةِ هذا على خلافِ خط المصحفِ وهذه جملة تكشفُ عن بطلانِ جميعِ ما يتوهمونه في هذا البابِ من دخولِ الخللِ والغلطِ في نقلِ القرآنِ وجمعهِ وإثباتِه. واعلموا رحمكمُ اللهُ. أنّ ضبطَ السلفِ والخَلفِ لهذهِ الأحرفِ اليسيرةِ المعدودةِ وخوضهم فيها، واختلافِهم في وُجوهِ قواءتِها، وما ذُكر عن بعضهم: أنّها ملحونة على تأويلِ ما قلناه، أو: أنّها من غلطِ الكاتب، وقولُ بعضهم: إنه لا يجوزُ قراءةُ شيءِ منها على مخالفةِ خط المصحَف، وقولُ آخرين: يجوزُ ذلك، وقولُ بعضِهم: يجوزُ قراءةُ بعضها على مخالفةِ خط المصحفِ وعلى موافقته، ولا يجوزُ قراءةُ بعضها على مخالفةٍ خط المصحف، وحمل بعصهم نفسَه على أن يَقرأ بعضَها على مخالفةٍ خط المصحف، فإذا كتبهَ كتبه على موافقةِ خط المصحفِ كراهِيةَ مخالفةِ الإمامِ وكلامِ الناسِ في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وتخريجِ الوُجوه وتقديرِ الحرفِ وإظهارِ الأسبابِ الذي يخرجُ بها الكلامُ عن أن يكونَ لحنا إلى غيرِ ذلكَ مما ذُكر في هذا الباب من أدل الأمورِ على صحةِ نقلِ القرآنِ وضبطه، وشهرةِ أمرهِ فيهم وظهورِ نقلهِ بينهم وإحاطتِهم بعلمه ومعرفتهم بما ثبتَ منه وإدراكهم بعلمِ جميعهِ وبمعرفةِ نظمهِ وترتيبه. وكمالهِ وسلامته، لأن العادةَ موضوعة على أن القومَ الذين لم يُهملوا الكلامَ في هذه الأحرفِ اليسيرة، والبحثَ عنها وتطلبُ الوجوه لها، والكشفَ عن معانيها والكلامَ في قراءتها وإثباتها، لا يجوز أن يذهبوا عن معرفة قرآنٍ قد حذف ونقص، وعن علم قرآن زيدَ وبُدل وغير واختل عن نظمه وسننه. وأزيلَ عن نظامه وترتيبه، بل موجَبُ العادة فيهم أنهم لو لحق كتابَهم اليسيرُ من ذلك، لعَظُمَ خوضُهم واستدراكُهم له وتمادِيهم وتجادُلُهم فيه، وإذكارُ بعضهم لبعضٍ موضعَ الغلط والإهمال، ولتفاقَم الأمرُ في ذلك وظهرَ وانتشرَ وكثر الحديث به والقول فيه، وظهر ظهوراً تعلمه العذراء في خِدرها فضلاً عن قُراء القرآن، وأصحاب السنن والآثار، ونَقَلة الحديث والأخبار، ولكانت عنايتهم بذلك واشتغالهم بالخوض فيه من أكثر شأنهم وأفشى شيءٍ فيهم، ولما لم يكن الأمر فيما يدعونه من تغيير القرآن ونقصانه وزيادته ومخالفة ترتيبه، وتقديم مؤخره وتأخير مقدمه، على ما ذكرنا وجبَ بهذه الجملة بطلانُ جميع ما يدعون من هذا الباب، وثبتَ بما وصفناه أن الله سبحانه قد عصمَ الأمةَ من ذهابها عن حفظ كتاب ربها، ونفى ذلك عنها، وحفظ عليها ولها ما استحفظها من كلامه، ورعا لها ما استرعاها من القيام بحفظ كتابه، وجمع لها ما ضَمِنَ جمعه، وحرسه من أن يأتيه الباطلُ من بين يديه، أو من خلفه على ما أخبر سبحانه بذلك في نص كتابه، وعلى لسان نبيه ورسوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فهذا من الحجج القاهرة والأدلة الباهرة على بطلان قول من ادّعى دخول الخلل والفساد على القرآن، وكيف يجوز في وضع العادة أن يذهب من القرآن مثل سورة البقرة في المقدار ولا يبقى منها إلا آيات، وأضعاف ما في أيدينا من سورة الأحزاب، على قوم ضبطوا هذه الأحرفَ وتكلموا فيها بما وصفناه وخاضوا فيها الخوضَ الذي قدمناه، وأن توهم ذلك عليهم من التفريط الشديد والجهل العظيم والعناد الدال على إلحاد صاحبه وتلاعُبه. نعوذ بالله من الحيرة والضلال ونرغبُ إليه في التوفيق والسداد. فإن قال قائل: قد زعمتم أن هذه الأحرف مثبتة في المصحف ومقروءة على خلاف الوجه الأظهر في اللغة، وعلى ما يظنه من قَصُر علمه أنها ملحونة فاسدة، وأن الأشهر في اللغة غير ما أثبت عليه، فخبرونا لم أثبتها القوم كذلك، فإن كانوا إنما أثبتوها على خلاف الوجه المألوف الأشهر لأنهم بذلك أمروا وعليه وقفوا فلم أمرهم الله بذلك وأنزله على خلاف الوجه الأظهر وعدلَ سبحانه إلى الأمر فكتبه على الوجه الموهم للخطأ وما يدعو إلى الالتباس والشبهة، وما وجه الحكمة والصواب في ذلك. يقال له: أما إطباق الجماعة على كتابة هذه الحروف على خلاف الوجه الأظهر الأشهر فهو أصح دليل على أنهم مأمورون بذلك وموقفون عليه ومأخذون به، وأنه لولا إلزامهم ذلك وجواز القراءة ببعضها مع إطلاق القراءة بغيره رحمة، وتضييقه القراءة ببعضها على وجه ما ثبت، وموافقة خط المصحف، لكتبوه على الوجه الأظهر الأشهر لا سيّما وليس في ذلك ما يتعلق باختلاف منفعة أو دفع مضرة، أو يعود بإثبات إمامة وتأثيل محل ورئاسة وتفضيل قوم، وبنقص آخرين ولا يضر بهم إثباته على الوجه الأشهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 في باب دنيا ولا دين، وإثباته له على ما أثبتوه، إذا كانت الحال على ما وصفناه من أدل الأمور على أنهم - مأمورون بذلك ومخبَّرون بصحَّته وجوازه. فأمّا وجهُ الحكمة من أمْرهم بذلك وتوقيفهم عليه، فإننا قد بيّنا في غير موضع من الكلام في الأصول أن حكمة الباري سبحانه لا تثبت له إلا من جهة فعله وتعبده، وأنه لا يشرع ويأمر وينهى ويخفف المحنة تارة، ويغلظها أخرى لعلةٍ وباعثٍ وخاطرٍ ومحرّك، وأسبابٍ تدعوه إلى ما شرع ويبعثه على ما تعبد، وكشفنا ذلك بغير وجه، وأقربُ ما يقال في هذا أئّه إنما أنزله سبحانه كذلك وأمرهم بإثباته على هذا الوجه، وإن كان السلف يعرفون وجه الصواب فيه، والمخرج تغليظا لمحنة الخلف وتشديداً لها ولتعمِلَ آراءَها وأفكارها، وتكثرَ نَظرها واستخراجَها فيما بيَّن صواب هذه الأحرف وتخرجَها عن اللحن والخطأ، وينقصونَ تصحيح ما يؤديهم النظر والاستخراجُ ومعرفة لطيف ما يحتج به لصحة هذه الأحرف على من خالفهم من الملحدين، وقدح في كتابهم وعلى سلفٍ من الزائغين والمنحرفين، فيكون ذلك ذريعةً إلى إجزال ثوابهم وسبيلاً ووصله تفضلهم وإعظامهم وألاحتجاج على أهل الجهل والإهمال والتقصير بهم، والأمر بالرجوع إلى بيانهم والمصير إلى برهانهم، ولو أنزل تعالى جميع كتابه بالأحرف الظاهرة وبما يستوي في معرفته الخاصة والعامة لبطلت هذه الفضلية وزالت المؤونة، كما أنه لو أنزل جميع كتابه محكما بينا غير مشكل ولا مجملٍ ولا محتملٍ للتأويل ولا مما يحتاج في معرفة معناه إلى برهان ودليل لخفت المحنة وزالت المؤونة وبطلت فضيلة العالم على الجاهل، والمجتهد الناظر على المهمل المقصر. وبطل معنى ما قصده تعالى بقوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، ولم يكن هذا التعظيم لشأن أهل العلم، والتفخيبم والإشادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 بذكرهم، والنص على تفضيلهم معنى، فهذا وجه من الصواب والحكمة بين مع تسليم القول بالأصلح، وأن الله سبحانه لم يامر بذلك ويشرعه إلا لعلةٍ ووجه من وجوه المصالح والحكمة. وقد يمكن أيضاً أن يكون تعالى إنما أنزل هذه على هذا الوجه، وأمر بإثباتها كذلك ليبعث سلف الأمة وخلفها على حفظ كتابه وتأمل ألفاظه وتبحر معانيه، وإمعان النظر في وجوهه ومبانيه وطرق إعرابه، والفحص عن باقي ألفاظه، وهل في الكتاب ما يجري مجرى هذه الحروف ويشاكلها أم لا، فيصيروا بذلك إلى ملازمة دراسته وكثرة تصفحه، وتعرف حال ألفاظه وحروفه وشدة ضبطه وتكرار الفكر فيه، والاعتبار لألفاظه ومعانيه والاحتجاج لما طعن فيه والتنبيه على وجه المخرج منه، ويكون هذا أدعى الأمور لهم إلى حفظه وحراسته والإحاطة به، وإطالة الفكرة فيه، والتتبع له، والتوقيف عند كل شيء منه، ورد بعضه إلى بعض، واعتبار اللفظ بمثله، وقياسه على نظيره، ومعرفة السبب الذي خولف ببعضه حكم مثله، وجعل مباينا لما من سبيله أن يكون كهو وجاري مجراه، حتى يكونون في كل عصر وزمان وحين من الأحيان على مثل هذه الحال من دراسته وتحفظه وتأمل جميعه وتتبُّعه والاحتجاج له، والاجتهادِ في الدفاع عنه، ودفع كيدِ القادحين في تنزيله والملحدين في تأويله، ولو أخلاهم سبحانه من أحرفٍ منه غريبة وألفاظٍ شاذةٍ ووجوهٍ غير مألوفة عند كثيرٍ منهم، يحتاج منهم فيها إلى طلب الوجه والمخرج، لعدل القوم عن الدرس والتحفظ والبحث والتأمل، وثقلت عليهم مؤونة الاحتجاج، وتكلف النظر والاستدلال، ولعوّلوا على أنه كله ظاهر جلي ومألوف معروف، وأن الحليم العليم سبحانه منزله، ومحمداً صلى الله عليه مؤديه ومتحمله، والأمة المتلقية حفاظه وكتبته، وأن ذلك أجمع يغني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 عن الفكرة والحفظ وكثرة الدرس والتأمل، فيصير بهم الحال إلى قلة الدرس له، والقيام به، والإنكار على من قبلهم، والعمل على حكم منزله وصدق رسوله وفصاحة أمته، وكل ذلك أسباب تدعو إلى التقصير والإهمال، وترك حياطة القرآن ودراسته ووجود الطاعن والملحد سبيلاً إلى القدح في القرآن. والتوهين لأمره والتمكين من الزيادة فيه، والنقصان منه. فلما أراد الله تعالى حياطتَه وحراستَه وتحصينه وجمعه، والحفظ له على أمة نبيه، حرك خوطرهم، وجمع هممهم ودواعيهم على حفظه وتأمله من ملازمة دراسته والتفكر والتأمل لوجوه إعرابه، بما أنزل فيه من هذه الوجوه العربية والأحرف الشاذة القليلة في الاستعمال، وهذا أيضاً وجه من وجوه الحكمة والصواب يُنبي عن صحة ما قلناه، وفساد ما دانوا به وتوهموه وبالله التأييد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 بابُ ذكرِ مطاعنهم في صحةِ القرآن ونظمِه من جهة اللغة ووصف شبهٍ لهم تجمعُ ضروباً من مطاعنِهم على التنزيل والكشف عن إبطالها قالوا: ومما يدلُ على نقصان القرآن، وتغيير نظمه وزيادة الكلمةِ منه في غير موضِعها، والعدول بها عن مكانها الذي هو أولى بها، ودخول الخلل والغلط على جامعيه - فإن الصحيح المرسوم على ما أنزل ورتب عند الإمام وشيعته القائمين لله بالحق فيه والذابين عنه - وجودنا فيه الكلام الذي ليس له تمام ولا متناسب في اللفظ، ولا في المعنى، ووجودنا فيه كثيراً من الكلام المنقطع المنبتر الذي لا يقتضي صلته بتمامه، وإيراد جواب له حتى يكون تاما مفيداً، ووجودنا الاستثناءات منه وارد في غير مواضعها، ومبطلة مناقضة لما قبلها، وما هي استثناء منه. وعلمنا بأنه قد أحيل القول في كثير منه، ووصف الشيء فيه بغير صفته ونُسبَ إلى ما ليس منه في شيء، نحو قوله تعالى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) . والقوارير لا تكون من فضة أبداً، وقوله: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) . والججارة لا تكون من طين، ووجدنا أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 المصحف الذي في أيديكم منطويا على وصف الهادي الباري تعالى بغير صفته نحو قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) . موضوعة للشك وهو مستحيل في صفته. وقوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) . وهذا لفظ استخبار واستفهام، وهو ممتنع على علام الغيوب. وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) . وذلك يقتضي أن خلقَ بعض الأشياءِ أصعبُ وأشق عليه من غيره الأهون منه، وهو موجبٌ لأن يكون ممن يناله الوصبُ والتعب، يتعالى عن ذلك. ووجدنا فيه أخباراً متنافية متناقضة نحو قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) ، بعد إخباره في أول القصة بأنه خلق الأرض قبل السماء. وقوله في آية أخرى: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) . يريد بعد خلق السماء وبنائها، وذلك خلف وتناقضٌ من القول. ووجدناه أيضاً منطويا على ما لا معنى له، وعلى كنايات عن قوم لا وجه لترك ذكرهم وإظهار أسمائهم، نحو قوله: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) . وأمثال هذا مما سنذكر في كل فصل منه جملة مقنعة إن شاء الله. قالوا: وقد عُلم أن هذا الاختلاف والتخليط واللّحنَ والتناقضَ والتكرارَ للقصة بعينها على وجه يقتضي العي واللكنة والإطالة بما لا معنى له، لا يجوز أن يكون وارداً من عند العليم الحكيم، فوجب أنه من تحريف جامعي المصحف وغلطهم، أو إلباسهم وعنادهم، وإدغالهم (1) للدين وأهله وإدخالهم فيه ما ليس منه.   (1) أي: إفسادهم، انظر "مختار الصحاح" مادة (دغ ل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 واعلموا - رحمكم الله - قبلَ الكلام عليهم أن هذه المطاعنَ بأسرِها مطاعن الملحدينَ في كتاب الله تعالى، وقد سبقوا إلى ذكرها والاحتجاج بها وزادوا على قدر ما تذكره الرافضة من هذه الأبوإب، لأنها إنما تذكر قليلاً من كثير من كلام الملحدين في هذا الباب، ومن هذه الفصول التي أحتج بها الملحدون ما تودعه الرافضهُّ كتبها، وتحتج به على تخليطِ السلفِ في كتاب الله، وتغييرهم له، وفيما تورده في نفس المناظرة والدعوةِ إلى ضلالتهم على وجه التمويه على المستضعفينَ ممن يدعونَه أو يناظرونَه، وربما أجهدوا أنفسَهم عند قوله للعامة الغوغاء مِن أتباعهم: إنَّ هذا المصحفَ مصحفُ عثمان، وأنه مغيّر مبدّل ومزيد فيه ومنقوص منه ومتواضَع على تحريفه. وقصدَ التخليطِ فيه في إيراد جميع شُبه الملحدينَ ومطاعنهم على كتابِ الله. وإن كانوا عالمينَ بفسادِه ووجهِ المخرَج منه، وجواز استعماله في اللغة قصدا منهم إلى الإلباس وتشكيك من اشتركوه في صحة كتاب الله. والاستعانة بما يوردونه عليه، ضمنَ شبه الملحدين على ما يحاولونه من استجابة الناس إلى ذم السلف، تركَ العملِ على مصحفِ عثمان، وتعلق قلوبِ سامعِ شُبههم بالقرآن الصحيح الذي عند الإمام علمه، وليس على أحد له أدنى فضل ومِسْكة ومطالبة شبهةٍ فيما يتعلقون به. ونحن نذكر في كل ما تعلقوا به جملة بينة على ما وراءها، ونفتح طريقَ العلم بصحَّة ما طعنوا فيه وتوهمهم وعنادهم فيما صاروا إليه على سبيل الإشارة به والتلويح، وإننا إن قصدنا لاستيفاء الكلامِ في جميع هذه الفصولِ والأبواب، احتجنا أن نبسطه ونتقَصَّاه في دسوس أوراقٍ وخرجنا بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 عن غرض الكتاب، ونحن نرجو إغناء من نصح نفسه وهُدي لرشده بقدر ما نذكره واستقلاله به عن أمثاله، وما هو بمعناه وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان. قالوا: ومما يدل على تغيير القوم لكتاب الله تعالى ونقصانِهم منه ما في مصحف عثمان من قوله عزَّ وجل: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) . فذكر أمة واحدة ولم يذكر أخرى، وسواءٌ. - تأتي للمعادلة بين شيئين، يستويان ويتفاضلان، ومتى ذُكرَ أحدَهما ولم يذكر الأخرى كان الكلام ناقصا، مبتراً غير مفيد، قالوا: ومن هذه أيضاً قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . وينبغي أن يقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لنالكم كذى وكذى أو لأصابكم بكذى ونحوه، وإلا لم يكن الكلام تاما. قالوا: وفيه أيضا قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) ، ولم يقل لكان هذا القرآن أو مثل هذا القرآن ونحو ذلك مما تتم به الفائدة، ومن هذا أيضا قوله، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) ، ولم يذكر ضد هذا، ولا بد من ذكره ضده وخلافه. لأنك تقول أم مَن هو مصدقٌ لك ومنقادٌ لأمرك كمن هو مخالفٌ عليك ومكذب لك، ومتى لم يذكر نقيض الموصوف الأول أخلت، وتبتر الكلام. قالوا: فوجبَ أن يكون هذا أجمع وأمثاله يقتضي من ناحية وضع اللغة. ومُقتضى الخطابِ أن يكونَ القرآنُ المرسومُ في مصحفِ عثمانَ مغيراً ناقصا. يقال لهم: لا يجبُ شيءٌ مما ظننتم، لأن سائر ما تعلقتم به وادعيتم الإحالة فيه معروف مستعملٌ في اللغة، وقد تكلم فيه أربابها. وقالوا: إنه باب حذف الجواب المقدر في الكلام على وجه الاختصار والاقتصارِ على شاهد الحال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ومفهوم الخطاب، فأما قوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) إلى آخر الآية، والمراد وأمة أخرى ليست كذلك فحذف الجواب على وجه الاختصار. وأمَّا قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ، فإنّما المراد والله أعلمُ لعذّبكم بذنوبكم أو أخذكم بها، ونحو ذلك الحذف أيضًا على الاختصار، وكذلك المقصد بقوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) ، لكان هذا القرآن أو مثل هذا القرآن ونحوه، فحذف اقتصاراً على العلم بالمراد به. فأما قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) ، فالمراد به والله أعلم كمن هو بضد هذه الصفة وتاركٌ لهذه القربة وهذا الاجتهاد، فحذف اقتصاراَ على ما ذكره بعد ذلك من قوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، وقد ورد مثل هذا في اللغة والشعر كثير من ذلك. قال الشاعر: عصيتُ إليها القلبَ إني لأمرِها ... سميع فما أدري أرشدٌ طِلابُها أراد: فما أدري أرشد طِلابُها، أم غيّ، فحذف ذِكرَ الغيّ. وقال آخر: فأقسمُ لو أنَّا يا رسولُ سواك ... ولكن لم نجد لك مدفعا أراد به: ردَدَناه أو حجبناه، فحذف ذكر الرد والحجاب. وقال آخر: أراك فلا أدري أهمٌ هممتُه ... وذو الهم يوما خاشع متضائلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 أراد أهم هممته أو شيء غيره فحذف ذكر غير الهم، وهذا كثير من أن ومثل هذا ما يتعلّقون به قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) . ثم وصفَ المؤمنين ثم قال: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) ، ولم يذكر الشيء الذي شتهه بإخراج الله له من بيته بالحق، وكما أنّه يدخلُ في الكلام لتشبيه الشيءِ بغيره، وذلك أن الله تعالى شبه إخراجَه من بيتِه مع كراهةِ قوم من المؤمنين لذلك بتنفيله عليه السلام يوم بدر لسلبِ القاتل، وجعلِه لمن أتى بأسيرٍ كذى وكذى، وإنما فعل ذلك لقلة المسلمين يومئذ وكراهةِ كثير منهم القتال، وكره قوم منهم أن يكون لكل من قتلَ قتيلاً سلبُه، فقال الله لهم: قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، أي يضعُها حيث شاء، (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، أي فرقوها بينكم على ما أمر الله ثم قال: ((كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) ، أي أنهم كرهوا ذلك كما كرهوا إخراجَك يوم أخرجتَ من بيتك، فحذفَ وجعلَ ما تقدم في أول السورة جوابا لهذا الكلام، واقتصر على دلالة الكلام عليه. ومثلُ هذا قولُ الشاعر: فلا تدفنوني إنَّ دَفْني مُحرَّمٌ ... عليكم ولكن خامري أمّ عامر يقول: لا تَدفِنوني، ولكن دَعوني للتي يقال لها إذا صيدت: خامري أم عامر يقصدُ الضّبع لتأكلني، فحذف ولكن دَعوني، للعلم باقتضاء الخطاب له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 قالوا: ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، ولم يأتِ بالشيء الذي جعل الجنّة مثلاً له، وهذا يتقضي فساد الكلام وخلوّه من فائدة، واستعماله على غير ما يجب وذلك ينفي أن يكون من عند الحليم العليم. يقال لهم: ليس الأمر في ذلك على ما قدمتم لأن المثل قد يكون معناه النسبة الذي هو مماثلةُ الشيء لغيره، لأنك تقول: هذا الشيء مثل هذا وأمثاله، كما تقول هذا شبه الشيء، وشبيهُه وشبهُه، وقد يكونُ بمعنى صفة الشيء وصورته، وكذلك المثلُ والمثالُ يكونُ بمعنى الصفةِ والصورة والخلقة، يدلُّ على ذلك قولهم للمرأة الجميلة الرقيقة الرائعةِ كأنها تمثال ومثال أي كأنّها صورة، وكما يقال كأنها دمية، يعني الصورة، وهذه المرأة مثل أي صورة، ومنه قولهم مثلت له كذى أي صورته، وأَرني مثال الدار ومثال زيد أي: صورة ذلك، وقولهم: مثّل له الحظ أي صوّره له ما يَقتفي فيه أثرَ الممثل، وهذا أظهرُ وأشهرُ من أن يُحتاج إلى إكثار وإذا كان ذلك كذلك حُملَ قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) إلى آخر ما نَعتَها به على أنه أراد أن صورتَها وصفتَها أنّ فيها كذى وكذى. ومن هذا أيضا قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، إلى آخر ما وصفهم وصوّرهم، لأنه لم يَضرب لهم مثلاَ في أول الكلام، فيرد بمثلهم عليهم، ورُويَ أنّ علياً عليه السلام كان يقرأُ: "مثالُ الجنّة التي وُعدَ المتقون "، و"أمثالُ الجنهّ "، وهذا بمثابة مثلُ الجنّة. فأمّا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) . فإنه إنّما لم يأت بالمثل، لأنّ في الكلام معناه، وما يدلّ عليه وهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 فكأنه قال إنّما مثلكم أيها الناسُ في عبادةِ الأصنام وغيرِها مثلُ من عبد إلها لا يقدرُ على خلقِ ذبابة ولا يقدرُ على الاعتصام من سلبِ ما يسلبهم الذبابُ في أن عابدَ من هذه صفتُه جاهل مقصِّر وقاصد بالعبادة والتعظيمِ من لا يجوزُ له فحذف على وجه الاختصار والاحتذاءِ بما يدل على ما في سياق الكلام، ومن الحذف والاختصار أيضا حذفُ جواب القسم، ومنه قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) (إلى قوله) (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) ، ثم قال (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، ولم يذكر ما أقسم لأجله وإنَّما معناه والنازعات وكذى وكذى لتبعثن، وكذلك قوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) . ثم قال (بَلْ عَجِبُوا) ولم ياتِ بذكر ما أوقعَ القسم له، والتقديرُ والقرآن لتُبعثُن، فقال الكافرون هذا شي عجيب، فحذفَ ذكرَ البعث لما في الكلام من الدلالةِ عليه من جحدِ الكفّار للبعثِ والنشور، ومن هذا أيضا قوله: (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ) ، فأراد إلا كباسطِ كفيه إلى الماء ليفيضَ عليه ليبلُغ فاه، فاستطال وحذفَ لدلالةِ الكلام عليه. قال الشاعر: فإني وإتاكُم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسُقه أناملُه أرادَ كقابضِ ماء ليرفَعه لم تسُقه أنامِله، فحذفَ واقتصر، وقد يقعُ الحذفُ والاقتصارُ بالكنايةِ عن غير مذكور تقدم، كما نكنِّي عما تقدم له ذكرُ الاقتصارِ على دلالةِ الحال والخطاب، وما خرجَ الكلامُ عليه، ومنه قولُه تعالى: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) ، يعني الوادي، وقوله: (إِذَا جَلَّاهَا) ، يعني الدنيا، ولم يتقدم لها ذكر وقوله: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) ، يعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 الشمس، ولم يجر ذكرَها وقوله: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، أي: بموسى، وإن لم يذكره وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، يعني القرآن، ولم يتقدم ذكرُه وقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) ، يعني الأرض، وإن لم يتقدم لها ذكر، وهذا أجمعُ سائغ مستحسن في اللغة، ومعروف عند أهلها، وليس لأحد أن يقول: إن هذا كلام ناقص مبتّرٌ غيرُ مفيد، إذا كانت المقاصدُ به معروفةً والعادةُ باستعمالِ أمثالِه جارية مألوفة. قال المثقب العَبْدي: فما أدري إذا يَممتُ أرضا ... أريدُ الخيرَ أيهما يَلِيني أألخيرُ الذي أنا أبْتَغِيه ... أم الشرُّ الذي هو يَبتغِيني فكنَّا بقوله أيهما عن الخير والشر لما ذكرهما بعد الكناية. وقال آخر: إذا نُهيَ السفيهُ جَرى إليه ... وخالفَ والسفيهُ إلى خلافِ يعني تاليه إلى السّفه. ومنه قولُ حاتم: أما ويٌّ ما يُغني الثراءُ عن الفتى ... إذا حَشْرجَت يوما وضاقَ بها الصدرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 يعني النفس، ولم يتقدم لها ذكر. وقال لبيد: حتى إذا ألقت يدا في كافرٍ ... وأجن عورات الثغور ظلامها يعني الشمس إذا أبتدأت في المغيب، والكافر المعط، والثغور الأودية والشعاب، من كل موضع يخافه يسمى ثغراً. وقد يحذفُ ويختصرُ بأن يوقع على شيئين وهو لأحدهما ولا يذكرُ فعل الآخر، ويقام فعلُ أحدهما مقامَ ما ذكرُ معه على وجه الإيجاز والاختصار ويضمرُ في الكلام ما كان يجب أن يذكرَ ويُظهر، ومن هذا قوله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) . والفاكهة واللحم والحورُ لا يطافُ بها، وإنما معنى ذلك أنهم يؤتون مع ما يطافُ به عليهم بلحم طير وفاكهة وحور عين، ومنه أيضا قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) ، أي فادعوا شركاءكم. قال الشاعر: تراه كان اللهُ يَجدعُ أنفَه ... وعينيه إن مولاه بانَ له وفرُ وإنما عني تراه كان الله يجدع أنفه ويفقأ عينيه، فأجرى على العين فعل الأنف على سبيل الحذف والاختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 وقال الشاعر: ورأيت زوجكَ في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً والرمحُ لا يتقلد به، وأجرى عليه فعل السيف. وقال آخر: إذا ما الغانياتُ برزنَ يوماً ... وزجَّجنَ الحواجبَ والعيونا والعيونُ لا تزججُ وإنّما أراد زججنَ الحواجبَ وكحَّلن العيونا. وقد يحذفُ أيضاً المضافُ ويقامُ المضافُ إليه مقامَه، ويجعلُ الفعلُ له. ومنه قوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، أي حبّ العجل و (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، أي: وقت الحج، وقوله: (لَهُدِّمَتَ صَوَامِعُ) ، الصلو اتُ وبيوتُ الصلوات، وقوله: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) ، يريد ضعفَ عذاب الحياة وضعفَ عذابِ الممات، في أمثالٍ لهذا يطولُ ذكرُ جميعها، وليس لأحدٍ أن يدّعي الفسادَ والإحالة والنقصانَ في شيءٍ من هذا، وإن ظنَّ ذلكَ الجاهلُ الذي لا عِلمَ لَهُ بعادةِ الاستعمال، وطريقةِ أهلِ اللسان، ومنَ الحذفِ والاختصارِ المعروفِ في كلامِهم حذفُ لا في القسم، ومنه قولُه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، أي: ألاّ تضلوا فحذفَ لا، وقولُه: (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) ، أي لا تحبط. قالَ الشاعرُ: فقلتُ يَمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً ... ولو قَطَعوا رأسي لَدَيكِ وأوصالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 يريد: يمينُ اللهِ لازمة لي لا أبرحَ قاعداً، فحُذفَ على وجهِ الاختصار. وهذا أكثرُ من أن يتتبعَ فمن ادّعى الفسادَ والتخليطَ بمثلِ هذا فقد جَهلِ وأبعد. قالوا: ومما يدلُّ أيضا على نقصانِ القرآنِ وتغييرِ نظمهِ أننا وجَدنا في مصحفِ عثمانَ ما ليسَ بملائمٍ ولا متناسبٍ من الكلام، واللهُ يَجل عن إنزالِ كلامهِ على هذا الوجهِ من الفسادِ والنقصان. قالوا فمن هذا قولهُ تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . قالوا: فأيُّ مناسبةٍ بينَ جعلهِ البيتَ الحرامَ قياما للناسِ وبينَ قولهِ: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . وهل كانَ أن لو لم يجعلِ البيتَ قياما للناس أن لا يعلموا أن اللهَ بكلِ شيءٍ عليم، وإذا كان بكل شيءٍ عليم جعلَ ذلكَ أو لم يجعله، فما معنى هذا الكلام، وما معنى جعلِه البيتَ الحرامَ والشهرَ الحرامَ قياما للناس. فيقالُ لهم: ليسَ الأمرُ في هذا على ما ظننتُم، وذلكَ أن العربَ كانت في جاهليتها تَشُن الغارات، وتسفِكُ الدماءَ الحرام، وتأخذُ الأموالَ بغيرِ الحق وتخيفُ السبيلَ وتطلبُ الثأرَ فيُقتلُ بالمقتولِ قاتلهُ وغيرُ قاتلة. وبالواحدِ الجماعةُ ويُقتلُ القاتلُ وجارهُ ومن في ذمامه فجعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ وما حولَه والشهرَ الحرامَ قواما للناسِ أي أمناً لهم، لأن الخائفَ منهم كان إذا لجأ إلى البيتِ حُقنَ دمه، وسلمتْ نفسُه وزال خوفه، قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 يعني بالقتلِ والإخافةِ والغاراتِ وكانوا إذا دخلَ الشهرُ الحرامُ يكُفونَ عن الحربِ والقتلِ وشن الغاراتِ ويتبسَّطُونَ في الأرضِ آمنين على أموالِهم وأنفسِهم، فجعلَ الله البيتَ الحرامَ وما حولهَ والهديَ والتقليدَ إليه من مصالح خلقه، وعائداً بحفظِ نفوسِهم وأموالِهم وحقنِ دمائِهم، ولو تركَهم على ما كانوا عليه لتفانَوا ولذهبَت أموالَهم وأنفسهُم ولم يستقر بهم دار ولا قرار. وعرفهم تعالى أنه جعلَ ذلكَ من مصالحهم، فقال تعالى: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . يقولُ كما أنني علمتُ أن جعلَ الكعبةِ الحرامَ والحرمَ قياما للناسِ وأمنا لهم، فإن ذلكَ من مصالِحهم، واعلموا أيضا أنني أعلمُ ما في السموات وما في الأرضِ من مصالحِ أهلِها ومرافِقِهم ووجوهِ دفع المضارِ عنهم، وأنني مع ذلكَ بكل شيءٍ عليم، فأيُّ كلامٍ أليقُ بكلامٍ وأشَبهُ بهِ من هذا لولا الجهل والتخليط. قالوا: ومن هذا الباب أيضا قولهُ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، وهل يصيرون مقسطين في اليتامى بنكاحهم النساء، وكيفَ يكونُ ذلكَ وهُم عند نكاحِ النساءِ أعجزُ عن القسطِ والعدلِ في اليتامى، وأيُّ تناسُبٍ بينَ هذا الكلام؟ فيقال لهم: ليسَ الأمرُ في هذا أيضا على ما قدرتم، وذلك أن الله شبَّهَ خوفَنا بالعجزِ عن العدلِ والقسطِ في اليتامى، بعجزِنا عن العدلِ بين أكثرَ من أربعِ نسوة، لو أَطلقَ لنا نكاحُ أكثرَ من أربعة، فقالَ كما تخافون أن لا تعدِلوا بين اليتامى إذا كفلتموهُم، فخافوا أيضاً أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهُنّ وأكثرتُم منهن، فانكِحوا إذا كنتُم تخافونَ ذلك اثنتينِ وثلاثا وأربعا، ولا تتجاوزوا ذلك، لا تُقَصّروا وتعجزوا عن العدِل بينهن، ثم قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 وإن خفتُم أيضاً أن لا تعدلوا بن الاثنتينِ والثلاثِ والأربع فانكحوا واحدة. واقتصروا معها على ما ملكتْ أيمانكم من الإماء، ذلكَ أدَنى أن لا تَعولوا. أي لا تميلوا وتُجاوزُوا. وقد رُويَ هذا الذي قلناهُ بعينه عن ابنِ عباس، فإنّه قال: "قُصِرَ الرجالُ على أربعٍ من أجلِ اليتامى فيقول لما كانَ النساءُ مكفولاتٍ بمنزلةِ اليتامى. وكان العدلُ على اليتامى صعبٌ شديا على كافِلهمِ قصِرَ الرجالُ على ما بين الواحدةِ إلى الأربعِ من النساء، ولم يُطلِق لهم ما فوقَ ذلكَ لأنْ لا يميلوا". وإذا كان ذلك كذلك بطلَ توهمهم وزالَ تعجبهُم. وقد قيل: إن تأويلَ هذه الآية ِ أنه قد كانَ مُباحاً لهم في صدرِ الإسلامِ أن ينكحوا ربائبهمُ اللاتي في حُجورِهم من نسائهمُ اللاتي دخلوا بِهِنّ، وأن منُهم من كانَ يخافُ أن لا يعدلَ بينَ الربيبةِ وبين غيرها ممن ليست بربيبَته. لكونه والياً على الربيبةِ ومرّبياً لها ومستولياً على أمرِها فقالَ لمَّا علمَ ذلكَ من حالِهم: (وإنْ خفتُم أن لا تُقسِطوا في اليتامى) إذا أنتم نكحتموهنّ وتَزوجتم بهن فيما يتعلق بحقوقِ الزوجيةِ والعدلِ بيَنهنَّ وبينَ غيرهن، فانكحوا غيرَهنّ من النساءِ اللاتي ليسَ في حُجورِكم ولا لكم عليهن ولاية لتُحسَمَ أطماعكُمُ في تحيُّفِهن، وهذا تأويلٌ صحيح. وقيل أيضاً: إن تأويلَ الآية ِ ألكُم إن خفتمُ أن لا تعدِلوا في اليتامى الأطفالِ إذا تزوجتم بهن وكن ذواتِ أموالٍ تخافونَ أخذَها وأكلَها بالباطلِ وعَجَزَ الأطفالُ عن منعكم منها وصدكم عنها، واستيفاءِ ما تتلونه منها. فانكحوا ما طابَ لكم النساءِ البُذَّلِ القادراتِ على تدبيرِ أموالهنّ، ومنعكم من تَخَطُفها، لأنكم تكونون عند ذلكَ أبعدَ في أكلِ أموالهنّ بالباطل. والاعتداءِ عليهن، وهذا أيضاً قريب ليسَ ببعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ويُمكن أيضًا أن يكون التأويلُ في ذلكَ أنكم إذا خفتم الإثمَ والنارَ بأن لا تعدِلوا بين اليتامى فخافوا مثلَ ذلكَ في تركِ العدلِ بين النساء، وانكِحوا ما طابَ لكم من النساء، يعني به من أُحِل لكم منهن وهم اثنتينِ أو ثلاث أو ربُاع، ولا تنكحوا أكثرَ من ذلكَ فتتركوا العدلَ بينهنّ إذا كثُروا فتتَورطوا لذلك في الإثمِ والنار، فكأنّه قال: إن خفتُم النارَ بتركِ العدلِ بينَ اليتامى فخافوا ذلك في تركِ العدلِ بين النساءِ وانكِحوا قدرَ ما أحللتُه لكم ممّا أعلمُ أنكم تستطيعونَ العدلَ بينهن، ولا تتجاوزوا ذلك، ولو قالَ مكانَ هذا فإن خفتم أن لا تعدلوا بينَ اليتامى فاعدلوا في الحُكمِ وأوفوا الكيلَ وقُوموا بالفرائضِ لتتبرؤا من الإثم، لكانَ ذلكَ صحيحاَ جائزاَ كما يقولُ القائل: إن خفتَ السلطانَ في منعِ الحرامِ فلا تقذفِ المحصنات، ولا تشتمِ الناس، يريدُ بذلكَ فإنّ الضَّررَ عليكَ في مثلِ هذا، ما خفتَ منه أو أكثر، وقد يمكنُ أيضاً أن يكونَ أرادَ بالآيةِ أنكم إن خفتُم إذا تزوجتُم بالأيتامِ أو الأطفالِ اللاتيِ لا وليَّ لهن وطالَبْنَكم بحقوقِ الزوجيةِ وإقامةِ العدلِ بينهن، فانكِحوا البالغاتِ البُذلِ اللاتي يقدِرن على أخذكم بالعدلِ بينهن، وتكونونَ عند نكاحِهن أبعدَ من الظلمِ لَهُنَ. قالوا: ومنِ ذلكَ أيضاً قولُهُ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) . قالوا: فما معنى تخصيصَه للصبارِ الشكورِ دونِ غيره، وفيما ذكره آياتٌ لكلِ مُكَلَّفٍ ممن صبر وشكر وممّن ليست هذه صفتُه. فيقالُ لهم: ليسَ فيما ذكرتُموه من هذا متعلقٌ وذلك أن اللهَ كنَّى وهو أعلمُ بذكرِ الصبّارِ الشكورِ عن المؤمنِ لأجلِ أن أفضلَ صفاتِ المؤمنِ الصبرُ المُقترنُ بالشكر، فكأنَّه قال: إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لكلِ مؤمن، وقد قالَ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 موضعٍ آخر: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) فلا تَعلقَ فيما وصفتُم، وإنما يخُص المؤمنين المتفكرينَ والمعتبرينَ بالذكرِ في ذلك، وتضافُ الآياتُ إليهم دونَ الكافرين، ومن أهَملَ نفسَه وصدقَ وعاندَ وتنكَر الحق لأجلِ أنهم هم المنتفعونَ بالنظرِ في هذهِ الآيات، والمستدلُونَ بها والمعتَبِرونَ بعجيبِ صُنعِها ولطيفِ ما فيها، وكذلكَ قولُه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . يعني من كان له علم، وإن كان لو نَظرَ في ذلكَ من لا عِلمَ له لعلِم بصحيحِ النظرِ ما عَلمهَ المؤمنون، واتعظ وانزجرَ بذلك، فذلك ما ظنوه. قالوا: ومن هذا الباب أيضا قولُهُ تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) ، وكيفَ يُعجِبُ النباتُ الكفارَ دونَ المؤمنينَ الأبرار. وهذا إذا طلعَ واخضر وأينَع، أعجبَ المؤمنينَ والكافرين. فيقال لهم: لم يُردِ اللهُ تعالى بذكرِ الكفارِ ها هنا الكفارَ بالله تعالى وبالأديان، وإنَّما عنى وهو أعلمُ بالزراعِ الكفار، لأن مغطي الزرعَ إذا بَذرهُ في الأرضِ وسَترهُ كافر، ومنه قيلَ للمتسلّح المعتد: مُتكفر بسلاحه، أي: متغطي به، من قولِ الشاعر: في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها. يريد غطى الغَمامُ النجومَ وسترَها وإنما قال يُعجبُ الزُراعَ نباتُه. وخصهم بذلكَ لأنهم هم المُبلونَ به والمترقبونَ لما تُخرجهُ الأرضُ والمنتفعونَ به قبل غيرهم، فأضافَ ذلك إليهم. قالوا: ومنِ ذلكَ أيضا قولُهُ تعالى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) . وقد عُلم أن القواريرَ لا تكونُ من فضة، وفي هذا الكلامِ إحالة وفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 ونقصانُ ما لا يتم الفائدة، وينتظمُ الكلامُ ومعناهُ الآية، فوجبَ أن يكونَ ما هذه صِفتهُ فليسَ من عندِ الله. يقالُ لهم: ليس الأمرُ في هذا على ما قدرتم، لأن الله تعالى أراد أن تلكَ الأكواب التي هي كيزان لا عُرى لها في بياض الفضةِ وصفء القواريرِ على مذهبِ النسبة، فكأنه قال: هي أكوابٌ قواريرُ كأنها الفضةُ من بياضِها فحذفَ كأنها أو مثلَ الفضة، أو تشبهُ الفضةَ لحصول العلمِ بذلك وعلمِ أهلِ اللسانِ به، وهذا شبيهٌ بقوله: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، و (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، ولو قال: إنهن ياقوت ومرجان وبيض مكنون وحُذفت كأنهن، وهو يعني بذلك لكان صحيحا سائغا على طريقةِ أهلِ اللسان، ولهذا استجازوا أن يقولوا: فلان درةٌ لا قيمةَ لها وجوهرةٌ نفيسة، وهذه الجاريةُ لؤلؤةٌ وياقوتة، وهذا شرابٌ من نارٍ ومن نور، يريدون بذلك أنه يشبه الجوهرةَ والياقوتة، وأن الشرابَ يشبهُ النورَ والنار، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما تعلقوا به هم وإخوانهُم من الملحدين. قالوا ومن هذا أيضا قولُه: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) . وقد عُلم أن الحجارةَ خلافَ الطين، فعُلمَ بذلك فسادُ هذا الكلام. وأن اللهَ لم ينزله كذلك. يقال لهم: هذا غلط لأن عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ ذكر الذي أُرسلَ عليهم آجُر. والآجرُ حجارةٌ من طين لأن أصله الطين، وسماه حجارةً لأنّه كان في صلابةِ الحجارةِ وشدتها، وذلك صحيح غيرُ بعيد، بأن يكونَ اللهُ تعالى أمرَ الملائكةَ أن تَرميهم بالآجرُ، وأن يكونَ هُو تعالى رماهُم بها، فخلقَ حركاتِ الآجرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 واعتماداتِه على رؤوسِهم، وقد ذُكرَ في السيرةِ أن ولدَ نوحٍ عليه السلام تفرقوا في الأرض، وكانت الأرضُ لساناً واحداً، فلمَّا ارتحلوا من المشرقِ وجدوا بقعةً في الأرض سبعةً سَبِخَةً فنزلوا ثم جعل الرجلُ يقولُ للرجل: هلمَ فَلْنُلين لبِناً فنحرّقهُ فيكونَ اللَّبِنُ حجارةً ونبني مجدلاً رأسهُ في السماء. وذكرَ بعضُ من رأى هذه الحجارةَ أنّها حُمنٌ مخَتَمةً، وقال آخرون: بل هي مخططة وذلكَ تسويمها، وهذا يزيلُ توهُّمَهم ويُبطل شبَههم. قالوا: وممّا يدلُّ على تغيير القومِ لنظمِ القرآنِ وترتيبهِ على غيرِ ما أُنزلَ ووضعِهم لأشياءَ منه في غيرِ حقها ومواضعها وجودُ الاستثناءاتِ منه واردةٌ في غيرِ مواضعها وموجبةٌ للنقصِ وفسادِ المعنى والمقصود قالوا: فمن ذلك قولُه: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) . قالوا: وقد ثبتَ أنّ أهلَ الجنةِ وغيرهم أيضاً من الأحياءِ لا يصح أن يذوقَ الموتةَ الأولى التي ماتوا بها في الدنيا، لأن الموتَ الذي كان في الدنيا مضى وانقَضَى، ولا يجوزُ أن يُعاد ويُخلقَ مرةً أخرى، فيذوقهُ أهلُ الجنةِ ولا غيرُهم. قالوا: على أنه قد أخبرَ في غيرِ موضح، أنّ أهلَ الجنةِ لا يموتونَ أبداً. ولا يألمونَ ولا ينقطعُ ويزولُ ما هم فيه من العيشِ السليمِ والنعيمِ المقيم. ومَنْ هذه حَالهُ لا يذوقُ الموتَ جملة، لا الموتة الأولى التي كانت في الدنيا ولا في غيرها، ووجبَ أن يكونَ قولهُ إلا الموتةَ الأولى استثناءً يفسُدُ من وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 أحدهما: أن الموتةَ الأولى لا تَصحُّ أن تعادَ فيذوقَها أحد، والآخر: أن أهلَ الجنةِ لا يذوقونَ الموتَ أبدا، لا الموتةَ الأولى ولا غيرها. قالوا فهذا يدلُّ على أن هذا الاستثنى ليس من كلامِ الله، أو هو من كلامهِ غيرَ أنه وارد في غيرِ هذا الموضع، أو على غيرِ هذا الوجه، أو كان معهُ كلام من حكاية عن مبطل، أو قولٍ لقائل، أو مقدم أو مؤخرٍ يُخرجُهُ عن الفسادِ والاستحالة. فيقالُ لهم: لا يجبُ شيء ممّا قلتُم، لأجلِ أن إلاّ ها هنا بمعنى سوى. وسوى هو بمعنى غير، فكأنه قال تعالى "لا يذقونَ الموتَ غير الموتِ الذي كانوا ذاقُوه في الدنيا، وقولُه فيها ليسَ معناهُ أنّهم يذوقون في غيرها الموت. ولكن لما ذكرَ الجنةَ ووَصفَها، بأنّها دارُ مُقامِهم وقرارِهم وأنّه لا دارَ لهم سواها، قال: لا يذوقونَ فيها الموت، ومثلُ هذا قولُه: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) ، يعني سوى ما قد سلفَ في الجاهلية، وقد يقولُ القائل: ما ينالُك في هذا الأمرِ ضرر ولا حزن إلا ما نالكَ وسوى ما نالك، لا يريد بذلك أنّك يَنالكُ ما قد نالكَ وانقضَى ومضَى، وإنما يعني بذلك أنّه لا ينالُك شيء غيرُ الذي قد نالكَ من قبلُ وهذا أبينُ من أن يحتاج إلى إكثار. وأما قولهم: إن أهلَ الجنةِ لو جازَ أن يموتُوا لم يصحَّ أن يذوقُوا الموتةَ الأولى التي كانت في الدنيا، لأنّها لا تصحُّ أن تُخلق وتُعادَ مرةً أخرى، فإنّه باطل، لأنّ الموتَ المُنقضي وجميعَ الأعراضِ الفانيةِ يَصحُّ أن تُخلقَ وتعادُ بعد فنائِها، وأن يُقدَّمَ خلقُها ويُؤخَرَ أيضاً، وإن استحالَ بقاؤُها واستمرارُ الوجودِ بها وقتينِ فصاعدا، وقد بيّنا ذلك ودللَّنا على صحته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 في كتاب "شرحِ اللُمعٍ لأبي الحسنِ الأشعري " بما تُغني الناظرَ فيه، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالُوه. قالوا: ومن هذه أيضا قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) . قالوا: وقد عُلم أن قولَه غيرُ مجذوذ يقتضي أن يكون دائما غير مقطوع، وقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) يقتضي أنهم يمكثون في الجنة دهراً ثم لا يكونون فيها لقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، لأنه يقتضي إلا ما شاء الله من إخراجهم، وهذا تناقضْ واستثناء في غير موضعه. يقال لهم: لا يجب ما قلتم لأن العرب تعبر عن معنى الأبد والتأبيد بألفاظ كثيرة، يقصدون بها الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، فمن ذلك قولهم: لا أفعل ذلك ما تكرر العصران وما اختلف الجديدان، وما اختلف الليل والنهار، وما طلعت الشمس، وما غربت، وما ظمأ البحر، وما أقام أحد، وما در لله شارق، وأمثال هذه الألفاظ قال امرؤ القيس: وإني مقيم ما أقام عَسيبُ يعني جبلاً قائما، استجازوا جعل هذه الألفاظ مكان ذكر الأبد لاعتقادهم أن العصرين يتكرران أبداً سرمداً، وأن الليلَ والنهارَ يختلفان ويتجددان أبداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 دائما، وأن البحرَ لا يزالُ ظاميا مرتفعا، وأن الجبلَ والسموات والأرض لا تزولان ولا يتغيران أبداً، فقالوا كذلك: لا أكلمُك ما اختلفَ الجديدان وما ظَمِأ البحر، وهم لا يعنون بذلك مدةً من الزمان منقطعة متناهية، وإنما يعنون الأبد الذي لا انقطاعَ له ولا تأخير، فخاطبَ الله العربَ بما تَعْهَده في كلامِها وتعرفُه في عُرفها فقال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ، يعني أنّهم خالدون فيها أبداً سرمداً فعبر عن هذا بدوام السموات والأرض لاعتقادهم في أصلِ اللغة أنهما غيرُ منقطعين ولا مبتعدين. فهذا الكلامُ جواب من قال: كيف قال خالدين فيها ما دامت السمواتُ والأرض، وقدرُ دوام السمواتِ والأرضِ منقطعٌ متناهي، وهو قد أخبرَ أن خلودَهم ودوامَهم غيرُ مجذوذٍ ولا مقطوع، وإن وجبَ اعتقادُ انقطاع دوامِ السموات والأرض من جهة السمع، قال الله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ، وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، فأخبر عن تغييرها وتبديلها. وأما قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، فإن معناه سوى ما شاء ربك، ومعنى ذلك أن الله تعالى لما علم أن مكثَ السموات والأرض منقطعٌ متناهي. قال: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، أي سوى ما شاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ربك من إدامة خلودهم بعد فناء السموات والأرض وتبديلهما الذي علمه. وإن كنتم أنتم لا تعرفون ذلك في وضع لغتكم وتعارفكم، لأنّه لو لم يقل: إلا ما شاء الله أن تكونَ مدةُ مقامِهم في الجنة مدة مقام السموات والأرض إلى حين فَنائها وتبديلها، هذا وجا صحيح، وقد يقولُ القائل: لأسكنن في هذه الدار حولاَ أو شهراَ إلا ما شئت، وقد يصح أن يريد بقوله: إلا ما شئت أن أزيدَ على ذلك، وقد يصحُّ أن يعني إلا ما شئت أن أنقصَ منه فإذا عَلِمنا بوجهٍ قاطعٍ أنّه لا ينقصُ من سُكنى سنةِ حمل قوله: إلا ما شئتَ على الزيادة على ذلك دونَ النقصان، وكذلك إذا قال بعد قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، يعني غير مقطوع حمل على أنّه أرادَ سوى ما شاء من الزيادة على قدر دوامِ السموات والأرض، إذ كان قدرُ دوامها منقطعاَ متناهيا. ويحتملُ أيضاً أن يكون تعالى أراد بقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، مع دوام السموات والأرضِ من كونهم في الدنيا ومن كونهم بأرض المحشر، لأنهم في الدنيا وفي الموقف للحساب لا في الجنة ولا في النار، فكأنّه قال: وهم أبداً في الجنة وعبّر عن ذلك بدوام السموات والأرض إلا قدرَ ما نقصَ من ذلك من مدةِ مُقامهم في الدنيا، وفي المحشر وهذا أيضاً وجه صحيح. ويحتملُ أيضاً أن يكون تأويلُ قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) من كون المؤمنين من أهل الإجرام في النار، فقال خالدين فيها يعني المؤمنين إلا ما شاء ربك من مدة كونهم معاتبين في النار على إجرامهم إلى حين تدركهم رحمةُ الله لهم وشفاعةُ نبيه فيهم، وإذا كان ذلك كذلك زالَ توهمهم للمُحال بهذا الاستثناء وسقط تعجبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 قالوا: ومما يدلّ أيضاً على تغيير القرآن وتلاوة القوم له ورسمه على خلاف ما أنزل الله تعالى، وجودنا فيه خطابا للحاضر بما هو مبين للغائب. وليس يحسُنْ أن يقول القائلُ اختبرتكُ فوجدته ثقةً مناصحاً، ورأيتكَ أمس صحيحاً مناظّراً فاستعقلته واسترجَحته، لأنّ ذلك أجمعَ خطاب للحاضرِ بما هو موضوع للغائب، وقد وجدَنا مثل هذا في مصحف عثمان فمن ذلك قوله: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ، فبدأ بخطاب الحاضر فيه بقوله: "كنتم " ثم جاء بخطاب الغائب بقوله: "وجرين بهم "، ومنه أيضا قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) ، وذلك خطاب الحاضر، ثم قال: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) ، وهو خطالب للغانب، ومنه أيضاً قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وهم للغائب وقوله: آتيتم وتريدون للحاضر، وهذا تخليط لا يجوزُ وروده من عند الحكيم العليم. فيقال لهم: هذا توهم منكم، لأن أهل اللغة قد أطبقوا على أنّه قد يحسُن أن يصل الخطاب الحاضرُ ما يصلحُ للغائب في مواضع قد عُرفت وجرت بها عادتُهم، ولذلك قد يردُ خطابُ الغائب أيضاً على وجه ما يُستعملُ خطابُ الحاضر، ويجب أن يسوغَ ذلك ويستحسنه حيث استحسنوه. قال الشاعر: يا دارَ ميَّةَ بالعلياء فالسَنَدِ ... أقْوَتْ ومرَّ عليها سالفُ الأبدِ يريد: قويتِ يا دار، ومرّ عليك سالفُ الأبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وقال آخر: يا ويحَ نفسي كان جلدة خلة ... وبياض وجهك للتراب الأعفر فبدأ بخطاب الغائب ثم وصله بما يصلحُ للحاضر، وإن لم يجب أن يُقاس على ذلك سائرُ ما ذكروه، وكذلك يحسنُ من الله تعالى استعمالُ مثل هذا، وإن لم يُستحسن ذلك في كل موضع، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به. فأما قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) . وقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) . وقوله: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ، (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) . فإنه واردٌ على طريقِ التقرير والتقريع للقوم، والاحتجاج على من ادّعى على عيسى وأمه ما ادعت النصارى، وربما وردَ من هذا الباب لفظُ الاستفهام والمرادُ به التعجبُ نحو قوله: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) . كأنه قال: عم يتساءلون يا محمد؟! قال: عن النبأ العظيم يتساءلون. وكذلك قوله: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) ، جاء على وجه التعجب. ثم قال: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (أجلت) ، وما ورد منه على وجه التوبيخ نحو قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) ، ومذهبُ العرب في هذا معروفٌ إذا قال قائلهم: تعرفني، أتدري من أنا، على مذهب التهديد. فلا تعلق لأحد منهم في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 ومما خلطوا به ما ليس منه قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) . وأو موضوع للشك وهو مستحيل على الله، وهذا باطل وقد قيل فيه ثلاثةُ أشياء، فقيل إن أو هاهنا بمعنى الواو فكأنه قال: إلى مائة ألفٍ ويزيدون، وأنشدوا في ذلك قول الشاعر: بدت مثلَ قرنِ الشمسِ في رونقِ الضُحى ... بزينتها أو أنت في العين أملحُ يريد: وأنت في العين أملح. وقول الآخر: نال الخلافةَ أو كانت له قَدَراً ... كما أتى ربه موسى على قَدَرِ يريد وكانت له قدراً. وقال قائلون: إن أو هاهنا بمعنى بل يزيدون، وقالوا: أراد الشاعر بأو: بل كانت له قدراً، وبل أنت في العين أملح، قالوا: وقد تجيء الواو بمعنى أو، قال الله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) . يريدُ مثنى أو ثلاث أو رباع، وقال قائلون: أراد بقوله: أو يزيدون عندكم وفي تقديركم، فكأنَّه قال: أرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون في حِزْركم وحَدْسكم، وهذا أيضا وجه حسن، فبطل ما توهموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ومن تخاليطهم في المصحف الذي لا يليقُ بالله سبحانه قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) . قالوا: وذلك يؤذنُ بأن فعلَ بعض الأمور أشق عليه من بعض. قال الملحدون: وهذا ما يأباه القوم في صفة صانعهم، قالوا ومن هذا قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، وقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ، واللعب والاحتيالُ ممتنعٌ عليه، وهذا باطل، وقد قال الناسُ في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أرادَ وهو أهونُ عليه عندكم وفي تقديركم إذا كان ابتداءُ الشيء لا على مثالٍ ونظيرٍ تقدم أصعبَ عندكم من إعادته على مثالٍ سلف. فضربَ لهم المثلُ بما عندهم، ثم قال عقيب ذلك: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) ، أي أنني أجل عن أن تكون هذه صفتي، وهذا ضد قوله: أو يزيدون يزيدُ عندكُم وفي تقديركُم. وقال آخرون: أراد بقوله: "وهو أهونُ عليه " على الخلق، والهاءُ في عليه مردودة عليهم، وإنَّما صار ذلك كذلك لأنّه يقولُ لهم سبحانه: كونوا أحياء ناطقين مميزّين وإذا هم بشرٌ منتشرون، وذلك أسهلُ عليهم من كونهم نطفةً ثم علقةً ثم مضعةً ثم طفلاً، ومن التنقّل من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ومن الطفولية إلى الكبر والهرم حالاً بعد حالٍ فكذلك صارت الإعادةً أهون عليهم من الابتداء، فيمكنُ أن يكونَ أرادَ بقوله: "وهو أهونُ عليه " في أنه هيّن عليه، فيكون أهونُ بمعنى هيّن، لأن ذلك مستعملٌ في اللغة وهو المرادُ بقولهم الله أكبرُ إنّما معناهُ الكبيرُ ولم يرد إضافتَه إلى شيء هو أكبرُ منه والمبالغةُ في تعظيمه عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 قال الفرزدق يهجو جريراً: إن الذي رفعَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائِمُه أعز وأطولُ يريد أنه عزيز طويل ولم يرد وصف بيت جريرٍ بأنه عزيز، وأن بيتَه أعزُّ وأطولُ منه. وقال آخر: لعمرُكَ ما أدري وإني لأوجلُ ... على أننا نغدوا المنيّة أولُ يريد أني وجلٌ فجعلَ أوجلُ بمعنى وجل، لأن أفعلَ تستعملُ بمعنى فعل، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما تعلقوا به بطلاناً بيناً. وأما قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) ، فلم يرد الفراغَ من الشغل، يتعالى عن ذلك، وإنّما أراد أننا نقصِد لحسابكم وجزائكم. والعربُ تقول: سأفرغُ لكلامك وسأفرغ لمسائلتك ومواقفتك يعني بذلك القصد إلى هذا دون الفراغ من شغل قاطع، فلا تعلُّق لهم في هذا الباب. وأما قوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) ، وقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . وأن المراد به واللهُ أعلم يجازيهم على مكرهم واستهزائهم، وقد نسمي الجزاء على الشيء باسمه لما بينهما من التعلق، وقد ذُكر هذا في إثبات المجاز، وذكروا منه قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) . وقوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ، وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) . وقال الشاعر: ألا لايجهلنَّ أحد علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 يريد فنكافئه على جهله، وقد قيلَ الجزاءُ على الشيء إنما يُسمّى باسمه لمقاربته له وتعلقه به وطول الاصطحاب، كما قالوا: القمران والعمران والأسودان، وهلاك أمتي في الأحمرين وأمثال ذلك. قال الشاعر: أخذنا بآفاق السماء عليكمُ ... لنا قمراها والنجومُ الطوالعُ يعني الشمسَ والقمر. وقال آخر: فقولوا لأهل المكتين تحاشَدوا ... وسيروا إلى آطامِ يثربَ والنخل يعني مكة والمدينة، وكذلك لمّا كان الجزاءُ مقرونا بالعمل، وكان على كل جُرمٍ عقوبة سموا الجزاء على الفعلِ باسمِه للاصطحاب، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه من أن الله تعالى وصف نفسَه باللعب، والهزل والمكرِ الذي هو تطلبُ المكائد والحيل. فأمَّا تعلقُهم بأنّ الله لا يصفُ رسله بما لا يجوزُ عليهم، وقد وجدنا في المصحف أن إبراهيم قال لمَّا جنّ عليه الليل ورأى كوكبا قال: هَذَا رَبي إلى آخر القصة، فقد قيل في هذا إنه كان أولَ حالِ بلوغه وطلب ما كُلفه - صلى الله عليه وسلم - من معرفَته ربه تعالى، ولم يعرف كفراً ولا شركا قبل ذلك، ولا في حال نظره. وقيل أيضا: إنه خرجَ على مذهبِ العلمِ لقومه والبينة لهم على وجه الاستدلال على حدث هذه الأفلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 وقيل أيضا: إنه خرجَ على مذهب التقرير والاستفهام وأن ألف الاستفهام أسقط على مذهب الإيجاز والاختصار، فكأنَّه قال على طريقِ التعجب والتوبيخ لقومه أهذا ربي فحُذف ألف الاستفهام وأنشدوا في ذلك قول الشاعر: كذبَتْكَ عينُك أم رأيتَ بواسطٍ ... غلسَ الظلام من الرباب خيالا. يريد أكذبتك عينُك، فحذفَ الألفَ اقتصاراً على ما في الكلام من دلالة استفهام، وهو قوله أم رأيت بواسطٍ لأن أم من حروف الاستفهام. ويقول الآخر: ثم قالوا تحبُّها قلتُ بهراً ... عدد القَطْر والحصى والترابِ يريد قالوا أتحبُّها. وأنشدوا أيضا قولَ امرىءِ القيس: أصاحِ ترى ومضا أريكَ وميضَه أراد صاح أترى، فحذفَ الألف على وجه الاختصار، وإذا كان ذلك كذلك، سقط