الكتاب: الذريعة إلى مكارم الشريعة المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) تحقيق: د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي دار النشر: دار السلام - القاهرة عام النشر: 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الذريعة الى مكارم الشريعة الراغب الأصفهاني الكتاب: الذريعة إلى مكارم الشريعة المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) تحقيق: د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي دار النشر: دار السلام - القاهرة عام النشر: 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب: الذريعة إلى مكارم الشريعة المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) تحقيق: د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي دار النشر: دار السلام - القاهرة عام النشر: 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نسأل اللَّه تعالى أن يجعل لنا بجوده الذي هو سبب الوجود - نورًا يهدينا إلى الإقبال عليه، ويميل بنا إلى الإصغاء إليه، ويدلنا على حسن معاملته، والقوة على النفاذ في طاعته، وأن يجعلنا من جملة من ضمن أن يحرسهم من غائلة الشيطان، حيث قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، وجعلهم الشيطان مثنوية اليمين حيث قال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) . مقدمة المؤلف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب - رحمه الله -: كنت قد أشرت فيما أمليته من كتاب " تحقيق البيان في تأويل القرآن " إلى الفرق بين أحكام الشريعة ومكارمها، فإن المكارم المطلقة هي اسم لما لا يتحاشى من وصف الباري جل ثناؤه بها أو بأكثرها) نحو الحكمة، والجود، والحلم، والعلم، والعفو، وإن كان وصفه تعالى بذلك على حد أشرف مما يوصف به البشر، وإن الأحكام تتناول ذلك وتتناول) العبادات. وإنه باكتساب المكرمة يستحق الإنسان أن يوصف بكونه خليفة اللَّه المعني بقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وبقوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ. وأشرت أن خلافة الله - عز وجل - لا تصح إلا بطهارة النفس، كما أن أشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم. وقد استخرت اللَّه الآن، وعملت في ذلك كتابًا ليكون ذريعة إلى مكارم الشريعة، وبينت كيف يصل الإنسان إلى منزلة العبودية التي جعلها الله تعالى شرفًا للأتقياء، وكيف يترقى عنها إذا وصلها إلى منزلة الخلافة التي جعلها اللَّه تعالى شرفا للصديقين والشهداء. فبالجمع بين أحكام الشرع ومكارمه علمًا، وإبرازهما عملًا يكتسب العلا، ويتم التقوى، ويبلغ إلى جنة المأوى. ورغبني أيها الأخ الفاضل - وفقك اللَّه وأرشدك، وأعاذك من شر نفسك - في تصنيفه ما رأيت من تشوقك أن تزين ما وليه اللَّه من حسن خَلْقك وخُلُقك بما تتولاه من تحسين أدبك، وإكمال مروءتك، فما أجدر رواك الصبيح أن تحصِّل وراءه الرأي الصحيح. حتى تصادف أُترجًّا يطيب معًا ... حملًا ونَورًا فطاب العود والورق فما أقبح المرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه جنة يعمرها بوم، وصرمة يحرسها ذئب، كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسنٌ وأما ساكنه فرديءٌ، وأن يكون باعتباره بكثرة ماله وحسن أثاثه ثورًا عليه حلى، فقد سمَّى بعضُ الحكماء الأغنياءَ الأغبياءَ تيوسًا صوفها درر، وحمرًا جلالها حبر، ودخل حكيم على رجل فرأى دارًا مستجدة، وفرشًا مبسوطة، ورأى صاحبها خلوًا من الفضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فبزق في وجهه، فقال له: ما هذا السفه أيها الحكيم، فقال: بل هذه حكمة، إن البزاق ليرمي إلى أخس مكان في الدار، ولم أر في دارك أخس منك، فنبه بذلك على دناءة الجهل، وأن قبحه لا يزول بادخار القَنيَّات. فكن أيها الأخ عالمًا، وبعلمك عاملًا، تكن من أولياء اللَّه الذين (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، واحذر الشيطان أن يسبيك، ويغريك بأعراض الدنيا وزخارفها، فيجعلك من أوليائه ويخوفك بوساوسه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) . واعلم أنه قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنسانًا، أو إنسانًا وقد أمكنه أن يكون ملكًا، وأن يرضى بقنية معارة، وحياة مستردة، وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياةً مؤبدة: فلم ير في عيوب الناس شيء كنقص القادرين على التمام وإن أردت أن تعرف بقاء العلماء الأتقياء فاعتبر ما قال أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: " مات خزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وإن أردت أن تشاهدهم في الجنة يتنعمون فاستعد حال حارثة حيث قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أصبحت مؤمنًا حقا. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك، فقال في جملة جوابه: وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون، فصدقه - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " عرفت فالزم ". ولا يخدعنك عن طلب ذلك وإدراكه (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) ، فقد وصفهم اللَّه تعالى بالصمم والعمى إذ قال: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) . ثم ذمهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) ، ثم فرق بينهم وبين من ضادهم فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) . فأخبر اللَّه تعالى أنهم لا يسمعون ولا يبصرون لفقدان سمع القلب وبصره اللذين بهما تنال حقائق المسموعات والمبصرات. وهذا الكتاب يشتمل على سبعة فصول وأبواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ذكر الفصول وأنواعها : الفصل الأول: في أحوال الإنسان وقواه وفضيلته وأخلاقه: (وتحته مباحث) : مثل أهل الدنيا وما رشحوا له - ماهية الإنسان وكيفية تركيبه - في قوى الإنسان - تعاون القوى الروحانية وكيفية إدراكها - بيان فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات - ما به يفضل الإنسان - كون منزلة الإنسان بين البهيمة والملَك - ما لأجله أوجد الإنسان - السياسة التي بها يستحق خلافة اللَّه تعالى - عز وجل - الفرق بين مكارم الشريعة وبين العبادة وعمارة الأرض - كون طهارة النفس شرطًا في صحة خلافة اللَّه تعالى وكمال عبادته - فيما يفزع إليه في طهارة النفس - بيان منازعة الهوى والعقل - الفرق بين ما يسومه الهوى وما يسومه العقل - فى ذكر الخاطر الذي يعرض من جهة العقل والهوى - حصول الخلق المحمودة بطهارة النفس - الفرق بين الطبع والسجية والخلق والعادة والهوى - إمكان تغيير الخلق - صعوبة إصلاح القوة الشهوية وما في هذه القوة من النفعة والمضرة، ازدياد الإنسان في الفضائل والرذائل بتعاطيها - الفرق يين ما يحمد ويذم من التخلق - سبب اختلاف الناس فىِ أخلاقهم - وجوب اكتساب الفضيلة المحمودة - أنواع نعم اللَّه تعالى الموهوبة والمكسوبة - حاجة بعض هذه الفضائل إلى بعض - الفضائل المضيفة بالإنسان - الفضائل الجسمانية - ما يتولد من الفضائل النفسية - الفضائل التوفيقية - ما في تلازم الفضائل النفسية بعضها بعضًا - البواعث على فعل الخير وتحري الفضائل - الموانع من تحري الفضِائل - الارتقاء في درجات الفضائل والانحدار عنها إلى أقصى الرذائل - بيان عادة الله في تهذيب الذين ترددوا في الرذائل حتى فسدت أخلاقهم - أصناف الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الفصل الثاني: في العلم والعقل والنطق وما يتعلق بها وما يضادها (وتحته) : فضيلة العقل - أنواع العقل - المكتسب من العقل الدنيوي والأخروي - منازل العقل واختلاف أساميها بحسبها - جلالة العقل وشرف العلم - الفرق بين العلم والعقل وبين العلم والمعرفة والدراية والحكمة - توابع العقل - ثمرة العقل من معرفة اللَّه تعالى الضرورية والمكتسبة وغاية ما يبلغه الإنسان من ذلك - وجوب بعثة الأنبياء - عليهم السلام - وقلة الاستغناء عنهم - ما يعرف به صحة النبوة - كون العقل والرسل هادين الخلق إلى الحق - تعذر إدراك العلوم النبوية على من لم يتدرب في العلوم العقلية - الإيمان والإسلام والتقوى والبر - في الإيمان - في أنواع الجهل - في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وسبعون بابًا " - كون العلم مركوزا في نفوس الناس - حصر أنواع المعلومات - ما يعرف به فضيلة العلوم - استحسان معرفة أنواع العلوم - معاداة بعض الناس لبعض العلوم -الحث على تناول البلغة من كل علم والاقتصار عليه - أحوال الناس في استفادة العلم وإفادته - ما يجب على المتعلم أن يتحراه مع المعلم - ما يجب أن يتحراه المعلم مع المتعلمين منه - وجوب منع الجهلة عن حقائق العلوم والاقتصار بهم على قدر أفهامهم - وجوب ضبط المتصدين للعلم ومضرة إهمال ذلك - ذكر من يصلح لوعظ العامة - الحال التي يجب أن يكون عليها الواعظ - صعوبة المعيار الذي تعرف به حقائق العلوم - كراهية الجدال للعوام وذمه على كل حال - ما يجب أن يعامل به الجَدل المماحك - الوجوه التي تقع فيها الشبهة والخلاف - بيان اختلاف الناس في الأديان والمذاهب - النطق والصمت - الصدق ومدحه والكذب وذمه - ما يحسن ويقبح من الصدق والكذب - أنواع الكذب والسبب الداعي إليه - الذكر الحسن من المدح والثناء - الشكر - الغيبة والنميمة - الكلام المستقبح - المزاح والضحك - الحلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الفصل الثالث: فيما يتعلق بالقوى الشهوية (وتحته) : الحياء - كبر الهمة - الوفاء والغدر - المشاورة - النصح - كتمان السر - التواضع والكبر - الفخر - العجب - أنواع اللذات وتفاصيلها - ما يحسن تناوله من المطعم والمشرب وما يقبح - ما يحسن تعاطيه من المنكح وما يقبح - ذكر العفة - القناعة والزهد - الورع. الفصل الرابع: فيما يتعلق بالقوى الغضبية: ما ينبع من القوى الغضبية الحميَّة - أنواع الصبر ومدحه - الشجاعة - أنواع الفزع والفرق بين ما يحمد منها وما يذم - مداواة الغم وإزالة الخوف - أحوال الناس في محبة الموت والاحتيال لقلة المبالاة به - السرور والفرح - العذر والتوبة - الحلم والعفو - ثوران الغضب وفضل كظمه - الغيرة والجُوار - الغبطة والمنافسة والحسد. الفصل الخامس: في العدل والظلم والمحبة والبغض (وتحته) : ذكر العدالة وفضيلتها - أنواع العدالة وما يستعمل ذلك فيه - ما يحسن ترك العدالة فيه - ذكر الظلم - الأسباب التي يحصل منها الأضرار - ذكر المكر والخديعة والكيد والحيلة - ماهية المحبة وأنواعها - فضيلة المحبة - فضيلة الصداقة - ذكر المحبب في الناس - الحث على مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار - فضيلة التفرد عن الناس ورذيلته - العداوة والغدر. الفصل السادس: فيما يتعلق بالصناعات والمكاسب والإنفاق والجود والبخل (تحته) : حاجة الناس في اجتماعهم إلى التظاهر - تسخير اللَّه لهمم الناس للصناعات المختلفة وعناية كل أحد بما يتحراه - كون الفقر وخوفه سبب نظام أمر الناس. مناسبة الأبدان للصناعات - وجوب التكسب - مدح السعي وذم الكسل - تقاسيم الصناعات وفضيلة بعضها على بعض - في أن أصول الصناعات مأخوذة عن وحي - في بيان الناض المتعامل به وبيان حكمة اللَّه تعالى فيه - مدح المال وذمه - ذكر المال والأدب في اقتنائه والوجوه التي منها يحصل - سبب إخفاق العاقل وإنجاح الجاهل - تحقيق كون المال في أيدي الناس - تفاوت أحوال المتناولين للأعراض الدنيوية - في بيان ما ورد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الآيات المتفاوتة الظاهر في شأن الدنيا - أحوال الناس في مراعاة أمور الدنيا والآخرة - بيان حال من يجوز له الاستكثار من أعراض الدنيا ومن لا يجوز له ذلك - ما ينال أرباب الدنيا من العقوبات الدنيوية - ذكر الإنفاق الممدوح والإنفاق المذموم - حقيقة السخاء والجود والشح والبخل - فضيلة الجود وذم البخل - أنواع الجود والمجود به. الفصل السابع: في ذكر الأفعال: (وتحته) : أنواع الأفعال - الفرق بين الفعل والعمل والصنع - أنواع الصناعات - الأفعال الإرادية وغير الإرادية - ما يستحق به من الأفعال اللوم وما لا يستحق به ذلك - الأسباب التي يمكن نسبة الفعل إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الفصلُ الأول في أحوال الإنسان وقواه وفضيلته وأخلاقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 مثل أهل الدنيا وما رشحوا له الإنسان في هذه الدار كما قال أمير المؤمنين عليٌّ - رحمه الله -: الناس سفر، والدنيا دار ممر لا دار مقر، وبطن أمه مبدأ سفره، والآخرة مقصده، وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطاه، يسار به سير السفينة براكبها، كما قيل: شعر. رأيت أخا الدنيا وإن كان خافضًا ... أخا سفر يُسرى به وهْوَ لا يدري وقد دعي إلى دار السلام كما قال تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) ، وتوجه به إليها نحو أشرف الزهرات وألذ الثمرات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، بل إلى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) . لكن لما كان الطريق إليها مضلة مظلمة قد استولى عليها أشرار ظلمة، جعل اللَّه تعالى لنا من العقل الذي ركبه فينا وكتابه الذي أنزله علينا نورًا هاديًا، ومن عبادته التي أمرنا بها حصنا واقيا فقال في وصف نوره: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ، فجعل المصباح مثلًا للعقل، والمشكاة مثلًا لصدر المؤمن، والزجاجة لقلبه، والشجرة المباركة وهي الزيتونة للدين، وجعلها لا شرقية ولا غربية، تنبيها أنها مصونة عن التفريط والإفراط، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ، والزيت للقرآن، وبين أن القرآن يمد العقل مدَّ الزيت المصباح، وإنه يكاد يكفي لوضوحه وإن لم يعاضده العقل، ثم قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) ، أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 نور القرآن ونور العقل، وبين أنه يخص بذلك من يشاء. وقال في وصف ما جعله اللَّه لنا من الحصن: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، أي المتحصنين بعبادتي فمن لم يقم برعاية نوره وحماية حصنه عمه في دجاه، وتمكن من استغوائه عداه. كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) ، فمن لم يتزود من دنياه زاده كما أمر اللَّه تعالى بقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) ، جاءت رحلته فيُسْترجع منه ما أعير من جسده، وذات يده ليتحسر حين لا يغنيه تحسره، ويقول: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ، ويقول: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، فحينئذ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ، وأيضًا فإن الإنسان من وجه في دنياه حارث، وعمله حرثه، ودنياه محرثته، ووقت موته وقت حصاده، والآخرة بيدره، ولا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده، ولهذا قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) ، وكما أن في البيدر مكاييل وموازين وأمناء وحفاظا ومشاهدين، وكتابًا، كذلك في الآخرة مثل ذلك، كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) وقال: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) . وكما أن في البيدر تذرية وتمييزًا بين النقاوة والحطام كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام، كما قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) وقال في أعمال الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) وقال: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) فمن عمل لآخرته بورك في كيله ووزنه، وحصل له منه زاد الأبد كما قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) ومن عمل للدنيا خاب سعيه، وبطل عمله كما قال اللَّه تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف بل كالدفلي والحنظل في الربيع يرى غض الأوراق حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلًا، وإذا أحضر مجتناه البيدر لم يفد نائلًا، ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء فإذا جاء وقت القطاف والاجتناء أفادتك زادًا، وادخرت منها عدة وعتادًا. وإلى نحوها أشار تعالى بقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر خبيثة الباطن نهى اللَّه تعالى عن الاغترار بها فقال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) . واللَّه تعالى يؤيد بفضله من يشاء وهو الباري. ماهية الإنسان وكيفية تركيبه الإنسان مركب من جسم مدرك بالبصر، ونفس مدركة بالبصيرة، وإليهما أشار تعالى بقوله: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فالإشارة بالروح إلى النفس، وإضافته تعالى الروح إليه تشريفًا لها، وعنى بها النفس المذكورة في قوله تعالى: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ، ووجود النفس في الإنسان لا يحتاج إلى أن يدل عليه لوضوح أمره، بل ينبه الجاحد لها والغافل عنها بأنها هي التي بحصولها في الجسم تحصل الحياة والحركة والحس والعلم والرأي والتمييز، ويكون الجسم متصرفًا بها وحاملًا ومستحسنًا ومستطابا ومحببا، وبفقدها عدم هذه الأشياء فيصير جيفة يحتاج إلى عدة تحمله، وهي محل الأعراض الروحانية كالجسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 في كونه محلَا للأعراض الجسمانية، وقد حث اللَّه تعالى على التدبر في النفس والتفكر فيها، وجعل معرفتها مقرونة بمعرفته تعالى في قوله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) . وكان يقال في الأم السالفة: من أنكر الباري رجم لكونه جاحدًا، ومن أنكر النفس رجم لكونه جاهلًا، وقيل: كان في كتب اللَّه المنزلة: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه "، بل قد قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، تنبيهًا لهم أنهم لما نسوه تعالى دلَّ نسيانهم إيَّاه على نسيانهم لها. وقالت الحكماء: قد ركب اللَّه الإنسان تركيبًا محسوسًا معقولًا، على هيئة العالم وأوجده شبه كل ما هو موجود في العالم حتى قيل: الإنسان هو عالم صغير ومختصر للعالم الكبير؛ وذلك ليدل به على معرفة العالم، فيتوصل بهما إلى معرفة صانعهما، فغاية معرفة الإنسان لبارئه تعالى أن يعرف العالم، فيعلم أنه موجَد، وأن له موجِدًا ليس مثله، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا. في قوى الانسان : قد جعل اللَّهْ للإنسان خمس قوى، يدل على وجودها فيه ما يظهر من تأثيراتها: قوة الغذاء: وبها النشأة والتريية والولادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقوة الحس: وبها الإحساس واللذة والألم. وقوة التخيل: وبها تصور أعيان الأشياء بعد غيبوبتها عن الحس. وقوة النزوع: وبها يكون الطلب للموافق والهرب من المخالف، والرضا والغضب والإيثار والكراهة. وقوة التفكر: وبها يكون النطق والعقل والحكمة والروية والتدبير والمهنة والرأي والمشورة. فأما القوى المدركة منها فخمس: الحواس الخمس، والخيال، والفكر، والعقل، والحفظ. فأما الحواس فلكل واحد منها إدراك مخصوص: فللمسِّ عشر إدراكات: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، واللين والخشونة، والصلابة، والرخاوة، والثقل والخفة. وللذوق سبع: الحلاوة، والمرارة، والملوحة، والحمو ضة، والحرافة، والعفوصة، والتفاهة. وللشم اثنان: الطيب، والنتن. وللسمع اثنان: الصوت البسيط، والكلام المركب منه. وللبصر أحد عشر إدرا كًا: النور، والظلمة، واللون، والجسم، وسطحه، وشكله ووضعه، وأبعاده، وحركاته، وسكناته، وأعداده. فأدون هذه الإدراكات اللمس ثم الذوق ثم الشم، فالنفس لا تكاد تستعين بها إلا فيما يعود نفعها إلى صلاح الجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأرفع الإدراكات العقل ثم الفكر ثم التخيل ثم الحس، إلا أن العقل والفكر يدركان الأشياء الروحانية. فأما السمع والبصر فمتوسطان، لأنهما يخدمان النفس والجسم، وخدمتهما للنفس أكثر، ويدركان الأشياء الجسمانية. والتخيل متوسط بين العقل والفكر وبين السمع والبصر، فيأخذ تارة من السمع والبصر ويسلم إلى العقل والفكر وذلك في حال اليقظة، ويأخذ تارة من العقل والفكر ويسلمه إلى السمع والبصر وذلك في حال النوم. ولما كان مبدأ تأثير هذه القوى من الدماغ قيل: مسكن الفكرة وسط الدماغ، ومسكن الخيال مقدَّمُه، ومسكن الحفظ والذكر مؤخَّره. ولما كان قوام الدماغ، بل قوام الجسم كله من القلب الذي منه منشأ الحرارة الغريزية صار في كلام الناس يعبَّر عن هذه القوى تارة بالدماغ فيقال: لفلان دماغ إذا قويت منه هذه القوى المدركة، وفلان خالي الدماغ إذا ضعفت فيه هذه القوى. ويعبر عنها تارة بالقلب والثاني أكثر، وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . ولما كان أكثر إدراك الحقائق بهذه القوى المدركة، وكانت الفكرة خادمة للعقل، والتخيل خادفا للعقل والفكر تارة، وللسمع والبصر تارة خص اللَّه بالذكر القلب - وهو أحد الطرفين - والسمع والبصر وهو الطرف الآخر؛ ولذلك عظم اللَّه المنَّة على الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بإعطائه إيَّاه هذه الثلاثة، وحمد من استعملها، وذم من أهملها فقال (سبحانه) : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، وقال في ذم من لا ينتفع بها: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وقال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) أي لا يفهمون. المعنى أنهم لا يسمعون الأصوات أو لا ييصرون الذوات، وجعلهم بكمًا من حيث إنهم لا يوردون معنى مستنبطًا بالفكر مدركًا بالعقل. واعلم أن السمع والبصر كالأخوين يخدم كل واحد منهما صاحبه في إدراكه، فقد ينوب السمع عن البصر في إبلاغ القلب بما يأخذه عن اللفظ فيدرك في ساعة ما لا يدركه البصر في برهة، وينوب البصر عن السمع في إبلاغ القلب بمطالعة الكتب ما لا يدركه السمع في مدة سيما إذا كان المخاطب ناقص العبارة، أو غير متثبت في الكلام، أو دق المعنى وغمض عن الإفهام. تعاون القوى الروحانية وحيفية إدراكها القوى الروحانية متعاونات في إدراكهن لرسوم المعلومات، فإن الخيال يتصور عن المحسوس فتبقى فيه صورته الروحانية فينتقش بها كما تنقش الشمع بصورة الختم، ثم يأخذها الفكر، فيميز بعضها عن بعض بنور العقل، فيبحث عن خواصها ومنافعها، ومضارها، ثم يؤديه إلى القوة الحافظة، فإن أراد إبرازه قولًا سلط عليه القوة الناطقة فيعبر عنه باللسان، وإن أراد إبرازه فعلًا سلط عليه القوة العاملة فتوجده الجوارح. وقد ضرب بعض الحكماء مثلًا لهذه القوى يقرب منه تصور تأثيراتها فقال: إن القوة الفكرة ومسكنها وسط الدماغ بمنزلة الملك يسكن وسط المملكة، والخيالية ومسكنها مقدم الدماغ جارية مجرى صاحب بريده، والحافظة ومسكنها مؤخر الدماغ جارية مجرى خازنه، والقوة الناطقة جارية مجرى ترجمانه، والعاملة جارية مجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كاتبه، والحواس جارية مجرى جواسيسه وأصحاب الأخبار الصادقي اللَّهجات فيما يرفعونه من الأخبار، فيلتقط كل واحد الخبر من الصقع الذي وكل به فيرفعه إلى صاحب البريد، وصاحب البريد يسقط منه ما يراه حشوًا، ويرفع الباقي صافيًا إلى حضرة الملك فيميزه ويعرف منافعه ومضاره، ويسلمه إلى خازنه إلى وقت الحاجة فحينئذ يتقدم بإخراجه. قالوا: وكما أن للملك أفعالًا يستعين فيها بغيره، وأفعالًا ينفرد هو فيها بنفسه، والأفعال التي يتولاها بنفسه أشرف مما يفوضها إلى غيره، فكذلك للقوة المفكرة أفعال تفوضها إلى غيرها، وأفعال تختص هي بها، وهي الرؤية والفكر والاعتبار والتصور والقياس والفراسة، فهذه الأشياء تدبير الأمور، فبالفكر استخراج الغوامض، وبالاعتبار تحصيل التجربة، وبالقياس استنباط المجهول بتوسط المعلوم، وبالفراسة الاطلاع على الأسرار. ونحو هذا المثل مما روي أن كعب الأحبار قال: " دخلت على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقلت: الإنسان عيناه هاد، وأذناه قمع، ولسانه ترجمان، ويداه جناحان، ورجلاه بريد، والقلب ملك، فإذا طاب القلب طاب جنوده، فقالت: هكذا سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بيان فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات للإنسان فضل على الحيوانات كلها في نفسه وجسمه: أما فضله في نفسه فبالقوة المفكرة التي بها العقل والعلم والحكمة والتمييز والرأي، فإن البهائم وإن كانت كلها تحس وبعضها يتخيل فليس لها فكر ولا رويَّة ولا استنباط المجهول بالمعلوم، ولا تعرف علل الأشياء وأسبابها. وليس في قوتها تعلم الصناعات الفكرية، وإنما يتعلم بعضها بعض الصناعات المتخيلة وأقواها في ذلك الفيل والقرد. وأما فضله في جسمه فباليد العاملة، واللسان الناطق، وانتصاب القامة الدالة على استيلائه على كل ما أوجد في هذا العالم، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) وبقوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ولم يعن الصورة التخطيطية فقط، بل عناها والصورة المعقولة، ولتشريفه تعالى إياه بذلك قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) . ومن زعم أن الإنسان خلق خلقة ناقصة عن الوحشيات من حيث إنه لم يكف الملبس كما كفيته، ولم يعط سلاحًا في ذاته كما أعطي كثير منها، فنظره ناقص؛ إذ قد أعطي الإنسان بدل ذلك التمييز الذي يمكنه أن يتخذ به كل ملبس وكل سلاح حسب ما يريده، فيتناوله متى أراد، ويضعه متى أحب. ثم لو أعطي الإنسان بعض الأسلحة التي أعطيتها الوحشيات لم يمكنه أن يستعمل غيره كالوحشيات، وأيضًا فلو أعطي ذلك لكان من الحق أن لا يعطى التمييز؛ لأنه حينئذ كان يستغني عنه فتبطل فائدته، وفعل الله تعالى منزه عن ذلك. فإن قيل: وكيف قال تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) ، فاستضعفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قيل: ضعفه بالإضافة إلى الملأ الأعلى لما فيه من الحاجات البدنية التي قد كفيها أولئك. واعلم أن كل ما أوجد في هذا العالم فإنما أوجد لأجل الإنسان، إما لانتفاعه به كالخيل والبغال والحمير، أو الأغذية له كالبقر والغنم والحبوب والثمار، وإما لانتفاع ما ينتفع به الإنسان كالعشب والحشرات، وما لا يعرف الإنسان نفعه فليس يخرج عن كونه نافعًا، وقد بين الحكماء نفع جلها، وما لا سبيل لبعضنا أو لكلنا إلى معرفة نفعه فليس جهلنا به قادحا في حكمة اللَّه تعالى في إيجاده. ورب شيء جهلنا نفعه وقد سخر لمعرفته بعض الحيوان؛ كالشجر الذي فيه العسل بالقوة. وما سخر لمعرفته واستخراجه إلا النحل، وما أليق من أنكر حكمة اللَّه تعالى لجهله أن يُنشد: عليَّ نحت القوافي من مقاطعها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر واللَّه أعلم. بيان ما به يفضل الإنسان الإنسان وإن كان هو بكونه إنسانًا أفضل موجود فذلك بشرط أن يراعي ما به صار إنسانًا، وهو العلم الحق والعمل المحكم، فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضل؛ ولهذا قيل: الناس أبناء ما يحسنون، أي ما يعرفون ويعملون من العلوم والأعمال الحسنة. يقال: أحسن فلان إذا علم وإذا عمل حسنًا. أما الإنسان من حيث ما يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث ما يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار. وإنما فضيلته بالنطق وقواه ومقتضاه؛ ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة، فالإنسان يضارع الملك بقوة العلم والنطق والفهم، ويضارع البهيمة بقوة الغذاء والنكاح، فمن صرف همته كلها إلى تربية الفكر بالعلم والعمل فخليق أن يلحق بأفق الملك فيسمى ملكًا وربانيًّا كما قال تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) ، ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوية باتباع اللذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 البدنية، يأكل كما تأكل الأنعام فخليق أن يلحق بأفق البهائم، فيصير إما غمرًا كثور أو شرهًا كخنزير، أو ضريًا ككلب، أو حقودً كجمل، أو متكبرًا كنمر، أو ذا روغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) . ولكون كثير ممن صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة إلا كبعض الحيوان، قال اللَّه تعالى في الذين لا يعقلون عن اللَّه: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) وقال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وقالل تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) . فبين أن الذين كفروا ولم يستعملوا القوة التي جعلها اللَّه لهم هم شر الدواب، وقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) أي مثل واعظ الكافرين كمثل ناعق الأغنام تنبيهًا أنهم فيما يقال لهم كالبهائم، وبهذا النظر عبر الشاعر عن بعض من ذمَّه فقال: اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا ولم يقل " ومن ولدا " تنبيهًا أنه لا يستحق أن يقال له: من، لكونه بهيمة. وعلى هذا قال المتنبي: حولي بكل مكان منهم خِلَقٌ تُخطي ... إذا جئمتَ في استفهامها بِمَنِ ولما ذكرنا لم يكن بين بعض هذه الأنواع وبعضها من التفاوت ما بين إنسان وإنسان فإنك قد ترى واحدًا كعشرة، بل واحدًا كمائة، وعشرة أخرى هدرة دون واحد، كما قيل لامرأة في منامها: أعشرة هدرة أحب إليك أم واحد كعشرة، فقالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بل واحد كعشرة لا بل ترى واحدًا كألف وألفًا مثل واحد كما قال القائل: ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... لدى المجد حتى عد ألف بواحد بل قد ترى واحدًا كعشرة آلاف، وترى عشرة آلاف دون واحد. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: وهو أصدق الناس قيلًا: " الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ". والإبل في تعارفهم اسم لمائة بعير، فمائة إبل هي عشرة آلاف، بل لو قيل: قد نرى واحدًا كعالم وعالماً مثل واحد لجاز. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وزنت بأمتي فرجحتهم ". وعلى هذا قال أبو نواس: وليس للَّه بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد كون الإنسان بين البهيمة والملك الإنسان لما ركب تركيبًا بين بهيمة وملك - فشبه بالبهيمة بما فيه من الشهوات البدنية، من المآكل والمشارب والمناكح، شبهه بالملك بما فيه من القوى الروحانية من الحكمة والعدالة والجود - صار واسطة بين جوهرين: وضيع ورفيع؛ ولهذا قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ، فالنجدان من وجه العقل والهوى، ومن وجه الآخرة والدنيا، ومن وجه الإيمان والكفر، ومن وجه الهدى والضلال، ومن وجه موالاة اللَّه تعالى وموالاة الشيطان المذكورتان في قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ومن وجه النور والظلمة المذكورتان في هذه الآية، أي الفضيلة والنقيصة، أو من وجه الحياة والموت المذكوران في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، فمن وفقه اللَّه للهدى، وأعطاه قوى لبلوغ المدى فراعى نفسه وزكاها، فقد أفلح، ومن حرم التوفيق فأهمل نفسه ودسَّاها فقد خاب وخسر، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ما لأجله أوجد الإنسان الإنسان من حيث هو إنسان كل واحد كالآخر كما قيل: فالأرض من تربة والناس من رجل وإنما شرفه بأنه يوجد كاملًا في المعنى الذي أوجد لأجله، وبيان ذلك أن كل نوع أوجده اللَّه تعالى في هذا العالم، أو هدى بعض الخلق إلى إيجاده وصنعه فإنه أوجد لفعل يختص به، ولولاه لما وجد، وله غرض لأجله خُصَّ بما خمصَّ به، فالبعير إنما خصَّ بذلك ليحملنا وأثقالنا إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس، والفرس ليكون لنا جناحًا نطير به، والمنشار والمنحت لنصلح بهما الباب والسرير ونحوهما، والباب لنحرز به البيت، والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء: 1 - عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره. 2 - وعبادته المذكورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وذلك هو الامتثال للباري - عز وجل - في أوامره ونواهيه 3 - وخلافته المذكورة في قوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وغيرها من الآيات، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة. ومكارم الشريعة هي الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، والحلم، والإحسان، والفضل، والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تعالى. وكل ما أوجد لفعل ما فشرفه بتمام وجود ذلك الفعل منه، ودناءته بفقدان ذلك الفعل منه؛ كالفرس للعدو، والسيف للقطع والعمل المختص به في القتال، ومتى لم يوجد فيه المعنى الذي أوجد لأجله كان ناقصًا، فإما أن يطرح طرحًا، وإمَّا يرد إلى منزلة النوع الذي هو دونه، كالفرس إذا لم يصلح للعدو في الكر والفر اتخذ حمولة أو أعد أكولة، (والسيف إذا لم يصلح للقطع اتخذ منشارًا) . فمن لم يصلح لخلافة اللَّه تعالى، ولا لعبادته، ولا لعمارة أرضه فالبهيمة خير منه " ولذلك قال تعالى في ذم الذين فقدوا هذه الفضيلة: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ، (أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 السياسة التي بها يستحق خلافة اللَّه تعالى قد تقدم أن الخلافة تستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة، والسياسة ضربان: أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به. والثاني: سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه، ولهذا ذم اللَّه تعالى من ترشح لسياسة غيره، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو غير مهذب في نفسه، فقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، أي هذبوها قبل الترشح لتهذيب غيركم. وبهذا النظر قيل: " تفقهوا قبل أن تسودوا " تنبيهًا أنكم لا تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه، والسياسة العامة، ولأن السائس يجري من المسوس مجرى ذي الظل من الظل، ومن المحال أن يستوي الظل وذو الظل أعوج، ولاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالّا قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، فحكم أنه محال أن يكون مع أتباع الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر. الفرق بين محارم الشريعة وبين العبادة وعمارة الأرض أما مكارم الشريعة فمبدؤها طهارة النفس باستعمال التعلم، واستعمال العفة والصبر والعدالة، ونهايتها التخصص بالحكمة والجود والحلم والإحسان. فبالتعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يتوصل إلى الحكمة، وباستعمال العفة يتوصل إلى الجود، وباستعمال الصبر تدرك الشجاعة والحلم، وباستعمال العدالة تصحح الأفعال. ومن حصل له ذلك فقد تذرع الكرمة المعنية بقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وصلح لخلافة اللَّه (تعالى) ، صار من الربانيين والشهداء والصديقين. واعلم أن العبادة أعم من المكرمة، فإن كل مكرمة عبادة، وليس كل عبادة مكرمة، ومن الفرق بينهما أن للعبادات فرائض معلومة وحدودًا مرسومة، وتاركها يصير ظالماً متعديًا، والمكارم بخلافها، ولن يستكمل الإنسان مكارم الشرع ما لم يقم بوظائف العبادات، فتحري العبادات من باب العدل، وتحري المكارم من باب الفضل والنفل، ولا يقبل تنفل من أهمل الفرض، ولا تفضل من ترك العدل، (بل لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل) ، فإن العدل فعل ما يحب، والتفضل الزيادة على ما يحب، وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؛ ولهذا قيل: لا يستطع الوصول من ضيع الأصول. فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) ففعل الخير هو الزيادة على العبادة. وأما عمارة الأرض فالقيام بما فيه تزجية لحياة الناس وصلاح معاشهم، والإنسان الواحد من حيث إنه لم يكف أمر معاشه بانفراده في مأكله وملبسه ومسكنه، ولم يكن له سبيل إلى ثباته في الدنيا إلا بما يسد جوعته، ويستر عورته، ويقيه من الحر والبرد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لم يكن له بد من تحصيل ذلك من الوجه المباح له؛ ولذلك قال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) ، ومتى كان سعي العبد في ذلك على الوجه الذي يجب وكما يجب يكون سعيه عبادة وجهادًا في سبيل اللَّه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من طلب الرزق على ما يسن فهو في جهاد، ومن لم يكن على ذلك فسعيه هباء منثور "، كما قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) . وكان فيما يتولاه خادمًا للناس، مسخرا بلا إرادة منه لخدمتهم، حتى كأنه من جملة البهائم التي سخرها اللَّه تعالى لعباده، وامتن عليهم بها في قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) . كون طهارة النفس شرطًا في صحة خلافة الله تعالى وكمال عبادته لا يصلح لخلافة اللَّه تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه، فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة، وإياها قصد - عز وجل - بقوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وبقوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وبقوله: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) . وإنما لم يصلح لخلافة اللَّه تعالى إلا من كان طاهر النفس، لأن الخلافة هي الاقتداء به على قدر طاقة البشر في تحري الأفعال الإلهية) ، ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر القول والفعل؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح، (ولن يخلو مسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سوء عن عرف سوء) ، ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله، ومن خبثت نفسه خبث عمله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن أطيب من عمله والكافر أخبث من عمله " بل قد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) وبقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) ولأجل أنه لا يطيب عمل من خبثت نفسه قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) وقال بعضهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ": إنه أشار بالبيت إلى القلب وأشار بالكلب إلى الحرص والحسد ونحوهما، ونبَّه أن نور اللَّه تعالى لا يدخله إذا كان فيه ذلك، واستدل لذلك بأن الحرص يقال له: الكلب، فإنه يقال: فلان أحرص من الكلب. ويقوي ذلك ما روي: أن التقوى لا تسكن إلا قلبا نظيفًا. وإلى الطهارتين أشار بقوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وكنى بالثياب عن البدن، قال الشاعر: ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران وقال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) . وقد قال بعض العلماء: إنما سمي الحواريون بذلك؛ لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بلإفادتهم الدين والعلم. من قولهم: حورته، أي بيضته، وما روي أنهم كانوا قصارين فإشارة إلى هذا المعنى، وإن كان من لم يتخصص بمعرفة الحقائق تصور من هذا التفسير المهنة المعروفة بين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فيما يفنى إليه في طهارة النفس الذي تطهر به النفس حتى تترشح لخلافة الله تعالى، وتستحق به ثوابه هو العلم والعبادات الموظفة التي هي سبب الحياة الأخروية، كما أن الذي به يطهر البدن هو الماء الذي هو سبب الحياة الدنيوية، ولذلك أسماها (اللَّه تعالى) الحياة، وسمى ما أنزل من كتابه الماء، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) فسمَّى العلم والعبادة حياة من حيث إن النفس متى فقدتهما هلكت هلاك الأبد، كما قال في صفة الماء: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وقال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) قال ابن عباس - رضي الله عنها -: عنى بالماء القرآن، إذ كان به طهارة النفس، وبالأودية القلوب احتملته بحسب ما وسعته. قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) وفي قوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ،: إنه عنى به القرآن، لقوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وأجدر بصحة قوله تعالى، فإن الماء المنزل من السماء المختص بالطهارة الذي لا يسد غيره من المياه مسدَّه هو هذا الماء، أعني كلام رب العزة، فأما المختص بطهارة البدن فقد يسد غيره مسدَّه في الطهارة، لأن الذي ينبع من الأرض يعمل عمله. والذي يلزم تطهيره من النفس هو القوى الثلاث: قوة الفكر بتهذييها حتى تحصل الحكمة والعلم، وقوة الشهوة بقمعها حتى تحصل العفة والجود، وقوة الحمية بإسلاسها حتى تنقاد للعقل فتحصل الشجاعة والحلم، ويتولد من اجتماع ذلك العدالة. فجميع الرذائل تنبعث من فساد هذه القوى الثلاث: أما فساد الفكرة فيتولد منه الجربزة والبله، وأما فساد القوة الشهوية فيتولد منه الشره أو خمود الشهوة، وأما فساد الحمية فيتولد منه التهور أو الجبن، ومن محصول هذه الأشياء أو حصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بعضها يحصل إما الظلم وإما الانظلام، فجميع أصول الفضائل الخلقية أربعة، وجميع الرذائل الخلقية ثمانية. بيان منازعة الهوى للعقل اعلم أن مثل نفس الإنسان في بدنه كمثل والٍ في بلده، وقواه وجوارحه بمنزلة صناع وعملة، والعقل له كمشير ناصح عالم، والشهوة فيه كعبد سوء جالب للميرة، والحمية له كصاحب شرطة، والعبد الجالب للميرة خبيث ماكر يتمثل للوالي بصورة الناصح وفي نصحه ذنب العقرب، ويعارض الوزير في تدبيره، ولا يغفل ساعة عن منازعته ومعارضته، وكما أن الوالي في مملكته متى استشار في تدبيراته وزيره دون هذا العبد الخبيث، وأدب صاحب شرطته وجعله مؤتمرًا لوزيره، وسلطه على هذا العبد وأتباعه حتى يكون هذا العبد مسوسًا لا سائسًا، ومدَّبرًا لا مدبِّرًا استقام أمر بلده. فكذلك النفس أيضًا متى استعانت بالعقل في التدبير، وأدبت الحمية وسلطتها علي الشهوة وقواها استتب أمرها وإلا فسدت، ولهذا حذرنا اللَّه تعالى غاية الحذر من اتباع الهوى فقال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وقال في ذم من اتبعه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) وقال تعالى: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) وقال في مدح من عصاه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) وقال عليه الصلاة والسلام: " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " إشارة إلى الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والعقل وإن كان أشرف القوى وبه صار الإنسان خليفة اللَّه تعالى في العالم فليس دأبه إلا الإشارة إلى الصواب كطبيب يشير على المريض بما يرى فيه بُرأه، فإن قبل منه المريض وإلا سكت عنه، ولذلك جعل له الحمية لتكون نائبة عنه في الدافعة والممانعة؛ ولهذا لا يتبين فضيلة العقل لمن لا حمية له وبهذا النظر قيل: المهين من لا سفيه له، وقال الشاعر (النابغة) : تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الحامي وأيضًا مثل النفس في البدن مثل مجاهد بعث إلى ثغر كي يراعي أحواله، وعقله خليفة مولاه ضم إليه ليسدده ويرشده ويشهد له وعليه فيما يفعله إذ عاد إلى حضرة مولاه وبدنه بمنزلة فرس دفع إليه ليركبه، وشهوته كسائس حبيث ضم إليه ليتفقد فرسه، ولا قدر لهذا السايس عند المولى، والقرآن بمنزلة كتاب أتاه من مولاه، وقد ضمن كل ما يحتاج إليه عاجلًا وآجلًا كما وصفه تعالى بقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وبقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) والنبي - صلى الله عليه وسلم - رسول الله أتاه بالكتاب ليبين له ما يشكل عليه مما يقرؤه من الكتاب. وقبيح أن ينسى هذا الوالي مولاه، ويهمل خليفته فلا يراجعه فيما يبرمه وينقضه، ويصرف همه كله إلى تفقد فرسه وسائسه، ويقيم سائس فرسه مقام خليفة ربه. ومن وجه آخر الإنسان من حيث ما جعله اللَّه عالمًا صغيرًا وجعل بدنه كسمدينة والعقل كملك مدبر فيها، وقواه من الفكرة والخيال والحواس كجنده وأعوانه، والأعضاء كرعيته، والشهوة كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، صار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن جاهد عدوه فهزمه وقهره على ما يجب وكما يجب حمد أثره إذا عاد إلى حضرته كما ضمنه تعالى حيث قال: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) فدفاع الهوى أعظم جهاد كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل: أي الجهاد أفضل فقال: " جهادك هواك ". وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره إذا عاد إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته " وأن اللَّه تعالى يقول للكافر يوم القيامة: " يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم ترد الضالَّة ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم منك ". وأيضا مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه، وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقًا وفرسه مروضًا، وكلبه معلما، فهو قمين بإدراك حاجته من الصيد، ومتى كان أخرق وفرسه جموحًا أو حرونًا، وكلبه عقورًا فلا فرسه ينبعث تحته منقادًا ولا كلبه يسلس معه مطيعًا، فهو قمين أن يعطب فضلًا عن أن لا يدرك ما طلب. وللإنسان مع هواه ثلاثة أحوال: الأولى: أن يغلبه الهوى فيملكه كما قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) . والثانية: أن يغالبه فيقهره مرة ويُقهر مرة، وإيَّاه قصد بمدح المجاهدين، وعناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم ". والثالثة: أن يغلب هواه ككثير من الأنبياء وبعض صفوة الأولياء، وهذا المعنى قصد بقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) وله قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ما من أحد إلا وله شيطان وإن اللَّه تعالى أعانني عليه حتى ملكته "، فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه، واللَّه أعلم بالحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الفرق بين ما يسومه العقل وبين ما يسومه الهوى من شأن العقل أن يرى ويختار أبدًا الأفضل والأصلح في العواقب، وإن كان على النفس في المبدأ مؤنة ومشقة، والهوى على الضد من ذلك فإنه يؤثر ما يدفع به المؤذي في الوقت، وإن كان يعقب مضرة من غير نظر منه في العواقب كالصبىِ الرمد الذي يؤثر أكل الحلاوات واللعب في الشمس على أكل الإهليلج والحجامة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". وأيضًا فإن العقل يري صاحبه ما له وما عليه، والهوى يري صاحبه ما له دون ما عليه ويعمي عليه ما يعقبه من المكروه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " حبُّك الشيء يعمي ويصم " ولذلك ينبغي للعاقل أن يتهم رأيه أبدًا في الأشياء التي هي له لا عليه، ويظن أنه هوى لا عقل، ويلزمه أن يستقصىِ النظر فيه قبل إمضاء العزيمة، وحتى قيل: إذا عرض لك أمران فلم تدر أيَّهما أصوب فعليك بما تكرهه لا بما تهواه. فأكثر الخير في الكراهية، قال اللَّه تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وقال تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) . وأيضًا فإن ما يرى العقل يتقوى إذا فزع فيه إلى اللَّه تعالى بالاستخارة، وتساعد عليه العقول الصحيحة إذا فزع إليها بالاستشارة، وينشرح له الصدر إذا استعين فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بالعبادة. وما يشير به الهوى فبالضد من ذلك. وأيضًا فالعقل يرى ما يرى بحجة وعذر، والهوى يرى ما يرى بشهوة وميل. وربما تشبَّه الهوى بالعقل فيتعلق بشهوة مزخرفة ومعذرة مموهة كالعاشق إذا سئل عن عشقه، والمتناول لطعام رديء إذا سئل عن فعله. قال بعض العلماء: إذا مال العقل نحو مؤلم جميل والهوى نحو ملذ قبيح فتنازعا بحسب غرضيهما وتحاكما إلى القوة المدبرة بادر نور اللَّه تعالى إلى نُصرة العقل ووساوس الشيطان إلى نُصرة الهوى كما قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) . فمتى كانت القوة المدبرة من أولياء الشيطان ومحبيه لم تر نور الحق فعميت عن نفع الأجل، واغترت بلذة العاجل، فجنحت إلى الهوى، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) . ومتى كانت من حزب اللَّه وأوليائه اهتدت بنوره، فاستهانت بلذة العاجل، وطلبت سعادة الآجل كما قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) . ومما نبَّه به على فساد الهوى قوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي لو أعطي كل إنسان ما يهوى - مع أن كل واحد يهوى أن يكون أغنى الناس وأعلاهم منزلة، وأن ينال في الدنيا الخير الأبدي بلا مزاولة (ولا يعلم أنه أعطى ذلك) لكان فيه فساد العالم بأسره. وقيل في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) ضرب الشجرة الطيبة مثلًا للعقل، والخبيثة مثلًا للهوى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ففرع الطيبة النور والإسلام، وفرع الخبيثة الكفر والضلال. فإن قيل: ما الفرق بين الشهوة والهوى، قيل: الشهوة ضربان: محمودة ومذمومة. فالمحمودة من فعل اللَّه سبحانه، وهي قوة جعلت في الإنسان لتنبعث بها النفس لنيل ما يظن فيه صلاح البدن. المذمومة من فعل البشر ... وهي استجابة النفس لما فيه لذتها البدنية، والهوى هو هذه الشهوة الغالبة إذا استتبعت الفكرة، وذلك أن الفكرة بين العقل والشهوة، فالعقل فوقها والشهوة تحتها، فمتى ارتفعت الفكرة ومالت نحو العقل صارت رفيعة فولدت المحاسن، وإذا اتضعت ومالت نحو الهوى والشهوة صارت وضيعة وولدت المقابح. والنفس قد تريد ما تريد بمشورة العقل تارة وبمشورة الهوى تارة، ولهذا قد يسمى الهوى إرادة. في ذكر الخاطر الذي يعرض من جهة العقل والهوى أول ما يعرض من ذلك السانح ثم الخاطر، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق "، ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) ثم من بعدهما الإرادة ثم العزم ثم العمل. فالسانح علة الخاطر، والخاطر علة الإرادة، والإرادة - وهي الهمة - علة العزم، والسانح والخاطر يعبر عنهما بالهاجس والواجس ويتجافى عنهما ما لم يصيرا إرادة وعزمًا. فحق الإنسان إذا خطر له خاطر أن يسبره عاجلًا، فإن وجده خيرًا رباه حتى يجعله فعلًا، وإن وجده شرًّا بادر إلى قلعه وقمعه قبل أن يصير إرادة، ويطهر قلبه منه تطهير أرضه من خبيثات النبات، وهذا المعنى أراد الحسن - رحمه الله - بقوله: رحم اللَّه عبدًا وقف عند همه، فإن كان للَّه أمضى وإلا كف. قال بعض الحكماء: إن تداركت الخطرة اضمحلت وإلا صارت شهوة، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 تداركت الشهوة تلاشت وإلا صارت طلبًا، وإن تداركت الطلب تلاشى وإلا صار عملًا. وقال بعض الحكماء: إن ولي اللَّه سبحانه إذا أتته لمة الشيطان انزعج لذلك، ورأى ببصيرته ظلمة، ووجد روعة، فإذا أتته لمة الملك انشرح صدره، وأولياء الشيطان بخلافه. قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) . والله ولي الرشاد. حصول الخلق المحمود بطهارة النفس قد تقدم أن طهارة النفس تكون لإصلاح القوى الثلاث: فإصلاح الفكرة: بالتعلم حتى يميز بين الحق والباطل في الاعتقاد، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين القبيح والجميل في الفعال. وإصلاح الشهوة: بالعفة حتى تسلس للجود والمواساة المحمودة بقدر الطاقة. وإصلاح الحمية: بإسلاسها حتى يحصل الحلم؛ وهو كف النفس عن قضاء وطر الغضب، وتحصل الشجاعة؛ وهي كف النفس عن الخوف وعن الحرص المذمومين. وبإصلاح القوى الثلاث يحصل للنفس العدالة والإحسان، وهذه جماع المكارم، وطهارة النفس وحسن الخلق الممدوح يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا وألطفهم بأهله "، ويعني باللطافة بالأهل تهذيبهم وتأديبهم المشار إليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) . والممدوح أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقيل: جماع المكارم في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) وذلك أنه بالإيمان يحصل العلم والحكمة، وذلك بإصلاح الفكرة، وبالمجاهدة بالأموال والأنفس تحصل العفة والجود اللذان هما تابعان لإصلاح الشهوة، والشجاعة والحلم اللذان هما تابعان لإصلاح الحمية، وعلى ذلك قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير ذلك: " هو أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك "، فالعفو عمن ظلمك نهاية الحلم والشجاعة، وإعطاء من حرمك نهاية الجود، ووصل من قطعك نهاية الإحسان، واللَّه أعلم. الفرق بين الطبع والسجية والخلق والعادة الطبع: أصله من طبع السيف: اتخاذ الصورة المخصوصة من الحديد، وكذلك الطبيعة والضريبة اعتبارًا بضرب الدراهم، والنحتية اعتبارًا بالنحتة، والنجر اعتبارًا بنجر الخشب، والغريزة اعتبارًا بما غرز عليه. وكل ذلك اسم للقوة التي لا سبيل إلى تغييرها والشيمة اسم للحالة التي عليها الغريزة، اعتبارًا بالشامة في أصل الخلقة. والسجية: اسم لما يسجى عليه الإنسان من قولهم: عين ساجية، أي فاترة خِلْقة، وأكثر ما يستعمل ذلك كله فيما لا يمكن تغييره. وأما الخُلُق في الأصل فهو كالخَلق كقولهم الشَرْب والشرُب، والصَّرْم والصُّرُم، لكن الخُلُق يقال في القوى المدركة بالبصيرة، والخَلْق في الهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وجعل الخلق تارة للقوة الغريزية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " فرغ الله من الخلق والخلق والرزق والأجل "، وتارة يجعل اسمًا للحالة المكتسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التي يصير بها الإنسان خليقًا أن يفعل شيئًا دون شيء، كمن هو خليق بالغضب لحدة مزاجه، ولهذا خص كل حيوان بخلق في أصل خلقته، كالشجاعة للأسد، والجبن للأرنب، والمكر للثعلب. ويجعل الخلق تارة من الخلاقة وهي الملابسة، وكأنه اسم لما مرن عليه الإنسان من قواه بالعادة، وقد روي: " أفضل الأعمال الخلق الحسن " وروي: " ما أعطى اللَّه أحدًا أفضل من خلق حسن " فجعل الخلق مرة للهيئة الموجود في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر. وجعل مرة اسمًا للفعل الصادر عنه باسمه، وعلى ذلك أسماء أنواعها نحو العفة والعدالة والشجاعة، فإن ذلك يقال للهيئة والفعل جميعًا، وربما تسمى الهيئة باسم، والفعل الصادر عنها باسم، كالسخاء والجود، فإن السخاء اسم للهيئة التي عليها الإنسان، والجود اسم للفعل الصادر عنها، وإن كان قد يسمَّى كل واحد باسم الآخر من فضله. وأما العادة: فاسم لتكرير الفعل أو الانفعال، من عاد يعود، وبها يكمل الخلق، وليس للعادة فعل إلا تسهيل خروج ما هو بالقوة في الإنسان إلى الفعل. فأمَّا أن تجذب السجية إلى خلاف ما خلقت له، فمحال، فالسجيَّة فعل الخالق - عز وجل - والعادة فعل المخلوق، ولا ييطل فعل المخلوق فعل الخالق، ولكن ربَّما يقوي العادة قوة محكمة حتى تعد سجية، وبهذا النظر قيل: العادة طبيعة ثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إمكان تغيير الخلق اختلف الناس في الخلق فقال بعضهم: هو من جنس الخلقة ولا يستطيع أحد تغييره عما جبل عليه إن خيرًا وإن شرًّا كما قيل: وما هذه الأخلاق إلا غرائز ... فمنهن محمود ومنها مذمم ولن يستطيع الدهر تغييرخلقة ... بنصح ولا يسطيعه متكرم ويعلق هذا القائل أيضًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آتاه الله وجهًا حسنًا وخلقًا حسنًا فليشكر اللَّه " وما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فرغ اللَّه من الخلق والخلق " الخبر، ومحال أن يقدر المخلوق على تغيير فعل الخالق - عز وجل -. وقال بعضهم: يمكن ذلك، واستدل عليه بما روي: " حسنوا أخلاقكم "، ولو لم يكن لما أمر به. وقال: إن اللَّه تعالى خلق الأشياء على ضربين: أحدهما: بالفعل ولم يجعل للعبد فيه عملًا، كالسماء والأرض والهيئة والشكل. والثاني: خلقه خلقة ما وجعل فيه قوة، ورشح الإنسان لإكماله، وتغيير حاله وإن لم يرشحه لتغيير ذاته، كالنواة التي جعل فيها قوة النخل. وسهل للإنسان سبيلًا إلى أن يجعله بعون اللَّه نخلة، أو أن يفسده إفسادًا. قال: والخُلق من الإنسان يجري هذا المجرى في أنه لا سبيل للإنسان إلى تغيير القوة التي هي السجية، وجعل له سبيلًا إلى إسلاسها، ولهذا قال اللَّه تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ولو لم يكن كذلك لبطلت فائدة المواعظ والوصايا، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولما جوَّز العقل أن يقال للعبد لم فعلتَ، ولم تركتَ، وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعًا وقد وجدناه فىِ بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 البهائم ممكنًا، فالوحش قد ينقل بالعادة إلى التأنس، والجامح إلى السلاسة. لكن الناس في غرائزهم مختلفون، فبعضهم جبلوا جبلة سريعة القبول، وبعضهم جبلوا جبلة بطيئة القبول، وبعضهم في الوسط، وكل لا ينفك من أثر القبول وإن قل. وأرى أن من منع من تغيير الخلق فإنه اعتبر القوة نفسها، وهذا صحيح فإن النوى محال أن ينبت الإنسان منه تفاحًا. ومن أجاز تغييره فإنه اعتبر إمكان ما في القوة إلى الوجود وإفساده بإهماله كالنوى فإنه يمكن أن يتفقد فيجعل نخلًا وأن يترك مهملا حتى يتعفن ويفسد، وهذا صحيح أيضًا. فإذن اختلافهما بحسب اختلاف نظريهما. صعوبة إصلاح القوة الشهوية وما في هذه التوة من المنفعة والمضرة أصعب هذه القوى الثلاث مداواة قمع الشهوة، لأنها أقدم القوى وجودًا في الإنسان، وأشدها به تشبّثًا، وأكثرها منه تمكنًا، فإنها تولد معه وتوجد فيه وفي الحيوان الذي هو جنسه، بل في النبات الذي هو جنس جنسه، ثم توجد فيه قوة الحمية، ثم آخرًا توجد فيه قوة الفكر والنطق والتمييز. ولا يصير الإنسان خارجًا من جملة البهائم، وأسر الهوى إلا بإماتة الشهوات البهيمية أو بقهرها وقمعها إن لم يمكنه إماتتها، فهي التي تضره وتغره، وتصرفه عن طريق الآخرة، وتثبطه. ومتى قهرها وأماتها صار الإنسان حرًّا نقيا، بل يصير إلهيًّا ربانيًّا، فتقل حاجاته ويصير غنيًّا عما في يد غيره، وسخيًّا بما في يده، ومحسنًا في معاملاته. فإن قيل: فإذا كانت قوة الشهوة بهذه المثابة في الإضرار، فأي حكمة اقتضت أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 يبلى بها الإنسان؟. قيل: الشهوة إنما تكون مذمومة إذا كانت مفرطة، وأهملها صاحبها حتى ملكت القوى، فأما إذا أُدِّبَت فهي المبلغة إلى السعادة، وجوار رب العزة، حتى لو تصورت مرتفعة لما أمكن الوصول إلى الآخرة، وذلك أن الوصول إلى الآخرة بالعبادة، ولا سبيل إلى العبادة إلا بالحياة الدنيوية، ولا سبيل إلى الحياة الدنيوية إلا بحفظ البدن، ولا سبيل إلى حفظ البدن إلا بإعادة ما يتحلل منه، ولا يمكن إعادة ذلك إلا بتناول الأغذية، ولا يمكن تناول الأغذية إلا بالشهوة، فإذًا الشهوة محتاج إليها، ومرغوب فيها، وتقتضي الحكمة الإلهية إيجادها وتزيينها كما قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) . لكن مثلها كمثل عدو تخشى مضرته من وجه، وترجى منفعته من وجه، ومع عداوته لا يستغنى عن الاستعانة به، فحق العاقل أن يأخذ نفعه ولا يسكن إليه، ولا يعتمد عليه إلا بقدر ما ينتفع به. وما أصدق في ذلك قول المتنبي إذا تصور في وصف الشهوة، وإن قصدها فما أجود ما أراد: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًّا له ما من صداقته بد وأيضًا فهذه الشهوة هو المشوقة لعامة الناس إلى لذات الجنة من المأكل والمشرب والمنكح، إذ ليس كل الناس يعرف اللذات المعقولة. ولو توهمناها مرتفعة لما تشوقوا إلى ما وعدوا به من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 في ازدياد الإنسان في الفضائل والرذائل بتعاطيها كل متعاطٍ لفعل من الأفعال النفسية فإنه يتقوى به بالازدياد منه، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فباحتمال صغار الأمور يمكن احتمال كبارها، وباحتمال كبارها يستحق الحمد كما قال أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: " الإيمان يبدو نكتة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض، وإذا استكمل العبد الإيمان ابيضَّ قلبه كله، وإن النفاق ييدو لمظة سوداء، وكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسودَّ القلب كله. والإنسان يكمل في الفضيلة بأربع درجات: اثنين في الاعتقاد، وهما: أن يعتقد الجميل ويجعل اعتقاده عن براهين واضحة وأدلة قاطعة، لا عن شبهات واهية، وإقناعات متداعية. واثنين في الفعل؛ وهما: أن يترك العادات السيئة فيجعلها بحيث يبغضها فبتجنب الرذيلة يتوصل إلى الفضيلة، وأن يتعود العادات الحسنة فيجعلها بحيث يؤثرها ويتنعم بها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وجعل قرة عيني في الصلاة ". وكما أنه يكمل بأربع درجات فإنه ينتكس بأربع درجات: درجتين في الاعتقاد، وهما: أن لا يعتقد شيئًا من العلوم الحقيقية فيبقى عنها غفلًا، وأن يعتقد عن تقليد اعتقادًا فاسدًا، فيتلطخ به. ودرجتين في العمل، وهما: أن لا يتعود العادة الجميلة رأسًا، وأن يتعود العادة القبيحة. فمن صار في الفضيلة إلى الدرجة الرابعة فهو ممن شرح اللَّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ومن صار في الرذيلة إلى الدرجة الرابعة فهو من الذين وصفهم اللَّه تعالى بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) وقيل لحكيم: ألا تعظ فلانًا، فقال: ذلك على قلبه قفل ضاع مفتاحه، فلا سبيل إلى معالجة فتحه. وللإنسان مع كل فضيلة ورذيلة ثلاثة أحوال: إما: أن يكون فىِ ابتدائها، فيقال: هو عبدها وابنها، ولهذا قال بعضهم: من لم يخدم العلم لم يرعه. والثاني: أن يتوسطها فيقال: هو أخوها وصاحبها. والثالث: أن ينتهي فيها بقدر وسعه، ويتصرف فيها كما أراد فيقال: هو سيدها وربها، ومنه قيل: فلان رباني في العلم، فإن رب الشيء هو الذي - ربه، وسيده هو الذي يملك سواده، - أي جميعه. وغاية الفاضل في الفضيلة أن تقع منه الفضائل أبدًا من غير فكر ولا رَويَّة، لغلبة قواها عليه، وبعد ما ينافيها منه، كالصانع الحاذق في صنعته. وغاية الرذل في الرذيلة أن تقع منه الرذائل لغلبة قواها عليه، ولهذا حُدَّ الخُلُق بأنه: حال للإنسان داعية إلى الفعل من غير فكر ولا رويَّة. الفرق بين ما يحمد ويذم من التخلق الفرق بين الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتئاب، ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج، والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج إلى بعث من خارج. والتخلق والتشبه بالأفاضل ضربان: ضرب محمود: وذلك ما كان على سبيل الارتياض والتدرب، ويتحراه صاحبه سرَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وجهرًا على الوجه الذي ينبغي وبالمقدار الذي ينبغي وإياه قصد الشاعر بقوله: ولن تستطيع الخلق حتى تخلقا بل قد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما العلم إلا بالتعلم، وما الخلق إلا بالتخلق ": وضرب مذموم: وذلك ما كان على سبيل المراءاة، ولا يتحراه صاحبه إلا حيث يقصد أن يُذكر به، ويسمى ذلك رياءً وتصنعًا، وتشيعًا، ولن ينفك صاحبه من اضطراب يدل على تشيعه كما قال (في) كليلة (ودمنة) : الطبع المتكلف كلما زدته تثقيفًا ازداد تعقيفًا، وعلى ذلك قال الشاعر أبو الطيب المتنبي: وأسرع مفعول فعلت تغيرًا ... تكلف شيء في طباعلك ضده وإياه قصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رحمه الله - بقوله: " من تخلق للناس بغير ما فيه فضحه الله " وحال التشبع كالجرح يندمل على فساد فلا بد أن ينبعث ولو كان بعد حين: فإن الجرح ينفر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد وكما أن العضو المفلوج لا يطاوع صاحبه في تحريكه وإن جاهده، فمتى حركه إلى اليمين تحرك نحو الشمال، كذلك أيضًا الشره والظلوم والمتهور وإن جاهدوا أنفسهم فإن قواهم تأبى مطاوعتهم، وقد ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور "، تنبيهًا أنه كاذب بقوله وفعله، فيتضاعف وزره. وقد حمل على ذلك قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ، وإيَّاه قصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء". وأقبح الرياء النفاق في الدين، وأقبح النفاق ما كان في أصل الاعتقاد، وهو إظهار الإيمان مع استبطان الكفر، ولذلك جعل الله عقابهم أعظم فقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) . سبب اختلاف الناس في أخلاقهم جميع الفضائل النفسية ضربان: نظري وعملي، وكل ضرب منهما يحصل على وجهين: أحدهما: بتعلم بشري يحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة، ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة، وإن كان فيهم من يكفيه أدنى ممارسة، وفيهم من يحتاج إلى زيادة ممارسة، وذلك بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة. والثاني: يحصل بفضل إلهي نحو: أن يولد إنسان فيصير من غير تعلم من البشر عالمًا كعيسى ابن مريم، ويحى بن زكريا، وغيرهما من الأنبياء - عليهم السلام - الذين حصل لهم من المعارف من غير ممارسة ما لم يحصل للأنبياء غيرهم. وقد ذكر بعض الحكماء أن ذلك يحصل لغير الأنبياء أيضًا في الفينة بعد الفينة. وكل ما كان بتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللهجة، وسخيا وجريئًا، وآخر على عكس ذلك، وقد يكون بالتعلم والعادة، فمن صار فاضلًا طبعَا وعادةً وتعلمَا فهو كامل الفضيلة، ومن كان رذلًا بثلاثتها فهو كامل الرذيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وجوب اكتساب الفضيلة المحمودة حق الإنسان في كل فضيلة أن يكتسبها خلقًا، ويجعل نفسه ذات هيئة مستعدة لذلك، سواء أمكنه أن يبرز ذلك فعلًا أو لم يمكنه، وذلك بأن يكون على هيئة الأسخياء والشجعان والحكماء والعدول، وإن لما يكن ذا مال يبذله، ولا عرض له مقام تظهر فيه نجدته، ولا معاملة بينه وبين غيره تبرز فيها عدالته. وقد قيل لبعض الحكماء: هل من جود يعم به الورى، قال: نعم، أن تحسن خلقك وتنوي لكل أحد خيرًا. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ". واعلم أن كل فعل يحتاج فيه إلى إيجاده وتزيينه وتجويده دنيويًّا كان أو أخرويًّا لكن متى كان أخرويًّا يحتاج فيه مع ذلك إلى أمور لا يتم ولا يكمل إلا بها، (وهي أنه يجب أن يتعاطاه) قصدًا إلى المكرمة وإلا لم يعتد بها) . كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) . وأن يتحراه بخلوص طوية كما قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وألا يقصد به جلب منفعة دنيوية أو دفع مضرة، فإنه يكون بفعله ذلك تاجرًا، ويجب عند بعض المحققين ألا يطلب به منفعة أخروية أيضا، فقد قيل: " من عبد اللَّه بعوض فهو لئيم " ومن فعل ذلك بانشراح صدر فهو أولى ممن يفعله بمجاهدة نفس، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن استطعت أن تعمل للَّه في الرضا باليقين فاعمل وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كثير "، وقولهم: " الحق مر " فهو باعتبار من لم تتهذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 نفسه، ولم يزل مرضه. فمن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرَّا به الماء الزلالا فأما من كمل فإنه يستطيب الحق وإن كان ثقيلًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وجعل قرة عيني في الصلاة ". ومن أصلح وهذب نفسه فقد حاز أعظم المآلين. فمن ملك نفسه وقواها، وهذبها وزكاها فقد اطلع به على ملكوت السموات والأرض، وملك أطوع جيش بلا عطاء يلزمه، وقد نبَّه اللَّه تعالى على ذلك بقوله: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) فجعل النبوة مخصوصة فيهم، وجعل الملك عاما لهم تنبيهًا على المعنى الذي ذكرت، وعلى ذلك قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) ونذكر بعد ذلك أنواع نعم اللَّه تعالى وما يكتسب منها، واللَّه ولي الفضل والإحسان. أنواع نعم اللَّه تعالى الموهوبة والمحتسبة نعم اللَّه تعالى وإن كانت لا تحصى مفصلة كما قال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) فإنها بالقول المجمل خمسة أنواع: الأول: وهو أعلاها وأشرفها السعادة الأخروية وإيَّاها قصد بقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) وذلك هو الخير المحض والفضيلة الصرف، وهو أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، وعلم بلا جهل، وغنى بلا فقر. ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا باكتساب الفضائل النفسية واستعمالها، كما قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) وأصول ذلك أربعة أشياء: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الإنصاف، وهي المعبَّر عنها بالدين. ويكمل ذلك بالفضائل البدنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وهي أربعة أشياء: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر. ويتم بالفضائل المطيفة بالإنسان، وهي أربعة أشياء: المال، والأهل، والعز، وكرم العشيرة، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك إلا بتوفيق الله - عز وجل -، وذلك بأربعة أشياء هدايته، ورشده، وتسديده، وتأييده. فجميع ذلك خمسة أنواع هي عشرون ضربًا، ليس للإنسان مدخل في اكتسابها إلا فيما هو نفسي فقط. واعلم أن الفضيلة الكاملة والسعادة الحقيقية هي الخيرات الأخروية وما عداها فتسميته بذلك إما لكونه معاونًا في بلوغ ذلك، أو نافعًا فيه. فكل ما أعان على خير وسعادة فهو خير وسعادة. وهذه الأشياء التي هي معينة ونافعة في بلوغ السعادة الأخروية متفاوتة الأحوال، فمنها ما هو نافع في جميع الأحوال، وعلى كل وجه. ومنها ما هو نافع في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وربما يكون ضره أكثر من نفعه. فحق الإنسان أن يعرفها بحقائقها حتى لا يقع الخطأ عليه في اختياره الوضيع على الرفيع، وتقديمه الخسيس على النفيس. والناس في تحري ذلك قسمان: طالب خير، وهارب من شر. كما قيل: كل يحاول حيلة يرجو بها ... دفع المضرة واجتلاب المنفعة والمرء يغلط في تصرف حاله ... فلربما اختار العناء على الدعة لكن قد يحسب الشحم فيمن شحمه ورم، ويقدر في الشيء أنه رزق نافع ) وحشوه سم ناقع) ، ولذلك يحق على العاقل أن يجلي بصيرته، ويعرف من كل ما يطلب حقيقته لئلَّا يكون كمن أراد حبلًا يتنطق به، فرأى حيَّة فظنها مبتغاه، فأخذها فلدغته. وفد قسمت الخيرات على وجه آخر فقيل: الخيرات ثلاث: مؤثرة لذاتها، ومؤثرة لغيرها، ومؤثرة تارة لذاتها وتارة لغيرها. فالمؤثرة لذاتها السعادة الأخروية والنفسية. والمؤثرة لغيرها الدراهم والدنانير، فإنا لو تصورنا ارتفاع الضرورات التي تستدفع بها لكانت هي والحصباء سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والمؤثرة تارة لذاتها وتارة لغيرها كصحة الجسم، فمعلوم أن الرِّجل وإن أريدت للمشي فالإنسان يريد أن يكون صحيح الرجل وإن استغنى عن المشي، ويقال أيضًا: الخيرات ثلاث: نافع، وجميل، ولذيذ. والشرور ثلائة: ضار، وقبيح، ومؤلم. وكل واحد من ذلك ضربان: أحدهما: مطلق، وهو الذي يجمع الأوصاف الثلاثة في الخير كالحكمة فإنها نافعة، وجميلة، ولذيذة، وفي الشر كالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم. والثاني: مقيد: وهو الذي جمع شيئًا من أوصاف الخيرات، وشيئًا من أوصاف الشرور، فربَّ نافع مؤلم كجدع قصير أنفه، فإنه وإن نفعه في إدراك الثأر فقد آذاه، وربَّ نافع قبيح كالحمق، فإنه وإن نفع من حيث ما قيل: استراح من لا عقل له، فهو جد قبيح. وربَّ نافع من وجه ضار من وجه، كمن في سفينة فخاف الغردق فألقى متاعه في الماء، فخلصت السفينة. وكل ما نفعه، وجماله، ولذته أطول مدة وأعم فائدة، فهو أفضل. فحق على العاقل أن يرغب إلى اللَّه في أن يعطيه ما فيه مصلحته مما لا سبيل له بنفسه إلى اكتسابه، وأن يبذل جهده مستعينًا باللَّه فىِ اكتساب ما له كسبه، وبلوغ الأعلى فالأعلى منه على الترتيب، فبذلك يشرف، ومن ضيَّع أنفس المقتنيات مع التمكن من تحصيله فهو دنيُّ الهمة، راضٍ بخسيس الحال. وأشرفها ما إذا حصل لم يغضب ولم يحتج في حفظه إلى أعوان، وكان نافعًا عاجلًا وآجلًا ومطلقا في كل حال، وكل زمان، وكل مكان، وذلك هو الفضائل النفسية ولا سيما العقل والعلم. فأما القنيات الخارجية نحو المال والجاه فإنها يقال لها: الخيرات المتوسطة؛ لأنها تنجذب إلى الفضيلة مرة وإلى الرذيلة مرة ولأنها سبب للخيرات إذا كانت مع العقل، وسبب الشرور إذا كانت مع الجهل، وقد نبَّه اللَّه تعالى على كون ذلك سببًا للشرِّ بقوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) وبقوله: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولذلك قيل: السعيد هو الخيِّر العاقل غنيًّا كان أو فقيرًا، قويّا كان أو ضعيفًا. فإن قيل: ما الخير والسعادة والفضيلة والنافع، وهل بينها فرق،. قيل: أما الخير المطلق فهو المختار من أجل نفسه، والمختار غيره لأجله، وهو الذي يتشوقه كل عاقل، بل قد قيل: هو الذي يتشوقه الكل بلا مثنوية، فإن الكل يطلب في الحقيقة الخير وإن كان قد يعتقد في الشر أنه خير فيختاره. فمقصده الخير ويضاده الشر وهو المجتوى من أجل نفسه، والمجتوى غيره من أجله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة " فجعل الخير المطلق الجنة، والشر المطلق النار كما ترى، وقد يقال لكل ما يتوصل به إلى الخير: خير، ولهذا سمى اللَّه تعالى المال خيرًا في قوله: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) لكن المال والجاه في الحقيقة قد يكون خيرا لبعض الناس وشرًّا لبعضهم، فمعلوم أنه كان شرًّا لمن قال تعالى فيه: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) . وأما السعادة المطلقة فحسن الحياة في الآخرة، وهي الأربع التي تقدم ذكرها من البقاء بلا فناء، والقدرة بلا عجز، والعلم بلا جهل، والغنى بلا فقر. وقد يقال لا يتوصل به إلى هذه السعادات الأربع: سعادة، وهي الستة عشر المتقدمة، ويضادها الشقاوة. وأما الفضيلة فاسم لما يحصل به الإنسان ميزة على الغير، وهي اسم لما يتوصل به إلى السعادة، ويضادها الرذيلة. وأما النافع فهو ما يعين على بلوغ الفضيلة والسعادة والخير، والنافع في الشيء ضربان: ضروري: وهو ما لا يمكن الوصول إلى المطلوب إلا به؛ كالعلم والعمل الصالح للمكلفين في البلوغ إلى النعيم الدائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وغير ضروري: وهو الذي قد سد غيره مسدَّه كالسكنجبين في كونه نافعًا في قمع الصفراء، فإن ذلك قد يسد غيره مسدَّه. وكل نافع قد يسمى فضيلة وسعادة وخيرًا لكونه مبلغًا إلى ذلك، وموصلًا إليه. حاجة بعض هذه الفضائل إلى بعض قد ثبت بما تقدم أن الخيرات والفضائل خمسة أنواع: أخروية، ونفسية، وبدنية، وخارجية، وتوفيقية. فيجب أن يعلم أن بعض ذلك محتاج إلى بعض، إما حاجة ضرورية بحيث لو لم يوجد ذلك لم يصح وجود الآخر أو حاجة نافعة) بحيث لو لم يوجد لاختل حال الآخر، وذلك أن السعادة الحقيقية الأخروية لا سبيل إلى الوصول إليها إلا باكتساب الفضائل النفسية، ولذلك قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) فنبه أنه لا مطمع لمن أراد الوصول إليها إلَّا بالسعي، ولا سبيل إلى تحصيل الفضائل النفسية إلا بصحة البدن وقوته، ولأنه لا غنى بكمال الفضائل النفسية والبدنية عن الفضائل الخارجية، فإنه وإن أمكن أن يتصور حصولها لمن لا أهل له ولا مال ولا عشيرة فإنها لا تكمل إلا بها. الفضائل المطيفة بالإنسان قد تقدم أن ذلك بالقول المجمل أربعة أشياء: المال، والأهل، والعز، وكرم العشيرة. وإن هذه الأشياء نافعة في بلوغ الفضيلة الحقيقية والسعادة الأخروية، وجارية مجرى الجناح المبلغ وإن لم تكن الحاجة إليها في بلوغ ذلك ضرورية. فأما المال: فصاحبه يتمكن من فضائل إذا فقده ثكل بلوغها، فمعلوم أن كثيرًا من القُرب كالزكاة، والحج، يثكله الفقير، فإن الفقير في تحري المكارم كساع إلى الهيجا بغير سلاح، وكباز متصيد بلا جناح، وفضله مغطى كماء تحت الأرض، ونار كامنة في الصخر، وما أصدق ما قال الشاعر: والمرء يرفعه الغنى ... والفقر منقصة وذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقال المتنبي (في ديوانه: فلا مجد للدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم العون على تقوى الله المال " وأما الأهل: فنعم العون على بلوغ السعادة، فمن كثر أهله وخالصوه، صار له بهم عيون، وآذان، وأيد، وقد قال تعالى حاكيًا عن لوط - صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) وقال الشاعر: ألم تر أن جمع القوم يخشى ... وأن حريم واحدهم مباح وقال - صلى الله عليه وسلم - في نفع الولد: " إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية بعد موته، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ريح الولد من رائحة الجنة "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم العون على الدين المرأة الصالحة " فالمرأة مزرعة الرجل قيضها الله تعالى له ليزرع فيها زرعه، كما قال تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) وقال تعالى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) . وأما العز: فبه يتأبى عن تحمل الذل، ومن لا عز له لا يمكنه أن يذود عن حريمه، ولذلك قيل: " الدين والسلطان أخوان توأمان وقرينان مؤتلفان، ومؤديان إلى عمارة البلاد وصلاح العباد " وقيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع. وسمى اللَّه تعالى الحجة سلطانًا لقهرها أولي البصائر، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 عزَّ اسمه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. وأمما كرم العشيرة: فإنه يقال له: الحسب والشرف، والشرف أخص بمآثر الآباء والعشيرة، ولذلك قيل للعلوية: أشراف، ومن الناس من لا يعد شرف الأصل فضيلة، ويقول: المرء بنفسه. واستدل بقول أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: " الناس أبناء ما يحسنون " وبقوله: " قيمة كل امرئ ما يحسنه ". وقول الشاعر: كن ابن من شئت واكتسب أدبًا ... يغنيك محموده عن النسب وقول الحكيم: الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية. وليس كذلك كما ظن، لأن كرم الأعمام والأخوال مخيلة لكرم المرء، ومظنة له، فالفرع وإن كان قد يفسد أحيانًا فمعلوم أن أصله يورثه الفضيلة والرذيلة، فإنه لا يكون من النخل الحنظل، ولا من الحنظل النخل، ولذلك قال الشاعر: وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وقيل: إن السري إذا سرى فبنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما ويبين ذلك أن الأخلاق نتائج الأمزجة، ومزاج الأب كثيرًا ما يتأدى إلى الابن، كالألوان والخلق والصور، ومن أجل تأديها إليه، قال عليه الصلاة والسلام: " تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم وخضراء الدمن " قيل: يا رسول اللَّه وما خضراء الدمن، قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء ". وما ذكر في نحو قول أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: " الناس أبناء ما يحسنون " فهو حث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 للناس على اقتباس العلم، ونهي عن الاقتصار على مآثر الآباء، فإن المآثر الموروثة قليلة الغناء، سريعة الفناء، ما لم تضامَّها فضيلة النفس، لأن ذلك إنما يحمد لكي يوجد الفرع مثله. ومتى أخلف الفرع وتخلف فإنه يخبر بأحد شيئين: إما بتكذيب من يدعي الشرف لعنصره. وإما بتكذيبه في انتسابه إلى ذلك العنصر، وما فيهما حظ لمختار، فالمحمود أن يكون الأصل في الفضائل راسخًا، والفرع به شامخًا، كما قال الشاعر: زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن خصال ومن لم يجتمع له الأمران فلأن يكون المرء شريف النفس دني الأصل أولى من أن يكون دني النفس شريف الأصل، قال الشاعر: إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من الثمرات اعتده الناس في الحطب فما الحسب الموروث لا در دره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب ومن كان عنصره في الحقيقة سنيًّا وفي نفسه دنيًّا فذلك أتى إما من إهماله نفسه وسومها، وإما لتعوده عادات قبيحة، وصحبة أشرار، وغير ذلك من العوارض المفسدة للعناصر الكريمة، فليس سبب الرذيلة شيئا واحدًا. الفضائل الجسمية قد استهان قوم بذلك، وقالوا: كفى بالمرء أن يكون صحيح البدن بريئا من الأمراض الشاغلة عن تحري الفضائل العقلية، وليس كذلك، فالبدن للنفس بمنزلة الآلة للصانع، والسفينة للربان، اللتين بهما صار صانعًا وربانًا. وجميع أجزاء البدن بالقول المجمل أربعة: العظام التي تجري للبدن مجرى الألواح للسفينة. والعصب الذي يجري له مجرى الرباط الذي تشد به الألواح. واللحم الذي يجري له مجرى الحشو للرباطات. والجلد الذي يجري مجرى الغشاء لجميعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فإذا اعتدلت هذه الأربعة بأن يعتدل فيها الأربع القوى، وهي الجاذبة، والممسكة، والهاضمة، والدافعة سمي ذلك الصحة، ولولا صحة البدن لما حصل الانتفاع به. وأما القوة: فهي جودة تركيب هذه الأركان الأربعة، وهي العظام والعصب واللحم والجلد، وما يتبعها. وبها يصلح البدن للسعي والتصرف في أمور الدنيا والآخرة. وأما الجمال: فنوعان: أحدهما: امتداد القامة الذي يكون عن اعتدال الحرارة الغريزية، بأن الحرارة إذا حصلت دفعت أجزاء الجسم إلى العلو، كالنبات إذا نجم، كلما كان أطلب للعلو في منبته كان أشرف في جنسه. وللاعتبار بذلك استعمل في كل ما جاد في جنسه العالي والفائق، وكثر المدح بطول القامة نحو قول القائل: كأن زرود القبطرية علقت ... علائقها منه بجذع مقوم وقول آخر: أشيم طويل الساعدين كأنما ... نياط نجاد سيفه بلواء الثاني من الجمال: أن يكون مقدودًا قوي العصب، طويل الأطراف، ممتدها، رحب الذراع، غير مثقل باللحم والشحم كما قيل: فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائل ... ولا رهلًا لباته وبآدله ولا نعني بالجمال هاهنا ما يتعلق به شهوات الرجال والنساء، فذلك أنوثية، وإنما يعني به الهيئة التي لا تنبو الطباع عن النظر إليها، وهو أدل شيء على فضيلة النفس، لأن نورها إذا أشرق تأدى إلى البدن إشراقها. وكل شخص فله حكمان: أحدهما: من قبل جسمه وهو منظره، والآخر: من قبل نفسه وهو مخبره، فكثيرًا ما يتلازمان، ولذلك فزع أصحاب الفراسة في معرفة أحوال النفس أولًا إلى الهيئات البدنية حتى قال بعض الحكماء: قَلَّ صورة حسنة يتبعها نفس رديئة، فنقش الخواتيم مقروء من الطين، وطلاقة الوجه عنوان ما في النفس. وليس في الأرض قبيح إلا ووجهه أحسن ما فيه، وقال - صلى الله عليه وسلم - " اطلبوا الحاجات من حسان الوجوه "، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " إذا بعثتم رسولًا فاطلبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 حسن الوجه، حسن الاسم ". فالوجه والعين يظهر فيهما آثار النفس كالمرآة يستدل بها عليها، ولذلك يظهر فيهما أثر سرور النفس وحزنها، ورضاها وسخطها، ولذلك عبر بالوجه عن الجملة، وعن رئيس القوم، فقيل: فلان وجه القوم وعينهم، حتى قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) . وكون الوجه المقبول في دلالته على فضيلة النفس - وإن لم يكن حكمًا لازمًا - فهو على الأعم والأكثر. وحكي أن المأمون استعرض جيشًا فمر به رجل قبيح الوجه، فاستنطقه فرآه ألكن، فأمر بإسقاطه، وقال: إن الروح إذا كانت ظاهرة كانت صبَّاحة، وإذا كانت باطنة كانت فصَّاحة، وأراه لا ظاهر له ولا باطن. وكفاك من البيان في فضل كمال الجسم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وقال: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) . وأما طول العمر: فلولاه لقل حظ الإنسان من السعادات الدنيوية التي لولاها لما نيلت السعادة الأخروية، واللَّه ولي الفضل والإحسان وعليه المعول والتكلان. ما يتولد من الفضائل النفسية : أمهات الفضائل النفسية وإن كن أربعا، فلها بنات هن أمهات لفضائل أخر. وبيان ذلك أن العقل متى تقوى تولد من حسن نظره جودة الفكر، وجودة الذكر، ومن حسن فعله الفطنة وجزالة الرأي، وتولد من اجتماع أربعتها جودة الفهم، وجودة الحفظ. والشجاعة متى تقوت تولد منها الجود في حال النعمة، والصبر في حال المحنة، والصبر يزيل الجزع ويورث الشهامة المختصة بالرجولية، كما قيل. خلقنا رجالًا للتجلد والأسى ... وتلك الغواني للبكا والمآتم والعفة إذا تقوت ولدت القناعة، والقناعة تمنع عن الطمع في مال الغير فتولد الأمانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 والعدالة إذا تقوت تولد الرحمة، والرحمة هي الإشفاق من أن يفوت ذا حق حقه، فهي تولد الحلم، والحلم يقتضي العفو، والإنسانية والكرم يجمعان هذه الفضائل، وذلك أن الإنسانية هي الفضائل النفسية المختصة بالإنسان، وبقدر ما يكتسبه الإنسان يستحقها، وفيها تفاضل كثير كما تقدم في الفرق ما بين الإنسان والإنسان. فمنهم من قد ارتفع حتى لحق أفق الملك، فلو تصورنا ملكًا جسميا لكان إيَّاه، لارتفاعه عن الإنسانية إلا بالصورة التخطيطية، وعلى هذا قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) . ومنهم من اتضع حاله حتى صار في أفق البهائم، فلو تصورنا كلبًا أو حمارًا منتصب القامة متكلمًا لكان هو إيَّاه، لانسلاخه من الإنسانية إلا بالصورة التخطيطة، وعلى هذا قوله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . ومنهم من هو في أواسط هذين، في درجة من درجات لها كثيرة، ولهذا صح أن يقال: فلان أكثر إنسانيَّة من فلان. وما يختص به لفظ الإنسانية فهو الأفعال والأخلاق المحمودة، وأما المذمومات من الأخلاق فتشارك الإنسان فيها البهائم والشياطين. وأما المروءة: فلها اشتقاقان: ففي أحدهما: يقتضي أن تكون هي والإنسانية متقاربتين، وهو أن يجعل من قولهم: تمرأ الصعام، وأمرأه إذا تخصص المريء لموافقته الطبع، وكأنها اسم للأخلاق والأفعال التي تقبلها النفوس السليمة فعلى هذا تكون اسمًا للأفعال المستحسنة كالإنسانية. والثاني: أن تكون من المرء فتجعل اسمًا للمحاسن التي يختص بها الرجل دون المرأة فتكون كالرجولية، وذلك أخص من الإنسانية، إذ الإنسانية يشترك فيها الرجال والنساء، والمروءة أخص، فكثير مما يكون فضيلة للمرأة يكون رذيلة للرجل، كالبله والخفر والبخل والجبن، ولهذا قيل: أفضل أخلاق الرجال أرذل أخلاق النساء. فالكيس والشجاعة والجود رذيلة لهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقيل لمعاوية - رحمه الله -: ما المروءة، فقال: إطعام الطعام، وضرب الهام، وقيل للأحنف فقال: أن لا يفعل في السر ما يستحي منه في العلانية، وقيل لآخر فقال: جماعها في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . وأما الكرم: فاسم لجميع الأخلاق والأفعال المحمودة إذا ظهرت بالفعل، والحرية مثله، لكن يقال ذلك فيمن لا تستعبده المطامع والأغراض الدنيوية. وذكر بعض الحكماء أن الحرية تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة، (والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة) ، كمن ينفق مالًا في تجهيز جيش في سبيل اللَّه تعالى، أو تحمل حمالة يرفأ بها دماء قبيلة. فكل كرم حريةً، وليس كل حرية كرمًا، وأيضًا فالحرية تتعلق بالتلطف عن الأخذ أكثر، والكرم يتعلق بالإنفاق أكثر، ويضاد الكرم اللؤم، والحرية العبودية، أعني الذكورة في قول الشاعر: والعبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئًا إلا إذا رهبا وكما أن الكرم أعم من الجود فاللؤم أعم من البخل، ولا يدخل في الحرية والكرم النساء، لأنهن مستخدمات، بل مستعبدات، ولذلك روي: " لو أمر اللَّه مخلوقًا بعبادة مخلوق لأمر النساء بعبادة أزواجهن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فإن قيل: ما حقيقة قول اللَّه تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) قيل: لما كان الكرم اسمًا للأفعال المحمودة التي تقدم ذكرها، وهذه الأفعال إنما تكون فاضلة إذا كان فعلها عن علم، وقصد بها أشرف الوجوه، أي وجه اللَّه تعالى، وذلك هو التقوى، فليس التقوى إلا العلم وتحري الأفعال المحمودة، فإذًا كل من كان أتقى كان أكرم. والعزيز: الذي يأبى تحمل المذلة، واشتقاقه من العزاز بالفتح الأرض الصلبة، كالمتظلف في الامتناع من تناول الشهوات المذلة، وأصله من الظلف أي الأرض الصلبة. وقد فرق بعض الحكماء بين الكريم والعزيز فقال: الكريم يأبى أن يعصى له، والعزيز يأبى أن يعصى عليه. والظرف: اسم لحالة تجمع عامة الفضائل النفسية والبدنية والخارجية تشبيهًا بالظرف الذي هو الوعاء، ولذلك قال أعرابي: فلان حاضن الشرف ومقر الفضل، ولكونه واقعًا على ذلك قيل لمن حصل له علم وشجاعة ظريف، ولمن حسن لباسه وأثاثه ورياشه ظريف، فالظرف أعم من الحرية والكرم. وأما الفتوة: فكالمروءة، فإنها اسم لما يختص به الفتى من الفضائل الإنسانية، لكن هي بالرجولية أشبه، وقد استعارت الصوفية لفظ الفتوة للتصوف، لكونها مشاركة له في جميع أفعالها إلا في الغرض، فإن غرض الفتيان استجلاب محمدة الأقران، وغرض المتصوفة استجلاب محمدة الرحمن، بل مجرد مرضاته تعالى. وأما الحسب: فقد يقال فيما يختص الإنسان به، فيعده من مآثره، وقد يقال فيما يؤثر عن آبائه، والشرف نحوه لكن أكثر ما يقال فيما يؤثر عن الآباء. في الفضائل التوفيقية : التوفيق: موافقة إرادة الإنسان وفعله قضاء اللَّه سبحانه وقدره، وهو وإن كان في الأصل موضوعًا على وجه يصح استعماله في السعادة والشقاوة فقد صار متعارفًا في السعادة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 والاتفاق: مطاوعة التوفيق، لكن قد يستعمل في السعادة والشقاوة جميعا، فيقال: اتفاق جيد، واتفاق رديء. والتوفيق: مما لا يستغني الإنسان عنه في كل حال، كما قيل لحكيم: ما الذي لا يستغني عنه أحد في كل حال، فقال: التوفيق، وأنشد: إذا لم يكن عون من اللَّه للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده فالسعادة التوفيقية هي الهداية، والرشد، والتسديد، والتأييد. فيجب أن يعلم أن لا سبيل لأحد إلى شيء من الفضائل إلا بهداية اللَّه تعالى ورحمته، فهو مبدأ الخيرات ومنتهاها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) وخاطب الناس فقال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله "، أي: بهدايته. قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه، فقال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته وهدايته "، تنبيهًا أنه لو توهمت رحمته مرتفعة ابتداءً وانتهاءً ما كان لنا سبيل إلى ذلك. وللهداية ثلاث منازل في الدنيا: الأول: تعريف طريق الخير والشر المشار إليهما بقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) وقد خوَّل اللَّه تعالى الهدى كل مكلف، بعضه بالعقل، وبعضه بألسنة الرسل، وإياه عني بقوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) . والثاني: ما يمد به العبد حالا فحالًا بحسب استزادته من العلم والعمل الصالح، وإياه عني بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) . والثالث: نور الولاية التي هي في أفق نور النبوة، وإياه عني بقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) فأضاف ذلك إلى لفظ اللَّه تعظيما له،. ثم قال: (هُوَ الْهُدَى) فجعله الهدى المطلق (وعناه) بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) أي نورًا تفرقون به بين الحق والباطل، وكل ذلك يسمى النور والحياة نحو: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) . وقال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بتحري هذه المنازل الثلاث يتوصل إلى الهداية للجنة الذكورة في قوله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) . والرشد: عناية إلهية تعين الإنسان عند توجهه في أموره فتقويه على ما فيه صلاحه وتُفتره عما فيه فساده، وأكثر ما يكون ذلك من الباطن نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) وكثيرًا ما يكون ذلك بتقوية العزم أو بفسخه وإليه توجه قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) . والتسديد: أن يُقوم إرادته وحركاته نحو الغرض المطلوب، لتهجم عليه في أسرع مدة يمكن الوصول فيها إليه، وهو المسؤول بقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . والنصرة من اللَّه تعالى معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدي إلى إصلاحهم عاجلًا وآجلا، وذلك يكون تارة من خارج كمن يقيضه اللَّه تعالى فيعينه، وتارة من داخل بأن يقوي قلوب الأولياء أو يلقي رعبًا في قلوب الأعداء، وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) وقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) . وأما ما يختص بسعادة الدنيا ولا يعتبر فيه العاقبة فيقال له: الدولة والدول، وعلى هذا قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) . وقوله في وصف الفيء: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) . والتأييد: تقوية أمره من داخل بالبصيرة، ومن خارج بقوة البطش، ومن الأول قوله تعالى: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) . والعصمة: فضل إلهي يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر حتى يصير كمانع له من باطنه، وإن لم يكن منعًا محسوسًا، وإيَّاه عني بقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) . وقد روي أن يوسف رأى صورة يعقوب - صلى الله عليه وسلم - وهو عاضٌّ على إبهامه، فأحجم (1) ، وليس ذلك ينافي التكليف كما تصوره بعض المتكلمين، فإن ذلك كان تصوَّرًا منه وتذكرًا لما كان قد حذره منه، وعلى هذا قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) ومن عصمته تعالى أنه يكرر الوعيد   (1) من الإسرائيليات المنكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 على من يريد عصمته لئلا يغفل ساعة عن مراعاة نفسه، كقوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) . واعلما أن رشده تعالى للعبد، وتسديده، ونصرته، وعصمته، تكون بما يخوله من الفهم الثاقب، والسمع الواعي، والقلب المراعي، وتقييض المعلم الناصح له، والرفيق الموافق، وإمداده من المال بما لا تقعد به عن مغزاه قلته، ولا تشغل عنه كثرته، ومن العشيرة والعز ما يصونه عن سفه السفهاء، وعن الغض منه من جهلة الأغنياء، وأن يخوله من كبر الهمة، وقوة االعزيمة ما يحفظه عن التشوق للدنية، والتأخر عن بلوغ كل منزلة سنية. في تلازم الفضائل النفسية بعضها بعضًا العقل والشجاعة والعفة والجود والعدالة وسائر الفضائل تتلازم، فإن العقل إذا أشرق عقل صاحبه عن الإقدام على ما يورثه مذمة، ويحمله على الإقدام على المخاوف التي تورثه محمدة، وعلى أن يسمح بفضل ما في يده لمن يحتاج إليه، وأن يبذل لكل ذي حق حقه، وذلك هو العفة، والشجاعة، والجود، والعدالة. وكذلك إذا كان عدلًا يحمله عدله على ترك ما ليس له مما لا يجوز له تناوله. وأن لا يحجم عما يلزمه الإقدام عليه، وأن لا يبخل بفضل ما في يده. وإذا كان شجاعًا لا تقهره شهوته على تناول ما لا يجوز له تناوله، وعلى ظلم غيره، ولا يخاف الفقر فيبخل، ولهذا النظر جعل بعض الشعراء الشجاعة سماحة، والسماحة شجاعة، فقال أبو تمام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أيقنت أن من السماح شجاعة ترمي ... وأن من الشجاعة جودَا وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الشهوة جهادًا فقال: " جهادك هواك " وجعلت العفة جودًا فقيل: الجود جودان: جود بما في يدك، وجود عما في يد غيرك، وهو أعظمهما. وهذه الفضائل إذا حصلت حصل بها الإنسانية والحرية والكرم، وعنها يتأصل الإسلام، والإيمان، والتقوى، والإخلاص. البواعث على فعل الخير وتحري الفضائل البواعث على فعل الخيرات الدنيوية ثلاثة: أدناها: الترغيب والترهيب ممن يرجى نفعه ويخشى ضره. والثاني: رجاء الحمد وخوف الذم ممن يعتد بحمده وذمه. والثالث: تحري الخير وطلب الفضيلة. فالأول: من مقتضى الشهوة وذلك من فعل العامة، والثاني: من مقتضى الحياء وهو من فعل السلاطين وكبار أبناء الدنيا، والثالث: من مقتضى العقل، وذلك من فعل الحكماء. ولهذه المنازل الثلاث قيل: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه، فإن لم يكن فخوف يقمعه، فإن لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد. وكذلك البواعث على الخيرات الأخروية ثلاثة: الأول: الرغبة في ثواب اللَّه تعالى والمخافة من عقابه، وذلك منزلة العامة. الثاني: رجاء حمده ومخافة ذمه، وذلك منزلة الصالحين. والثالث: طلب مرضات اللَّه تعالى فىِ المتحريات، وذلك منزلة النبيين، والصديقين، والشهداء، وهي أعزها وجودًا، ولذلك قال بعضهم: أفضل ما يتقرب به العبد إلى اللَّه تعالى أن يعلم أنه لا يريد العبد من الدنيا والآخرة غيره، قال الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وقيل لرابعة: ألا تسألين اللَّه في دعائك الجنة، فقالت: الجار قبل الدار. وبهذا النظر قال بعضهم: من عبد اللَّه بعوض فهو لئيم. وقال بعض العلماء: هذه المنازل الثلاث منازل الظالم والمقتصد والسابق، وأجدر أن تكون هذه