ما ظنوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 قالوا: وممّا يدل أيضاً على وقوع التخليط والتناقض والتناقض الذي لا يجوز على الله سبحانه في القرآن، ما نجده فيه من الكلام المتناقض، نحو قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) . وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)) . مع قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. و (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) . وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) . وقال: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) . وقوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) . وقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) . وقوله بعد ذلك: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) . وكيف يكون في شك وصفته ما قدّم، ومنه أيضاً قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) . وقوله في موضعٍ آخر: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) . والغسلين غير الضريع، وهذا - زعموا - تناقض على أن الضريع نبتٌ والنار لا نبات فيها، وكذلك قوله: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . قالوا ولا معنى لهذا التشبيه الذي لا يعرفونه، ولأنه لا يجوزُ أن يكون في النار شجرا ونبتا، لأنّ النار تحرقُ الشجرَ والنبات. ْقالوا: ومنه أيضاً قو لُه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) . وقوله على إثر ذلك: ْ (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) وهذا تناقض بين. قالوا: ومنه قوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) على وجه نفي الاختلاف عنه وفيه. وقد وجدَ من الاختلاف في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 القرآن المكي والمدني والناسخ والمنسوخ، والاختلاف في أحكامه التي ضمّته العقلية والسمعية شيء كثير لا خفاء به، وذلك تناقضٌ بين وخللٌ في القول. ومنه أيضاً أنّه أخبر أنّه خلق الأرض قبل السماء، ثم أخبرَ أنه خلقَ الأرضُ بعد السماء، حيثُ قال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) . ثم قال في موضع آخر: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) . وهذا أيضاً - زعموا - تناقض ظاهر، ومنه أنّه أخبرَ في غير موضعٍ أنّه خلقَ السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ئم فضلها لهم في ثمانيةٍ فقال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) . واليومين مع الستة التي خلقت الأرضُ وأقواتُها فيها ثمانية، فأجمل ذلك في ستةٍ وفصّلها في ثمانية، وهذا - زعموا - تناقض بيّن. قالوا: ومن ذلك أيضا قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . مع قوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) . والواو ها هنا واو استئناف لا واوَ عطف، وقوله: (كهيعَصَ، وحمَ، عسَقَ، والم) وغير ذلك من الحروف المذكورة في أوائل السور التي لا يُعرف معناها وقوله: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، ما يعرفُ معناهُ وغيرُ ذلك مما لا يعرفُ الخلقُ له معنى، وهذا - زعموا - نقض قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 فيقال لهم: ليس فيما أوردتموه شبهةً يسوغُ التعلق بها. فأمَّا قوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) . فإن ذلك اليومَ أوقات وتارات وهو في طوله بجنبِ ما وصفَ الله سبحانه في قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) . و (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) . (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) 36) . (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) . عند قيامِهم من قبورِهم وحشرهم وتبديلِ الأرضِ غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار فلا يزالون كذلك إلى حين العرض والمسائلة، ثم يؤذنُ لهم في النطق، فإذا استقر أهلُ الجنة في الجنّة، وأهلُ النار في النّار لم يُوذن لهم في الاعتذار ولا في الخصام، وقيلَ لهم: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) . وذلك لا يَنفي تخاصُمهم في النار وتلاومهم وما ذكره الله من ندَمهم في قوله: (نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) . إلى أمثال ذلك، وهذا ينفي التناقض الذي ظنوه. فأمَّا قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، مع قوله: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) . فإنه غير متنافي ولا متناقض، وذلك أن عذابَ أهلِ النّار دركات وطبقات وأهلُها فيها على قدرِ ذنوبهم في الكثرة والقلة. وكذلك قصةُ أهل البوار، وفريق منهم طعامُه الضريع، وفريق منهم طعامُه الغِسلين، وفريق آخر طعامُه الزقّوم، كما أخبر اللهُ في موضعٍ آخر، وقوم منهم شرابُهم الحميم، وقوم منهم شرابُهم الصديد، فالذي ليس له طعام إلا من غِسلين غير الذي لا يُطْعم إلا الضريع، وشاربُ الصديدِ فيها غيرُ شارب الحميم، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه، والضريع نبت يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 بالحجاز يقال لرُطبه الشبرق وهو مما لا يُشبع ولا يُسمن ولا يغني شيئا. والعرب تعرِفُه وتصِفُه بذلك. قال الهذلي يصفُ سوء رعي الإبل: وحُبسن في هزمِ الضريع فكلها ... حدباءُ داميةُ اليدين حرود والحروج التي لا تلد، فضربَ اللهُ لهم بذكر الضريع مثلاً، فكأنَّه قال: إن أهلَ النارِ يقتاتون ما لا يُغنيهم ولا يُشبعهم، فهم في ذلك كآكل الضريع الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، والغِسلين هو من فعلين، من غسلت فهو غُسالةُ أهلِ النار، وقال قوم هو ما يسيل من أجسام المعذبين. فأمَّا قوله: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) ، (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، وقولهم: كيف يكون في النار نبت وشجر، فإنه لا تعلقَ لهم فيه، إن كان كنى بذلك الضريع وشجرة الزقوم عن جوعِهم. وأنهم لا يشبعون وعن شيء مشبهٍ لشجرةٍ تشبه رؤوس الشياطين في قَبْح مَنْظرها، فليس هناك نبت ولا شجر، وإنما ذلك أمثال وتشبيه، وإذا كان أراد تعالى تحقيق نبتٍ وشجرٍ يخرجُ من النار، فإن ذلك غيرُ مستحيل. وأمَّا قولُهم إنه لا معنى لتمثيلِ طلع الشجرة برؤوس الشياطين من وجهين: أحدهما: أن الشجرة لا طلعَ لها وإنما يكون الطلعُ دونَ الشجر. والوجهُ الآخر: أننا لا نعرفُ رؤوسَ الشياطين، وليس هو ما تعرِفُه العرب، فيُمثلُ لها به بعض الأشياء، فإنه باطل لأنه إنَّما أراد بقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 طلعُها ثمرها لطلوعه كل سنةٍ ومنه سميَ طلعُ النخل طلعا عند أول خروجه، مأخوذٌ ذلك من طلوعه، فإذا تغيرت حالُه وانتقل إلى حُكمٍ آخرَ سميَ باسمٍ آخر من بلحٍ وبُسرٍ ورَطب، فطلعُها المرادُ به ثمرها الطالع، وأما الشياطين التي مثلها برؤوسها فإنها حياتٌ خفيفاتٌ الأجسام قبيحات المناظر والرؤوس. قال الشاعر: عجينٌ تحلفُ حينَ أخلفُ ... كمثل شيطانِ الحماطِ أعرُفُ يريد كأنه حيةٌ تأوي الحِماط، والحِماط شجر، والأعرُفُ الحية من هذا الذي له عُرف، والعربُ تقول إذا رأت منظراً قبيحاً كأنه شيطانُ الحماط. وقال يشبّه التواء زمام ناقته بتلؤي الحية: تقلبَ مني حضرمى كأنه تعمج شياطينٍ بذي خروعٍ قفرِ يزيد تشبيه تلؤي زمامها بتلوِّي هذه الحية التي تُسمى شيطان، ولم يرد الشياطين الذين هم الجن، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ تعجبُهم وزال تمويههم. فأمَّا قولُه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ، مع قوله: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) ، فلا تناقض فيه، وذلك أن النّضرَ بنَ الحارث قال: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، يعني بذلك أهلكنا جميعاً ومحمداً ومن اتبعه عاماً، فأنزل@ اللهُ تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي: وفيهم قومٌ يستغفرون وهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 المسلمون، ثم بيّن ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) . ثم قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) يعني: النّضر ومن كان بمثابته (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) . يعني المسلمون، فلا تناقض في ذلك. وأمّا قولُه: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) مع قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) فلا تنافي فيه لأن قوله: (دَحَاهَا) معناه بسطَها وليسَ معناه أنّه خلقَها وأنشأنها، وقد جاء في الحديث "أن الأرضَ خُلقت ربوةً غير مبسوطةٍ ثم بُسطت "، فقوله: دحاهَا يريد بسطها، وقد يخلِقُها ربوةً ويخلقُ السماءَ بعدها ثم يبسطها بعد خلق السماء فلا تنافي في ذلك. فأمّا قولُهم إنه أجمل خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثم فصَّلها لهم في ثمانية، فإنه أيضاً لا تعلُّق فيه من وجهين: أحدهما: أنه إذا أدخلَ القليلَ في الكثيرِ المشتملِ عليه كان ذلك صحيحاً، لأنه إذا خلقَها في ثمانيةِ أيامٍ فقد خلقَها في ستةٍ لا محالة، لأن الستةَ داخلة في الثمانية، ولذلك لم يكن من أقز وأخبر بأن لزيد عليه ستةَ دراهم ثم أقر له بعدَ ذلك بثمانية فاعترف أن له ثمانيةً كاذباً في إقراره وخيره، لأن أحدُ إقرارَيه وخبَريه داخلٌ في الآخر، فهذا جواب. وجواب آخر: وهو أن اللهَ سبحانه لم يخبرْ أنه خلقَ الأرض في يومين هما غير الأربعة أيام التي قدر فيها أقوات الأرض، لأنّه يمكن أن يكون خلقَ الأرض في يومين، وخلقَ أقواتَها في يومين آخرين، ثم قال: خلقَ الأرضَ في يومين وباركَ فيها وقدر فيها أقواتَها في أربعة أيام، أي أن خلقها وخلقَ أقواتِها كاق في أربعةِ أيام، وهذا كما يقول القائل حوطتُ داري وبنيتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 سُورَها في يومين وفرغتُ منها ومن بيوتها ومرافِقها في عشرة أيام، لا يعني بذلك عشرةَ ليس فيها اليومين اللذين فرغَ فيهما من تَسويرِها، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما توهموه وزالَ ما نحلوه كتاب الله من التناقض والاختلاف. فأمَّا قولُه تعالى: (لَاَ إكرَاهَ فِى اَلدينِ) ، مع قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) . وقوله: (فَضَرْبَ اَلرقابِ) . وأخذه للعباد بالدخول في الدين ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنّه لا إكراه في الدين ولا قتلَ ولا حربَ لمن له عهد وذمة بقيَ عليها، ويمكن أن يكون التأويل ُ في ذلك أنه لا إجبارَ ولا حملَ ولا اضطهاد في الدين، أي ليس يفعله فاعل إلا على سبيل الطوعِ والاختيار، وعلى وجهِ يقتضي الثواب، ولا بد أن يكون من كُلِّفَه إما قادراَ عليه أو على تركه والانصرافِ عنه والإيثارِ لضده عليه. ويمكن أيضا أن يكون المعنى في ذلك أن ما وقعَ منهم من التصديق على سبيل الإلجاء والجهلِ والفزعِ من السيفِ ومن ظاهر القول والإقرار. فليس بدينِ يُعتَدُّ به و"شابُ صاحبُهُ وإنَّما الدين منه ما وقعَ طوعا مع قصدِ دينه، ولذلك قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . أي: استسلمنا خنوعا ورهبةَ من السيف وما وقعَ كذلك فليس بدينِ ولا إسلام. ويمكن أيضا أن يكون أراد بقوله: (لا إكراه في الدين) أي: لا إكراه يقعُ ويصح في نفسِ التصديقِ والإقرار الذي يكونُ بالقلب، لأن الإكراهَ على تصديقِ القلب والمعرفة لا يصح، لأنه يقعَ مكتسبا مستدلا عليه بما يختارُ عند إيقاعه، ولا يصح الإكراهُ عليه كما يتأتى ذلك في الأفعال الظاهرةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 الواقعةِ بالجوارح، وقد قال خلق من الناسِ إن الإكراه على العلوم وأفعال القلوبِ لا يصحّ، وإنما يتأتى ذلك في أفعال الجوارح، والدينُ من أفعال القلوب، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ظنهم أن نفيَ الإكراه عن الدين ينصرفُ إلى نقضِ أمره بالقتال عليه والدخول فيه. وأما قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) . وقد نرى من يريدُها فلا يصلُ إليها ليسَ ينقضُ لأن مِنْ ها هنا ليست للعموم والاستغراق، بل يرادُ بها تارةَ الكل وتارةَ البعضُ فكأنّه أرادَ أن من أرادَ ثواب الدنيا آتاه منها إذا كان في المعلوم أنه يؤتاه منها ولم يرد بذلك الكل، وقد أوضحنا ذلك في كتابي "أصول الفقه " وغيرهما أنّه لا صيغة للعموم بهذا اللفظ ولا بغيره بما يغني الناظر فيه، فبطلَ تعلُّقُهم به، ويحتملُ أن يكون أراد بقوله نؤته منها إما قليلا أو كثيرا، أو لم يُرد أننا نأتيه الكثير وكلما يريده، وليس أحد أرادَ ثوابَها إلا وقد أُتي منها إما قليل أو كثير فبطل ما ظنوه. فأمَّا قولُه في قصةِ إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، فليس بنقض لقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، وقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) . فيحتملُ أن يكونَ أرادَ بقوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بإجابتك لي إلى ما سالتُه وإلى مشاهدة نمرودِ ومن أنكرَ نبوءتي إجابتكَ لي، ولم يُرد ليطمئن قلبي بإزالةِ شكِ في كونك قادراَ على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ويمكن أن يكون أراد بقوله ليطمئن قلبي مشاهدتي ميتا أحييتَه، لأنّني وإن كنتُ عالماً معترفا بكونكَ قادراً على ذلك فإنّني غيرُ راء له ولم أره قط، فقال أرني لأخبرَ به إذا أخبرتُ عن مشاهدة، فيطمئنّ قلبي إلى مشاهدة ذلك لا إلى العلمِ بأنّه من مقدوراتك. ويمكنُ أن يكونَ تأويل قوله: "ليطمئنّ قلبي " أي: ليطمئن قلوبُ هؤلاء الشاكين في ذلك فذكرَ نفسَه وأرادَ غيره، ومثلُ هذا قد يقولُه ويستعمِلُه المحتجُّ على غيره يقولُ القائلُ أنا أريدُ أن أفعل كذا ليراه ويطمئنَّ قلبي برؤيتَك له، أي ليزولَ شكّك فيطمئنَ قلبي بسكونِ قلبِك وزوالِ شكّك، وإذا كان هذا هكذا بطلَ التناقضُ الذي توهّموه. فأمّا قولُه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ، فلا منافاةَ أيضًا بينَه وبينَ قوله: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) . وقوله: (تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ، وقوله: (فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ) . ونحو ذلك، لأنّه يحتمل أن يكون أراد بقوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) أي: التوبةُ الأولةُ من الكفر الأوّل، أي لا تنفعهم توبتُهم من الكفرِ مع عودتهم إليه ومفارقتهم الإيمان، وذلك صحيح، لأن التوبةَ الأولةَ غيرُ نافعة مع العود، فإمّا أن تكونَ غيرُ عاصمةٍ من العقاب على الكفر الثاني، أو يكونَ العودُ إلى الكفر والذنب ناقصا للتوبة الأولة، حتى يرجعَ عقابُ الأولِ والثاني على قولِ كثير مِن الناس، ولم يُرد بقوله لن تُقبلَ توبتهم إن تابوا من ارتدادهم، ووافقَ الله بالتوبة والإقلاع عن الكفر، فبطلَ ما ظنوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 ويمكنُ أيضاً أن يكونَ التأويلُ في ذلك أنه لن يقبلَ توبتَهم الظاهرة. وإذا وقعت على وجهِ النفاق، فيحتملُ أن يكونوا قوماً آمنوا نفاقا ثم عادوا إلى إظهار الكفر، فقال تعالى: إن تابوا منه نفاقاً مثل توبتهم الأولى فلن يُقبل منهم هذا الجنسُ من الإقلاع، لأنه ليس بتوبة في الباطن، وإن كان توبةً في الظاهر عند من لا يعرفُ المواطنَ والأسرار، فلم تكن هذه توبةُ ندمٍ على الكفرِ وعدمِ مواقعة مثله، وهذا أيضاً يُبطل ما قدّروه من التناقض. وقد قيل إنَّ الآية نزلت في المتربصين من أهل مكة حين تربصوا بالنبي صلى الله عليه ريب المنون، وقالوا له: فإن ذهَبْتَ الحرف ذهبنا إليه وتبنا فقبلَ توبتنا فقال اللهُ تعالى قل لهم لن تُقبل توبتهم هذه لأنّها على الحقيقة ليست مخلصةً لله، وإنما هي للتربُّص والمدافعة. فأما قوله تعالى: (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ، (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) . فلا منافاةَ أيضاً بينَه وبينَ قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . و (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) ، لأن قولَه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أراد به بعض الأنفس دون بعض، وكذلك قوله: (إِلَّا مَا آتَاهَا) ، وقوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) . خبر عن بعض المكلفين دون بعضٍ فزال ما توهموه. ويُحتمل أن يكون أرادَ بالسمع وما آتاها أنه لا يكلفُ الإنفاقَ ولا الزكاة مع عدم المال، وما كلّف ذلك تعالى، لأنّه مما لا يُستطاعُ فعله، ولا تركُه وليس كذلك حالُ عدمِ الاستطاعة على الإيمان والقبول، لأنّه قد يُستطاعُ تَركُه والدخولُ في ضده، فليس كتكليف الزكاةِ والنفقة مع عدم الطول والمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 ويحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله: (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ، أنهم كانوا لا يستطيعون ذلك لتركه وإيثار ضده لا للعجز عنه، وأن يكون أراد بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، أي ما لا تعجزُ عنه من تكليف الطيران وتنقيط المصاحف مع العمى، والإخبار عن الغيوب، ونحوِ ذلك وهذا ما لا تنافيَ فيه ولا تناقض، فبطل ما توهموه. وقد قال كثير من الناس إن معنى قوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ، أي أن ذلك يثقلُ عليهم ويأبونه، ويكرهونَه كما يقولُ القائل: أنا أكلم زيداً وما أستطيعُ كلامه والنظرَ إليه، أي: إن ذلك يثقل علي، لا يعني به نفيَ قُدرته على خطابه، وكيفَ ينفيها وهو قد خاطبَه، ويحتمل أيضا أنهم كانوا يُمنعونَ من سماع بعض ما يضرون به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخباره وأحواله وعن أمته، ويُمنعون من ذلك ويُحال بينَهم وبينَه مع حرصهم عليه وطلَبهم له، وليس ذلك من باب تكاليفهم في شيء. وأما قولهم: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) ، أي: لا يستطيعون معارضةَ القرآن والطعن عليه بوجه يوجبُ فساده وتناقضَه، وكونه شعراً ومن أساطير الأولين، كما زعموا ذلك وادعوه. ويُحتملُ أن يكونَ أرادَ أنهم لا يستطيعون جعلكَ مجنونا كما ادعوا ذلك عليك أو الكشف عن أنك ساحرٌ على ما ادعَوه وراقَبوه، وليس هذه السبيل التي أمروا بها فيكون ذلك تناقضا على ما قدروه. فأمَّا قوله تعالى: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ) ، فلا تناقضَ بينَه وبين قوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) . لأنه عنى تعالى - وهو أعلمُ - لا خلةَ فيه تنفعُ وإن كانت هناك خُلةٌ لا تنفع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 فيمكن أن يكون أراد لا بيعُ فيه ولا خلة أي لا خلة مبتدأة، مستأنفة لما الناسُ عليه من شغل العرضِ والحسابِ والجزاء والثواب والعقاب. ويُحتملُ أن يكون أراد به لا خلةَ في الآخرة بين أهل النار، فكَأنه قال الأخلاءُ في الدنيا يومئذ أعداء لا تنفعُهم خُلَّتُهم التي كانوا في الدنيا عليها، ولم يُرد إثباتَ الخلة في الآخرة ِ من حيثُ نفاها فتعالى عن ذلك، فبطلَ ما قالوه. وأما قولُه: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) . وقولُه: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) . فلا تناقضَ بينَه وبينَ قوله: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، و (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . ونحوُه، لأنه عنى وهو أعلمُ إلا لتعلمَ أنتَ يا محمدُ ويعلمَ الذينَ معكَ فذكرَ نفسَه وأرادَ غيرَه، وذلكَ شائع في اللغة، والقائلُ بقولٍ يُريدُ أن يفعلَ كذى ليعَلَم ويحَتَج لكذى، ليعلمَ مَن المحق من المُبطِل، والقوي من الضعيف. أي: ليعلمَ ذلك منَ شك فيه دون المحتج المتقدم العلمُ بصحةِ ما يُحتج له. ويُحتمل أن يكونَ أرادَ بقولهِ إلا ليَعلمَ أتباعُ الرسولِ ممن يتبعهُ ممن هو كائن موجود، فإنه قد عَلِمَه قبلَ كونه متيقنا معروُفا وهو يَعلمهُ إذا كان. ووجد ثابتا موجوداً، وكذلكَ قولهُ: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) ، أي حتى تعلمَ أنت وهُم أو حتى نعلمَ المجاهدينَ مجاهدين، ونعلمَ جهادَهم كائناً موجوداً، لأنه يعلمُه قبلَ وجودهِ معدوُما ويعْلَمهُ إذا وجُد كائنا موجوداً. والتغييرُ والوقتُ جاري على معلومهِ لا علي نفسِه تعالى وعلمِه، لأنه لم يزل بصفاتِ ذاتِه غير متغيرِ ولا حائلٍ على صفته، والعلمُ من صفاتِ نفسِه. وقيل إن اللهَ تعالى لما أمرهم باتباع الرسولِ ونهاهُم عن المفارقةِ والانقلابِ علي الأعقاب، قال: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 أي: فليتبعوا الرسولَ ولا ينقلبوا على أعقابِهم، فنعلَمُهم عندَ ذلك منقلبين. ومثلهُ قولُ الشاعرِ: لا أعرفنَّك بعدَ الموت تندبني ... وفي حياتي ما زَوّدتني زادي أي لا تكن كذلك، ولا تفعل هذا فأعرِفُكَ به وفاعلاً له على مذهبِ النهيِ والتحذير له من ذلك، ومن أن يُعرَف بهذِه الصفة، والنهيَ على الحقيقة نهي عن المعروفِ الذي هو الفعلُ لا عن المعرفةِ التي هي فعلُ المعلومِ أو صفته، وكذلك إذا قال القائل: لا أريَتك ها هنا ولا أسمعُ لك كلمة، فإنّما هي نهي عن الكونِ المرئيِ والكلامِ المسموعِ المتعلقَين بقدرة المكلَّفِ الموجود، وليسا بنهيٍ عن رؤيةِ الزاجرِ المتقوي وسمعِه، لأنّ ذلك ليسَ من مقدورات المخاطبِ الموجود، فعلى هذه التأولِ يسوغُ حملُ الآيةِ وفي إبطالِ ذلكَ إبطالُ ما قدّره. فأمّا قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ، وقولُهم يجب أن يكونَ كذِباً لأنّنا نرى السمواتِ والأرَضَ في غيرِ كرسيٍّ ولا شيءَ يحيطُ بهما، فإنّه لا تعلقَ لهم فيه، وذلكَ أنه أراد بهذا وهو أعلم أنّ له كرسيا قَدرُ عِظَمهِ وسَعَته، قَدْرُ عِظَمِ السمواتِ والأرضينَ وسَعَتِهمِا، ولم يَردْ أنّهما في الكرسي، كما يقولُ القائلُ قد وسِع حلمُ زيدٍ الإغضاءَ عن كلِّ أحَد وإن لم يُوجَد من كل أحدٍ مكروه عليه حلمٌ عنه. وقد يُمكنُ أن يكونَ أرادَ بالكرسي القدرةَ والسلطان، والكرسُي عند العربِ الأصل، فلمَّا كانت الأشياءُ كلُّها داخلةَ ثمَّ قُدرته تعالى وسلطانه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 صارَ سلطانُه أصلاً لكلِ قدرةٍ وسلطانٍ لأحد، ولكل مقدورٍ مخترع، فقالَ لأجلِ ذلكَ وسِعَ كُرسيُّه السمواتِ والأرض. وقد يمكنُ أن يكونَ أرادَ بقولهِ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) عِلمُه المحيطُ بجميعِ الأشياءِ وبجميعِ السمواتِ والأرضِ وما فيهما وبينهما. والعربُ تُسمّي العلمَ كرسيًّا قال الشاعر: مالي بعِلْمكَ كرسيٌّ أكاتمُهُ ... وهَل بكرسي علمِ الغيبِ مُخلوقُ وقال آخرُ: يحفُ بها بيضُ الوجوهِ وعصبه ... كراسيَّ وبالأحداث حينَ تنوبُ يعني بكراسي: علماءَ بما كان وما يحدث وينوب من الخطوب. فأمّا قولُه: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) . وطعنكُمُ عليه بأنّه كذبٌ وأن أحداً من أولئكَ ومن غيرِهم لا يتمنّى الموتَ بل يأباه ويكرهُه، فلا تعَلُّقَ لهمُ فيه من وجهين: أحدُهما: أنّه لا يمتنعُ أن يكونَ فيهم من قد تَمنى الشهادةَ وأحبّ لقاءَ اللهِ تعالى بما يعلمهُ ويرجوه من تحصيلِ ثوابه. والوجهُ الآخر: أنّه أرادَ بذكرِ الموتِ أنّهم كانوا يتمنونَ اللقاءَ والحرب. ثم قالَ: فقد رأيتموه أي فاصبروا على ما كنتم تمنّونه ولم يُردِ تمنّي مفارقةَ الحياة، فبطلَ ما قالوه، وقد يُسمّى اللقاءُ والحربُ موت على معنى أنه من أسبابِ الموت، وكذلك يقال لمن هو في الصف والشدة إنه في الموت. أي: في الشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 قال الشاعر: يا أيها الراكبُ المرُخي مطيتَهُ ... سائِل بني أسدٍ ما هذه الصوتُ وقل لهم بادِروا بالعُذر والتَمِسوا ... قولاً يبرئكُم إني أنا الموتُ ولم يَرِد أنه ضد الحياة، ولكنه عنى أنَّه يكون فيه ما هو من أسباب الموت فبطل ما توهموه. فأمَّا قولهُ تعالى: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) . فإنه لا تنافي أيضا بينَه وبينَ قولهِ: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، و (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) ، و (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) ، وما جرى مجرى ذلك، لأن اللهَ تعالى لا يجوزُ أن يكْتمَ شيئا، لكونه عالما بالغيوب، وما أضمرتْهُ القلوب، وانطوَت عليه النفوس، وإنما أرادَ تعالى لو تسوَّى بهم الأرض، أي: تمنوا أن تُسوَى بهم الأرضُ وتمنوا أن لا يكتموا الله حَديثا، فحذفَ واوَ العطفِ اقتصاراً على مفهومِ الخطاب، وأرادَ بقولهِ: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) ، أي: لا يتهيأُ لهم كتمانُ شيءٍ من أعمالِهم واعتقاداتِهم وإخلاصِهم ونفاقِهم عنه. ولا يستطيعون ذلك لكونه عالما بما ينطوي عليه، فكأنه قالَ لستُ ممن أكتمُ شيئا أو يُنكتمُ عنى شيء. ويمكن أيضا أن يكون في جُهالِ الناس من ظنّ أنه إذا اسْتسر بشيءٍ في نفسِه انكَتمَ يومَ القيامة عن ربه، وكانَ اعتقادهُ هذا كفر وضلال فإذا وردَ أرضَ القيامةِ وحاسَبه على اعتقادِه وسرائرِه وذاته، لم يكن اعتقد في الدنيا كتمانَ شيءٍ عنه تعالى لما انكشفَ وعلم ضَرورةً أنّ الأسرارَ غيرُ خافيةٍ ولا منكتمةٍ عنه، فندمَ عند ذلكَ على جهلِه واعتقادِه فيه سبحانه ما يستحيلُ ويمتنعُ في صفتِه، وإذا كان ذلكَ كذلكَ زالَ ما قدَّروه وبطلَ ما توهموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وأما تعلقهم بقولي: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقولُهم كيفَ يُخبرِ عنهم بذلكَ وهُم مشركون، فإنه لا تعلُّق لهم أيضاً فيه من وجوه: أحدها: أن هذا القولَ حكاية عنهم وخيرٌ عن قولهِم ولم يقل الله إنه هُو يقولُ يومَ القيامةِ إنهم غيرُ مشركينَ فيكونُ ذلك نقضاً لإخبارِه عنهم أنَّهم مشركون وإذا كان ذلك كذلكَ بطلَ ما قدَّروه. وقد يُحتمل أيضا أن يكونوا يُخبرونَ بذلكَ عند أنفسِهم عن ظنّهم وتوهُمِهم أنهم كانوا غيرَ مشركينَ بالله، فيحلفونَ يومَ القيامة أنهم ما كانوا عن أنفُسهم في الدنيا مشركينَ وإن تَبيَّن لهم يومَ القيامةِ أنهم كانوا مشركين. ويُحتمل أيضا أن يكونوا يحلفون يومَ القيامة أنهم ما عَبدوا الأصنامَ في الدنيا على وجهِ الإشراكِ باللهِ واعتقادِ استحقاقِها للعبادةِ على وجهِ ما يستحقُه الله، وإنما عَبدناها على وجه التقربِ إلى الله، وإن كان نفسُ عبادتِها على هذا الوجهِ شركٌ بالله. ويمكنُ أيضا أن يكونوا إنّما يقولون هذا القولَ ويحلفونَ بهذه الأيمانِ يومَ القيامةِ إذا استُديم العذابُ وزفَرتْ بهم جهنم، وأمَّلوا بهذا القولِ والحلفِ والاستغاثةِ والضجيجِ أن يُخففَ عنهم من عذابهم، فيقولون عندَ تأميل ذلكَ بالصياح: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) . و (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) ، و (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ، و (نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، ونحوَ هذا من القولِ رجاءَ التخفيف، قال الله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 أي: كيفَ أخلفت آمالُهم وظنونُهم بهذا القول، وكيف يكذبونَ في قولهم: (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، رجاءَ التخفيف، وهو لا ينفَعُهم. قال الشاعرُ: كذبتم وبيتُ اللهِ لا تأخذونَها ... مراغمةً ما دامَ للسَّيفِ قائمُ يعني كذبت آمالكُم، وأخلف ظنكُم وقد قيل: إنَّ معنى كَذبوا على أنفسهم، أنّهم أوجبوا بقولهم هذا وبكفرِهم أيضاً في الدنيا على العذاب. كما يقال كُتِبَ عليهم الحج أي: وجَب. فأمّا قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) . فإنّه لا اختلافَ ولا تناقُضَ فيه، لأنّه عنى سبحانَه وهو أعلَم ما يُومنُ أكثرهم بلسانه إلا نفاقاً وهو مشرك بقلبِه، ولذلك قال: (قُل لَم تؤمِنُوا) ، ويمكنُ أن يكونَ أرادَ وما يُؤمنُ أكثرهُم بالله أي ما يصدّق أكثرُهم باستحقاقِ اللهِ للعبادةِ إلا وهم مشركون مع ذلك، بتصديقِهم لاستحقاقِ الأصنامِ والملائكة، وكلّما عبدوه العبادة، كما يستحقُها الباري تعالى، وذلكَ شرك بالله، فلا تناقُضَ في هذا، ويُحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) . بعد إيمانهم فيكونُ معنى مشركون إلاّ وهم يشركون في الثاني، ويكون الخبرُ خاصاً فيمن عُلم ارتدادهُ بعدَ إسلامه، وهذا أيضا ينفي التناقضَ الذي توهموه إبطالاً ظاهراً. فأمّا قولُه تعالى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) . فإنه لا تناقضَ بينَه وبينَ إخبارِه بأنهم يكذّبونه، وقد كذَّبوُه في كثيرٍ من المواضعِ كقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 (إِفْكٌ افْتَرَاهُ) ، و: (إِفْكٌ قَدِيمٌ) ، و: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) ، و: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) . (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا) ، وأمثالُ ذلكَ مما يطولُ تتبعه. لأنه تعالى إنما عنى بقوله: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) ، إنهم لا يستطيعون جَحد حُجتك ومعارضَةِ آياتك، وإقامة برهانٍ على تكذيبك وكذبك، فلمَّا عَجزوا عن ذلكَ قالَ فإنّهم لا يكذبونَك عندَ الناسِ بحجةٍ تكشف عن تكذبك، ولا يكذبونَك أيضاً بمعناه، ولم يرد بذلكَ أنهم لا يكذبونه في شيءٍ يخبرهُم بِه. ولا أنهم لا يقولونَ إنه كاذبٌ ولكنه عليه السلام لا يصيرُ بذلك كاذباً، وإنما يكونُ مكذبا، ومكذبا إذا أقاموا على كذبِه حجة وبرهانا. فأمَّا قولُه تعالى في قصةِ الملائكةِ والرسل: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) ، فإنه لا تناقض بينه وبين إخباره عن كونهم كراما كاتبين وعن قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ، وكيف يجيء بأنبياءَ وملائكة للشهادةِ على الأمم، وهُم يقولونَ إنّنا لا علمَ لنا بما هُم عليه، أو بما كانو عليه، وذلكَ أنه إنما يقول الملائكةُ والرسلُ: إنه لا عِلمَ لنا بسرائِرهم وما في ضمائرِهم من إخلاص لك ونفاق، أو لا عِلمَ لنا بما استسروا به من الأعمالِ دونَ أنبيائِهم، ولا علمَ لنا بما حدثَ منهم بعدنا وبعد مفارقتنا لهم، فأمَّا أن يقولوا لا عِلمَ لنا فيما قد عَلموه ورأوه وشاهَدوه من أفعالِ الأممِ الظاهرة، فذلكَ محالٌ في صِفتهم فبطلَ بهذا ما قالوه. وأمَّا قولُه: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، فإنه ليس بمخبر عن إثباتِ قولهم لذلكَ حتى يكونَ نقيضا لإخباره عنهما بأنهما مؤمنان، وإنما هو قولٌ صورتهُ الاستفهام، وإنما يقال لهما ذلك في القيامه على مذهب التقرير لهما، ليسمعَ مدَّعي ذلك عليهما وأنهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 قالاه إنكاراَ لقولهِ وتكذيبِهما له، وليس ذلك على وجهِ الاستفهام لهما ولا على تحقيقِ الإخبارِ عنهما بقول ذلك ولا على التقريع لهما به، وإنّما هو على وجهِ ما قُلناه. وأما قولُه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، فإنه لا تناقضَ بينهُ وبينَ إخبارهِ بأنه خَلقَ آدمَ وأسجدَ له ملائكتهُ قبلَ خلقِ ولدهِ وتصويرِهم، لأنّه تعالى لم يُرد بقولهِ ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة قبل خلقِ ولدهِ وتصويرِهم، لأنّه تعالى لم يرُد به الترتيبَ والتراخي، وإنما جعلَ ثم ها هُنا بمعنا واوَ الجمع، فكأنه قال: خلقناكم وصوّرناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وواوُ الجمعِ لا توجبُ الترتيبَ ولا تراخيَ ولا تعقيب، ومثلُ هذا شائع في اللغة، قال الشاعر: سألتُ ربيعةَ من خيرها ... أبا ثم أمًّا فقالت يزيداَ يريد أن يزيدَ خيرُهم أبا وأما ولم يرد بثُم ها هنا التراخيَ والترتيب. وإنما أرادَ سألتُ ربيعةَ مَن خيرها أبا وأمَّا، وهذا يبطل ما قدروه. ويمكن أيضا أن تكون ثمَّ إنما جاءت لنَسَقِ خبرِ على خبرِ كأنّه هو الذي أخبرك أنه خلقكم وأخبَركم أنه صوركم، وأخبرَكم أنه أسجدَ الملائكةَ لآدمَ وأمرها بذلك، وهذا الأمر بالإسجاد هو المتقدم، وقد وقعَ في الخبر متأخرا، وذلك شائع في اللغةِ والعربُ تقول: فلان جواد كريم طريف ثم شريفُ الوالدين، ولا يعني بذلك أن شرفَ والدَيه يكون بعدَ هذه الصفات. بل هو متقدم، وإن تأخَّرَ في الذكرِ والخبر. وكذلكَ الجوابُ عن قولهِ تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) . وهو شهيد على ما يفعلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 قبلَ أن يرجعوا إليه، وإن تأخر في الذكر، وثم ها هنا بمعنى الواوِ على ما ذكرناه أو بمعنى مع، كاته قال وهو مع ذلك شهيا على ما يفعلون ثم صورناكم، وقلنا مع ذلك للملائكة اسجدُوا لآدم، وإذا جُعلتْ ثمَّ بمعنى مع أو بمعنى الواو بطل تَوهُمُهُم وما حاوَلوا به الطعنَ في القرآن. فأما قولهُ في إخباره عن صالح: (فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) . وليس يُنقَضُ لإخباره عن ثوابِ الرسلِ ورفعِ درجتِهم ومنازلِهم بغيرِهم على ردائتِهم وتكذيبِهم، لأنه لم يُرِد بقولهِ: فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم. وضلالٍ وشر لاحق بكم دوني، وكذلك قولُه: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) . ليس بتحسرٍ من الله، لأن التحسيرَ لا يجوزُ عليه، ولكن يا حسرةً لهم في تخلفهم عن إجابة الرسل، وكذلك يقول القائل منَّا لمن يَعِظُهُ ويرشدُه إذا طغى ولم يقْبل: ما تريدُ بي إلا شرّاً ووبالا، يعني بذلك شراً ووبالاَ عليكَ دوني فكذلكَ تأويلُ الآية وهذا يُبطل كيدَهم وإلباسَهم إبطالاً ظاهراً بيِّنا. ْوأما قولُه تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) ، فإنه لا منافاةَ أيضا بينَه وبينَ قوله: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) . لأنه تعالى لم يرد بالآية الثانية نفيَ الموازنَةِ ونفيَ الموازين، وإنما أرادَ أحدَ أمرين: إما أن يكونَ أراد أننا لا نقيمُ لهم مع أمرهم قدراً ولا جاها ولا نخلِطُهم بأهلِ الجاهِ والأقدارِ عندنا كما يقال: فلان لا وزنَ له عندَ فلانٍ يعني بذلك أنه لا قَدْرَ له، وليس يعني أنه لا يزن شيئا وأنه لا ثِقل له، ولا يمكنُ وزنُه. أو أن يكونَ أراد أننا لا نقيمُ لهم يوم القيامةِ وزنا مستقيما ينفعهم، إذا كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 أعمالهم باطلة وطاعاتُهم معدومة، مُحْبَطَةً فموازينُهم يومئذٍ خفيفةٌ شائلةٌ لا حسنة ولا طاعةَ تردها وتقوّمها، فلا نقيم وزنا إلا ناقصا متفاوتاً. فأما تعلُّقُهم بقولي تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) . وقولهم مَثَّلَ الخلقَ بالحَرَمِ والثبتَ من الأماثلِ والأفاضلِ كعبد اللهِ بن الزبير. ومن جرى مجراه، وهذا تكذيبٌ للخَبَر، فإنه لا تعلُقَ لهم فيه، لأنّ هذا القولَ خرجَ مخرجَ الخبرِ والمرادُ بهِ الأمرُ بأمانِ منْ دخلَ البيت، وأنْ لا يُقْتَلْ ولم يُرِدْ الإخبارَ عن أن كل داخلٍ إليه آمن، وعلى مثلِ هذا خرجَ قولُ الرسول: "من ألقى سلاحه فهو آمنٌ، ومن دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمن. ومن دخلَ الكعبةَ فهو آمن "، إنَّما قصدَ بِه الأمرَ بأمانِ من ألقى سلاحه. ودخلَ هذه المواضع، ولم يُرد بذلكَ الخبر، ومثلُ هذا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، وهو يعني بذلك الأمرَ لهم بالتربُّصِ دونَ الخبرِ عن تربصِ كل مطلقةٍ لأنها قد تعصي اللهَ ولا تتربص، وكذلك قال: (ومن دخله كان آمنا) أي: أمِّنوا من دخله وهو على صفةِ من يحبُّ أن يؤمَّن، فمن لم يفعلْ ذلكَ عصى وخالف، ومتى جُعل هذا القولُ أمراً بطلَ تمويههم. وقد يمكنُ أيضاً أن يكون أرادَ بقوله: ومن دخله كان آمناً عام الفتح. وقد قال الرسول صلّى اللهُ عليه: "من ألقى سلاحَه كان آمناً ومن دخلَ دارَ أبي سفيانَ كان آمناً ومن اعتصمَ بالكعبةِ كان آمناً ومن أغلقَ بابَه كان آمنا". فلا يُناقضُ عدمُ الأمنِ في غيرِ ذلكَ الوقت وجودَه فيه. ويُحتملُ أن يكونَ أرادَ أنّ كل من دخلَ البلدَ الحرامَ الذي هو مكةُ كلُّها كان آمنا في بعضِ الأوقاتِ دونَ بعض جميعها، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما توهموا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 فأمَّا قولُه: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ، إنه لا تناقضَ بينَه وبينَ إخبارهِ عنهم بالضجيج، والاستغاثةِ وعضِ الأناملِ والتأسف، والحسرةِ وشكوى العذابِ والآلام، لأنّه لم يُقل إنهم يصبرونَ على نارِ جهنَّم، فيكونُ ذلكَ نقيضاً لإخبارِه عنهم بالضجيجِ والاستغاثة، وإنما قال: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ، يقولُ: فإن يصبروا أو يجزَعوا لا ينفعهم ذلك فإن النارَ مثوىً لهم. ويمكن أن يكون إنما أرادَ بقوله: فإن يصبروا على آلهتهم والعبادةِ لها ومداومةِ تعظيمها، فالنارُ مثوىً لهم، وإن ينتقلوا عن ذلك ويرجِعوا عنها يَسْلموا، لأنّ اللهَ سبحانه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا) ، فقال في جوابِ ذلك: فإن يصبروا فالنار مثوىً بهم يعني ما قالوا إنهم صَبروا عليه. فأمّا قولُه تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) . فإنه أيضاً غيرُ منافٍ لإخبارِه عن إرسالهِ بالآيات. وقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ، وإخبارِه عن انفراقِ البحرِ وقلبِ العصا حية، وإبراءِ الأكمهِ والأبرص، وإحياءِ الموتى، وغيرِ ذلك، من ناقةِ صالحٍ وطوفانِ نوح، لأنّه يُحتملُ أن يكون عنى تعالى وما منعنا أن نرسلَ بالآياتِ المهلكةِ المُصطَلمةِ إلا أن كذبَ بها الأولون، فكأنه قالَ حُكمُنا بإرسالها على من كذَّب بها من الأولين، وليس من حُكمِنا أن نرسلَ بها على من كذّبَ بها من أمةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه. ويمكن أن يكونَ إنما أرادَ وما منعنا أن نرسلَ بالآيات التي طلبَهَا اليهودُ وقومُ محمدِ عليه السلام إلا أننا قد حكمنا أنّنا إذا أرسلنا بها وكُذبت عجلنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 العقابَ واصطلمنا، فقال حُكْمنَا بذلك منعُنا من أن نرسلَ بها في هذه الأمَّةِ وهذه الآيات ِ نحوَ قوله: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) ، وقوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) . ونحو ذلك. ويمكنُ أيضا أن يكون تأويل قولهِ وما منعنا أن نرسلَ بالآيات إلا أن كذبَ بها الأولونَ، وتكون إلا ساقطةَ وعلى وجهِ الزيادةِ في الكلام، فكأنّه قال: ما منعنا أن نُرسلَ بالآيات تكذيبُ من كذبَ بها من الأولين، بل نُرسل بها وإن كُذبتَ فيما سلف، ومثلُه قول الشاعر: وكل أخِ مفارِقُه أخوهُ ... لَعَمروُ أبيكَ إلا الفَرقدانِ أي: والفَرقَدان، فدخل إلا زيادةَ في الكلام، وهذا يبطلُ أيضا ما ظنوا الانتفاعَ به. وأمَّا قولُه تعالى: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) ، فإنّه لا منافاةَ بينَه وبينَ إخبارِه بأنه آتى محمدا - صلى الله عليه وسلم - الفرقانَ وأنزلَه عليه، ليكونَ للعالمين نذيرا، لأنّ أكثرَ ما فيه أن يكونَ آتاهُهما جَميعا الفرقان، وأنزل عليهما، وهذا غيرُ متناقضِ ولا متضادِ لو كان المرادُ بالفرقانِ كتابَ محمدِ صلى اللهُ عليه، وكيفَ وليسَ ذلكَ هو المراد، فيحتمل أن يكونَ أراد بفرقانِ موسى آياتِه التي فرقَ بها البحرَ وفرقَ بها بينَه وبينَ فرعونَ والسحرة، فتكونُ تلك الآيات فرقانا بين الحقِ والباطل، والنبي والمتنبي. ويُحتمل أيضًا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 يكونَ أرادَ بذكرِ الفرقانِ انفراقَ البحرِ دونَ كتابٍ أنزله سماهُ فرقانا، لأنه قال: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) . ويُحتملُ أيضا أن يكونَ آتى موسى كتابَه وكتابا كان قَبلَه اسمُه فرقانٌ كاسم كتابنا، ويُحتملُ أيضا أن يكونَ أرادَ بالآيةِ أننا آتينا موسى ذكرَ القرآنِ الذي أنزلناهُ عليكَ وأوحينَا بذكرِه إليه ليُصدقَ ويوصي بتصديقِ من يُنزَل عليه ويثبتونَه، ليكون ذلك حجةً على قومه، وعلى وجهِ الحجةِ للنبي صلى اللهُ عليه في دفعِ ذلكَ عن موسى. ويمكنُ أيضا أن يكونَ عنى بالآيةِ وإذ آتينا موسى الكتاب وآتيناكم الفرقان فحذف وآتيناكم على مذهبِ الاختصارِ والاكتفاءِ بشاهدِ الكلام. وإخراجِ القول على المعنى، كما قال الشاعر: تراهُ كان اللهَ يجَدعُ أنفَه ... وعينيه إنَ مولاهُ بانَ له وفرُ أي ويُعميَ عينيه، فَحَذَفَ واختصَر، وإذا كان ذلك كذلكَ سقطَ ما تعلقوا به من التأويل. فأمَّا قولُه: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) ، فإنه لا منافاةَ بينَه وبينَ إخبارِه عن قولهم في الدنيا، لأنه يمكنُ أن يكونوا يحَيون في قبورِهم ويُعذبون بعذابٍ دونَ عذابِ الآخرة، ثم يقالُ لهم في الآخرةِ أدخلوا أشد العذاب، ووقتُ عذابِهم في القبرِ غير وقتِ موتهم في الدنيا. ويمكنُ أن يكونَ أرادَ نقلَهم في جهنمَ من طبقةٍ إلى طبقةٍ أسفلَ منها إلى ما هو أشد منه، فقال لهم: أدخلوا آلَ فرعونَ عذابا أشد مما كنتُم فيه. ويجوزُ أن يكونَ أشد العذابِ هو نفسُ العذابِ بجهنمَ الذي وُعدوا به، فقيل لهم أدخلوا أشد العذاب، وهو الذي كنتم توعدونَ به، كما يقال القائل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 أدخلوا فلاناً المسجى والمُطْبقَ ثم يقال أدخلوه إلى أضيقِ محبس، ويكون الأضيقُ هو السجن، والمُطْبقُ الذي ذكرَه من قبلُ فلا تنافي بينَ هذا الكلامِ وبين شيءٍ من كلامِ اللهِ سبحانَه، وقيل معناهُ أنهم بعُرضِها أي: قاربَوا دخولَها كما يقال فلان بعُرضِ هُلكَةٍ أي: قد قارَبها وقيلَ أعمالُهم أعمالُ من يستحقُ أبداً المقامَ على الذُلِ ونحوُ ذلك، فكأنهم يغدونَ ويرجعونَ إليها بأعمالِهم كما يقولُ القائل: غُدو فلانٌ يغدوا ويروحُ إلى النارِ أي من غدوٍ ورواحٍ على أعمالِ أهلِ النار. فأمَّا قولُه تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) . فإنه لا مناةَ بينَه وبينَ قولهِ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) . وقوله في المرسَلين: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) . ونحوه من إعذار الرسل، لأنه أراد بقوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، سؤالَ استخبارٍ واستفهامٍ لإحصائِها وتقدمِ العلمِ بها والكتابةِ لها، وأرادَ بقوله: (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ، مسألةَ تقريرٍ للحجةِ على الكافرِ ليستَمعوا قولَ الرسلِ وشهادتَهم عليهم بالأداءِ إليهم. ويمكنُ أن يكونَ سؤالُ الرسلِ سؤالَ تخصيصٍ لهم وأمرٍ بإقامةِ الشهادةِ على الأمم، كقولِ القائل: هذا يقوم، وهذا يضربُ زيداً أي افْعل ذلكَ كما أمرت، وقد يكونُ السؤالُ سؤالَ تقريعٍ بالعجزِ كقولك: هل تعلمُ من الغيبِ شَيئا، وهل تستطيعُ أن تتكلَّم، وقد يكونُ السؤالُ سؤالَ توبيخٍ وتفنيدٍ مواقفةٍ على تركِ الواجب، كقولِ الشاعر: ألم أكُ جاركم فتَركتمُوني ... لِكَلبي في دياركُم عَواء يريدُ التوبيخَ لهم بتضييعِ جارِهم وقلةِ حفاظِهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 فأمّا قولُه تعالى في قصةِ النتي صلّى اللهُ عليه وأمرِه له بأن يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، فإنّه غيرُ مناقضِ لإخبارِه عنه بأنّه يتلقى وخُبِّرِ عما كان ويكونُ وعن أمورِ السموات، لأن ذلك إنّما يعلمُه ويدركهُ بتوقيفِ جبريلَ له، وليسَ ذلكَ من الغيبِ في شيء، وإنما - العالمُ بالغيب من عَلمَه بغيرِ خبرٍ وتوقيف، وحجةِ ودليلِ وضرورةِ وطباع، وهو اللهُ تعالى. ويُحتمل أيضًا أن يكون تأويلُ ذلك أنّني لا أعلمُ وقتَ مولي فأسكثرُ من فعلِ الطاعاتِ والبِر، وهو وإن عَلم بعضَ الغيوبِ بالوحي إليه فغيرُ عالمٍ بجميعها، ويجوزُ أيضًا أن يكونَ معنى الآية ِ إن أهلَ مكةَ لما قالوا للرسولِ ألاَ يُخبرُكَ ربك بالبيعِ الرخيص فتشتريه فتربحَ فيه، ويُخبركَ بالأرضِ التي تُريدُ "أنْ تجدبَ فترحلَ عنها إلى الخَصبة، فأنزل اللهُ قُل: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، أي: لا أعلمُ هَذا ولا يجبُ أن أعلَمَه، ولا يجبُ على اللهِ إعلامي إياه، لأن لهُ امتحانَ قلبي ونفسي بما شاء. فأما قولهُ في قصةِ إبراهيم: (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ، فإنّه ليسَ بنقيضِ، لإخبارِه بأنه (لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، مُنقاد، لأنّه أرادَ وهو أعلمُ بقولهِ أي تكلمنا وتسألُنا في قومِ لوط، ولم يُرد أنَّه يناظِرُنا ويخاصِمُنا، ويرومُ إبطالَ قولنا وإخبارنا وأمرنا وهذا كما يقولُه السيدُ منا لعبدِه، ومن يجبُ عليه - طاعتهُ إذا سأله في الأمرِ: أنتَ تجادلني في هذا وتحاجني، أي: تلحُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 في المسألةِ والطلب، ويُحتمل أن يكونَ أرادَ بقوله يجادِلُنا في قومِ لوط، أي: يجادلُ رسُلَنا من الملائكةِ الذينَ أخبروه بأنهم جاؤوا بعذابِهم واصطلامِهم. ويُحتمل أن يكونَ ذلكَ الجدالُ ليسَ بمنازعةٍ ومناظرةٍ إنّما هو سؤال لهم وبحثٌ عن قصتِهم كقولهِ: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) . ونحوَ ذلك مما باحَثَهم عنه وفيه. فأمَّا قولُه تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) ، فإنّه ليس بنقضٍ لقولهِ: (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) ، و: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) ، لأنه لم يُرد بالخبوِ السكونَ والهدوء، وإنما أرادَ كُلما أرادتْ وقاربتْ أن تخبوا زدناها سعيراً، ويَحتمل أن يكونَ أرادَ كلما قدروا أنها تَخبوا وتَهدأ زدناهُم سعيراً، بخلافِ ظنهم. ويمكنُ أن يكونَ أرادَ أن الخبوَ هو نفسُ الزيادةِ في السعير، فكأنه قالَ خبتْ ازدادَ حرُّها وتضرُّمُها وتلَظِّيها، وازدادَ كذلكَ عذابُهم وألمهُم، فيكونُ ذلكَ خبراً عن نفسِ خُبُّوهَا هو نفسُ الزيادةِ في سعيرها الذي به يزيد ألَمهمَ ونحو هذا قولُ الشاعر: فقلتُ أطعِمني عُميرُ تمراً ... وكان تمراً كُمَّثرةً وزنداً فجعل نفسَ الكُمثرةَ والزندَ تمراً. فأمَّا قولُه تعالى: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) ، وهو أكبرُ الحيات. فلا منافاة بينَه وبينَ قوله: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، لأن الجان هو الصغير من الحيّات، - زعموا - لأن التأويل أنه رآها في خفة حركَتها وسرعَتها وتلوِّيها، وتلفُفها كأنها الجانُ الصغيرُ في خِفته وسرعَته، وهذا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 أحسنِ التشبيه، ويمكنُ أن يكون أراد بقوله كأنها جان، كانها من الجن في هول منظرِها، وقبحِهَا وبشاعَتِها والهَلعَ والترويعِ برؤيتها. فأمَّا قولُه: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) ، فإنه أيضا غيرُ منافِ لإخبار اللهِ عنه بتصديقِه وسكونِ قلبِه، لأن تلكَ الخيفةَ طباعية بشرية غيرُ كسبيةِ اختيارية، وليست من الشك في قوله: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ) . في شيءِ ولا من جنسِه ولكنها خيفة بشرية، ويمكن أن يكون أوجسَ خيفةَ في غير الوقت الذي قال له فيها لا تخف، إما قبل أن يقولَ لهُ ذلك إلى أن قال خذها ولا تخف، أو بعد ذلك الوقت، لأنه لم يقلْ لا تخافُ أبداَ فلا تعلقَ لهم في ذلك، ويمكنُ أن يكون تأويلُ الآية أنه خاف أن يُفتَتَنُ قومُه ويظنونَ أن ما أتى به سحر كقول السحرة فقال له: لا تخف إنك أنت الأعلى، أي إن آيتك تنكشفُ عن صدقِكَ وتزيلُ كل ريبِ من قلوب أتباعِك المؤمنينَ فيكونَ كذلك أعلى بالحجة والبراهين. فأمَّا قولُه تعالى: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) ، فإنه غير متناقض. لأنه لم يُرد أنه يكون غيرَ ميتِ ولا حي وإنما عنى وهو أعلم أن حياتَه لا تنعدمُ فيستريحُ من العذاب وإدراك الآلام، ولا يحيى حياةَ طيبةَ يسلَم فيها من العذاب وإدراك الآلام. قال الشاعر: ألا مَنْ لِنفسِ لا تموتُ فينقَضي قَضاها ... ولا تَحيَا حَياةَ لها طَعمُ ولم يُردِ أنَّها غيرُ حيةِ ولا ميتة، وإنَّما أرادَ المعنى الذي وصفناه. وأما قوله تعالى: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) ، فإنه ليس بخبرِ باطلِ على ما توهموه، لأن الغيظَ لا يُسمع، لأنه قد يمكنُ أن يخلق لهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 الآخرة إدراكُ النفسِ للغيظِ ووجودِه في أسماعِهم، ويُسمى سَماعاً للغيظ. وكذلكَ القولُ عندنا في جوازِ سماعِ كل موجودٍ ورؤيتِه من أفعالِ الجوارِح. وأفعالِ القلوب، وأمّا تعلقهم بأنّها جمادٌ لا تَغْتَاظُ فيُسمعُ غيظُها أو لا يُسمعُ فباطل، لأنّه إنّما كَنَّى بذكرِ الغيظِ عن تَسعُّرِها وشدةِ لهيِبها. وقد يمكنُ أن يُحييها اللهُ عز وجل على يُبسها، ويخلقَ فيها غيظا على أهلِها، لأن الحياةَ لا تحتاجُ إلى بينةٍ ولا بلّة، ولا يُضادها اليبوسةُ والحرارة. بل لا تحتاجُ إلا إلى محلها فقط، وقد بينّا ذلك في الكلامِ في الأصولِ بما يُغني عن تأمّلِه، ويَحتمل أن يكونَ أرادَ سَمعُوا لها زفيراً وتلهُّباً، وعلموا عند ذلكَ تغيظَها، واستدلُوا على العلم بالتغيُّظِ والزفيرِ واللهيبِ المسموع،. وسُميَ العلمُ بالتغُّيظِ سَماعا له. فأمّا قولهُ تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) ، فإنه غيرُ متناقضٍ من حيثُ كان السيئاتُ لا تُبدَّلُ حسناتٍ أبداً، لأنّه تعالى لم يعْنِ هذا، وإنما أرادَ وهو أعلمُ أنني أبدلُ عذابهم وجزاءَ سيئاتِهم حسناتٍ في نعيمٍ ورحمةٍ بما أحدثوهُ وجدَّدوه من الإنابةِ والتوبة، فلا تعلُّق لَهم في الآية. فأمَّا قولهُ تعالى: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) . فإنه لا اختلافَ فيه ولا تناقضَ لأنّه لم يكن يعنِ بذلك أنَّها بحيث يجوز أن يراها، ويمكنُ ذلك فيها مع قوله: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) ، والعادةُ على ما هي عليه في رؤيةِ اللهِ وامتناعِ رويةِ الكائنِ فيما هذه سبيله، وإنَّما أرادَ بقوله لم يَكَد يَراها، لم يُرد أن يراها أي: لأنّه لا يطمعُ في ذلك ولا يَرجوه، فكان معنى يريد. قال الأفْوه الأودي: فإن تجتمعَ أوتادٌ وأعمدةٌ ... وساكن بلغوا الأمرَ الذي كادوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 أي: الأمرَ الذي أرادو، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما ظنُّوه. فأما قولُه تعالى: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) ، فتأويلُه أكادُ أدْنيها آتي بها على وجه التقريبِ كذلك، والتهديد، ثم قال: أخفيها لتُجْزيَ كلُّ نفسٍ بما تَسعى، قال الشاعر: هَمَمتُ ولم أفعلْ وكِدْتُ ولَيتني ... تركتُ على عثمانَ تبكي حلائلهُ فأمَّا قولُه تعالى: (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) ، فليسَ فيه نقضٌ لذم من في النارِ ولعنهم، وإنما أرادَ بورِكَ موسى المقاربُ للنارِ التي رآها. كما يقال: فلانٌ في النارِ وفي الماءِ إذا قاربَ ذلك، وإن لم يكن فيه، وكما يقولُ القائل: إذا بلغت المحِولَ ومطربلَ فأنت في بغداد، على وجه التقريب لذلك، فيقال إن اللهَ سبحانَه باركَ بهذه الآيةِ على من في النار. فأمَّا قولُه تعالى: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، فإنّه ليس بنقيضٍ لقوله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) ،: وقوله في المؤمنين: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، ونحوُ ذلك، لأنّه إنّما عنى بقوله: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، مثلُ ما يُجازي به الكفور، أي لا يعاقبَ في النارِ بعقابِ الكُفرِ إلا كافر، ويحتملُ أن يكونَ عنى وهل نُجازي بما جُوزوا به من تغييرِ النّعمِ أو إنزالِ الخَسف والنقم إلا الكفور. فأمّا قولُه تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) ، فإنه غيرُ منافٍ لإخباره عن عصمةِ اللهِ ووفاءِ ربّهُ وتصديقَه، وإنَّما أراد بل جازيتُهم على تعجبهم منكْ وممّا جئت به ويَسخرون أي وهم في تماديهم، ويُمكن أن يكونَ ذلكَ على معنى الأمرِ كأنّه قال: قُل يا محمدُ بل عجبتَ ويسخرونَ على وجهه، على جهةِ الخطابِ لمن تعجبُ مما ينزلُ بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 فأمَّا قولُه: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، فإنه غير منافٍ لقوله: (مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، لأنه أحوال وتارات، فتارة منه تُقدر بألفِ سنة، وتارة بخمسين ألفَ سنة، ويمكن أن يكونَ أرادَ أن الملكَ يعرجُ من الأرضِ إلى حيثُ يخرجُ من السمواتِ ما مقدارهُ من سنّي غيرِه ألفَ سنةٍ من أيامِ الدنيا، فلا تناقُضَ إذاً في هذا. وأمَّا تولُه: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) ، لم يرد أنهُ جعلَها في الكواكب، وإنَّما عنى وهو أعلم، وجعلَ القمرَ معَهُن نوراً فجعلَ فيهن مكاناً معَهن. نافا تو لُه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا) ، فليسَ بخبرٍ على أنها أحياء مكلفة، وإنما قَصْدهُ تعالى تعظيمُ شأنِ حملِ الأمانة، وأن كل أحدٍ يضعفُ عنها، وإن عَظُمَ خَلقْه، ويضعفُ عن أن يطيقها، قالوا: وذلك نحوَ قول العربِ عَرضْتُ الحملَ على البعيرِ فأبى أن يحمله، أي أنه صغير لا يَقوى على الحمولةِ لصغره وضعفهِ. وقيِلَ إنه أراد بذلك أنه تعالى عرضَها على أهل السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبوا أن يحملوها لِثقلها، والقصورِ عن القيامِ بحقها، كما قال (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، يريدُ: أهلَ القرية، وأصحابَ العير، وقولهُ: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) ، يعني: الكَفور بجهلهِ بحقِ اللهِ فيها، واستحقارهِ لها فبطلَ ما قالوه أن تجيءَ السمواتُ والأرضُ ويعرضُ عليهن القيامَ بحقَ اللهِ فيما فرضَه، والخروجَ من جميعهِ فأبينَ ذلكَ واعترفنَ بالعجزِ عنه فلا إحالةَ في هذا ولا تناقضَ من كل وجه. فأمَّا قولُه: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ، وأنَّه ليسَ بنقيضٍ لإخبارهِ أنه هُو وحَدَه كان الرسول، لأنه يمكن أن يكذبو لمَّا كذبوه صاروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 بذلك إلى تكذيبِ من كانَ قبلَ نوع لما بُشروا بنوع ووصُّوا بتصديقهِ وقبولُ قوله، فيصيرُ المكذبُ لهُ مكذبا لمن كان قبلَه، وكذلك هم مكذبونَ لمن بعدَ نوح من الرسل، الذين يخبرونَ بنبوته ومكذبون لمن كان قبلَهُ منهم ممن خبر بذلك، ويمكن أن يكونَ منهم من قَد أدركَ أنبياءَ قبلَ نوح، فكذبهم، أو من اتصلت بهم دعوةُ الرسلِ وحججهُم فكذبهم، وأرسلَ نوحا فكذَّبه أيضا. ويمكن أن يكون معنى قوله: لما كذَّبُوا الرسلَ أي كذبوه، فكذبوا الملائكةَ التي كانت تنزلُ بالوحيِ عليه، وإذا كان ذلك كذلك اضمحل إلباسُهم. فأمَّا قولهُ: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) ، فليس بخبرِ عن باطلٍ لرؤيتنا النجم غيرَ هاوٍ ورؤيةِ ذلكَ وقتَ مَبعث النبي صلّى اللهُ عَليه، لأنّه قد قيلَ إنّ النجومَ قُرْبَ مبعث النبي صلّى الله عَليه كَثرُ انقضاضها وراعَ ذلك قريشا والعرب، وسألوا بعض الكهانِ عن ذلك فقال: إن كانت النجومُ العوامل تنقضُ فهي القيامة، يعني البروجَ الإثنا عشرَ والطوالعَ السبعة، وإن لم تكن هي فيسظهرُ أمر عظيم، فظهرَ بعثُ النبي صلَّى الله عَليه وآياته، فلمّا كَذبت قريش قال اللهُ سبحانَه: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) . أي: هو الذي دلَّ انقضاضُ النجومِ على أمرِه، فلا إحالةَ في هذا ولا اختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فصل ٌ من هذا الباب فأمّا دعوى الملحدةِ تناقضَ ما ورد من آي القرآنِ في الهُدى والضلالِ وخلقِ الأفعالِ والقضاء، وتقديرِ الأعمالِ وتكليفِ ما لا يطاقُ وما يُكثر ابنُ الروانديُّ وأضرابُه من هذا الباب وتَضلُّ به القدرية والمعتزلةُ ومن تابعَهم من التعلقِ بهذه الآياتِ في حملهم لها على غيرِ تأويلِه وما قصَدَهُ اللهُ لها، إمّا للجهلِ بذلك أو لقَصدِ العنادِ وإيثارِ التمويه والإلباس، فإنه لا تعلُّقَ للفريقينِ في شيءٍ منه، ونحنُ نبيِّنُ ذلك بياناً يوقفُ على الواضحةِ إن شاءَ الله. قال الملحدون: وممّا وردَ متنافيا متناقضاً من آي القرآن تناقضاً لا خفاءَ به على أحدٍ قولُه: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) ، وقولُه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) ، وقال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، في أمثالِ هذه الآيات ممّا فيها ذكرُ إضلال الله لمن أضلَّه ونحوِ قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ، وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) ، وقوله: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) ، بعدَ قوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) . وقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ، وقال: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، وقال: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، وقوله: " (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) ، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) . وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) ، وقوله: (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) ، وقوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وقال في هزيمة المؤمنينَ يومَ أحد: (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ، في نظائرِ هذه الآيات مما أخبرَ فيها أنه تعالى تَولى إضلالَهُم والختمَ على قلوبِهم، وتغشيةَ أبصارِهم وجعلَ الأكنةَ على قلوبِهم. قالوا: ثم نقضَ ذلك أجمع بأن خبر في آياتٍ كثيرةٍ أنهم هم المضلون لأنفسهم والخاتمون عليها وتبرّيه من معاصيهِم وإضلالِهم، ونُقضَ ذلك أيضاً بأن أضافَ إضلالَهم مرةً إلى آلهتهِم ومرةً إلى الشيطان، ومرةً إلى فرعونَ والسامري ومرةً إلى الشياطين، وكل هذا متهافتٌ متناقضٌ لا شبهةَ في تناقُضه بزعمِهم. فأمَّا نقضُه لذلك بإضافتِه إليهم فكثير، منه قولهُ سبحانه: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، وقولُه: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وقولُه: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) . وقولُه: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) ، فأضاف ذلك إليهم - دونه، وقولُه: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . وقولُه: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) . فأضافَ ذلك إليهم وقال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، و: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) . يعني عما يَفعلون، فأضافَ أفعالَهمُ إليهم، كما أضافَ فعلَ نفسِه إليه تعالى، وقولُه: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) ، فأضافَ الاتباعَ إليهم. وقولُه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، فأضاف ما عُوقبوا عليه إليهم دونَه. وقولُه: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ، فأضافَ الزيغَ الأولَ إليهم، وجعل الثانيَ عقوبة، وقولُه: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . وقولُه: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) . وقال: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) ، فاستبطأهم استبطاءَ من يَعْلَمُ أن الفعلَ لَهم ومنهم وبأيديهم. وكذلك قولُه: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ) . وقولُه: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 فصل وأمَّا نقضُه ما قدَّمناه - زعموا - بنفيه ذلكَ عن نفسه وبيَّنَ كثيراَ منه قولُه: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) . وقولُه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ،، وقولُه في ذمه الكفار بقولهم: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) ، وقولُه: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) ، فأفَهم بهذا القولِ الذي أخبرَ به عن نفسِه في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) . وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ، في أمثال هذا ما خبر فيه بمثلِ قولِ المشركينَ الذي ذمهم وعيرهم به. وقولُه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) . وقولُه: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) ، وقولُه: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) . وقولُه: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) . وهو قد أخبرَ فيما سلفَ أنه يسألَهُم عن فِعلهِ ويعذبَهُم على قضائِه وقدَره. وذلكَ هو الظلمُ بعينه. فأمَّا نقضُ ما أخبرَ به من تَوليه لإضلالِهم بإضافتِه ذلك إلى غيره من المجرمينَ والشياطينَ وغيرهم فظاهر كثير، منه قوله: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) . وقولُه: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) . وقولُه: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) . وقوله: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) . وقولُه: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) . وقولُه: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) . فأضاف ذلك إلى الشيطان. وقولُه: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) ، ثمّ نقضَ قولُه: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) ، بقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) . وقوله: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) . وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ، فذمَّ من أحبَّ ذلك بما خبرنا به يريد ذلك أجمع، وهذا زعموا تناقضٌ ظاهر لا يأتي من قبلِ حكيم عليم سميعٍ بصير. قالوا ثم أخرج نفسَه والشياطينَ عن أن يكونَ لهم في الإضلال صنعٌ وسلطان بقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) . و (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) . وقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) . وبذمه لهم على هذه الأفعال، ولو كانت من عنده أو من عند قادَتِهم أو من عند الشياطين لما ذمَّهم على ذلك، ولكان ذمُ من بقيَ من قبلِه أولى. وكيف يقول: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) . (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) ، وهو يقول: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) . ويقول: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) ، وكيفَ يسمعُ أو يخنعُ ويستجيبُ من خُتمَ على قلبِه وبصَرِه وسمعِه، وحيلَ بينَه وبينَ قلبِه ورشدِه. واعلموا رحمكم اللهُ أنه لا تنافيَ ولا تناقضَ في شيءٍ مما تلاه الملحدونَ وتعلَّقوا به.، ولا حجَّةَ فيه ولا شبهةَ لقدري يحاولُ بما يتلوه من ذلك إبطالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 إضلالِ اللهِ الضالينَ بالختمِ والطبعِ والتغشية، وتقليبِ القلوبِ والأبصارِ والتفرقةِ بينَ المرءِ وقَلبِه. ونحنُ نكشفُ ذلكَ كشفا يُزيلُ ما حاوَلوهُ من الإلباسِ والتمويهِ ويجلِّي غماءَ الشبهةِ بإذن اللهِ عن ذي الجهلِ والنقصِ منهم. فأولُ ما يجبُ أن نثبته في هذا الفصلِ الفرقُ بينَ الإضلالِ والضلال. فنقول: إنَّ الضلالَ هو الذهابُ عن الحقِّ، وضدّه الهُدى وتصورُ الأمورِ على غير ما هيَ به، وهو من فعلِ النفس، والخبرُ عن ذلك باللسان عبارةٌ عن الضلال الذي في القلب، ومن فعلِ النفسِ وهو أيضاً في نفسِه ضلال. لأنّه خبرٌ باطلٌ وقولٌ كذبٌ وضدّ الحقِّ والصدق، والذي هو الخبرُ عن الشيء على ما هو به، وهو محرَّمٌ على المخبرِ به إذا شرحَ بالكفر صدراً ولم يكن معتقداً به، كما أنّ اعتقادَ الباطلِ معصيةٌ محرَّمةٌ على معتقدها، فقد استوى العقدُ والقولُ الذين ليسا بحق وهما ضدُّ الهدى، والصوابُ في أنّهما ضلالات وذهابات عن الحق أحدهُما عقد والآخرُ قول وخبر، والضلالُ الذي هذه صفَتُه لا يكون إلا لضال به، ومِن ضال يوصَفُ به، ويتعلَّقُ بقدرته إذا كان منتهيا عنه ومأموراً بتركه، هذا أصلُ الضلال، ومنه سُمِّيَ الضلالُ عن الطريق المحجّة إذا عدلَ عنها للجهل بها ضالاّ عن الطريق، ومنه الضلالُ عن الرأي الذي هو الذهابُ عن صوابِه، ومنه الضلالُ عن الحق الذي هو العدول، ومنه سُمّيت الضالّة ضالّة. وقد قيل: إن الضلالَ عن الحق الذي هو بمعنى العذاب، واستشهد قائلُ ذلك بقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) . يعني: في عذابٍ وسُعُر وليس هذا باستشهاد صحيح، لأنه يحتملُ أن يكون عن أنّ المجرمين في الدنيا في ضلال عن الحقِّ وفي سُعُرِ في الآخرة، أو في ضلالٍ في الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 عن الحق، وسُعُر هو نفسُ ضلالِهم عن الحق، وإنَّما سَمى أعمالَهم سُعُراً على معنى أنّه يستحقُ بها الكونَ في السعير، كما قال: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ، يعني على عملِ أهل النار فلا حجّة في الآية، وعلى أنه لو كان الأمرُ على ما ذكَروه لصارَ تقديرُ الكلام إن المجرمينَ في عذابٍ لأن السعيرَ نفسَه عذاب، وهو يُغني عن ذكرِ العذاب، وهذا مستثقل مستغثٌ من الكلام، فوجب أن يكون قولُه: في ضلالٍ يعني ذهابٍ عن الحق، وفي سُعُر من أعمالِهم هذه، أو سيكونُ في سُعُرٍ يوم القيامة، وعلى أنه سَمى العذابَ ضلالاً فعلى معنى أنَّه ذاهب بصاحِبه عن الثواب واللذات، فهو راجع إلى الذهاب عن الجنَّة على وجه الشبه بالذهاب عن الحق، والأمرُ المقصود الذي فيه السلامةُ والنجاة. وقيلَ إن الضلالَ يكونُ بمعنى الهلاكِ بدلالةِ قوله: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) ، أي: هلكنا، وقد يمكنُ أيضا أن يكونَ ضلالُهم في الأرضِ ذهاب عن مواضعَ مقصودةٍ فيها المصالحُ والرشادُ وإن سُلِّم أن الضلالَ بمعنى الهلاكِ والبِلى في القبور، فذلك غير ضار ولا نافعٍ للملحد ولا لقدريٍّ على ما سنُبينه إن شاء الله. وقيل إن الضلالَ يكونُ بمعنى الغفلة، ومنه قولُه: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) . وقولُه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) . أي: تَغفلُ إحداهما، ووجدكَ غافلاً على النبوة، فهداكَ إليها وشرف قدرك بها، وهذا أيضا عائد إلى معنى الذهاب عن الشيء وذلك أن غفلةَ إحداهما التي خِيفت إنما هو ذهابُها عن ذكرِ الحق وإقامة الشهادة عليه بحسب الصواب، وما يجب في التحفل والأداء، والذهابُ عن ذلك بالغفلة ذهاب عن الحق، كما أن الذهابَ عنه بالقصدِ والاعتماد ذهاب عن الحق، غير أن إحداهُما معتمد، والآخرُ غيرُ معتمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) أي غيرَ عارفٍ بشريعةٍ بعينها قامت بها الحجة لحصولِ الفترةِ والذهابِ عن العلم، فذلك ذهابٌ عن أمرٍ من الصواب، الواجبُ على من علمَه وقامت الحجَّة عليه به وإن لم يُكلّفه عليه السلام مع الفترة، وليس كل ضلالٍ مذموما بنفس الاسم وبكونه ضلالاً. وإنما المذمومُ من ذلك ما حظرَه الله ونهى عنه، ولذلك نقولُ قد ضلّ زيدٌ عن الرأي، وذهبَ عليه رُشدَه وإن لم يُقصد بذلك ذمه، بل الإخبارُ عن ذهابِه عمّا قصَده فقط، وربَّما كان قَصْدَه التذكير على المؤمنين. فأمَّا قوله: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، فليس فيه دلالةٌ على أنّه كان من الغافلين عما فعله، بل لا ينكرُ عندنا أن يقعَ منه الذنبُ على وجه العمدِ وإن كان مغفوراً، ويمكنُ أن يكونَ وقع عن غفلةٍ وسهو، أعني القتلَ ولكن ليس حجة ذلك قوله: وأنا من الضالين بل شيء آخر إن دل على ذلك، وكل شيءٍ يُسمّى ضلالاً فإن هذا أصلَه وهو مأخوذ منه ومشبَّه به. فأمَّا الإضلالُ فإنه غيرُ الضلالِ وهو متعلق بالمضل للضالِّ دون الضال بقدرته، وإن قيل أحيانا زيد قد أضل نفسَه بكفره وخلافِه عن الحق، فعلى وجه التشبيه بإضلال غيره له، والإضلالُ الحقيقي الذي هذه الأسماءُ اسمٌ له قولُنا إغواءٌ وتزيينٌ للباطل وتقبيحُ الحق، إنما هو الحيلولة بين المرءِ وقلبِه وإزاغةُ القلوب عن الحق، وخلقِ الباطل فيها الذي هو اعتقادُ غير الحق وقولنا ختَم وطبعَ وغشاوة وصمٌ وعُميٌ وسدًّا إنَّما هو عبارة عن هذا الاسم من المفعول في القلوب والمضاد لاعتقاد الحق والصواب، واللهُ هو المنفردُ بخلقِ ذلك في قسمه لنا به، وعدلٌ عليه في حُكْمِه وقضائِه. والمتفردُ بالقدرة على تقليبِ القلوب والحيلولةِ بينَ أصحابِها وبينها. والقدرةِ على خلقِ ضد الحق فيها لا يُشرِكُه في القدرة على إغواء القلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وتصويرِ الأمور بخير ما هي به، والخلوصُ إلى الطبعِ والختم، ملكٌ مقربٌ ولا نبى مرسل، ولا شيطان متقول، ولا أحدٌ من خلق الله، هذا هو حقيقة الإضلال. وقد يُسمى الدعاءُ إلى الباطل والتزيينُ له، والتحمّلُ في اعتقادِه والوسوسة المخيلةُ لكونه حقاً إضلالا لمن قبل ذلك، وأجاب إليه. واستُصير به وإغواء الشيطان ووسوستُه إضلالاً لمن قَبلَ دون من لم يقبله. وكذلك دعاؤه إلى الضلال ودعاء سائر أئمة الكفر إليه إضلالا لمن قبل ذلك، واستُصير به، وكذلك سحرُ السحرة وفعلُ السمامري الذي هو صياغة العجل إضلالاً وإغواءً لمن قبلَ ذلك واستصير به دون من خالفه، وبعد عنه، وقد يسمّى تسميتُه الضال ومن ليس بضال والحكم عليه باسم الضلال إضلالا، وإن لم يكن إضلالاً على الحقيقة، ولكن على وجه التشبيه له بفعلِ الضلالِ في الغيرِ وبما يستصير به المفعول فيه، قال النجاشي: ما زال يهدي قومَهُ ويُضلنا ... حقاً وينسبنا إلى الكفار ولسوفَ يعلمُ حينَ يلقى ربَّه ... منْ شرُّنا وأحقُّنا بالنّار يعني ما زالَ يسمّينا ضالين ويحكمُ لنا بذلك ويُسمي قومَه مهتدين. وقال آخر: وما زالَ شرفُ الراحِ حتى أشرني ... صديقي وحتى سائني بعض ذلك يعني: تسميةُ صديقَه وجليسَه له شريراً دون خلقِ الشرّ فيه، وهذا إن جازَ استعمالُه فمجاز وعلى وجه الاستعارة والتشبيه بالإضلال الذي هو نفسُ الذهاب عن الحق، وكان الخبرَ بذلك قد صارَ بمثابةِ من فعلَ ذلك فيه إذا كان عند المسمى قضيّةُ ما سماه به، كما إن من خلق به الضلالُ ضالّ عندَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 من خُلقَ الضلالُ في قلبِه، وتسميةُ المسمى المخبرُ بذلك على وجهِ التشبيه بفاعل الضلال في القلوب. ويمكن أن يكونَ لما كان الحكمُ والتسميةُ للغير بالضلال يضرُّ بالمسمى ويغمه ويُصوّره عند الناس قبحُ حالِه، كما أن وجودَ الضلال في قلبه يغمه ويضمرُّه ويُهلكه أجريَ على التسمية لهذه الوصمةِ والمضرة اسمُ ضلالٍ للقلب الذي هو الذهابُ عن الحق. والضلالُ في الحقيقة، هو ضد الهدى الذي يوجد في محلِّه ويعاقبه. قال الله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، وقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) . وأمثال لهذه الآيات فيها تحقيقُ الضلالةِ التي هي ضد الهدى والذهابُ عن الحقّ والصواب. قال لبيدُ بنُ الربيعة: مَن هداهُ سُبُلَ الخيرِ اهتدى ... نَعِمَ البالُ ومن شاء أضل ولم يُردْ بالهدى الذي به ينعَمُ بالُ المهتدي، الحكمَ والتسميةَ ولا بالضلال، التسميةُ به، بل أراد شرحَ الصدورِ وتضييق القلوب. فأمَّا الهدى فهو ضدُّ الضلال وهو معرفة القلب بوجوب كل واجبٍ وتصديقِه بذلك، واعتقادِ الأمورِ على ما هي به، والإخبارُ عن ذلك باللسان هدىً أيضاً، لأنه خبرُ حق وصدق، ونقيضُ ما صُوِّرَ به، والهدايةُ التي هي الإرشاد من الله خلقُ الهُدى في القلوب وشرحُ الصدورِ وتوسعَتِها وإقرارِها بالحق وتسهيله وتيسيرُه عليها وفعلُ الألطافِ الجامعةِ لهم على فعل الطاعات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وقد تكونُ الهدايةُ بمعنى الدعاء إلى الشيء، ولا تُسمى الدعوةُ إلى الحق هدايةً إليه إلا لمن قَبِلَها وانتفع بها. قال القطامي: ماذا هُداكَ لتسليمٍ على دمنٍ ... بالغمر غيَّرهُن الأعصرُ الأولُ يريد بقوله (ماذا هُداك) : ماذا دعاك إلى الهدى إذ اهتديت لتسليمٍ على دمنٍ بالغمر غيّرهن الأعصُر الأول وبعثك على ذلك. وقد تكونُ الهدايةُ بمعنى التوفيقِ وشرح الصدر وتسهيلِ القولِ الحقِّ على ما بيَّنَّاه من قبل، وهيَ الهدايةُ الحقيقية المقصودَة بقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ، أي: إنك لا توفقُ من أحببت، ولم يرد أنك لا تأمره بالهدى وتدعوه إليه، وهي المرادُ بقوله: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) ، والمعتمد في الرغبة إلى الله في الهداية في الرغبة، لأن الدعوةَ قد حصلت لكل، ولأنه قد ضل كثيرٌ ممن دُعيَ إلى الحق، فدلَّ ذلك على أن الهدى المرغوب فيه والذي لا يضلُّ صاحِبُه، ولا يهدي به النبي عليه السلام من أحب هدايته هو التوفيقُ وشرحُ الصدور الذي قدمناه. قال الحُطيئة: تحنَّن عليَّ هداكَ المليكُ ... فإن لكل مقامٍ مقالاً يريد: وققك المليكُ للحق، وشرحَ صدرَكَ به ولم يرد دعوته إلى ذلك، لأنها قد سلفت ووُجِدت. وقد تكونُ الهدايةُ إلى الشيء بمعنى التقديم إليه، ومنه قولهم: قد أقبلت هوادي الخيل أي: مقدماتُها، ويقالُ هوادي الخيل أعناقها لأنها تتقدمُها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 قال الشاعر: إذا لم يخْتزِن للبيت لحما غريضا ... من هَوادي الوَحش جاعوا يعني: تدخرُ لهم من أوائل ما يتقذم إلى الوحش. وقال الأعشى: إذا كان هادي الفتى في البلاد ... صدرُ القناةِ أطاعَ الأميرا يعني أوائل القناةِ ومواضعُ الأسِنِّة منها، والعصا تُسمى الهادية إما لأنها تتقدم المتوكىء عليها، أو لأنها من شدة تهديه بحسّه بها وتوقيه الوِهَاد والتِلاع، وما في سُبُله من الأذى، وما يريدُ معرفته. وأمّا قولُ من زَعمَ أنّ الهداية تكونُ بمعنى الزيادة، واعتلَّ لذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) ، فإنه تعلق باطل، لأن قولَه زادَهم هدى، إنما يريد بزيادتهم رشادا وتبصرا، واتخاذا للهداية في قلوبِهم في مستقبلِ أزمانِهم وأعمارِهم، وليس يبينُ معنى الهدايةِ بجعله زيادةَ على هدىَ كان قبله، وكما أنَّه قال قائل لمَّا علِموا زِدْناهُم علما إلى عِلْمِهم، ولم يكن في ذلك إخبار عن خاصيةِ العلمِ وحدَه، وحقيقتُه المحيطةُ به، فكذلك ذكرُ الهدايةِ والزيادةِ فيهما لا ينبىءُ عن معناها. وقد قيلَ إن الهدى ثوابَ الجنَّة، واحتُج لذلك بقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) . يعني: أنه يهديهم إلى طريق الجنة، وهذا أيضا إن صح فعلى وجهِ تشبيهِ الثوابِ في نفعِه بهدى القلبِ واستبصارِه في الانتفاعِ به، واستدفاع الضرر، هذه جملة في معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 الهداية والهدى والإضلال والضلالُ كافية، اذا كانت هذه الجملةُ ثابتةً وجَب أن يُكشفَ بعد ذلك بأنه لا تناقضَ في إضافة إضلالِ كل ضال من العُصاةِ بالكفر وغيره إلى نفسه، وبينَ إضافَتِه إلى الفراعنة والمردَةِ مرّة وإلى الشياطين وإلى فرعونَ والسامريَ وكلّ داعٍ إلى ضلالةٍ وإنّ القرآنَ يشهدُ بعضَه لبعض، ويصدق بعضَه بعضاً. فنقول: إنَّ الهدايةَ التي أضافَها اللهُ تعالى إلى نفسِه وأخبرَ بها لا يُشرِكه فيها ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا أحدٌ من خَلقهِ، وهي شرحُ الصدورِ وتطهيرُ القلوب، وخلقُ الإيمان والتصديقِ فيها وتسهيلِه عليها، وخلقُ الألطافِ الجامعةِ الدواعي والهِمم على فعله من القدرة على فِعله، والأسباب المسهّلة له، وغير ذلك ممّا لا يَقْدِرُ عليه أحد من خلقِه، فهذا الضربُ من الهدايةِ لم يُضفه اللهُ تعالى إلى الملائكةِ ولا إلى أنبيائِه ولا إلى أحدٍ من خلقه، إذ لم يكن ذلك من أفعالِهم ولا مما يدخلُ تحت قُدَرهم، وإنّما معنى الهداية التي يضيفُها الله تعالى ورسولُه والمسلمون مرةَ إلى الأنبياءِ ومرةَ إلى الأئمة والعلماء، إنّما هي الدعوةُ إلى الإيمان وشهادَةِ الحق والإرشاد إليها، بذكره الأدلة والتنبيه على موضع الحجّة والتزيين لذلك والتقبيح لتركه، والتحذيرِ والوعيد عن التخلف عنه وتجنبه، وكثرةُ الحثّ والحضّ على فعله، والإخبارُ بما عليه من جزيل الثوابِ وبما في تركه من أليم العقاب، إلى غير ذلك. وجملةُ هذه الهداية المضافة إلى غير الله من سائرِ أوليائه، إنما هي معنى الدعوة إلى الإيمان والتزيين له والإرشاد إليه والتنبيه على مواضع الهدايةِ عليه، والترغيب في فعله والتحذير من تركه، فأمَّا أن يكونَ لأحدِ منهم سلطان على فعلٍ في القلوبِ وشرحِ الصدور وخلقِ القدر والألطاف وتقليب القلوبِ والأبصار وصرفِها والحيلولة بين المرءِ وقلبِه، فإن ذلك غيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 جائزٍ على قول أحدٍ من الأمّة، وممّا قد قامت الأدلّة على بطلانِه وكذب كلّ من ادّعى ذلك لنفسه من الخلق أو لغيره من الخلق، ولو كان إلى الأنبياء والمؤمنين هدايةُ الخلق بما يهديهم إليه سبحانَه به ليهدوا الناسَ أجمعين ومن آثروا إيمانَه وكَرِهوا إضلاله. وكيف يكونُ ذلك كذلك واللهُ تعالى يقولُ لرسوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) . وقال له: أفتراه إنّك لا تأمرُ من أحببت ولا تَدعوه إلى كلمةِ الحقّ ولا تزينُ له الصواب، ولا ترغبُ وترهّبُ مع إخباره عنه بأنّه موضعٌ لرسالته، والأداء عنه، هذا ممّا لا يقولُه مسلمٌ ولا ملحدٌ لأن الكلّ قد اتّفقوا على أنّه عليه السلام بين وأنذرَ وحذّر، وإنّما قال له: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، أي ليس إليك هدايَتُه بشرحِ - الصدرِ وتوسعته وتطهير القلب، وخلقُ الإيمان فيه وتسهيله عليه ولذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "بُعثتُ داعياً ومبلغا، وليسَ إليَّ من الهدى شيء، وخُلقَ إبليس مزيّناً وليسَ له من الإضلال شيء" (1) . وقد ورد القرآنُ بتصديق هذا في قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) . وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) . وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) . وقوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) . وقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) . في أمثال هذا ممّا خبر فيه أن الهدايةَ إليه وحدَهُ وليسَ يجوزُ أن يكونَ إليه وحدَهُ ما هو مشترك بينه وبينَ خلقِه.   (1) رواه ابن الجوزي في "الموضوعات (1: 272) كتاب السنة وذم البدعة، باب في ذكر القدر، وأخرجه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (9: 39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 واعلموا - رحمكم الله - أن دعوة الرسول لا تكونُ هدايةً لأحدٍ ولا توصَفُ بذلك حتى يقارِنها قبولُ المدعو وانتفاعُهُ بها، ومتى عريَتْ من ذلك لم تكن هدايةً له، فلذلك لا يجوزُ أن يقال إن الرسولَ قد هدى أبا جهلٍ وأبا لهب وسائرَ من كفرَ به من قريش، ولم ينتفع بدعوته لأنه إذا لم ينتفع المكلف بالدعوة لم تكن من أسبابِ هدايته، وصارت ضرراً عليه ووبالاً وطريقا إلى عقابه، لأنه لو لم تكن الدعوةُ لم يستوجب العقاب، فهي إذن ضرر مع عدم القبولِ والانتفاع، قال سبحانَه وتعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) . وقال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) ، وقال: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) . فبيَّن بذلك أجمع وأمثاله من الأخبار أن الدعوةَ هدايةٌ لمن قبلها وانتفعَ بها دون من ردها واستضرَّ بورودِها، فبانَ بهذه الجملةِ أنه لا منافاةَ بينَ إضافةِ اللهِ سبحانَه الهدايةَ إليه، وبينَ إضافةِ الهدايةِ إلى رسُله وملائكته والمؤمنين إذا كان من أضافه إلى نفسِه من ذلك غير ما أضافَه إلى خلقه. على أن الهدايةَ التي أضافها إليهم إنما هي الدعوةُ والتزيينُ والإرشادُ والتنبيهُ والترغيبُ والتحذيرُ، وعلى ذلك يدلُّ قولُه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) . وكل هذا ممّا قد هدى الله سبحانَه المؤمنينَ به على وجهين: أحدهما: أن نفس دعوةَ الرسلِ وترغيبهم وترهيبَهم وإرشادهم من فعلِ اللهِ تعالى وخلقه وترتيبِه وتدبيرِه، فهو أيضا هادٍ بذلك للمنتفعِ بالدعوة حسبَ هدايةِ المكتسبِ له من الرُّسل، ولا يجوزُ أن يكونَ الباري الهادي بهذه الهداية المكتسبِ لها دون خالقها الذي صارت نفسا حادثةً موجودةً به دون المكتسبِ لها، فوجبَ لذلك أن يكون لا تناقضَ بينَ إضافةِ الهدايةِ الواحدةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 إليهم تارةً وإليه أخرى، لأنها مضافةً إليه تعالى من جهة الخلق والاختراع. ومضافةً إليهم من جهة التصرف والاكتساب، وقد شرحنا هذه الفصول. وكيف يكونُ عدلاً واحداً لعدلين وهدايةً لمهديين، ووجه الاشتقاق من خلقِ الهدايةِ والعدلِ واكتسابِها وطريقِ تعلقهما وإضافتِهما في "شرح اللمع " وغيره مما يغني الناظرَ فيه إن شاء الله. والوجهُ الآخرُ: أن الله تعالى قد هدى كل قابلٍ للإيمان بمثلِ هدايةِ الرسلِ في الدعوةِ والإرشادِ والتزينِ والترغيبِ والترهيب، فصارت هذه الهدايةُ مشتركةً ومضافةً إلى الله تعالى وإلى أوليائه، ومعنى الاشتراك فيها أن المضافَ إلى الله سبحانَه منها كالمضاف إلى رسوله وأوليائه، والضربُ الأوّل هو الذي انفرد الله تعالى به، ولم يضفه إلى أحد من خلقه، وهو الذي عناه بقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) . وقوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) ، وقوله: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) ، فلم يضف من ذلك شيئا إلى رسله ولا إلى أحدٍ من خلقه. فبانَ بهذا أنّه لا تناقضَ في إضافاتِ الهدايةِ مرةً إلى الله سبحانَه، ومرةً إلى رسوله، ومرةً إلى المؤمنين والملائكة إذا نزلت بحسب ما بيَّنَّاه ورتبناه. فأمّا إضافتُهُ الإضلالَ مزةً أخرى إلى نفسِه تعالى ومزةً إلى الشياطين ومزةً إلى المجرمين ومرةً إلى السامري وإلى فرعون وغيره من الكفّار، فإنه لا تناقضَ أيضاً في ذلك ولا تنافي، وذلك أن الإضلالَ الذي أضافه الله إلى نفسِه هو الذي لا يدخلُ تحت قُدرة أحدٍ من خلقه من جميع الفراعنةِ والشياطين والمجرمين، وهو الطبعُ على القلوب، وجعلُ الأكنة عليها والختمَ والإعماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وما ذكره من المد في الطغيان والوقر في الآذان، وتقليب الأفئدة والأبصار. والحول بين المرء وقلبه وتضييق صدره وما يعقبُه من النِّفاق في قلوب أعدائه الأشرار، وكل هذا مما ينفردَ اللهُ بالقُدرة عليه، وكذلك خلقُ نفس الكُفر والإضلالِ والإقدار عليه والتمكينِ منه، مما ليسَ لكافرٍ ولا لشيطانٍ ماردٍ سلطان ولا قدرةٌ على خلقه في القلوب فما أضافَ الله تعالى شيئاً من ذلك إلى أحد من خلقِه بل قال: "ختَمنا" و "طبَعنا" و "جعَلنا على أبصارِهم غشاوة". "نقلبُ أفئدتهم وأبصارَهُم "، و"أعقَبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يَلقونَه ". و"جعَلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ". فلم يُضِفْ تعالى شيئا من ذلك إلى أحد من الشياطين أو المجرمين أو فرعون أو السامري، إذ ما كان ذلك من صفاتهم ولا مما يدخلُ تحت قدرهم. وأما الإضلالُ الذي أضافَه الله تعالى إلى الكفّارِ والمجرمينَ فهو الدعوة إلى الضلال، وتزيينه وإيرادُ الشبهةِ فيه، وليس ذلك من خلق شيء في القلوب بسبيل، وأما الإضلالُ المضافُ إلى فرعونَ والسامري خاصة ومن جرى مجراهم فهو إلباسُهم في الدين ومكرُهم بأهله، وحِيَلُهم التي نَصَبوها لإيقاع الشُبَه في الحق، وليس ذلك من خلقِ الضلال في القلوب في شيء. وأمّا الإضلالُ المضاف إلى إبليس والشياطين فقد يكونُ أيضاً بمعنى الدعوة إلى الضلال، ويكون الوسوسةُ في الصدور، وحديثُ النفسِ بما جعلَ لهم من السلطان على هذه الوَسوَسة وعلى سلوكِ بني آدم وختومِه على قلوبهم، فهذا مما يختص به الشياطين دون سائر الخلق، وكل هذه التفاسير في الإضلال التي نزلناها قد وردَ بها الأخبارُ والقرآنُ على ما سنذكر جملة منه، وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن من إضافةِ الإضلال إلى نفسِه تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وإلى جميع من ذكرَ من خلقه منافاةٌ ولا مناقضةٌ على ما يظئه الملحدون ومن تابعهم من القدريَّة والمتحيرين في مذاهبِهم من أهل الملَّة، فبان بهذه الجملةِ أن اللهَ تعالى لم يجعلْ إلى أحد من خلقه إضلالَ أحد، وإن جعلَ له القدرةَ على هذه الأسباب التي ذكرناها، ولو قدرَ إبليسُ والشياطينُ والمجرمون على إضلالِ أحدٍ من الناس، وكان ذلك إليهم وفي أيديهم لأضلّوا الأنبياءَ وسائرَ المؤمنين، وكل من آثروا إضلالَه وحاوَلوا الإلباسَ عليه في دينه. ولما لم يكن ذلك كذلك، ثبتَ أن الإضلالَ الذي أضافه تعالى إلى نفسِه لم يجعلْ لأحدٍ من خلقه إليه سبيلاً، ولا عليه سلطانا. وكذلك قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وخُلقَ إبليسُ مزيناً وليس له من الضلالة شيءٌ ". وقد قال اللهُ تصديقا لهذه الرواية ولما قلناه: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، وقال: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) . وقال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) ، فأخبرَ أن القُرناء إنما إليهم التزيين فقط، وأنّهم إنما ضلوا بما حق عليهم من القول والقسمة لجهنم. قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ، ثم قال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) . وقال: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) . وقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) . فبيَّنَ بذلكَ وأمثالَه أنّ الضال من أضلّه الله، وأنه لا هاديَ له وأنّ المهتدي من هداه وأنه لا مضل له فهذا تنزيل يزيلُ الريبَ والشبهةَ ويبطلُ ما يلبِّسُ به القدرية والملحدة، وقد أخبرَ سبحانَه أن الإضلالَ منه ما وصفناهُ من الطبعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 الختمِ على القلوب وتغشيةِ الأبصارِ وتقليبِ القلوب والحَوْلِ بينَ المرء وقلبه. وغير ذلك مما عددناه، وخبر تعالى أن إضلالَ الشياطين إنما هي الوسوسةُ والتزيين والتسويلُ للنّفس، ووعدُ الشرِّ، وأمثال ذلك. قال الله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) . وقال: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فأخبرَ أنه يُوَسوِسُ في صدور الناس، وقال: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) . وقال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) . وقال: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) . والشيطان يضلُّ على وجهين: أحدهما: الدعوةُ إلى الضلال والوعدُ والتزيينُ للباطل. والآخر: الوسوسة، وقد وردَ عن الرسول تصديقُ ذلكَ والإقرارُ به. فروى عبدُ الله بنُ مسعودٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن للشيطان لمةً بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمّه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمةُ الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد من ذلك شيئاً فليعلم أنه من الله وليحمدِ الله، ومن وجدَ الأخرى فليتعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم، ثمّ قرأ عليه السلام: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) . وروى أنسُ بن مالكٍ عن النبي عليه الصلاةُ والسلام أنه قال: "إن الشيطانَ واضع خطمَه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيَ الله التقمَ قلبَه "، ورويَ عن عبد الله بن عباسٍ أنه قال: (إنما سُميَ الشيطانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 الوسواسُ الخناسُ لأنه خاتمٌ على القلب، فإذا ذُكر الله خنس، وإذا لم يُذكر وسوس ". في رواياتِ كثيرةِ في هذا المعنى، من نحو قوله: "إن الشيطانَ ليجري من ابن آدم مجرى الدم". وقوله: "ما منكم من أحدٍ إلا وله شيطان، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال ولا أنا، ولكن الله يعينني عليه " وفي روايةِ أخرى: "ولكن أعان الله عليه" وأمثال هذا، فهذا القدرُ من الإضلالِ هو الذي إلى الشيطان، وهذه الوسوسةُ هي تزيين وحديث وكلام خفي لا يسمعه الموسوس له، ثم يعتقده إن لم يُعصَم ويوفق ويعان، وليست شيئا يفعلها الشيطانُ في قلب ابن آدمَ لأنّه لا قدرةَ له، ولا لأحدٍ من الخلق على أن يفعلَ شيئا في غير محل قدرته من قلبِ آدميِ وغيره من الأماكن والمحال. وأمَّا إضلالُ المجرمين، فقد أخبرَ اللهُ تعالى، أنه هو دعاؤهم إلى الضلال وإلباسُهم في الدين في غير موضعٍ من كتابه، قال تعالى: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) . يعني: الذين نصبوا الأصنامَ وعبَدوها وسنَّوا ذلك ودعَوا إليه، وقال تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) . يريدون من قدم لنا الدعوة إلى ذلك وأمر به، وقالوا: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 وقد تظاهرت الروايات بأنّ المضِل من الجن إبليس، والمضِلّ من الإنس ابنُ آدم الذي قتل أخاه. وأما إضلالُ فرعونَ لقومه، فإئما هو الدعوةُ إلى الضلالِ وإلباسُه عليهم بالشبهات وإشغالهم عن تأمل آيات موسى بقوله: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا) ، ومنه قوله: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَ) ، وبقوله: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) . يوهم بذلك أنّه قادرٌ على قتله وأن ربّ موسى لا ينفعُه. ومنه قوله: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) . يوهمُ بذلك أنّ هذه صفةُ من ينبغي أن يُعبد. وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) . وقوله: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) . يوهِمُ قومه أنّه ينادي صاحبَ الخضر أو يشغلهم ببناء الصرح عن النظر في آيات موسى وتصديقه، ويتحمل في المدافعة بالأوقات. ومنه قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) . يعني: موسى لأجل لثغةٍ كانت في لسانِه، وعقدة، فعابَه لأجلها بأنه لا يُبينُ عن نفسه، ثم قال: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) . يوهِم أنّه لو كان عظيمَ الشأنِ لكان مسوَّراً بسوارٍ من ذهب، لأنّه كذى كان شأن العظيم إذا ارتفع منهم، أن يسوّر سوارا من ذهب، فهذا قدرُ طاقةِ فرعونَ ومبلغ ما عندَه في إضلالِه فأما أن يكون له سلطان على القلوبِ والنفوسِ والإضلالِ بما ينفردُ اللهُ سبحانَهَ بالقدرةِ عليه من ذلك فمعاذَ الله، وقد قال الله تعالى: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) . ولو أمكنه إضلالُ أحدِ لأضلَّ موسى وقومه. مع إيثاره لذلك وحرصِه عليه، ولكن ذلك ليس إليه ولا داخل تحت قدرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 فأمَّا إضلالُ السامري لعبدة العجل، فهذا أيضاً بالدعاء لهم إلى ذلك وتزيينه، وقوله هذا إلهُكم وإلهُ موسى، وبما صنَعه من قبضةٍ قَبضَها من أثر الرسول وما سوَّلت له نفسُه، وقد قالَ الله تعالى في قصّة موسى: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) . فبدأ بذكر الفتنة التي بها بدأ، وذلك أن اللهَ بصَّره أثرَ الرسول فقبض منه القبضة وجعل للعجل بعد أن صنع خواراً يخورُ به ويمشي، وليس ذلك تحت قدرة أحدٍ من الخلق ولولا الخوارُ ومشيُه لما عبَده القوم، ولا كان عليهم فيه شبهة. ورويَ من غير طريقٍ عن ابن عباس: "إن العجل كان يخورُ ويمشي وإن موسى قال: يا رب هذا السامريُّ أمرَهم أن يتَّخذوا العجل، أرأيت الروحَ من نفخَها فيه، قال الرب: أنا، قال: فأنت إذاً أضللتهم وفي رواية أخرى "يا رب علمت أنّ الحليَّ حليُّ آل فرعون، وأنّ السامريَّ صاغ العجل، والخوارُ ممن، فقال مني يا موسى (1) ، فقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) . فأخبر موسى أنّ الفتنة من عند الله، وأنّ اللهَ يهدي من يشاء، ويضل بها من يشاء ولم يُضف إلى السامريِّ ذلك ولا جعله إليه، وموسى عند القدرية مجبر مذموم بهذا القول، وإن كانوا يخافون في إظهارِ ذلك من خوف السيف. فبانَ بهذه الجملة كيفيةُ إضافةِ الله تعالى الإضلالَ تارةً إلى نفسه وتارةً إلى فرعونَ والسامريِّ وتارةً إلى المجرمين، وتارةً إلى إبليسَ والشياطين، وأنّه لا تناقضَ في ذلك ولا تنافي إذا كان منزّلاً مرتّباً على ما بيّناه، وبطلَ بذلك ما قاله الملحدون وتوهّموه. واعلموا - رحمكم الله - أنّ خلقَ اللهِ الروحَ والخوارَ والمشيَ في العجل. ودعوةُ السامري وإلباسُ فرعونَ والمجرمينَ لا يكونُ ضلالاً إلا لمن استضرَّ به وأجاب إليه، وضلَّ عند مشاهدته، وكان ممن قسمَه اللهُ لناره، ولا يجوزُ   (1) كلام يفتقر إلى سند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 أن يكونَ شيء من ذلك إضلالاً لمن خالَفه واعتقدَ بطلانه، ودعا إلى خلافه وتمسكَ بالحق الذي أمر به، ولذلك لم يكن مضلاً بما خلقه من حياة العجلِ وخوارِه أحداً ممن لم يعبُده، ولا كان فرعونُ والسامريٌّ والمجرمونَ والشياطينُ مضلين لأحدٍ من الأنبياءِ والمؤمنينَ والمتمسكينَ بإيمانهم، لما لم يستضروا بذلك ولا أجابوا إليه، فوجبَ بذلك أن تكون الدعوةُ إلى الضلال إضلالا لمن أجابَ إليها، دون من خالفها وردها، ولو لم يكن الأمرُ في ذلك على ما قلناه، وكان على ما قالَه الملحدون في آيات اللهِ وتوهمَتْه القدريةُ لما أخبرَ الله بعضَ قولنا هذا، وتأويلُنا عن أصفيائه وأنبيائِه والمتحملينَ لرسالته ومن جعلهم واسطة بينَه وبينَ خَلْقه. قال الله تعالى في قصة شعيبٍ بعدَ وصفِ سيرته مع قومه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) . فأخبر عنه عليه السلام باعترافِه بأن الله قد نجاه من ملتهم التي هي الكفر، وقد عُلم أن هذه النجاةَ ليست هي الدعوةُ والبيان، لأنه لو كان ذلك كذلك لكان نجا بدعوته جميعَ قومِ شعيبٍ وسائر الكافرين، ثم قال: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا) ، فأخبر أن عودَه وعودَ كل أحدٍ إلى ملةِ الكفر ودخوله فيها لا يكون إلا بمشيئة الله، وهذا نفسُ ما قلناهُ وأخبرَنا به. فأخبر تعالى عن موسى بمثل ذلك فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 فأخبرَ عنه أنه أضافَ فتنتَهم وضلالَهم إليه، وأنه يُضل بها من يشاء ويهدي بهداه من يشاء، هذا مع المرويّ عنه في التفاسير ممّا قد بينّاه، ومن قوله: "فممن الخوار، قال: مني يا موسى، قال: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء"، وهذا تصريحٌ منه بمذاهبِ أهل الحق التي أخبرنا عنها، ومثلُ هذا أيضاً قولُ موسى: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) . وأخبر تعالى بمثلِ هذا بعينه عن نوع عند ذكر قصته مع قومه وكثرةِ دعائه لهم فقال تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) . فأخبرَ عنه أنه اعتقد وقال إنَّ نصحَهُ غيرُ نافعٍ لهم، إن كان اللهُ يريدُ أن يغويَهم، ولو لم يجزْ أن يعذبهم الله، وأن يزيدَ غيَّهم وضلالهم يُضف إرادة ذلك إليه سبحانَه، ويحيلُ عليه ضيق المقاليد بالأمر عليه، ولو تُتبعَتْ قصصُ الرسلِ وأقاويلُهم لوُجِدت جميعَها شاهدةً بما قلناه، وليس يجوز أن يكونَ لرسولٍ من الرسل قولٌ ومذهبٌ في القدَر وخلقِ الأفعالِ والهدى والضلالِ يخالفُ مذهبَ نوح وشعيبٍ وموسى عليهم السلام، لأنّ ذلك يوجبُ تكذيبَ بعضَ أنبياء الله لبعض، واعتقادُ بعضهم فيه تعالى ما لا يليقُ به، ولا يجوزُ في صفتِه وقد نزههمُ الله عن ذلك، ورفعَ أقدارهم وعظمَ بالإيمان والتقدم في العلم به على سائر الخلقِ شأنُهم ومكانُهم. وكيف لا يكون هذا قولَ الرسلِ ودينهم في الله تعالى، وهم يسمعونه يقولُ في كتبهم مثلَ الذي قالَه لرسولنا في كتابه، وما هو بمعناه مما حكاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 عنهم وما لم يحكه، واللهُ يقولُ في كتابنا المنزّل على رسوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) . وقد علمَ كلُّ ذي تحصيلٍ أنّه لا يجوز أن يكونَ أرادَ بهذا الفضل الذي لولاه لاتّبعوا الشيطان، وما زكى منهم من أحد، وكانوا من الخاسرين، هو نفسُ البيانِ والأمر الذي هو على من ضلَّ وخسر واتّبعَ الشيطان، فدل بذلك على أنّ هذا الفضلَ هو الهدايةُ لخلقِ الإيمان وتوسعة الصدور والتوفيق، وجمعَ الهمم والدواعي على إيثاره وفعله وأنّه ليس له مثل هذا الفضل على من كفر وضل، وعلى هذا دلَّ قوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) . ولو كانت الهدايةُ هي الدعوةُ والبيانُ فقط، لكانت هذه المنّة بعينها له على أبي جهلٍ وأبي لهب وسائر الكافرين، ولو كانت الكتمانُ والتصديقُ والطاعةُ والانقيادُ من اختراع المؤمنينَ وخَلْقِهم وتقديرهم دونَ ربِّ العالمينَ ودونَ رسوله لم يكن لله عليهم منة بالإيمان والتصديق ولا لرسوله، إذ كان الإيمانُ فعلهم ومن تقديرهم وواقعٌ باختيارهم، وكان من المحال أن يمُنَّ الله عليهم بفعِلهم وخلقِهم، ولا قدرةَ له عليه عندهم ولا ملكَ له يتعلقُ عليه، ولا هو ردث له ولا إله له. وكذلك قو@هـ سبحانه: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) . وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) . وقد عَلمَ الله أنه لا يمكنُ أن يكونَ هذا التحبيبُ للإيمان والتزيينُ له والتكريهُ للكفر، هو نفس الأمرِ والنهي، والوعد والوعيد، والترغيبِ والترهيب، إذ قد وجدَ ذلك لمن ليس بمحبّ الإيمان ولا كاره للكفر، وكذلك فلا يجوزُ أن تكونَ الحسنى السابقةُ للمؤمنين هو سبقُ بيانِه إليهم وترغيبِه إياهم، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 ذلك أجمع ممّا قد سبقَ للكافرين، وهم غيرُ مبعدين من النار، ولا يجوزُ أيضاً أن يكون سبقُ الحسنى لهم بمعنى أنّها الجنّة بما كان لأمرِه ونهيه إياهم، وإنّما سبقت الجنّة إن كانت هي الحسنى بما سبقَ لهم من الهداية وقسمهم لها دون البيان والأمر والنهي. وعلى هذا دلّ قوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) . وقوله في مثل هذا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) . فأخبَر سبحانَه أن لو أنفق جميع ما في الأرض ما ألّف بينَ قلوبِهم وأنّهم أصبحوا بنعمتِه إخوانا، وأنقذَهم من النار، وامتنَّ بهذا أجمعَ عليهم، وقد عُلم أنّه لا يجوزُ أن يكون هذا التأليف ُ بين قلوبهم والاستنقاذُ لهم هو نفسُ الدعوة والبيان، لأن ذلك أجمعَ موجودٌ في الكافرين لا يوجبُ أن لا يكون اللهُ سبحانَه في هذا التأليف والاستنقاذِ من النعمة إلا ما للرسول، وما لبعضهم على بعض، لأن الدعوة والإقدار قد وجدَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن بعضهم لبعض، فدلَّ ذلك على أنه إنّما امتنَّ عليهم بما هو وحدَهُ القادرُ عليه، والمختصُّ بالتفضُّل به. وكيف يكون التأليف ُ بينَ قلوبِهم هو نفسُ الدعوة والإنذار وهو يقولُ للرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) . وهو عليه السلام على قولهم قد ألّف بينَ قلوبِهم، إن لم يكن التأليفُ بينَ قلوبهم شيئا سوى الدعوة والإنذار، هذا خلف من القول وبما يتعالى الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 ثم أخبر تعالى فيما قدَّمنا ذكره من الآي وغيرها أنه فعلَ بالضالين والكافرين من ضيقِ الصدور والطبع على القلوب والختم، وجعلِ الأكنة عليها، والتغشيةِ على الأبصار نقيضَ ما فعلَه بالمؤمنين وأخبرَ عن أوليائِه وأصفيائِه، ومن هو أعلم باللهِ من جميعِ المُلحدةِ والقدرية أنهم رغبوا في أن يفعلَ بهم ما فَعلَهُ بالمؤمنين وأن يجمعهم عليه ويُجنبهم ما فعلهُ بالكافرين. فقال تعالى فيمن أحسن الثناء عليه وأقر بالاقتداء به: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) . وهذا قولُ من قد علمَ أن جعلَ الغل في قلوبهم من فعلِ الله رب العالمين، ولو لم يجزْ ذلك عليه، وكان فعلُه ظلماً وسفهاَ على ما يقوله المبطلون، لكان ذلك رغبةً إلى الله في أن لا يفعل ما يستحيلُ في صفته وما إذا فعلهُ كان بفعلِه ظالما جائراً سفيها، وكل سائلٍ وراغبٍ إلى اللهِ فيه جاهل به ومستخفٍ مفترٍ عليه، واللهُ تعالى يُجَل عن أن يثني على قومِ هذه سبيلُهم وصفتُهم. وليس يجوزُ أن يكونَ مرادُهم بقولهم ولا تجعلْ في قلوبنا غلاً للذين آمنوا أي لا تسمينا غالَّين ومُدْغلين ومنافقين ونحو ذلك، لأنهم لا بد أن يكونوا إنّما رغبوا إليه في أن لا يسميهم بذلك، إذا فعلوا الغل والنفاقَ والإدغالَ وإذا لم يفعلوه، فإن كانوا رغبوا إليه في أن لا يسميهم بقُبحِ أفعالهم وموجبِ صفاتهم، وإن فعلوا ذلك ووقعَ منهم بذلك رغبةً إليه في السفه والإغراء بمعاصيه وقلبِ اللغة، وإبطالِ الترغيبِ والترهيبِ والكذبِ في خبرِه، والتسويةِ بين أعدائه وأوليائه، والظلم باهل طاعته إذا لم يفرق في الأسماء القبيحة بينَهم وبينَ حالَي الإجرام والذنوب، واللهُ سبحانَه لا يثني على قومِ هذه صفَتُهم، وإن كانوا رغبوا إليه في أن لا يسميهم بذلك إذا لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 يفعل الغل والنفاقَ فكأنهم إنما رغبوا إليه في أن لا يكون عليهم ولا يضيف إليهم ما لم يكن منهم، ويصفهم بما ليس في صفتهم، وفي أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم في ذمًهم بما لم يكن منهم، واللهُ يجل عن هذه الصفةِ وعن مدحِ قومٍ رغبوا إليه في أن لا يكون على هذه الأوصاف. وكل هذا يدلُّ على ما قلناه، وعلى إبطال ما قالَه القدريةُ والملحدون في آيات الله، وكذلك القولُ في كل رغبةٍ وقعت من مؤمنٍ في أن يجعلَه مؤمنا مصدقا وأن لا يجعله كافراً ولا ضالاً نحو قول إبراهيم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ،، ولا يجوز أن يكون معنى هذه الدعية أن سمينا مُسْلِمَيْنِ إذا أسلمنا أو سمينا بذلك، وإن لم نُسلِم ولا أن تُبينَ لنا وأمرنا لأحدٍ سبقَ منه هذا الأمرُ وتقدم إليه وإلى غيره من الكافرين، فالتعلقُ بكل هذا تعليل وتمريض. وقولُهم بعد ذلك: إن هذه الدعوات من الرُّسل ِ والمؤمنينَ إنما وقعت على وجه الرغبة فقط، لا معنى لها ولا يجوز على غير ما رغبوا إليه فيه. وأنها بمثابة قوله لنبئه: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) ، وقد عُلمَ أنه لا يجوز عليه الحكمُ بغير الحق وإنما ذلك أمر بالرغبة فقط، إنما هو لبسٌ وقصد للتمويه لأن التأويل في قوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) : أي عجل الحكمَ به كله أو بعضَه، لأنه تعالى له تعجيلُ الحكمِ بالحق وله تأخيره، وليس له عند المعتزلة تقديمُ جعل الغل للمؤمنين في القلوب ولا تأخيرُ ذلك ولا يصح أن يقع منه بحال، وهذا يبطلُ تمويهاتِهم بهذه الأباطيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 وكيفَ لا يجوز على اللهِ ما قلناه وهو تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) . وليس يجوز أن تكون هزيمةُ من انهزم وانحرافه بأمر اللهِ وإيجابه، وإنّما أرادَ بذكر إذنه قضاءَه وقدرَه وما قذفَه في قلوبهم، وقد قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . فأخبَر أنّه - جعلَ قلوبَهم قاسيةً وأنّه أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة، وليس هذا من الحكمِ والتسميةِ بسبيل، ولأنّ ذلك لو كان كذلك لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وكل منتمٍ لهم، وحاكمٍ عليهم يجعلُه إيمانُهم قد أغرى العداوة بيتهم وجعل قلوبَهم قاسية. وهو ما لا يقولُه أحد. وقال سبحانَه: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) ، فأخبرَ بتغطيةِ قلوبِهم وليس ذلك من التسمية بسبيل. وقال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) . ولو كان الهدى منه لا يكون إلا بمعنى الدعوة والبيان لم يكن لهذا الامتنان عليهم معنى، ولكان قد هدى بهذا الهدى جميعَ المكلًفين، ولم يكن لقوله: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) معنى، وكل هذا يبطلُ ما قالوه. وقال تعالى في نقيض صفةِ هؤلاء الأنبياء: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 افتَرى أنه فعل بهؤلاء ما فعلَه بمن قال وألَف بينَ قلوبهم، وبمن قال وكنتم على شفا حفرةِ من النّار فأنْقذَكم منها، لولا الجهلُ والعنادُ وقصدُ التمويه والإلباس، فهوكيف يكون ذلك كذلك واللهُ تعالى يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . فأخبر أنّه للخلاف الذي لا يزالون عليه خلَقَهم، وأنه قد حقت كلمته بأن يملأ جهنَّم من الجِنّة والنّاس أجمعين، ولا يجوز أن يكون قولُه ولذلك خلقهم منصرفاَ إلى الرّحمةِ وهو يقول: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) ، ويقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ،، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) ، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) ، فكلُّ هذا يدلُّ على بطلان تأويلهم. وأمَّا تعلقُ القدريّة في كثيرٍ من إخباره تعالى بإنعامِه على المؤمنين وتأليفِه بينَ قلوبِهم واستنقاذِهم من جهنَّم وحرمان الكفار ذلك أجمع، بأنّه إئما أُريد بذلك إعطاؤه تعالى للمؤمنين الألطافَ الداعيةَ لهم إلى فعلِ الطاعة، والجامعةَ لهمَمِهم عليها، وأنّه ليس له مثلُ هذه النِّعمة والهداية على الكافرين، فإنّه أيضاً باطل من قولهم، لأنّ اللُّطف عندهم واجب على الله سبحانَه فِعْلُه بعد تكليفهم وقَبُحَ منه تركُه، كما أنّه يجبُ عليه فعلُ الإقدار والتمكينُ وفعلُ الثواب والجزاء بعد الطاعة، فمحال منه إذا أن يمتنَّ على المؤمنين بما هو واجب عليه ولازم له، ولأنه تعالى أيضا عندهم غيرُ قادر على إعطاء مثل ذلك اللطفِ للكافرين، ولا هو عنده وفي خزائنه وسلطانِه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 لأنه لو كان ملم بفعله بهم لوجبَ بُخْلُهُ عليهم واستفساده لهم، وذلك إخراج له عن الحكمة، فإذا لم يكن عندهم قادراً على التسوية بينَ الكافرين والمؤمنين فما معنى امتنانَه على المؤمنين، وإخبارَه بتخصيصه لهم بأجرٍ لو حاولَ فعلُه بالكافرين لم يكن عنده ولا تحتَ قدرته، على أن القولَ بأن الهدايةَ لطف من فعلِ اللهِ فيهم نقضٌ لقول من قال منهم إنها لا تكون بمعنى الحكم والتسمية، وجميعُ ما قدَّمناه ونزَلناه يدلُّ على إبطال ما ألبسَ به الملحدون، وتعلَّقت به القدرية، وتكشفُ عن ترتيب الإضلال من اللهِ ومن غيره، وترتيبِ الهداية منه