منازل هؤلاء الثلاثة لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء "، وقد قال بعض العلماء: مساءلة العلماء ترغبك من اللَّه في ثوابه، وتخوفك من عقابه، ومخالطة الحكماء تقربك من الحمد وتبعدك عن الذم، ومجالسة الكبراء تزهدك فيما عدا فضل الباري. الموانع من تحري الفضائل وذلك ضربان: قصور، وتقصير. فأا القصور: فبأن لا يكون له المعانىِ العشرة التي قدمناها، ولا التمكن من اكتسابها، أو يكون له ذلك ولكن يعوقه عن استعماله عائق من مرض أو شغل ضروري يعذره، كحاجته إلى السعي فيما يسد به جوعته، ويستر به عورته، وهما عدم الوسع المذكور في قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ودواء الأمرين الفزع إلى اللَّه والتضرع إليه أن يجبر نقصه بتمام جوده وسعة رحمته. وأما التقصير: فأربعة أشياء: الأول: أن يكون إنسان لا يعرف الحق من الباطل، ولا الجميل من القبيح فبقي غفلًا، ودواءه سهل وهو التعليم الصائب. والثاني: أن يكون قد عرف ذلك لكن لم يتعود فعل الصالح، وزين له سوء عمله فرآه حسنًا، فتعاطاه، وأمره أصعب من الأول، لكن يمكن أن يقهر على العادة الجميلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 حتى يتعودها وإن كان قد قيل: ترك العادة شديد. والثالث: أن يعتقد في الباطل والقبيح أنه حق وجميل وتربى على ذلك، ومداواة هذا أصعب جدًّا، فقد صار ممن طبع على قلبه، إذ قد تنقش بنقش خسيس ككاغد كتب فيه ما يؤدي حذفه منه إلى خرقه وفساده. والرابع: أن يكون مع جهله وتربيته على الاعتقاد الفاسد شريرًا في نفسه يرى الخلاعة وقهر الناس فضيلة، وذلك أصعب الوجوه، وإلى نحوه قصد من قال: من التعذيب تأديب الذئب ليتهذب، وغسل المسح ليبيض. فالأول من هؤلاء الأربعة يقال له: الجاهل، والثاني يقال له: جاهل وضال، والثالث يقال له: جاهل وضال وفاسق، والرابع يقال له: جاهل وضال وفاسق وشرير. الارتقاء في درجات الفضائل والانحدار عنها إلى أقصى الرذائل للإنسان في منازل الفضائل مرتقى صعب ومنحدر سهل، وعلى الارتقاء فيها حث ربنا تبارك وتعالى بقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) وبقوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ومدح قومًا بقوله: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وعن الانحدار منها نهى بقوله تعالى: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) وبقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) وذم قومًا شأنهم ذلك بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) وبقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) وبقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) فإن الآية تقتضي هذا المعنى وإن كان ظاهرها يدل على الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الذي يورثه الهرم. فالخيرات يترقى فيها فيبلغ إلى أشرف المنازل بأربع درجات، وينحدر عنها فيبلغ إلى أرذل المنازل بأربع درجات. فأما درجات الارتقاء: فأولاها: أن يرتدع الإنسان عن المآثم ويهجرها، ويندم عليها، ويعزم على ترك معاودتها، وذلك أول درجة التائبين المطعين لله ورسوله. وثانيها: أن يقوم بالعبادات الموظفة عليه، ويسارع فيها بقدر وسعه، وذلك درجة الصالحين. وثالثها: أن يتحرى بعلمه الحقيقي تعاطي الحسنات من غير تلفتٍ منه إلى المحظورات بمجاهدة هواه، وإماتة شهواته، وذلك منزلة الشهداء. ورابعها: أن يكون مع هذه الأحوال المتقدمة يرضى ظاهرًا وباطنًا بقضاء اللَّه وقدره فلا يتزعزع تحت حكمه، ولا يتسخط شيئًا من أمره، ويعلم أن اللًه تعالى أولى به من نفسه، وذلك درجة الصديقين. وهذه المنازل الأربع هي المراد بقوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) . وأجدر أن تكون هذه المنازل الأربع هي المأمور بها فىِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) . واعلم أن منزلة الرضا أشرف المنازل بعد النبوة، فمن رضي عن اللَّه فقد رضي اللَّه عنه " لقولى تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) فجعل أحد الرضائين مقرونًا بالآخر، فمن بلغ هذه المنازل فقد عرف خساسة الدنيا، واطلع على جنة المأوى، وخطب مودة الملأ الأعلى، وحظى بتحيتهم المعنية بقوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وأما درجات الانحدار والارتداد عنها: فأولاها: الكسل عن تحري الخيرات، ويورثه ذلك الزيغ المعني بقوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) . وثانيها: الغباوة: وهي ترك النظر، وبغض العمل، فيورثه ذلك رينًا على قلبه، وهو المعني بقوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) . وثالثها: الوقاحة وهي أن يرتكب الباطل ويراه في صورة الحق ويذب عنه، فيورثه ذلك قساوة القلب، كما قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) . ورابعها: الانهماك في الباطل وهو أن يستحسنه فيحبه، ويُحسِّنه ويحببه إلى غيره فيورثه ذلك ختمًا على قلبه، وإقفالًا عليه. كما قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) وقال: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) . فالكسل سبب الغباوة، والغباوة سبب الوقاحة، والوقاحة سبب الانهماك في الباطل، كما أن الزيغ يوجب الرين، والرين يوجب القساوة، والقساوة توجب الختم والإقفال. فحق الإنسان أن يراعي نفسه في الابتداء، ولا يترخص في ارتكاب الصغائر فيؤديه ذلك إلى ارتكاب الكبائر. كما قيل: إن الأمور دقيقها ... مما يهيج به العظيم وقد قال اللَّه تعالى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) فدل أن قعودهم أول مرة أدى بهم إلى أن صار محكومَا عليهم أنه لا يتأتى منهم الخروج معه - صلى الله عليه وسلم - بوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في بيان عادة الله تعالى في تهذيب الذين تردُّوا في الرذائل حتى فسدت أخلاقهم الناس متى تركوا تعاطي الإحسان والأفضال وتحري العدالة فيما يينهم، فلا يأتونها لا خلقًا ولا تخلقًا، ولا رياءً ولا سمعة، ولا رغبةً ولا رهبةً، فصاروا في تعاطي الشر سواسية كأسنان الحمار (، عدمت فيهم الفضيلة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لن يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا ". فحينئذ إن بقي في نفوسهم أثر قبول الخير أنشأ اللَّه فيهم من يهديهم باللسان والسيف المحق كبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرب لما بقي فيهم من أثر الخير من تعظيم الشهر الحرام، والبيت الحرام، والوفاء بالذمام. وإن قلَّ فيهم أثر قبول الخير سلط الله عليهم سيفًا جائرًا كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ اللَّه ينتصف من أوليائه بأوليائه ومن أعدائه بأعدائه "، وعاملهم بما عامل به بني إسرائيل حيث سلط عليهم بختنصر، وقد ذكر ذلك في قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) . وإن عدم منهم أثر القبول بعث عليهم عذابًا يفنيهم، إما طوفانًا أو صيحة أو نارًا محرقة أو ريحًا فيها عذاب أليم، أو الجراد والقمل والضفادع والدم؛ ليطهر منهم البلاد، ويريح منهم العباد، كما صنع اللَّه تعالى بعاد، وثمود، وقوم نوح، وقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لوط، وذلك كالأرض إذا استولى عليها الشوك والدغل فلا بد من نسفها، وتسليط النار عليها حتى تعود بيضاء. أصناف الناس الناس ضربان: خاص، وعام. فالخاص: من قد تخصص من العارف بالحقائق دون التقليدات ومن الأعمال بما يتبلغ به إلى جنة المأوى، دون ما يقتصر به على الحياة الدنيا. والعام: إذا اعتبر بذلك فالذين يرضون من العارف بالتقليدات، ومن أكثر الأعمال بما يؤدي إلى منفعة دنيوية. وإذا اعتبرنا بأمور الدنيا: فالخاص: من يتخصص من البلد بما ينخرم بافتقاده إحدى السياسات المدنية، والعام: من لا ينخرم بافتقاده شيء منها. وهم من وجه آخر ثلاثة: خاصة، وعامة، وأوسطهم المسمَّون في كلام العرب بالسوقة. فالخاص: هو الذي يسوس ولا يساس، والعام: الذي يساس ولا يسوس، والوسط: الذي يسوسه من فوقه، وهو يسوس من دونه. ومن جهة أخرى ثلاثة أضرب: أصحاب الشهوات: وهمهم الجدة واليسار والأكل والشرب والبِغال. وأصحاب الكرامة والرياسة: وهمهم المدح واجتلاب المحمدة والصيت. وأصحاب الحكمة: وكل واحد منهم يستعظم من هو من جنسه، ولهذا احتاج السلطان أن يتخصص بكل ذلك ويستبد به ليكون معظماً، عند كل ضرب من الناس، فيعظمه أصحاب الحكمة لحكمته، وأصحاب الكرامة لكرامته، والرياسة لرئاسته، وأصحاب الشهوات لماله وكثرة قيناته. ومن وجه آخر ثلاثة أضرب: ملكي، وشيطاني، وإنسي. فالملكي: الذي يستعمل القوة العاقلة بقدر جهده وهم المؤمنون حقًّا، والشيطاني: هو الذي يستعمل القوة الشهوية من غير تلفت إلى مقتضى العقل، والإنسي: الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهم المذكورون في قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وهم المؤمن والفاسق والكافر، وهم المذكورون في قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) . ومن وجه آخر: مصطفي، ومسترذل. والمصطفي: الأبرار، وهم ثلاثة أضرب: ظالم ومقتصد وسابق. وهم المذكورون فى قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) . وهم أيضًا - أعني الأبرار - ثلاثة أضرب: أنبياء: للمشاهدة والهداية لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) . وحكماء: وهم الأولياء للمراقبة والرعاية لقوله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) . وعوام: للمجاهدة والكفاية وهم المذكورون في قوله تعالى: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) . وهم أيضًا ضربان: عبد بالطبع، وإن كان ملكًا، وملك بالطبع، وإن كان عبدًا مسترقًا، والملك من فضل بالفضائل النفسية التي بها يصير الإنسان بحيث يصح أن يوصف بأنه ربَّاني وإلهي وملكي، ويصلح أن يكون خليفة الله في أرضه. والعبد من قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس فلا انتقش، وإذا شيك فلا انتقش ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال بعض الحكماء: ما من إنسان إلا وفيه خلق من أخلاق بعض الحيوانات وبعض النبات، ليكون الإنسان مشاركًا لها في الجنسية، وإن كان مباينًا لهما في النوعية، فمن الناس غشوم كالأسد، وعابث كالذئب، وخب كالثعلب، وشره كالخنزير، وخاضع كالكلب، وجامع كالنمل، ووقح كالذباب، وبليد كالحمار، وألوف كطير الوفا، وصنع كالسرقة، وأنف كالأسد والنمر، وغيور كالديك، وهادل كالحمام. ومنهم حسن المنظر والخبر كالأترج، ومنهم بخلاف ذلك كالعفص والبلوط، ومنهم قبيح المنظر وحسن المخبر كالجوز واللوز، ومنهم حسن المنظر قبيح الخبر كالحنظل والدفلى. والمؤمن الخير هو فىِ الحيوانات كالنحل يأخذ أطياب الأشجار فلا يقطف ثمرًا، ولا يكسر شجرًا، ولا يؤذي بشرًا. ثم يعطي الناس ما يكثر نفعه، ويحلو طعمه، ويطيب ريحه، وفي الأشجار هو كالأترج يطيب حملًا، ونورًا، وعودًا، وورقًا، ورائحة وطعما. والمنافق والشرير هو في الحيوانات كالقمل والأرضة، وفي الأشجار كالكشوت، مثل الكشوت فلا أصل ولا ورق، ولا نسيم ولا ظل ولا زهر، يفسد الثمار، وييبس الأشجار، وكالثمرة التي قل ورقها وكثر شوكها، وصعب مرتقاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الفصل الثاني في العقل والعلم والنطق وما يتعلق بها وما يضادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فضيلة العقل العقل أول جوهر أوجده اللَّه تعالى، وأشرفه، بدلالة ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت اكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب ". ولو كان على ما توهمه قوم أنه عرض لما صح أن يكون أول مخلوق، لأنه محال وجود شيء من الأعراض قبل وجود جوهر يحمله، وقال عليه الصلاة والسلام: " لا دين لمن لا عقل له، لا يعجبنكم إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله ". ومن هذا الوجه الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت الحكماء: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه. وبالعقل صار الإنسان خليفة اللَّه، ولو توهم مرتفعًا لارتفعت الفضائل عن العالم فضلا عن الإنسان. وبما غرسه اللَّه تعالى منه في الإنسان اهتدى من وفقه اللَّه تعالى إلى تزكية نفسه المذكورة في قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) وحصل به حرث الآخرة المذكورة في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) وثمرة حرث الآخرة على التفصيل سبعة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، وعلم بلا جهل، وغنًى بلا فقر، وأمن بلا خوف، وراحة بلا شغل، وعز بلا ذل. وإلى العقل أشار بقوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) . فمعنى نور السموات والأرض أي منور السموات والأرض، والنور هو العقل، وقد تقدم وجه ضرب هذا المثل. والعقل يقال على ضربين: أحدهما: بغير إضافة وهو المذكور بأنه أول مخلوق، والثاني: بالإضافة إلى آحاد الناس، فيقال: عقل فلان. وهو من الأول بمنزلة الضوء من الشمس. أنواع العقل العقل عقلان: غريزي، وهو القوة المتهيئة لقبول العلوم، ووجوده في الطفل كوجود النخلة في النواة، والسنبلة في الحبة. ومستفاد: وهو الذي تتقوى به تلك القوة، وهذا المستفاد ضربان: ضرب يحصل للإنسان حالًا فحالًا بلا اختيار منه فلا يعرف كيف حصَّله ومن أين حصَّله. وضرب باختيار منه فيعرف كيف حصله ومن أين حصَّله وحصوله بقدر اجتهاده في تحصيله. ولكون العقل غريزيًّا ومستفادًا. قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: " العقل عقلان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع " كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع، وإلى الأول أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ما خلق اللَّه تعالى خلقًا أكرم عليه من العقل "، وإلى الثاني أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأبواب البر، فتقرب إليه أنت بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفى عند اللَّه والناس في الدنيا والآخرة " وقال: " ما اكتسب أحد شيئًا أفضل من عقل يهديه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 هدى أو يرده عن ردى ". ولاختلاف النظرين قال قوم: العقل مبدع، وقال قوم: هو مكتسب، وكلا القولين صحيح من وجه ووجه. والعقل الغريزي للنفس بمنزلة البصر للجسد، والمستفاد لها بمنزلة النور، وكما أن البدن متى لم يكن له بصر فهو أعمى، كذلك النفس متى لم يكن لها بصيرة، أي العقل الغريزي فهي عمياء، وكما أن البدن متى لم يكن له نور من الجو لم يفد بصره، كذلك النفس متى لم يكن لها نور من العلم مستفاد لم تجد بصيرتها، ولذلك قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . وقد جعل للعقل نظر وإدراك ورؤية وإبصار، وجعل له أضداده من العمى وغيره، قال اللَّه تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) وقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) وقال: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. ولما كان فقدان البصيرة أشنع من فقدان البصر - لأن بارتفاع البصيرة ارتفاع النفع بالبصر - قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) فذمهم بفقدان البصيرة تنبيهًا أن فقدانها اختياري، إذ هو بتركهم استفادة العلم، وأن أكثر فقدان البصر ضروري، وقال تعالى: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) فلولا أن العين أريد بها البصيرة لما قال: (عَنْ ذِكْرِي) " لأن الذكر لا يدرك بحاسة العين. وقال ابن عباس - رضي الله عنها - لمن عيَّره بفقدان البصر: "إنا نصاب في أبصارنا وأنتم تصابون في بصائركم" وكيف لا يكون فقدان البصيرة أعظم ضررًا من فقدان البصر، وقد تقدم أن البدن بمنزلة فرس والنفس بمنزلة راكبه، وضرر عمى الراكب نفسه أشد عليه من ضرر عمى فرسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المكتسب من العقل الدنيوي والأخروي العقل المكتسب ضربان: أحدهما: التجارب الدنيوية والمعارف الكسبية. والثاني: العلوم الأخروية والمعارف الإلهية. وطريقهما متنافيان، وقد ضرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - لذلك ثلاثة أمثلة فقال: " إن مثل الدنيا والآخرة ككفتي الميزان لا ترجح إحداهما إلا بنقصان الأخرى، وكالمشرق والمغرب كل من قرب من أحدهما بعد عن الآخر، وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى "، ولذلك نرى أقوامًا أكياسًا في تدبير الدنيا وسياستها بلهاء في تدبير أمور الآخرة، وقومًا بلهاء في أمور الدنيا أكياسًا في أمور الآخرة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ". وقال لمن نسب بعض الصالحين إلى بعض البله: " أكثر أهل الجنة البله ". ولاختلاف طريقهما قال الحسن - رحمه الله -: " لقد أدركنا أقوامًا لو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوكم لقالوا: شياطين ". ولقلة الاعتداد بالمعارف الدنيوية قال رجل لمن وصف نصرانيا بالعقل: مه، إنما العاقل من وحَّد اللَّه تعالى وعمل بطاعته، وقال تعالى حكاية عن أهل النار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) . ومن تصور اختلاف الطريقين - أعني طريق الدنيا وطريق الآخرة - لم تعرض له الشبهة التي عرضت لقوم قالوا: لو أن هاهنا حقا لما جهله الذين لم يلحق شأوهم في تدبير الدنيا ودقائق الصناعات وواضعو الحكم والسياسات، وذلك أنه كما أن من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما لا يوجد إلا في المغرب، أو يظفر سالك طريق الغرب بما لا يوجد إلا في الشرق، كذلك من المحال أن يظفر سالك طريق معارف الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بمعارف طريق الآخرة، وقد نبَّه اللَّه تعالى على ذلك بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) وبقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . ولا يكاد يجمع ين طريق معرفة الدنيا والآخرة معًا على التحقيق والتصديق إلا من رشحهم الله تعالى لتهذيب الناس في أمر معاشهم ومعادهم جميعًا، كالأنبياء وبعض الحكماء. ولما كان العقل هو الذي يردع الإنسان عن الذنب، واكتسابه على التمام والكمال في الورى عسير، لم ينفك أحد من ذنب يرتكبه، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما منَّا نبي إلا أذنب أو هم " (1) . منازل العقل واختلاف أساميها بحسبها العقل: اسم عام لا يكون بالقوة وبالفعل، ولا يكون غريزيا ومكتسبًا، وهو في اللغة عبارة عن قيد البعير لئلا يند، وسمي هذا الجوهر به تشبيهًا على عادتهم في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات، وخص بناء المصدر به لما كان يستعمل مرة للحدث، ومرة للفاعل، نحو عدل، وصوم، وزور، ومرة للمفعول نحو خلق وأمر. لكن يتصور منه كونه سببًا لتقيد الإنسان به، وكونه مقيدًا له عن تعاطي ما لا يجمل، وكونه مقيدا به من بين الحيوان. والنُّهى: في الأصل جمع نُهْيَة أو اسم مفرد نحو جُعَل ومُرد، أو وصف نحو دليل خضع وسائق حُطَم وجعل اسمًا للعقل الذي انتهى من المحسوسات إلى معرفة ما فيه من المعقولات، ولهذا أجبل أربابه على تدبر معاني المحسوسات في نحو قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) وقال: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) . والحجر: أصله من الحجر، أي: المنع وهو اسم لا يلزمه الإنسان من حظر الشرع   (1) ليس بحديث، لم أجده في مظانه، ولذا ييقى هذا كلاما حتى يثبت عند أهل الحديث قول فيه؛ لأن الراغب ليس بمحدث، ونستغربه على الراغب، لأنه يتصادم مع عصمة الأنبياء وفطنتهم وحفظ الله لهم بالبرهان كما تقدم في أمر يوسف عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 والدخول في أحكامه، وعلى ذلك قوله تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) وسمي حجًّا من حجاه، أي قطعه، ومنه الأحجية، فكأنه سمي بذلك لكونه قاطعًا للإنسان عما يقبح. ْوأما اللُّبُّ: فهو الذي قد خلص من عوارض الشَّبه، وترشح لاستفادة الحقائق من دون الفزع إلى الحواس، ولذلك علق اللَّه تعالى في كل موضع ذكره بحقائق المعقولات دون الأمور المحسوسة، نحو قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) فوصفهم بهداية اللَّه إيَّاهم. وقد سمى اللَّه تعالى العلم نورًا والجهل ظلمة فقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) . وسماه روحًا في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وسماه حياة والجهل موتًا في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) وقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) وسماه ماءً بقوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا. والإيمان زبدة العقل والعمل، ولذلك قال في مواضع: (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) فعلق به ما علق بهما، وسمى العقل قلبًا، وذلك أنه لما كان القلب مبدأ تأثير الروحانيات والفضائل سميت به، ولذلك عظم الله تعالى أمره لاختصاصه بما قد أوجد لأجله وقال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وقال: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) فنبه أن القلب إنما يكون في الحقيقة قلبًا إذا كان متخصصًا بما قد أوجد لأجله، وما أوجد لأجله هو المعارف الحقيقية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن في البدن مضغة إذا صلحت صلح لها سائر البدن، وإذا فسدت فسد لها سائر البدن، ألا وهي القلب " ولما كان أشرف المعارف هو ما يتخصص به القلب قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) فخصه بالذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 جلالة العقل وشرف العلم العقل حيث ما وجد يكون محتشمًا حتى إن الحيوان إذا رأى إنسانًا احتشمه بعض الاحتشام، وانزجر به بعض الانزجار، ولذلك تنقاد الإبل للراعي، وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا منهم من كان أوفر عقلًا أغزر فضلًا فيما هم بصدده انقادوا له طوعا. وكذلك العلماء إذا لم يعاندوا انقادوا ضرورة لأكثرهم علمًا، وأفضلهم نفسًا، وأوفرهم عقلا، ولا ينكر فضله إلا كل متدنس بالمعايب، متطلب لرئاسة، محافظ على غرض دنيوي، قد جعل عقله خادمًا لشهوته، فلمحافظته على رئاسته ينكر فضل الفاضل. ولفضيلة العقل الوافر كان كثير ممن كانوا يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدوه ليقتلوه فما هو إلا أن وقع طرفهم عليه فتراءى لهم نور اللَّه تعالى معربًا عنه، فألقى في قلوبهم منه روعة، فهابوه، فمن مذعن له طائعًا، وخبيث لا ينكره بعد إلا جاحدا، ولهذا المعنى قال الشاعر: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تغنيك عن خبره وقد تقدم أن الإنسان لم يتميز عن الحيوان والبهائم إلا بالعقل، ولم يشرف إلا بالعلم، ومن شرف العلم أن كل حياة انفكت منه فهي غير معتد بها، بل ليست في حكم الموجودة، فإن الحياة الحيوانية لا تحصل ما لم يقارنها الإحساس فيلتذ بما يوافقه ويطلبه، ويتألم بما يخالفه فيهرب منه، وذلك أخس المعارف فمقتضى الحياة الإنسانية أنها إذا تعرَّت من المعارف المختصة بها أن لا يعتد بها، ولهذا سمى اللَّه تعالى الجاهل ميتًا في غير موضع من كتابه فقال: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ولأجل أن الحياة تقارن العلم سمى الله تعالى العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 روحًا في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) . وقد ذكرنا أن حاجة الإنسان إلى العلم أكثر من حاجته إلى المال، لأن العلم نافع لا محالة ونفعه دائم في الدنيا والآخرة، والمال قد ينفع وقد يضر، وإذا نفع فنفعه منقطع، فمن استفاد علمًا ثمَّ ضيعه أو تمكن من استفادته فأهمله فقد خسر خسرانًا مبينًا، كما قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) . الفرق بين العلم والعقل وبين العلم والمعرفة والدراية والحكمة العلم: إدراك الشيء بحقيقته، وهو ضربان: أحدهما: حصول صور المعلومات في النفس. والتاني: حكم النفس على الشيء بوجود شيء له هو موجود، أو نفي شيء عنه هو غير موجود له. نحو الحكم على زيد بأنه خارج أو ليس طائرًا، فالأول: هو الذي قد يسمَّى في الشرع وفي كلام الحكماء العقل المستفاد، وفي النحو المعرفة ويتعدى إلى مفعول، والثاني: هو الذي يسمى العلم دون العقل، ويتعدى إلى مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما من حيث إن القصد إذا قيل: علمت زيدا منطلقًا إثبات العلم بانطلاق زيد دون العلم بزيد. واعلم أن العقل والعلم بقياس أحدهما إلى الآخر على ثلاثة أوجه: أحدها: عقل ليس بعلم وهو العقل الغريزي. والثاني: علم ليس بعقل وهو المتعدي إلى المفعولين. والثالث: عقل هو علم وعلم هو عقل، وهو العقل المستفاد والعلم الذي يقال له: المعرفة، ولا يصح أن يتعدى العقل إلى مفعولين فيقال: عقلت زيدًا منطلقا كما يقال في " علمت " لكون العقل موضوعًا للعلم البسيط دون المركب، وسمي عقلًا من حيث إنه مانع لصاحبه أن تقع أفعاله على غير نظام، وسمي علمًا من حيث إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 علامة على الشيء وهذا إذا اعتبر حقيقته مما يتبين به شرف اللغة العربية. وأما الفرق بين العلم البسيط - أعني المتعدي إلى مفعول واحد - وبين المعرفة، فهو أن المعرفة قد تقال فيما تدرك آثاره وإن لم تدرك ذاته، والعلم لا يكاد يقال إلا فيما يدرك ذاته، ولهذا يقال: فلان يعرف اللَّه، ولا يقال: يعلم اللَّه، لما كانت معرفته تعالى ليست إلا بمعرفة آثاره دون معرفة ذاته، وأيضًا فالمعرفة تقال فيما لا يعرف إلا كونه موجودًا فقط، والعلم أصله أن يقال فيما يعلم وجوده، وجنسه وكيفيته وعلته، ولهذا يقال: اللَّه تعالى عالم بكذا ولا يقال: عارف به، لما كان العرفان يستعمل في العلم القاصر. وأيضًا: فالمعرفة تقال فيما يتوصل إليه بتفكر وتدبر، والعلم قد يقال في ذلك وفي غيره ويضاد العرفان والإنكار، والعلم والجهل. وأما الدراية: فالمعرفة المدركة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمة وإجالة الخاطر واستعمال الروية، وأصله من دريت الصيد، والذرية تقال لما يتعلم عليه الطعن، وللناقة التي يسيبها الصائد ليأنس الصيد بها فيرمي من ورائها، والمددي يقال لما يصلح به الشعر، ولقرن الشاة، ولا يصح أن يوصف بذللث الباري تعالى، لأن معنى الحيل لا يصح عَليه، ولم يرد بذلك سمع فيتبع، وقول الشاعر: اللهم لا أدري ... وأنت الداري فهو من تعجرف الأعراب الأجلاف وأما الحكمة: فاسم لكل علم حسن وعمل صالح، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالًا منه في العلم، وإن كان الفعل لا يكون محكمًا من دون العلم به، ومنها قيل: أحكم العمل إحكامًا، وحكم بكذا حكمًا. والحكمة من اللَّه تعالى إظهار الفضائل المعقولة المحسوسة، ومن العباد معرفة ذلك بقدر طاقة البشر، وقد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة على نظرات مختلفة، فقيل: هي معرفة الأشياء الموجودة بحقائقها، ويعني كليات الأشياء، فأما جزئياتها فلا سبيل للبشر إلى الإحاطة بها، وهذا الحد بحسب اعتبارها بالعلم. وقيل: هي إماتة الشهوات على ما يجب، وهذا الحد بحسب اعتبارها بالعمل فيما هو غاية المراد من الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقيل: هي الاقتداء بالخالق في السياسة بقدر طاقة البشر، وذلك بأن يجتهد أن ينزه عمله عن الجهل، وعدله عن الجور، وجوده عن البخل، وحلمه عن السفه، وبنحو هذا العقل يقرب العبد من خالقه سبحانه في الدنيا. ونسبة العلوم إلى الحكمة من وجه كنسبة الأعضاء إلى البدن في كونها أبعاضًا لها، ومن وجه كنسبة المرؤوسين إلى الرئيس في كونها مستولية عليها، ومن وجه كنسبة الأولاد إلى الأم في كونها مولدة لها ومي في معارف الشرع اسم للعلوم العقلية المدركة بالعقل، وقد أفرد ذكرها في عامة القرآن عن الكتاب، فجعل الكتاب اسمًا لما لا يدرك إلا من جهة النبوات، والحكمة لما يدرك من جهة العقل. وجعلا منزلين وإن كان إنزالهما من اللَّه تعالى. وقد يكونان مختلفين، وجمع بينهما في الذكر لحاجة كل واحد منهما إلى الآخر، فقد قيل: لولا الكتاب لأصبح العقل حائرًا، ولولا العقل لم ينتفع بالكتاب، وقيل: الكتاب بمنزلة اليد والحكمة بمنزلة الميزان ولا تعرف المقادير إلا بهما؛ ولذلك عبر عن الحكمة بالميزان في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) . ولا ييلغ الحكمةَ إلا أحدُ رجلين: إما مهذب في فهمه، موفق في فعله، ساعده معلم ناصح وكفاية وعمر. وإما إلهي، يصطفيه اللَّه فيفتح عليه أبواب الحكمة بفيض إلهي، ويلقي إليه مقاليد جوده، فيبلغه ذروة السعادة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العطم. توابع العقل العقل إذا أشرق في الإنسان يحصل عنه العلم والمعرفة والدراية والحكمة، وقد تقدم ذكرهن، ويحصل عنه أيضًا الذكاء، والذهن، والفهم، والفطنة، وجودة الخاطر، وجودة التوهم، والتخيل، والبديهة، والكيس، والخبر، وإصابة الظن، والفراسة، والزكانة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والكهانة، والعرافة، والإلهام، ودقة النظر، والرأي، والتدبر، وصحة الفكر، وسرعة الذكر، وجودة الحفظ، والبلاغة والفصاحة. فأما الذكاء: فالمضاء في الأمور وسرعة القطع بالحق، وأصله من ذكت النار، وذكت الريح، وشاة مذكاة، مدرك ذبحها بحدة السكين، وذكي الرجل إذا تم فيه قوة الذكاء، لكن لما كان أكثر ما يوجد ذلك فيمن تمت سنُّه صار يعبِّر به عن تمام السن، ومنه قيل: " جَري المُذكِّياتِ غِلَابُ ". وأما الذهن: فقريب من الذكاء، لكن يقال في إدراك ما وقع فيه التنازع. وأما الفطنة: فسرعة إدراك ما يقصد إشكاله؛ ولهذا يكثر استعمالها في استنباط الأحاجي والرموز. وأما الفهم: فمقدمة العقل، فمن لا يعرف معنى الشيء فهمًا لم يتحققه عقلًا، وقد سمي الفهم عقلًا، وإن كانت مرتبته دون مرتبة العقل، فقوة الفهم أن تدرك به الأشياء الجزئية والعقل يدرك كلياتها، ومعنى ذلك أن العقل يدرك أن العدالة حسنة، والظلم قبيح، والفهم يميز بين كل واحد من الفعل هل هو عدل أو جور. وقد يوصف بالفهم من لا يوصف بالعقل، كالحاذق في لعب الشطرنج، وكل من يوصف بالعقل فإنه يوصف بالفهم. فأما الخاطر: فحركة الفهم نحو الشيء، يقال: خطر الشيء ببالي ولا يقال: خطر بالي بالشيء، فتجوز أن يكون ذلك من المقلوب كقولهم: عيش ناصب، وقد قيل في قولهم: عقلت الشيء وأحسست أنه أيضًا من المقلوب، فالشيء هو المؤثر في الحاسة والعقل لا هما فيه. وأما الوهم: فانقياد النفس لقبول أثر ما يرد عليها من قولهم: حمل وهم وطريق وهم، والفرق بينه وبين الخاطر أن الخاطر يقال فيما لا تقبله النفس، والوهم لا يقال إلا فيما تقبله النفس. وأما الخيال: فنحو الوهم لكن يقال اعتبارًا بما يكون من جهة الحاسة وفيما له صورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ما، ومنه سمِّي الطيف الوارد من جهة المحبوب خيالًا، والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة، والطيف لا يقال إلا فيما كان حال النوم، ولهذا ينسب الطيف إلى الخيال لما كان ذلك من جوانبه. قال الشاعر: نم فا ما زارَكَ الخيال وَلـ ... كِنَّك بالفكر زرت طيف الخيال وأما البديهة: فمعرفة ثاقبه تجيء بلا فكر ولا قصد، فالبديه في المعرفة كالبديع في الفعل. وأما الرويَّة: فما كان من المعرفة بعد فكر كثير وهو من روي. وأما الكيس: فالقدرة على جودة استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير " ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت، وقول العرب: الكيس من الخيل، لتصورها بصورة الكيس، لأنها ذات كيس في الحقيقة، وكاس في مشيته، أي أظهر الكيس برفع إحدى رجليه. وتسميتهم الغادر: كيسان إما على طريق المجاز، أو تنبيهًا أن الغادر يعد ذلك كيسًا أو لأن كيسان في الأصل اسم الغادر ثم سمي كل غادر كيسان كتسميتهم كل حداد هالكية. وأما الخبر: فالمعرفة المتوصل إليها من قولهم خبرته، أي أصبت خبره، وقيل: هو من قولهم: ناقة خبيرة، وهي الخبرة عن غزارتها، أي غزيرة اللبن، فكأن الخبر هو غزارة المعرفة، ويجوز أن قولهم: ناقة خبيرة، أي: الخبرة عن غزارتها كقولهم: ناقة ناجرة. وأما الظن: فإصابة المطلوب بضرب من الأمارة، ولما كانت الأمارات مترددة بين يقين وشك، فتقرب تارة من طرف اليقين، وتارة من طرف الشك جاز تفسير أهل اللغة بهما، فمتى رؤي إلى طرف اليقين أقرب استعمل " أنَّ " المثقلة والمخففة منها نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) وقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ) ومتى رؤي إلى طرف الشك أقرب استعمل معه " أن " التي للمعدومين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 من الفعل، نحو ظننت أن تخرج وأن خرجت، وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) لأمرين: أحدهما: تنبيه أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم. والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين المعنيين بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا. والظن متى كان عن أمارة قوية فإنه يمدح به، ومتى كان عن تخمين لم يعتمد ذُم به حيث قال تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) . وأما الفراسة: فالاستدلال بهيئات الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه وفضائله ورذائله، وربما يقال: هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله، وقد نبَّه اللَّه تعالى على صدقها بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وقوله: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) وبقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) . ولفظها من قولهم فرس: السبع الشاة، فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه، وذلك ضرب من الإلهام، بل ضرب من الوحي، وإياه عني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن ينظر بنور الله "، وهو الذي يسمى صاحبه المروع والمحدث، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن في أمتي محدث فهو عمر " وقيل في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) إن ما كان وحيًا بإلقائه في الروع، وذلك يكون للأنبياء كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) وقد يكون لإلهام في حال اليقظة، وقد يكون في حال المنام؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ". والضرب الثاني من الفراسة: يكون بصناعة متعلمة، وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية، ومن عرف ذلك وكان ذا فهم ثاقب، قوي في الفراسة، وقد عمل في ذلك كتب فمن تتبع الصحيح منها اطلع منها على صدق ما ضمنوه، والفراسة ضرب من الظن، وقد سئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما، فقال: الظن بتقلب القلب، والفراسة بنور الرب تعالى، وكل من قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) كان ممن وصفه بقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) وكان ذلك النور شاهدًا منه أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين: " إن أمرهما بين لولا حكم اللَّه "، ومن الفراسة علم الرؤيا، وقد عظم اللَّه أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وقال تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) . وقال في قصة إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وقال تعالى حكاية عن يوسف - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) . والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم تكن لها حقيقة لم تكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة، واللَّه تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب - وهو الأكثر - أضغاث أحلام وأحاديث النفس من الخواطر الرديئة، لكون النفس في تلك الحال كالماء المتموج الذي لا يقبل صورة، وضرب - وهو الأقل - صحيح وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، وقسم يحتاج إلى تأويل، ولهذا يحتاج المعبر إلى مهارة ليفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، ويفرق بين طبقات الناس، إذ كان فيهم من لا يصح له رؤيا، وفيهم من تصح رؤياه، ثم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يصح له ذلك منهم من يرشح أن يلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك، ولهذا قال اليونانيون: يجب للمعبر أن يشتغل بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن لهم حظًّا من النبوة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه وبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقًا فيه، وربما نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم يرزق حظّا فيه، وتوجد له فيه قوة عجيبة. وأما الزكانة: فضرب من الفراسة، وهي معرفة فعل باطن بفعل ظاهر بضرب من التوهم يقال: قد زكنتُ وأزكنتُ. والقيافة: ضرب من الزكانة لكنه أدق وهو ضربان: أحدهما: بتتبع أثر الأقدام والاستدلال به على السالكين. والثاني: الاستدلال بهيئة الإنسان وشكله على نسبته. وخص من العرب بالقيافة بنو مدلج، وقيل: إن ذلك بمناسبة طبيعية لا بتعلم، وهي محكوم بها في الشرع، وقال بعض الحكماء: خص اللَّه بذلك العرب، ليكون سببًا لارتداع نسائهم عما يورث شوب نسبهم، وخبيث حسبهم، وفساد بذورهم وزروعهم، صيانة لنسب النبوة، (وليكون ذلك شرفًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولأجل حفظه تعالى نسبهم ذلك، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) أي: ليعرف بعضكم بعضًا بمعرفة أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأما الكهانة والعرافة: فإن الكهانة مختصة بالأمور المستقبلة، والعرافة مختصة بالأمور الماضية، وكان ذلك في العرب كثيرًا، وآخر من وجد، وروي عنه الأخبار العجبية سطيح، وسواد بن قارب. وقيل: كان وجود ذلك في العرب أحد أسباب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يخبر به ويحث على اتباعه، ثم نزع عنهمِ ذلك بعد النبوة، حتى روي: " لا كهانة بعد النبوة "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من أتى عرافَا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " تنبيها أنه قد رفع. ومما يجري مجراها الطيرة، وهو: تشاؤم الإنسان بشيء يقع تحت المناظر والمسامع مما تنفر منه النفس مما ليس بطبيعي، فأما نفارها مما هو طبيعي في الإنسان كنفاره من صرير الحديد وصوت الحمار فلا يعد من هذا، واشتقاقه من الطير، وأصله في زجر الطير، وما سواه ملحق به، وعلى ذلك قول الشاعر: وما أنا ممن يزجر الطير حوله ... أصاح غراب أم تعرض طائر ثم كثر في غيره حتى قال تعالى حكاية عمن أخبر عنه: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) أي: السبب الذي يسعدكم ويشقيكم عند اللَّه، وقال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) . وسمي عمل الإنسان الذي يعاقب عليه طائرًا قال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والنظر: هو إجالة الخاطر نحو المرئي لإدراك البصيرة إيَّاه، فللقلب عين كما أن للبدن عينًا، فمن صحت عين قلبه، وأعانه نور اللَّه اطلع على حقائق الأشياء، وأدرك العالم العلوي وهو في الدنيا، فيرى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكون الاطلاع عليه ممكنًا قال أمير المؤمنين علي - رحمه الله -: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا ". والرأي: إجالة الخاطر في رؤية ما يريده، وقد يقال للقضية التي تثبت عن الرأي رأي. والرأي للفكرة كالآلة للصانع التي لا يستغني عنها، ولا يكون إلا في الأمور الممكنة دون الواجبة والممتنعة، ويكون في جملة الممكنات مما تكون إلينا، فالطبيب لا يجيل رأيه في نفس البرء، وإنما يجيله في كيفية الوصول إليه. ويحتاج الرأي إلى أربعة أشياء: اثنان من جهة الزمان في التقديم والتأخير: أحدهما: أن يعيد النظر فيما يرتئيه، (ولا يجعل إمضاءه حتى يعب، فقد تي، @: إياك والرأي الفطير، وقد قيل: دع الرأي يعب. وأكثر من يستعجل في ذلك ذو النفوس الشهمة والأمزجة الحادة. والثاني: لا يدافع به بعد إحكامه، فقد قيل: روِ تحزم وإذا استوضحت فاعزم، وقيل: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع فيه، وقال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) وأكثر من يدافع ذوو النفوس المهينة والأمزجة الباردة. واثنان من جهة الناس: أحدهما: ترك الاستبداد بالرأي، فالاستبداد بالرأي من فعل المعجب بنفسه، وقد قيل: الأحمق من قطعه العجب بنفسه عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة. والمأني: أن يتخير من تجوز مشاورته. فما كل ذي لب مؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ولكن إذاما استجمعنا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب ومن دخل في أمر بعد الاحتراز من هذه الأربعة فقد أحكم تدبيره، فإن لم ينجح عمله لم يلحقه مذمَّة. وأما التدبير: فنحو الرأي، لكن يقال له إذا استعمل في النظر في عواقب الأمور، واشتقاقه يقتضي ذلك، لأنه تأمل دبر الأمر، وعليه حثَّ الشاعر في قوله: ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدًا تبار وأما الفكرة: فقوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، وهو تخيل عقلي موجود في الإنسان، والتفكر جولان تلك القوة بين الخواطر بحسب نظر العقل، وقد يقال للتفكر: الفكر، وربما ضلَّ الفكر وأخطأ ضلال الرائد وخطأه، والتفكر لا يكون إلا فيما له ماهية بما يصح أن يجعل له صورة في القلب مفهومة، ولأجل ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تفكروا في آلاء اللَّه ولا تفكروا في اللَّه "، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) وقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وسئل بعض الحكماء عن الفكرة والعبرة، فقال: الفكرة أن تجعل الغائب حاضرًا، والعبرة أن تجعل الحاضر غائبًا. وأما الذكر: فوجود الشىِء في القلب أو في اللسان، وذلك أن الشيء له أربعة وجودات: وجوده في ذاته، ووجوده في قلب الإنسان، ووجوده في لفظه، ووجوده في كتابته. فوجوده في ذاته هو سبب لوجوده في قلب الإنسان، ووجوده في قلبه سبب لوجوده فىِ لسانه، ولوجوده في كتابته. ويقال للوجودين، أي: للوجود في القلب، والوجود في اللسان: الذكر، ولا اعتداد بذكر اللسان ما لم يكن ذلك عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ذكر في القلب، بل لا يكون ذلك ذكرًا. والذكر بالقلب ضربان: أحدهما: استعادة ما قد استثبته القلب فانمحى عنه بنسيان أو غفلة، وهذا هو في الحقيقة التذكر. والثاني: ثبات وجود الشيء في القلب من غير نسيان أو غفلة، وذكر اللَّه تعالى على نحو الأول غير مرتضى عند الأولياء وإنما يحمد إذا كان على النحو الثاني. واعلم أن ذكر اللَّه تعالى تارةً يكون بعظمته فيتولد منه الإجلال والهيبة، وتارةً يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن. وتارةً بفضله ورحمته فيتولد منه الرجاء، وتارةً بنعمته فيتولد منه الشكر؛ ولذلك قيل: ذكر النعمة شكرها، وتارةً بأفعاله الباهرة فيتولد منه العبرة. فحق المؤمن ألا ينفك أبدًا من ذكره على أحد هذه الوجوه، وعليها دلَّ قول اللَّه تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) أي: يذكرونه في كل حالٍ؛ لأن الإنسان لا ينفك من هذه الأوجه الثلاثة، فإن قيل: ما حقيقة ذكر اللَّه تعالى عند ابتداء الأعمال حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكراللَّه تعالى فهو أبتر "، قيل: نبه بذلك أن الأمور كلها يجب أن يقصد بها وجه الله تعالى، وأن كل أمر لا يقصد به ذلك فهو ناقص، وشرع ذكره باللسان؛ ليكون سببًا لذكره بالقلب، فيتحرى بفعله وجه اللَّه، ولا يعمل ما ينافي رضاه. وعلى ذلك قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي: إذا عرض لك نسيان لا يلزمك فتذكر أنه مطلع عليك؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " اعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأما الحفظ: فالمواظبة على مراعاة الشيء وقلة الغفلة عنه، ومنه محافظة الحريم،حتى قيل للغضب المقتضي لذلك: حفيظة، ويقال لثبات صورة الشيء في القلب: حفظ، ويقال للقوة الحافظة أيضًا: حفظ، وفلان جيد الحفظ، أي: القوة الحافظة. والحفظ للنفس من وجه جارٍ مجرى الخزانة للملك يضمع فيها الزخائر إلى وقت الحاجة) ومن وجه جارٍ مجرى الكتاب الذي يكتب فيه الشيء ليرجع إليه فيتذكر به، والناس متفاوتون فيه بحسب أمزجتهم، فمنهم من قوى الله تعالى ذلك فيه كما جعله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، (فلذلك كان كونه أميًا شرفًا له) ، إذ كان له من الحفظ ما يغنيه عن الاستعانة بالكتابة، ولهذا قال تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فضمن أنه يحفظ عليه بما جعل له من القوة الإلهية. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: " سألت اللَّه تعالى أن يجعلها أذنك " فلم يسمع بعد ذلك شيئًا إلا وعاه. ومن الناس من يسرع إليه النسيان فما سمعه يكون كالخط يكتب في بسط الماء. وأما البلاغة: فإجادة اختيار الألفاظ والإصابة في تأليفها وقدرها ومعناها وتحري الصدق فيها، ولا يكون الكلام تام البلاغة ما لم يجمع هذه المعاني، فإنه متى قبح اللفظ، أو قبح التأليف، أو كان أكثر مما يحب، أو أقل مما يحب، أو لم يطابق اللفظ المعنى، إما حقيقةً أو استعارةً رائقة، أو كان المعنى محالا أو كذبًا، خرج الكلام بقدر ما اختل منه من باب البلاغة، وقد وصفت البلاغة بأوصاف مختلفة بحسب أنظار مختلفة، فقال بعضهم: البلاغة هي الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل. وقيل: ما فهمته العامة ورضيته الخاصة. وقيل: ما اجتيازه فساد له. إلى غير ذلك من الأوصاف. وأما الفصاحة: فاشتقاقها من فصح اللبن إذا خلص، وهي الإصابة في اللفظ (يعني اختصاره) ، والائتلاف دون اعتبار الصدق وصواب المعنى، فكل كلام جزل اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 حسن التركيب فموصوف بالفصاحة، صدقًا كان أو كذبًا. فالبلاغة ترجع إلى اللفظ والمعنى، والفصاحة إلى اللفظ دون المعنى ثمرة العقل من معرفة الله الضرورية والمكتسبة وغاية ما يبلغه الإنسان من ذلك أشرف ثمرة للعقل معرفة اللَّه تعالى، وحسن طاعته، والكف عن معصيته، وعلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " العقل ثلاثة أجزاء: جزء معرفة الله، وجزء طاعة اللَّه، وجزء الصبر عن معصية الله "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفة، وثمرته العلم ". فمعرفة الله تعالى العامية مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول وأن له فاعلًا فعله، ونقله في الأحوال المختلفة، وإليه أشار بقوله تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) وقوله تعالىٍ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) . فهذا القدر من المعرفة في نفس كل أحد، ويتنبه الغافل عنه إذا نُبِّه عليه فيعرفه كما يعرف أن ما هو مساوٍ لغيره فذلك الغير مساوٍ له، ومن هذا الوجه قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقال في مخاطبة المؤمنين والكافرين: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثم قال بعده: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) . وأما معرفة اللَّه تعالى المكتسبة فمعرفة توحيده وصفاته، وما يجب أن يثبت له من الصفات، وما يجب أن ينفى عنه، وهذه المعرفة هي التي دعا الأنبياء - عليهم السلام - لها وحثوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عليها؛ ولهذا قال كلهم: قولوا: لا إله إلا اللَّه، ولم يدع أحد إلى معرفته تعالى، بل دعا إلى توحيده. وهذه المعرفة - أعني المكتسبة - على ثلاثة أضرب: ضرب: لا يكاد يدركه إلا نبي أو صديق أو شهيد ومن داناهم، وذلك معرفته بالنور الإلهي من حيث لا يعتري فيه شك بوجه، كما قال تعالى: (إِإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) . وضرب: يدرك بغلبة الظن الذي يفسره أهل اللغة باليقين، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) . وضرب: يدرك بخيالات ومثل وتقليدات، وإيَّاه عني بقوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) . فالأول: يجري مجرى إدراكه الشيء من قريب؛ ولهذا قال تعالى في وصفهم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . والثاني: يجري مجرى إدراكه الشيء من بعيد، وقد يعتري فيه شبهة ولكن تزول بأدنى تأمل كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) . والثالث: يجري مجرى من يرى الشيء من وراء ستر من بعيد، ولا ينفك من شبهات كما أخبر تعالى عمن هذه حالته بقوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) . ولأجل صعوبة معرفة اللَّه تعالى على الحقيقة حتى يتخلص الإنسان من آفات الشرك قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وقال: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال: لا إله إلا اللَّه مخلصا دخل الجنة ". وغاية معرفة الإنسان بربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والمعقولة، ويعرف أثر الصنعة فيها، وأنها محدثة وأن محدثها ليس إيَّاها ولا مثلًا لها، بل هو الذي يصح ارتفاع كلها مع بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه، وبهذا النظر قال الصديق - رضي الله عنه -: " سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلًا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته "، بل لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذاته ". ولما كان معرفة العالم كله تصعب على الإنسان الواحد، لقصور أفهام بعضهم عنها، واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم، جعل لكل إنسان من بدنه ونفسه عالماً صغيرًا، أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير، ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من الكتاب البسيط، يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر، والليل والنهار، فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الكون، ليغزر علمه، ويتسع فهمه، وإلا فليقنع بالمختصر الذي معه، ولهذا قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) ولشرف متأملي ذلك قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) وقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) فنبَّه بمدحهم حيث قالوا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أنهم عرفوا الغرض المقصود بخلقه، وذلك هو آخر الأبحاث، لأن الأبحاث أربعة: بحث عن وجود الشيء بهل هو، وبحث عن جنسه بما هو، وبحث عما يباين به غيره بأي شيء هو، وبحث عن الغرض بلم هو؟. وهذه الأبحاث ينبني بعضها على بعض، فلا تصح معرفة الثاني إلا بمعرفة الأول، ولا معرفة الثالث إلا بمعرفة الثانىِ، ولا معرفة الرابع إلا بمعرفة الثالث. وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) يقتضي أنهم عرفوا الأبحاث الأربعة، وإلا شهدوا بما لم يتحققوا، ومن شهد بما لم يتحقق كذب وإن كان ما يشهد به على ما شهد به، ألا ترى أن اللَّه تعالى كذب المنافقين حين قالوا: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ) وإن كان هو رسول اللَّه. فدَّلت هذه الآية على أن البحث الذي يؤدي إلى معرفة حقائق الموجودات التي تتضمن معرفة اللٌه تعالى هو من العلوم الشريفة، بخلاف قول الصم البكم العمي الذين لم يجعل اللَّه لهم نورًا؛ حيث بدَّعوا من اشتغل بمعرفة ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وجوب بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقلة الاستغناء عنهم بعثة الأنبياء إلى الناس من الضروريات التي لا بد لهم منها، وذلك أن جُل الناس يقصر عن معرفة منافعهم ومضارهم الأخروية جزئياتها وكلياتها، وبعضهم وإن كان لهم سبيل إلى معرفة كليات ذلك على سبيل الجملة فليس لهم سبيل إلى معرفة جزئياتها، ولا يمكن أن يعرفوا كيف يجب، ولا في أي وقت يجب، وكم يجب؟. فلما كان كذلك مَنَّ اللَّه تعالى على كافة عباده، خاصهم وعامهم برسل بعثهم فيهم من أنفسهم يتلون عليهم آياته ويزكونهم ويعلمونهم الكتاب والحكمة. لكي إذا تمسكوا بذلك صلح معادهم ومعاشهم، وسهل عليهم إدراكهم؛ ولهذا أزاح اللَّه تعالى علتهم ببعثة الأنبياء فقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) . ما يعرف به صحة النبوة لكل نبي آيتان: إحداهما: عقلية يعرفها أولو البصائر من الصديقين والشهداء والصالحين ومن يجري مجراهم. والثانية: حسية يدركها أولو الأبصار من العامة. فالأولى: ما لهم من الأصول الزكية، وصورهم المرضية، وعلومهم الباهرة، ودلائلهم المتقدمة عليهم والمستصحبة، وأنوارهم الساطعة التي لا تخفى على أولي البصائر، كما قال الشاعر في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو لم تكن في آيات مبينة كانت ... بداهته تغنيك عن خبره وذلك أن حق النبي أن يكون من أكرم تربة في العالم، وحيث يكون عقل أربابها أوفر، لذلك لم يبعث نبي من الأطراف التي تضعف عقول أربابها، ويجب أن يكون من عنصر كريم من بيت الفضل؛ ولهذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) ونبَّه بقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) أنه جعل النبوة في أهل بيت واحد لا تخرج عنهم لكونهم أشرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ويجب أن يكون عليه أنوار تروق من رآها وأخلاق تتملك من ابتلاها، كما قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ، وقال لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . ويجب أن يكون كلامه ذا حجة وبيان يشفي سامعه إذا كان متخصصًا بنور العقل،ولذلك قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وهذه الأحوال إذا حصلت لا يحتاج ذو البصيرة معها إلى معجزة، ولا يطلبها كما لا يطلب الأنبياء من الملائكة فيما يخبرونهم به حجة، ولهذا لما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصديق أبي بكر الإسلام تلقاه بالقبول، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما أحد عرضت عليه الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر الصديق فإنه لم يتلعثم فيه ". وأما الآية الثانية فهي المعجزة التي تدركها الحواس من الأنبياء، وذلك يطلبه أحد رجلين إما ناقص عن معرفة الفرق بين الكلام الإلهي وبين الكلام البشري، وعن إدراك سائر ما تقدم ذكره، فيحتاج إلى ما يدركه بحسه لقصوره عن إدراك ذلك. وإما ناقص وهو مع نقصه معاند، فيقصد بما يطلبه العناد، كما قال تعالى حكاية عن الكفار: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) . كون الرسول والعقل هاديين الخلق إلى الحق : للَّه - عز وجل - إلى خلقه رسولان: أحدهما: من الباطن وهو العقل، والثاني: من الظاهر وهو الرسول، ولا سبيل لأحد إلى الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن، فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر، ولولاه لما كانت تلزم الحجة بقوله، ولهذا أحال اللَّه من يشكك فىِ وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل، فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها، فالعقل: قائد والدين مدد، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 باقيًا، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرًا، واجتماعهما كما قال تعالى: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) . تعذر إدراك العلوم النبوية على من لم يتهذب في العلوم العقلية المعقولات تجري مجرى الأدوية الجالية للصحة، والشرعيات تجري مجرى الأغذية الحافظة للصحة، وكما أن الجسم متى كان مريضًا لم ينتفع بالأغذية، ولم يستفد بها، بل يتضرر بها، كذلك من كان مريض النفس كما قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، لم ينتفع بسماع القرآن الذي هو موضوع الشرعيات، بل صار ذلك ضارًّا له مضرة الغذاء للمريض، ولهذا قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) . وأيضًا فالقلب بمنزلة مزرعة للمعتقدات، والاعتقاد فيه بمنزلة البذر إن خيرًا وإن شرًّا، وكلام اللَّه تعالى بمنزلة الماء الذي يسقيه، ولذلك سماه ماء على ما تقدم ذكره، فكما أن الماء إذا سقى الأرض يختلف نباته بحسب اختلاف بذوره، كذلك القرآن إذا ورد على الاعتقادات الراسخة في القلوب، تختلف تأثيراته، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ) وقال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) . وأيضًا فالجهل بالمعقولات جارٍ مجرى ستر مرخي على البصر، وغشاء على القلب، ووقر في الأذن، والقرآن لا تُدرك حقائقه إلا لمن كشف غطاؤه، ورفع غشاؤه، وأزيل وقره، ولهذا قال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وأيضًا فالمعقولات كالحياة التي بها الأبصار والأسماع، والقرآن كالمدرك بالسمع والبصر، وكما أنه من المحال أن ييصر ويسمع الميت قبل أن يجعل اللَّه فيه الروح، ويجعل له السمع والبصر كذلك من المحال أن يدرك من لم يحصل المعقولات حقائق الشرعيات؛ ولهذا قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) الآيتان يعني: آيات السموات والأرض وغيرها. الإيمان والإسلام والتقوى والبر : الإيمان: هو الإذعان للحق على سبيل التصديق له باليقين؛ ولهذا وصف اللَّه تعالى العلم والإيمان بوصف واحد فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ووجل القلب: هو الخشية للحق على سبيل التصديق له باليقين. هذا هو أصل الإيمان لكن صار اسمًا لشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كالإسلام، وصح أن يطلق على من يظهر ذلك وإن لم يتخصص به اعتقادًا عن يقين أو ثلج صدر، كاليهودي في أن أصله منسوب إلى يهود، والنصراني في أن أصله المنسوب إلى نصران، وهي قرية، ثم صارا اسمين للمتخصصين بالشريعتين. على أن اشتقاق الإيمان لا يمنع أن يطلق على من يظهره، فإن المؤمن هو من صار ذا أمن، وبإظهار الشهادتين يأمن الإنسان من أن يراق دمه، أو يباح ماله في الحكم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال: لا إله إلا اللَّه فقد عصم منَّا دمه وماله إلا بحق "، وروي: " شهادة أن لا إله إلا اللَّه كلمة جعلها اللَّه بيننا فمن قالها من قلبه فهو مؤمن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ومن قالها بلسانه ولم تكن في قلبه كان له ما لنا وعليه ما علينا وحسابه على اللَّه " وذلك أنه لا يطلع على القلوب إلا الخالق تعالى. والشريعة: واردة بأن يطلق اسم الإيمان على من يظهر ذلك من نفسه من غير فحص عن قلبه، فلا يتحاشى من إطلاق ذلك عليه ما لم يظهر منه ما ينافي الإيمان، بخلاف ما ادعاه بعض المعتزلة فإنه لا يصح إطلاق اسم المؤمن على الإنسان ما لم يختبر في الأصول الخمسة، ويوقف منه على حقيقة ما عنده. والإسلام: هو الاستسلام لما يدعو إليه الشرع من فعل ما يقتضي فعله. والملة: القود إلى الطاعة. والدين: الانقياد له، وهما بالذات واحد، لكن الدين هو الطاعة فيقال: اعتبار بفعل المدعو في انقياده إلى الطاعة، والملة: من أمللت الكتاب، فيقال اعتبارًا: بفعل الداعي إليها والشارع لها، ولكونها بالذات واحدًا قال تعالى: (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) فأبدل الملة من الدين. والدين أعم من الإسلام، إذ هو يستعمل في الحق والباطل، والإسلام لا يستعمل إلا في الحق، فلهذا قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) . والإحسان: تحري الحسنى في الإيمان والإسلام، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: ما الإحسان، فقال: " أن تعبد اللَّه كأنك تراه ". والتقوى: جعل النفس وقاية من سخط اللَّه تعالى، وذلك بقمع الهوى. والبر: السعة في علم الحق وفعل الخير، (وهو) مشتق من البر أي: السعة في الأرض، وهو المعبر عنه بانشراح الصدر واطمئنان القلب، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البر ما سكنت إليه نفسك واطمأن إليه قلبك، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في صدرك " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وقال: " البر طمأنينة والشر ريبة ". ومن البر الجود، ولذلك جعل الجود من الإيمان، قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) . والإخلاص: أن يقصد الإنسان فيما يفعله وجه اللَّه تعالى، متعريًا عن الالتفات إلى غيره، ولذلك قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولقلة وجود ذلك، قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) . ولما كان الإيمان يقال باعتبار العلم وهو متعلق بالقلب، والإسلام بفعل الجوارح، والتقوى بقمع الهوى، قال - صلى الله عليه وسلم -: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب، والتقوى هاهنا "، وأشار إلى صدره. ولما كان الصدر مقر قوى الإنسان من الفكرة والشهوة والغضب، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يستقيم إيمان عبد حتى يسقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يسقيم لسانه ". وقال: " الإيمان قائد والعقل سائق، والنفس حرون، فإن أبى قائدها لم تسقم لسائقها، وإن أبى سائقها لم تطع قائدها ". ولما كان الإيمان والإسلام والتقوى متلازمة قال في الجنة: (أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ) . وقال في موضع آخر: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) . وقال: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 في الإيمان : اختلف في الإيمان: هل هو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معًا، واختلافهم بحسب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو الاعتقاد المجرد فنظر منه إلى اشتقاق اللفظ وإلى أنه قد فصل بينهما في عامة القرآن، فعطف العمل عليه كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما في خبر جبريل حين سأله عن الإسلام وعن الإيمان، ففسر الأول بالأعمال والثاني بالاعتقاد. ومن قال: هو الاعتقاد والعمل فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار با لسان، وعمل بالأركان ". وكذلك اختلفوا هل يكون في الإيمان زيادة ونقصان، فقال قوم: يكون ذلك فيه لقوله تعالى.: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ) وقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) وقوله: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) . ومن خالفهم قال: الشيء إنما يزيد بغلبته على ضده، وينقص بغلبة ضده عليه، قالوا: والإيمان لا يحصل إلا بعد أن يكون غالبًا على الكفر فلا يضامه حتى يقال: إنه غلب عليه. ولذلك اختلفوا في جواز إطلاق اسم الإيمان على من أقر بالشهادتين، فقال بعضهم: يجوز ذلك نظرًا منه إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الجارية التي سألها عن الله فأشارت نحو السماء، وعن النبوة فأشارت إليه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " اعتقها فإنها مؤمنة "، ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، ومن قال: لا يجوز فنظر منه إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ولما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال: أنا مؤمن، فهو فاسق، ومن قال: أنا عالم، فهو جاهل " فإن قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "، قيل: الإيمان ذو منازل كما وصفه - صلى الله عليه وسلم -. وإنما يكون الإنسان مؤمنًا بلا مثنوية إذا استوعب منازله كلها، فتعرى من جميع الشرور وتخصص بجميع الخيرات على قدر طاقة البشر، ومتى انخرم بعض ذلك خرج هو عما هو، كقولهم: عشرة، في كونه اسمًا لعدد مخصوص إذا سقط بعضه سقط ذلك الاسم عنه، ومن شرط الإيمان الكامل ألا يكون زانيًا ولا سارقًا. في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وسبعون بابا " ثبت الحديث عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون بابًا أعلاها شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "، وهذه لفظة من تأملها وعرف حقيقتها علم بالواجب أن الإيمان الواجب هو اثنتان وسبعون درجة لا يصلح أن يكون أكثر منها ولا أقل، ولا يوجد من الإيمان ما هو خارج عنها بوجه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يورده كما وصفه - عز وجل - بقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) . وبيان ذلك أن الإيمان شيئان: اعتقاد وأعمال: فالاعتقاد على ثلاث منازل: يقيني: لا يعتريه شك ولا شبهة بوجه كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) . وظني: وذلك ما كان عن أمارة قوية، وأعني بالظن هاهنا ما يفسره أهل اللغة باليقين نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) . وتقليدي: وذلك ما يعتقد عن رأي أهل البصائر كما وصفه تعالى بقوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) . والأعمال ثلاثة: عمارة الأرض: المعنية بقوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وعبادة الله تعالى: المعنية بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) . وخلافته: المعنية بقوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) وقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وذلك بتحري مكارم الشريعة. فهذه ستة وكل واحد من هذه إما أن يتحراه الإنسان عن رهبة، أو رغبة، كما قال تعالى: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) أو يتحراه عن إخلاص تطوع واهتزاز نفس، كما قال تعالى: (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) فهذه اثنتا عشرة منزلة. وكل واحدة من هذه المنازل إما أن يكون الإنسان في مبتدئها أو وسطها أو منتهاها؛ لأن كل فضيلة ورذيلة لا ينفك الإنسان فيها من هذه الأحوال الثلاث، ولهذا قال تعالى في الفضيلة: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) وقال في الرذيلة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) . فجعل منازل الإيمان ومنازل التقوى ثلاثة كما ترى، فهذه اثنتا عشرة في ثلاثة تكون ستة وثلاثين. وكل واحدة من هذه الستة والثلاثين إما أن يتوصل إليها الإنسان من طريق الاجتباء، أو من طريق الهداية. والاجتباء للأنبياء ومن يليهم من الأولياء وهو: إيثار اللَّه تعالى بعض عباده بفيض إلهي وتأتيهم الحكمة بلا سعي منهم، وعلى هذا قوله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) . والاهتداء: للحكماء والعلماء، وهو توفيق اللَّه تعالى العبد ليطلب بسعيه وجهده الحكمة فيتحصل له منها بقدر ما يتحمل من المشقة. وإياهما عني بقوله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وقوله تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) . فهذه اثنتان وسبعون درجة لا يمكن الزيادة عليها ولا النقصان عنها، ذلك ما ورد من الأخبار فليس بخارج عنها واللَّه الموفق: فمما هو من جملة العبادة قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوضوء شطر الإيمان "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الصلاة من فرغ لها قلبه وأقامها بحدودها ووقتها وسننها ". ومما هو من مكارم الشريعة قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحياء من الإيمان "، وقال: " لايجتمع شح وإيمان في قلب عبد "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف المؤمن من نفسه، وبذل السلام "، وقوله عليه الصلاة والسلام: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله "، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأناس من أصحابه: " ما إيمانكم، " فقالوا: نصبر على البلاء، ونشكر في الرخاء، ونرضى بالقضاء. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " مؤمنون ورب الكعبة ". في أنواع الجهل : الإنسان في الجهل على أربع منازل: الأول: من لا يعتقد اعتقادًا لا صالحًا ولا طالحًا، فأمره في إرشاده سهل، إذ كان له طبع سليم، فإنه كلوح أبيض لم يشغله نقش، وكأرض بيضاء لم يلق فيها بذر، ويقال له باعتبار العلم النظري: غُفل، وباعتبار العلم العملي: غُمر، ويقال له: سليم الصدر. والثاني: معتقد لرأي فاسد لكنه لم ينشأ عليه ولم يترب به، واستنزاله عنه سهل وإن كان أصعب من الأول فإنه كلوح يحتاج فيه إلى محو وكتابة، وكأرض يحتاج فيها إلى تنظيف، ويقال له: غاو وضال. والثالث: معتقد لرأي فاسد قد (ران على قلبه) ، وتراءت له صحته فركن إليه لجهله وضعف نحيزته، فهو ممن وصفه اللَّه تعالى بقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) فهذا ذو داءٍ أعيا الأطباء فما كل داءٍ له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 دواء، فلا سبيل إلى تهذيبه وتنبيهه، كما قيل لحكيم يعظ شيخًا جاهلًا: ما تصنع، فقال: أغسل مسحًا لعله يبيض. والرابع: معتقدًا اعتقادًا فاسدًا عرف فساده، أو تمكن من معرفته، لكنه اكتسب دنية لرأسه، وكرسيًّا لرئاسته، فهو يحامي عليها فيجادل بالباطل ليدحض به الحق، ويذم أهل العلم ليجر إلى نفسه الخلق، ويقال له: فاسق ومنافق، وهو من الموصوفين بالاستكبار والتكبر في نحو قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) وقوله: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) فنبَّه تعالى أنهم ينكرون ما يقولونه ويفعلونه لمعرفتهم ببطلانه، ولكن يستكبرون عن التزام الحق وذلك حال إبليس فيما دعي إليه من السجود لآدم - عليه السلام -. والجنون: هو عارض يغمر العقل. والحمق: قلة التنبه لطريق الحق، وكلاهما يكونان تارة خلقة وتارة يكونان عارضًا، وقد عظم الحمق ما لم يعظم الجنون. وقد قصد الشاعر (ذلك) في قوله: لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها وقد ذكرت حكاية هي وإن لم تصح فنافع ذكرها، وهي أن عيسى - عليه السلام - أتي بأحمق ليداويه فقال: أعياني مداواة الأحمق، ولم يعيني مداواة الأكمه والأبرص. ومما يفرق به بينهما أن المجنون: يكون غرضه الذي يريده ويؤمه فاسدًا ويكون سلوكه إلى غرضه صوابًا، والأحمق: الذي يكون غرضه الذي يريده صحيحًا وسلوكه إليه خطأ، وبهذا يعرف المجنون: إذا رئي بإرادته قبل سلوكه إلى مراده، والأحمق: لا يعرف بمراده بل بسلوكه. ولهذا متى صحت إرادة المجنون صح فعله حتى تتعجب كثيرًا من فلتات صوابه، والأحمق لا يكاد يصيب في شيء من مسالكه. وأما البله: فقلة التنبه على الأمور، ويضاده الكيس، وفد تقدم أن البله والكيس قد يقالان تارة باعتبار الأمور الدنيوية، وتارة يكونان بالأمور الأخروية. فمن كان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إحداهما كيِّسًا كان في الأخرى أبلهًا، وقد قال الصديق - رضي الله عنه -: " أكيس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور ". وأما الرقيع.: فالذي يلصق بقلبه كل محال كأنه رقع بذلك. والأرعن: الذي يأتي بما يخرج عن الصواب، تشبهًا برعن الجبل وهو الحيد منه. والأحمق: هو الناقص العقل من قولهم: انحمقت السوق، أي: نقصت. والغمارة: قلة التجربة في الأمور العملية، مع تخيل سليم، وقد يكون الإنسان غمرًا في شيء غير غمر في شيء آخر. والخرق: يقال في الجاهل بالعلوم العملية، وذلك هو أن يفعل أكثر مما يجب، أو أقل، أو على غير النظام المحمود، وفساد كل عمل لا يعدو هذه الوجوه الثلاثة، ويضاده الحذق. والغي: اتباع الهوى وترك ما يقتضيه العقل. والضلال: أن يقصد لاعتقاد الحق، أو فعل الجميل، أو قول الصدق، فظن بتقصيره وسوء تصوره فيما كان باطلًا أنه حق، فيعتقده، أو فيما كان كذبًا أنه صدق فيقوله، أو فيما هو قبيح أنه جميل ففعله. والجهل: عام في كل ذلك. والخب: استعمال الدهاء في الأمور الدنيوية، صغيرها وكبيرها. والجربزة: مثله لكن تقال فيما تقتضي الأمور الدينية. والدهاء: مثله لكن يقال في الأمور العظام إذا أدرك غاياتها؛ ولهذا قالوا: الدهاة في الإسلام أربعة فذكروا المتوجهين في الاحتيالات (في الأمور الدنيوية) الذين بلغوا بها أمورًا كبارًا. ومن الجهل: الكفر؛ وهو عناد الإنسان للحق على سبيل التكذيب له لا بيقين، وأصله: ستر ما جعله اللَّه تعالى للإنسان بفطرته وصبغته من المعارف بما يستعمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ويتحراه من عناده الحق، ومن ترك النظر، والإخلال بتزكية النفس المعني بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) . كون العلوم مركوزة في نفوس الناس نفس الإنسان معدن الحكمة والعلوم، وهي مركوزة فيها بالفطرة، مجعولة لها بالقوة، كالنار في الحجر، والنخلة في النواة، والذهب في الحجارة، وكالماء تحت الأرض، لكن كما أن من الماء ما يجري من غير فعل بشري، ومنه ما يعاين تحت الأرض، لكن لا يتوصل إليه إلا بدلو ورشاء، ومنه ما هو كامن يحتاج في استنباطه إلى حفر وتعب شديد، فإن عني به أدرك وإلا بقي غير منتفع به، كذا العلم في نفوس البشر، منه ما يوجد من غير تعلم بشري وذلك حال الأنبياء، فإنه تفيض عليهم المعارف من جهة الملأ الأعلى، ومنه ما يوجد بأدنى تعلم، ومنه ما يصعب وجوده كحال أكثر عوام الناس. ولكون العلوم مركوزة في النفوس قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) . فنبَّه أنهم أقروا أن اللَّه هو الذي يربيهم ويغذيهم ويرزقهم ويكملهم من الطفولية. فهذا إقرار نفوسهم كلهم بما ركز في عقولهم. فأما الإقرار باللسان فلم يحصل من كلهم، وكذا المعني بقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي: لو اعتبرت أحوالهم لكانت نفوسهم وجوارحهم تنطق بذلك؛ وعلى هذا قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) . فبين أن الدين الحنيف وهو المستقيم قد فطر الناس عليه، أي: خلقهم عالمين به، وأن المعاندين وإن قصدوا تبديله وإزالة الناس عنه لم يقدروا عليه، وعلى ذلك قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) وقال تعالى فيمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قويت فيه الصبغة والفطرة: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) فسمي ذلك كتابا، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة "، وأما الشهادة المأخوذة عليهم فالناس فيها ضربان: ضرب: أجالوا خواطرهم فيها حتى أدركوا حقائقها فصاروا كمن حملوا الشهادة فنسوها، ثم تذكروها، ولذلك قال تعالى في غير موضح: (لَعَلَّهُم يَتَذَكرونَ) (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) . وضرب: أهملوا أنفسهم ولم يشتغلوا بتذكر ما حملوا من الشهادة، كما قال تعالى: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) فهم في الجهالة يتسكعون، وعلى هذا حثنا الله تعالى على التذكر بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) أي: يسرنا القرآن ليكون سببًا تتوصلون به إلى تذكر ما سبق من عهدكم، والتذكر على أضرب: الأول: أن يكون في اللسان عن صورة ما حصل في القلب. والثاني: أن لمجون بالقلب كصورة حصلت عن شيء معهود إما بالبصر أو بالبصيرة أو غيره من المشاعر. والثالث: أن يكون عن صورة متضمنة بالفطرة في الإنسان، وهو المشار إليه بهذه الآيات، ومن هذا الوجه قال الحكماء: التعلم ليس يجلب إلى الإنسان شيئا من خارج في الحقيقة، وإنما يكشف الغطاء عما حصل في النفس فيبرزه بجلائه، فمثله كمثل الحافر المستنبط الماء من تحت الأرض، وكالصيقل الذي يبرز الجلاء في المرآة، وهذا ظاهر لمن نظر بعين عقله. حصر أنواع المعلومات أنواع العلم ثلاثة: نوع يتعلق باللفظ، ونوع يتعلق باللفظ والمعنى، ونوع يتعلق بالمعنى دون اللفظ. فأما ما يتعلق باللفظ فهو ما يقصد به تحصيل الألفاظ بوسائط المعاني، وذلك ضربان: أحدهما: حكم ذوات الألفاظ، وهو علم اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والثاني: حكم لواحق الألفاظ وذلك شيئان: شيء يشترك فيه النظم والنثر وهو علم الاشتقاق، وعلم النحو، وعلم التصريف، وشيء يختص به النظم وهو علم العروض وعلم القوافي. وأما النوع المتعلق باللفظ والمعنى فخمسة أضرب: علم البراهين، وعلم الجدال، وعلم الخطابة، وعلم البلاغة، وعلم الشعر. وأما النوع المتعلق بالمعنى فضربان: علمي، وعملي. فالعلمي: ما قصد به أن يعلم فقط، وذلك معرفة الباري تعالى، ومعرفة النبوة، ومعرفة الملائكة، ومعرفة يوم القيامة، ومعرفة العقل، ومعرفة النفس، ومعرفة مبادئ الأمور، ومعرفة الأركان، ومعرفة الآثار العلوية من الفلك والنيرين والنجوم، ومعرفة طبائع النبات ويقال له: علم الفلاحة، ومعرفة طبائع الحيوانات، ومعرفة طبائع الإنسان ويقال: علم الطب. وأما العملي: وهو ما يجب أن يعلم ثم يعمل به ويسمى تارة السنن والسياسات، وتارة الشريعة، وتارة أحكام الشرع ومكارمه، وذلك حكـ العبادات، وحكم المعاملات، وحكم المطاعم وحكم المناكح، وحكم المزاجر. والطرق التي يستفاد منها العلوم أربعة أضرب : الأول: المستفاد من بديهة العقل ومصادمة الحس وذلك يحصل لكل من لم يكن موقوف الآلة وإن اختلفت أحوالهم في ذلك. الثاني: المستفاد من جهة النظر إما بمقدمات عقلية أو بمقدمات محسوسة. الثالث: المستفاد بخبر الناس إما بسماع من أفواههم أو بالقراءة من كتبهم، ولا يكون الخبر علمًا إلا إذا كانت المظنة عن الخبر به مرتفعة. الرابع: ما كان عن الوحي إما بلسان ملك مرئي، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وإما بسماع كلامه تعالى من غير مصادفة عين كحال موسى - صلى الله عليه وسلم -، وإما بإلقاء في الروع في حال اليقظة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر "، وإما بالمنام وهو المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة "، وينطوي على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) . ما يعرف به فضيلة العلم فضيلة العلم تعرف بشيئين: أحدهما: بشرف ثمرته، والآخر: بوثاقة دلالته، وذلك كشرف علم الدين على علم الطب فإن ثمرة علم الدين الوصول إلى الحياة الأبدية، وثمرة علم الطب الوصول إلى الحياة الدنيوية المنقطعة، وعلم الدين أصوله مأخوذة عن الوحي، وأصول الطب أكثرها مأخوذ من التجارب، ورب علم يوفي على غيره بأخذ الوجهين، وذلك الغير يوفي عليه بالوجه الآخر كالطب مع الحساب فللطب شرف الثمرة، إذ هو يفيد الصحة، وللحساب وثاقة الدلالة، إذ كان العلم به ضروريا غير مفتقر إلى التجربة، وليس يجب أن يحكم بفساد علم لخطأ وقع من أربابه كصنع العامة إذا وجدوا من أخطأ في مسألة ما حكموا على صناعته بالفساد، وإذا رأوا من أصاب في مسألة حكموا على صناعته بالصحة، وذلك عادتهم في الطب والتنجيم، فيعتبرون الصناعة بالصانع خلاف ما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: " يا حار، ملبوس عليك الحق، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله "، وليس يدرون أن الصناعة مبنية على شيء روحاني، والمتعاطي لها يباشرها بجسم وطبع يضامها العجز، فهو خليق بوقوع الخطأ منه، ثم إن الإنسان قد ينتحل ما لا يحسنه، ويتذرع بدعوى ما لم تجز آلته، ثم كثير ممن يتخصص بصناعة يدعي لصناعته ما ليس في طبعها ككثير من المنجمين المدعين ما لا يوجد في التنجيم، فإذًا لا اعتبار بدعاوى الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 استحسان معرفة أنواع العلوم حق الإنسان ألا يترك شيئًا من العلوم أمكنه النظر فيه، واتسع العمر له إلا ويخبر بشمه عرفه وبذوقه طيبه، ثم إن ساعده القدر على التغذي به والتزود منه فبها ونعمت، وإلا لم يبصر - لجهله بمحله وغباوته عن منفعته - إلا معاديًا له بطبعه. فمن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرَّا به الماء الزلالا ومن جهل شيئًا عاداه، فالناس أعداء ما جهلوا، بل قال اللَّه تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) . وقد حكي عن بعض فضلاء القضاة أنه رئي بعدما طعن في السن وهو يتعلم أشكال الهندسة، فقيل له في ذلك. فقال: وجدته علمًا نافعًا فكرهت أن أكون لجهلي به معاديًا له. ولا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلوم، بل يجب أن يجعل لكل واحد حظه الذي يستحقه، ومنزلته التي يستوجبها، ويشكر من هداه لفهمه، وصار سببا لعلمه، فقد حكي عن بعض الحكماء أنه قال: يجب أن نشكر آباءنا الذين ولدوا لنا الشكوك؛ إذ كانوا أسبابًا لما حرك خواطرنا للنظر في العلم، فضلًا عن شكر من أفادنا طرفًا من العلم، ولولا مكان فكر من تقدمنا لأصبح المتأخرون حيارى قاصرين عن معرفة مصالح دنياهم فضلًا عن مصالح أخراهم. فمن تأمل حكمة اللَّه تعالى في أقل آلة يستعملها الناس كالمقراض حيث جمع بين سكينين، مركبًا على وجه يتوافى حداهما على نمط واحد للقرض أكثر تعظيم اللَّه وشكره، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا) . معاداة بعض الناس لبعض العلوم العلم طريق إلى اللَّه تعالى ذو منازل، وقد وكل اللَّه تعالى بكل منزل فيها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو، فمن منازله معرفة اللغة التي عليها بني الشرع، ثم حفظ كلام رب العزة، ثم سماع الحديث، ثم الفقه، ثم علم الأخلاق والورع، ثم علم المعاملات، وما بين ذلك من الوسائط، من معرفة أصول البراهين والأدلة، ولهذا قال اللَّه تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته، ووفَّى حق ما هو بصدده فهو في جهاد يستوجب من اللَّه تعالى أن يحفظ مكانه ثوابًا على قدر عمله. لكن قل ما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته، وشره في مكسبه، وطالب لرئاسته، وجاهل معجب بنفسه، يصير لأجل تنفيق سلعته صادفًا عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم وعائبًا له، فلهذا ترى كثيرًا ممن حصل في منزل من منازل العلم دون الغاية عائبًا لما فوقه، وصارفًا عنه من رامه، فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل، وإلَّا نفر الناس عنه بوجه آخر، فهو ممن قال اللَّه تعالى فيهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) . ولا أرى من هذا صنيعة إلا من الذين وصفهم اللَّة تعالى بقوله: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) . وذكر الترمذي - رحمه الله - هذه المسألة، وقال: إذا كان من يقطع على الناس طريق مكاسبهم الدنيوية يستحقون ما ذكره اللَّه تعالى بقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . فما الظن بما يستحقه من العقوبة من يقطع الطريق على المسافرين إلى اللَّه،. وحكي عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يا علماء السوء قعدتم على باب الجنة فلم تدخلوها، ولم تدعوا غيركم يدخلها، (مثلكم كمثل الصخرة وقفت في طريق الماء لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع) ، وكشجرة الدفلى يروق من نظر إليه ويقتل من أكله. الحث على تناول البلغة من كل علم والاقتصار عليه من كان قصده الوصول إلى جوار اللَّه تعالى فليتوجه نحوه، كما قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) وكما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " سافروا تغنموا ". فحقه أن يجعل أنواع العلوم كزاد موضوع في منازل السفر، فيتناول منه في كل منزل قدر البلغة، ولا يعرج على تقصِّيه واستفراغ ما فيه، فتقصِّي الإنسان نوعًا واحدًا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 العلوم على الاستقصار يستفرغ عمرًا، بل أعمارًا، ثم لا يدرك قعره ولا يسبر غوره. وقد نبهنا الباري سبحانه على أن نفعل دْلك بقوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وقال علي كرم اللَّه وجهه: " العلم كثير فخذوا من كل شيء أحسنه " وقال الشاعر: قالوا خذ العين من كل فقلت لهم ... في العين فضل ولكن ناظر العين فقد قيل: حل طبعك بالعيون والفقر فالشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كانت ثمرتها نافعة، ويجب ألا يخوض الإنسان في فن حتى يتناول من الفن الذي قبله على الترتيب بلغته، ويقضي منه حاجته، فازدحام العلم في السمع مضلة للفهم، وعلى هذا قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) أي: لا يجاوزون فنًّا حتى يحكموه علمًا وعملًا. ويجب أن يقدم الأهم فالأهم من غير إخلال بالترتيب، فإن كثيرًا من الناس ثكلوا الوصول بتركهم الأصول. وحقه أن يكون قصده من كل علم يتحراه التبلغ به إلى ما فوقه حتى يبلغ النهاية، والنهاية من العلوم النظرية معرفة الله تعالى على الحقيقة المصدوقة، والعلوم كلها خدم لها وهي حرة. وقد روي أنه رئي صورة حكيمين من القدماء المتألقين في بعض مساجدهم، وفي يد أحدهما رقعة فيها: إن أحسنت كل شيء فلا تظن أنك أحسنت شيئًا حتى تعرف اللَّه تعالى، وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء. وفي يد الآخر: كنت قبل أن أعرف اللَّه تعالى أشرب وأظمأ حتى إذا عرفته رويت بلا شرب. بل قد قال الله تعالى ما أشار به إلى ما هو أبلغ من حكمة كل حكيم: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي: اعرفه حق المعرفة، ولم يقصد بذلك أن يقول ذلك قولًا باللسان اللحمي، فذلك قليل الغناء ما لم يكن عن طوية خالصة ومعرفة حقيقية، وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " من قال: لا إله إلا اللَّه، مخلصًا دخل الجنة ". ويجب أن لا يتعرى علمه عن مراعاة العمل فيه بنفع، ألا ترى أنه ما أخلي ذكر الإيمان في عامة القرآن من ذكر العمل الصالح، نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وإلى ذلك أشار قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وقيل: كثرة العلم من غير العمل مادة الذنوب، وقيل: العلم أس والعمل بناء، والأس بلا بناء باطل، وقال حكيم لرجل يستكثر من العلما دون العمل: يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمن تقاتل به، وقد قال الشاعر ما يصلح أن يكون إشارةُ إلى هذا المعنى: فعلام إن لم أشف نفسًا حرة ... يا صاحبي أجيد حمل سلاحي. أحوال الناس في استفادة العلم وإفادته كما أن الإنسان في مقتنياته أربعة أحوال: حال استفادة: فيكون مكتسبًا، وحال ادخار لما اكتسبه: فيكون به غنيا عن المسألة، وحال إنفاق على نفسه: فيصير به منتفعًا، وحال إفادة لغيره: فيصير به سخيا، كذا أيضًا له في العلم أربعة أحوال: حال استفادة، وحال تحصيل، وحال استبصار، وحال تبصير وتعليم. ومن أصاب مالًا فانتفع به، ونفع مستحقيه كان كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة، وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب، وهذا أشرف المنازل. ثم بعده من استفاد علمًا فاستبصر به. فأما من أفاد غيره علمه ولم ينتفع هو به فهو كالدفتر يفيد غيره الحكمة وهو عادمها، وكالمسن يشحذ ولا يقطع، وكالمغزل يكسو ولا يكتسي، وكذبالة المصباح تحرق نفسها وتضيء لغيرها، ومن استفاد علمًا ولم ينتفع به هو ولا غيره فإنه: كالنخل يشرع شوكًا لا يذود به ... عن حمله كف جان وهو منتهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ما يجب على المتعلم أن يتحراه حق المترشح لتعلم الحقائق أن يراعي ثلاثة من الأمور: الأول: أن يطهر نفسه من رديء الأخلاق تطهير الأرض للبذر من خبائث النبات، وقد تقدم أن الطاهر لا يسكن إلا بيتًا طاهرًا، وأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب. الثاني: أن يقلل من الأشغال الدنيوية ليتوفر زمانه على العلوم الحقيقية: فما صاحب التطواف يعمر منهلًا وربعًا إذا لم يخل ربعًا ومنهلا وقد قال اللَّه تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) والفكرة متى توزعت تكون كجدول تفرق ماؤه، فيتنشفه الجو وتشربه الأرض، فلا يقع به نفع، وإن جمع بلغ المزدرع فانتفع به. والثالث: ألا يتكبر على معلمه ولا على العلم، فالعلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي، ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إيَّاك بعضه على خطر، وكأنما إيَّاه عني من قال: خدم العلا فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدم ومتى لم يكن المتعلم من معلمه كأرض دمثة نالت مطرًا غزيرًا فتلقته بالقبول لم ينتفع به. فحقه أن يضرع له، كما قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) أي: لمن له بنفسه علم يستغنى به، أو تذلل لاستماع العلم واقتباسه ممن عنده العلم، وقال بعض العلماء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اليد العليا خير من اليد السفلى " إشارة إلى فضل المعلم على المتعلم، وفي تبين فضل المعلم حث للمتعلم على الانقياد له. وكما أن من حق المريض أن يكل إلى الطبيب الناصح الذي وقف على دائه ليطلب الطبيب دواءه وغذاءه، فإنه إن اشتهى لم يشته إلا ما فيه داؤه ولم يجتوِ إلا ما فيه شفاؤه: فمن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا كذلك من حق التعلم إذا وجد ناصحًا أن يأتمر له، ولا يتأمر، عليه ولا يراده فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ليس بصدد تعلمه، وكفى على ذلك تنبيهًا ما حكى اللَّه تعالى عن العبد الصالح أنه قال لموسى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فنهاه عن مراجعته وليس ذلك نهيا عما حث اللَّه تعالى عليه بقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) وإنما هو نهي عن نوع من العلم الذي لم تبلغه منزلته بعد، والحث إنما هو على سؤال عن تفاصيل ما خفي عليه من النوع الذي هو بصدد تعلمه، وحق من هو بصدد تعلم علم من العلوم أن لا يصغي إلى الاختلافات المشككة والشبه الملتبسة ما لم يتهذب في قوانين ما هو بصدده، لئلا تتولد له شبهة تصرفه عن التوجه فيه فيؤدي ذلك به إلى الارتداد، ولذلك نهى اللَّه تعالى من لم يكن قد تقوَّى في الإسلام عن مخالفة الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) وقال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) ومن أجل ذلك كره للعامة أن يجالسوا أهل الأهواء والبدع " لئلا يغووهم، فالعامي إذا خلا بذوي البدع كالشاة إذا خلا بها السبع، وقال بعض الحكماء: إنما حرم اللَّه تعالى في الابتداء لحم الخنزير، لأنه أراد تعالى أن يقطع العصمة بين العرب وبين الذين كانوا يشككونهم في دينهم باجتماعهم معهم من اليهود والنصارى، فحرم على المسلمين ذلك، إذ هو معظم مأكولاتهم، وعظم الأمر في تناوله ومسه لينتهي المسلمون عن الاجتماع معهم في المؤاكلة والأنس، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن والكافر: " لا تتراءى ناراهما " لذلك فأما الحكيم فإنه لا بأس بمجالسته إياهم فإنه جار مجرى سلطان ذي عدة وأجناد وعتاد لا يخاف عليه العدو حيث ما توجه، ولهذا جوز له الاستماع إلى الشبهة، بل أوجب عليه أن يتتبع بقدر جهده كلامهم ويسمع شبههم ليجاهدهم ويدافعهم، والعالم أفضل المجاهدين (الذابين عن الدين) ، فالجهاد جهادان جهاد بالبنان وجهاد بالبيان، ولما تقدم سمَّي اللَّه تعالى الحجة سلطانًا في غير موضع من كتابه كقوله تعالى حكاية عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ما يجب أن يتحراه المعلم مع المتعلمين منه حق المعلم أن يجري متعلميه مجرى بنيه فإنه في الحقيقة لهم أشرف من الأبوين، كما قال الإسكندر وقد سئل: أمعلمك أكرم عليك أم أبوك، فقال: بل معلمي؛ لأنه سبب حياتي الباقية ووالدي سبب حياتي الفانية، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بقوله: " أنا لكم مثل الوالد " فحق معلم الفضيلة أن يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هو في إرشاد الناس خليفته فيشفق عليهم إشفاقه ويتحنن عليهم تحننه، كما قال تعالى في وصفه - صلى الله عليه وسلم -: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) وأي عالم لم يكن له من يفيده العلم صار كعاقر لا نسل له فيموت ذكره بموته، ومتى استفيد علمه كان في الدنيا موجودًا، وإن فقد شخصه كما قال أمير المؤمنين علي كرم اللَّه وجهه: " العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم فىِ القلوب موجودة "، وقال بعض الحكماء في قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أنه سأله نسلًا يورثه علمه لا من يورثه ماله فأعراض الدنيا أهون عند الأنبياء من أن يشفقوا عليها، وكذا قوله تعالى: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) أي: خفت أن لا يراعوا العلم، وعلى هذا قال عليه الصلاة والسلام: " العلماء ورثة الأنبياء "، وكما أن من حق أولاد الأب الواحد أن يتحابوا ويتعاضدوا ولا يتباغضوا، كذلك من حق بني العلم الواحد، بل الدين الواحد أن يكونوا كذلك، فأخوة الفضيلة فوق أخوة الولادة، ولذلك قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) وحق العالم أن يصرف من يريد إرشاده عن الرذيلة إلى الفضيلة بلطف في المقال وتعريض في الخطاب، فالتعريض أبلغ من التصريح لوجوه: أحدها: أن النفس الفاضلة لميلها إلى استنباط المعنى يميل إلى التعريض شغفًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 باستخراج معناه بالفكر، ولذلك قيل: رب تعريض أبلغ من تصريح. الثاني: أن التعريض لا تنتهك به سجوف الهيبة ولا يرتفع به ستر الحشمة. والثالث: أنه ليس للتصريح إلا وجه واحد، وللتعريض وجوه، فمن هذا الوجه يكون أبلغ، ومن هذا الوجه حذف أجوبة كثير من الشروط المقتضية للثواب والعقاب نحو قول اللَّه تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) . والرابع: أن للتعريض عبارات مختلفة فيمكن إيراده على وجوه مختلفة، ولا يمكن إيراد التصريح إلا على وجه واحد، إذ ليس له إلا عبارة واحدة. والخامس: أن صريح النهي داعٍ إلى الإغراء، ولذلك قال من قال: فإن اللوم إغراء، وقال الشاعر: دع اللوم إن اللوم يغري وإنما ... أراد صلاحًا من يلوم فأفسدا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو نهي الناس عن فت البعر لفتوه وقالوا: ما نهينا عنه إلا وفيه شيء " وكفى ذلك لشهادة ما كان من أمر آدم - صلى الله عليه وسلم - وحواء في نهي اللَّه تعالى إياهما عن أكل الشجرة. ومن حق المعلم مع من يفيده العلم أن يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علمه الله تعالى حيث قال: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) فلا يطمع في فائدة من جهة من يفيد علمًا ثوابًا لما يوليه، وليعلم أن من باع علمًا بعرض دنيوي فقد صادم الله تعالى في حكمه، وذلك أن الله تعالى جعل المال خادمًا للمطاعم والملابس جعلها خادمة للبدن، وجعل البدن خادمًا للنفس، وجعل النفس خادمًا للعلم، فالعلم مخدوم غير خادم، والمال خادم غير مخدوم. فمن جعل العلم ذريعة إلى اكتساب المال فقد جعل ما هو مخدوم غير خادم خادمًا لما هو خادم غير مخدوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وجوب منع الجهلة عن حقائق العلوم والاقتصار بهم على قدر أفهامهم واجب على الحكيم والعالم النحرير أن يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال: " يا معشر الأنبياء، أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلم الناس على قدر عقولهم "، وأن يتصور ما قال أمير المؤمنين طي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - حيث قال لكميل بن زياد، وأومأ بيده إلى صدره فقال: " إن هاهنا علومًا جمَّة لو وجدت لها حملة بلى أصيبت لقنًا غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين للدنيا، فستظهر بنعمة اللَّه تعالى على عباده، وبحجته على كتابه، أو منفادًا لأهل الحق لا بصيرة له يقتدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة "، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب اللَّه ورسوله "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما أحد يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان ذلك فتنة على بعضهم "، وقال عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -: " لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع، وقد قيل تصفح طلاب حكمك كما تتصفح خطاب حرمك، وبهذا ألم أبو تمام فقال: وما أنا بالغيران من دون جيرتي ... إذا أنا لم أصبح غيورًا على العلم وقيل لبعض الحكماء: ما بالك لا تطلع أحدًا على حكمة يطلبها منك، فقال: اقتداءً بالباري - جلَّ وعلا - حيث قال: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فبين أنه إنما منعهم لما لم يكن فيهم خير، وبين أن في إسماعهم ذلك مفسدة لهم وسأل جاهل حكيمًا عن مسألة من الحقائق فأعرض عنه ولم يجبه، فقال له: أما سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة " فقال: بلى سمعته، أترك اللجام هاهنا وأذهب فإذا جاء من ينفعه ذلك وكتمته فليلجمني به، وقال بعض الحكماء في قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) أنه نبه به على هذا المعنى وذلك أنه لما منعنا من تمكين السفيه من المال الذي هو عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر تفاديًا أنه ربما يؤديه إلى هلاك دنيوي فلأن يمنع من تمكينه من حقائق العلوم التي إذا عرفها السفيه أدته إلى ضلال وإضلال، وهلاك وإهلاك - أحق وأولى فإنه: إذا ما اقتنى العلم ذو شرة ... تضاعف ما ذم من مخبره وصادف من علمه قوة ... يصول بها الشر في جوهره وكما أنه واجب على الحكام إذا وجدوا من السفهاء رشدًا أن يرفعوا عنهم الحجر ويدفعوا إليهم أموالهم، لقوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فواجب على الحكماء إذا وجدوا من المسترشدين قبولًا أن يبذلوا العلوم لهم بقدر استحقاقهم، فالعلم قنية يتوصل بها إلى الحياة الأبدية، كما أن المال قنية يتوصل بها في المعونة على الحياة الدنيوية، وباذل العلم لمن لا يستحقه يستوجب عقوبة، ومانعه عن أهله يستوجب عقوبات، ولذلك قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) . وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون من تقيد من العامة بقيد الشرع بحسب حاله لا يصرف عما هو بصدده فيؤدي ذلك إلى انحلاله عن قيده، ثم لا يمكن أن يقيد بقيد الخواص فيرتفع السد الذي بينه وبين الشرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ومن كان اشتغاله بعمارة الأرض من بين تجارة أو مهنة فحقه أن يقتصر به من العلم على مقدار ما يحتاج إليه من هو في مرتبته في عبادة اللَّه العامية، وأن تملأ نفسه من الرغبة والرهبة الوارد بهما القرآن ولا تولد له الشُّبه والشكوك. فإن اتفق لبعضهم اضطراب نفس إما: بانبعاث شبهة تولدت له، أو ولدها له ذو بدعة دفع إليه فتاقت نفسه إلى معرفة حقيقتها، فحقه أن يختبر أولًا، فإن وجد ذا طبع للعلم موافق وفهم ثاقب وتصور صائب خُلِّيَ بينه وبين التعلم، وسوعد عليه بما يوجد من السبيل إليه، وإن وجد شريرًا في طبعه أو ناقصًا في فهمه منع أشد المنع، ففي اشتغاله بما لا سبيل له إلى إدراكه مفسدتان: 1 - تعطله عما يعود بنفع منه إلى العباد والبلاد. 