وتفضيلها، ويوجبُ تنزيلَ الظواهر التي يوردونها. وحملِها على ما رتبناه دون ما قالوه. فأمَّا إضافةُ المعاصي وضروبُ الكفر والضلالِ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه إلى أنفسِ العصاةِ والكفار، فإنّه أيضا غيرُ منافٍ لإضافةِ إضلالِهم تعالى إلى نفسِه، لأنه سبحانه إنما أضافَ ذلك إليهم من حيثُ كانوا مكتسبين له وقادرين عليه، وعلى تركِه، ومن حيثُ كانت هذه المعاصِي صفاتٍ لهم وحالَّةً فيهم ومتعلّقةً بهم ضرباً من التعلُّق، وأضافَ إضلالَهم إلى نفسهِ تعالى من حيثُ هو الخالقُ لها والقادرُ على اختراعها دون جميع الخلق، ومن حيثُ كان سبب اكتسابهم لها وما ورَّطهم فيها من قوله تعالى وإن كان عادلاً حكيما بذلك أجمع، لأنّ الخلقَ خلقُهُ وهم تحتَ قبضتِه لا اعتراضَ لمخلوقٍ ، في حكمهِ وقضائِه وقدرِه، فهذا التنزيلُ أيضا لا ينافي إضافَةَ المعاصي تارةً إليهم وتارةً إليه، من جهةِ الخلق قال الله سبحانَه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ، وقال: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) ، وقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) . وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وقال: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) . يقول: كيف لا أعلم القولَ وإن أخفيتموه، وأنا الخالقُ له، في نظائر لهذه الآيات خبر فيها عن خلقِ أفعال العباد. ثم قال في إضافةِ الأفعال إليهم: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) . وقال: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، وقال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ، وقال: (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) ، وقال: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) . فأضاف اتباعَ الهوى إليهم، وقال: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) . وقال: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) . وقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) ، فأضافَ جعلَ ذلك إليهم في نظائرَ هذه الآيات يكثرُ تتبعها، أضافَ في جميعها الاكتساب إليهم، وذلك لا ينافي ما أخبرَ به من خَلْقه لأفعالِهم على ما بيتاه وَرتبْنَاه. ثم بيَّن تعالى أن سبب ضَلالَهم بما اكتسبوا مما نهُوا عنه، كان من عنده ومن قبلِه في آياتٍ كثيرة، كما بيّن أنه خالقٌ لأفعالِهم في آياتٍ كثيرةٍ فقال تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ، فأضاف صرْفَ قلوبِهم إلى نفسِه، وهو سببُ انصرافِهم عن الحقِّ، وقال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) . وقال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) ، وقال: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 فأضافَ الإملاءَ والصّرفَ عن آياتِه إلى نفسِه وجعلهُ من أسباب ضلالِهم. وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) ، فأضافَ تقييضَ الشيطان إلى نفسه، وجعلَ ذلك من أسبابِ ضلالِ المتبع لغيره، وقال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) . فأخبرَ أنّ سببَ هلاكِهم، هو إرادتهُ لذلكَ وتأميرهُ لمن في أهل القرية. فبيَّنَ تعالى بجميع هذه الآيات وجهَ إضافَةِ الضّلال والإضلالِ إليهم. ووجهُ إضافَةِ ذلك إليه وأكذبَ من افترى عليه، وقال إنّه غيرُ خالقٍ لأفعال عبادهِ ولا قادرٍ عليها ولا مالكٍ لها، ومن قال من العبادِ لا يكتسبون شيئاً ولا يقدرون عليه ولا يتعلق بهم أمر من الأمور وأنّهم كالباب والحجر والجماد. ومتى تُدُبِّرَتْ هذه الآيات ونزلتْ التنزيلَ الذي وصفناه ورُتبت الترتيبَ الذي رتّبَه اللهُ تعالى وأرادَه انتفى عنها التناقضَ والاختلاف، وصارَ بعضُها حجّةً لبعضٍ وشاهدا بصدقه، ومتى جُهلَ ذلك التُبِسَ عليه الأمرُ وضُرب بعضُ القرآن ببعض، واعتمد تنافيه وتناقضه، وصارَ ذلك ذريعة إلى تعطيلِه وتلاحُدِه نعوذُ بالله من الحيرةِ والضلال. فأما تعلقُ الملحدةُ والقدريةُ في معارضةِ ما تلوناهُ من الآي في أنّ الباري مضِلٌّ لمن شاء من العبادِ بضروبِ الضلالِ الذي ذكرناه بقوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، فإنه من عِناد الزنادقةِ وجهلِ القدرية وغفلتها، وذلك أن اللهَ سبحانَه عاب هذا القولَ من قائله وذمّه وفنَّده عليه، فقال في أول القصة: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ، فعيَّرهم بهذا القول وأخرجَه مخرجَ الذم لهم عليه، ثم قال: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فردّ هذا القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 وأخرجَه مخرجَ الذمِّ الذي عيرهم عليه وأكذبَهم فيه، بقوله لنبيه عليه السلام: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ثم قال (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، على وجهِ التعييرِ لهم بهذا القول اقتصاراً على شاهد الحالِ ومفهومِ ذمهم وتعييرهم بهذا القول في أول الخطاب، فكأنّه قالَ كل من عند الله فما لهؤلاء القومِ لا يكادونَ يفقهونَ حديثاً، يقولون ما أصابك من حسنةٍ فمن اللهِ وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك، فحذفَ يقولون لأجل دلالةِ الخطابِ ومخرجَ القصدِ والبينةِ والكلام، ويدُلُّ على أنّ هذا هو التأويل أمران: أحدهما: إجماعُ الأمة على أنّ اللهَ ذمَ قائلَ هذا في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز أن يذمَّهم بقوله ويُصدقهم فيه ويقولُ مثلَ قولهم ولا جوابَ عن هذا. والوجهُ الآخرُ: أن اللهَ تعالى قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) فهذا يدل على أن الذي يصيبَهم من قبل غيرهم، وأنه ليسَ من اكتسابهم، لأن أهلَ اللغةِ لا يستجيزونَ أن يقول القائلُ منهم: أصابتني سيئة إذا اكتسبت معصية، وإنما يقولون أصبتُ سيئةً أي فعلتها، وكذلك إذا فعلَ الحسنة لا يقول: أصابتني حسنة، وإنما يقول أصبت حسنة، والمصابُ عندهم بالحسنةِ والسيئةِ هو الموجود ذلك به، من فعلِ غيره من نعمةٍ هي حسنة أو بليةٍ وأذِيَّةٍ ونقمة، هي من فعل غيره، فأما استعمال أصابني ذلك في فعل الإنسان نفسه، فذلك محال ممتنع، فبطلَ بذلك ما قالوه. فأمَّا القدري فإنّه لا يقول إنَّ الحسنةَ التي هي الطاعةُ وضد السيئةِ من الله، لأنه لا يقول أنّ اللهَ خلقَ الحسنةَ كما لا يقولُ أنه خلقَ السيئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 فإن قالوا: أرادَ بقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ، أي: فاللهُ أمرَ بها ودعا إليها ولم يرد أنّه خَلقَها. قيل لهم: فكذلك أراد بقولهِ: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، أي: من نفسك الأمرُ بها ودعاؤها إلى فعلِها، ولم يُردْ أنك تَخْلقها كما لم يرد بإضافةِ الحسنةَ إلى نفسهِ تعالى بأنه خالق لها فإنما أضافَ السيئَة إلى رسوله على وجهِ ما أضافَ الحسنةَ إلى نفسه، فإن لم يكن أرادَ بإحدى الإضافتين الخلقَ منه، ولم يرده أيضاً بالأخرى، ولا جوابَ لهم عن هذا. وقد أجمعَ أهلُ التأويلِ والعلمِ بالقرآن على أن المرادَ بذكر الحسنةِ والسيئةِ في هذه الآية النّصرُ والغنيمةُ والانصراف والهزيمةُ وذهابُ المالِ والكراع وغير ذلك من الأموال، وأنها منزَلة في شأن الحرب. قال اللهُ سبحانَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (أي هزيمة) قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ (أي نصر من اللهِ) لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) } . إلى قوله {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ (النصر) يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (قال الله تعالى) قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) } . يقولون ما أصابك من حسنةٍ فمن اللهِ على وجه الذم والتعيير لهم بهذا القول، فأمّا أن يكون عرضَ بذكر هذه الآية لأفعال العباد فليس بقولٍ لأحدٍ من أهل التأويل. وقد قيل في تأويلُ قوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: ما أصابَكم من مصيبةٍ فمن أنفسِكم أي: مما اكتسبتم من الخلاف على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 لزوم أماكنكم وانصرافِ الرماةِ منكم يوم أُحدٍ لطَلبَ الغنيمة، وتَركهم الصفَّ حتى أعَقَبكم ذلك السيئة التي هي الهزيمة. قال اللهُ تعالى في قصة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (يعني ما أصابكم يوم أحد) قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا (يعني يوم بدر) قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا (يعني ما أصابكم يوم أحد) قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: عقوبة بما كان من عصيانكم لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرماة منكم بلزوم مركزهم فلمّا انكشفَ العدوُّ قال الرماةُ أو بعضهم: نخاف أن يجعلَ رسولُ اللهِ لكل قاتل وكل إنسانٍ ما يصيبُه من الغنيمةِ وسَلْبِ من قَتلَهُ ففارقوا مكانَهم واختلَطوا بالمشركين، ودخَلوا رجالاتهم، وأصابَ المشركون فرصة وخللاً في الصف، فَانْثنَوْا عليهم وكان ما كان من هزيمتهم، فالملحد يقدرُ أن هذه الآية نقضٌ لإخبار اللهِ سبحانَه عن نفسهِ بأنه يُضل ويختم على القلوب، والقدريُّ يتوهم أنها معارضة لما يحتج به أهل الحق ونافية لكون السيئات التي هي المعاصي من عند الله، فإن الله سبحانَه ما عرضَ لشيء من ذلك، وإنما تأويلُ السيئةِ الشدةِ والمصيبة. قال اللهُ سبحانَه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) ولم يُرد أصابتكم ذنوب أصبتم مثليها، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) . يريدُ من شدّةٍ ونقمةٍ ولم يرد ما أصابكم من مصيبة فبما كسبتم من معصية، فوجب أن يكون التأويل في ذلك على ما وصفناه وأن لا يكون للملحد والقدري في الآية تعلق. وقد قيل إن تأويلَ الآية أن القومَ كانوا إذا أصابَهم الجدْبُ والشدة قالوا هذا من عند محمدِ وبشؤم طائره، وإذا أصابهم الخصبُ والرخاء قالوا هذا من عند الله وبرَّأوا الرسول منه غضًّا من قدره وتطيُّراَ به، فأنكر الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ذلك من قولهم، وقال لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، فالحسنةُ والسيئة ها هنا إنما هما الشَدةُ والرخاء، قال الله تعالى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) ، وقال: (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) يعني الشدةَ والرخاءَ والنصرَ والهزيمةَ ولم يُرِد الطاعةَ والمعصية. ومما يدلُّ على ذلك ويشهدُ له إخبارُ اللهِ تعالى عمن سلف من منافقي الأمم بمثل هذا القول الذي أخبر به عن منافقي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ (يعني الخصب) قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ (يعني السنين نقص الثمرات) يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} . يقولون هذا بشؤم موسى ومن تبعه. وكذلك كانت قصةُ المنافقينَ مع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابَهم نصر ورخاءٌ وإنعام أو هزيمة وشدة وجدب، فعابهم الله على ذلك، كما عابَ قومَ فرعون، وقال لصالح: {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ (يعني بالعذاب والنقم قبل العافية) لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) } . فكل هذه الآيات والأخبار تدلُّ على أن السيئةَ والحسنةَ ليستا مقصورتين على الطاعةِ والمعصيةِ وتدل على غباوةِ الملحدة والقدرية في تأويل هذه الآية. وأمَّا تعلقُ الملحد والقدريُّ بقوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ، وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) . وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا) . فالجوابُ عنه أن القومَ إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 قالوا ذلك على وجه النفاق واعتقاد خلاف ما يظهرون من هذا القول، وعلى وجه الهزل بالرسول والإنكار لقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) . (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) ، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) . ونحو هذا القول، فقالوأ هذا القولَ على وجه الرد والإنكار، كما قالَ سبحانَه في ذمهم بقولهم: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) ، وهذا القولُ حقٌ لمن قالوه معتقدين لصحّته ولكنّهم قالوا ذلك على سبيل التكذيب للرسول، وكما ذمّ المنافقين بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) . فأكذبهم في قولهم، لأنّهم قالوه نفاقا على غير وجه الاعتقاد لصحته، ويدلُّ على ذلك أنّ القومَ كانوا يجحدون الرحمن وينكرونَه ولا يعرفون اللهَ سبحانَه فيكف يصدقون بأنّه لو شاء الرحمن ما عبدوهم. قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) . وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ، فقالوا هم لما سمعوا ذلك لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرمنا من شي، قال اللهُ سبحانه: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ، فأخبر أنّهم قالوا هذا القولَ على وجهِ التكذيب، وكل هذا ردٌّ على الملحدةِ والقدرية، وكيف يجوزُ أن يعرفَ اللهُ سبحانَهُ ويعرفَ أنه لو يشاء أن يؤمن لآمن من هو كافر ومن هو غير عارف به، هذا جهلٌ ممّن ظنّه وتوهّمه لأنهم لو عرفوا اللهَ وعرفوا أنّه قادرٌ على أن يلطف بهم ويجعلهم مؤمنين لكانوا مصدقين أبرارا، ولم يكونوا كافرين مكذبين ولم يقل الله: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي: تكذبون فكيف يردُّ هذا القولُ على المشركين لو قالوه على وجهِ الإقرار والتصديق وهو سبحانَه يخبرُ بصحَّة ذلك ويدعوا إليه، ويقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) . ويقول: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) . ويقول: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) ، في أمثالٍ لهذه الآيات يخبرُ فيها أنه لم يكن ما كان من الكفار إلا بمشيئته، وأنَّه لو شاء أن لا يكون لما كان، فكيف يكذبُ قوما قالوا هذا القولَ واعتقدوا صحته، لولا جهلُ من يتعلقُ بهذا ووغادَتُه من القدرية والملحدة. ومما يدلُّ أيضاً على أن التأويل َ في ذلك على ما قلناه وإن كان ظاهرا لا يحتاجُ إلى تأويل عند من تأمل صدور الكلام والقصص، وإعجازها. ومخارجَ الكلامِ وأسبابِه، أن اللهَ تعالى قال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، بالتشديد كما كذبَ قومُكَ يا محمد ولو أراد الإخبارَ عن أن هذا القولَ كذب منهم لقال كذلك كذبَ الذين من قبلهم مخففا من الكذب ولم يقل كذَّب مشدد من التكذيب، فهذا أيضا دليل واضح من نفسِ التلاوة على أن القومَ قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسل، ولما ورد من إخبارِ اللهِ تعالى بما قدمنا ذِكرَه ولم يقولوه على وجه الاعتقاد والتصديق. فإن قالوا: قد قال اللهُ تعالى عقيبَ قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 أي: تكذبون في قولكم لو شاء اللهُ ما أشركنا فقد أكذَبَهم في هذا القول. قيل لهم: معاذَ اللهِ أن يكون أكذبهم في هذا القول مع اعتقاد صحته والإيمان به، وكيف يكذبهم فيه وهو قد أخبرَ به على ما قد بيَّناه من قبل. وإنما عنى تعالى بقوله: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) . أي: تكذبون بقولكم إن اللهَ حرَّم هذا وحرَّم السائبةَ علينا والوَصِيلة والحام. والبحيرة وأنه شرع ذلك لهم، قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ) ، أي: لم يفعل ذلك. وقال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، فعلى مثل هذا قال: إن أنتم إلا تخرصون في ادعائكم تحريمَ اللهِ سبحانَه ما لم يحرمه فبطل بذلك ما تعلَّقوا به. فأمَّا ما تعلَّقوا به من قوله: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، فإنه لا تعلٌّقَ فيه، لأن اللهَ تعالى قال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا) موضع الوقف وانقطاع الكلام، ثم تبدأ بقوله: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، وذلك أنّ اليهود قالوا: كل الأنبياء من ولد إسحق، فما بالُ هذا من ولد إسماعيل، فحَسدوه إذ لم يكن من أنفسِهم من بين إسرائيلَ وعاندوهُ وأصحابه، وحتى بعثَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 رؤساؤُهم طائفةً منهم يؤمنون بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقالوا لهم آمنوا أوَّل النهار واكفروا آخره فإن سُئلتم عن ذلك فقولوا قد كنّا نظن أنّه النبي الذي بُشرِّنا به فآمنا، فلمَّا رجعنا إلى أحبارِنا وعلمائِنا أخبرونا بأنّه ليس هو الذي بُشَرنا به، فلعلهم إذا فعلتم ذلك أن ينفضَّ جمعُهُ ويكفرَ به أصحابُه، ومتى كان آمن به فأخبر تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك والمؤمنينَ فقال: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) . يعني عن الإيمان بما آمنوا به من تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، أي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من بني أمتهم وأعمامِهم قال اللهُ تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، أي من بني أمتكم ومن بنبي عمِّكم، وقال: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) ، أي: لا يُخرجُ بعضكم بعضا. وقولُه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، أي لا يقتل بعضكم بعضا، ولم يذكر النفس في هذه المواضع الروحَ والحياة، والنفسَ التي في الجسد، وإنّما أرادَ بالنفس البعض. ويمكن أن يكون أرادَ بقولِه: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، أي: أن قولَهم إن اللهِ أمرنا بتكذيبك وردك إلى دين موسى كذلك يفترونه من عند أنفسِهم ما أنزَلَه الله ولا وقفَ عليه ولا أمرَهم به ولم يُردْ إنني ما خلقتُ تكذيبهم ولا قدَّرته ولا قضيتهُ وإذا كان ذلك كذلك سقط ما ظنه القدرية والملحدون. وأمّا قولُه تعالى: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 ليس بنقض لإخباره عن إضلالِهم والطبعِ على قلوبِهم والخلقِ والتقديرِ لأعمالهم، لأن القومَ لم يدَّعوا أنّ الله خَلقَ أفعالَهم وقضى وقذَر أعمالَهم. فينفي اللهُ سبحانَه ذلك عن نفسِه بقوله: (وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، وإنما ادعوا أن التوراة أنزلَها الله محرفةً ومبدَّلة على ما أوهموا سفَلَتهم وعامّتهم وأوغادِ النّاس، وإنّما ادّعوا ذلك بعد أن حرَّفوا التوراة وغيَّروها، وغيَّروا وصفَ الرسولِ وذِكرَ البشارة به في التوراة فقال اللهُ تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ (يعني: التوراة واللَّي الكذب، ومنه قولُه تعالى: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ، ثم قال: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ (كما يدَّعون) وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . أي: لم ينزِّل اللهُ عليهم الكتاب بذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنه الملحدةُ والقدريَّةُ من التعلقِ بهذه الآية. فأمّا قولُه تعالى: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ، وأنه أيضا لا معارضةَ بينَه وبينَ إخباره عن إضلالهم، وتوليه لخلق أعمالهم، لأنه تعالى إنَّما قصدَ بذلك البراءةَ من العهود التي كانت بينَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبينَ المشركين، ولم يعرضْ لذكرِ شركِهم ومعاصيهم، فقال اللهُ تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) ، إلى قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) . فكلُّ هذا يدلُّ على أنّ البراءةَ من اللهِ ورسوله إنّما هي براءةٌ من العهود وإنفاذِ الرسولِ لسورة براءة، والقصَّةُ في ذلك مشهورة، وأنَّه قال: "لا يؤدِّي عني إلا رجلٌ منِّي " يعني عليّا عليه السلام. فَحَمْلُ الآية على التبرِّي من شركِهم ومعاصيهم جهل وغباوة أو عناد وإلباسٌ على الضعفاء، ولو كانت براءةُ اللَّهِ فيهم براءة من خلقِ أفعالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 لكانت براءةُ الرسول منهم براءةً من خلق أعمالِهم، وذلك جهل ممن صار إليه، ولو كانت براءةُ اللهِ من المشركين براءةً من خلقِ أعمالِهم لكانت أيضا براءةً من خلق ذواتهم، لأنّ البراءةَ براءبلا منهم دون شركِهم، لأن اللهَ سبحانَه لم يعرض لذكره، وإنَّما ذكرهم بأعيانِهم، ولو كانت براءَته من المشركين براءةً من خلقِ أعمالِهم لكانت ولايتُه للمؤمنين وقولُه: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، توليا لخلقِ أعمالَهم وإيجادِ طاعاتهم، ولما لم يجب ذلك بطل ما قالوه. فأما قولُه تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) ، فإنه أيضاً لا معارضةَ بينَه وبينَ إخباره عن خلقٍ كثيرٍ منهم ومعاصيهم المتفاوتة القبيحة، وتوليه لإضلالِهم والختمِ والطبعِ على قلوبهم، لأنه إنما عنى بخلقِ الرحمنِ في هذه الآية السماء، يدلُ على ذلك أنه ابتدأ وقال: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) ، يعني في السماء، ثم قال: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) ، يعني هل ترى في السماوات من صدوعٍ وشوقٍ وخللٍ وقد علم أن الكفرَ لا يرجع البصرُ فيه وإليه، ولا يجوزُ أن يكونَ فيه فطور وشقوق، فثبت أنّه إنما نفى التفاوتَ عن السماواتِ من المخلوقات، ولم يعرض في هذه الآية لذكر المعاصي وغيرها من أفعال العباد فبانَ بذلك سقوطُ ما ظنّه الملحدة والقدرية. ويمكن أيضا أن يكون إنما نفى التفاوتَ عن جميع ما خلقَ من حيثُ لم يقع شيء منه وغيره متفاوتاً على إرادته، وبخلاف ما قَصده، ولا قَصدَ أن يكون شيئاً منه قبيحاً فوقعَ حسناً، وحسناً فوقع قبيحاً بخلافِ القَصدِ بالكفر، وإن كان متفاوتاً على مكتسبه من حيثُ قَصدَ كونَه حسنا ديناً فوقع قبيحا فاسداً، فإنه غيرُ متفاوتٍ على الله لأنه منافي خلقهِ على ما قَصدَه وأراده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 من القبيح وخلاف للحسن، فوجبَ بذلكَ بطلانُ ما قالوه، وهذا كما يقول: إن رميَ الكافرَ للمؤمنِ وإصابتَه له غير متفاوتٍ عليه، من حيثُ كان إصابةً لما قَصدَه ولتأتيه على ما أراده وإن كان متفاوتا عليه من حيثُ قصدهُ حسنا دينا فكان قبيحا فاسداً، فإذاً ليس في جميع خلق اللهِ ما هو متفاوتٌ على اللهِ تعالى، وإن كان منه المتفاوتُ على غيرهِ لتأتيه بخلاف قَصده وإرادَته. وأما قولُه تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، فإنه لا معارضة بينَه وبينَ إخباره عن إضلال الكُفار وخلقِ أعمالهم والختمِ على قلوبهم، لأنه لم يقل الذي حسَّن فيكون معناهُ جعلُ الشيء حسنا، وإنَّما قال الذي أحسن يعني يحسنُ كيف يخلقُ ويعلمُ ذلك، وهذا كما يقولُ: إن الكافر قد أحسنَ الرميَ إذا أصابَ نبيا ومؤمنا فقتلهما، ولا نقولُ إن رميه حسن، ولا أنه محسن في فعله، وإنما نعني بقولنا أحسن الرميَ أي علم ذلك وأحسنه، على أنه يمكن أن يكونَ أراد بقوله: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) من خلال المعاصي التي نهى عنها، والعمومُ عندنا لا صيغة له، وهذا كقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) . (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) ، (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي: بعض الأشياء فكذلك قوله: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، معناه بعضَ الأشياء إن كان من حَسُنَ يحسن، وإن كان من أحسنَ يُحْسِن فهو على العموم في جميع ما خلقه، لأنه عالمٌ بجميع خلقه. وأما قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) . (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وإنما المعنى في ذلك أنه خلقَهما بقوله كونا، وقولُه الحق، وقوله: وما بينهما باطلاً، أي ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 خلقناهما ونحنْ لا نريدُ إثابةَ "المنيبين الطائعين وعقوبةَ المجرمين العاصين قال الله تعالى: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) . ويحتملُ أيضًا أن يكون أرادَ أنني ما خلقتُ ذلك وليس لي خلقُه وإحداثُه وما خلقتُه إلا ولي ذلك وأنا مالك لذلك وفاعل لما لي فعله وعادل به، وهو سبحانَه على ما أخبر به من صفةِ مُلْكه وقدرَته وتصرُّفه من حيثُ له ذلك، لا معقبَ لحكمِه ولا اعتراضَ لمخلوق عليه، ولذلك قال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) . فأما تعلُّقُ الملحدة والقدرية بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ، فإنه لا تعارض بينَه وبينَ قوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) . وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، وذلك أنه أراد تعالى بعضَ الإنسِ وبعضَ الجنِّ، وهم الذي قسمَهُم للجنة، وعُلمَ وقوعَ العبادةِ منهم دونَ الكفَّار الذين قَسمَهُم للنار، وقد أجمعَ المسلمونَ على خصوص الآية، لأنه لم يردْ بها الأطفالَ من الجنِّ والإنس ولا المجانين المستنقصين ولعلهم مثل عدد العقلاء البالغين، فكذلك لم يردْ الكفار الذين أخبرَ أنّ الضلالةَ حقت عليهم وأنّه خلقهم لناره. فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون إنّما أرادَ بقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي: سيذرأ لها في الميعاد خلقا من الجن والإنس. قيل لهم: هذا صرفُ الكلام عن ظاهره يغير حجة، فإن ساغ لكم هذه الدعوى ساغ لنا أن نقولَ إنّما أرادَ بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، أي: ما أخلُقهم في الآخرة إلا ليعبدون، وذلك يقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 منهم أجمعين في الآخرة اضطراراً فيكون وما خلقنا بمعنى وما يخلق في المستقبل كما قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ، يعني عاقبةُ أمرِه وهم إنما التقطوه ليكون لهم حبيباً، وكذلك قولُ الشاعر: أموالُنا لذوي الميراثِ نَجْمَعُها ... ودُورنا لخرابِ الدَّهرِ نبنيِها يريدُ أن ذلك عاقبةُ أمرِها، ولم يردْ أن المالَ يجمعُ للوارث، وأن الدور تُبنى لخرابِها وكذلك قولُه: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) ، أي ما يكونُ خمراً ويؤولُ حالُه إلى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما ظنّه الملحدون من تعارض، وما ظنّه القدريّة من التأويل. ومما يدلُّ على ذلك أيضاً أنّ أهلَ التأويل قالوا: إنَّ قوله (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . أي لكي يعبدون، وكلُّ كي من اللهِ تعالى فهي نافذةٌ واجبة، وإن كانت غيرَ نافذةٍ ولا واجبةٌ من المخلوقين في جميع الأحوال قال تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) . وقد يسَّر به وأنذر ونفذَ الأمرُ فيها كما أخبر، وقال تعالى: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ، وقد قدر ذلك. وكذلك قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) . وقد كان وتمَّ وقامت حجةُ النذارةِ به، في أمثال لهذه الآيات كثيرةٍ قد تم وانبرمَ فيها خبرُ كي، لأنها من الله تعالى واجبةٌ نافذة، فلو كان الله أرادَ أنه خلقَ جميعَ الإنس والجنِ لعبادتهم له، ولم يمتنع أحد منهم من عبادته، ولكنه تعالى أرادَ البعضَ منهم دون الكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 ويمكنُ أيضا أن يكونَ أرادَ بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) . أي إلا للأمر بعبادتي والتكليف لذلك، وقد كانوا مأمورين وعلى صفة ما أرادَ منهم من كونهم مكلفين مأمورين بالطاعة والإيمان، ولم يردْ أنه خلقهم لكي تقعَ العبادةُ منهم أبدا، وفي كل وقت، وإنما أرادَ أنهم يكونون مأمورين بذلك في سائرِ الأوقات، أعني أوقاتَ السلامةِ من الجنون والآفات. والأحوال المانعة الصادة عن التكليف، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قاله الملحدة والقدرية. فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، فلا معارضةَ بينَه وبينَ إخبارِه بأنه أضل الكافرينَ من ثمودَ وغيرهم، لأنه يمكنُ أن يكون أرادَ بقوله: هديناهُم أرشدناهم وبينَّا لهم. فاستحبوا العمى على الهدى، أي فلم ينقادوا لما بُيِّن لهم، وذلك لا ينفي أن يكون قد خلق استحبابهم العمى على الهُدى وضلالهم عن الحق، لأن خلقه لضلالهم لا ينافي بيانَه للحق لهم من طريق القول والخبر، وذكرِ الأدلة ومراقيها فكأنه إنما أرادَ بالهداية ها هنا الإرشادَ بالقول والدلالة، ويكون إنما سُمِّيَ البيانُ والإرشادُ بالقول هداية على معنى أننا بينا لهم بالقول بيانا لو قبلوهُ وانتفعوا به، لكانَ هداية لهم، ولم يُرد بذلك أن القولَ هداية لهم، وإن لم يقبلوه وينتفعوا به، وتقديرُ الكلامِ: وأما ثمودُ فهديناهم وآتيناهم من القولِ والبينات ما لو قبلوه وصاروا إليه لكان هداية لهم، فلا منافاةَ إذاً بينَ هذه الهدايةِ وبين إضلاله لهم بخلقِ الضلالِ وتضييقِ الصدور. ويُحتملُ أن يكون أراد بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، الإخبارَ عن قومٍ خلق هدايتَهُم، وإيمانَهم ثم استحبوا العمى بعد ذلك على الهدى، بالردة عن الإيمان، وذلك لا ينقضُ بعضُه بعضا، لأننا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 نقولُ: إن اللهَ خلقَ هدايةَ كل مهتدي في المعلوم أنه يرتد ويرجعُ بعد هدايته وخلقَ رجوعه عن ذلك، وليس في قوله فاستحئوا ما يدلُّ على أنه غيرُ خالقٍ لاستحبابهم وضلالهم. ويُحتمل أيضا أن يكونَ إنما أراد بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) ، فهدينا فريقا منهم وهم المؤمنون ويكون قوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) مقصوداً به الكافرين منهم دون الذين لم يستحبوا لأنهم كانوا فريقين مؤمنون وكافرون، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) . فيمكن أن يكون الذين هداهم المؤمنون، والذين استحبوا العمى على الهدى هم الكافرون، فيكون قولُه: هديناهُم على الخصوص، وكذلك قوله: فاستحبوا، فبانَ بهذا أنه لا اعتراضَ لملحد ولا لقدَريٍّ بهذه الآية علينا ولا تعلق. وأمَّا تعلقهم بقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) ، وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ، وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) ، وأنه أيضاً لا تعلق لملحد فيه ولا لقدري، بل هذه الآياتُ كلّها شاهدة على فساد قول القدريّة، وذلك أنه لا تعارضَ بين قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) وبينَ إخباره عن إضلاله لكل ضال على سبيل الابتداء والجزاء، لأنه يُحتمل أن يكونَ أراد أنهم لما زاغُوا زيغا أولاً أزاغَ الله قلوبهم زيغا ثانيا هو أشدُّ من الأول، وإعماء لهم أكثرَ من الأول لأنه تعالى حكم أنه لا يزيغُها ذلك الزيغَ الشديد إلا بعد زيغٍ أول هو دونَه، وأن يجعلَ ذلك جزاءً لهم وعقوبة على الزيغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 الأول، وإن كان هو الخالق، لأن الجزاءَ عليه لم يقع من حيث الخلق. ولكن من حيثُ اكتسبوه على ما بيَّنَّاه في كتاب "خلق الأفعال"، وكذلك قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) ، كأنّه ضلال عظيم مخصوص حكمَ تعالى بأنه لا يضل به إلا بعدَ خلقه بضرب من الضلال دونَه في الفاسقين، فإذا فسقوا بالضلالة الأولة، أضلهم بالضلال الثاني الذي هو أعظمُ وأضرُّ من الأول، وكذلك قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) ، إنّما هو متوجه إلى ضلال مخصوص، فكأنه قال: وما كان الله ليُضل قوما بذلك الضرب من الضلال حتى يُبين لهم ما يتقون ثم يعصون في البيان الأول، يُضلهم بالإضلال العظيم الثاني على سبيل العقوبة والانتقام، وإن كان قد قيل في تأويلِ الآية وجه آخر، وليسَ بينَ إخباره بأنَّه لا يضل بضربِ من الضلال إلا قوماَ فسقوا وضلوا وزاغوا عن الحق، وبينَ إخبارِه بأن كلّ ضلالِ ابتداءَ فهو المضلُّ به تناقضٌ ولا منافاة وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه. فأمَّا القدريَّة فإن جميعَ هذه الآيات عليهم لأنهم فريقان، فريق زعمَ أن الله لا يُضِل أحدا بفعلِ شيءٍ فيه، وإنَّما يُضِل بمعنى الحُكمِ والتسمية بالضلال، وهو عندهم يضل بالحكمِ والتسمية على طريقِ الابتداء، وعلى غير وجه الابتداء، لأنه لا يجوز عندهم أن لا يُسمي أحداً بضلالة ضالا إلا حتى يكون منه ضلالا قبل ذلك وزيغُ قلب، لأنه يسمى بالضلال والزيغِ الأول، وإن لم يكن قبلَ ضلالِه ضلال ولا زيغ، فلا حجة لهم في هذه الآيات. ولو جازَ أن لا يسمي الله بالضلال إلا من كان فيه فسق وضلال تقدم لجاز أيضا أن لا يسمى الفسقَ والضلال الثاني إلا من كان منه ضلال أول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 وما الفرق بينَ أن لا يسمى بضربٍ من الضلال وبينَ أن لا يسمّى بشيء منه. ولجازَ أيضاً أن لا يُسمّى بالهُدى والطاعة من ابتدأ بالهُدى والطاعة، وأن لا يُسمّى بذلك إلا من كان منه هدىً وطاعات قبل ذلك، وهذا عندهم ظلم وتخليط وخروج عن مقتضى اللغة والاشتقاق، وإيجاب الأحكام فبانَ أنّه لا تعلق لهذا الفريق بهذا الباب. والفريق الثاني: منهم من خلّط على أصله ولم يحقق، يتسرعُ إلى القول بأن الله يضلُ على وجه الجزاء على إضلال سلفٍ وزيغٍ مقدر، ولذلك قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) . فيقال لهم: قد قدرتم بأن الله يضل ويخلقُ الضّلال في الضالين على وجه الجزاء فكأنه عندكم يفعل القبيح والجهلَ والذهابَ عن الحق على وجهِ الجزاءِ والانتقام، وهذا ترك لقولكم إنّه لا يفعلُ الكفر إلا كافر، ولا يفعلُ القبيحَ إلا سفيه ولا يفعلُ العصيانَ والشر إلا عاصٍ شرير، فإذا جاز أن يفعلَ الله ذلكَ أجمعَ على وجه الجزاء، وإن لم يكن سفيها ولا عابثا ولا موصوفا بهذه الأفعال الواقعة منه فما أنكرتم أن يفعل ذلك ابتداءً وإن لم يكن سفيها شريراً، ولم يوصف بشيءِ من أسماء هذه الأفعال، وهذا تركُ قولهم. ويقال لهم: وكيف جاز عندكم أن يضل من كان منه ضلال متقدم، ولم يجب عليه نقله عن ذلك الضلال ورده عنه وإرشادُه إلى الحق، وهذا بدأه بالضلال كابتدائه وفعل ما هو عندهم مذموم فاعلُه في الشاهد، وممن وقع منه. فإن قالوا: إنما أرادَ بالضلال الواقع منه على سبيل الجزاء الحُكم والتسمية بالضلال، تركوا قولَهم ولحقوا بالفريق الأوّل وكُلّشموا بما كُلِّموا به من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 قيل لهم: فكان الله عندكم لا يسمّي الفاسقَ العاصي بمعصيته وفسقه حتى يتقدم منه فسق وعصيان قبل ذلك، فإن كان قالوا: أجل. قيل لهم: فإذا جاز أن لا يسميهم بالفسق والعصيان الأول وإن كان كالثاني ومن جنسِه ويكون ذلك عدلاً وصوابا منه، فلم لا يجوز أن لا يسميهم أيضاً بالفسق والعصيان الثاني؟! ، ويكون ذلك عدلا وصواباً منه، ولم لا يجوز أن لا يسمى العبدُ بطاعته وإيمانه الأول المبتدأ ويسميه بمثل ذلك إذا وقع منه ثانياً، وهذا جهل منهم وتخليطٌ، فبانَ بذلك أن هذه الآيات بأن تكون على القدرية أولى، وأنه لا مغمزَ ولا مطعنَ لملحد فيها. وقد فسَّر الناسُ قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) على أنّه لم يكن الله ليضلَّ المؤمنين بعد أن آمنوا واهتَدوا، ويتركَ أن يبينَ لهم ما يجبُ أن يتمونه ويحذرونه من استغفارهم للمشركين، وذلك أنّ المؤمنين كانوا يستغفرون للمشركين، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستغفر للمشركين، لأبيه أو لبعضِ عمومته، فأنزل اللهُ تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيمَ استغفر لأبيه "، وقال المسلمون: "إن استغفر النبي لأبيه أو لعمه استغفرنا لآبائنا وأمهاتنا"، فنهاهم الله عزَ وجل عن ذلك، ولو تركهم وذلك مع حُكمِه بأنّه لا يغفرُ ولا يحل الاستغفارُ لهم لكان ذلك ضلالاً منهم وذهابا عن الحق الذي هو حكم اللهِ ودينه، فلم يدعهم الله وذلك وأن يضلوا بفعل ما يظنونه جائزأ سائغاَ فانزل جل ذكره: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ، إلى قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) ، فإنما أرادَ بهذا الإضلالِ تركَ البيان للمؤمنين ما يجبُ أن يبن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 لهم، ولم يردْ خلقَ الضلال فيهم على وجه الابتداء والجزاء، فبانَ أنه لا تعلق لملحدٍ ولا لقدري في ذلك. وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وإن هذا نقض لإخباره أنه خلق المعاصي وقدرها، وأضل أهلَ الضلال، وختَم على قلوبهم، فإنه ليس الأمرُ فيه على ما توهّمه الملحدون والقدرية في هذا الباب، وذلك أنه إنما أراد بهذا القضاء الأمرَ بعبادته والوصية بذلك، وذُكرَ أن عبدَ الله بنَ مسعودٍ كان يقرأ "ووصى ربُّك ألا تعبدوا إلا إياه"، وأنه كذلك مثبتٌ في مصحفه، وهذه الوصية عامةٌ للكافرين والمؤمنين، وذلك لا ينقضُ أن يكون قد قضى معاصيه والكفر به على معنى الخلق لذلك، والإعلام لكونه، والكتابة له، والقضاءُ يكون بمعنى الأمر وهو قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، أي: أمرَ ربك، ويكون بمعنى الخلق والإيجاد، نحوَ قوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) . أي: خلقَهن، ونحو قوله: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) ، يريد خلقنا موتَه، وقد قيل القضاءُ نفسُه بمعنى الموتِ ومنه قولُهم: نزلَ به قضاءُ الله، وقضى فلان نحبَه إذا مات، ويكون القضاءُ بمعنى الإعلام والإخبار قال الله تعالى: (وَقَضَتنَآ اكَ بَنِىَ (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) . أي: أعلمناهم وأخبرناهم في الكتاب كقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إنما يعني به أنه أمرَ بذلك، وهذا لا ينفي قضاءه للكفر، والخلافُ على معنى التقدير والخلقِ والإيجاد فبطلَ توهمهم وتوهُّمُ القدريِّ لانتفاعه بهذه الآية. وأما تعلُّقهم بقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ، فإنه أيضا لا معارضةَ بينَه وبينَ إضافة ذلك إلى الله تعالى وبينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 إخباره بانّه خلقَ الوكزة وما كان عندها، وذلك أنه إنّما أراد بقوله: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أنه يأمر به الشيطان ويُزيِّنُه ويدعو إليه ولم يرد أنّ الوكزة من خلق الشيطان وفعلِه وتقديرِه، وكيف يقول ذلك وهذا جهل ممن صار إليه وقاله، وليس مذهب لأحد، وليس يجبُ إذاً نسبةُ ذلك إلى الشيطان، على أنّه من دينه وما يدعو إليه، أن يكون ذلك منافيا لإضافة خلقه وتقديره إلى الله، فثبتَ أنّه لا حجّة لملحدِ ولا لقدريٍّ في التعلُّق بهذه الآية. فأمّا تعلُّقُ الملحدة والقدريّة بقوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) . وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ، الآية. فإنّه لا تعلُّق لهم أيضًا فيه، لأنه أراد بالآيتين المتقدمتين أنّه لا يحبُّ الفسادَ لأهل الصَّلاح ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، ولم يرد أنّه لا يرضاه لأحدِ من خلقه ولا يحبُّه من أحدٍ منهم، وكيف يكون ذلك كذلك وهو يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ، ويقول: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) ، ويقول: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) ، فدلت هذه الأخبار على أنّه لم يرض لعباده المؤمنين الكفر، ولا يحب منهم الفساد، وإن كان قد أحبَّ ذلك ورضيَهُ لأهل الكفر والفساد، ومن نحو هذا قولُه: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) ، وقوله: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) ، وقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ، وكل هذا على الخصوص دون العموم، وكذلك حكمُ الآيتين. ويمكن أيضاً أن يكون إنما أراد واللهُ لا يحب الفساد أن يكون صلاحا ودينا مشروعا، ولا يرضى لعباده الكفر أن يكون دينا لهم وشرعاً مأذونا فيه، وأنّه رضيَ أن يكون قبيحا مذموما فسقط بذلك ما قالوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 ويحتمل أيضاً أن يكون أراد بالرضا والمحبة الاجتباء والتفضيلَ والاصطفاء، فقال: لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر أي لا يصطفيهما ويفضلهما، لأن المحبةَ والرضى عند كثير من الناس اصطفاء وتفضيل، وذلك منفي عن الكفر والفساد، لأن اللهَ سبحانَه قد حقَّرهما وذمهما، وقال أصحابُ هذا الجواب: وإطلاقُ المحبة والرضى يوهمُ الأمرَ بهما ويدينُ العباد بفعلهما، وذلك باطل. فأمَّا قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) فإنّما ذمهم بمحبتهم أن يكون ما قيل في أمِّ المؤمنين حقًّا وصدقا، فاللهُ سبحانَه لم يحبَّ أن يكون ما أُشيعَ من الفاحشة حقًّا وصدقاً على ما أشيع، وأن يكون إنما ذمهم على هذه الإرادة لكونها قبيحة منهياً عنها، لأنهم قد نُهوا عن إشاعة الفاحشةِ في المؤمنين والتخرُّص عليهم والأراجيف بهم، ونُهوا عن محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فنفسُ الإشاعة ونفسُ الإرادة لذلك معصيتان قبيحتان، وإرادةُ اللهِ لذلك ليست بقبيحةٍ ولا معصية، فلم يجب أن يكون مذموما بإرادته المعصية أن تكون قبيحةً فاسدةً ممن عُلِمَ وقوعُها منه، إذا لم يكن منهيا عن إرادته لذلك كما يجب أن يكون مطيعاً لإرادته للطاعة من العباد إذا لم يكن مأموراً بإرادته للطاعة، وإن كانت إرادتنا نحن للطاعة طاعةً من حيثُ أُمرنا بها، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمه القَدَريةُ والملحِدةُ من حصول طائلٍ ونفعٍ لهم في التعلُّق بهذه الآيات. فأمَّا تعلُّق الفريقين بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) . و (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) ، فإنه لا تعلق لهم في ذلك، لأجل أن الأمَّة متفقة وجميعُ أهل اللغة والتفسير على أنّ المرادَ بقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 إنما أخرج على وجه الزجر والتهديد، وعلى نحو قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، ولم يرد به التخيير لهم بين الكفر والإيمان، ولا الإخبارُ عن كونهم مخيرين في ذلك، ورد المشيئة إليهم. وقد رويَ عن ابن عباس أنه قال: "فمن شاء الله له الإيمان فليؤمن بمشيئته. ومن شاء الله له الكفر فليكفر بمشيئته ". فأمَّا قوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) ، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) ، فإنه غير معارضِ لإخبارِه بأن الأشياءَ كلها كائنة بإرادتِه، ومشيئته. لأنه قد خبر في آياتٍ أخر أن هذه المشيئة التي ذكرها وأثبتها لهم لا تكون وتوجد أو يشاء لهم كونَ ما أرادوه، ولا أن يشاءَ لهم أن يسوءَ ذلك الشيء فقال سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فأخبرَ أنّهم لا يشاؤون شيئا إلا أن يُشاءَ لهم أن يشاؤوه، وقد يُشاءُ مشيئَتُهم للشيء وإن لم يُشاؤوا ما شَاؤوه بأن يكون شائيا لتمنيهم لذلك الشيء، وإن لم يكن متمنيا لهم، وقال سبحانه: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، فنص لهم على أنهم لا يشاؤون الاستقامة حتى يشاءَ لهم، وفي ضمن هاتين الآيتين أنني إذا شئت لكم أن تشاؤوا الإيمان شِئتموه لا محالة، وإلا فلا وجهَ لتمدحَه بقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ، ولأنهم إذا شاؤوا الاستقامة على ما يقول المعتزلة فلم يشاؤوا ما شاء لهم أن يشاؤوا لم يكن لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) معنى، لأنه قد شاءَ اللهُ عندهم أن يشاؤوا ذلك، فلا يشأه، والمعقول من قول القائل: ما يُطلق فلان من محبسه إلا أن أشاء، أي: إذا شئتُ أن يُطلقَ أُطلقَ لا محالة، وأنّ كونَه في الحبسِ لا يكون إلا بمشيئته، وإلا فإذا شاء أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 يخرجَ فلم يخرج وحُبس بغير مشيئته كان كاذبا في تمدحه بقوله: ما يخرج فلان إلا أن أشاء وإذا شئت إطلاقه أطلق، فهذه الآيات دالة على صحةِ ما نقوله ونذهب إليه، وعلى إبطال ظن الملحدة والقدرية. وأما تعلُّقهم بقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . وقوله: (فَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ) ، ونحو ذلك، فإنه غير معارضٍ لإخباره بإضلالهِم والطبعِ على قلوبهم، لأنه إنما وردَ ذلك على مذهب الترغيب والحث لهم على اكتساب الإيمان، وليس بينَ ترغيبهم وحثهم على اكتساب الإيمان بالقول وبينَ إضلاله لهم بالفعل تنافي ولا تضاد. ويمكن أيضا أن يكون إنما قال ذلك على وجه الرد لقول من يقول إنهم ممنوعون من فعل الإيمان لعجز وآفة، وغير قادرين عليه، ولا على تركه. وأنّهم مجبرون على الكفر الذي وقعَ منهم، فأخبرَ أنّهم غير ممنوعين ولا مجبرين، وأنّهم مختارون لترك الإيمان ومؤثرونَ للكفر عليه، وأن ما كان منهم لم يكن على وجه الجبر والاضطهاد، وذلك غير منافٍ لإخباره بإضلالِهم، وإن كانوا مختارين ومؤثرين له، فبطل ما توهّموه. فأمَّا تعلقهم في ذلك بذمِّ العصاة ونهيهم عن المعاصي، وأنَّه لا ينهى عما قضى وقدَّر وخلقَ وينهى عنه، فإنه باطل لأنه لم ينهَ العصاة عن خلقِ معاصيهم وإيجادها وتقديرها، لأن ذلك مما لا يصحُّ منهم فعْلُه ولا تركُه ولا يدخلُ تحت قدرهم، وإنَّما ينهاهم عن اكتساب ما خَلقه وهم على ذلك قادرون ولما خلقه فيهم مكتسبون، وأثابهم وعاقبهم على اكتسابهم للأفعال التي هي متعلقة بهم، فالثوابُ على الخلق، والعقاب والذمُ عليه ليس يتوجه من حيث كان خلقا غير متعلِّق بالمكلف، ولكن من حيث كان كسبا مقدوراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 له ومتعلّقا به على ما قد بيناه وشرحناهُ في الكلام في المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به. فأمَّا تعلق الملحدة والقدريّة بقوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) . وقوله: (فَمَا لَهُم لَا يُؤمِنونَ) . وقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) . في أمثال هذه الآيات مما فيه توبيخ لهم على ترك الإيمان واستبطاءه، وقولُ الفريقين فما معنى توبيخَه إياهم واستبطائه لهم مع قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) . وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) . وقوله: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ، وختم عليها بنفس الكفر المضاد للإيمان الذي يطالبون به، وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) . ونحوِ ذلك. فالجواب عن سائره أنّه أراد تعالى أن يبيّن لهم بذلك أن جميعَ ما ذكروهُ من الختمِ والطبعِ وتغشيةِ القلوب والأبصار والتفرِقة بينَ المرء وقلبِه، وغير ذلك مما ذكره ليس بمنعٍ لهم عن فعل الطاعة والقبول ولا عجزٍ عن ذلك. ولا جهلٍ بما بيّنه لهم من الحق ودلَّهم عليه من الهدى والرشد، ولا مُخرج لأدلة التوحيد عن كونه أدلةً ولا مضادةً لكمالِ عقلِ الكافر والضالِّ ومخرجةً صفةً له عن صفةِ من لو استدل على الحق لعرفه، ولو قصده وآثره لقدر عليه وتأتى منه، ولو حاوَلَه لم يعوزَه ويتعذر عليه فعله، فكأنّه أرادَ تعالى الإخبارَ عن أن جميعَ ما فعلتُه بالكافرين وخبَّرتُ به من الطبع على قلوبهم غيرُ مخرجٍ عن اختيار الكفر وإيثاره وكراهية الإيمان واستثقاله، وأنّهم مختارون للكفر على الإيمان، ومؤثرون لتركِه عليه، وربما تجاوزوا إيثار ذلك إلى حدّ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 التمسك به، يؤدون عليه الحريّة ويقيمون على الذلّ ولا ينزلون عن اعتقاد ما هم عليه وإظهاره برغبة أو برهبة، فلمّا كانوا مع الختمِ والطبعِ وتغشيةِ القلوب والأبصار قادرين على الكفر الذي دخلوا فيه ومختارين لترك الإيمان وكارهين لفعله وعلى صفةِ من لو أراد الإيمان لوقع منه ولو كرهَ الكفر لتأتَّى له تركه والخرٍوج عنه، ولم يكن مع فعل الطبعِ والختمِ عاجزاً عن فعل ما أُمر به ولا ممنوع منه، ولا مُحالَ بينَه وبينَه ولا مخبول منتقص، ولا ممّن يتعذر عليه الاستدلالُ على الصواب الذي رغَب فيه وفسادُ الباطل الذي اختارَ الدخولَ فيه -، بل آلته تامة ومعارفُه كاملة، والأدلةُ المنصوبةُ له واضحة، صحَّ لأجل ذلك أجمع أن يقال لهم (فَما لَهُمْ لَا يُؤمِنُونَ) ، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) ، (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا) ونحو هذا، لأنّ لا يظنَّ ظان ويتوهم متوهم أنّهم مجبرون على الكفر غير قادرين عليه، ولا مختارين لتركِ ما أُمروا به ولا راغبين عنه، وأنهم ممن لو حاول الإيمانَ والنظرَ في الاستدلال لتعذّرَ منه وامتنعَ عليه، ومعاذَ اللهِ أن يكونَ ذلك كذلك وأن يكونوا عجزةً أو مُجبرينَ على ما ظنه الملحدة والقدرية، أو أن يكون تكليفُهم لفعل الإيمان وصحيح النظر والاستدلال، بمثابة تكليف المُقعد القيامَ والأخرس الكلامَ والضرير تنقيطَ المصاحف وإدراك المرئيات، وتكليفَ الناس عِلم الغيوب ومعرفةَ ما كان ويكون مع قصد السبيل وعدم الدليل، وكيف يكون ذلك والأدلة على التوحيد لائحة باهرة موجودة ثابتة، وكمالُ عقل الكافر موجود كائن، ومعه، من كمال العقل والآلة - ما يصل به إلى معرفة الغوامض واستخراج اللطيف والدقائق، وحجاج المحتجين ومغالطة كثير من المؤمنين، والحذق في الجدال يوالبيان يوم الخصام والإعراب عما في النفس والغلبة والإلباس في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 الانتصار لباطله وبمجيئه حق خصمه، وكيف يكون مَن هذه حالُه ممنوعاً من النظر ومُحالاً بينَه وبينَ صحيحِ الفكر والرؤية. وإذا كان ذلك كذلك كان جميع ما أخبر الله أنه فعلَه بالكافرين من الختمِ والطبعِ والإضلال لم يصرفهم إلى حال العجزة الممنوعين والأطفال المنتقصين، ولا إلى صفة المكرهين المجبرين على فعل ما نُهوا عنه، وكونُهم غيرُ قادرين عليه، ومؤثرين له على ضده حسن، لأجل ذلك أن يقول لهم: (فَما لَهُم لَا يُؤمِنُونَ) ، (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ) ، (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) ، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) ، أي أن ما فعلتُه من ذلك ليس بعجزٍ عما كُلِّفوه ولا منعَ لهم ولا مبطلَ لكمال عقولهم وآلتهم ولا رافعٍ لقدرهم على فعل ما دخلوا فيه، وترك ما أمروا به، وهذا بين في إبطال ما توهمه الفريقان، فإن قالت الملحدة والقدرية: فالإنسان المختوم على قلبه الذي خُلق في قلبه الكفر وضُد الحق قادر عندكم على الحق وعلى فعل الإيمان حتى يصح أن يُوبخ على تركه ويستبطىء في تأخره عنه. قيل لهم: إن نفسَ قدرتهم على الكفر هي قدر على الإيمان وإنّها تصلح للضدين وتكون قدرةً على الفعلين الخلافين، وإنّما يكتسب بها ما تؤثر القادرَ على الفعل دون الذي يأباه ويكرهه. فإن قالوا: فكان يمكنه أن يفعل بقدرة الكفر الإيمان، قيل لهم: أجل على هذا الجواب، غير أنه اختار الكفر على الإيمان، فتصرف بقدرته في فعل أحد مقدوريه، وإذا كان ذلك كذلك زال جميع ما تشبعون به وتشنعون. فإن قالوا: أفيمكنه أن يجمع بقدرته بينَ الإيمان والكفر الذي اكتسبه وخلق فيه، قيل لهم: لا، كما لا يمكنه عندكم أن يجمع بين الإيمان والكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 في حال ما وُجد بقدرته أحدهما، وإنما يمكنه أن يفعل بالقدرة على الضدين. وكل واحدٍ منهما بدلاً من صاحبه، فأمَّا الجمع بينهما، فإنّه باطلٌ ومحالٌ ممتنعٌ في قدرة كل قادر، وإن كانت قدرةً على الضدين، والجوابُ الآخرُ يقول: إنَّ القدرة على الكفر غيرَ القدرة على الإيمان، ونقول مع ذلك إن الكافرَ في حال كُفره قد كان يصح وقوع الإيمان منه، ويتوهم بأن لا يكون كان الكفر منه، بل كان الإيمان بدلاً منه. فإن قالوا: أفيصح من الكافر تركُ الكفر الذي خلق فيه؟ قيل لهم: أجل، بأن لا يكون كان خُلقَ فيه فهو عندنا على هذا الجواب، قادرٌ على الإيمان لو آثرهُ واختاره، وكره الكفرَ وأباه. فإن قالوا فهو عندكم قادرٌ على كره الكفر، قيل لهم: بأن يختار الإيمان. فإن قيل: أفيَقْدِرُ على اختيار الإيمان وفعله؟ قيل لهم: أجل، إن كره الكفر وآثر الخروج عنه، فليس هو عندنا بمثابة الزمن والمقعد والعاجز، ومن لو حاول القيام بعملٍ لامتنع عليه، وتعذر لعجزه ومنعِ الآفات له من إيثاره بل الكافر مُخَلا عندنا بينَه وبينَ إيثاره واختياره، وممكنٌ من الإيمان إن شاء وأحب وكره الكفر وتجنبه، وهذا الجواب أيضاً يبطل ما توهموه إبطالاً بينا وينبغي في الجملة أن تكون المحاورةُ والمشاجرةُ في الاستطاعة والبدل والعجزِ والمنعِ والفعلِ والتركِ وتشبيه عدم القدرة على الفعل بفقد كمال العقل وعدم الدليل، وبطلان الجوارح والآلات بيننا وبينَ القدرية المعتزلة. والكلامُ في هذه الأبواب مذكورٌ معروف، واستظهارُ أهل الإثبات عليهم في هذه المذاهب التي يعتقدون بطلانَها على وجهٍ قد صار معهم فيه الجِلَّة والأئمة، وحُذاق أهلِ النظر وسائرِ البخارية والقدرية، وأنهم قد بلغوا بالحذق والتمويه في باطلهم إلى حدَّ ما صاروا به في استهواء الناس أكثرَ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 أهلِ الحق، وصار الحقُّ أكثر شبهةِ المثبتة والبخاريّة مهجوراً، وصار صاحبُه خائفاً حذراً، وصار حقُّه مغموراً لا يقدر عليه أن يظهره بينَ العامة، وعند كثير من الخاصّة، ولا في الجوامع والمساجد والثغور والمواسم أمرٌ بَيّنٌ لا خفاءَ به، وهو من أدل الدليل على كذب القدرية والمعتزلة في تسميتهم خصومَهم في هذه المذاهب حشوٌ وعامّةٌ ونائبه. وعلى أتباعِهم عند تضايق الأمر بهم سبيلُ إخوانِهم الملحدة في تسمية كافة المسلمين والملتين طغامٌ وحشوٌ وعامة، غير موهنٍ لحقِّ المثبة ولا حاط عند ذي تيقُّظ وتحصيل عن رتبة التدقيق والحذق، وإيراد ما يُذهل القدرية ويُخرسُ المعتزلة، ويملأُ قلوبَهم وصدورَهم غيظا وخنقا، ويحذرون محه على نفوسِهم ومهجتهم من تخطُف العامة والدّهماء لهم في قولهم: إنّهم يخلقون كخلق الله ويصنعون كصُنعه ويَنْفَردون بتقدير أعمالهم وإنشائها دون ربِّهم ويكون ما يؤثرون ويشاؤون، ولا يكون ما شاء الله مع قول الأمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فأمّا الملحدون فلا ينبغي أن يقبلَ من مطاعنهم واعتراضاتهم ما يصيرون به إلى قول بعض المتكلمين من المسلمين، لأنّه إذا صاروا إلى ذلك تركوا الإلحادَ والطعنَ على النبوة والقرآن، وإنّما يجبُ أن تكون مسائِلهم واعتراضاتهم أموراً تبطل دين المسلمين جملة، ويقدحُ في سائر مذاهبهم. لأنّهم لا يقصدوا ذكرَ هذا التناقض والاختلاف الذي يظنّونه في القرآن لإبطال مذهب المثبتة دون مذهب القدريَّة، وإنّما قصدوا الإدخال على الجملة وضمنوا بما أوردوه إبطال القرآن والتوحيد والنبوءة، فإذا صاروا إلى نصرة بعض مذاهب المصلين إلى القبلة فقد عجزوا عما ضمنوه وظهر بغضهم تخلفهم، وكذلك فمتى سالوا عن آية وشيء من القرآن متوهمين - فساده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وتناقضَه فيخرج، ويصح جوابُه على مذاهب بعض الأمة، فقد زالت العهدةُ ووضح الحق، وبطلت الشبهة، وهكذا يفعل اللهُ سبحانَه بمن ضل وعندَ عن الحق. وقد علموا أنّ من الأمّة من يقول إن قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) ، مراد به أننّا سنذرأ يوم القيامة، وأن قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، على عمومه، وكذلك قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، وأن قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ، أي: أنّه للرحمة خلقهم. وأن قوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) . أي: من أراد عقابَه بما كان من كفره، وأنّ الفتنة تكون بمعنى العذاب. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) . يقول عذبوا المؤمنين والمؤمنات، وأنّ جميعَ ما ذكره اللهُ من الختمِ والطبعِ والتغشيةِ والإضلال إنما المقصدُ به الحكمَ والتسميةَ دونَ فعلِ شيءٍ في القلوب، وأن قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) ، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) ، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) ، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ، إننا لو شئنا أن نُجبرهم ونلجِئهم إلى ذلك، لفعلناه دونَ مشيئةِ ذلك على وجه الطوع والاختيار، وأنه ليس من شيءٍ يتعلّق به المثبتةُ إلا وقد أعدوا له عند أنفسِهم جوابا، وإذا كان ذلك كذلك، فجميع ما يتوهمونه متناقضاً من هذا الباب، فإنّه على خلاف ما توهموه من قولنا وقولِ المخالفين من أهل القبلة، وليس يجب على المسلم في جواب مما يتعلقون به أكثر من تخريجه وتصحيحه على بعض المذاهب والوجوه، وإذا كان ذلك بطل ما قالوه وكان الكلامُ معهم إذا صاروا إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 اعتقاد ذلك المذهب كلاما في القدر، وزالَ الطعنُ على القرآن والإسلام. وهذا بيّن في إبطال جميع ما يحاولونه. فتأملوا رحمكم الله فصولَ الأجوبة لهم على ما نزلناه وبيناه يتضح لكم جهلهم وتعرفون حيرتَهم وتخليطهم وتعلُّقهم بالأباطيل والتعاليل، وأنهم كحاطب ليلٍ وكالغريق بما يجد يتعلق وعلى ما وصفهم الله تعالى به من قوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) . لأن الأنعامَ ممنوعة من النظرِ والاستدلال والخلو من تصحيح النظر ولطيف الفكر إلى كشف الغامض وحل الملتبس. والملحدةُ في تركِها النظرَ ومعرفةَ وجوهِ الخطاب وتصاريفَ الكلام. ومعرفةَ ما يُرادُ به وعليه من مجملٍ ومفسر، وخاصٍ وعام، ومطلقٍ ومقيد. وناسخٍ ومنسوخ، ومحكمٍ ومتشابه، ومستثنى في تصاريف الكلام، ومنقطعٍ ومحذوفٍ ومختصر، وكنايةٍ وتصريحٍ وتأكيدٍ وتنبيه، وحقيقةٍ ومجاز، واستعارةٍ وتشبيه، وقصدٍ إلى ضرب مثلٍ وتشبيه، ومستعملٍ على سببٍ حادثٍ وأمرٍ حاصلٍ وجواب شامل، وشخصٍ مخصوصٍ وأمرٍ محصورٍ وعهدٍ متقدم، وعُرفٍ مستقر وعادة في الخطاب، وتعويلٍ على متقدم أو مؤخر من البيان، أو على العُرف وشاهدِ الحال، أو على إناطته وربطِه بدلائل العقول وقضاياها والردِّ إلى المستقر فيها، وبما جاء في الخطاب بلفظ المواجه الحاضر، والمراد به الغائب وبما جاء باللفظ الموضوع للغائب، والمراد به الحاضر، على ما بيناه من قبل، وربَّما ذكر من له الاسمُ فيه وأريدَ غيره وربَّما ذكر الغير وأريد هو، وربَّما وردَ اللفظُ المشتركُ بينَ أمورٍ مختلفةٍ والمرادُ أحدها، وإن كان الظاهر لا يُنبىءُ عنه فلذلك أمرَ الله سبحانه بالتدبر والاعتبار والاستبصار وجعلَ أهلَ العلم درجات، وفضلهم على ذوي الجهل والنقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 وليس في شيءٍ مما حكيناه عنهم ونحكيه مستأنفاً إلا ومعناه ثابت صحيح إذا حُمل على بعض هذه الوجوه، والقرآن لا يبطلُ ولا تستحيلُ معانيه، ويناقضُ لظن الملحد لذلك وحمله على ما يصنعُه لنفسِه ويقدره بجهله، أو تجاهله وإلباسه، وإنَّما يصيرُ وضعُه وتوهمُه فاسداً متناقضاً دونَ التنزيل وكلام رب العالمين. فكيف يكون ذلك كذلك واللهُ يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . ويقول: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) . ويقول: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، ويقول: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . في نظائرَ هذه الأخبار الواردة في حفظ القرآن وحياطتِه وصونه عن مطاعن الملحدين والزائغين وحراسته، وقد بانَ بما قدَّمنا وما سنذكره من أجوبتهم صدقَ ما خبَّر الله به من حفظ كتابِه وحصولِ الاهتداء والبيان به. فأمَّا تعلقهم بقوله تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) . وقوله: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) ، وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) . إلى نظائر هذه الآيات، فقد قلنا من قبلُ في تأويل هذا التزيين، وأنَّه ليس من تزيين الكافرين والشياطين بسبيل، وأنه ليس هو الدعوةُ إلى ذلك والترغيبُ فيه، وفي النّاس من يحملُ ذلك على أنه إنما أرادَ بالتزيين خلقَ الشهوة وما جُعلَ في الطباع من الميل والتوقِ إلى ذلك، وليس معناه الترغيب فيه والدعاء إليه، فبطل توهم من ظنَّ أن معنى زيَّنا أننا أمرَنا بذلك ودَعْونا إليه ورغبنا فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 فأما قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، فلو حُملَ على أنّه خلق لكل أهلِ دين دينَهم وما هم عليه وطريقتَهم، لما أخل ذلك بصحة القرآنِ ولزومِ التكليف، وحصولِ البيان على ما قد ييّناه من قبل. ولكن ليس هذا هو القصد، وإنّما أرادَ بالشرعة ما شرَعه لهم وتعبدهم به. وهذا الجعلُ بمعنى التعبد، وتقدير الأديان وتوظيف الفرائض والعبادات. وليس من خلق الفعل في شيء فبطل ما قدروه. وأما تعلُّقهم بقوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، فإن حُملَ ذلك على أنه خلقَ عداوةَ بعضهم لم يُخرجَهم ذلك عن التكليف إلى يوم القيامة، وإمكان النظرِ والاستدلال وتأتِّيه وقيامِ الحجَّة عليهم، ولزومِها لهم على ما بيناه من قبل، وإن حُمل على أنّ معنى ذلك أننا ألقينا بينَ ضروبِ أهل الكفر التعادي على كفرهم، وتبري بعضهم من بعض، لم يكن ذلك عند أحدٍ قبيحا ولا ظلما، فكأنه ألقى في قلوب اليهود عداوةَ النصارى على القول بالتثليث، وذلك عداوةٌ لباطل، وألقى في قلوب النصارى عداوةَ اليهود والمجوس على شتمِ المسيح وتكذيبه والقول بالنور والظلمةِ وذلك عداوةٌ لباطل، فكأنَّه على هذا الفرق ألقى بينَ أهل الباطل. الذين ذمهم على التعادي على باطنهم ولم يُلقِ على قلوب "المبطلين عداوةً للحق وأهله، وإذا كان الكلام محتملاً لذلك بطل ما توهّموه وزالَ التناقض الذي قدروه. فأمَّا تعلّقهم بقوله كلعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) . فإن حملناه على أنه خلقَهم للنار والضلال فذلك صحيح على ما قلناه. ويمكن أيضا أن تجاب الملحدة أن يقال: إنما عنى بقوله: (لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) على عاقبة الفعلِ وإنهم سيزدادون في الآخرة. وكذلك قوله: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أي سيزيدهم عذابا بما كان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 رجسهم وأمرِهم بذلك، كما قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ، على عاقبة أمره، وما يؤول به الحال إليه، ولم يلتقطوه وقتَ أخذه إلا ليكون لهم حبيبا وأنيسا. وأمَّا تعلق الملحدين بقوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، وقولهم فما ذنبُ الساحرِ إن كان بإذن الله فعل، ما أبيح له وأمرَ به، فإنّه ليس على ما قدره، ولم يرد بقوله: بإذن الله، بأمرِ اللهِ وإطلاقِه وإباحَته له فعلَ السحرِ الذي قد اتُفق على أنه قد نهاه عنه، وإنما أراد بإذن الله أي أنّ الله خلقَ ذلك السحرَ وقدره قبيحا باطلا كما يقالُ جاء المطر بإذن الله، وماتَ زيد ومرِضَ وصحَّ بإذن الله أي: بخلق الله ذلك وتقديره وإيجاده، وليس ذلك بمعنى قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ، وما جرى مجراه، ويمكن أيضا أن يكون أراد بالإذن ها هنا أن الضررَ الذي يكون عند فعل الساحر، والألمَ ليس من كسبِه وفعلِه، ولكن الله هو الذي يخلقه، ويضُر المسحور به بجري العادة، ويمكن أيضاً أن يكون بإذن الله أي بعلم اللهِ وسابق ما كتَبهُ عليه في اللوح المحفوظ فيعترُ عن ذلك بالإذن. ويمكن أن يكون أراد بالإذن أنّ تركَ الساحرَ وسحره، وتركَ إماتتَه وإعدامَه وإبطالَ لسانَه وجوارحَه، وغيرَ ذلك ممّا يمنَعه من السحرِ لم يكن إلا بإذن الله، فكأنه قال: لو شئت أن أمنعهم بهذه الأمور من السحر لمنعتهم ولكن تركتهم، وذلك بإذني، ويمكن أن يكون أراد بالإذن خلق الشخص المسحور ممن يقبل الألم ويستضر به كلٌّ يإذن الله وإيجاده له كذلك. ويحتمل أيضا غير هذا من الوجوه، فبطل قولُهم أنّ الإذنَ لا يكون إلا بمعنى الإباحة والإطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 وأما تعلقهم بقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فإنه لم يخرج على الشك والارتياب بما جاءهم به، وكيف يكون ذلك كذلك وهو يخبرهم بأنه الحق، ويحذرهم بالنار من مخالفته، وإنما عنى وهو أعلمُ ولكنّه على مذهب التوبيخ والتنبيه لهم والتعريض بأنَّهم هم المبطلون كما يقول القائل لمن يلاحُّه ويشاجره: إما أن نكون جميعا مبطلين أو محقين، وإني وإياك لعلى حق أو في ضلال، يعني بذلك أن أحدنا محق أو أنّنا على أحد الأمرين إذا قال الرجل لمن يشير عليه بترك ما هما جميعاً فيه إلى غيره إني وإيّاك لعلى هدىً أو ضلال، يريد أنّنا على هذا فلا يفارِقَه في خطأٍ ومهلكة، فلا يخالف في الخلاص من ذلك، وقد قيل إن معنى الآية الكريمة أنّنا لعلى هدىً وإنكم لعلى ضلالٍ فحذف تكرار ذكرهم، وأو هاهنا بمعنى الواو كما قيل: جاء الخلافة أو كانت له قدراً أي: وكانت له قدراً. فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ) ، وأن ذلك شك وإحالةٌ على ما هو وهمٌ فيه إلى الله، فإنه باطل، لأنه إنّما ورد ذلك على وجه المتاركة والزجر لهم عما هم عليه، كما يقول الرجل للرجل: مجلس الحكم بيننا ثم يحكم بيننا بالحق، ليس على وجه الشك في حقه ولكن على وجه المتاركةِ وقطعِ المزايدة والتحذير من الحكم عليه بباطله. فأما تعلُّقهم بقوله: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) ، وأنّ ذلك شكّ منه ونقضٌ لما وعدَ وتوعَّد به، فإنه بعدٌ وتخليط منهم، لأنه لم يعنِ ذلك، وإنَّما أراد ما أدري ما أتعبَّدُ به ويُفرضُ عليّ وعليكم من الوظائف والعبادات واتباع شريعةِ من سلفَ أو استئناف سواهُ وتبعيةُ ما قد شرعُ لي أو نسخُه وتغيُره، ولم يرد أنني لا أدري هل يثابُ المؤمنون ويجازى الكافرون أم لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وقد قيل: إنه كانت له عليه السلام ذنوب خافَ منها قبلَ أن يقالَ له وينزَل عليه: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ، فقال لما خاف من ذلك: وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم معاشر المذنبين من غفران لي ولكم أو عقابٍ أو مجازاة، وليس هذا من الشك في دينه ونبوته بسبيل. وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) ، ونحو ذلك وأنه نقيضٌ لقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) . وذلك أنه لا جواب لما سألوا عنه من ماهية الروح وصفتها إلا ما قال لهم، فكأنم ظنوا أن الروحَ جسم محسوس، وشخص مدرك وشيء متمثل متجسد، ذو طعم وهيئة ومُحسة ورطوبة ويبوسة فقال "ويسألونك عن الروح يعني أهي صورة أم صغيرة أم كبيرة أم حلوة أم حامضة، أم رطبة أو يابسة أو بيضاء أو سوداء، فقال: قل الروح من أمر ربي، أنها جنسٌ يخالفُ جميعَ هذه الأجناس المدركات وذواتِ الصور والهيئات والصفات التي سألتم عنها، وكذلك سبيل الجواب عن نعت كل شيء لا يُدرك بالحواس. وعن ماهيته في أن هذا جوابُه. ولو قال قائل: خبِّرونا عن الحياة ما هي وما صفة الغمَ والشرور واللذة والألم، أمتحرك هو أم ساكن، أم أسود أم أبيض، أم صغير أم كبير، مربعٌ أو مسدس، لوجب أن يكون هذا هو جوابُه، فيقول: هذه الأجناسُ التي سألت عنها من الحياة والحزن والسرور شيء من خلق الله، وأمور من فعله لا يعلمها إلا هو، أي لا يتأتَّى فعلُها وجعلُها على صفاتِها إلا له، وليس فيها ذو هيئة وشكلٍ وطعمٍ ورائحةٍ يخبِرُك عنه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما توهموه من قصور القرآن والرسول عن الجواب عن الروح، وهم يعنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 بالسؤال هل الروحُ حيٌّ أم لا، وهل تبقى أم لا، وهل الروحاني روحاني بمعنىً أو بنفسه، وإنَّما سألوا عن ماهية الروح ونعتِه كأنهم يعنون صورتَها وهيئتَها، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قدَّروه. وأما تعلّقهم بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ، فإنّه تعلّق باطل، لأنهم لم يسألوه ما جنسُ الأهلة، ولم تطلعُ وتغرب، وكيف سَيرُها، وما جنسُ الزمانِ ومعناه، وإنَّما أرادوا لم 5551، وُضعت الأهقة، ولماذا خُلقت، فقال: (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي: لهذا خُلقت ووضعت، لأجل ديونهم ومُدَدِ أعمالِهم وأجورهم، ومعرفة أوقاتِ حجهم وصيامِهم ووظائفِ دينهم، وقولُ من زعم أنّهم سألوا عن كيفية الأهلة الغامضة جهلٌ منه، ولو سألوا عن ذلك وهم يعنون بالكيفية جنسَ الهلالِ وطبيعتَه أو تقلُّبه وحركتَه، وعن جنسِ الوقتِ نفسِه وجنسِ التقدير، لأخبرهم بجميع ذلك. فأما تعلّقهم بقوله: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) . (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) ، وأنه نقيض لقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) . وأنّ ذلك إخبار بأنه قد خلق الأزواج كلها من أنفسهم ومن أشياء أخر لا يعلمون، فإنّه أيضاً مما لا تعلق لهم فيه، لأنه لا يمكن أن يكون إنّما أراد بقوله: (وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) أي: أنّه لم يكن شيئا مذكوراً ومدركاً وشيئاً عاملاً مكلفاً وشيئاً فطناً حاسا بل كان طينا جماداً إن كان عنى آدمَ عليه السلام، أو نطفةً وماءَ مهيناً إن كان أراد المخلوق من ولده، وقولُ المسلمين إنّه خلق الإنسان لا من شيء صحيح، وليس بنقيض لهذا الكلام. لأنّه أرادَ أصولَ الأزواج وأوّل الحيوانات وعناصرَ الأشياء وليس الماءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 والهواء والترابُ والنارُ التي هي عند الفلاسفة أصولُ الأشياء التي هي قديمة لم تزل، ومنها تنمو الأشياء وتزيد، وإليها تنحل وتَفْسد، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه، وقد يقول القائل لمن يسمعُ كلامَهُ ويدرِكَهُ ويشاهدُ فِعلَه ويحسه: ما قلت شيئاً وما صنعتَ شيئاً، أي: ما صنعتَ شيئاً نافعاً. وما قلت شيئاً مفيداً محصّلاً، وليس يعني بذلك كونَه ووجودَه، وهذا يزيلُ توهمهم ويقطعُ مادة أشغالهم. فأما تعلّقهم بقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) . وأنه نقيضُ لقوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) . وأنّ هذه صفة معصي غير مطاع، فإنّه جهل منهم لأن الرسولَ المطاعَ هو جبريلُ في قولِ كثيرٍ من المسلمين، هو مطاع في السماء وعند الملائكة ولم يُرد به إجابة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع ما يلتمِسُه. ويحتمل أن يكون الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكونَ معنى قوله: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) عند المؤمنين به وعند خزنَة الجنَّة، وليس يُعقل من قول مطاعٍ أن الله هو الذي يطيعه، وإنما يُعقلُ من ذلك أنه إنما يطيعُه من يأمره وينهاه ممن أجابه وعرفَ حقه ونبوته، فبطلَ ما قالوه. فأما تعلهم بقوله في قصة نوح ومحمد عليهما السلام وقوله: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) . وقوله في قصة محمد مثلَ ذلك، وأنه نقيضُ قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) . فإنه ليس على ما ظنوه، لأن نوحا ومحمداً - صلى الله عليهما وسلم - إنما نفيا عن أنفسِهما إدراكَ الغيوبِ من غير توقيف وإخبارٍ على وجه ما يدركه الله سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 من العلم بمعلوماته الغائبة من غير اضطرارٍ ولا استدلالٍ ولا خبر، فإذا اطلعا على ذلك صارا يَعلمانه من جهة الوحي والتوقيف، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. ويحتمل أن يكون قولُه: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) قطعُ الكلام واستئنافا لذكر الرسول وقصتِه وتأييده وحفظِه وغير ذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. فأما تعلق الملحدة بقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ، وذكر فيها من صحافِ الذهب والفضة والولدان وغير ذلك من تعظيم شأن نعيمها وإيصال لذاتها وسرورها وأنه منقوص بوصفه لها بأنّ فيها أنهاراً من ماءٍ غير آسن، وأنهاراً من لبن لم يتغيّر طعمُه، وأنهاراً من خمر لذةٍ للشاربين، وقولهم أن اللبنَ والخمرَ ليس مما يُستلذ، واللبنُ خاصةً لا يطلبُه ويشتهيه إلا جائعٌ مضرور، وأن الموضع الموصوف بأنّ فيه ماءً غير آسنٍ لا يكون إلا جدباً قحطا غير مخصب فإنه باطل، لأن الخمرَ عند كل أحدٍ مستلذ مشتهى، ولذلك حُرِّمت ومُنعت كسائر اللذات، وما تدعوه إليه النفوس والطباع، وذكرُه الأنهار إنّما هو إخبار عن كثرته، وأنَّه غير محصورٍ ولا مغيّرٍ مقترٍ محدود. فأمّا ذكره اللبن فإنه صحيح، لأن العربَ تلذُّ اللبنَ وتشتهيه وتؤثره على الماء وتختارُه عليه، وتجعلُه بمثابة الطعامِ والشراب، وليس بعد الماء شرابٌ مفطور مخلوق من غير صنعةٍ ولا مزاج، وشربُ غيره من كل مائعٍ سواه. فإنه لا يلذُّ بشربه إلا بصنعةٍ ومزاجٍ وتعديل، وكذلك ذِكْره العسل، لأنه مما يلذُّ ويحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 فأما قولهم: إنه قلَّ ما يؤكلُ ويشربُ عسلاً صرفا حتى يُمزج ويعالج. فإنه كذب، لأن كثيراً من الناس يشتهيه صرفا، ولعله يُمزج لمزاجته ممزوجا، واللهُ سبحانه إنما ذكرَ لهم الأشربة في الجنَّة من هذه الأجناس. ليدلهم على أن هناك لبن وعسل وخمر وماء وأنواعُ ما تدعو إليه الأنفس، لا لكي يدل بذلك على أنه مثلُ طعمِ الذي في الدنيا وصفتُه لا يفوقه ويزيدُ عليه، وكذلك إنما وصف الماءُ بأنه في أنهارٍ وأنه غير آسنٍ ولا متغير، لأن القومَ الذين خوطبوا بذلك إنما كانوا يشربون من العيون الضيقة والآبار النزة وربما كان الماء لقلته آسناً متغيراً، فعرَّفهم أنه هناك غيرُ قليلٍ ولا محصور مغيرٍ مقترٍ محدود، فبانَ بذلك بطلانُ ما قالوه، وكذلك قوله: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) ، وغير ذلك إنما أوردَه لكي يعرِّفهم أنواع ما في جنانه، ولم يذكره لكي يعرِّفهم أنه على صفات ما في الجنَّة من الثمار واللحوم، على صفات ما تقع عليه هذه الأسماء والنعوت في الدنيا من غير تحصيل مزية ولا زيادة حسن وطيبٍ ولذة، وما لا يقدر جميع من على وجه الأرض على تركيب طعامٍ وشراب يبلغ لذته، وإن صنعوه وعالَجوه بكل مزاج وتركيب، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه. فأمَّا تعلّقهم بقوله: (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) ، وإنّ ذلك نقيضٌ لوصفه أنهارَ الخمر، لأن الختمَ يقتضي العزّة والقلة. وقولهم: ولم خَتَمه الخشية الغارة واللصوص؟ ونحوَ ذلك من الجهالات. فإنه حمقٌ وبلَه وتلاعب من الملحدة، لأن معنى (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي منقطعه يوجدُ عنده طعمُ المسك من رائحته وهو من أجمل الشراب، ولو كان الختام هو الختم والطابع لم يدل ذلك على القلة ولكان على التشريف لأولياء الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 والكرامة، ولذلك يتخذ الملوك خزائن الشراب ويضعونَ عليها الخواتيمَ والأقفالَ ويغطون الآنية بفاخر الثياب، ويتهادونَ الأشرِبة مختومةً مضمونة. وإن أرسلوها مع أُمَنائِهم وأولادِهم إلى أخصِّ الناس بهم مع أمان السمِّ والإدغال ومزاج الشراب ما يؤذي شاربه، وكل هذا على وجه التكرمة والإعظام فبطل بذلك ما قالوه. *************** يتلوه إن شاء الله في الورقة التي تليها بعد البياض الذي يلي هذه الصفحة فإن قالوا: مزاجها كافوراً وزنجبيلاً فإنه غير مفسدٍ لطعم الشراب. والحمد لله ربّ العالمين. فرغ منه كاتِبُه حامداً اللهَ تعالى ومصليا على رسوله سيدنا محمدٍ النبي، وآله الطاهرين وسلامِه وحسبُنا الله ونعمَ الوكيل. فصل (1) :   (1) جاءت هذه الصفحة بياضاً كلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 فصل ربِّ أنعمتَ فزِدْ فإن قالوا: مزاجها كافوراً وزنجبيلاً، فإنه غير مفسد لطعم الشراب لأن مِنَ الناس من يعجبُه الشراب عند مقطعه شيء من لذع الزنجبيل والكافور وطعمهما وريحهما، ويميل إلى شدة برد الشراب، ولعله تعالى أراد طعمَ الكافور وريحه وبَردهِ، أو برده خاصةً وكل ذلك محبوبٌ مشتهىً عند أكثر الناس. ويمكن أيضا أن يكون عنى تعالى أن بردَ ذلك الشراب ونفاذَ عَمَله في اللذّة وطعمَه وريحَه اللذين هما له، كنفاذ برد الكافور والزنجبيل وطعمه وريحه، من غير أن يكون معنى ذلك الشرابِ في الطعم والريح معناهما. وقد يقول القائل: إن له لساناً أحدَّ من السيف، وشرابا مثل شُعل النيران. وأن ريح هذا تيّمٌ كريحِ المسك والكافور ولا يَعني بذلك تساوي معنى ما ذكره وما شبَّهَه، وإنما يعني نفاذَ عَمَله ورائحته، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. فأمّا قوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) ، وأن ذلك ليس تعظيما في الزينة، ولا من زينة الرجال، فإنه كَذِبٌ، لأن العسجدَ من أفضل الزينة، وإنما كُرِه للرجال لموضع التشبيه بالنساء، ولعله أن يكون لأجل ما يُلْحَقُ البلواء والخيلاء، وصار ذلك مستهجنا في الدنيا لموضع التعبُّد والعادة، وفي عامة النّاس وأوساطهم، فأمّا ملوك العرب والعجم والروم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 فهم إلى اليوم يتسوَّرن ويلْبِسون الأطواق والإسْوِرة والتيجان، ويبالَغُ في ذلك ويتنوَّقُ فيه ويرصِّعُه، ولكن ذلك لعظمائها دون صغارها وسفاسفها. وأهلُ الجنَّةِ في أجل رتبةٍ وأرفعَ منزلةٍ وأيسرهم نعيماً في الجنَّة، وإن لم يكن في نعيمها يسيراً أعظم من سائرِ نعيم ملوك الدنيا، فزال ما قالوه. فأمَّا تعلُّقهم ُ بقوله: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) . وإن ذلك نقصٌ منه، لتعظيم شأن ما فيها لأجل أن السنْدس هو البزيون - زعموا، والإستبراقُ غليظُ الديباج، فإنه لا تعلُّق فيه، لأنه إن كان السنْدس هو البزيون، فإن لهم من الفرش ما هو على نمط البزيون وصفته، ومخالف لجنسه في كَوْنه وهَيْئَته ولينه، ولعلمه أن يكونَ ألينَ من كل سُنْدسٍ من مِرْعَزيِّ الأوبار وألينِ الأصواف، وما لا يقدر البشرُ أبدا على إيجاد مثله ولا يَنْتهون إليه، فأمّا الإسْتَبرق فإنّه إن كان غليظَ الديباج فإنه من الحُسنِ والهيئة، وجميل المنظر ولين الملمس، بحيث يقصُرُ عنه وصفُ الواصفين. وليس كل الناس ترغب في ضعيفِ الديباج ورقيقِه، بل الدهماءُ منهم ترغبُ في متينه وغليظِه، لأنه أجل ولذلك عظُمَ الروميّ والملكيّ على التستُريّ وما جرى مجراه، فكيف بغليظه إذا كان بصفة ما قلناه؟! وكلُّ هذا تلاعب منهم وتخالعٌ واستهواءٌ للعامة من أتباعهم، والأوغادِ من معظِّميهم وشيعتهم. ومن أدل الأمور على ضيق الأمر بهم، وعدم المطاعن على شيءٍ من كتاب الله. فأمَّا تعلقهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) ، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 ونحو هذا، وأن ذلك منقوضٌ بقوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) ، ولا جُرْمَ - زعموا - للجلود التي لم تكن عليهم في الدنيا، ولم تصحبهم، وتكون من جملتهم وقتَ المعصية، فعقابُ جلودهم وإيلامها على ذنبٍ لم يكن منها ولا هي من جُمْلته وقتَ اقترافهما: ظلم وعدوان، فإنه باطل لا تعلق فيه من وجوه: أحدُها: أن الأمرَ في هذا ليس على ما يدَّعونه عند أهل الحق من أن إيلامَ الحي على غير جُرمٍ ولا لعرض ظلم، وإنَّما يكون ذلك ظلماً ممن ليس له فِعله، ومن نُهيَ عنه وتجاوز ما حُدَّ له وتصرَّف في مِلْكِ غيره. والذي هو أمْلكُ بالمخلوقات منه، واللهُ تعالى ليس هذه سبيلَ إيلامه لما آلمه من خلقه، وقد أتلفَ الأطفالَ في الدنيا وأباحَ إيلامَ الحيوان وذبحَه وسلخَه وأكلَه، وكدَّه وحملَ الأثقال عليه لغير ذنبٍ ولا لغرض، كان مصير البهائم إليه بجزاءٍ وثواب وعذاب، وذلك حَسَن وعدلٌ منه. والجواب الآخر: إنما أراد بقوله: غيرها أنَّها كلما نضجت واحترقت فصارت حُمَماً أُعيدت حينئذٍ رطبةً مؤتلفةً محتمِلةً للألم والعقوبة، فقيل غيرها أي أُعيدت كالذي كانت، وعلى صفتها التي صارت بالاحتراق إليها. كما يقول جاءني زيد اليوم بغير الوجه الذي فارقني به بالأمس، أي: بغير صفة الوجه التي كان عليها، وكذلك قولُهم: زيد هذا الذي عرفناه وأنت غير الذي كنَّا نعرفك، يعنون تغايُرَ صفاتِه دون ذاتِه. ويمكن أيضاً أن يُقال: إن العذابَ إنقا هو على الأرواح دون الخَلْق. فإذا عَظُمت جلودهم وأُنضِجَت آلمت أرْواحَهم، وهي المُعاقَبَةُ دون الجلود، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 فإذا أمكنَ تخريج هذا على بعض مذاهب المسلمين، فقد خابت آمالُهم وانقطعَ رجاؤُهم وزالَ إشغابهم، وصحَّ أن القرآن هدىَ ونورٌ منزلٌ من عند حكيمِ عليم. وأمَّا تعهفُقهم بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) ، وأنه نَقَضَ ذلكَ قولَه: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ، لأن هذا تصريحٌ بأنه خَشِيَ الناسَ ولم يَخْشَ اللهَ أو كاد أن لا يخشاه، وهو نقيض الخبر الأول، فإنه مما لا تعلُّق لهم فيه من وجوه: أحدها: أن في الناس مَنْ يحملُ هذا على أن اللهَ سبحانَه حكى قولَ رسوله لزيدِ بنِ حارثة، وأنّه كان يعظُه بمثل هذا الكلام، وبقوله: (وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) ، كأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لزيد: وتخفي في نفسكَ ما اللهُ مبْديه، وقال له: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ، وليس هذا بعتاب للنبي صلّى الله عَليه ومثلُ هذا التأويل سائغ غير بعيد. والوجه الآخر: أنّه قد كان أوحِيَ إلى النبي صلى اللهُ عَليه أن امرأةَ زيدِ تكون زوجةً لك فكَتَم هذا ولم يُخبِر به زيداَ ولا غيره، مخافةَ أن يتسرع زيدٌ إلى طلاقها إذا عَلِمَ رغبةَ الرسول فيها، وأن يقولَ عند ذلك المنافقون أمَرهُ بطلاقِها، وفرَّق بينَه وبينَها، ثم تَزوجها، ويجعلون ذلك وصمةَ ومطعناَ وذريعةَ إلى الغَميزة عليه والقَدْحِ في فضلِه، فيجب لذلك الإخبار بما أنزل اللهُ عليه فأخبر به خَشْيةَ ما ذكرناه فقال: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) أي: لا تخف في إظهار ذلك، فإنهم لن يضروك بشيءِ خِفْته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وقوله -: (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) أمرٌ له بأن يخشى اللهَ وبينه على أنه أحقُّ وأولى أن يُخشى،، وذلك لا يدل على مخالفة المأمور إلى ضده وارتكابه لترَكه أو العزم على ذلك، فبطل التعلق بهذا الموضع. ويحتمل أيضا: أن يكون كرِه إظهارَ ذلك لئلا يقول المنافقون: قد حرَّم الله على أمته حلائلُ أبنائهم، وزيد ابنه، وقد تبنَّاه، ثم تزوَّج بحليلته، فقال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) ، أي ليس زيد ابنَهُ. بنوةً تَمْنع من تزويج امرأتِه، فقال: قل لهم هذا ولا تخشاهم، فإنّ اللهَ أحقُّ أن تخشاه، وليس ذلك بركوب لمأثم. ثم إنه لو سُلّم أن الرسول صلى اللهُ عَليه كان راغبا فيها ومؤثرا، لطلاقها لكي يتزوجها إذا فورقت واعتدَّت: وحلَّت للأزواج، وأنه خافَ أن يظهرَ ذلك الموضعَ للقالية التي قدمناها والقذفِ له لم يكن ذلك - ذنبا منَ ذنوبه، وخشيةُ الناس وتركَه لخشية الله، لأن ميلَ الطباع وشهوات النفوس والرغبة في النساء والوقوع في حبائلهن، وتعلق القلوب بهن إذا خرج عن التكليف والاكتساب لم يكن صاحبُه ملوما مذموما إذا عزم العازم، على التزويج بمن يُوثره إذا حلَّت للأزواج، لتسكين طَبْعه وإحمام نَفْسه ودفْعِ الوسوسة. والحوم حولَ الحمى ومكابدة الألم ومدافَعة، النفس وطلب الاشتغال عن ذلك بطاعة الله، فإنّه بهذا الحزم والقصد مطيع لله، فكأنه قال له عليه السلام "لا تحْفْ الناس في كشف هذه الحال لهم بأنها مطلقة مباحه، واعلم أن الله أحق أن تخشاه، ويُخْبِر بالمباح المطْلَقِ لك من دينه وفي شريعته، وإذا كان ذلكْ كذلك بانَ أنه لا عيبَ على الرسول ولا عار، وأنه غير مواقع بذلك دنبا ولا عصيانا ولا تارك لخشية اللهِ تعالى، وبطل ما قَدَّروه وززالَ ما توهموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 فأمَّا قولهم: إنه لا معنى لقوله في أم الكتاب (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لأنه قد أفاد بالرحمن ما أفاده بالرحيم، ولا لقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأنه إن كان حَمِدَ نفسَه فأيُّ فائدةٍ في حمدِه لنفسه، وإن كان أرادَ الأمرَ بحمده فألاَ قال: قولوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، فإنه تعلُّقٌ باطلٌ وليس الأمرُ فيه على ما توهموه، لأن في قوله: (بِسْمِ اللَّهِ) إضمارَ كلام مقدر قد حُذِف لأنه قد عُرِفَ أن القصدَ به بسم الله أفتتحُ أو أبتدءُ أو أستعيذ أو أستنْصِرُ ونحوُ ذلك، ولكن لما كثُر استعمال ذلك وما يقوم مقامَهُ في فواتح الكُتب والخطب والرسائل وعُرف الغرضُ فيه ومقصِدُ العرب بقولهم في مبادىء كتبهم: "باسمك اللهم" حُذِف ذكرُ الابتداء أو الافتتاح أو الاستعاذة وما يُقدر في هذا الكلام مما تتمُّ به فائدة، لأنه إن لم يقدَّرْ ذلك لم يكن للقول: "بسم الله " معنىً ولا خبر فتنعقد به الفائدة، وهذا يسْقط ما توهموه. فأمَّا قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فإن ابنَ عباسٍ قال في تأويله: "إنهما اسمان دقيقان أحدهما أدقُّ من الآخر صاحبه، فالرحمن الدقيق والرحيم العاطف على خَلْقه بالرزق والإنعام، وهما اسمان مشتقان من الرحمة. وقد يجوز أن يكون إنما كرر الاسم باللفظين، لأن في أحدهما من المبالغة ما ليس في الآخر، لأن رحمان من أبنية المبالغة على وزن قولك شبعان وغضبان وملآن إذا امتلأ غضبا وشبعا، فقال: "الرحيم" وهو اسمٌ مشترك بيَنه وبينَ غيره لأنك تقول: الله رحيم، وزيد رحيم، ومولىً رحيم. ثم قال: "الرحمن " على وجه المبالغة، لأن رحمته وَسِعَت كل شيءٍ ولأن عنده من الرحمة ما ليس عند خَلْقه ثم قال: "الرحيم" على وجه المبالغة أيضا، فإنه بمعنى العاطف الرقيق على خَلْقه بالرزق والإنعام، وإن كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 الرِّقةُ منتفيةً عنه تعالى فوجب أن يكون إنما كرر الاسم المشتق من الصفة الواحدة بلفظين لمعنيين متزايدين مختلفين على ما بيناه من قبل. وقد قيل إنه إنّما كرر قولَه: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) على وجه التوكيد وتمكين المعنى المقصود وأنَّه بمنزلةِ قوله تعالى: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) ، وقوله: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) ، و (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) ، وكل هذا على وجه التوكيد، على أنه قد قيل إن قولَه: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) أي: غشي قومَ موسى منه مثلُ ما غشي قومَ فرعون فسَلِم قومُ موسى من مثلِ ما هلكَ به قومَ فرعون، وقيل: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) أي: غشيهم قدرٌ منه دون جميعه، وقيل إنه أراد أنه أظلم منه قدرُما جعل ما تحته يَبَسا فمشوا فيه. وأمَّا قولهُ تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فإنّ فيه فائدة، وهو قول يحتمل أن يُراد به الخبرَ بأن الحمدَ لله، وإذا أُريدَ به ذلك فمعناه أن المستحقَّ للحمد والشكر هو الله المنعم على جميع الخلق، ولكل نعمةٍ أنعمَ بها أحد على أحدٍ فأخبرهم بذلك أنّه هو تعالى مستوجبَ الحمد، ويُحتَمل أن يكون أمراً، ومعناه إذا كان أمراً مضمراً وإن كان محذوفا، أي: قولوا الحمدُ لله، ومثلُ ذلك قولُ الشاعر: وقفتُ يوما به أُسائِلُهُ ... والدمعُ مني الحثيثُ يَستَبِقُ يا رَبْعُ أنَّى بقولهم سَلكوا ... بأي وجهٍ تراهمُ افترقوا يريدُ: أقولُ يا ربُع، فحُذِف، ومثلُ هذا كثير فبَطل ما توهموه. فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) . وبقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، و (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) . و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، وقولُهم: ما فائدةُ القول، إن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 مدحا فهو قبيح، وإن لم يكن مدحا فما فائدته، فإنه لا تعلقَ فيه، لأنّنا نقول: هو مدح وإن لم يكن قبيحا لثلاثِ أوجه: أحدها: أنّه امتدح لغير اجتلاب منفعه ولا دَفْعِ مضرة، وليس كذلك سبيل مادحُ نَفْسه منّا، ولذلك قَبحُ أن يمدح نفسه. والوجه الآخر: أنه إنما يَقْبُح المدحُ منّا بكل صفةٍ لأنه لا بد أن يلحقنا نقص فيها، والباري على غاية الكمال والتناهي في أوصافه. والثالثة: أنه إنما قَبُح أن نمدحَ أنفسنا، لأنّ غيرنا هو الجاعل لنا، واللهُ سبحانَه لم يجعله جاعل على ما هو به من الصفات، فحسن منه لذلك مدحُ نفسه. وقد يجوز أن يكون قال ذلك ليعلِّمنا كيف نَمْدَحه ونثْني عليه لا ليمدحَ هو نَفسَه، ويجوز أيضا أن يكون قال ذلك الكلامَ في معنى التكرار وفوائده. فأما تعلقهم بقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . وقولُهم: إن الموات والجماد والأعراضُ لا يجوز أن تسبح، فإنه لا تعلُّقَ فيه لأنّه إنّما أراد بذلك وإن من شيءٍ ناطقٌ حي إلاّ يسبح بحمدِه، ولم يرد كل ما يقع عليه اسم شيء، وقد يجوز أن يكون أرادَ وإن من شيءٍ ناطق مؤمنٍ مصدّقٍ إلا يسبح بحمده، لأن الكافر والمجنونَ والطفلَ أحياءٌ ناطقون غيرُ مسبحين له، وقد قيل إنّه أراد بالتسبيح في هذه الآية الإخبارُ عن فاقَتِه وحاجَتِه إلى مدبرٍ يدبره ومقيمٍ يقيمه، فكأنَّه قال: لو كان كل مخلوقٍ يعرف نفسَه وخالقَه لسبّح بحمد خالقه، واعترف بربوبيّته لموضع حاجته وافتقاره إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) . وقوله: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) . وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، وقوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) ، وقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ، فإنه لا تعلُقَ لهم في شيءٍ منه، ولا إحالةَ فيه بوجه. وذلك أن قولَه: (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا) أي: لو أنزلناه على جبلٍ يعقله ويسمعه لانقضَّ وتصدَّع على ما هو عليه من عظمةٍ وصلابة، ولو كان ممن يعقل على وجه التقدير، ويمكن أن يكون أراد أنّنا لو عقلنا الجبلَ وأَسْمَعناه القرآن لانقضَّ وتصدَّعَ من خشية الله. فأما ما أخبرَ به من سجود الشمسِ والقمرِ والجبالِ والشجر وغير ذلك. وتسبيحِ هذه الأشياء فإنما أراد به - وهو أعلمُ - الإخبارَ عن ذُلِّها وتواضُعِها، والذلُّ والتواضعُ الحاصلُ فيها إنما هو فقرُها وحاجتُها إلى صانع يصنعُها. ومُدَبر يدبرها ويقيمُ ذواتِها، ولولاه لم تكن، وكذلك قولُه: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي: أنّ فيه آثارُ الصنعةِ ودلائلُ الفاقةِ والحاجة، فسُميَ بذلك هبوطا وخضوعا وسُجوداً وتسبيحا على هذا التأويل، ولم يُردْ السجودَ بالجبهةِ والتسبيح الذي هو النطق، قال جرير: لما أتى خبرُ الزُبيرِ تَضعْضَعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشعُ وقال ابنُ أحمر الشاعر: وعرفتُ من شُرُفات مَسْجِدها ... حَجَرين طالَ عليهما العصرُ بكيا الخلاءَ فقلتُ إذ بَكَيا ... ما بعدَ مثلِ بكاكُما صبرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 والحجارةُ لا تبكي ولا تخشعُ إلا على التمثيلِ والتقديرِ والإخبارِ عن عِظَم الأمر وأنه مما تُهَدُّ الجبالَ وتبكي له على وجه التعظيم للشأن. وقال آخر: ساجدُ المنْخَرِ لا يَرْفَعه ... خاشعُ الطرفِ أصمُّ المستمعْ ولم يُرِد سجودَ الجبهة. وقال أميةُ: سبحانَ مَن سبَّحت طيرُ الفَلاةِ له ... والريحُ والرعدُ والأنعامُ والكفرُ يعني بالكفرِ مواضع الرهبان، وهي الصوامع، وقال أيضا: هو الذي سخَّرَ الأرواحَ ينشُرُها ... ويسجدُ النجمُ للرحمنِ والقمرُ وإنما أراد بذلك ما قدَّمناه من الفاقة والحاجة إلى الصانع الحكيم. ويمكن أيضا أن يكون إنما أراد بقوله: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) . وقوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) ، أي: لو رأى ذلك المسخَّر المتدبَّر بحالِه وحاجته إلى صانعٍ يقيمه لسجدَ لله ولسبَّحه ولهبطَ عندَ التأمل والفكرِ من خشية الله الخالق، كذلك لما في ذلك من أوضح الأدلة والبراهين، قال الشاعر: أما النهارُ ففي قيدٍ وسلسلةٍ ... والليلُ في جوفٍ منحوتٍ من الساجِ يعني بذلك أن مَنْ في النّهار وفي الليل على هذه الصفة واللفظ لِليْل والنهار والمراد به غيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 قال الطرماح: وأخو الهُمومِ إذا الهمومُ تحضّرتْ ... جَنحَ الظلامُ وسادهُ لا ترقدُ فجعل الوسادةَ لا ترقد، يريد أن من عليها لا يرقدُ لطِرْق الهموم قلْبَه وفكْرَه، فكذلك إنما ذَكَر اللهُ تعالى هذه الأشياء ووصفَها بهذه الصفة، وهو يريدُ بذلك الوصفُ لغيرها الذي يشاهدُها ويعتبرُ بها، ويُفكرُ في خَلْقها. وهذا أيضا ليس ببعيد، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما توهموه من سقوط معنى هذا الكلام وحصول الإحالة فيه. وقد ذكروا أن مما لا معنى له في القرآن قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، قالوا: وقد عَلِمَ كل سامعِ لهذا الكلام أنه لا معنى لقوله: بَلِّغْ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ) ، وأي فائدةِ في أن يُقال لمن لم يبلغ الرسالة: اعْلمُ أنّك إن لم تبلغ فما بلغت. يقال لهم: في هذا أجوبه: أحدها: أنه إنما أرادَ بقوله تعالى - وهو أعلمُ - (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أي لم تبلغ كل ما أُرسلتَ به على كمالِه وتمامِه وترك الكتمان والطيِّ لشيءً منه، ولم يردْ بقوله: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) في الشيء الذي لم يبلِّغه بعينه، فإن ذلك أمر معلوم على ما وصفتم، وإذا كان ذكر الرسالة مجملاَ معرَّضا لأن يُرادَ به كل الرسالة على الاستيفاء لها والاستيعاب، وأنَّه يُعنى به البعضُ منها دون جميعها كان حملُ الآية على هذا التأويل صحيحا ممكنا. وأن يكون إنما حث على تبليغ الرسالة في شيءِ بعينه أوْحيَ إليه، قيل له فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 إن لم تفعل ذلك فما تحمَّلت عن الله سبحانه كل ما أمرك به ولا أديْتَ جميع رسالاته، وهذا واضح من التأويل وبالله التأييد. وجواب آخر وهو: أنه يمكن أن يكون المرادُ بقوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أي: فما تستحق ثواباً ولا جزاءاً على أداء ما أديته منها إذا أخلَلتَ بأداء شيءٍ من جميعها، كما يقول السيد لعبده والمستأجر لأجيره: ابنِ داري هذه وعلِّي شُرَفَهَا وإن لم تُعل الشُرف منها فما عملت شيئا ولا ثوابَ لك على عملك، وهو ليس يعني بقوله: فما عملت إلا إسقاطَ الاعتقاد بما عملَه، وهذا أيضا بيّن في جوابِ ما تعلقوا به. وجواب آخر هو: أنه يُحْتمل أن يكون المراد بقوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو المراد بقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أي: تبلغه تبليغا شائعا ذائعا مكشوفا تقوم به الحجَّة، وينقطعُ به العذر، ويؤَثر في النفس التأثيرَ الذي يقع معه العلمُ بصحته ولذلك قال: "اصدع" لأنه عَنى به شدة البلاغ وكشفه على وجهٍ يُؤثَر تأثيرَ الصدع في الزجاج وغيره مما يتصدعُ وينكسر، فكأنه سبحانَه قال له: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بلاغا ظاهراً، وأراد بقوله: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ، أي: إن لم تُظهر، وأديته خفيًّا مكتوماً فما بلغت البلاغ الذي قيل لك بلًغه وهذا أيضا واضح في إسقاط ما تعلقوا به. وقد طعنوا أيضا في القرآن وفي تصديق الرسول صلى اللهُ عَليه بقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) ، قالوا: وقد قُتل فيه الخلقُ من عبدِ الله ابنِ الزبير وغيره، ولعل الخوفَ والقتلَ فيه وفي المسجد في كثير من الأوقات كان أكثر وأظهر منه في غيره، فهذا كذبٌ لا محاله - زعموا - وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 باطل لا تعلُّق لهم فيه، لأنه لم يردْ بذلك الإخبارَ عن حصول الأمر، وإنَّما هو كلام صورتهُ الخبر، والمرادُ به الأمرُ كأنه قال تعالى: ليكن من دخله آمناً غيرَ مخوف، وهو جاري مجرى قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، وصيغته الخبر، والمرادُ به ليتربصن المطلقاتُ بأنفسهن ثلاثةَ قروء، وقد لا يفعلنَ ذلك ويعصينَ بترك التربص، لأن هذا القولَ ليس بخبرٍ عن حصول ذلك منهن، وإنما هو أمرٌ وردَ بصيغة الخبر فزال ما توهموه. وقد يمكن أن يكون خبراً عن الأمان من عذاب الآخرة وسوء النكال إذا دخلَهُ خائفا لله وخاشعا له ونادماً على تفريطه ومتقرباً بذلك إلى وجههِ تعالى بعد المهاجرة من دارهِ وبلده، ولم يردْ أنّه آمنٌ من ظُلم الخلق، أو من إقامة ما يجبُ عليه من قصاصٍ وقَوَدٍ وحد، وقد يمكن إن كان خبراً عن حصول الأمرِ أن يكون أرادَ به وقتاً مخصوصاً وعامَا مخصوصاً وناساً مخصوصين. فيكون صيغته العمومَ والمراد به الخصوصَ إن ثبتَ للعموم صيغة. فأمّا طعنهم في القرآن بقوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) . وإن في هذا مدحاً لهم على الظن للقاء ربّهم. والظنُّ - زعموا - شكّ وضدُّ اليقين، وهم بذمّهم لأجل ظنِّهم لذلك وشكهم فيه وترك العلم به أولى بالمدح. والجواب عنه: أنه أراد تعالى بذكر الظن ها هنا اليقين، لأنّ الظن يكون بمعنى اليقين، ومنه قولُه تعالى: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) ، يريد تيقنوا ذلك وتحققُوه، ومنه أيضاً قولُه: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) . يريدُ تتيقن المفاقرة، وترى وتشاهدُ العذابَ غير أنه لما ذكر رؤيةَ المؤمنين لربِّهم باسم النظر ثم ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 رُؤيةَ الكافرين للعذاب وما يقع به النكال عبَّر عن رؤيتهم بذلك بغير اسم النظر فقال: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) ، أي: ترى العذابَ وما يقع به وتتيقنه، وقول من قال: إن الظن لا يكون بالوجه باطل، لأنه إذا كان بمعنى اليقين ورؤية البصر كان واقعا بالعين التي في الوجه. قال الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألْفَيْ مُدَججٍ ... سُراتُهُم في الفارسيِّ المُسرَّدِ أراد أن أيْقِنوا بذلك واعْلَموه. وقد طعنوا أيضا في القرآن بقوله سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ، قالوا: وهذا نقضٌ ظاهرٌ وإبطالٌ للمعنى المقصودِ بالكلام، لأنه استثنى بقوله: (إِلَّا قَلِيلًا) بعضَ من أخبر بفضله عليه وعصمته له التي لأجلها نَجى من سلِمَ من اتباع الشيطان. وإذا جُعِل فضلُه عليهم هو المانعَ لهم من اتباع الشيطان، فكيف يتَبعه قليلٌ ممن تفضل عليه ورحِمَه، وإن جاز أن يتَبع بعضُ مَن عليه فضْلُه ورحمتُه للشيطان، فلِمَ لا يجوز اتباعُ جميع من تفضل عليه ورحمه الشيطان، وهذا هو الإحالةُ والإفسادُ لمعنى الكلام، والإفسادُ لمعنى الكلام، وإثباتُ التفضل والامتنان. فيقال: الاستثناء في هذا الموضع بقوله: (إِلَّا قَلِيلًا) لم يرجع إلى أقرب المذكور إليه في الآية، إنما رجَعَ إلى المذكور المتقدم قَبْلَ الذي يليه. لأن الله سبحانه قال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) . ثم عقبه بقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 فقولُه (إِلَّا قَلِيلًا) إما أن يكون اسْتُثنيَ من قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إلا قليلاً لا يستنبطون ولا يعلمون لتركهم الاستنباط، أو لمقاربة معنى استنباطهم من إفسادٍ له باستثقال الحق، أو تخليطٍ فيه بتقديمٍ أو تأخير وطلب الغَلَبة، وما جرى مجرى ذلك، فكأنَّه قال: لعَلِمه الذين يستنبطونَه منهم إلا قليل لا يستنبطون فلا يعلمون، أو إلا قليلاً يستنبطون استنباطا فاسداً فلا يعلمون. أو أن يكون استُثنيَ من قوله: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) إلا قليلاَ منهم إذا جاءهم ذلك لا يدفعونه، فيردُّ الاستثناء فيه إلى المذكور المتقدم، والاستثناءُ في الكلام ربما رجعَ إلى أقرب المذكور وهو الذي يليه، وربَّما رجعَ إلى جميع الجملة المقدَّم ذكرُها، وربَّما رجع إلى أبعد المذكور منها إذا وَسِعَه، وإنَّما يجب إيقافُه على حكم الدليل لموضع الاحتمال لردة إلى كل شيءٍ من ذلك، وقد بيّنا ذلك وأوضحناه في كتاب "جامع الأبواب والأدلة"، واستقصينا القولَ في الأصول الشرعية وفي غيره من أصول الفقه بما يُغني الناظرَ فيه إن شاء الله. فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وأن هذا نقيضُ ما وصَفَ به سائر رسله من أنّهم أعلمُ الخَلْق به، وأعرفُهم بصدقه وصفاته، وأنهم مختارون ومصطفَون على علمِ على العالمين، فإنه لا تعلق لهم فيه من وجوه. أولها: أنّ هذا القولَ ليس بخبرٍ عن حصول شكه عليه السلام فيما أُنزل عليه وإنّما هو تقريرٌ له وتنبية أنه منزل على غيره أيضًا، وقد يقول القائل لمن يعلمُ أنه لا شكّ عنده في الأمر، ولا ريبَ: فإن كنتَ في شك مما أنزله وأخْبَر به فسل غيري وسل الناس عنه، وسيما إذا كان يريدُ بذلك إظهارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 صدقه بحضرة من يُنكر ذلك ويدفعه، وربَّما قال له ذلك في الأمر الشائع الذائع ليجعل له طريقاً إلى سؤال الناس وإخبارهم بما عندهم من العلم في ذلك الأمر ليزول ذلك الشك ويقوى سلطانُ الحجَّة، وتبطل الشبهة. والقومُ أعني قريشا، ومن خالفَ الرسولَ كانوا يقولون له فيما نقلوه إفك افتراه، وإفك مفترًى ومحدَّث ومجنون، وإن هذا إلا خلق الأولين، وشاعر مجنون، فقال له: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، ليجعل له ذريعةً إلى ذلك، ومطالبةُ علمائهم مثلُ عبدُ الله بنُ سلام وغيره بما في كتابهم من ذلك تصديقاً لقوله أننا قد أبنَّا بذلك مَنْ كان قبلك، ولم يقُل إنك شاكٌّ فيما أنزل عليك. ويُوضح هذا أيضا أن القائلَ قد يقول لمن يعلم بتيقنه ظلمُ زيد وجهلُه وتخليطُه وأنه لا شك في ذلك: إن كنت في شك من ظُلم زيدٍ فعامِلْه لتنظر. وإن كنتَ في شكٍ من تخليط فلانٍ وخبطه فقاوله وناظره، وإن كنت في شك من هوْلِ البحر فاركبه، وإن كنت في شك من جود فلانٍ أو بُخله فمن يعرفُ حالَهُ فسلهُ والتمس منه لتعلم ردّه أو إجابَته، في أمثال هذا مما قد ظهر استعمالُه بينهم، فعلى هذا الوجه ورد قولُه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) . وقد يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ظن أن بعض ما أُنزل إليه من العبادات أو بعض ما قصً عليه قد أُنزل على موسى، وأحب الله أن يقطعَ شكه في ذلك فقال: فإن كنت في شك مما أُنزلَ إليك في أنه منزل على موسى ومن كان قبلك فسَلْهم عن ذلك ليخبروك عنه، فيزولَ شكُّكَ، وقد يكونُ من مصالحه ومصالح أمته أو بعضها الأمرُ بسؤال أهل الكتاب عما يشكُ عليه السلامُ في أنَه منزَل عليهم، وربَّما كان ذلك تقويةً ليقين غيره إذا عَرَفَه، فلم يُرد بذلك الشكً في أنَه من عند الله، وإنما أرأدَ الشكُ في أنه منزل على غيره أم لا (1) .   (1) وجه بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 وقد يجوز أيضا أّن يكون أُتزل عليه جملةً قصةٍ وعبادةً مجمَلةً أخرَ عنه بيانها إلى وقت الحاجة،. وقد بيّن تفصيلَها وشرح تلكَ القصة في كتابِ موسى، فقال له: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) يعني في شك من تفصيلِه، فارجع في ذلك إلى أهل الكتاب فإنني قد أنزلتُ تفصيلَ ذلك عليهم، وليس هذا من الشك في أن ما أُنزلَ عليه منزل من عند الله بسبيل. وقد يجوز أن يكون أراد بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي إن كان قومك أو بعضُهم في شك فسل أهل الكتاب ليخبروهم بمثل ما تخبرهم به فيؤمنُ عند ذلك من كان إخبارهم إياه به لطفا له، فيكون ذاكراً للنبي صلى الله عَليه والمرادُ به غيره، وعلى نحو هذا ورد قولَه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) . الخطاب له في الظاهر والمرادُ به غيره الشاكُّ فزال بذلك ما قَدَحوا به (1) . فأمَّا تعلُّقُهم بقوله عز وجل: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وأنه مناقض لقوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، فإنه باطل لأنه أراد بقوله ألفَ سنة، أن جبريلَ ينزل من السماء ويصعدُ إليها في يوم، ومقدار سَيْره مسيرِةُ ألفِ سنةٍ من سني خمسمائة البشر في الدنيا، لأن ما بيننا وبينها مسيرةُ خمسمائة عام، فلذلك قال تعالى وهو أعلمُ: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، يعني مقدارَ سيركم له لو سرتموه ألف سنة، وقولُه: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) فإنما أرادَ به - وهو أعلمُ - يومَ القيامّة، وأن اللهَ سبحانه يحاسبُ جميعَ الخلق فيه، ومقدار حساب جميع الخلق لو تولاه غيرُ الله خمسينَ ألفَ سنة من أيام الدنيا، لذلك قال عز وجل في آخر الكلام: (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) ، لأنه يحاسب في ذلك اليّومِ وحدَه قدر زمنٍ تحاسبُ   (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصُّهُ: اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه. الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وكقوله: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره. والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} [يونس: 104] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية. والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم. الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: «يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] وكما قال لعيسى عليه السلام: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا. الوجه الثالث: هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة. والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات. الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا. ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة. الوجه السادس: قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} وهو شامل للخلق وهو كقوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل. الوجه السابع: هو أن لفظ {إن} في قوله: {إِن كُنتَ فِى شَكّ} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً. وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ} [الانفطار: 6، 7] و {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] وقوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} [الزمر: 49] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُوا بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} . اهـ (مفاتيح الغيب 17 / 128 - 130) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 الخَلقِ في مدة خمسينَ ألفَ سنة، فصار لذلك أسرعُ الحاسبين. وقد رُويَ عن عبدِ الله بنِ عباسٍ أنه قال: قوله: (أَلْفَ سَنَةٍ) يعني به نزولَ جبريل من السماء إلى الأرض، وقوله: (مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يريد قدرَ نزولِه من العرش إلى الأرض وصعودِه إليه، لأن ما بينَ العرش إلى الأرض أضعافُ ما بينَ السماء إلى الأرض ". وقد يجوز أن يكون عنى بقوله - وهو أعلم - خمسينَ ألفَ سنة، أنّ الناسَ يَلحقَهُم من الشدة والهَول أمر عظيمٌ كما يقول القائل كأنَّ يومَنا هذا سنة. وكانت ليلتي شهراً يعني بذلك ما نالَه فيها من الشدة، فيعبّرُ عن ذلك بالطول. فأمَّا ادعاؤُهم التناقضَ في قوله تعالى: (رَب اَلمشَرِقِ وَاَلْمَغرِبِ) . و (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) ، و (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) . فإنّه باطلٌ من وجوه: أحدها: أنه يمكن أن يكون أراد بالمشرق والمغرب اسمَ الجنس العام لكل مشرقٍ ومغرب، فيكون المشرقُ والمغرب على هذا التأويل هما المشارق والمغارب وهذا نحو قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) . و (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) ، والإنسانُ ونحوُ ذلك مما يُراد به الجنس دون الواحد. وقد يتأوَّل الناسُ ذلك على تأويلٍ صحيحٍ لا تناقضَ فيه، وهو أنه إنما أراد بربِّ المشرق والمغرب اليومَ الذي يستوي فيه الليل والنهار، فتشرقُ الشمسُ فيه في مشرق واحدٍ في ذلك اليوم، وتغربُ في مغربٍ واحدٍ أبداً في ذلك اليوم إلى أن تعودَ إلى الشروق والغروب فيهما لا يعودُ إلى مثلهما إلا بعد حولٍ في ذلك اليوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 فأمَّا قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) ، وأنه عنى أطولَ يومٍ في السنة يُشرق فيه في مشرقٍ وتغربُ في مغربٍ ولا تعود إلى مثلها إلا بعدَ سنة، والاَخرُ أقصرُ يومٍ في السنة تشرقُ فيه في مشرقٍ وتغربُ في مغربٍ لا تعودُ إلى مثلها إلا بعدَ سنة، وأما قوله: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) . فإنما أرادَ به مشارقَ أيامِ السنةِ كلها ومغاربَها، لأنها تَطلُع كل يومٍ في مشرقٍ غيرَ المشرق الذي تطلُع فيه في اليومِ الثاني وكذلك غروبَها تغرُبُ كل يومٍ في مغربٍ غيرَ المغربِ الذي غَرُبَت فيه قبله، وعلوُّ الشمس ودنوُّها من العالم. وقربُها وبعدُها وحرُّ الزمان وبردُه واعتداله أحدُ الأدلة على اختلاف مغاربِها ومشارقِها، وهذا واضح في إبطال ما ظنوه من التناقضِ والاختلاف. فأمَّا تعلّقُهم بقوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا) ، و (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) . و (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) ، و (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) ، وادّعاؤهم الاختلافَ والتناقضَ فيه، فإنه باطل لأنهم لما خرجوا من قبورِهم ورأوا ما كانوا يكذبون من النشور قال بعضهم لبعض إن لبثتم إلا عشراً، ثم استكثر بعضُهم العشر فقال: إن لبثتم إلا يوماً. وقد دلَّ على ذلك قوله: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا) ، ثم قال: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) . ثم شَكُّوا في اليوم، فقيل لهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، ثم استكثروا ذلك فقالوا: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) . ثم استكثروا ذلك فحَلَفوا ما لبثوا غير ساعة، والاختلافُ في القول والتلوُّن إنّما يكون من الكفار ومكذبي البعث يومَ الحساب، لاختلاف ظنونهم وشدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 ما يمرُّ بهم، وهذا يَلحقُْ الناس مع الأمن والسكون، أعني السكون واختلافِ الظنون، فكيف به مع الحيرة والهول. فأمَّا "تعلُّقهم بالتناقض عندَهم في قوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) ، وأنَّه نقيضُ قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) ، وقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ، ونحوه فإنه باطل، لأنه رُويَ أن الله عز وجل يسأل الرسلَ - عند زفرة جهنم الرابعة - وغلبة الجزَع والفَزعِ على قلوبهم وزوال الذكر عنهم وشغلهم بأنفسهم، فيقولون عند ذلك: لا علمَ لنا، ثم تَسكُن جهنمُ ويزولُ عنهم الرَّوعُ والفَزع، ويعودُ الذكر والعلمُ فيشهدون عند السكون وزوالِ الرَّوعِ على أممهم، وقد يلحقُ الناسَ ذلك عند شدة الموج وعصوف الرياح وظهور الزلازل، والسواد والصواعق والآيات والأمور المخوفة، فينقطعون بذلك عن التمييز فكيف بهم عند هول يوم القيامة وزفير جهنم ورؤيتها. وأمَّا تعلُّقهم بتناقض قوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) . وقوله: (يَتَسَاءَلُونَ) ، و (يَتَلَاوَمُونَ) ، ونحوه، فقد أجبنا عنه بأنه تاراتٍ ينطقون في بعضها، ولا يَنْطِقون في البعض، ويمكن أيضا أن يكون عنى بذلك أنّهم لا ينطِقون فيه بعذر ولا حجّة، والعربُ تقول واقفت فلانا على جُرْمه، وما صنع، فما تكلم ولا تنفس ولا اعتذر، يعنون بأنه ما تعلق بحجةٍ وعذر، وكذلك يقولونْ: نُوظرَ فلان فيما يقولُه ويدينُ به فما أتى منه بكلمة ولا حرف يرادُ بذلَك كلمة احتجَّ بها وحرفٍ دلَّ به على مذهبه، وإن كان ذلك كذلك سقط ما ظنُّوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 وكذلك الجوابُ عن قوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) ، يعني عنذ القيامِ من القبور لشدة الروع، فإذا اختلطوا وامتزجوا وطالَ الوقوفُ تكلَّموا وتساءَلوا وتلاوموا، وإذا دخلوا أيضا جهنم تلاعَنوا كما أخبر فقال: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . وكذلك الجوابُ عن قوله: (اخْسَئُوا فِيهَا) ، يعني في وقتٍ منها ثم يَنْطِقون بعد ذلك من شدة العذاب فيقولون ربّنا أخرجنا منها، وارجعنا نعمل صالحا، وغير ذلك مما حكاه عنهم تعالى، وقد يمكن أن يكون أراد لا يتكلّمون بعذرٍ ولا يحتجون بحجة، وكذلك لا يتساءلون ولا يَنْطِقون بحجة، ولكن بالتلاوُم والتوبيخ والنّدم والتأسُّف على ما كان منهم. فأمَّا تعلُقهم بما ادعوه من التناقض في خَلْق آدمَ من قوله: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ، وقوله في موضع آخر: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، وقوله في موضع آخر: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) ، وقوله في موضع آخر: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، وفي موضع آخر: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) . وقولُهم إنَّ هذا غاية التناقضِ والتضاد، فليس الأمر على ما ادّعوه. وذلك أن اللهَ سبحانَه خلقَ آدمَ من تراب أحمرَ وأبيضَ وأسودَ وغيرَ ذلك على ما وردت به التفاسير، فلذلك اختلفت ألوان ذريته، ثم بُلَّ ذلك الترابُ بماء فصارَ طينا ثم صار سُلالة يعني لازقا إذا عُصر ينسلُّ من بين الأصابع، ثم خمّره فأنْتنَ فصار حَمَأ مسنونا فحلق من الحمأة بعد تنقُّل أحوال الطين، فلما صوَّر جسمَه قبل أن ينفخ فيه الروحَ جفَّ ويبسَ فصار صَلْصالاً كالفخار يابسا إذا ضربَ سمعَ له صلصه، ثم نفخ فيه الروحَ فصار إنسانا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 فأمَّا قولُه: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) ، فلم يعن به آدم، وإنما أرادَ به ذريته أول إنسانٍ خُلق منهم، خُلِقَ من نطفةِ آدمَ وحواءَ ثم كل أولادهم من نطفةِ إلا عيسى ابنُ مريم. فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وأنه نقيضَ قوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) ، لأنهم إذا حلَفوا له أنهم غيرُ مشركين فقد كَتَموه حديثا، وأيُّ حديث، فإنه لا تعلُّق لهم فيه، لأجل أن اللهَ ضَمِن للموحدين غفرانَ ما دونَ الشرك إن شاء، والتجاوزَ عنهم، والجزاءُ على إيمانهم، فلمَّا رأى المشركون الصفحَ عنهم، وذكروا ضمان الله الغفرانَ لهم قال بعضهم لبعض إذا سألنا حَلَفْنا أنا لم نكن مشركين حتى يتجاوز عنا وذلك قوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) ، فلمَّا اجتمعوا قال لهم تعالى: أين شركائيَ قالوا عند ذلك: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، فلمَّا كَتموا الشركَ الذي كانوا عليه في الدنيا ختمَ الله عندَ ذلك على أفواههم وأنطقَ جوارحهم فتشهدُ بالشرك عليهم فيودُّون أن الأرض انشقت بهم، ولم يكتموا الله ما دانوا به من الشرك. ويمكن أيضا أن يعني بقوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ، من شدة الهول والجزع، ثم ابتدأ فقال: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) ، لأنه عالمٌ به ولا يَقْدِرون على كتمان ما هو أعلمُ به منهم، ويمكن أن يكون أراد أنهم يحلفون أنهم ما كانوا عندَ أنفسهم مشركين بالله أي أننا كنا نظن أننا على الحق، وكنَّا غير متعقدينَ للشرك، وذلك أن ما حَلَفوا عليه غيرَ نافعِ لهم ولا مقبولٍ منهم، لأنهم كانوا بصفةِ من يَصحُّ عِلمُهم بباطلهم ويتأتَّى لهم متى أرادوه وقصَدوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 فأمَّا تعلُّقهم في قوله تعالى في قصةِ موسى: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، فإنه أرادَ المصدقين بأن أحداً لا يراك في الدنيا، لأنّه قال: (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني من سؤاله الرؤية، والقصةُ تشهد بذلك، والتوبةُ ها هنا الرجوعُ عن المسألة فقط، لا على أن ذلك ذنبٌ قبيحٌ تجب التوبة منه، والندمُ عليه الذي هو الإقلاع عن الذنب، وقولُه في قصةِ السحرة: (أَن كُنَّاَ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ، يعني المصدقين بموسى ونبوته، وما جاء به، وقولُه في قصة محمد صلَّى الله عليه: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ، يعني أنه أوَّلُ المسلمين من أهل مكة، فلا تناقضَ في ذلك ولا تضاد. فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وأنه نقيضُ قوله: (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) . فإنّه غيرُ متناقضٍ لأنه عنى - وهو أعلم - أدخِلوا آلَ فرعون أشد العذاب الذي هو عذابُ الدخول من الباب الذي يدخلون منه إلى جهنم، وقوله: (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) يعني بالمسخ لهم خنازير ولم يعذب بذلك في الدنيا أحداً غيرهم، وقوله في المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، فيمكن أن يكون آلُ فرعونَ والمنافقون جميعا في أشد العذاب بأن يدخلوا جميعا من بابٍ واحدٍ ويحصلوا في درك جهنم، فما الذي يمنع من ذلك، وقد يمكن أن يكون الدركُ الأسفلُ فيه مراتبُ وطبقاتٍ من العذاب آلُ فرعونَ في أشده، والمنافقون في قريبٍ منه، وقولُه: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، و (غِسْلِينٍ) ، و (شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) . (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 فإنه غير متضادِ لأنه طعامُ أهل طبقاتِ جهنم وأحوالُهم مختلفة وكذلك الحميمُ والغِسلينُ لأهل طبقتين، وقد يجوز أن يكون الغِسلين من الحميم والضريع من شجرة الزقوم فلا يكون في ذلك تناقضا ولا تنافيا. فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) . وأنَّه نقيضُ قوله: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) ، فإنه غيرُ متناقضٍ لأنه أراد لا ناصرَ لهم من دون الله، ومنه قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ) . وقوله: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) ، فلأنهم اتّخذوا مواليا عَبدوهم وعَنوهم وقلَّدوهم، فلمَّا حُشروا وراءهم خَذَلوهم وتبرَّءوا منهم. ولم ينفعوهم، فقال الله: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) فلا تناقضَ في ذلك، فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) . وأنّه مخالف لقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) ، فإنه ليس على ما ظنّوه لأن الولاية الأولة ولايةُ الدين والنُّصْرةِ والمحبةِ في الله، والولايةُ الثانيةُ ولايةُ المواريث، لأن الله كان حَكَم في بَدء الإسلام بقطع المواريث بينَ من لم يهاجروا جميعا، فإن مات مسلم غيرُ مهاجرٍ رُدَّ مالُه على من هاجرَ من المسلمين دونَ أهلِه وأقارِبه حثاَ وحضّا على الهجرة، فلمَّا كَثر الإسلامُ واستقل الناس واستغنى المهاجرون وأَثرَوْا ردَّ الله المواريثَ بينَ الأهلِ هاجروا أو لم يهاجروا، فسقطَ بذلك ما قدروه من التناقض. فأما تعلقهم بقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، وأنّه نقيضَ قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . فإنه باطل لأنه أرادَ أنَّها لا تدْركه في الدنيا، وقوله (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يومئذ يومئذ هو يومُ القيامة، فلا تناقضَ في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 ولا اختلاف، وقد بينا الكلامَ في الآيتين وجميعَ ما يمكن أن يُقال فيهما في الكلام في الأصول بما يُغني الناظرَ فيه إن شاء الله. فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) ، و (سَمِيعًا بَصِيرًا) ، وأنه نقيض قوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، لأن قولَه "كان" موضوع لما مضى وبادَ وانقضى، وقولُه (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ونحوه يقتضي وجودَه في هذا الوقت، وكونَه عالما وعلى هذه الأوصاف، وذلك مختلف متضاد، فإنه لا تعلُّق لهم فيه، لأن لفظة كان موضوعة لما مضى وسبَق وتقدَّم، وقد يكون ما هذه سبيلُه باقيا وقد يكون معدوما منقضيا، لأن الجالسَ في مكانِه قد يقول: كنت جالسا من أولِ النهار، وكنت ذاكراً لما تجارَيْناه عندَ لقاء زيد، وهو لا يعني بذلك أنه كان جالسا وقام ذاكرا ثم نسيَ وذهبَ ذكره، وإنَّما يعني تقدم جلوسِه وذكْره، وكذلك لو قال كانت الشمسُ منذُ أولِ الدهر، وكانت السماء يومَ ابتدىءَ العالَم. ونحو هذا لم يُوجَب بذلك اللفظ تَقضيهما، وعَدمِهما بعد الكون السابق. وإنما يوجِب بذلك سَبْقَهما وتقادمَ وجودِهما ونفيَ حدوثهما في هذا الوقت. وكذلك قوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، و (قَوِيًّا عَزِيزًا) ، و (سَمِيعًا بَصِيرًا) ، أنه لم يزل على هذه الأوصاف وأنّه لم يستحدثها ولم يتجدد له وليس يوجِب ذلك عدَمه بعد تقدمه وخروجِه عن هذه الصفات بعد ثبوتها. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه. وقد يقال كان زيد موجوداً، وكان مرضُه شديداً، وكان مالُه كثيراً ويعني بذلك أنه كان وعُدم وتُقضى بلفظة "كان " التي تفيد التقدمَ وسبقَ ما جَرى في وصفه، ثم قد تقدم الدليلُ على عدمه، وقد لا يكون معدوماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 فأمَّا تعلّقهم بقوله: (نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) ، (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ) ، ونحوه، وأنه نقيضُ قوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) ، فإنّه باطل لأنه عنى بالأول أنّه عالم وأنه سميع بصير لا تخفى عليه الأوصافُ والمرئياتُ ولا تُسترُ عنه بعضُ المعلومات، وأراد بالثاني نظرَ التعطُفِ والرحمة، من قولهم فلان لا ينظرُ لنفسه وعيلته، يرادُ أنه لا يتعطف عليهم ولا يرحمهم، وليس هو مِنْ نظَر الرؤيةِ في شيء. وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ، وأنه نقيضُ قوله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) ، لأن الآثمَ والكفورَ ممن أغفلَ قلبَهما عن ذكره وفي الآية الأولى تخيير له في أن لا يُطيعَ الآثمَ إن شاء أو الكفورَ فإنه باطل، لأن أو في هذا الموضع بمعنى الواو، لا بمعنى التخيير، وهو مثلُ قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ، يعني ويزيدون، ومنه قولهم: ما أكرَه أن يأكلَ طعامي أو يَلبسَ ثيابي أو يتبسطَ في ملكي، ويركبَ مركوبي وليس هو ها هنا واوَ تخييرٍ وإنّما يريد أنه لا يكره أن يأكلَ أو يلبسَ ويركَب وقد مضى في هذا من قبل ونحوه ما فيه مَقْنَع. وأمَّا قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، فإنما يريد التقرير على ذلك ليكذبهم وتقوى الحجّة عليهم، وليس يعني به السؤال والاستخبار، وكذلك قولُه: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) ، إنما هو تقوية لإظهار ما يريد فيها من الأعجوبة، وقد قيل إن عيسى عليه السلام لم يعلم ما أحدثوا بعده من الكفر بعبادته، فقال له ذلك ليقول لا، فيعلمِه أنَّهم قد عبدوه بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 فأمَّا تعلقهم بقوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) . وأنه نقيضُ قوله وأمرِه بالسجود لأنه تفنيدٌ له على أن لم يسجد، وهو قد أخبرَ في هذه الآية أنه قد أمره أن لا يسجد فكيف يلومه على أن لا يسجد. فإنه باطل لأنه إنما عنى أن لا يسجدَ أن يسجُد، لأنهم يقولون ما منعك ألا تجيبني وتتبعني إذا خفت، يريدون ما منعك أن تجيبني وتتبعني فيدخلون لا وإلا زائداً في الكلام، قال الشاعر: وما ألومُ البِيضَ الا تَسْخَرا ... إذا رأَيْنَ الشُمْطَ القَفَندَرا يعني: لا ألومهن إن يسخرنَ إذا رأينَ الشيْبَ. وأمَّا تعلُّق المُلحِدةِ والقَدَرية بقوله تعالى: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ، و (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ، و (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، وأن ذلك أجمعُ على زعم الملحدة خاصةَ نقيضَ قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، وقوله: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) ، فإنه باطل لا تعلق فيه لأن الآيات الأولة كلها وردت لنفي الخلق والإبداع وإكذاب من قال إنه أو بعضُ من يعبُده يخلقُ ويبتدعُ ويخترعُ وهو بمثابة قوله: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، و (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) ونحو هما مما نُفيَ به إلهٌ غير الله، وليس يجب إذا وصلَ قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ، بقوله: (يَززُقُكُمْ) ، أن يكون إنما نفى بذلك خالقا غيرَ الله يرزْق على ما تزعمُ القدريَّة كما لا يجبُ إذا وصلَ قولُه: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ) بقوله: (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، أن يكون إنما نفى إلها غير الله يأتي بليل، ولم ينفِ إلها لا يأتي بليل، لأن هذا ليس بقولٍ لمسلمٍ أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 امتدحَ بنفي إلهٍ معه كما امتدحَ بنفي خالقٍ وغيره معه على كل وجه، فلذلك قال: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، ولو كانوا يخلقون أجناسا وأعيانا من الأعراض لقالوا هذه الأشياءُ كلها من خَلْق الله وهذه كلها كخَلْق اللهِ ومثله، فوجبَ أن يكون كل ما قدموه من نفي خالق غير الله على النفي والمدح على الحقيقة. فأما قوله: ((وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، فإنما يعني به أنكم تختلقون كذبا، لأن الخلقَ يكون بمعنى الاختلاقِ الذي هو الكذب، ومنه قولهم: حديث مخلوق يعنون مختلق متكذب وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ، إنما هو حكاية عن قول الكفار في القرآن، وإنَّما عنوا به أنّه من كَذب الأولين، وقوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، إنما يعني به - وهو أعلم - أحسنُ المصورين تصويراً وأحسنُ المقدِّرين تقديراً، لأن الخَلْق يكون بمعنى التصوير والتقدير، وكذلك التأويلُ في قوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) يعني تُصوِّر وتُقدِّر، والتصويرُ والتقديرُ قد يُوصَفُ به الخَلْقُ كما يُوصَفُ به الخالق، وليس التقديرُ والتصويرُ من الإبداعِ والإنشاءِ في شيء، فإنّما نفى خالقاً غيره مبدعا منشئاً، ولم يَنْفِ مصوِّراً ومقدِّراً غيره، وليس معنى المصوِّر أنه خلقَ الصورة والتصوير، ولا معنى المقدِّر أنه خَلَق الفِكْر والتقدير، وإنما معناه أنّ له تقديراً وتصويراً. وهل هو خالق لما هو له من ذلك أو غير خالقٍ له، معتبرٌ بالدليل. قال الحجاج: أني لا أهِمُّ إلا أمضيتُ ... ولا أخلقُ إلا فَرَيتُ يعنىٍ: أقدِرُ إلا أمضيتُ، وهذا التقدير فكر وروية وطلب للعلم بصوابِ العاقبة، وهذا غير جائزٍ على الله سبحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 وقال الشاعر: ولأنتَ تَفْري ما خَلَقتُ وبعض الـ ... قومِ يَخلُق ثم لا يُفري يعني بذلك تقدر ما تمضيه وتنفذه، ومنهم من يقدر ويفكر ولا يمضي لتردده وتشكُكه أو تهيبه ورهبته، وذلك أيضاً غير جائز على الله سبحانه. وقال آخر: ولا نِيطَ بأيدي الخالقينَ ولا ... أيدي الخوالِقِ إلا جَيِّدُ الأدَمِ يريدُ بأيدي المقدرين والمصورين، وهذا التقدير الذي معناه التصوير للشيء يجوز على الخَلق وعلى الخالق سبحانه، فقوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) يعني تصوِّر، وقوله: (أَحسَنُ اَلخالِقِينَ) ، يريد أحسنُ المصوِّرين تصويراَ، فصارَ التقديرُ ضربين: أحدهما فِكرٌ وروية واستخراجُ صواب العاقبة وذلك ممتنع على الله سبحانه. والآخر التصوير، وذلك جائز على الله سبحانه، وتصويرُ الله تعالى لما يصوره خلق له سبحانه، وموجود بالأجسام المصوَّرة وهو تأليفها وجعلها على مقدارِ ما، وصورة مخصوصة، وتصويرُ العباد إنّما هي حركاتُه أيديهم وآلتِهم وقبْضِها وبسطِها في الجهات وفعلُ ألاعتمادات التي يفعلُ الله عندَها تقطيعَ الأجسام وتوصيلها وتألفها على وجوه مخصوصة بجوي العادة وتلك الحركاتُ والاعتمادات موجودة بأنفسهم " وفي مجالِ قدرهم وليس من تقطيع الأجسام وتوصيلها واختراع تأليفها في شيء، والعباد مكتسبون لما يوجد بهم من هذه الحركات والاعتمادت التي توصف وتسمى تقديراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 وتصويراً وغيرُ خالقين لها ولا مُبْدعين لأعيانها، وقد بينا هذا وفصَّلناه في الكلام في المخلوق بما يغني الناظرُ فيه إن شاء الله. فأما تعلُّقهم بقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وأنَّه نقيضُ قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ، وقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ونحو ذلك فإنه باطل، لأنه لم يُرد بقوله: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) المقرِّين بالولد، ولا أراد بقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) ، الشك في ذلك والارتيابَ به وإنما هو على معنى قول العرب إن أنكرها يقول فإني أنكر ما يقول وتقولون، واللهِ إن كان لِفلان عندي حقا، وواللهِ إن كان لِفلان ولد أي: والله مالَه عندي حقا ومالَه ولداً، فإنْ هاهنا ليسَ للشك ولا للشرط على الحقيقة، وقوله تعالى: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) فإنما يعني به الآبقين الغِضابَ له من ذلك. قال الشاعر: متى يُشادوا الوصلَ تُصرَمُ حَبْله ... ويَعبُدْ عليه لا مَحالةَ ظالمُ يعني بذلك أنه يأنَفُ ويُتكذب عليه. وقد قيلَ إن العابدَ يكون بمعنى الجاحد، تقول العرب: عَبَدني حقِّي أي جحدني، والأول أولى. فأمَّا تعلُّق المُلْحدة بقوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) . وقوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) ، وقوله عن أهل النار: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، فإن ذلك أجمع نقيضُ قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ، لأنه أوجبَ بذلك الويلَ للمصلين وهو قد أمرهم بها ودعاهم إليها، ومدحَهم عليها، فإنه من الباطل الضعيف، لأنه قد وصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 قولَه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) بما يدل على أنّهم مذمومون بصلاةٍ فعلوها على غير وجه ما أُمِروا بها، لأنه قال بعد ذلك: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) . فكأنَّه ذمهم على الصلاة المفعولة في غير وقتها، وذمّهم بالسهو عن أدائِها في وقتها، إما بالتغافُلِ عن ذلك أو بالاشتغال عنها بالتجارة واللهو وغير ذلك، ومؤخر الصلاة عن أوقاتها عاصٍ مذموم. وقوله: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) يمكن أيضا أن يكون ذماً للمصلين للرياء والنفاق لا لله تعالى، والمصلي على هذا الوجه منافقٌ مذموم، ويمكن أن يكون أراد بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) لغير الله تعالى من الجن والنيران أو الشمس أو الملائكة أو الكواكب الذين هم عن الصلاة لله سبحانه ساهون تاركون لها، وقوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) أي: يمنعون أداء الزكوات وحقوق الأموال، فأيُّ تناقضٍ في ذلك، لولا الجهلُ والعناد، وقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) إنما هو إخبارٌ من الكفار عندَ سؤال الخزنة لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) فقالوا: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) . فقالوا: إنما عُوقبنا على هذا أجمع، وذلك أحدُ الأدلة على أن الكفار مخاطبون بالشرائع والأحكام بشريطة تقديم فعلِ التوحيدِ والإيمان بالله ثم تعقيبُه بالصلاة وما يترتبُ بعدها من العبادات، ولو لم يكونوا بالصلاة مأمورين لم يكونوا على تركها معاقبين، وقد تكلمنا على ذلك وعلى ما يمكن أن يتعلق به في هذا التأويل في أصول الفقه بما يُقْنع من تأمله إن شاء الله، فمن ظن أن ذلك نقيضَ قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ) ، وكان يأمر أهله بالصلاة، وأمُر أهلك بالصلاة، فقد أبعدَ وضلَّ ضلالاً بعيداً، والناسُ أبداً يقولون ويلٌ للمصلين لغير وجه الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 وللمصلي رياءً ونفاقا، ولقبول الوصايا وأخذ الودائع والحيل على أموال الناس ولذلك تمثلوا: ذيباً ترأه مصلِّيا فإذا بَصُرتَ به ركع ... يدعو وجُلُّ دعائِه ما للفريسة لا تقع وكذلك قال: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) ، فترى أنه ذمهم على الصلاة أم على فعلها بالكسل وغير نيةٍ ولا على وجه العبادة والقربة؟ ! وأمَّا تعلقهم بقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) . وأنه نقيضُ قوله: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) ، فإنه باطلٌ لا تعلُّق به لأن القاسطَ غيرُ المُقسط، لأنه بالميم العادلُ المنصف، فإذا قلنا فلانٌ مقسطٌ أردنا به أنه عادل منصف، والقاسط بلا ميمٍ في الاسم إنّما هو اسمُ الجائرِ الظالم وهو حَطَبُ جهنم، فهذا مما يشتبه لفظُه ويتقاربُ ومعناه مختلف، وإنَّما هو كقولهم هجد وتهجد، فهجدَ بلا تاء معناه نام ورقد. وتهجد بالتاء بمعنى قام لله وسهر. فأمَّا قولُه تعالى: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) ، وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) ، فمعناه متفقٌ لأن الواصبَ هو الدائمُ الثابت الباقي، فقوله: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) يعني باقياً دائمأ، والدينُ خيرُ محمود وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) يعني مقيم دائم غير أنه لا خيرَ لهم فيه ولا فرج. أما تعلقهم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ، وأنه نقيضُ قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، فإنه لا تناقضَ فيه من وجوه: أولها: أن العمومَ لا صيغةَ له بمقولةِ الذنوبِ جميعا ولو وصله بقوله كلّها وسائرها وقليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها، لم يكن ذلك أجمعُ مفيداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 للعموم الذي هو استغراقُ جنس ما وقعَ عليه الاسم، لما قد ييّناه في الفقه وغيره من الكلام في التوكيد. والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) أنه يغفرها بالتوبة منها والندم عليها والعزم على تركِ معاودةِ أمثالها، وقد دخل في ذلك الكفرُ والشركُ وما دونهما وتولى تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، يعني أنّه يغفرُ ما دونَ الشرك بغير توبةٍ تفضلاً منه، ولا يغفرُ الشركَ بغير توبة، ولا يتفضلُ على المشرك بذلك فخالفَ بين المشرك والموحد في هذا الباب، وهذا أيضا ينفي ما ظنوه من التناقض والاختلاف. والوجه الآخر: آنه أرادَ على قول قومٍ أنه يغفر الذنوب جميعاً التي هى صغائرُ إذا وقعت مجانبةً للكبائر، فلذلك قال، (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، فهذه الآية عندهم مفسرة لذلك ومثبتة لمعناها، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ ما توهموه. وأمَّا قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) ، وقولُهم إن هذا تناقص، لأنه لا يجوز أن يأتي على ما هو إنسان حين لا يكون فيه شيئا وهو مع ذلك إنسان، فإنه ياطل لأنه أرادَ - وهو أعلم - أحدُ معنيين: أحدهما: أنه أتى عليه وهو معدوم حين لم يكن فيه إنسانا ولا شيئاً بل كان عدما متلاشيا، وقولُه، (عَلَى الْإِنْسَانِ) إنما يعني: هل أتى على الإنسان أي على مَنْ صارَ إنسانا بعد أن لم يكن شيئا ولا إنسانا. والوجهُ الآخر: أنه أرأدَ ذلك أنه قد أتى على آدم عليه السلام حين وهو مصوَّرٌ من طين، لم يكن شيئا حياً عاقلاً مذكعوراً بالحياة والتمييز والتحصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 ثم نفخت فيه الروح، فصار حيا عالما مذكوراً بالخيرة مخاطبا، والعربُ تقول: كم أتى عليك من دهرٍ وزمانٍ لم تكن فيه شيئا تعني بذلك أنّك لم تكن مقدَّراً فيها إنسانا يُذْكر، وممن يُفكر فيك وتَخْطرُ على بال، وإن كان قد كان شخصا ماثلاً وشيئا ثابتا. فأمَّا تعلقهم بقولي: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) . و (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) ، وأمثاله، فإنّما عنى به سبحانه أنّهم من شدةِ الخوف والفَزَع بمثابة السكران والثَّمِل وما هم مع ذلك بسكارى، أي هم عقلاءُ عالمون بما يَنَالُهم، والعربُ تقول: فلان قد أسْكَره الجوعُ والعطش، وأسْكَره المالُ والغمر، أي: جعله بمثابة السكران وإن كان عاقلاً مميزاً، وقولُه: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ، أي: كأنهم ينظُرون إليك. وهم لا يَنْظُرون، يعني به أمثلة العيون من الأصنام وضَرْبُه مثلاً لمن يَسْمع ولا يَعْقل ولا يَنْتفع ويُبْصر ولا يَسْتدلُّ، ولا يَعْتبر على ما قلناه من قبل. وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) . وقوله: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، وأن ذلك متناقضٌ لأنّ الجان صغيرُ الحيات والثعبانُ كبيرُها، فإنه باطلٌ لأنه قال: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) ثم قال: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، فقال: كانت مع كِبرَها وعِظَمها تهتزُ وتُسْرع في المشي والتلوي والتثني اهتزازَ الجانّ الصغير، وهذا غايةُ الهَول من منظرِها وإظهار الآية والأعجوبة فيها، ولم يقل فإذا هي جانٌ فيكون ذلك نقيضَ قوله، فإذا هي ثعبان مبين، وإنما قال (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) فبطلَ ما ظنوه. فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) ، وقولهم: كيف أدخلَ "قَبلَ" مرتين وما معنى هذا الكلام، فإنّه أيضا لا تعلُّق فيه، لأنه يجوز أن تكون (قبل" الثاني لغير ما وردَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 له "قبل" الأول، لأنه قال: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) ، يعني قبلَ إنزالِ العذابِ عليهم، وما أنزلَه فيكون (قبل) ها هنا قبل إنزال العذاب عليهم وما أنزله، فتكون قبل ها هنا قبل إنزال، ثم قال: من قبله، أي من قبل رُؤْيتِه، والنظَر إليه، فيكون "قبل" الثاني وارد بغير ما وَردَ له الأول، فالأول قبلَ إنزالِ ما أُنزل و "قبل" الثاني قبلَ النظَر، وقد يجوز أيضا أن يكون ذِكْرُ قبل مرتين على وجه التأكيد وعلى مثال قولهم: عجل عجل، واضْرِب اضْرِب، والأسَد الأسَد، ونحوه قال الشاعر: يَرمْي بها من فَوقِ فَوقِ وماؤُه ... من تحتِ تحتِ شُربه يتغلغلُ فأما تعلقهم بقوله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) ، وقولهم: هذا قول دهريةِ جحدة، فكيف يُقرُّون بالحياة بعدَ الموت، وهم يستجهلون معتقِدِ ذلك فإنه لا تعلُّق أيضا فيه من وجهين: أحدهما: أنهم قالوا ذلك على وجه التقديم بما هو مؤخر عندهم فكأنهم قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نحيا ونموت، فقالوا مكان ذلك نموت ونحيا، كما تقول العربُ شربتُ وأكلت، والأكلُ قبلَ الشرب، يعنون أكلتُ وشربت، وكذلك قولهم: نروحُ ونغدوا، والغدُوُّ قبلَ الرواح. والوجهُ الآخر: أنَّهم لم يريدوا بذلك أنفسَهم فقط، بل عَنَوا به جِنْسَ الناس، فقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت، ويحيا قوم بعدنا من نَسْلنا. ويموتُ أولئك ويجيءُ بعدَهُم آخرون، وأن أهلَ الدنيا لا يَنْفكُون من موتِ وحياة، ولا حياةَ ولا موتَ في دارِ غيرها فأكَذْبَهمُ اللهُ تعالى في ذلك. وقال: إن ذلك ظن منهم وتوهمم وأخبرَ به في غير موضعٍ فبطل ما قدروه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 فأمَّا تعلقهم بقوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقالوا وأنتم تقولون إنه كله مبارك وشفاء، فالجواب إن "مِن" ها هنا صلة قكأنه قاله ويُنزل القرآن شفاء،. فأَدخلَ مِن زائدة وهو كقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ، وقولُهم: فلان في صحَّةٍ من عَقْله، يعنون في صحة عقله، وقولهم: عيِّن من هذا الثوبِ قميصا ومن الفضة خاتما، يعنون جميعا دون البعض وكقولهم: خاتم من حديد، وثوب من خز، وأدخلوا من رائدةَ في الكلام. فأمَّا تعلقهم بقوله تعالى: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) . وقولهم: كيف يكون من رَحِمه عاصما من أمر الله، فالجواب عنه: لا معصومَ عن أمرِ الله إلا من رَحِم فأقام عاصم مقامَ معصوم، وقد يمكن أيضا أن يكون أراد لا عاصمَ اليومَ من أمْر اللهِ إلا من رَحِم بأن جَعل له شفاعةَ ودُعاءً مقبولاَ، في دَفْع العذاب فيكون بدعائه ورغبته عاصما من أمر الله وعذابه. فأمَّا تعلقهم بقوله تعالى: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، فإه نقيضُ قوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ، فكيف ينظرُ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ من يكون بَصرُه حديدا؟ فالجواب عنه: أنه أرادَ - وهو أعلم - فبَصَرُك اليومَ حيديد علمك بعلمك وتيقنك وذكرك له بعد أَنَّ كنت فيه شاكا أو جاحداً. وقولُه: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يعني به الذلةَ والخوفَ والعستكانةَ والاستسلامَ لعذابِ الله، ولا تناقض في ذلك بحمد الله ومنِّه. واعترضوا أيضا قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ، وقوله (يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) . قالوا والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن ذلك عند بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 الأمة إنه يجيء ويأتي بغير زوالٍ ولا انتقالٍ ولا تكييف بل يجبُ تسليمُ ذلك على ما رُوي وجاء به القرآن. والجواب الآخر: أنه يَفْعل معنىً يُسميه مجيئا وإتياناً فيقال: جاء الله بمعنى أنه فعلَ فعلاً كأنّه جائيا، كما يقال أحسنَ الله، وأنعم وتفضلَ على معنى أنه فعل فعلاً استوجبَ به هذه الأشياء. ويمكن أن يكون أراد بذلك إتيان أمْرِه وحُكمِه والأهوالِ الشديدةِ التي توعهم بها وحذرهم من نزولها ويكون ذلك نظيرا لقوله عز وجل: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، ولا خلافَ في أن معنى هذه الآية أن أمْره وحُكْمَه إياهم وعقوبته ونكالَه، وكذلك قوله:، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) . وأما قولهم: وما معنى ظُلل الغمام، وأيُّ مدخل للغمام في هذا الوعيد والتحذير، وأيُّ ضررٍ عليهم بكونه آتيا في غَمَام، فإنه باطل لأن الظُلل ها هنا الأهوالُ وشدةُ الحساب، وهو على نحو قوله عز وجل: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) أي: في عظم السحائب وبما خَلَق من غمَّها وكَرْبها، ويجوز أن يكون الظلل والغَمَامُ بعينه ويجعلَ اللهُ عز وجل ما يَنالُهم من كونه إذا أظلهم وغمّهم به دليلاً على حضور وقت المحاسبة والمسائلةِ وهولِ يقاسونه ويخافون من ذلك. واعترضوا أيضا فى القدح في الرسل وأخبار القرآن بقوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، وقالوا وهذا يوجب شكه واضطراب قلبه ومعرفته، وذلك نقيض قوله ووصفِه لهم بأنهم مصطفَون ومهتدَون وخلافَ أمره بالاقتداء بهم في قوله -: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 والجوابُ عن ذلك أمور منها: أنَّه قال ليطمئنَ قلبي على معنى أنني أزداد إيمانا بك، ويمكن أن يكون أراد ليطمئن قلبي لإجابتك لي إلى ذلك. ولتكون آيةً لي وحجةً على قومي، لأن في تَرْك الإجابةِ توهم لانحطاط قَدْره، ويمكن أن يكون أراد بقوله: ليطمئن قلبي أي لأعْلَم ذلك ضرورةً ومشاهدة، وإن كنتُ عالماً به من جهة النظر والاستدلال فإن الخواطرَ تزولُ مع المشاهدة وهي قائمة طارقة مع عدم الضرورة وإن كان إبراهيمُ وغيره من ، النبيين والصديقين يدفع العارض منها بحجج الله القاهرة وأدلته الباهرة. فإن قالوا: فقد سال موسى عليه السلام مثل ذلك في قوله: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فلم يجبه وقال: لن تراني، يقال لهم: قد يجوز أن تكون إجابةُ إبراهيمَ إلى ما سأل من مصالحِه أو مصالحِ بعض أمته. وأن تكون إجابة موسى إلى ما سأل عنه ليس من مصالحه ومصالح أحد من قومه، ويجوز أن يُمْنعَ موسى لأنه أراد منعَه، وأجاب إبراهيم لأنه أراد إجابتَه، ولو منعهُما جميعا أو أجابهما لكان ذلك جائزاً، على أن إبراهيم لم يسل إزالة المِحنة جملة، وإنَّما سألَ إزالةَ المِحنة بالنظر في إثبات القدرةِ على إحياء الموتى فقط، وموسى سأل رؤيةَ الله ببصره، وفي ذلك زوالُ المِحنة والتكليف جملة، فبطل ما اعترضوا به. قالوا: ومن الإحالة في القرآن قولُه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، قالوا: فكيف يكون المقتول حيا، فرحا مع موته ونقضِ بُنْيتِه وتقطُع أوصالِه ومشاهدته على حالهِ، وما ظنوه من الإحالة في هذا باطل لأن أكثر الأمة تقول: إن اللهَ يحييهم في قبورهم وينعمَ أرواحَهم في أجسامهم أو بعضهم، فمنهم من يقول: إن ذلك حالَهم دائما ومنهم من يقول: يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 ذلك عند المسائلة في القبر، وبعد فراق منكرٍ ونكيرٍ له، وكذلك قولُهم عذاب الكافرين، وقد بيّن هذا الكلام ما ورد فيه من الأخبار في باب عذاب القبر ونعيمه، وهذا ليس بمستحيلٍ من جهة العقل والحياة، وعند أهل الحق لا يَحْتاجُ إلى بُنْيَةٍ وبلّةٍ ورطوبة، فبطل ما توهموه، ومن الناس من يقول: أراد بقوله: أحياء، الإخبارُ عن عاقبة أمرهم وما يؤول إليه حالُهم من النعيم بثواب الآخرة وفرَحِهم بذلك، كما يقال: ما مات من ذِكْرُه باقي، وما ماتَ من خلَّف مثلَ فلان من الولد بل هو حيٌّ، وكما يقال للمظلوم المقهور: أنت الغالبُ الرابحُ وظالمك هو الخاسر، يراد بذلك أن عاقبتك الربحَ والنصرَ وعاقبتُه الخُسْرانُ والنقص، وكما يقال: ما مات فلان ما بقي ذِكْرُه وأثرُ إحسانه وكُتبَ ذِكْرُه وبيانُه. قال الشاعر: فقلتُ والدمعُ من حُزْنٍ ومن فَرحٍ ... في اليوم قد أخذَ الخدَين مُنْسجمه ألم تَمُت يا شقيقُ الجودِ من زَمَنٍ ... فقال لي لم يَمُت مَنْ لم يَمُت كَرمُه قال وعلى هذا قال رجل للنعمان بنِ مقرّنٍ وقد كتبَ إلى عمرَ بن الخطاب كتابا يقول له فيه: "وقد يَرى الشاهدُ ما لا يَرى الغائب"، فقال له الرجل ألِعُمَر تقول هذا، بل هو والله الشاهد، وأنت الغائب، يريد بذلك أن فَهْمه أحضَره، ومعرفَته أكبرُ فهو أمثلُ لذلك من حالك، وإن كنت حاضراً، فأمَّا القَطْع على أنه لا بد من بلاءِ الشهداءِ وتقطُعُ أوْصالِهم، فإنه لا طريقْ إليه. بل الروايات بخلاف ذلك على ما يَرْويه أهلُ البصرة في طلحةِ بنِ عبيدِ الله. وأن عائشةً بنتَه لما أخرجته من موضع النْز وقد رأتْه في اليوم يشتكي ذلك ويخبر بتأذَيه فوقعت المسحاة على إصبعٍ له فدمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 وروى جابرُ بنُ عبد الله قال: "لما أراد معارية أن يجري العينَ التي عند قبور الشهداء أمرَ مناديا فنادى - في المدينة من كان له قتيل فليخرج إليه، قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطابا يَنْثنون وأصابت المسحاةُ إصبعَ رجلٍ منهم فانقطرت دما" فقال الحسنُ البصري وقد سَمع ذلك - ألا ينكر بعد هذا منكِر. قالوا: ومن الإحالة أيضا قولُه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) . وفي الناس خلق يُقْتَلون، وفي الأنْفُس بهائِم تذبح والمقتول ليس بميتٍ ولا ذائق للموت، فيقال لهم: إن كان الأمرُ على ما ذكرتم من أنّ المقتولَ لا موتَ فيه، فإنّما أراد بذلك كل نفسٍ ماتت حتفَ أنفِها ولم تقتل فيكون قولاً مخصوصا وبمثابة قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) و (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ، ولم يُرد أنفسَ الأطفال والبهائم والمتنقصين فزال ما ظننتم. والصحيحُ أن المقتول ميت وأن الله يميتُه، ويرفعُ بالموت ما فيه من الحياة، لأنه مع نقض البِنْيةَ محتملُ الحياةِ والموتِ ولا يجوز ارتفاعُ الموتِ إلا بضده من الحياة وإلآ آلَ ذلك إلى جواز تعرِّي الجواهر من جميع المتضادات من الأكوان وغيرها من الأعراض، وذلك باطل محال لما قدمناه في غير هذا الكتاب، وقد يجوزُ أن يقولَ قائل أرادَ بذكر ذوق الموت مُفارقَة الحياة، فعبَّر عن ذلكِ بذكر الموت كما يجوز بقوله ذائقةُ الموت، والموت لا يُذَاقُ ولا يجوز ذلك عليه، ولكنه هو من مجاز الكلام فسقط ما قالوه. قالوا: ومما ورد ولا معنى له قولَه عز وجل: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) ، والظل لا يكون إلا ظليلاً، وهذا باطل لأن من الظل ما، هو ظل، تَتَخرَّقه السماءُ ثم الرياح، والسافي المؤذي فيكون ظلاً وليس بظليل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 وأراد وهو أعلم بقوله ظليلاَ أنّه ظل لا يتخرَّقه شيء من ذلك وأن أهله على سلامةِ من جميعه. وقالوا: ومن الإحالة في الكلام قولُه: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، فكأنَّه يُحبُّ من المظلوم أن يجهرَ بالسوء. وهذا متناقض جدا - زعموا - فيقال لهم: ليس ذلك على ما توهمتم، ومعنى هذه اللفظة الذي هو لفظ الاستثناء لكن لا يُحبُّ اللهُ الجهرَ بالسوء من القول ولكن من ظُلمَ فله أن يُخبرَ بظلمِ من ظلمَهُ ودخول الضرر عليه، ولا يجب الكشفُ عن عورات الناس وزلاتهم وكثرةُ التتبع لهم والتجسسُ عليهم. وقال بعضهم: قولُه إلا من ظُلِمَ فإنّه يحل له أن يدعو اللهَ على ظالمه ويستكفَّه شرَّه، ويرغبُ إليه في منعه من ظلمه، وقد قال قومٌ قولُه: لا يُحبُّ اللهُ الجهرَ بالسوء من القول كلام تام، ثم ابتدأ فقال: إلا من ظُلمَ فإن له أن ينتصرَ ويمنعَ الظلمَ ويدفَعَه فبطل بذلك ما قالوه. قالوا: ومن هذا قولُه تعالى أيضا: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، قالوا: ونحن نجد خلقا يموتون ولا يؤمنون به، فيقال لهم: إنّما عنى بقوله: قبلَ موته، قبلَ موت المسيح عليه السلام، ولم يرد أن كلَّ مَن هو من أهل الكتاب يؤمن بالمسيح قبلَ موته أن يموت وتُضربَ عنقه، فإن من قُتل ولم يؤمن به فقد مات ولم يؤمن، فليست الهاء راجعةَ على المكلَّف من أهل الكتاب، وإنّما أراد أن أهلَ العصر الذي ينزل فيه عيسى من السماء من أهل الكتاب، يؤمنون به عندَ نزوله ويعرفون صدقه. قالوا: ومن هذا حكايتُه عن اليهود لعنهم الله أنّهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، واليهودُ لم تقل ذلك، ولا ذهب إليه أحد من أسلافهم ولا أخلافهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 والجوابُ عن هذا أن المذكور في تأويل هذه الآية أن أسلافَهم قالوا لنا قربة ومحبة منه كقرب الولد من والده ومحبَّةُ الوالد لولده، ولم يقولوا إنهم أبناءُ الله على مثل قول النصارى لعنهم الله في المسيح إنه ابنَ الله وقنوم من أقانيمه، وقد يقول القائل: أنا ابنك وأخوك، أي: خيرٌ لك ومكاني منك مكانُ أخيك وأبيك، وتقول: أنت ابني وولدي أي: مكانك مني ولطيف منزلتك عندي ومنَي كمنزلة ولدي وأقرب الناس إليَّ، ومثلُ هذا غيرُ منكرٍ في مجاز الكلام، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلَّقوا به. قالوا: ومن الإحالة الواردة في القرآن قولُه: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ، قالوا وقد رُوي أنَّهم كانوا عسكراً كثيراً ومحال في مستقر العادات والضرورات أن يتيه العالَمُ الكثيرُ في قطعةٍ من الأرض اتسعت أو ضاقت أربعين سنة لا يهتدون إلى الخروج منها. فيقال لهم، خرقُ هذه العادة من آيات موسى عليه السلام وكان زمنُ خرق العادات، فإذا أراد اللهُ تَيْهَهُم والانتقامَ منهم بذلك مَحى الآثار َ وأبطلَ العلاماتِ وخالفَ بينَ الآراء وطمسَ على القلوب وألقى في القلوب الشكوكَ في غير المحجة، فتاهَ الخلقُ عندَ ذلك، وانخرقَت بما يفعله العادة، وكان ذلك من حُجَج النبوة فزال ما قلتم. وقد تأول قوم الآية َ على أنه لم يرد بالتيه أربعينَ سنةً ضلالهم وذهابَهم عن الطرق، إنَّما عنى بذلك، أنه فرض عليهم الجولان في تلك الأرض أربعينَ سنةً وحَبَسهم فيها وحزم عليهم الخروجَ عنها عقوبةً لهم على ما سلف من خلافهم وإجرامهم، فشبَّه مقامهم ودورانهم في تلك الأرض أربعينَ سنةً بحال الذين يتيهون في الأرض، وهذا إن صحَّ الخبرُ عنه فليس ببعيدٍ في التأويل، فبطل ما توهموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 فأمَّا قولُه تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، وأمثال ذلك فليس بواردٍ على الإيجاب، وهو نظيرُ قول الرجل لمن يخاطبه: كُلْ من هذا الطعام لعلك تشبع، نحوَ قولِ السيد لعبده: أطعني لعلك تَسْلمُ من ذمِّي، وتنالُ ما تُحبُّ من جهتي، وهذا ترغيب منه، لو أراد الشك لم يكن من عنى في طاعته ولكن إدخالَ لعل في الكلام أرقُ وألطف وأدعى إلى المراد وأجمعُ للهِمَّة على الطاعة. وأما اعتراضُهم على قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . وقد يُدعى فلان يجيب فإنه باطل من وجوهٍ أقربُها: أنه أراد بقوله: أجيبُ إن شئتُ أن أُجيب، ففيه إضمار، ويمكن أن يكون أراد أجيبُ إن كان في معلومي أني أجيب، ويحتملُ أن يكون أرادَ بقوله: أجيب إن كانت إجابة المسألة مصلحةً للسائل، فإذا لم يُجبه عُلمَ أنه لم تكن مصلحةً له، ويكون قد شرط في إجابة الدعاء أن تكون مصلحةً للمكلف، فمن أجيب بذلك كان من مصالحه، ومن لم يُجب فليس ذلك بصلاح في دين ولا دنيا، وليس يعترض هذا الجوابَ سؤالُ من قال لنا فهو لا بد أن يفعل الأصلح، سأل ذلك أم لم يسأله، لأن هذا قولُ القدرية، ويجوز عندنا أن لا يفعلَ بالعبد ما هو الأصلحُ له ويكون قد حَكَم أنه لا يجيب دعوة داعٍ إلا بأن تكون إجابته من مصالحه. ويمكن أن يكون أراد: أجيبُ دعوة الداعي من قبيلٍ دون قبيل وفريقٍ دون فريق، ولم يُرد جميع من يُسمَّى داعيا، ومن يكون منه دعاءٌ وإن اعترض في ذلك فلا نقض عليه بالعلم، لأن اللهَ عز وجل لا بد أن يكون عالما بما يفعله، ولا بد أن يفعله، وما لا يفعله ولا بد أن لا يفعله، ويقال لهم: فما معنى الدعاء إذا كان لا يفعلُ مع سَبْقِ العِلْم بأنه لا يفعلُ ولا بد أن يفعلَ مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 سَبْقه بأن يفعل، سأل السائل أم لم يسأل، ولا جوابَ لهم عن ذلك، إلا نحو ما قلناه، وإذا كان الطاعن بذلك منجِّما مثبتا لأحكام النجوم، قيل له، فما معنى السعيُ والكدحُ من المنجم، والاضطرابُ في طلب الكسب والمعاش. لماذا كانت النجوم والطوالع توجبُ حصولَ المطلوب، فلا بُد من حصوله. وإن كانت لا تُوجبُه فلا بُدَّ من عدَمه، وعدم الانتفاع بِتَمنِّيه والسعي له، ولا جوابَ عن ذلك. واعترضوا أيضا على قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ، وقالوا: وما معنى هذه الشهادةُ من الله عز وجل، وأي فائدةٍ وحجةٍ فيها على التوحيد وهي شهادة منه لنفسه؟ والجوابُ عن ذلك أن هذه الشهادةَ تنزيه منه لنفسه وتعظيم له سبحانه وتعالى عمّا يقول المشركون المتخذون معه إلها غيره. وشيء آخر وهو أنَّه يجوزُ أن يكون معنى شهادتِه لنفسه بذلك هو ما أظهَره من إتقان صُنْعه وعجيبِ تَدْبيره في كل حادثٍ وإلزامه إمارة الصُّنْع والالتجاء إلى صانعٍ صَنَعه ومدبر دبَّره لتقومَ دلالةُ أفعالِه على وحدانيته مقامَ الشهادَةِ بذلك، كما يقال: أفعال زيدٍ تشهدُ بعدالته وتُقاه، وأفعالُ فلانٍ تشهدُ بفجورِه وفسوقِه، يعني بذلك أنَّها تَدلُّ دلالةَ الشهادة عليه وله بذلك، ومعنى شهادةُ الملائكة وأُولي العلم له بذلك، هو إيضاحُهم لهذه الأدلّة والتنبيه عليها والدعاءُ إلى النظر فيها، فيكون تنبيههم قائما مقامَ الشهادة به، فبطل ما ظنوه. قالوا: ومما لا معنى له، ومن الإحالة في القول قولُه تعالى في قصة عيسى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، قالوا: وما الفائدة في أن يُرفع إليه أو إلى ملائكته ميتا، وكيفَ يَرفعه إليه حيا أو ميتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 وليس هو في مكانِ ولا تحويه الأقطار، فيقال لهم: هذا من المقدم المؤخر فكأنّه قال: إتي رافِعُك إليَّ ومتوفيك، والواو لا توجبُ الترتيب، وإنما توجبُ الجمعَ بينَ المذكورين، وقد قال قوم إنه أرادَ برفعه رفعَ درجته وتعظيمَ شأنه وتبليغه المنزلة التي مَن بلغها عَظُمت منزلته. قالوا: وقولُه إليَّ، أي: إلى موضع كرامتي ومواضع أوليائي وهو بمثابة قولِ إبراهيم: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) ، أي: إلى حيثُ أولياؤهُ وحيث يُعبد ويُذْكر. وقال أكثر الأمة: أراد بقوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أنّه رفَعهُ إلى السماء حيا. وأنه لا يموتُ حتى ينزلَ فيصلِّي خلفَ المهدي، ويكون داعيا إلى شريعة نبينا عليه السلام ومؤكداً لها غير داعٍ إلى شريعته، فأمَّا قولُه: (متوفيك) فقال أكثرُهم: مميتك بعد رفعك وإنزالك من السماء، وقال قوم: متوفيك بمعنى قبضتك إليَّ لا بمعنى الموت، قالوا: والتوفي القبض ولذلك قيل توفي زيد إذا قُبِض، فبطل طعنُهم بما ذكروه (1) . وقالوا: ومن الإحالة في الكلام قولُه عزَّ وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) . قالوا: وليس في العالم مكلَّف ولا غيرُ مكلَّف يَذْكُر أخْذَ مثلِ هذا الإقرار عليه، وإشهادَ اللهِ نفسَه على ذلك، ولو كان ذلك حقا وأمراً مأخوذاً عيناً لوجبَ عِلْمنا به وذِكْرنا له؟ وهذا باطل من تعلقهم من وجوه: أحدها: أنه لا يجبُ ذِكْرُنا لأخذ الإقرار علينا، وإن كنا إذ ذاك عالمين به، لأن اللهَ سبحانه أنسانا ذلك فأذهب ذِكرَه وحفظَه عن قلوبنا وَفَعَل من   (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصُّهُ: اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات: الصفة الأولى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها. أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني: {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سينزل ويقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة. والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [النساء: 113] . والوجه السابع: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن. الوجه الثامن: أن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له. فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً. قلنا: قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً. الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها. الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن. واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم. اهـ (مفاتيح الغيب. 