2 - واشتغاله بما يثير منه شبهة، وليس فيه له منفعة، وقد كان بعض الأمم المتقدمة إذا ترشح أحد منهم ليتخصص بمعرفة الحكم وحقائق العلوم والخروج من جملة العامة إلى الخاصة اختبر، فإن لم يوجد خيرًا في خلقه أو وجد غير متهيأ للتعلم منعه أشد المنع، وإن وجد خيرًا ومتهيأ للتعلم شورط على أن يقيد بقيد في دار الحكمة. ويمنع أن يخرج حتى يحصل له العلم أو يأتي عليه الموت، ويزعمون أن من شرع في حقائق العلوم، ثم لم يبرع فيها تولدت له الشبهة وكثرت فيصير ضالّا مضلًّا فيعظم على الناس ضرره وبهذا النظر قيل: نعوذ باللَّه من نصف متكلم. وجوب ضبط المتصدين للعلم ومضرة إهمال ذلك لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم، فمن الإخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار، ويقع بين الناس التباغض والتنافر، وذلك أن السواس أربعة: الأنبياء: وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم. والولاة: وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم. والحكماء: وحكمهم على بواطن الخاصة. والوعاظ: وحكمهم على بواطن العامة. وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة، وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك، ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وترشح قوم للزعامة في العلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلهم بدعًا استغروا بها العامة، واستجلبوا بها منفعة ورياسة، ووجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم، وقرب جوهرهم منهم، فكل قرين إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب، وفتحوا بذلك طرقًا منسدة، ورفعوا بها ستورًا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة، فبدَّعوا العلماء وكفروهم اغتصابًا لسلطانهم ومنزاعة في مكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤوهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام. ذكر من يصلح لوعظ العامة لا يصلح الحكيم لوعظ العامة لا لنقص في الحكيم، بل لنقص في العامي فلن ترى الشمسَ أبصارُ الخفافيش، وأيضًا فبين الحكيم والعامي من تنافي طبعيهما وتنافر شكليهما من النفار قريب مما بين الماء والنار والليل والنهار، وقد قيل لسلمة بن كهيل ما لعلي - رضي الله عنه - رفضته العامة وله في كل خير ضرس قاطع، فقال: لأن ضوء عيونهم قصر عن نوره، والناس إلى أشكالهم أميل، وبهذا النظر لما قال جاهل لحكيم: إني أحبك، فقال له: نعيت إليَّ نفسي، فقيل له: ولم ذلك، فقال: لأنه إن صدق فليس ميله إليَّ إلا لنقيصة بدت من نفسي لنفسه فأنست بها، وعلى هذا قول الشاعر: لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير عاقل فحق الواعظ أن تكون له مناسبة إلى الحكماء ليقدر على الاقتباس عنهم والاستفادة منهم، ومناسبة إلى الدهماء حتى يقدروا بها على الأخذ منه كالوزير للسلطان الذي يجب أن يكون فيه أخلاق الملوك، وتواضع السوقة ليصلح أن يكون واسطة بينه وبينهم، وكالنبي الذي جعله الله من البشر وأعطاه قوة الملك ليمكنه أن يأخذ عن الملك ويمكن البشر أن يأخذوا عنه، وإلى هذا أشار تعالى بقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) تنبيهًا أنه ليس في وسعهم التلقي عن الملك ما لم يتجسم فيصير في صورة رجل. فإذن حق الواعظ أن تكون له نسبة إلى الحكيم ونسبة إلى العامة يأخذ منه ويعطيهم، كنسبة الغضاريف إلى اللحم والعظم جميعًا، ولولاها لما أمكن العظم أن يكتسب الغذاء من اللحم، وهذا مما إذا تؤمل اطلع منه على حكمة عجيبة وصنعة غريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الحال التي يجب أن يكون الواعظ عليها حق الواعظ أن يتعظ ثم يعظ، ويُبصر ثم يُبَصِّر، ويهتدي ثم يهدي، ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد، وكمسن يشحذ ولا يقطع، بل يكون كالشمس التي تفيد القمر الضوء ولها أفضل مما تفيده، وكالنار التي تحمي الحديد ولها من الحمى أكثر مما تفيد، ويجب أن لا يجرح مقاله بفعاله، ولا يكذب لسانه بحاله، فيكون ممن وصفهم اللَّه تعالى بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) ونحو ما قال علي كرم اللَّه وجهه: " قصم ظهري رجلان: جاهل متنسك وعالم متهتك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم ينفرهم بتهتكه "، والواعظ ما لم يكن مع مقاله فعاله لا ينتفع به وذلك أن عمله يدرك بالبصر، وعلمه مدرك بالبصيرة، وأكثر الناس أصحاب الأبصار دون البصائر، فيجب أن تكون عنايته بإظهار عمله الذي يدركه جماعتهم أكثر من عنايته بالعلم الذي لا يدركه إلا البصير منهم. ومنزلة الواعظ من الموعوظ كمنزلة المداوي من المداوى، فكما أن الطيب إذا قال للناس: لا تأكلوا هذا فإنه سم قاتل، ثم رأوه آكلًا له عد سخرية وهزأ، كذلك الواعظ إذا أمر بما لا يعمله، وبهذا النظر قيل: يا طبيب طب نفسك، بل قد قال تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إلى غير ذلك من الآيات، وأيضًا فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطابع من المطبوع فكما أنه محال أن ينطبع الطين بما ليس منتقشًا في الطابع كذلك محال أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس بموجود في نفس الواعظ. فإذا لم يكن الواعظ إلا ذا قول مجرد من الفعل لم يتلق عنه الموعوظ إلا القول دون الفعل، وأيضًا فإن الواعظ يجري من الناس مجرى الظل من ذي الظل، فكما أنه محال أن يعوج ذو الظل والظل مستقيم، كذلك من المحال أن يعوج الواعظ والموعوظ مستقيم، وأيضًا فكل شيء له حالة يختص بها فإنه يجري غيره بإرادة منه أو غير إرادة، كالماء الذي يحيل ما يتلقاه من العناصر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 نفسه بقدر وسعه إلي نفسه، وكذلك النار والأرض والهواء فالواعظ إذا كان غاويًا جر بغيه غيره إلى نفسه، ولهذا حكى اللَّه تعالى عن الكفار قوله: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) وقال أيضًا: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) . فمن ترشح للوعظ ثم فعل فعلًا قبيحًا اقتدى به غيره فقد جمع بين وزره ووزرهم، كما قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها يوم القيامة "، بل قد قال اللَّه تعالى: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) . صعوبة المعيار الذي تدرك به حقائق العلوم كما أن للدراهم والدنانير ميزانًا قد عرف أهلها صحته فلكل علم ميزان نحو: الحساب للمعدودات، والهندسة للممسوحات، والعروض للشعر، والنحو للألفاظ العربية، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) وأوصى الذين أعطاهم الموازين فقال: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) وقال تعالى: (أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) فكل شاكٍ أو منازع غيره في مقدار فحقه أن يعتمد ميزانه إن عرفه ويقلد أربابه إن لم يعرفه، فإن من ترك ذلك وأخذ يخرص ويحزر ويظن ويخمن لم يزل شكه ولم يسقط خلافه، فالخرص قلما يصدق والظن قلما يوافق ويحقق، ولذلك عبر بالخرص عن الكذب، فقال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وقال تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) وقال تعالى في ذم الظن: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) ومعلوم أن ميزان الدين الذي صوابه يوصل إلى الثواب العظيم وخطؤه يفضي إلى العذاب الأليم أصعب الموازين وأشرفها وأولاها بالمعرفة، وكثير في زماننا ممن تحلى بعلم الكلام وترشح فيه للجدال والخصام ورام الزعامة فيه قبل أوانها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وطلب تحقيق موزوناته بغير ميزانها، أخذ كل واحد منهم يخرص خرصًا ويظن ظنًا ويسلك بظنه طريقًا غير نهج، فإذا وقع بينهم خلاف جعل كل واحد منهم ميزانه خرصه، واتبع فيما اعتقده ظنه، فإذا تحاكموا إلى ما اتخذوه ميزانًا صار خلافهم في الميزان أكثر من خلافهم في الموزون فهم في ذلك كمن غص بطعام فاستغاث بماء فشرق به. لا جرم أن كثيرًا من مناظراتهم لا تولد إلا شبهة ولا تثمر إلا حيرة، ولا يقوم عنها اثنان بثاطة مدت بماء: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . كراهية الجدال للعوام وذمه على كل حال إباحة تعاطي الجدال للعامة الذين لم يتدربوا في تحصيل القوانين، ولم يتهذبوا في سبيل البراهين يجري مجرى حل قيد الشياطين ورفع سد يأجوج ومأجوج فإنه يثير سلطان قوتهم السبعية منخلعة من يد قائد العقل وقيد الشرع، فالجدال مكروه للعلماء الألباء فكيف للجهال الأغبياء؟! ألا ترى أنه تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فلم يطلق له جدال مخالفيه حتى قيده بالأحسن هنا مع وصفه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) وقال تعالى في ذم الجدال: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) وقال: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. وللجدال مع كونه مكروهًا شرائط وقوانين فمن تعطَّاه ولم يكن متدربًا فيها كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 خصيمًا جدلًا، والخصومة عديمة الفائدة قليلة العائدة فإن الجدال مع ما فيه قد يوقظ الفهم ويثير الأنفة لاقتباس العلم، والخصومة لا تثمر إلا العداوة وإنكار الحق؛ فلهذا جعلها اللَّه تعالى شرًّا من الجدال فقال تعالى: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) وقال: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) أي: جيد الخصومة مبين، ولم يذكر الخصام في موضع إلا عابه، وأيضًا فالمتجادلان يجريان مجرى فحلين تعاديا، وكبشين تناطحا، ورئيسين تحاربا، وكل واحد منهما يجتهد أن يكون هو الفاعل (وصاحبه هو المنفعل، وأن يكون هو الطابع) وصاحبه المنطبع، والقائل كالمؤثر، والسامع كالمتأثر، (ومتى لم يخضع المتأثر لقبول أثر المؤثر) لم يتولد منهما خير بوجه، وقال حكيم: المجادل المدافع يجعل في نفسه عند الخوض في الجدال أن لا يقنع بشيء، ومن لا يقنعه إلا أن لا يقنع فما إلى إقناعه سبيل، ولو اتفق عليه الحكماء بكل بينة، بل لو اجتمع عليه الأنبياء بكل معجزة، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. ما يجب أن يعامل به الجدل المماحك إذا ابتليت بمجادل مهاوش ومساجل مناوش قصده اللجاج لا الحجاج ومراده مباهاة العلماء ومماراة السفهاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء "، وقد قال الشاعر في مثله: تراه معدًا للخلاف كأنه ... يرد على أهل الصواب موكل فحقك أن تفر منه فرارك من الأسود والأساود فإن لم تجد من مزاولته بدًّا فقابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 إنكاره الحق بإنكارك الباطل، ودفاعه الصدق بدفاعك الكذب معتبرًا في ذلك قول اللَّه تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) وقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) وقوله حكاية عن المنافقين: (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) وتتبلغ معه بذلك، وإياك وأن تعرج معه إلى بث الحكمة وأن تذكر له شيئًا من الحقائق ما لم تتحقق أن له قلبًا طاهرًا لا تعافه الحكمة فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب " وإن لكل تربة غرسًا ولكل بناء أسًّا وما كل رأس تستحق التيجان، ولا كل طبيعة تستحق إفادة البيان. وإن كان لا بد فاقتصر معه على إقناع يبلغه فهمه، فقد قيل: كما أن لب الثمار معد للأنام فالتبن مباح للأنعام، كذلك لب الحكمة معد لذوي الألباب وقشورها مبذولة للأنعام، وكما أنه من المحال أن يشم الأخشم ريحانًا فمحال أن يفيد الحمار بيانًا، واعلم أن سبيل إنكار الحجة والسعي في إفسادها أسهل من سبيل المعارضة بمثلها والمقابلة لها، ولهذا يتحرى الجدل الخصيم أبدًا بالدفاع لا المعارضة بمثلها، وذلك أن الإفساد هدم وهو سهل والإتيان بمثله بناء وهو صعب، فإن الإنسان كما يمكنه قتل النفس الزكية وذبح الحيوانات وإحراق النبات، ولا يقدر على إيجاد شيء منها يمكنه إفساد حجة قوية بضرب من الشبه المزخرفة ولا يمكنه الإتيان بمثلها، ولأجل ما قلنا دعا الله - عز وجل - الناس في الحجج إلى الإتيان بمثلها لا إلى السعي في إفسادها، فقال تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقال: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) فرضي أن يأتوا بما فيه مشابهة له وإن كان ذلك مفترى، وقال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) . واللَّه الموفق. الوجوه التي من أجلها تقع الشبه ويتولد الخلاف السبب الموقع للشبه والمولد للخلاف على القول المجمل سببان: المعنى واللفظ. فأما ما كان من جهة المعنى: فإما أن يكون من جهة الناظر أو من جهة المنظور فيه وهو الحجة، أو من جهة الآلة التي تستعمل في النظر فإن الناظر في الشيء المعتبر له جارٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مجرى وزان وحججه كالميزان والمنظور فيه كالموزون، فمتى كان الناظر غير تام العقل كان أعمى البصيرة فيجري مجرى وزان أعمى البصر فلا سبيل له إلى الوزن، ومتى لم يكن أعمى البصيرة لكنه غير عارف بقوانين البراهين والحجج والأدلة كان جاريًا مجرى وزان عدم الميزان فأخذ يخمن، والمخمن قلما ينفك من غلط، بل ما وقع منه من الصواب فغير معتد به، إذ لا أصل له تسكن إليه النفس، ومتى لم يكن أعمى البصيرة ولكنه لا يعرف أي حجة يستعمل فيما هو بصدده فيطلب المعقول من جهة المحسوس، والمحسوس من جهة المعقول كان جاريًا مجرى وزان بصير لكنه يزن الدنانير بصنج الدراهم والدراهم بصنج الدنانير. وأما ما كان من جهة اللفظ فإما أن يكون واقعًا من جهة مفردات اللفظ، أو من جهة مركباته، فإن كان من مفردات اللفظ فإما أن يكون من حيث إن اللفظ مشترك بين معنيين كالعين واليد ونحوهما، أو يكون اللفظ عامًّا موضوعًا موضع خاص أو خاصًّا موضوعًا موضع عام، أو يكون اللفظ مستعملًا على سبيل المثل والإشارة والرمز أو يكون اللفظ مستعملًا لشيء لم تتقرر صورة ذلك الشيء في نفس السامع فيخيل إليه وهم فاسد كاعتقاد كثير من الناس اعتقادات فاسدة في الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والميزان والصراط والكرسي. وأما ما كان من جهة التركيب فإما أن يكون من جهة الكمية، وذلك بأن يكون اللفظ أكثر مما يجب أو أقل مما يجب أن يكون، وإما من جهة الكيفية وذلك أن يقدم ما حقه أن يؤخر، أو يؤخر ما حقه أن يقدم كقول الشاعر (الفرزدق: وما مثله في النفس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه ومن أجل ما وقع في الألفاظ من الشبه قال الحكماء: يجب أن يكون نظر الإنسان في المعنى إلى اللفظ أكثر من نظره من اللفظ إلى المعنى فإن اللفظ في الحقيقة لا يدل على المعنى إلا بواسطة صورة ذلك المعنى في القلب، ومتى لم تثبت صورة المعنى في القلب لم يفهم من اللفظ المعنى ألبتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بيان جميع اختلافات الناس في الأديان والمذاهب جميع الاختلافات بين أهل الأديان والمذاهب على أربع مراتب: الأولى: الاختلاف بين أهل الأديان النبوية وبين الخارجين عنها من الثنوية والدهرية وذلك في حدوث العالم، وفي الصانع وفي التوحيد. والثانية: الاختلاف بين أهل الأديان النبوية بعضهم مع بعض وذلك في الأنبياء كاختلاف المسلمين والنصارى واليهود. والثالثة: الخلاف المختص في أهل الدين الواحد بعضهم مع بعض في الأصول التي يقع فيها التبديع والتفجير كالاختلاف في كثير من صفات اللَّه تعالى وفي القدر وكاختلاف المجسمة. الرابعة: الاختلاف المختص بأهل المقالات في فروع المسائل كاختلاف الشافعية والحنفية. فالاختلاف الأول: يجري مجرى متنافيين في مسلكيهما كآخذ طريق المشرق، وآخذ طريق المغرب، وكآخذ ناحية الشمال، وآخذ ناحية الجنوب. والثاني: يجري مجرى آخذ نحو المشرق، وآخذ يمينه أو شماله، فهو وإن كان أقرب من الأول فليس يخرج أحدهما عن أن يكون ضالّا ضلالًا بعيدًا، وإيَّاهما قصد بقوله تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) . والثالث: جارٍ مجرى آخذين وجهة واحدة، ولكن أحدهما سالك للمنهج، والآخر تارك للمنهج، وهذا التارك للمنهج ربما يبلغ وإن كان يطول عليه الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 والرابع: جارٍ مجرى جماعة سلكوا منهجًا واحدًا لكن أخذ كل واحد شعبة غير شعبة الآخر، وهذا هو الاختلاف المحمود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الاختلاف في هذه الأمة رحمة " ونحوه نظر من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب، ولأجل الفرق الثلاث أمرنا أن نستعيذ باللَّه تعالى ونتضرع إليه بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) وقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وجميع الخلاف الواقع في هذه الأمة اثنان وسبعون على ما ورد في الخبر لا زائدًا ولا ناقصًا، وقد روي الخبر في ذلك على وجهين: أحدهما: " ستفترق أمتي على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة "، وفي الخبر الآخر: " كلها في الجنة إلا واحدة " وهم الزنادقة وهذان خبران لا يمتنع أن يكونا صحيحين، ولكن على نظرين ومعنيين، وقد ذكر ذلك وبين في رسالة مفردة. وصلى اللَّه وسلم على سيدنا محمد خير خلقه. النطق والصمت النطق أشرف ما خص به الإنسان، فإنه صورته المعقولة التى بها باين سائر الحيوان، ولهذا قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ولم يقل: وعلمه البيان، إذ جعل قوله: (عَلَّمَهُ) تفسيرًا لقوله: ((خَلَقَ الْإِنْسَانَ تنبيهًا أن خلقه تعالى إيَّاه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعًا عنه لكانت الإنسانية مرتفعة، ولذلك قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة، وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه، وقال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أي: إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو اللسان والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فإذا كان الإنسان هو الإنسان بذلك فلا شك أن من كان أكثر منه حظا كان أكثر منه إنسانية. والصمت من حيث ما هو صمت مذموم فذلك من صفة الجمادات فضلًا عن الحيوانات، وقد جعل اللَّه تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتًا بلا تركيب، ومن مدح الصمت فاعتبارًا بمن يسيء في الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. كما روي أن الإنسان إذا أصبح كفرت أعضاؤه لسانه فتقول: اتق اللَّه فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، فأما إذا اعتبرا بنفسيهما فمحال أن يقال في الصمت فضلٌ فضلًا أن يخاير بينه وبين النطق، وقد سئل حكيم عن أفضلهما: فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر فقال: الصمت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطا وعنه أخذ الشاعر فقال: الصمت أحسن بالفتى ... من منطق في غير حينه والفرق بين الصمت والسكوت، والإنصات والإصاخة أن: الصمت: أبلغ لأنه قد يستعمل فيما لا قوة فيه للنطق، وفيما له قوة النطق، ولهذا قيل لما لا نطق له: الصامت والمصمت. والسكوت: يقال لما له نطق فترك استعماله. والإنصات: سكوت مع استماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له في الحقيقة: إنصات، وعلى ذلك قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) فقوله: (وَأَنْصِتُوا) بعد قوله: (فَاسْتَمِعُوا) يدل أن الإنصات بعد الاستماع ذكر خاص بعد عام. والإصاخة: الاستماع إلى ما يصعب إدراكه؛ كالسر والصوت من المكان البعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الصدق ومدحه والكذب وذمه أصلهما في القول، ولا يكونان بالقصد الأول من القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، فأما بالعرض فقد يدخل في أنواع الكلام من الاستفهام والأمر والدعاء، وذلك أن يقول القائل: أزيد في الدار، في ضمنه إخبار بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذلك إذا قال: واسني، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني؛ في ضمنه أنه يؤذيه، وكلاهما - أعني الصدق والكذب - يستعمل في الاعتقاد أيضًا كقولهم: صدق ظننه واعتقاده وكذبا، ويستعملان أيضًا في أعمال الجوارح نحو: صدقوهم القتال وكذبوهم، وحد صدق التام هو مطابقة القول الضمير والخبر عنه، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق والكذب، أو يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على نظرين مختلفين؛ كقول الكافر: إذا قال من غير اعتقاد محمد رسول اللَّه، فإن هذا يصح أن يقال فيه: إنه صدق لكون الخبر عنه كذلك، ويصح فيه أن يقال: إنه كذب لمخالفة قوله ضميره؛ ولهذا كذبهم اللَّه تعالى حيث قال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) وكذلك إذا قال من لم يعلم كون زيد في الدار: إنه في الدار، يصح أن يقال: صدق وأن يقال: كذب باعتبار نظرين مختلفين؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "، وفي لفظ آخر: " فقد كذب على اللَّه "، والمتوسم لا قصد له، فإذا قال: زيد في الدار؛ لا يقال: أنه صدق ولا كذب. والصدق أجدر أركان بقاء العالم حتى لو توهم مرتفعًا لما صح نظامه وبقاؤه، وهو أصل المحمودات وركن النبوات، ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع؛ ولذلك قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) والاختصاص بالكذب انسلاخ عن الإنسانية فخصوصية الإنسان النطق، ومن عرف بالكذب لم يعتمد نطقه، ومن لم يعتمد نطقه لم ينفع، وإذا لم ينفع نطقه صار هو والبهيمة سواء، بل يكون شرًّا من البهيمة، فإن البهيمة وإن لم تنفع بلسانها فإنها لا تضر، والكاذب يضر ولا ينفع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقد قال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . واعلم أن كل كلام خرج على وجه المثل للاعتبار دون الإخبار فليس بكذب في الحقيقة، ولهذا لا يتحاشى المحّجوزون من التحدث به كقولهم في الحث على مداراة العدو والتلطف في خدمة الملوك أن سبعًا وذئبًا وثعلبًا اجتمعوا فقالوا: نشترك فيما نتصيد فصادوا عيرًا وظبيًا وأرنبًا، فقال السبع للذئب: اقسم، فقال الذئب: هو مقسوم العير لك والظبي لي والأرنب للثعلب، فوثب السبع فأدماه، ثم قال للثعلب: اقسم، فقال: هو مقسوم العير لك لغذائك، والظبي لمقيلك، والأرنب لعشائك، فقال السبع: من علمك هذه القسمة المليحة، فقال: علمني الثوب الأرجواني الذي على الذئب، وعلى المثل حمل قوم قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) وقوله تعالى: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فقالوا: يصح هذا لما كان مثلًا وإن لم تجرِ العادة بوجود الحبة هكذا. ما يحسن ويقبح من الصدق والكذب ذهب كثير من المتكلمين إلى أن الصدق يحسن لعينه والكذب يقبح لعينه، وقال كثير من الحكماء والمتصوفة: إن الكذب يقبح لما يتعلق به من المضار الحاصلة منه، والصدق يحسن لما يتعلق به من المنافع الحاصلة منه وذلك أن الأقوال من جملة الأفعال. وشيء من الأفعال لا يحسن لذاته، بل إنما يحسن ما يحسن لما يتعلق به من المنافع، ويقبح ما يقبح لما يتعلق به من الضرر الموفي على ما فيه من النفع وبالعكس، ألا ترى أن أعظم ما يجري في العالم القتل والغصب، وقد يقع كل واحد منهما على وجه يحسن وعلى وجه يقبح، وكذا المقال من الصدق والكذب، ولذلك قل - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحسن الكذب إلا في ثلاث: إصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها، وكذب الرجل في الحرب فإنها خدعة "، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أتاكم عني حديث يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 على هدى أو يرد عن ردى فاقبلوه، قُلته أو لم أقله، وإن أتاكم عني حديث يدل على ردى أو يصد عن هدى فلا تقبلوه، فإني لا أقول إلَّا حقا " (1) قالوا: والكذب يكون قبيحًا بثلاث شرائط: أن يكون الخبر بخلاف المخبر عنه، وأن يكون الخبر قد اختلقه قبل الإخبار به، وأن يقصد إيراد ما في نفسه، لا نفعًا أعظم من ضرر ذلك الكذب مع شرط أن لا يمكن الوصول إلى ذلك النفع بغيره، ومع أنه إذا ظهر كان للكاذب عذر واضح عاجلًا وآجلًا، قالوا: ولا يلزم على هذا أن يقال: جوزوا الكذب فيما يرجى منه نفع دنيوي، فإن المنفعة الدنيوية ولو كانت ملك الدنيا بحذافيرها لا تعادل الضرر الحاصل من أدنى كذب، وإنما هذا الذي قلناه يتصور في نفع أخروي يكون الإنسان فيه عاجلًا وآجلًا معذور كمن سألك عن مسلم استتر في دارك وهو يريد قتله، فيقول:هل فلاف في دارك، فتقول: لا، فهذا يجوز، لأن نفع هذا الكذب موفي على ضرره وهو فيه معذور، ولا خلاف أن في المعاريض حيث يضطر الإنسان إليها تجوز، ولذلك قيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولم يزل الأنبياء والأولياء يفزعون إليها كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: من أين أنت، فقال: " من الماء "، وقول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (إِنِّي سَقِيمٌ (89) . وقوله: " هذه أختي "، وقوله: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) . وأما الصدق: فإنما يحسن حيث يتعلق به نفع ولا يلحق ضررًا بأحد، فمعلوم قبح قول من يقعد ويقول: السماء فوقي والأرض تحتي من غير أن يريد أن يجعل هذا مقدمة دليل أو إفادة معنى يعلقه به، وكذا تقبح النميمة والغيبة والسعاية وإن كان ذلك صدقًا، ولذلك قيل: كفى بالسعاية ذمًّا أنه يقبح فيها الصدق. وأقبح الكذب مع قبح كله أو جُلّه ما لا يتعلق به رجاء نفع عاجل أوآجل، ويجلب إلى المقول له ضررًا كرجل يأتيك من بلد بعيد فيقول لك: إن ملك ذلك البلد يرغب فيك، ويتشوق إليك، ويسألك أن تأتيه لينيلك مالًا وجاهًا، فإذا وردت عليه لم تجد لذلك القول حقيقة، بل وجدت ذلك الملك حنقًا عليك.   (1) ورد في هذا المعنى عدة روايات، قال السخاوي - وذكر له روايات ضعيفة - الحديث منكر جدا، وقال العقيلي: ليس له إسناد صحيح، وقال عنه ابن حجر: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال، وقال الصفائي عما في معناه: إنه موضوع. كشف الخفاء (1 / 186) رقم (220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أنواع الكذب والسبب الداعي إليه الكذب إما أن يكون اختراعًا لقصة لا أصل لها، أو زيادة في القصة أو نقصانًا يغيران المعنى، أو تحريفًا بتغيير عبارة. فما كان اختراعًا يقال له: الافتراء والاختلاق، وما كان من زيادة أو نقصان فمَينٌ، وكل من أورد كذبًا في غيره، فإما أن يقوله بحضرة المقول فيه أو بغير حضرته، وأعظم الكذب ما كان اختراعًا بحضرة المقول فيه، وهو المعبر عنه بالبهتان، وكل من أورد حديثًا فإما أن يخبر به عن علم أو عن غلبة ظن أو عن ظن وتخمين واهٍ فما يقال عن علم فمحمود بلا شك، وما كان عن غلبة ظن فقد يحسن وقد يقبح، وما كان عن ظن واهٍ فمذموم، ولذلك قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) . واعلم أن الداعي إلى الكذب محبة النفع الدنيوي وحب الترأس، وذلك أن المخبر يرى أن له فضلًا على المخبر بما علمه فهو يتشبَّه بالعالم الفاضل في ذلك فيظن أنه يجلب بما يقوله فضيلة ومسرة، وهو يجلب به نقيصة وفضيحة، ففضيحة كذبة واحدة لا توازي مسرات دهره، فالكذب عار دائم وذل دائم، وحق الإنسان أن يتحرى الصدق ويتعوده ولا يترخص في أدنى كذب، فمن استحلاه عسر عليه فطامه، وقد قال بعض الحكماء: كل ذنب يرجى تركه بتوبة أو إنابة ما خلا الكذب فإن صاحبه يزداد على الكبر، فقد رأينا شارب خمر أقلع، ولصًّا نزع، ولم نرَ كذابًا رجع، وعوتب كذاب في كذبة فقال: لو تغرغرت به وتطعمت حلاوته لما صبرت عنه، والله الهادي. الذكر الحسن من المدح والثناء محبة الذكر الحسن أشرف مقاصد أبناء الدنيا، وهي في جبلة الناس من خصائصهم، ولا توجد في غيره من الحيوان كما قال الشاعر: ... ... ... ... ... ... حب الثناء طبيعة الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ولولا الكلف به لما ظهرت العدالة من أكثر الناس، ومن لا يخوفه الهجاء ولا يسره الثناء فلا يردعه عن سوء الأفعال إلا نار أو سيف، وقد قيل: الذي ينفر عن القبيح ويحث على الجميل أربعة أشياء: العقل، ثم الحياء، ثم المدح والهجاء، ثم الترغيب والترهيب، وقد قيل: من لم يردعه الذم عن سيئة ولم يستدعه المدح إلى حسنة فهو جماد أو بهيمة، ولأجله تنازع الناس الرياسة والمنازل الرفيعة، وليس الثناء في نفسه بمحمود ولا مذموم، وإنما يحمد ويذم بحسب المقاصد، فمن قصده طلب ما يستحق به الثناء على الوجه الذي يستحب، فذلك محمود، وهو طريقة إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) أي: اجعلني بحيث أفعل ما إذا مدحت به يكون مادحي صادقًا، ومن هذا الوجه ندب الإنسان إذا مدح أن يقول: اللَّهم اجعلني خيرًا مما يظنون، والمذموم منه أنه يميل إليه من غير تجربة لفعل ما يقتضيه وذلك من أعظم الآفات لمن تحراه، فإنه يفتح باب الحسد، والحسد يفتح باب الكذب، والكذب رأس كل مذموم، وقد توعد الله تعالى من طلب المحمدة من غير فعل حسنة تقتضيها، فقال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) . وبالنظر إلى ما تقدم قال - صلى الله عليه وسلم -: " من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن "، وقال: " المؤمن إذا مدح في وجهه ربا الإيمان في قلبه "، وبالنظر إلى ما تأخر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا، وقد أثنى على آخر فقال - صلى الله عليه وسلم -: " قطعت مطاه لو سمعها ما أفلح " فالفاضل يكره الثناء عليه في وجهه سيما إذا كان من مادح مُطر وجليس مغر، وممن يهدف قبل أن يعرف، وممن إذا وجد قادحًا قدح وإذا وجد مادحًا مدح. وأما ثناء الإنسان على نفسه فشناعة وفظاعة، فقد قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقّا، فقال: مدح الرجل نفسه، وقد قال معاوية - رحمه الله - لرجل: من سيد قومك، فقال: أنا، فقال: لو كنته لما قلته، وإنما لم يستقبح ما كان من يوسف - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) لأنه قصد بذلك التنبيه على استغلاله بما سأل أن يفوض إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقد أحسن ابن الرومي حيث اعتذر عن مدح نفسه قصد الدلالة على مكانه، فقال: وعزيز عليَّ مدحي لنفسي ... غير أني جشمته للدلال وهو عيب يكاد يسقط فيه ... كل حر يريد إظهار آل وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم. الشكر الشكر هو: تصور المنعم عليه النعمة وإظهارها، قيل: وهو مقلوب عن الكشر وهو الكشف، ويضاده الكفر وهو من كفر الشيء، أي: تغطته ومنه دابة شكور، أي: مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل: أصله من عين شكري، أي: ممتلئة فالشكر هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه، ومن هذا الوجه قيل: هو أبلغ من الحمد؛ لأن الحمد، لا يقتضي الامتلاء، ومن وجه ذكر الشيء بصفاته المحمودة والشكر ذكره بصفاته وبنعمه. فالشكر على ثلاثة أضرب: شكر بالقلب: وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأته بقدر استحقاقه، وهو أيضًا باعتبار الشاكر، والمشكور ثلاثة أضرب: شكر الإنسان لمن فوقه وهو بالخدمة والثناء والدعاء، وشكره لنظيره وهو بالمكافأة، وشكره لمن هو دونه وهو بالثواب، وقد وصف اللَّه تعالى نفسه بالشكر لصالحي عباده، وشكر العبد لربه هو معرفة نعمته وحفظ جوارحه بمنعها عن استعمال ما لا ينبغي، ومعناه بالفارسية أسبياس دارم خداي را، أي: أنا حارس له على جوارحي، وشكر المنعم في الجملة واجب بالعقل كما هو واجب بالشرع، وأوجبها شكر الباري تعالى، ثم شكر من جعله سببًا لوصول خير إليك على يده، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " لا يشكر اللَّه من لم يشكر الناس "، وقال عليه الصلاة والسلام: " اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 من شكرك، فإنه لا زوال لنعمة إذا شكرت، ولا دوام لها إذا كفرت " (1) وقال بعض أهل العلم: كل نعمة يمكن شكرها إلَّا نعمة الله تعالى فإن شكر نعمته نعمة منه، فيحتاج العبد أن يشكر الثاني كشكره الأول، وكذلك الحال في الثالث والرابع، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولذلك قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أمرتني بالشكر على نعمتك، وشكري إيَّاك نعمة من نعمك " ومن هذا أخذ الشاعر فقال: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمرُ ولهذا قيل: غاية شكر اللَّه تعالى الاعتراف بالعجز عنه، بل قد قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) وأيضًا فكل ما يفعل الله بعبده فهو منه نعمة وإن كان قد يعد ذلك بلية، ولذلك قال بعض الصالحين: يا من منعه عطاء وبلاؤه نعماء؛ ولأجل صعوبة شكره قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ولم يثن بالشكر على أوليائه إلا على اثنين منهم، قال في إبراهيم: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) فخص اللَّه تعالى لفظ الأنعم الدال على أدنى العدد، وقال في نوح: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) . واعلم أن الشكر والصبر جماع الإيمان، كما روي في الخبر، وقد روي: " الصبر نصف الإيمان ". لكن قد قال بعض المتصوفة: الشكر أفضل من الصبر، فإن الصبر حبس النفس على مسالمة البلاء، والشكر أن لا تلتفت إلى البلاء، بل يراه من النعماء، فمن صبر فقد ترك إظهار الجزع، ومن شكر فقد تجاوز إلى إظهار السرور بما جزع له الصابر، وأيضًا فالصبر هو ترك للعمل السئ، والشكر إظهار الفعل الحسن، وليس من ترك قبيحًا كمن فعل حسنًا وجميلًا، وقابل تعالى الشكر بالمجازاة، فعل الحبيب بحبيبه، فقال تعالى: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وقابل الصبر   (1) هذا بلفظه ليس بحديث، وهي عبارة أوردها ابن المقفع في الأدب الكبير (49) نقلا عن التوراة. انظر محمد يوسف موسى فلسفة الأخلاق (31) . وقد روى أحمد في مسنده: (التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر ... " مسند أحمد (4 / 278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بالأجر؛ فعل المستأجر بأجيره، فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) وأين الأجر وإن كثر حتى صار بغير حساب من الجزاء، ثم قال في الصبر: (يُوَفَّى) ، فلم يسم فاعله، وقال في الشكر: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) ، (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) فانظر إلى هذا اللطف في المقال قبل الانتهاء إلى الفعال ولم يذكر من أنبيائه بالشكر إلا اثنين كما تقدم ووصف جماعتهم بالصبر فقال: (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) فجعل الصبر مبدأ والشكر منتهى؛ ولأن الصبر محمول عليه قهرًا والشكر مؤدى تطوعًا. الغيبة والنميمة الغيبة: أن يذكر الإنسان غيره بما فيه من عيب من غير أن يحوج إلى ذكره، وقد عظم اللَّه - عز وجل - أمرها فقال: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) وقال تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) وقال عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنة قتات "، وروي: " النميمة تفطر الصائم وتنقض الوضوء "، وقلَّ من وجد عائبًا إلا كان معيبًا، وقال قتيبة لرجل رآه يغتاب آخر: لقد تلمظت بما يعافه الكرام، وحق الإنسان أن لا يتعودها فإن لها ضراوة، ولذلك عير إنسان آخر بالغيبة فقال: لو تلمظت بها لما صبرت عنها، ثم إن من اغتاب اغتيب، ومن عاب عيب، فبحثه عن عيوب الناس يحمل الناس على البحث عن عيوبه وكما يجب أن يتحراها بقوله يجب أن يتجنب من سماعها وسماع كل قبيح من الكذب، لئلا يعلق وضره ووسخه بفكرته فوضر كل كلمة عوراء لا يمكن تطهير القلب عنه إلا بزمان مديد وعلاج شديد، وسماع القبيح قد يصير سببًا لفساد الكبير المجيد وغواية العالم المستبصر، فضلا عن فساد الحدث الغر والناشئ الغمر، ولذلك قال تعالى في مدح قوم: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وقد أجاد من قال: وسمعَك صُن عن سماع القبيح ... كصَوْن اللسان عن النطق به وكقبح الغيبة والنميمة المسابة، قال أمير المؤمنين علي رضي اللَّه تعالى عنه: " ما تساب . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 اثنان إلا غلب ألأمهما وإلا انحط الأعلى إلى رتبة الأسفل منهما "، وقد قيل: إذا سمعت كلمة تؤذيك فتطامن لها حتى تتخطاك. وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم. الكلام المستقبح البذاء: الكلام القبيح، ويكون من القوة الشهوية طورًا؛ كالرفث والسخف، ويكون من القوة الغضبية طورًا، فمتى كان معه استعانة بالقوة الفكرة يكون فيه السباب، ومتى كان من مجرد الغضب كان صوتًا مجردًا لا يفيد نطقًا، كما ترى كثيرًا ممن فار غضبه وهاج هائجه. والرفث: فواحش الكلام في باب النكاح وأوصاف النساء وهو قبيح، قال بعضهم: إني لأستقبح من الرجل أن يكون وصافًا لبطنه وفرجه، ومن حق الإنسان أن يصون عن ذلك كله سمعه كما يصون عن التفوه به فمه؛ ولذلك قال تعالى في مدح قوم: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) . والسباب ثلاثة: الأول: قدح في نسب المسبوب. والثاني: في نفسه أو بدنه لعاهة به أو آفة. والثالث: في شيء فعله أو فعل به. والسفه: التسرع إلى القول القبيح أو الفعل القبيح. المزاح والضحك المزاح: إذا كان على الاقتصاد محمود، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا "، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - كلمات مازح بهن، وقال سعيد بن العاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 لابنه: اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين ويوحش المخالطين. ولكن الاقتصاد فيه صعب جدا لا يكاد يوقف عليه، ولذلك تحرج عنه أكثر الحكماء حتى قيل: المزاح مسلبة للبهاء، ومقطعة للإخاء، وفعل لا ينتج إلا الشر. وأما الضحك فمن خصائص الإنسان، وذلك أنه يكون من التعجب، والتعجب لا يكون إلا عن فكرة، وبالفكرة يميز الإنسان عن البهائم والاقتصاد فيه، ومعرفة ما يحسن منه عسير كما هو في المزاخ. وقيل: إياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وتورث النسيان، وقيل: كثرة الضحك من الرعونة، وحكي عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن اللَّه تعالى يبغض المضحاك من غير عجب، والمشاء إلى غير أرب. وأما إيراد المضحكات على سبيل السخف فنهاية القباحة ". وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويلٌ له، ويلٌ له ". الحلف أقبح من الكذب اليمين الفاجرة فيها مع الكذب الاستهانة بالمقسم به، وحق المسلم أن يتحاشى من الاستعانة باليمين في الحق فكيف في الباطل، وأن يتحقق تقدير القسم ومما يراد به ليعلم أن الأغراض الدنيوية أوبخ أمرًا وأخس قدرًا من أن يفزع فيها إلى الحلف باللَّه، وتقدير ذلك قول القائل إذا قال: تاللَّه إن لي عليك كذا، أي: كون ذلك لي عليك حق كما أن وجود الله تعالى حق، وهذا كلام يتحاشى منه من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من تعظيم اللَّه، وقد قال اللَّه سبحانه: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) وقال: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) وقال علي - رضي الله عنه -: " الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة " ولم يخص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يمينًا من يمين. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يحلف على ماله فلا مال له " فإنه وإن كان بنظر الفقهاء يتصور أنه مفسحة في الحلف صادقًا، فإنه بنظر الحكماء يحث على إيثار التعظيم للَّه - عز وجل - وتقديمه على إيثار المال وتعريض بأن الذي فاته هو عرض حاضر لا الدين والمروءة. وحق العاقل إذا اضطر إليه أن يسلك سبيل التعريض فيه دون التصريح وما لا يضطر إليه تركه تعريضًا وتصريحًا، وإن بدر منه سهوًا حلف شفعه بالاستثناء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من كان حالفًا فليقل: إن شاء اللَّه، فإنه يدفع الحنث، ويذهب الخبث، وينجز الحاجة، ويدفع اللجاجة ": وقيل: العاقل إذا تكلم أتبع كلامه مثلًا، والأحمق إذا تكلم أتبع كلامه حلفًا، وعلامة الكاذب جوده بيمينه على غير مستحلف، قال الشاعر المتنبي: وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهم وقال بعض الحكماء: اللغو في الحلافة يدل على كذب أربابها، فإن ذلك لقلة الركون إلى قولهم، وكما جوز - عليه الصلاة والسلام - الكذب حيث يضطر إليه جوز الحنث في اليمين، فقال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الفصل الثالث فيما يتعلق بالقوة الشهوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الحياء الحياء: انقباض النفس عن القبائح، وهو من خصائص الإنسان، وأول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان، وجعله اللَّه تعالى في الإنسان ليرتدع به، عما تنزعه إليه الشهوة من القبائح فلا يكون كالبهيمة. وهو مركب من جبن وعفة، ولذلك لا يكون المستحي فاسقًا ولا الفاسق مستحيًا لتنافي اجتماع العفة والفسق، وقل ما يكون الشجاع مستحييًا والمستحي شجاعًا لتنافي اجتماع الجبن والشجاعة، ولعزة وجود ذلك تجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة، والمدح بالحياء نحو قول الشاعر: يجري الحياء الغض من قسماتهم ... في حين يجري من أكفهم الدم وقال آخر: كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دواني ومتى قصد به الانقباض فمدح للصبيان دون المشايخ، ومتى قصد به ترك القبيح فمدح لكل أحد، وبالاعتبار الأول قيل: الحياء الأفاضل قبيح. ومن هذا الوجه قيل: خزي يخزى خزيًا في الهوان، وخزي خزاية في الاستحياء فجعلا من منبع واحد، وبالاعتبار الثاني قيل: " إن اللَّه يستحي من ذي الشيبة في الإسلام أن يعذبه "، أي: يترك تعذيبه. وأما الخجل: فحيرة النفس لفرط الحياء، ويحمد في النساء والصبيان، ويذم باتفاق من الرجال. والوقاحة: مذمومة بكل لسان، إذ هي انسلاخ من الإنسانية، وحقيقتها لجاجة النفس في تعاطي القبيح واشتقاقه من حافر وقاح، أي: صلب " ولهذه المناسبة قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ياليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافرًا للأشهب وما أصدق قول الشاعر: صلابة الوجه لم تغلب على أحد ... إلا تكمل فيه الشر واجتمعا فأما مداواة اكتساب الحياء فحق الإنسان إذا همَّ بقبيح أن يتصور أجل من في نفسه حتى كأنه يراه، فالإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه؛ ولذلك لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال، ولا من الذين لا يميزون، ويستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل، ومن الجماعة أكثر مما يستحي من الواحد. والذين يستحي منهم الإنسان ثلاثة: البشر: وهم أكثر من يستحي منه، ثم نفسه، ثم اللَّه - عز وجل -، ومن استحيا من الناس ولم يستحِ من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره، ومن استحيا منهما ولم يستحِ من اللَّه فلعدم معرفته بالله - عز وجل -، فإن الإنسان يستحي ممن يعظمه ويعلم أنه يراه أو يسمع نجواه فيبكته، ومن لا يعرف اللَّه فكيف يستعظمه، وكيف يعلم أنه مطلع عليه. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استحيوا من اللَّه حق الحياء " في ضمنه حث على معرفته، وقال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) تنبيهًا على أن العبد إذا علم أن اللَّه يراه استحيا من ارتكاب الذنب، وقد سئل الجنيد - رحمه الله - عما يتولد منه الحياء من اللَّه تعالى، فقال: رؤية العبد آلاء الله عليه، ورؤية تقصيره في شكره، فإن قيل: كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لا حياء له فلا إيمان له "،؛ قيل: الحياء أول ما يظهر في الإنسان من أمارة العقل، والإيمان آخر مرتبة العقل، ومحال حصول آخر مرتبة العقل لمن لم يحصل له الرتبة الأولى فبالواجب إذا كان من لا حياء له فلا إيمان له. وقال عليه الصلاة والسلام: " الحياء شعبة من الإيمان "، وقال: " الإيمان عريان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ولباسه التقوى وزينته الحياء " كبر الهمة وأما كبر الهمة: فمختص بالإنسان، فأما الحيوانات فكل جنس يتحرى الفعل بقدر ما في طبعه، وهو خال بين التفنج وصغر الهمة، فالتفنج تأهل الإنسان لما لا يستحقه وهو البذخ، وصغر الهمة تركه لما يستحقه وهو الدناءة، وكلاهما مذمومان؛ لكن المتفنج جاهل أحمق، والصغير الهمة جاهل غير أحمق، وليس لكبر الهمة إفراط مذموم في الحقيقة، وإنما الإفراط يدخل في كل فعل يتصوره بعض الناس بصورة علو الهمة له وليس كذلك، واعلم أنه قد يقال: فلان كبير الهمة وفلان صغير الهمة؛ إذا كان أحدهما يطلب مقتنى أكثر أو أشرف مما يطلبه الآخر، والكبير الهمة على الإطلاق هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه فلا يصير عبد عارية بطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة فيصير من خلفاء اللَّه وأوليائه في الدنيا ومن مجاوريه في الآخرة. والصغير الهمة من كان على الضد من ذلك، وقال أعرابي: فلان عظمه صغر الدنيا في عينيه، فكان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وخارجًا من سلطان فرجه فلا يستخف له رأيًا ولا بدنًا، وحق الإنسان أن يتلطف عن ذلك فإنه وإنا كان بعنصره حيوانًا فهو بعقله وفكره مَلَك، وإذا ضيع نفسه صار شرًّا من البهيمة، وذلك هو الخسران المبين، وقد قيل: من عظمت همته لم يرضَ بقنية مستردة وحياة مستعارة. فإن أمكنك أن تقتني قنية مؤبدة وحياة مخلدة فافعل، فلا اعتداد بما له فناء. والكبير الهمة على الإطلاق من يتحرى الفضائل لا لجاه ولا لثروة ولا للذة ولا لاستشعار نخوة واستعلاء على البرية، بل يتحرى مصالح العباد شاكرًا بذلك نعمة اللَّه، ومتوخيًا به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد، وطريق العلاء قليلة الأناس. الوفاء والغدر الوفاء: أخو الصدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما، لأن فيه مع الكذب نقض العهد. والوفاء يختص بالإنسان فمن فقد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 اللَّه تعالى العهد من الإيمان، وصيره قوامًا لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش، ولذلك عظم اللَّه تعالى أمره فقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) وقيل في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) أي: نزه نفسك عن الغدر، وقال تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وقد عظم حال السموأل فيما التزم به من الوفاء بدروع امرئ القيس؛ ولقلة وجود ذلك في الناس قال اللَّه تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) وقد ضرب به المثل في العزة فقيل: هو أعز من الوفاء. قال الشاعر: أبى الناس إلا ذميم الفعال ... إذا جربوا وقبيح الكذب المشاورة اشتقاقها من شرت الدابة إذا استخرجت جريها، وهي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور الجزئية التي يتردد المرء فيها بين فعلها وتركها ونعم العدة هي، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " المشاورة حصن من الندامة وأمن عن الملامة "، وقيل: الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة والاستبداد عن الاستخارة، والرأي الواحد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين والثلاثة إصرار لا ينقض، وكفاك بمدحها قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وقد استحسن الحكماء قول بشار: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو مشورة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لكن اعتبار من تجوز أن تعتمد مشاورته صعب جدًّا، فإنه يحتاج أن يكون صديقًا أمينًا مجربًا حازمًا ناصخا رابط الجأش غير معجب بنفسه ولا متلون في رأيه ولا كاذب في مقاله، فمن كذب لسانه كذب رأيه، ويجب أن يكون فارغ البال في وقت ما يستشار وقد أحسن بشار حيث قال: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب النصح النصح: أصله من نصحت الثوب إذا خطته، وهو إخلاص المحبة لغيره في إظهار ما فيه صلاحه، وهو دون المحبة المختصة بالفضيلة ودون محبة النفع واللذة، وقد عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فقال: " الدين النصيحة " فقيل: لمن يا رسول اللَّه، فقال: " للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم " فبين - صلى الله عليه وسلم - أن النصح واجب لكافة الناس، وذلك بأن تتحرى مصلحتهم في جميع أمورهم بقدر وسعك. وأول النصح أن ينصح الإنسان نفسه فمن غشها فقلما ينصح غيره، وحق من استنصح أن يبذل غاية النصح وإن كان ذلك في شيء يضره، ويتحرى فيه قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) وقال ابن عباس - رضي الله عنها -: لا يزال الرجل يزداد في صحة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشه سلبه اللَّه نصحه ورأيه، ولا يلتفتن إلى من قال: إذا نصحت الرجل فلم يقبل منك فتقرب إلى اللَّه بغشه، فذلك قول ألقاه الشيطان على لسانه، اللَّهم إلا أن يريد بغشه السكوت عنه، فقد قيل: كثرة النصيحة تورث الظنة. ومعرفة الناصح من الغاش المستنصح صعبة جدا، فالإنسان المكره يصعب الاطلاع على سره، إذ هو قد ييدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات التي يمكن أن تطلع على طبائعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 كتمان السر السر ضربان: أحدهما: ما يلقي الإنسان من حديث يستكتم وذلك إما: لفظًا كقولك لغيرك: أكتم ما أقول لك، وإما: حالًا وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده، أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسيه، ولهذا قيل: إذا حدَّثك الإنسان بحديث فالتفت فهو أمانة. والثاني: أن يكون حديثًا في نفسك بما تستقبح إشاعته أو شيئًا تريد فعله، وإلى الأول من ذلك أشار النبي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أتى منكم من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر اللَّه "، وإلى الثاني أشار من قال: " من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه ". وكتمان النوع الأول من الوفاء ويختص بعامة الناس، والثاني من الحزم والاحتياط، وهو مختص بالملوك وأصحاب السياسات. وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء، والسبب في أنه يصعب كتمان السر هو أن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية. وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن اللَّه تعالى وكَل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها " فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلى حيث ما يجب إطلاقها ولا يخدعنك عن سرك قول من قال: وأكتم السر فيه ضربة العنق وقول من ينشدك: ويكاتم الأسرار حتى كأنه ... ليصونها عن أن تمر بباله فذلك قول من يستنزلك عما في قلبك، فإذا استفزع ما عندك لم يرع فيه حقك، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر، وما أصدق من أنبأ عن حقيقة حاله حيث قال له صديقه: أريد أن أفشي إليك سرًّا تحفظه عليَّ، فقال، لا أريد أن أوذي قلبي بنجواك، وأجعل صدري خزانة شكواك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فيقلقني ما أقلقك، ويؤرقني ما أرقك، فتبيت بإفشائه مستريحًا، ويبيت قلبي بحره جريحًا. وقد قيل: أكثر ما يستنزل الإنسان عن سره في ثلاثة مواضع: عند الاضطجاع على فراشه، وعند خلوه بعِرْسه، وفي حال سكره. ومن حق من يسارر غيره أن يجتنب المحافل لأمرين: أحدهما: حذرًا من أن يساء به الظن فهذا يقول: قد اغتابني، وذا يستريب، وذا يتهم. والثاني: أنه ربما يتتبع بالفحص فيطلع على مراده، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه ". التواضع والكبر التواضع: اشتقاقه من الضعة وهو رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه فضله ومنزلته. وفضيلته لا تكاد تظهر في أفناء الناس لانحطاط درجتهم، وإنما ذلك يتبين في الملوك وأجلَّاء الناس وعلمائهم وهو من باب التفضل، لأنه ترك بعض حقه. وهو من التوسط بين الكبر والضعة. والضعة: وضع الإنسان نفسه مكانًا يزرى به بتضييع حقه. والكبر: رفع نفسه فوق قدره. والفرق بين التواضع والخشوع: أن التواضع يقال فيما بين رفيع ووضيع، وأيضا فالتواضع يعتبر بالأخلاق والأفعال الظاهرة والباطنة. والخشوع يقال باعتبار أفعال الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) وقال: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) وقد عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - التواضع ومدحه فقال: " طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة "، وقد قيل لـ بزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يُحسد صاحبها عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه، فقال: نعم أما النعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فالتواضع، وأما البلاء فالكبر. وقال بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد عند الحكماء من الكبر مع الأدب والسخاء، فأنبل بحسنة غطت على سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين، فالكبر هو ظن الإنسان بنفسه أنه أكبر من غيره، والتكبر: إظهار لذلك وهذه صفة لا يستحقها إلا اللَّه تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين فهو فيها كاذب، ولذلك صار مدحًا في حق الباري - عز وجل - وذمًّا في البشر، وإنما شرف المخلوق في إظهار العبودية، كما قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) تنبيهًا على أن ذلك لهم رفعة لا ضعة، والتكبر والضرع كلاهما جاهلان، لكن الضرع غبي والتكبر غبي أحمق، وشتان ما بينهما، فالغبي قد يتأدب، والأحمق لا سبيل له إلى تأديبه، ولأن الضرع قد ترك ما له، والتكبر ادعى ما ليس له، وشتان ما بين المنزلتين، ولأن الكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانية، ومن الكبر الامتناع من قبول الحق، ولذلك عظم اللَّه تعالى أمره فقال: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وقال تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وقال: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وقال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول اللَّه - عز وجل -: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في نار جهنم "، وقد نبَّه - عز وجل - على مبلغ فعله أحسن تنبيه فقال: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) وأقبح كبر يين الناس ما كان معه بخل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل والكبر " واستحسن قول الشاعر: جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك ومن تكبر لرياسة نالها دل ذلك على دناءة عنصره، ومن تفكر في تركيب ذاته، فعرف مبدأه ومنتهاه وأوساطه عرف نقصه، ورفض كبره، وقد نبه اللَّه - عز وجل - على ذلك أحسن تنبيه بقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وبقوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثم قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وإلى هذا المعنى نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير لما قال ليزيد بن المهلب: أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، وأخذ ذلك الشاعر فقال: كيف يزهي من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه وقال غيره: يا قريب العهد بالمخرج لم لا تتواضع. فمن كان تكبره لقنيته فليعلم أن ذلك ظل زائل وعارية مستردة. والاستطالة: إظهار الطول فمن أظهر ذلك من غير طوق فهو منسلخ عن الإنسانية ومن أظهر ذلك مع الطول فقد ضيع طوله. والصلف: يقال اعتبارًا بميل في عنقه. والصعر: بميل في خده، ولذلك استعمل في ذلك قي الرأس نحو قوله تعالى: (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) . والباء: استقصاء في النفس بالترفع عن الانقياد للواجب، والخيلاء: أن يظن بنفسه ما ليس فيها من قولهم: خلت، ولتصور هذا المعنى قال حكيم: إعجاب المرء بنفسه أن يظن بها ما ليس فيها مع ضعف قوة فيظهر فرحه بها. والزهو: هو الاستخفاف من الفرح بنفسه، وأما العزة: فالترفع بنفسه عما يلحقه غضاضة، وأصلها من العزاز، وهي الأرض الصلبة، والعزاز: حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة كالمتظلف في كونه في ظلف من الأرض لا يلحقه فيه مذلة، والعزة: منزلة شريفة وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها. وكثيرًا ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضع والتضرع والتذلل بصورة واحدة، وتصور الإسراف بصورة الجود، وتصور البخل بصورة الحزم، ولهذا قال الحسن - رحمه اللَّه تعالى - لمن قال له: ما أعظمك في نفسك، فقال: لست بعظيم ولكني عزيز، وقد قال اللَّه تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ". ولما قلنا: قالوا: التكبر على الأغنياء تواضع تنبيهًا أن هذا التكبر في الحقيقة عز النفس " ولأجل أن هذا التكبر غير مذموم، قال تعالى: (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فشرط غير الحق، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: من خض لغني فوضع نفسه عنده طمعًا فيه ذهب ثلثا مروءته وشطر دينه. الفخر الفخر: هو المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان، وذلك نهاية الحمق، فمن نظر بعين عقله وانحسر عنه قناع جهله علم أن أعراض الدنيا عارية مستردة، لا يؤمن في كل ساعة أن تسترجع، فالمباهي بها مباهاة بغير ثراه، ومتبجح بما في يد سواه كالفاخرة بجدح ربَّتها، بل هو أدون من ذلك. فقد قال بعض الحكماء لمن يفتخر بثرائه: إن افتخرت بفرسك فالحسن والفراهة له دونك، وإن افتخرت بثيابك وآلاتك فالجمال لهما دونك، وإن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك، ولو تكلمت هذه الأشياء لقالت: هذه محاسننا فما لك من الحسن، وأيضًا فالأعراض الدنيوية سحابة صيف عن قليل تقشع، وظل زائل عن قليل يضمحل ويزول، كما قيل: إنما الدنيا كرؤيا فرحت ... من رآها ساعة ثم انقضت بل كما قال اللَّه - عز وجل -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) . فإن افتخرت فافتخر بمعنى فيك غير خارج عنك، وإذا أعجبك من الدنيا شيء، فاذكر فناءك وبقاءه أو بقاءك وزواله أو فناءكما جميعًا، فإذا راقك ما هو لك، فانظر إلى قرب خروجه من يدك، وتعذر رجوعه إليك، وطول حسابك عليه إن كنت تؤمن باللَّه واليوم الآخر، وقد ذم اللَّه تعالى الفخور فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 العجب العجب: ظن الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها؛ ولهذا قال أعرابي لرجل رآه معجبًا بنفسه: يسرني أن أكون عند الناس مثلك عند نفسك، وأكون في نفسي مثلك عند الناس، فتمنى حقيقة ما يقدره المخاطب، ورأى أن ذلك إنما يتم حسنه متى عرف هو عيوب نفسه، وقد قيل للحسن: من شر الناس، فقال: من يرى أنه أفضلهم، وقال بعضهم: الكاذب في نهاية البعد من الفضل، والمرائي أسوأ حالًا منه، لأنه يكذب بفعله وقوله، والمعجب أسوأ حالًا منهما، فإنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمعجب عمي عن مساوئ نفسه ورآها محاسن وسرَّ بها، قال: ولأن المرائي والكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف ركابه الغرق من مكان في البحر فبشرهم بتجاوزه قبل أن يجاوزه، لئلا يضطربوا خوف الغرق فيؤدي ذلك بهم إلى العطب، وقد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير، والمعجب لا حظ له في ذلك بوجه " ولأنك إذا وعظت المرائي والكاذب فنفسهما تصدقك وتبكتهما لمعرفتهما بنقصهما، والمعجب لجهله بنفسه يظنك في وعظه مغاليًا فلا ينتفع بمقالك، وإيَّاه قصد تعالى بقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) ثم قال تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) تنبيهًا أنهم لا يقلعون لإعجابهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث مهلكات: شح، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "، وقد قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لا أطالبه بغيرها: إذا عجب بنفسه، واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وكما أن العجب بفرسه وإن كان رديئًا لا يروم أن يستبدل به غيره، كذلك العجحب بنفسه لا يريد بحاله وإن كانت رديئة بدلًا، وأصل الإعجاب من حب الإنسان نفسه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " حبك الشيء يعمي ويصم " ومن عمي وصم تعذر عليه رؤية عيوبه، فيجب علينا أن نجعل على أنفسنا عيونًا تعرفنا عيوبنا بحق. قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: " رحم اللَّه امرأ أهدى إلي عيوبي "، ويجب على الإنسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه فإن رأى فيها مثل ذلك أزاله ولا يغفل عنه. شعر: فمن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 والتيه: قريب من العجب لكن المعجب يصدق نفسه فيما يظن بها وهمًا، والتايه يصدقها قطعًا كأنه متحير في تيه. أنواع اللذات وتفاصيلها للذة إدراك المشتهى والشهوة انبعاث الحس لنيل ما يتشوقه، وهي ثلاث: بحسب القوى الثلاث، وبحسب المقتنيات الثلاث: لذة عقلية: وهي التي يختص الإنسان بها كلذة العلم والحكمة، ولذة بدنية: يشارك فيها جميع الحيوان الإنسان، كلذة المأكل والمشرب والمنكح، ولذة مشتركة بين بعض الحيوان وبين الإنسان كلذة الرياسة والغلبة. وأشرفها وأقلها وجودًا اللذة العقلية فشرفها أنها لا تمل ولا تبتذل لكن لا يعرفها إلا من تخصص بها كالحكمة لا يستلذها إلا الحكيم. وأدون اللذات منزلةً وأكثرها وجودًا اللذة البدنية فكل إنسان يتشوقها وكل حيوان، لكنها تمل تارة وتراد تارة، وهي من وجه مداواة من آلام ومن وجهٍ هي آلام، وعلى هذا قال الحسن - رحمه الله - في وصف الإنسان: صريع جوع وقتيل شبع. وجميع اللذات تنقسم عشرة أقسام: مأكل ومشرب ومنكح وملبس ومشموم ومسموع ومبصر ومركب وخادم ومرفق من الآلات وما أشبهها، وقد جعل ذلك سبعة فأدخل المركب والمرفق والخادم وما يجري مجرى ذلك في جملة المبصرات، وعلى ذلك روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه حيث قال لعمار بن ياسر وقد رآه يتنفس فقال: " يا عمار على ماذا تنفسك، إن كان على الآخرة فقد ربحت تجارتك، وإن كان على الدنيا فقد خسرت صفقتك، فإني وجدت لذاتها سبع: المأكولات والمشرويات والمنكوحات والملبوسات والمشمومات والمسموعات والمبصرات، فأما المأكولات: فأفضلها العسل وهو صنعة ذباب، وأما المشروبات: فأفضلها الماء وهو مباح أهون موجود وأعز مفقود، وأما المنكوحات: فمبال في مبال وحسبك أن المرأة تزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها، وأما الملبوسات: فأفضلها الديباج وهو نسج دودة، وأما المشمومات: فأفضلها المسك، وهو دم فأرة، وأما المسموعات: فريح هابة في الهواء، وأما المبصرات: فخيالات صائرة إلى الفناء "، وقد ذكر الله تعالى أصل ذلك في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والمشار إليه بحرث الدنيا إلى هذه الأشياء السبعة على ما ذكرناه عن علي كرم اللَّه وجهه، والعشرة على ما ذكره غيره، وكلا القولين في التحصيل واحد، والمراد بالنساء: اقتناؤهن والاستكثار منهن، وبالبنين: الذكور من الأولاد والحفدة والخدم، وبالأنعام: الأزواج الثمانية، وبالخيل: المسومة السائمة منها والمستعد، واعلم أن الذي هو ضرورة للإنسان من هذه اللذات ولا قوام له في هذه الدنيا إلا به ما هو مشترك بينه وبين جنسه من الحيوان من المأكل والمشرب ويجمعهما اسم الغذاء والمنكح، فبالغذاء بقاء الأشخاص، وبالنكاح بقاء الأنواع، ولذلك صارت الحاجة إليهما ضرورية وصار تناولهما لا بد منه، وسائر اللذات مخصوص بها الإنسان وليس بضروري له ويتناوله بفكره، وتأنف الملوك من هذه الملاذ إلا اثنتين: السماع، لكونه من وجه لذة روحانية، والبناء، لكونه دالّا على الهمة الرفيعة، ومتى كانت الشهوة متناهية عقلية كانت أم بدنية يقال لها: الحرص فقط، والحريص قد يكون محمودًا، ولذلك قال تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ومتى كانت الشهوة للقنيات قيل لها: الشره سواء كان مالًا أو طعامًا أو نكاحًا، ومتى كانت للطعام قيل لها: النهم، فإذا كانت للنكاح قيل لها: الشبق، وثلاثتها - أعني الشبق والنهم والشره - مذمومة وما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " منهومان لا يشبعان منهوم بالمال ومنهوم بالعلم " فالنهم في العلم استعارة وهو أن يحمل على نفسه ما تقصر قواها عنه فينبت، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى ". فيما يحسن تناوله من المطعم وما يقبح منه الغذاء ضربان: أحدهما: ما لا يستغنى عنه في تربية البدن كالطعام الذي به يتغذى والماء الذي به يروى، والإنسان إذا تناول من ذلك مقدار لا يمكن التبلغ بأقل منه على ما يجب وكما يجب فهو معذور، بل مشكور ومأجور، وعلى هذا ما روي عند أكل الصالحين تنزل الرحمة، وحقه أن يتناوله تناول مضطر عالم بقذارة مآله، وأن يرى إدخاله في نفسه كدخول المستراح، ويتحقق أن نسبة الإنسان إلى الثمار والفواكه نسبة الجعل إلى الروث، فلو نطق الشجر لقال: لك أنت تأكل فضالتي كما يأكل الجعل فضالتك، والخنزير إذا استطاب لفاظة الإنسان فما هو إلا كاستطابتنا لفاظة الشجر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وبهذا تعلم أن شرف المطعم والمشرب بالإضافة لا بالإطلاق، فألقِ يا إنسان عن مناكبك الدثار وجل البصيرة، واستعمل الاعتبار تجد صدق ما قلت. ومن تناول من الطعام أكثر من ذلك كره له طبا وشرعًا، أما طبًّا فيدل عليه قول الشاعر: فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البطنة أصل الداء، والحمية أصل الدواء، وعود كل بدن بما اعتاد "، قال ابن زكريا المتطبب: ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطب شيئًا إلا وأتى به في هذه الكلمات الثلاث. وأما شرعًا فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما من وعاء أبغض إلى اللَّه من بطن مليء من حلال " وذاك أن امتلاء البطن مقوٍ للشهوة، وقوة الشهوة داعية للهوى، والهوى أعظم جند للشيطان، ومن آثر هواه وانتشر في بدنه حل في كل عضو منه جزء بقدر وسعه له فكثر جنود الشيطان، والشيطان إذا تسلط على الإنسان سباه من ربه وصرفه عن بابه، وقد قيل لحكيم: ما بالك مع كبرك لا تتفقد بدنك وقد انهد، فقال: لأنه سريع المرح فاحش الأشر، فأخاف أن يجمع بي فيورطني، ولأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش. والضرب الثاني من المطعم: ما يستغنى عنه ولو توهمناه مفقودًا لم يختل بافتقاده البدن، وأعظمه ضررًا المسكر فنفعه ليس بضروري وتناوله تسهيل لطريق الشيطان إلى تهييج القوة السبعية وإثارة سلطان الهوى، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) وقد قيل: حيث يسكن الشراب واللهو لا تسكن العفة والحكمة. فإن قيل فقد قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فلم يخص من الحلال قدرًا دون قدر ولا جنسًا دون جنس، قيل: الطيب التام الطيب هو الذي جمع اللذة والنفع والفضيلة، وذلك هو القدر المتبلغ به على ما يجب وكما يجب، ألا ترى كيف ذم من لم يكن ذلك قصده، فقال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) ومن الدلالة على خسة كثرة الأكل: ادعاء العامة الاستغناء بالقليل، وقلة وجود المفتخر بكثرة الأكل، وقد قيل: من كانت همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، وقد استحسن قول الشاعر: فإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد، فلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن ياكل في معي واحد، والكافر ياكل في سبعة أمعاء " فنبه في الخبرين أنه لا يستحب للإنسان إلا الأكل في سبع بطنه، وهو ما ذكره من اللقيمات، وذلك دون عشر لقيمات؛ لأن جمع القلة بالألف والتاء لما دون العشرة، ثم رخص لمن غلب عليه النهم أن يببغ إلى ثلث بطنه، فحصل من ذلك أن أكل المؤمن في اليوم ينبغي أن يكون سبع بطنه أو ثلث بطنه. فيما يحسن من المنكح وما يقبح منه قد تقدم أن النكاح ضروري في حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني كما أن الغذاء ضروري في حفظ الشخص، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " تناكحوا تكاثروا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خير نسائكم الودود الولود "، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 " سوداء ولود خير من حسناء عقيم "، ولقصد النسل حظر إتيان النساء في محاشها، وعلى هذا نبه قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فنبه على أنه لا يجوز إتيانها إلا حيث المحرث، وكره العزل تأكيدًا للمقصود من النكاح، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) . وتحري النكاح على ضربين: أحدهما: على الوجه الذي سنَّه الشرع، وذلك إما محمود وهو أن يتعاطاه قاصدًا به النسل أو مزيلًا للضرر عنه على ما يجب أو مسكنًا لنفسه، فالماء إذا اجتمع في مقره يجري مجرى مدة وقيح من جرح يعظم لحبسه الضرر، ويدعو صاحبه إلى ما هو في الشرع محرم، أو مكروه طبًّا وإن لم يكن قد كره شرعًا، وذلك أن يتعاطاه المرء فضلًا عما تقدم ذكره قإنه ينفذ العمر، ويستنفذ القوى، ويوسع أوعية المني ويجلب إليه دمًا كثيرًا، ويزيده شهوة، وأعظم فائدة فيه أن يلحق صاحبه بأفق البهائم من التيوس والثيران وغيرها مما يوصف بالشبق. والضرب الثاني: هو أن يكون على غير الوجه المشروع، وذلك ضربان: أحدهما: تعاطيه في المحرث، ولكن لا على الوجه الذي يجب وكما يجب كالزنا، وقد عظم اللَّه أمره فقرنه مرة بالشرك فقال: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ومرة قرنه بالشرك وقتل النفس المحرمة فقال: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) وسمي ذلك سفاحًا من حيث إن المجتمعين عليه لا غرض لهما سوى سفح الماء للشهوة كمن ضيع ماء في غير حرثه. والثاني: تعاطيه في غير المحرث كاللواطة، وهي أعظم من الزنى، لأن الزنى وضع البذر في المحرث على غير الوجه المأمور به، فهو كمن يزرع في أرض غيره أو على غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الوجه الذىِ يجوز أن يزرع فيها، وفي اللواطة مع ذلك تضييع البذر فمتعاطيها ممن قال اللَّه تعالى فيه: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) ولهذا وصف اللَّه تعالى قوم لوط بالإسراف فقال: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) . وأما العشق الشهوي فحماقة وجهل بما وضع لأجله الجماع، وتجاوز لحد البهائم في عدم ملكة النفس وذم الهوى، فإن المتعشق لم يرض بإرادة لذة الباه التي هي من أسمج الشهوات حتى أرادها من موضع واحد، فازداد بذلك عبودية على عبودية وذلة على ذلة، فالبهيمة أحسن حالًا منه، لأنها إذا أسقطت الأذى عن نفسها بالسفاد سكنحت فصارت إلى الراحة وهو لم يرض بذلك حتى استعان بالعقل في خدمة الشهوة واستجلابها، وإنما أعطاه اللَّه تعالى العقل ليقمع به الشهوة القبيحة، لا ليجعله خادمًا لها وساعيًا في حمقتها، فتعاطي العشق حال كل جاهل فارغ، سيما إذا نظر في أخبار العشاق وجالسهم، وربما يؤدي بالعاشق الحال إلى الرق، والذبول، بل إلى الموت. قال الشاعر: لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه ومن أثار شهوته فهو كمن يثير بهائم عادية وسباعًا ضارية، ثم يلتمس دفعها وقمعها والخلاص من شرها، وقد كان فيما يهيج من باعث الطبيعة كفاية عن إثارتك بالفكرة والروية، فمن أعان الطبيعة على ذلك فهو كما قيل: كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا وقد قال حكيم لتلميذ له وقد كان هوي جارية: هل تشك في أنك لا بد أن تفارقها يوما ما،. فقال: لا، قال: فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في يومك هذا واربح ما بينهما من الخوف المنتظر، وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام وانضمام الألفة إليه، وقيل لبعض الحكماء: ما العشق، فقال: جنون لا يؤجر صاحبه عليه. وسئل آخر عنه فقال: مرض نفس فارغة لا همة لها، وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفسًا فارغة، فأشاروا كلهم إلى معنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 العفة العفة لا تتعلق إلا بالقوة الشهوية، ولا تتعلق من القوة الشهوية إلا بالملاذ الحيوانية، وهى المتعلقة بالغارين وهما: البطن والفرج دون الألوان الحسنة والألحان الطيبة والأشكال المنتظمة. فإن قيل فاستطابة الرائحة قد يكون للبهائم ألا ترى أن الذئب قد يستطيب ريح الغنم، والكلب يستطيب رائحة الأرنب، قيل: إن استطابتهما لذلك استطابة للأكل، والذي قلنا من الرائحة هو ما يستطاب لذاته لا لغيره، وما هو لأجل أحد الغارين فحكمه حكمها كاستطابة الإنسان ريع السكباج، فثبت أن العفة هي ضبط النفس عن الملاذ الحيوانية، وهي حالة متوسطة بين إفراط هو الشره وتفريط هو جمود الشهوة، وهي أس الفضائل من القناعة والعفة والزهد وغنى النفس والسخاء وعدمها يعفي على جميع المحاسن ويعري من لبوس المحامد، ومن اتسم بسمة العفة قامت العفة له بحجة ما سواها من الفضائل وسهلت له سبيل الوصول إلى المحاسن، وأسها يتعلق بضبط القلب عن التطلع للشهوات البدنية، وعن اعتقاد ما يكون جالبًا للبغي والعدوان، وتمامها يتعلق بحفظ الجوارح، فمن عدم عفة القلب يكون منه التمني وسوء الظن اللذان هما أس كل رذيلة، لأن من تمنى ما في يد غيره حسده وإذا حسده عاداه، وإذا عاداه نازعه، وإذا نازعه ربمما قتله. ومن أساء الظن عادى وبغى وتعدى، ولذلك نهى اللَّه سبحانه عنهما جميعًا فقال: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فأمر فيهما بقطع شجرتين يتفرع عنهما جل الرذائل والمآثم، ولا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر، فمن عدمها في اللسان: السخرية والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مد العين إلى المحارم وزينة الحياة الدنيا المولدة للشهوات الرديئة، ومن عدمها في السمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة. وعماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحدِ منهما إلا فيما يسوغه العقل والشرع دون الشهوة والهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 واعلم أنه لا يكون المتعفف عفيفًا إلا بشرائط، وهي: أن لا يكون تعففه عن الشيء انتظارًا لأكثر منه أو لأنه لا يوافقه، أو لجمود شهوته، أو لاستشعار خوف من عاقبته، أو لأنه ممنوع من تناوله، أو لأنه غير عارف به لقصوره، فإن ذلك كله ليس بعفة، بل هو إما اصطياد، أو تطبب، أو مرض، أو خرم، أو عجز، أو جهل. وترك ضبط النفس عن الشهوة أذم من تركها عن الغضب فالشهوة مغتالة مخادعة، والغضب مغالب، والمتحيز عن قتال الخادع أردى حالًا من المتحيز عن قتال المغالب؛ ولهذا قيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق، وأيضا بالشره قد يجهل عيبه فهو شبيه بأهل مدينة لهم سنة رديئة يتعاطونها ولا يعرفون قبحها، وليس من تعاطى قبيحًا يعرفه كمن يتعاطاه وهو يظنه حسنًا. القناعة والزهد القناعة: الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار على الزهيد، أي: القليل وهما يتقاربان، لكن القناعة تقال اعتبارًا برضا النفس، والزهد يقال اعتبارًا بالمتناول لحظ النفس وكل زهد حصل لا عن قناعة فهو تزهُّد لا زهد، لذلك قال بعض المتصوفة: القناعة أول الزهد تنبيهًا على أن الإنسان أولًا يحتاج إلى قنع نفسه والتخصص بالقناعة ليسهل تعاطي الزهد، فالقناعة هي الغنى في الحقيقة، والناس كلهم فقراء من وجهين: أحدهما: لافتقارهم إلى اللَّه تعالى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) والثاني: لكثرة حاجاتهم فأغناهم أقلهم حاجة، ومن سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها طمع فإنه كمن يرقع الخرق بالخرق ويسد الفقر بالفقر، ومن سدها بالاستغناء عنها بمقدار وسعه والاقتصار على تناول مقدار ضرورياته فهو الغني والقريب من الله، كما أشار إليه فيما حكي عن طالوت: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ولأن الغنى هو عدم الحاجة فأغناهم أقلهم حاجة، ولذلك كان اللَّه تعالى أغنى الأغنياء، لأنه لا حاجة به إلى شيء، وعلى ذلك دل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس " ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أبيات الحكمة: غنى النفس ما يكفيك من سد خلة ... فإن زاد شيئًا عاد ذاك الغنى فقرَا والخير بين أن يستغني عن الدنيا وبين أن يستغني بها كالخير بين أن يكون مالكًا أو مملوكًا، وقويًّا أو ضعيفًا، ومعافى أو مبتلى، وحيًّا أو ميتًا، فمتى اختار الاستغناء بها فقد اختار أن يكون مملوكًا وضعيفًا وميتًا ومبتلى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ". وقيل لحكيم: لم لا تغتم، فقال: لأني لم أتخذ ما يغمني. وأعلم أنه ليس الزهد من ترك المكسب في شيء، كما توهمه قوم أفرطوا حتى قربوا من مذهب المانوية والبراهمة والرهابنة فإن ذلك يؤدي إلى خراب الدنيا، وهلاك العالم، ومضادة اللَّه - عز وجل - فيما قدر ودبر، وقد تقدم ذلك. والزهد من وجه صبر، ومن وجه جود، فالجود ضربان: جود بما في يدك متبرعًا، وجود عما في يد غيرك متورعًا، وذلك أشرفهما، ولا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي، ويعرف عيوبها، وآفاتها، ويتحقق ما يستغنى عنه منها، ويعرف الآخرة وافتقاره إليها، ولأجل أنه لا بد في ذلك من العلم قال تعالى: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ولأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة، وهو يبيعها بها كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ومحال أن يبيع كيِّسٌ عينًا بأثر إلا إذا عرفها وعرف فضل المبتاع على المبيع، وقد قيل لبعض الزهاد: ما أزهدك وأصبرك، فقال: أما زهدي فرغبة فيما عند اللَّه، وهو أعظم مما أنت فيه، وأما صبري فلجزعي من النار. الورع الورع أصله جبن وضعف، وقد يستعمل في كل واحد منهما لكنه جعل في عرف الشرع عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا، وذلك على ثلاثة أضرب: واجب: وهو الإحجام عن المحارم وذلك للناس كافة، وندب: وهو الوقوف عن الشبهات وذلك للأوساط، وفضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للمتقين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس ". وقال باعتبار المنزل الثاني: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، وقال له قائل: ما أشد الورع؟ ، فقال: " ما أيسر الورع إذا شككت في شيء فاتركه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الفصل الرابع فيما يتعلق بالقوى الغضبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ما ينبع من القوة الغضبية الحمية وهي قوة الغضب متى تحركت تحرك دم القلب فتولد منه ثلاثة أحوال وذلك أنها إنما تتحرك على من فوقه، أو على من دونه، أو على نظيره، فإن كان ذلك على من فوقه ممن أيقن أنه لا سبيل له إلى الانتقام منه تولد منه انقباض دم القلب جزعًا على العجز عن الانتقام وذلك هو الغم، وإن كان على من دونه ممن يتحقق أنه يقدر على الانتقام منه تولد منه ثوران دم القلب لإرادة الانتقام وذلك هو الغضب وإن كان على نظيره فمن شك أنه هل يقدر على الانتقام منه تردد الدم بين انقباض وانبساط وذلك هو الوتر والحقد، ولكون الغم والغضب بالذات واحدًا واختلافهما بالإضافة لما سئل ابن عباس - رحمه الله - عنهما قال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف. فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضبًا، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره غضبًا من لا يقوي عليه كتمه حزنًا، ومن هذا قال الشاعر: فحزن كل أخي حزن أخو الغضب ولانبساط دم الغضب يحمر تارة وجهه وتنتفخ أوداجه كنار تلتهب، ويسود وجهه تارة. وذلك إذا كثر واشتد غضبه كنار في غار ليسود جوه، ولانقباض دم الجزع عن ظاهر الجلد واجتماعه في القلب يصفر وجهه ربما يهلك من ذلك، ولتردد دم القلب في الحقد بين هذه الأحوال يحمر ويصفر ويسود. والحرد هو: الغضب، لكن يستعمل إذا كان معه قصد المغضوب عليه، ولذلك يقال: حرد حرد الأسد. أنواع الصبر ومدحه الصبر ضربان: جسمي ونفسي. فالجسمي: هو: تحمل المشاق بقدر القوة البدنية ونهايته معلومة، وأكثرها لذوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الجسوم الخشنة وليس ذلك بفضيلة تامة، ولهذا قال الشاعر: والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام وذلك في الفعل؛ كالمشي، ورفع الحجر الثقيل، وفي الانفعال؛ كالصبر على المرض، واحتمال الضرب والقطع. والثاني: نفسي: وبه تتعلق الفضيلة، وذلك ضربان: صبر عن تناول مشتهى ويقال له: العفة، وصبر على تحمل مكروه أو محبوب وذلك تختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان ذلك في نزول مصيبة فإنه لم يتعد به اسم الصبر، ويضاده الجزع والهلع والحزن، وإن كان في احتمال غنى فقد يسمى ضبط النفس ويضاده الترفع والبطر، وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمي حلمًا ويضاده التذمر، وإن كان في نائبة مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده ضيق الصدر والضجر والتبرم، وإن كان في إمساك كلام في الضمير سمي كتمان الشر ويضاده الإفشاء، وإن كان في الإمساك عن فضولات العيش سمي قناعة وزهدًا وهذا يضاده الشره والحرص، ويكون الصبر عاما قال اللَّه تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) فذكر أنهما يصبرون في البأساء، أي: في الفقر، والضراء، أي: في المصيبة، وحين البأس، أي: في المحاربة. وقال بعضهم: ضبط النفس يقال في الأشياء الملذة، والصبر يقال في الأشياء المحزنة، وقال بعضهم: بل هما من الأسماء المترادفة على معنى واحد، فإن قيل: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصبر نصف الإيمان "، قيل: لما كان جميع المحامد ضربين: ترك الشر - ويعبر عنه بالصبر - وفعل الخير - ويعبر عنه بالشكر - صار الصبر الذي هو ترك الشر نصف الإيمان. الشجاعة الشجاعة: إن اعتبرت وهي في النفس فصرامة القلب على الأهوال وربط الجأش في المخاوف، وإن اعتبرت بالفعل فالإقدام على موضع الفرصة، وهي فضيلة بين التهور والجبن، وهي تتولد من الفزع والغضب إذا كانا متوسطين، فإن الغضب قد يكون مفرطًا كمن يحتد سريعًا من أشياء صغيرة، وقد يكون مقصرًا كمن لا يغضب من الاجتراء على حرمه وشتم أبيه وأمه، وقد يكون متوسطًا على ما يجب في وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ما يجب وبقدر ما يجب، وكذلك الفزع قد يكون مفرطًا فيتولد منه الجبن الهالع، ومقصرًا فيتولد عنه الوقاحة والغمارة كمن لا يفزع من شتم آبائه وتضييع حرمه وأصدقائه، وقد يكون متوسطًا كما يجب وبقدر ما يجب ولكونهما - أعني الغضب والفزع - على حالين محمود ومذموم صارا يحمدان تارة ويذمان أخرى، فإن الغضب في نحو قوله تعالى: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) والفزع في نحو قول الشاعر: فزعت لظلمه إلخ محمودان، والتهور في الأمور العملية هو الثبات المذموم في الأمور المعطبة، والجبن هو الفزع في الأمور المعطبة. وأطم أن أنواع الشجاعة خمسة: سبعية: كمن أقدم لثوران غضب وتطلب غلبة، وبهيمية: كمن حارب توصلًا إلى مأكل أو منكح، وتجريبية: كمن حارب مرارًا فظفر فجعل ذلك أصلًا ييني عليه، وجهادية: كمن يحارب ذبًّا عن الدين، وحكمية: وهي ما تكون في كل ذلك عن فكر وتمييز وهيئة محمودة بقدر ما يجب وعلى ما يجب، ألا ترى أنه يحمد من أقدم على كافر غضبًا لدين اللَّه أو طمعًا في ثوابه أو خوفًا من عقابه أو اعتمادًا على ما رأى من إنجاز وعد اللَّه في نصرة أوليائه، فإن كل ذلك محمود وإن كان محض الشجاعة هو أن لا يقصد بالإقدام حوز ثواب أو دفع عقاب، فقد قيل من عبد اللَّه بعوض فهو لئيم. والفرق بين المقدم في الحرب لمحض الحكمة وإخلاص الدين وبين المقدم لغير ذلك هو أن المقدم لغير الحكمة والإخلاص يخاف الموت أكثر مما يخاف المذمة الصادقة، والمقدم للحكمة والإخلاص بالضد من ذلك فإنه يختار الموت الحميد على الحياة الذميمة، ولذلك قال علي رضي اللَّه تعالى عنه: " أيها الناس إنكم إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على فراش "، ومن الشجاعة المحمودة مجاهدة الإنسان نفسه أو غيره، وكل واحد منهما ضربان: مجاهدة النفس بالقول: وذلك بالتعلم. وبالفعل: وذلك بقمع الشهوة وتهذيب الحمية ومجاهدة الغير بالقول، وذلك تزيين الحق وتعليمه، وبالفعل وذلك مدافعة الباطل ومتعاطيه بالحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أسماء أنواع الفزخ والجزع والفرق بينهما وبيان ما يحمد منهما وما يذم الفزع والجزع أخوان لكن الفزع ما يعتري الإنسان من الشيء المخيف، والجزع مما يعتري من الشيء المؤلم، والفزع لفظ عام سواء كان عارضًا عن أمارة ودلالة أو حاصلًا لا عن ذلك. ومتى كان ذلك من عار فهو الحياء والخجل، ومتى كان عن شيء يضر فهو الفرق والذعر، ومتى كان لفوت محبوب فهو الإشفاق، ولهذا قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) . والحؤف: هو توقع مكروه عن أمارة، والخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشي منه مع المعرفة به، ولذلك قال تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) وقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) والوجل: استشعار عن خاطر غير ظاهر وليس له أمارة، قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) والرهبة: خوف مع تحرز واضطراب، ولتضمن الاحتراز قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) والهيبة: رهبة جالبة للخضوع عن استشعار تعظيم، ولذلك يستعمل في كل محتشم. قال الشاعر: أهابك إجلالًا وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها وهذه الأشياء قد تذم باعتبار الأمور الدنيوية وتحمد باعتبار الأمور الأخروية، قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وقال: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) والخوف من اللَّه تعالى ليس يشار به إلى ما يخطر في البال من الرعب كاستشعار الإنسان الرعب من الأسد، وإنما يشار به إلى ما يقتضيه الخوف وهو الكف عن المعاصي، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يترك الذنوب، وقال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: لا تفعلوا ما يقتضيه الخوف منه وافعلوا ما يقتضيه خوفي، فإن قيل: كيف يمدح المؤمن بالحزن والخوف مع قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) قيل: أما الممدوح به فمقتضاهما وذلك إقامة العبادات، وأما المنفيان عنهم فهما اللذان يكونان من الأشرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مداواة الغم وإزالة الخوف حق الإنسان أن يعلم أن الدنيا جمة المصائب، رائقة المشارب، تثمر للبرية كل بلية، فيها مع كل لقمة غصة، ومع كل جرعة شرقة، فهي عدوة محبوبة كما قال أبو نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وكما روي عن الحسن - رحمه الله - أنه قال: ما مثلنا مع الدنيا إلا كما قال كثيِّر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت فما أحد فيها إلَّا وهو في كل حال غرض لأسهم ثلاثة: سهم بلية، وسهم رزية، وسهما منية. تناضله الآفات من كل جانب ... فتخطئه يومًا ويومًا تصيبه وقد قال بعض الحكماء: أسباب الحزن فقد محبوب أو فوت مطلوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد، فمن أحب أن يعيش هو وأهله وأحبابه فهو غير عاقل، لأنه يريد أن يملك ما لا يملك ويوجد له ما لا يوجد " فحق المرء أن لا يخلي قلبه من اعتبار فيما يرى من ارتجاع ودائعها من أربابها وحلول فوازعها بأصحابها، وما أحسن ما قال ابن الرومي: ألم تر رزء الدهر من قبل كونه ... كفاحًا إذا فكرت في الخلوات فمالك كالمرمي من مأمن له ... بنبل أتته غير مرتقبات فإن قلت مكروهًا أتانا فجأة ... فما فوجئت نفس مع الخطرات ولا عوقبت نفس ببلوى وقد رأت ... عظات من الأيام بعد عظات إذا بعثت أشياء قد كان مثلها ... قديمًا فلا تعتدها بغتات ومن حقه أن يقلل من اقتناء ما يورثه الحزن، فقد قيل لحكيم: نراك لا تغتم، فقال: لأني لا أقتني ما يغمني فقده، فأخذ هذا المعنى الشاعر فقال: ومن سره أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئًا يبالي له فقدًا وقيل لحكيم: هل يمكن الإنسان أن يعيش آمنًا، فقال: نعم إذا احترس من الخطيئة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقنع بماله، ولم يحزن بما هو واقع به لا محالة. واعلم أن الجزع على ما فات لا يلم ما تشعث ولا يبرم ما انتكث كما قيل: وهل جزع مجدٍ عليَّ فأجزعا. فأما غم على المستقبل فلا يخلو من ثلاتة أوجه: إما في شيء ممتنع كونه أو واجب كونه أو ممكن كونه، فإن كان على ما هو ممتنع كونه فليس ذلك من شأن العاقل، وكونه إن كان من قبل الواجب كونه كالموت الذي هو حتم في رقاب العباد، وإن كان ممكنا كونه فإنه إذا كان من الممكن الذي لا سبيل إلى دفاعه كإمكان الهرم، فالحزن له جهل واستجلاب غم إلى غم، وإن كان من المكن الذي يصح دفاعه فالوجه أن يحتال لدفاعه بفعل غير مشوب بحزن، فإن اندفع وإلا تلقاه بصبر جميل وليتحقق معنىِ قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) ثم قال: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فمن علم أن ما جرى من حكمه وسبق علمه لا سبيل إلى أن لا يكون هانت عليه النوائب ولم يجزع لحلول المصائب. واعلم أن الذي يغر الناس حسن ظنهم بانحسار الآفات واغترارهم حالة بعد حالة بصفاء الأوقات، ولو تأملوها بالبصيرة لتحققوا أنها كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " ما قال الناس لقوم طُوبى لكم إلَّا وقد خبأ لهم الدهر يوم بؤس " كما قيل: إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان وأما سبب الاغتمام للموت فلا ينفك من أربعة أوجه: إما لفوت شهوات بطنه وفرجه، وإما على ما يخلفه من ماله، وإما على جهله بمآله، وإما خوفًا لما قدمه من عصيانه. فإن كان ذلك لشهوة بطنه وفرجه، فليعلم أن ذلك كمشتهٍ داء ليقابله بداء مثله فإن الإنسان لا يستلذ بالطعام حتى يجوع، والجوع داء مهروب منه وشبعه داء مهروب إليه، فمثل من يحب الجوع ليستطيب بعده الأكل كمن يستطيب القعود في الشمس ليناله الحر، ثم يستطيب القعود في الظل، ومحبة ذلك رقاعة لا تحد ولا تعد. وإن كان غمه على مما يخلفه من مال، فذلك لجهله بخساسة الأعراض الدنيوية وكونها معدن كل بلية، وقلة معرفته بنفاسة الأملاك الحقيقية التي وعد المتقون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وإن كان غمه لجهله بماله ومآله عند ربه، فمداواته بالعلم والمعرفة الحقيقية التي تريه حال ما للإنسان بعد الموت كما قال حارثة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها ". وإن كان غمه خوفًا لما قدم من عصيانه؛ فدواؤه المبادرة بالتوبة، ويكفيه إن كان ذا بصيرة ما جعل اللَّه له إليه سبيلًا من تلافي ما فرط منه ووعد به التائبين إليه. أحوال الناس في محبة الموت والاحتيال لقلة المبالاة به الناس في ذلك على ثلاثة أضرب: فالأول: حكيم يعلم أن الحياة تسترقه والموت يعتقه، وأن الإنسان في هذا العالم وإن طال فيه لبثه فهو كخطفة برق لمعت في أكناف السماء ثم خفيت، وأنه في دنياه كمبعوث إلى ثغر يحرسه وبلد يسوسه فيراعي من ذلك ما استرعى ويفرح ويسر إذا استدعى، ولا ينكأه خروجه منها إلَّا بقدر ما يفوته من خدمة ربه والازدياد من التقرب إليه، والإشفاق مما يقال له كما قال بعض الصالحين وقد رؤي منه جزع عند الموت فقيل له في ذلك، فقال: إنما جزعي لأني أسلك طريقًا لم أعهده، وأقدم على رب لم أره ولا أدري ما أقول ولا ما يقال لي. والثاني: رجل أنس بهذا العالم فألفه، وإن كرهه فسبيله سبيل من ألف بيتا مظلمًا قذرًا ولم ير غيره يكره الخروج منه وإن كان يكره الكون فيه كما قال الشاعر: دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا وما حب البلاد بنا ولكن ... أمر العيش فرقة من هوينا وحق ما قيل: لو رضي الناس بأرزاقهم رضاهم بأوطانهم لما شكا أحد فقره، فهذا متى خرج عن دنياه واطلع على ما أعد الله للصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر سر بخلاصه كما حكى الله - عز وجل - عمن استقر بهم القرار في جنات النعيم حيث قالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والثالث: رجل أعمى عين البصيرة متلطخ السريرة بما ارتكب من أنواع الجريرة، رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها. ويئس من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فإذا خرج منها إلى دار الخلود أضر ذلك به كما تضر رياح الورد بالجعل، وإذا خرج من قاذورات الدنيا لم يوافقه العالم العلوي بمصاحبة الملأ الأعلى ومنادمة أولي العلا فيعمى كما قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "، وأجدر بمن تربي في هذا العالم بغذائه من العلم والعمل الصالح أن لا يشتاق إليه بعد خروجه منه وإن خرج مكرهًا كما لا يشتاق إلى الرجوع إلى بطن أمه بعد الخروج منه، ويدلك على أنه خرج من بطن أمه كارهًا بكاؤه، فقد قال بعض الحكماء القدماء: أول ما ينال الصبي غمه عند سقوطه من بطن أمه لا يضغطه من ضيق خروجه ويصيبه من ألم الهواء فيتوجع، والوجع يورثه الغم، والغم يحمله على البكاء، وذلك أن للصبي كل ما يكون للحيوان غير النطق من اللذة والألم والجوع والعطش، ومن هذا المعنى أخذ ابن الرومي فقال: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ما أحد إلا والموت خير له من الحياة، لأن اللَّه تعالى قال في الأخيار: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وقال في الأشرار: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) وقد قيل: الصالح إذا مات استراح من الدنيا، والطالح إذا مات استراحت منه الدنيا. وقال بعض الحكماء: من قال لغيره: صانك الله من نوب الأيام وصروف الزمان فإنه يدعو له بالموت، فالإنسان لا ينفك من ذلك إلَّا بخروجه من دار الكون والفساد، وقال بعض الصوفية: حق ملك الموت أن يحبه المسلم من بين الملائكة فضل محبة من حيث إنه أحد أسباب تعويضه الحياة السنية الأبدية من حياته الدنية الدنيوية، ولهذا أمرنا أن نقول في دعائنا: اللَّهم صلِّ على جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فإن جبريل وميكائيل هما سببان لإنهائنا من ذلك العالم بما فيه خلاصنا من دار الكون والفساد. وملك الموت سبب لإخراجنا من دار الكون والفساد فإذًا حقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 عظيم وشكره لازم. وقد حكي أن قومًا من الأوائل كانوا يعظمون " زحل " بالتقديس والتسبيح له وقالوا: إنه لا يعين على الحياة العرضية، بل هو سبب إنقاذنا من الدنيا الدنية، وقال بعض الأولياء في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك، فقد قال نبيك وصفيك: " من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه "، وقال بعضهم: إن كان في قلة الحاجة الدنيوية غنًى ففي انقطاع الحاجة كلها الغنى الأكبر، ولا انقطاع لها إلَا بمفارقة الدنيا. فالدنيا سبب فاقتنا والعبودية لغير اللَّه تعالى، وقبيح بالعاقل صحبة الفاقة والتخصص بعبودية غير رب العزة، والموت سبب كمال الإنسان، ومن رغب عن كماله فهو من الذين خسروا أنفسهم، ومن كره الموت أخرج من الدنيا