8 / 60 - 61) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 ذلك ما شاء، وقد يَنسى الإنسانُ أشياءَ كثيرةً كان رآها وسمِعها، وأموراً كانت منه ومن غيره إذا تطاوَلَ بها الدهر، وإذا كان ذلك كذلك لم يُنْكَر ما ذَكَره تعالى وأخبرَ به من أخذِه الإقرارَ عليهم بالربوبية على أنه لو كانت العادةُ جاريةً بأن مثلَ هذا لا يُنسى في وقتنا وعادتنا لم يَجبْ أن يكون مثلَه لا تنساهُ الذرية، لأن العادةَ المتقررةَ في وقتٍ من الأوقات لا يجبُ أن تكونَ مقررةً مستمرةً أبدَ الدهر وفي سالفه، ولا يجبُ أن تكون العادةُ لقومٍ عادةً لغيرهم إلا فيما ساوى اللهُ فيه بينَ أحوال الناس على اختلافهم، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب أن تكون عادةُ الذرية أن لا يَنْسى ما كان من إقرارها وأخذه عليها وشهادةُ أنفسهم عليهم. فإن قالوا: فأنتم خاصةً تذهبون إلى أنهم اسْتُخرجوا من ظهر آدم عليه السلام كأمثال الذرِّ صِغَراً مستضعفين، ومَنْ هذه حالُه لا يصح كمالُ عقله وتمامُ فكرته ووقوعُ النظرِ منه، لأن العقلَ والنظرَ يحتاجُ إلى بُنيةٍ وبلّةٍ وذاك متعذر في الذرَّة، فبطلَ ما قلتم. يقال لهم: العلمُ والأقدارُ والكلامُ والنظر، والاستدلالُ لا يحتاجُ شيءٌ منه ولا من غيره من الصفات إلى بُنيةٍ وبلَّة على ما بيناه في غير هذا الكتاب. فبطل ما قالوه، على أنه إن احتاج إلى ذلك فلا يَمنع أن تُبنى الذرَّةُ وما في قدرها بُنيةً تحتملُ العلمَ كما بُنيتْ بنيةً تحتملُ الحياةَ والإدراكَ والإحساس. ونحن نجد الذرَّةَ والنملَ والبعوضَ حيا مُدْركا مُلهماً لأمور ادخار الأقوات وحفظِها وإظهارها ونفي ما يزيلُ العفنَ والفسادَ عنها إلى غير ذلك من عجيب أفعالها، فيجوز أيضا إكمالُ عقل الذرة وما هو أصغرُ منها. فإن قالوا: فيجوز أن يَنْطقَ ويُسال ويجيب، قيل كل ذلك صحيح في المقدور، وإن لم تجريه عادة، فإن قالوا: فيجوز أن تَقْدِر الذرةُ على حمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 الجبال والأرضين والسموات كما يجوز ما قلتم، يقال لهم: المحدثات بأسرها ما عَظُم جِرْمه وما صَغُر من مَلَكٍ وإنسانٍ وشيطانٍ لا يصح أن يفعلَ في المحمول حملاً وأكوانا تتحرك وترتفع بها، وإنما يفعلُ الحملُ في نفسِه وهو حركاته واعتماداته التي يفعلُ الله عندَها ارتفاعَ الأجسام المرفوعه، ولو سكَن الخردلةَ عند اجتهاد جبريلَ في دفْعها لم ترتفع، ولو رَفعَ الجبالَ الثقال عند محاولة الطفلِ والبعوضِ لرفعها لارتفعت، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ هذا التعجب ووجبَ إثباتُ الخبرِ باستخراجِ الذرةِ وأخذ الإقرار عليهم. وإكمالِ عقولهم ونظرِهم. وقد قال قومٌ: إنهم إذ ذاك كانوا ملهَمين ومضطرين إلى المعرفة والإقرار. والأولى أن يكونوا مُكْتسبين لذلك، لأن الكلامَ خارجٌ مَخرجَ الاحتجاج عليهم في الآخرة بما كان من إقرارهم وإشهادهم أنفسهم عليهم، وقد قال سبحانه: (شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، فأخبرَ أنهم يُخبرون بغفلتهم عن ذلك ونسيانهم له وقال: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) ، فالآية كلها تدل وتشهدُ بما يذهبُ إليه أهلُ الحق ودهماء الأمة. فإن قالوا: فقد قال اللهُ عز وجل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ، فإذا لم يلعموا وهم أطفالٌ كاملوا البُنية والحواس كانوا عن العلم والأمور والتوحيد إذا كانوا كالذرِّ مستخرجين من صلبِ آدم أولى. يقال لهم: لا حجة فيما تعلَّقتم به، لأنه لا يمتنعُ أن يمنعَهم من العلم إذا كانوا أطفالاَ ويعطيهم ذلك إذا كانوا كالذرِّ، وقد أعطى اللهُ عزَ وجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 عيسى ابنَ مريمَ النطقَ وهو صبي ساعة ولدِ، وأعطى يحيى بنَ زكريا الحُكمَ صبيا، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما اعترضوا به. وقد قال قوم من مدعي الأمَّة إنه ليس معنى الآيةِ ما طعنَ به الملحدون ولا صحَّ الحديثُ باستخراجِ الذرية، بل ظاهرُ الآيةِ يوجبُ أخذَ الإقرارِ من بني آدمَ في كل حين يبلغونَ فيه حدَّ التكليف، لأنّه قال: َ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل من آدمَ وقالَ من ظهورهم، ولم يقلْ من ظهره، وقال ذريّاتهم ولم يقل ذريَته، قالوا: فهذا يوجبُ أن يكونَ الإقرارُ مأخوذاً على ذرية آدمَ في كل حينٍ (حيْنَ) بلوغهم حدَّ التكليف. قالوا: وكذلك قال: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) ، ولم يقل أبونا، وكنّا ذرية من بعدهم، يقول: إنني لو أمتُّهم أطفالاً لقالوا: إنّما أشرك آباؤُنا وكنا نحن أطفالاً لم نبلغ حدَّ التكليف وتلقِّي الدعوة، فأراد اللهُ تعالى الإخبارَ بأنه بلَّغهم حدَّ من أشرك من آبائهم قبلَ شركهم، وإذا كان ذلك كذلك فقد زالَ طعْنُ الملحدين عن أصحاب هذا الجواب. والجوابُ الأولُ هو الحق لأنّ اللهَ تعالى قد أخبرَ عن الذُريةِ أنها أقرَّت بالربوبية، وقالت بلى، ونحن نعلمُ أن كثيراً من بني آدمَ المكلفين لم يقولوا عند التكليف: بلى أنت ربنا، ولا أقرُّوا بذلك، وأنهم ماتوا وهم كفَّارٌ جاحدون مكذبون فبطل الجوابُ الثاني. فإن قالوا: لم يُردْ بقوله: (قَالُوا بَلَى) ، القولَ المسموعَ وكذلك قولُه: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، ليس هو من القول المسموع وإنَّما أرادَ أنه ألزمَهم آثارَ الصنعةِ والحدوثِ والالتجاء إلى صانعٍ صَنَعهم فعبَّر عن ذلك بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) يريد إلزامي لكم صفات المربوبين، وقوله: بلى، أي لم يمتنعوا من أمارات الحدث، ولم يستطيعوا الانفكاك منها فأقامَ لزومَها لهم مقامَ قولهم لم يطيقو وصدَّقوا بلى. وقولُه: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) معناه ما أوجده في أنفسهم وأراهم إياه بعد النسيان والقوة من، تغير الحالات والزيادة والنقصان والكبرِ والهرمِ بعدَ الشبابِ والقوّةِ من الخبر إلى غير ذلك. يقال لهم: كل هذا الذي قلتموه إن ساغَ استعماله في اللغة فإنّه مجازٌ واتساع وليسَ بحقيقةٍ ولا وجهَ للعدولِ بالكلامِ عن ظاهرِه في إخباره عن قوله لهم وجوابُهم ببلى بغير حجة ِ ولا دليلِ بل الواجبُ التمسُّكُ بظاهر الكلام، فإن قيل: الذي يدلُّ على ذلك استحالةُ نطقِ الذرِّ وعلْمُه فقد بيّنَّا فساد ذلك بما يُغني عن ردِّه، فدعواهم لذلك باطل. فإن قالوا: فقد قال من بنى آدمَ وأنتم تقولون من آدَم، يقالُ لهم: الخبرُ الثابتُ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه: استخرجها من آدمَ - فيجب إثباته، وذلك لا يُنافي قولَه من بني آدم، لأنه استخرجها من آدم عليه السلام كما ورد به الخبر، ثم استخرج بعضهم من بعض، فاستخرج من المستخرج ذريةً، ومن الذرية ذريةً أخرى إلى آخرهم،، وأحصاهم وعدَّهم عدًّا، وإذا كان ذلك كذلك ثبتَ الاستخراجُ من صلب آدمَ بالخبر والاستخراج من الذرية المستخرجة عنه بالقرآن،، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالته القدريّة وما تعلقت به الملحدة وبالله. التوفيق قالوا: ومما لا معنى له أيضا قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) . قالوا: فأيُّ فائدةِ في تمثييل الكافر بالكلب في هذأ المعنى، وليس الأمرُ على ما توهموه لأجل أنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 اللهَ عزَّ وجل ضربَ هذا المثلَ للكافر الذي إن وعُظَ وزجِرَ نفرَ وكفر، وإن تُركَ أو رُفق به استكبر وكفرَ فهو مع العظة والتذكرة ضالّ مُعرض، ومع الترك ضال معرض، وكذلك الكلبُ حالُه تخالفُ سائرَ الحيوان لأن كلَّ ما يلهثُ من الحيوان فإنما يلهثُ لمرضِ وتعبِ وكلالِ وعارضِ يزولُ اللهثُ بزواله، والكلبُ يلهث في جميع حالته في صحته ومرضه وراحته وكلاله وريه وعطشه، فلا مثالَ لمن ذكرَ الله حالَه من الكفار من جميع الحيوان إلا الكلب، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه. قالوا: ومن هذا أيضا قولُه تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) . قالوا: فكيف أمرَه بأن يقول: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ، وهو يملكُ تصرُفَهُ وجميعَ أفعاله، ويتصرَّفُ فيها بإرادته وما معنى قولُه: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، وقد استكثر من الخير من لا يعلمُ الغيب. يقالُ لهم: ليس الأمر على ما توهمتم لأن النبى عليه السلام وغيره لا يملكُ لنفسه نفعا ولا ضرًّا، وإنما مالكُ نفعِه وضرِّه الله عز وجل الخالقُ لعين النفع والضرِّ القادرُ على إيجادهما، والخلقُ لا يَقْدرون على ذلك ولا يتصرفون فيما يريدون أو يكرهون إلا بأن يشاء اللهُ تصرُّفهم. وفي هذه الآية دلالة بينة واضحة على أنَّ اللهَ خالقُ أفعالِ عباده وما يضرُّهم منها وما ينفعهم، فإنه مالك لها وقادر عليها وموجه لها إذا وُجدت. وهي مقدورة له، لأن مالكَ الشيء والقادرَ عليه فاعل له إذا وجَدَ مقدورَه ومملوكَه، وليس يكون فاعلاَ لمقدورِه إلا لوجوده فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 وأمَّا التعلُّقُ بقوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) فمعناه - والله أعلم - أنني لو كنتُ أعلمُ الغيبَ لكنتُ إلهاً قديما. والقديمُ لا ينالُه السوءُ ولا يلحقهُ نقصٌ ولا تغيير. ويمكن أن يكونَ أراد أنني لو كنتُ أعلمُ الغيب لنجوتُ من الحوادثِ والنوازل أو اعتددتُ لكل أمرٍ عتادَه وما يدفعُه ويُزيله. ويُحتمل أيضا أن يكون أراد أنني لو كنتُ أعلمُ أجلي ووقتَ موتي وقربه لأكثرتُ الطاعةَ لله والجهادَ في سبيله، وإنما أؤخرُ بعضَ ذلك لإخفاء وقت أجلي، وليس يمتنعُ أن يستكثرَ من الخير من لا يعلمُ الغيبَ على غلبة ظنه وقوة حَدْسِه أو الاحتياطَ والتحرُّر، وإن صحَّ أن يستكثرَ من الخير من قد علمَ حالَه واطلع على ما يكونُ منه فلا تناقضَ في هذا. وقد قيل إن السوءَ المذكور ها هنا هو الخبالُ والجنون، ومنه قولُه تعالى: (إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ، قيل: بخبالٍ وجنونٍ نسبوه إليه فكأنَّه قال: لو كنتُ أعلمُ الغيبَ ما مسَّني من المرض والنوم والآفات المستغرَقة القاطعة عن التمييز وما يجري مجرى السوء الذي هو الخبال. قالوا: ومن هذا أيضا قولُه: (رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، وكيف يجعلُه مع الظالمينَ وهو قد نهاه عن الظلم وعن الكون مع الظالمين، يقالُ لهم: قد بينَّا الكلامَ في هذا في باب خلق الأفعال والتعديل والتجويز بما يُغني الناظرَ فيه. وقد يجوزُ أن يجعله الله مع الظالمين بأن يُضلَّه ولا يلطُفَ له ويحرِمَه التوفيق، وذلك عدلٌ منه وصوابٌ في حكمته، وإنما أمره بأن يرغب إليه في التثبيت على الإيمان وأن لا يزيغَ قلبُه بجواز وقوعِ ذلك منه تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 ولا وجهَ لجواب القدَرية عن هذا، فإنه أقرَّ له بالدعاء ليزيد في ثوابِه. لا أنه يجوز أن يجعله مع الظالمين، لأن الله لا يأمر برغبة لا معنى عنها وبأن نرغب إليه في أن لا يفعلَ ما إذا فعله به، كان سفيها عند القدرية، فإنْ كان رغب إليه في أن لا يضله ولا يخلقَ ضلاله فتلك عندهم رغبة باطلة. وإن كان يرغبُ إليه في أن لا يجازيه على ظُلمه وأن يحكم بثوابه ولا يحكم بعقابه، فذلك أيضا سؤال باطل لا وجهَ له فبطلَ جوابُ القدريَّة ِ عن الآية قالوا: ومن الأخبار الباطلة في القرآن قوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) ، وكيف لا يكون بينهم أنساب مع ثبوت أنسابهم، وكون بعضهم ابنُ بعض وأباه وأخاه وأمَّه، وكيف لا يتساءلون مع قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) . وقد قدَّمنا الجوابَ عن هذا، وقُلنا إنهم لا يتساءلون تارةً ويتساءلون أخرى، ويمكن أن يكون أراد لا يتساءلون ساعةَ النفخِ في الصور وانتشارهم من القبور، فإذا نُفخ فيه أخرى قاموا ينظرون، وأقبل بعضُهم على بعضهم يتساءلون وقالُو (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) ، ويسألون إذ ذاك عما هم فيه، وقد رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشةَ رضيَ الله عنها، وقد سألَتْة عن هذه الآية (هي ثلاثُ مواطن يذهلُ الناسُ فيها: وقتُ إلقاء كتاب كل إنسان: إليه، ووقتُ نصبِ الموازينِ وعند الجوازِ على جسر جهنمَ". فهذه الثلاثُ مواطنَ لا معارفَ فيهنّ لأحد، ولا يتساءلون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 فأمَّا قولُه: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) يعني فلا يتعارفون في هذه المواطن أنسابَهم، وعلى هذا دلَّ قوله: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، ويحتملُ أن يكون أرادَ بقوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) ، فلا أنسابَ بينهم نافعةَ لهم، ولا أنساب بينهم يتراحمون ويتعاطفون بها كتعاطف ذوي الأنساب بعضُهم على بعضِ في الدنيا، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما توهّموه. قالوا: ومن هذا أيضا قولُه تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) ، وقد عُلِمَ أن أكثر الأديان التي يوفيها أهلها ليست بحقّ، وهذا أيضا باطل من توهّمهم، لأنّه لم يُردْ تعالى بالدين ها هنا الدينونةَ بالمذاهب والتديَنَ بالأقوال وإنما - أرادَ الحسابَ والجزِاء، من قولهم: كما تدين تُدان، أي كما تَفعلْ يُفعَل بك، ومنه: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يعني يومَ الجزاء والحساب، ومنه قولُه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، أي: الحسابُ الصحيح، وفي قول: (يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ) دليل على ذلك، لأنّه إنما يوفَى العالمينَ جزاءَ اكتسابهم من ثوابِ أو عقاب. قالوا: ومما لا معنى له قولُه تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) ، وكيف يكونُ الله هو الرامي والرسولُ لم يرم، وهو الرامي على الحقيقة، فيثبتُ الرميَ لمن لم يكن منه وينفيه عمن وقعَ منه؟ يقال لهم: إنّما أراد بذلك - والله أعلم - أنني أنا المقدرُ لكَ على الرميِ والموفقُ لله فيه، والتبليغُ برميكَ ما لم تظنَ أنّك تبلُغُه بها، فأضاف الرميَ إلى نفسه على هذا التأويل، ونفاه عن نبيه على معنى نفي إقداره لنفسه وتوفيقه لها وبلوغه بالرمية ما قيضه الله من هزيمة العسكر يومَ بدر وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 حينَ حَميَ الوطيسُ في ذلك اليوم قبضَ قبضةً من ترابِ وحثاه في وجوه المشركين وقال: "شاهت الوجوه" فانهزمَ القومُ بإذن الله، ولم يقدِرْ النبي عليه السلام أن يبلغَ رميته تلك ما بلغَ، وإن القومَ ينهزمونَ ونظيرُ هذا قولُ الرجلِ لغيره: ما أنت عمِلتَ ما عملتَ، ولا أنت كلمتني ولقيتني بهذا، وإنما فلان فعلَه بي، وأنا فعلتُه بنفسي إذا كان قد أرشدَ إلى ذلك ومكن منه وأعانَ عليه، ومهَّدَ أسبابَه لماذا كان ذلك كذلك سقطَ ما توهموه سقوطا بينا ظاهراَ. قالوا: وممّا وردَ في القرآن من الإحالة قولُه: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) . قال الملحدون: وفي هذه الآية إحالة من وجوه. أحدها: قولُه أنه خلقَ كل دابة من ماء، وليس الأمرُ كذلك لأن منها ما خُلِقَ من البيضِ والترابِ دونَ النطفِ والماء الدافق، فبطلَ أن تكونَ كل دابة من ماء. ومنها حصرُه مشيَ جميعها على بطنِها أو على رجلين أو على أربع، وليس الأمرُ كذلك، لأن فيها كثيراَ يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت وكرخان الأذن والسرطان وغير ذلك فلا وجه لحصره المشيَ على قدْرِ ما ذكره. ومنها أنه لا فائدةَ في ذكر هذا وإعلامِنا إيَّاه لأننا قد علمنا أن الدواب تمشي كذلك، وأي فائدةِ في ذكره إلا الحشوُ به والتشاغلُ بما لا معنى له. قالوا على أنه قال فمنهم، وهذا كناية عن العقلاء، وقولُه: كل دابة يدخلُ فيها ما يعقلُ وما لايعقل؟. يقالُ لهم: جميعُ ما ذكرتم لا يوجبُ القدحَ في القرآن. فأمَّا قولَه: (كُلَّ دَابَّةٍ) ، فإن لفظة كل ليست موضوعة للاستغراق والعموم بل هي معرضة للعموم والخصوص، وكذلك جميع وسائرُ وأيُّ ومَن، وكل لفظِ يَدَّعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 القائلون بالعموم أنه موضوع هو محتمل للعموم والخصوص، وقد بينا ذلك في أصول الفقه وغيره بما يُغني الناظرَ فيه، فبطلَ تعلّقُهم بالعمومِ ولو ثبتَ أيضا لجازَ تخصيصه بدليلِ فإذا علمنا أن منه ما لم يُخلق من ماء قُلنا أرادَ بقوله كل دابة ذكرها، وكل ما يمشي على بطنه أو على رجلين أو على أربع دونَ ما عدا ذلك، على أنَّه لم يقلْ من ماءٍ دافق، وإنما قال من ماء، وكل دابةٍ مخلوقةٍ مما فيه صُورٌ من البِلَّةِ والرُّطوبة، فإن الأصولَ عند كثيرٍ منهم الماءُ والأرضُ والهواءُ والنارُ هذه هي أصولُ الأشياء التي منها تنمو، أو إليها تنحل وتفسدُ فكل دابةٍ مركبة من أصلٍ فيه بلَّة ورطوبة وجزء من المائية فبطلَ ما قالوه. فأمَّا قولُهم فمنهم فإنْ ابتدأ فقال كل دابةٍ وهو لفظ يصلُحُ تناولُه للناس وغيرهم، ويجبُ عند قومٍ تناولُه لذلك، ثم فصَّلَ وذكرَ الناس منهم فقال منهم: فكنى عنهم كناية العقلاء وقال على بطنه يريدُ الحيّةَ وما يجري مجراها، والعربُ تقول: لا يكون المشيُ إلا لما له قوائم يمشي بها المعتمدُ عليها. ولكنها مع ذلك إذا خلَطَت ما لا يمشي مع الماشي وُصِفَ الجميعُ بأنه يمشي كما يقول: أكلتُ خبزاً ولبناً، والخبزُ هو الذي يُقال أنه يؤكلُ واللبنُ يُشربُ فيقولون أكلتَ خبزاً ولبنا لجمعهم لهما في الذكر، ولا يقولون: أكلتُ لبنا فكذلك يقولون: الحيَّةُ والإنسانُ يمشيان ولا يقولون الحيَّةُ تمشي وكذلك العربُ تُعبِّرُ عمّا لا يَعقلُ إذا ذكِرَ مع العاقلِ في اللفظ الموضوعِ لما يَعقل فيقولون: الرجلُ وإبِلُه مُقْبلون، ولا يقولون ذلك في الإبل وحدها، ويقولون في الإنسان وغيره هذان مُقْبلان، وهذان الشخصان مُقْبلان، ولا يقولون ذلك في اثنين لا عاقَل فيهما، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 فأمَّا قولهم إنه حصر مشيَ جميعِ الدوابِ على أربعِ وفيها ما يمشي على أكثرَ من ذلك، فإنه باطل لأنّه لم يحصُرْ ذلكَ ولا قال لا شيءَ من الدواب. وإن كل الدوابِّ تمشي على أربع، وإنَّما قال فمنه من يمشي كذا، ومنه من يمشي كذا، ومنهم من يمشي كذا، ولا شك أن منهم من يمشي على ما ذكر فهذا لا ينقُضُ أن يكون منهم من يمشي على أكثر من ذلك ولا كونُ من يمشي على أكثرَ من أربعِ قوائمَ ناِقضا بمشي ما يمشي على أربعٍ وأقل منها. وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قالوه. على أنه قد قال كثير من الملحدين إنَّ كل حيوانٍ إذا سعى ومشى فإنه لا يمشي إلا على أربع من قوائمه، ويكونُ معتمداً عليها في أربع جهاتٍ لا على أكثرَ منها، فإن كان ذلك كما قالوه، فما يمشي حيوان وإن زادت قوائمهُ على أربعٍ على أكثرَ من أربعٍ منها، وبطلَ ما قالوه. وأمَّا قولُهم فلا معنى لذكرِ ذلكَ إذا عُلِمَ قبلَ خبَره، فإنه باطل لأن معنى ذلك إخبارُهم بقدرته على إقدارهم على المشي مع اختلاف آلةِ المشي، وأنه لو شاءَ أن يجعلها كلها تمشي على بطونها أو على قوائمَ تعتمدُ عليها لفعلَ ذلك، فكأنّه يقول: انظروا أفليس في الحيوان ما يمشي كذلك لجنسِه أبر إيجاب خِلقَته أو لصورته، وإنما ذلك بتقدير العزيز العليم الذي يعطي القدرةَ على المشي على وجهٍ واحدٍ تُقطَعُ به المسافةُ مع اختلاف الآلة، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه. قالوا: ومن هذا أيضا قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 قالوا: وفي هذه الآية ضروب من الإحالة. فمنها لومُه للنبي عون وعتابُه له على أخذه الفداء، وقولُه إن ذلك ليس له مَنْعُ قولكم بأنه معصوم في الأداء عن الله ووضعِ الشرعِ وإخباره تعالى بأنه مصطفىً معصوم. ومنها تغليظ في العتاب له ولهم بقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وهذا نمن منه على عصيانِ رسوله وعصيانِ متَبعيه على رأيه، وإنهم خالفوا بما صَنَعوا من ذلك حُكمَه ومرادَه، واتَبعوا عرَضَ الدنيا مؤثرينَ له على ثوابِ الآخرة. ومنها الزيادةُ في بيانِ اقترافه وإياهم الذنبَ في أخذِ الفداء بقوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، وهذا تعظيم منه لشأن معصيتهم وقُبْح تجرُّمهم. ومنها أنه قال عقيبَ ذلك: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) ، قال: وكيف يأكلونه حلالاَ طيبا وهم قد خالفوا فيما أخذوه وعدَلوا عن نُصرة الدين إلى أخذِ عرَضِ من الدنيا يسيرِ فشتانَ بينَ الإخبارِ عن أكلهم له حَلَالًا طَيِّبًا وبينَ الإخبار عن قَصْدِهم به تحصيلَ عرَضِ الدنيا والإعراض عني ثواب الآخرة. ليوافِقَه أمرَه في الإثخان في القتل، قالوا: وهذا كله متناقضٌ جدًّا؟. فيقال لهم: لاتعلُّقَ لكم في شيءِ مما ذكرتم. فأمَّا قولُ الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) فليسى بعتابِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم، ولا لوم منه له على ذلك لخطإٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 كان منه في أخذ الفداء، لأن الناسَ في أخذِه الفداءَ وقَتلِ من قُتل، ومَنِّه على من أُطلق على أقاويل. فمنهم من يقولُ كان قد نُص له عليه السلام على التخيير بينَ القتل أو المنِّ أو أخذِ الفداء، والقائلون بهذا لا يُسَوَّغ لهم القولُ بأنه لم يكن له أخذُ الفداءِ مع نصِّه له عليه ومنهم من يقولُ لم يكن عنده نصٌ في ذلك وإنَّما فعلَه باجتهادِه وعضَّده مشورةُ أبي بكرٍ ومن كان على مثلِ رأيه في المن وأخذِ الفداء وهؤلاء على قسمين. فمنهم من يقولُ إن الرسولَ لا يجوزُ عليه الخطأ في الاجتهاد، فكيف لا يكون له فعلُ ما أدَّاه إليه الاجتهاد، وهو فرضُه وصواب مقطوع عليه إذا فعله، ومنهم من يقولُ يجوزُ على النبى - صلى الله عليه وسلم - الخطأ في الاجتهادِ غيرَ أنّ المأثمَ عنه في ذلك موضوع، وفرضُه الحكمَ بما أدَّاه إليه الاجتهاد. ولا يجوز لقائل هذا أن يقولَ: إن لم يكن للنبي عليه السلام أخذُ الفداء ممن رأى أخذه منه، جمع قوله: إن ذلك فرضُه عليه السلام إذا رآه، وكان جُهد ما عندَه لأن ذلك تناقضٌ من القول لا شبهةَ فيه على أحد، فعُلِمَ أنه لا عتبَ على النبى عليه السلام في ذلك إن كان منصوصا له على جواز ما فعلَه والتخييرَ له بينَه وبينَ غيرِه، أو كان ذلك بقياسه وجُهد رأيِه وإذا كان ذلك علِمَ أنه ليس التأويلُ في الآية علي ما توهموه. وقد زعم قوم من ضعفةِ المفسّرين ومن الفقهاء والمتكلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّما عوتبَ لأنه أخذ الفداء من غير تقدُّمٍ من الله عزَ وجل إليه في ذلك ولا أذنَ له فيه، لا من جهة نص له على التخيير في ذلك، ولا من جهة الاجتهاد المؤدِّي إلى أن الواجبَ في الحكم أخذُه، وإذا كان ذلك أنظرَ للأمة وأبصرَ للدِّين، وهذا القولُ خطأٌ من قائله، لأنه غايةُ الطعنِ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 الرسول والقدحِ في عدالته، لأنه إذا فعلَ مِنْ ذلك ما لم يأذن اللهُ له فيه من جهة نص أو اجتهاد، فقد عصى الله بذلك، وتقدم بينَ يديه وافتاتَ في دينِ الله وحكَمَ فيه بهواهُ وذلك نقيضُ وصفه عزَ وجل له في قوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) . وإن جاز ذلك عليه لم نأمَنْه منه في جميعِ ما أدَّاه ووضعَه من الشرع. وليس يجوزُ لمسلمٍ أن يقطعَ على تخطئةِ أدنى المؤمنين منزلةَ في قولٍ أو فعلِ وهو يجدُ سبيلاً إلى حملِ ذلك منه على تأويلِ يُخرجهُ عن الخطأ والعصيان، فضلاً عن الرسول عليه السلام ونحن نجد للآية من التأويل ما يوجبُ نفيَ ما قالوه عن الرسول عليه السلام، وعلى كل حالٍ فلا بد من أن يكون له في الأسرى حكم شرعى أو حكم عقلي، فإن كان له حكم شرعي في ملَّة الرسول عليه السلام فلا يجوزُ أن يخفى ذلك عليه باتفاق. وإن لم يكن له في ذلك حكم شرعي وجبَ تبقيتهم في أنفسهم وأموالهم على حُكم العقل، فإما أن تكون أنفسُهُم في العقل وأموالُهم مباحةً أو محظورةً، وكل ذلك لا يوصفُ بأنه مباح ولا محظور، ولا بُدَّ أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمَ الناس به، لمان كان ذلك مباحا في العقل أو غيرَ محظورِ فيه، وإن لم يوصف بإباحةٍ ولا حظرٍ لم يكن في أخذ الأموال منهم جرم، لأن حكمَ العقل الواجبُ التمسُّكُ به إلى حين نقلِ السمعِ له إلى غيره، فلا عيبَ على فاعله، وإن كان ذلك محظوراً في العقل ولم يَرد السمعُ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإطلاقه وتغيير حكمه فقد ركب عليه السلام محظوراً مخالفا لحكم الله وذلك منتفٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان ذلك كذلك بطلَ قولُ من زعمَ أنَّه فعلَ من ذلك ما لم يكن له بنصٍّ ولا اجتهادٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 وقد اعتذر قوم منهم في هذا بأن قالوا: ما فَعلَه الرسول من أخذ الفداء ممن أخذه، كان هو الصوابُ عند الله والأنظرُ للأمَّة ِ والأقوى والأصلحُ في باب الدين، ولكن إنما عاتبَه لأنه فعلَ الذي هو الأصلحُ والأولى من غير أن يأمرَ الله به، فلامَه وعنَّفه على ذلك لفِعْلِه قبلَ أمره، وإن كان لو أمرَه لم يأمرْه إلا بذلك بعينه. قالوا: وعلى هذا نجدُ كثيراَ من السادة يلومون مَنْ تَحتَ طاعَتِهم على فِعل الأصلحِ والأصوبِ الذي لو أمروهم لم يأمروهم إلا به، لأجل فِعْلهم له بغير إذنِ منهم، وهذا الاعتذار غيرُ مخلِّصِ لهم مما ألزمناهم وإن كان ما فعله النبي هو الأنظرُ للدِّين والمسلمين، لأنه لا بُدَّ إذا لم يكن أمَره به من أن يكون قد نهاه عنه، وحظَرَه عليه في عَقلِ أو سَمع، أو لا يكون ناهيا له عنه، وإن كان ناهيا له عنه، فقد أخطأ واعتمدَ تركَ الصواب، ومخالفةَ النهي. وهذا تصريح بالقدح فيه والطعنِ في عدالته وأمانته حاشاه من ذلك، وإن كان غيرَ ناهٍ له عنه ولا محرّم لفعله في عقلِ ولا سَمعِ فلا عيبَ عليه ولا وجه لقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) وهو قد جعلَ له ذلك، وهذا ما لا مَخرجَ لهم منه. وقد احتجَّ قوم بهذه الآية في إبطال الاجتهاد جملة، واحتج بها آخرونَ في إبطال اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن مأمورا بذلك، وهذا الاحتجاجُ باطل من قولهم، وذلك أنّه لا يخلو النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يكونَ اجتهد، أو لم يجتهد وإن كان لم يجتهد فلم يُبْطل اللهُ اجتهادا له ولا لامَه عليه ولا خطَّأه فيه، وإن كان قد اجتهدَ وحكَمَ برأيه، فقد أقرُّوا أنه كان مجتهدًا. فإن قالوا: كان مأمورا بالاجتهاد فقد أبطلوا قولهَم، وإن كان منهيا عن ذلك، ومحظورًا عليه الحكمُ به ففعلَ من هذا ما نُهيَ عنه عادَ بهم الأمرُ إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 الطعن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقدحِ في أمانتِه والجرح لعدالتِه تبطلَ ما قالوه. ولو صحَّ أنّ النبي عليه السلام منهيٌّ عن الحكم بالاجتهاد، لم يدل ذلك على نهيِ الأمةِ عن ذلكَ ومنعِهم منه، وأنّ أكثرَ القايسين يقولون إنه كان محظورًا عليه الاجتهاد، وإن كان مفروضا على الأمة لعللٍ قد ذكرناها في أصول الفقه بما يُغني الناظرَ فيها وفي الاعترَاض عليها. وإذا كان ذلك كذلك بطلَ التعلق بالآية في إبطال أمر النبي عليه السلام بالاجتهاد وأمرِ الأمة به ولو ثبتَ أن النبي عليه السلام أخطأ في اجتهادِه في هذا الحكمِ - وحاشاه من ذلك - لم يُوجب خطأه فيه أن يكون في الأصل منهيا عن الاجتهاد، فهذا بعيد من المعتلِّ به في إبطال القياس، ثم رجَعَ بنا الكلامُ إلى تأويلِ الآية على وجهِ ينفي الخطأ والعصيانَ والعيبَ عن الرسول عليه السلام. فإن قال الملحدون، أو بعضُ من ذكرناه من ضعَفَة المسلمين: فما معنى الآية عندكم، قيل لهم: يحتمل - والله أعلم - أن يكون أرادَ بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، أي: لم يكن ذلك لنبٍّي من قبلك، وإنما خصَصْناك أنتَ بذلك تخفيفا على الأمةِ التي بُعثتَ إليها وتكرمةً لذلك بتمييز قومِك وأهلِ عصرِكَ بتحليلِ العفوِ عنهم، وأخذِ الفداءِ منهم، فكأنه قال مَا كَانَ لِنَبِيٍّ غيركَ فحذف ذكرَ الغير وما يقوم مقامَه لكونه مما يُفهم ويُعلمُ من حال الرسول. ويحتملُ أيضا أن يكون أراد مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أن يفعل ذلك إذا كان الإثخان في القتل هو الأحوط في باب نصرة الدين، والأصلحُ الأنظر للمسلمين، ولم يقُل إن ذلك ليس لنبي على الإطلاق، ولكن بهذه الشريطة، لأن كل نبيٍّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 مبعوث بما هو الأحوطُ للملَّة في نظام أمر الشريعة، فكأنَّه قال: ما كان لنبي أن يكون له أسرى وأخذُ فداءٍ دون القتل، والقتلُ عنده أحَظُّ، وما فعلتَ من ذلك إلا الأحظَّ الأصلحَ في باب الدين وهو أليقُ بالنبي صلى الله عليه وغيرهِ من النبيين، ويدلك على صحّةِ هذا التأويل ِ أنه قد يقوى المسلمينَ بأخذِ الفداء، وأنَّه قد أمَّن عليه من أولئكَ الأسرى، وآمن خلق من نسلِهم وولدوا أنصاراً للدينِ والمسلمين، ولا يجوزُ عند كثيرٍ من الأمَّةِ أن يأمرَ اللهُ بقتلِ من في المعلومِ أنه إن بقاه آمنَ وأسلَم، ونَسلَ أذكياءَ طاهرين، وأنصاراً للدين والمؤمنين، حتى خَلطوا وضاقُوا ذَرعا في جوابِ هذا السؤالِ لمَّا طُولبوا به. فقالوا: كان الأصلحُ أن لا يقتلَ من أخذَ منهُ الفداء، ولكن لم يَجُزْ للنبي عليه السلام أن يفعل هذا الأصلحَ الأصوبَ إلا بإذنِ الله، وحتى يكونَ هذا الذي يشرعُه له ويأمره به، فيكونَ الأصلحَ للنبي أن لا يأخذَ الفداء، وأن ينتهي عن أخذهِ حتى يأتيه أمر من اللهِ عز وجل بذلك. وهذا يَؤول بهم إلى أن النبي عليه السلام قد كانَ فعلَ ما هو الأصلحُ الأصوبُ عندَ الله، ولكنه فعلَه بغيرِ أمرِه وتقدمَ بذلكَ بينَ يديه، وهو لا يعلمَ ما الأصلحُ من ذلك عندَ الله، فإن كان قد نهاهُ عن أخذِ الفداء بعقلٍ أو سَمْعٍ إلا بأن يأمُرهَ بأخذهِ، فأخذَ بغيرِ أمرِه فقد عصا واعتمدَ الخطأَ وحاشاهُ من ذلك، وإن كان لم ينَههُ عنه فلا معنى لقولهم ليس له فعلُ ذلكَ حتى يأذنَ له فيه، ولغيرِهم أن يقولَ لهمُ وليس له الامتناعُ من أخذه، وإن كان ذلكَ الأضَرّ في بابِ الدين، حتى يحظرَ اللهُ عليه فعلَ ذلك، حتى يكونَ هو الناهي له عنه والمنزلُ فيه وحيا، وهذا جوابُ من قال منهم قد فعلَ الأصلحَ عنده من غيرِ أن يأذَنَ له فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 وقد تحتملُ الآية ُ أن يقولوا في جوابِها وجوابِ هذه المطالبة، إنما أرادَ في الجملة أنه ليسَ لنبي أن يكونَ له أسرى، وإن كان ذلكَ هو الأصلحَ عند الله، إلا بإذن اللهِ دونَ أمرِه، ولم يخبرِ الله أن رسولَه فعلَ من ذلكَ شيئاً بغير أمره، وإنما ذكر هذهِ الجملةَ فقط، فكل هذا يبينُ صحة َ التأويلينِ اللذينِ ذَهبنا إليهما دونَ الحكمِ بتخطئةِ الرسولِ في نصٍّ أو اجتهاد. فإن قالوا: فما معنى قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ؟ قيل لهم: أرادَ بذلكَ - وهو أعلم - إن منكم من أخذَ ذلكَ تعجلاً لعرضِ الدنيا، ولم يقصد به نُصرةَ الدينِ والأحظَّ للمؤمنين، وأنه أخذهُ مع الغَناءِ عنه، فإما أن تكونَ هذهِ صفةً للرسولِ عليه السلام وأبي بكرٍ وعِلْيَةِ المؤمنينَ الذينَ قالوا إن أخذَه منهم فداءً قوةً للدين، ولعلهم أن يؤمنوا فيُكثروا المسلمينَ، فمعاذَ الله أن يكونَ قصدُ من هذه سبيلُه ابتغاءَ عَرضِ الدنيا، وأن يخلوا أمة وأهلُ عصرِ نبي وعسكرُ إمامٍ وخليفةُ نبيٍّ وإمامٍ من قومٍ تكون الدنيا عندَهم وتعجيلُ أعراضها آثرُ من ثوابِ الآخرة، ويكونون إليها أميل، واللهُ سبحانه إنما عاتبَ هذه الطبقةَ دون من عَداها وهذا بيِّنٌ في سُقوطِ ما قالوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 (فصل) فإن قالوا: فما وجهُ قوله: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ؟ قيل له: معنى ذلك أنه لولا سبق حكمي وأمري بإطلاقِ أخذِ الفداء لكم وتحليلِ أكلِ غنائمِ المشركينَ من محاربتكم، وأنني فَّرقتُ في ذلك بينَكم وبينَ من عداكم من الأمم السالفة، لنَا لكم ومسَّكم فيما أخذتم عذاب عظيم، لأنه قد رُوي في السيرة وذَكرَ المُفسرون أنه لم تَحُل الغنائم لأمةِ نبي قبل نبينا عليه السلام وأمية قبلَ أمتنا، وأنّهم كانوا إذا أخذوا الغنائمَ حازوها ولم يردوها على المشركين، ولم ينتفعُوا بها ولكن يحرقُونها بالنار، فأكرمَ اللهُ هذه الأمةَ وزادَ في تفضيلهِ عليها، والتوسعة في أحوالها، لتحليله لها أخذَ الغنائمِ والانتفاعَ بها في وجوه التصرفِ من الأكلِ وغيرِه، فهذا تأويلُ قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، يعني سبَق حكمه بإطلاقِ ذلك. فأمَّا قولُه تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) ، فهذا هو الدال على صحّة ما قلناه، من أنني قد أحللتُ لكم ذلك بعدَ أن كنتُ حرمتُه على سائرِ الأممِ قبلكم، فسَلِمتم بأخذهِ مع التحليلِ بسَبْق الكتابِ به من العذاب، ثم أكدَ تحليلَهَ وإطلاقَه وبيانَ الفرقِ في ذلك بينَنا وبينَ من سلف من الأمم بقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) أي: لستم في أكلِه ولحوقِ مأثمٍ بكم فيه كمن قبلكم، ممّن حَرَّمتُ ذلك عليه، وإذا كان ذلك كذلك بان سقوطُ قدحِهم في القرآنِ بهذا الضربِ من الاعتراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 فإن قال قائل من المحلدةِ والقادحينَ في أخبارِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من ضعفاء الأمةِ ومبتدعيها والطاعنين على سلَفَها، فما معنى ما روُي من قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَو نزل عذابٌ من السماء ما نجا منا إلا عُمر ابنُ الخطاب"؟ قيل له: أراد بذلك أنه لم يكن ينجو إلا هو، ومن كان على مثل رأيه وصدَق نبيه في مناصحة الرسولِ ونصرةِ الدين، والاحتياطِ على المسلمين. وإنما خصه بالذكرِ لما كان أظهر نَفسَه وإشهارَه بالسيف، وسؤالَه للرسولِ بأن يُسلِّم إلى كل رجل أقربَ الناسِ إليه ليضربَ عنقَه، وقولُه افعل يا وسولَ الله واقطع شأفةَ الكفر، فهؤلاءِ الذين أخرجونا من مكةَ وفعلوا وفعلوا، فلما كان أكثرَهم حرصا على ذلك، وإظهارِ القول فيه نُسب أهلُ رأيه من الأمةِ إليه، فقالَ عند ذلك: لو نزلَ عذاب من السماءِ ما نجا منه أي من الأمةِ إلا من كان على مثلِ رأي عمرَ في منصاحتِه الدينَ ممن أشارَ بالقتلِ واستئصالِه شأفةِ الكفر، وممن أشارَ بالمنِّ وأخذِ الفداءِ إذا كانَ ذلكَ هو الأصلحَ الأنظر للأمة، وليسوا مطالبينَ بها عند اللهِ في هذا الباب، وإنما يُطالبُ كل واحدٍ منهم بأن يُشيرَ ويقولَ بما هو عنده الأحظّ للدين، سواء كان هو الأحظُّ عند الله أم لا، وحرامٌ على مَن الرأيُ عنده أخذُ الفداءِ والمن أن يشيرَ بالقتل. وحرام على من رأى الأحوطَ للدين والمؤمنينَ بالقتلِ أن يُشيرَ بأخذِ الفداءِ والمن، لأن فرضَ كل واحدٍ من المشيرينَ وأهلِ الرأي، خلافُ فرضِ غيرِه إذا اختلفت عندهم الآراءُ ووجوهُ الصواب، وإن كانوا إذا اتفقوا على الرأيِ صار فرضُهم واحداً كمشاهِدي القبلةِ والذينَ يغلُب على ظنهم كونُها في جهةٍ واحدةٍ في تساوي فرضِهم ووجوبِ اختلافِ فرائضِ من اختُلف في اجتهاداتِهم وآرائِهم في جهةِ القبلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 فإذا كان ذلك كذلك بأنَ الرسولَ عليه السلام لم يُردْ بهذا القول إن ثبتَ جميعَ الأمة، وهو منهم كانوا مستوجبين للعذابِ لو نزلَ إلا عمرَ بن الخطاب، فهذا بعيد من الصواب، ولكنه أرادَ عليه السلام أنه هو ومن كان على مثلِ رأيهِ هم الناجون. فإن قيلَ: وما معنى نزولِ العذابِ على قومِ قد أشارَ كل واحدِ منهم بما عنده وما هو فرضُه، والأولى في الدين أن يشيرَ به، فكلهم إذا كانوا كذلك بمثابة عمر بنِ الخطاب، في رأيهِ ومشورته وأدائِه بما أشارَ به لفرضه. يقالُ لهم: لم يعنِ الرسول عليه السلام أحدا بذلك ممن ذكرتم، وكانت حالُه في الاحتياط للدين والمسلمين كحالِ عمرَ بنِ الخطاب، لأنهم كلهم على ما ذكرتم بمنزلةٍ واحدةِ في درجةِ من الحقِ والصوابِ متساوية، ولكنه عَلِمَ عليه السلام أن فيهم قوما منافقينَ قصْدُهم بما يذكرونَه من الرأيِ إضعافَ الدينِ وتوهينَ المسلمين، ومنهم أيضا طبقة من المسلمينَ هم إلى جمعِ الأموالِ وتعجلِ عَرضِ الدنيا أميلُ منهم إلى ثوابِ الآخرةِ لعاجلِ النفعِ ومُركبِ الميلِ والطبع، فهُم بذلكَ عصاة غيرُ كفار، وإن كانوا ليسوا من أهلِ القوةِ والبصائرِ في الدين، وتحصيلِ وافرِ الحظ من ثوابِ الله عز وجل، فإذا كان ذلك عنده عليه السلام متقرراَ ساغَ أن يقولَ مثل هذا القول في عمرَ وموافقتهِ وطبقتهِ تحذيرا من قلةِ المناصحةِ في الدينِ والمثابرةِ عن نيلِ قطعةِ من الدنيا وفانٍ حقير، وهذا بيّن واضح في إبطالِ ما تعلقوا به، وبالله التأييد. قالوا: ومما وردَ من الإحالةِ في القرآنِ قولُه عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 فمن الإحالةِ في الآيةِ أمرُه لهم بإعطاءِ الجزيةِ وأمرنا بأخذها منهم. وإن كانوا يمتنعون بإعطائها من الإيمان به ويقيمونَ بها على الكفر، فلا يخلوا إعطاؤهم الجزيةَ من أن يكونَ طاعةً للهِ أو معصيةً له، فإن كان معصيةً له لأنه طريقُ الامتناعِ من الايمانِ والاعتصامِ به مع المُقامِ على الكفر، فكيفَ يأمرهُم بما هو معصية له. والمعصيةُ هي ما نهى عنه فهذا يوجبُ أن يكونَ أداءُ الجزيةِ طاعةً منهم من حيثُ أمروا به، ومعصيةً من حيث امتنعَوا به من الإيمان، والإقرارِ بالرسولِ عليه السلام وهذا هو الاحالة، وإن كان أداءُ الجزيةِ طاعةً منهم وليسَ بمعصيةٍ فكيفَ يكونُ طاعةً لهم وهو ممتنعْ به من الإيمانِ به، هذا أيضا إحالة من القول. قالوا: وكذلكَ إن كنا نحنُ والرسولُ مطيعينَ في أخذِ الجزيةِ منهم. وجبَ أن نكونَ مطيعين بأخذِ ما يمتنعُونَ به من الإيمانِ بالله، وذلك محال لأن الواجبَ علينا تركُ كلما يؤَدي فعلهُ إلى الصد عن الإيمانِ به. قالوا: ومن الإحالةِ في الآية ِ أيضا قولُه تعالى في أهلِ الكتاب أنهم: (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وليست هذه صفةُ أهلِ الكتاب، لأنهم يؤمنونَ باللهِ وبالثوابِ والعقابِ واليومِ الآخرِ، فهذا - زعموا - تقويل عليهم ووصف لهم بغيرِ صِفَتهم. فيقالُ لهم: لا تعلُّق لكم في شيءٍ مما وصفتُم وذكرتُم، فأمَّا قولكُم إنهم مأمورون بدفعِ الجزيةِ إلينا فإنه باطل، لأنهم مأمورون بفعلِ الإيمانِ باللهِ ورسوله وبتركِ ما يمتنعونَ به من ذلك، فإن كانوا يمتنعون بأداء الجزية من الإيمان فهم مأمورون بترك الأداء، ولكن ليس أداءُ الجزية مما يمتنعون به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 من الإيمان بالله وتصديقِ رسوله، فإنما يمتنعون به، عن قتلِنا لهم وقتالنا إياهم، فإنما يأخذها منهم بدلا من قتلهم وقتالهم لا من الإيمان بالله وبرسوله، ولو آمنوا بهما لزالَ فرض قتالهم، وإذا زالَ فرضُها لم يجزْ إثباتُ بدل منه يقومُ مقامَه، فبانَ بذلك أن الجزيةَ ليست ببدلٍ من إيمانهم. وأما قولكم: إنهم مأمورون بأدائها مع المقام على الكفرِ بالله وبرسوله. قإنه أيضا كلام باطل محال، لأن الكافر لا علمَ له بالله، ولا إيمان فيه به وقد أقمنا أوضحَ الدليل على ذلك فيِ باب الكلام في الوعيد والأسماء والأحكام، وإذا ثبتَ ذلك، ثبتَ أن الله سبحانه لا يجوزُ أن يأمُرَ الكافرَ به بأن يفعلَ طاعة لوجهه، من أداءِ جزيةٍ أو صدقةٍ أو بر أو شيء من القُرب مع المُقام على الكفر به والجَحد له ولرسله، لأنه لا يجوزُ وقوعُ طاعة من الكافر يصح أن يرادَ الله بها، وأن لا يرادَ بفعلها من المُقام على الجهل، والكافرُ كذلك عندنا غيز مأمورٍ مع المُقامِ على جهله بالله وكفرِه بشيءٍ من القُربِ إلى الله عز وجل، وكيف يُؤمر بالقُرب إلى الله سبحانه وفعلِ طاعتِه لوجهه من يجحد اللهَ ولا يعرفُه؟ ! واليهودُ وكل كافرٍ بالله وجاحدٍ لنبوةِ بعضِ أنبيائه غيرُ عارفٍ بالله ولا إيمانَ فيه به على ما بيناه في غير هذا الكتاب، وإذا صحَّ ذلك بطلَ أن يكونَ الكافرُ مأموراً مع المقام على كفره بشيءٍ من القُربِ إلى الله عزَ وجل، وإنَّما يؤمرُ الكافرُ بفعلِ الطاعةِ والعباداتِ بشريطةِ، تقديمه فعلَ الإيمان بالله، ثم التقرب إليه بفعلِ الطاعة له، وقد عُلم أن أهل الكتاب لو آمنوا باللهِ وبرسوله لم يجب قتالهم وقتلهم ولم يلزمهم أداء الجزية إلينا، يكون بدلاً من قتلهم وقتالهم، لأن ذلك محظوراً علينا إذا آمنوا بالله وبرسوله، فسقط بذلك ما ظنوه من أمر الكافرِ بأداء الجزية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 وقد قالَ من خالفَ أهلَ الحق من القَدرية: إن أهلَ الكتاب مأمورون َ بأداء الجزيةِ إذا أقاموا على كفرهم ولم يؤمنوا باللهِ وبرسوله، وأنهم لم يُؤمروا بأدائها ليمتَنِعوا بها من الإيمان، ولكن يمتنعون به من قتلهم وقتالهم. قالوا: وهم مطيعون لله بهذا الفعلِ وببرِ الوالدين وكثيرٍ من القرب، غير أنهم غيرُ مثابينَ على فعلِ هذه الطاعاتِ في الآخرة لامتناعِهم من الإيمان الذي بفعله يصلون إلى ثواب أعمالهم، وذلك معرضٌ لهم لو أرادوا الوصولَ إليه بأن يؤمنوا ليصلوا بذلك إلى ثواب طاعاتهم، فقدرَ أصحابُ هذا الجوابِ على أنَّهم مأمورون بأداءِ الجزيةِ وغيرِ ذلك مما إذا فعلوه كانوا مطيعين به، غير أنهم ليسوا بمثابين على طاعاتهم، فلا سؤالَ لهم عليه من حيث طعنوا. ولكن يجبُ البيانُ للقدرية بأنهم مُخبّطون في قولهم على أصولهم الفاسدة بأنهم مأمورونَ بما لا ثوابَ لهم عليه، لأن ذلك جور على أصولهم، لأن الأمرَ بالطاعةِ والعبادةِ أمر بإدخال ضررٍ على النفس وألم وكدٍّ مع المقام على الجحد، فإن كان لا ثوابَ عليه وفي تركه عقاب، فكان الكافرُ والفاسقُ المصرُّ عندهم مأمورين بفعلِ الطاعةِ لله مع المقام على الكفرِ والفسق، ومعروف أنهم غيرُ مثابينَ على الضرر الداخل عليهم بفعل العبادة إذا فعَلوها، وإن عليهم في تركِ ذلك عقاباً فهذا عندهم نفسُ الظلم والعدوان، والقولُ بجواز إدخال ألمٍ وضررٍ على المكلف، لا نفعَ له فيه في عاجلٍ ولا آجل، ولا هو مستحق ولا مقصود به النفع، وهذا عندهم حد الظلم وحقيقته، فكأنَّ الكافرَ والفاسقَ إنما يجبُ أن يُطيعا الله عز وجل خوفاً من عقابه فقط، لا لرجاء ثوابه، وليس بعادلٍ ولا حكيمٍ عندهم المطاعُ الذي هذه صفته، فهذا نقضٌ لأصولهم بيِّن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 فأمَّا نحن فإنّنا مأمورون لا محالةَ بأخذ الجزية من أهل الكتاب بما أقاموا، على كفرهم ومطيعون بذلك، لأنه مأخوذٌ علينا ذلك فيهم، سواءٌ امتنعوا من أدائها إلينا من الإيمان، أو من قَتْلِنا لهم والقتال، ولو قال لنا سبحانه صريحاً خُذوا الجزيةَ ممن يمتنعُ بأخذكم لها من الإيمان بي، لوجبَ أن نكونَ بأخذها طائعين، وإن كانوا هم بالمقام على أدائها والامتناع من الإيمان عاصين، كما نكونُ نحن طائعين بطاعة الإمام إذا أمرنا بتنفيذ حُكمٍ يقولُ لنا قد علمتُ وجوبَه، أو قامت البينة عندي به، وأنتم لا تعرفونَها. وإن كان هو عاصيا بالأمر بإنفاذ الحُكمِ إذا عَلِم من جَرحِ الشهودِ ما لم يَعْلمه، وكان غيرَ عالمٍ بما ادَّعى العلم به، وكما يجبُ على المستفتي قبولُ قولِ المفتي، وإن كان المفتي له عاصياً بفتواه له بغيرِ دينِ الله، وإن لم يفعلْ ذلك العامي، وإذا كان ذلك كذلك لم يستحيلَ أن يكونَ فعلُ الشيءِ من غيرِ المكلف معصية، ويكونَ اتّباعُه عليه والانقياد له منا طاعةً وبطلَ بذلك كل ما قالوه في هذا الفصل. فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ في صفة أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإنّه صحيحٌ على أصولِ أهل الحق خاصة، لأنهم كفارٌ بالله، والكافرُ بالله غيرُ مؤمنٍ به من وجه، وقولُ الله بأنّهم غيرُ مؤمنين أصدقُ من إخبارِهم عن أنفسهم بأنهم مؤمنينَ بالله، ولو علمَ أنهم مؤمنون به لما قال إنهم كافرون به، لأن ذلك تحيُّفٌ لهم، ووصفٌ بغيرِ صفتهم، ولم يقل إنّ الجاحدَ لنبَّوة الرسلِ يجبُ كونُه كافراً باللهِ وغيرَ مؤمنٍ به، لأجلِ إيجابِ العقلِ ليضمنَ الجهلَ بالنبوَّةِ لعدم العلم بالله، والإقرار بوجوده وقدمه وربوبيته، لكن لأجلِ ورودِ السمع بأن جاحدَها كافرٌ بالله، فصارَ جحدُ النبوة أحدَ الأعلام والأدلة على كفرِ الجاحد لها بالله، وبمثابة كونِ دخول الدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 علامةً على الكفر والإيمان إذا قال الرسولُ لا يدخل هذه الدار إلا مؤمنٌ بالله وبرسوله، أو كافرٌ بالله وبرسوله، لا لأجل تضمُّن الأكوانِ التي هي دخولُ الدارِ لوجودِ الإيمانِ بالله أو الكفر به على ما بيناه في غير أهل الكتاب، وكل مُخبر من أهلِ الكتاب المُظهرُ لليهودية وغيرها من الملل، إما أن يكونَ جاحداً بقلبه ومُظهراً بلسانه ما ليس فيه أو يكون مُخبراً عن اعتقاد موطن لوجودِ الباري وقدمِه وتوحيدِه، وتقليدٍ منه في ذلك، وهو يظنّه علماً. فيكونُ لذلك جاهلاً بالله وغيرَ مؤمنٍ به، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ قولهم إنّ اليهوديَّ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، هذا جوابنا. وقد أجاب قومٌ عن ذلك بأن قالوا إنما أراد بقوله في صفةِ اليهود وأهلِ الكتاب بعد قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، بأنهم لا يؤمنون بالله أن أفعالهم، أفعالُ من لا يؤمنُ بالله ويضاهون أفعالَهم وطرائقَهم، فيكونُ ذلك على طريقة التشبيه لهم بمن لا يؤمنُ بالله، لا على نفي الإيمان عنهم على التحقيق، كما يقولُ القائلُ: هذا الظالمُ الجبارُ لا يؤمنُ بالله، أي: فعلُه وطريقتُه فعلُ من لا يؤمنُ بالله على مذهبِ التشبيه. وأجاب آخرون عن ذلك بأنهم قالوا: إنما عنى بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الذين ابتدأ بذكرهم في قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ، فحذف تكرارَ لفظة الذين، وقد يُكرَّرُ هذا اللفظ تارةً ويُستثقلُ تكراره أخرى، ويُقتصرُ على ذكره دفعةً واحدةً على وجهِ الحذفِ والاختصارِ. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به في هذه الآية ِ من جميع الوجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 قالوا: ومن الإحالة الواردة في القرآن في صفةِ اليهود قوله عزَ وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) . قالوا: واليهودُ جميعاً تنكرُ ذلك، وقد عُلمَ أن هذا ليس من دينها. فيقال لهم: صيغةُ الظاهرِ لا توجبُ استغراقَ جميع اليهود، وقولهم كلهم بذلك وتناوله لمن مضى منهم ومَن في الحال، ومَن هو آت بل هو قول محتمل للخصوصِ والعموم، وظاهرُه أيضا مفيد لفعلٍ ماضٍ من قومٍ قالوا ذلك وسلَفوا مَن اليهود، وليس يُخبرُ عمَن يأتي بعد النبي عليه السلام من أهلِ عصرنا وغيرِهم من أهلِ الأعصار، وإذا كان ذلك كذلك وكان الله عز وجل أصدقَ منهم وكان المؤدي لهذا القولِ عنه من قامت الحجةُ القاهرةُ بثبوتِ نبوته، وجبَ حملُ الآية على أن طائفةً منهم ممن سلف قال ذلك واعتقده، أو رئيس من رؤسائهم وداعٍ من دعاتهم، وقد ورد في الآثار عن بعض السلف أن الذي قال ذلك واحد منهم، هو المسمى فنحاص، ويجوز أن يكون هو الذي ابتدأ القولَ بذلك واتبعه عليه قوم منهم فقال: وقالت اليهود، وهو يريدُ البعضَ منهم، إما رئيس منهم أو طائفةٌ منهم، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما تعلقوا به. وأما قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) . فإنما أراد - وهو أعلم - أنهم كانوا يجدون فيه تنافياً وتناقضاً كثيراً لا معنى له، ولا يسوغُ ويجوزُ استعمالُ مثله في اللغة العربية ولو وُجدَ نظمهُ مختلفا متنافيا من ضروبٍ من أوزان كلام العرب، لا يخرجُ عما يعرفونه ولوجَدوا فيه الثقيلَ الجزلَ الرصين، والخفيف المستغث السخيف. كما يوجدُ ذلك أجمعُ في كلامِ جميع العرب من أهلِ النظم والنثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 ولم يجدوهُ على حدٍ واحدٍ ونمطٍ غيرِ مختلفِ ولا متزايدٍ في جزالة اللقظ. وحُسن النظمِ والفصاحة، والبراعة الخارقة للعادة. ولم يعنِ بقوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) اختلافَ قراءته واختلافاً في تأويله وأحكامه الغامضة، فكيف يريدُ ذلك وهو تعالى قد أنزل القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ كلها شافٍ كاف، وقد تظاهرت الأخبارُ بذلك عن الرسول عليه السلام وأنّه أقرأهم قراءاتٍ مختلفة وصوَّبهم، فلم يقلْ له قائل منهم هذا اختلاف في التنزيل. ولو كان الأمرُ على ما ادّعوه لم يذهب ذلك على الصحابة، ولم يجز في مستقر العادة إضرابهم عن ذكر هذه الموافقة، وكذلك لا يجوزُ أن يكون على اختلافه في الأحكام والتأويل، لأنّ ذلك لا يجعلُ القرآن نفسه مختلفاَ. والله قال: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ، والاختلافُ في تأويله غيرُ الاختلافِ في تنزيله ولا خلافَ بين أهل اللغة أن التناقضَ والكذبَ يُسمى مختلفاً وخُلفاً من القول، ولذلك يقولون فيمن اعتقدوا فيه الكذب حديثُه مختلف. وقد اختلفت روايتُه وقوله في هذا، وهذا خلفٌ من الكلام، والله تعالى إنما نفى عن كلامه هذا الاختلافَ لأن ذلك يوجبُ أن يكون نفسُ كلامه مختلفا، وليس الاختلافُ في تأويل كلامه اختلافاَ فيه، لأن اللهَ تعالى قد نصبَ الأدلةَ القاطعةَ على مراده بالمحتمل، إما ببيانه في آيةٍ أخرى أو سنة ثابتة أو إجماعِ من الأمة، أو دليل عقلِ وخبر جلَّ ثناؤه فيما احتملَ أموراَ كثيرةَ من الأحكام الشرعية نحو قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ، وقوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) ، وأمثال ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 وليس يجبُ إذا اختلفَ العلماءُ في ذلك وخيَّروا فيه، إذا استوت عندهم التأويلات، وخُيرت العامةُ في استفتاء من شاؤوا منهم أن يكونَ ذلك مصيّرا لكتابه مختلفا، كما أنَّه لا يجبُ إذا خُير العلماءُ والعامة في الكفاراتِ الثلاثة أن يصيرَ حكمُه مختلفا، فإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أن التأويل في نفي الاختلاف ما قلناه دونَ ما ظنوه. وقد يمكنُ أيضا أن يكون تعالى عنى بقوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) عاريا من دليلِ قائمٍ على صحيحِ ما اختُلفَ فيه من فاسده، حتى يصيرَ لِعُروِّه من ذلك مُشكلاَ مُلبسا لا سبيلَ إلى معرفة المراد بتأويله والقصد به، ولم يُردْ نفيَ الاختلافِ الذي قامَ الدليلُ على صحّة صحيحه وبطلانِ فاسده، فإذا كان ذلك كذلك زال ما تعلقوا به. فأمَّا قوله تعالى: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) ، وقوله: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) . فإننا قد أبنَّا الجواب عنه والمراد به فيما سلف بما يغني عن رده. فأمَّا قوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، مع قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، والخطابُ له عند كافة أهل التأويل، والمرادُ به أمته، وهذا مما يسوغُ ويجوزُ في اللغة، ومثله قوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، الخطاب له والمقصودُ به غيره، على أنه قد يجوزُ أن يقولَ القائلُ لغيره في الأمر الذي يعلمَ أنه يحقه ويعرفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 يقينا فإن كنتَ في شك مما قد أخبرتُك به وريبٍ مما قلتُه فسل فلانا، وسل غيري، وإنما يوردُ ذلك على وجهِ التأكيد والتثبيت للعارفِ بما يقوله، لا على أنه في الحقيقة شاكٌّ مرتابٌ في خبره، وكذلك قد يهدد المرءُ من يعلمُ أنه لا يخالفه ولا يعصيه ويقول له: إن عصيتني عاقبتك، إذا علم أنّ ذلك لطف له في التمسك بطاعته والانزجار عن معصيته وإذا عَلِم أن سامعي توعُّده يصلحون ويرهبون سماع ذلك الوعيد، وإذا كان ذلك كذلك زالَ تعلُّقهم بالآية. وأمَّا قوله تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، فلا منافاةَ بينَه وبينَ قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) ، لأمور: أحدها: أنه يمكنُ أن يكونَ المرادُ بقوله تبياناً لكل شيء، وهذا بيان للناسِ على قول من وقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) . وجعل قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، واوَ استئناف، أنه سبحانه ما فرط فيه من شيءٍ فرضَ على المكلفين عِلْمَهُ والعمل به والمصير إلى موجبه. وجعلهم في حرجٍ ومأثمٍ في الجهل به، أو رعاهم وندَبهم على سبيل القصد إلى معرفته، وكذلك قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) و (بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، إنما أراد به أنه لما ألزموه وكلفوه وأخذوا بمعرفته، ولم يرد تعالى أنه بيان لما لا نهايةَ له من معلوماته على وجه التفصيل، ولا أنه بيان لجميع ما تُعبّد به من شرائع من سلف من النبيين ومشتمل على شرح جميع سنن المتقدمين وأقاصيص الأولين. ولذلك قال: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، ولا أرادَ أنه بيان لتأويلِ ما لا يعلم تاويلَه إلا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 وحده، وبمعنى قوله: (كهيعَص) ، وغير ذلك من الحروف المقطعة - في أوائل السور وغيرها من الكلمات التي لا يعلمُ معناها إلا الله تعالى على قول من وقف عند قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) قالوا: لأن القرآن خاص وعام، وكذلك قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، مخصوصٌ فيما ألزم الناس معرفته دون ما أسقطَ الله عنهم فرض العمل به من المتشابه وهو بمثابة قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . و (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، و (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) . وكلُّ ذلك على الخصوص، وإن كان وارداً بلفظ العموم، وإذا ثبت هذا بطل ما تعلقوا به. فأمَّا نحن وكثير من أماثل أهلِ العلم، فإتنا لا نعتقدُ أن للعموم صيغة تثبتُ له، ونقولُ إنه يجب التوقيفُ والتثبتُ في قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهل أراد به الخصوص أو العموم، لأنه عندنا كلام محتمل للأمرين جميعاً فلا مطالبة لهم علينا، والذي نختاره ونذهبُ إليه في تأويل قوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أنه ما اشتبه ظاهره، واحتمل تأويلات كثيرة مختلفة، واحتيجَ في معرفة المراد به إلى فحصٍ وتأمُّل، ورد له إلى ظاهرٍ آخرَ ودليلِ عقلٍ وما يقومُ مقامَ ذلك، مما يكشفُ المرادَ به. وإن ذلك مما يعلمُ اللهُ تأويله، ويعلمه أيضا الراسخون في العلم، وأن اللهَ سبحانه لم ينزل من كتابه شيئا لا يعرفُ تأويلَه، ولا طريق للعرب الذين أنزل عليهم، ولا لهم سبيل إلى العلم به، ولا يجوزُ أن يكلمهم بما هو سبيله مع قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ، وقوله: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، في نظائر هذه الآيات الدالة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 أنه نزلَ بلسان العرب، وما تعرفه وتعقله في عادة خطابها، ولا نقولُ بالوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) بل الواو عندنا في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو نسقٍ وعطف، وأن جميعَ ما رويَ عن بعض المفسرين وأهل اللغة أنه لا يعرفُ له تأويلاً، فإنّه معروفُ المعنى والتأويل عند غيره، ومما قد كشفَ اللهُ سبحانه عن المراد بواضح أدلته، وبين براهينه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ توهُّمهم أنّ الله سبحانه قد أنزلَ في كتابه ما لا يعرفُه أهلُ اللغة ولا طريقَ للخلقِ جميعا إلى معرفة المراد به. فإن قالوا: فلا معنى على هذا التأويل لقوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) ، لأنّ ما قد أوضحَ الدليل على المراد به وعُرف به معناه فليس بمتشابه. قيل لهم: ليس الأمرُ على ما ظننتم لأن ما عُرفَ بالدليلِ إذا كان ظاهرُه محتملاً لتأويلاتٍ مختلفة، فهو مشتبهٌ على من أهمل وصدفَ بنفسه عن صحيح النظر، وعلى من نظر واجتهدَ إلى أن يعلم ويعرف المراد به، وتزول الشبهةُ والريبُ عن قلبه،، وهو أيضا مشتبة على من ارتدَّ عن دينه، واعتقد الجهلَ وصحّة الشبهات بعد معرفته وصحيح نظره، لأنه إذا لم يكن طريقُ معرفة المراد بالمتشابه الضرورات ودرك الحواسِ وتركيبَ الطباعِ والعادات، ولا صيغة للكلام بظاهره، جازَ أن يُلحق الناسُ فيه ما وصفناه، وكلما كان الشيء المقصودُ بالآية ألطف وأغمض، كانت معرفتُه أصعب وأبعد، وكان الاشتباهُ فيه أكثر، وكلّما قرب كان أجلى وأظهر، ولو كان كلّ قولٍ إلى معرفةالمراد به سبيلا وطريقا غير متشابه، لم يجز على هذا أن، يكون في كلام البلغاء والشعراء أو الخطباء والعرب العاربة شيء متشابه، ولوجب أن تكون الخاصة والعامة في منزلة متساوية، وطبقةٍ واحدة، من معرفة اللغة، وإثبات المعاني، وغامض الإعراب، ومعرفة غريب الشعر والحديث، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 وكلام الفصحاء ونوادر اللغة، إذا لم يكن في ذلك شيءٌ مشتبه، وهذا جهلٌ ممن صارَ إليه وحملَ نفسه عليه. وإذا كان الأمرُ على ما وصفناه وكان كل ما ذكرنا حالَه من غريب الكلام ومُشكل الألفاظ متشابها على مَنْ لم يعرِفْه، وعلى من عرفه قبل تحققه، وعلى من جهله وشك فيه بعد العلم به، وإن كان الدليل على المراد به قائماً منصوبا معرَّضا لمن طلبه سقط ما قالوه، ووجب أن يكون ما هذه سبيله من كلام الله سبحانه متشابها وإن كان الدليل على المراد به منصوباً لائحاً. فإن قالوا: أفليس قد قال كثيرٌ من أهل التفسير إن الوقف واجمث على قوله (إِلَّا اللَّهُ) وأنكروا ما قلتموه. قيل لهم: أجل، فقد غلطَ ووهِمَ من قال ذلك لأنّهم لم يَرْووهُ عن الله تعالى ولا عن رسوله، وإنما صاروا إلى ذلك بتأويلهم واجتهادهم وهم غير معصومين من الزلل. فإن قالوا: فقد يجوزُ عندكم أن تكون الواو في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو استئناف لوصفِ المؤمنين بأنهم يؤمنون به، ويسلمونه من غير معرفةِ بالمراد به، ويجوزُ أن تكونَ واو نسقِ واشتراكِ في الصفة. قيل لهم: يجوزُ ذلك عندنا وعند سائر أهل اللغة وصحةِ الاستعمال. غير أن الله تعالى ورسولَه عليه السلام قد دلاَّ بما قدمنا ذكره عن الآي على أن اللهَ سبحانه أنزلَ القرآنَ بلسان العرب، وما تجدُ وتعتقدُ في خطابها. فلذلك جعلنا الواو ها هنا واو نسقٍ واشتراك. فإن قالوا: كيف يسوغ لكم جعلُ الواو واو نسق، وأنتم إذا فعلتم ذلك قطعتم ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) عن أن يقولوا آمنا به، لأنه ليس في الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 واو نسق توجبُ للراسخين فعلين، ولو كان التأويلُ على ما ذكرتم لكان من حقه أن يقول: وما يعلمُ تاويلَه إلا اللهُ والراسخونَ في العلم، ويقولون آمنا به حتى يوجبَ لهم الواو الأول نسَقَهم على الله سبحانه والواو الثاني قولَهم: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا لم يفعل ذلك بطل ما قلتموه. يقال لهم: لا يجب ما طالبتم به لأن أهلَ اللغة قالوا: إنَ يقولون ها هنا في معنى الحال واسم الحال، وبمثابة قوله لو قال والراسخون في العلم قائلون آمنا به لأنهم يُحلون الفعلَ المضارعَ محل الاسم من وجوه: أحدها: إنك تقولُ مررتُ برجلٍ يأكل، ويقومُ ويقول، فيحله محل قولك مررتُ برجلٍ قائم، وقائل هذا - زعموا - أحدُ وجوه المضارعة بينَ الاسم والفعل، ويوضّحُ ذلك ويُبينه أنهم يقولون: لا يأتيكَ إلا عبدُ الله زيد يقول: أنا مسرور بزيارتك، يعنون لا يأتيك إلا عبدُ الله زيد قائلاً أنا مسرور بزيارتك، فجعلوا يقول بمنزلة قولهم: قائل مسرور. قال الحميدي يرثي رجلاً في قصيدةٍ أولها: أصرمْتَ حَبْلكَ من أُمامة بعد أيام برامه ... الريحُ تبكي شَجْوه والبرقُ يلمعُ في غمامه يعني بذلك البرقُ لامعاً في غمامةٍ تبكي شَجْوه أيضاً، لأنه لو لم يُرد أنّ البرق يبكي شَجْوه، كما أن الريح تبكي شَجْوَه لكان هاذيا، ولكان قوله: والبرقُ يلمعُ في غمامة كلاما متقطعاً أجنبيا مما قاله، ولم يكن لذكر لمعان البرقِ معنى، لأنه لا تعلُّق بين لمعان البرق وبكاء الريح شَجْواً من بكائِه وكأنه رجل، قال: والريحُ تبكي شَجْوه وزيد راكب أتانته، وأيُّ تعلُّق بينَ بكاء الريح وركوب زيد، فدل ذلك على أنه أرادَ بقوله: والبرقُ يلمعُ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 غمامةٍ أنه لامع في غمامةٍ تبكي أيضا شَجْوهُ ولم يحتج أن يقولَ الريحُ تبكي شَجوهُ والبرقُ يلمعُ في غمامه، وإذا كان ذلك كذلك بطلت هذه الشبهة. وصحَّ أن التأويلَ على ما وصفناه. وقد اختلف الناسُ في معنى وصفِ الخطاب بأنه متشابة ومحكم، فأمَّا معنى وصفِه بأنه محكم فإنه منصرف إلى معنين: أحدهما أن يكون ظاهراً مبيّنا عن المراد بنفسه وظاهره، نحو قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) ، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) ، (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) ، ونحو ذلك. وقد يوصفُ أنّه محكم على معنى إحكامِ النظم والتأليف، وتضمنه للمعنى الصحيح من غير اختلافٍ ولا تناقضٍ ولا غيره من معنىً يصح أن يقصدَ بالخطاب إليه، وكذلك صارَ غريبُ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ومشكلُ كلامهم وكلامِ البلغاء من الشعراءِ والخطباء والمترسلينَ محكما، وإن كان غامضا يحتاجُ إلى تفسيير وتأويل. فأمَّا معنى وصف الخطاب بأنّه متشابه، فقد اختلف فيه، فقال قائلون: المتشابه هو المنسوخُ من الآية، وأن المحكم هو الناسخ، وقال آخرون: المتشابه هو مثلُ قوله: (الم، الر، كهيعص، طسم، حم، عسق) ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وما عدا ذلك فهو محكم بأسره. وقال قائلون: المحكمُ الذي يعرف المرادُ به من نفس ظاهره من غير تأويلٍ ولا نظرٍ واجتهادٍ وردٍ له إلى غيره، والمتشابه: ما كان المرادُ به في تأويله دون لفظه، والمحكمُ تأويلُه هو تنزيله من غير صرفٍ له عن ظاهره وتطلب لمعناه، وقال آخرون: المتشابه ما اشتبهَ لفظهُ واختلف معناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 والذي نختاره في ذلك أن المتشابه هو كلُّ ما أشكلَ والتبسَ المرادُ به واحتيجَ في معرفة معناهُ إلى طلب التأويل، وسواء كان مشتبهَ اللفظِ وإن اختلفَ معناه، أو كان لفظا غيرَ مشبهٍ للفظ آخر، غير أنّ المرادَ به لا يعرفُ ولا يوصَلُ إليه من نفس ظاهره وفحواه ولحنه، ولكن بالتأمل والاستخراج. وإنما سُمي ما هذه سبيله متشابها لاشتباه معناه واختلاطه والتباسه بغيره عند من لم يعرفه ولم يوف النظر حقّه. وأصل المتشابه في الكلام أن يشبه اللفظُ اللفظَ في صيغته وصورته. وإن اختلفَ معناهما، ومنه قوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، أي: أشبه بعضُها بعضا في الكفر والإصرار والعتو، ومنه قولُه تعالى في ثمر الجنة: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) ، يعني في الصورة واللون والهيئة، وإن اختلفت الروائحُ والطعوم، ومنه قولهم: أشبهَ زيد عمراً في خلقته وحُسنِ هديه وطرائقه، وقولهم: اشتبهَ عليَّ الأمرُ إذا أُلبس بغيره، ومنه سُمِّيت الشُبهة المصوِّرة للباطل بصورة الحق شبهة، ومنه سُمِّي نصارُ الباطل، وأصحابُ الحيل والنارنجيان أصحاب الشبه، هذا أصلُ التشابه في اللغة، وقد يكون المشتبهُ من كتاب الله مشتبها بأن يتفقَ لفظُه وصورتُه ويختِلف معناه، وقد يكونُ بأن يغمض ويدق ويخفى معناه، فلا بُدَّ من تبيين الإمعان بالنظر، والبحث عنه، وليس فيه إلا ما قد عرف أهل العلم تأويله. والمرادُ بحجته ودليله وليس في أهل التأويل من قال: إني لا أعرف معنى هذه الكلمة والآية منه، بل قد فسَّروا سائره وبيَّنوه وكشفوا عنه، وكلُّ ما يُروى عن أحدٍ منهم من السلف، ومن بعدهم أنه لا يعرف معنى شيء منه. فإنّه لا معتبر به، لأنه خبرُ واحد ويجبُ صرفُه إلى أنه قد عرفه وفسّره بعد أن كان لا يعرفه، أو إلى أنّه هو وحدَه لا يعرفُ ذلك دون رسول الله وصحابته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 والراسخون في العلم، وليس يحفظُ عن أحدٍ منهم أنه قال: لستُ أعرفُ معنى هذه الكلمة ولا رسول الله، ولا أحد من علماء الأمة، وإذا كان ذلك كذلك بطل شغبُهم وزال توهمهم. فأمَّا قوله: (الم @، (الر، (حم) ، (عسق، (كهيعص) . ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد اختلفَ الناسُ في تأويلها، فقال بعضهم: إنها من المتشابه الذي لا يعْلمُ تأويلَه إلا اللهُ سبحانه، وهذا باطل بما قدمناه من قبل، ومن قال إن معناه معروف عند أهل العلم في ذلك أقاويل. فقال بعضهم: هي أسماءُ السُور وبمثابة الأسماء الأعلام الموضوعة للأشخاص. وقال آخرون: إنها أقسام أقسم الله بها لأجلِ تضمنها لأجل ما سنَصِفُه بعد ذكر الخلاف. وقال آخرون: هي حروف مأخوذة من أسماء الله تعالى وصفاته، وكل حرفِ منها كناية عن اسمِ هو منه. وقال بعضُ من تكلم في هذا الباب: هذه الحروفُ كناية عن حسابٍ كحساب الجُمَّل، وأن كل حرفِ منها لقدرٍ من عددِ سنيَّ بقاءِ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه، وقال آخرون: معنى التكلم بها وجعلها في أوائل السور أن قومَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلغون في القرآن ولا يسمعون له ويصدون عن سماعه وفهمه قصدًا للطعن فيه والصَّدف عنه، فأرادَ الله أن يبدأهم بهذه الحروف المقطعة، ليفرغوا لذلك ويصغُوا إليه ويستكثروه ويطمَعوا في أن يقول بعضُهم لبعضٍ اسمعوا ما يقولُه ويهذي به، وإذا نصتوا له أقبلَ عليهم بالقرآن ووالى حكمَ الكلام وفصيحَ الخطاب بعدَ ما صرفَهم بالحروف المقطعة عن اللغو والإعراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 وقال آخرون: إنه لا معنى لهذه الحروف أكثر من ابتداء الكلام بها وتقديمها أمامه، لأن ذلك من شأن العرب وعادتهم عند التكلم، لأنها تبدأ بالحرف والحرفين، فيقول القائل منهم: ألا إني ذاهب، إلى قائلٍ لفلانٍ كذا وكذا. هذه جملةُ ما يُعلمُ أنه قيلَ في تأويلها، وليس يخرجُ عن أن يكونَ بعض ما قيلَ في ذلك. فأمَّا من قال: إنها أسماءُ أعلامِ السور التي هي في أولها، فليس ببعيدٍ لأن صاد وقاف ونون قد صارت أسماءَ أعلامِ لهذه السُّور كزيد وعمرو، لأنه قد عُلم من قول القائل: إني قرأتُ صاد أنه قرأ السورة إلى آخرها، التي هذه الحروف في أولها، ويجبُ على هذا أن يقالَ إن الله سبحانَه قد أحدثَ في الشريعة أسماءً لهذه السُّور لم تكن من قبلُ أسماءً لشيءٍ في اللغة، وليس هذا من تغييرِ الأسماء اللغوية في شيء، لأن تغييرَ الاسم عن وضعِ اللغة إنما هو نقله إلى غير ما وُضع له، وهذه الحروف لم تكن في اللغة أسماءً لأشياء، ثم صارت أسماءً في الشريعة لغيرها، فلم يكن لذلك تغيير اللغة. وعلى أنّ في الناس من أجازَ تغيير الأسماء اللغوية، ووضعِها في الشريعة لإفادة ما لم تكن مفيدةً في اللغة، ولا سؤالَ عليهم في ذلك. فإن قيل: أوَ ليسَ قد وقعَ بعضُ هذه الحروف مشتركا نحو حمَ اللتين هما في أوائل الحواميم السبعة، فكيف يجوز أن تكونَ أعلاما؟ قيل لهم: إذا اتفق ذلك ضُمَّ إليها شيء تصيرُ مع ذكره مميزة لما بقيَ له، فيقال: قرأتُ حم السجدة، وحم المؤمن، وحم الأحقاف، وذلك بمثابة الأسماء المشتركة التي تكون أعلاما مميزةً مع ضمِّها إلى نعوت أصحابها وصفاتهم وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 فأمَّا من قال: معناها أنها أقسام أقسم الله سبحانه بها فإنه أيضاً غير بعيد، ووجهُ القسم بها أمران: أحدهما: تعظيمُ هذه الحروف وتفخيم شأنها، وإنّما عظّمها بالقسم لأنها مبادىء كتُبه المنزلة بالألسنة المختلفة ومبادىء أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، وأصول كلام الأمم التي بها يتفاهمون ويتخاطبون ويوحدون الله سبحانه، ويسبحونه، وموقعُ الانتفاع بها عظيم خطير، والجهلُ بها ضرر عظيم، فكأنه أرادَ بهذا التأويلِ بـ حم عسق، أي وحروف المعجم لهوَ الكتابُ لا ريبَ فيه، وحروف المعجم لهوَ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدركَ حرج منه، والعربُ قد تكني عن جميع الشيء بكلمة منه وتذكرُ بعضه، فيقولُ القائل: قرأتُ البقرةَ والحمد، وأنشدتُ قفا نبك، يريدُ بذلك جميع السور والقصيدة، كما يقولُ القائل: تعلمتُ أب ت ث يريد جميعَ المعجم لا هذه الأربعة أحرف فقط. قال الشاعر: لما رأيتُ أمرَها في حُطّي ... وأزْمعَتُ في لُددي ولطُي أخذتُ منها بفروقِ شمطِ ولم يُرد حُطي فقط، وإنَما كنَّا بذكر حُطي عن أبي جاب التي منها حُطي. لأنه قصدَ بذلك التمثيلَ لعودها إلى أول ما تكرهُه، كتبدي الصبي بتعلم أبي جاد. فأمَّا قول من قال: إنها مأخوذةٌ من أسماءِ الله وصفاتِه وكنايةً بكل حرفٍ عن الاسم الذي هو فيه فليسَ بمستنكرٍ أيضاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 وقد روي عن عبد الله بن عباس: "أنه قال في كهيعص: إن الكافَ من كافٍ والهاءَ من هادٍ والياءَ من حكيمٍ والعينَ من عليمٍ والصادَ من صادق ". والعربُ تستعملُ الترخيمَ في كلامها، ويكنى ببعض حروف الاسم والفعل عن جميعها فيقولون: يا حارِ يريدون يا حارث، ويا صاحِ يريدون يا صاحب، ويقولون عِمْ صباحاً أي: أنعم صباحا، وقال بعضُ القراء: "ونادوا يا مالِ ليقضِ علينا ربك "، يعني: يا مالك، فرخم. قالوا: والعربُ تقول أمسك فلانُ عن فلَ يعنونَ عن فلان، وأنشدوا قول الشاعر: فواطبا مكةَ من ورقِ الحمى يعني الحمام. وقال آخر: فقلت لها قفي فقالت قاف أي وقفتُ وأومَأت بالقاف عن اسم الوقوف، وهذا في كلامِهم أكثرُ من أن يُحصى، وإذا جازَ ذلك وساغَ في اللسان جاز أن يُكنى الله تعالى بكل حرفِ من هذه الحروف عن اسمِ من أسمائه هو من جُملته على وجه الحذف والاختصار، فكأنه قال: الكافي الهادي الحكيمُ العليمُ الصادقُ الذي أنزلَ عليك الكتاب، وقد يجوزُ أن يكون أقسم بالأسماء والصفات التي هذه الحروف منها، فكأنه قال: والعليم الحكيم وصاحب هذه الأسماء، لقد " أنزل عليك الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 فأمَّا قول من قال: إنها حروف وُضعت لحسابِ قدر بقاء الأمة فقد يجوزُ ذلك إذا أطلعَ اللهُ نبيه عليه، أو بعض ملائكته بأن يُعرفه أن كلّ حرفٍ منها لقدرٍ من السنين كما قيل: ألف واحد وياء اثنين، وكذلك في سائر حروفِ الجمل. فأمَّا قول من قال: إنها ابتُدئَت في أوائل السور ليروعهم سماعُها وتنصرفَ همَمُهم إلى الإصغاء إليها، فليس ببعيدٍ أيضا، لأنه يمكن أن يقصدَ ذلك، ولكن لا بدّ لها من معنىً هو القسمُ بها أو بأسماء الله التي هي من جملَتها أو توقيف على وضعها بحسابِ السنين، وإلا عُريَت من فائدة. وليس يجوزُ أن يُلهيَهم عن لغوهم وصدفهم عن سماع القرآن بأصواتٍ وأمورٍ لامعنى لها. وإذا كان الأمرُ في تأويل هذه الأحرفِ على ما وصفناه زال وبطلَ تعلُّقهم بها وقولهم إنّه لا يعرفُ معناها ولا وجهَ للخطاب بها وثبتَ بذلك أن جميعَ ما أنزله اللهُ من مُحكمٍ ومتشابهٍ معلوم معروفُ المعنى. وقوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، إنما أراد به الحشيش لأن (أَبًّا) اسمُ الحشيش على ما ذكر، وليس من شيءٍ ذكره الله تعالى إلا ومعناه معروف وإليه سبيل، وإن جهله أهلُ التفسيرِ ومن لا إغراقَ له في البحث والتأمل. فإن قالوا: فما الذي أرادَ بإنزال المتشابه، قيل لهم: أرادَ بذلك امتحانَ عبادِه واختبارَهم وتفضيلَ الذين أوتوا العلمَ درجات، وأن ينفعَ بذلك من يعلمُ قوةَ يقينه واستبصاره بمعرفة المتشابه وأن يُضِل به ويَضُرَّ من علمَ أنّه يصدفُ عن تأويله ويُلحدُ فيه ويستبصرُ ويُعمي عند إنزاله بصيرتَه ويصيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 طريقا وسبيلاً إلى تعلقه به، وإيثارِ الفتنة به وسوءِ التأويل فيه، كما وصفَهم بذلك في ظاهر التنزيل، فلا سؤال علينا في ذلك ولا مطعن. قالوا: ومما يدلُّ أيضا على وقوع الخلل والتخليط في القرآن ما نجدُه فيها من الحشو للكلام الذي لا معنى له نحو ما فيه من قوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، والقولُ لا يكونُ إلا بالفم. وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، والكتابة لا تكونُ إلا باليد، وقوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ، والطائر لا يطيرُ إلا بجناحيه، وقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، وقوله: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، والسقفُ لا يخزُ إلا من فوقهم، وقوله: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) ، ولا معنى لذكر اليمين دون الشمال، وقوله: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، وأغبى الناس وأقلُهم ذهنا وبصيرة يعلمُ أن ثلاثةً وسبعةً عشرة، فلا معنى لهذا الكلام. فيقال لهم: لا تعلُّق لكم في شيء مما ذكرتُم لأمرين: أحدهما: أنّ العرب قد تكررُ وتريدُ اللفظةَ التي معناها معنى ما قبلها للتوكيد، وتستجيزُ ذلك وتستحسنه في عادتِها وصرف خطابها، ولذلك يقول القائلُ منهم: رأي عيني وسمع أذني، وكلمتُه من فمي، وسمعتُه من فيه، على وجه التأكيد للخبر، وكذلك قولهم: عجل عجل، وقُم قُم، فإذا ساغَ ذلك وجازَ تكرارُ الكلمةِ لتوكيد، كان تكرارُه بلفظين مختلفين أحسنُ وأولى، والله سبحانه إنما خاطبَ العرب على عادتها، والمألوف من خطابها، فسقط بذلك ما قُلتم. والوجه الآخر: أن لكل شيءٍ مما أورَدتُموه معنىً زائداً صحيحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 فأمَّا قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فإنما المراد به أنهم قالوا ذلك بأنفسِهم وأفواهِهم بغير إشارةٍ ولا كتابِ ولا مراسلةٍ لأن القائلَ قد يقول: قلت لزيد كذا وهو يعني أمرتُ من يقولُ له، وراسلته به، وكتبتُ بذلك إليه، وأشرتُ إشارة ورمزتُ رمزا، قال الله تعالى: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) . وقال الشاعر: وقالت له العينان سمعاً وطاعةً ... واحْدَرتا كالدُّر لما ينظم وقال آخر: وتُخبرني العينان ما القلبُ كاتم ... فإذا قال له قلت له بفمي ولساني زالت التأويلات. وكذلك الجواب في قوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) لأنه أرادَ أنهم تولوا خَطَّهُ بأيديهم لا بواسطة وأمر منهم، وعلى وجه ما يقولُ القائل: كتبَ رسولُ الله إلى النجاشيّ، وكتبَ الخليفةُ إلى فلان، أي أمرَ بالكتاب إليه. فأمَّا قولُه تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ، فإنه أرادَ جنسَ الطيران دونَ السرعةِ في الأمرِ والقصدِ لأنّ القائلَ من العربِ قد يقولُ لمن يأمُرهُ طر وأسرع في هذا الأمر، أي بادر، ويقول: طرتُ إلى فلان، أي أسرعت، فإذا قيلَ طارَ الشيءُ بجناحيه انصرفَ إلى جنسِ الطيران بالجناح الذي هو الأصل الذي يشته به السرعةُ في القصد والأمر. فأمّا قوله: (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فإنما أوردَه تعالى على مذهبهم في قولهم نفسيَ التي بينَ جنبى، ونفسُه لا تكونُ إلا بينَ جنبيه. فأمَّا قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، فهو لأن السقفَ قد يخرُ عليهم من تحتهم إذا كانوا في الغرف، وقد يقولُ القائل: خرَّ علي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 بيتي سقف، وإن كان تحتَه، وقد يَخِرُّ عليهم السقف أيضًا وإن لم يكونوا تحتَه ولا فوقَه، كما يقول القائل: خرَّ علينا في الدار سقف، وإن لم يكونوا تحتَه ولا فوقَه، وإنما يقصد الإخبار عن سقوط السقف فقط في ملكه وداره. أو قربه وجوارِه، فإذا قال: من فوقي أفادَ أنه كان تحتَه. وأمَّا قوله تعالى: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) ، فإنما ذكرَ اليمينَ لأنه بها وقعَ دون الشمال، وقد يقعُ الضربُ بالشمال كما يقعُ باليمين ولأن اليمينَ أكثرُ قوةَ وأشد تمكُنا وبطشا من الشمال. قال الشماخ: إذا ما رايةٌ رُفِعَت ... لمجدٍ تلقاها عُرابةُ باليمين أي أخذها بقوةِ وبطشٍ وتبسطٍ في الكرم. وأمَّا قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، ففيه وجوه: أحدها: أن ذلك عادةُ العرب في كلامها وإكمالها للعدد الذي تُفصله قال الشاعر: تجمعن من شتى ثلاث وأربعٌ ... وواحد حتى كَمُلن ثمانيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 وقال آخر: ثلاثٌ واثنتانِ فهنَّ خمس ... وسادسةٌ تميلُ إلى ثمانِ ولم يستهجن هذا أحد في تخاطب أهل اللسان وعادتهم، وكذلك حكمُ قوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، وقوله تحالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) . والوجه الآخر: أنه قال تلك عشرة كاملة، أخرجَ الواوَ هاهنا عن أن تكون بمعنى التخيير وبمثابة قوله أو سبعة إذا رجعتم، كما قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ، يعني أو ثلاث أو رباع، فكان يجوزُ أن يظن ظان أو السبعةَ في الحضر بدل من صيام الثلاثة في السفر، وأنه للتخيير وبمعنى أو. فرفع سبحانَه جوازَ ذلك وقطعه بقوله تلكَ عشرةٌ كاملة. ويُحتمل أيضاً أن يكون إنما أراد تلكَ عشرةَ كاملة، ليدلَّ بذلك أن السبعةَ في الحضَرِ هي أيام أيضاً، لأنه لو قال فصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعة إذا رجعتم، وقال: أردتُ سبعةَ أشهرٍ أو سبعَ سنينَ أو أسابيع لساغ ذلك، فلما قال: تلكَ عشرةَ كاملةٌ دل بذكر العشرة والكمالِ على أن السبعة أيام، لا يحسنُ أن يقالَ ثلاثةُ أيامٍ وسبعُ سنين، أو سبعةُ أرطالٍ عشرة كاملة، وإنما دخلَ ذكرُ التكميل في جنس المعدود. ويُحتمل أيضاً قولُه كاملة أنها كاملةُ الأجر والثواب، وإذا كان ذلك كذلك سقطَ جميعُ ما يتعلقون به من هذا الجنس سقوطاً بيّناً. قالوا: ومما يدلُّ أيضاً على وقوع الفسادِ والتخليطِ من القوم في القرآن. ودخولِ الخللِ في الكتاب ما نجده فيه من الكلام المنقطعِ عن تمامِه ونظامِه والمتصل بما ليس من معناهُ في شيء، نحو قوله في العنكبوت في قصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 إبراهيم عليه السلام ووعظه لقومه في قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) . ويجبُ أن يتصل بذلك: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) . فقطعوا تمامَ القصةِ وبتَروها ووصلوا بقوله (إليه ترجعون) قصة محمّد - صلى الله عليه وسلم - وما يخرج عن قصةِ إبراهيمَ، وهو قوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) . ثم أتبعوا ذلك بقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، وهذا تمامُ قولِ إبراهيم لهم: (فابتغوا عندَ الله الرزق واعبُدوه واشكُروا له إليه ترجعون) ، وهذا - زعموا - تخليط ظاهر وبتر للكلامِ وقطعٌ له عن صلته وخلطِه بما ليس منه بسبيل. فيقال لهم: ليس الأمرُ في هذا على ما توهمتم، وذلك أن الله سبحانه هو الذي رتبه كذلك، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما بيناه من قبلُ وما سنوضحُه فيما بعد، فأما ظنكم أن هذا بترُ للكلام وإفساد له فإنّه جهل وذهاب عن معرفة فضل الفصاحة والقدرة على التصرفِ في الكلام، لأنّ أهل اللغة يعُدّون هذا الباب من ضروبِ الفصاحة والبلاغةِ والقدرةِ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 التبسط في الكلام، والخروج عنه إلى نعت ما يعرض فيه ووصفه، ثم العود إليه على وجه غير مستهجن ولا مستثقل، ويصفون من صنع ذلك في خطبته وشعره بالاقتدار على الكلام. ويسمون هذا النمط في الشعر الاستطراد، ومعنى ذلك أن يكون في وصف شيء ونعته فيعرض عن ذكره إلى ذكر غيره الذي عرض ذكره فيما كان فيه، أو لم يعرض ثم يعود إلى صفة ما كان فيه واستيفاء ما قصد عن الإخبار عن معانيه بالكلام السهل والرجوع المسلسل المتناسب، ويسمونه الالتفات، وهو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وغير ذلك من الالتفات، وهو الخروج من معنى يكون فيه إلى معنى آخر، وليس يقدر على مثل ذلك كل فصيح لَسنٍ حتى يكون ذلك مع فصاحته قادرا منبسطا في الكلام، لأن إتمام القصة وحكايتها إذا طالت ربما تعذر نظمه على وجه الفصاحة والبراعة على أهل البلاغة واللسن، وربما احتاجوا في ذلك إلى تكلف شديد مختلف فيه كلامهم، حتى يكون من الجزل الرصين، ومنه اللين الخفيف وكيف بالخروج عن قصة إلى غيرها ثم العود إليها، لأن ذلك أشد وأصعب عند كل متكلم بلغة، ومتعاطٍ لنظم حكايات السير والقصص وضروب الأمثال، ومحاولة البلاغة في الكلام، وهذا النمط من الخروج عن كلام إلى غيره وما ليس من معناه ولا مما قصد بافتتاح الكلام ثم العود إلى ما ابتدأ بالكلام فيه وقُصِدَ إليه كثير معروف، ومن الاستطراد قول حسان بن ثابت - رحمه الله - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 إن كنتِ كاذبة التي حديثني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل عنهم ... ونجا برأس طميرة ولجام وقد عُلم أن حسان لم يقصد بابتداء الكلام والتحذير من الكذب في الحديث إلى ذكر هرب الحارث بن هشام وفشله وتعييره به، وإنما قصد شيئا غير ذلك، وإن كان قد أدخله في كلامه، وخرج به عما ابتدأ الكلام لأجله. وقال أبو تمام الطائي: صُبَّ الفِراقُ علينا صُبَّ من كثبٍ ... عليه إسحاقُ بعدَ الروعِ منتقماً وقد عرف أيضا كل سامع لهذا الشعر أن الشاعر لم يقصد بابتداء الكلام الإخبار عن انتقام إسحاق ممن انتقم منه بعد ترويعه، وإنما قصد الإخبار عن صفة الفراق وشدته فقط، ثم خرج إلى الدعاء عليه بانتقام إسحاق، فخرج من معنى إلى غيره. وقال البحتري في صفة فرس كريم سهل الأخلاق: سهلٌ مواردُه ولو أورَدته ... يوما خلائقَ حمدَويه الأحولِ وقد علم أن البحتري لم يقصد في هذا الكلام وصفه خلائق حمدويه وشجيته، وإنما قصد غير ذلك، ثم عاد إلى ذكره. وقال سريُّ الرفا: نزعَ الوشاةُ لهم بسهمِ قطيعةِ ... يَرمي بسهمِ البينَ مَن يرمي به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 ليتَ الزمانُ أصابَ حُب قلوبهم ... بفتى بن عبدِ الله أو بحرابِهِ بسلاحِ معتقل السلاحِ وإنما ... يعتل بينَ طِعَانِهِ وضِرَابِهِ وقد عُلم أيضا أن الشاعرَ لم يقصد بما شرعَ فيه إلى وصفِ سلاح ابن عبد الله واعتلاله، وما لأجله يعتل من الضربِ والطعن، وإنما قصدَ إلى ذم الوُشاةِ وما حاولوه من الأمور الموجبة للضرر والقطعية، وإن كان قد خرجَ بينَ ذلك إلى الدعاء عليهم بقتالِ ابنِ عبدِ الله وحرابِه وبعثِ السلاح، وما لم يبتدىء بالكلام لأجله، فأما الالتفاتُ في الكلام الذي هو خروج من معنى كان فيه إلى معنى آخر ما على أن يعودَ إليه بعد ذكرِ ما يعرضُ ونعته، أو بأن يُضربَ عنه جملة، فإنّه كثير في كتابِ الله وفي كلام العرب وشعرِ الفصحاء. وأظهرُ من أن يُحتاجَ معه إلى إغراق، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ، فعدلَ عن خطابِ الحاضرِ إلى ما هو كناية عن الغائب، وسواء كتى عن الحاضر الذي ابتدأ بخطابِه أو غيرِ الحاضرِ فقد خرج، وقال الله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) ، ثم قال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) ، وذلك كثير. وقال جرير في هذا المعنى: متى كان الخيامُ بذي طُلوعِ ... سقيتِ الغيثَ أيتُها الخيامُ أننسى يومَ تصقُلُ عارِضَيْها ب ... قرعِ بَشامةٍ سُقِيَ البَشام ولو لم يخرج من معنىَ إلى غيره لكان من حقه أن يقول: متى كان الخيام بذي طلوع أيتها الخيام، لأن هذا هو تمامُ ما ابتدأ به من الكلام فقط. فأمَّا الدعاءُ للخيامِ بسقي الغيث، ووصفُ عارضي صاحبَتِه وفَرْعها، فليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 مما ابتدىء الكلامُ لأجله، وشرعَ فيه بسبيل، غيرَ أنه اقتدار في البلاغة وحسن الفصاحة. وقال أيضا الطائي: وأنجدتُمُ من بعد اتهامِ داركم ... فيا دمعُ أنجدي على ساكني نجد فخرج عن الإخبار بانتقالهم من نجد إلى تهامة، إلى التحزن واستدعاء الدمع، وقال أهلُ اللغة ومن جنسِ البلاغة والتمكن من الخروج عن الشيء إلى غيره ثم العودُ إليه اعتراضُ الكلام في كلامٍ لم يتم معناه ثم العود إليه. وأنشدوا قول النابغةَ الجعدي: ألا زعَمَت بنو سعدٍ بأنّي.., ألا كَذَبوا كبيرُ السّن أنِّي فاعترضَ في كلامه وخبر أخباراً عنهم بأنهم كَذبوا فخرجَ عن الإخبار عن قولهم قبلَ تمامِه إلى الإخبار بكذبهم عليه، ثم عادَ إلى تمامِ الإخبارِ عنهم، وإلا فقد كان يكفيه أن يقول: زعمتَ بنو سعدٍ بأني كبيرُ السن أني. وقال كثّيرُ عزة: لو أن الباخلينَ وأنتَ منهم ... رأوكَ تعلَّموا منكَ المطالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 فأعرضَ في ذكرِ الإخبارِ بأن الباخلين لو رأوه لتعلموا منه المطال إخبارُه بأنه من جملةِ الباخلين، ولو لم يعرِض ذلك لكان من حقِه أن يقول: لو أن الباخلينَ رأوكَ لتعلموا منكَ المطالا. وقال آخر: ظلموا بيومٍ دع أخاكَ بمثله ... على مُشرعٍ يَروي ولما يُصرِد ولو لم يعرِض في الكلام طلبَ تركِ أخيه لمثله لقال: ظلَموا بيومٍ دع لى مُشرعَ تروي ولما يصرد، وهذا أكثر من أن يتتبع. قال أبو حية البحتري: ألا حيِّ من أجلِ الحبيب الغوانيا ... لبسن البِلى مما لبسنَ اللياليا ثم رجع بعد قوله لبسنَ بما لبسن اللياليا، أي تتميمُ ما شرع فيه. وأكد من هذا أجمع وأبينُ قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) . ثم أضربَ عن ذلك، وخرجَ منه إلى غيره، فقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) ، فعدل عما بدأ بذكره إلى غيره اقتداراً على الكلام والبلاغة وإذا كان هذا أجمع وأمثاله ما قد بيَّنَّاه في الفصاحةِ والبلاغةِ والقدرة على التبسُّط في الكلام. وكان ما خاطب الله سبحانه به ورسوله عليه السلام مما تعلَّقوا به أقربَ من كثيرٍ مما ذكرنا وأشبه وأشدَّ تلاوة، إلا أنه خرجَ من قصة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحكايةِ كلامِ قومه إلى قصة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هو مُخاطب له، وإلى تفنيد قومه من قريش على تكذيبهم وردّهم، تثبيتا للنبي عليه السلام وحثا له على الصبرِ وقوةِ العزم، وكل هذا مناسب، لأنه قصّ على رسول الله قصةَ رسولٍ قبلَه وخطابُه لأمّته، ثم خرجَ من ذلك إلى أن ذكر قريشا في تكذيبهم لرسوله وتشبيه ذلك بتكذيبِ الأمم قبلَهم وصبرِ أولي العزمِ من الرسل على رَدّهم ومكارِههم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 ثم خرجَ من ذلك إلى تنبيههم على آثار قدرته وشواهدِ ربوبيته، وحذرهم عقابه، ثم عادَ بأحسنِ الرجوع والنظمِ إلى إخبار رسوله بخوافي قوم إبراهيم، وكل هذا اقتدارٌ على النظم لا خفاءَ به، ومما يتعذرُ على أكثر أهل العلم والخطابة والنثرِ ولا يسهلُ ولا يتأتى إلا للقليل منهم، فمن توهم إفسادَ الكلام به وإخراجه عن طريقة البلاغة وعادة أهل اللغة، فقد ظنَّ عجزا وتقصيرا. وكذلك الجوابُ عن كل ما خرج اللهُ تعالى في قصة من حكايتها وذكرِها. إلى شيءِ غيرها، ثم عاد إلى تمامِها واستيعابها، ولا تعلُّق لهم بهذا ونحوه - قالوا: وما يدلُّ أيضا على فساد كثيرِ من المودع بينَ الدفتين وتغييره وخروجه عن سنن الحكمة وجودنا فيه ما لا فائدةَ ولا غرضَ في ذكره ولا معنىَ له معقولٌ يجري إلى إفادته نحو قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، وما لهذا الكلام والمثل معنىَ يعرف، ونحو قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) . وقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ، ولا فائدةَ تعرفُ في الإخبار عن تزاورِ الشمس عن كهفهم ذاتَ اليمين وانقراضِها ذاتَ الشمال، وأمثال هذا ما يطولُ تتبعه. وقسَمُه بالتين والزيتون، وبمواقع النجوم وبالنفس وما سواها وبالفجر. وغير ذلك مما لا معنى للقسم به. فيقال لهم: ليس شيء مما تتعلقون به وتظنون أنه لا فائدة فيه إلا وفيه من الفوائد وضروبِ الحكمة ما يُبطلُ تؤهمكم. فأمَّا قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، فإن اللهَ سبحانه ضربَ بذلك مثلا للكافر الذي لا يرجعُ ويَرْعوي وينزجرُ إن وُعظ ودُعي إلى طاعة الله، وذكر بآلائه ونعمه، وإن تُركَ ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 يُوعظ فهو في ذلك كالكلب الذي يلهثُ عند التعب، والإعياء والعطش. ويلهثُ في حال الراحة والصحةِ والشبع والريّ، وكل ما سواهُ من الحيوان إنما يلهثُ عند الإعياء والمرض والعطش، فمثلُ الكافرِ في عدم انتفاعه بالعظة وتركِها كالكلب الذي يلهثُ كيف تصرَّفت به الحال. وأما قوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ، فإنّ المقصدَ به تعريفُ الله سبحانه إيّانا حُسنَ اختياره لهم أصلحَ المواضع، وأنَّه تعالى بوأهم كهفا في مغناةٍ من الجبل مستقبلاً بناتَ نعش، وأنها إذا طَلعت تزاورُ عنهم يميناً وتستدبُرهم في كهفهم طالعةً وجاريةٍ وغاربة، ولا تصلُ إليهم وتدخُل كهفَهم فتؤذيهم بحرِّها وسمومها، وتشحبُ ألوانهم وتُبلي ثيابَهم، وأنّهم مع ذلك كانوا في فَجوة من الكهف وهو المتَسعُ منه، ينالُهم فيه نسيمُ الريح وبردُها وينفي عنهم غُمةَ الغارِ وكربه، فهذا هو الفائدةُ في ذكر طلوع الشمس وتزوارها، والفجوة من الغار وما في ذلك من حسنِ الصنيع واللطف والاختيار. وأما قوله تعالى: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ، فإنه أرادَ به تخويفَ الكافرينَ وعظَتَهم، والتنبيهَ لهم على انقراضهم وتعطيل مساكنهم ولحوقهم بالأمم قبلهم فيتعظون ويعتبرون بالنظر إلى آثار من كان قبلهم وخلوِّ مساكنهم وانهدام قصورهم فيتعظون عند رؤيتهم لبيوت من سلف قبلهم خاويةً قد سقطت على عروشها، وبئرٍ كانت يشرب أهلها قد غارَ معينها، وعطل غشاؤُها، والعربُ أبداً تبكي الآثار َ وتندبُ الديارَ وتصفُ الذَمَنَ والأطلال وتقول: يا دارُ أينَ ساكنوك وبانوك وعامروك، قال اللهُ سبحانه: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) ، وقال: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) ، وقال: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 وكل هذا وعظ وتحذير من الله سبحانه عذابَه ونزول نِقَمه ومذكِّرة العمل للدارِ الباقية، وقال الأسودُ بن يعفر: جَرت الرياحُ على محل ديارِهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ فأرى النعيمَ وكل ما يُلها به ... يوما يصيرُ إلى بِلىً ونفاد وما ذكَرهُ الله تعالى أبلغُ في الموعظة وأوجزُ وأبدعُ نظماً وأجدرُ أن يلوذ به سامعه ويعملَ لمعاده. فأمَّا قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) ... إلى قوله (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) . (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ) . (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) . وكل شيء أقسمَ بذكره فإنما المرادُ به - والله أعلم - القسم بخالقه تعالى ومقدره والنافع به والمحكم لعجيب صُنْعه وتدبيره، فحذفَ ذكرَ الخالق لذلك اقتصاراً واختصاراً، وقد يمكنُ القسمُ بنفسِ الشيءِ العظيم النفع به ولذلك أقسم بالتين والزيتون، لأن الانتفاع بهما وبما يعتصرُ من زيت الزيتون كثير، وقد قيل إن التين والزيتون جبلان: أحدُهما: الجوديّ الذي نزل عليه نوح، والآخرُ جبلُ طور سيناء، وقيل غيرُ ذلك من المواضع الشريفة، وقيل هما مسجدُ بيت المقدس ومسجدُ مكة. وقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) " يعني مكة، وقد يجوزُ القسمُ بالمواضع الشريفة على وجه التعظيم، كما يجوزُ القسمُ بالله تعالى، وليسَ يُقسم بالشيء إلا على وجه التعظيم إما لكونه خالقا إلها أو لكونه رسولاً له أو لعظم الانتفاع به أو لغير ذلك مما يوجبُ تعظيمه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قالوه وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 (باب) الكلامُ في معنى التكرارِ وفوائِده ونقضِ ما يتعلقونَ به فيه قالوا: ومما يدلُّ على فسادِ نظمِ القرآن ووقوعِ التخليطِ فيه كثرةُ ما فيه من تكرارِ القصةِ بعينها مرةً بعد مرة وتكرارِ مثلها، وما هو بمعناها وتكرار اللفظ والكلمة بعينها مراتٍ كثيرةً متتابعة، والإطالةُ بذلك، وذلك - زعموا - في وحشوٌ للكلام بما لا معنى له واستعمال له على وجهٍ قبيحٍ ضعيفٍ مستغيث في اللغة، قالوا: وإن لم يكن الأمرُ على ما وصفناه فخبرونا ما الفائدةُ بتكرار القصة الواحدة والقصص المتماثلة؟. يقال لهم: ليس الأمر في ذلك على ما قدرتم، وللتكرار فوائدُ نحن ذاكروها - إن شاء الله - فمنها أنّ الله سبحانه لما خاطب العرب بلسانها على وجهِ ما تستعملها في خطابها، وكانت تستجيزُ الإطالةَ والتكرارَ تارةً إذا ظنوا أن ذلك أبلغُ في مُرادِها وأنجع، وتقتصرُ على الاختصارِ أخرى في مواطنِ الاختصار، خاطبَهم اللهُ سبحانه على ما جرت عليه عادتُهم، والعربُ تقول: عجِّل عجِّلْ وقُم قُم، فتقول: والله لا أفعلُه، ثم والله لا أفعلُه، إذا أرادت التوكيد وحسمَ الطمعِ في فعله، وتقولُ تارة: واللهِ أفعلهُ بإسقاط لا فتختصرُ مرةً وتطولُه أخرى، ويقولُ قائلهم: آمُركَ بالوفاء وأنهاكَ عن الغدر، وآمُركَ بطاعةِ الله وأنهاكَ عن معصيته، والأمرُ بالوفاءِ نهي عن الغدر، والأمرُ بطاعةِ الله نهيٌ عن معصيته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 وقال الشاعر: كم نعمة كانت لنا كَمْ كَمْ وكَم وقال آخر: هلا سألتَ جموعَ كِندةَ ... حينَ قوم ولَّوا أينَ أينا وقال عوفُ بنُ الجزع: وكادت فزارةُ تُصلِّي بنا ... وأولى فزارةُ أولى فزارا وذلك كثير لو تُتُبع، فعلى هذا الوجهِ من الكلامِ جاء قولُ الله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) . و (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) . وقولُه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) ، وقولُه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . على أنّه يحتمل أن يكونَ معنى قوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) إنَّ عسرا كان معه يُسرا، ثم إنَّ مع العسر يسرا عسرا آخر غير الأول. ويحتملُ قولُه تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا حضَرتُم وعاينتُم الملائكة، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) . إذا حُشرتم وحوسِبتم، ورأيتم أهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ فيكون ذلك في وقتين، ومتعلقا بشيئين. ووجة آخرُ في حُسنِ التكرارِ من اللهِ عز وجلَّ، وهو أنّ في ذلكَ مرة بعد مرةٍ من التثبيتِ لرسوله عليه السلام والمؤمنين، والمواعظةِ والتخويفِ لهم والرغبةِ في طاعةِ اللهِ والانزجارِ عن معصيتهِ عند تكرارِ الكلام، وإعادةِ القَصصِ وضَربِ الأمثالِ ما ليسَ في المرةِ الواحدةِ ولا شبهةَ على أحدٍ في تعاظُمِ النفعِ بتكريرِ الزجرِ والوعظِ وعظيمِ موقعهِ من النفسِ وتوفيقِه للقلبِ والتثبيتِ على طاعةِ الله، والإذْكارِ لجنتهِ ونارِه، قال اللهُ سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) . فأخبر أن إنزاله أجزاءً ونُجوما وتكرارَهُ عليه في الأوقاتِ المتراخيةِ تثبيتا له وللمؤمنينَ لأنهم إذا سمِعوا ما أخبرَ اللهُ سبحانه من إهلاكه العاصينَ وتنجيَته المؤمنين كانوا أقربَ إلى طاعته وأشد انزجاراً عن معصيته. ووجهٌ آخرُ في حُسنِ ذلك، وهو أن اللهَ سبحانه أنزلَ المتكررَ في أوقاتٍ متغايرة، وأسبابٍ مختلفةٍ فَحَسُنَ منه تكرارُ القصةِ للزجرِ والموعظة، كما يَحْسُنُ ذلكَ من الخطيبِ إذا خَطَبَ وتكلم في المحافلِ ويوم المجتمع. ودَعى إلى حقنِ الدماءِ ونُصرةِ الجار، أو التطولِ والإفضال، فقد يجوزُ ويحسنُ أن يكونَ في هذه المواقف إذا تغايرت واختلفت أسبابُه وخطبُه وقيامُه في الناسِ ببعضِ ما كان ذكَرهُ في غير ذلك الموقف، وإنما يُستثقلُ ويستغث التكرارُ إذا كانَ في موقفٍ واحد، وسببٍ واحد، واللهُ سبحانه إنما كرر بعضَ القصَصِ والوعدِ والوعيدِ في أوقاتٍ متغايرةٍ ولأسبابٍ مختلفةٍ فحسُنَ ذلك منه تعالى وساغَ على عادةِ أهلِ اللسان. ووجهٌ آخرٌ أيضا يوجبُ حُسْنَ ذلكَ من القديمِ تعالى، وهو أنّ النبي عليه السلام كان يحتاج إلى إنفاذِ الرسلِ والدعاةِ إلى النواحي والبلدانِ ليدعوا إلى الحقِ وإلى طاعةِ الله وليقرأوا عليهم القرآنَ فأنزلَ الله سيرةَ نبيٍ بعد نبيٍ وقصةً بعد قصةٍ، والقصةُ واحدة بألفاظٍ مختلفةٍ لِتقرَأ كل قصةٍ على أهلِ ناحية، ولُتقرأ القصةُ الواحدةُ بالألفاظِ المختلفةِ على أهل الأطراف والنواحي المختلفة، وربما علم أن سماعَ أهلِ النواحي المتغايرةِ القصةَ الواحدةَ يكونُ لُطفاً لهم في الانزجارِ والانقيادِ إلى الإيمانِ فكررها وأنزلها بألفاظ مختلفة على قدر ما أراده تعالى وعَلمهَ من اللطف، ثم على سماعِه لتلكَ القصةِ بالألفاظِ المختلفة، وربما كان لطفُ أهل الناحيتينِ والمصيرينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 في استماعِ قصتينِ من قصصِ الرسلِ والإخبارِ بنوعينِ من العقاب، وإن كانت سيرة النبِيينِ مع قومهما سواء، وإذا كان ذلك كذلك ساغَ وحَسنُ منه تعالى تكرارُ القصصِ والقصةِ الواحدةِ على سبيلِ ما وصفناه. ومن الفوائدِ في تكرارِ القصةِ والقصصِ المتماثلةِ بالألفاظِ المختلفةِ على الوزنِ الواحد، أنه تعالى إنما كرر ذلك لأن لا تقولَ قريشٌ أو بعضُها للنبيِ - صلى الله عليه وسلم - كيف تتحدانا أن نأتي بمثلِ هذا الكلامِ الذي حُكيت به قصةُ نوح وموسى وإبراهيم، وليسَ له لفظٌ يُحكى به ويورده من البحر والوزنِ الذي أوردته إلا اللفظُ الذي بدأت به وسعيت إليه، فإن أوردناه بعينه، قلت: هذا نفسُ ما تلوتهُ عليكم وتحديتكمُ بمثله، وإن طالبتنا بمحاولةِ لفظٍ غيره، فليسَ للقصةِ والمعنى الذي عبرت عنه بهذا الوزنِ من الكلامِ لفظٌ غيرُ الذي أوردته وسَبقتَ إليه فكأنك إذاً تطالبنا بالمحالِ وهذهِ شبهةٌ كما ترى، فأرادَ الله تعالى حسمَ أطماعِ العربِ في التعلُّقِ بذلك فكرر القصة الواحدة، والقصَصَ المتماثلة والمعنى الواحدَ بألفاظٍ مختلفةٍ من بحرٍ واحدٍ وعلى وزنٍ واحدٍ هو وزنُ القرآنِ الخارجِ عن جميعِ النظومِ والأوزانِ لِيُعْلِمَهُم اقتدارَه وعظمَ البلاغةِ في كلامِه ويعرفَهم عجزَهُم عن ذلك ويقطعَ به شعثَهم وشُبههم، وهذا من جيِّدِ ما يُعتمدُ عليه في فوائدِ التكرارِ. فإن قالوا: فما الفائدةُ في تكرارِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) ؟ قيل لهم: قد ذُكرَ في ذلك وجوه. فمنها أنه أرادَ يا أيها الكافرون لا أعبدُ الآنَ ما تعبدون، ولا أنتم الآنَ عابدونَ ما أعبدُ ولا أنا عابدٌ ما عبدتُم في المستقبل، ولا أنتم عابدونَ ما أعبدُ في المستقبلِ وإنما أنزلت السورةُ في قومٍ المعلومُ عند الله من حالِهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 أنّهم لا يؤمنونَ ولا يَعبدون اللهَ أبدا وإذا كان ذلك كذلك خرجَ الكلامُ على هذا التأويل ِ عن أن يكونَ تكراراً. ويُحتمل أيضًا أن يكونَ أراد لا أعبدُ ما تعبدونَ مع عبادتي الله بل أُفردهُ بالعبادةِ وحدَه، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ مع عبادتكم الأصنامَ ولا أنا عابد ما عبدتُم مفردا لعبادِته ولا قارنا بينها وبين عبادة اللهِ تعالى وهذا أيضاً يخرجُ الكلامَ عن التكرار. ويُحتمل أيضا أن يكونوا قالوا له: اُعبدْ بعضَ آلهتنا حتى نعبدَ إلهكَ فقال: لا أعبدُ ما تعبدونَ ولا أُسَلِّمُه، ولا أنتم عابدونَ ما أعبد، يريدُ إن لم تؤمنوا حتى أَعبُدَ أنا بعضَ آلهتكم، وهذا أيضًا يخرجُ الكلامُ من التكرار. ويحتملُ أيضًا أن يكونوا قالوا له: اُعبدْ آلهتنا يوما واحدا أو شهرا واحدا حتى نعبد إلهكَ يوما أو شهرا أو حولا، فأنزل الله تعالى: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) . على شريطةِ أن تؤمنوا به في وقتِ وتشركوا به في وقتِ آخر، وهذا أيضا يُزيلُ معنى التكرار. وقد قيل أيضا إنَّ قريشا أرادت النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبادةِ آلهتِها ليعبُدوا ما يعبدُ وأنّهم كرروا هذا القولَ وأبدوا وأعادوا به، فكررَ اللهُ سبحانه جوابَه، وأبدى وأعاده لكي يقطعَ بذلكَ أطماعَهم فيما أرادوه منه. قالوا وهو تأويلُ قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، أي: تلينُ لهم فيلينون في أذاهُم، وهذا أيضا فائدة أخرى في جنسِ التكرارِ في هذهِ السورةِ وترِدادِ الكلامِ فبطلَ تعلُّقُهم بهذا وإعظامُهم الأمر فيه. وإن قالوا فما معنى تكرار: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) . وقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، وقوله في سورةِ الرحمن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، قيل لهم: فليسَ في هذا شيءٌ من التكرارِ المستكرهِ بل هو الفصاحةُ وما عليه عادةُ أهل الخطاب. فأما قولُه تعالى في المرسلاتِ: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فهو: أنه ذكر فيها، تعالى أمراً بعد أمرٍ من خلقِهم وأهلِ الكفر والطغيانِ من عبادِه خلَفِهم بسلَفِهم ثم قال عقيبَ كل شيءِ يذكره من ذلك فويل يومئذِ للمكذبين بهذا الشيء الأول، الذي ذكرتُه، ثم ويل يومئذٍ للمكذبين بالشيء الثاني الذي ذكرتُه، فالويلُ الثاني غيرُ الويلِ الأولِ وربما كان لغيرِ من له الويلُ الأولُ كأن المكذبَ بالويلِ الأول مما ذكره غيرُ المكذب الثاني، لأنّه تعالى قال: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) . بإهلاكنا الأولين وإلحاقنا بهم الآخرين، ثم قال: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) . ثم كذلكَ أخبرَ بالويلِ لمكذّبِ كلِ شيءٍ غعده ووصفَه من نعمه ونقمِه ووجوبِ أفضالهِ وحكْمِه، فخرجَ ذلك عن أن يكونَ تكرارا لأن القائلَ قد يقولُ لغيره، ألم نُنعِم عليكَ بإيوائكِ وأنت طريد، أتكذبُ بهذا، ألم أُهْلك عدوكَ وأَنْصُر وليكَ ومَنْ نَصرك، أتكذّبُ بهذا، ويقولُ: ويل لمن كفر نعمتي وويل لمن جحدَ حقّي، وويل لمن ظلمني وويل لمن كذبَ على، في أمثالِ ذلكَ مما لا يعدُّه أحد من أهلِ اللسان عيًّا ولا لَكْنًا وإطالةً وتكراراَ. وأمَّا: قولُه تعالى في سورةِ القمر: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فهو جارٍ أيضاً على هذه السبيل، لأنه تعالى عدَّد فيها نعماَ وأفْضالاً وعقاباً وانتقاماً وأموراً متغايرة، ثم قال عقيبَ كل شيءِ من ذلك: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يعني مُتعِظٍ ومنزجرٍ بهذا، لأنه قالَ تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 ثم قال: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) . وتيسير القرآن غير الآية والسفينة والغرق، ثم قال في آخرها: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) . يعني أشياعَ أهلِ الكفرِ والخلافِ على النبيِ - صلى الله عليه وسلم - وذلك غيرُ القصصِ الأولةِ فكأنّه قال: فهل من مدَّكرٍ منكم بما كان من إهلاكي لمن كان قبلكم وأشياعكم. فأما قولُه في مواضعَ من هذهِ السورة: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، فإنّه تعالى إنما قال ذلك لأنه أودعً في القرآنِ أقاصيصَ الأولينَ وسيرَ المتقدمين، وما كان من تفضله على المؤمنين وإهلاكه للكافرينَ بضروبِ الهلاكِ والانتقامِ، وقالَ عقيبَ كل قصةٍ من تلكَ القصص، ولقد يسرنا لكم قراءةَ القرآن وحفظَ القصصِ المتغايرةِ التي أودعناها فهل من مدكر، ومتعظٍ بتيسيرنا لذلكَ وسماعِه وحفظِه له. وقد يقولُ القائل: لقد يسرتُ سبيلَ هذا البابِ من العلمِ فاسلُكه واعرفه، ثم يقولُ في غيره أيضاً: ولقد سهَّلتُ لك هذا البابَ الآخرَ من العلم فاضبطه وحصِّله ثم كذلك شأنُ ما نبَّه عليه وسهَّل السبيلَ إليه، وكذلك لما أودعَ اللهُ سبحانه كل شيءٍ من القرآن وموعظةً وقصةً غير الأخرى جازَ أن يقول: ولقد يسَّرنا القرآنَ الذي فيه ذكرُ هذه القصة فهل من مدّكر بها، ثم يقول: ولقد يسَّرنا أيضا القرآنَ الذي فيه ذكرُ القصة الثانية والثالثة وما بعدَها فهل من مدكر بذلك، وإذا كان هذا كذا لم يكن ذلكَ من المعنى والتكرار بسبيل. وكذلك حكمُ قوله تعالى في الئمل: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 ثم قال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) . يقولُ اللهُ تعالى مع ذكر كل نعمةٍ من نعمه وأنه من آثارِ قدرته وشواهدِ ربوبيته: هل مع اللهِ إله يفعلُ ذلك أو يقدر، على وجه التنبيه لهم والإذكار بنعمِه والدعاء إلى الاستدلال على وحدانيته، وليس هذا ونحوه من العيِّ والتكرار في شيء. فأمَّا تكرارُه في سورة الرحمن: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . فإنه أيضا ليس بتكرار، لأنه عدَّد لهم ضروباً من الإنعام مختلفة، ثم قال للإنس والجن عقيبَ ذكرِ نعمه، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، أي بأيِّ هذا تكذبان أم بهذا أم بهذا، فيدلُهم بذلك على كثرةِ نعمِه عليهم، وأنه لا ينبغي أن يكفروا ويجْحَدوا شيئا من ذلك. وقد تقول العربُ لمن تنهاهُ عن البغيِ والفساد في الأرض، أتقتلُ فلاناً وأنتَ تعلمُ براءَة ساحته، وتقتلُ فلانا وأنتَ تعرفُ نسكَهُ ودينه، وتقتلُ فلانا وأنت تعلَمُ إجابةَ دعوته، وحُسنَ قبوله في الناس، ولا يزالُ يعددُ عليه أوصافَ من ينهاهُ عن قتله، ويعتقدُ انزجاره بذكرِ صفاته، ويكررُ ذكرَ القتلِ وليسَ ذلك بعيٍّ ولا تكرارٍ من القولِ بل هو نفسُ تعبيرِ البراعة، وحُسنِ اللَّسَن، فسقط ما تعلقوا به. فإن قالوا: فإن اللهَ تعالى قد كرر في هذه السورة قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، عند ذكر ما ليسَ من النعم والإفضال في شيء، فقال: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) . وقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 يقال لهم: إن ذِكرَه للمؤمنين وإعلامَه إيَّاهُم ما أعده لأهلِ الكفرِ من عذاب السعيرِ ووصفه لجهنم وشواظها وشرِّها نعمة له على المؤمنينَ الذين عَلمَ أنهم ينتفعون بهذا الوعظ والتحذير، وأنّهم ينهونَ بذلك عنه ويعرفونَ مرادَهُ ويخافون سطوتَهُ وعقابَهُ ويرجونَ رحمتَهُ وثوابَه، لأن ذلك لطفاَ وداعٍ إلى الطاعةِ وحُسنِ الانقياد لله المفضي لهم إلى الخلودِ في العيش السليمِ والنعيمِ الدائم المقيمِ فذكرُ الوعيدِ للمؤمنين ووصفُ جهنَّم وحرَّها وشدةِ نكالها من أعظمِ النعمِ على المؤمنين من الجن والإنس، وإذا كان ذلك كذلك صحَّ ما قلناه واضمَحلَّ ما تعلقوا به. فأمَّا قولُه تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) . فليس بتكرار، لأنه قيل إنَّ السرَّ ما أسرَّوه في أنفسهم، والنجوى ما أبدوهُ وتناجَوا به بينَهم، ولو كان السرّ هو النّجوى لجازَ أن يذكرُه مكررا بلفظينِ معناهما واحد، كما يقول القائل: آمركَ ببرِ والديكَ وأنهاكَ عن عقوقهم، وآمركَ بالوفاء وأنهاك عن الغدر، ومعنى اللفظين واحد، ولا تعلُّق لهم في هذا أيضًا. وهذه جمل تكشفُ عن نقضِ ما ذكرناه من مطاعنهم في كتاب الله عز وجل من جهةِ اللغة، وننبِّهُ على طريقِ الجواب عما أضربنا عن ذكره إن شاء الله تعالى. تم الكتاب بحمد الله تعالى ومنته. وفرَغ منه كاتِبُه حامدًا الله تعالى ومصلِّيا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآلهِ وصحابته وحسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808