كارهًا فيكون كعبد آبق رد إلى مولاه مأسورًا وقيد إلى حضرته مقهورًا، وشتان بين عبد دعاه مولاه فأتاه طوعًا وبين آبق أسر فأتي به قسرًا، وحق العاقل أن يكثر من ذكر الموت، فإن ذكره لا يقرب أجله ويفيده ثلاثة أمور: القناعة بما رزق، والمبادرة بالتوبة، والنشاط في العبادة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " أكثروا ذكر هازم اللذات فإنه ما ذكره أحد وكان في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه " وقيل: ذكر الموت يطرد فضول الأمل ويقل من غرور المنى، ويهون المصائب، ويحول بين الإنسان والطغيان. السرور والفرح السرور: انشراح الصدر بلذة فيها طمأنينة النفس عاجلَا وآجلًا، وذلك في الحقيقة إنما يكون إذا لم يخف زواله، ولا يكون ذلك إلَّا في القنيات الأخروية، ولذلك قيل: لا سرور في الدنيا على الحقيقة، والفرح هو انشراح الصدر بلذة عاجلة غير آجلة، وذلك يكون في اللذات البدنية الدنيوية " ولهذا قال تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) وقال تعالى: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فالفرح يدعو إلى النشاط، والنشاط يدعو إلى المرح، والمرح داعية الأشر، والأشر مقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 البطر وأكثر ما يكثر ذلك في الأحداث والصبيان بقدر ما يغلب عليهم من الغفلة، وقد ذمه اللَّه تعالى بقوله: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وقال تعالى: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) وقال تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) وقد يسمى الفرح سرورا والسرور فرحًا لكن على نظر من لا يعتبر الحقائق ويتصور أحدهما بصورة الآخر، ولذلك قيل: من طلب السرور بالخارجات عنه لم ينله. العذر والتوبة المذنب إذا عوتب أو خاف العتب لا ينفك عن أحد وجهين: إما أن يكون مصرًّا أو معتذرًا، فأما المصر: فقد يُستحسن في بعض الأحوال التجافي عنه، وقد سمع رجل حكيمًا وهو يقول: ذنب الإصرار أولى بالاغتفار، فقال: صدق ليس فضل من عفا عن السهو القليل كفضل من عفا عن العمد الجليل، وأما المعتذر: فهو المظهر لما يمحو به الذنب. وجميع المعاذير لا تنفك عن ثلاتة أوجه: إما أن يقول، لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا فيبين ما يخرجه عن كونه ذنبًا أو يقول: فعلت ولا أعود، فمن أنكر وأنبأ عن كذب ما نسب إليه فقد برئت ساحته، وإن فعل وجحد فقد يعد التغابي عنه كرمًا وإيَّاه قصد الشاعر بقوله: تغابي وما بك من غفلة ... لفرط الحياء وفضل الكرم ومن أقر فقد استوجب العفو لحسن ظنه بك، قال بعض الحكماء: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقًا حتى أخذ من رجائك رفيقًا، وإن قال: فعلت ولا أعود فهذا هو التوبة وحق الإنسان أن يقتدي باللَّه تعالى في قبولها، وللتوبة شرائط فرضًا ونفلًا، ففرضها ترك الذنب مع ترك العود إليه، ونفلها التأسف لما سلف من الذنب والاستغفار له وترك بعض المباحات مقابلة لما كان من العصيان. واعلم أن للمذنب التائب إذا تاب توبة نصوحًا فضيلة على من لم يذنب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه قد جرب العيوب وعرف مداخل الشيطان على الإنسان فيكون أهدى إلى الاحتراز من الشر، وقد قيل لحكيم: فلان لا يعرف الشر، فقال: ذالك أجدر أن يقع فيه. والثاني: أن المذنب التائب محتشم قد غلب الخوف على قلبه فيأتي باب مولاه، وهو خزيان منكسر، ومن لم يذنب ربما يعجب بنفسه ويذل بعفته وليس خدمة عبد قد عصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ملكا وخرج عليه خارجيًّا، ثم عاد إليه وجلًا خائفًا فعفى عنه كخدمة من يذل بطاعته وعدم مخالفته. والثالث: أن التائب قد حلب الدهر الشطرين خيره وشره حلوه ومره، فهو أرفق بالمذنبين وأوفق لهما وأصلح للرياسة ممن يظن أن الذنب خارج عن طبيعة الإنسانية فيعجب بنفسه ويزري بغيره. الحلم والعفو الحلم: إمساك النفس عن هيجان الغضب، والتحلم: إمساكها عن قضاء الوطر منه إذا هاج، ولما كان الحلم من تأثير العقل وغير منفك عنه صار يعبر به عن كل عقل ظهر فعلًا كقوله - عز وجل - في ذم الكفار على سبيل التعجب منهم: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) ومتى أطلق الحلم في حق الباري تعالى فإنه يراد به العمل بمقتضاه وهو العفو دون انفعال بعرض له، ولن يتم حلم الإنسان إلَا بإمساك الجوارح كلها، اليد عن البطش، واللسان عن الفحش، والسمع عن استماعه، والعين عن فضول النظر، وأقرب لفظ يستعمل في ضد الحلم: التذمر. وأما العفو والصفح: فهما صورتا الحلم ومخرجاه إلى الوجود، والعفو هو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: ترك التثريب، واشتقاقه من تجاوز الصفحة التي أثبت فيها ذنوبه، أو اللإعراض بصفحة الوجه عن التلف إلى ما كان منه، وهو محمود إذا كان على الوجه الذي يجب. ولهذا قال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) فخصَّ تنبيهًا على ما يحمل منه وقد ندب اللَّه تعالى إلى ذلك بقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فأمر بالحلم والعفو وقال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) وقال: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وقال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. والعفو إنما يستحب فيما إذا كانت الإساءة مخصوصة بالعافي كمن أخذ ماله، أو شتم عرضه، فأما إذا كانت الإساءة عائدة بالضرر على الشرع أو على جماعة الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فإنه إن كان فيها أدنى شبهة فللسلطان العفو لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " وإن لم يكن شبهة فليس له العفو؛ ولهذا قال تعالى في الزنى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وحق المعاقب أن لا يكون سبعًا في انتقامه، بل لا يعاقب حتى يزول غضبه؛ لئلا يقدم على ما ليس بواجب؛ ولذلك جرت سنة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه ويعيد النظر فيه. وقد قال بعضهم: ينبغي للسلطان أن يؤخر العقوبة حتى ينقضي سلطان غضبه، ويعجل مكافأة المحسن، ويستعمل الأناة فيما يحدث، ففي تأخير العقوبة إمكان العفو إن أحب ذلك، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان مسارعة الأولياء إلى الطاعة، وقد أتي الإسكندر بمذنب فصفح عنه، فقال بعض جلسائه: لو كنت إياك لقتلته، فقال: فإذا لم أكن أنا إياك ولا أنت إياي فلست بقاتله، وانتهى إلى بعض أصحابه وهو يغتابه، فقيل له: لو أنهكته عقوبة فقال حينئذ: أبسط لسانًا وعذرًا في اغتيابي. واعلم أن لذة العفو أطيب من لذة التشفي، لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة العقوبة يلحقها ذم الندم، والعقوبة أَلْأَمُ حالات ذوي القدرة، وهي طرف من الجزع، ومن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم له إلَّا ستر رقيق فلينتصف، وقد نبه اللَّه تعالى على ذلك بلطيف من المقال، فقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فسمى مجازاة المسيء بإساءته إساءة، وقال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فسمى المجازي على الاعتداء معتديًا؛ تنبيهًا على أنه قد كاد يكون إيَّاه. والعقوبات فيما بين الناس أقبحها ما كان فيما لم يظهر بالفعل، فقد قال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون الضمائر، ونفحص عن الظواهر لا عن السرائر، فمن سلم ظاهره احتملت جرائره، فقد يهفو المرء ونيته سليمة، ويزل وطريقته مستقيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ثوران الغضب وفضل كظمه الغضب في الإنسان بمنزلة نار تشتعل والناس يختلفون فيه، فبعضهم: كالحلفاء سريع الوقود وسريع الخمود، وبعضهم: كالغضى بطيء الوقود بطيء الخمود، وبعضهم: سريع الوقود بطيء الخمود، وبعضهم: على عكس ذلك وهو أحمدهم ما لم يكن مفضيًا به إلى زوال حميته وفقدان غيرته، واختلافهم تارة يكون بحسب الأمزجة فمن كان طبعه حارًّا يابسًا يكثر غضبه، ومن كان بخلافه يقل، وتارة يكون بحسب اختلاف العادة فمن الناس من تعود السكون والهدوء وهو المعبر عنه بالذلول والهين واللين، ومنهم من تعود الطيش والانزعاج فيحتد بأدنى ما يطرقه ككلب يسمع صوتًا فينبح قبل أن يعرف ما هو، وأسرع الناس غضبًا الصبيان والنساء، وأكثرهم ضجرًا الشيوخ، وأجل الناس شجاعة، وأفضلهم مجاهدة، وأعظمهم قوة من يكظم الغيظ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) فجعلهم من المحسنين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد مرَّ بقوم يرفعون حجرًا فقال: " ألا أخبركم بأشدكم؟ ، من ملك نفسه عند الغضب ". واعلم أن نار الغضب متى كانت عنيفة تأججت واضطرمت واحتد منه غليان الدم في القلب وملأت الشرايين والدماغ دخانًا مظلمًا مضطرمًا يسودُ منه مجال العقل ويضعف به فعله، فكما أن الكهف الضيق إذا مُلِىءَ حريقًا اختنق فيه الدخان واللهب، وعلا منه الأجيج، فيصعب علاجه وإطفاؤه ويصير كل ما يدنو منه مادة تقويه. فكذلك النفس إذا اشتعلت غضبًا عميت عن الرشد، وصمت عن الموعظة، فتصير مواعظه مادة لغضبه، ولهذا حكي عن إبليس لعنه اللَّه أنه يقول: متى أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب، لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه منه، ويعمل بما أريده وأرتضيه. وقد قيل: الغضب جنون ساعة، وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه، وربما كان سببًا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وأسباب الغضب: العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاح والتيه والضيم والاستهزاء وطلب ما فيه التنافس والتحاسد وشهوة الانتقام، وحق من اعتراه غضبه أن يتفكر، فإن كان المغضوب عليه تحت يده فلا معنى لاستشاطته، إذ هو ممكن من الانتقام منه على سكون الجأش، وإن كان غضبه على من لا سبيل له عليه فلا معنى لتعذيبه نفسه في الحال، بل حقه أن يصبر حتى يتمكن منه، ثم يفعل بالواجب، وقد قال حكيم: سد طريق الغضب قبل تلهب ناره في لحمك ودمك، فإنما يمكن إطفاؤها قبل انتشارها، فأما إذا اشتعلت فلا سبيل إلى إطفائها، وقال سلطان لحكيم: كيف لي أن لا أغضب، فقال: بأن تكون في كل وقت ذاكرًا أنه يجب أن تُطع لا أن تُطاع فقط، وأن تَخدم لا أن تُخدم فقط، وأن تحتمل لا أن تُحتمل فقط، وأن تتحقق أن اللَّه يراك دائما، فإذا فعلت ذلك لم تغضب، وإن غضبت كان قليلاً. الغيرة والجوار الغيرة: ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم وأكثر ما تراعى في النساء، وجعل اللَّه سبحانه هذه القوة في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت العفهّ في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته في السياسات الثلاث التي هي سياسة الرجل نفسه، وسياسة منزله وأهله، وسياسة مدينته وضيعته، ولذلك قيل: ليست الغيرة ذب الرجل عن امرأته ولكن ذبه عن كل مختص به، وقد قيل: الغيرة الذب عن كل ضعيف، وتسمى كراهية النعمة عند من لا يستحقها غيرة، والغيرة وإن كانت من قوة الإنسانية وواجب كونها في كل جيل فقد كثرت في العرب خاصةً كثرة متناهية حتى إن من دخل دار أحدهم والتجأ إلى فنائه عدوا فعله حرمة وجوارًا وذمارًا، بل قالوا: تعلق الدلو بالدلو القريبة أو تلامس الطنب بالطنب يوجب حرمة وجوارًا، بل كانوا يراعون ذلك في الوحشيات والهوام حتي سمي بعضهم: مجير الجراد، ومجير الغزال، ومجير الذئب، وسمي الغضب المقتضي للغيرة: الحفيظة، فيقال: أحفظني فلان، أي: أغضبني الغضب الذي أثار مني قوة الحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الغبطة والمنافسة والحسد الذي ينال الإنسانَ بسبب خير يصل إلى غيره على سبيل التمني أن يكون له مثله فهو غبطة، وإذا كان مع ذلك سعي منه أن يبلغ هو مثل ذلك من الخير أو ما هو فوقه فمنافسة، وكلاهما محمودان، وإن كان مع ذلك تمني زوال ما يصاحبه من غير استحقاق لزواله فحسد، والحسد: هو تمني زوال نعمة عمن يستحقها، ولربما كان مع ذلك سعي في إزالتها، والحاسد التام: هو الذي يكون حيث النفس تسعى في إزالة نعمة مستحقة من غير أن يكون طالبًا ذلك لنفسه، ولذلك قيل: الحاسد قد يرى زوال نعمتك نعمة عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن يغبط، والمنافق يحسد " فحمد الغبطة، وقد قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) فحثنا على التنافس إذا كان باعثًا لنا على طلب المحاسن، وذلك كقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاتة لا ينجو منها أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأخبركم بالمخرج من ذلك فإذا ظننت فلا تتحقق، وإذا تطيرت فامض ولا تنثن، واذا حسدت فلا تبغ " أي: إذا أصابك غم بخير يناله غيرك فلا تبغ إزالته عنه. واعلم أن الحسد من وجه غاية البخل، لأن البخيل يبخل بمال نفسه والحاسد يبخل بمال الله تعالى، ولذلك قيل: الحاسد بخيل بما لا يملكه، ومن وجه هو أظلم ظالم، لأنه يظلم غيره في إزالة حاله ويظلم ربه فيما قدره، وقد قيل: الحسد والحرص ركنا الذنوب ومنهما أنتج ذنب إبليس وآدم فإبليس حسد آدم فصار لَعِينًا وطريدًا، وآدم حرص على ما نهى اللَّه عنه فأخرج من الجنة، فهما شجرتان تجتنى منهما سائر الرذائل، فمن قطع أسبابهما نجا، فإن قيل: فما وجه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إلا في اثنتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 رجل آتاه اللَّه مالًا فجعله في حق، ورجل آتاه اللَّه حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس "، قيل: إنما عني بالحسد هاهنا الغبطة، وقد سمي ذلك حسدًا من حيث إنه عبارة عن الغم الذي ينال الإنسانَ من خير يناله غيره ولا يناله هو، وعلى ذلك يقول الإنسان لولده: لا تحسد فلانًا فيما يتعلمه، أي: لا تتمن حاله. واعلم أن الحسد ضرب من الحماقة، لأن اغتمامه بما يناله ذووه وأهل بلده يقتضي أن يغتم أيضًا بما يناله أهل الصين والهند، على أن الخير الذي ينال ذويه إذا تفكر فيه هو أنفع له مما يناله الأباعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الفصل الخامس في العدل والظلم والمحبة والبغض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 القول في العدل وفضله العدل لفظة تقتضي معنى المساواة، ولا تستعمل إلَّا باعتبار الإضافة، وهي في التعارف إذا اعتبرت بالقوة فهيئة في الإنسان يطلب بها المساواة، فإذا اعتبرت بالفعل فهو التقسيط القائم على الاستواء، وإذا وصف اللَّه تعالى بالعدل فليس يراد به الهيئة وإنما يراد به أن أفعاله واقعة على نهاية الانتظام، فالإنسان في تحري فعل العدالة يكون تام الفضيلة إذا حصل مع فعلد هيئة مميزة لتعاطيه، فقد يقع فعل الإنسان موصوفًا بالعدل ولا يكون ممدوحًا به نحو أن يقسط مراءاة أو توصلًا إلى نفع دنيوي أو خوف عقوبة السلطان. والعدل تارة يقال: هو الفضائل كلها من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه، وتارة يقال: هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر أن يستعمله في نفسه وفي غيره، وهو ميزان اللَّه المبرأ من كل ذلة، وبه يستتب أمر العالم، ولذلك قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) وقال: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وعبر عن العدل بالميزان إذا كان من أثره ومن أظهر أفعاله الحسية، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " بالعدل قامت السموات والأرض "، أي: لو كان شيء من موجودات العالم وأصوله زائدً عما هو عليه أو ناقصًا عنه لم يكن منتظمًا هذا النظام، ومن فضيلة العدل أن الجور الذي هو ضده لا يستتب إلا به، فلو أن لصوصًا تشارطوا فيما بينهما شرطاً فلم يراعوا العدل فيه لم ينتظما أمرهم، ومن فضله أن كل نفس سليمة تلتذ وترتاح بسماعه وتتألم من ضده، ولذلك يستحسن الجائر عدل غيره إذا رآه أو سمع به، وقد قيل: العدل لا يخاف الله، أي: من حيث العدل لا خوف عليه، ولحسن العدل والمساواة تتألم النفس من كل ما كان مركبًا في العالم ليس له نظام مستقيم فيكره العرج والعور ويتشاءم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 به، ولتحري المساواة جعل الله تعالى أعضاء الإنسان الواقعة في الأطراف زوجين اثنين، وجعلها في الأوساط واحدًا واحدًا، وللاقتداء بذلك تحرى النقاشون بإزاء كل منقوش في جانب منقوشًا مثله في الجانب الآخر، لئلا تكون الصور معوجة، والعدل هو وسط أطرافه كلها جور، فالجور: هو الخروج عن الوسط بزيادة أو نقصان، ولذلك صار الجور والخطأ بالإضافة إلى العدل والصواب من حيز ما لا نهاية له، والعدل والصواب من حيز التناهي وإدراكه صعب عسر، ولصعوبة ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " استقيموا ولن تحصوا "، وتمدح - عز وجل - فقال: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) تنبيهًا أنه هو المتحقق بوصف العدل والصواب من كل شيء، وقد قال بعض الصوفية: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: بلغني يا رسول اللَّه أنك قلت: " شيبتني سورة هود وأخواتها " فما الذي شيبك منها؟ ! فقال: " قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) ولما كان الوصول إلى ذلك عسرًا جدا صار ضابطه إذا تحرى فيه بجهده وإن أخطأ فيه معذورًا، بل مأجورًا، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " من اجتهد فأخطأ فله أجر ومن اجتهد فأصاب فله أجران ". أنواع العدل وما يستعمل ذلك فيه العدل ضربان: عدل مطلق: يقتضي العقل حسنه ولا يكون منسوخًا في شيء من الأزمنة ولا يوصف بالجور في حال، وذلك هو جذب الإحسان إلى من أحسن إليك وكف الأذية عمن كف أذاه عنك. وعدل مقيد: يعرف كونه عدلًا بالشرع ويمكن أن يكون منسوخًا في بعض الأحوال والأزمنة، وذلك مقابلة السوء بمثله كأحوال القصاص وأروش الجنايات، وكأخذ مال المرتد، وهذا النحو يصح أن يوصف على المجاز في بعض الأحوال بالجور، ولذلك قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فسمى جزاء السيئة سيئة من حيث إنه لو لم يكن معتبرًا بالسيئة المتقدمة كانت هي سيئة، وعلى ذلك: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) وبالنظر إلى النوع الأول والاعتبار به قال بعض المتكلمين: يعرف العدل والجور قبل الشرع، وبالنظر إلى النوع الثاني والاعتبار به قال بعضهم: لا يعرفان إلَا بالشرع، وعلى الجملة فالشرع مجمع العدالة وبه تعرف حقائقها، ولو توهمناه مرتفعًا لكان يؤدي إلى أن لا يكون عدل على الحقيقة في شيء من جزئيات الأفعال، ولا يكون في كثير من كلياتها، فالعدل المحمود هو الذي يتحرى فعله لا رياء ولا سمعة ولا رغبة ولا رهبة وإنما يكون تحريًا للحق عن سجية. والذي يجب أن يستعمل الإنسان معه العدل خمسة أشياء: الأول: بينه وبين رب العزة - عز وجل - بمعرفة توحيده وأحكامه. والثاني: بين قوى نفسه، وذلك بأن يجعل هواه مستسلمًا لعقله، فقد قيل: أعدل الناس من أنصف عقله من هواه. والثالث: بينه وبين أسلافه الماضين في إيثار وصاياهم والدعاء لهم. والرابع: بينه وبين معامليه في أداء الحقوق، والإنصاف في المعاملات من البيع والشراء والكرامات وجميع المعاوضات والإجارات. والخامس: بث النصفة بين الناس على سبيل الحكم، وذلك إلى الولاة وخلفائهم. وأما الحكام العدول في الأرض فثلاثة: حاكم من اللَّه تعالى: وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والعامل والآمر به: وهو كل والٍ عدل. والناض المعتبر به: وأعلاه الدينار ومعناه بالفارسية " دين أورده " والناض من وجه كالحاكم ومن وجه كالآلة للحاكم يعتبر به إذا قيس عمل بعمل، ولما كانت الشريعة مجمع العدالة ومنبعها صار من امتنع عن التزامها وانتظامها أظلم ظالم، ولهذا قال - عز وجل -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) وقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولكون الكفر ظلمًا قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) فقابل المؤمن بالظالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ما يحسن ترك العدل فيه ترك العدل إلى الظلم عمدًا في جميع الأحوال مذموم، والخارج عنه إلى الظلم مستوجب بقدر خروجه عنه سخطًا من اللَّه - عز وجل -، إلَّا أن يتغمده اللَّه تعالى بعفوه، وأما الخارج عنه إلى الانظلام، أي: التزام الظلم فقد يحمد. والانظلام من حيث الكمية ثلاثة أضرب: انظلام في المال: وهو الاستخذاء للظالم في أخذ ماله. وانظلام في الكرامة: وهو الاستخذاء في بخس منزلته من التعظيم. وانظلام في النفس: وهو استخذاء لمن يؤله. وكل واحد يكون محمودًا ومذمومًا، ومن حيث الكيفية ضربان: محمود، ومذموم. فالمحمود: التغاضي عن حق له في المال أو فى الكرامة أو في النفس بقدر ما يحسن وفي وقت ما يحسن، وهو المعبر عنه بالانخداع والتغافل الذي قيل فيه: العقل مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل، وإيَّاه قصد معاوية - رحمه الله - بقوله: " من خدعك فانخدعت، فقد خدعته "، وقال الشاعر: ممن يعز على الثناء فيخدع وذلك إذا كان في مال فمسامحة، وإذا كان في النفس فعفو، وإذا كان في الكرامة فتواضع. وأما على الوجه المذموم: ففي المال غبن، وفي الرأي غبن، وفي النفس والكرامة هوان ومذلة. وقد تقدم أن الإفضال والإحسان أشرف من العدل إذا كان الحكم بينك وبين غيرك، فأما إذا حكمت بين اثنين فليس إلَّا العدل، وإنما الإحسان إلى المتحاكمين " ولهذا قال تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقال لمن له الحق: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وقال يحى بن معاذ: اصحبوا الناس بالفضل لا بالعدل فمع العدل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الاستقصاء، ومع الفضل الاستبقاء وإني لأرجو أن يحاسب اللَّه تعالى عباده بالفضل لا بالعدل، وقد أمرهم أن يصاحب بعضهم بعضًا بالفضل، وقد عظم الله تعالى أمر الإحسان والإفضال فقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) وقال: (وهل يأمر الحكيم بما لا يفعله، وكيف يترك الكريم التفضل ويقتصر على العدالة وقد بين أن الفضل أكرم وأفضل، تعالى عن أدنى المنزلتين، وكيف لا يرجى تفضله وأفعاله كلها عدل وعدله كله تفضل، لأنه مبتدئ بما لا يلزمه والابتداء بما لا يلزم تفضل، وهل يجوز أن يترك التفضل انتهاءً وقد تحراه ابتداءً؟!. الظلم الظلم: هو الانحراف عن العدل، ولذلك حدَّ بأنه: وضع الشيء في غير موضعه المخصوص به، وقد تقدم أن العدل يجري مجرى النقطة من الدائرة فتجاوزها من جهة الإفراط عدوان وطغيان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) والانحراف عنها في بعض جوانبها جور والظلم أعم الأسماء، ولما كان الظلم ترك الحق الجاري مجرى النقطة من الدائرة صار العدول عنه إما قريبًا وإما بعيدًا، فمن كان عنه أبعد كان رجوعه إليه أصعب " ولذلك قال تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) تنبيهًا أن الشيطان متى أمعن بهم في البعد من الحق صعب عليهم حينئذٍ الاهتداء، ولأجل من فعل بهم الشيطان ذلك قال تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) . وأما المستعمل معهم الظلم فخمسة، وهم الذين يجب استعمال العدل معهم وقد تقدم ذكرهم، الأول: رب العزة، الثاني: قوى النفس، الثالث: أسلاف الرجل، الرابع: معاملوه من الأحياء، الخامس: عامة الناس إذا تولى الإنسان الحكم بينهم، وقد قال بعض العلماء: أظلم الناس من جار على نفسه، ثم مَن جار على ذويه، ثم من جار على كافة الناس، وأفضلهم من عدل مع كافة الناس، ثم مع عشيرته، ثم مع نفسه وهذا قول وارد بنظر عامي، فإن الظالم لا يكون ظالماً لغيره حتى يظلم أولا نفسه، فإنه في أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذًا الظالم أَبْدأُ مبتدئ بظلم نفسه، والعادل مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الناس إذا همَّ بالعدل وتحراه فقد عدل مع نفسه قبل أن يعدل مع غيره، وقد قال بعضهم الظلم ثلاثة: الظالم الأعظم: وهو الذي لا يدخل تحت شريعة اللَّه تعالى وإياه عنى بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) . والأوسط: وهو الذي لا يلتزم حكم السلطان. والأصغر: هو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال فيأخذ منافع الناس ولا يعطيهم منفعة، ومن خرج عن تعاطي العدل بالطبع وبالخلق والتخلق والتصنع والرياء والرغبة والرهبة فقد انسلخ عن الإنسانية، ومتى صار أهل كل صقع على ذلك فتهارشوا وتغالبوا وأكل قويهم ضعيفهم ولم يبقَ فيهم أثر قبول لمن يمنعهم ويصدهم عن الفساد، فقد تقدم أن عادة الله سبحانه في أمثالهم إهلاكهم وإفناؤهم واستئصالهم عن آخرهم. الأسباب التي يحصل منها الأضرار جميع ذلك أربعة أسباب: الأول: الشرارة: كمن يضر بغيره مستلذًّا لفعله وذلك أخس الوجوه. والثاني: الشهوة: وهو أن يقصد إدراك شهوة ما، فرأى أنه لا يمكنه تحصيلها إلَّا بأن يضر بغيره، كعامة المتلصصة والعاثين في الأرض بالفساد. والثالث: الخطأ: وهو أن لا يقصد الإضرار بمن ضره بوجه، بل قصد فعلًا آخر، فاتفق منه ذلك، كمن رمى قرطاسًا في هدف فأصاب رجلًا، فهذا معذور من وجه. والرابع: الشقاوة: كمن حملته ريح فأوقعته على إنسان فمات ذلك الإنسان، فهذا معذور ومرحوم. المكر والخديعة والكيد والحيلة المكر والخديعة: متقاربان، وهما اسمان لكل فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره، وذلك ضربان: أحدهما مذموم: وهو الأشهر عند الناس والأكثر، وذلك أن يقصد فاعله إنزال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 مكروه بالمخدوع وهو الذي قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " المكر والخديعة في النار " والمعنى: أنهما يؤديان بقاصدهما إلى النار. والثاني على عكس ذلك وهو أن يقصد فاعلهما إلى استجرار المخدوع والممكور به إلى مصلحة لهما كما يفعل بالصبي إذا امتنع من تعلم خير، وقد قال بعض الحكماء: المكر والخديعة محتاج إليهما في هذا العالم، وذلك أن السفيه يميل إلى الباطل ولا يميل إلى الحق ولا يقبله " لمنافاته لطبعه، فيحتاج أن يخدع عن باطله بزخارف مموهة كما يخدع الطفل عن الثدي عند الفطام، ولهذا قيل في مثل: مخرق بأنها الدنيا مخاريق، وسفسط فإن الدنيا سوفسطائية، وليس هذا حث على تعاطي الخبث، بل هو حث على جذب الناس إلى الخير بالاحتيال، ولكون المكر والخديعة ضربين: سيئًا وحسنًا قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وقال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وقال تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) فخص في هذه الآيات السىء من المكر تنبيهًا على جواز المكر الحسن، فقال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) . وأما الكيد: فإرادة متضمنة لاستتار ما يراد عمن يراد به، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر، ومتى قصد به الشر فمذموم، ومتى قصد به خير فمحمود، وعلى الوجه المحمود قال - عز وجل -: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وعلى ذلك الاستدراج منه أيضًا نحو قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) فاستدراجه - عز وجل - تغطية السبيل على الإنسان وتمكينه فيما يريد ليطلب بالآلات التي أعطاه، وذلك تكليف له لما يقدر عليه وإن كان فيه مشقة، ولتمكنه من إدراك ذلك قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فمن جاهد في سبيله وأعمل فكره حتى ظفر به فسلكه على ما يجب وكما يجب سهل عليه الوصول وكان ذلك منه منة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وإحسانًا ولطفَا، ومن عطل معاونه من الفكرة والسمع والبصر حتى أضل طريقه كان ذلك منه خذلانًا وعذابًا له، وعلى نحو ما تقدم وصف نفسه تعالى بالحيلة والماحلة في قوله تعالى: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) . وهذه الألفاظ لولا أن الباري - عز وجل - أطلقها في مواضع مخصوصة قاصدًا لمعانِ صحيحة لما تجاسر بشر يعرف اللَّه تعالى أن يخطر ذلك بباله، فضلًا عن أن يجريه في مقاله، وإن قصد بها المعنى الصحيح تنزيهًا له وتعظيمًا. فيجب أن تتلى في القرآن حيثما وردت ولا يتعدى بها ذلك، وقد ذكر بعض المخلصين أن كثيرًا من الأوصاف الشريفة كالرحيم والغفور والودود ما كان واحد يتجاسر أن تطلق عليه - عز وجل - لولا ورود السمع به في هذه الأسماء، لما في هذه الأسماء من الكيفية والكمية والانفعال في وضع اللغة، واللَّه تعالى منزه عن كل ذلك، وهذا فصل كبير يختص به غير هذا الكتاب. ماهية المحبة وأنواعها المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرًا، وذلك ضربان: أحدهما: طبيعي: وذلك في الإنسان وفي الحيوان، وقيل: قد يكون ذلك في الجمادات كالألف بين الحديد وحجر الغناطيس. والثاني: اختياري: وذلك يختص به الإنسان، وأما ما يكون بين الحيوانين فألفة، وهذا الثاني أربعة أضرب: الأول: للشهوة، وأكثر ما يكون بين الأحداث. والثاني: للمنفعة، ومن جنسه ما يكون بين التجار وأصحاب الصناعة الهنية وأصحاب المذاهب. والثالث: مركب من الضربين، كمن يحب غيره لنفع، وذلك الغير يحبه للشهوة. والرابع: للفضيلة، كمحبة المتعلم للعالم، وهذه المحبة باقية على مرور الأوقات، وهي المستثناة باتوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) . وأما الضروب الأُخر: فقد تطول مدتها وتقصر بحسب طول أسبابها وقصرها. والصداقة: أخص من المحبة وقلما تقع بين جماعة ولا تستعمل إلا في الحيوان. وأما العشق: فمحبة بإفراط، وذلك إما بحسب اللذة فيكون مذمومًا، وإما بحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الفضيلة فيكون محمودًا، ولا يكون للنفع، فإن النفع يراد لغيره، والفضيلة واللذة يرادان لأنفسهما. فضيلة المحبة أحد أسباب نظام أمور الناس المحبة، ثم العدل، ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة لاستغنوا بها عن العدل، فقد قيل: العدل خليفة المحبة يستعمل حيث لا توجد المحبة، ولذلك عظم الله تعالى المنة بإيقاع المحبة بين أهل الملة فقال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) أي: محبة في القلوب تنبيهًا أن ذلك أجلب للعقائد وهو أفضل من المهابة، فإن المهابة تنفر والمحبة تؤلف، وقد قيل: طاعة المحبة أفضل من طاعة الرهبة، فإن طاعة المحبة من داخل، وطاعة الرهبة من خارج، وهي تزول بزوال سببها، وكل قوم إذا تحابوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عملوا، وإذا عملوا عمروا، وإذا عمروا عمروا. ولفضل وقوع المحبة شرعًا شرع الله تعالى اجتماع أهل الملة الواحدة في مساجدهم كل يوم خمس مرات لإقامة صلاتهم، واجتماع أهل البلد الواحد كل أسبوع مرة في الجامع، واجتماع أهل المدينة وأهل السواد كل سنة مرتين في الجبانة، واجتماع أهل البلدان النائية في العمر مرة بمكة، كل ذلك ليتأكد باجتماعهم الأنس، وليقع بسبب ذلك الود. فضيلة الصداقة الصديق يحتاج إليه في كل حال: إما عند سوء الحال فليعاونوه، وإما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكنه الاستغناء عن صديق مغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه. ولكثرة نفعه سئل حكيم عن الصديق فقال: هو أنت بالنفس إلا أنه غيرك بالشخص، ولعزة وجوده سئل عنه آخر فقال: هو اسم واقع على غير معنًى، فإنه حيوان غير موجود، ومن وجد إخوانا ذوي ثقة وجد بهم عيونًا وآذانًا وقلوبًا كلها له فيرى الغائب بصورة الشاهد واختيار من تركن إليه لتصادقه أمر صعب، إذ قد يتشيع لك الناقص فتظنه فاضلًا فيكون: كمن يحسب الشحم فيمن شحمه ورم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 المحبب في الناس من حببه اللَّه إلى الناس فقد أنعم عليه نعمة وسيعة كما أن من بغَّضه إليهم فقد جعل له نقمة فظيعة، والسبب فيمن يكون محببًا أن من رعاه اللَّه تعالى فصفى جوهره، وأطاب روحه، وحسن عمله حصل له نور يسري في مشاعر من يراه فيحبه، وإياه قصد تعالى بقوله لموسى - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحب اللَّه عبدًا ألقى محبته على الماء فلا يشربه عبد إلَا أحبه، وإذا أبغض عبدًا ألقى بغضه في الماء فلا يشربه عبد إلَّا أبغضه "، ولما ألقى اللَّه تعالى على نبينا - صلى الله عليه وسلم - من المحبة قلما كان يأتيه من ييغضه فيهم بقلبه إلَّا إذا رآه وقلب في آفاق وجهه طرفه، وألقى إلى كلامه سمعه أعجب به ففارقه على جميل. الحث على مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار؛ فإنها قد تجعل الشرير خيرًا، كما أن مصاحبة الأشرار قد تجعل الخيِّرَ شريرًا، قال بعض الحكماء: من صحب خيرًا أصابته بركته فجليس أولياء الله لا يشقى ولو كان كلبًا ككلب أهل الكهف؛ فإن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز فقال: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " لا تصحب الفاجر فيزين لك فعله ويود لو أنك مثله ". وقد قيل: جالسوا من تذكركم اللَّهَ رؤيتُه ويزيد في خيركم نطقه، وقد قيل: إياك ومجالسة الأشرار فإن الطبع يسرق من الطبع وأنت لا تدري، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مثل الجليس الصالح كمثل الداري إن لم يجذك من عطره علقك من طيب ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل القين إن لم يحرقك بشرره علقك من نتن دخانه "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل "، أي: أنه يجذبه خليله إلى دينه ومذهبه، ولقوة هذا المعنى وتأثيره في النفوس شاع على الألسنة قول الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وليس إعداء الجليس بجليسه في خلقه بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه، فالنظر في الصورة يؤثر في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه " فإن من دامت رؤيته لمسرور سر أو لمحزون حزن، وليس ذلك في الإنسان فقط، بل في الحيوانات والنبات. فإن الجمل الصعب قد يصير ذلولًا بمقارنة الذلل، والذلول قد ينقلب صعبًا بمقارنة الصعاب، والريحانة الغضة قد تذبل بمقارنة الذابلة، ولهذا يلتقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزرع، لئلَّا تفسدها ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، فإذا كانت هذه الأشياء قد بلغت في قبول التأثير هذا المبلغ فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها على قبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: إنما سمي الإنس إنسًا، لأنه يأنس بما يراه إن خيرًا وإن شرًّا. وللإنسان في المعاشرة ثلاثة أحوال: إما أن يكون شكسًا، أي: قاسي الطبع، أو ملقًا أي: سلس الطبع، أو مساعدا، أي: تاركا للخلاف على مقتضى العقل وهو المحمود، وحق الإنسان في المعاشرة أن يتقوى من جهة الفكرة بالمطايبة فىِ الكلام، ومن جهة الغضب بالتحالم، ومن جهة الشهوة بالجود، وأن يتعرى عن أضداد ذلك، وأن يجامل المعاشرين والمعاندين والمشتهين منهم بالإخوان ويصابرهم ويكاشرهم طمعًا في رجوعهم إخوانًا واتقاء من شرورهم حتى يكون ظريفًا، فالظرف عبارة عن استجماع آلة العشرة من الطلاقة والاحتمال ولين الجانب. فضيلة التفرد عن الناس ورذيلته قد كثر اختلاف الناس في مفاضلة التفرد والاختلاط، فبعضهم آثر التفرد عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الناس، وبعضهم آثر الاختلاط بهم، وقد أورد كل واحد في مذهبه أخبارا وآثارًا؛ وذلك بسبب اختلاف نظرهما وابتلاء أحدهما بمصاحبة من لم تحمد مصاحبته، ومصاحبة الآخر من تحمد صحبته، والأصل أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض أمر ضروري لتعلق أمور بعضهم ببعض، ولهذا لما سمع أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - رجلًا يقول: اللَّهم اغنني عن الناس، فقال: يا رجل أراك تسأل اللَّه الموت، قل اللَّهم اغنني عن شرار الناس. فالناس لا يستغني بعضهم عن بعض ما داموا أحياء، ثم في المعاشرة والتفرد عن الأخيار الذين يفيدونك ويعينونك ولا يؤذونك مكروه سيما إذا لم تدرب في الفضل ولم تستغن عن اقتباس العلم، وأما عن الأنذال الذين يتدنس بمصاحبتهم فمحمود، وقد قيل: التفرد مكروه إلَّا لثلاثة: لسلطان لإنشاء تدبير المملكة، وحكيم لاستنباط الحكمة، ومتنسك لمناجاة رب العزة، فإن التفرد يبطل الإنسانية ولا يظهر من صاحبه فضيلة، ومن ظن بالتفرد خيرًا فلأجل أن ليس يظهر منه شيء، وهذا يشاركه فيه الموتى، وفضيلة الإنسان أن يكون خيرًا، لا أن يكون شريرًا، وإن كان زماننا هذا كما قال المتنبي: إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال فحق العاقل الفاضل أن يجتمع مع العامة في ظواهر أحكام الشرع، وإقامة وظائف العبادات، وإنالتهم من الفضيلة بقدر الوسع، ويترفع عن منزلتهم في المعارف والأخلاق والأفعال الجميلة، ولمراعاة الحكم الظاهر قال عليه الصلاة والسلام: " عليكم بالسواد الأعظم "، ولمراعاة الترفع عن منزلتهم في المعارف والأخلاق قيل: المروءة التامة مباينة العامة، بل قيل: من استأنس باللَّه استوحش من الناس؛ وذلك لمخالفته إياهم في الخلق وللنهي عن الاغترار بكثير منهم، والركون إليهم، سيما من ليس قصده الآخرة وطلب الحق، قال تعالى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 العداوة العدو: هو الذي يتحرى اغتيال الآخر ويضاده فيما يؤدي إلى مصالحه، ومنه قولهم: تعدى فلان على فلان، أي: فعل به فعل العدو وهو من قولهم: مكان ذو عدو، أي: متنافي الأجزاء ناب بمن حله، ويضاد العداوة الولاية واشتقاقه من وليه يليه، والولاء أعم من الصداقة والمودة. والعداوة ضربان: باطن: لا يدرك بالحس، وظاهر: يدرك بالحس. والتام العداوة اثنان: أحدهما: الشيطان: وهو أصل كل عدو يعادي معاداة جوهرية، وقد حذرنا اللَّه تعالى منه غاية التحذير بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) وقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) وقال: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وقال: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) . والثاني: الهوى المعبر عنه بالنفس في قوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك ". وكذا الغضب إذا كان فوق ما يجب، ولكون هذه القوة في الإنسان إذا أثيرت طريقًا للشيطان في وصوله إلينا، وكونها كالخليفة له سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - باسمه فقال: " الهوى شيطان والغضب شيطان "، وقال تعالى حكاية عن موسى: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) . وأما الظاهر من الأعداء فالإنسان، وذلك ضربان: ضرب: هو عدو مضطغن للعداوة: قاصد إلى الإضرار إما مجاهدة وإما مساترة،وذلك اثنان: واحد يعادي كل أحد، وهو كل إنسان سبعي الطبع، خبيث الطينة، مبغض لكل من لا يحتاج إليه في العاجل، بغيض إلى كل نفس، يهارش كل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لا يخافه، كما قال الشاعرْ يسطو بلا سبب وتد ... ك طبيعة الكلب العقور ومثله هو الذي عني بقوله تعالى: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ) . والثاني: عدو خاص العداوة، وذلك إما بسبب الفضيلة والرذيلة كمعاداة الجاهل للعاقل، وإما بسبب تجاذب نفع دنيوي كالتجاذب في رياسة وجاه ومال، وإما بسبب لحمة وقرابة أو مجاورة مورثة للحسد كمعاداة بني الأعمام بعضهم لبعض، وذلك في كثير من الناس كالطبيعي. وقد قال رجل لآخر: إني أحبك. فقال له: قد علمت ذلك، فقال له: من أين علمته، فقال: لأنك لست لي بشريك ولا بنسيب ولا جار قريب، وأكثر المعاداة بين الناس إنما تتولد من شيء من ذلك. والثاني: عدو غير مضطغن للعداوة: ولكن يؤدي حاله بالإنسان إلى أن يقع بسببه في مثل ما يقع في كيد عدوه - فسمي عدوًّا لذلك، كالأولاد والأزواج. وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس عدوك الذي إن قتلته آجرك اللَّه في قتله وإن قتلك أدخلك اللَّه الجنة، ولكن أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك، وامرأتك التي تضاجعك، وأولادك الذين من صلبك " فجعل - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء أعداء الإنسان لما كانوا سبب هلاكه الأخروي، لما يرتكبه من المعاصي لأجلهم، فيؤدي به إلى هلاك الأبد الذي هو شر من إهلاك المعادي الناصب إيَّاه. واعلم أنه لكون الإنسان - أو بعض الناس - مشاركًا للشيطان في المعاداة سمى اللَّه تعالى الأعداء شياطين الإنس والجن في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) . وقد سمى كل ما يتأذى به شيطانًا حتى قالوا: ما ليلة الفقير إلَّا شيطان مجنون يؤذي بروح الإنسان، والفقير هو اسم بئر فجعله ليلة ورودها شيطانًا لتأذيه بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الفصل السادس فيما يتعلق بالصناعات والمكاسب والإنفاق والجود والبخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 في حاجة الناس إلى اجتماعهم للتظاهر اعلم أنه لما صعب على كل أحد أن يحصل لنفسه أدنى ما تحتاج إليه إلَّا بمعاونة غيره له - فإن لقمة الطعام لو عددنا تعب تحصيلها من حين الزرع إلى حين الطحن والخبز وصناع آلاتها لصعب حصره - احتاج الناس أن يجتمعوا فرقة فرقة، متظاهرين متعاونين، ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع، أي: أنه لا يمكن التفرد عن الجماعة بعيشه، بل يفتقر بعضهم إلى بعض في مصالح الدين والدنيا، وعلى ذلك نبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا "، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مثل المؤمين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى ". وقد قيل: الناس كجسد واحد متى عاون بعضه بعضًا استقل، ومتى خذل بعضه بعضًا اختل. تسخير اللَّه همم الناس للصناعات المختلفة وعناية كل واحد بما يتحراه لما احتاج الناس بعضهم إلى بعض سخر اللَّه تعالى كل واحد منهم لصناعة ما يتعاطاها، وجعل بين طبائعها وصنائعهم مناسبات خفية واتفاقات سماوية؛ ليؤثر كل واحد منهم حرفة من الحرف يشرح صدره لها، ويفرح بملابستها وتطيعه قواه لمزاولتها، ولو كلف صناعة أخرى ربما وجد متبلدًا فيها، ومتبرمًا بها. وقد سخرهم الله تعانى لذلك، لئلا يختاروا بأجمعهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك لما اختاروا من الأسماء إلا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصناعات إلا أجملها، ومن الأعمال إلا أرفعها، ولتفاخروا على ذلك. ولكن اللَّه تعالى بحكمته جعل كلًا منهم فيما هو فيه مجبرًا في صورة مختار، فالناس إما: راضٍ بصنعته لا يريد عنها حولًا كالحائل الذي يرضى بصناعته ويعيب الحجام، والحجام الذي يرضى بصناعته، ويعيب الحائل، وبهذا انتظم أمرهم كما قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) . وإما كاره لها، يكابدها مع كراهيته إياها، كأنه لا يجد عنها بديلًا، وعلى هذا دل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل ميسر لما خلق له "، بل صرح تعالى بذلك في قوله: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا) وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) وقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) . ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا " فالتباين والتفرق والاختلاف في نحو هذا الموضع سبب الالتئام والاجتماع والاتفاق، كاختلاف صور الكتابة وتباينها وتعددها الذي لولاه لما حصل لها نظام، فسبحان اللَّه ما أحسن ما صنع وأحكم ما أسس، وأتقن ما دبر، ولهذا قيل: من حق من قيض اللَّه له صناعة مباحة فرزق منها أن يراعيها على ما يجب وكما يجب، وعليه دل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رزق من شيء فليلزمه ". كون الفقر وخوفه سبب انتظام أمر الناس حصول الفقر وخوفه المنتجان للحرص هما الباعثان على الجد واحتمال الكدر في منفعة الناس إما باختيار، وإما باضطرار، ولهذا قيل: رب ساع لقاعد، وهو أن الناس لو كفى كل واحد منهم أمره لأدى إلى فساد العالم، من حيث إنه لم يكن لأحد أن يتولى لغيره مهنة، وكان الواحد منهم يعجز عن القيام بمصالح نفسه كلها فيؤدي ذلك إلى فقر جميعهم. وقد قيل: قيام العالم بالفقر أكثر من قيامه بالغنى، لأن الصناعات القائمة بالغنى ثلاث: الملك، والتجارة، والكتابة، وسائرها قائم بالفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فلو لم يكن الفقر وخوفه لما انتظم معاش العالم، فمن كان يتولى الحياكة والحجامة والدباغة والكناسة، ومن كان ينعَل المير والملابس من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال. وعلى منفعة الفقر نبه قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقوله (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) . هذا مع أن من الناس من لو كفي أمر دنياه لكان يوجد منه من البغي والتسلط ما يؤدي إلى خراب البلاد وفساد العباد، بل كان يوجد منه ما يؤدي إلى هلاك نفسه في أسرع مدة، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) . ومن تدبر صنع الله في ذلك وتأمل ما أشار إليه في هذه الآيات التي ذكرها ثم تعرض له الشبهة التي تعرض لمن يقول: إذا كان الله غنيا جوادًا واسعًا فلم خص بعض خلقه بالغنى، وجعل أكثرهم فقراء، ومن حق الغني الذي لا يفنى غناه، والجواد الذي لا يعرف لجوده منتهى ألَّا يخص بالعطية بعضًا دون بعض، وذلك أن الجواد الحق هو الذي يعطي كل أحد بقدر استحقاقه على وجه يعود بمصلحته ومصلحة غيره، وقد فعل تعالى ذلك بكثير من العباد. مناسبة بدن الإنسان لصناعته إن اللَّه تعالى فرق همم الناس للصناعات المتفاوتة، ويسر كلًّا لما خلق له، وجعل آلاتهم الفكرية والبدنية مستعدة لها، فجعل لمن قيضه لمراعاة العلم والمحافظة على الدين قلوبًا صافية وعقولًا بالمعارف لائقة، وأمزجة لطيفة، وأبدانًا لينة مستصلحة لما خلقوا له، وجعل لمن قيضه لمراعاة المهن الدنيوية والمحافظة عليها كالزراعة والبناء قلوبًا قاسية وعقولًا كنزة، وأمزجة غليظة، وأبدانًا خشنة. وكما أنه محال أن يصلح السمع للرؤية والبصر للسمع كذلك من المحال أن يكون من خُلق للمهنة يصلح للحكمة. وقد جعل اللَّه كل جنس من الفريقين نوعين: رفيعًا ووضيعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فالرفيع: من تحرى الحذق في صناعته، وأقبل على عمله، وطلب مرضاة ربه بقدر وسعه، وأدى الأمانة بقدر جهده، ولم يشتغل عن عبادة اللَّه - عز وجل - كما قال: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب الصانع الحاذق "، ومدح الملائكة بوقوفهم حيث ما وقفوا، وإحكامهم لما ولوا، فقال تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) . وجوب التكسب التكسب في الدنيا وإن كان معدودا من المباحات من وجه، فإنه من الواجبات من وجه، وذلك أنه لما لم يكن للإنسان الاستقلال بالعبادة إلَّا بإزالة ضروريات حياته، فإزالتها واجبة، لأن كل ما لا يتم الواجب إلَّا به فواجب كوجوبه. وإذا لم يكن له إلى إزالة ضرورياته سبيل إلا بأخذ تعب من الناس فلا بد إذًا أن يعوضهم تعبا من عمله وإلَّا كان ظالمًا، فمن توسع في تناول عمل غيره في مأكله وملبسه ومسكنه وغير ذلك فلا بد أن يعمل لهم عملا بقدر ما يتناوله منهم، وإلَّا كان ظالما لهم، سواء قصدوا إفادته أو لم يقصدوها، فمن رضي بقليل من عملهم فلم يتناول من دنياهم إلَّا قليلًا يرضى منه بقليل من العمل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من رضي من الله بقليل الرزق رضي اللَّه منه بقليل العمل "، ومن أخذ منهم المنافع ولم يعطهم نفعًا فإنه لم يأتمر للَّه تعالى في قوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ولم يدخل في عموم قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ولهذا ذم من يدعي التصوف فيتعطل عن المكاسب، ولم يكن له علم يؤخذ منه، ولا عمل صالح في الدين يقتدي به، بل يجعل همه عارية بطنه وفرجه. فإنه يأخذ منافع الناس ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعًا، فلا طائل في مثلهم إلَّا بأن يكدروا المشارع، ويغلوا الأسعار، ولهذا الشأن كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا نظر إلى ذي سيماء سأل عنه: أله حرفة، فإن قيل: لا، سقط من عينيه. وقد استحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وفد عبد القيس لما سألهم، فقال: " ما المروءة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فقالوا: العفة والحرفة. ومن الدلالة على قبح فعل من هذا صنيعة أن اللَّه تعالى ذم من يأكل مال نفسه إسرافًا وبدارًا، فما حال من يأكل مال غيره على ذلك ولا ينيلهم عوضًا، ولا يرد عليهم بدلًا. فمن كان مضطرًّا إلى كسب فحقه أن يقتصر على ما يسد به فقر وقته، ولا يحمل هم غده على يومه. فمن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر ومن اقتصر على قدر ذلك فقد صار من المتوكلين الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا ". مدح السعي وذم الكسل من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، وذلك أنه إنما خص الإنسان بالقوى الثلاث ليسعى في فضيلتها، فإن فضيلة القوة الشهوية تطالبه بالمكاسب التي تنميه، وفضيلة القوة الغضبية تطالبه بالمجاهدات التي تحميه، وفضيلة القوة الفكرية تطالبه بالعلوم التي تهديه، فحقه أن يتأمل قوته، ويسبر قدر ما يطيقه، فيسعى بحسبه لما يفيده السعادة ويتحقق أن اضطرابه سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة. وأن من تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة فحب الهوينا يكسب النصب، وقد قيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلَّا تتعب، وقيل: إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على الحق. قال الشاعر: إن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا فراشًا وطيئًا ثم قال لها اتكي ... فقصرا كما لاشك أن تلدا الفقرا وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أن كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز، ولأن الفراغ يبطل الهيئات الإنسانية، فكل هيئة بل كل عضو ترك استعماله يبطل، كالعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إذا غمضت، واليد إذا عطلت؛ ولذلك وضعت الرياضات في كل شيء. ولما جعل اللَّه تعالى للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقًا إلَّا بسعي ما منه؛ لئلَّا تتعطل فائدة ما جعل له من قوة التحرك. ولما جعل للإنسان قوة الفكرة ترك من كل نعمة أنعمها تعالى عليه جانبًا يصلحه هو بفكرته، لئلا تبطل فائدة الفكرة، فيكون وجودها عبثًا. وتأمل حال مريم - عليها السلام - وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤونة الطلب، وفيه أعظم معجزة، فإنه لم يخلها من أن يأمرها بهزها، فقال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) . وكما أن البدن يتعود الرفاهية بالكسل، كذلك النفس بترك النظر والتفكر تتبلد وتتبله، وترجع إلى رتبة البهائم. فحق الإنسان ألا يذهب عامة أوقاته إلَّا في إصلاح أمر دينه ودنياه، ومتوصلًا به إلى إصلاح أمر آخرته، ومراعيًا لها، قال الحجاج: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه، أو يستغفر من ذنبه، أو يفكر في معاده لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة. وإذا تأملت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سافروا تغنموا "، ونظرت إليه نظرًا عاليًا علمت أنه حثك على التحرك الذي يثمر لك جنة المأوى، ومصاحبة الملأ الأعلى، بل مجاورة اللَّه تعالى. وذلك يحتاج إلى أربعة أشياء: معرفة المقصود المشار إليه بقوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) . ومعرفة الطريق إليه المشار إليه بقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وتحصيل الزاد البلغ المشار إليه بقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والمجاهدة في الوصول إليه كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) . فبهذه الأشياء يأمن الغرور الذي خوفه اللَّه منه فىِ قوله تعالى: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) وهدذه من المعاني التي دونها هول العوالي، ولا ضير لمن رامها أن يتذرع بالصبر، فقد أصاب من قال: فقل لمرجي معالي الأمور ... بغير اجتهاد رجوت المحالا تقاسيم الصناعات ومراتبها وفضيلة بعضها على بعض الصناعات ثلاثة أفرب: إما أصول لا قوام للعالم دونها، وهي أربعة أشياء: الزراعة، والحياكة، والبناية، والسياسة. وإما مرشحة لكل واحد من هذه وخادمة لها، كالحدادة للزراعة، والحلاجة والغزالة للحياكة وإما ثمرة لكل واحد من ذلك ومزينة له، كالطحانة والخبازة للزراعة، والقصارة للحياكة، ومثل ذلك بالإضافة إلى العالم مثل أجزاء الشخص إلى الشخص سواء بسواء، فإنها على ثلاثة أضرب: إما أصول كالقلب والكبد والدماغ، وإما مرشحة لتلك الأصول وخادمة كالمعدة والعروق والشرايين، وإما مكملة لها ومزينة كاليد والحاجب. فأشرف أصول الصناعات السياسة وهي أربعة أضرب الأول: سياسة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة، ظاهرهم وباطنهم. والثاني: الولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم. والثالث: الحكماء وحكمهم على باطن الخواص. والرابع: الفقهاء والوعظة وحكمهم على بواطن العامة. وأشرف هذه السياسات الأربعة بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب الناس به، وبيان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أن شرف الصناعة يتبين من أوجه: إما بحسب النسبة إلى القوة المبرزة لها كفضل معرفة الحكمة على معرفة اللغات، فإن الأولى متعلقة بالقوة العقلية، وهذه بالقود الحسية، والعقل أشرف من الحس. وإما بحسب عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة. وإما بحسب شرف الوضوع المعمول فيه كشرف الصياغة على الدباغة. وقد علم أن الحكمة تدرك بالقوة المفكرة، وهي أشرف قوة في الإنسان، وأنه يتوصل بها إلى جنة المأوى، وذلك أبلغ نفع، وموضوعها الذي تعمل فيه نفوس البشر، وهي أفضل موضوع يعمل فيه، بل أفضل موجود في هذا العالم. وإفادة العلم من وجه صناعة، ومن وجه عبادة، ومن وجه أجل خلافة للَّه تعالى، فإن اللَّه تعالى مع استخلافه قد فتح على قلبه العلم الذي هو أخص صفاته تعالى، فهو خازن لأجلِّ خزائنه، وقد أذن له في الإنفاق على كل أحد ممن لا يفوته الإنفاق عليه، وكلما كان إنفاقه على ما يجب، وكما يجب أكثر كان جاهه عند مستخلفه أوفر. في أن أصول الصناعات مأخوذة من الوحي أصول الصناعات والمكاسب مأخوذة عن وحي، وذلك أن نقص البشر وحاجة بعضهم إلى بعض أمر ظاهر، والناقص محتاج إلى الكامل، فلا يخلو: إما أن يكون قد أخذ ذلك واحد عن واحد بلا نهاية، وذلك إيجاب ما لا نهاية له وهو محال. وإما أن ينتهي إلى واحد من البشر علمه اللَّه الصناعات، إما بسماع من الملأ الأعلى، أو بإلهام أو منام، وهذا هو الوحي، فمعلوم لذي اللب أن قوى العقاقير وطبائع الحيوانات مما لا يمكن إدراك خواصها بأفهام البشر وتجربتهم، ورؤساء كل صناعة يقرون بذلك. فأهل النجوم يقولون: مبادئ النجوم من هرمس، ويقولون: هو الذي عرج بروحه إلى السماء واطلع على ذلك، ويقولون هو قبل إدريس - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أصحاب الطب يدعون مثل ذلك في معرفة الأدوية. واختصاص كل واحد من الموجودات بفعل له على حدته، وانحسار العقل عن توهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ما هو أصلح لذلك الفعل منه، يحقق أنه صدر عن حكمة إلهية. في شأن الناض المتعامل به وبيان حكمة اللَّه تعالى فيه اعلم أن الناض أحد أسباب ما به قوام الحياة الدنيوية، ومتى توهمناه مرتفعًا تعسر على الناس تزجية معاشهم، وقد تقدم أن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ولا يمكنهم التعايش ما لم يتظاهروا ويتولى كل واحد منهم عملًا يصير به معينًا للآخر مواسيًا له، ولما كان كل من واسى غيره فمن حقه أن يقابل بقدر مواساته لكن ربما لم يحصل عند صاحبه ما يريده هو فقيض اللَّه تعالى لهم هذا الناض علامة منه - جلَّ ثناؤه - ليدفعه الإنسان إلى من يوليه نفعًا فيحمله إلى من عندد مبتغاه فيأخذ منه قدر عمله، ثم جاء ذلك الآخر إلى الأول بتلك العلامة أو بمثلها، وطلب منه مبتغى هو عنده دفعه إليه لينتظم أمرهم بذلك، وذلك قيل: الدرهم حاكم صامت، وعدل ساكت، وحكم من اللَّه تعالى نافذ، وقد قيل لهذا المعنى سمي في لغة الفرس الدينار (دين أورد) ، أي: الدين أتى به والدين فارسية معربة، ولما كان ذلك حاكمًا عظم الله تعالى، وعيد من احتبسه ومنع الناس من التعامل به، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) وذلك أنه يصير باحتباسه إياهما كمن احتبس حاكمين للناس بهما تتمشى أمور معاشهم، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم "، لأن اتخاذه الذهب والفضة آنية يؤدي إلى منع الناس عن تصريفه في معاملاتهم وتضييقه عليهم مكاسبهم. مدح المال وذمه المال إذا اعتبر بكونه أحد أسباب قوام الحياة الدنيوية فهو عظيم الخطر كما تقدم، وإذا اعتبر بسائر القنيات فهو صغير الخطر " إذ هو أخس القنيات. والقنيات ثلاتة: نفسية وبدنية وخارجة، والخارجة أدونها وأدون الخارجات الناض، لأنه خادم غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 مخدوم، وسائر القنيات خادم من وجه ومخدوم من وجه؛ لأن النفس يخدمها البدن والبدن يخدمه المأكل والملبس وهما يخدمهما المال، فالمال من حقه أن يكون خادما لغيره من القنيات، وأن لا يكون شيء من القنيات خادمًا له، وإن كان كثير من الناس لجهلهم يجعلون جاههم وأبدانهم ونفوسهم خدمًا للمال وعبيدا، وهم الذين ذمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ". ولعظم موقع المال عند من لم يتجاوز المحسوسات، قال تعالى حكاية عن بعض أنبيائه فيما خاطب به أمته: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) . ولعظم منافعه في الأمور الدنيوية قال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) ونبه على حقارة قدره بالإضافة إلى أحوال الآخرة فقال: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وخوف من أعجب باقتنائه وذمه فقال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) وقال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) فحق الإنسان أن يعلم أن المقتنيات الدنيوية آلات موضوعة في خان على طريق سفره يصلح للانتفاع بها ما دام نازلًا في ذلك الخان، فيتناول منه مقدار البلغة ويتسلى عن الباقي عند الرحلة، ويستهجن لنفسه أن يكذب ويغضب ويحزن ويرتكب القبائح بسببها. واعلم أن الناض الذي هو العين والورق حجر جعله اللًه سبحانه سببا للتعامل به - كما تقدم ذكره آنفًا - وهو خادم غيره، فقبيح بالحر المترشح لنيل الفضائل والاقتداء بالبارئ جلت عظمته - وهو يأمل الوصول إلى الغنى الأكبر - أن يتهافت على المال ويتناول أكثر مما يحتاج إليه، ويجعل نفسه أقل رقيق له وأخسه كما قيل: فرق ذوي الأطماع رق مخلد، ويكون معتكفَا فيه على حجر يعبده كما قال تعالى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) . والذي أرى أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما سأل اللَّه تعالى فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) لم يرد إلَّا أن يحسره وذريته عن محبة الأعراض الدنيوية الصارفة عن اللَّه، فمثله وولده يتنزه عن أن يشفق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 اعتقاده في حجر أنه هو صانعه وأنه يستحق عبادته. وقد قال في موضع آخر إشارة إلى ما يعم في هذا المعنى وغيره: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) وقد قال بعض الحكماء: مثل الإنسان وشغفه بهذا الحجر، بل سائر الأعراض الدنيوية كمثل قوم كانوا في سفينة يقصدون أفضل بلد وأطيبه، فانتهت بهم السفينة إلى جزيرة أرادوا الخروج إليها والتفسح فيها للطهارة، والجزيرة ذات أسود وأساود، فأمروا بالخروج وأن يكونوا على حذر، فلما خرجوا إليها رأوا فيها حجارة مزخرفة وأزهارًا مستحسنة مختلفة، فأعجبهم ذلك وشغفوا به وأمعنوا في الجزيرة وتباعدوا عن المركب ونسوا أنفسهم ومقصدهم وبقوا لاهين بما رأوا من ذلك، حتى سارت السفينة فثارت عليهم الأسود والأساود تفترسهم وتنهشهم فلن يغن عنهم ما خدعهم وألهاهم من تلك الأحجار والأزهار، فصاروا كما قال تعالى حكاية عمن هذه حاله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) . ذكر المال والأدب في اقتنائه والوجوه التي منها يحصل قد تقدم أن المال من الخيرات المتوسطة، لأنه كما قد يكون سببًا للخير فقد يكون سببًا للشر، لكن لما كان في أكثر الأحوال موجبًا كرامة أصحابه وتعطم أربابه حتى صدق قول الشاعر فيما قال: الناس أعداء لكل مدقع ... صفر اليدين وإخوة للمكثر قيل: رأيت ذا المال مهيبًا مكرمًا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نعم المال الصالح للرجل الصالح "، واستُصوب قول طلحة - رضي الله عنه - في دعائه: اللهم ارزقني مجدًا ومالًا فإنه لا يصلح المجدُ إلَّا بالمال، ولا يصلح المالُ إلا بمراعاة المجد، ونظر المتنبى هذا النظر حيث قال: فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وقال بعض الحكماء: اطلب العلم والمال تحوي الرئاسة، فالناس خاص وعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فالخاص يفضلك بما تحسن، والعام بما تملك. واكتسابه من الوجوه التي ينبغي صعب، وتفريقه سهل، كما قال الشاعر: له مصعد صعب ومنحدر سهل ومن رام اكتسابه من وجهه صعب عليه، فالمكاسب الجليلة قليلة عند الحر العادل. ومن رضي بكسبه من حيث ما اتفق فقد يسهل عليه. والفاضل ينقبض عن اقتناء المال، ويسترسل في إنفاقه، ولا يريده لذاته، بل لاكتساب المحمدة به، ولا يجتمع عنده المال مدخرًا، لكن كما قال الشاعر (النضر بن جؤية) : لا يألف الدرهم الضروب صُرَّتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق إنا إذا أجتمعت يومًا دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبق وغير الفاضل يسترسل في اقتنائه، ويقبض في إنفاقه، ويطلبه لذاته لا لادخار الفضيلة به. والمال يحصل من وجهين: أحدهما: بسبب منسوب إلى الجد المحض والبخت الصرف، من غير اكتساب من صاحبه، كمن ورث مالًا، أو وجد كنزًا، أو قيض له من أولاه شيئًا. والثاني: أن يكتسب الإنسان، كمن يشتغل بتجارة أو صناعة فيدخر منها مالًا. وهذا الضرب لا يستغنى فيه عن الجد، ولهذا قيل: وعليَّ أن أسعى وليس ... عليَّ إدراك النجاح فحظ الجد في المال أكثر من حظ الكد بخلاف الأخلاق والأعمال الأخروية التي حظ الكد فيها أكثر، وقد نبَّه اللَّه تعالى على ذلك بقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) فاشترط في العاجلة مشيئته للمعطي وإرادته للمعطى له، ولم يشترط السعي، واشترط في الآخرة السعي لها مع الإيمان، ولما يشترط إرادته تعالى ومشيئته وإن كان ذلك لا يتعرى منهما. فحق العاقل أن يعني بما إذا طلبه ناله، وإذا ناله لم يخف زواله، ويقلل المبالاة بما إذ قدر له أتاه طلبه أو لم يطلبه. وقد قال بعض الحكماء: إن البخت بمنزلة امرأة صماء عمياء ورهاء (1) في حجرها   (1) ورهاء: كثيرة الشحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 جواهر، وهي قاعدة على حجر مدور، يتبعها ناس كثير يلتمسون ما عندها، وهي لا تسمع قولًا ولا ترى وجهًا، وقد اعتزل عنها قوم قليلو العدد، وقعدوا ناحية، وفي كل ساعة تقبض قبضة مما في حجرها وتعطيها واحدًا من القوم لا تخص أتباعها، بل ربما تخطئهم وربما تعطيهم، كأنها المعنية بقول من قال من الشعراء: لا تمدحن ابن عباد وإن مطرت ... كفاه جودًا ولا تذممه إن ذمما فليس ييخل إبقاء على نشب ... ولن يجود بفضل المال معتزما لكنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلًا ولا كرما وتارة تعرج على من أعطته فتسلبه سلبًا وتدوسه بحجرها دوسًا. وأما الفضائل الأخروية: فكما قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر، ولهذا قال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) . سبب إخفاق العاقل وإنجاح الجاهل الحكمة تقتضي أن يكون العاقل الحكيم في أكثر الأحوال مقلًّا، وذلك أنه لا يأخذ المال إلَّا كما يجب من الوجه الذي يجب، وفي الوقت الذي يجب، ثم إذا أخذه وتناوله لم يدخره عن مكرمة تعن له. والجاهل أسهل عليه الجمع من حيث لا يبالي فيما يتناوله بارتكاب محظور واستباحة محجور. واستنزال الناس عما في أيديهم بالمكر، ومساعدتهم على ارتكاب الشر طمعًا في نفعهم له، وكثيرًا ما ترى من هم في جملة الموصوفين بقوله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) شاكين لبختهم، فبعضهم يغضب على الفلك، وبعض يعتب على القدر، وبعضهم يتجاوز الأسباب فيعاتب اللَّه تعالى، حتى قال بعض المجان عند قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) زال الرا، ولو تولى غيره قسمة أرزاق الورى، جرت خطوب بيننا لكنها تحت العرا. وذلك لحرصهم على ارتكاب المقابح، ولجهلهم بما يقيض اللَّه لعباده من المصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقول الشاعر: هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقَا فالذي يصير بذلك زنديقًا فبأن يسمى الجاهل الشرير أولى من أن يسمى العالم النحرير، وقد قال حكيم: سوأة لمن أعطي العلم فجزع لفقد الذهب والفضة، ولمن أعطي السلامة والدعة فجزع لفقد التعب والألم، فثمرة العلم السلامة والدعة، وثمرة المال التعب والألم. تحقيق كون المال في أيدي الناس إن اللَّه تعالى أوجد أعراض الدنيا بلغة فاتخذها الناس عقدة، وجعل الدنيا منزلًا وممرًّا فصيروها موطنًا ومقرًّا، إلَّا قليلًا منهم فإنهم أنزلوها حيث أنزلها اللَّه تعالى، وهم الذين وصفهم بقوله: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) تاجروا بها ربَّهم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) . فأعراض الدنيا عارية في أيدي الناس مستردة، كما قيل: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يومًا أن ترد الودائع وهي من وجه منيحة: منحت الإنسان لينتفع بها مدة، ويذرها لينتفع بها من بعده. ومن وجه وديعة في يده: رخص له في استعمالها والانتفاع بها بعد أن لا يسرف فيها. لكن الإنسان لجهله ونسيانه لما عهد إليه بقوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) اغتز بها فظن أنها قد جعلت له هبة مؤبدة، فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤدِ أمانة اللَّه تعالى فيها، ثم لما طُولب بردها تمنع منه وضجر، ولم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده وبعضهم - وهم الأقلون - حفظوا ما عهد إليهم فتناولوها تناول العارية والمنيحة والوديعة، فأدوا فيها الأمانة، وعلموا أنها مسترجعة، فلما استردت منهم لم يعضوا ولم يجزعوا، وردوها شاكرين لما نالوه منها، ومشكورين لأداء الأمانة فيها. وقد ذكر بعض الحكماء في ذلك مثلًا فقال: إن مثل الناس فيما أعطوه من أعراض الدنيا مثل رجل دعا قومًا إلى داره، فأخذ طبقًا من ذهب، وجعل عليه بخورًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ورياحين، فكان كلما دخل واحد منهم تلقاه به، ودفعه إليه، لا ليملكه، بل ليشمه ويستمتع به ويدفعه إلى من يجيء بعده، فمن كان جاهلًا برسومهم ظن أنه قد وهب له، فيضجر إذا استرجع منه، ومن كان عارفًا برسومهم أخذه بشكر، ورده بانشراح صدر، وطيب نفس. تفاوت أحوال المتناولين لأعراض الدنيا طلب الدنيا وتناولها على ثلاثة أضرب: فالأول: من يتناولها على أي وجه اتفق، راكنًا إلى المال غير متفكر في المآل، وإياه قصد تبارك وتعالى بقوله في ذم من ذمه: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) . والثاني، من يتناولها على الوجه الذي يجب تناولها عليه، وذلك أن يقتصر على ما لا يمكن التبلغ بأقل منه، من الوجه الذي يجب كما يجب. ولوجوب تناول هذا القدر قيل: مباحات الصوفية فريضة، وفريضتهم مباحة. بمعني أنه لا يقدم على تناول مباح حتى يضطر إليه، فيتحتم تناوله عليه، فيصير ما كان مباحًا تناوله فرضًا عليه، ويفعل من الواجبات فوق ما يجب عليه، مسارعًا إليه حتى يصير حكمها حكم النوافل. وقد روي: " من طلب رزقه على ما سن له فهو في جهاد "، وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في فيِّ امرأته "، ولم يعن أن كل أحد على كل حال يؤجر في ذلك، وإنما أراد تخصيص المؤمنين الذين يراعون حكم اللَّه في مكاسبهم وإنفاقهم ويتحرون في ذلك عبادة الله. والضرب الثالث: من يتوسع فىِ تناولها ويراعي فيها ما يجب، لكن يكون فيه وكيلًا للَّه تعالى فيقتصر منها لنفسه على تناول بلغته، ويجعل الباقي مصروفا إلى ما دعي إليه، فهذا أفضل كما تقدم ذكره، فإنه يصير بذلك من خلفاء اللَّه - عز وجل -. فمن تناول الدنيا على أحد هذين الوجهين فقد ارتسم للًه - عز وجل - في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) . وبالاعتبار بمثلهم قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) فجعلها لهم إرثًا، ثم قال: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) أي: من تحرى فىِ تناول الدنيا عبادة اللَّه فإنه يبلغ بذلك مقصوده المذكور في قوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) . والفضل هو الإحسان، فنبَّه جمذلك أن تناول المال إذا تُحري به الوجه الذي يجب كما يجب فهو فضل وإحسان يستحق به الثواب وعلى ذلك قوله: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) وقال في مدح قوم يتناولون الدنيا كما يجب من حيث ما يجب: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) . في بيان ما ورد من الآيات المتفاوتة الظاهر في شأن الدنيا من تصور الجوه الثلاثة التي تقدم ذكرها في تناول الدنيا سقطت شبهته فيما ورد من الآيات والأخبار المتفاوتة في الظاهر، من ذم الدنيا وأعراضها تارة، ومدحها تارة، وذلك أن ما جاء من ذمها فاعتبارًا بمن رضيها حظًّا لنفسه، وجعلها مبلغ مراده، كما قال تعالى: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) . وما جاء من مدحها فباعتبار تناولها وإنفاقها على ما يحمد، وعلى ذلك ما قال أمير المؤمنين علي كرم اللَّه وجهه: " الدنيا دار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها. الناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها ". وعلى هذين الوجهين مدح تارة عمارة الأرضين فقال تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من غرس غرسًا لم يأكل منه طائر ولا بهيمة إلا كان له صدقة ". وقد ذم مرة عمارتها فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها ". أحوال الناس في مراعاة أمور الدنيا والآخرة الناس في ذلك على ثلاثة أضرب: صنف: هم المنهمكون في الدنيا بلا التفات منهم إلى العقبى، وهم المسمون عبدة الطاغوت، وشر الدواب، ونحوهما من الأسماء. وصنف: مخالفون لهم غاية المخالفة، يراعون العقبى من غير التفات منهم إلى مصالح الدنيا. وصنف: متوسط بينهما قد وفوا الدارين حقهما. وهذا الصنف هم الأفضلون عند الحكماء، لأن بهم قوام أسباب الدنيا والآخرة، ومنهم عامة الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، لأن اللَّه تعالى بعثهم لإقامة مصالح المعاد والمعاش، ولأن أمورهم مبنية على الاعتدال الذي هو أشرف الأحوال، وأجدر أن يكون ثلاثتهم داخلين في قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) . فالمراعي للدنيا والآخرة على ما يحسن وكما يحسن هو من السابقين، وقد جعل قوم السابقين النساك الذين رفضوا الدنيا بالكلية محتجين بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) وقد خفي على هذا القائل أن أعظم عبادة اللَّه تعالى ما يكون عائدًا بمصالح عباده، وقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الخلق كلهم عيال الله فأحب الناس إليه أنفعهم لعياله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ولأنه كما يقبح أن يشتغل الإنسان بأمر بدنه ودنياه، لأنه يصير مضاد اللَّه في إبطال وتضييع أحد جزئيه المركب عليه، وكذلك يقبح أن يضيع الجزء الآخر الذي هو بدنه ودنياه، لأنه يصير مضاد اللَّه تعالى في إبطال ما أوجده وأتقنه. فإن قيل: فقد قيل: الناس ثلاثة: رجل شغله معاده عن معاشه وتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده وتلك درجة الهالكين، ورجل مشتغل بهما وتلك درجة المخاطرين. قال: وقد علم أن الفائز أحسن حالا من المخاطر. قيل له: إن المنازل الرفيعة لا تنفك عن المخاطرة، ولم يقصد هذا القائل بذلك إلى أن يفضل الفائز، وإنما خوف أن يترشح لخلافة اللَّه من هو قاصر عنها، ويقوي ذلك ما روي أن بعض أولاد الملوك ممن تقوى في العلم والحكمة اعتزل الملك وزهد في الدنيا، فكتب إليه بعض الملوك قد اعتزلت ما نحن فيه فإن علمت أن ما اخترته من ذلك أفضل فعرفنا لنذر ما نحن فيه، ولا تحسبن أني أقبل منك قولًا بلا حجة. فكتب إليه: اعلم أنا عبيد لملك رحيم، بعثنا إلى حرب عدو، وعرفنا أن المقصد من ذلك قهره أو السلامة منه، فلما قربوا من الزحف صاروا فزقًا ثلاثة: متحرزًا: طلب السلامة منه فاعتزل، فاكتسب ترك الملامة، وإن لم يكتسب المحمدة. ومتهورًا: أقدم على غير بصيرة، فجرحه العدو وقهره، فاستجلب بذلك سخط ربه. وشجاعًا: أقدم على بصيرة، فقاتل وأبلى واجتهد فهو الفائز التام الفوز. وأنا لما وجدتني ضعيفًا رضيت بأدنى الهمتين وأدون المنزلتين، فكن أنت أيها الملك من أفضل الطوائف تكن أكرمهم عند اللَّه والسلام. بيان حال من يجوز له الاستكثار من أعراض الدنيا ومن لا يجوز له ذلك الاعتبار في تناول الدنيا والاستكثار منها أو الاستقلال والزهد فيها أو الرغبة، ليس بتناول القليل والكثير، بل بتناولها من حيث ما يجب، ووضعها كما يجب. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " لو أن رجلًا أخذ جميع ما في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وأراد به وجه اللَّه سمي زاهدًا، ولو أنه ترك جميع ما في الأرض ولم يرد به وجه اللَّه لا يسمى زاهدًا، ولما كان في ذلك للَّه عابدًا " (1) . فليكن أخذك ما تأخذه، وتركك ما تتركه للَّه - عز وجل - لا لغيره. واعلم أن الحكيم إذا تناول أعراض الدنيا جرى مجرى راق حاذق، يتناول حيَّة قد عرف نفعها وضرها، وأمن سمها وشرها، فتحرى بتناولها الوجه الذي ينتفع هو به وينفع غيره، فهو مباح له يتناوله. وغير الحكيم إذا تناولها فهو كجاهل استحسن الحية واستلان مسها، فظن أنها مستصلحة، لأن يتقلد بها، فجعلها سخابًا في عنقه، فلدغته وقتلته، وما أحسن ما قال الشاعر في وصفها: هي دنيا كحية تنفث السم ... وإن كانت المجسة لانت فكما لا يجوز للجاهل بالرقية غير العارف بنفع الحية أن يقتدي بالراقي في تناوله الحية والتصرف فيها، كذلك لا يجوز للجاهل أن يقتدي بالحكيم في تناول أعراض الدنيا. وكما أن محال أن يسلك الأعمى طريقًا وعرًا يسلكه البصير من غير قائد " إذ هو غير آمن من أن يقع في وهده، فكذلك محال أن يسلك الجاهل مستبدًّا برأيه في تناول أعراض الدنيا طريقًا سلكه الحكيم العالم، إذ هو غير آمن من أن يقع في هاوية. وأيضًا فالدنيا غانية رعناء كما قال: شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري أفي الغانيات تحسب أم لا وكما أن الغانية لا يجوز أن يدخل عليها ويخلو بها من الرجال إلَّا من كان مجبوبًا يؤمن عليها، كذلك الدنيا لا يجوز أن يتمكن منها إلَّا المقطوع عنها بالعفة والزهد، لئلَّا تغره، وذلك كأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - قال: " يا حمراء، يا بيضاء، احمري وابيضي، وغري غيري، هذا جنائي وجناؤه فيه، إذ كل جان يده إلى فيه ".   (1) لم أجدها منسوبة للإمام علي، ولكن الحارث المحاسبي (ت 243 هـ) له عبارة بنفس المعنى وبلفظ قريب ذكرها دون أن ينسبها إلى أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن تصور ذلك علم أن اللَّه تعالى قد أباح الدنيا كلها لأوليائه، علمًا منهم أنهم لا يتناولونها إلَّا على ما يجب وكما يجب، وإذا تناولوها وضعوها كما يجب وحيث ما يجب، وعلى هذا قال: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) وقال تعالى: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إلى غير ذلك من الآيات التي تقدم ذكرها. ما ينال أرباب الدنيا من العقوبات الدنيوية للَّه - عز وجل - عقوبتان في معاقبة من تناول ما لا يجوز له تناوله من الدنيا، أو يتناوله من الوجه الذي يجوز له لكنه لم يوف حقه. إحدى العقوبتين: ظاهرة للبصر والبصيرة، وذلك عقوبة من غصب مالاً مجاهرة، أو سرقة خفية، وكمن منع حق اللَّه من الزكوات فإن عقوبات ذلك ظاهرة، وأمر السلطان بإقامتها. والثانية: خفية عن البصر مدركة ببصائر أولي الألباب كعقوبة من تناول مالًا من حيث لا يجوز تناوله، أو منعه من حيث لا يجوز منعه، لا على وجه فيه حد أمر السلطان بإقامته، فهذا عقوبته ما روي: " أيما عبد سكن قلبه حب الدنيا بلي بثلاث: شغل لا يبلغ مداه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يدرك منتهاه "، وما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت الدنيا أكبر همه شتت اللَّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يبال اللَّه في أي واد من الدنيا أهلكه ". وعلى ذلك قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. وليس يعني قلة المعيشة، وإنما يعني ما يقاسي فيها من الغموم والهموم التي تكدر العيش عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الإنفاق المحمود والإنفاق المذموم الإنفاق ضربان: ممدوح ومذموم. فمالممدوح: منه ما يكسب صاحبه العدالة، وهو بذل ما أوجبت الشريعة بذله، كالصدقة المفروضة، والإنفاق على العيال، ومنه ما يكسب صاحبه أجرًا وهو الإنفاق على من ألزمت الشريعة الإنفاق عليه، ومنه ما يكسب صاحبه الحرية، وهو بذل ما ندبت الشريعة إلى بذله، فهذا يكتسب من الناس شكرًا، ومن ولي النعمة أجرًا. والمذموم ضربان: إفراط: وهو التبذير والإسراف، وتفريط: وهو التقتير والإمساك، وكلاهما يراعى فيه الكيفية والكمية. فالتبذير من جهة الكمية أن يُعطي أكثر مما يحتمله حاله، ومن جهة الكيفية فبأن يضعه في غير موضعه، والاعتبار فيه بالكيفية أكثر منه بالكمية، فرب منفق درهمًا من ألوف وهو في إنفاقه مسرف وببذله مفسد ظالم، كمن أعطى فاجرة درهمًا، أو اشترى خمرًا. ورب منفق ألوفًا لا يملك غيرها هو فيها مقتصد وببذلها مجتهد، كما روي في شأن الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -. وقد قيل لحكيم: متى يكون بذل القليل إسرافًا والكثير اقتصادًا، قال: إذا كان بذل القليل في باطل وبذل الكثير في حق. والتقتير من جهة الكمية أن ينفق دون ما يحتمله حاله، ومن حيث الكيفية أن يمنع من حيث يجب، ويضع حيث لا يجب. والتبذير عند الناس أحمد، لأنه جود لكنه أكثر مما يجب، والتقتير بخل، والجود على كل حال أحمد من البخل، لأن رجوع المبذر إلى السخاء سهل، وارتقاء البخيل إليه صعب، ولأن المبذر قد ينفع غيره وإن أضر بنفسه والمقتر لا ينفع غيره ولا نفسه. على أن التبذير في الحقيقة هو من وجه أقبح، إذ لا إسراف إلَّا وبجانبه حق مضيع، ولأن التبذير يؤدي بصاحبه إلى أن يظلم غيره، ولهذا قيل: الشحيح أعذر من الظالم؛ لأنه جاهل بقدر المال الذي هو سبب استبقاء النفس، والجهل رأس كل شر، والمتلاف المبذر ظالم من وجهين: لأخذه من غير موضعه، ووضعه في غير موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولكثرة مذام الإسراف ذم اللَّه تعالى أعظم مما ذم به البخل فقال: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) وقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) ملومًا من جهة من سألك فلم تجد ما تعطيه، وحسيرًا عن بلوغ مرادك وبهذا ألم المتنبي فقال: فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان بالمال عقده فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وليس الإسراف متعلقًا بالمال فقط، بل بكل شيء وضع في غير موضعه اللائق به، ألا ترى أن الله تعالى وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث، فقال: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) . ووصف فرعون بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وقوله: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) . حقيقة السخاء والجود والشح والبخل السخاء: هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات، حصل معه البذل أو لم يحصل، وذلك خلق، ويقابله الشح، والجود: بَذْلُك المقتنى ويقابله البخل. هذا هو الأصل وإن كان قد يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر. ويدل على صحة هذا الفرق أنهم جعلوا الفاعل من السخاء والشح على بناء الأفعال الغريزية فقالوا: شحيح وسخي، وقالوا: جواد، وباخل، وأما قولهم: بخيل فمصروف عن لفظ الفاعل للمبالغة، كقولهم: راحم ورحيم. ولكون السخاء غريزة لم يوصف الباري - عز وجل - به. وقد عظم اللَّه تعالى الشح وخوف منه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "، فخص المطاع لينبه أن الشح في النفس ليس مما يستحق به الذم، إذ ليس هو من فعله، وإنما يذم بالانقياد له. وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وقال: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبدًا ". فضيلة الجود وذم البخل الجود على ألسنة الورى محمود، ولذلك قيل: كفى بالجود حمدًا أن اسمه مطلقًا لا يقع إلَّا في حمد، وكفى بالبخل ذمًا أن اسمه مطلقًا لا يقع إلا في ذم. وقيل لحكيم: أي فعل للبشر أشبه بفعل الباري تعالى، فقال: الجود. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " الجود شجرة من أشجار الجنة، من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار ". ومن شرفه أن الله - عز وجل - قرن ذكرِه بالإيمان، ووصف أهله بالفلاح، والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) إلى قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وقال: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) . وحق للجود أن يقترن بالإيمان، فلا شيء أخص به وأشد مجانسة له منه، فمن صفة المؤمن انشراح الصدر: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) وهما من صفات الجواد والبخيل " لأن الجواد يوصف بسعة الصدر للإنفاق، والبخيل يوصف بضيق الصدر للإمساك. وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " أي دواء أدوأ من البخل ". والبخل ثلاثة أضرب: بخل الإنسان بماله، وبخله بمال غيره على غيره، وبخله على نفسه بمال غيره، وهو أقبح الثلاثة. والباخل بما في يده باخل بمال اللَّه على نفسه، وقد تقدم أن المال عارية في يد الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مستردة، ولا أحد أجهل ممن لا ينقذ نفسه من العذاب الدائم بمال غيره، سيما إذا لم يخف من صاحبه تبعة ولا علاقة، والكفالة الإلهية متكفلة بتعويض النفقة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهم عجل لمنفق خلفًا، وعجل لمسك تلفًا "، وقال: " إن الله ينزل المعونة على العبد بقدر المؤونة "، وقد روي: " من وسع وسع عليه ". أنواع الجود والمجود به الجود خمسة أضرب: جُود الإله تعالى: وهو البذل لكل أحد على قدر استحقاقه. وجُود الملوك: وهو بسط المال على العفاة غنيهم وفقيرهم. وجُود السوقة: الذين هما دون الملوك: وهو بذل المال للسؤال. وجُود الصعاليك: وهو البذل للندامى والعاشرين والشرب. وجُود عوام الناس: وهو الإحسان إلى الأقارب. والمحمود من ذلك كله الجود الإلهي، وهو بذل الموجود بقدر الطاقة لكل محتاج بقدر استحقاقه من غير امتنان ولا تأذية، فالمعطي ما يحتاج إليه لمن لا يحتاج إليه مسرف مضيع، والمعطي غيره شيئًا لرهبة واقٍ نفسه، والمعطي لرغبة في مثوبة، أو لمحمدة دنيوية تاجر. وقول أبي نواس حيث قال: فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور فليس ببالغ في الوصف بالجود التام، بل وصف بتجارة محمودة، وأحسن منه قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ابن الرومي: وتاجر البر لا يزال له ... ربحان في كل متجر تجره أجر وحمد وإنما ... طلب الأجر ولكن كلاهما اعتوره وقد أجاد بشَّار في قوله: ليس يعطيك للرجاء أو الخوف ... ولكن يلذ طعم العطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الفصل السابع في ذكر الأفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 في أنواع الأفعال الأفعال ضربان: إلهي، وإنساني. فالإلهي: أربعة أضرب: إبداع، وتكوين، وتربية، وإحالة. وجميع ذلك يسمى خلقًا من حيث كان وجود كل واحد بمقدار، والخلق في الأصل: التقدير المستقيم. فالأول: الإبداع: وهو إيجاد الشيء دفعة لا عن موجود، ولا بترتيب، ولا عن نقص إلى كمال، وليس ذلك إلَّا للباري - عز وجل -، وإن كانت العرب قد تستعمل الإبداع فيمن يحفر بئرا في مكان لم يحفر فيه من قبل، وفيمن نسج شعرًا أو أورد كلامًا لم ينسج على منواله من قبل. والثاني: التكوين: وهو إيجاد الشيء عن عدم بترتيب، ومن نقص إلى كمال، والمتكلمون قد يستعملون التكوين في موضع الإبداع، ولما هفوا عن حقيقة التكوين أنكروا واستبشعوا قول من قال: السماء ليست بمكونة، وقدروا أنه يقول: ليست بمبدعة ولا مخلوقة، وإنما أراد هذا القائل فيما ذكر أصحابه، ودلَّ عليه كلامه أن اللَّه تعالى أبدعها إبداعًا كما قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ولم يخلقها خلقة ناقصة في ابتداء نشأتها، ثم كملها شيئًا فشيئًا كالإنسان والحيوان والنبات. والثالث: رب الشيء: وهو تغذيته، وذلك استخلاف ما تحلل من الأبدان فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وجد عن كون ليبقى المدة المضروبة له، وبه قيل له تعالى: رب العالمين. والرابع: إحالة الشيء: وهو التغايير اللاحقة لجميع الكائنات في كيفياتها من طعم ولون ورائحة. والفعل الإنساني ثلاثة أضرب : نفساني فقط: وهو الأفكار والعلوم، وما ينسب إلى أفعال القلوب. وبدني: وهو الحركات التي يفعلها الإنسان في بدنه كالمشي والقيام والقعود. وصناعي: وهو ما يفعله الإنسان بمشاركة البدن والنفس، كالحرف والصناعات. الفرق بين العمل والفعل والصنع الفعل: لفظ عام يقال لما كان بإجادة أو غير إجادة، ولما كان بعلم أو بغير علم، وعن قصد أو غير قصد، ولما كان من الإنسان والحيوان والجمادات. وأما العمل: فإنه لا يقال إلَّا لما كان من الحيوان دون ما كان من الجمادات، ولما كان بقصد وعلم دون ما لم يكن عن قصد وعلم. قال بعض الأدباء: العمل مقلوب عن العلم، فإن العلم فعل القلب والعمل فعل الجارحة، وهو ييرز عن فعل القلب الذي هو العلم، وينقلب عنه. وأما الصنع: فإنه يكون من الإنسان دون سائر الحيوان، ولا يقال إلَّا لما كان بإجادة، ولهذا يقال للحاذق المجيد والحاذقة المجيدة: صنع وصناع. والصنع: قد يكون بلا فكر لشرف فاعله، والفعل قد يكون بلا فكر لنقص فاعله، والعمل لا يكون إلا بفكر لتوسط فاعله. والصنع أخص المعاني الثلاثة، والفعل أعمها، والعمل أوسطها، فكل صنع عمل، وليس كل عمل صنعًا، وكل عمل فعل، وليس كل فعل عملًا، وفارسية هذه الألفاظ تنبئ عن الفرق بينها، فإنه قيل للفعل: كار، وللعمل: كردار، وللصنع: كنش. أنواع الصناعات الصناعات ضربان: علمي وعملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فالعلمي: ما يستغنى فيه عن الاستعانة بالجوارح من اليد والرجل، كالمعارف الإلهية والحساب. والعملي: ما يحتاج فيه إلى الاستعانة بالجوارح، وذلك ضربان: الأول: شيء ينقضي بانقضاء حركة الصانع، كالرقص والزمر والمحاكاة. والثاني: شيء يبقى له أثر، وذلك ضربان: ضرب يبقى له أثر معقول لا محسوس، كالطب والبيطرة، وضرب يبقى له أثر محسوس كالبناء والكتابة. الأفعال الإرادية وغير الإرادية الأفعال التي تظهر من غير اللَّه إما تسخيري، وإما غير تسخيري. فالتسخيري: هو الذي يظهر ممن يظهر منه لا بقصد وإرادة منه، وقد يكون ذلك من الجماد والحيوان غير الناطق، وذلك نوعان: نوع بتسخير الباري تعالى، كإحراق النار الحديد، وتبريد الثلج الماء، وضرب بتسخير البشر كطحن الرحا، ودور الدولاب. وأما غير التسخيري فضربان: ضرب يكون من فاعله مبدأ الإرادة، وضرب لا يكون منه مبدأ الإرادة، والذي يكون منه مبدأ الإرادة ثلاثة: الأول: بحسب التمييز كمن تناول الخير دون الشر مؤثرًا له. والثاني: بحسب الغضب كمن بطش بمن يغضب عليه. والثالث: بحسب الشهوة كمن تناول ما اشتهاه لشهوته، والذي لا يكون منه مبدأ. الإرادة له ضربان: ضرب لا يكون منه مبدأ الإرادة ولا منتهاها، كمن رمى إلى غرض فأصاب شخصًا. وضرب لا يكون منه مبدأ الإرادة ولكن يكون منه منتهاها، كمن حصل في سفينة فخاف الغرق فكلف أن يلقي متاعه في البحر ليتخلص. والأفعال من الجمادات تقع بالتسخير فقط. ومن النبات تقع بالتسخير وبالنزاع الذي تقتضيه القوة الشهوية. ومن الحيوانات تقع بهما وبالغلبة التي تقتضيها القوة الغضبية، ومن الإنسان تكون بكل ذلك، وبالفكرة التي تقتضيها القوة العقلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ما يستحق به من الأفعال اللوم وما لا يستحق به ذلك الأفعال ضربان: إرادي وغير إرادي. والإرادي ضربان: ضرب عن روية، وضرب لا عن روية. فالذي عن روية ضربان: أحدهما: الذي عن روية تظن في غاية الشرف، وهو ما يكون بحسب النفس الناطقة، ويسمى الاختيار، وهو طلب ما هو خير له، ويستحق به أبدًا الحمد إذا كان على الحقيقة اختيارًا. والثاني: عن روية فيما ليس هو في غاية الشرف، وذلك إما بحسب القوة الغضبية: وهو دفع ما يضره، وإما بحسب القوة الشهوية. وكل منهما إذا كان بقدر ما يوجبه العقل يستحق به الحمد، وإذا كان زائدًا أو ناقصًا عما يوجبه العقل يستحق به الذم. والإرادي الذي عن غير روية واختيار ضربان: أحدهما: ما يفعله في نفسه. والثاني: ما يفعله بغيره. وكل واحد منهما ضربان: نفع وضر. فما قصد به نفع نفسه فقد يستحق به الحمد وما قصد به نفع غيره فقد يستحق به الحمد والشكر معًا، وما قصد به ضر نفسه فقد يستحق به الذم، وما قصد به ضر غيره فقد يستحق به الذم والعتب عليه. وغير الإرادي ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يكون قسريا، وهو: ما يكون مبدؤه من خارج ولا يكون من أربابه معونة بوجه، كمن دفعته ريح فسقط على آنية فكسرها، فلا ملامة فيه بوجه. والثاني: أن يكون إلجائيَّا كمن أكرهه سلطان على أن يفعل فعلًا ما، وهذا متى كان الملجأ إليه قبيحا جدا، والسبب الملجئ إليه خفيفا يستحق مرتكبه الذم، كمن يُضرب ليقتل إنسانا، ومتى كان الملجأ إليه ليس بجد قبيح، والسبب الملجئ إليه عظيما، لا يستحق مرتكبه الذم كمن يوضع على حلقه السيف ويُهدٌد أن يُقتل إن لم يتكلم بكلام قبيح، وكلاهما يقال له: إكراه. والثالث: الخطأ، وهو ما يكون مبدؤه من صاحبه وذلك نوعان: أحدهما: ما تولد عن فعل وقع منه، وله أن يفعله، كمن يرمي هدفا فأصاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 إنسانًا، وذلك لا يستحق به ملامة، ما لم يقع من صاحبه تقصير في الاحتراز. والثاني: ما يتولد عن فعل ليس له أن يفعله، كمن شرب فسكر، فحمله سكره على أن كسر إناء أو ضرب إنسانًا، فإن ذلك يستحق الملامة وإن لم يرد كسر الإناء وضرب الإنسان، فقد ارتكب محظورًا أدى به إلى وقوع ذلك منه. فالضرب الأول يقال فيه: أخطأ فهو مخطئ، والثاني يقال فيه: خطئ فهو خاطئ؛ ولهذا قال أهل اللغة: خطئ ما كان على سبيل العمد، وأخطأ ما كان على سبيل السهو. الأسباب التي يمكن نسبة الفعل إليها أكثر الأسباب التي يحتاج إليها الفعل في وجوده عشرة أشياء: يحتاج في حصوله إلى فاعل يصدر عنه الفعل كالنجار، وإلى عنصر يعمل فيه كالخشب، وإلى عمل كالنجر، وإلى زمان، وإلى مكان يعمل فيهما، وإلى آلة يعمل بها كالمنجر والمنحت، وإلى غرض قريب كاتخاذ النجار الباب، وإلى غرض بعيد كتحصين البيت به، وإلى مثال يعمل عليه ويحتذي به، وإلى مرشد يرشده. وكل ذلك قد ينسب إليه الفعل فيقول: أعطاني زيد؛ إذا باشر الإعطاء، وأعطاني الله؛ لما كان هو الميسر له، وربما جمع بين السبب القريب والبعيد، فيقول: أعطاني اللَّه وزيد. قال الشاعر: حبانا بها جدنا والإله ... وضرب لنا أجذم صارم فنسب إلى السبب الأول وهو اللَّه تعالى، وإلى السبب المتأخر وهو الضرب، وإلى المتوسط وهو الجد، وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) وقال: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) فأسند الفعل في الأول إلى الآمر به، وفي الثاني إلى المباشر له. وقد قال الشاعر في صفة درع: وألبسنيه الهالكي. وقال: كساهم محرق، فنسب الفعل إلى عاملها، وفي الثاني إلى مستعملها. وقال في صفة نباله: كستها ريشها مضرحية، فنسب كسوتها إلى الطائر الذي اتخذ ريشه فجعل لها. وقد قيل: يداك أوكتا، وفوك نفخ، فنسب الفعل إلى الآلة المتصلة، ويقال: سيف قاطع، فنسب الفعل إلى الآلة المنفصلة، وقيل: ضرب فيصل وفاصل، وطعن خائف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فنسب إلى الخوف، وقيل: سر كاتم، وعيشة راضية؛ فنسب إلى المفعول. وقال تعالى: (حَرَمًا آمِنًا) فنسب إلى المكان، وقيل: يوم صائم وليل ساهر، وقد قيل: ... ... ... ... .. وما ليل المطي بنائم. فنسبه إلى الزمان. فلما كانت أفعاله على ذلك صح في الفعل الواحد أن يثبت لأحد الأسباب مرة، وينفي عنه مرة بنظرين مختلفين، وعلى ذلك قول الشاعر: أعطت من لم تعطه ولو انقضى ... حسن اللقاءحَرمت من لم يُحرم فأثبت له الفعل ونفاه عنه معًا بنظرين مختلفين. ويقال: هذا الخشب قطعته أنا لا السكين، ويقال: قطعته السكين ولم أقطعه، ويقال: فلان هداه اللَّه، وهداه الرسول، وهداه القرآن، وهداه فهمه، فنسب إلى كل ذلك. ويقال: وأضله اللَّه لما كان تعالى هو السبب الأول في وجوده، ووجود سببه المضل، ووجود الآلة، وإن لم يكن هو تعالى الداعي له إلى الضلالة، ويقال: أضله الشيطان لما كان هو الداعي إلى الضلال. ويقال: أضلته نفسه لما كانت هي التي تركت الاحتراز. وهذا فصل من تصوره لم يعتمد في تثبيت المعاني على مثلها من الألفاظ، فينظر من اللفظ إلى المعنى، بل ينظر في نحو هذا من المعنى إلى اللفظ. واعلم أن من أجل هذا الذي قدمنا ذكره قال قوم من المحصلين: لا شيء من الأفعال فاعله فاعل واحد على الحقيقة إلَّا اللَّه تعالى، فإن فعله يستغني عن المكان، والزمان، والآلة، والمادة، وعن مثال يحتذيه. ومن عداه تعالى من الفاعلين لا بد له من كل ذلك أو من بعضه، ولهذا لا يصح أن ينسب الإبداع إلى غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازًا، ويصح أن يثبت فعل غير اللَّه على ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 قال الشيخ أبو القاسم الراغب - رحمه الله -: هذا آخر ما قصدت تبيينه من هذا المعنى، وأختم القول بحمد اللَّه تعالى، والثناء عليه، والتضرع إليه في أن ينفعني وإخواني بما تحريته، ويجعلني ممن تذكر فذكر، وتبصر فبصر، واتعظ فوعظ، وتيقظ فأيقظ، فأعظم الهجنة أن يأمر من لم يأتمر، ويزجر من لا ينزجر، وأن يدعي الحكمة من إذا تلقته المحاسن لا تجتبيه، وإذا تلقته المساوئ لا تجتويه، يرى القذاة في عيون إخوانه فينكرها، ويترك الجذع المعترض في أجفانه لا يغيره، ينصح غيره ويغش نفسه: كمن كسا الناس من عري وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها وكالمسن الذي يشحذ الحديد ولا يقطع، وكالحجر الصلد الذي يمر به الماء النافع فلا ينتفع هو به. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن اللَّه تعالى يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم " (1) . فنرغب إليه تعالى أن يجعلنا برحمته ممن ائتمر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك " (2) . فما أعظم في القيامة الحسرة والندامة إن لم يتغمدني اللَّه برحمته التي وسعت كل شيء، فسهِّل يا رب المجاز، ويسِّر لي الجواز، فقد حان حصادي وإن لم يصلح فسادي ولم يحصل رشادي، اللهم صل على خاتم النبيين محمد وآله أجمعين. وحسبنا اللَّه ونعبم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، أفضل ما صليت على أحد من خلقك صلاة لا تنقضي أبدًا، ولا تحصى عددًا. واغفر لكاتبه ولصاحبه ولوالديه ولجميع المسلمين، ولمن قال آمين يا رب العالمين.   (1) رواه النسائي من حديث أنس بإسناد صحيح. (2) " اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك " أخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن عمرو بن ميمون مرسلاً، والحاكم والبيهقىِ في الشعب عن ابن عباس مرفوغا، قال الحاكم: على شرطهما، وأقره الذهبي، ورمز السيوطي لصحته، وتعقبه المناوي بأن فيه جعفر بن بلقان، أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين. قال فيه ابن حجر: صدوق يهم في حديث الزهري. البيان والتعريف لابن حمزة الحسيني الحنفي والدمشقي (264) الجزء الأول. تحقيق د. الحسينىِ هاشم. (طبعة دار الكتب الحديثة بمصر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقع الفراغ من نساخة هذا الكتاب بمدينة عدن لعشر ليالٍ مضين من شهر ذي القعدة من شهور سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة (592 هـ) . غفر اللَّه لكاتبه، ونفع به صاحبه، وألهمه لما فيه، واستعمله بما يرضيه بمحمد وآله الطاهرين. وصلى اللَّه على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300