الكتاب: التفسير البياني للقرآن الكريم المؤلف: عائشة محمد علي عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (المتوفى: 1419هـ) دار النشر: دار المعارف - القاهرة الطبعة: السابعة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التفسير البياني للقرآن الكريم عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ الكتاب: التفسير البياني للقرآن الكريم المؤلف: عائشة محمد علي عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (المتوفى: 1419هـ) دار النشر: دار المعارف - القاهرة الطبعة: السابعة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب: التفسير البياني للقرآن الكريم المؤلف: عائشة محمد علي عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (المتوفى: 1419هـ) دار النشر: دار المعارف - القاهرة الطبعة: السابعة عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مقدمة الطبعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ له الحمد، وبه المستعان لك لغة روائع من آدابها، تعتبرها النماذج العالية لذوقها الأصيل، والمثل الرفيعة لفنها القولى. وقد غبرت الأجيال منا تتجه إلى نصوص مختارة من شعر العربية ونثرها، تضعها بين أيدي القراء أو تقدمها إلى التلاميذ والطلاب وشغلنا نحن أصحاب الدرس الأدبي، أو شغلت الجمهرة منا، بالمعلقات والنقائض والمفضليات، ومشهور الخمريات والحماسيات والمراثي والمدائح والغزليات، ومأثور الرسائل والأمالي والمقامات، شغلنا بهذا ومثله عن "القرآن الكريم" الذي لا جدال في أنه كتاب العربية الأكبر، ومعجزتها البيانية الخالدة، ومثلها العالي الذي يجب أن يتصل به كل عربي أراد أن يكسب ذوقها ويدرك حسها ومزاجها، ويستشف أسرارها في البيان وخصائصها في التعبير والأداء. * * * ونحن في الجامعة، نترك هذا الكنز الغالي لدرس التفسير، وقل فينا من حاول أن ينقله إلى مجال دراسات العربية التي قصرناها على دواوين الشعر ونثر مشورى الكتاب. وكان المنهج المتبع في درس التفسير - إلى نحو ربع قرن من الزمان - تقليديا أثريا، لا يتجاوز فهم النص القرآني على نحو ما كان يفعل المفسرون من قديم. حتى جاء شيخنا الإمام "الأستاذ أمين الخولي" فخرج به عن ذلك النمط التقليدي، وتناوله نصا لغويا بيانيا على منهج أصله، وتلقاه عنه تلامذته وأنا منهم. ولكن التفسير الأدبي للقرآن ظل حتى اليوم، محصوراً في نطاق مادة "التفسير" دون أن ينتقل إلى مجال الدرس البياني مع تراث الفصحى وهيهات أن يرقى إليه نص منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقلَّ منا - نحن أساتذة العربية في الجامعات - من حاول أن يجعل من النص القرآني موضوعا لدراسة منهجية، على غرار ما نفعل بنصوص أخرى لا سبيل إلى مقارنتها بالقرآن الكريم في إعجازه البياني. وقد حرصت لمدى ربع قرن قضيته في الجامعة، على أن أتتبع أسئلة الامتحان في مواد اللغة والأدب، في أقسام اللغة العربية بمختلف الكليات، فلم أجد من بينها سؤالا في البيان القرآني، فدل هذا على أن الفكرة لم تأخذ حظها الكافي من الوضوح والتمثل. والدراسات القرآنية، في المجال العام، تسير على غير منهج، ويتصدى لها من المؤلفين من ليسوا أهلا لها. ولم أنس محاولة الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" - رحمه الله - في إعجاز القرآن، والحديث عن قيمتها يأتي في مدخل كتابي (الإعجاز البياني) . * * * ومنذ سنين وأنا أقوم بهذه المحاولة في دراسة النص القرآني لغة وبيانا، تطبيقاً للمنهج الذي تلقيته ... وعلى كثرة ما اشتغلت به من روائع النصوص الأخرى، فإني لا أستطيع بحال، أن أعبر عما كان يبهرني من جلال هذه المحاولة، وما راضتني به، عقلا وذوقاً ووجداناً، إلى الحد الذي جعلني أتساءل في ارتياب: هل كنت قبلها، قد صح لي فقه لغتي العربية، وإدراك أسرار بيانها؟ ذلك لأني بحكم نشأتي في بيت علم ودين، ألفت منذ الصغر أن أصغي بكل وجداني إلى هذا القرآن، وأن أتلو آياته في تأثرٍ وخشوع، لكني لم أع بيانه حق الوعي، إلا بعد تخصصي في دراسة النصوص، واتصالي بأصيل ما للعربية من تراث أدبي، فكنت كلما ازددت تعمقاً في الدرس، وفقهاً للعربية، وقفت مبهورة أمام جلال هذا النص المحكم، وعدت أتلو من معجز آياته ما أدركت معه لماذا أعيا العرب - وهم أصحاب الفن القولى، واللغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 طوع لسانهم - أن يأتوا بسورة من مثله، فآمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. لما تلا فيهم آيات القرآن معجزة نبوته وآية رسالته، وإنه لبشر مثلهم، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. * * * وإذا كنت أجرو بهذه المحاولة، أن أتيح لمثلها- أو لما هو خير منها - مكاناً في صميم الدرس الأدبي بالجامعة، فإني لأطمع كذلك في أن أؤكد بها ما سبق أن قرره أستاذنا، من أن الدراسة المنهجية لنص القرآن الكريم، يجب أن تتقدم كل دراسة أخرى فيه، لا لأنه كتاب العربية الأكبر فحسب، ولكن - لأن الذين يعنون بدراسة نواح أخرى فيه، والتماس مقاصد بعينها منه؛ لا يستطيعون أن يبلغوا من تلك المقاصد شيئاً دون أن يفقهوا أسلوبه ويهتدوا إلى أسراره البيانية التي تعين على إدراك دلالاته. فسواء أكان الدارس يريد أن يستخرج من القرآن أحكامه الفقهية، أو يستبين موقفه من القضايا الاجتماعية أو اللغوية أو البلاغية، أم كان يريد أن يفسر آيات الذكر الحكيم على انحو الذي ألفناه في كتب التفسير، فهو مطالب بأن يتهيأ أولاً لما يريد، ويعد لمقصده عدته: من فهم مفردات القرآن وأساليبه، فهماً يقوم على الدرس المنهجي الاستقرائى ولمح آسراره في التعبير. * * * ثم إن القرآن الكريم هو مناط الوحدة الذوقية والوجدانية لمختلف الشعوب التي أتخذت العربية لساناً لها، ومهما تتعدد لهجاتها وتختلف أمزجتها وتتابين أساليبها الخاصة في الفن القولي يبق القرآن الكريم، في نقاء أصالته، كتابها القيم الذي تلتقي عنده الشعوب العربية اللسان، على اختلاف لهجاتها وأقطارها، وتفاوت تأثرها بالعوامل الإقليمية، كما تلتقي عنده كتاب عقيدة وشريعة. ومنهاج. غير أن الظروف الدينية والسيايية والتاريخية، التي تعرض لها فهم العرب للقرآن الكريم، وتعرض لها تأويله - وهو الكتاب الديني لشعوب شتى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قد حالت دون تذوقه نصاً ممثلاً لأنقى وآصل ما في العربية لغة وبياناً، وذلك لما داخل هذا التذوق من شائبات مذهبية وطائفية جارت عليه. وكل من له إتصال بالدراسات القرآنية، يعرف ما حشيت به كتب الفسير من إسرائليات حاول بها يهود، ممن دخاول في الإسلام طوعاً أو نفاقاً، تطعيم فهم المسلمين لكتابهم الديني بعناصر إسرائيلية. وأنا أدع الكلام في هذا الذائع المعروف، لأشير إلى شوائب أخرى جاءت نتيجة لتباين أذواق المفسرين وعقلياتهم وبيئاتهم وأنماط شخصياتهم، في ذلك العالم الواسع العريض الذي أمتد من الصين والهند في أقصى المشرق، إلى مراكش والأندلس في أقصى المغرب، وتقاسمته ألوان من عصبيات مذهبية وسياسية وطائفية، فاقتضى هذا بطبيعة الحا أن تواردت على كتاب الإسلام الديني أمم وطوائف شتى، تتذوقه متأثرة بظروفها الخاصة ويفسره المفسرون منهم ..... تفسيراً يوجه النص توجيهياً يعوزه في كثير من الأحايين، فوق العربية النقى ومزاجها الأصيل؛ وقد ينحرف به عن وجهته ضلال التعصب أو خطأ المنهج أو قصور التناول. والمكتبة القرآنية غنية بكتب التفسير، ومنها ما آظهر عناية خاصة بالتوجيه الإعرابي أو البلاغي، ومنا ما أختص بالنظر في مفرداته أو في مجازة أو في أقسامه أو في نظمه، من ذلك مثلاً: عناية الزمخشري بالبلاغة في تفسيره (الكشاف) . وعناية عبد القاهر الجرجانى والقاضي الباقلانى، بالنظم في: (الإعجاز ودلائله) وكتب الماوردي وإبن حزم والقاضي إبن العربي والشاطبي والجصاص، في (الأحكام) ، وكتاب محب الدين أبى البقاء العكبرى في (وجوه الإعراب والقراءات) وكتاب إبن خالويه في (إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم) وكتاب إبن قيم الجوزية في (أقسام القرآن) وكتاب الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن) ، وكتاب أبي عبيدة في (مجاز القرآن) وكتب: (معاني القرآن وإعرابه) لأبي إسحاق الزجاج، و (إعراب القرآن) لأبي جعفر إبن النحاس، و (غريب القرآن) لإبن قتيبة، ولمكي بن أبي طالب حموش القيسى، وأبي البركات إبن الأنباري ....... وغيرها مما لا أذكره هنا على وجه الإحصاء. وما يجرؤ منصف على أن يجحد فضل أحد من هؤلاء جميعاً، هم الذين بذلوا في خدمة القرآن جهوداً جليلة، وتركوا آثترهم زاداً لمن بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولكن التفسير ظل - باعترافهم - من علوم العربية التي لم تنضج ولم تحترق، وهذا الإعتراف يفسح لي العذر حين أتقدم إلى هذا الميدان الجليل في حدود جهدي وطاقتي واختصاصي، كما يشفع لي حين أضطر أحياناً إلى رفض بعض أقوال لهم وتأويلات وإتجاهات، قد أراها، والله أ'لم بعيدة عن روح العربية الأصلية، مجافية نصاً وروحاً، لبيان القرآن المحكم. * * * واليوم إذا تتداعى الشعوب العربية بالوحدة، نلوذ بكتابنا الأكبر الذي نلتقي عنده لساناً ووجداناً على اختلاف بيئاتنا ولهجاتنا وتباين ميراثنا الحضاري والفني، كما يلتقي المسلمون عنده، في شتى أقطارهم وعلى اختلاق ألسنتهم، عقيدة وشريعة ومنهاجاً. ولن يكون هذا التلاقي عند كتابنا العربي المبين، إلا إذا جدَّتْ محاولتنا في رسه وفهمه وتذوقه، على منهج دقيق محرر، ينفذ من وراء الحجب التي أسدلتها التأويلات المذهبية والطائفية، والأذواق الأعجمية، إلى الجوهر الكريم في ذروة نقائه وجلال أصلته. وما أعرضه هنا، ليس إلا محاولة في هذا التفسير البياني للمعجزة الخالدة، حرصت فيها - ما أستطعت - على أن أخلص لفهم النص القرآني فهماً مستشفاً روح العربية ومزاجها، مستأنسة في كل لفظ، بل في كل حركة ونبرة، بأسلوب القرآن نفسه، ومحتكمة إليع وحده، عندما يشتجر الخلاف، على هدى التتبع الدقيق لمعجم ألفاظه، والتدبر الواعي لدلالة سياقه، والإصغاء المتأمل، إلى إيحاء التعبير في البيان المعجز .... * * * والأصل في منهج هذا التفسير - كما تلقيته عن أستاذي - هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن منه، ويهتدى بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب، بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك ...... وهو منهج يختلف والطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه، مقتطعاً من سياقه العام في القرآن كله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مما لا سبيل معه إلى الإهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو لمح ظواهره الأسلوبية وخصائصة البيانية. وقد طبق بعض الزملاء هذا المنهج تطبيقاً ناجحاً، في موضوعات قرآنية اختاروها لرسائل الماجستير والدكتوارة. وأتجه بمحاولتي اليوم إلى تطبيق المنهج في تفسير بعص سور قصار ملحوظ فيها وحدة الموضوع وأكثرها من السور المكية حيت العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية ..... وقصت يهذا الإتجاه، إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، ومنجهنا الإستقرائي الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي، ويقدر حرمة كلماته بأدق ما عرفت مناهج النصوص من ضوابط، ويلتزم دائماً قوله السلف الصالح: "القرآن يفسر بعضه بعضاً" - وقد قالها المفسرون ثم لم يبلغوا منها مبلغاً - ويحرر مفهومه من العناصر الدخلية والشوائب المقحمة على أصالته البيانية. * * * وسيرى المتخصصون في الدراسة القرآنية - بيانية أو فقهية - مدى حاجتنا إلى فهم نصه قبل أي شيء آخر، وسيرون كذلك ما تكشف عنه المحاولة من شطط التأول في كثير من كتب التفسير واللغة والبلاغة، أو من بعد التكلف وإعتساف الملحظ، وتحميل ألفاظ القرآن وعباراته ما يأباه القرآن نفسه حين تحتكم إليه. وسيبهرهم بلا ريب، ما بهرني من أسرار له بيانية، هدى إليها الدرس المنهجي الاستقرائي والتدير المرهف: في اللفظ لا يقوم مقامه سواه، وفي الحرف لا يؤدى معناه حرف آخر، وفي الحركة أو النبرة مكانها في النظم الباهر .... * * * ولا أريد أن أتزيد هنا يسوق أمثلة من ذلك كله، بل لا أريد كذلك أن أسيق إلى توقع ما سوف تحدثه المحاولة من أثر أو ما قد يعقبها من صدى، فاياً ما كان الرأي فيها، وأياً ما كان حظها من التوفيق، فحسبي الذي نلت من ثوابها، وما أجدت على مادة وذوقاً وفهماً، حين انقطعت لخدمة كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 العربية الأكبر، وأمضيت سنين عاكفة على تدبر أسراره، ولمح إعجازه البياني: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". صدق الله العظيم. عائشة عبد الرحمن استاذ كرسي اللغة العربية وآدابها جامعة عين شمس مصر الجديدة" شعبان 1381 يناير 1962 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 سورة الضحى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 السورة مكية بلا خلاف، والمشهور أنها الحادية عشرة في ترتيب النزول. نزلت بعد الفجر ..... والمفسرون مجمعون على أن سبب النزول، هو إبطاء الوحي في أوائله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى شتق ذلك عليه، وقيل فيما قيل: ودع محمداً ربه وقلاه. ثم اختلفت أقوالهم - بعد عذا الإجماع - فيمن قالها: ففي رواية أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شكا إلى زوجة السيدة خديجة - رضي الله عنها - إنقطاع الوحي وقال: إن ربي ودعني وقلاني. فقالت: كلا والذي بعثك بالحق، ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك، فنزلت الآيات: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى". وفي راوية ثانية، أنها السيدة خديجة، وقد رابها فتور الوحي ..... لكن رواية ثالثة تقول: إن "حمالة الحطب: أم جميلة امرأة أبي لهب" هي التي قالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك. ورواية رابعة تقول: إن المشركين هم الذين قالوا في شماتة: قد قلاه ربه وودعه. ولا نقف عندما اختلفوا فيه، فأسباب النزول لا تعدو أ، تكون قرائن مما حول النص، وهي بإعتراف الأقدمين أنفسهم لا تخلو من وهم، والإختلاف فيها قديم، وخلاصة ما انتهى إليه قولهم في أسباب النزول، أنها ما نزلت إلا أيام وقوعه، وليس السبب فيها، بمعنى السببية الحكمية العلية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} وتستهل السورة بالقسم بالواو، والرأي السائد عند الأقدمين، أن هذا القسم القرآني يحمل معنى التعظيم للمقسم به، قال إبن قيم الجوزية: (وإقسامه - تعالى - ببعض مخلوقاته، دليل على أنها من عظيم آياته". وسادت هذه الفكرة، فألجأتهم إلى اعتساف في بيان وجه التعظيم في كل ما أقسم به القرآن الكريم بالواو: ففي القسم بالليل مثلاً، قد يبدو وجه الإعظام إذا لحظوا فيه الحكمة الإلهية من خلق الليل وجعله لباساً وسكناً، ولكنهم لحظوا فيه كذلك - في آية الضحى - معنى الاستيحاش، وأنه وقت الغم، وربما تأولوه بسكون الموت، وظلمة القبور، والغربة، مما لا يظهر فيه معنى الإعظام إلا عن تكليف وقسر، واستكراه. فالشيخ "محمد عبده" لم يجد صعوبة في بيان وجه العظمة في القسم بالضحى "فالقسم بالضياء للإشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه، وللفت أذهاننا إلى أنه آية من آيات الله الكبرى ونعمة العظمى" لكنه في القسم بالليل، اضطر - تحت سيطرة فكرة التعظيم بالقسم - إلى التماس وجه الإعظام فيه، في قسر يكفي لبيانه أن يرى في الليل أشبه بالجلال الإلهي. قال رحمه الله: "أما القسم بالليل فلأنه أمر يهولك ويدخل عليك من إنقباض النفس عن الحركة واضطرارها للوقوف عن الغمل وركونها إلى السكون ما لا تجد عنه مفراً، فهذا سلطان من الخوف مبهم، لا تحيط بأسبابه ولا بتفصيل أطواره، فهو أشبه بالجلال الإلهي يأخذك من جميع أطرافك وأنت لا تدري من أين يأخذك، وهو مظهر من مظاهره، ثم في هذا السكون من راحو الجسم والعقل وتعويض ما فقداه بالتعب بياض النهار، ما لا تحصى فوائده" * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ويلاحظ عليهم هنا، أنهم التمسوا العظمة في الليل، مطلق الليل. مع أنه مقيد في الآية بـ {إِذَا سَجَى} وقد جاء مقيداً في آيات أخرى بقوله تعالى: {إِذْ أَدْبَرَ} المدثر {إِذَا عَسْعَسَ} التكوير {إِذَا يَسْرِ} الفجر {إِذَا يَغْشَى} الليل {إِذَا يَغْشَاهَا} الشمس ويلاحظ كذلك، أنهم في آية الضحى، وفي أكثر آيات القسم بالواو، خلطوا بين الإعظام، والحكمة في خلق المقسم به، وما من شيء من مخلوقات الله لم يخلق لحكمة. ظلهرة أو خفية. أما الإعظام فلا يهون القول به، لمجرد بيان وجه لظاهر الحكمة في المقسم به. * * * والذي اطمأنت إليه بعد طول تدبر وتأمل في السور المستهلة بهذه الواو، هو أن القسم بها يمكن أن يكون، والله أعلم، قد خرج عن أصل الوضع اللغوي في القسم للتعظيم، إلى معنى بياني، على نحو ما تخرج أساليب الأمر والنهي والاستفهام عن أصل معناها الذي وضعت له، لملحظ بلاغي. فالواو في هذا الأسلوب تلفت لفتاً قوياًإلى حسيات مدركة ليست موضع غرابة أو جدل، توطئة إيضاحية لبيان معنويات أو غيبيات لا تدرك بالحس. فالقسم بالواو، في مثل (والضحى) غالباً، أسلوب بلاغي لبيان المعاني، بالمدركات الحسية. وما يلمح فيه من الإعظام، إنما يقصد به إلى قوة اللفت. واختيار المقسم به تراعى فيه الصفة التي تناسب الموقف. وحين نتتبع أقسام القرآن في مثل آية الضحى، نجدها تأتي لافته إلى صورة مادية مدركة وواقع مشهود، توطئة بيانية لصورة أخرى معنوية مماثلة، غير مشهودة ولا مدركة، يماري فيها من يماري: فالقرآن الكريم في قسمه بالصبح إذا أسفر، وإذا تنفس، والنهار إذا تجلى، والليل إذا عسعس، وإذا يغشى، وإذا أدبر، يحلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 معاني من الهدى والحق، أو الضلال والباطل، بماديات من النور والظلمة. وهذا البيان المعنوي بالحسي، هو الذي يمكن أن نعرضه على أقسام القرآن بالواو، فتقبلها دون تكلف أو قسر في التأويل. وشرح هذا على وجه التفصيل، والتماس الشواهد والأدلة عليه، مما يتسع له بحث خاص مفرد، عن "القسم في القرآن" أما هنا - ومجال البحث محدود بموضوعه - فقد يكتفى ما يعرض لنا من أقسام قرآنية فيما اخترنا من سور، لكي نوضح الفكرة ونجلو الملحظ. المقسم به في آيتى الضحى، صورة مادية وواقع حسي، يشهد به الناس في كل يوم تألق الضوء في ضحوة النهار، ثم فتور الليل إذا سجا وسكن. دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكار، بل دون أن يخطر على با أحد، أن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها إلى الظلمة والوحشة، بعد تألق الضوء في ضحى النهار، فأي عجب في أن يجيء، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فترة سكون يفتر فيها الوحي، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يوافي بعد الضحى المتألق! هذا هو ما نطمئن إليه في التفسير البياني للقسم بالضحى والليل إذا سجا، ولا أعرف - فيما قرأت - أحداً من المفسرين التفت إلى هذا الملحظ التفاتاً واضحاً متميزاً، وإن يكن بعضهم قد استشرق له من بعيد، لكن وسط حشد من تأويلات شتى، لا تخلو من تكلف وإغراب. منهم "فخر الدين الرازي، ونظام الدين النيسابوري" فقد ذكرا في حكمة القسم بالضحى والليل إذا سجي، وجوهاً "منها: كأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة، ساعة ليل وساعة نهار، ثم يزداد؛ فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار، ومرة بالعكس، فلا تكون الزيادة لهوى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولا النقصان لقلى، بل للحكمة. كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح، فمرة إنزال، ومرة حبس، فلا كان الإنزال عن هوى ولا كان الحبس عن قلى. "ومنها: أن الكفار لما أدعوا أن ربه ودعه وقلاه، قال: هاتوا الحجة، فعجزوا، فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه ما قلاه! "ومنها، كأنه تعالى يقول: أنظر إلى جوار الليل مع النهار، لا يسلم أحدهما عن الآخر. بل الليل تارة يَغلب، وتارة يُغْلب، فكيف تسلم عن الخلق"؟. وقال "الشيخ محمد عبده" بعد الذي نقلنا من عبارته في وجه الإعظام بالقسم باليل: "وقد جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حزن لفترة الوحي، جزناً غدا منه مراراً كي تتردى من رءوس شزاهق الجبال، ولكن كان يمنعه تمثل الملك له وإخباره بأنه رسول الله حقاً. فذلك هو القلق والفزع الذي يحتاج إلى ما به تكون الطمأنينة، فآتاه الله ما كان في شوق إليه، وثبته بالوحي وبشره أن تلك الفترة لم تكن عن ترك ولا عن قلى، وأقسم له على ذلك، وأشار في القسم إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه أول مره، بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمو الناميات، وما عرض بعد ذلك فهو بمنزلة الليل إذا سكن لتستريح فيه القوى وتسعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبي لاقى من الوحى شدة في أول أمره، فكانت فترة الوحي، أي فتوره، لتثبيته عليه السلام، وتقوية نفسه على إحتمال ما يتوالى منه، حتى تم به حكمة الله تعالى في إرساله إلى الخلق". ويوشك الملحظ البيلني، أن يتوه وسط هذا الكلام في الضحى تقوى به الحياة وتنمو الناميات، وفي الليل تستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس. وكان "إبن قيم الجوزية" أقرب إلى إدراك الملحظ البياني في القسم، لولا أن غلب عليه التأثر بفكرة الإعظام التي قررها أصلاً في كل أقسام القرآن. فجعل موضع القسم هنا للدلالة على ربوبية الله وحكمته ةرحمته، مع أنه السياق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لا يشير من قريب ـأو بعيد، إلى أن الموقف كان ارتياباً من المشركين في ربوبية الله وحكمته ورحمته، وإنما كان - على قول المفسرين في سبب النزول - كلاماً في أن الله قد ودع محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقلاه. ونص عبارة إبن القيم: "أقسم بآيتين عظيمتين من آياته، دالتين على ربوبيته، وهما الليل والنهار .... فتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافى بعد ظلام الليل، للمقسم عله وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه". * * * ومن المفسرين من وقف طويلاً عند تقديم الضحى هنا، وأبعد في تأويله فقال: "إنه إشارة أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة. وأيضاً أنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه - تعالى - ثم عقبة بالليل حتى يحصل الأمن من مكره! ". ولم يتعرض "إبن جرير الطبري" لبيان ارتباط المقسم به بالمقسم عليه، ومثله "الزمخشري" في الكشاف، وإنما اقتصرا على بيان كل من طرفي القسم. وكذلك سكت "أبو حيان" في (البحر) عن هذه الصلة المعنوية بينهما، وشغل عنها ببيان أوجه الصناعة النحوية. كما لم تعرض أي مفسر - فيما قرأت - لمقابلة هذا القسم الإلهي بالواو، على ظاهرة نفي القسم الصريح حيثما جاء في القرآن الكريم مسنداً إلى الله تعالى. * * * ونعرض بعد هذا، لأقوالهم في تفسير: الضحى، والليل إذا سجا، فنقرأ في "الطبري" اختلاف أهل التأويل في الضحى: فهم النهار كله، وهو ساعة من ساعات النهار. كما نقرأ أختلافهم في الليل إذا سجا: فهو الليل إذا أقبل، أو إذا جاء. وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الليل إذا ذهب، وهو الليل إذا استوى، وهو الليل إذا استقر وسكن. واختار "الطبري" من هذه الأقوال في الضحى: أنه النهار، لأنه ضوء الشمس الظاهرة. وأختار في سجا اللي: معنى السكون بأهله. والزمخشري، يقول في الضحى: هو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى شعاعها، وقيل: أريد بالضحى النهار. وقال في سجا: سكن وركد ظلامه، وقيل معناه سكون الناس والأصوات فيه. وعند أبي حيان: سجا الليل أدبر، وقيا: أقبل. وقال الفراء: أظلم ورك، وقال إب الأعرابي: أشتد ظلامه. وأجاز "النيسابورى" أن يكون معنى سجا، سكن الناس فيه، فيكون الإسناد مجازياً. وقال الشيخ محمد عبده في الضحى: هو ضوء الشمس في شباب النهار. وفي سجا الليل: هو ما تجده من سكون أهله وإنقطاع الأحياء عن الحركة فيه. * * * فلننظر فيها اختلف فيه المفسرون في معنى الضحى: أهو النهار كله، أم ساعة منه. والليل إذا سجا: هل معناه أقبل، أو أدبر، وأشتد ظلامه وسكن، أو سكنت الناس والأصوات فيه؟ وإذا كان اللفظ لغة يحتمل أكثر من معنى على ما ذكروا في ضحى وسجا، فإن البلاغة لا تجيز إلا معنى واحداً في المقام الواحد، يقوم به لفظ بعينه، لا يقوم به سواه. واللغة قد عرفت الضحى وقتاً بعينه من النهار، وبه سميت صلاة الضحى لوقوعها فيه، والضاحية من الإبل التي تشرب ضحى، وقالوا ضحى فلان غنمه إذا رعاها الضحى، وضحى بالشاة ذبحها ضحى يوم النحر - وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 هو أصل الاستعمال فيما ذكر لسان العرب - وقال "يعقوب" في الأضحى: يسمى اليوم أضحى بجمع الأضحاة وهي الشاة تذبح ضحى النحر، وهي أيضاً الأضحية والضحية. ودلالة الوضوح هي الملحوظة في كل الإستعمالات الحسية للمادة: فالضاحية السماء، ومنه قيل لما ظهر وبدا ضاحية. والمضحاة الأرض التي لا تكاد تغيبر الشمس عنها، وضحا الطريق: بدا وظهر. وقالوا لمن يبرز للشمس: ضحا ضَحواً وضُحوا وضحيا؛ كما قالوا لمن ضربته الشمس ضحا كذلك، والضحياء الفرس الشهباء. ومن هذا الوضوح والظهور الملحوظين في الاستعمالات الحسية للمادة، قيل: فعل فلان كذا ضاحية، أي علاية. على أن أكثر ما يستعمل الضحى في القوت المعين من صدر النهار، فويق ارتفاع النهار، حيت يتم وضوح الشمس. ومنا ما يستعمل في كل ما وقع أو فعل في هذا الوقت بعينه، فيقال أضحى فلان إذا صار في الضحى، وأتيتك ضحوة، وضحى. * * * وفي الاستعمال القرآني، نرى القرآن الكريم استعمل الضحى مقابلاً للعشية في آية النازعات 46: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . ومعها الآية 29: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} . كما استعمله ظرف زمان، لهذا الوقت بعينه من النهار في آية الأعراف 98: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ؟ وآية طه 59: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} . فتراه هنا عين للموعد يوماً هو يوم الزينة، ثم خص منه بالتحديد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هو ضحى، مما يبعد تفسير الضحى بأنه النهار كله. وتبعده كذلك آية "الشمس" التي أقسم القرآن فيها بالشمس وضحاها، حيث لا نرى المعنى يستقيم لو فسرناه بالنهار فقلنا: والشمس ونهارها، وإنما هو "وقت إنبساط الشمس" كما اطمأن "الراغب" في المفردات، أو هو "صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها" كعبارة "النيسابور" في الغرائب. * * * وأما سجا الليل، فالسكون أو الفتور هو ما يلائم الموقف بيانياً، وليس الإقبال ولا الإدبار، كما قال مفسرون. ولم تأت مادة "سجا" في القرآن كله في غير هذا الموضع، إلا أن مقابلتها للضحى، تجعلنا نطمئن إلى أن سجو الليل هو فترة هدوئه وسكون، وعلى ما تعرف العربية في استعمالها لطرف ساج وبحر ساج، والسجواء وهي الناقة التذ إذا حلبت سكنت. والسكون هو المعنى الذي ذكره "الراغب" في مفرداته، وقال "النيسابورى": هو بمنزلة الضحى من النهار. * * * وقد قلنا في القسم بالضحى والليل إذا سجا: إنه بيان لصورة حسية، وواقع مشهود، يمهد لموقف مماثل، غير حسي ولا مشهود، هو فتور الوحي بعد إشراقه وتجليه، لكن من الفسرين من أجهدوا أنفسهم لالتماس السبب الذي من أجله أوثر الضحى هنا بالقسم، فالزمخشري يقول إنه تعالى: "أقسم بالضحى، لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام، وكانت موعده لمعارضة السحرة". ونستبعد أن يكون الوحي قد خاطب النبي عليه السلام والسلام في آية الضحى بما تفسره آيات نزلت بعدها بزمن، في موعد حشر السحرة بآية طه التي نزلت بعد الضحى بست وثلاثين سورة، وكلام الله تعالى لموسى عليه السلام - ولم يحدد القرآن ساعته - بآيات الأعراف والنساء، المدنية. وأضاف النيسابوري، والرازي كذلك: "أن الضحى ساعة من النهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 توازي جميع الليل، كما أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يوازي جميع الأنبياء وأممهم". ولا نقف بعد هذا عند تأويلات الإشاريين بأن الضحى وجه محمد، - صلى الله عليه وسلم - والليل شعره، أو أن الضحى هم ذكور أهل بيته عليه السلام والليل إناثهم ويحتمل أن يقال: الضحى نور علمه الذي يعرف به المستور من الغيوب، والليل عفوه الذي يستر به جميع العيوب، أو هي إشارة بالضحى إلى إقبال الإسلام بعد أن كان غربياً، وبالليل إلى أنه سيعود غريباً كما بدأ إلى آخر هذه التأويلات الإشارية التي لا موضع لها في تفسير بياني للنص الكريم. * * * {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . والقراءة بالدال المشددة هي قراءة الجمهور، وقرأ بعضهم: "مَا وَدعَكَ" بالتخفيف، مع تصريحهم بأن العرب استغنت في فصيح كرمها عن: ودع، ووزر، وودْع، ووزْر، وقد ذكر الزمخشري هنا شاهداً من قول "أبي الأسود الدؤلى": ليت شعرى عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه وقال آخر: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطرف المثقفة السمر ولكن الجوهري في (الصحاح) صرح بأن مثل هذا ربما جاء في ضرورة شعرية، ومثله قول "خفاف بن ندبة": إذا ما استحمت أرضه من سمائه جرى وهو مودوع وواعد مصجق أي متروك. وقال في: دع ذا، أي اتركه: "وأصله ودع يدع، وقد أميت ماضيه، لا يقال: ودعه، وإنما يقال: تركه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد نازعه محشى القاموس، في القول بأن "ماضى ودع أميت غير أنهذه المنازعة لا تدفع ما قاله: أبو حيان" من أن العرب استعنت في فصيح كلامها عن ودع. والودع: الترك، وقد استعمل حسياً في الوديعة، تترك في مكان أو لدى من يرجى أن يؤتمن عليها، وأستعمل التوديع في الترك لفراق، وقال الومخشري: "التوديع مبالغة في الدةع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك" وذلك ما تحكم به قواعدهم؛ لولا أن العربية استغنت عن الثلاثى من (ودع) في فصيح كلامها. ولم يجيء من المادة في القرآن، بصيغة الفعل الماضي إلا آية الضحى وجاء منها فعل الأمر في آية الأحزاب 48: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . زجاءت صيغة مستودع مرتين، عطفاً على مستقر، في: آية الأنعام 98: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} . وآية هود 6: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} . والقلى: البغض، وربما كان القلق المادى، أسبق في الدلالة الحسية للمادة، حيث نلحظه بوضوح فيما جاء من استعمالات حسية لها: فالقلا والمقلى، عودان يلعب بهما الصبيان، وقلا الإبل ساقها شديداً، واللحم أنضجه في المقلى والمقلاة. ومن القلق الملحوظ أصلاً في المادة، جاء معنى التجافي والإرتحال، فيقال: أقلولى الرجل: قلق، ورحل، وتجافي. وأكثر ما تستعمل المادة يائية، في البغض والكره غاية الكراعة، (القاموس) وقد انتهى "إبن سيده" بالبغض الشديد إلى الترك والهجر، فقال في (المحكم) : "قليته قلى أبغضته وكرهته غاية الكره فتركته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والمادة جاءت في القرآن مرتين: آية الضحى، وآية الشعراء 168: "قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} . ودلالتها على البغض والكراهية الشديدة والنفور واضحة. وبشدة البغض، فسرها "الراغب" في (المفردات) في الموضعين. * * * ووقفوا طويلاً عند حذف ضمير الخطاب: في قلىَ، فقال الزمخشري: إنه اختصار لفظي، لظهور المحذوف، ونظر له بقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} وهو قريب من قول الطبري في تعليل الحذف: "إنه إكتفاء بفهم السامع لمعناه، إذ كان قد تقدم ذلك قوله: ما ودعك، فعرف بذلك أن المخاطب به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -} . كذلك ذهب "أبو حيان" إلى أن الحذف للإختصار. لكن النيسابوري أضاف سبباً آخر، وهو رعاية الفاصلة: والضحى سجى ..... وقال مثل ذلك في الآيات بعدها: فآوى. فهدى ...... فأغنى. وعد "الرازي" في حذف الكاف ثلاثة وجوه: * الاكتفاء بالكاف الأولى في "ودعك". * أن اتفاق الفواصل، أوجب حذف الكاف. * فائدة الإطلاق، أي أنه ما قلاك ولا أحداً من أصحابك، ولا أحداً ممن أحبك إلى يوم القيامة. وفي الإطلاق، على ما بينه الرازي، توسع لا يعطيه صريح السياق خطاباً للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - بعد فتور الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأما تعليل الحذف برعاية الفاصل، فليس من المقبول عندنا أن يقوم البيان القرآني على اعتبار لفظي محض، وإنما الحذف لمقتضى معنوي بلاغي، يقويه الأداء اللفظي، دون أن يكون الملجظ الشكلي هو الأصل. ولو كان البيان القرآني يتعلق بمثل هذا، لما عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . وليس في السورة كلها ثاء فاصلة، بل ليس فيها حرف الثاء على الإطلاق، ولم يقل تعالى: فخبرْ، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة ومن يتعلقون به. ويبقى القول بأن الحذف لدلالة ما قبله على المحذوف، وتقتضيه حساسية معنوية مرهفة، بالغة الدقة في اللطف والإيناس، هي تحاشي خطابه تعالى لحبيبه المصطفى في مقام الإيناس: ما قلاك. لما في القلى من الطرد والإبعاد وشدة البغض. أما التوديع فلا شيء فيه من ذلك. بل لعل الحس اللغوي فيه يؤذن بالفراق على كره، مع رجاء العودة واللقاء. * * * وقد سبق في هذا التوديع عند سبب النزول. ولا نرى أن نقف هنا عندما ورد في بعض كتب التفسير من تحديد سبب الإبطاء في الوحي، كالذي ذكره "الرازي" و"النيسابورى" من أن اليهود سألوا النبي عن ثلاث نسائل: الروح، وذي القرنين واصحاب الكهف. فقال - صلى الله عليه وسلم -: سأخبركم غداً. ولم يقل: إن شاء الله: أو أن الوحي أبطأ، لأن جرةاً للحسن والحسين، - رضي الله عنهما -، كان في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال جبريل: "أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة؟ " أو أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار ..... وحكاية الجرو هذه، وردت كذلك في (البحر المحيط لأبي حيان) ولا أدري كيف فاتهم أن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - ولدا بعد الهجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بثلاث سنوات وأربع، وسورة الضحى من أوائل الوحي، نزلت بمكة قبل الهجرة بسنين. والذي يعطيه ظاهر النص، أن فتور الوحي ظاهرة طبيعية، شأنها شأن سجو الليل بعد إشراق الضحى. وهذا يغنينا عن تقديم أسباب والتماس علل للإبطاء في الوحي، لم يتعلق القرآن بذكرها. كذلك لا نرى وجهاً للوقوف عندما ذكر مفسرون في تحديد مدة الإبطاء، باثنى عشر يوماً، أو خمسة عشر، أو خمسة وعشرين، أو أربعين، إذ يغنينا عن مثل هذا، سكوت القرآن عن تحديد فترة الوحي باليوم أو بالشهر، ولو كان البيان القرآني يرى حاجة إلى هذا التحديد، ليزيد في اليقين النفسي، لما أمسك عن ذلك التحديد؛ لأن مقتضى البيان أن يستوفى كل ما يدعو إليه المقاك مما يتصل بغايته، فإذا أمسك هنا عن ذكر سبب الإبطاء وتحديد مدته، فلأن الذي يعنيه هو جوهر الموقف لا تفصيلاته الجزئية، فسواء أكان السبب هو ما ذكره المفسرون ام غيره، وسواء أكانت فترة إبطاء الوحي أثنى عشر يوماً أم أربعين، وسواء أقال قائل - منْ كان - ودع محمداً ربه وقلاه، أم أنه - صلى الله عليه وسلم - شعر بالاستيحاش لفتور الوحي. فالمهم هنا هو جوهر الموقف، ولا شيء من جزئياته بذي جدوى على المعنى. * * * {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . الآخرة تأتي غالباً، مقابل الدنيا. والمعنى الأول في المادة هو التأخير، كما ان المعنى في الدنيا هوالدنو. فإذا اقترنت الآخرة بالدار، أو باليوم، غلب أنها اليوم الآخر، أما إذا أطلقت، فهي ذات دلالة أعم، يدخل فيها: النهاية، والمصير، والعقبي، سواء في هذه الحياة، أو فيما بعدها. وفي آية الضحى، يرجع أن الآخرة هي الغد المرجو، مجيئها مع {لَكَ} خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد أكد الله بهذا الخير الموعود، نفى التوديع والقلى، ليذهب عن رسوله أثر فتور الوحي. والصلة بين هذه الآية والآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قبلها، أوضح من أن نتكلف لها الأسباب والوجوه على نحو ما فعل بعض المفسرين كالرازي الذي ذكر فيها وجوهاً ثلاثة: أحدها: أن إنقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لعزل عن النبوة، بل أقصى ما في هذا الباب أنه أمارة الموت، والموت خير لك لما أعد لك عند الله في الآخرة. والثاني: انه لما نزل قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، حصل له تشريف عظيم، فكأنه أستعظم هذا التشريف، فقيل له إن ما لك عند الله في الآخرة خير وأعظم. والثالث: وقد صدره الرازي بقوله: وهو ما يخطر ببالي - وللأحوال الآتية خير لك من الماضية. ثم عقب على هذا، بذكر طرق يعرف بها أن الآخرة خير له من الأولى، وهي: * لأنك في الدنيا تفعل ما نريد، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل ما تريد. * وأن الآخرة خير لك، إذ تجتمع عندك أمتك. * وهي خير لك لأنك أشتريتها، أما هذه الدنيا فليست لك. * وفي الأولى يطعن الكفار فيك، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيداُ على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيداً عليك. * إن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة، ولذات الآخرة كثيرة خالصة لك. وفسر "الشيخ محمد عبده" الآخرة والأولى بالبداية والنهاية، قال: "ولنهاية أمرك خير لك من بدايته" ثم زاد إيضاحاً: "إن كرة الوحي ثانياً، ستكمل الدين وتتم بها نعمة الله على أهله، وأين بداية الوحي من نهايته؟ " فكأنه يريد أن يحدد الآخرة، بنهاية الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وفي القرآن الكريم وردت الكلمة مائة وثلاث عشرة مرة، فيما أحصيت يغلب أنها للدار أو الحياة الآخرة، مقابلة للدنيا. على أنها قد تأتي لغيرها بدلالة من صريح السياق، مثل آية (ص 7) : {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . ونستأنس في فهم آية الضحى، بآيات مثلها جاءت فيها الآخرة مقترنة بالأولى: بواو العطف: النجم 25: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} . النازعات 25: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} . القصص 70: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} . الليل 13: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} . فنرى آية الضحى تنفرد عنها بأنها خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، في حالة بعينها هي توهم توديع الله إياه في أولاه، وقد نفى الله تعالى هذا التوديع، ثم أكد له أن أخراه خير من أولاه. وجاءت الآية بعدها: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . يتكامل بها التجلي الإلهي على المصطفى: ما تركك فيما مضى، وللآخرة خير لك من الأولى .... ولا وجه عندنا لتحدبد المقصود بالعطاء في الآية، بما ذكره "الرازي" أو غيره بل نؤثر إطلاقه، مسايرة للبيان القرآني الذي يشأ أن يحدده. فحسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإعطاء الذي يرضيه، وليس وراء الرضى مطمح، ولا بعدم غاية, وما كان لنا أن نحتكم بأذواقنا وأمزجتنا وشخصياتنا، وظروفنا وأحوالنا، في تحديد هذا الذي يرضي الرسول، أو نشغل عن تدبر سر البيان في إطلاقه العام وإنتهائه إلى الرضى، بمثل ما شغل به كثير من المفسرين: فمن قائل في العطاء الموعود: "إنه ألفقصر في الجنة، في كل قصر ما ينبغي من الأزواج والخدم" على ما نقل الطبري بإسناده عن إبن عباس، وتلقفه مفسرون من بعده لم يكفهم هذا التحديد بالنوع والعدد، بل زادوا فحددوا مواد البناء: فهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ألف قصر من لؤلؤ، ترابهن المسك، وفيهن ما يصلحهن. عن إبن عباس أيضاً. وأختاروا اللون كذلك، فقالوا إن القصور الألف من لؤلؤ أبيض. وما أرى ألف قصر في الجنة، أو ألف ألف، من لؤلؤ أو غير لؤلؤ، ترابهن المسك أو العنبر. بالغة في تقدير العطاء الموعود ما تبلغه الكلمة القرآنية "فَتَرْضَى} بما تمضي في العطاء، إلى غاية الرضا. وآخرون، ذهبوا في تفسير العطاء إلى أنه إشارة إلى ما سوف يعطى الله رسوله من الظفر بأعدائه، وفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، والفتوح الكبرى على أيدي خلفائه. كما قيل في العطاء كذلك: إنه الشفاعة والمغفرة "لأن الله أمره بالاستغفار للمذنبين، ويرضيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجاب طلبه. ولأن مقدمة الآية مناسبة لذلك، كأنه تعالى يقول: لا أودعك ولا أبغضك، بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك" كما استدلوا بأن الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة، دالة على أن رضى الرسول في العفو عن المذنبين من أمته. رده "إبن القيم" قائلاً: "وأما ما يغير به الجهال من أنه - صلى الله عليه وسلم -، لا يرضى وواحد من أمته في النار، فهذا من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، يرضى بما يرضى به تبارك وتعالى، وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ولا يشفع الرسول عنده إلا بإذنه". ويميل: إبن القيم" إلى تعميم العطاء "فهو يعم ما في الدنيا من القرآن والهدى والصر وكثرة الأتباع ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ووقف الشيخ محمد عبده، مثل هذا الموقف، فحمل على "ما للمفسرين هنا من كلام في الشفاعة، وفي تكريم آل بيت النبوة، حشروه في التفسير حشراً، وأكثره بعيد عن روح الدين الذي جاء به القرآن، والأليق به كتب المذاهب التي ساء بها حال المسلمين وتفرقت بسببها كلمتهم". وفسر العطاء بنحو ما فسره به "إبن القيم: فقال:: إنه "توارد الوحي عليك بما فيه إرشاد لك ولقومك، ومن ظهور دينك وعلو كلمنك وإسعاد قومك بما تشرع لهم، وإعلائك وإعلائهم على الأمم في الدنيا والآخرة". ونرى مع هذا، أن في تحديد العطاء، جوراً عليه. والأليق بجلال الموقف أن يكتفي فيه بالرضى على ما أراد البيان القرآني، فوق كل تحديد، ووراء كل وصف! * * * في الصنعة الإعرابية، أثار بعض المفسرين هنا مشكلات ما أغنى البيان القرآني عنها: القاعدة النحوية أن اللام في (سوف) إن كانت للقسم، لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، وإن كانت اللام للإبتداء فإنها لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر .... لابد إذا من تكلف وإحتيال، لتسوية الصنعة! وقد رأى "الزمخشري" أنه "لآبد من تقدير مبتدأ محذوف، وأن يكون أصل العبارة: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى. وكذلك قال "أبو حيان": إن اللام هنا لام إبتداء أكدت مضمون الجملة على إضمار مبتدأ أي: ولأنت سوف يعطيك. وندرك جور الصنعة الإعرابية على هذا البيان العالي، إذا احتكمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إلى حس العربية، ووازناً بين التعبير القرآني {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وذلك التأويل المقدر، الذي قال عنه "الزمخشري" إنه الأصل: ولأنت سوف يعطيك. وأراهم جاوزوا قدرهم، حين يؤولون الآية المحكمة من البيان الأعلى، فيقول قائلهم: لابد من تقدير كذا ..... لأن اصل التعبير كذا! وكان يكفي أن يأتي التعبير في الكتاب العربي المبين، ليكون هو الشاهد والحجة، والأصل الذي تعرض عليه كل قاعدة لغوية أو بلاغية، لا أن نحكم فيه قواعد للنحاة والبلاغيين، في دراستهم للعربية علماً وصنعه!! وأثار بعضهم كذلك مشكله أخرى: كيف يجتمع التوكيد المستفاد من اللام، مع التسويف الصريح في {سَوْفَ} ؟ ثم أجابوا بأن العطاء كائن لا محالة إن تأخر، لما في التأخير من مصلحة. وربطه الشيخ حمح عبده بإكمال الدين فقال: "إن إكمال الدين لم يتم إلا في عشرين سنة، ونزلت الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فاستعمال حرف التسويف لذلك". وهم هنا، كدأبهم، يثيرون مسائل ثم يتكلفون لها الجواب. تأكيد المستقبل ليس بموضع سؤال، ولا هو ببعيد عن مألوف العربية. والبيان إنما يتسق هنا ويتكامل بلفظ {سَوْفَ} إيناساً للرسول المصطفى بأنه كان سوف يظل موضععناية ربه: في أمسه وغده، في أولاه وأخراه ...... * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . مناسبة ارتباط هذه الآيات لما قبلها واضح، فهو تعالى يبث في نفس الرسول الطمأنينة ويثبت قلبه بلفته إلى ما أسبغ الله عليه في اولاه من نعم: كان يتيماً، بل مضاعف اليُتم، فأواه ووقاه مسكنه اليتم، وكان ضالاً حائراً، فهداه تعالى إلى دين الحق، وكان عائلاً فأغناه بفضله وكرمه، أفما يكفي هذا ليطمئن المصطفى إلى أن الله غير تاركه ولا مودعه؟ وهل تركه حين كان صبياً يتيماً معرضاً لما يتعرض له الصبية اليتامى من قهر وضياع؟ وهل قلاه حين كان ذا عيلة، حائراً يرهقه التفكير في ضلال قومه ثم لا يدرى سبيل النجاة؟ لكن الآيات البينات لم تفهم بهذا اليسر، وإنما ذهب المفسرون إلى تأويلات شتى، لتحديد المقصود باليتم، والغنى، والضلال. ونعرض أولاً أقوالهم في اليتم والإيواه، والعيلة واإغناء، والضلال والهدى، ثم نحتكم فيها إلى القرآن الكريم: ففي اليتم والإيواء، قال "الرازي": إنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى: ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير، فآواك أي جعل لك من تأوى إليه وهو أبو طلب، وقرئ: فأوى - بالتخفيف، أى رحم. ويقول الزمخشري، محقاً: "إن تفسير يتيم هنا بالدرة اليتيمة، من بدع التفاسير" وإنما اليتم عنده فقدان الأب، ومثله أبو حيان في البحر، وقال: "الراغب" في المفردات: اليتم - في آية الضحى - إنقطاع الصبي من أبيه قبل بلوغه. وهذا هو الأصل في اليتم لغة، ثم قيل لكل منفرد: يتم، ومنه الدرة اليتيمة أي المفردة. والقرآن استعمل اليتم، مفرداً ومثنى وجمعاً، ثلاثاً وعشرين مرة، كلها بمعنى اليتم الذي هو فقدان الأب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ويلحظ فيه اقتران اليتم بالمسكنة في أحد عشر موضعاً: البقرة 83، 177، 215، والنساء 8، 35، والأنفال 41، والحشر 7 والدهر 8، والفجر 17، والبلد 15، والماعون 2. كما ذكر فيه من آثار اليتم: الجور، وأكل المال {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . النساء 10- ومعها: الأنعام 152 والإسراء 34 والنساء 2، 6. وعدم الإكرام: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} . الفجر 17. والدع. الذي هو الدفع العنيف مع جفوة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} . الماعون 1: 3. والقهر، في آية الضحى. وأما هذا التتيع، لا نملك إلا أن نستبعد تفسير اليتم بغير ذاك الذي في القرآن، وقد ولد محمد يتيماً، ثم تضاعف يتمه بموت أمه وجده، لكنه تعالى نجاه من آثار اليتم التي هي، بشواهد من آيات الكتاب الكريم: الدع والقهر، والإنكسار والجور. مما كان مظنه أن يكسر نفسه. فذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ترشيحاً بهذا الإيواء الإلهي - غير المقيد بمتعلق - إلى ما بعده من نعمة الهداية بعد حيرة وضلال، وتهيئة لحمل الرسالة الكبرى. وقد جاء الفعل من {آوَى} في القرآن، أربع عشرة مرة، لا يخطئ الحس فيها جميعاً معنى المأمن والحمى والملاذ، إما حقيقة، وإما على سبيل الرجاء، وهو ما سوف نزيده تفصيلاً، في سورة النازعات. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} . أصل الضلال في الاستعمال اللغوي، من فقدان الطريق: أرض مضلة، يضل فيها. والضلة الحيرة. ونقيض الضلال: الهدى، وقد استعملته العربية حسياً في الصخرة الناتئة في الماء يؤمن بها العثار، وفي وجه النهار، يكشف معالم الطريق فيؤمن الضلال. ثم جاء الاستعمال المعنوي للضلال والهدى، ملحوظاً فيهما الأصل الحسي، والاستعمال في المصطلح الديني للضلال والهدى بمعنى الكفر والإيمان، وقوى هذا الاستعمال الاصطلاحي حتى كاد يكون هو المتبادر، عند الإطلاق. والقرآن الكريم، قد استعمل الضلال بمعنى الكفر والباطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} مع بقاء الملحظ الحسي اللغوي الذي هو ضلال الطريق، بدليل إقتران الضلال بالسبيل، عشرين مرة، ومعها آية السجدة 10: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . ويؤيد هذا الملحظ، استعمال العمى في الضلال، في آية النمل 81: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} . وفي آية الإسراء 72: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} . ومن المفسرين من قالوا في آية الضحى: إن الضلال هنا هو الكفر، ذكره "الرازي" معزواً إلى الكلبي والسدي ومقاتل، بمعنى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان على أمر قومه أربعين سنة. وأنكره جمهور المفسرين، وردوه بأن الأنبياء يجب أن يكونوا معصومين، قبل النبوة وبعدها، من الكبائر والصغائر الشائبة، فما بال الكفر؟! وذهبوا بعد ذلك في تأويل الضلال، مذاهب شتى بلغت، في تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الرازي وحده، عشرين تأويلاً! منها الضلال عن القبلة، ومنها الضلال عن الهجرة متحيراً في يد قريش يتمنى فراقهم ولكن لا يمكنه الخروج بغير إذن من ربه، ومنه الضلال عن أمور الدنيا وشئون التجارة، فهداه الله فربحت تجارته! وقد نعلم من السيرة النبوية وتاريخ عصر المبعث، أن سيدنا محمداً كف عن شواغل التجارة قبل المبعث منذ آثر الاعتكاف والخلوة في غار حراء، وأنه - صلى الله عليه وسلم -، لم يتجه إلى الهجرة من مكة، إلا في عام الحزن، قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي بعد نزول آية الضحى بسنين وصريح نصها، فيما كان من ماضي حال المصطفى عليه الصلاة والسلام، لا فيما يستقبل من أمره. وذكر الزمخشري وأبو حيان في تفسير الضلال، أن سيدنا محمداً "ضل في شعاب مكة وهو صغير، فرده الله إلى جده، وقيل ضلاله من حليمة مرضعته، وقيل ضل في طريق الشام." واستطرد أبو حيان يقول: إنه فكر طويلاً في هذه الآية، غير مطمئن إلى أقوال المفسرين فيها، وشغل بها في منامه، فإذا به يقول: وجدك ضالاً فهدى، أي وجد رهطك ضالاً فهداه بك. على حذف المضاف، أي رهط. ونظيره عنده، قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها. وما بنا حاجة إلى كل هذه التأويلات، ما ذكرناه منها وما لم نذكر، بل يكتفي في الرد على من فسروا الضلال بالكفر، أن الاستعمال القرآني لا يلتزم دائماً هذا المعنى الاصطلاحي، وإنما لحظ فيه - كما رأينا - الأصل اللغوي من ضلال الطريق، أو عدم الإهتداء إلى الصواب: قال إخوة يوسف لأبيهم" {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وقالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وليس الضلال هنا كفراً، وإنما هو الشغف بيوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقالت النسوة في امرأة العزيز ويوسف: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وفي آية الشعراء (20) حكاية عن موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} . وفي شهادة رجل وامرأتين على الدين بآية (البقرة 282) : {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . وليس شيء من هذه الآيات بالذي يحمل الضلال فيه، على معناه الاصطلاحي وهو الكفر. فالاحتكام إلى القرآن الكريم نفسه، يعفينا من التزام المصطلح في لفظ الضلال بمعنى الكفر، وهو أيضاً يعفينا من تلك التأويلات العشرين التي تكلفوها في تفسير الآية لينفوا الكفر عن سيدنا محمد قبل أن يبعث. وغريب عندنا كذلك، أن نتصور أن الله منَّ على رسوله، بأنه رده إلى أهله حين ضل في شعاب مكة، أو عند حليمة، أو في طريق الشام! وإن من صغار الأطفال من يضل فيرده إلى أهلهم راد، ربما كوفئ ببضعة دراهم (حلاوة) نظير معروفة! ومثله في الغرابة، أن تكون نعمة الله على من اصطفاه لرسالته، أن ربحت تجارته، بعد ضلالة في أمورها وفي شئون الدنيا! وقد قال: "الراغب" في تفسير الضلال: إنه ترك الطريق المستقيمة عمداً كان أو سهواً، قليلاً كان أو كثيراً. ولا نقول هنا إلا ما قاله الله تعالى لنبيه المصطفى: "مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} فقد كانت حالته قبل المبعث حالة حيرة: عاف حال قومه وأنكرها، ولكن أين الطريق المستقيم؟ وكيف المخرج والنجاة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ولبث على حيرته أمداً، حتى جاءته الرسالة فهدته إلى الدين القيم وأبانت له سواء السبيل بعد طول حيرة وضلال. وإلى مثل هذا، ينتهي رأي "الشيخ محمد عبده". ونحن بهذا في غنى عما لجأ إليه أبو حيان في رؤياه، من افتراض مضاف محذوف، على تقدير: وجد رهطك ضالاً فهداه بك. . . * * * {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . العيلة في اللغة الفاقة والعوز. يقال: عالني الشيء، إذا أعوزني. ومنه قالوا للرجل: عائل، إذا كثر عياله لأنهم عالة، ولحظ فيه مع كثرة العيال ثقل العبء مما يظن معه الضيق المادي والعوز، ومن ثم قيل: عال، بمعنى أفتقر. ولم ترد المادة في القرآن إلا مرتين: آية الضحى، وآية التوبة 28: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} . وهي في المرتين، كلتيهما، مقابلة بالغنى. فما الغنى؟ أخذه مفسرون بمعنى الإثراء، وهو المعنى القريب المتبادر، ففسروا آية الضحى بأن الله تعالى: {أغناه في صباه بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحواله أغناه بمال خديجة، ولما أختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما أختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم". وأختصر الشيخ محمد عبده هذه السلسة من الاختلال والإغناء، مكتفياً بربح التجارة، ومال السيدة خديجة، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 "وكان الرسول فقيراً لم يترك لم والده من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناه الله بما ربحه في التجارة، وبما وهبت له خديجة من مالها". وأحسبه بهذا الإكتفاء، أراد أن يتقى المشكلة الزمنية التي أحوجت مفسرين إلى تأول بعيد. فالسورة مكية مبكرة بلا خلاف، وهذا الغنى بالأنصار والغنائم قد كان بعد الهجرة، ومن ثم قالوا: "إن هذا كله كان من معلوم الله، وهو كالواقع، فيكون من قبيل الإخبار بالغيب، وقد وقع بعد ذلك فيكون معجزاً". على أنهم ذكروا مع غنى المال، احتمال أن يكون الغنى هو القناعة، وغنى القلب، والصبر، والكفاف. وجعل "الراغب" الغني ضروباً: فهو عدم الحاجات وليس ذلك إلا لله، وهو غنى النفس، وكثرة المقتنيات، والتعفف. * * * وأول ما نلحظه حين نحتكم إلى القرآن، أن الغنى فيه غير مرادف للثراء الذي لم يستعمله القرآن قط. وأسند الغنى إلى غير المال في مثل آيات: الأعراف 48: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} ومعها الأنفال 19. هود 101: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . يونس 36: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} . ومعها أية النجم 28. يونس 101: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} ومعها آية القمر: 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يوسف 67: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} . الطور 46: {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} . المرسلات 31: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} . الغاشية 7: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} . النجم 36: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ومعها يس 23 والتحريم. الجاثية 19: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . عبس 37: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . إبراهيم 21: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ؟ ومعها آية غافر 47. ولا يمكن أن يفسر الإغناء في أي موضع منها بالإثراء. * * * وجاء الغنى بمعنى الاستغناء، في مثل آيات: التغابن 6: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . عبس 5: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} . العلق 7: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفرق القرآن بين الغنى والمال، فقد يكون الغنى مع الفقر المالي كما في: آية البقرة 273: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} . ونظيره نفى الغنى مع المال والثراء، في مثل آيات: المسد 2: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . الحاقة 28: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} . الليل 11: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} . الجاثية 10: {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا} . ومعها ىية الحجر 84. وآيات آل عمران 10، 116 والمجادلة 17: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} . والغني، من أسماء الله الحسنى، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} . وقد ورد في القرآن سبع عشرة مرة، وليس من أسمائه تعالى "الثري". وأن يكن القرآن استعمل الغنى للمال في مثل آيات (النساء 6، 130، 135 وآل عمران 181 والتوبة 93 والحشر 7) فلسنا نعرف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أثرى بعد المبعث أو اقتنة مالاً، بل لا نعرف أن مستوى حياته قد تغير مادياً، بعد أن أفاء الله عليه ما أفاء من غنائم، فحمل الغني على الثراء المالي، ولا يعين عليخ ما نعلم من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تعفف وتجمل مع فقر، ومن قناعة وزهد وتواضع في المأكل والمشرب والمسكن، بعد أن سعت إليه الدنيا. ولو كان غنى المال مما يعده الله من نعمه على رسوله في الدنيا، لكان هناك من كشركي قريش، أمثال أبي لهب وأبي سفيان، وأبي جهل بن هشام، من هم أولى بذاك، على ما نعلم ويعلم المفسرون مما قاسى المصطفى من فقر مالي، في صباه، ثم بعد المبعث في محنة الحصار يشعب أبي طالب، وعلى ما صحت به الأخبار من بساطة حياته - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن أتم الله عليه بالنصر نعمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وإنما أغناه الله بالتعفف وسد الحاجة، فلم يذله فقر المال، كما لم يكسر اليتم نفسه، بل وقاه الله وقاية نفسية معنوية من آثار اليتم والفقر والضلال، وليست وقاية مادية ترد إليه آباه الذي مات قبل مولده، وتملأ خزانته بالمال، وتهييء له رغد العيش. واليتم مظنة الضياع والقهر: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} . والفقر مظنة الذل والعوز، وقد وجد الله محمداً يتيماً عائلاً، فأعفاه سبحانه، منذ كان، من تلك الآثار البغيضة، وسلم جوهرهُ من الآفات التي كان معرضاً لها بحكم يتمه وعيلته، وبذلك تم فيه الاستعداد النفسي لتلقي الرسالة الكبرى التي بعث بها لقي الناس من المذلة والهوان والضلال. واستعمل القرىن في الآيات الثلاث، الفعل {وَجَدَ} وهو من أفعال القلوب ولم يقل مثلاً: أما كنت يتيماً، وكنت عائلاً، فسيطر الجو المعنوي النفسي على الموقف، وتهيأت للرسول الطمأنينة الوجدانية لتلقى الآيات الكريمة. وفي حذف كاف الخطاب من: "فآوى، فهدى، فأغنى" قال مفسرون بالحذف لرعاية الفواصل. وهو ما لا نرى البيان العالى يتعلق به. وأولى منه قول من قالوا بالحذف لدلالة صريح السياق على المخاطب. ونضيف إليها فائدة الإطلاق، فتحتمل: فآواك وآوى برسالتك اليتامى والمستضعفين، فهداك وهدى بك أمتك، فأغناك وأغناها بك. * * * {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . قال المفسرون هنا في قهر اليتيم: لا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله. وقال أبو حيان: إنه التسلط بما يؤذى، ومنع اليتيم حقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ونرى الإيحاء النفسي للكلمة القرآنية {فَلَا تَقْهَرْ} أعمق وأدق من أن يضبط بهذه التفسيرات المحدودة، فلا الظالم، ولا التسلط بما يؤذى، ولا منع الحق، ببالغ في التأثير ما يبلغه قوله تعالى: فلا تقهر. إذ يجوز أن يقع القهر، مع إنصاف اليتم، وإعطائه ماله، وعدم التسلط عليه بالأذى: لأن حساسية اليتم، بحيث تتأثر بالكلمة العابرة، واللفتة الجارحة عن غير قصد، والنبرة المؤلمة بلا تنبة، وإن لم يصحبها تسلط بالأذى أو غلبة على ماله وحقه. والقهر في اللغة: الغلبة، وقد جاء من المادة في القرآن صيغة القهر (الأنعام 18، 61) وقاهرون (أعراف 127) والقهار (يوسف 39، الرعد 16، ص 65، الزمر 4، إبراهيم 48، غافر 16) . وكل قاهر، وقهار، وفي القرآن الكريم، من صفات الله تعالى، مع إقتران القهار بالواحد، في الآيات الست التي وردت فيها: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . وفي هذا ما يؤذن بأن المخلوق لا يحل له أن يتسلط بالقهر على مخلوق مثله، فكيف باليتيم المحتاج إلى الرعاية والعطف؟! وجاء منه {قَاهِرُونَ} على لسان فرعون في آية الأعراف: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} انتحالاً لصفة الربوبية ممن حشر فنادى {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . أما الفعل من القهر، فلم يأت في القرىن كله، في غير آية الضحى، خاصة باليتيم، وجاء دع اليتيم تكذيباً بالدين في آية الماعون: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} بما في الدع من قسوة الدفع والزجر. وآية الفجر: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} . * * * وفي "السائل" قيل: هو المستجدي، وقيل هو طالب العلم (الزمخشري والنيسابورى) وصرح غبن القيم بأن {آية الضحى تتناولهما معاً" يعني: سائل المعروف والصدقة، وطالب العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 واختار "الطبري" كل ذي حاجة. واختار الشيخ محمد عبده: المستفهم عما لا يعلم، وهو عندنا أولى بالمقام، ويؤيده الاستئناس بالاستعمال القرآني لمادة {سْأَلُ} حيث ترد كثيراً في هذا المعنى، كما يرجحها سياق الآيات قبلها. * * * أما النعمة، فهي النبوة عند جمهرة المفسرين، وخصها قوم بالقرآن، واتجه بها الشيخ محمد عبده إلى الغنى بعد عيلة في نسق السورة، مقابلة لقوله تعالى" {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . قال: "وقد يقال إن المراد بالنعمة النبوة، ولكن سياق الآيات على أن هذه الآية مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة لكانت مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ". أما الزمخشري، فرد النعمة إلى ما سبق من إيواء، وهداية، وإغناء. وعم بعضهم بها جميع النعم. واالفظ - لغة - يحتمل هذا، ففي العربية من الاستعمالات الحسية للمادة: الناعمة الروضة، والتنعيمة شجرة ناعمة الورق، والنعم الإبل والشاء. ومن معاني النعمة: الفرح والمسرة، والإكرام، والحفض، والدعة، والرفاهة، والعطية، واليد البيضاء الصالحة. وتتبع المادة في القرآن، لا يمنع - والله أعلم - شيئاً مما قاله المفسرون، وإن كنا نلمح لها في آية الضحى دلالة خاصة، يوحى بها السياق. وقد التفت "الزمخشري" - كما رأينا - إلى صلتها بما قبلها من إيواء وهدى وإغناء، وبقى ملحظ آخر، وهو ما تعلق بالنعمة: "فحدث" وفيه ما يوجه إلى دلالة خاصة للنعمة في هذه الآية. قال المفسرون في التحديث بالنعمة: إنه شكرها وإشاعتها، واحتاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 جماعة - منهم الزمخشري والفخر الرازي وتابعهما الشيخ محمد عبده - فذكورا في التحدث بنعمة الله "أنه إنما يحسن حين لا يكون ذلك عن رياء أو تشبه بأهل السمعة". وهو احتياط في غير موضعه، فماذا كان يظن به - صلى الله عليه وسلم - أن يقول في التحدث بنعمة الله مما يشتبه بالرياء والسمعة؟ ومن أي السبل يمكن أن نتصور احتمال الرياء والتشبه بأهل السمعة، ممن اصطفاه الله تعالى خاتماً للنبين، وقال فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ؟ وحمل التحدث هنا على الشكر، إذا سمح به الاستعمال اللغوي، فإن السياق لا يعين عليه، وإنما التحدث هنا، هو صريح ما تعلق به مما يتصل بمهمة الرسول التي اصطُفى لها، وهو أن يبلغ رسالة ربه. ومن هنا نؤثر أن تكون النعمة هنا، مهما يكن من دلالاتها المعجمية اللغوية، هي الرسالة، أكبر النعم التي يؤثر بها نبي مرسل. وقد التفت "الرازي" إلى ملحظ، يتصل بترتيب الآيات الثلاث الأخيرة في السورة، ولكن على غير الوجه الذي ذكره الشيخ محمد عبده فيما نقلنا له من قول. ففي الآيات الثلاث، قدم الله النهي عن قهر اليتيم، ونهر السائل، على التحدث بنعمته تعالى، ويقول الرازي في ذلك "إن الله أخر حق نفسه وهو الشكر، وقدم حق اليتيم والسائل، لأنه غني وهما محتاجان، وتقديم حق المحتاج أولى"، كما لحظ اعتباراً آخر، وهو: "أنه تعالى وضع في حظهما الفعل، ورضى لنفسه بالقول" يعني التحدث بنعمته. ولا بأس بالملحظين كليهما. وقد نرى في ترتيب الآيات، أنع تعالى، نبه رسوله الكريم إلى أن إصلاح الجماعة، يأنى في المنزلة الأولى من الإعتبار والتقدير، حين أجمل له في هذه الآيات الكريمة من مهمة رسالته: أن تدفع ذل الفاقدين، وقهر اليتامى، وحيرة السائلين، ففي رسالة إصلاح وهداية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحدث بها وتبليغها "فهل عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 سورة الشرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 السورة مكية، نزلت بعد سورة الضحى، واقترنت بها في رواية تقول إن الضحى والشرح سورة واحدة لما يبدو من المناسبة في سياق تعدد النعم، بين قوله تعالى في سورة الضحى: ألم يجدك يتيماً فآوى. . . وقوله في الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. . . ورده "النيسابورى" قائلاً: "وفيه ضعف، لأن القرآن كله في حكم كلام واحد. . . على أن الاستفهام في الضحى وارد بصيغة الغيبة، وفي الشرح بصيغة المتكلم، وهذا مما يوجب المباينة لا المناسبة". ولم يشر الطبري والزمخشري والقرطبي إلى موضوع إقتران السورتين، كما لم يشر إليه علماء القراءات. وقال الشيخ محمد عبده: "السورة مكية عند الجمهور، بل زعم بعضهمأنها تتمة لسورة الضحى، وعلى هذا تكون المنة بشرح الصدر، مبنية على عود الوحي والتبشير بما جاء في سورة الضحى". قوله: إنما مكية عند الجمهور، يشعر بأن من المفسرين من ذهب إلى كونها مدنية، وقد قال "البقاعى" إنها مدنية بناء على "ما يفهم من التقرير بشرح الصدر وما بعده. وهذا إنما كان بعد ظهور القوة، وبعد أن فتح الله على المسلمين ما فتح عليهم، وأكمل لهم النعمة بغلبة حقهم على باطل خصومهم". ويرد على هذا، أن في كثير من السور المكية، ما يقرر قوة المسلمين، وغلبة حقهم على باطل خصومهم. وجاءت السورة في بعض التفاسير مثل الطبري باسم "ألم نشرح" وفي تفاسير أخرى: سورة الإنشراح. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأكثر المفسرين على أن الشرح هنا هو الفسحة والبسط والتوسعة، وهو قريب من الصل اللغوي للفظ الشرح، لكن المفسرين زادوه تفصيلاً ببيان ما كان من هذا الشرح، فقال الطبري: "إنه الشرح للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق. . . وجعلنا صدرك وعاء للحكمة". وقال الومخشري: "شرحنا لك صدرك، فسحناه حتى وسع هموم النبوة، أو حنى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم. أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل". وقال الشيخ محمد عبده: "وقد شرح الله صدر نبيه بإخراجه من تلك الحيرة التي كان يضيق لها صدره، بما كان يلاقيه في سبيله من جمود قومه وعنادهم". وهي معان متقاربة ومقبولة، على أن من المفسرين، كالنيسابورى، من أضاف إليها معنى مادياً، فساق في تفسير الشرح أحتمال أن تكون فسحاً حقيقياً لا مجازياً - للصدر، "لما يروى من أن جبرائيل أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علماً وإيماناً". وجاء مثل هذا في "البحر المحيط" عن إبن عباس. وكان ينبغي لمثل هذا التأويل، أن ينظر فيه إلى آيات شرح الصدر في القرآن، لنرى هل هي خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام، فتتعلق بالمروى في السيرة عن شق الملائكة صدره، أيام كان طفلاً ببادية بني سعد؟ أو أنها أقرب إلى الشرح المعنوي للإيمان والهدى؟ و"الراغب" اتجه إلى قريب من هذا، حين ضم آية الضحى إلى قوله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} بسورة طه، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} بآية الزمر 22، وتمامها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . ثم اطمأن بها إلى أن "شرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه". وآية طه خاصة بموسى عليه السلام، وبعدها" {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} . وآية الزمر نزلت فيمن "شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" ولا مجال لقول بشق الصدر وانتزاع القلب ثم غسله وتطهيره، مما ذكر النيسابورى وأبو حيان، عن إبن عباس، في تأويل آية الشرح. وفي القرآن الكريم من آيات شرح الصدر. غي ما ذكره الراغب آيتا: النحل 106: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . الأنعام 125: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} . والآيات الخمس مكية. والشرح فيها جميعاً للصدر. وقد افترنت بالنور في آيتي الزمر والأنعام، وباليسر في آيتي طه والشرح، ومع اليسر في الأولى حل العقدة من اللسان، وفي الثانية رفع الوزر. وقوبلت فب "آية النحل" بغفلة الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وفي "الزمر" بقسوة القلب والضلال المبين، وفي "الأنعام" بضيق الصدر وحرجه ورجس الكفر ...... وهذا التتبع، يزيدنا بعدا عن المعنى المادي لشرح الصجر، ويجعلنا أكثر طمأنينة إلى أنه هدى الإيمان ونور الحق وراحة اليقين والسلام النفسي. وشرح الصدر للكفر، في سياق الوعيد بآية النحل، شاهد بأن الأمر فيه معنوي خالص ...... * * * وكونه طمأنينة نفس، وهدى إيمان، وارتياحاً إلى اليقين، يجعلنا نتردد في تفسير الصدر هنا بالجارحة كما ذهب النيسابورى، أو أنه "قوي الشهوة والهوى والغضب" ونحوها مما عده "الراغب" ..... لنحتكم في هذا إلى اتلقرآن نفسه، حيث جاء لفظ {صَدْرً} بصيغة المفرد، عشر مرات، كلها بلا استثناء، إما مع الشرح في الآيات الخمس التي أشرنا إليها، وإما مع الضيق والحرج في آيات: هود 12: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} . الأعراف 2: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . الحجر 97: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} . خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومعها آية الشعراء، حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} 12، 13. واألأنعام 125: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . وجاءت {صُدُورِ} جمعاً في آيات كثيرة، منها ما اقترن بالشفاء {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} التوبة 14، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أو وسوسة الشيطان في آية الناس: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} . وبالغل في آيتي الأعراف 43 والحجر 47: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . والحصر، في آية النساء: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 90. والرهبة، في آية الحشر: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} 13. وليس شيء من هذا كله، بالذي يجنح إلى معنى مادي كشق الصدر الذي هو جارحة. ولا مجال معه، لتزيد لا يحتمله صريح السياق، مما أفاض المفسرون في ذكره من علوم وحكمة ..... ، وهذه آيات القرآن جميعاً في الصدور، لا تأذن لنا في مثل هذا التزيد، وهي في سياق الإيمان والهدى ونور الله والشفاء، أو الضيق والحرج والعسر والطمس والضلال والغل ...... * * * وتكلم مفسرون عن الاستفهام في الآية. قال الزمخشري: "إنه استفهم عن انتقاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك". على ما بين تأويله، ونص الآيات المحكمات من تفاوت بعيد دقيق، يدرك الإعجاز البياني فيه ولا يوصف، وبحسبنا أن نضع عبارته في التأويل تجاه الآية، لندرك بعد ما بينهما. وإذا لم يكن بد من توجيه الاستفهام في الآية، فهو على وجه التقرير كما قال أبو حيان، لا الإنكار كما ذهب الزمخشري. والتفت بعضهم كذلك إلى نون المضارعة في "شرح" فذكروا أن "فائدة العدول من المتكلم إلى الجمع، إما تعظيم حال الشرح، وإما الإعلام بتوسط الملك جبريل في ذلك الفعل"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وهو ما لا نقف عنده طويلاً، فلسي تحدث الله جل جلاله عن ذاته بصيغة الجمع، بالأمر الذي يوقف عنده أو يتأول له وسيط ثان يسوى الصنعة اللغوية في العدول عن الواحد إلى الجمع في "نشرح" والشارح هنا هو الله جل جلاله، رب السموات والأرض وما بينهما، وإن أحدنا، معشر العباد، ليتحدث عن نفسه بصيغة الجمع فلا نتكلف وسيطاً ثانياً يسوغ هذا العدول من الواحد إلى الجمع!! وقيل في {لِكِ} هنا، إنها زيادة يستقل المعنى بدونها!! وفائدة زيادتها "أنها لإيضاح بعد إبهام، كأنه قيل: {أَلَمْ نَشْرَحْ} ففيهم أن ثم مشروحاً، ثم قيل {لِكِ} فأوضح ما علم مبهماً .... وكذلك، في: {لَكَ ذِكْرَكَ} و {عَنْكَ وِزْرَكَ} . ومقتضى هذا التأويل، الوقف عند نشرح - ووضعنا، ورفعنا - لتأتي {لِكِ} بعدها فتوضح الإبهام. ولا نعلم أحداً من القراء قرأها بالوقف، بل الإجماع على قراءتها وصلاً. ثم إن الإيهام فيه - إن جاز القول به - يرتفع حتماً بقوله: {صَدْرِكَ} دون حاجة إلى {لِكِ} وكذلك يتضح الإبهام في الآيات بعدها بكاف الخطاب في {وِزْرَكَ، ذِكْرَكَ} . و"النيسابورى" خانه التعبير، فتأول وضع {لِكِ} هنا بالإقحام، على ما لهذا اللفظ، في الحديث عن القرآن الكريم، من جفوة وغلظ، وعنده أن "فوائد إقحام، لك: الإجمال ثم التفصيل، وإرادة الاختصاص، أو كونه أهم". والأمر أبسط وأوضح من أن نتعثر في تأويله، فمن مألوف البيان العربي أن يأتي بمثل هذا الأسلوب، لا عن زيادة أو إقحام، أو إرادة الإجمال ثم التفصيل، وإنما للتقرير وتأكيد الاختصاص وتقوية الإيصال. وأظن أن هذا هو ما لمحه الشيخ محمد عبده حين قال: "والإتيان بالجار والمجرور - لك، وعنك - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وتقديمه على المفعول في الآيات الثلاث، لزيادة التقرير والإسراع بالتبشير". ومثل هذا مألوف في أساليب العربية تقول: أرح لي بالي، وأزل عني شكي وأسمع مني نصيحتي، فلا يقال إن "لي، وعنى، ومنى، مقحمة أو زائدة، وإنما هي ضرورة بيانية اقتضاها المقام. ولنا أن نستأنس هنا بأسلوب القرآن في مثل آيات: طه 25: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} . آل عمران 193: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} . لنطمئن إلى أن ليس في الأمر زيادة لا إقحام! * * * {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} الوضع الحطُّ والإلقاء والطرح زالإسقاط، وأكثر ما يستعمل فيما يثقل ويرهق. استعمل الوضع في الولادة، وليس أثقل من الحمل فيها، وقد جعله الزمخشري" من الاستعمالات المجازية للوضع في (أساس البلاغة) ومنه في القرآن الكريم آيات: آل عمران 36: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} . الأحقاف 15: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} . الطلاق 4، 6: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ...... } {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . فاطر 11: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . ومعها: آية فصلت 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وهذا الملحظ. من وضع المرهق، ولا نخطئه في الاستعمال المجازى للمادة كذلك، في مثل قولهم: وضعت الحرب أوزارها، ووضع عنه الجناية، أسقطها .... وجاء الوضع مع الحرب في: آية محمد 4: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . والنساء 102: {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} . ومع الإصر والأغلال في آية الأعراف 157: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . ومع الوزر في آية الشرح. فشهد هذا التتبع الاستقرائي، على أن الوضع ملحوظ فيه دائماً، التخفف من ثقل مرهق وحمل باهظ. وأصل الوزر: الجبل، وسمى الملجأ وزراً ومنه آية القيامة: {كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} والوزير: الموازر، لأنه يحمل العبء، ومنه في القرآن آيتا (طه 29، والفرقان 35) في {هَارُونَ} وزيراً لموسى، عليهما تاسلام. ونقل الوزر إلى العبء الثقيل: المادي ومنه في القرآن آية (طه 87) في بني إسرائيل الذين أضلهم السامري: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} . وآية (محمد 4) : {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . والمعنوي في الوزر الإثم، وجمعه أوزار كالذي في آيات: (الأنعام 31، 164، فاطر 18، الزمر 7، النحل 25، طه 100) ومعها {وَازِرَةٌ} في آيات: (الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18، الزمر 7، النجم 38) والوضع للوزر في آية الشرح، يؤكد ثقل العبء، كما تؤكده الآية بعدها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} . والإنقاض في الاستعمال اللغوي والقرآني - كليهما - هو الحل والانتثار، والتمزق تحت ضغط ثقيل معاناة. ذكر فيه أبو حيان قوله أهل اللغة: {أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل. وسمعت نقيض المرجل أي صريره". ومثله في تفسير: النيسابورى" للآية. وقول الشيخ محمد عبده: {نقيض الظهر، الصوت الذي يحدث فيه لثقل الحما" قريب من قول الزمخشري: "هو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله". ورفض "الراغب" أن يكون الانتقاض هو الصوت، قال: "وحقيقة الانتقاض ليس الصوت، إنما هو الذي يحدث منه الصوت" يعني تحت الضغط والمعاناة. ونؤثر أن يكون الإنقاض من الإثقال الذي يحل الظهر، كي نستبقى للكلمة دلالة الحل التي لا تنفك عن استعمال القرآن لها، مادياً في آية النحل 92 {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} ومعنوياً في تقض العهد: (البقرة 27، الأنفال 56) ، أو الميثاق: (الرعد 20، 25 والنساء 150، المائدة 13) أو الإيمان (النحل 91) . ويبقى تحديد هذا العبء الباهظ الذي يحل الظهر فمن الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، بأن وضعه عنه. وقد ذهب المفسرون في تأويله مذاهب شتى، كقوله الراغب: "هو ما كنت فيه من إصر الجاهلية، وأعفيت منه بما خصصت به، عن تعاطي ما كان عليه قومك" وقال أبو حيان: "كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في اتفاء ذلك" وفي الطبري: "ووضعنا عنك وزرك، أي وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها، وحللنا عنك وقرك الذي أثقل ظهرك فأوهنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ونقل عن "قتادة": "كانت للنبي ذنوب قد أثقلته فغفرها تعالى له. وسمعت الضحاك يقول في آية {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} يعني الشرك الذي كان فيه" والأولى عندنا أن يقال: الشرك الذي كان فيه قومه. وقيل: ما أثقل ظهره لما صدر عنه من بعض الصغائر قبل النبوة، ولما جهله من الأحكام والشرائع، أو لما كان تهالك عليه من إسلام أولى العناد ..... وقيل المراد بالوزر أعباء الرسالة ..... وقيل: الحيرة التي كان فيها قبل المبعث. وصرح الشيخ محمد عبده بأن "الكلام على التمثيل، فإن ما كان يحمله عليه السلام من ثقل الإهتمام بشأن قومه، وضيق المذاهب بين يديه قبل تواتر الوحي عليه بالإرشاد، لم يكن ثقلاً حسياً ينقض منه الظهر، ولكنه كان هماً نفسياً يفوق ألمه ألم ذلك الثقل الحسي الممثل به، فعبر عن الهم الذي تبخع له النفوس بالحمل الذي تقصم له الظهور". وهو ما نستريح إليه، ونؤيده بما ذكرنا في تفسير آية الضحى: "وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} فالوزر في الآية هو من: ضلال الحيرة وعدم الاهتداء إلى سواء السبيل، حتى هداد الله ووضع عنه ذلك الوزر الذي بلغ من فداحة ثقله أن أنقض ظهره، لفرط ما كان يشعر به قبل المبعث من وطأة الحيرة، وصلال السبيل إلى الحق الذي تطمئن به نفسه. * * * {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} . الرفع في اللغة الإعلاء، يكون حسياً مادياً كرفع البناء ورفع القواعد، ومنه في القرآن من الاستعمال الأول مثل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} . ثم يكون معنوياً مجازياً كارتفاع الدرجة والمنزلة .... مثل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أما الذكر فهو استحضار ما أحرز بالحفظ، وقال "الراغب" في المفردات: "الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان. وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر عن إدامة حفظ". وفي تفسير الطبري: "يقول: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فلا اذكر إلا ذكرت معي. وبنحو ذلك قال أهل التأويل. قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" - ومثله في (البحر المحيط لأبي حيان) . وفصله "الومخشري": "قرن ذكر الرسول بذكر الله في كلمة الشهادة، والأذان، والإقامة، والتشهد، والخطب، وفي غير موضع من القرآن: والله ورسوله أحق أن يرضوه .... ومن يطع الله ورسوله ...... وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفي تسمية: رسول الله ونبي الله"، ثم أضاف: {ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم العهد أن يؤمنوا به". وهو بنصه ما في غرائب النيسابورى. واختار الشيخ محمد عبده من هذا كله: "أن الله هداه إلى إنقاذ أمم كثيرة من رق الأوهام وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة السليمة .... هذا إلى ما فرض الله من الإقرار بنبوته والإعتراف برسالته بعد بلوغ دعونه، وجعلها شرطاً في دخول جنته". واتلأقوال متقاربة، يمكن أن ترد جميعاً إلى ما رواه "الطبري" من أقوال أهل التأويل. ونضيف إليها من الملاحظ البيانية للذكر المرفوع، أن كلمة الذكر تضاف، أكثر ما تضاف إلى اسمه تعالى ظاهراً: ذكر الله، ذكر ربك ..... أو إلى ضميره جل شأنه: (ذكرى) وفي القرآن منها ستة مواضع، كلها لله جل جلاله (الكهف 10، طه 14، 42، 124، المؤمنون 11، ص 8) و (ذكرنا) مرتين كلتاهما لله تعالى: الكهف 28، النجم 29. وجاء الذكر معرفاً بأل، بمعنى الوحي أو القرآن الكريم، في الحجر 6، 9، ص 8، القمر 25 فصلت 41، النحل 44، الفرقان 18، يس 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وهذا مما يضفى على كلمة الذكر جلالاً ورفعه، لكبرة ما تفترن بذات الجلالة، أو تضاف إلى ضميره جل شأنه، أو يقصد بها القرآن والوحر. فإذا قال الله لعبده ورسوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بلغ بهذا أقصى المدى من الإيناس والرفعة، لما يخف بلفظ الذكر من علو قدر. وتسغى النبوة عن تحديد هذا الرفع للذكر بكذا وكيت مما عده أصحاب التأويل، فحسب محمد أن اصطفاه الله رسولاً، ليكون له من هذا الاصطفاء ما يجاوز كل مطمح لبش يتيم عائل، إبن امرأة من قريش تأكل القديد. ولهذه البشرية التي قررها القرآن أصلاً من أصول العقيدة، حسابها في تقدير ما للنبوة هنا من رفعه ذكر وجلال قدر، وهي حسبنا، في فهم آية: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} على هدى ما رأينا من كثرة إقتران الذكر في القرآن بالله جل جلالة، واطراد استعماله - معرفاً بأل - علماً على القرآن الكريم والوحي المنزل. * * * {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . في الفاء هنا، مع معنى الترتيب دلالة السببية، فهي تقرر مل يترتب على ما سبق بيانه من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر. وهذا التقرير يأتي مؤكداً بإن، ثم يقوى التأكيد فيه بتكرار الجملة مرتين نفياُ للشك وتقوية للإيناس. والبلاغيون يعدون التكرار، من الإطناب الذي يزيد على المساواة، ويلفتنا من البيان القرآني، أن التكرار يأتي في قصار السور - ومنه القدر، والتكاثر، والكافرون، والناس - حيث لا مجال في مثلها لقول بالإطناب، ولا يكون التكرار إطناباً مع حاجة المقام إليه. وسورة الشرح قد نزلت مباشرة بعد الضحى التي جاءت على فترة من الوحي، فالتكرار فيها يرسخ في نفس المصطفى الطمأنينة إلى رعاية ربه عز وجل، ويؤنسه - صلى الله عليه وسلم -، إلى ما يستقبل من أمره. وسياق الآيات في الاستفهام التقريرى، وتقوية الإيصال بـ "لك، عنك" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يمهد لهذا التقرير الجازم الحاسم لكل شك، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. ومن المفسرين، من التفت إلى استعمال "مع" هنا بدلاً من: بعد، أو ما أشبهها مما يفيد التفاوت الزمني. قال الزمخشري: "إن "مع" للصحبة، ومعنى اصطحاب اليسر والعسر أن الله أراد أن يصيبهم - يعني المؤمنين - بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية وتقوية القلوب". وهو ملحظ دقيق، وإن كان التعبير عنه قد أعوزته الدقة في موضعين: قوله: يصيبهم، في مقام البشرى، دون ضرورة بيانية تقتضيه، كما أن الآية تقوية للرسول بخاصة، لا للمؤمنين بوجه عام. والسياق قبلها وبعدها. يجعل هذا التخصيص أولى بالمقام. وقوله: حتى جعل اليسر كالمقارن للعسر. وقريب منه قول، النيسابروى: "جعل الزمان القريب كالمتصل والمقارن زيادة في التسلية وقوة الرجاء" والشيخ محمد عبده: "والتعبير بالمعية لتوثيق الأمل بأنه لابد منه، كأنه معه". والأولى إسقاط كاف التشبيه، وفهم الآيتين على أن اليسر مقترن بالعسر إذ تفيد "مع" المصاحبة، لا التشبيه. والتفتوا كذلك إلى تعريف العسر وتنكير اليسر في الآيتين كلتيهما. ورووا في ذلك حديثاً على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن يغلب عسر يسرين". فسره الفراء والزجاج: "العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود سابق قينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئاً واحداً، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكأن أحدهما غير الآخر ..... " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وفي البحر المحيط: "وقيل: مع كل عسر يسران، من حيث إن العسر معرف بالعهد، واليسر منكر، فالأول غير الثاني". وزيفة "الجرجاني" قال: "من المعلوم أن القائل إذا قال إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً، لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان". وتوسع النيسابورى في افتراض إحتمالات شتى: إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد، لزم اتحاد العسر في الصورتين، وأما اليسر فمنكر، فإن حمل الكرلا الثاني على التكرار مثل {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ونحوه، وكان اليسران واحداً، وإن حمل على أنه جملة مستأنفة، لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكراراً والمفروض خلافه. وإن كان المراد بالعسر المعهود، فإن كان المعهود واحداً وكان الثاني تكراراً كان اليسران أيضاً واحداً، وإن كان مستأنفاً كانا أثنين وإلا لزم خلاف المفروض. وإن كان المعهود أثنين فالظاهر إختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفاً بلام العهد فهو واحد، والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس، إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايراً للأول لعدم لام العهد، ولعل هذا معنى الحديث، إن ثبت والله أعلم ورسوله، فإن لم تثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر وإختلاف اليسر، وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الله". والذي في جمهرة التفاسير لا يكاد يخرج عن هذه الإحتمالات والإفتراضات التي تقصاها النيسابورى. وقد ذهبوا في تأويل اليسرين، بأنهما يسر العاجل، ويسر الآجل، قيل إنع ما تيسر لهم من الفتوح في أيام الرسول والخلفاء الراشدين، وقيل هو يسر الآخرة. والأمر فيما نرى أوضح من أت نتكلف له هاتيك التأويلات المعقدة التي يغيب فيها وجه البيان لنصل آخر الأمر إلى أن يسرين لا يغلبهما العسر الواحد. أو أن الآية الثانية استئناف، "فيكون معناها أهم من سابقتها"!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والذي نطمئن إليه، هو أن الآية الثانية تأكيد للأولى، لتقوية اليقين النفسي وترسيخ ما من الله به على عبده من شرح صدره ووضع وزره ورفع ذكره. والراجح أن "ال" في العسر، للعهد لا للاستغراق، والمراد، والله أعلم، ما كان الرسول يشعر به من ضيق الصدر وثقل البء في مواجهة الوثنية العاتية الراسخة. أما تنكير يسر، فلكي ينفسح فيه مجال التصور والإطلاق فيحتمل ما قاله المفسرون وما لم يقولوه، إذ التحديد هنا بكذا أو كيت من مفهوم اليسر، ينافي البيان القرآني الذي آثر إطلاق "يسر" بغير قيد ولا حد. والعسر أشد المشقة والمكابدة. وقد استعملت العربية العسر مادياً حسياً في أشد الضيق: فالعسر الناقة لم ترض، وعسرت المرأة ولادها، وعسرت الغريم إذا طلبت منه الدين على عسرته. ويأتي في القرآن وصفاً لليوم الآخر في شدته على الكافرين في آيات: القمر 8: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} . المدثر 9: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} . الفرقان 26: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} . كما استعمله في حالات الشدة البالغة والعنت القاسي في آيات: الليل 10: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . الطلاق 6: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . الطلاق 7: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} . التوبة 117: {وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} . الكهف 3: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وفي إرهاق المدين حين يطالب بالدين وليس معه مال: البقرة 280: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . وكثيراً ما يأتي اليسر في القرآن نقيضاً للعسر كما في آيات (الطلاق 7، البقرة 185، 280، المدثر 9، الليل 7، 10) و "الراغب" فسر كلاً اللفظين بأن أحدهما نقيض الآخر، واللغويون أيضاً فسروا العسر بنقيض اليسر، والمعاسرة ضد المياسرة، والمعسور ضد الميسور، والعسرى نقيض اليسرى. كما أطلقت العربية اليسر على الغنى، فقالوا أيسر الرجل إذا أستغنى، كما قالوا تيسر الأمر إذا سها وتهيأ على راحة وبلا معاناة. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} . {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} . وهذا القدر يكفينا في فهم ما يوحي به لفظ العسر عن ضنك وضيق وعنت، وإدراك الوقع القوي العميق لكلمة "يسر" في هذا المقام، بما تحمل هذه الكلمة من معاني الإرتياح والسهولة والفرج، على الإطلاق. * * * {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} الفراغ في اللغة هو الخلو بعد امتلاء. يكون مادياً حسياً مثل: فرغ الإناء أي خلا بعد إمتلاء، ويكون معنوياً مثل: فرغ البال أي خلا مما كان يشغله، ومنه الآيات: القصص 10: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} الأعراف 126: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} . والبقرة 250: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وفرغ للأمر توفر له وأخلى نفسه من كل ما عداه. ومنه آية الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} . وإذا، ظرف لما يستقبل من الزمان. والفاء - فيها، وفي: فانصب - ملحوظ فيها إلى جانب المسببية، الترتيب الذي يأتي على التعاقب. فالفراغ متصل السبب بما سبقه من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر. كما يتصل به من ناحية أخرى، ما بعده من نصب. والنصب ملحوظ فيه معنى الجهد والتعب، والقيام أو الشخوص. وكلا المعنيين - التعب والشخوص - أصيل في المادة، يقال: هم ناصب، أي مرهق مجهد. والحرب مناصبة، أي مجاهدة وعداء. ونصب العلم: أقامة شاخصاً، ونصب حول الحوض نصائب. وهي حجارة تكون عضداً له. والأنصاب الحجارة الشاخصة، كانوا ينصبونها ويصبون عليها دماء الذبائح، واحدها نُصْبٌ ونُصُب. ونصبته للأمر حميلته عبئه، ومنه المنصب يحتمل المرء عبئه ..... ومعنى الشخوص والإقامة. أوضح في آية الغاشية 19: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} . ومعنى التعب والجهد متعين في آيات: الكهف 62: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} . التوبة 120: {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} . فاطر 35: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} . ومعها: الحجر 48. والضمير في آيتي فاطر والحجر عائد على الجنة، حيث لا يمس المؤمنين فيها نصب ولا لغوب. ويبدو من صنيع "الراغب" أنه يميل إلى تفسير آية الشرح. بأن النصب فيها من النصيب، أي القسم المنصوب الشاخص، قال: "والنصيب الحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المنصوب أي المعين، قال تعالى: أم لهم نصيب من الملك، نصيباً من الكتاب، فإذا فرغت فانصب." "والراغب" يلتفت إلى ما في معنى النصب من الشخوص. ونؤثر أن نلتفت إلى ما فيه كذلك من معنى الجهد والتعب، مستأنسين بكل الآيات التي ورد فيها "النصب" حيث لا نخطئ فيها جميعاً معنى الجهد والتعب. وبالتعب فسرها النيسابورى والشيخ محمد عبده. وبالإجتهاد والمتابعة والمواصلى فسرها الزمخشري. والآية لم تحدد مم يكون هذا الفراغ وفيم يكون النصب، إكتفاء بدلالة السياق، وجرياً على مألوف البيان القرآني في السكوت عن التحديد في مقام الإطلاق. لكن المفسرين، على عادتهم، أبوا إلا أن يحددوا متعلق الفراغ والنصب، وقد جاءوا بأقوال منها: * إذا فرغت من صلاتك فانصب إلى ربك في الدعاء وقضاء حاجاتك. * إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك. * إذا فرغت من أمر الدنيا فانص، أي فصل. وقد سرد الطبري هذه الأقوال الثلاثة، ثم عقب عليها بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال إن الله تعالى أمر نبيه أن يجعل فراغه من كل ما كان مشتغلاً به من أمر دنياه وآخرته (؟) إلى النصب في عبادته. ولم يخصص بذلك حالاً من أحوال فراغه جون حال، فسواء كل أحوال فراغه من صلاة أو جهاد أو أمر دنيا كان به مشتغلاً، لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوصحال فراغ دون حال أخرى" واختار الزمخشري: "فإذا فرغت من عبادة فأتبعها أخرى" وهو ما في تفسير الشيخ محمد عبده، مع مزيد تفصيل وإطناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويتعين أن نصل الآية {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} بسياق الآيات قبلها، بحكم وجود "الفاء" الرابطة للآية بما قبلها. الآية مسبوقة بتأكيد اليقين بأن هذا العسر يصحبه يسر لا محالة، والله منجز وعده لا ريب، وسيعقب هذا ما يعقبه من فراغ البال من الحيرة والضيق والكرب والضنك، بعد إذ من الله على عبده بأن شرح له صدره ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ورفع له ذكره. فإذا لم يكن بد من تحديد متعلق الفراغ، فلسنا بحيث نطمئن إلى شيء فيه، غير ما سبقت به الآيات المحكمات: وهو أنه سبحانه قد أفرغ بال رسولع مما كان يجهده من حيرة ويثقله من وزر ينقض الظهر ...... هو فراغ اليسر بعد العسر، والراحة النفسية بعد الشدة والكرب، فلينصب المصطفى لتكاليف رسالته وأعباء منصبه، بلاغاً لرساله ربه، وجهاداً في سبيلها. * * * {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . الرغب الميل والإرادة، يقال رغبت في الشيء إذا أردته وملت إليه، ورغبت عنه إذا لم ترده وزهدت فيه. وربما كانت "السعة" أصلاً في المادة، كما قال "الراغب". فالحوض الرغيب: الواسع، والسقاء الرغيب كذلك، وفرس رغيب العدو أي واسع الخطو في عدوه، والرغب والرغبى السعة في الإرادة، والرغبة والرغيبة العطاء الواسع الكثير. ومن ملحظ الميل إلى ما هو واسع ورحب، في الحوض وعدو الفرس والعطاء، أضيف إلى السعة معنى الميل والإرادة، فكانت الرغبة في الشيء الميل إليه وإرادته، والرغبة عنه الإنصراف عنه والزهد فيه. وقد تزداد الرغبة فتطلق على الشره، ومنه قولهم "الرغب شؤم" يعنون الشره. وفي الاستعمال القرآني، تأتي الرغبة في السياق الديني في مثل آيات: البقرة 130: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} . مريم 46: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 التوبة 59: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . القلم 32: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} النساء 127: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} . التوبة 120: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} . وجاء الرغب مع الرهب في آية الأنبياء 90: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . وجاءت في غير السياق الديني، بمعنى الميل القوي. والملحظ البياني في قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} هو في تقديم {وَإِلَى رَبِّكَ} على الفعل أرغب، وهو أسلوب بلاغي يفيد القصر والتخصيص، والإمام الطبري يقول: {أجعل رغبتك إلى ربك دون من سواه من خلقه إذا كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد". وقال النيسابورى: "وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمول لا إلى غيره، يعطك خير الدارين". وقال الشيخمحمد عبده: "لا ترغب إلى أحد في استثمار أعمالك إلا إلى الله وحده". والآية ربطت بما قبلها بواو العطف، فلزم أن يكون التخصيص في "وإلى ربك فأرغب" مرتبطاً بما قبله، متصلاً به. ووصل الآية بما قبلها، هو الذي يطرد به النسق وتتم وحدة السياق في السورة كلها فتتعلق رغبة المصطفى بالله وحده، الذي أفرغ بال رسوله مما كان يشغله من ضيق الصدر، ووضع عنه الوزر الذي أنقض ظهره، وبشره بيسر قريب، على وجه الذي لا شك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 سورة الزلزلة بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 السورة في وصف اليوم الآخر. وهي مدنية مبكرة، سادسة السور المدنية على المشهور في ترتيب النزول. وثمة قول بأنها مكية، عن مجاهد وإبن عباس، وعن الضحاك وعطاء. ومعروف أن عناية القرآن الكريم أتجهت في العهد المكي إلى تقرير أصول الدعوة وفي العهد المدني إلى التشريع وبيان الأحكام. ولا يعني هذا أن تخلو السور المكية من أحكام تشريع، ولا أن تخلو المدنية من أصول عامة للعقيدة، مثل سورة الزلزلة التي نستأنس لها بنظائرها من السور المكية في اليوم الآخر، مثل سور: الذاريات، التكوير، الإنفطار، الإنشقاق، الغاشية، القارعة، التكاثر، العاديات، الفجر، النازعات، النبأ، المرسلات، القيامة، المعارج، الحاقة، الواقعة .... ومن الملاحظ البيانية العامة في هذه السور: * أن آياتها قصار، وهذا القصر ملحوظ فيه القوة والجزم، بما يلقى في نفس السامع من جدية الموقف الحاسم وخطره، بحيث لا يحتمل الإطالة والتأني ..... * وفيها مع ذلك، ظاهرة التكرار. والتكرار مألوف في مواقف الإطناب والإطالة، لكنه حين يأتي في مواقف الإيجاز الحاسمة، يكون لافتاً ومثيراً، ففي سورة الزلزلة، على إيجازها وقسر آياتها، نجد التكرار في ثمانية مواضع. وذه ظاهرة أسلوبية في القرآن الكريم، يعمد لإيها إلى التكرار مع الإيجاز والقصر، ترسيخاً وتقريراً وإقناعاً. والدارسة النفسية قد انتهت بعد طول التجارب، إلى أن مثل هذا الأسلوب هو أقوى أساليب الترسيخ والإقناع، وأشدها إيحاء بالحسم والجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والألفاظ المختارة لموقف القيامة، بالغة الإثارة قوية الوقع إما بعنفها كالزلزلة، والرج، والدك، والنسف، والرجف، والمور، والصيحة والإنشقاق، والطامة، والغاشية، والواقعة، والبعثرة والانتثار. وإما بدقتها، كمثال الذرة، والهباء المنبث، والعهن المنفوش، والفراش المبثوث، والسراب والدخان ..... * وظاهرة بيانية أخرى مطردة، قل أن نخطئها في أحداث اليوم الآخر، وهي أن القرآن الكريم يصرف الحدث عمداً عن محدثه، فلا يسنده إليه، وإنما يأتي به مبنياً للمجهول، أو مسنداً إلى غير فاعله، على المطاوعة أو المجاز: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً .... } {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} . {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا .... } {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ..... } {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} . {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} . {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} . {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} . وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل، عن الالتفات إلى إطراد هذه الظاهرة الأسلوبية. في أحداث القيامة. وفي منهجنا لا يجوز أن نتأول الفاعل، مع وضوح العمد في البيان القرآني إلى صرف النظر عنه، ولا أن نتعلق بما لم يشأ لنا الكتاب المحكم أن نتعلق به. وقد هدى تدبر هذه الظاهرة الأسلوبية، إلى أن البناء للمجهول تركيز للإهتمام بالحدث، بصرف النظر عن محدثه. وفي الإسناد المجازي أو المطاوعة، تقرير لوقوع الأحاث في طواعية تلقائية، إذ الكون مهيأ للقيامة على وجه التسخير، والأحداث تقع تلقائياً لا تحتاج إلى أمر أو فاعل. * * * {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} . الزلزلة في اللغة، الحركة العنيفة والإضطراب الشديد: استعمل في الحسيات، فقيل" زلزل الإبل ساقها بعنف حتى يضطرب سيرها. وتزلزت الأرض، أهتزت وإرتجفت. ثم استعمل في الشدائد والأهوال. وربما كان الأصل فيه: زلت الصفاة، أي ملست حتى تنزل القدم عليها مضطربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وفي القرآن الكريم، وردت المادة، فعلاً ومصدراً ست مرات: ثلاثاً منها في وصف يوم الهول الأكبر، في آية الزلزلة، وآية الحج 1: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . وثلاثاً في وصغ موقف الشدة القاسية والذعر البالغ في هول الحرب بآيات: الأحزاب 11: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً} . البقرة 214: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} . وفي المرات الثلاث التي استعمل فيها الفعل، جاء ماضياً مبنياً للمجهول. قال مفسرون: إن الفاعل حذف للعلم به، غير ملتفتين إلى أنها ظاهرة أسلوبية مطردة في أحداث اليوم الآخر، وقد شغلهم الصنعة البلاغية، عن الالتفات إلى ما في القرآن من أفعال لاتحصى، بنيت للمعلوم مسندة إلى الله تعالى، مع العلم بالفاعل يقيناً، فهو سبحانه خلق السموات والأرض، ونزل القرآن على عبده، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، والله يروق من يشاء بغير حساب، ويعلم الغيب، والرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان ..... مما يؤنس إلى أن العلم بالفاعل ليس هو السر البياني في بناء {زُلْزِلَتِ} للمجهول، وإنما هي كما قلنا آنفاً، ظاهرة أسلوبية تطرد في مثل هذا الموقف، تركيزاً للإهتمام في الحدث ذاته، وإيحاء بأن الأرض تزلزل عن طواعية، وإستجابة لتسخير تلقائي ...... ومجيء الفعل ماضياً، تقرير لأنه حادث فعلاً. وقد صدر بإذا، فصرفته إلى المستقبل دون أن يفقد التعبير أثره الذي يوحى به استعمال الماضي، بدلاً من المستقبل الصريح. على أن المباغتة في {إذا} لها اثرها في هذا الموقف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وهذه أيضاً ظاهرة أسلوبية، تسيطر على الحديث عن اليوم الآخر، الذي يأتي بغتة، إمعاناً في الترهيب، على ما سوف نفصله عند تفسير آية النازعات: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . وندع لغيرنا من المفسرين، أن يشتغلوا بتسوية الصنعة الإعرابية، فيلتمسوا عاملاً مضمراً في إذا، تقديره عند بعضهم: اذكر، وعند آخرين: تحشرون. أي: يوم تزلزل الأرض زلزالها تحشرون. لأن سر البيان وراء كل هذا، ولأن مناط القوة في التعبير هو بغتة المفأجاة، وتأكيد الحدث، وصرف الذهن إليه، ولا شيء من ذلك يتعلق بما شغلوا به من تأول وتقدير ....... وقرأ الجمهور {زِلْزَالَهَا} بكسر الزاى وهي قراءة الأئمة السبعة، وفي قراءة بفتحها، والفرق بينهما أن المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية - كما قالوا - فعلال بالفتح إلا في المضاعف. والمصدرية أولى بالمقام، لما فيها من تأكيد يلائم السياق. ويؤيده تعين المصدرية في الآية الأخرى التي استعمل فيها القرآن هذه الصيغة، وهي آية الأحزاب 11: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} . وإضافة الزلزال إلى ضمير الأرض، متسق مع التلقائية الملحوظة في هذه الآية وما بعدها من إخراج الأرض أثقالها وتحدثها أخبارها. وفيها أيضاً لفت إلى المعهود المعروف من الزلزلة. ولا بأس بما قاله الزمخشري هنا من أنه "زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال" وقول أبي حيان: "وأضيف الزلزال إلى الأرض، إذا المعنى زلزالها الي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها ..... ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل، والفقر بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته، واضح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} . جعل الأرض هنا فاعلة. وهي جماد، مضياً في تقرير مطاوعتها، وكونها مسخرة لمثل هذا. والسياق ملتئم مع الآية قبلها، من حيث تركيز الإهتمام على الحدث، دون شغل للسامع بمصدره أو محدثه. وتكرار الأرض هنا مقصود، لترسيخ اليقين، والإقناع النفسي. والأثقال جمع ثقل، وهو الحمل الشديد. واللغويون والمفسرون، متفقون على أن الثقل هنا نقيض الحفة ونص "الراغب" على أن أصل استعماله في الأجسام ثم في المعاني. فمن الأول: أثقلت المرأة فهي مثقل، ثقل حملها في بطنها. ومن الثاني: أثقله الهم والغرم والدين، والوزر. وجاءت "الأثقال" في القرآن في ثلاث آيات: آية النحل 7، والثقل فيها مادي، فيما تحمل الأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . وآية العنكبوت 13، والثقل فيها معنوي: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وآية الزلزلة: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} . فما هذه الأثقال التي تخرجها الأرض إذا زلزلت زلزالها؟ ذهب الزمخشري في (الكشاف) إلى أن الأثقال هي ما في جوفها من الدفائن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والكنوز. ونص في (الأساس) على أن هذا من المجاز، جعل ما في جوفها من الجفائن أثقالاً لها. وفي (البحر المحيط) مما قيل في الآية، أن أثقالها كنوزها وموتاها. ثم رد هذا الكنوز تخرج وقت الدجال (!) لا يوم القيامة، أما الموتى فتخرج يوم القيامة: وأبعدوا في التأول، فجعلوا للزلزال في الآية وقتين: في أولهما أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها! وأكتفى "الطبرسي" في تفسير الأثقال بالموتى. وقال "الراغب": قيل كنوزها، وقيل ما تصمنته من أجساد البشر، عند الحشر والبعث. ولا نقف عندما لم يتعلق القرآن بذكره، بل يلفتنا في إخراج الأثقال هنا ما توحى به من إندفاع للتخلص من الثقل الباهظ، فالمثقل يتلهف على التخفف من حمله، ويندفع فيلقيه حين يتاح له ذلك. والأرض إذ تخرج أثقالخا تفعل ذلك كالمدفوعة برغبة التخفف من هذا الذي يثقلها، عندما حان الأوان. ونستأنس في هذا الفهم بقوله تعالى في سورة الإنشقاق: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . هكذا بغير إنتظار أو تمهل ..... وهل تمسك المثقل حملها حين يأتي أوانه؟ وهل يتردد ذو حمل ثقيل، في إلقائه والتخلي عنه إذا أتيح له ذلك؟ والتأويل بـ: وأخرجت الأرض ما في جوفها، يضيع به هذا الإيحاء المثير، اللافت إلى المعهود من لهفة ذي الحمل الثقيل على التخلي عما يئوده ويبهظه. ويلفتنا أيضاً، إسناد الإخراج مجازاً إلى الأرض، مع {زُلْزِلَتِ} على البناء للمجهول، مضياً في تقرير تلقائية الحدث، كأنه في غير حاجة إلى محدث، وتركيزاً للإنتباه فيه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} السؤال واضح فيه معنى العجب والدهشة، والخوف والقلق والترقب. لكن من المفسرين - كما في الجلالين - من ذهب إلى أن الاستفهام إنكاري. وهو ما لانرى وجهاً له فإن الموقف لم يعد يحتمل الإنكار وقد قامت القيامة فعلاً، بعد أن سبقت بها النذر، وتتابعت بأنبائها رسالات الدين. والإنسان هنا هو الإنسان، على الإطلاق، تروعه الزلزلة العنيفة وما أعقبها من لإخراج الأرض أثقالها، فيسأل في دهشة وتعجب: مالها! لكن عدداً من المفسرين ذهبوا إلى أن {الإنسان هنا هو الكافر، لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون". جاء هذا التأويل في تفاسير (الكشاف، ومجمع البيان، والجلالين) وصرح "أبو حيان" في (البحر) بأن هذا هو مذهب الجمهور، ونص عبارته: "والظاهر عموم الإنسان، وقيل: ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقه: والمؤمن - وإن كان مؤمناً بالبعث فإنه أستهول المرأى ..... قال الجمهور: الإنسان هو الكافر، يرى ما لم يظن". ولسنا نرى وجهاً لتخصيص الإنسان هنا بالكافر، فاللغة لا تعين على هذا التخصيص، والاستعمال القرآني للفظ الإنسان لا يؤيده. ثم هو تخصيص لا يقوى به المعنى، فلأن تكون رجة الزلزلة وهول الموقف، مما يروع الإنسان على الإطلاق، كافراً كان أو مؤمناً، أقوى من أن يقتصر الدهش والعجب على الكافر وحده. ويؤنس إلى هذا الإطلاق والتعميم، قوله تعالى في وصف الزلزلة، في آية الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تذهل كل مرضعة، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس، عاكة الناس، لا الكفار وحدهم! * * * {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} . أي يوم يحدث ذلك، تحدث الأرض أخبارها. وسر التعبير بيومئذ هنا، أنه لفت قوي يستحضر معه السامع ما مضى من وصف اليوم، فلا يتابع ما بعد {يَوْمَئِذٍ} منصرفاً عما قبلها، مستقلاً عنه. وتحدث الأرض، مما وقف المفسرون عنده طويلاً: فالإمام الطبري يذهب إلى أن تحدث الأرض هنا تمثيل. أي أن حالها وما يقع فيها من الإنقلاب غير المعهود، يعلم السائل ويفهمه الخبر. وتابعه على ذلك جماعة منهم الزمخشري إذ يقول في الكشاف: "والتحدث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان". ومثله في تفسير الشيخ محمد عبده لسورة الزلزلة من جزء عم. وذهب آخرون، إلى أن التحدث حقيقة لا مجاز، ففي (سنن إبن ماجه) : "تقول الأرض يوم القيامة: يارب هذا ما استودعتني". وعن إبن مسعود: "تحدث الأرض بقيام الساعة إذا قال اإنسان: مالها؟ فتخبر أن أمر الدنيا قد أنقضى، وأن أمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهم عن سؤالهم". وقال "الطبرسي" في مجمع البيان: "يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها، ويجوز أن يقلبها حيواناً يقدر على النطق، ويجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقام الكلام". وجاء في الكشاف: "وقيل ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خير وشر" ويبدو أن هذا هو ما اطمأن إليه "أبو حيان"، بقوله في البحر المحيط: "الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة، بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً فتشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بما عمل عليها من صالح أو فاسد. وهو قول إبن مسعود والثوري وغيرهما ..... ويشهد له ما جاء في "الترمذي" عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قرأ هذه الآة ثم قال: "أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا. هذه أخبارها" هذا حديث حسن صحيح غريب". والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد الأصم فحسب، بل يجرد منه كذلك شخصية حية، فاعلة ناطقة، مريدة مدركة: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ؟ ق: 30 {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} المعارج: 17 {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} الفرقان: 12 {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} الملك: 7 والتفت المفسرون إلى ما تقتضيه الصنعة النحوية من تقدير مفعول ثان للفعل {تُحَدّث} الذي يتعدى إلى أثنين. وعند أبي حيان أن المحذوف أو لهما، أي تحدث الناس أخبارها. ونرى القرآن قد بينه بما يغني عن اي تأويل: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} . والإيحاء عند "الزمخشري" مجاز، كقوله تعالى: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وقال الطبرسي في مجمع البيان: "أوحى لها، أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وبمعنى الوسوسة، وفيها السر والخفاء، في آيتي الأنعام 112، 121: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} . وقال الشيخ محمد عبده: "الوحي هم الأمر الإلهي الخاص، قال لها: كوني خراباً، كما قال لها عند إيجادها: كوني أرضاً. فهذا أمر من الأوامر التكوينية التي هي تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها". وهي أقوال متقاربة ومقبولة وإن لم يكف تفسير الوحي بالأمر، أو القول، لتبين أثر اللفظ في المعنى، و"الراغب" كان أقرب إلى حس العربية وهدى القرآن حين قال: "الوحي الإشارة السريعة مع الخفاء، فإن كان الموحي إليه حياً فهو إلهام، وإن كان جماداً فهو تسخير". فالعربية قد استعملت الوحي بمعنى السرعة، فقالت: الوحي الوحي، أي البدار البدار. ومن أمثالهم: الموت بالسيف أوحى، أي أسرع وأحسم. ولحظ مع السرعة الخفاه، فقيل وحي إليه، أشار وكلمه سراً. ومن الخفاء والسرعة الملحوظين في المادة، جاء الوحي بمعنى الإلهام بملحظ من خفاء مصدره وسرعة حدوثه. والقرآن استعمل الوحي في خفي الإلهام في: آية الشورى 51: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . وآية القصص 7: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 "وقيل الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل بالأرض تلك الأفعال، واللام في (لها) للسبب، أي من أجلها ومن حيث {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وبمعنى التسخير في آية النحل 68: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} . على أن أكثر استعمال الوحي في القرآن، فيما يلقيه الله إلى أنبيائه. وفي آية الزلزلة، ليس الوحي بمعنى الأمر، لأن الأمر يقتضي توجيه الحديث ويعوزه ما للوحي من دلالة السرعة والخفاء، وإنما الوحي يكفى منه إيداع القوة فيها، مما هو أنسب لجو التسخير والمطاوعة المسيطر على الموقف. وعدى الفعل "أوحى" باللام، وهو ما لفت المفسرين واللغويين، لأن المشهور تعديتها بإلى. ونرجع إلى القرآن الكريم، فنراه استعمل الفهل إحدى وسبعين مرة: في مرتين منها، لم يصرح بالموحي إليه: النجم 4: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . الشورى 51: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . وفي سبع وستين مرة، تعدى الفعل بـ: إلى. ومرة واحدة تعدى بـ: في، بآية فصلت 12: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} وفي آية الزلزلة وحدها تعدى الفعل باللام. قال أبو حيان: وعدى أوحى باللام، وإن كان المشهور تعديتها بإلى، لمراعاة الفواصل ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الأفعال فيها، وإذا كان الإيحاء إليها أحتمل أن يكون وحي إلهام، وأحتمل أن يكون برسول من الملائكة". أما "إبن هشام" النحوي فجاء بالآية شاهداً على أن اللام تأتي موافقة لإلى، كما تأتي موافقة لـ: على، وفي، وعند، وبعد، وعن، ومع، بشواهد على هذا كله من فصيح العربية. ونرجئ النظر فيما قالوا لنتدبر صنيع الفرآن، فيما استقرأنا من مواضع استعماله للفعل، فنرى أن الوحى به يتعدى إليه الفعل بنفسه. أما الموحي إليه، فيتعدى الفعل إليه بحرف إلى، إذا كان من الأحياء، باستقراء الآيات السبع والستين التي جاء الوحي فيها بإلى، ومنها آية النحل 68: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . أما الجماد فلا يتعدى الوحي إليه بحرف إلى، بل بحرف في: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} . أو باللام، في آية الزلزلة: {أَوْحَى لَهَا} : ويلتمس تعيين دلالة الحرف، بالسياقين: ففي السماء {أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي بث فيها، ما به نظامها، فعدى الفعل بـ (في) الظرفية التي تدل على التمكين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . وفي الأرض، عدى الفعل باللام. وقد قال إبن هشام في المعنى: "إن اللام تقوم مقام إلى" واستشهد بآية الزلزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهو مذهب عامة النحاة، ويراه خاصة من فقهاء العربية مبطلاً لحقيقة اللغة: من حيث لا يمكن أن تؤدى وظيفتها في التعبير والبيان، إذا أختلطت الدلالات ولم يتميز حرف عن حرف. وما قالوه، في أن هذا لمراعاة الفواصل، غير مقبول هنا، أو حينما قالوه في القرآن، لأننا لا نسلم، بل لا نعرف أن هذا البيان المعجز، يؤثر كلمة على غيرها لمجرد ملحظ لفظي لا يقتضيه المعنى. ووالقول بأن "الموحي إليه محذوف، أي أوحي إلى ملائكته" معناه أن الموقف يحتاج إلى وساطة لإيصال الإيحاء إلى الأرض. وهو ما يأباه السياق الذي يقتضي عكس ذلك: فمع بناء "زلزلت الأرض" للمجهول، ومع قوة الفاعلية المستفادة صراحة من إسناد الإخراج والتحدث والزلزلة إلى الأرض، لا وجه لتقدير وساطة الملائكة، لإيصال الإيحاء إلى الأرض التي زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وتحدث أخبارها. فالبيان يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق: مالها؟! فاقتضى أن يأتيه الجواب {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} تحدث به الأرض نفسها تلقائياً، فالإيحاء هنا للأرض مباشرة ليلائم إسناد التحدث إلى الأرض، وسر قوته في هذه التلقائية المباشرة على وجه التسخير. ومن هنا كان إيثار التعدية باللام، لما في معنى اللام من اختصاص، وإلصاق، وصيرورة، وتقوية الإيصال، وهي معان عرفها اللغويون أنفسهم فيها، وعدةها فيما عدوا من معانيها التي أحصاعا "إبن هشام" في (مغنى اللبيب) وإن لم يلتفتوا إليها هنا في البيان القرآني، بل قالوا إن اللام تقوم مقام إلى، بشاهد من آية الزلزلة: أَوْحَى لَهَا. * * * {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يومئذ: كرة راجعة إلى ما قبل، يصل بها القرآن مشاهد الموقف، ويرد السامع إلى ما سبق من آيات، ويستعيد ما استقر في خاطره من نذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأكثر المفسريمن على أن {يَصْدُرُ النَّاسُ} هنا بمعنى يخرجون من القبور "الزمخشري" ومنهم من يقول بأن معناها: ينصرفون من موقف الحساب، كما في (تفسير الجلالين، ومجمع البيان للطبرسي) . وتفسير يصدر بـ: يخرج أو ينصرف، يفوته إيحاء الكلمة في حس العربية التي استعملت الصدر مقابلا للورد، والعرب قد ألفوا استعماله كذلك، وجرت أمثالهم بأن الوارد يجب أن يعرف كيف يصدر، وإلا ضاع. قال شاعرهم: وأحرم الناس من لو مات من ظمأ لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا من ثم لا أجد ما يفسر به الصدر في آية الزلزلة، إلا نقيض الورد، لأن في ربطهما سر الدلالة الموحية بأن الحياة الدنيا ليست بدار مقام، وإنما هي رحلة نجتازها ولابد من تأميد طريق العودة والصدر. ولا يمكن أن يغني عن "يصدر" في هذا الموقف، أي لفظ آخر أو يقوم مقامه، إذ تتمثل لهم به الدنيا مورداً يجب أن يؤمنوا الصدر عنه. والقرآن قد استعمل اللفظ نفسه، بصريح مقابلته لورد الماء، في قصة موسى وابنى شعيب بآية القصص 23: "وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ". وبهذه الآية نستأنس في فهم آية الزلزلة على أن الصدر مقابل الورد، وأبو جيان، قد صرح بأن "الصدر يكون عن ورد" وعقب على هذا بقول الجمهور: هو كون الناس في الأ {ض مدفونين، والصدر قيامهم للعبث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وكذلك حام "الراغب" حول ما فهمناه من معنى يصدر، حين جاء بها مقترنة بالصدر عن الماء، لكنه فسرها بعد ذلك بالانصراف فقال: "وإذا عدى صدر بعن، اقتضى الانصراف" تقول: صدرت الإبل عن الماء صدراً، وقال تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا". وقال الشيخ محمد عبده: صدر عن المدينة، أي سافر منها. ثم فسر "يَصْدُرُ النَّاسُ" بقوله: يذهب الناس. ولا نطمئن إلى شيء في تفسير الصدر إلا أنه مقابل الورد: يكون عن ماء كما في آية القصص، وعن الحياة الدنيا كما في آية الزلزلة ولم يستعمل القرآن الصدر إلا في هاتين الآيتين. وكونهم يصدرون "أشتاتاً" أي متفرقين، أدعى للحيرة والخوف والرهبة، إذ مع الجماعة يكون نوع من الأنس والإلف، لا يتاح مثله مع التشتت والتفرق، ولا سيما في موقف الهول الأكبر. وأشتات: جمع شت، والشت والشتات في اللغة التفرق والاختلاف. وقد وردت المادة في خمسة مواضع من القرآن. ثلاثة منها بصيغة شتى: طه 53: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} . الليل 4: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} الحشر 14: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} . والمرتان الأخريان بصيغة أشتات، منصوبة على الحال: آية الزلزلة، والنور 61: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ومعنى التفرق، المقابل للتجمع، واضح في الآيتين، أما شتى غالملحوظ فيها التنوع والاختلاف. وبالتفرق، فسر "الراغب" أشتاتاً في آية الزلزلة، وهو ما يعطيه اللفظ من قرب، وتؤيده آية النور، كما يؤيده أن القرآن استعمل في وصف الموقف نفسه، البعثرة والإنتشار، والبث: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} . {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} . {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} . {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} . ولكن كثيراً من الفسرين، ذكروا في تأويل أشتات أقوالاً بعيدة، لا يعين عليها الحس اللغوي للمادة، والاستعمال القرآني لأشتات، وما يؤنس إليه وصفه للخروج في الموقف نفسه بالبعثرة، كأن الناس جراد منتشر أو فراش مبثوث. فالومخشري يقول في الكشاف: "أشتاتاً: بيض الوجوه أو سود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقاُ الجنة والنار". وأظنه ما يفهم من قول أبي حيان في (البحر المحيط) : "أشتاتاً، جمع شت، أي فرقاً". والطبرسي في (مجمع البيان) يذهب إلى أن أشتاتاً: "يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض: أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة". والشيخ محمد عبده يفسره بأن الناس يذهبون "على اختلافهم، شقيهم وسعيدهم، محسنهم ومسيئهم". وما نرى هذه التأويلات، تعود على المعنى بشيء ذي بال، وإنما تقوي الإثارة والتلاهيب والردع، حين يكون من التشتت بمعنى التفرق والبعثرة والإنتشار، بما تقتضيه طبيعة الموقف من اضطراب، ولما يكون مع التشتت من فقدان الأنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بالجماعة والتماس نوع من الأملن، ولو على سبيل الوهم. في الصحبة والتجمع. وهم يصدرون أشتاتاً {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} . وفي قراءة: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، على البناء للمعلوم، ولكن الجمهور على قراءة الأئمة بالبناء للمجهول، وهي الظاهرة على السياق، تركز الإنتباه كله في الموقف: يصدر فيه الناس أشتاتاً، متقودين إلى الحشر. * * * {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . المثقال ما يوزن به، وقد ورد اللفظ في القرآن ثماني مرات أضيف في اثنين منها إلى حبة من خردل: الأنبياء 47: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . لقمان 16: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} . والسياق في الآيتين يرجح، والله أعلم، أن المقصود بمثقال حبة من خردل هنا، ليس بخفة الوزن، وإنما ضآلة الحجم، وأنها في هذا الكون الواسع لا تغيب على علم الله، رغم كونها لضآلتها وهونها مظنة الخفاء. وفي المرات الست الأخرى، أضيف مثقال ذرة: يونس 61: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} سبأ 3: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . ومظنة الخفاء، لضآلة الحجم، أقرب فيهما كذلك إلى دلالة السياق. على حين تتعين دلالة {مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} على خفة الوزن في الآيات الأربع التالية: النساء 40: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} . سبأ 22: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . وآيتي الزلزلة. ززاضح أن المقصود بالذرة فيهما خفة الوزن، وقد حاول محاولون أن يعينوا مقدار الذرة على وجه التحديد: ففي (لسان العرب) عن ثعلب: "إن مائة منها، وزن حبة شعير". وقال أبو حيان في (البحر) : إنها النملة الصغيرة، حمراء رقيقة. وفي (الكشاف) : "قيل هي النملة الصغيرة، وقيا: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء". ومثله في تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده. الأقوال قربية، ولا شيء منها بموضع إنكار كالذي جاء به محدثون من بدع التفسير العصري، فذهبوا إلى أنه الذرة التي أكتشف العلم سرها في القرن العشرين!! وقد نرى أن تحديد المفسرين للذرة، ليس مراد القرآن ولا هو من مألوف بيانه والعربية قد عرفت الذر في كل ما يمثل الضآلة والصغر وخفة الوزن، تقول: ذررت الملح والدقيق والفتات، نشرته بأطراف الأصابع. والذر الهباء يرى في شعاع الشمس، وبولغ في وصف تناثر النمل الصغير المنبث فقيل: ذر. وفي (لسان العرب) نص صريح على أن "الذرة ليس لها وزن" لفرط صغرها وخفتها. ونؤثر أن نفهمها بحس العربية على هدى البيان القرآني، دون تكلف لتقدير الأوزان والأحجام والألوان. وما فهم العرب، الذين بعث فيهم رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 منهم، قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلا أنه التناهي في الضآلة والخفة والصغر، حتى ليكون من الهباء الذي لا وزن له. وهو ما يلائم، مادياً وبياناً، جو الموقف ونسق السياق، من الزلزلة والإنفجار والتفتيت والتشتيت .... فهم يخرجون أثقالاً، ويصدرون أشتاتاً، ويرون أعمالهم مثقال ذرة من خير أو شر. * * * ونفرغ بعد هذا لعقدة الموقف في {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يأيتي الزلزلة، وما ثار حوله من خلاف قديم بدأ بتساؤل المفسرين من الفرق وأصحاب الكلام: "للقائل أن يقول: إن حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوة بإجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة للخير والشر؟ ". ولكي يحلوا عقدة الموقف المفترض، عملوا إلى تأولات شتى، فقال "الزمخشري" - من المعتزلة - بتخصيص العامل في الآيتين، فالمعنى عنده: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة شراً من فريق الأشقياء". وقال أبو حيان، وهو ممن مالوا إلى الظاهرية: "والظاهر تخصيص العامل - في الخير - أي فمن يعمل مثقال ذرة من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميمه في آية {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} لأنه جاء بعد قوله: {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} وقال إبن عباس: هذه الأعمال في الآخرة، قيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه. فالمؤمن تعجل له سيئاته الصغائر في دنياه، في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه". لكن "الطبرسي" - من الشيعة - في مجمع البيان، ذهب إلى أن "هذه الآية يستدل بها على بطلان الإحباك، فطاهرها يدل على أنه لا يفعل أحد شيئاً من طاعة أو معصية، إلا ويجازى علية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهو ما يبدو أن الشيخ محمد عبده أخذ به فقال: "قيل إنها نزلت لإزالة ما وقع في نفوس كثير من المؤمنين. من أن الخير القليل لا ينظر الله إليه ولا يجازى عليه، وكذلك الصغائر من الذنوب، فأزال شبهتهم وكشف عنهم وهمهم، وعرفهم أن لا شيء من عمل الإنسان يفوته، فالخير يجازى به مهما صغر، والشر يلقى جزاءه مهما نزر". لكن هذا كله لم يحسم الموقف، إذ يواجهه صريح الآيات المحكمات في مغفرة الله تعالى لمن يشاء من عباده: النساء 48، 116 {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . الزمر 53: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . مما أضطر بعضهم إلى القول بأن "المؤمن يرى عقوبته في الدنيا" أو قيد العقاب بمثقال ذرة، وعلى "ما يفعلون من شر إذا لم يكونوا تابوا عنه". وما كنا لنطيل الوقوف عند هذا الجدل الذي يبدو مما لا يتعلق به التفسير البياني، لولا أنه يصل بنا أخيراً إلى ما يؤيد دعوتنا الملحة إلى الدرس المنهجي لدلالات الأفاظ القرآنية، وتدبر أسراره البيانية. * * * فلنسأل بعد كل ما سمعناه من خلاف تأزم، ومن محاولات عسرة للخروج من المأزق المفترض: ما الذي أقحم قضية الإحباط ومسألة الحساب على آيتي الزلزلة، وليستا متعلقتين بجزاء أو عقاب؟ نص الآيتين، يغنينا عن كل ذاك العناء، والتدبر الدقيق لبيانه يعفينا من التكلف والتأول، ويريجنا من القيد والتخصيص والتعميم. فالذي في الآيتين أن من يعمل مثقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ذرة خيراُ أو شراً {يَرَهُ} ولم يقل تعالى: {يجز به أو يحاسب عليه": وفي الآية قبلهما: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} شاهد على أن الموقف متعلق برؤية الإنسان عمله محضراً في دقة "لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها". ثم يكون الحساب والجزاء بعد ذلك بعدل الله وفضله ورحمته، سبحانه: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 سورة العاديات بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 السورة مكية، والمشهور أنها الرابعة عشرة في ترتيبالنزول، نزلت بعد سورة العصر. وموضوعها: اليوم الآخر. وتبدأ بعرض مشهد سريع لغارة عنيفة مفاجئة، تباعت القوم صبحاً فلا ينتبهون إليها وإلا وقد توسطت جمعهم فبعثرتهم وسط عاصفة من النقع المثار. وتأتي هذه الصورة العنيفة بعد واو القسم، لافتة إلى ما عهد القوم من مثل نلك الغارات المفاجئة المصبحة، وما تحدث من بعثرة وحيرة وإرتباك. ثم تأتي بعدها صورة أخرى لغيب غير مشهود، ولكنه واقع حتماً: البعث يفجأ على غير موعد، فإذا هم في حيرة وبعثرة وإرتباك، قد لفظتهم القبور لليوم الآخر مالفراش المبثوث، وإذا كا ما في صدورهم قد حصل، لم تفلت منه خافية مضمرة، مطوية في أعماق الصدر ومستكن الضمير. وفي كل كلمة، بل في كل حرف منها، سره البياني الباهر فيما قصد إليه القرآن من إحضار مشهد ليوم البعث شاخصاً مجسماً، وتأكيداً وقوعه، والإنذار بما ينتظر الإنسان فيه من حساب دقيق عسير. * * * ونبأ بالواو في: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} . الواو في أصل الاستعمال اللغوي للقسم، ويتجه به جمهور المفسرين إلى تعظيم ما يقسم به وتأكيده، وهذه الفكرة المسيطرة عليهم، تدفعهم - على ما رأينا ونرى - إلى ضروب من التأويلات، ولا نخلو من غرابة وإعتساف. وفي العاديات هنا قولان: فهي الخيل فيما ذهب كثير منهم، ولكي يستقيم لهم مفهوم بالقسم بها، تأولوها بخيول المسلمين في غزوة بدر، وهو قول روى عن إبن عباس، والحسن، وأخذ به جماعة من المفسرين. لكنهم رووا كذلك عن إبن عباس مل نصه: "كنت جالساً في الحجر، فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً، ففسرها بالخيل ..... فذهب إلى "علي" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر ماقلت، فقال: ادعه لي. فلما وقفت على رأسه قال: تفى الناس بما لا علم لك به؟ والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد. العاديات ضبخاً، الإبل من عرفة". يعني إبل الحاج تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، وتثير الغبار عند وادي محسر. وكذلك فسر "عبد الله بن مسعو" إلى تفسيرها بالإبل، وتابعه على هذا عدد من المفسرين، ملتفتين إلى معنى الإعظام في كونها إبل الحاج. ورد أصحاب التأويل بالخيل بأن سياق الآيات بعده: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ....... فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا يدل على أن العاديات هي الخيل، إذ لا يكون الإيراء، وهو قدح الشرر، إلا لسنابك الخيل. أما الخلف ففيه لين وإسترخاء (الجرجاني) . وأما القول بأنه لم يكن بمكة حين نزول الآية جهاد، ولا خيل للمسلمين تغزو، "فهذا لا يلزم، لأنه سبحانه أقسم بما يعرفونه من شأن الخيل". فكان رد أصحاب الإبل على هذا الإعتراض أن فصلوا الموريات عن العاديات، وفي هذا يقول إبن القيم: "ولما علم أصحاب الإبل أن أخفافها أبعد شيء من رْوى النار، تأولوا آية الموريات على وجوه بعيدة، فقال محمد بن كعب، القرظى: هم الحاج أوقدوا نيرانهم ليلة المزدلفة، وعلى هذا فيكون التقدير: فالجماعات الموريات. وهذا خلاف الظاهر، وإنما الموريات هي العاديات، وهي المغيرات". وأتجهت محاولة بعضهم في التأويل بالإبل، إلى أن يستعار لها ما هو للخيل أصلاً، فقال الزمخشري: "إن صح ما روى عن "علي" فقد أستعير الضبح للإبل، كما أستعير المشافر والحافر للإنسان، وما أشبه ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وهكذا يظل الخلاف دون أن ينحسم. فلكل قول رد، ولكل إعتراض جواب! وما نرى سببالً لهذا كله إلا سيطرة فكرة تعظيم المقسم به على هؤلاء وأولئك، فالذين قالوا: هي الخيل، قصروها على خيل الغزاه ليظهر وجه التعظيم في القسم بها. والذين قالوا: هي الإبل، قصروها على إبل الحاج تنطلق من عرفة إلى المزدلفة ثم إلى منى، للغرض نفسه. والقلة التي ذهبت إلى أن العاديات هي الخيل بعامة، لم تتخل عن فكرة التعظيم، وجهد المحاولة لبيانها وتقريرها. فإبن القيم يصرح بأنه لا يلزم حتماً أن نخص العاديات بخيل الغزاة وإن كانت أشرف أنواع الخيل "فالقسم إنما وقع بما تضمنه شأن هذه العاديات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم البهيم واشرفه، وهو الذي يحصل به العز والظفر ..... فذكرهم تعالى بنعمته عليهم في خلق هذا الحيوان الذي ينتصرون به على أعدائهم ويدركون به ثأرهم". أخذه "الشيخ محمد عبده" فتوسع في بيان هذا الوجه لتعظيم الخيل، أقسم الله بها "لينوه بشأنها، ويعلى من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد، ليعونا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها، ليكون كل واحد منهم مستعداً في أي وقت كان لأن يكون جزءاً من قومه الأمة إذا اضطرات إلى صد عدو. وكان في هذه الآيات القاراعات، وأشباه لها، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر، وما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها، وأن يكون فيب السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقاناً ..... ". وقد مضى القول، في تفسير سورة الضحى، بأن القسم بالواو هنا أقرب إلى أن يكون قد خرج عن أصل معناه في الوضع اللغوي، لملحظ بياني بلاغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولو خلينا فكرة التعظيم بالقسم جانباً، لبدا لنا بوضوح أن جو السورة لا يوحى - من قريب أو بعيد - بشيء من بيان عظمة الخيل وفوائدها، والحث على التسابق إلى قنيتها، والإغراء بفن السباق .... وإنما هو مشهد مثير، لغارة مفاجئة تصبح القوم بغتة على غير إنتظار. وموقف المباغتة، يلائمه قصر الآيات بما فيه من حسم، وسرعة الإنتقال، وتلاحق الأحداث ما بين العدو، وإيراء القدح، وإثارة النفع، إلى توسط الجمع، فما إن تعدو الخيل ضبحاً، موريات قدحاً، مغيرات صبحاً، حتى تكون قد توسطت الجمع في النقع المثار. ولفظ "العاديات" لم يرد في القرآن بهذه الصيغة إلا هنا، والأصل اللغوي للعدو هو البعد والتجاوز، ومنه العدوة للمكان المتباعد، والعدو الوثب. واستعمال العدو في الجري الشديد، ملحوظ فيه البعد والوثب وتجاوز المألوف من الجري، كما أن استعماله في العداوة، ملحوظ فيه التباعد والجفاء، واستعماله في العدوان والبغي، ملحوظ فيه تجاوز الحق كذلك. وقد يقال للفرسان عادية، لكن الضبح يعين أن المقصود بها هنا الخيل لا الفرسان، لما أشرنا إليه من إختصاص الخيل بالضبح، وهو صوت أنفاسها حين تعدو سريعاً. وأختلفوا في التوجيه الإعرابي لنصب "ضبحاً": فهو مصدر على تقدير "والخيل تضبح ضبحاً" أو هو حال على تقدير "والعاديات ضابحة" لكنهم لم يبينوا أثر كل من المصدرية أو الحالية على المعنى. ولعل المصدريو هنا أولى، لما فيها من معنى الإطلاق المحض ..... وعطف الموريات قدحاً على العاديات ضبحاً، بالفاء وفيها ملحظ السببية، لأن الإيراء أثر للعدو الشديد ينقدح به الشرر من حوافر الخيل. ولم ترد مادة قدح في القرآن إلا في هذه الآية، أما الإيراء فجاء فعلاً مضارعاً، على أصل معناه في إيراء النار، بآية الواقعة 71: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} . وبآية الواقعة هذه، أستشهد الذين قالوا إن العاديات هي إبل الحاج، ففسروا الموريات بأنها جماعات الحجيج إذ يوقدون نيرانهم ليلة المزدلفة، وهو ما وصفه "إبن القيم" بالتأول على وجه بعيد، وقال فيه: "وهذا خلاف الظاهر، وإنما الموريات هي العاديات". والعطف بالفاء، فيه مع ملحظ من السببية، ترتيب دون تراخ أو تمهل وإبطاء، ما بين عدوها ضبحاً وإغارتها صبحاً. ويلحظ هنا أن العربية تخص الإغارة بالخيل، ولو لم يذكر لفظ الخيل فتقول: أغار على القوم دفع عليهم الخيل، وأغار الفرس: أشتد عدوه في الغارة. فاستعمال المغيرات للخيل هنا، يتأيد بمألوف الحس اللغوي لهذا اللفظ تخص به الخيل. أما تخصيص الإغارة بوت الصبح فلم يفت المفسرين إدراك ما فيه من دلالة على المفأجاة: قال في التبيان: "والعدو لم يأخذوا أهبتهم، بل هم في غرتهم وغفلتهم". ومثله في تفسير الشيخ محمد عبده. وملحظ المباغتة في الصبح، أوضح من أن يحتاج إلى بيان، اللهم إلا أن نذكر هنا أن اللغة أستعملت يوم الصبح بمعنى يوم الغارة، وأن القرآن الكريم استعمل الصباح والإصباح والصبح في موقف المباغتة والإنذار، فث مثل آيات: الصافات 177: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} . الحجر 66: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} . الحجر 83: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 القمر 38: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . الأعراف 78: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . هو 81: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ؟ وأنظر معها آيات: الكهف 41، 42، القلم 21، الأعراف 91، هود 67، 94، العنكبوت 37، الأحقاف 25. * * * {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} . بالفاء أيضاً، ربطت آية: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} بالمغيرات صبحاً، دلالة على الترتيب مع التعاقب الملائم تسرعة الموقف وتلاحق الأحداث. وللزمخشري هنا وقفتان: الأولى عند الفعل {أَثَرْنَ} علام عطف، ولم يسبقه فعل في الآيات قبله؟ والأخرى عند مرجع الضمير في {بِهِ} قال في {أَثَرْنَ} إنه معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأن المعنى: واللآتي عدون، فأورين، فأثرن. ومثله أو قريب منه، ما في تفسير الشيخ محمد عبده. أما الضمير في {بِهِ} فأرجعه الزمخشري إنما إلى الصبح، أي أثرن بذلك الوقت نقعاً. ومثله أيضاً ما في تفسير جزء عم. وإما أن يكون عود الضمير على المفهوم مما سبق، أي فأثرن بالإغارة والقدح والعدو ..... وهذا عندي أولى .... * * * {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} والعطف بالفاء هنا، ملائم لجو الموقف الذي تسيطر عليه الأخذة المباغتة، والسرعة الخاطفة، فمراحل الإغارة تتم جميعاً في تدافع سريع لا تراخى فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وتتعاقب واحدة في إثر أخرى في حسم قاطع، إذ ليس بين العدو الذي هو مرحلة الإبتداء، وإقتحام الجمع الذي هو ذروة الإغارة، إلا ما بين هذه الآيات القصار المتتابعة في تلاحق وترابط. وهي مع قصرها وسرعتها، تكشف بجلاء عن عنف الإغارة ووقع المفاجأة. والبيان القرآني وحده، هو الذي يستطيع أن يصور أعنف إغارة، بكل مراحلها، في كلمات معدودات، تصل بالغارة من بدئها إلى ذروتها الحاسمة. ونتدبر {جَمْعًا} هنا، فنلمح دلالتها البيانية، حين نذكر أن هذا اللفظ يأتي كثيراً في القرآن، للحشد الكاثر في المعركة، ومع مظنة القوة والغلبة كما في آيات: القمر 44: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} . آل عمرتن 155: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ومعها آية 166. القصص 78: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} ؟ آل عمرن 173: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} . الأعراف 48: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} . وسمى اليوم الآخر في القرآن يوم الجمع، لاحتشاد الخلق به بعد بعثهم: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} كما سمى موقف الحشر جمعاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} الكهف 99. وأنظر معها ىيات: آل عمران 25، الجاثية 26 النساء 87، الواقعة 50، الأنعام 12، التغابن 9، المرسلات 38، الشورى 9، 29. كما استعمل الإجماع في حشد الرأي وتدبير الأمر وإحكام المكيدة، في مثل آيات: يوسف 15: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} . يوسف 102: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} . يونس 71: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} . طه 64: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} . وبكل ما لهذا اللفظ من دلالات الحشد، والتجمع، ومظنة القوة، يأتي في {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} فيوحى بما كان من إحتشاد هو مظنة قوة لهذا الجمع الذي أقتحمته العاديات ضبحاً، في إغارتها المبحة، وسط النقع المثار. هنا بلغ المشهد ذروته، ثم يترك للتصور أن يذهب كل مذهب فيما يعقب هذا الإقتحام المصبح المباغت، من تشتت حائر وإرتباك مبعثر، وإستسلام للمصير المحتوم. * * * وتمضي الآيات: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الكنود وحيدة في القرآن. صيغة ومادة. وهو في اللغة: الكفور للنعمة، والبخيل، والعاصي. وربما كان أصل استعماله في الأرض لا تنبت شيئاً. وجاء في الكشاف، أن "الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور". والمعاني متقاربة على كل حال، وصلتها واضحة بالمعنى الذي رجحنا أنه الأصل، وهو الأرض لا تنبت شيئاً، فهي عاصية، وهي بخيلة، وهي كفور. وأقرب معانيها إلى آية العاديات، والله أعلم أنه الكفران بنعمة الله، وهو ما ذكره الراغب في (المفردات) . * * * {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} . أي يشهد على نفسه بكفران نعمة ربه، وليس أقوى منها شهادة ..... وهذه الشهادة الدامغة تأتي في القرآن في مقام التحذير، والزجر المقرون بالوعيد، كالذي في آيات: الأنعام 130: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} . والأعراف 127، والبروج 17، والتوبة 17. بل إن البيان القرآني ينطق بهذه الشهادة، يوم الفصل. جوارح الإنسان وحواسه، وجلده، في مثل آيات: فصلت 22: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . النور 24: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . يس 65: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . وأصل الشهادة في اللغة من الشهود أي الحضور، والمشاهدة: المعاينة وما شهادة الإنسان على نفسه بكنود، وإقراره بكفران نعمة ربه، إلا من هذا الذي ألفناه في البيان القرآني، من إلزام بالحجة وتأكيد لفداحة الذنب وأعتراف به، في موقف الزجر والوعيد، حيث لا سبيل بعد مثل هذه الشهادة الدامغة، إلىتنصل من الذنب أو إدعاء البراءة منه. لكن عدداً من المفسرين أضاعوا هذا الملحظ البياني بقولهم: إن الضمير في {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} يعود إلى الله تعالى. مع أن المعنى إنما يقوى بأن يكون الإنسان شاهداً على نفسه، وهذا هو ما تؤيده آيات الشهادة التي استأنسنا بها في فهم الآية. ثم عادوا في آية {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فجعلوا الضمير للإنسان، فتمزقت بهذا الصنيع وحدة السياق في الآيات الثلاث. وقالوا في تفسير الخير هنا إنه المال، واستأنسوا بآية الوصية الواجبة. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . البقرة 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقيده "الراغب" بالمال الكثير: "لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً، وعلى ذلك قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ". وفي القرآن آيات أخرى، قد تؤيد تأويل الخير بالمال، بتوجيه السياق في مثل: المؤمنون 56: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} . وجاء الخير مرة واحدة للخيل في آية (ص 32) على لسان داود: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . على أن لفظ الخير، أكثر ما يستعمل في القرآن بمعنى الأفضل. وقد أحصيت من هذا الاستعمال نحو 125 مرة، ويقترن بلفظ "أم" المعادلة، أو يجيء تمييزاً، أو معطوفاً عليه بأفعل التفضيل. كما يأتي في القرآن، نقضاً للشر صراحة في مثل آيات: الإسراء 11: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . يونس 11: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} . الأنبياء 35: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} . المعارج 21: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أو مقابلاً بالسوء والضر: الأعراف 188: {ولوكنت وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . الأنعام 17: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} . ومعها آية يونس 107. واللغة تحتمل أن يكون الخير للمال، والخيل، وضد الشر، والخيار والفضيلة. غير أنسياق آية (العاديات) يرجح أن الخير فيها هو الخير المادي من مال أو شبهه، فهذا الإنسان الكفور بنعمة ربه، والشاهد على نفسه بالكنود، لا يكون حبه للخير الذي هو فضيلة، وإنما هو حب للمال شديد. والأصل في الشد: قوة العقد والوثاق والإحكام، مادياً كما في آية: محمد 4: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . ومعنوياً في مثل آيات: يونس 88: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . الدهر 28: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} . طه 31: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} . القصص 35: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} . ص 20: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 كما يعبر القرآن، عمن بلوغ الرشد والقوة بصيغة: بلغ أو يبلغ أشده، في مثل آيات: الأنعام 152، الإسراء 34، يوسف 22، القصص 14، غافر 67، الأحقاق 15، الكهف 82، الحج 5. أما صيغة شديد، فجاءت في القرآن، في نحو أربعين موضعاً، مضافة إلى عذاب الله، وبطشه، وأخذه، وعقابه في الآخرة، أو وصفاً لهذا البطش والأخذ والعذاب، في مقام الزجر والوعي: {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . وجاءت مرة وصفاً للحديد: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ومرة على لسان لوط إذ قال لقومه في آية هو 80: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} . وعلى لسان سليمتن منذراً متوعداً، في آية النمل 21: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . كما جاءت أربع مرات وصفاً لأولى البأس، والحرس، في آيات: الإسراء 5، النمل 33، الفتح 16، الجن 8. كذلك جاءت الشدة، بصيغة أفعل التفصيل {أشد} في نحو خمسة وعشرين موضعاً، مميزاً بالقسوة، والبأس، والتنكيل، والكفر، والعتو، والعذاب، والبطش، والرهبة، والوطء، والعدواة، والخشية، والقوة. ومعها آية الصافات 11: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} . وجاءت مرة واحدة مميزة بالحب في آية البقرة 165: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . وغلبة الاستعمال القرآني لمادة الشدة، في موقف الزجر والإرهاب والوعيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يضيف بلا شك، إلى ما اكتفى المفسرون به في آية العاديات، من معنى البخل والإمساك وعدم الإنبساط، إيحاء بالزجر والوعيد، مع ما سبق الآية من شهادة الإنسان على نفسه بالكنود لربه. كما أنه يقوى بالآيات بعده. * * * {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} . بما فيها من نذير صادع وزجر رادع. والبعثرة لم تأت في القرآن إلا في هذه الآية وفي آية الإنفطار: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وكلتاهما في بعثرة القبور يوم القيامة، وفيهما جاء الفعل مبنياً للمجهول، صرفاً للذهن إلى الحدث نفسه، وتركيزاً للإنتباه فيه. وفيهما أيضاً، انتقال سريع من بعثرة ما في القبور إلى الحساب العسير يحصل ما في الصدور وتعلم بع كل نفس ما قدمت وأخرت. والبعثرة لغة، فيها معنى التبديد والتفريق والإختلاط، وقلب بعض الشيء على بعض. وقالوا: بعثر الحوض، هدمه وجعل أسفله أعلاه. ود يلحظ فيها معنى التفتيش والكشف، فيقال: بعثر الشيء، استخرجه فيكشفه وأثار ما فيه. كما استعملت البعثرة في قلق الجوف وغثيان النفس. والمتبادر من مفهوم {بعثر} في آيتي العايات والإنفطار، هو التشتت والتفرق والإنتثار، وما يكون عنها من حيرة وضلال وإختلاط وإرتباك "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث" ولكن اللفظ كذلك مع التفريق الإختلاط بما في الأصل اللغوي، من دلالة الإثارة والكشف، فيمهد لما بعده: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} وقد جيء به فور البعثرة، مبنياً للمجهول كذلك، صرفاً عن كل ما عدا الحدث نفسه، على المألوف من آيات القيامة. ولم تأت مادة "حصل" إلا في آية العاديات: والتحصيل لغة: الجمع والتمييز. وأصله من الحوصل والحوصلة والحوصلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وهي من الطير كالمعدة للإنسان، ومن الحوض مستقر الماء في عمقه الأقصى. ولهذه الدلالة اللغوية الأصلية، أثرها في معنى {حُصِّلَ} هنا، فكل ما يعمله الإنسان مستقر في أعماقه، مجموع في صدره، حتى يحين أوان كشفه بعد بعثرة ما في القبور للبعث والقيامة. والتحصيل لما {فِي الصُّدُورِ؟} إيذاناً بكشف المستور وإظهار المطوى المضمر - جلالة واضحة، لا نخطئها في استعمال القرآن للفظ الصدور: فالشيطان. {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وهو تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} غافر 19. {يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} القصص 69. {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} العنكبوت 10. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} النمل 74. {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} آل عمران 29 وتدبر هذه الآيات جميعاً، يرينا ما في تأويل آية العاديات: "إن معنى حصل، جمع في الصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً" من جور على المعنى القوى المثير لقوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} فليس المقام هنا للجمع في الصحف، وإنما المقام للإنذار بيوم ينكشف فيه ما طوى في الصدور، ويظهر ما تخفي الضمائر، وقد كان الظن الكاذب به أن يظل خفياً مستوراً. * * * ويلفتنا هنا أت تأتي آية: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} . بعد بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، فتصل بالمشهد المثير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ذروة عنفه، ثم تدع ما بعد ذلك للخاطر يذهب فيه كل مذهب، وقد آل الأمر كله إلى العليم الخبير. ولسنا هنا بحاجة إلى القول بتضمن خبير لمعنى "مجاز لهم في ذلك اليوم" بل أولى منه أن نلحظ أن القرآن لم يستعمل الخبير قط، إلا مسنداً إلى الله تعالى أو اسماً من أسمائه الحسنى باستقراء مواضع الكلمة وهي نحو خمسة وأربعين. وتفسيره بالعليم غير دقيق، إذ جاء الخبير مقترناً بالعليم في آية التحريم 3: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . ولقمان 34 والحجرات 13: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} والنساء 35: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} فدل ذلك على أن الخبرة غير العلم، وأفترن الخبير بالحكيم {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} في آيات الأنعام 18، 73، وسبأ 1، وآية هود 1 {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} كما أفترن بالبصير في آية الشورى 27: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . ومعها آيات: الإسراء 17، 30، 96 وفاطر 31. وتفرد الله وحده بوصف {الْخَبِيرُ} - وليس الأمر كذلك في العليم، حيث جاء وصفاً لغير الخالق في آيات: يوسف 55، 76، الحجر 53، الشعراء 34، 37. وهذا التفرد يدل على أن الخبرة أخص من العلم، وهو ما يظهر بوضوح في آيات: فاطر 14: { ..... ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . الفرقان 58، 59: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ومن المعاني الحسية للخبر في اللغة: منقع الماء في أصوله بالجبل، والصرف الجيد من أول الجز، وأختبرت الشيء أو الشخص. فحصته وأمتحنته لتعرف حقيقة أمره. وإيثار لفظ {خَبِير} هنا، بعد أن {حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، مع تأكيده باللام وإن في أول الآية، يبلغ به الترهيب منتهاه، ثم يدع للخاطر بعد ذاك أن يتصور ما شاء، في ذلك الجو الحافل بالنذير والوعيد. * * * وهذه الوقفة الحاسمة، يبلغ بها القرآن ذروة المشهد العنيف لبعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، تتسق مع مشهد الإغارة العنيفة في مستهل السورة، على وجه باهر من البيان المعجز. ولا أعرف أن أحداً من المفسرين حاول أن يربط بين المشهدين أو لمح ما بينهما من صلة هي معقد القسم ومجلى دقته البيانية. فالسورة، كمت قلنا آنفناً تبدأ بواو لبقسم لافته في قوة إلى المشهد المألوف، لإغارة عنيفة مفاجئة، تبغت القوم صبحاً فلا ينتبهون إلا وقد توسطت جمعهم ومزقت شملهم وبعثرتهم وسط النقع المثار. ويتمثل القوم ما عهدوا من مثل هذه الغارات المصحبة المباغتة، وما يعقبها من بعثرة وحيرة وإرتباك، توطئة بيانية لمشهد غيب لم يقع يستطيعون أن يدركوا صورة منه في ذلك الذي ألفوه وعاينوه ...... ذلك هو مشهد البعث، يباغت القوم - وقد طال ما جحدوا نعمة الله وغرتهم الأماني - فإذا هم بعثروا من القبور حيارى ممزقين، وصدروا أشتاتاً مفرقين، ثم إذا بالأحداث تتلاحق سراعاً، مترابطة متدافعة، فليس بين بعثرة ما في القبور، وهول الموقف بين يدى الخبير، إلا أن يحصل ما في الصدور، لا تفلت منه خافية مضمرة، ولا غاتئبة مطوية مستورة في الأعماق، كما ليس بين العاديات ضبحاً، وتوسط الجمع، وتدبير الأمر، إلا أن تنطلق في إغارتها صبحاً، موريات قدحاً، مثيرات نقعاً! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وبين هذا المشهد المألوف الواقع، وذاك الغيب الذي سوف يقع يقيناً، يأتي المقسم عليه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سورة النازعات بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 السورة مكية متأخرة، فهي الواحدة والثمانون على المشهور في ترتيب النزول نزلت بعد النبأ. وتبدأ بواو القسم، متلوة بخمس صفات متتابعة في آيات خمس: وقد أفسح حذف الموصوف فيها وإقامة الصفات مقامه، مجالاً واسعاً لتأويلات كثيرة بلغت في بعض كتب التفسير نحو عشرة أقوال. يطول الخلاف أولاً حول النازعات ما هي، وتتعدد الأقوال فيها ثم يحتكم كل قول منها في توجيه الآيات التي بعدها، مع الرد في كل حالة على بيان وجه التعظيم "للنازعات" بحكم وقوعها بعد واو القسم. فمن أقوالهم في النازعات: أنها الملائكة تنزع نفوس بني آدم - عم عبد الله وإبن عباس. وقيل: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق - عن الحسن وقتادة وأبي عبيدة. وقيل: هي النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها - عن السدي. وقيل: هي القسى تنزع بالسهام - عن عطاء وعكرمة. وقيل: هي الجماعات النازعات بالقسى - عن عطاء أيضاً. وقيل: هي المنايا تنزع النفوس - عن مجاهد. وقيل: هي الوحش تنزع إلى الكلأ - حكاه يحي بن سلام. وقيل: هي خيل الغزاة تنزع في أعنتها - جاء في الكشاف. وقيل: هي الريح تقلع القوم لشدة هبوبها - جاء في المفردات. وأشهر هذه الأقوال جميعاً، أنها الملائكة تنزع أرواح بني آدم، وهو أحد أقوال ثلاثة أختارها الزمخشري وأدار الآيات عليها، والقولان الآخران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 هما: النجوم، وخيل الغزاة. واختار "الراغب" تفسيرها بالملائكة، أو الريح. * * * ومن تدبر السور المفتتحة بواو القسم، يبدو لنا أن القرآن يعدل في هذا الأسلوب عن الأصل اللغوي للتعظيم بالقسم إلى استعمال بلاغي، هو قوة اللفت إلى مادي محسوس وواقه مشهود، ليس مطنة مماراة، توطئة بيانية لمعنوي أو غيبي غير مدرك بالحس. على ما سبق الإلتفات إليه في سورتي الضحى، والعاديات. وهذا التوجية يمكن أن تقبله سور: العصر، والليل، والفجر، والشمس، والمرسلات، والذاريات، والتين، والطور، والقلم، والنجم ..... وهي جميعاً من السور المكية. وأمام ذلك المألوف من أسلوب القرآن في اللفت بالواو إلى مادي مدرك، لا نطمئن إلي تفسير "النازعات" بما ذهب إليه أكثر المفسرين، من أنها الملائكة تنزع الأرواح، إذ ليست الملائكة في نزعها للأرواح، وسبقها إلى تدبير أمر الله، مما يدخل في نطاق الحسيات المدركة. كما يبدو مستبعداً في فهمنا. والله أعلم، أن يلفت إليها القرآن للاستدلال على البعث، من لا يؤمنون بملائكة تنزع الأرواح وتدبر شئون الكون بأمر الله. إذ لو كانوا مؤمنين بها. لصدقوا بالبعث واليوم الآخر. ونحن أكثر اطمئناناً إلى تفسير النازعات بالخيل المغيرة، دون تحديد لها بخيل الغزاة كما قال الزمخشري وغيره من المفسرين متأثرين بنزعة التعظيم في القسم بها، فما كان للمسلمين في العهد المكي خيل تغزو، ولا كان هناك دار سلام ودار حرب يخرج الغزاة منها وإليها، والقول بأن هذا سوف يكون بعد الهجرة، لا مجال له هنا مع هذا اللفت إلى واقع مشهود، توطئة للإقناع بغيب يمارون فيه! وقد لفت القرآن في (سورة العاديات) إلى الخيل عاديات ضبحاً مثيرات نقعاً مغيرات صبحاً، ليستحضر بها موقف البعث إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور. وما نرى السياق في (النازعات) إلا شبيهاً يالذي في (العاديات) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فالاستئناس بإحداهما في فهم الأخرى، أصح منهجاً من أن نبعد في التأويل إلى مسبح الملائكة في آفاقها الغيبية غير المنظورة ولا المدركة. * * * وما نطمئن إليه من تفسير (النازعات) بالخيل، يوجه الآيات بعدها في يسر وبلا تكلف، فهي تنزع في عدوها وتغرق فيه، وهو الملحظ نفسه في السبح الذي يجمع له السابح قوته. وبهذا النزع السابح، تسبق إلى الغاية فتدبر من الأمر ما أجمعت له في معاناة. وننظر في المفردات، فنرى النزع - وهو لغوياً بمعنى الجذب والشد والقلع، ومنه المنازعة شدة التجاذب في الخصومة - قد استعمل في القرآن ملحوظاً فيه قوة الجذب والمعاناة فيما يظن به الرسوخ والتأصل، سواء في ذلك الفعل في نزع الشيطان لباس أبوينا {الأعراف 27) ونزع موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين (الأعراف 108 والشعراء 33) ونزع الله النعمة من الإنسان (هو 9 وآل عمران 36) ونزع ريح صرصر عاتية كفار عاد {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَع} (القمر 20) والصفة في لظى نار جهنم {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} ، أي الأطراف (المعرج 16) وآية النازعات غرقاً. والغرق في الأصل اللغوي بمعنى الرسوب في الماء، ويستعمل مجازاً في إغراق البلاء والنعمة. كما يقال أغرق النازع في القوس أستوفى مدها، وإغترق الفرس الخيل خالطها ثم سبقها، وامرأة تغترق نظرهم أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها. وفي القرآن جاءت مادة غرق، عدا آية النازعات، أثنتين وعشرين مرة. كلخا على اختلاف صيغها، فعلاً ومصدراً واسم مفعول، من الغرق بمعناه الأول القريب في أصل الوضع اللغوي بصريح سياقها في اليم والبحر والموج، أو في إغراق قوم موسى والكفار من قوم نوح. فسر الزمخشري {غَرْقًا} في النازعات، بأن الخيل تنزع نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وأخذه أبو حيان من الإغراق في الشيء أي المبالغة فيه، قال: أغرق النازع في القوس بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى الفصل، وذهب الفيروزابادى في القاموس إلى أن الغرق في الآية أقيم مقام المصدر الحقيقي وهو الإغراق. وقال الشيخ محمد عبده: الغرق في النزع هو الإتيان على الغايات منه، حين تنزع الكواكب عن قسى دوائرها. ونحمله في الخيل على النزع المغرق، بما فيه من عنف الجذب وقوة المعاناة. * * * {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} . لم ترد مادة "ن ش ط" في القرآن إلا في هذا الموضع. والنشط في اللغة يستعمل أصلاً في العقد الذي يسهل حله، ومنه الأنشوطة: العقدة يسهل حلها. وبئر نشاط: قربية القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة. ثم قيل: أنشط البعير حله. فنشط أي أنطلق في سهولة. ومنه ثور ناشط: خارج من أرض إلى أرض. والتفت "الراغب" إلى ما في استعمال النشظ هنا من تنبيه على السهولة واليسر. ونؤثر أن نضيف إليه ما يربطه بأصله اللغوي، إفلاتاً من عقال. * * * {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} . السبح: العوم، والأصل فيه أن يكون في الماء، ويستعار لغة للخيل فيقال لها السوابح. كما يجيء في القرآن لسبح النجوم في الفلك: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ولسرعة المضي في العمل: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} . والسبح من الخيل، إنما يكون في غير مجاله الذي هو الماء، وهذا يقتضي من تجمع القوى وعنف المعاناة، ما يلائم النزع المغرق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} . السبق التقدم، ملحوظاً فيه معنى السرعة والمبادرة. واستعماله في الخيل واضح وقريب، لكن الذين فسروا النازعات بالملائكة أو بالنجوم أو بالآجال والمنايا، ذهبوا في تأويل السابقات، إلى أنها وصف لهذه أو تلك، فالملائكة تسبق إلى تدبير شئون الكون بأمر الله، "والنجوم سابقات في سبحها فتتم دورتها حول ما تدور عليه في مدة أسرع مما يتمم غيرها، كالقمر يتمم دورته في شهر قمري، وكالأرض تتمم دورتها في سنة شمسية، ونحو ذلك من السيارات. ومنا ما لا يتمم دورته إلا في سنين، لكن السابقات هي التي أنفردت بتدبير بعض الأمور الكونية في عالمنا الآرضي". وهو تاويل اقتضاه توجيه واو القسم إلى تعظيم المقسم به وهو الملائكة أو النجوم، {إظهاراً لعظم شأنها وإتقان نظامها وغزارة فوائدها وأنه مسخرة له - تعالى خاضعة لأمره". ونفهم السبق هنا، أثراً لما جمعت الخيل من قواها في نزعها المغرق وسبحها الناشط. * * * {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ويلحظ من مادة "التدبير" في القرآن، أن الفعل منه يجيء مضاراعاً، مسنداً إلى الله تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في آيات: يونس 3، 31، والرعد 2، والسجدة 5. وفي المضارعة معنى الاستمرار والإحضار وتدبيره تعالى إحكام للسنن الكونية. وليس على المفهوم من التدبير الكمي الذي يكون من البشر. وأصل التدبير في الاستعمال اللغوي، أنه من التفكير في دبر الأمور وعواقبها، على أنه يطلق عادة على تولى الأمر والنهوض بتنظيمه وإدارته، دون أن تنقطع صلته بالأصل اللغوي. وقد فسرها الراغب في النازعات، بأنها ملائكة موكلة بتدبير أمور الكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وفي الكشاف: "إما أنها الملائكة تدبرا أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم، وإما أنها خيل الغزاة تدبر أمر الغلبة والظفر، وإما أنها النجوم تدبر أمراً في علم الحساب". وفي البحر المحيط عن إبن عطية: "لا أحفظ خلافاُ في أنها الملائكة التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات". وقال الشيخ محمد عبده: "ليس التدبير إلا ظهور الأثر لعمل الكواكب السابقات التي أنفردت بتدبير بعض الأمور الكونية". وإذ فهمنا النازعات بالخيل في نزعها المغرق وسبقها السابح، يكون التدبير غاية ما تجمعت لو قواها فيما أريد لها من أمر الغلبة والحسم. ووقف "أبو حيان" في آيات النازعات الخمس ألولى، عند الوصل بالواو مرتين وبالفاء مرتين. ونص عبارته فيه: "والذي ظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء، وأن المعطوف بالواو هو مغاير لما قبله. على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو من عطف الصفات بعضها على بعض". ويظهر من صنيع المفسرين في توجيه الصفات الأربع، تبعاً لما أختاروه في تأويل النازعات، الميل إلى أعتبار الربط بالواو أو بالفاء من تتابع الصفات: فالناشطات والسابحات فالسابقات فالمدبرات، كلها أوصاف لموصوف واحد تعينه "النازعات". والذي نراه أن السبق والتدبير يرتبطان بالسبح والنشط، وبالإغراق في النزع، على وجه الترتيب والتعقيب الملحوظ فيه السببية، وهو ما تقضى به طبيعة الاستعمال اللغوي للفاء، فإغراق الخيل في نرعها، ونشاطها المطلق وسبحها في الهواء، يعقبه ويترتب عليه أن تسبق فتدبر أمراً جمعت له قواها. ونتفق مع الممفسرين في أن ما بعد الواو في الآيات الثلاث صفات لموصوف واحد، وإن كنا لا نجزم برأي "أبي حيان" في أن الواو هنا للعطف، إذ يحتمل كذلك أن تكون في المواضع الثلاثة، واو القسم اللافتة، وقد تغيرت بعدها الصفات والموصوف واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وفي جواب القسم قيل: قد يكون محذوفاً وتقديره {لَتُبْعَثُنَّ} لدلالة ما بعده عليه - قاله "الفراء"، ونص أبو حيان في (البحر) على أنه المختار. وعن الترمذي. أن الجواب: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" - فيما يلي من السورة - رده إبن الأنبارى بقوله: وهذا قبيح. لأن الكلام قد طال. وقيل: الجواب، ليوم ترجف الراجفةتتبعها الرادفة. حذفت فيه اللام، ولم تدخل نون التوكيد، لأنه فصل بين اللام المقدرة والفعل. وقيل: التقدير، يوم ترجف الراجفة والنازعات، على التقديم والتأخير. رفضه أبو حيان وقال: ليس بشيء. وقول خامس. على تقدير: فإذا هم بالسهرة والنازعات. خطأه "إبن الأنباري"، لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام. وسادس يقول: الجواب، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} لأنه في تقدير: قد أتاك. قال فيه أبو حيان: "ليس بشيء". وأضاف: وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية. وحذف الجواب هو الوجه. ولا داعي عندنا لإطالة الوقوف عند هذه التأويلات، فليس القسم هنا على أصل وضعه اللغوي، فنحتاج معه إلى تسوية القاعدة في وجوب دخول اللام على الفعل مؤكداً بالنون في جواب القسم، وإنما يتم لنا بالمقطع الأول من السورة - بآياته الخمس - مشهد حسي وصورة مادية للخيل فيما تعاني من عنف النزع وقوة الجذب وشدة التجمع للإفلات والإنطلاق، كي تحسم أمراً أريدت له، وتبت في مصير حشدت له قواها، وعانت ف السيق إليه ما عانت من نزع وجذب، ومن تجمع وتقبض وتوثب، شأن النازع المغرق، والسابح في غير مجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والقرآن في سورة "العاديات" قد لفت إلى إنطلاق الخيل في غارتها المصبحة المفاجئة، وهو هنا يعرض المشهد من جانب حركة العدو، وما فيها من معاناة وتجمع وإنطلاق. والوقع المادي لحركة العجو، يوحى بها تهدر به صدور الخيل وهي تتجمع للمعركة، وما تضطرب به أعماقها وهي ننقبض وتتوثب، مقلنة من العقال، سابحة في الهواء، سابقة إلى حيث أريد لها، فإذا ما بلغت من ذلك كله، تدبير الأمر المراد، جاءت صورة أخرى غيبية، تصور حركة القيامة بما فيها من رجف ووجف، وما يصحبها من هزة عنيفة تغير الثابتمن نظام الكون، وتدبر أمراً كان حتماً مقضياً. * * * {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} الرجف: الاضطراب الشديد. ويستعمل لغة في الراجف: الحمى ذات الرعدة. والرجفة الزلزلة. ومنه أرجفت الأرض: زلزلت. ويستعار للفتنة ونحوها فيقال أرجف القوم إذا خاضوا في أخبار الفتن أو الإفك. ويقال كذلك أرجفوا إذا تهيئوا للحرب. وهذا التهيؤ للحرب، قريب من النزع المغرق حين تتهيأ الخيل للمعركة. وفي القرآن جاء الإرجاف مرة في الفتنة، يراد بها هز القيم وزلزلة الأمن، في آية الأحزاب 60: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} . وجاءت "الرجفة" أربع مرات كلها في موقف الفزع الشديد والاضطراب المزازل، وعبر عنها جميعاً بـ {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} في آيتى الأعراف: 78، 91 ومعهما آيتا العنكبوت 37 والأعراف 155. أما الفعل فجاء مرتين، كلتاهما في المضارع: آية النازعات، وآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المزمل 14: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} . وبها استأنس الزمخشري في تفسير الراجفة، بالأرض ترجف يوم القيامة. ولكنه لم يقف، وهو البلاغي المفسر، عند إسناد الرجف إلى الأرض نفسها، مع وضوح الظاهرة الأسلوبية في الآيات بعدها: الرادفة والساهرة، والحافرة، وخاسرة. والأصل فيه أن الأرض مرجوفة لا راجفة، وأن التابعة مردفة لا رادفة، وأن حفرة القبر محفورة لا حافرة، وأن الكرة خسر أصحابها، وكذلك الساهرة. وعدول القرآن عن هذا الأصل، إلى الإسناد لامجازى فيها جميعاً، ظاهرة أسلوبية لافته، لا يهون إغفالها. وفي سورة الزلزلة، أشرنا إلى غلبة استعمال الفعل مبنياً للمجهول، أو مطاوعاً، في الحديث عن يوم القيامة، وذكرنا أن في هذا تركيزاً للإنتباه في الحدث نفسه، ودلالة على الطواعية التلقائية التي يستغنى بها عن فاعل. والذي قلناه في إخراج الأرض أثقالها وتحدثها بأخبارها، يقال مثله هنا في الأرض راجفة وهو مرجوفة، والرادفة وهي مردوفة، وكذلك الشأن وهنا تلقائية تعني عن ذكر المحدث. بما أودع جل شأنه الأرض من قوة وهنا تلقائية تغنى عن ذكر المحدث، بما أودع جل شأنه الأرض من قوة التسخير لما يريد لها. وهنا أيضاً مباغتة، لا يدري معها الإنسان يوم القيامة من أين جاء الرجف، وتركيز للإنتباه في أخذه الرجفة. وكما تنزع الخيل نحو غاياتها التي سخرت لها، بحركة تلقائية ذاتية، وتنشط وتسبح يقوى مودعة فيها، فكذلك الأرض يوم القيامة، ترجف بحركة تلقائية ذاتية، صائرة إلى ما سحرت له، فهي مرجوفة راجفة, * * * {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} . والردف في العربية: الإتباع، والراكب يحمل غيره على ردف الفرس وراءه فيقال: ردفه. ثم أطلق على الإتباع بعامة، وإن لم يكن على ردف فرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وفي القرآن، جاءت المادة ثلاث آيات: النمل 72: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . الأنفال 9: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} . والردف هنا في موضعه. وآية النازعات والرادفة فيها تابعة، والأصل أن يكون التابع مردفاً لا رادفاً. والعدول عنه كما في {تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} بيان للطواعية والتسخير، والتلقائية التي يقع فيها الحدث على المجدث، فكأنه هو! وللمفسرين في تأويل الراجفة والرادفة أقوال: ففي (الكشاف، والبحر) أنهما النفختان تتبع الثانية الأولى وتلحق بها. وقيل: الراجفة هي الأرض، والرادفة السماء إذ تنشق وتنتثر كواكبها. والأولى عندنا أن تكون الرادفة هي ما يتبع الرجفة من بعثرة ما في القبور، لتتصل الآية بما بعدها. * * * {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} . الوجف والوجيف لغة: الاضطراب. وربما كان الأصل فيه ضرباً من سير الخيل والإبل فيه سرعة مضطربة، وقد التفت "الراغبط إلى هذا الاستعمال اللغوي الأصيل، في تفسير {وَاجِفَةٌ} ، وتقوى بد دلالة الوجف هنا على الاضطراب الناشيء من عنف خفقات القلوب واضطراب وجيبها في رجة القيامة. والخشوع يكون عن ضراعة أو عن رهبة وإجلال، وهو في الصوت والبصر: السكون والغض، وفي الكوكب: دنوه من الغروب، والخشعة، بالصم: الأكمة اللاظئة بالأرض. وتخشع: تضرع. وكل خشوع في القرآن الكريم، إنما يكون لله سبحانه من مخلوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وحين يكون الخشوع من المؤمنين، فهو في الحياة الدنيا، عن صدق إيمان بالله واليوم الآخر: (البقرة 45، آل عمران 199، الأنبياء 90، الإسراء 109، المؤمنون 2، الأحزاب 25، الحديد 16) . وأسند الخشوع لله، إلى الأصوات (108 طه) والأرض (39 فصلت) على سبيل المجاز، عن فرط الرهبة والإجلال. ومن ذلك أيضاً آية الحشر 21 {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . وجاء في موقف الذلة والهوان والخوف، مسنداً إلى الأبصار 4 مرات، وإلى الوجوه مرة واحدة، يوم الهول الأكبر، في آيات: المعارج 44: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . القلم 43: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . الغاشية 2: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} . القمر 7: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} . وآية النازعات: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} . والآيات الخمس مكية، وكلها في موقف القيامة، وأربع منها صريحة الاختصاص بالكافرين، والخامسة - وهو آينة القمر - يرجح السياق أنها كذلك. من ثم نطمئن إلى أن خشوع الأباصر في آية النازعات، هو غض البصر عن ذلة وإنكسار، وشعور بهول الموقف الرهيب الذي يستيقن فيه الكفار من فداحة الذنب وصدق النذير وسوء المصير: * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} . الرد: الرجع والعود، والارتداد: الرجوع في الطريق الذي جيء منه. والردة تختص بالرجوع إلى الكفر، أما الارتداد ففي الكفر وغيره. والاسترداد: الاسترجاع (الراغب) . ويتعين معنى الرجوع والعود في الاستعمال القرآني حين يكون الرد إلى الله، في مثل آيات: الكهف 36، 87، الأنعام 62، يونس 30، النساء 59، التوبة 94، الجمعة 8. ويتعين معنى الردة، حين يكون الارتداد رجوعاً عن الدين في مثل آيات: البقرة 109، 217، آل عمران 100، محمد 25، المائدة 54. ويتعين معنى الإرجاع في مثل آيات: إبراهيم 9، النساء 83، القصص 13، يوسف 65، البقرة 228. وقريب منه استعمال الرد في رجع التحية "النساء 86" وهو شبيه باستعمالنا الرد في الجواب. وقوله تعالى: {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} يونس 107 {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} هو 76 {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} الأنعام 147 {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا} يوسف 110، ملحوظ فيه مع الإرجاع معنى الصرف، فلا صارف لفضل الله، ولا مرجع عن عذابه وبأسه. ويتعين معنى الرجوع في الطريق الذي جئ منه، مادياً، أو معنوياً، حين يصرح بالرد على الأعقاب، أو الأدبار، وذلك في مثل آيات: آل عمران 149، الأنعام 71، الأعراف 53. أو على الآثار كآية الكهف 65. أو مع لفظ {كُلَّ مَا} في مثل آية النساء 91: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} . وكذلك مع كرة، في آية النازعات، وآية الإسراء 6: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . وكل هذه المعاني متقاربة، وبها يفسر {مَرْدُودُونَ} بمعنى الإرجاع والعودة إلى حيث كانوا {فِي الْحَافِرَةِ} . والحفرة في اللغة معروفة، والحفر: إخراج التراب من الحفرة، والمحفرة: المسحاة أو ما يحفر به، وسمى حافر الفرس لحفرة في عدوه. وسموا القبر حفيراً، والذي يحفر القبور حفاراً. وأما الحافرة فأصل استعمالها أن العرب كانت لا تبيع الخيل نسيئة بل تقول: النقد عن الحافرة. تعني ألا يزول حافر الحصان عن مكانه حتى ينقد ثمنه، ثم نقل استعماله إلى كل أولى، ومنه قيل للخلقة الأولى حافرة (القاموس، البحر المحيط) وقالوا: رجع فلان في حافرته، أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها وأثر فيها بمشيه، جعلوا أثر قدميه حفراً. وقد جاءت المادة في القرآن مرتين: آل عمران 103: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} . والنازعات: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} . وبكلا المعنيين: حفرة القبر، والحالة الأولى، فسرت آية النازعات، وأقتصر "الزمخشري" على المعنى الثاني. وفي (الطبري، والبحر) عن إبن عباس: الحافرة الحياة الثانية. وقيل: الحافرة النار. ذكره أبو حيان. وهو ما لا يستطاع حمل اللفظ عليه، فيما نرى، إلا على بعد وتكلف. وقيل: الحافرة جمع حافر بمعنى القدم، أي مردودون أحياء نمشي على أقدامنا، ونطأ بها الأرض. وليس من المألوف استعمال الحافر للإنسان إلا أن يستعار. والأولى أن يستبقى اللفظ دلالته اللغوية على حفرة القبر وعلى الحالة الأولى. فيكون السؤال حين ترجف الراجفة: أننا لمردودون في حفرة القبر أحياء، عائدون إلى حالتنا ألولى؟ * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} . وقرئ ناخرة، كلاهما من النخر بمعنى البلى، لكن نخرة أبلغ من ناخرة. ولعل أصل استعماله اللغوي في النخير: الصوت ينبعث من شيء أجوف، والمنخر الأنف، والناخرة من العظام: المجوفة فيها ثقب. وربما لحظ في الشيء الأجوف أو المثقوب، الهشاشة وسرعة التفتت، فأطلق النخر والناخر على البالي المتفتت، والنخرة من العظام: البالية. ولم يأت من المادة في القرآن، غير {نَخِرَةً} في آية النازعات. فسرها الراغب بأنها من قولهم: نخرت الشجرة أي بليت. والأقرب عندنا أن يفسر بالاستعمال اللغوي، في التفتت والبلى. والسؤال في: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} يحتمل عند المفسرين أن يكون على وجه التمني، إذ يقولون في موقف الهول: ليتنا نرد في الحافرة ونكون عظاماً نخرة، ولكن يبعد هذا الإحتمال قولهم بعد ذلك: تلك إذن كرة خاسرة. إذ لو كان الاستفهام على وجه التمني، لكانت الكرة في حسابهم رابحة، كالذي في آيتي: الشعراء 102: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . والزمر 58: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . فهل الاستفهام هنا على وجه الاستبعاد والاستهزاء كما ذكر "الزمخشري وأبو حيان"؟ الاستهزاء قريب والاستبعاد متبادر في سؤال الكفار للرسل، بآيات: الإسراء 49: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . الإسراء 98: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} . المؤمنون 82: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . الواقعة 47: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} ؟ زالآيات كلها مكية والسياق فيها متشابة: فهي من جدال الممارين في البعث، والسؤال بها {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا} ؟ مما قالوه في الدنيا لرسل الله إليهم، على وجه الاستبعاد والتكذيب والإنكار. وليس الأمر كذلك مع آية النازعات حيث السؤال يوم ترجف الراجفة، لا في الحياة الدنيا. وهو يأتي مع الفعل المضارع {يَقُولُونَ} التي انفردت بها آية النازعات، دون الآيات السابقة التي صدر السؤال فيها بالفعل ماضياً {قَالُوا} والمضارعة تعني الإحضار، وبهذا الإحضار يتجه مقول القول إلي موقف القيامة، {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ..... {يقولون أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؟ {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} ؟ ومقتضى هذا عندنا، أن يحمل الاستفهام هنا، لا على وجه التمني الذي تصرف عنه الآية التالية، ولا وجه الاستهزاء الذي لا يمكن تصوره في مثل ذلك الموقف، ولا على وجه الإنكار الذي لا محل له مع الإحضار وتحقق البعث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وإنما على وجه الدهشة والإستغراب والخوف، وحيرة المأخوذ برجفة القيامة بغتة! * * * {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} . الكر: العطف على الشيء بالذات أو بالفعل، ويقال للحبل المفتول: كر، فيلحظ فيه معنى العود يالفتل، وسمى الليل أو النهار كرة، لما فيهما من عود وتكرار. وجاءت كرة في القرآن، مصدر المرة من: كر، أي إنعطف وعاد، في خمسة موضاع، أحدها في العودة الغلبة والنصر بعد هزيمة: وأربعة في العودة إلى الحياة الدنيا: الإسراء 6: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . البقرة 167: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . الشعراء 102: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؟ النور 58: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . وآية النازعات: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} وجاءت كرة مثناة في آية الملك 4: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وإذا فسرنا الرد في الحافرة، بأنه البعث للقيامة، فالكرة في آية النازعات بمقتضى اسم الإشارة، هي تلك العودة والرجعة إلى الحياة بعد موت. والخسارة نقيض الربح، ويكثر استعمال الخسر في النقص والهلاك والضياع. وكرة الكرة خاسرة، مطرد مع النسق البياني الذي أشرنا إليه في الحافرة والراجفة والرادفة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى تعيين الخاسرين هنا بأنهم صناديد قريش الذين كذبوا بالآخرة، و {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} على وجه الاستهزاء. وقد مضى القول في استبعاد الاستهزاء في موقف القيامة ورجفت البعث. ويمنعه أيضاً أن الأستفهام في الآيتين السايقتين جاء مع فعل المضارعة {يَقُولُونَ} الذي يعني الإحضار. أما الكرة الخاسرة فجاءت مع الفعل ماضياً {قَالُوا} وأتدبر هذا الانتقال من المضارعة إلى المضي، فأراه يهدي إلى بيان وجه المقول وتحديد الجو الذي قيلت فيه كل منهما، والدلالة على الحالة النفسية للقائلين في كل من الموقفين: بغتتهم رجفة القيامة، بما تبعها من هزة ووجيف وخشوع، فهم يقولون في ذهشة المأخوذ من فوجئ بما لم يكن في حسابه قط: لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ؟ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً؟ ولم يكن الموقف بحيث يحتاج إلى إجابتهم عما سألوا عنه، وقد قضى الأمر وصار كل هذا الذي كذبوا به وأستبعدوه واقعاً مشهوداً. فلما عاينوا اليقين {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} في حسرة وندم ويأس. وفي كلمة {قَالُوا} من سر البيان، أنها تأتي حيث يبدو في ظاهر الأمر إمكان الإستغناء عنها بـ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً؟ تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. ومجيئها هو الذي يوجه إلى أنتقالهم من حال إلى حال. فهم في أخذه الرجفة يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ؟ والمضارعة هنا هي التي تلائم حيرة المأخوذ وعجب المستغرب. كما أن المضى في {قَالُوا} بعد أن أتاهم اليقين، هو الملائم لحالة اليأس من استرجاع ما فات أو استدراك ما مضى والتيقن من الخسران المحقق والمصير المحتوم ..... هذا مما يوجه إليه {يَقُولُونَ} في صدر الآيتين الأوليين، عند رحفة القيامة ثم المغايرة بـ {قَالُوا} حين تحقق الخسران وقضى الأمر فلا سبيل إلى أسترجاع ما فات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} . الزجرة الصيحة، وأكثر ما تكون في سوق الكلب والبهم والدواب، ويلحظ فيها معنى الإذلال، من قولهم: تركه بمزجر الكلب. وناقة زجور: لا تدر لبنها حتى تزجر. كما استعملوا الزجر في التأنيب أو الردع، ومنه في القرآن الكريم آية القمر 4: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} . وجاءت "زجرة" مرتين: آية الصافات 19: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} . وآية النازعات. والآيتان مكيتان، ووحدة السياق فيهما تجعلنا نطمئن إلى أن الزجرة فيهما ليست مجرد صيحة، وإنما هي صيحة فيهل كل ما يحتمل الزجر من قهر وردع وهوان، مع ملحظ قريب من المعنى الحسي الأصيل للمادة، من قولهم زجر الكلب إذا ساقه! دون تحديد هذه الزجرة "بأنها النفخة الثانية يبعث بها الأموات" كتأويل الزمخشري. والمفأجاة فيها صريحة بإذا، وهي تناسب الزجرة الواحدة. وبغتة القيامة، وتتسق بيانياً مع حركة الخيل في صدر السورة، وعنف معاناتها لتنطلق ناشطة سابحة. إلى حسم معركة وتدبير أمر. ولشد ما تكلف المفسرون في تأويل الساهرة! قيل: هي الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم: يمين ساهرة، اي جارية الماء! قاله الزمخشري. ومثله الشيخ محمد عبده. وقيل: هي جهنم، عن قتادة (الكشاف والبحر) . وعن إبن عباس: هي أرض من فضة، يخلقها الله تعالى (جاء في البحر) . وعن وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله يوم القيامة لحشر الناس! وقيل: بل هي أرض مكة، أو أرض قريبة من بيت المقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقيل: بل هي الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق. وهكذا يقول تعالى {السَّاهِرَةِ} فيجعلون منها أرضاً من فضة، بيضاء مستوية يجري فيها السراب، ويحددون مكانها فهي مكة، أو الشام، أو بيت المقدس، أو هي الأرض السابعة يأتي بها الله!! ولو قصد القرآن إلى شيء من هذا لصرح به، لكنه لم يقصد إلى تحديد موقع الأرض ولونها وشكلها ومادتها، وإنما أكتفى {بالسَّاهِرَةِ} وصفاً لساحة الحشر أو عرضات جهنم حيث لا نوم هنالك ولا رقاد! وهو مأخوذ ببساطة عن قرب. من المدلول اللغوي للسهر: عدم النوم ليلاً. وقالوا: ليل ساهر، ذو سهر، والقمر ساهر وساهور، لذلك. والساهرية نوع من العطر، سميت بذلك لأنه يسهر في عملها وتجويدها. ولم ترد ملدة "س هـ ر" في القرآن إلا في آية النازعات، فهل في سياقها أو مادتها، أو أصل أستعمالها اللغوي، ما يشير من قرب أو بعد، على الحقيقة أو المجاز، إلى فضة وبياض، وإلى شام وحجاز، وإلى أرض سابعة وغير سابعة، وإلى إستواء وعدم إستواء؟ وأين في القرآن كله، من غيب الآخرة، ما يحدد موضع مكان الحشر أو جهنم، حتى يجوز القول بأن الساهرة أرض مكة أو بيت المقدس أو جبل بالشام؟! * * * {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 هنا يلفت القرآن إلى مصير طاغية علا ةتكبر وقال: أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة وألاولى .... وذلك هو مصير الطغاة في الآخرة .... وإنه لكذلك مصيرهم في الدنيا. وبحسب القرآن أن يلفت إلى مصير طاغية، ليكون عبرة لمن يخشى. ولم يعن القرآن هنا بشيء من تفصيل القصة: لم يذكر نشأة موسى، وصلته الأولى بفرعون. ولم يحدد تاريخ الحادثة، بل لم يذكر كذلك نوع الآية الكبرى التي أراها موسى فرعون، ولا نوع النكال الذي أخذه الله به في الآخرة والأولى. وإنما الذي عناه أن يعرض من القصة موضع العبرة دو تعلق بتفصيل لجزئيات مما ليس من جوهر الموقف. وقد بدأ هنا بالسؤال اللافت المثير: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . فطوى كل ما كان من قصة موسى قبل هذا الحديث إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى. والوادي المقدس، هو المكمان المطهر الذي تجلى فيه سبحانه لموسى وكلمه، وألقى إليه رسالته. ةفي قصة موسى من سورة طه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} 9 -12طوقدهد المفسرون في تأويل طوى وإعرابها، كما أختلف القراء في قراءتها. قرئت: طُوًى، بالضم والقصر والتنوين، وقيل هي علم على الوادي المقدس، فتعرب بدلاً أو عطف بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقرئت: طُوَى بالضم والقصر مع عدم التنوين. فتكون معدولاً بها عن "طاو" ويمنع الصرف على اعتبار البقعة، اي المكان. وفي قراءة: "طِوًى" بالكسر والقصر والتنوين. مصدراً بوزن الثنى وبمعناه. لأن الثنى بالكسر والقصر: الشيء الذي تكرره. فكذلك الطوى للوادي ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وقال قطرب: طوى من الليل. أي ساعة. والمعنى قدس لك الوادي في ساعة من الليل، لأن موسى نودي بالليل فلحق تقديس مجدد (البحر) . وقريب أن يكون "طوى" اسماً للوادي المقدس، وقد ذكره (الراغب) في المفردات. وأقرب منه، والله أعلم، أن تكون حالاً للوادي المقدس، حيث طويت الأبعاد ما بين أرض وسماء ..... * * * {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . الطغيان: تجاوز الحد، ويستعمل لغة في الماء يتجاوز الحد إلى الخطر. ومنه في القرآن: آية الحاقة 11: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . وفسروا الطاغية كذلك بالطوفان في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} . على أن أكثر استعماله القرآني، في تجاوز الحد في العصيان والكفر، وهو المعنى القريب في آيات: البقرة 15، الأنعام 110، الأعراف 186، يونس 11، المؤمنون 71، الإسراء 60، المائدة 64، 68، ص 55، عم 22. كما جاء بمعنى تجاوز الحد، في التجبر والعتو والظلم، في آيات: العلق 6، الفجر 11، الإسراء 60، الكهف 80. واسند الطغيان إلى فرعون موسى، في آيتي طه خطاباً لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 43. وفي آية النازعات: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} . والاستفهام هنا للعرض مع تلطف. وهذا التلطف في عرض الرسالة، صريح في آية طه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفيه كذلك رجاء صريح، بشاهد من: {لَعَلَّهُ} . والزكاة النمو عن خير وبركة. وتزكية النفس: أن تتطهر وتنمو فضائلها، وقد أمر الله تعالى موسى أن يذهب إلى فرعون فيقول له: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} والهداية: الإرشاد إلى الطريق المستقيم، ولعل أصل استعماله في الهدى: الصخرة الناتئة في الماء يؤمن بها العثار. والهدى: وجه النهار يتضح فيه الطريق. واللافت هنا إضافة رب إلى كاف الخطاب، مع أن فرعون لم يكن يؤمن برب موسى، وهذه الإضافة مقصود بها التقرير والإبزام، والتمهيد لقوله: {فَتَخْشَى} ، إذ الخشية من فرعون لن تكون إلا عن إيمان بربه. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} . الآية: العلامة، ويكثر استعمالها - دينياً - في الدلالة على وجود الله وعظمته ووحدانيته وقدرته وفي المعجزات التي يؤيد بها من يصطفيهم لرسالاته. وهي في "النازعات" العلامة الدالة على أن موسى مبعوث برسالة من الله جل وجلالة، أو بعبارة المفسرين: "المعجزة الدالة على صدقة". ووصفت الآية بالكبرى تعظيماً وتقريراً لقوة دلالتها وبلوغها في تأييد رسالة موسى غاية المدى. وإذا كانت هناك ضرورة لتحديد هذه الآية الكبرى، فلنا أن نستأنس بحديث موسى في سورة طه: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . وقال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 17 - 24. وقد حاول مفسرون تأويل درجة كل ىية من هذه الآيات. وقيل فيما قيل: إن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه عقب على ذكر اليد بقوله: لنريك من آياتنا اكبرى. وقيل: بل العصا أعظم، لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون، وخلق الحياة والقدرة في الجماد، (البحر المحيط) . وإذ جاءت {الْآيَةَ الْكُبْرَى} في النازعات مطلقة بغير تحديد، فقد ترددوا ما بين العصا واليد، ثم رأى بعضهم حسم الموقف بإعتبارهما آية واحدة، لأن العصا ملازمة لليد، فقال الزمخشري: "الآية الكبرى قلب العصا حية، لأنها كانت المقدمة والأصل، والأخرى - يعني اليد - كالتبع لها لأن موسى كان يتقيها بيده، أو أرادهما جميعاً، وجعلهما واحدة، لأن الثانية أي اليد كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها" (الكشاف) . وقال أبو حيان: "الآية الكبرى هي العصا واليد معاً، جعلهما آية واحدة، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها" (البحر المحيط) . والأولى ألا نحدد الآية هنا، ما دام القرآن نفسه لم ير تعيينها في هذا الموضع، مكتفياً بوصفها بالكبرى، وهي صيغة تشهد بمبلغ دلالة الآية على صدق موسى، وعلى قدرة ربه، رب فرعون والخلق جميعاً. * * * {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . هنا ينتقل الطاغي من التكذيب، إلى العصيان، إلى إدعاء الربوبية وهو أتعس الطغيان والكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والايات المحكمة تعرض مراحل هذا الإنتقال، في خطوات متتابعة، تسلم كل منها إلى أخرى أفدح واشد نكراص: بدأ فكذب بعد إذ أراه موسى الآية الكبرى. وعصى الرسول، ثم ولى مدبراً يسعى في تأكيد سلطانه وحمايته من خطر داهم يهدده، وكان سعيه هذا نتيجة لما ملأ نفسه من قلق، لو شاعت مقاله موسى في الناس، وأراهم ما أراه من ألاية الكبرى، فأبطلت ما يدعيه فرعون لنفسه من ربوبية. والإدبار هنا هو الإعراض عن موسى وما أراه من الاية الكبرى. والسعي لا يكون في هذا الجو النفسي - المروع بما سمع من النبي المرسل ورأى من آيته الكبرى - إلا لمواجهة الخطر والحيلولة دون تصديق الناس برسالة موسى. وهذا هو ما تفهمه الآيات البينات من قرب، دون حاجة إلى تكلف في تأويل الإدبار هنا بأنه فرار فرعون مرعوباً من الحية، وأن السعي هو الإسراع في المشية عن ذعر وطيش "وقد كان فرعون رجلاً طياشاً خفيفاً" على ما ذكر مفسرون، ولا ندري من أين جاءهم علم بذاك. وإنما نستبعد هذا التأويل، لأن الذعر من رؤية الثعبان منقلباً عن عصا، يبدو لنا مستبعداً في بيئة كانت تمارس السحر وتأليف أفاعيل السحرة، فليست رؤية عصا تنقلب حية تسعى، بحيث تثير رعب فرعون وتدفعه إلى الفرار مذعوراً. والقرآن نفسه يحدثنا في (سورة طه 57و 71) عن موقف فرعون حين حشر السحرة من قومه، فألقوا حبالهم وعصيهم. ثم ألقى موسى عصاه فإذا هي {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ويمضي القرآن فيصور لنا وقع هذه الآية على السحرة وعلى فرعون: أما هم فسجدوا خاشعين أمام المعجزة وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وأما فرعون فثبت على كفره وطغيانه، وأنكر تسليم السحرة وتوعد وأنذر. قال: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فكيف يقال، وهذا موقفه عندما غلب سحرته وخروا سجداً: إنه أدبر مذعوراً عندما إنقلبت عصا موسى حية، وفر بنفسه هارباً؟ ما نطمئن إليه، هو أن مسعاه كان لتدبير الأمر ودفع الخطر الذي يهدده: {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . لم يصرح القرآن بمفعول حشر، ولكن لفظ الحضر بما له من دلالة صريحة على الجمع المزدحم، يغني عن ذكر المحذوف. وقلما يستعمل الحشر - لغة - لإلا في موضع الحشد والشدة، ومنه حشر الجماعة أي إخراجهما إلى الحرب، والقرآن الكريم، يستعمله غالباً في اليوم الآخر، وقد سمي "يوم الحشر" في أكثر من ثلاثين موضعاً، أما استعماله في الحياة الدنيا فجاء منه في القرآن: وآية النمل 17: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} . وآية الحشر في خروج الذين كفروا من أهل الكتاب، من ديارهم في خبير شمالى الحجاز: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} . وآية ص 19: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} لداود عليه السلام. وخمس مرات مع فرعون موسى: طه 59. الأعراف 111، الشعراء 36، 53، والنازعات 23. والنداء في: فحشر فنادى، مسند إلى ضمير فرعون، لكن الزمخشري ذكر فيه إحتمالين: أن يكون فرعون "قد أمر منادياً فنادى في الناس بذلك". وهذا ما لا يعين عليه النص. أو "أن يكون قد قام بنفسه خطيباً". والإيجاز البليغ في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ينفي أن يكون الموقف موقف خطابه، وإنما هي كلمات ثلاث لم تزد. ولهذا الإيجاز دلالته على الحالة النفسية للطاغية حين شعر بالخطر، وهو متسق مع ما يسيطر على السورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كلها من سرعة حاسمة، على حين كان مقام التفصيل في (سورة طه) حيث ورد "حديث موسى" في نحو تسعين آية، اتسعت لذكر الحوار بين فرعون وموسى، ثم بينه وبين السحرة، وهو ما لم يتجه القصد إلى شيء منه في (النازعات) - وموضوعها اليوم الآخر، لا قصة موسى - اكتفاء بموضع العبرة في بيان مصير الطغاة. وفي لفظ {الْأَعْلَى} هنا ملحظ دقيق، فليس القصد منه معنى المفاضلة، وإنما هو الإطلاق غير المحدود بمفضول، ومثله: الأشقى، والأتقى، والأعلى ف سورة الليل، على ما سوف نزيده بياناً في الجزء الثاني من هذا الكتاب. * * * {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} . أصل النكل في اللغة: قيد الدابة وحديدة اللجام. نكلته: قيدته. لحظ فيه عجز المنكول وهوانه، فاستعمل التنكيل في مطلق الإذلال، منتقلاً إليه من معناه الأول وهو القيد والغل. وجاءت المادة في القرآن في خمسة مواضع: المزمل 12: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} جمع نكل. النساء 84: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} . وصيغة نكال، في الآيات الثلاث: البقرة 66: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . المائدة 38: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وآية النازعات في فرعون موسى. وللمفسرين في تأويل {نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} قولان: أحدهما، إنه الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. والثاني: أنه نكال كلمتيه الآخرة وألولى فقد قال مرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . وقال أخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص 38) . وليس في السياق هنا ما يشير إلى احتمال أن يقصد بالأخرى والأولى في النازعات كلمتان لفرعون، وإنما نطمئن فيها إلى تفسير الآخرة والأولى، بالحياتين الأخرى والدنيا. وقدمت الآخرة على الأولى، لآن نكالها أفدح وأبقى. * * * {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . العبرة: الإعتبار، وربما كان استعماله اللغوي الأول في تعبير الدراهمأي وزنها لمعرفة قيمتها، أو من: عبر الوادي. إذا قطعه من عبره إلى عبره. وقيل عبر الكتاب إذا تدبره ولم يرفع صوته بقراءته. وناقة عبر أسفار: مجربة لا يزال يسافر عليها. واستعمال العبرة في الاعتبار، ملحوظ فيه أن المرء يرى مثلاً أمامه فيزنه ويخبره ويتدبره ويتعظ به. والمثل هنا في "النازعات" هو فرعون الذي طغى، وكذب وعصى {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} . وحسبه مثلاً لمن يتعظ، وعبرة لمن يخشى. * * * {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ظاهر الخطاب أنه عام. والمقصود منكرو البعث، على ماقال "أبو حيان" وإنما أنكروه أستبعاداً لإمكان عودة الإنسان إلى الحياة الدنيا بعد أن يقبر ويبلى. ولو تدبروا آيات الله في الكون لوجدوا فيها ما ليس أسهل ولا أهون من إحياء العظام وهي رميم. وقد ساق القرآن هذه الآيات بأسلوب الاستفهام ليرجعوا إلى أنفسهم فيلتمسوا جواب ما سئلوا عنه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} . ولمنن شاء منهم أن يتصور صعوبة بناء سماء كهذه، وقد ألفوا في المبنى أن يكون بمنال اليد وأن يشد بما يمسكه ويرفعه فلا ينقض، وأين ذلك كله من تلك السماء، في ارتفاعها الشاهق الذي لا مجال لبلوغه، وفي قيامها على غير عمد ترى أو قوائم تحس! والسمْكُ: القامة والعلو. وتكلف مفسرون فحددوا مقدار ذلك السمك، ففي (الكشاف والبحر) : "جعل مقدارها في العلو مديداً رفيعاً، مقدار خمسمائة عامّ" وهذا ما لا يقبله النص من قريب ولا بعيد، كما أنه ليس من مألوف البيان القرآني فيما تناول من ظواهر الكون وآيات القدرة الإلهية فيها. وهو من تفاوت قياس السرعة بالزمن، على اختلاف العصور، فما كان يقاس أيام الزمخشري بالأعوام، في عصر الناقة، أصبح يقاس بالدقائق والثواني في عصر غزو الفضاء! وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن رفع السمك هنا هو "رفع أجرام السماء فوق رءوسنا" ولا يبدو قوياً. أما التسوية - وهي في اللغة استقامة واعتدال وإتزان - فمن المفسرين من تأولها هنا بالتتميم وبالإصلاح (الكشاف) وبجعلها ملساء ليس فيها تفاوت، وبإتقان الإنشاء وإحكام الصنعة (البحر المحيط، ومفردات القرآن) . وهي معان متقاربة، يحتملها النص في قبر وبلا تكلف، وأما قول الشيخ محمد عبده إن التسوية هي "وضع كل جرم في موضعه" فلا يعطي من قرب، الدلالة القرآنية العامة للتسوية والسوى والسواء، بمعنى الإستقامة والإعتدال، فيما يكون في استوائه ملحظ دقة وإحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وإغطاش الليل: إظلامه. وفي العربية: فلاة غطشاء وغطشى لا يهتدي بها، والغطش - محركة - الغمش، وغطش فلان غطشاً وغطشاناً، مشى رويداً من مرض أو كبر، والتغاطش: التعامي عن الشيء. ولم تأت المادة في القرآن في غير هذا الموضع. والإخراج للضحى، وهو إنبساط ضوء الشمس، فيه لفت إلى خروجه من الليل، آية من آيات القدرة في الضحى يخرج من الليل وينسلخ منه فإذا الضوء الشافر يعقب الظلمة الغطشى: وإضافة الليل والضحى إلى السماء، لأنها مجال الضوء والظلام تسفر منها الشمس فإذا الضحى متألق، وتغيب فإذا الليل مغطش. * * * ومن آيات قدرته تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} . فسر الراغب {دَحَاهَا} بأنه أزالها عن مقرها، أخذه من قولهم: دحا المطر الحصى من وجه الأرض أي جرفه. ومر الفرس يدحو إذا جر يده على وجه الأرض فدحاً ترابها. ولعل الأقرب أن يؤخذ من: دحيت الشيء أدحاه دحياً بسطته، والمدحاه كمسحاة: خشبة تمر على الأرض لا تأتي على شيء إلا اجتحفته، وتدحى: تبسط. وقيل لمبيض النعام: الأدحى والمدحى، لأنه يدحوه برجله ويبسطه ويوسعه ثم يبيض فيه. وهو المختار عند الزمخشري وأبي حيان. وظاهرة البسط في هذه الأرض واضحة، على المشهود المرئي، آية من آيات قدرته تعالى في الكون. والمرعى، مفعل من الرعى: والصيغة تحتمل أن تكون للمصدر وللزمان والمكان، لكن الأرجح أن المراد به هنا ما يرعى، وهو مفهوم المرعى كذلك في سورة الأعلى 4: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} . والأصل في الرعى أن يكون للإبل والأنعام، وقد جاء بهذا المعنى في آية طه 54: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} . واستعارة الرعى للإنسان قربية ومألوفة. ومنه الراعى والرعية. وفي تقديم الماء على المرعى، بآية النازعات، يقول أبو حيان: إن الماء سبب المرعى. * * * {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} . الإرساء: التثبيت والترسيخ، ومن استعماله في الحسيات: الرمى - كغبى - وهو العمود الثابت وسط الخباء، وقدر راسية: لا تبرح مكانها لعظمها. وقالوا: ألقت السفينة مراسيها إذا استقرت، وكذلك السحابة إذا أستقرت جادت. ومنه في القرآن: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} سبأ 31. {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} هود 41. على أن المتدة يكثر مجيئها في الجبال، لوضوح الثبات والرسوخ فيها، والقرآن يطلق أحياناً "الرواسي" على الجبال، فيشهد هذا بأن صفة الرسو، تبدو أوضح ما تبدو في الجبال: الرعد 3: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} . الحجر 19: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} . ومثلها آيات: ق 7، الأنبياء 31، والنمل 61، والمرسلات 27، ولقمان 10، والنحل 15. فإرساء الجبال، فيه هذه الدلالة الأصيلة الواضحة على الثبات والرسوخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وفيه كذلك لفت قوي إلى قدرة الله الذي أرساها، كما أن ظاهرة الرفع لا تبدو مثلما تبدو في السماء. وظاهرة الاستواء والبسط لا تبدو مثلما تبدو في الأرض. * * * {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . هنا يلفت القرآن إلى ملحظ آخر في بناء السماء ورفع سمكها، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها، وإرساء الجبال: فهي إلى جانب كونها من آيات قدرته تعالى وقوته، شاهدة على أن الذي بناها ورفعها ودحاها وأرساها لا يشق عليه خلق الإنسان وإحياؤه بعد أن يبلى جسده وترم عظامه؛ نعمة من نعمه تعالى على مخلوقاته، يذكر بها الغافلين والجاحدين والمغرورين. وسياق الآيات هنا، في الانتقال من الاستدلال بمثل هذا على قدرة الخالق، إلى بيان فضله تعالى ونعمته، شبيه بالذي في سورة عبس: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . وكما أردفت هذه الآيات من سورة عبس، بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} . كذلك يأتي بعد آيات النازعات النذير المباغت، بحساب وجزاء: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . والطامة الكبرى هي القيامة عند "الراغب". وهي النفخة الثانية فيما روي عن "ابن عباس" أو وقت سوق أهل الجنة إليها وأهل النار إليها، عن مجاهد وجاء الزمخشري في الكشاف بهذه الأقوال الثلاثة متتالية، وإن بدا منه أنه يختار تفسير الطامة الكبرى "بالقيامة". ولم تأت المادة في غير هذا الموضع، وأخذها "الراغب" من الطم أي البحر، ويقال: طم البحر على كذا، أي طغى وفاض وغلب. وربما كان من المناسب أن نذكر كذلك أن العربية استعملت الطامة في الداهية تغلب ما سواها. وقد استأنس الزمخشري بهذا في تفسيره الطامة الكبرى بالقيامة. * * * ونفهمها بالآية بعدها: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} . والتذكر هنا عن نسيان، وقد نظر له الومخشري بقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} المجادلة 6. وقالوا في {مَا سَعَى} : إن (ما) تحتمل أن تكون مصدرية أو موصولهة، وقد أختار أبو حيان الموصولة، أي عنله الذي سعى إليه، أما الزمخشري، فقال بهما معاً، دون ترجيح. والذي نراه أن المصدرة أعم وأولى بالمقام، فيكون المعنى: يوم يتذكر الإنسان مسعاه. {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} . والقرآن يستعمل البروز، وهو قوة الشخوص والظهور، في موقف القيامة والحساب. ومنه آيات: الشعراء 91: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} غافر 16: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . إبراهيم 21: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ؟ إبراهيم 48: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . وتسمية جهنم بالجحيم في المصطلح الديني، ملحوظ فيها الأصل اللغوي وهو شدة تأجج نارها. فالجحيم والجحمة في اللغة: النار الشديدة التأجج، كل نار بعضها فو بعض. وكل نار عظيمة في مهواة. والحاجم: الجمر الشديد الإشتعال، والجحام داء العين. ومن المجاز: التحجم التحرق حرصاً وبخلاً أو غضباً. وإسناد البروز إلى الجحيم، بالبناء للمجهول، تطرد به الظاهرة الأسلوبية في صرف النظر عمداً عن الفاعل لأحداث القيامة، تقريراً لفاعليتها التلقائية، وتركيزاً للإنتباه فيها. * * * {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} . الأثر، لغة: بقية الشيء، ومنه الخبر المأثور الباقي، والأثرة المكرمة تبقى، والبقية من العلم تؤثر. ولعل اصل استعماله في الأثيرة الدابة العظيمة الأثر في الأرض بحافرها. والأثر سمة في باطن خف البعير يقتفى بها أثره، أي ما يترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 من علامة باقية. وأثر فيه تأثيراً، ترك فيه أثراً يبقى، والآثار ما بقى من الماضين. والإيثار: التفضيل، وبهذا المعنى جاء في آيات: يوسف 91: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} . الأعلى 16: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . طه 72: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . وجاء نقيضاً للأثرة في آية الحشر 9: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وهو تفضيل أيضاً لكن للغير على النفس، كرماً وفضلاً. ويجيء الإيثار بمعنى الإختبار، ملحوظاً فيه أن المرء يختار ما يحسبه أفضل وأبقى. وبمعنى الأثرة، ملحوظاً فيها أن الأثر يستبقى لنفسه الأشياء المختارة. والمأوى: المكان يؤوى إليه ويلاذ ويسكن فيه. ولم يستعمله القرآن إلا في الحياة الآخرة: إما مع الجنة (السجدة 19، النجم ة15، النازعات 41) . وإما مع الجحيم أو النار أو جهنم وبئس المصير: (آل عمران: 151، 162، 197، الأنفال 16، المائدة 72، الحديد 15، العنكبوت 25، الجاثية 34، النساء 97، 121، يونس 38، الإسراء 97، السجدة 20، التوبة 73، 95، التحريم 9، الرعد 18، النور 57، النازعات 39) . وهو صنيع يشهد بان القرآن الكريم يقرر أن الدار الآخرة هي المأوى. ويلحظ فيه من قرب، أنها المقر الدائم والمنزل الأخير، وأنها نهاية المطاف وغاية المصير. أما الفعل من "أوى" فيأتي في القرآن أربع عشرة مرة، لا يخطئ الحس فيها جميعاً، معنى المأمن والحمى والملاذ، إما حقيقة في مثل آيات: الضحى 6: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} . الأنفال 72، 74: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الأنفال 26: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} . ومعها آيات: الكهف 10، 16، 63 ويوسف 69، 99 والمؤمنون 50 والأحزاب 51. وإما على سبيل الرجاء أو الوهم: هود 80: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} . هود 43: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} . المعارج 13: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} . * * * {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . في ذكر المقام هنا، مقام ربه، إيحاء بأن الخائف يراقب ربه في كل عمله ومسعاه، عن يقين بأمه واقف بين يدى الله، ماثل في مقامه تعالى، وأيا ما حملنا المقام، على المصدرية أو الزمان أو المكان، ففيه إحضار وشهود، ونظيره في القرآن آيات: إبراهيم 14: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} . الرحمن 46: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . قال أبو حيان: "وفي إضافة المقام للرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً". والهوى الميل، وربما كان أصل استعماله في: هوت العقاب إذا انقضت على فريستها. ومن هذا الإستعمال أخذ الميل، والإنجذاب إلى شيء مرغوب، شراً كان أو خيراً، محموداً أو غير محمود. على أن أكثر استعماله، كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أبو جيان، فيما ليس بحمود. ويجئ في القرآن، مفرداً وجمعاً، في سياق الغواية والضلال، بصريح آيات: النساء 135: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} معها آية ص 26. النجم 3: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} . الأعراف 176: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} والكهف 28، طه 16، القصص 50. الفرقان 43: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . والجاثية 23. المائدة 77: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} ومعها الأنعام 150، والجاثية 18. البقرة 120: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ومعها البقرة 145، والشورى 15، والرعد 37. المؤمنون 71: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . الروم 29: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . ومعها: محمد 14، 16، والقمر 3. الأنعام 119: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . وهذا التتبع، يؤيد ما يطمئن به السياق في آية النازعات: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي إستجابة إلى الشهوات الضالة والغواية المهلكة. وفي {نَهَى} هنا ملحظ دقيق، فكما استعملت العربية ضد الأمر، استعملت "النَهَى" كذلك في العقل والرشد، ومنه في القرآن الكريم آيتا طه 54، 128، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} . وهو ما يجعل للفعل "نُّهَى" النفس عن الهوى، إيحاء الإستجابة إلى صوت العقل في زجر النفس عن شهواتها، وإعتقال هواها المضل ..... * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} . وإذ يبلغ القرآن بالوعيد غايته. وينتهي به إلى الأمر المقضى من ثواب أو عقاب، لا يدع الموقف دون أن يعقب عليه بحسم عقدته، والرد على سؤالهم عن الساعة: أيان مرساها! ولفظ الساعة في العربية، يعني الجزء من الوقت، ثم تحدد. بستين دقيقة. ويستعمل معرفا بـ (ال) للعهد، ظرف زمان للوقت الحاضر، فيقال: أزورك الساعة. ثم غلب إستعمال "الساعة" في الآلة الضابظة للوقت، بعد اختراعها. لكن للقرآن استعماله الخاص للساعة، فهو لا يستعملها نكرة، إلا في برهة من الوقت قصيرة دون تحديد لها بالدقائق: الروم 55: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} . النحل 61: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ومعها الأعراف 34 وسبأ 30 ويونس 49. يونس 45: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} . الأحقاف 35: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} . أما حين يستعمل القرآن "الساعة" معرفة بـ: ال، فتلك - دائماً - هي ساعة الآخرة، لم يتخلف هذا في أي موضع من المواضع الأربعين الني جاءت "الساعة" فيها في القرآن الكريم، بدلالتها الإسلامية في المصطلح الديني. والملحظ البياني في هذا الإستعمال المطرد، أن هذه "الساعة" تنفرد دون ساعات الزمان كله، بأنها الحاسمة الفاصلة التي يتغير فيها نظام الزمن وسير الكون، لما يحدث فيها من حدث هائل خطير. وهو معنى يقوى ويتضح، بإسناد القيام، والإتيان، والمجئ، إلى هذه الساعة المتميزة الحاسمة، دلالة على بروزها وشخوصها وفاعليتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الأنعام 31: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} . الأنعام 40: {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} . يوسف 107: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} . ومعها الحج 55، والزخرف 66، محمد 18. الروم 12، 14، 55 {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} . ومعها طه 15، والجاثية 37. سبأ 3: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} . القمر 1: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . الكهف 36: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . ومعها (فصلت 50) وفي السؤال {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؟ إنكار وإستبعاد، فما قصد السائلون إلا أن يحرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام بسؤالهم: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؟ على الاستبعاد والجحد والإنكار. * * * {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} . وعن عمد، صرف القرآن عن السؤال عن مؤسى الساعة ومستقرها وأوانها، لأن الله تعالى قد استأثر بعلمها، فإليه وحده منتهاه، على وجه القصر الصريح بالتقديم والتأخير في الآية: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} لا إلى غيره: ونظيره ما في آيات: الأحزاب 63: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} . فصلت 47: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} . لقمان 34: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ومعها الزخرف 85. عنده وحده علم الساعة، وإليه وحده مردها ومنهاها، ففيم أنت من ذكراها يا محمد، والله استأثر بعلمها، لم يؤته أحاً من خلقه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لكن من الفسرين من يذهبوا إلى أن المقصود بالآية، هو "أن لا فائدة لهم من العلم بوقتها" فيضيعون ما للموقف من رهبة وخوف، ويخطئهم حس ما في تجهيل الوقت من تهويل وإرهاب. فليس صحيحاً أن علم السائلين بوقت الساعة لا يفيدهم، وكيف، وهو لو علموه يقيناً لا ستعدوا له؟! إنما صرفوا عمداً عن ذلك السؤال عن وقتها، كما صرف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الإشتغال بهذا، والله وحده قد استأثر بعلمها، ليظل لها رهبة المجهول وعنف البغتة، وهو اضح تماماً في آيات الساعة تأيتهم بغتة، فكأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. والفرق دقيق بعيد، بين أن يصرفوا عن السؤال عن وقتها لأن الله قد استأثر بعلمها، وبين ما يقوله الزمخشري وأبو حيان وغيرهما من أنه "لا فائدة لهم من علمهم بوقتها" * * * {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَ} . فيه قصر لمهمة النبي عليه الصلاوة والسلام، فيما يتعلق بهذه الساعة: أن ينذر من يخشاها، لا أن يذكر موعدها ومرساها. وفيه تخصيص للإنذار بمن يخشى الساعة، لأنه - كما قال أبو حيان - الذي يجدى معه الإنذار. والخشية ليست مجرد خوف، وإنما هي خوف مشوب برهبة المخشي وإعظامه، وأكثر ما تجيء في القرآن، في مقام خشية الله، مسندة إلى المؤمنين، أو الرسل، أو العلماء، أو من ترجى لهم الهداية. ويبلغ القرآن بالخشية أقصى دلالتها على الرهبة والإجلال، حين تكون من الحجارة أو الجبل: البقرة 74: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . الحشر 21: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . هنا تبلغ المباغتة غاية العنف والنذير، ولا نتعلق بما ذكره المفسرون في مكان اللارثين وهل يكون في القبور أو في الحياة الدنيا: فالآية حين أطلقت اللبثَ، صرفته عمداً إلى كل ما قبل رؤيتهم الساعة. والأصل في الرؤية أن تكون حسية، وكون الساعة شيئاً يرونه رأى العين، فيه من التشخيص والتجسيم والبروز، إلباس الظرف بالمظروف، وإدماج الحدث "القيامة" بالوقت الذي يحدث فيه وهو "الساعة": فهذه الساعة الحاسمة الفاصلة، كأنها الحدث الهائل الضخم الذي يقع فيها. وهذا الملحظ من التجسيم، وتقوية الصلة بين الوقت والحادث، هو نفسه الذي لحظناه في إسناد القيام والإتيان المجئ إلى "الساعة" وربما تنوسيت ظرفية الساعة فأخبر عنها بصيغة المذكر، على اعتبار أنها الحدث نفسه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} الشورى 17 ومعها آية الأحزاب 63. وإنة تكلف المفسرون له محذوفاً مقدراً هو "قريب وقتها"! وبغتة المفاجأة، هي المسيطرة على آية النازعات: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} كما تسيطر على أكثر الآيات التي جاءت "الساعة" فيها، فهي تأتيهم بغتة، كأن لم يلبثوا إلا ساعة. ولا حاجة بنا بعد هذا إلى الوقوف عندما قاله بعض المفسرين في إضافة الضحى إلى العشية: "لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد: "الزمخشري" أو لكونهما طرفى النهار "بدأ بذكر أحدهمت فأضاف الآخر إليه تجوزاً واتساعاً: أبو حيان" فليس شيء من هذا ومثله بذى بال، أمام ذلك النذير الصادع برهبة المفأجاة، فإذا الساعة قائمة يراها هؤلاء الذين أنكروها وسألوا في استبعاد واستهزاء {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ! وإذا هول اليقين يفجأ من غرتهم الدنيا، فيحسم المشهد المثير وينتهي به إلى غايته المقررة، متسقاً مع المشهد الحسي المادي الذي لفت إليه القرآن أول السورة في {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 سورة البلد بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 السورة مكية، ترتيبها الخامسة والثلاثون على المشهور في ترتيب النزول. نزلت بعد (ق) . وهي إحدى سورتين ابتدأتا بلفظ القسم صريحاً مسبوقاً بـ: لا والسورة الأخرى هي القيامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . عل ىأن عبارة {لَا أُقْسِمُ} وردت في مستهل آيات أخرى، لكن في غير مفتتح السورة: الواقعة 75: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} . الحاقة 38: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} . المعارج 40: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} . القيامة 2: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} . التكوير 15: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} . الانشقاق 16: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} . وكلها آيات مكية ... وفعل القسم فيها جميعاً، مسند إلى الله سبحانه متلماً. وجمهرة المفسرين يكتفون هنا بالقول أن {لَا أُقْسِمُ} معناه: أقسم، زيدت لا، للتأكيد: دون إشارة إلى المقتضى البياني للعدول عن {أُقْسِمُ} إلى {لَا أُقْسِمُ} أو إيضاح وجه تأكيد القسم، بنقيضه وهو النفي! على أن الشيخ محمد عبده، لم يفته الوقوف عندها ليقول: "إن لا أقسم، عبارة من عبارات العرب في القسم، يراد بها تأكيد الخبر، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. ويقال إنه يؤتى بها في القسم إذا أريد تعظيم المقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 به، كأن القائل يقول: إني لا أعظمه بالقسم لأنه عطيم في نفسه. والمعنى في حال على القسم". وفي {لَا أُقْسِمُ} قول آخر، ذكره أبو حيان بين الأقوال في تفسير الآية وهو أن النفي هنا حقيقي، وليس لتأكيد القسم! وتوجيه العبارة عنده، على النفي: "أن هذا البلد لا يقسم الله به وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته". ونستقرئ كل مواضع الاستعمال القرآني لهذا الأسلوب في نفي القسم فنجد: * أنه لم يستعمل "لا أقسم" إلا حين يكون الفعل مسنداً إلى الله تعالى. *أن فعل القسم لم يأت في القرآن كله مسنداً إلى الله، إلا مع "لا" النافية. وهذا الاستقراء صرح الجلالة على أنه سبحانه ليس في حاجة إلى القسم وأن نفي الحاجة إلى القسم تأكيد له. ومن مألوف استعمالنا أن نقول: لا أوصيك بفلان، تأكيداً للتوصية. كما نقول: بغير يمين، تأكيداً للثقة التي لا نحتاج معها إلى يمين. وفي لفظ "أقسم" هنا ملحظ ذو بال. فقد يبدو من السهل هنا أن نفسر أقسم بلفظ أحلف، وليس في استعمال العرب لهما ما يمنع من تفسير أحدهما بالآخر، فالنابغة يقول في اعتذاره للنعمان * حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وقال الأعشى: * حلفت برب الراقصات إلى منى * وقال شاس بن عبدة، أخو علقمة الفحل: * حلفت بما ضم الحجيج إلى منى * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفي القاموس: حلف أي أقسم .... لكن استقراء الكلمتين في القرآن يمنع هذا الترادف: فلقد جاءت مادة "حلف" في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً، كلها بغير استثناء، في مقام الحنث باليمين. منها ست آيات في المنافقين الذين فضحتهم سورة التوبة بعد غزوة تبوك: التوبة 42: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . التوبة 56: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} . التوبة 62: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} . التوبة 74: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} . التوبة 96: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . التوبة 107: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ومعها، في المنافقين أيضاً، آيات: المجادلة 14: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . المجادلة 18: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . القلم 10: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 النساء 62: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . وجاء الفعل مرة واحدة مسنداً إلى الذين آمنوا، فلزمتهم كفارة الحنث باليمين {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . المائدة 89. أما القسم فيغلب مجيئه في الأيمان الصادقة. وجاء المصدر منه موصوفاً بالعظمة في آية الواقعة: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} . ويجئ الفعل في الشهادة ومثلها، حيث لا يحل الحنث باليمين، كالشهادة على الوصية: الماءدة 106، 107. وحين يسند القسم في القرآن إلى المجريمن فإنهم في ظنهم غي حانثين: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الروم 55. وكذلك حين يقسم الكفار بالله جهد أيمانهم، عن اقتناع بصدق ما يقسمون عليه ولو كان في حقيقته كذباً: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} . الأنعام 109 ومعها آيات: الأعراف 49، إبراهيم 44، المائدة 53، النحل 38، النور 53، فاطر 42. وأمام هذا الاستعمال القرآني، لا يهون أن نفسر القسم بالحلف، وصنيع القرآن فيهما يلفت إلى فرق دقيق بين اللفظين المقول بترادفهما، فرق يؤيده فقه العربية، فاختلاف مادتي اللفظين يؤذن باختلاف مدلول كل منهما، وبين حلف وحنث من القرب، ما ليس بين حلف وقسم، مما يبعد أن يكونا سواء. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ولا أعرف أنهم اختلفوا في أن {هَذَا الْبَلَدَ} . المقسم به في الآية، هو "مكة". ونضيف من الاستقراء، أنه حيثما جاء {هَذَا الْبَلَدَ} في القرآن الكريم، مفرداً معرفاً بـ: ال، مشاراً إليه بهذا، فإن الإشارة تعين أن "ال" للعهد، وهذا البلد هو مكة. في آيتى البلد: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} وآيتى: التين 3: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} . إبراهيم 35: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} . وجاء البلد، بغير اسم الإشارة، في آية الأعراف 58 وليست خاصة بمكة، بل عامة لجنس البلد الطيب: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} أما بلد، بالإفراد والتنكير، فقد جاء مرة في دعاء إبراهيم لمكة: في آية البقرة 126: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} . وثلاث على العموم المستفاد من التنكير مع قيده بالوصف، في آيات: النحل 7: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . فاطر 9: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} . ومعها آية الأعراف 57. ومن هذا التتبع، نرى أن تخصيص "البلدط بمكة في القرآن، لا يطون إلا معرفاً بـ: "ال" للعهد، وباسم الإشارة الذي يفيد التعيين والاختصاص والإحضار. * * * وسبقت الإشارة في {لَا أُقْسِمُ} إلى قول ذكره أبو حيان في تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الآية، وهو أن "لا" هنا لنفي القسم لا لتأكيده، لأن "هذا البلد لا يقسم الله به وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته". يبدو أن القول بالنفي هنا، وجه إليه أن القسم للتعظيم، فلما منع ظاهر السياق هنا أن يكون المقسم به موضع تعظيم، قيل إن "لا" مافية وليست مؤكدة، وقد هدى تدبر الظاهرة الأسلوبية، إلى تأكيد القسم بنفي الحاجة إليه، حين يكون فعل القسم مسنداً إلى الله تعالى. ويبقى القسم في الآية على وجهه من تعظيم حرمة هذا البلد، واستعظام أوضاع لأهله متوارثة، لا تليق بجلال حرمته. * * * وآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} مرتبطة كما قلنا بالآية بعدها. {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} . من ناحيتين: واو الحال، وهي قيد للجملة الأولى، ثم تكرار "هذا البلد" توكيداً للصلة بين الآيتين. وفي معنى {حِلٌّ} خلاف بين المفسرين: قيل: هو من استحلال حرمة الرسول في البلد الحرام الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني. وقد واجهتهم هنا مشكلة: إذ كيف يستقيم القسم بمكة، حال استحلال أهلها لحرمة الرسول في البلد الحرام، والقسم هنا على وجهه للتعظيم؟ قال "أبو حيان" في (البحر) إن "لا" نافية للقسم الذي هو تعظيم. وقال إن القيم: المعنى متضمن تعظيم بين الله ورسوله، وقال الشيخ محمد عبده: "ومعنى كونه حلا، أنه استحل لأهل مكة: استحلوا إعناته - - صلى الله عليه وسلم - ومطاردته واستباحوا حرمة الأمن في ذلك البلد الأمين حتى اضطروه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الهجرة، ليفيد أن مكة عظم شأنها جليل قدرها في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي لم يرع أهلها تلك الحرمة التي خصها الله بها". وقيل: {حِلٌّ} هنا بمعنى إحلال الله لرسوله أن يفعل بمكة وأهلها ما شاء "فأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أن الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء". والآية مكية بإتفاق وقد نزلت قبل فتح مكة بسنين، فاحتاجوا إلى تعليل هذا التأويل، فقال الزمخشري يجيب عن سؤال طرحه في هذا الموقف: إن المستقبل هنا كالحاضر المشاهد، ونظيرهقوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .وما بنا حاجة إلى مثل هذا، فالإخبار عن المستقبل مألوف في العربية وفي القرآن، وأبو حيان معذور حين يرد على الزمخشري هنا بقوله: "وأما سؤاله والجواب، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات". ثم قال أبو حيان: لم نحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة. وفي الآية، قول ثالث هو أن يكون {حِلٌّ} من الإحلال ضد الإحرام ذكره إبتن القيم في التبيان. وقول رابع: أنه من الحلول بمعنى الإقامة ضد الظعن، ذكره الراغب في (المفردات) وكذلك إبن القيم: "قسم بحرمة المكان، وبحلول الرسول فيه، قسم بخير البقاع وقد اشتمل على خير العباد". وقال أبو حيان في البحر: "أقسم بها لما جمعت من الشرفين: شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وإقامته بها، فصارت أهلاً لأن يقسم بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 والحل لغة، يحتمل أكثر الأقوال التي ذكرها المفسرون، فيكون من الحلول ضد الظعن، أو من الإحلال ضد الإحرام، أو من إستحلال الحرمة وإنتهاكها، وربما كان آصل معنى فيه، حل العقدة، ومنه دعاء موسى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . ثم قيل: حللت أي نزلت، من حل الأحمال عند النزول، ومنه في القرآن الكريم آيات: الرعد 31: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} . إبراهيم 28: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} . فاطر 35: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} . ثم نقلت إلى المصطلح الديني في الدلالة الإسلامية على الحل والحلال، نقيض الحرتم. وهو الغالب على الاستعمال القرآني، ومعه الإحلال، ضد الإحرام في آية المائدة 2: وهي مدنية. وبمعنى الحلال جاءت كلمة {حِلٌّ} في القرآن، في أربع مرات من خمس، هي كل ما في الكتاب الكريم من صيغة {حِلٌّ} : المائدة 5: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} . الممتحنة 10: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . آل عمران 93: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} وكلها آيات مدنية. ونطمئن إلى تفسير آية البلد بالحلول - وهو المختار عند أبي حيان - والمعنى يستقيم بهذا الفهم، مع ملحظ من دلالة الاستحلال لحرمة الرسول في هذا البلد، لافت إلى الأحوال الشاخصة لهذا البلد وأهله، فكل ما يقع على الرسول من إيذاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 حاضر مشهود؛ يعانيه - صلى الله عليه وسلم - ويكابده، إذ هو موضع الأذى والاضطهاد بمكة، وهو مقيم بها. وإنها، لكما قال المصطفى يوم الهجرة: "لأحب أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى رسوله" عليه الصلاة والسلام. وبهذا الفهم لا يبدو معنى الإحلال ضد الإحرام قريباً والسياق لا يطمئن به، والأذهان غير متجهة إليه في هذا المقام. كما نستبعد أن يكون حل بمعنى إحلال الله لرسوله هذا البلد يفعل به بعد الفتح ما شاء، لظهور تكلفه، فضلاً عن كون الصيغة لا تقبل لغوياً أن يكون الإحلال من حل، وليس الاشتقاق. وتفسير الحل بالإقامة وهو المعنى المتبادر، أو يجعل أذى الرسول حلالا وهو أكثر استعمال القرآن للمادة، يبدو قوى الصلة بالآيات التالية، على وجه لانضطر معه إلى تمزيق السياق أو الإبعاد في التكلف، وبخاصة حين تحمل آية {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} على الحالية، وهو ما ذهب إليه "أبو حيان"، وليس على الاعتراض كما قاله "الزمخشري" وتابعه على ذلك الشيخ محمد عبده فقال: "واعترض بها بين العاطف والمعطوف، ليفيد أن مكة عظيم شأنها جليل قدرها في جميع الأحوال". وهذا القول بأن الآية معترضة، يغيب عنه ما في الحالية من قوة الربط وتقرير الصلة بين الآيتين. إذا تكون الثانية قيداً للأولى. ووصلاً لها بالآية التالية: * * * {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} . فالواو هنا للعطف، {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} معطوفان على هذا البلد في الآية الأولى {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ} فيه تعرف أحواله أهله وأوضاعهم، وتعاني ما تعاني من أمرهم. وعند بعض المفسرين أن "ما" في الآية، يحتمل أن تكون نافية، وهو احتمال لا يدعو إليه ملحظ من السياق أو داع من المعنى فيما نرى، وتأويلها عندهم "ووالد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والذي ما ولد" أي العاقر، على تقدير موصول مضمر يصح به هذا المعنى. مع أن إضمار الموصول لا يجوز عند البصريين .... (أبو حيان) . على أن جمهرة المفسرين، ذهبوا إلى أن "ما" هنا اسم موصول، ثم اختلفوا بعد ذلك في تأويل: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ...... وأهم ما عناهم منه، هذا التنكير في {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال الزمخشري: هو للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. وأولى منه قول من قالوا بالتعميم. لكن ما حدود هذا التعميم؟ أطلقه قوم، منهم إبن عباس - فيما نقل الطبري وأبو حيان - فأدخل فيه جميع الحيوان! وجعله بعضهم. ومنهم إبن جرير الطبري، عاماً في البشر والحيوان والنبات. وهو ما أخذ به الشيخ محمد عبده فقال: "المراد منه أي والد وأي مولود من الإنسان والحيوان والنبات كما يرشد إليه التنكير، وكما هو مختار عند إبن جرير وجمع من المحققين". واكتفى قوم من العموم بالبشر دون سائر الحيوان والنبات، فقالوا: والوالد والولد هنا، آدم وذوريته "إبن القيم، وذكره الزمخشري". وخصه قوم: بالصالحين من ذريته. وحصره فريق في محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وقد ذكره الطبير بصيغة الإحتمال، وأورده الزمخشري في (الكشاف) وذكره أبو حيان مروياً عن "مجاهد" .... وفي قول: إنه نوح وذريته، أو إبراهيم عليه السلام وجميع ولده! وهكذا يتسع عموم التنكير عندهم، حتى يحتمل جميع الناس والحيوان والنبات .... ثم يتدرج في الضيق، حتى ينحصر في أحد الأنبياء عليهم السلام وأمته، أو الصالحين من ذريته وولده! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ولا أدري هل هذه الأقوال جميعاً مما يمكن أن تحتمله العبارة لغوياً؟ لكنها مما لا يحتمله المقام بيانياً. ولا يتبين لنا بقول منها موضعه من المعطوف عليه {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} . شغل المفسرين أن يبينوا وجه العظمة في {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} لوقوعهما في حيز المقسم به، مع أن القسم كما يكون للتعظيم، يكون لاستعظام ما هو جسيم وخطير. فالذين قالوا: هو آدم وذريته، قالوا إن وجه التعظيم أن آدم مرجع العباد، كما أن مكة مرجع البلاد! (التنبيان) . والذين قالوا: هو محمد وأمته، قالوا إن القسم هنا لتعظيم الله محمداً وأمته، بعد ما أقسم ببلده، مبالغة في شرفه - صلى الله عليه وسلم - (الطبير. ونقله أبو حيان) . والذين قالوا: هو كل {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، من جميع البشر والجيوان والنبات، فسروه بنه تعالى أقسم بذلك "ليلفت نظرنا إلى رفعة هذا الطور من أطوار الوجود، وهو طور التوالد، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في ذلك .... فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو من مقاومة فواعل الجو ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى، تعمل عملها وتزين الوجود بجمال منظرها .... إذا أحضرت ذلك في ذهنك، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم". وما أرى نص الآية، يحتمل كل ذلك. وهذا الإطناب في بيان عظمة التوالد في النبات والحيوان، لم يرتبط على وجه ما، بهذا البلد الذي ارتبط به {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} لفظاً بواو العطف، ومعني بوقوعهما جميعاً في حيز المقسم به ....... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وتخصيص والد، بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو نوح، أو إبراهيم، عليهما السلام، يبعده، إن لم ينفه، العموم المستفاد من التنكير، فضلاً عن دلالة "ما" على غير العاقل. ونتدبر الآية في سياقها من السورة، فترى التعميم أقرب إلى أن يفهم منه تتابع الأجيال من أهل {هَذَا الْبَلَدَ} طبقة بعد طبقة، وما توارثوا، ولداً عن والد، من أحوال وأوضاع يستعظمها القرآن فيقسم بها لفتاً إلى جسامة خطرها، ثم يتولى بيانها في آيات تالية. ووضع "ما" مكان من - التي هي للعاقل - في قوله تعالى: {وَمَا وَلَدَ} لفت إلى أن المقصود هنا ليس أشخاصاً بذواتهم، وإنما الحديث عن تتابع الحياة وأجيالها على نمط واحد، وعن توارثها ولداً وخلفاً عن سلف. والأمر بهذا الفهم، أبسط من أن نتكلف له مثل ما ذكره الشيخ محمد عبده أو نحو ما قاله الزمخشري فيه: "وقوله تعالى ماولد، فيه ما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي باي شيء وضعت، يعني موضوعاً عجيب الشأن! " وربما كانه "الفراء" أهدى منهجاً، حين اكتفى بالاستئناس بما في القرآن من آيات جتءت فيها "ما" للناس كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ........ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} دون أن يتكلف في الأمر ما يدعو إلى العجب! (البحر المحيط) . * * * {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} . جمهور المفسرين على أن الإنسان اسم جنس (أبو حيان) . والراجح أنه كذلك، فأكثر ما تجيء كلمة "الإنسان" في القرآن، معرفة بأل للجنس - نحو 63 مرة - وجاءت مرة واحدة نكرة، لكن مع الاستغراق بلفظ كل في آية الإسراء 13: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . لكن الزمخشري خص الإنسان في آية البلد، بمرضى القلب من بني آدم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقال أبو زيد فيما نقل أبو حيان: إن الإنسان هو آدم. على أن استقراء كل آيات الإنسان في القرآن الكريم، يشهد بأن دلالة الإنسانية فيه أخص من الآدمية والإنسية، فالإنسان هو الذي يختص بالبيان والجدل ويحتمل التكليف والأمانة والعهد والوصية، والإبتلاء بالخير والشر والتعرض للغواية، مع ما يلابس ذلك كله من غرور وطغيان .... * * * أما {كَبَدٍ} فلم ترد في القرآن صيغة ولا مادة، غير هذه المرة. وأصل الكبد في اللغة من وجع الكبد، يقال: كبد الرجل يكبده، ضرب كبده، وكبد - كعنى - شكا كبده. والكباد، كغراب: وجع الكبد. ثم أطلق على الألم بعامة، فقيل: كبد، أي ألم. ومنه أخذ معنى الشدة والمشقة، فقيل: كبد القوم شق عليهم، والكبد بالتحريك: الشدة والمشقة، والمكابدة: المقاساة والمعاناة. ولم يختلف المفرسون في أن معناه في آية البلد الشدة، لكن أقوالهم شتى في تحديد هذه الشدة، فالزمخشري يقول: "لقد خلقنا الإنسان في مرض هو مرض القلب وفساد الباطن"، ثم انتبه إلى أنه بهذا يثير موضوع المسئولية والجزاء، وهو الموضوع الذي فتح عليهم باباً لم يستطيعوا سده وإقفاله، فالخالق هنا هو الله، خلق الإنسان مريض القلب فاسد الباطن، ومن ثم يستدرك الزمخشري المعتزلى قائلاً: "يريد: الذين علم منهم - تعالى - حين خلقهم، أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات". ومقتضى هذا أن تكون "ال" في الإنسان للعهد لا لاستغراق الجنس الذي يرجحه سياق الآية، ويؤيده الاستعمال القرآني للإنسان مقصوداً به عموم النوع الإنساني، وهو ما عليه الجمهور، كما صرح بذلك أبو حيان في (البحر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وفي (التبيان) : لم يخلق الله خلقاًً يكابد ما يكابد إبن آدم .... يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وفيه كذلك عن "إبن عباس": يعني بالكبد، حمله وولادته ورضاعه وفصاله، نبت أسنانه، وحياته ومعاشه ومماته، كل ذلك شدة. فصله إبن القيم القيم فقال: "الإنسان مخلوق في شدة، بكون في الرحم ثم في القماط ثم في الرباط، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف ومكابده المعيشة والأمر والنهي، ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة في الجنة". وقال الشيخ محمد عبده: "إنه في عناء من تصريف قواه في عمله، بل وفي أكله وشربه، وحماية أهله في سربه". وكل ذلك يمكن أن يقال، لكن ما وجه ارتباط القسم بهذا البلد، ووالد وما ولد، بتلك الشدة التي خلق فيها الإنسان، والعناء المحتوم عليه من ساعة مولده إلى يوم القيامة؟ يقول الشيخ محمد عبده: "إن الإنسان نوع من الوالد والمولود، فحق له أن يخلق في كبد وكد ونصب ..... وما يصيب الرسول من تقريع المستحلين لحرمته، فهو من شأن الإنسان وقدر قدر على كل مولود منه. وفيه من تسليته - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك افيذاء ما هو ظاهر، وأن العناء الذي يلاقيه من اختصه الله بوحه، هو العناء الذي يصيب الوالد في تربية ولده، والمولود في بلوغه الغاية من سير نموه". ووجه الغرابة في هذا التأويل أن يسوى بين أعباء الرسالة، وما يتحمله كل مولود من عناء النمو. قد رأينا أنه - رحمه الله - ذهب في التعميم إلى آخر مدى، فجعل {مَا وَلَدَ} في ألاية، لكل مولود من إنسان وحيوان ونبات، فهل يستوي حقاً أعباء الرسالة الكبرى، ما يكابده كل مولود من البشر. ودعك من بذور النبات وصنوف الحشرات والحيوان؟! مانظن المكابدة هنا تنصرف إلى ما ذكروه من مشاق الحمل والنمو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 والعيش والموت والحساب، كما نستبعد أن يكون "الكبد" في الاية هو مرض القلب وفساد الباطن كما قال "الزمخشري"وإنما الكبد - فيما نرجح - هو مت هييء له اإنسان بفطرته من احتمال المسئولية ومشقة الاختيار بين الخير والشر. ووجه ارتباطه بالقسم قبله - بحال أهل مكة وما اختاروا لأنفسهم من استحلال أذى الرسول وهو مقيم بالبلد الحرام - واضح ظاهر. وهو أوضح ارتباطاً بالآيات بعد. من ضلال الغرور بهذا الإنسان الذي وهب الله له وسائل الإدراك والتمييز. وبين له معالم الطريقين: الخير والشر. وقوله تعالى: {خَلَقْنَا} بدلاً من: جعلنا، إشارة إلى أن ألإنسان مخلوق بفطرته لهذه المكابدة، على ما فهمناها من معاناة المسئولية وأمانة التكليف، والإبتلاء بالشر أوالخير، دون حاجة إلى ما أثاره المجبرة أو المعتزلة من كلام في المسئولية والجزاء. ثم تأتي بعد هذا، مبينة الكبد الذي خلق فيه الإنسان، موضحة ما هيئ له من وسائل الهدى والتمييز. * * * {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ؟ فهنا تبدأ المعاناة، بما يشعر به الإنسان في حال قوته وثرائه من غرور يطغيه ويضله فيحسب لأن لن يقدر عليه أحد: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . وبلاغة الاستفهام في الآية، تأتي من هذا الطى المتعمد لتحديد نوع الكبد، على مألوف الإيجاز المعهود، وبخاصة في قصار السور من العهد المكي. ثم يفاجأ السامع بظواهر الكبد وعلله وآثاره، في صورة استفهام تقريري، يحمل من الإنكار قدر ما يحمل من التقرير القاطع الحاسم؛ فهنا وقفة عند {كَبَدٍ} منكرة، يذهب فيها الظن كل مذهب. يليها الاستفهام المثير: أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ و {لَنْ} لتأييد النفي في حساب هذا الإنسان المغتر. ولا حاجو بنا إلى تحديد مرجع الضمير في {أَيَحْسَبُ} بشخص معين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هو من قول: أبو الأشد، كان قوياً يبسط له الأديم العطاظي فيقوم عليه ويقول: "من أولنى عنه له كذا" فلا ينزع إلا قطعاً ويبقى موضع قدميه. أو هو قول آخر: الوليد بن المغيرة، وغروره بقوته وجاهه وماله ذائع معروف. فالعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص سبب النزول، لو صح أن الآية نزلت في أحد الرجلين ...... هو الإنسان بعامة، كما فهم "أبو حيان" وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، ومع الطغيان تغره قوته فيحسب أن لن يقدر عليه أحد، ويغره ثراؤه فيتشدق مباهياً مفاخراً. * * * {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} . لفظ "لبد" لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، وهو في اللغة الكثير المجتمع، وأصله من: تلبد الصوف ونحوه، إذا تداخل ولزق بعضه ببعض. واللبدة، بالكسر: شعر زبرة الأسد لوفرته وتداخله، والتبدت الشجرة وتلبدت: كثرت أوراقها، واللبدى: القوم المجتمع. يقول: أهلكت، ولم يقل: أنفقت، مع قربها، إذ الإهلاك أولى بالغرور والطغيان، وأنسب لجو المباهاة زالفخر على المقام ...... والتنكير في "مال" كالتنكير في: لبد، وفي: أحد، مقصود به إلى الإطلاق والتعميم. * * * {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} . هنا عاد الاستفهام، بكل ما فيه من ردع وإنكار، يفجأ المغتر بماله وقوته، وفي حسابه أن لم يره أحد. وقد عدل البيان القرآني هنا عن "لن" التي في الاستفهام الأول، إلى "لم" التي تنصرف إلى الماضي فتقرر أن ماضي المغتر محسوب عليه محاط به. بعد أن أكد في: أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ أن مصيره في يد القادر المحيط بما يعمل، لا تخفى عليه خافية، فمهد هذا للآيات بعده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . بدأ فيها بوسائط الإدراك الحسي، ووسائل الإبانة: فالعين أداة البصر، واللسان والشفتان أدوات النطق والإبانة والتعبير. وليس المراد هنا، والله أعلم، أدوات الحس العضوية العضلية، فذلك ما لا يختص به الإنسان دون إليهم والوحش والطير والحشرات. وإنما يراد بها ما يسأل الإنسان عنه، على وجه الحض والزجر بالحجة، من أمانة البصر والنطق، تمهيداً لما يلي في السورة، من تقرير تبعات الرشد ومسئولية الكلمة. * * * بعد وسائل الإدراك الحسي من بصر ونطق، يأتي التذكير بما هدي تعالى الإنسان من إدراك مميز لمعالم الطريقين: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} والأصل اللغوي للهدى أنه الصخرة الناتئة في الماء يؤمن بها من العثار، ووجه النهار يعرف السائر فيه طريقه فلا يضل. ثم استعمل في هوادى الإبل أي المتقدمة منها، ومنه الهادى أي الدليل الذي يتقدم القوم ويهديهم الطريق؛ واستعمل بعد هذا مجازياً في الهداية ضد الضلال، وهو أكثر المعاني وروداً في القرآن كما استعمل - في الجو الديني - في التوفيق والإلهام. والنجد لغة: ما أشرف من الأرض، والطريق المرافع الواضح. والنجود من الإبل والأتن: الطويلة العنق، والماضية، والمتقدمة، والتي تبرك على المكان المرتفع. ومن الوضوح والارتفاع والتقدم، أطلق النجد على الدليل يظهر مكانه في القوم، ويسقهم هادياً إلى الطريق. وفسر "الراغب" النجدين في الآية، بطريق الحق والباطل في الاعتقاد، والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح في الفعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 واقتصر "الزمخشري" ومثله "إبن القيم، والشيخ محمد عبده" على القول بأنهما طريقاً للخير والشر، وذكر "أبو حيان" أن هذا هو ما عليه الجمهور. على أن هناك قولا - في الأساس والبحر والمحيط - بأن النجدين "هما الثديان، لأنهما طالطريقين لحياة الولد ورزقه"! والتأويل به، فيه شطط التكلف مع ظهور وهنه وضعفه ........ كلمة {وَهَدَيْنَاهُ} - دون: بينا له أو أوضحنا - توجهنا إلى أن الهدى ملحوظ فيه أنه تعالى ألهم الفطرة الإنسانية الإدراك المميز للخير والشر، وجعل لها الأدوات الحسية لهذا الإدراك. كما أن {النَّجْدَيْنِ} - ولم يأت هذا اللفظ في القرآن، لإلا في هذه الآية - ملحوظ فيهما معنى الوضوح والشخوص المستفاد من الدلالة الأصلية للمادة، بحيث يرى الإنسان الطريقين ببصره، ويدركهما بما تهيأ له من هدى الله وإلهام الفطرة ..... واتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها واضح بين: فهذا الإنسان الذي خلقه الله مهيأ لأمانة التكليف الصعبة، مستعداً لمكابدة لختيار أحد الطريقين. قد زوده - جلت قدرته - بوسائل الإدراك الحسي، وهداه معالم الخير والشر واضحة أمامه شاخصة ماثلة، يراها بعينيه كما يرى النجدين في وجه النهار، ويدركها بما تهيأ له في فطرته من تمييز بين الخير والشر ...... واستعمل "ألم" في صدر الاسفتهام هنا، لأن خلق الإنسان مزوداً بوسائل الإدراك والتمييز، يسبق شعوره يقوته واعتراره بما له، غناسبه أن ينسحب الفعل بها إلى الماضي بـ (لم) . أما حسبانه أن لن يقدر عليه أحد، فيأتي متأخراً بعد أن تطغيه القوة والمال، ومن ثم جاءت (لن) لتنقل الفعل من الحال إلى المستقبل، إذ ليس أمعن في الغرور من أن يحسب المغتر أن لن يقدر عليه أحد أبداً. ويقال كذلك، إن الإنسحاب إلى الماضي {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ...... أَلَمْ نَجْعَلْ له ...... } وإلى المستقبل في {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} بيان لمدى إحاطة الله بالإنسان مهما يبلغ من قوته وطغيانه، فهو تعالى يملك من أمر مستقبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ما يملك من حاضره وماضيه: بيده الخلق، وإليه المصير، وذلك هو ما في قوله تعالى في سورة الوحي الأولى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق) . * * * {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} الأقتحام: توسط شدة مخيفة، فيما فسره "الراغب". ولم ترد مادته في القرآن إلا في موضعين: آية البلد هذه، وآية (ص) 59: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} . وأصل القحمة، من الطريق: مصاعبه. ومن الشهر: لياليه الثلاث الأخيرة، يشق فيها السرى وتتوه السبل. وقحم المفاوز، كمنع: طواها. وأما العقبة، بالتحريك. فأصلها المرقى الصعب من الجبال. والعقاب: الطائر الجارح المعروف، صخرة ناتئة في عرض الجبل، وحجر ناتى في جوف البئر يخرق الدلو. ولم تأت العقبة، بهذا المعنى، إلا في آيتى البلد، وفيما عداهما، تدور المادة في القرآن حول العقاب والعاقبة والعقبى والتعقيب. والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب. والمناسبة بين اقتحام العقبة وخلق الإنسان في كبد، أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فالإنسان المخلوق في كبد، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب ويجتاز أقسى المفاوز، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة. ووقف المفسرون طويلاً عند "فلا" في صدر الآية، ويميل أكثرهم إلى اعتبار "لا" نافية، مع الكوت عن الفاء فيها. ولكن عقد الصنعة الإعرابية واجهتهم، فالقاعدة المشهورة عندهم أن "لا" النافية لا تدخل على الماضي إلا مكررة، وقد ساق "أبو حيان" قول الفراء والزجاج: "والعرب لا تكاد تفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 "لا" مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لكنها في آية البلد، دخلت على الماضي دون تكرار، ومن ثم احتالوا للتوفيق بينها وبين القاعدة الإعرابية. فقال الزمخشري: هي متكررة في المعنى، على تقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن .... وعند الزجاج أن قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على معنى: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن. وأنكر الشيخ محمد عبده هذه التأويلات، إذ لا وجه عنده للالتفات إلى القول بمخالفة القاعدة "لأن القرآن حجة في الفصاحة، وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها". على أن هناك قولا آخر في توجيه "فلا" في الآية، وهو أن تكون استفهامية. وقريب منه القول بأن (لا) في الآية من: (ألا) التي للتحضيض. ورده قوم منهم الشيخ محمد عبده - بأنه لم يعرف تخفيف ألا التخضيضية. وليست أدرى لم جاز عند الشيخ أن يلتفت هنا إلى هذه المخالفة للمعروف من قواعدهم، وقد أخذ عليهم الالتفات إلى مخالفة القاعدة في عدم تكرار لا النافية مع الماضي، لأن القرآن نفسه حجة في الفصاحة؟ والذي نطمئن إليه في: أنها على أي الوجهين حملناها، تشعر بالإنكار والتأنيب والحض. والمعنى بالنفي والاستفهام متقارب، فاختيار "لا" في موضع الاستفهام، صريح في نفي اقتحام العقبة عن هذا الإنسان المغتر بقوله وماله، وقد خلقه الله في كبد وهداه النجدين. واللغة حين تستعمل ألا وهلا في الاستفهام، فذلك إنما يكون في مقام التخضيض والتأنيب عن انتقاء الفعل، فلست تقول لأحد "هلا صنعت كذا" إلا وهو لم يصنعه. فمعنى التأنيب والحض صريح في {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} مع تقرير النفي بها لا ينفك عنها. والفاء هنا، للربط والترتيب: خلق الإنسان مهيئاً لمكابدة المسئولية، وأعطى زسائل التمييز والإدراك، ليقاوم الشر والضلال، ويسلك طريق الصلاح على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ما فيه من مشقة هو أهل لاحتمالها. ويقتحم العقبة التي حض على اقتحامها. لكن، ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ في الطبري عن الحسن البصري: عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وقريب منه، ما قاله الزمخشري، ونقله الشيخ محمد عبده. وقيل: العقبة جهنم، أو جبل فيها، لا ينجى منها إلا الأعمال الصالحة. نقله أبو حيان في "البحر المحيط" عن الحسن أيضاً، وعن إبن عباس ومجاهد وكعب. ونرى السياق في غير حاجة إلى تأويل يغنى عنه أن القرآن نفسه قد تول بيان "العقبة" حين أتبعها السؤال اللافت. * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . فهذا بيان للعقبة التي يجب أن يقتحمها الإنسان. بما تهيأ له من وسائل المكابدة وطاقة المجاهدة، والإدراك والتمييز. وهو كذلك بيان لأوضاع ظالمة نشأت عن غرور القادرين وطغيان أصحاب المال في "هذا البلد": فليس ما كان المجتمع المكي يعانيه من مآسي الرق، ومن النصدع الطبقي، ومن البغي والإستبداد إلى حد إنتهاك حرمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - في البلد الحرام، ليس هذا كله إلا أثراً لطغيان هذا الإنسان الذي غرته قوته فاستعيد مخلوقين مثله وملك رقابهم بأغلال الاسترقاق المهين، كما زين له جاه الثراء أن يباهي بأنه أهلك مالاً لبدا، وعلى مقربة منه يتيم محتاج، أو مسكين لاصق بالتراب ........ أوضاع مريضة، استقرت على مر الأجيال وتوارثها "هذا البلد" ولداً عن والد، وطبقة في إثر طبقة. وكان الإنسان جديراً بأن يقاوم طغيان المال وغرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 القوة، وأن يحتمل أعباء الذبل والإيثار من أجل خير الجماعة، على ما في ذلك من مشقة وعناء. ولو أن هذا الإنسان قد رجع إلى فطرته، وثاب إلى رشده وحسه وبصيرته، لاهتدى إلى معالم الخير والشر واضحة أمامه شاخصة، ولأدرك أنه - على ما يتوهم من قدرته - ضعيف أما خالقه القادر الأعلى، وأنه على ما يغره من تراثه، محاسب عن ذلك الشر الذي تمثل في أوضاع "هذا البلد". وأي شر أفدح وأوضح، من أن يستحل أذى الرسول في البلد الحرام؟ وأن يوجد في هذا البلد، مثابة الحج ومقر البيت العتيق، قادر مستبد يملك رقاب الناس، ترى يهلك مالاً لبداً، وإلى جانبه ناس قد أهدرت إنسانيتهم بالرق، وذو قربى جياع، ومساكين فقراء لاصقون بالتراب؟! هكذا تتجسم أوضاع هذا البلد الحرام، والرسول حل فيه. وعلى هذا مضت بهم الحياة أجيالاً متعاقبة: والداً وما ولد. ومن ثم تتحدد معالم النضال في سبيل ما جاءت به الدعوى الإسلامية لهدى الناس وإصلاح ما فسد من أحوالهم: والقرآن إذ يدعو هنا إلى المجاهدة ضد الرق، والفروق الطبقية والظلم الإجتماعي، يستثير ما في فطرة الإنسان من قدرة على المكابدة ويخصه على اقتحام العقبة الكبرى، على هدى المعالم الواضحة أمامه لطريقى الخير والشر ..... والإثارة اللافتة، لا تأتي من مجرد الاستفهام البياني وحده، وإنما تأتي كذلك من كل لفظ ونبرة، في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ، ينفذ به إلى أعماق الوجدان، ويهيىءالاسمع لما يعقبه من بيان: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ...... } وعسى ألا يفوتنا هنا، هذا الترتيب لخطوات اقتحام العقبة ومراحل النضال من أجل صلاح الإنسان وخير الجماعة: بدأ بفك الرقبة، ولهذا البدء دلالته الصريحة عن أن تحرير الإنسانية من أغلال الرق هو أول خطوة في النضال الصعب من أجل الوجود الكريم الجدير بالإنسان، فليس شيء أخر بالذي يسبق رد الكرامة الآدمية للإنسانية. وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 إصلاح لخير البشر والمجتمع، إنما يأتي بعد أن نرد إلى الإنسانية اعتبارها المهدر بالرق. واستعمال الفك والرقبة، فيه ما فيه من إشعار بأن العبد المسترق مغلول الرقبة بقيد مهين يسلبه إنسانيته وينزل به إلى منزلة البهم والدواب، وهو المخلوق الذي سواه الله بشراً حراً كريماً، فاستعبده مخلوق مثله، حسب لفرط غروره بقوته وثرائه، أن لن يقدر عليه أحد! والآيات بعدها: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} هي آيات العدالة الإجتماعية، لتصحيح الأوضاع المادية التي أباحت وجود مقتدر ذي مال لبد، ويتيم جائع ذي مقربة أو مسكين ذي متربة. والقرآن يضع هذه العدالة الإجتماعية تالية لفك الرقبة، ويأتي بها في مساق البيان لاقتحام العقبة، مقدراً ما في تصحيح هذا الوضع الفاسد من صعوبة، وما يتطلبه من مجاهده ومكابدة. وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، يجسم بشاعة الوضع: فالمسغبة المجاعة، أو هو الجوع العام كما قال "أو حيان"، وليس أبشع من تصور جار يتيم أو مسكين محتاج، في يوم مجاعة. وكون اليتيم ذا مقربة، يفسر بالقرب وبالقرابة، ولكليهما حق الجوار والقربى. وكون المسكين ذا متربة، بيان لمدى العوز والهوان، يلصق المسكين بالتراب، أو يجعله، من فرط العدم، لا يجد سوى التراب! وضع بشع، يستطيع الإنسان أن يدركه ببصره وبصيرته، بحسه وبفطرته، ويستطيع معه أن يميز طريق الخير، لو اقتحم العقبة وجاهد من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . عطف الإيمان، بلفظ: ثم، على ما قبله يبيح لنا أن نفهم أن تحقيق الكرامة الإنسانية بفك الرقبة، والعدالة الإجتماعية بإطعام يتيم ذي مقربة أو مسكين ذي متربة، لازمان للإيمان وما بعده من تواص بالصبر والمرحمة. الإنسان لا يكون مؤمناً، ما لم يكن له من نفسه وازع يرده عن الطغيان ويلزمه حده فلا يسترق بشراً مثله، ولا يتجاهل حق يتيم ومسكين، وأنى لإنسان أن يؤمن بوجود خالق قادر عليم، ما لم يتحرر أولاً من غرور جاهه وقوته وثرائه، ذلك الغرور الذي يعطل شعوره نحو أخيه الإنسان، ويجعله يحسب أن لم يره أحد ولن يقدر عليه أحد. فالإيمان بالله، نعمة لا تتاح لقساة القلوب غلاظ الأكباد عمي الأباصر والبصائر، ولا يميزون بين الخير والشر! كل هذا/ مما يعطيه سبق فك الرقبة والإطعام، على الإيمان الذي جاء معطوفاً عليهما بلفظ: ثم، لكن المفسرين عطلوا هذا الملحظ الجليل، بل عكسوا الوضع، فجعلوا {ثُمَّ} مقصوداً بها إلى إبعاد الإيمان عن فك رقبة وإطعام يتيم أو مسكين، فلا يكون الإيمان معهما في مرتبة واحدة! ونص عبارة الزمخشري في (الكشاف) "وجاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الفضيلة والرتبة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به". وقال أيو حيان في (البحر المحيط) : "ثم، لتراخي الإيمان والفضيلة لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان، إذ هو شرط صحة وقوعها من الطائع. أو يكون المعنى: ثم كان عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان، إذ الموافاة عليه شرط في الإنتفاع بالطاعات. أو يكون التراخي في الذكر، كأنه قيل: اذكر أنه كان من الذين آمنوا ..... " والإيمان مناط العقيدة الإسلامية. لكن المسلم قد يظن أن إيمانه يصح بمجرد أداء العبادات، فهم من ثم، في حاجة إلى التنبية بأن صحة الإيمان تنفي الغرور والاستعباد والقسوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فماذا علينا لو أخذنا بصريح الترتيب في الايات المحكمات، حيث بيبن القرىن مراحل اقتحام العقبة، فيضع الكرامة الإنسانية بالعتق، والعدالة الإجتماعية بإطعان يتيم ومسكين، مناط الإيمان، مقرراً بذلك أن لا سبيل إلى رجاء الإيمان فيمن غره جاهه فانتحل صفة الربوبية باستعباد مخلوق مثله، وتحجر قلبه فلم يطعم يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة! ومعلناً أن لا مكان لإيمان صادق مخلص، في مجتمع يسيغ عبودية بشر لغير خالقه ويطيق أن يمسك الطعام في يوم مجاعة، هم يتيم ذى قربى، ومسكين معدم لا يجد إلا التراب؟ ويقوى هذا الفهم، عطف التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة على الإيمان بالواو المفيدة للربط دون تفاوت او تراخ، دلالة على أن الإيمان متى وقع في نفس سليمة الحس والإدراك، قادرة على المجاهدة والبذل والإيثار، مهتدية إلى طريقي الخير والشر، فغن هذا الإيمان يصحبه ويقترن به، شعور بما يقتضيه حق الجماعة من واجب التواصي بالصبر والمرحمة: الصبر على أعباء النضال من أجل الخير، والتراحم الذي يجعل الناس إخوة متعاونين متكافلين مترابطين، كأنهم أعضاء جسم واحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وقد جعل الله للإنسان لساناً وشفتين. كي لا يسكت عن الحق. والساكت عن الحق شيطان أخرس. وهذا هو المجتمع المثالي الذي حض عليه القرآن الكريم في سورة البلد، وهدى إليه الإنسانية المروجوة لتكاليف الجهاد للخلاص من محن الرق، وأنانية الفردية الظاغية المستبدة، وإثم السلبية الساكتة عن الحق. * * * {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} . وقد ألفت العربية استعمال اليمين في البركة واليمن والتفاؤل والقوة. وفي الاستعمال ال قرآني، نلمح ملحظ البركة في اختيار الجانب الأيمن للموضع الذي تجلى فيه الله سبحانه لموسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} القصص 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} . مريم 52. كما نلمح ملحظ القوة في آيات الزمر 67، طه 17، الأحزاب 50. ومعها آيات: النساء 3، 25، 33، والنور 53، 58 والمؤمنون 60 والمعارج 30 والانشقاق 7. وملحظ الخير والتفاؤل في إيتاء المؤمن كتابه بيمينه: الإسراء 71، الحاقة 19، الانشقاق 7. وأهل الجنة يوم القيامة: هم أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة. وأضيف إلى هذه المعاني جميعاً دلالة الحرمة في اليمين بمعنى القسم، ومعنى ديني هو الإيمان. وقوبل أصحاب الميمنة في سوزرة البلد، بأصحاب المشأمة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} . فدل ذلك من صنيع القرآن على أن الكفر بآيات الله، مقابل لاقتحام العقبة: فك رقبة، أو إطعلم في يوم ذي مسبغة، ثم الإيمان، والتواصي بالصبر والمرحمة. والشؤم في اللغة ضد اليمن، وقد سمى أهل النار في الآخرى أصحاب المشأمة أو هم أصحاب الشمال. * * * {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} مغلقة لا منفذ لها ولا مخرج منها. وأصل اللفظ من الوصيد وهو في اللغة: الجبل، وبين من الحجارة في الجبال للمال. وأخذها الزمخشري من: أوصدت الباب وأصدته إذا أطبقته وأغلقته. ونرى أن الإيصاد ليس مجرد الإغلاق، وإنما فيه الشدة والإحكام الملحوظان في أصل المادة. وقد جاءت المادة في القرآن ثلاث مرات: الوصيد في آية الكهف 18: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ومؤصدة في آية البلد. وآية الهمزة في {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} . وسورة الهمزة، مكية نزلت بعد القيامة. والاستئناس بها هنا يزيدنا تمثلاً للمجتمع الإسلامي المتعاون المتكافل المتراحم الذي يهدي إليه القرآن ويحض عليه، كما يزيدنا شعوراً بنظرة القرآن إلى ضراوة الجشع وشؤم الأنانية وغرور المال. وقال في الآيتين: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ولم يقل: فوقهم، وذلك لأن الفوقية تحتمل البعد وعدم الملاصقة، بخلاف {عَلَيْهِمْ} التي نفيد الإطباق المباشر. * * * وبهذه الاية، تختم السورة التي جسمت فساد الأوضاع ف هذا البلد، والنبي حل به قد عانى من أذى واضطهاد، ولمس أمراض المجتمع المكي، بتوارثها ولد عن والد. كما بينت السورة أسباب الفساد، وطرق النجاة. لافته إلى ما في طاقة الإنسان وفطرته، من المكابدة لتصحيح المظالم الإنسانية والإجتماعية، وإدراك ما ينجم عنها من شر، وسوء مصير. وهكذا تتسق الايات في نسق باهر وبيان معجز، واستثارة نبيلة لتحقيق أمل الإنسانية في مقاومة الرق والبغي، والغرور والأنانية، والقسوة والظلم .... {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 سورة التكاثر بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) } صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 السورة مكية بلا خلاف، وهي السادسة عشرة في ترتيب النزول، على المشهور. نزلت بعد تالكوثر. ولا يخطيء الحس فيها سيطرة جو الوعيد والإنذار، يعمد فيه البيان القرآني إلى الإيجاز الحاسم مع التأكيد الجازم، تقوية للردع وبلاغاً للوعيد. وقد ربطها بعض المفسرين - كالنيسابورى - بسورة القارعة، لكن التكاثر نزلت قبل القارعة بثلاث عشرة سورة، فلا وجه لربطهما، إلا أن يكون ملحوظاً في ترتيب وضعهما في المصحف، تشابه الجو الإنذاري المسيطر على السورتين كلتيهما. ولا تنفردان بذلك بل تشاركها فيه سور وآيات كثيرة، وبخاصة تلك التي عرضت لمواقف في البعث والحشر، وأنذرت بيقين الحساب والجزاء. * * * والسورة تبدأ بهذه الجملة الخبرية القصيرة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} . لكن "الرازي" أخرجها من الإخبار إلى الاستفهام بمعنى التوبيخ والتقريع. والخبرية هنا أوقع في الزجر وأبلغ في الوعيد، بما تشهد به على أن إلهاء التكاثر إياهم زاقع قد كان فعلاً، وليس المقام مقام استفهام، وإنما هو مقام بيان لما وراء هذا التكاثر العقيم الخاسر الذي ألهى وشغلهم عن التفكير في المصير. واللهو لغة، ما يلهى الإنسان. ولعل أصل استعماله في اللهوة وهي ما يلقيه الطاحن في غم الرحى بيده ويشغلها به فلا تدور على هواء. ولا يترادف اللهو والمشغلة في القرآن الكريم، بل يأتي الشغل بالمجدى وغير المجدى, أما اللهو فلا يكون إلا بغير المجدى. وهو ما التفت إليه "الراغب" حين فسر الإلهاء في سورة التكاثر. بالإشتغال عما هو أهم. وعند "الرازي" أنه الإنصراف إلى ما يدعو إليه الهوى. وقال أبو هلال العسكري في (الفروق اللغوية) : "اللهو لعب، واللعب قد يكون ليس بلهو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وصنيع القرآن يؤذن بأن اللهو أيضاً قد يكون ليس بلعب. فقد عطف اللهو على اللعب، أو العمس، في آيات: الأنعام 32: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ومعها آيات. الأنعام 70، محمد 36، والحديد 20 والأعراف 51. العنكبوت 64: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} . ودقة الاستعمال القرآني تستبعد في مثل هذا المقام، أن يكون فيه ما يعد من عطف التفسير، وإنما اللهو مشغله بغير المجدي، تكون بلعب وغير لعب من صنوف الملاهي الشاغلة: كشخص: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} . عبس 10. أو أموال وأولاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} المنافقون 9. أو تجارة وبيع: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} النور 37. أو أمل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الحجر 3. أو حديث: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} لقمان 6. والمتعين في ىية التكاثر، أن الإلهاء فيها بالتكاثر. وهو لغة: تفاعل من الكثرة نقيض القلة، ونماء العدد، وإليه ذهب الراغب فقال في (المفردات) : "القلة والكثرة يستعملان في الكمية كالأعداد، كما أن العظم والصغر للأجسام". ويكنى بالقلة عن الذلة، كما يكنى بالكثرة عن العزة: إنما العزة للكاثر. ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} الأعراف 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 والتكاثر ورد في القرآن مرتين: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وأية الحديد 20: {واعلموا إنما اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . وفسر التكاثر في الآيتين بأنه المبالغة بالكثرة، وجعل "الرازي" التفاخر والتكاثر شيئاً واحداً، وهو ما لا يوافق نسق آية الحديد، إذ عطف التكاثر على التفاخر. وحمل هذا العطف على التكرار، مضيع لبهاء الآية ودقه نسقها. والعربية استعملت. كاثره المال واستكثره إياه إذا أراد لنفسه منه كثيراً وإن كان المال قليلاً. وبهذا المعنى يفسر التكاثر في آية الحديد، وأنه التكالب على حطام الدنيا ومحاولة الاستئثار به، وهذا شيء غير المباهاة والتفاخر، بل هو درجة من درجات الشر في الدنيا بعد اللعب العابث واللهو الشاغل والزينة الزائفة والمباعاة الكاذبة: هو تزيد وتكالب على حطام الدنيا والاستكثار منه والاستئثار به - وهو قول ذكره النيسابورى في تفسير الآية - وإن يكن جمهرة المفسرين أكثر ميلاً إلى عد التكاثر هنا مباهاة وتفاخراً، متأثرين في ذلك بما روى في أسباب النزول. فالإمام الطبري ذهب إلى "أنها المباهاة بكثرة المال والعدد .... وعن قتادة أنه قال: كانوا يقولون: نحن أكثر بني فلان ونحن أعد من بني فلان". وفي (البحر المحيط) أنها نزلت في اليهود. وفي قول: إنه التكاثر بالأموات منهم. وهم في هذا، يأخذون من التكاثر معنى المفاعلة، مع أن اللغة استعملت تفاعل، في المفاعلة وغير المفاعلة، فقيل: كاثر الماء واستكثره، إذا أراد أن يستأثر لنفسه بكثير منه وإن كان الماء قليلاً، كما قيل: تمارض إذا ادعى المرض، وتكاره الأمر إذا تكلفه على كره منه، وتهافت إذا ظهر ضعفه ... والآية لم تحدد لنا موضوع التكاثر، فليس من السهل أن نخصه بالمال على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ما ذهب الراغب، أو نقصره على العدد كما قال الرازي، أو الموتى كما في النيسابورى. كما لا وجه لاحتمال أن يكون التكاثر هنا على على الاستغراق والتعميم، وهو ما دعل مفسرين إلى أن ينبهوا إلى قصره على ما هو مذموم، كأنما أشفقوا أن يفهم أن التكاثر فيما هو خير وطاعة وحق، داخل في عموم اللفظ في سياق الوعيد: والاستئناس بآية الحديد، يكون التكاثر هنا في الأموال والأولاد، وهو ما يبدو أن الطبري والزمخشري اطمأناإليه. ونضيف: إن إسناد "ألهاكم" إلى التكاثر، يغنى عن كل تأويل، بصريح النص على أنه التكاثر فبما يلهى. والخطاب هنا عام لكل من ألهاهم التكاثر والتكالب على زينة الدنيا من مال وولد، مهما تكن خصوصية السبب الذي قيل إن الآية نزلت فيه. * * * {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} . في: حتى، هنا معنى الغاية، فغاية التكاثر إلى زيادرة المقابر، وليس وراء هذا التكالب إلا المقابر، يأتي بها القرآن كهذا إثر التكاثر فيبلغ الترويع منتهاه بقصر المسافة بينهما، والانتقال السريع بل المباغت، من التكاثر إلى المقابر ... ولم يستعمل القرآن الزيارة إلا في آية التكاثر، وإنما ورد من المادة: تزاور بمعنى تزور في آية الكهف 17: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} . والزور اي الباطل والميل عن الحق، في آيات: الفرقان 4: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} . الفرقان 72: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} . الحج 30: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 المجادلة 2: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} . وذلك كل ما في القرآن من المادة. والدلالة الحسية لها في اللغة، الميل والاعوجاج: في الزور، وهو عوج في الزور. والأزور: الناظر بمؤخر عينيه أو الذي يميل على شق إذا اشتد في السير. ومن هذا الصل الحسي، جاءت استعمالات المادة كلها في الميل، فقيل: زار القوم زيارة إذا مال إليهم وعاج بهم. وقيل للخيال يرى في النوم زوراً إما من الزيارة. أو لأنه وهو ولا حقيقة. والزو: الميل عن الحق والصواب، ومنه الدلالة الإسلامية على الباطل والضلال، ميلا عن الهدى. وللمفسرين في {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أقوال ثلاثة: إن الزيارة بمعناها الحقيقي، حين ذهب المتكاثرون إلى القبور يعدون موتاهم. أو هي مجاز، أريد به ذكر الموتى عند المفاخرة. وقد استبعده "أبو حيان" وقال: "هذا تعبير ينبو عنه لفظ: زرتم". والقولان يوجه إليهما ما قالوه في سبب النزول، وهو أن بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر عدداً، فكثرهم بنو عبد مناف. فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية، فعادونا بالأحياء والأموات. ففعلوا، فكثرتهم بنو سهم. العربية، ومنه قول الأخطل:.ذاق الضماد أو يزور القبرا. ومعه، من شواهد الكشاف: والقول الثالث، إن الزيارة هنا معناها الموت، وهو استعمال مألوف في العربية، ومنه قول جرير: زار القبور أبو مالك فأصبح ألأم زوراها وقد اختاره الإمام الطبري في تفسير آية التكاثر، وأخذ به غير قليل من المفسرين بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 واستعمال الزيارة بهذا المعنى، صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة، وإنما نحن فيها زائرون، والزائر غير مقيم، وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء. وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ {زُرْتُمُ} دون غيره، فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر، كأن يقال صرتم، أو رجعتم أو انتهيتم، أو أبتم وألتم، وليس القبر المصير والمرجع والمآب والمال. كما لا يقال: سكنتم في المقابر، أو أقمتم بها، إلى غير ذلك من ألفاظ تشرك كلها في الدلالة على ضجعة القبر، ولكن يعوزها سر التعبير الدال على أنها زيارة، اي إقامة مؤقتة، يعقبها بعث ونشور. وليس بعجيب أن يفوت هذا السر البياني مفسرين كان جهدهم أن يجمعوا كل ما يمكن أن تحتمله الدلالات المعجمية لزيارة المقابر، وشتى المرويات في تأويلها. حتى الذين فسروا الزيارة بالموت هنا. لم يلتفتوا إلى سره البياني. وهو ما لم يفت أعرابياً سمع ألاية فقال: "بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم" وروى كذلك هن "عمر بن عبد العزيز" نحو من قول الأعرابي. والعجيب أن "أبا حيان" لم تستوقفه هذه اللمحة الثاقبة من كلمة قالها أعرابي حسس لغته فطرة وسليقة، بل مر أبو حيان بها سريعاً كأن لم يعنه منها شيء، ليأتي بقول من قال في تفسير الاية: "إنه تأنيب على الإكثار من زيارة القبور تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور ثم قال: فزوروها، أمر إباحة للاتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر". * * * ولفظ "المقابر" لم يأت في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء القبر، مفرداً، في آية التوبة 84: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . وقد تجد الصنعة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملاءمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل البلاغة، ونحس معهم فيها، نسق الإيقاع بهذه الفاصلة، فهل تكون "المقابر" في آية التكاثر لرعاية الفواصل فحسب؟ المقابر جمع مقبرة، وهي مجتمع القبور ..... واستعمالها هنا يقتضيه معنوياً، أنه اللفظ الملائم للتكاثر، الدال على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فان ...... هناك مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم. وهذه الدلالة ممن السعة والعموم والشمول، لا يمكن أن يقوم بها لفظ "القبور" بما هي جمع لقبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت، يتجلى إيثار البيان القرآني "المقابر" على القبور، حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون، وحين يلفت إلى مصير هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومزار الراحلين الفانين ..... فتأويل المقابر بالقبور، لسي إلا أثراص مفردات القرآن تناولا لفظياً معجمياً، مجرداً عن إيحاء سياقه وسره البياني، معزولاً عن الاستعمال القرآني الذي لم يجئ بالمقابر هنا لمجرد المشاكلة اللفظية والرنين الصوتي، وإنما هي الملاءمة المعنوية أيضاً بين التكاثر والمقابر بما فيهما من سعة وشمول وعموم، وهو هو الإعجاز البياني يوجز رحلة الدنيا وعبرة الموت ونذر المصير، في أربع كلمات فحسب، تفجأ اللاهين في نشوة الدنيا، بصدمة {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ليس بينها وبين {لْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} إلا "حتى"، أداة غاية. * * * ثو يتوالى الزجر سراعاً: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . واضح هنا أن الخطاب لمن الهالهم التكاثر، وأن التكرار مبالغة في الزجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وتأكيد للوعيد والنذير، وهو ما اطمأن إليه الطبري والزمخشري وأبو حيان وغيرهم، ولكنهم أضافوا إلى هذا، أقوالاً أخرى، في توجيه الخطاب في الآيتين: ففي (تفسير الطبري) عن الضحاك: أن الآية الأولى للكفار فهي وعيد، وان الثانية للمؤمنين فهي وعد! وفي (البحر المحيط) هذه الرواية عن الضحاك، وأخرى عن "علي" كرم الله وجهه: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في القبر: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في البعث. ومثله في تفسير النيسابورى. وأورد "الرازي" أربعة وجوه في التكرير: أنه للتوكيد، وأنه وعيد للكفار ووعد للمؤمنين، وأن الأول عند الموت والثاني في سؤال القبر، وأن إحدى الآيتين لعذاب القبر والأهرى لعذاب القيامة. وليس النص القرآني في وضوح بيانه بمسئول عن هذا الخلاف، ولا هو بحيث يوجه إلى تفسير الآية الواحدة بالنقيضين، فيستوى خطاب الكفار والمؤمنين، وأسلوب العد والوعيد في البيان المعجز! ولكي تسلم القاعدة، في إفادة حرف "ثم" للتراخي، قيل إن الآية الأولى عند الموت، والثانية في سؤال القبر. أو إن الأولى لعذاب القبر، والأخرى لعذاب القيامة "وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان". ونقول هنا ما قاله الومخشري، إن ثم في هذا السياق "ليست علة موضعها عند النحاة، وإنما جئ بها مبالغة في الإنذار، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل هذا". وجو الوعيد هو المسيطر على السورة كلها. ويأبى البيان القرآني أن يستوى فيه أسلوب الوعيد والوعد، فما الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 في الآيتين كلتيهما، إلا للذين ألهلهم التكاثر، ما التكرير إلا مبالغة في ردعهم وزجرهم وإنذارهم. ويلفتنا هنا أيضاً. أنه قال "تعلمون" ولم يقل: تعرفون. والعلم إدراك الشيء بحقيقته كعبارة "الراغب" في مفرداته، والعربية قد استعملت المادة حسياً فيما هو ظاهر واضح لا لبسفيه. فالعلمة والعلم شق ظاهر في الشفة العليا، وعلمه وسمه، والعلامة: السمة، والعلامة أيضاً، والعلم: الفصل بين الأرضين، وشيء منصوب في الطريق يهتدي به. والعلم: الجبل الطويل، والراية، ما يعقد على الرمح. ومن هذا الوضوح المميو في العلامة والعلم، استعمل العلم فيما يعرف معرفة واضحة قوية، فقيل: علم الشيء، إذا أدركه، وهو عالم به إذا انكشف له حقيقته. وفي الاستعمال القرآني للملدة، نرى الله تعالى يوصف بالعالم ولا يوصف بالعارف، والعليم من أسمائه الحسنى، ويسند إليه العلم ولا تسند إليه المعرفة. ويختص الله سبحانه وتعلى بما يكون خفياً، وغيباً، ومضمراً، فهو يعلم ما يسرون ويعلم ما في الأرحام، وما تحمل كل أنثى، ما في أنفسكم، وما في قلوبكم، وذات الصدور، ويعلم ما في السماوات والأرض، وما في البر والبحر، ويعلم سركم وجهركم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما توسوس به نفسك، علام الغيوب، وعنده علم الساعة، وعلم الكتاب. وحين يسند العلم إلى البشر فهو العلم الكسبي عندما يكون على وجه التأكد واليقين، أو في النذير بيوم لا ريب فيه. وتأتي {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، في نظائر لآية التكاثر، مثل، آيات: الحجر (3، 96) والفرقان (12) والعنكبوت (66) والصافات (170) والزخرف (89) ، وفي أكثرها بهذا الإنذار بيوم يأتي، تنكشف لهم حقيقة ما خفى عنهم وما أنكروه أو ارتابوا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وهم هما قد الهاهم التكاثر فناسب هذا الإلهاء أن ينذرهم بما بعده من تلقف المقابر لكل ما يتكاثرون به، وأن يردعهم بمصير لابد آت، يعلمون فيه حقيقة ما طالما ألهاهم عنه التكاثر: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق22. ولا حاجة بنا إلى الوقوف لنسأل عما سوف يعلمونه، على نحو ما فعل الطبري والزمخشري والرازي، والآيات التالية تعفينا من تأويل، وتغنينا عن تحديد ما سوف يعلمون: * * * {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} . هو علم اليقين، حين لا مجال لشك فيه أو ارتياب، ولا موضع لغفلة ولهو بما طالما تكاثروا فيه. واليقين لغة: إزاحة الشك، وقد يقن الأمر، كفرح، وأيقنه وأيقن به وتيقنه واستيقنه واستيقن به: علمه وتحققه. ويبدو أن جمهرة المفسرين متفقون على أن معنى علم اليقين في آية التكاثر "هو علم يقين، أضف إلى الصفة، نحو: ولدار الآخرة" - الرازي، النيسابورى، أبو حيان. وإنما اختلفوا في تحديد المقصود باليقين: فقيل هو الموت، ونظيره عندهم قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . الحجر 99. وقيل هو البعث، يزول به كل شك. والطبير يختار البعث، على حين سكت الرازي وأبو حيان فلم يرجحا قولا على آخر. والخلاف ليس بذي بال، فالأمر بينهما قريب. على أنا لا نطمئن إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 تفسير اليقين هنا، ولا في آية الحجر التي نظروا بها: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} بالموت أو البعث. فما يستوي التأويل: كلا لو تعلمو علم الموت، أو علم القيامة. وعطاء الآية: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} من قوة ونذير واليقين في القرآن التحقق وإزاحة الشك، والإدراك الواثق الذي لا يلتبس بوهم أو ظن أو تخمين أو ارتياب، يطرد هذا ي كل المواضع التي وردت فيها المادة فعلاً أو اسماً، على اختلاف الصيغ. {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل 14 {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} المدثر 31 {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} النساء 157 {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} الجاثية 32 {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} النمل 22 ويجئ اليقين في القرآن مضافاً إليه علم، وعين، وحق، كما يجئ الاستيقان مع نفي الإرتياب، أو مقابلاً للظن، مما لايدع مجالاً لتفسير اليقين بغير التحقق والإدراك الواثق، وإزاحة كل شك أو لسب أو إرتياب. * * * ثم إن الاية متلوة بقوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وهو ما يجلو مفهوم "علم اليقين" بما لا يغني عن أي تأويل، فهذا بيان لما سوف يعلمون يقيناً. وإضافة عين إلى اليقين في الآية الثانية، تأكيد وتجسيم وترسيخ: فالأصل الحسي للعين أنها الباصرة، ولأهميتها بين الجوارح، يكتفي بها أحياناً في الدلالة على الشخص فيقال: ما بالدار من عين، أي أحد. كما استعملت في موضع العناية والإهتمام في مثل قوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 نراك ونرعاك. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي بكلاءتى وحفظى. كما استعمل ما يقر العين، فيما هو للإنسان موضع غبطة ورضى وارتياح: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} القصص 13 {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} . الفرقان 74 و"الراغب: في مفرداته، يوجه كل ما استعير له لفظ العين، لمعنىموجود في الأصل الذي هو الجارحة. واستعمال العين في أسلوب التأكيد، له أصل من مدلولولها الحسي، فأنت تقول: لقيته عياناً، أي معاينة لا شك فيها، ورأيته رأى العين، أي حقيقة ويقيناً لا على سبيل الوهم أو المجاز: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} آل عمران 13 وهذا الملحظ من الرؤية المتيقنة، في قولهم: رأيته رأى العين، هو الذي استعملت به "عين" للتأكيد. فيقال جاء هو عينه. فإذا أضيفت عين وهذا شأنها في اليقينالحسي - إلى لفظ اليقين. مع فعل الرؤية مؤكداً: {تَرُونَ} : فذاك أقصى ما يبلغه البيان من تأكيد اليقين وترسيخه. ففي احتمال أي شبهة للشك أو الظن أو الإرتياب. إذ يجتمع هنا. ما للرؤية من إدراك حسي، إلى ما للفظ "عين" من دلالة التأكيد والبصر، وما لصريح لفظ "اليقين" من ثقة وإزاحة لكل شك، فضلاً عن التوكيد اللفظي في {لَتَرَوُنَّ} باللام ونون التوكيد الثقيلة، ثم بالتكرار! إنها كلمات أربع قصار. جمعت كل ما تعرف العربية من ادوات التوكيد وآساليبه اللفظية والمعنوية: اللام والنون والتكرار، والرؤية والعين، واليقين، فبلغت من ذلك ما لا تبلغه الصفحات المطولات، دون أن نحس في إيجازها المعجز، جهد الحشد وضغط الإمتلاء. هو إذن اليقين الذي لا سبيل فيه، يتحقق برؤية الجحيم رأى العين حيث لا سبيل إلى اتهام البصر واللياذ باحتمال الوهم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والصلة بين الآيات المحكمات: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} جلية واضحة، فلسوف يعلمون اليقين حق علمه، حين يون الجحيم عين اليقين. والنسق القرآني لا يسمح بأن نفصل بين هذه الآيات، فنقطع ما بين {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} وبين ألاية بعدها {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} . لكن المفسرون - فيما قرات أجمعوا على أن هذا القطع واجب! وقروا أن {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} منفصلة عن {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} هذا مع تقريرهم أن كل آية منهما لا يمكن أن تستقل بمعناها: فالأولى شرط يحتاج إلى جواب والثانية جواب يحتاج إلى شرط أوقسم. ولتسوية الصنعة الإعرابية، مع فصل الجملتين، راحوا يتأولون في الموضعين كليهما، ويتكلفون تتمة مفترضة لكل من الآيتين: ففي الأولى قالوا: إن جواب الشرط يدل عليه ما قبله، فيكون التقدير: لو تعلمون على اليقين لما ألهاكم لاتكاثر عن طاعة الله ربكم، ولسارعتم إلى عبادته والانتهاء إلى أمره، أو لفعلتم ما لا يوصف ودفعكم إلى السعي فيما تصلح به ظواهركم وتخلص به لله سرائركم وتتحد به في تأييد الحق هممكم. وفي الثانية، قالوا: "لترون الجحيم، جواب لقسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد" (الزمخشري والرازي) . وتسأل: فيم كل هذا العناء؟ وما الذي منع ارتباط الجملتين عندهم، بحيث تكون الثانية تتمة للأولى متعلقة بها وجوباً للشرط فيها؟ النجاة قروا أن "لو" حرف امتناع لامتناع، أي أن جوابها لامتناع الشرط، فلو أننا جعلنا {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواباص للو، لاقتضى ذلك تحقق رؤية الجحيم مع لو، وهذا محال في حكم الصنعة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قال النيسابورى: "اتفقوا على أن جواب لو محذوف، لأن قوله: "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} : أمر واقع قطعاً، فلو كان {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواباً للشرط، كانت الرؤية أمراً مشكوكاً فيه، فيلزم المخالفة بين المعطوفات يعني: عطف {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} على {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} - أو الشك فيما هو واقع قطعاً، كلاهما غير سديد". وقال الرازي: "اتفقوا على أن جواب لو محذوف، وأنه ليس قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} حواب له، إذ لو كان جواباً لوجب ألا تحصل الرؤية، وذلك باطل". وهكذا تتدخل الصنعة النحوية في نسق البيان الأعلى، وتقطع ما بين الآيتين، ثم تحوج إلى تأول تتمة مفترضة لكل منهما، مع أن المعنى يقوى بلا ريب، لو وصلنا بين الآيتين، إذ تكون رؤية الجحيم عين اليقين القاضية على كل شك، المحققة لعلم اليقين لا ريب فيه. فهل تأبى العربية حقاً، ربط الآيتين، بمقتضى ما قرره جمهور النحاة من امتناع جواب لو، لامتناع شرطه؟ "لو" تأتي في العربية على خمسة أوجه، بينها إبن هشام في (المغنى) ونقل في الشرطية منها اختلافهم في الامتناع بها، ومنه قولهم: (أنها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعاً. وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين، ونص عليه جماعة من النحويين. وهو باطل بمواضع كثيرة .... ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ) .... إلى أن قال بعد استيفاء بيان بطلانه: (وقد اتضح أن أفسد تفسيرا لـ: لو، قول من قال: حرف امتناع لامتناع ... ) . * * * وأضيف إليه من الشواهد القرآنية، آيات: الشعراء 30: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} معها آيو الزحرف 24 النساء 9: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ... } الأنعام 30: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} . ومعها أيات: الأنعام 27، 93، والأنفال 50. وقد أرى أن هذا الأسلوب، أقوى من الجملة الخبرية، في تأكيد الجواب وعدم احتماله أي شك، متى زال المانع. والبيان القرآني المعجز يهدي إلى هذا الملحظ الذي غاب عمن قيدهم جمود المصطلح النحوي، فطبقوه صنعة شكلية، بعيداً عن ذوق العربية: فحين يقول تعالى: في آية التكاثر: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} . لا وجه إطلاقاً لاحتمال الشك في رؤية الجحيم، لو علموت علم اليقين، وسيعلمونه حتماً حين يرون الجحيم عينن اليقين، وعندئذ يزول المانع، ويتحقق بزواله جواب الشرط. والقرآن الكريم جاء بشرط "لو" هنا في مجال اليقين" {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} بعد أن قرر على وجه التأكيد والجزم والحسم أنهم سوف يعلمون. وإذ تقرر - بما لا يحتمل أي شك - أنهم سوف يعلمون علم اليقين، فقد لزم أن نقول إن امتناع شرط "لو" سيزول حتماً باليقين الذي قررت الآية أنهم سوف يعلمونه يقيناً لا ريب فيه، ويومئذ يتحقق الجواب، الذي ما منعه إلا أنهم لم يعلموا - حين ألهاهم التكاثر - علم اليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وإيثار هذا الأسلوب في تأكيد رؤية الجحيم والسؤال فيها عن النعيم، وهو فيما أرى مناط البلاغة في هذا الأسلوب. إذ إن جواب لو إنما يمتنع لامتناع شرطه، أما حين يتحقق الشرط يقيناً فليس إلى شك في تحقيق الجواب من سبيل. وقد سبق آية {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} التأكيد الجازم بأنهم سوف يعلمون ثم كلا سوف يعلمون، فلم يبق شك في أن جهلهم بعلم اليقين زائل لا محالة، وعندئذ يتحقق جواب الشرط على وجه اليقين، عين اليقين. فالربط بين الآيتين، ليس لاتقاء تمزيق السياق والإخلال بالنسق فحسب، ولكنه يحقق جواب (لو) تلقائياً، بزوال امتناع شرطها حين يعلمون، وسف يعلمون علم اليقين. من عجيب أن المفسرين لكي يخلصوا رؤية الجحيم من الامتناع أو احتمال الشك الموهوم، أكدوا امتناع شرط (لو) في: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} مع أن الله تعالى يقول: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} . فلم يلتفتوا إلى أن احتمال الشك في تحقيق شرط لو، وأنهم سوف يعلمون علم اليقين، هو الباطل عين الباطل! * * * وتختم السورة بالآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فيبلغ الوعيد ذروته، ويصل به إلى غاية منتهاه. وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال عن النعيم: ممن يكون؟ ولمن يكو؟ وأين يكون؟ في قول: إن السؤأل يكون من الملائكة، وقيل: إن السؤال من الله. والقرآن سكت عن ذكر السائل، تركيزاً للإهتمام في السؤال نفسه ففيم هذا الإختلاف فيمن يكون السائل، مع أن صنيع القرآن صريح في الصرف عنه عمداً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وقالوا: إن السؤال يومئذ للكفار، وقيل: بل هو للبشر كافة: المؤمنون منهم والكفار "النيسابورى وأبو حيان" وسكت الزمخشري فلم يتعرض هنا لتحديد المسئول، لكنه - في تفسير النعيم - اعتبر أن السؤال للإنسان، على الإطلاق. لكن كيف يمكن إدخال المؤمنين مع الكفار في سؤال واحد؟ الجواب عند المفسرين حاضر: "فالمؤمن يسأل إكرام وتشريف، والكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع" - البحر المحيط. هكذا يجتمع الإكرام والتشريف، والتوبيخ والتقريع، بلفظ واحد وفي جو واحد وسياق واحد! وتوجيههم للآية بجعل السؤال فيها للإنسان بعامة: الكافر والمؤمن، يعزل الآية عن الجو العام الحافل بالوعيد والنذير، ويتناولها مقتطعة من السياق في صريح دلالته على أن السؤال هنا نذير، والخطاب فيه لمن ألهاهم التكاثر. وللمفسرين في: أين يكون هذا السؤال عن النعيم؟ أقوال: منها: أن السؤال في موقف الحساب. فلما رد عليهم بأن هذا ليس السياق: "لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن رؤية جهنم، وموقف الحساب متقدم على مشاهدتها" أجاب الرازي: "المراد: ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة .... وهو كقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ..... ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} والإيمان متقدم على كل شيء". ومنها: أن السؤال يكون إذا دخلوا النار. واستأنسوا بآية الملك: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} . وآية التكاثر فيما ترى تحدد وقت السؤال بيومئذ، أي يوم ترونها اليقين، وهذا التحديد الصريح يعفينا من الوقوف عندما اختلفوا فيه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 واختلفوا كذلك في النعيم الذي يسألون عنه يومئذ، وقد كثرت تأويلاتهم فيه حتى بلغ ما عده "الرازي" منها تسعة وجوه: وتتفاوت هذه النعم المسئول عنها، فأدناها النعلان، وأعلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وبينهما يأتي: تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، والطعام والشراب والمسكن، وصحة الأبدان والأسماع والأبصار، والظل البارد، والفراغ والأمن والدعة، ولذة النوم، والحالة الحسنة، واعتدال الخلقة. وهكذا لم يتركوا شيئاً يمكن أن يقال في تأويل النعمة إلا جاءوا به، وجاءوا له بشاهد من القرآن أو الحديث أو خبر مأثور: من ذلك مثلاً، أن تأويل النعيم برسول الله، يؤيده عندهم قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} . وفي تأويله بالماء والطعام، ذكروا آية الأعراف: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} . وفي تآويله بالظل والنعلين رووا حديثاً عن "أنس" أنه "لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل على من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد". وفي تأويله بالشبع والرى، رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه "خرج ذات ليلة إلى المسجد فلم يلبث أن جاء أبو بكر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أخرجك يا أبا بكر؟ فقال الجوع. قال: والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك. ثم دخل عمر فقال مثل ذلك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم. ففعلوا، وأكلوا هناك خبزاً من شعير ولحماً، وشربوا ماء عذباً. فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة". * * * والنعيم قد يحتمل لغة، كل هذا الذي قالوه، فهو في معاجمها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الخفض والدعة، والمال، واليد البيضاء والروضة الناعمة ..... كما يحتمل: الدين، والهدى، والظل والصحة والنوم .... لكن هل يحتمل البيان العالى، كل هذه المعاني المتفاوتة في موضع واحد؟ وهل يسبغ الذوق المصفى، أن تفسر الكلمة بالنعلين، كما تفسر بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ "الإمام الطبري" يميل إلى تخصيصه بنعيم الدنيا، قال: "ثم ليسالنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا، ماذا عملتم فيه، ومن أين وصلتم إليه، وفيم أصبتموه". واختار "الرزي" إطلاق اللفظ على جميع النعم، قال: والأولى أنه يجب حمله على جميع النعم، وأن تكون الألف واللام فيه للاستغراق. وخصه "الزمخشري" بنعيم "من عكف على استيفاء اللذات ولم يعض إلا لياكل ويشرب ويقطع أوقاته باللهو والطرب ...... فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتقوى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضاً بالشكر، فهو من ذاك بمعزل". وقال "الراغب": والنعيم النعمة الكثيرة. وأمام هذا الاختلاف، بل أمام ذلك التفاوت بين تأويل النعيم بالنعلين أو الظل مرة، وجميع النعم على الاستغراق، نلوذ بالقرآن الكريم لنحتكم إليه فيما اختلفوا فيه. والقرآن استعمل النعمة، والأنعم، والنعماء، والنعيم بملحظ من الدلالة لم يتخلف قط. فالنعمة تستعمل فيما أنعم الله به على هباده من خير أو هداية في الدنيا. وقد جاءت بهذا المعنى 49 مرة، مضافة إليه سبحانه وتعالى، أو إلى ضميره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 جل شأنه، أو هي نعمة منه جل جلاله. وجاءت مرة واحدة في حديث موسى لفرعون بآية الشعراء 22: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وهي أيضاً نعمة في الدنيا لا الآخرة. وكذلك جاء الجمع منها: نعم، وأنعم فيما ينعم الله به على عباده في الدنيا: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} (لقمان 20) - {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} (النحل 112) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل 121) ونعماء أيضاً، جاءت خاصة بالدنيا في آية هود 10: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} . وكما اطرد مجئ نعمة ونعم وأنعم ونعماء، في نعم الدنيا، اطرد كذلك كجئ "نعيم" خاصاً بالآخرة، في كل الآيات التي ورد فيها لفظ نعيم بالقرآن الكريم، على وجه الاستقراء. التوبة 21: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} . الطور 17: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} . الواقعة 89: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} . المعارج 38: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} . الانفطار 13: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} . المطففين 22: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الإنسان 20: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} بياناً لقوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً ... } . المائدة 65: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} يونس 9: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . الحج 56: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . الصافات 43: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . الواقعة 12: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . لقمان 8: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} . الشعراء 85: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} . القلم 34: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . ثم آية التكاثر. وأما هذه الدلالة القرآنية لكلمة "النعيم" خاصة بنعيم الآخرة، في كل المواضع التي ذكر فيها النعيم في القرآن، لا مناص لنا من النزول على حكمت القرآن هنا، فلسنا مخيرين في تأويل لفظ النعيم بما يحتمله لغة أو مجازاً، وهذا القرآن أمامنا لم يستعمل النعيم قط في نعمة من نعم الدنيا، وإنما هو فيه دائماً، نعيم الآخرة. ولكت هذا المعنى المتعين، هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون - فيما قرأت - وهم يعدون كل ما يمكت أن يقال في تفسير النعيم، ويذكرون فيه ذلك الحشد المختلط. إلا نعيم الآخرة في دلالته الإسلامية بالقرآن الذي يجب أن نحتكم إليه في توجيه آية التكاثر. فعلى هدى القرآن الذي خص صيغة "النعيم" وحده بالآخرة، دون نعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ونعماء وأنعم ونعم، ولا نملك إلا أن نفهم أن السؤال في آية التكاثر، إنما هو عن نعيم الآخرة .... وسر البيان فيه، أن هؤلاء الذين ألهالهم التكاثر في الأموال والأولاد وغيرهما من أعراض الدنيا الزائلة، وحسبوها النعيم الذي ما بعده نعيم، وضغلوا بها عن التزود لآخرتهم، سيسألون يوم يرون الجحيم عين اليقين، عن النعيم الحق ما هو؟ ويومئذ يدركون يقيناً حقيقة النعيم الذي ألهاهم عنه التكاثر والتكالب على نعم مآلها احتشاد في المقابر ثم بعث وحساب! سر البيانهنا، أن الموقف في الآخر هو موقف العلم اليقين، والإدراك المتحقق الذي لا مجال فيك لشك وإرتياب، وإذ كان نعيم الجنة هو النعيم الحق، كان السؤال في موقف الحق عن النعيم الحق، لا عن الأعراض الزائلة، من صحة ومال وظل وماء ومأكل ومسكن، وثياب ونعال .... فما شيء من هذا كله إلا "نعمة" دنيا وعطية مستردة، وإنما يسألون يوم يعلمو علم اليقين، ويرون الجحيم عين اليقين، عن النعيم الحق الذي أضاعوه، والخير الباقي الذي ألهاهمعنه التكاثر في العرض الزائل والحطام الفاني. والإنذار بهذا السؤال عن النعيم، يتسق على أكمل وجه، مع الوعيد المسيطر على السورة كلها، وبه تتلاءم آياتها وتترابط في نسق معجز، لا موضع فيه لحلل الصنعة واضطراب النظم وتفاوت جو الأداء وتغير روح الموقف، مما أقحمته تأويلات يفوتها إدراك أسرار التعبير في المعجزة الخالدة. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ التفسير البياني الجزء الثاني المؤلف: الدكتورة / عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطيء) دار النشر: دار المعارف - القاهرة الطبعة السابعة عدد الأجزاء: 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة مضت خمس سنوات على ظهور الجزء الأول من هذا التفسير البياني، نفدت خلالها ثلاث طبعات منه، وظهرت منه طبعة أخرى مسروقة في بيروت، قبل أن يتاح لي تقديم هذا الجزء الثاني الذي طال انتظاره. وعلى مدى تلك السنوات، تابعت العكوف على تدبر البيان القرآني والإنقطاع لخدمة كتابنا الأكبر، فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية، ألفيت من الصعب أن أقدمها على النحو الذي يفي بخلالها، وتهيبت أن أودي بالمألوف من تعبيرنا، أسراراً من البيان المعجز تدق وتشف، حتى لتجل عن الوصف وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء! فإن أكن جرؤت على تقديم هذا الجزء الجديد من التفسير البياني بعد طول تهيب ومعاناة، فليشفع لي أن حذدت له كل طاقتي وجهدي، وأن الأمر فيه يتجاوز كل طاقة وجهد. * * * والمنهج المتبع هنا، هو الذي خضعت له فيما قدمت من قبل، بضوابطه الصارمة التي تأخذنا باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده، للوصوص إلى دلالته، وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة، ثم سياقها العام في المصحف كله، التماساً لسرها البياني. وإذ نضع معاجم العربية وكتب التفسير في خدمة هذا المنهج، فإننا نحاول أن ندرك حسن العربية للألفاظ التي نتدبرها من النص القرآني، عن طريق لمح الدلالة المشتركة في شتى وجوه استعمالها لكل لفظ، وواضح أنه لا سبيل إلى دراسة أي نص في لغة} } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ما، دون فقه لألفاظه في لغته. ثم يكون للنص بعد ذلك أن يحدد لكل لفظ دلالته الخاصة، من شتى الدلالات المعجمية، أو يضيف إليها ملحظاً ينفرد به، والقول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية، لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية، كما أن إيثار القرآن لصيغة بعينها، لا يعني تخطئه سواها من الصيغ في فصحى العربية. بل يعني أننا نقدر أن لهذا القرآن معجمه الخاص بيانه المعجز، فنقول إن هذه الصيغة أو الدلالة قرآنية، ثم لا يعترض علينا بأن العربية تعرف صيغاً ودلالات أخرى للكلمة. * * * والأمر كذلك فيما يهدى إليه الاستقراء من وجوه بيانية وظواهر أسلوبية، تقدمها منه دون أن نخشى فيها مخالفة لبعض قواعد النحويين وأحكام البلاغيين. لأن الأصل أن تعرض قواعدهم وأحكامهم على البيان الأعلى، لا أن نعرض القرآن عليها ونخضعه لها. ويبدو أننا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في قواعد النحو المدرسية وأحكام الصنعة البلاغية، في ضوء ما هدى ويهدي إليه التدبر الإستقرائي لكتاب العربية الأكبر. في بيانه المعجز. كما ننتفع بجهود المفسرين حين نعرض أقوالهم على القرآن الكريم، فنقبل منها ما يحتمله نصاً وسياقاً. ثم يكون إيرادنا للأقوال الأخرى التي لا يقبلها النص، لفتاً إلى وجه الشطط فيها أو التكلف والإعتساف، وتنبيهاً إلى ما ينبغي من حذر وحرص، لاتقاء التورط في مقحم التأويلات المذهبية والمدسوسات الإسرائيلية. * * * وأرانى في حاجة إلى تقرير مسألتين في المنهج: أولاهما: أن المرويات في أسباب النزول موضع اعتبار في فهم الظروف التي لابست نزول الآية. مع تقدير أن الصحابة الذين عاصروا نزولها ورويت عنهم أقوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فيها، وربطها كل منهم لما وهم أو فهم أنه السبب في نزولها. وهذا هو معنى قول علماء القرآن: إن المرويات في أسباب النزول يكثر فيها الوهم. ونقدر معه أن السببية فيها ليست بمعنى العلية التي لولاها ما نزلت الآية. وأن العبرة في كل حال، بعموم اللفظ المفهوم من صريح نصها، إلا أن يتعين الاعتبار بخصوص السبب الذي نزلت فيه بدليل من صريح النص أو بقرينة بينة. والأخرى: أن ترتيب النزول موضع اعتبار كذلك، لفهم السياق العام لما نتدبر من آيات القرآن ودلالات ألفاظه وخصائص بيانه في المصحف كله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . * * * وبعد وقبل، فإن القضية الكبرى في هذا التفسير، وكل تفسير، هي أنه لا يعني بحال ما، تقديم كلمة يمكن أن تقوم مقام الكلمة القرآنية في سياقها، على وجه المماثلة والترداف، فيهيهات لبشر أن يأتي بآية من مثل هذا القرآن. التفسير ليس إلا محاولة للفهم على وجه الشرح والتقريب، بالكلمات المفسرة، لا على انها والكلمات القرآنية سواء. ولعل هذا مما حمل المفسرين على الإطالة في الشرح والتكثر في وجوه التأويل للكلمة أو الآية القرآنية، من حيث يتعذر علينا جميعاً الإتيان بكلمة أخرى مماثلة لها، في موضعها من البيان المعجز. ولست بحيث أجهل أن المدى الذي بلغته في محاولتي، محدود بطاقتي وجهدي. ويظل المجال مفتوحاً لعطاء أبنائي الصفوة، طلاب الدراسات القرآنية العليا الذين أحظى بصحبتهم في أعرق الجامعات الإسلامية، ويظل مفتوحاً بعدنا لجهد أجيال من العلماء تتاقب على تدبر كتابنا الأكبر فتدرك منه ما فاتنا أن ندركه، وتستشرف لآفاق قصرت محاولتنا عن مدادها. ويبقى من أسراره ما يفوت ظاقة البشر: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . صدق الله العظيم. المغرب شوال 1397 هـ أكتوبر 1977 م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 سورة العلق بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 المشهور في اسمها: "سورة العلق" ويذكرها بعض المفسرين، كالطبري باسم "سورة اقرأ" أو "اقرأ باسم ربك" وجاء بها "الرازي" في تفسيره الكبير باسم "سورة القلم" زهذا الاسم يلتبس بالسورة بعدها: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} واسمها في تفسير الرازي "سورة ن". * * * والمشهور كذلك أنه أمل سورة نزلت من الوحي. ولم يشر "ابن إسحاق" في (السيرة النبوية) إلي خلاف في لذك. ومثله "الطبري" في تفسيره. وفيهما الحديث عن "السيدة عائشة أم المؤمنين" قالت: "كان أول ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي، الرؤيا الصادقة، كانت تجئ مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها. حتى فجأه الحق فأتاه فقال: يا محمد أنت رسول الله ..... ثم قال: اقرأ. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فغطني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد، فقال: اقرأ قلت: ماذا أقرأ؟ فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني فكأنما كتبت في قلبي كتاباً. فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: "يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل". فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، ما أتقدم وما أتأخر، فمازلت واقفاً حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني. وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت، فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي؟ ثد حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا ابن عم واثبت، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قال: أسمع من ابن أخيك، فسألني وأخبرته خبري، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه! ليتني أكون حياً حتى يخرجك قومك. قلت: أو مخرجني هم؟ قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودى، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً .... ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد اقرأ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ...... } . * * * ولكن هناك قولاً - في الكشاف وتفسير الرازي - أن الفاتحة كانت أول سورة نزلت من الوحي، وبعدها نزلت سورة العلق. وفي قوله آخر نقله الرازي، أن الذي نزل من السورة أول الوحي، آياتها الخمس الأولى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلي قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . ثم نزلت البقية بعد أن أبلغ المصطفى رسالته، وتصدى له من تصدى من طواغيت قريش بالتكذيب، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضم هذه الآيات إلى أول السورة. لأن تأليف الآيات إنما كان بأمر الله تعالى. وجاء في البحر المحيط: "هذه السورة مكية، وصدرها أول ما نزل من القرآن، وذلك في غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وقول جابر: أول ما نزل المدثر، وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: أول ما نزل الفاتحة، لا يصح". وسياق الآيات قد يرجح هذا القول بأن صدر سورة العلق، أول ما نزل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 القرآن، ثم لا يبدو مخالفاً لما في تفسير الطبري والسيرة النبوية، حيث يقف الحديث فيهما عن اول ما نزل من الوحي، عند الآية الخامسة: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . * * * {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . من عجب أن تكون كلمة {اقْرَأْ} أول ما استهل به الوحي إلى النبي الأمي المبعوث في الأميين رسولاً منهم، وأن يكون "الكتاب" معجزة هذا النبي المصطفى لختام رسالات الدين منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، والعصر عصر بداوة، والبيئة وثنية جافية لا عهد لها بمظاهر الحضارة المادية والفكرية التي ازدهرت في بيئات أخرى كوادي النيل، ووادي الرافدين .... ونحتاج هنا في هذه السورة المبكرة من أول الوحي، إلى تمثل ما كان لها من وقع في نفوس الذين تلاها فيهم المصطفى عليه السلام، مستأنسين بما كانت البيئة العربية في عصر النبوة تفهمه وتدركه، بعيداً عما أضيف إلى هذا الفهم من محدث التأويلات التي أضافتها عصور متأخرة. واللافت أن الإمام الطبري لم يجد حاجة إلى تأويل آية: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} لوضوح معناها. فليست القراءة بحيث تحتمل التأويل بغير المألوف من دلالتها على التلاوة. والعربية كانت تستعملها في التلاوة من نص مكتوب أو غير مكتوب. كما عرفت الرب بدلالته على المالك والمعبود. وإذ كانت الكلمة وحياً إلهياً، فباسم ربه الذي خلق، أمر المصطفى أن يقرأ. وقد كان لقبائل العرب الوثنية أربابها من أوثان وأصنام، ومحمد كان قبل المبعث في حيرة من أمره وأمر قومه، يراهم على سفه وضلال، وينكر عبادتهم لأرباب صنعوها بأيديهم من خشب وحجر وطين، ثم نسوا أنهم صانعوها وكدسوها في ساحة البيت العتيق، وعطفوا عليها عابدين. وطال به التأمل التماساً لما يهديه من حيرته، وقد صد عما يعبده قومه من أوثان صماء بلهاء، ولم يجد ما يطمئن إليه لدى من عرفت الجزيرة من عصابات يهود التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 طرأت على شمال الحجاز فأنشبت مخالبها في الأرض الطيبة، ونسيت "موسى" وربه، واتخذت من الذهب وثنها المعبود. والنصارى - في الشام ونجران - قد مزقتهم التفرقة المذهبية، فبعضهم لبعض عدو، وكل طائفة ترمى الأخرى بالكفر والضلال .... ومن بعيد كان لهب النار يسطع من معابد المجوس، وقد أحاط بها القوم طائفين عابدين! وفي تلك الظلمة الغاشية، كانت كلمة الوحي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} للأمي المختلى في حراء، توجيهاً وهداية إلى الحق الذيى طال التماسه إياه، وإذاناً بانتهاء حيرته التي طالما أجهدته في تأملاته، وانبثاقاً لنور فجر جديد ينسخ ظلمات ليل ادلهم وطال. * * * وقد يجدي أن ننقل عن الفخر الرازي أن في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إشعاراً بأن كل قراءة القرآن يجب أن تبدأ باسم الله. لكنا نتوقف حيال ما ذكره من أن في قوله تعالى: {بِاسْمِ رَبِّكَ} بدلاً من: باسم الله، أن الرب من صفات الفعل والله من أسماء الذات .... فالأمر هنا يستوجب العبادة بصفات الفعل .... وأن في كلمة ربك {ما يزيل فزع الرسول من الوحي. فكأنه قال: ربك هو الذي رباك فكيف يفزعك؟ فأقاد هذا الحرف معنيين في أحدهما: ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل. والثاني: قد ربيتك حين كنت علقاً فكيف أضيعك بعد أن صرت خلقاً نفسياً موحداً عارفاً بي؟ ". وإنما حسبنا أن نلمح ما في {رَبِّكَ} من صلة بحال المصطفى وقومه قبل المبعث، وطول حيرته التماساً للهدى والحة، وطول خلوته المتأملة في ملكوت السموات والأرض. وهذا هو نور الكلمة يشرق فيهديه إلى ربه الذي خلق، الجدير بالعبادة دون هذه الأرباب المخلوقة التي عبدتها الوثنية العربية. ولا وجه عندنا لما تعلق به بعض المفسرين من تأول مفعول لـ {خَلَقَ} في الآية الأولى, بل ندعها على إطلاقها الذي يفيد معنى العموم, ثم تتولى الآية بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 تخصيص هذا العام، باللفت إلى خلق الإنسان، من حيث كان الوحي القرآني لهداية هذا الإنسان، دون غيره من الكائنات. كما لا نجد حاجة إلى الوقوف عندما قدره بعضهم - فيما نقل الرازي - من أن "في قوله تعالى: الذي خلق، من التمهيد لاعتراف عباد الأوثان به، ما ليس في قوله: الذي لا شريك له. لأنه لم بدأهم بهذه المواجهة لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فقدم تعالى في {الَّذِي خَلَقَ} مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به، فكأنه قال: واذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقمة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل: ولابد للفعل من فاعل، فلا يمكنهم أن يضيفوا الخلق إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه. فبهذا التدريج يقرون بأني المستحق للثناء". وسياق الآيات صريح في أنه تقرير لربوبية الخالق. وتخصيص خلق الإنسان بالذكر دون سائر المخلوقات، لأن الإنسان هو المختص بالقراءة والعلم، المنفرد بتبعية التكليف، المخاطب بكل ما سوف ينزل به الوحي من كلمات اللله. * * * {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} . من السلف من تأويله على أن المقصود به إيناس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ربه الذي دعاه ورباه مذ كان علقاً. وآخرون منهم تأولوه على قصد التدرج بعباد الأوثان إلى الإقرار بخالفتهم. وعلى ما نقلنا من كلام الفخر الرازي. وقال الزمخشري إن في الآية تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته. وقد نقله الرازي، ثم أضاف إليه، في تأويل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} : كون الإنسان من علقة وهي أخس الأشياء، ثم صيرورته عالماً والعلم أشرف المراتب، فكأنه تعالى يقول: انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب، فلابد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ولفت "أبو حيان" إلى أن ذكر {رَبَّكُ} في الآية الأولى، إيناس للمصطفى وتعيين لربه، لا رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم، لما كانت العرب تسمى الأصنام أرباباً، فأتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها. وكل هذا مما يمكن أن يقال. وليس هو، على أي حال، بأبعد مما ابتدعه محدثون اتجهوا بهذه الآية إلى مجال البحث في علم الأجنة، والتمسوا المراجع الأجنبية لعلماء الفسيولوجيا والبيولوجيا، لفهم آية نزلت على النبي الأمي في قوم أميين لم يسمعوا قط، ولا سمع عصرهم، بعلم الأجنة. وغير متصور أن يكون القرآن الكريم قدم لهم من آيات ربوبية الخالق وقدرته، ما لا سبيل لأحد منهم إلى تصوره، فضلاً عن فهمه وإدراكه. وإنما فهموا من العلق ما تعرفه لغتهم وبيئتهم وعصرهم، والعربية قد استعملت العلق مادياً في كل ما يعلق وينشب: كالدم، والمحور الذي تعلق عليه البكرة، وعلقت النرآة حملت، ومعنوياً في العلاقة تنشب بين لثنين حباً أوبغضاً، وفي الصلة تربط بينهما. ولم يكونوا في حاجة إلى درس في علم الأجنة أو مراجعة كتاب في المكتبة الأمريكية التي ظهرت بعدهم بقرون، ليفهموا آية خلق هذا الإنسان من علق في أرحام الأمهات، وهم الذين ألفوا استعمال: علقت المرآة، بمعنى حملت. واستعمال العلق هنا، جمع علقة، إيذان بما ذهبت إليه من إطلاق في عموم لفظ الإنسان. ولا يشير السياق إلى أن القصد من {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} توجيه المصطفى ومن يؤمنون برسالته إلى النظر في علم الأجنة، وإنما هي آية الله في هذا الإنسان، خلقه من علق، وخصه بالعلم، واحتمل أمانة التكليف، فازدهاه الغرور وأطغاه الشعور بوهم الاستغناء عن خالقه، فنسى أن إليه، سبحانه، الرجعى والمصير ..... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وهذه هي قصة الإنسان، من المبدأ إلى المنتهى، تلفت إليه سورة الوحي الأولى، بإيجاز، توطئة لما سوف يتتابع من آيات الوحي التي تزيد كل هذه الملامح المجملة تفصيلاً وبياناً. فهذا الإنسان الذي خلق الله من علق، وعلمه ما لم يكن يعلم، وإليه رجعاع، هو الإنسان الذي نزلت في خلقه آياته تعالى، على ترتيب النزول: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (سورة عبس) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (سورة الطارق) {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (سورة يس) {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (سورة الكهف) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} (سورة الحج) {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (سورة الإنسان) وما من آية فيها، يؤذن سياقها بتوجيه إلى النظر في علم الأجنة وعلم الأحياء والتشريح، وإنما تأتي جميعاً في الاستدلال لقدرة الذي خلق الإنسان من علق، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 من نطفة أو من تراب، على النشأة الأخرى التي هي مدار الثواب والعقاب، ومناط ما يوجه إليه كتاب الإسلام من تكليف وبشرى ووعيد. * * * {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} . ذهب بعض المفسرين، فيما نقل الفخر الرازي، إلى أن {اقْرَأْ} في الآية الأولى تعني: "اقرأ لنفسك، وهي في هذه الآية بمعنى التبليغ، أو أن الأولى للتعلم، والثانية للتعليم، أو أن الأولى: اقرأ في صلاتك، والثانية: اقرأ خارج صلاتك". وهي أقوال متقاربة، وإن كان الأولى لأخذ السياق على ظاهره، بما يفيد من تأكيد الأمر الإلهي للمصطفى بالقراءة. وإذ كان لا يدري ماذا يقرأ، فقد تولى الوحي بيانه، فليقرأ باسم ربه الذي خلق .... وليقرأ وربه الأكرم. والكرم في العربية نقيض اللؤم، ودلالته على العزة مألوفة في استمعال لكرام الناس. والإكرتم ضد الإهانة والإذلال. ومن الكرم بمعنى العزة، جاء الكريم في القرآن وصفاً لذي الجلالة أو اماً من أسمائه الحسنى، ووصفاً لعرشه: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} . {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} . كما جاء وصفاً لرسول، وملك، وكتاب، وقرآن كريم، ووعد المتقون برزق، وأجر، ومدخل ومقام كريم. وجاء الكرتم، جمع كريم، وصفاً لملائكة بررة، كاتبين. وللمؤمنين في سياق اليسرى. وفي سياق الوعيد والسخرية، جاءت آية الدخان في الأثيم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} - 49. وفي التكريم والإكرام، نقيضاً للتحقير والإذلال، جاءت صيغة مكرمة وصفاً لصحف الوحي، والمكرمون وصفاً للملائكة، ولضيف إبراهيم منهم، ولأهل الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وجاء الفعل في تكريم الله وإكرامه للمتقين، وقوبل بالإهانة في آية الحج. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} - 18. أما أفعل التفضيل، فجاء مرة مضافاً إلى ضمير المخاطبين في آية الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} - 13. وانفردت آية العلق بصيغة {الْأَكْرَمُ} معرفة بـ: ال، بما يفيد اختصاصه تعالى بهذه الرتبة العليا على عموم إطلاقها. دون تعلق بتأويل أكرميته تعالى، وقد تأولها الزمخشري بأنه: "الذي له الكمال زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعالجهم بعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فمالكرمه غاية ولا أمد". وساق الفخر الرازي في أكرميته تعالى وجوهاً أربعة: * أنه تعالى لا يحلن وقت جناية الإنسان فحسب، بل يزيد إحسانه بعد الجناية. ونظر له الشاعر: متى زدت تقصيراً تزد لي تفضيلاً كأنى بالتقصير أستوجب الفضلا * أنك كريم يا محمد، لكن ربك الأكرم. * أنه تعالى له الابتداء في كل كرم وإحسان، وكرمه غير مشوب بتقصير. * يحتمل أن يكون فيهخ حث على القراءة أو على الإخلاص، بمعنى: فهو يجازيك بكل حرف مما تقرأ عشراً. أو بمعنى: تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً، فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكليف الشافي ثم لا أنصرك. ونلاحظ عليهم أن في كل ما تأولوه، تقييداً لصيغة الأكرم، ينقلها إلى المفاضلة بين كريم وأكرم منه. والحق أن البيان القرآني حين قيد أفعل التفضيل في آية الحجرات بإضافتها إلى ضمير المخاطبين، جعل أكرميتهم محدودة بنطاق الناس الذين خاطبهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 الآية. واستأثر سبحانه بصيغة {الْأَكْرَمُ} على الإطىق ونظيره الأعلى في آيتى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} . لافتاً إلى حس العربية الأصيل حين تأتي بأفعل التفضيل معرفاً بأل، وغير مميز، فتفيد من العموم والإطلاق ما لا تفيده الصيغة نفسها من المفاضلة مقيدة بمضاف إليه لا تتجاوزه أو مميزة بوجه تفاضل لا تعدوه. * * * {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . العلم إدراك الشيء على حقيقته، ونقيضه الجهل. وقد سبق استقراء آيات العلم في القرآن الكريم، في تفسير آية {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} من سورة التكاثر. والقلك أداة الكتابة، ومنه آية القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} . فسره الطبري في آية العلق، فقال: "علم الإنسان الخط بالقلم ولم يكن يعلمه". وكذلك فسره الزمخشري بعلم الكتابة، واستطرد فذكر ما لهذا العلم من "المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا". ونقله أبو حيان في "البحر المحيط". وقريب منه ما ذكره الفخر الرازي في شرف القلم وحكمة خلقه. وعقد "ابن قيم الجوزية" في تفسيره لسورة القلم فصلاً مسبهاً في شرف القلم وفوائده، ثم ذيله بفصل طريف في منازل الأقلام على تفاوت رتبتها من الشرف، فجعلها اثنى عشر نوعاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أولها: وأعلاها وأجلها قدراً قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق. ثانيها: قلم الوحي يكتب به وحي الله تعالى إللا سرله وأنبيائه. ثالثها: قلم الفقهاء والمفتين. ويتلوه على الترتيب التنازلي: قلم طب الأبدان، وقلم التوقيع عن الملوك والساسة، وقلم الحساب تضبط به الأموال، وقلم الحكم تثبت به الحقوق وتنفذ القضايا، وقلم الشهادة تحفظ به الحقوق وتصان عن الإضاعة، وقلم تعبير الرؤيا ووحي المنام، وفقلم التأريخ، وقلم اللغة يشرح معاني الأفاظها ونحوها وتصريفها وأسرار تراكيبها، ثم القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين. وأضاف الفر الرازي إلى تأويل الآية، أن فيها إشارة إلى الأدلة السمعية والأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع، بعد أن أشرات آية: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} إلى الجلالة العقلية على كمال القدرة والحكمة والعلم. فكأنها إشارة إلى معرفة الربوبية، والتعليم بالقلم إشارة إلى النبوة. ومثله النيسابورى في (تفسير غرائب القرآن) . وحيث لا مجال للإشاريات في منهجنا، نطمئن إلى أن الآية لفتت إلى سر القلم، من حيث هو أداة الكتابة التي يدون بها العلم ويحفظ وينتقل على امتداد الزمان والمكان وتتابع الأجيال. ويتسع المقام لكل ما عده المفسرون من شرف القلم وفوائد الكتابة، على أن يظل للبيان القرلآني دلالته في لفت النبي الأمي والعرب الأميين إلى جلال القلم، آية من أيات الخالق الذي خلق الإنسان من علق، وعلمه ما لم يكن يعلم. بما تعني من اختصاص الإنسان دون سائر الكائنات بالقلم وكسب العلم. وهذا من الخصائص الإنسانية التي يضيف إليها الوحي من بعد ذلك ما يجلوها ويزيدها بياناً، إذ يجعل العلم مناط تكريم آدم، الإنسان الأول، وحقه في الخلافة في الأرض، ويسوق الآيات ويضرب الأمثال للذين يعلمون، ويقصر خشيته تعالى على العلماء ..... * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ومن المفسرين من قدر في الآية علمه الله، قيل: هو" إدريس، وقيل آدم لأنه أول من كتب بالقلم". والنص لا يحتمل مثل هذا التحديد والتقييد، بل هو الإنسان، اسماً لعموم الجنس على إطلاقه، علمه الله ما لم يعلم. ولا داعي إلى أن نسأل عما علم الإنسان، بل حسبنا أنه تعالى علمه ما لم يعلم، فيتسع الإطلاق لكل ما كسب الإنسان ويكسب من العلم، وهو الذي استأثر بشرف العلم الكسبي واختص به دون غيره من الكائنات. دون تقييد بما روى عن "ابن عباس" من أنه قرأ الآية: "علم الخط بالقلم" على وجه التفسير كما رجح أبو حيان. * * * ويمضي البيان القرآني، في الردع المحذر مما يتعرض له الإنسان من غرور بعلمه ومكانه بين المحلوقات: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} الطغيان تجاوز الحد، وأكثر ما يستعمل في جبروت العتاة المستبدين. والاستغناء ضد الاحتياج. وقد سبق استقراء آيات الطغيان والغنى في القرآن الكريم، في تفسير آيتى: {ااذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} من سورة النازعات. {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} من سورة الضحى. وكلا: للزجر والردع. لكن من المفسرين من تأولها بمعنى "حقاً" لأنه ليس قبلها ولا بعدها شيء يتوجه إليه الردع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وهذا من عجيب تأويلاتهم، فالكلمة متلوة مباشرة بطغيان الإنسان، والآيات بعدها حافلة بما يتوجه إليه الردع والنذير. وليس الطغيان عن استغراق في حب المال والجاه كما تأوله بعض المفسرين، ولكنه بصريح النص، عن وهم الإنسان الاستغناء عن خالقه، إذ تأخذه العزة بالإثم، ويفتنه ما اختص به من شرف العلم الكسبي فيغتر ويطغى، متجاوزاً قدره وموضعه {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} عن خالقه. وينسى أن مصيره إلى الخالق. * * * {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} . والرجع في العربية: العود والرد. ورجع الصوت تردده، والمراجعة المعاودة. والمعجميون يضعون الرجعى مع الرجع والمرجع والرجعان، مصارد للفعل رجع. وأكثر المفسرين على أن الرجعى هنا بمعنى الرجوع. قال أبو حيان: "الرجعى أي الرجوع، مصدر على وزن فعلى، الألف فيه للتأنيث". وأحسن أن صيغة الرجعى ليس ملحوظاً فيها المصدرية ولا التأنيث، بقدر ما يلحظ فيه إطلاق الرجوع إلى غايته القصوى. ولم تأت صيغة الرجعى في القرآن الكريم إلا في هذه الآية، ردعاً للإنسان المغتر عن طغيانه، ونذيراً له بأن إلى ربك غاية مصيره ونهاية رجعاه. وبعد آية العلق {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} تتالت الآيات المحكمات فيها نزل بعدها من الوحي، منبهة ومنذرة بالمصير إلى الله سبحانه: إليه يرجع الأمر كله، وإليه مرجعكم ومرجعهم، وإليه تُرجَعون ويُرجَعون. وفي سياق النذير جاءت آية الصافات بالجحيم مرجعاً للظالمين: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} 68. وجاءت آية الفجر في سياق البشرى للنفس المطمئنة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} ويلحظ مع ما تؤذن به ضيغة الرجعى من دلالة على غاية المرجع وآخر المصير، ارتباطهما بخلق الإنسان من علق، إيذاناً بأن إليه تعالى المبتدأ والمنتهى. ومثله آية الليل: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} وتقديم {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ} . {وَإِنَّ لَنَا} صريح الدلالة على القصر والاختصاص: إلى ربك، لا إلى غيره، إن لنا، لا لغيرنا. * * * ويتتابع النذير في سورة العلق: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} . وجمهرة المفسرين على ان هذه الآيات، إلى آخر السورة، نزلت في "أبي جهل ابن هشام" كان ينهي محمداً - صلى الله عليه وسلم - عب عبادة الله. وفي قول عن الحسن البصري: هو أمية بن خلف، كان ينهي سلمان - الفارسي - عن الصلاة. ونقل "الطبري" أن أبا جها قال: واللات والعزى لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة، لأتينه حتى أطأ على عنقه ولأعفرن وجهه في التراب. قيل فأتى أبو جهل رسول الله وهو يصلي ليطأ على رقبته فما لبث أن رجع عنه ونكص على عقبيه وقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار. ونقله الزمخشري في الكشاف. والنيسابورى في تفسير غرائب القرآن، دون أن يعرضوا لما يرد على هذا، من المشهور في أن سورة العلق هي أول ما نزل من الوحي، ولم يكن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد بدأ في تبليغ رسالة ربه، ومن ثم لم يكن ووجه بالإيذاء والتهديد. من طواغيت الوثنية. لكن الفخر الرازي لم يفته أن يقف عند هذا، وقد بدا له فيه وجهان: الأول: أن الآيات الخمس الأولى من السورة هي التي نزلت في أول الوحي، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 نزلت البقية في أبي جهل بن هشام، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بضمها إلى أول السورة. والوجه الثاني: أن تحمل الآيات على عموم لفظها في الظاهر، وهو أن الإنسان، جملة الإنسان، خلقه الله من علق وأنعم عليه، فإذا به يطغى ويتجاوز الحد في المعاضي وينسى أن إلى ربك الرجعى، فينهى عن عبادة الله، وكان أولى به، وقد أنعم عليه خالقه، أن يكون على الهدى ويأمر بالتقوى. وكلا الوجهين جائز. فسياق الآيات في السورة، يشعر بأنها نزلت بعد أن أبلغ المصطفى رسالة ربه وجهر بعبادته وصلاته فووجه بالتكذيب، ثم لا تمنع خصوصية السبب في نزول هذه الآيات، من حملها على عموم اللفظ كما قرر الأصوليون. * * * والنحاه من المفسرين، وقفوا طويلاً عند "أرايت" التي تكررت هنا ثلاثة مرات في آيات متتاليات، دون أن يصرح فيها بالمفعول الثاني للفعل "رأى" على ما تقتضي الصنعة الإعرابية. وقد ذهب الزمخشري في (الكشاف) إلى أن الجملة الشرطية في {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} في موضع المفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وعلى هذا التأويل، قرر أن {أَرَأَيْتَ} زائدة قبل الشرط: إن كذب. أما جواب الشرط فيؤخذ من الآية بعده: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} وعلى هذا التأويل الذي تبدو فيه {أَرَأَيْتَ} في الجملة الشرطية مقحمة على السياق، تمت للزمخشري تسوية الصنعة بمفعول ثان، ثم تركنا نواجه مجئ جواب الشرط استفهامياً طلبياً غير مقترن بالفاء، خلافاً لقواعدهم! وقد رفض "أبو حيان" مذهب الزمخشري، دون أن يتخلص هو أيضاً من أغلال الصنعة النحوية، فلم يلتفت إلى ما في قوله الزمخشري بزيادة {أَرَأَيْتَ} في جملة الشرط من تكلف ينبو به السياق ويتمزق، بل شغلته قواعد الصنعه، فذكر أن المفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتَ} لا يكون إلا جملة استفهامية، وهو كثير في القرآن الكريم. ثم قال: "فتخرج هذه الآية على هذا القانون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وكذلك رفض مذهب الزمخشري في جعل {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} جواباً لشرط {إِنْ كَذَّبَ} محتكماً في رفضه إلى القاعدة النحوية التي تقرر اقتران جواب الشرط بالفاء، قال: "وأما تجويز الزمخشري وقوع الاستفهام جواباً بغير فاء، فلا أعلم أحداً أجازه. بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه ما، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعرية". ونحتكم إلى البيان القرآني فيما اختلفوا فيه، فتلقانا ظاهرة أسلوبية لافتة إلى أن القرآن قلما يتعلق بذكر مفعول ثان، في الأسلوب الاستفهامي بـ {أَرَأَيْتَ} خطاباص للمفرد، أو {أَرَأَيْتَم} خطاباً للجمع. وإنما يستغنى عن هذا المفعول، بتقرير يلفت إلى موضع العبرة والنذير، كما في آيات: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . (الماعون) {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (مريم 77، 78) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (الفرقان 43) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية 23) {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (النجم 33 - 38) وكلها آيات مكيات. ةة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ومثلها السؤال التقريري، خطاباً للجمع، في آيات الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ؟ {أفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ؟ َ {أفرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} ؟ ومعها آيات: يونس 59، الشعراء 75، فاطر 40، الزمر 38، النجم 19، الأحقاف 4. هي إذن ظاهرة أسلوبية، كان ينبغي أن تلفت إلى وجه في البيان العربي يستغنى عن المفعول الثاني لـ "رأى" حين تقترن بهمزة الاستفهام في الخطاب، فلانشغل بالتماس هذا المفعول الثاني خضوعاً للصنعة النحوية، بل أولى منه أن نتدبر سر هذه الظاهرة الأسلوبية التي لا تتخلف في آيات العلق: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ؟ فلفتت إلى ما هو جدير بالرؤية والبصر والتدبر، وأغنت عما تعلق به النجاة من مفعول ثان مقدر أو غير مقدر، يختلفون عليه. والأمر كذلك في جواب شرط {إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} إذا كانت قواعدهم تحتم ذكره أو تقديره، ثم نواجه بما يخالف قاعدة نحوية أخرى تقضى باقتران الجواب الطبي بالفاء. فإن البيان القرآني جدير بأن يلفتنا إلى وجه التجاوز عن ذكر جواب الشرط في مثل هذا الأسلوب، لتكون آية {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} هو موضع العبرة والبصر والتنبيه، بما يغني عن التعلق بجواب محذوف أو مقدر. ومثله في القرآن الكريم، آيات الآنعام: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} 46، 47. والقصص: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 71، 72. ومثلها آيات: هود 28، فصلت 52، يونس 50. والاستفهام فيها في موضع حواب الشرط، غير مقترن بالفاء. وننظر مع كل هذه الآيات، آية هود 88: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . فيهدينا تدبر هذه الظاهرة الأسلوبية إلى أن البيان القرآني يستغنى فيها عما تأوله النحاة، بالسؤال اللافت إلى ما هو موضع بصر وعبرة. وبه أفهم "الراغب" في (المفردات) : "رأى إذا عدى إلى مفعولين اقتضى معنى العلم. ويجرى {أَرَأَيْتَ} مجرى: أخبرني - ونقل عدداً من آياتها ثم قال: - كل ذلك فيه معنى التنبية". وإنما أطلت الوقت هنا، قصداً إلى التنبيه إلى ما يلقانا في ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم، لم تأت على المقرر من قواعد النحاة وأحكام البلاغيين المدرسيين، فيشغلنا عن البيان العالى، تسوية الصنعة النحوية أو البلاغية، بالتأويل فيه والتقدير ....... * * * {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 السفع لغة اللطم والجذب بشدة: سفع الطائر فريسته لطمها بجناحيه، وسفع الفارس بناصية فرسه: جذبها بقوة وعنف. قال عمرو بن معد يكرب، - رضي الله عنه -: قوه إذا كثر الصياح رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع وكثر استعمال السفع في لفح السموم تلطم وجه الملفوح، والسوافع لوافح السموم، ومنه سفع اللهب. وقيل في المجاز: سفع بناصيته، بمعنى اجتذبها بعنف قصد الإذلال والعقاب، مع ملحظ من اقتدار السافع وقوته وغلبته. والناصية قصاصة الشعر في مقدمة الرأس. ويستغنى بالناصية مجازاً عن الوجه وكل ما هو مقدم، فيقال لأشراف القوم: نواصيهم. ولم يأت السفع في القرآن الكريم إلا في آية العلق. أما الناصية فجاءت مرة في آية هود، 56، بمعنى التمكن والاقتدار والتحكم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وجاءت بصيغة الجمع في آية الرحمن 41: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} . وفيها مع ملحظ التمكن والتسلط والاقتدار، دلالة الهوان والإذلال والعقاب للمأخوذ بنواصيهم. ويقوى هذه الدلالة في آية العلق، مجئُ السفع بالناصية، بفعله المؤكد مسنداً إلى الله سبحانه، وذلك أقصى الترهيب والوعيد لذلك المغتر المفتون الذي ينهى عبداً إذا صلى. والسفع بالناصية فيها، يحمل على الجذب إلى النار، وعلى لفح السعير. ووصف الناصية بكاذبة خاطئة، يفهم الكذب والخطأ في سياقهما، بدلالتها الإسلامية الخاصة على الكفر والضلال، وهي الدلالة الغالبة في الاستعمال القرآني. والنادي في العربية: مجتمع القوم، كالندى والمنتدى. والنداء: الصوت الداعي إلى التجمع، ونتادوا: نادى بعضهم بعضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 والندوة الجماعة والقوم يحضرون الندى. وقد تطلق الندوة مجازاً على ما يدور بينهم في النادى من حديث. ومنه دار الندوة بمكة، كانت مجتمع قريش تقضى فيها جليل أمورها وتتحادث في هام شئونها. كما يطلق النادى ويراد به القوم المجتمعون فيه. على وجه المجاز الرسل لعلاقة المحلية، في المصطلح البلاغي. وأكثر ما تجئ المادة في القرآن الكريم في النداء مصدراً وفعلاً، ماضياً ومضارعاً. وجاء التنادي في آية القلم 21: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} . وسمى يوم الجمع يوم التنادى في آية غافر 32: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وجاء النادى بمعنى مجتمع القوم، في آية العنكبوت 29، خطاباً لقوم لوط: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . وبصيغة الندى في آية مريم 73: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} . * * * وقد ربط المفسرون آية العلق بما قالوه في سبب نزولها، فذكورا أن أبا جهل بن هشان حين توعد المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يطأ عنقه إذا رآه يصلى في الكعبة، رد عليه المصطفى منذراً بعقاب من ربه. فقال أبو جهل: أيتوعدني محمد ووالله ما بالوادي أعظم نادياً منى؟ وعلى العموم، من شأن الإنسان المغتر بجاهه وقوته، في مثل هذا المجتمع، أن يمضي على غلوائه سادراً في الضلال، معتزاً بقومه، مدلاً ما له في عشيرته من حمى ومنعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وواضح أن النادى أطلق في الآية، مراداً به الجمع الذين يدعوهم هذا الضال المغرور، وهو مظنه أن يؤازروه وينصروه. لكن ماذا عسى أن يملكوت جميعاً له تجاه الزبانية يدعوها الخالق القاهر، لتعذيب هذا المفتون؟ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} . وقد اختلف اللغويون في لفظ الزبانية، فقيل إنه جمع لا واحد له. وقال أبو عبيدة: واحده زبنية، وقال الكسائي، واحده زبنى، وكأنه نسب إلى الزبن، كالإنسي نسبة إلى الأنس. وقال الأخفش. واحد الزبانية زابن، اسم فاعل من زبن، بمعنى اشتد بطشه، ومنه قول الشاعر: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زينته الحرب لم يترمرم وقول "عتبة بن أبي سفيان، وإلى مصر لمعاوية": "وقد زبنتنا الحرب وزبناها .... ". وأيا ما كان أصل الكلمة، فالعربية قد أطلقت الزبانية على مردة الإنس والجن. وفي المادة: زبانيا العقرب أي قرناها، وفيهما السم الزعاف. ونقلت الزبانية إلى المصطلح الديني علماً على الملائكة والموكلين بعذاب الخاطئين في جهنم. وبه تفهم آية العلق، في الزبانية يدعوها الخالق ويكل إليها أمر تعذيب هذا الضال المغتر بجاهه وقوته، المدل بناديه. ولم تحدد الآية صنيع الزبانية، بل تركته على إطلاقه الرهيب، يذهب فيه التصور كل مذهب. * * * {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . قال المفسرون إن هاء الضمير في {لَا تُطِعْهُ} لأبي جهل بن هشام. وظاهر السياق عود الضمير على الذي {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وكذلك الضماءر في الآيتين قبلها: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} ، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 والسجود في العربية الخضوع، ومنه في القرآن الكريم: سجود الملائكة لآدم بأمر الله، وآية يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} 100. وكثر استعماله في العبادة من قديم، وفيما يتلو علينا القرآن من نبأ إبراهيم والبيت العتيق: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة 125، ومعها آية الحج 26) ثم في غشية الوثنية الجاهلية، كان العرب يسجدون لأرباربهم خضوعاً وترباً وزلفى، حتى نسخ الإسلام بنوره ظلام الوثنية وأبطل السجود لغير الخالق، وأخذ السجود دلالته الإصطلاحية على السجدة في الصلاة يتدرج فيها العابد من الوقوف بين يدي الله إلى الركوع، ثم يكون السجود غاية الخشوع. ولعل تسمية دور العبادة الإسلامية بالمساجد، ملحوظ فيما ما في السجود من غاية الخشوع. وأختص البيت العتيق باسم المسجد الحرام، إذ كان أول بيت عُبد فيه الله، وقد جاء بهذا الاسم في خمس عشرةة آية من القرآن الكريم ..... ومعه المسجد الأقصى في آية الإسراء. وتخصيص السجود بالذكر في آية العلق، يقبل تأويله بالسجود في الصلاة كما ذهب بعض المفسرين، مع احتفاظه بدلالته الأصلية على غاية الخشوع، استئناساً بما في القرآن الكريم من آيات تخص السجود بالذكر في وصف عباد الله القانتين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح 29) {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الزمر 9) {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (الإسراء 107) { ........... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (مريم 58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (الفرقان 64) {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (السجدة 15) {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء 219) {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران 113) ومعها آيات: (الأعراف 206، الشعراء 46، النحل 49، النجم 62) وأمر الرسول بالسجود في آية العلق، نظيره ما في آيات: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الحجر 98) {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (النجم 62) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} (الإنسان 26) ويأتي الأقتراب قرين السجود في ختام الآية: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . ولا نطمئن إلى تفسير الأقتراب هنا بالتقرب كما ذهب "أبو حيان"، بل نؤثر أن تحتفظ الكلمة بدلالتها على الدنو والقربى من الله تعالى، وإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد. * * * وإذ يأخذ الأقتراب من الله مكانه ختاماً للآية، وليس بعد القربى من الخالق غاية يطمح إليها العابد الساجد. يأخذ سجود المصطفى هنا، موضعه المهيب خضوعاً لجلال الخالق، فيصدع خيلاء المفتونين وكبرياء المزهوين، ويكبح غرور الإنسان الذي خلقه الله من علق، وعلمه بالقلم ما لم يعلم، فأطغاه وهم الاستغناء عن خالقه، سبحانه له الآخرة والأولى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 سورة القلم بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 السورة مكية مبكرة، إلا آيات (17: 33، 48: 50) فمدنية. والمشهور أنها نزلت بعد العلق، فتكون ثانية السور في ترتيب النزول بعد "اقرأ" أول الحوى. وهو الذي ذهب إليه أكثر الأئمة بنص عبارة "ابن حجر" فيما نقل السيوطى. وقال "البرهان الجعبرى" في منظومته (تقريب المأمول في ترتيب النزول) : اقرأ، ونون، مزمل، مدثر والحمد، تبت، كورت، الأعلى علا ومهما يكن الخلاف في ترتيب نزول القلم، فهي من أوائل السور المكية المبكرة التي تهدينا إلى الجو العام في منزل الوحي، أول المبعث. * * * وذكر بعضهم في أسباب نزولها أنها أو معظمها "في الوليد بن المغيرة المخزومي وأبى جهل بن هشام المخزومي. ومناسبتها لما قبلها أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصباً. وكان ما أخبر تعالى به هو ما يلقنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون، فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، والثناء على خلقه العظيم". قولهم: مناسبتها لما قبلها، يعنون سورة "الملك" التي وضعت قبلها في ترتيب المصحف. وفيه التفات إلى نسق هذا الترتيب، ولا يفوتنا معه أن سورة الملك نزلت متأخرة، فهي السابعة والسبعون في ترتيب النزول على المشهور، بينها وبين سورة القلم، على أي قول في ترتيب نزولها، أكثر من سبعين سورة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وكونها نزلت في الوليد أو أبي جهل لا يقتضي الإعتبار بخصوص السبب، حيث لا قرينة تصرف إليه عموم لفظ الآية، وأسباب النزول لا تعدو أن تكون قرائن مما حول النص، تعين على فهم الظروف التي نزلت فيها السورة أو الآية. على ما سبق بيانه في تفسير سورة الضحى. * * * {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . وتبدأ السورة بحرف (ن) يكتب هكذا حرفاً واحداً. ورسمها في المصحف الإمام على هذا، يجعلنا نستبعد ابتداء ما نقل الإمام الطبري من اختلاف أهل التأويل فيه: قيل هو النون أي الحوت واحد النينان، أو هو لوح من نور، أو اسم للدواة .... ويمنعه أن هذا النون يرسم ثلاثة أحرف "نون" وليس حرفاً واحداً (ن) . وهذا الاستبعاد يعفينا من الوقوف عندما ما روى عن "ابن عباس ومجاهد" في هذا الحوت الذي عليه الأرضون، تحت الأرض السابعة! وإن الله سبحانه خلقه قبل السموات والأرض، فلما دحيت الأرض اضطرت الحوت فمادت الأرض فأثبت بالجبال!. كما يعفينا من العقد اللغوية والنحوية والصرفية في إعراب نون، اسماً للدواة، وقد صرح الزمخشري بأنه لا يدري - ولا أدري معه - "أهو وضع لغوي أم شرعي؟ وهل اسم جنس، أو علم لنون يمنع من الصرف؟ ". وفي قول آخر إن (ن) اسم للسورة. وليس فذ هذا القول ما يغني، لأن السورة على هذا القول إنما سميت بهذا الحرف في أولها، كما سميت سورتا (ص، ق) بالحرفين لإي أولهما. ويبدو أن الراغب الأصفهاني، اختار أن تكون (ن) الحرف المعروق من حروف الهجاء، وهو ما نطمئن إليه، فتكون سورة القلم هي أول سورة نزلت مفتتحة بحرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 من هذه الحروف المقطعة بفواتح السور، وبعدها نزلت ثمان وعشرون سورة مفتتحة بهذه الحروف، منها ست وعشرون سورة مكية، وثلاث سور من أوائل العهد المدني: البقرة وآل عمران، والرعد. ومجموع حروفها بغير المكرر منها أربعة حرفاً، هي نصف حروف معجمنا. وقد اختلف المفسرون في تأويلها، وأنقل بإيجاز من أقوالهم فيها: * إنخا إشارات إلى صفاته تعالى أو أسمائه، وأصحاب هذا القول لا يكادون يجمعون على دلالات الحروف فيه، ففي الكاف مثلاً، قيل، أو كريم، أو كبير. وفي حرف (ق) قيل: قادر أو قاهر. وفي حرف (ن) قيل: ناصر، أو نور ..... * وقيل هي علامات وضعها كتاب الوحي. ويمنعه أن تدخل هذه العلامات، وهي من قول البشر، في آيات القرآن بعد البسملة. * وقيل هي من حساب الجمل. وهذا من إسرائيليات "حيى بن أخطب اليهودي" فتقول الراوية إن أخاه أبا ياسر مر في رجال من يهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم" فأخبر حيى بن أخطب بذلك، فمشى إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقال: "لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما ملكه وما أجل أمته غيرك: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. أفندخل في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم سأل: هل مع هذا غيره؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: نعم، المص. فعدها اليهودي بحساب الجمل فإذا هي إحدى وستون ومائة سنة، ثم عد "المر" فإذا هي إحدى وسبعون ومائتا سنة "وانصرف بقومه للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً ما أعطيت أم كثيراً". * وقيل هي بمثابة تنبيهات لما يكون بعدها من الحديث، وأكثر ما يكون بعدها ذكر القرآن الكريم. وقد فصل "الفخر الرازي" هذا الوجه، وكذلك "ابن قيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الجوزية" في (التبيان) واستوفاه "ابن كثير" في تفسيره على وجه الاستقراء. * وقيل إنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها. وقريب منه ما روى عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور: إن لكل كتاب سراً وإن سر هذا القرآن فواتح السور. * واختار ابن القيم أن يكون في افتتاح السور بها، تنبيه على شرف الحروف وعظم قدرها وجلالتها، إذ هي مبانى كلامه تعالى وكتبه التي أنزلها على رسله، وأقدر عباده على التكلم بها، وهذا من أعظم نعمه عليهم كما هو من أعظم آياته. وهذا الوجه قريب إلى مجال دراستنا البيانية، وأقرب منه قول من قالوا إن هذه الحروف "ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من مثل حروفهم .... ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفوها فيكون ذلك تعريفاً لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله". وقد عرضت للموضوع بمزيد تفصيل وتدبر، في كتاب (الإعجاز البياني للقرآن) . * * * ومجيء الحرف (ن) في (سورة القلم) المكية المبكرة، فيه لفت واضح إلى سر الحرف في البيان المعجز. وفي السورة جدل من المشركين في نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وجحد لمعجزته، وقول بأنها من أساطير الأولين. فكأن هذه تمهيد للمعاجزة التي تتحداهم أن يأتوا بمثله، واستدراجهم إلى أن تلزمهم الحجة، بأن يعرضوه على ما عرفوا من أساطير الأولين. وإن كلماته لمن الحروف التي عرفوها في عربيتهم، لغة الكتاب العربي المبين .... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وقد كانت كلمة الوحي الأولى "اقرأ" لافته إلى آية الله الكبرى، في الإنسان الذي خلقه سبحانه من علق، وعلم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. وبعدها نزلت سورة القلم مبتدأة بحرف (ن) لافته إلى سر الحرف الذي هو مناط القراءة والعلم والبيان، تنطق به منفرداً منقطعاً فلا يعطي أي معنى أو دلالة، بل لا يكاد يخرج عن مجرد صوت، ثم يأخذ الحرف موضعه من الكلمة في البيان، فيتجلى سره الأكبر. * * * {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} . قال الإمام الطبري إن القلم معروف "غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام، القلم الذي خلقه تعالى فأمره بكتابه ما هو كائن إلى يوم القيامة". وأطال "ابن قيم الجوزية" في شرح فوائد القلم وبيان عظمته، قال: "فأقسم بالكتاب - ن - وبالقلم الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي وقيد به الدين واثبت به الشريعة وحفظ بها العلم وقامت مصالح العباد في المعاش والمعاد". ثم عقد فصلاً في مراتب الأقلام فجعلها اثنى عشر قلماً، أعلاها وأجلها قدراً قلم القدر السابق. وقد أقسم به إعظاماً له. ويوجه هذا إلى تأويلهم {وَمَا يَسْطُرُونَ} بأن الضمير في الفعل للحفظة من الملائكة الذين يكتبون بأمر الله أقدار الخلائق وأعمالهم في اللوح المحفوظ. وفيه قول آخر، هو أنه القلم المألوف المعتاد الذي يسطر به الناس كتاباتهم ووجه إعظامه بالقسم، أن الله تعالى هو {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . والذي نطمئن إليه - والله أعلم - هو أن تكون الواو هنا قد خرجت عن معناها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الأول في القسم للتعظيم، لملحظ بياني، هو اللفت إلى ما عهدوا من أمر القلم والكتابة واعتمادها على سر الخوف، توطئةً إيضاحية للرد على جدل المشركين في كلمات الله تعالى. والأقرب عندنا أن يكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لمن كانوا ينقلون من العرب أساطير القدماء ويحلولون أن يشبهوا القرآن الكريم بها، إذ نلمح في إيثار {يَسْطُرُونَ} على: يكتبون: ما يتجه بها قوله تعالى في الآية بعدها من سورة القلم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . ونظيره ما في الآيات: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان5) {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنعام 25) {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال 31) {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النمل 68) وآيات (النحل 24، الأحقاف 17، المطففين 13) . هم إذن، كانوا على علم باساطير الأولين، وفيهم من كان يكتتبها ويتلو منها تحديداً للمصطفى عليه الصلاة والسلام، على ما روى "ابن إسحاق" في (السيرة النبوية) . وهذه هي آيات الكتاب المعجز معروضة عليهم بلغتهم وحروفهم، فليقابلوها على ما لديهم مما كانوا يسطرون. * * * والرسول عليه الصلاة والسلام في أول عهدده بالوحي، كان في أشد الحاجة إلى ما يثبت فؤاده ويذهب عنه قلق النفس وشواغل البال. وكتب الحديث والسيرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 تصف حالته النفسية حين آب من غار في ليلة القدر، مرتعداً بادى الحيرة والقلق، وأفضى إلى زوجه السيدة خديجة بما رأى وما سمع فقالت رضي الله عنها: أبشر يا ابن العم واثبت فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتؤدى الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث .... كما نقلت كتب الحديث والسيرة وطبقات الصحابة، ما كان من تلقي "ورقة بن نوفل" لخبر الوحي الأول، وقوله للمصطفى عليه الصلاو والسلام: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه!. وفي ضوء ما تواتر كم أخبار عن حالة المصطفى عليه الصلاة والسلام أول عهده بالوحي: وما واجه من تكذي المشركين وحيرتهم فيما يصفونه به، نتلو الآيات: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . فندرك عمق أثرها في تثبيت المصطفى وتقوية فؤاده، وتهيئته لما هو بسيل أن يحتمل من أعباء التبليغ لرسالته، والصبر على ما يلقى من عنت المكذبين الضالين، وسفة الوثنية القرشية العاتية. وجمهرة المفسرين على أن جملة {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} اعتراضية، كما تقول لصاحبك: أنت بحمد الله فاضل. وهذا أقرب ممن تأولوه: ما أنت بمحنون والنعمة بربك. ذكره "أبو حيان" في (البحر) وقال إنه تفسير معنى لا تفسير إعراب. وفيه تكلف لا يسيغه حس العربية المرهف الذي يجلوه البيان القرآني في ذورة نقائه. وإنما يفهم في بساطة ويسر، بالمألوف كم بيان العربية في مثل: قولك: ما أنت بفضل الله بشقي. وقد سبق استقراء ما في القرآن من لفظ نعمة، مادة وصيغة، في تفسير آية التكاثر: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} وهدى الاستقراء إلى أن القرآن يستعمل النعمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 لنعم الدنيا، ويخص صيغة النعيم بدلالة إسلامية على نعيم الآخرة. ونقف هنا عند هذه الباء في خبر ما: {بِمَجْنُونٍ} وقد جرى النحاة والمفسرون على القول بأنها زائدة، فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله، يمنع من ظهور حركته، اشتغال المحل بكسرة حرف الجر الزائد. وباستقراء ما في القرآن الكريم من خبر ليس وما، يلقانا اطراد وقوع هذه الباء المقول بزيادتها، في خبرهما المفرد غير المؤول. لم تتخلف إلا في بضع آيات لها سياقها الخاص الذي يوجه إلى الاستغناء عن الباء. ولا يهون القول بأن الباء حرف جر زائد، إذ مقتضى القول بزيادتها إمكان الاستغناء عنها، وهو ما لا يؤنس إليه البيان القرآني. والنحويون من المفسرين، يذهبون إلى أن الباء زائدة لتأكيد النفي. ونقول إن الآية لا تؤخذ بمعزل عن نظائرها، والذي نطمئن إليه، في هدى التدبر لما استقرأنا من هذا الأسلوب في القرآن، هو أن الباء تأتي في خبر المنفي بما أو ليس، فتجعله جحداً وإنكاراً: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فإذا جاءت الباء في خبر المنفي بأسلوب الاستفهام: أليس .... ألست؟ لم تكن لتأكيد النفي، بل تخرجه بيانياً من النفي، إلى تقرير ملزم وإثبات مؤكد، وفي هذا الأسلوب، تلزم الخبر الباء المقول بزيادتها، باستقراء كل آياتها: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ؟ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ؟ {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ؟ وفي آية القلم، تأتي الباء في خبر المنفي بما، فتصير به إلى إنكار بات: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . * * * {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} . الأجر في أصل الوضع اللغوي، الجزاء المادي على عمل أو منفعة، ومن الإيجاز والاستئجار في المعاملات. وينتقل إلى الجزاء المعنوي، فيخص بصيغة الأجر دون الأجرة التي يغلب استعمالها في المعاملات. ثم جاء الأجر في المصطلح الديني، بمعنى الثواب، ملحوظاً فيه ما يعود من جزاء العمل. زمن الاستعمال القرآني للأجر بمعناه الأول، الأجور في مهور النساء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وآيتا القصص في ابنتى شعيب وموسى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} ومن استعماله القرآني بدلالة مجازية أو اصطلاحية: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وآية القلم: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} ومن معاني المن في العربية، ما يوزن به. والمنون الموزون، ومنه جاءت المنة بمعنى النعمة ذات القيمة والوزن. ومن على فلان أنعم عليه. قال الراغب في (المفردات) : وذلك لا يكون على الحقيقة إلا من الله سبحانه وتعالى. وبملحظ من الوزن، جاء الممنون بمعنى المحسوب المعدود: من على فلان، حسب عليه ما قدم إليه من خير أو منفعة، وذلك مستقبح بين الناس، ومنه القول المأثور: "المنةُ تهدم الصنيعة" لأنها تقطع الشكر وتنقص النعمة. وذهب "الراغب" إلى أن المنون. بمعنى المنية، جاءت من كونها تنقص العدد وتقطع المدد. والاستقراء القرآني للمادة، يرجع ما ذهب إليه الراغب من أن المن لا يكون في الحقيقة إلا من الله، إذ يأتي المن مسنداً إليه تعالى، في سياق التفضل والتذكير بنعمه على خلقه. كالذي في آيات: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (آل عمران 164) {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} (يوسف 90) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} (القصص 82) {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور 27) {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات 114) ومعها آيات: الأنعام 53، النساء 94، طه 37، القصص 5، إبراهيم 11. أما حين يأتي المن في القرآن مسنداً إلى المخلوقين، فالسياق على وجه النهي أو النفي، كالذي في آيات: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر 6) {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات 17) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .... } (البقرة 262) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (البقرة 264) إلا أن يكون في نص السياق قرينة صارفة لمن البشر عن وجهه المذموم، كالذي في آية "محمد" في قتال الذين كفروا: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} والمن فيها بمعى: إطلاق بغير فدية. وآية (ص) في سليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 39. وفي تفسير {غَيْرُ مَمْنُونٍ} بآية القلم، قال "الراغب": إنه غير مثطوع ولا منقوص. ومثله "ابن القيم" في (التبيان) : غير مقطوع بل هو دائم مستمر. ومما فسره به "الزمخشري": "غير ممنون به عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال". أنكره "أبو حيان" ورأى فيه "دسيسة اعتزال". وكذلك أنكره "ابن المنير الإسكندري"، فقال في (الانتصاف) : " ..... ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرضى من الزمخشري بتفسير الآية هكذا، وهو - صلى الله عليه وسلم - بقول: لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، حتى أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة .... لقد بلغ الزمخشري سوء الأدب إلى حد يوجب الحد، وحاصل قوله أن الله لا منة له على أحد ولا فضل في دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه. نعوذ بالله من الجراءة عليه". ونحتكم إلى القرآن الكريم، فيهدينا تدبر ما نقلنا من ىيات المن، إلى أن الله تعالى أن يمن على عباده تفضلاً وتذكيراُ بنعمه، وإنما يكره المن من البشر، حين يكون على وجه التعالي والمحاسبة. ولآية القلم نظائر في آيات: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (فصلت 8) (ومعها آيتا: التين 6، والانشقاق 25) . وبها نستأنس في فهم آية القلم، فنطمئن إلى تفسيره بأنه أجر غير معدود ولا مشوب بما ينغضه. وليس على الوجه الذي ذهب إليه "الزمخشري". فالله سبحانه وتعالى يمن على نبيه المصطفى وعلى عباده، تفضلاً وإنعاماً. وتنكير "أجر" يفيد الإطلاق، والتعميم غير المقيد بتعريف يخصصه. * * * وفي تفسير آية: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . نقل "الإمام الطبري" قول من فهموها بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن. وقد يرد عليه أن الآية مكية مبكرة من أوائل الوحي، ولم يكن قد نزل من القرآن الكريم ما تعرف به القيم الخلقية القرآنية ..... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وفسرها بعضهم بالدين: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وليس في القرآن كله، ما يؤنس إلى استعمال بمعنى الدين. وإنما تؤكد الآية، ما علم الله من خلق نبيه المصطفى، وقد كان منذ صباه معروفاً في قومه بسموالخلق، كما كان في شبابه فتى قريش أمانة وصدقاً ونبلاً وعفة، أو كما قال عمه أبو طالب في خطبة زواج محمد من خديجة بنت خويلد: "أما بعد فإن محمداً ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً". وقالت أم المؤمنين الأولى، رضى الله عنها، في ليلة القدر: "الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عم واثبت .... والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتص الرحم وتؤجي الأمانة وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق". ومعهاما تواتر به الخبر من لقب الأمين الذي أطلقته قريش على محمد بن عبد الله قبل المبعث. وهذه آية القلم، من أوائل الوحي: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . شهادة إلهية بعظمة خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام، تتوج ما كان معروفاً من مكارم أخلاقه، وتمنحه القوة على مواجهة المكذبين الطاغين. * * * {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} . أصل الاستعمال اللغوي في البصر، للعين الباصرة، ومنه في القرآن الكريم مثل آيات: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النحل 77) {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (البقرة 20) {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور 30) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور 31) {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة 7) {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب 10) {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النور 43) ثم قيل للإدراك الثاقب: بصر، بملحظ من قوة التحقيق ونفاذ النظر. واختصت القوة المدركة بلفظ البصيرة، فلا يكاد يقال للحاسة بصيرة، ويقال لذي البصيرة بصير، ولا يقال في الحاسة إلا مبصر. ومن الأسماء الحسنى البصير، وليس المبصر من أسمائه تعالى أو صفاته. وأكثر ما في القرآن من البصر، هو من معنى البصيرة، كالذي في آيات: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (آل عمران 13) {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق 22) {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} (الأنعام 104) {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف 179) {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الأعراف 198) {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} (يونس 43) {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (النمل 13) ويبدو ان استعمال البصر في رؤية العين، ملحوظ فيه غالباً، التميز ونفاذ النظر، بشاهد من آيات: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ (الأنبياء 3) {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ (الزخرف 51) {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} ؟ (الطور 15) {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ؟ (يس 9) ونطمئن إلى أن البصر في آية القلم، بمعنى النظر الثاقب المميز والمعرفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المدركة، وزمن الفعل فيه منقول إلى المستقبل القريب بحرف السين: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} . ولا اشق على القارئ بنقل الخلاف بين النحويين في توجيه آية {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} وإعرابها. وقد لخصه "ابن قيم الجوزية" بإيجاز واف، نراه يغني هنا، قال: "وقد اختلف في تقدير قوله {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} فقال أبو عثمان المازني: هو كلام مستأنف، والمفتون عنده مصدر، أي بأيكم الفتنة. والاستفهام عن أمر دائر بين اثنين قد علم انتقاؤه عن أحدهما قطعاً، فتعين حصوله للآخر. والجمهور على خلاف هذا التقدير، والآية عندهم متصلة بما قبلها، ثم لهم فيه أربعة أوجه: أحدها، أن الباء زائدة، والمعنى: أيكم المفتون، وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بحسبك أن تفعل. قاله أبو عبيد. الثاني: أن المفتون بمعنى الفتنة، أي: ستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة. والباء على هذا ليست بزائدة. قاله الأخفش. الثالث: أن المفتون مفعول على بابه، ولكن هنا مضاف محذوف تقديره بأيكم فتون المفتون. وليست الباء زائدة. قاله الأخفش أيضاً. الرابع: أن الباء بمعنى في، والتقدير: في أي فريق منكم النوع المفتون. والباء على هذا، ظرفية". ونقول مع ابن القيم: "وهذه الأقوال كلها تكلف ظاهر لا حاجة إلى شيء منه و {سَتُبْصِرُ} مضمن معنى تشعر وتعلم، فعدى بالباء .... وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من قريب فلا تجب من دعاك إليه من مكان بعيد". والعربية تستعمل الفتنة حسياً في إذابة الذهب والفضة وصهر المعدن بالنار. ومن معاني الفتنة في المعجم: الفن، والحال، والإبتلاء، والإعجاب بالشيء، والضلال والكفر، والإيقاع بين الناس. وهي تحتمل في الآية، أن يكون المفتون من الإبتلاء بالضلال والبغي. ولعلها تحتمل كذلك ما قاله بعض المفسرين من معنى الجنون. وإن يكن حمل الفتنة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الضلال أقرب إلى حس البيان، كما أنه أقرب إلى سياق الآية بعده: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . وقد سبق استقراء الاستعمال القرآني للهدى والضلال، في تفسير آية الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} . وأصلهما في الضلال عن الطريق أو الإهتداء إليع، حسياً ومعنوياً. ثم نقلا إلى الدلالة الإسلامية على الكفر والإيمان، وهذا هو معناهما الظاهر في آية القلم، مع ارتباطهما بأصل المعنى الأول، بلفظ السبيل، ترشيحاً للاستعارة على المصطلح البلاغي. وقال الطبري: "وهذا من معاريض الكلام، وإنما معنى الكلام: إن ربك يا محمد هو أعلم بك وأنك المهتدي، وبقومك من كفار قريش وأنهم الضالون عن سبيل الحق". وهذا أقرب من قول الزمخشري: "هو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون، أو يكون وعيداً ووعداً بجزاء الفريقين". والآية أمسكت عن ذكر مفضول * أعلم * وهذا يطلقه من قيد المفاضلة بين عالم وأعلم، دون حاجة إلى تأويل مفضولٍ تقديره عند بعضهم: أعلم منكم، أو أعلم من سواه. . . * * * {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} . التكذيب هنا، بآيات الله ونبوة رسوله عليه الصلاة والسلام. والإدهان: اللين والتساهل والمداراة, والمداهنة التحايل واللاينة والمداجاة. وترجع استعمالات المادة وصيغها في الأصل اللغوي إلى الدهن، يتخذ للتليين والتطرية. والدهان الصبغة. والدهين، المكان الزلق كأنه دهن بالدهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وفي القرآن من هذا المعنى الأول، آيتان: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (المؤمنون 20) {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن 37) وبملحظ من التطرية والتلين جاءت الدلالة للإدهان، في اللين والتساهل، وشاع استعمال المداهنة في المداجاة والملاطفة عن غش وخداع، أو عن تساهل وتفريط. وفي القرآن من هذه الدلالة امجازية، آيتان: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} (الواقعة 81) وآية القلم: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} . قيل في تفسيرها: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. أو: ودوا لو تلين في دينك فيلينون في دينهم. وقيل: ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك. وقد نقلها الطبري ثم قال: "وأولاهما بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك، ود هؤلاء المشركون لو تلين لهم يا محمد في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك". واستأنس له بآية الإسراء: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ..... } 74. فالإدهان مأخوذ من الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن. وهو غير المداهنة، التي تحتمل الممالأة والمداجاة. وشغل نحاة ومفسرون بعقد الصنعة الإعرابية، عن لمح سر التعبير بـ "لو" التي تعطي حس التمني البعيد من المشركين أن يلين لهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فوقفوا طويلاً عند ثبوت النون في {فَيُدْهِنُونَ} والقاعدة عندهم أنها تحذف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 النصب في جواب التمني {وَدُّوا لَوْ} لتضمنه معنى ليت. قال الزمخشري: " عدل به عن ذلك إلى طريق آخر هو على تقدير خبر مبتدأ محذوف: فهم يدهنون. أو على المصدرية، المؤولة، بمعنى: ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك؟ " ثم أشار إلى قراءة في بعض المصاحف بحذف النون: "فيدهنوا" وتخريج القول عندهم على هذه القراءة، يكون على وجهين: انه جواب {وَدُّوا} لتضمنه معنى ليت، والوجه الآخر أنه على توهم أنه نطق بأن، أي: ودوا لو أن تدهن فيدهنوا. وجمهور المصاحف على إثبات النون كما صرح أبو حيان في (البحر) وإنما جر إلى كل هذه الوجوه من التأول والتقدير، أنهم عرضوا الآية القرآنية على قواعدهم النحوية، ثم راحوا يلتمسون الحيل لتسوية الصنعة الإعرابية. وقد قلت وأقول: ما يجوز أن يعرض البيان الأعلى على قواعد النحاة، وإنه الأصل والحجة. ومن ثم تبقى الآية على وجهها، وتكون الفاء في: فيدهنون حرف عطف، فتثبت النون رفعاً بالعطن على {تُدْهِنُ} والفاء العاطفة لا تفقد ملحظ السببية. * * * {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} . في تفسيرنا لآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} هدى الاستقراء إلى أن الكتاب المحكم لم يستعمل مادة (حلف) بمختلف صيغها، إلا في الحنث باليمين. وخلاف: صيغة مبالغة من حالف. وقلما تستعمل العربية في بيانها اسم الفاعل من حلف، فكأن عدولها إلى حلاف، إيذان بأن من يحنث في يمينه يدأب على الحنث فلا يتورع من الإكثار من الحلف، عادة وطبعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وهماز: صيغة مبالغة من الهامز. نقل الإمام الطبري من أقوالهم في تأويلها: * أنه الذي يهمز الناس ويضربهم بيده، لا باللسان. * وقيل هو المغتاب يطعن في أعراض الناس بما يكرهون. وقال الزمخشري في الكشاف: هماز، عياب طعان، وعن الحسن: يلوى شدقيه في أقفية الناس. ويأتي في تفسيرنا لسورة الهمزة، بعد، استقراء كامل لمواضع استعمال القرآن للهمز واللمز، وتدبر لسياق الآيات فيهما. وهو يهدى إلى أن الهمز الطعن والتجريح في الغيبة، أما اللمز فيكون مواجهة صريحة. والنميمة: الإيقاع بين الناس قصد الفتنة والتوريش بينهم بما يلقى العداوة والبغضاء. وأصل النم في العربية: وسواس همس الكلام وأثر الريح في التراب. ومنه جاءت النمنمة لنقش الكتابة وزخرفتها. وأحسبه نقل إلى دلالته المجازية على الإيقاع والتوريش والفتنة، بملحظ من اعتماد النميمة عادة، على زخرف القول والوسوسة به همساً، للإيقاع. وبهذا الحس الأصيل للنميمة، نفهم {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} في الآية، دون تقييد لنميم بمن ينقل حديث الناس بعضهم إلى بعض، أو المشي بينهم بالكذب كما نقل "الإمام الطبري" في تفسيره. بل نؤثر إطلاقه، كي يدخل فيه كل سعي بين الناس بالشر: بكذب القول أو صدقة، بنقل حديث بعضهم إلى بعض، أو إهاجة أحقاد بينهم وإيقاظ فتنة نائمة ..... ومناع للخير: مبالغة من مانع. وظاهر السياق أن المراد بالخير عمومه المطلق نقيضاً للشر، دون تحديد له بمنع المال الذي ألفت العربية أن تعبر عنه بالشح. والخير كما يكون ببذل الما، يكون بالتراحم والدعوة إلى عمل صالح، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ..... وفي تفسير آية الضحى {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} - بالجزء الأول - تدبر لآيات الخير في القرآن الكريم، هدى إلى أنه قلما يستعمله بمعناه المادي في بذل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 المال، ونعم الدنيا، إلا بقرينة من صريح السياق مالإنفاق والوصية، في آيتى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (البقرة 215) {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180) وإنما يغلب الاتجاه به إلى نقيض الشر، كالذي في آيات: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} (البقرة 263) {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران 104) {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} {آل عمران 110) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة 7) {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة 269) {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء 73) والعتل: الجلف الجافي الغليظ، ومن الاستعمال الحسي للمادة في اللغة: العتلة، واحدة العتل: حديدة كأنها رأس فأس، والهراوة الغليظة، والناقة لا تلقح. وعتله: جره عنيفاً. وبملحظ من الغلظة في الاستعمال الحسي، جاءت دلالة العتل على الجافي الغليظ. وفي القرآن الكريم من المادة آيتا: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (الدخان 47) {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم 13) نفهمهما بالدلالة اللغوية على الغلظة والخشونة، مع ما في اللفظ نفسه من حس الجفوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 ثم يعيطيهما السياق القرآني ملحظاً من رهبة الزجر في قسوة الأخذ بآية الدخان، ومن الضعة والخسة واللؤم، في عتل زنيم، بآية القلم، بعد وصفه بأنه: {حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} . أما {زَنِيمٍ} فلم تأت مادة ولا صيغة، إلا في آية القلم. ومن معانيها في اللغة: اللئيم المعروف بلؤمه وشره. ومنه قيل للدعي المستلحق بقوم ليس منهم، زنيم. وربما كان فيه أيضاً ملحظ من لالة الزنمة، وهي شيء يقطع من أذن البعير فيترك معلقاً. قاله "الراغب". وقد فسرها ابن عباس، في مسائل ابن الأزرق، بولد الزنا، واستشهد له بقول الشاعر: *زنيم تداعاه الرجال زيادة* ونقل فيه "الطبري" معنى الفاحش اللئيم، والملصق بالقوم وليس منهم، واستشهد له بقول حسان: *وأنت زنيم نيط في آل هاشم* وقول آخر: زنيم ليس يعرف من أبوه بغى الأم ذو حسب زنيم وخصه قوم، منهم الزمخشري في (الكشاف) "بالوليد بن المغيرة المخزومي، كان دعياً في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة" مع كلام طويل في الزنا وخبث النطفة. ونقله "أبو حيان" ومعه: أن الوليد كان له ستة أصابع في يده. فكأنها الزنمة. ثم علق قائلاً: "والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين، وإنما تصدق على عامة من يتصف بها". ونضيف: إن لفظ {كُلَّ} في صدر هذه الأوصاف: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 مَهِينٍ} يخرج بها من الخصوص إلى العموم المستفاد صراحة من {كُلَّ} . وتفسيره بالفاحش اللئيم، أولى من تفسيره بولد الزنا: فالقرآن الكريم في محقه للزنا، إنما يقصر اللعنة على الزاني والزانية، لا على أولادهما. والعربية حين استعملت الزنين لولد الزنا، لحظت فيه معنى لؤم الأصل وخبث المنبت. {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} . واضح أن فتنة المال وجاه العدد، كانا مدعاة الشر والأثرة والغلظة والبغي. لكن من المفسرين من ربط الآية بالخطاب في صدر الآيات قبلها {وَلَا تُطِعْ} قالوا: "كأنه نهاه أن يطيعه من أجل أنه ذو مال وبنين". وإليه ذهب الزمخشري فتأوله: ولا تطعه مع هذه المثالب، لأن كان ذا مال وبنين. وهذا تأول بعيد ينبو عنه الحس، فما كان - صلى الله عليه وسلم -، في عظمة خلقه وكرم سجاياه وشرف نبوته، مظنه أن يطيع {كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} من أجل أنه ذو مال وبنين! وإنما النهي عن طاعة المكذبين وكل حلاف لئيم، فيما يعرضون من مساومات، والحنث في الإيمان دأبهم وعادتهم، وتحذير المصطفى عليه الصلاة والسلام، من أن يؤخذ بما قد يبدون من إدهان، احتيالاً على الموقف الصعب، وقصد الفتنة والشر، مستظهرين بما لهم من مال وبنين. * * * {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . جحداً لنبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتكذيباً بآيات الله تعالى، وإمعاناً في البغي والإثم والتجبر والضلال. {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} . الآية على وجه الوعيد بالإذلال والإهانة والتحقير، صدعاً لكبرياء المغتر بماله وبنيه. والسمة العلامة، والوسم علامة يعرف بها الموسوم. ولعل أصل استعماله اللغوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 من الوسم وهو أثر الكي، والاسم علامة مميزة لتعريف الأشخاص. وفي المصطلح النحوي، يأتي الاسم قسيم الفعل والحرف. وأكثر ما تدور المادة على العلامة المميزة، حسياً معنوياً. والخرطوم الأنف أو مقدمه. وشاع استعماله في الحيوان، الفيل، واستعمال الأنف للإنسان. وإذ كان الأنف أبرز ما في الوجه، نقل إلى الدلالة المجازية على الرفعة والتكريم، أو الخسة والتحقير، فقالوا الأنوف والأنف، من الأنفة بمعنى العزة والكبرياء. وكنوا عن المترفع بمثل قولهم: ـشم الأنف، وأنفه في السماء. كما كنوا عن الإذلال بمثل قولهم: أنفه راغم، وأنفه في التراب. وفي القرآن الكريم، استعمل الأنف للإنسان على أصل معناه اللغوي في القصاص بآية المائدة 45: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . والعدول عن الأنف إلى الخرطوم في آية القلم، فيه ملحظ التحقير والهبوط بآدمية ذلك المفتون الشرير الجافي اللئيم، إلى دمنية البهائم والدواب. ومن هذا، يبدو ضعف ما قيل في تأويله، بأن معناه: سنسود وجهه أو نضرب بالسيف على أنفه - وأيدوا هذا التأويل بما حل بالوليد بن المغيرة يوم دبر! - أو نسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره! نقل هذه التأويلات "الإمام الطبري" بعد أن ذكر اختلاف أهل التأويل فيه: حقيقة هو أم مجاز؟ وإذا كان حقيقة فهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟. ورد الخرطوم إلى الأنف، يضيع به سر البيان في تحقير المغرور الخبيث، والهبوط بآدميته إلى البهيمية. أما ما نقلوا عن "النضر بن شميل" من أنه تأوله في معنى "سنحده على شرب الخمر"، ففيه شطط وبعد كما ذكر "أبو حيان". ووجه الشطط فيه أن حد الخمر لم يكن قد شرع بعد لتؤدى الآية معناها من الزجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 والوعيد والتحقير، ومن المسلمين من حدوا على شرب الخمر بعد أن حرمت، لا ينفرد به هذا العتل الزنيم الكافر، ليكون في إنذاره به فرط تحقير وإذلال وإهانة! * * * {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} البلاء المحنة، والإبتلاء الإمتحان. والجنة في الآية، على معناها الأول قبل أن تأخذ دلالتها الإسلامية على دار النعيم في الآخرة. وترجع دلالة المادة في الأصل اللغوي إلى معنى الخفاء، يبدو بوضوح في الجنين مختفياً في رحم أمه، والجنون خفاء العقل، والجن جنس خفي من المخلوقات، نقيض الإنس. وبملحظ الستر في الخفاء، قيل جن عليه الليل. والمجن ما يتخذ درعاً ساترة للوقاية. وقيل للأرض المغطاة بالشجر والزرع جنة، ثم نقلت الجنة إلى المصطلح الإسلامي في جنة الآخرة. وهو الاستعمال الغالب للفظ جنة وجنات في القرآن الكريم - نحو مائة وعشرين مرة - على أنها جاءت بدلالتها الأولى على الجنة المعروفة في الدنيا، مفردة في تسع آيات، ومثناة في خمس آيات، واثنتى عشرة مرة بصيغة الجمع، لجنات الدنيا. والسياق هو الذي يحتكم في تحديد هذه الدلالة. والصرم: القطع، ومنه حصد الزرع وجني الثمر، ثم أخذ دلالته المجازية على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الهجر. والصريم: المقطوع، والمحصود. ونقلوا أنه الرماد الأسود بلغة خزيمة، ورملة معروفة في اليمن. والإصباح: الدخول في وقت الصبح أول النهار. والاستثناء معروف .... وظاهر السياق في الآية، على أن أصحاب الجنة أقسموا ليحصدن زرع جنتهم ويقطفن كل ثمارها، ولا يبقون منها شيئاً. لكن من المفسرين من تأولوه في الآية بأن أصحاب الجنة لو يقولوا: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} حين أقسموا ليصرمنها مصبحين. وظاهر النص، أن خطيئتهم التي أخذوا بها، هي التصميم على صرم جنتهم خفية، والاستئثار بكل خيرها لا يؤدون حق مسكين فيه. والتخافت: أن يتحدث بعضهم إلى بعض في خفوت، قصداً إلى الحيلولة دون سماع أحد لما يتخافتون به. والحرد: المنع، من حردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الناقة إذا منعت درها. لحظ فيه أن ذلك لا يكون إلا عن نفور، فجاءت دلالة الحرد على النفور. والتلاوم: من صيغ المفاعلة، وذلك بأن يلوم بعضهم بعضاً. والعربية تستعمل الأوسط والوسط في معنى العدل، ملحوظاً فيه أنه توازن بين طرفين متباعدين. والتسبيح ذكر الله، ونفهمه في آية القلم: {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} بمعنى: لولا تذكرون الله فتؤدوا حقه وتشكروا له نعمته. والطغيان: تجاوز الحد، وأصل استعماله في طغيان الماء، ثم نقل بهذا الملحظ إلى دلالته على الجبروت وتجاوز الحد، على ما سبق تدبره في تفسير آية النازعات خطاباً لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} بالجزء الأول من هذا الكتاب. * * * وتسوع مفسرون في تفصيل قصة أصحاب الجنة المذكورين في سورة القلم، وخلاصتها أن هذه الجنة كانت لرجل صالح، حدودا قومه وبلده فقيل إنه من أهل اليمن، من صوران صنعاء، وقيل من أهل الحبشة، وقيل من أهل الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 كما حددوا زمنه فقالوا: إنه كان بعد رفع عيسى عليه السلام! وقد كان حصاد جنته وثمرها قوت سنته، ويتصدق بالباقي على المحتاجين، ويترا ما يخطئه المنجل من حصاد، وما يخطئه المنجل منة حصاد، وما يخطئه القطاف من العنب، وما يبقى تحت التخل. وكان بنوه يضيقون بذلك ويحاولون حمله على بما يملك. . فلما مات قالوا: إن فعلنا ما كان أبونا يفعل، ضاق علينا الأمر عيال. وأقسموا فيما بينهم، حين آن الحصاد، أن يتسللوا إلى جنتهم ليجنوا ثمرها وأكلها لا يبقون منه شيئاً لمحتاج، وفيما هم نائمون، طاف طائف - قيل في رواية إنه الشيطان، وفي أخرى إنه جبريل - اقتلع الشجر ومضى فطاف به حول البيت العتيق تبركاً، ثم وضعه حيث الطائف، وليس في أرض الحجاز بلدة غيرها فيها الماء والشجر وترك الجنة صريماً جرداء خلاء. فلما أصبحوا، تنادوا ليغدوا على حرثهم، وانطلقوا إلى جنتهم يتخافتون: ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. فما إن رأوها حصيداً قفزاً، رشدهم وأدركوا أنهم ضالون. ولما ذكرهم أوسطهم بما تهاونوا به حين نسيان الله والتفريط في حق نعمته، أقبل بعضهميلوم بعضاً، وتضرعوا لهم ما كان من طغيانهم وظلمهم: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} . والقرآن الكريم يقدم لنا في هذه السورة المكية المبكرة، مقلاً مما سوى الوحي من قصص الأولين: لا يتعلق فيها بذكر الأشخاص والأزمنه إلا ما كان من جوهر القصة وموضع العبرة, وهو إذ يضرب المثل بأصل الذين أنعم الله عليهم فبغوا وظلموا أنفسهم ونسوا الله فحق عليهم العقاب، يحدد لنا من أي قوم كانوا، من الحبشة أو من اليمن. ولم يذكر عددهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 زمن القصة: هل كان بعد عيسى عليه السلام أو قبله. كما اكتفى بطائف على الجنة وأصحابها نائمون. دون أن يشير من قرب أو بعد، إلى ما يسيغ الروايات الغريبة التي تقول في {طَّائِفِ} إنه شيطان، أو أنه جبريل اقتلع شجر ونخيلها وحمله فطاف به حول الكعبة ثم غرسه في موضع بلدة الطائف! لأن نستأنس في فهم آيات القلم، بآية يونس في مثل الحياة الدنيا: { ..... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 24. * * * ضمير الجمع في {بَلَوْنَاهُمْ} عائد على المكذبين وكل حلاف مهين .... المماثلة بينهم في البلاء وبين أصحاب الجنة، نقل "أبو حيان" قول من قالوا: النازل بقريش المماثل لأمر الجنة، هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى وأكلوا الجلود" أو أن "تشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة، هو أن أهل الجنة عزموا على الإنتفاع بثمرها وحرمان المساكين فحرمهم الله تعالى، وأن خرجوا إلى "بدر" حلفوا على قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإذا فعلوا ورجعوا إلى مكة فطافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فقلب الله عليهم بأن قتلوا". بدر قد كان في السنة الثانية للهجرة، بعد نزول سورة القلم بنحو خمس. واضح أن المفسرين نظروا في تأوويلها، إلى واقع التاريخ بعد نزولها. النص، على أي حال، صريح في ردع كل الطغاة المتجبرين الذين المال وجاه العدد وأخذتهم العزة بالإثم والطغيان، دون أن يتعلق مالقى المشركون "في بدر" في العام الثاني للهجرة، من هزيمة ساحقة. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وقوله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . يلفت إلى مناط العبرة فيما تلت الآيات من أمر أصحاب الجنة، ويتجه بها إلى العظة، والإنذار بما يحيق بالطاغين الظالمين من عذاب معجل في الدنيا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . والذي أطمئن إليه، والله أعلم، أن الضمير في {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لمن {بَلَوْنَاهُمْ} من الطغاة المكذبين الذين نزلت القصة عبرة لهم ومثلاً، وليس لأصحاب الجنة الذين أقروا بظلمهم وتابوا وأنابوا، ورغبوا إلى الله. ويؤنس إلى هذا الوجه في فهم الآية، أن القرآن الكريم بعد أن تلا ما كان من بغي أصحاب الجنة وعقابهم ثم توبتهم وضراعتهم، أمسك عن ذكر مصيرهم، فأمرهم متروك إلى علم الله ورحمته. فاتجه النذير إلى من تصدوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والتحدي، وارتبط بالآية قبله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} كما ارتبط بالآيات بعدها: * * * {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} ؟ وفيها يبين القرآن الكريم عاقبة المتقين بعد الذي ساق من عبرة أصحاب الجنة، ونذير للطغتة الظالمين، فيعمد إلى الأسلوب الاستفهامي الذي يخرج عن أصل معناه اللغوي في طلب الجواب، إلى الرفض والإنكار: أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين. وهو إنكار يحمل من التقرير لمثوبة المتقين المسلمين ومآب العصاة المجرمين، بقدر ما يحمل من الردع لذوي العقول والبصائر. والخطاب في الآيات للمشركين المجرمين من عتاة قريش، إنكاراً لسفه عقولهم وهزؤاً بضلال حكمهم ألهم كتاب يدرسون فيه إن لهم ما يتخيرون من دنياهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وأحراهم؟ أم لهم أيمان وعهود موثقة على الله سبحانه، بالغة إلى يوم القيامة، إن لهم ما يحكمون؟ أي غرور غرهم بالخالق، أن يبقى عليهم ما آتاهم من نعمة يبتليهم بها فكفروا وجحدوا؟ وأي وهم تورطوا فيه، أنهم ما أوتوا الجاه والمال والبنين إلا لكونهم أهلاً للإكرام؟ {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} . ثم يتجه الخطاب إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . بضمن أن لهم إلى يوم القيامة ما يحكمون؟ وتمضي كل هذه الأسئلة لا تنتظر جواباً، وإنما حسب القرآن الكريم أن يواجههم بها على هذا الأسلوب البياني، غضاً من شأنهم وصدعاً لغرورهم وتحقيراً لكبرهم. وعدم انتظار الجواب عنها، فيه تعجيز لهم وإفحام، وفيهه كذلك عبرة بالغة لكل ذي سمع وبصر. * * * ويبدو لي، والله أعلم أن الأمر بالإتيان في الآية: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . يتعلق به ظرف الزمان في الآية بعدها: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . أي: فليأتوا بشركائهم، إن كانوا صادقين، يوم يكشف عن ساق .... نذيراً صادعاً ووعيداً رادعاً ..... ومن أغبر ما روى في تأويل {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أنها ساق الرحمن! نقل "الطبري" في ذلك حديث أبي الزعراء عن عبد الله (بن مسعود) : "يتمثل الله للخلق يوم القيامة حتى يمر المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 لا نشرك به شيئاً .... فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا اعترف إلينا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجداً، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا! فيقول، سبحانه: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون". ونقل "الزمخشري" من حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه فأما المؤمنون فيخرون سجداً، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً واحداً كأن فيها سفافيد" وقد تعلقت المشبهة بهذا التأويل، فهل أعوزهم من بيان العربية أنها ألفت مثل هذا الاستعمال المجازي: الكشف عن الساق، أو التشمير عنها، كناية عن التأهب والفزع وقت الشدة والحرب؟ قال الشاعر: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر البوارح وقال حاتم الطائي: أخو الحرب إن غضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال ابن قيس الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى عن خدام العقيلة العذراء وقال الراجز: قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا وأي شدة أفظع هولاً على الكافرين من يوم الحساب، حين يدعون إلى السجود تعجيزاً وتحسيراً وتقريعاً قد فاتت: أضاعوها ظلماً وبغياً حين كانوا يدعون في حياتهم الدنيا إلى السجود وهو سالمون قادرون؟ ولا ضرورة لأن يحمل عجزهم عن السجود في الآخرة، على العجز الجسدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فينكلف لتأويله بأن "أصلابهم تعقم، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثنى عند الرفع والخفض" أو أن "فقار ظهورهم تدمج فتصير فقرة واحدة، وقد كانوا في الدنيا سالمى الأصلاب والمفاصل". "أو أن الخلق يبقون في الموقف أربعين عاماً ثم يتجلى الله سبحانه وتعالى فيخرون سجداً إلا المنافقين فإنه يصير فقار أصلابهم مثل صياصي البقر .... ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد". فذلك، ومثله كثير، مما لا يحتمله منهجنا في الأخذ بنص الآيات البينات، لفظاً وسياقاً. والأولى أن يحمل العجز عن السجود على فوات أوان التعبد ومهلة التكليف. ونظيره ما في آيات الفجر، في سياق الحديث عن مصير الطغاة والمفسدين في الأرض، وجزاء من ينكصون عن احتمال تبعات التكليف ويأكلون التراث أكلاً لما ويحبون المال حباً جماً: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} . * * * {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟ الحديث المشار إليه في الآية، هو ما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلمات ربه. ويحتمل أن يكون ما جاء في سورة القلم من حديث الآخرة. وهو ما ذهب إليه "أبو حيان". والاستدراج: الأخذ على إمهال درجة درجة، وقد فسره الإمام الطبري: وذلك بأن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم متعوا به بخير لهم عند الله فيتمادوا في طغيانهم ثم يأخذهم بغتة وهو لا يشعرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 والذي نطمئن إليه، والله أعلم، هو أن يكون استدراجهم إلى ما يأتي من التحدي بالمعاجزة، ثلزمهم بها الحجة على إعجاز القرآن، بعد أن أملى لهم فقالوا فيه ما وسعهم أن يقولوه. ونستأنس لهذا الفهم بآيات الأعراف: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 182-184 . أملى لهم: أمهله وأرخي له في عنانع، لتكون الحجة ألزم والعقاب أفدح. وبغتة الأخذ، تأتي من قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} . والأجر: جزاء العمل. وسياق الآية أنه من الأجر المادي، بشاهد من النص {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . وغرم مصدر ميمى من الغرم. وقد أمر الله رسوله، أن يترك له أمر هؤلاء الطغاة المكذبين، الذين يجحدون داعي الحق، وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسألهم أجراً على ما يهديهم إليه من خير الدنيا والآخرة، فيثقلهم المغرم. وما كان عندهم علم بالغيب، ليجادلوه فيما يتلو من وحي ربه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} صاحب الحوت هو يونس عليه السلام (الصافات 139) وقصته طويلة، نقتصر فيها على ما جاء في القرآن الكريم، ولا يكاد في جملته يخرج عما في سورة القلم حيث تلفت الآيات إلى جوهر القصة ومناط العبرة، والخطاب فيها إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، تقوية له على ما يحتمل من أذى المكذبين، ورياضة له على الصبلا لحكم ربه عن رضى وتسليم، لا عن غيظ مكبوت وضيق مكظوم. * * * ثم تختم سورة القلم بهاتين الآيتين: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} . تأييداً للمصطفى عليه الصلاة والسلام، يرتبط بما بدأت به السورة من مثل هذا التأييد الإلهي: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 سورة العصر بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 السورة مكية مبكرة، والمشهور في ترتيبها أنها الثالثة عشرة في النزول. نزلت بعد الشرح وقبل العاديات. * * * والمعنى الأصلي للعصر لغة: الضغط لاستخلاص العصارة. استعملته العربية حسياً في عصر العنب ونحوه لاعتصار خلاصته. ومنه المعصرة آلة العصر، والمعصرة مكانه. والعواصر ثلاثة أحجار كانوا يعصرون بها. وسميت السحب الممطرة معصرات لما تعتصر من المطر، وأعصر القوم أمطروا. كما أطلق الإعصار على الريح الشديدة تسوق السحب. واستعمل العصر مجازياً في الحبس بملحظ من الضغط. ومنه القتال المعصر التي ادركت وبلغت سن الحجر. كما استعمل مجاتزياً في استخلاص المال على وجه العطية أو بالضغط وقيل لكريم النسب: كريم العصر لما فيه من طيب الخلاصة والعنصر. ومن هذه الدلالة اللغوية الأصلية على الضغط والإعتصار، سمي الدهر عصراً، بملحظ من استخلاصه عصارة الإنسان بالضغط والتجربة والمعاناة. كما سمى وقت الأصيل إلى غروب الشمس عصراً، ملحوظاً فيه مع الدلالة الزمنية أنه تصفية للنهار. وفي المصطلح الديني الإسلامي، سميت صلاة العصر لوقوعها في هذا الوقت من النهار، كما سميت سائر الصلوات الخمس باسماء أوقاتها. * * * والذي في القرآن الكريم من المادة: الْعَصْرِ، بمعناه اللغوي الأول في اعتصار الخمر بآية يوسف 36: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} . والمعصرات، للسحب الممطرة في آية النبأ 14: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} . ومعهما آية يوسف 49: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} . والإعصار في آية البقرة 266. والعَصْرُ، في سورة العصر. * * * وقد اختلف أهل التأويل في العصر: قيل هو الدهر، أو الوقت بعينه من النهار. وعليهما اقتصر "الإمام الطبري" في تفسيره، ثم اختار الدهر. وقيل أنه صلاة العصر، على حذف المضاف، أو هو عصر النبوة. وقد ساق "الرازي" هذه الأقوال في العصر دون ترجيح بينها، إلا أن يفهم ضمنياً من إيرادها على الترتيب المذكور آنفاً. ويبدو أن "الزمخشري" يختار القول بأنها "صلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجارتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم". نقله أبو حيان في (البحر المحيط) . وعبارة الزمخشري أوجز وأقرب، من قول الشيخ محمد عبده: "وكان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر، ويتحادثوا ويتذكروا في شئونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً فيتوهم الناس أن الوقت مذموم، فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة". وهذا، توسع في أحد الوجوه التي ساقها الفخر الرازي في تفسيره الكبير، والنيسابوري في غرائب القرآن. والراجح عند "ابن قيم الجوزية" أنه الدهر، قال: "وأكثر المفسرين على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الدهر. وهذا هو الراجح. وتسمية الدهر عصراً أمر معروف". وهو ما نطمئن إليه - كما اطمأن الإمام الطبري - مستأنسين بسياق الآية في السورة، إذ اللفت إلى ما يعتصر الزمن من خلاصة الإنسان، بالضغط والمعاناة، فيكشف عن خيره أو شره. * * * والسورة تبدأ بواو القسم وهو عندهم على أصل استعماله اللغوي، لتعظيم المقسم به. ولم يتعلق "الطبري" هنا بفكرة العظمة التي سيطرت على جمهرة المفسرين بعده، فراحوا يتأولون وجه العظمة في العصر على اختلاف الأقوال في تفسيره. جمع الرازي ستة وجوهٍ في عظمة العصر بمعنى الدهر، وثلاثة أوجه في عظمته بمعنى الوقت المعين من النهار، وستةً في صلاة العصر، ثم بين وجه عظمته إن كان مراداً به عصر النبوة. وقد نقلت آنفاً، تأويل الشيخ محمد عبده للقسم بوقت العصر. ولا نعلم أن هذا الوقت في المألوف والعادة وقت اجتماع الناس وتذاكرهم وتحدثهم. بل لعل وقت المساء أولى بهذا. ثم إن احتمال التحدث بما لا يليق وما يؤذي، لا يمكن في تصورنا أن يختص به وقت العصر دون غيره من الأوقات، وإنما هو مما يحتمل وقوعه في أي وقت من ليل أو نهار! * * * ومن حيث آثرنا مع الطبري وابن القيم، وأكثر المفسرين، أن يكون العصر بمعنى الدهر والزمن، نكتفي هنا بعرض ما قالوه في عظمة العصر بهذا المعنى. ولا تكاد أقوالهم تخرج عما استوفاه الفخر الرازي من وجوه عظمة العصر أي الدهر. قال: "إن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء والصحة والسقم والغنى والفقر، بل فيه ما هو أعجب من كل عجيب، وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم فإنه مجزأ مقسم بالسنة والشهر واليوم، ومحكوم عليه بالزيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 والنقصان، وكونه ماضياً ومستقبلاً فكيف يكون معدوماً؟ ولا يمكنه - يعني العقل - أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة، والماضي والمستقبل معدومان، فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود؟ "إن بقية عمر المرء لا قيمة لها، فلو ضيعت ألف سنة، ثم ثبت في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في هذه اللمحة. فكان الدهر والزمان من جملة أصول النعم. "إن الزمان أعلى وأشرف من المكان، فكان القسم بالعصر قسماً بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته. " إنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائب الدهر، فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان. " إنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك، فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك النقصان عين الخسران. فكأن المعنى: والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح، مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر". والتفت "ابن القيم" إلى مكان العبرة فيه، قال: "فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم، منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما مع اعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها، آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته. فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها، على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم، على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد". وأضاف "النيسابوري" من إشارياته: "أن آخر النهار يشبة تخريب العالم وإماتة الأحياء كما أن أول النهار يشبه بعث الأموات وعمارة العالم. وفيه إشارة إلى أن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الدنيا ما بقى إلا بقدر ما بين العصر إلى المغرب، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها فإن الوقت قد ضاق وقد لا تدرك ما فات". كما ذكر "من أعجايب الدهر الدالة على كمال قدره خالقها: أن الدهر موجود يشبه المعدوم ومتحرك يضاهى الساكن ...... وأن عمر الإنسان كبعض منه: * إذا ما مر يوم بعضى * و"لشيء أنفس من العمر. وفي تخصيص القسم به إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والنوائب إليه، ويحيل شقاءه وخسرانه عليه، فإقسام الله تعالى به دليل على شرفه، وأن الشقاء والخسران إنما لزم لعيب فيه - أي الإنسان - لا في الدهر، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". * * * وترى أنهم حملوا لفظ العصر كل هذه التأويلات الفلسفية والإشارية مما لا نتصور أن القرآن الكريم لفت إليه بلفظ {وَالْعَصْرِ} . وفي البيان القرآني من آيات الليل والنهار ما يجلو الحكمة فيهما بما يفهمه الناس بأيسر ملاحظة وتأمل، ونكتفي هنا بآيتى القصص: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 71، 72. وندع استقراء آيات الليل والنهار، إلى ما يأتي من تفسيرنا لسورة "الليل" وأسلوب القرآن في بيان الآيات وضرب الأمثال للناس، يجعلنا لا نطمئن إلى أن ىية العصر ذكرت هذا اللفظ، وأرادت به كل هذه التأويلات الفلسفية والإشارية ..... وأولى من هذا كله أن نقف عند لفظ "العصر" لترى وجه العدول فيه عن لفظ "الدهر" الذي قال المفسرون في حكمته وعظمته ما قالوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 والفاصلة بكلا اللفظين، العصر والدهر، مرعية، عند من يتعلقون بهذه الصنعة البديعية ويقفون عند الملحظ الشكلي. وقد قال الرازي في وجه إيثار العصر بذكر: "ولعله تعالى لم يذكر الدهر لعلمه أن الملحد مولع بذكره وتعظيمه". على حين يذهب النيسابورى إلى أن وجه الإقسام بالعصر هنا "لشرف الدهر" ويروى الحديث: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". * * * ونخلص من هذا كله لنتدبر آية العصر بعيداً عن فلسفة المتكلمين وتأويلات الإشارببن، فنرى في استقراء مواضع استعمال القرآن لمادة "عصر" ما يهدي إلى ملحظ إطلاق العربية العصر على الدهر، بما يعتصر من خلاصة الإنسان بالضغط والإبتلاء. وبهذا الملحظ المألوف لدى العرب في عصر المبعث، والعربية لغتهم، تأتي كلمة العصر في سياقها من السورة، لافتة إلى إبتلاء الإنسان بالعصر الذي يصهره بالمعاناة ويعصره بالتجربة والإبتلاء. والواو هنا في موضعها الذي تطرد به الظاهرة الأسلوبية في اللفت إلى حسى مدرك، توطئة إيضاحية لبيان معنوي غير محسوس ولا مدرك، وهو ما شرحناه بمزيد تفصيل في تفسير سور (الضحى، والعاديات، والنازعات) في الجزء الأول من هذا النفسير، ونغرض له مرة أخرى فيما يلي من تفسير سورتى (الليل، والفجر) . وبهذا اللفت الموجه إلى ضغطة العصر إبتلاءً، تأتي الآية بعده: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} . وللمفسرين في الإنسان قولان: إنه لعموم الجنس، أو: إن (ال) للعهد مراداً بالإنسان جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، ف راوية عن ابن عباس. وقيل نزلت في أبي لهب، وفي خبر مرفوع أنها نزلت في أبي جهل ..... "وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً لفي خسر، فأقسم تعالى بالضد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 مما يتوهمون". ولا نقف عندما اختلفوا فيه، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية. والسياق على ظاهره لا يخص الإنسان بفلان أو بآخر. والتعميم فيه مستفاد صراحة من الإطلاق ثم استثناء {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا الاستثناء ينقطع إذا ما كان الإنسان خاصاً بالمعهودين الذين ذكروهم، وليس فيهم من يخرج بالإستثناء مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات. "وإنما استثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع لا بمعنى الواحد" كما قال الإمام الطبري "وللجنس بعامة" كما قال الزمخشر، أو "اسم جنس يعم" كما ذهب أبو حيان، ويوشك أن يكون هذا هو ما اطمأن إليه ابن القيم في (التبيان) . * * * وبقى أن نتدبر موضع الإنسان هنا، لنلمح سر الدلالة لهذا اللفظ، لا يقوم مقامه هنا لفظ آخر كالناس أو الإنس، على القول بترادفها. فاستقراء هذه الألفاظ في كل مواضع استعمالها القرآني. يشهد بأن لكل منها ملحظاً خاصاً في الدلالة، إلى جانب الملحظ الدلالي المشترك فيها جميعاً بحكم تقارب مادتها اللغوية في الأصل: فالناس لعامة الجنس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات 13) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد 17) {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر 21) ويأتي لفظ الإنس في القرآن في ثمانية عشر موضعاً، كلها مع الجن، فشهد ذلك بأن دلالة الإنسية، بما تعني من نقيض الوحشية، هي المتعينة في الإنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أما "الإنسان" فإلى جانب كونه من الناس، ومن الإنس نقيض الجان (الحجر 26 والرحمن 14) يتميز بدلالة خاصة على الإنسانية. وتتضح هذه الدلالة باستقراء آيات الإنسان في القرآن وعددها خمس وستون آية، في سياق الأهلية لاحتمال تبعات التكليف، والابتلاء بالخير والشر، والتعرض للغواية، وما بلابس ذلك من غرور وطغيان. والإنسان في القرآن الكريم، لا الإنس، هو الذي أختص بالعلم، وبالبيان والجدل، كما أنه الذي يتلقى الوصية ويحمل الأمانة. فشهد ذلك بأن الإنسان ليس مجرد فرد من الإنس أو الناس، وإنما مناط الإنسانية فيه معنوية ترقى به من مجرد الإنسية البشرية، إلى حيث يحتمل تبعات التكليف والإدراك والرشد، وأمنه الإنسان. وللراغب الأصفهاني ملحظ دقيق في اشتقاق لفظ الإنسان، يربطه باجتماعيته التي تجعلخ يأنس إلى الجماعة. وهو ملحظ يقبله حس العربية في الإنس والإنسان معاً، ثم تتخصص الإنسية بدلالتها على نقيض التوحش، وتأخذ الإنسانية دلالتها على خصائص الإنسان وأهليته لاحتمال الإنسانية، على ما هدى إليه استقراء آيات الإنس والإنسان في البيان القرآني. وبهذه الدلالة الخاصة، يأتي لفظ "الإنسان" في سورة العصر، في سياق ما يحتمل من تبعات التكليف ومسئولية الإنسان الفردبة والاجتماعية. والخُسر لغة نقيض الربح، استعمل مادياً في التجارة الخاسرة أو الصفقة المغبونة، ومنه جاء بمعنى النفص والجور والضعف والخيانة والغدر، ثم نقل إلى المجال الديني بمعنى الضلال عن الحق وهو أفدح الخسر. ووردت المادة في القرآن الكريم في أربعة وستين موضعاً، منها ثلاثة في الخسر بمعناه المادي في التعامل التجاري مع الوزن والكيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين 3) {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن 9) {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الشعراء 181) وجات المادة في الخسر المعنوى، في إخوة يوسف: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} (يوسف 14) {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة 30) والغالب لأن يأتي الخسر بالمعنى الديني، في سياق النذير بسوء العقبى وعذاب الآخرة: للكافرين، والضالين، والمنافقين، والمكذبن بآيات الله وبلقائه والمشركين، والظالمين، والمبطلين، والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، ومن يتخذ الشيطان ولياً، ومن يبتغي غير الإسلام ديناً، والذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم .... ويؤذن السياق فيها بأن الخسر يتعلق بالنفس والمال والأهل والعمل، فهو خسر الدنيا والآخرة، وأكثر ما يكون الخسر يوم القيامة حيث يدرك الضالون أنهم خسروا الدنيا والآخرة. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (غافر 78) {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الشورى 45) {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر 15) {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة 5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة 19) وأنظر معها آيات: (المؤمنون 103، والتوبة 69) . وجاء "الأخسرون" أربع مرات للذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وبالآخرة هم كافرون: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (هو 22) ومعها: (النمل 5، الكهف 103، الأنبياء 70، هود 47) أما المصدر منه فجاء بصيغة خسران ثلاث مرات، موصوفاً فيها بالمبين: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء 119) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج 11) ومعما آية الزمر 15. وبصيغة الخسار، ثلاث مرات كذلك، في قوم نوح: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} والظالمين: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} الإسراء 82. والكافرين {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} فاطر 39. ومرة واحدة بصيغة تخسير في آية هود: {يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 63. وأما صيغة خسر فجاءت مرتين: آية العصر، وآية الطلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} 9. والخسر فيها هلاك ما حق، عن ضلال وعتو، والعبرة فيها لأولي الألباب. وهذا الاستقراء يتيح لنا أن نقول إن الخسر يأتي في القرآن بالمعنى الديني في الضياع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وسوء العقبى، مع ملحظ من معناه الأصلي في الصفقة الخاسرة لمن يشترون دنياهم بأخراهم فيخسرون الآخرة والأولى. مل لم يعين السياق غير ذلك، كما في آيات المطففين والرحمن والشعراء، مع الوزن والكيل وبخس الناس أشياءهم. وهذا الاحتياط هو ما فات "الراغب" حين قال في (المفردات) : "وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير، المتعلق بالإيمان، دون الخسران المتعلق بالقنيات الجنيوية والتجارات". * * * ونفهم الخسر في آية العصر، بما يؤنس إليه سياق النكوص عن تبعات التكليف والتفريط في مسئولية الإنسان. فلا نستريح إلى تأويل الزمخشري بأن المعنى "أن الناس في خسران من تجارتهم، إلا الصالحين وحدهم لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوت، ومن عداهم تحروا خلاف تجارتهم فوقعوا في الخسارة، والشقاوة". كما لا نتعلق بما ساقه "الفخر الرازي" من احتمال "أن الإنسان لا ينفك عن خسر" لأن الخسر تضييع رأس المال، ورأس ماله عمره: إن أنفقه في المعصية فلا شك في الخسران، وإن أنفقه في المباحات فالخسران أيضاً حاصل لأنه كان متمكناً أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره دائماً، وإن أنفقه في الطاعات فلا طاعة إلا يمكن الإتيان بها على وجه أحسن لأن مراتب الخشوع غير متناهية، كما أن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية". وصريح النص في الآية بعد الخسر، يؤذن بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وبالصبر، ليسوا في خسر أبداً. وحرف "في" يأخذ موضعه في هذا البيان المعجز، بما يفيد من معنى الظرفية، في الغمر والإحاطة والإغراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وليس تنكير "خسر" من المبالغات كما ذهب النيسابورى. وإنما التنكير، فيما يفهم من السياق، على أصله البياني من الإطلاق غي المحدود بقيد أو عهد. وقد يحتمل كذلك معنى التهويل، على ما قال الرازي. ووجهه عنده، أنه "خسر عظيم لا يدرك كنهه إلا الله". * * * {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} الإيمان نقيض الكفر، وفي دلالته اللغوية الأصلية حس الأمن والأمانة. والصلاح ضد الفساد، وتستعمل الصالحات في المجال الديني، نقيضاً للسيئات. وواضح هنا أن على الإنسان مسئوليته فرداً بالإيمان وعمل الصالحات، ومسئوليته عن الجماعة بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويقترن العمل الصالح بالإيمان في القرآن الكريم نحو خمس وسبعين مرة، مع الوعد والبشرى بأن من يعمل صالحاً وهو مؤمن، فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، ولا كفران لسعيه، له جزاء الحسنى، وحياة طيبة. والذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، وقليل ما هم، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لهم الدرجات العلى، ولهم أجرهم عند ربهم، أجر كريم، عظيم كبير، غير منون. ولهم مغفرة ورزق كريم، وليستخلفنهم الله في الأرض، ويزيدهم من فضله، وسبجعل لهم الرحمن وداً، وهو خير البرية، وأصحاب الجنة، طوبى لهم وحسن مآب. ويأتي العمل الصالح مسنداً إلى رسل الله، كما يأتي الصالحون مع النبيين والشهداء في آيات (النساء 69، الأنبياء 72، 86) وفي دعاء يوسف (101) وإبراهيم (الشعراء 83) وسليمان (النمل 19) . وعطف النهي عن الشرك على العمل الصالح في آية الكهف 110: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . كما جاء مقابلاً للكفر في آية الروم 44: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . وفي هذا الاستقراء إيذان صريح بأن عمل الصالحات قرين الإيمان، ومنه نقول في آية العصر إن الإيمان ينبغي أن يقترن بعمل الصالحات، لكي ينجو الإنسان من الخسر. لكن من المفسرين من لم يأخذوها بمثل هذه البساطة واليسر، بل أثاروا فيها عدداً من المسائل. منها جدل للمتكلمين لا يعنينا هنا في تفسيرنا البياني، كالذي ثار بين المعتزلة والأشعرية من خلاف حول تسمية الأعمال بالصالحات: هل لكونها في نفسها مشتملة على وجوه الصلاح؟ أو لأن الله سبحانه أمر بها؟ ومنها ما يتصل بموضوعنا في أسرار التعبير، كالوقوف عند عطف عمل الصالحاتعلى الإيمان، احتج به من ثال بأن العمل غي داخل في مسمى الإيمان بالله: "إذ لو كان ذاخلاً فيه لكان تكريراً ولا يمكن أن يقال إن هذا التكرير واقع في القرآن، ولا يحتج له بمثل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ..... } وقوله سبحانه: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن هذا حسن فيه إعادة ما هو أشرف أنواع الكلى، وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الإيمان، فبطل هذا التأويل". ورد عليهم بما في سورة العصر نفسها من عطف التواصي بالحق وبالصبر على عمل الصالحات، فكان جوابهم: "لا نمنع التكرير لأجل التأكيد. ولكن الأصل عدمه". ونتدبر القرآن الكريم فيهدينا استقراء آياته المحكمات - على ما قدمنا - إلى أنه كثيراً ما يعطف العمل الصالح على الإيمان، فلا يكون هذا تكريراً للتأكيد، بقدر ما هو إيذان بأن الإيمان بفترن بالعمل الصالح. فعمل الصالحات في ىية العصر، إذا عده بعضهم داخلاً في الإيمان - وآية الروم تؤنس إليه - فليس العطف تكريراً لمجرد التأكيد، وهو مألوف في العربية، وإنما يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فيه تنبيه إلى قيمة عمل الصالحات وموضعها من الإيمان، فكأنه من التخصيص بعد التعميم. وليس لقائل أن يقول في البيان المعجز: "لانمنع التكرير للتأكيد ولكن الأصل عدمه" ... إذ أن هذا القرآن هو الأصل والحجة! * * * وبالإيمان وعمل الصالحات تتعين مسئولية الإنسان فرداً، مع مسئوليته عن الجماعة: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . الحق هنا نقيض الباطل. والعربية قد استعملته حسياً في الطعنة لا زيغ فيها. والمحقق من الثياب المحكم النسيج، والحق من الإبل الذي اشتد وأستحق أن يركب. وبملحظ من صدق النفاذ، أطلق على العدل والحزم والصدق والأمر المقضى والموت. والحق، واحد الحقوق. وتحقق الخبر صح وصدق. ومن ثم شاع استعماله في نقيض الباطل. ونقل بهذا الملحظ إلى المحال الديني اسماً من أسماء الله الحسنى، وكثر استعماله بمعنى الوحي ورسالات الدين. وفي القرآن الكريم وردت المادة بصيغة الفعل الثلاثي تسع عشرة مرة، فيما حف من قول الله وعذابه ووعيده على الكافرين، ومرتين على البناء للمجهول في آيتى الانشقاق: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . وجاء المضارع من الرباعي أربع مرات، كلها مسندة إلى الله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال 8، ومعها: الأنفال 7، ويونس 24، والشورى 24) وجاء فعل الاستحقاق مرتين في آية الدين (المائدة 107) ولا يخلوسياقها من ملحظ الحرمة الدينية في أداء الشهادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 أما صيغة الحق فجاءت نحو مائتين وسبع وعشرين مرة، كلها في المعنى الديني، إما مقابلة للباطل، أو اسماً من أسماء الله الحسنى، أو للوحي والدين. ويوصف بالحق وعد الله، وقوله، وكلماته. ولا يخرج عن هذا السياق الديني، ما فرض الله على ذوي المال من حق معلوم لمن يستحقونه، وما شرع من حقوق في الميراث والزواج والطلاق، بما لهذه الحقوق من حرمة دينية تجعلها من حدود الله. وسمى يوم القيامة: {الْحَاقَّةُ} . وذلك كله مما يضفى على كلمة "الحق" مهابة وجلالاً، ويؤكد حرمتها في التواصي بالحق. والتواصي: أن يوصى بعضهم بعضاً. والأصل اللغوي للمادة يعطي معنى قوة الإرتباط والإتصال: فالوصاة والوصية جريدة النخل يحزم بها. ووصت الأرض أتصل نباتها. ومن جاءت الوصية فيما يعهد به الموصى ليصل إلى من ينبغي أن يتلقاه: أوصاه ووصاه، عهد إليه. وتواصى القوم بأمر أوصى به أولهم آخرهم. والوصية ما يتركه الآباء وذوي القربى .... وفي القرآن الكريم جاء الفعل وصى وأوصى، اثنتى عشرة مرة، فيما أوصى به سبحانه رسله وعباده. وغلب مجئ الوصية بمعناها المعروف فيما يوصي به الراحلون عن الدنيا، مع حرمة دينية يسبغها القرآن على الوصية بالحق في حدود ما أمر به الله. أما التواضي فجاء في القرآن خمس مرات، كلما بصيغة الفعل الماضي. وإحداها في سياق الاستفهام الإنكاري لموقف أمم خلت من رسل الله إليهم، وكأنهم تواصوا بالتكذيب: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الذاريات 53) والأربع الباقيات في مسئولية الإنسان عن الجماعة، بآية العصر: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وآية البلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . والسورتان مكيتان، ففيهما تقرير لما هو من أصول الدعوة الإسلامية. * * * والصبر في العربية نقيض الجزع. ومن استعماله في الحسيات: عصارة شجر مر، واللبن إذا اشتدت حموضته إلى المرارة، والحجارة الغليطة المجتمعة. وبملحظ من الشجة والمرارة، قيل للحرب الشديدة وللداهية: أم صبور. والصبارة شدة البرد. والبر الحبس، والقتل صبراًُ أن يحبس المرء ويرمى حتى يموت. ثم كثر استعماله في الصبر على الشدائد والمكاره. والصبور الحليم الذي لا يعاجل العصاه بالنقمة، بل يضبط أمره فيعفو أو يمهل. ولم يذكر القرآن الكريم في آيتى العصر والبلد متعلق الصبر الذي يتواصى به المؤمنون، وقد فسره الإمام الطبري بالصبر على العمل بطاعة الله. وقال الومخشري في الكشاف: هو الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى ما يبلو به الله عباده. وقريب منه ما جاء في البحر المحيط لأبي حيان. وفصله الفخر الرازي فقال فيما قال: "إن التواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب وفي اجتناب ما يحرم. إذ الإقدام على المكروه والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد .... ودلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي بالصبر". وكلها اقوال متقاربة مقبولة، ولا يكاد يخرج عنها ما في تفسير الشيخ محمد عبده لسورة العصر. * * * ونستقرئ آيات الصبر في القرآن، فنجد الأمر الإلهي للمصطفى بالصبر، في نحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 عشرين موضعاً. ويتعلق فيها بما يحتمل - صلى الله عليه وسلم -، من أعباء تبليغ رسالته، ما يلقى من تكذيب وأذى بالقول أو بالفعل. وأمر الله المؤمنين بأن يستعينوا بالله، وبالصبر والصلاة، في آيات: (البقرة 45، 153، والأعراف 128) كما أمرهم بالصبر في الجها والثبات عند لقاء العدو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (آل عمران 200) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال 46) ووصف أنبياء بالصبر في آيتى (الأنبياء 85، ص 44) ، وجاء الصبر مسنداً إلى أولي العزم من الرسل (الأحقاف 35) ورسل من قبلك (الأنعام 34) وأئمة يهدون بأمر الله (السجدة 24) والمؤمنين والفائزين بنعيم الآخرة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد 24) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت 35) وآيات الصبر في القرآن الكريم لا تتجه إلى غير هذه الصفوة من الرسل والمؤمنين، إلا أن تجئ نذيراً للخاسرين كالذي في آيات: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} (إبراهيم 21) {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور 16) {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ! (البقرة 17) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وقريب منها صبر المشركين على آلهتهم، وعلى ضلالهم وكفرهم، في مثل آيات: (فصلت 24، الفرقان 42، ص 6) . ومما يتعلق به صبر المؤمنين: الابتلاء: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة 155) والمصائب: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} (الحج 35) و {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (البقرة 177) وفي الجهاد ولقاء العدو، وهو من أكثر مما يتعلق به صبر المؤمنين: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وهو سبحانه: {مَعَ الصَّابِرِينَ} . * * * والسكوت عن ذكر متعلق الصبر الذي يتواصى به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في ىية العصر - وآية البلد - يعطيه دلالة الإطلاق والتعميم في حدود ما ورد في القرآن الكريم مما يصبر عليه المؤمنين من تكاليف الإيمان، والإبتلاء، وفي السراء والضراء وحين البأس، وفي الجهاد ولقاء العدو. وتلك هي مسئولية الإنسان الإجتماعية، تلزمه ديناً أداء حق الجماعة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر. * * * وموقف القرآن من هذه التبعية، يقطع برفض السلبية التي يتصور فيها الإنسان أنه يكفي لنجاته من الخسر، أن يؤمن بخالقه ويعمل صالحاً، دون أن يقضي حق الجماعة. وبعيداً عن جدل علماء الكلام، نقول إن الإيمان وعمل الصالحات يجدى على الجماعة بصلاح أفرادها، وتحرجهم من اقتراف ما يسئ إلى أخوانهم وأمتهم. ولكن الإنسان مظنه أن يتوهم أن الإيمان يكفي فيه النطق بالشهادتين وأداء العبادات واجتناب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الكبائر، ومن هنا كانت عناية القرآن الكريم بتقرير المسئولية الاجتماعية، أصلاً من أصول الدين. فبمثل هذا التقرير الحاسم في سورتى العصر والبلد، تتقرر مسئولية الإنسان الاجتماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في آيات أخرى محكمات: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران 104) {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .... (آل عمران 110) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران 114) { ......... الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة 112) ومعها آيات (الأعراف 157، التوبة 71، والحج 41، ولقمان 17) . وكماى جعلنا القرآن الكريم مناط خيرية أمتنا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعن الذين تخلوا عن هذه التبعة الكبرى من كفار بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة 79) كما لعن الله المنافقين والمنافقات: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة 67) وهيهات لشريعة وضعية أن ترقى بالإنسان إلى مثل هذا المستوى من احتمال مسئوليته الاجتماعية التي يجعلها الإسلام مناط الخير والإيمان. وعلصماً من الخسر والهلاك: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 سورة الليل بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 السورة مكية مبكرة، والمشهورفي ترتيب نزولها أنها تاسعة السور، نزلت بعد سورة الأعلى، ثم نزلت بعدها على الترتيب سورتا الفجر والضحى. وقد ربطها بعضهم بسورة الشمس التي قبلها في ترتيب المصحف، قالوا: "ولما ذكر فيما قبلها، أي الشمس: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما تحصل به الخيبة، ثم حذر النار وذكر من يصلاها ومن يتجنبها". وهذا الربط قديلفت إلى ملحظ في ترتيب السورة في المصحف ووضعها بعد الشمس. وأما من حيث النزول فإن سورة الشمس نزلت بعد الليل لا قلبها، فهي السورة السادسة والعشرون على المشهور في ترتيب النزول، فبينها وبين سورة الليل قبلها، ست عشرة سورة. وقيل إنها نزلت في أبي بكر الصديق وإنفاقه ماله على المسلمين، وأمية بن خلف وبخله وكفره. وفي قول آخر إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري، ورووا قصة النخلة التي عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، على أحد المنافقين، أو اليهود، أن يبيعها بنخلة في الجنة فأبى، واشتراها أبو الدحداح. والعبرة على كل حال بعموم اللفظ، والسياق صريح التوجيه إلى عامة الناس {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . وتقارب سور (الليل والفجر والضحى) في النزول، يجلو الظاهرة الأسلوبية التي يعمد فيها البيان القرآني إلى جلاء المعنويات بماديات من النور والظلمة في مختلف درجاتهما على مدى اليوم الواحد، من غشية الليل وتجلي النهار، وإشراق الضحى وسجو الليل، وتألق الفجر ومسرى الليل وتنفس الصبح. ويتتابع الوحي من بعد ذلك فيؤصل هذه الظاهرة البيانية فيما يجلو من معوويات الهدى والضلال، بحسبات النور والظلمات. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} . الغشية في اللغة الغطلء، والغاشية الغشاء الذي يغلف القلب. واستغشى ثوبه وبثوبه، تغطى به لكي لا يرى ولا يسمع، ومن غشية النعاس المعطلة للحس والإدراك، جاءت غشية الإغماء فقيل الإغماء أغشى عليه إذا فقد وعيه وحسه كأنما عليهما غطاء. وكذلك يقال للغافل: على بصره أو على سمعه غشاوة، أي غطاء يحجب الرؤية ويعمي البصيرة ويعطل السمع والإدراك. والغواشي الأهوال، أو الظلمات تلقى لفاعها الأسود. ومنه جاءت الغاشية اسماً للقيامة أو للنار تغشى المعذبين. وفي الاستعمال القرآني، جاءت الغاشية على معناها في استغشاء الثياب حاجزاً دون السمع والبصر، كناية عن الصد، في آية نوح 7: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} . ومعها آية هود 5. وفي النور الدافق والجلال الغامر بآية النجم: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} . وجاءت الغشية في النعاس في آيتى. (آل عمران 154، والأنفال 11) وفي الإغماء بآيتى (الأحزاب 19، ومحمد 20) وفي الغشاوة على القلب والسمع والبصر بآيتى (البقرة 7، والجاثية 23) وكثر مجئ الغشية في الحديث عن يوم القيامة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ؟ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي الوعيد بعذاب الآخرة في آيات: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (العنكبوت 55) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (إبراهيم 50) {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأعراف 41) كما جاءت في غشية الموج، وغشية الظلمات وتراكمها في آيات: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} (النور 40) {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} (يونس 27) وآيات (لقمان 32، طه 78، الرعد 3، الأعراف 54، الشمس 4) وآية الليل، والغشية فيها غطاء من ظلمات داجية. * * * والتجلي لغة الظهور والإنكشاف. ومن الاستعمال الحسي للمادة: الجلا انحسار مقدم الشعر، والجلاء الكحل يجلو البصر، وجلوة العروس عرضها مجلوة في زينتها. وجلا السيف والمرآة صقلهما وأزال ما قد يكون غطاهما من صدأ وغبار. ومن دلالة الانحسار جاء الجلاء عن مكان، وجلا الهم عنه أذهبه. ومن ملحظ الكشف: جلا الأمر أوضحه وبينه فانجلى وتجلى، والجلى الأمر البين، والتجلي الإشراق والتألق. وفي الاستعمال القرآني: جاءت المادة في خمية مواضع، إحداها آية الحشر في الجلاء عن الأرض: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} 3. والمرات الأربع الباقية في تجلي النور الإلهي بآية الأعراف 143: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وأمر الساعة، بآية الأعراف 187: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} وفي إشراق النهار، آيتى الشمس: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 والليل: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} . والآية لم تذكر مفعول {يَغْشَى} وقد تأولوه إما على تقدير: يغشى النهار كله، كقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} . أو يغشى الشمس، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} وقيل الأرض وجميع ما فيها. يغشاها الليل بظلامه. ومثله وقوف من وقف عند {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ليتأول سبب التجلي "إما بزوال ظلمة الليل، وإما بنور الشمس". ونرى أن القرآن الكريم في إمساكه عن ذكر متعلق ليغشى أو تحلى، يصرفنا عن تأويل محذوف أو مقدر، لنلتفت إلى أن الغشية والتجلي، من الليل والنهار، هما المقصودان بالتنبيه والالتفات، بما أعنى عن ذكر مفعول أو متعلق ... * * * وسورة الليل مبدوءة بواو القسم، وهو عند المفسرين للإعظام، على أصل استعماله في اللغة. والذي أطمئن إليه، هو أن البيان قد يعدل عن هذا الأصل لملحظ بلاغي في التعبير، كمثل عدوله في الاستفهام والأمر والنهي عن أصل استعمالها الأول، إلى تقرير أو إنكار، أو زجر ووعيد، أو سخرية وتوبيخ، أو تعجيز وإفحام ... على ما هو مألوف ومقرر في علم البيان. لكن المفسرين لم يلتفتوا إلى احتمال أن يكون القسم بالواو هنا، وفي نظائرها من الآيات المستهلة بالواو، قد جاء على غير استعماله اللغوي الأول، لملحظ بياني، وإنما هو عندهم جميعاً على أصله من الإعظام والتعظيم، ومن ثم شغلوا بتأول وجه العظمة في الليل والنهار. نقل الطبري عن قتادة: "أن الله أقسم بهما لعظم شأنهما، فهما آيتان عظيمتان يكورهما الله على الخلائق". وقال "أبو حيان" في البحر المحيط: "أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوى إلى مأواه، وبالنهار الذي تنتشر فيه". والتفت "ابن القيم" إلى اختلاف أحوال الليل والنهار في أقسام القرآن، وتأويله بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الله سبحانه يقسم باللسل في جميع أحواله، إذ هو من آياته الدالة عليه. وزاده الفخر الرازي تفصيلاً فقال: "أعلم أنه تعالى أقسم بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مأواه ويسكن الخلق عن الاضطراب ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكامنها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان نهاراً كله لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما". ولا يكاد يخرج عنه ما ذكره الشيخ محمد عبده في سورتى الليل والضحى، من (تفسير جزء عم) . وهذا الكلام في المصلحة من تعاقب الليل والنهار، هو من قبيل الحكمة التي تتحقق في كل ما خلقه الله، وما من شيء خلق عبثاً. والقرآن حين يقصد إلى أن يلفت إلى آيتى الليل والنهار، فإنه يجلو وجه هذه الحكمة بمثل آيات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ (القصص 71، 72) {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (الروم 23) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (الفرقات 47) {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (الإسراء 12) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (يونس 6) وأنظر معها آيات: (الأنعام 96، يونس 67، النمل 86، آل عمران 190، الجاثية 5) . وليس على هذا النحو من بيان الحكمة، تأتي آيات القسم بالواو بالليل وبالنهار التي عنى المفسرون بتأويل ما في خلقهما من حكمة وما في تعاقبهما من مصلحة. غير ملتفتين إلى أن هذا التأويل حين يصدق على الليل مطلق الليل والنهار مطلق النهار، فإن الليل والنهار في سورة الليل مقيدان بالغشية والتجلي. وفي آيات أخرى يأتي القسم، بالواو، بالليل إذا سجى، وإذا عسعس، وإذا يسر، وإذا وقب، وإذا أدبر. وبالفجر، والصبح إذا أسفر، وإذا تنفس، والضحى. ولابد أن يكون لكل قيد منها ملحظ في الدلالة يختص به. وإذا لم يتعلق البيان في آيتى (الليل) بغير غشية الليل وتجلي النهار، نلمح السر البياني فيما تلفت إليه الواو من تقابل واضح محسوس ومدرك، بين غشية الليل بظلماته، وتجلي النهار بضيائه. ومثله في الوضوح، التفاوت بين خلقه الذكر والأنثى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . تأولها المفسرون على احتمال أن تكون (ما) بمعنى من، فيكون القسم بمن خلق الذكر والأنثى، أو أن يكون {مَا خَلَقَ} في موضع المصدر، أو على توهم المصدر، فيكون المعنى: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، ونظروا له بقول الشاعر: تطوف العفاة بأبوابه كما طاف بالبيعة الراهب بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر، أي كطواف الراهب بالبيعة. والجر هنا أقرب عندي إلى أن يحمل على المجاورة. ولا يبدو لي وجه لهذا التنظير، وفي الآية "ما" وليست في الشاهد من قول الشاعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ثم اختلفوا في المقصود بالذكر والأنثى: ففي تفسير الرازي والبحر المحيط، أنهما آدم وحواء، أو هما كل ذكر وأنثى من بني آدم، أو من كل حيوان على اختلاف أنواعه، ذكره وأنثاه. والتفت ابن القيم إلى التقابل بين المقسم به في آيتى (الليل) واتجه به إلى بيان وجه الإعظام، قال: "قابل بين الذكر والأنثى، كما قابل بين الليل والنهار. وكل ذلك من آيات ربوبيته، فإن إخراج الليل والنهار بواسطة الأجرتم العلوية، كإخراج الذكر والأنثى في الأجرام السفلية". على أنه عاد فربط بين هذه المتقابلات على وجه آخر، هو أنه سبحانه "أقسم بزمان السعي وهو الليل والنهار، وبالساعي وهو الذكر والأنثى، على اختلاف السعي وهو الليل والنهار، وبالساعي وهو الذكر والأنثى، على اختلاف السعي كما اختلف الليل والنهار والذكر والأنثى، وسعيه وزمانه مختلف وذلك دليل على اختلاف جزائه وثوابه". وهذا على قربه، لا يبدو متصلاً بما ذره آنفاً من أجرام علوية وسفلية. * * * ونركز اهتمامنا على تدبر ما يسيطر على السورة كلها من ملحظ التقابل والتفاوت، يبدأ باللفت إلى ما هو حسي مدرك في تفاوت ما بيت غشية الليل وتجلي النهار، وخلقه الذكر والأنثى، توطئة إيضاحية لبيان تفاوت مماثل في سعي الناس: بين من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، ثم تفاوت الثواب والعقاب في الأخرى: بين الأشقى يصلى ناراً تلظى، والأتقى الذي يجنبها بما ابتغى وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى. فعلى نحو ما يتفاوت الليل إذا يغشى بظلماته، والنهار إذا تجلى بضيائه يتفاوت سعي الناس في الدنيا بين ذلال وهدى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . والسعي في اللغة المشى، لحظ فيه أن الساعي يبتغي عملاً أو يتجه إلى مقصد يدأب فيه، فكان السعي بمعنى العمل مع القصد والدأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وفي الاستعمال القرآني للمادة، نجد الدلالة الأولى للسعي بمعنى المشي والحركة، على الحقيقة أو التخييل والمجاز، في آيتى (طه) عن عصا موسى ألقاها {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وحبال السحرة وعصيهم ألقوها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وفي آيتى التحريم والحديد، في نور المؤمنين {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يوم القيامة. كما نجد دلالة السعي على العمل مع الدأب في آيات: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (الأنبياء 94) {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (الإسراء 19) {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف 104) ودلالة القصد أوضح في آيات: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (البقرة 114) {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (المائدة 33، 64) وواضح أن السعي في آية الليل، هو من العمل الكسبي مع القصد والدأب، ومثله السعي في آيات (الإنسان 22، النجم 40، الغاشية 9) . وأصل الشت في اللغة التفرق والاختلاف، مادياً ومعنوياً، وقد سبق استقراء آياته في القرآن، في تفسير آية الزلزلة {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} فهدى إلى أن اشتاتا تأتي بدلالة التفرق المقابل للتجمع. أما شتى، فمن الاختلاف والتباين. * * * ولا نحتاج إلى تأول مقصد القرآن الكريم بتباين سعيكم، فقد تولت الآيات بعده بيانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وهذا هو تفاوت السعي، يأتي بعد أن مهد له اللفت إلى التفاوت المدكوك بالحس، بين غشية الليل وتجلي النهار، بين خلقة الذكر وخلقة الأنثى. والحسن في اللغة الجمال، ويغلب استعماله في الماديات نقيضاً وفي المعنويات مقابلاً للسوء. والحنى ضد اليوأى، صيغتا تفضيل للدلالة على غاية الحسن الذي لا حسن بعده، والسوء الذي لا يماثله سوء. وفرق الراغب فب (المفردات) بين الحسن والحسنة والحسنى، فقال إن الحسن يستعمل ي الأعيان وفي الأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفاً، أما إذا كانت اسماً ففي الأحداث. والحسنى لا تستعمل إلا في الأحداث. وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن، فللمستحسن من جهة العقل والبصيرة والشرع، لا من جهة الحسن. وقد تأول المفسرون الحسنى بحسن العاقبة، وبالإيمان بوحدانية الله وبما يخلفه الله تعالى على المنفق. وهي وجوه متقاربة، وربما كان حسن العاقبة يؤديها جميعاً، إذ فيه معنى الإيمان بالله، والتصديق بالخلف. ولم تحدد الآيات ماذا أعطى التقى، ومن اتقى، وبم بخل البخيل، وعم وعمن استغنى؟ ونذهب مع أبي حيان في فهم حذف مفعولي أعطى "بأن المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية، وظاهرة بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة". فالإعطاء في الآية، مقابل بالبخل، وكل بخل في القرآن يتعلق بالمال وبما آتى الله من فضل، باستقراء مواضع وروده في المصحف وعددها أحد عشر موضعاً، ستة منها متلوة بغنى الله، والله الغني وأنتم الفقراء، ولله ميراث السموات والأرض، فإن الله هو الغني الحميد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وإنه لكذلك، الإعطاء للمال والبخل به، في آيتى الليل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} بشاهد من النص بعدهما: فيمن بخل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} . وفيمن أعطى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . وإعطاء المال أو البخل به، إنما يكونان فيما يجب أن ينفق فيه المال من وجوه الخير، وأداء حق الله فيه إلى من يستحقونه، زكاة وصدقة وبراً، على ما هو بين من تدبر الاستعمال القرآني للمال والأموال. * * * وللمفسرين في مفعول {اتَّقَى} ثلاثة أقوال: ففي قول عن ابن عباس أنه: "اتقى البخل". ويرد عليه أن لفظ {أَعْطَى} قبله يفيد هذا المعنى، كما أن السياق بعده، يأتي بالبخل وبالتكذيب في مقابل الإعطاء والإتقاء، مما يبعد أن يكون اتقى بمعنى اتقى البخل. والقولان الآخران هما: اتقى الله، أو اتقى الحساب والعذاب. والوجهان متقاربان، فمن اتقى الله عذابه في الآخرة، ولا يتقى الحساب والعذاب إلا من اتقى الله. والوقاية في الأصل الحفظ مما يضر ويؤذى، ومنه في القرآن آية (النحل 81) وجاءت التقوى في تجنب الإثم والمعصية، ابتغاء مرضاة الله ووقاية من غضبه وعذابه. ويهدى تدبر استعمال القرآن للاتقاء، أنه يذكر المفعول دائماً مع فعل الأمر. وقد جاء ثلاث مرات خطاباً للواحد والمتقي هو الله، وخطاباً للجمع (اتقوا) نحو سبعين مرة: خمس منها في اتقاء النار، وعذاب الآخرة، ويوم ترجعون فيه إلى الله، لا تجزى نفس عن نفس شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ومرتان في اتقاء فتنة، واتقاء ما بين ايديكم. والمتقى في بقية الآيات، هو الله سبحانه. وأما الفعل الماضي والمضارع، فقد يمسك فيهما عن ذكر المفعول به، وحين يصرح به فالمتقى هو الله سبحانه وتعالى. وهذا الاستقراء يؤذن بأن الاتقاء في القرآن يغلب أن يكون اتقاء الله واتقاء حسابه وعقابه. ومن المهم أن نشير إلى أن التقوى، كاخشوع، من أفعال القلوب. بمعنى أنها لا تكون إلا في القلب ومن القلب، فالعبرة بتقوى القلوب، وهو ما يبدو بوضوح في مثل آيات: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج 32) {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج 37) {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الحجرات 3) {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة 9) وجاءت التقوى نقيضاً للفجور في: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس 8) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص 28) * * * والصدق في الأصل: مطابقة القول للواقع أو لما في الضمير. ويستعمل في صدق الفعل، وصدق النية والعقيدة. وأكثر ما يكون التصديق في القرآن الكريم بمعناه الديني في التصديق بالله وآياته ورسله وكلماته، ولقائه .... و"الحسنى" جامعة لكل ما قال المفسرون في تأويلها: الخلف في الدنيا والآخرة، والجنة والثواب، والتوحيد ..... وإن كان الأولى إطلاقها لتعم فلا تختص بوجه من هذه الوجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 واليسر ضد العسر، وقد سبق استقراء آياتهما في (سورة الشرح) بالجزء الأول من هذا الكتاب. وفسروا الآية بأنها التهيئة للحالة التي هي أيسر على المصدق بالحسنى، في الدنيا والآخرة. وقال الزمخشري: "سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر، كما سمى طريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريقى الجنة والنار، أي: فسنهديهما في الآخرة للطريقين". والتيسير لليسرى هو وعد الله للباذلين المعطين المتقين، ولم تأت "اليسرى" في القرآن إلا مع التيسير مسنداً إلى الله جل جلاله، وذلك في آيتين: آية الأعلى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} خطاباً للمصطفى عليه الصلاة والسلام. وآية الليل في {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} . تأتيه البشرى بمثل ما يشر به المصطفى عليه الصلاة والسلام، من تيسير إلهي لليسرى. أما العسرى فلم تأت بهذه الصيغة إلا في آية (الليل) ، وإن جاء العسر مقابلاً لليسر في آيات (البقرة 175، والطلاق 7، والشرح 5، 6) كما جاءت صيغتا وعسر وعسير، صفة ليوم القيامة بخاصة، في آيات (القمر 8، المدثر 9، الفرقان 26) وهذا الاختصاص يجلو حس البيان القرآني للعسر الذي استعملته العربية في قديمها الجاهلي اسماً لقبيلة من الجن أو أرض يسكنونها. ثم قيل العسر للشكس الشرس، وللأنثى عسر ولادها. واعتسار الفرس ركوبه قبل ترويضه. وغير مقبول قول من قال إن "العسرى" جاءت في آية الليل لمجرد رعاية الفاصلة، فما يجوز في البيان العالي التعلق بملحظ شكل في اللفظ لا يقتضيه المعنى. وقال "الزمخشري" في التيسير للعسرى: فسنخذله ونمنعه الإلطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد، ولمح "أبو حيان" في هذا التأويل "دسيسة اعتزال". وقلما يفرق المعجميون في الدلالة بين العسر والعسرى حين تسوقونهما سرداً في مصادر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الفعل عسر. مع أن العربية من صيغ المصدر لملحظ خاص في الدلالة، كالرأي والرؤيا والرؤية: مصادر رأى، والوجود والوجد والموجدة والوجدان: مصادر وجد، والسعي والمسعى والسعاية: مصادر سعى. نرى أن استعمال العسرى، كاستعمال اليسرى، ليس ملحوظاً فيه المصدرية كالعسر واليسر، وإنما الملحوظ فيهما، بصيغة الفعلى، أقصى اليسر وأشد العسر، أو هما اليسر الذي لا يسر مثله، والعسر الذي ما بعده عسر. ونظيرهما في القرآن من غير المادة: البطشة الكبرى، والنار الكبرى. واستعمال التيسير مع العسرى، مبالغة في الوعيد والنذير لمن بخل واستغنى. وقد نظر له "الراغب" في (المفردات) بقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والآية وعيد للذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله. (التوبة 34) ومثلها آيات: (النساء 138، والتوبة 3، ولقمان 7، والجاثية 8، وآل عمران 21، والانشقاق 24) . وفيها التبشير بعذاب أليم، للمنافقين، والكفار، والمستكبرين، والباغين. كالتيسير للعسرى: مبالغة في الردع والنذير لمن بخل واستغنى. * * * {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} . سبق استقراء الغنى في القرآن، في تفسير آية الضحى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ، وقد هدى إلى الفرق بين الغنى والثراء، إذ يغلب أن يكون الغنى غنى النفس وإن لم يوجد المال، ولا يكون الثراء إلا بالمال، ما لم يستعمل مجازياً. والردى في اللغة الهلاك، ومن استعمالاته الحسية ألأولى: الرداة الصخرة، ورداه وأرداه رماه بها وصدمه، وتردى في البئر سقط، ثم استعمل في مطلق الهلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 و {تَرَدَّى} في القياس الصرفي مطاوع الفعل أردى، بمعنى أهلك وأوقع في الردى وفي القرآن الكريم: يأتي الفعل الثلاثي لازماً غير متعد في آية: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طه 16) وجاء الفعل الرباعي متعدياً، في آيات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت 23) {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} (الصافات 56) و (الأنعام 137) وجاء التردى، بصيغة اسم الفاعل "المتردية" في آية (المائدة 5) وفعلاً ماضياً في آية الليل. وهذا هو كل ما في القرآن من المادة. وبه نستأنس في فهم قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} بأنه التردى في مهواة الهلاك. وقول الطبري: "إنه التردى في جهنم لأن ذلك هو المعروف من التردى" أقرب إلى المعنى والسياق من قول قوم، فيما نقل أبو حيان "بأنه التردى بالأكفان" أخذوه من الرداء، ونظروا له بقول "مالك بن الريب": وخطا بأطراف الأسنة مضجعى ورداً على عينى فضل ردائيا وقول الآخر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وهذا التأويل بعيد من سياق النذير في آية الليل، لأن التردى برداء الكفن لا يختص به كافر دون مؤمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وفي التوجية الإعرابي للآية، جوزوا أن تكون (ما) فيها نافية، وأن تكون استفهامية. والنفي عندنا أولى، لما فيه من ملحظ التقرير لعدم غنى المال عن البخيل المكذب، إذا تردى. * * * {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} . الهدى الإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأكثر ما يجيء في القرآن الكريم، نقيضاً للضلال والكفر. والآخرة والأولى في الاستعمال اللغوي النهاية والبداية، أو المصير والمبتدأ، ملحوظاً فيهما الإتيان في الآخر، وفي الأول. وتأتي الآخرة والأولى في المصطلح الديني بمعنى الحياتين الآخرة والدنيا. والأول والآخر من أسماء الله تعالى الحسنى. وفي آية الليل، فسر "الطبري" الآخرة والأولى، بأن "لنا ملك ما في الدنيا والآخرة، نعطى منهما من أردنا من خلقنا ونحرم من شئنا. وإنما عنى بذلك جل ثناؤه أنه يوفق لطاعته من أحب من خلقه فيكرمه بها في الدنيا ويهيئ له الكرامة والثواب في الآخرة. ويخذل من شاء خذلانه من خلقه عن طاعته، فيهينه بمعصيته في الدنيا ويخزيه بعقوبته في الآخرة". وأقتصر فيهما الزمخشري في (الكشاف) على ثواب الدارين للمهتدى. ومثله "أبو حيان" في (البحر المحيط) . ونقل الرازي قول من قالوا في تأويل الآية: "إن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الإهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم، ولو شئنا لمنعاكم من المعاصي، إذ لنا الدنيا والآخرة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ورأى فيه ما يخل بالتكليف. كما نقل ما ذكرنا من تأويل الطبري، وصرح بأن هذا الوجه من التأويل أوفق لقوله. ونرى أن قصر معنى الآية في تفسير الزمخشري على "ثواب الدارين" يمنعه العموم المستفاد من صريح السياق في البشرى والنذير معاً. ودون خوض في مشكلة الجبر والاختيار، نطمئن في الآية إلى أن الله سبحانه إليه المصير كما له المبتدأ. وهو تعالى يهيئ لخلقه في الدنيا طريق الحق والهدى، وبقدر ما يستجيبون لداعى الهدى أو يصدون عنه، تكون النهاية والمصير إلى الخالق في الآخرة. ونلتفت إلى ملحظ بياني في الآية، هو العدول عما هم مألوف من تقديم الأولى على الآخرة. وليس التعلق برعاية الفاصلة هو الذي اقتضى تقديم الآخرة هنا على الأولى، وإنما اقتضاه المعنى في سياق البشرى والنذير، إذ الآخرة خير وأبقى وعذابها أكبر وأشد وأخزى وأبقى، وأن الآخرة هي دار القرار. وكذلك قدمت الآخرة على الأولى في سياق البشرى للمصطفى عليه الصلاة والسلام، بآية الضحى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} . كا قدمت الآخرة على الأولى في سياق الوعيد لفرعون إذ أدبر وتولى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} بآية النازعات. * * * وفي مثل هذا السياق من الوعيد، تتقدم الآخرة على الأولى في آية الليل، متلوة بهذا النذير: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} . واللظى في العربية اللهب الخالص، والتلظى تسعر النار واحتدام توقدها. وفي الاستعمال القرآني جاءت "لظى" للجحيم في آية المعارج 15: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} . والإنذار بنار تلظى، في آية الليل، عام كالعموم المستفاد من الآية قبله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . ثم تأتي الآية بعده فتخص من يصلاها، وهو - كما في آية المعارج - من كذب وتولى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . قيل في تفسير {لَا يَصْلَاهَا} : "معنها لا يصطلي بها إلا الأشقى". وهو ما لا يطمئن إليه حس العربية في استعمالها الصلى للشي في النار أو بها: صلى اللحم صلياً ألقاه في النار وضواه. وصلى النار وبالنار: قاسى حرها ولهيبها. وينقل مجازياً إلى: صلى نار الحرب. أما الاصطلاء فقلما يستعمل إلا في التماس الدفء من النار، على وجه التخصيص. وهذا الفرق بين الصلى والاصطلاء، هو ما يهدي إليه البيان القرآني، حين يستعمل الاصطلاء في الدفء بخاصة، في قول موسى لأهله حين آنس ناراً: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (القصص 29، النمل 7) على حين يأتي الصلى والتلية، في التعذيب بالنار ومقاساة حرها ولهيبها، باستقراء مواضع استعمالهما بالقرآن الكريم، وعددها ثلاثة وعشرون. ويختص الصلى فيها جميعاً، فعلاً ومصدراً واسم فاعل، بنار الجحيم. وعيداً للكافرين والمكذبين والمغرورين المفتونين بالمال والجاه والبنين، فهم صالو الجحيم، يصلون سعيراً، وسقر، والنار الكبرى، وناراً ذات لهب، جهنم يصلونها وبئس القرار، فبئس المهاد، فبئس المصير. وبهذا كله نستأنس في فهم {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} فلا يكون بمعنى الاصطلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الذي يحمل دلالة الاستدفاء، وإنما هو الصلى بمعنى الشي والتعذيب باللهب المستعر في الجحيم. * * * والشقاء لغة نقيض السعادة. وأصل استعماله في الشدة والعسر، والشاقى من الجبال الحاد الميل الطويل. وحين تستعمل العربية الشقاء في التعب، فإن ذلك يكون بملحظ من الشدة والعسر، دون أن يترادف الشقاء والتعب، وهو ما نبه إليه "الراغب" بقوله في المفردات: كل شقاوة تعب، وليس كل تعب شقاوة. ويأتي الشقاء في الاستعمال القرآني خاصاً بمحنة الضلال، إما بصريح اللفظ كما في آيتى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (طه 123) {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} (المؤمنون 106) وإما بدلالة السياق كما في الآيتين: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (هود 105، 106) وليس بعيداً من معنى الضلال، عصيان أمر الله، في قوله تعالى خطاباً لآدم وزوجه: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} وآيات مريم: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} . {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} . وجاءت صيغة "أشقى" في ثلاث آيات، آية الشمس: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} . والإضافىة تقيده بالمضاف إليه، فهو أشقى ثمود وأضلها وأطغاها. والأشقى، معرفة بأل، في آيتى الأعلى والليل، والسياق فيهما متشابه، وعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الإضافة فيهما يطلق "الأشقى" من كل قيد، فلا مجال لمفاضلة بين أي شقي، وهذا الأشقى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} ناراً تلظى {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} . * * * والأشقى في آية الليل: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . الكذب في العربية، عدم مطابقة القول للواقع أو لما في الضمير، ومنه الآية في إخوة يوسف: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} . ويستعمل في إخلاف الظن والرجاء. والتكذيب نقيض التصديق. ولا يأتي التكذيب في الاستعمال القرآني، إلا بالمعنى الديني في التكذيب بالله وآياته وآلائه ورسالاته ورسله، ولقائه، واليوم الآخر. والتولى: الإعراض والإدبار. وقد جاء قريناً للكفر والتكذيب، مع مثل هذا الوعيد بالعذاب، في آيات: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} (الغاشية 22) ومعها آيات: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (القيامة 32) {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (طه 48) {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} (المعارج 15) والإدبار فيها إعراض وصد عن الحق. * * * {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . تنفرد الآية هنا بصيغة "الأتقى" معرفة بأل، وجاء أتقى مضافاً إلى ضمير المخاطبين، الناس، في آية الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فقيد بهذا الإضافة إلى ضمير الناس المخاطبين، لا على الإطلاق في "الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وأصل الزكاة في اللغة النمو، ومنه زكا الثمر بمعنى طاب حين ينضج ويؤتي أكله. ويستعمل في المعنويات بملحظ من الخير والبركة. وزكى الشيء أو الشخص شهد له بالخير والصلاح والتقوى، ومنه في القرآن الكريم آية النجم 32: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . والتزكية أيضاً التهذيب والتطهير، ومنه في القرآن الكريم آيتا آل عمران 164، والجمعة 2: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . وقد نقلت الزكاة إلى المصطلح الشرعي فيما يؤتيه المؤمن من ماله فريضة، فيزكو المال ببركة الله وثوابه. وتأتي صيغة الزكاة في القرآن الكريم خاصة بالفريضة، في كل مواضع ورودها وعددها اثنان وثلاثون موضعاً. وفي المال أيضاً جاء فعل التزكية بآية التوبة 103: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . ومثله التزكى في آية الليل، مع إيتاء المال. والإيتاء هو البذل. وأصله في اللغة الإعطاء مع سهولة ويسر: فالأتى السيل. وتأتي الأمر سهل وتهيأ، مأتاه جهته التي يسهل إتيانه منها. وآتت الشجرة أكلها أعطته في يسر وسخاء، ومنه في القرآن الكريم آية البقرة 265: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} . ومعها آيات (الرعد 35، وإبراهيم 25، والكهف 33) . والملحظ اللافت في البيان القرآني، أنه إذ يعلق الزكاة مرة واحدة بفاعلين في آية المؤمنين 4: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 يجئ بها سائر الآيات مع الإيتاء، مصدراً. {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} في آيتى (النور 37، والأنبياء 73) واسم فاعل في آية النساء 162: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . وفعلاً ماضياً. {وَآتَى الزَّكَاةَ} في آيات (البقرة 177، والتوبة 11، 18، والنور 56) . {وَآتُوا الزَّكَاةَ} في آيات (البقرة 43، 83، 110، 277، والنساء 77، والتوبة 5، 11، والحج 41، 78) {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} في (المائدة 12، والروم 39) . وكذلك الفعل المضارع وفعل الأمر، في كل مواضع استعمالها. وبكل هذه الآيات نستأنس في غهم الآية: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} بملحظ من دلالة الإيتاء على يسر الإعطاء وسماحة البذل. وفي الصنعة الإعرابية قالوا: إن جملة {يَتَزَكَّى} على النصب في موضع الحال. وأجاز الزمخشري ألا يكون لها موضع من الإعراب، لأنه جعل يتزكى بدلاً من صلة الموصول في {الَّذِي يُؤْتِي} . وهو كما لاحظ "أبو حيان" إعراب متكلف. والحالية عندنا أولى بالمقام. * * * {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} . تعلق بعض المفسرين بالصنعة البديعية في مجئ {تُجْزَى} على البناء للمجهول. فحملوه على مجرد رعاية الفاصلة. قال أبو حيان: "وجاء تجزى مبنياً للمفعول لكونه فاصلة، وكان أصله: نجزيه إياها أو نجزيها إياه". وهذا ملحظ شكلي من الزحرف البديعي لا نقول بمثله في البيان الأعلى، وإنما جاء البناء للمجهول لمقتضى معنى، وهو أن البذل هنا لم يكن عن قصد جزاء لأحد أو من أحد، على الإطلاق، وإنما هو خالص لوجه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وواضح من الآية أن هذا المال المبذول، لم يؤته الذي يتزكى جزاء على نعمة سبقت لأحد عنده، أو ابتغاء لأحد يجزيه بها على هذا البذل. لكن من المفسرين فيما نقل الإمام الطبري - من وجهها على خلاف هذا، فتأول الآية: وماله عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها وجزاءها. وليس الأولى، فصريح النص {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ} لا يأذن بتأويله على قولهم: وما له عند أحد. {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . القراءة بنصب ابتغاء، هي قراءة الجمهور. والنصب فيه عندهم، إما على الاستثناء، أو مفعولاً لأجله كما ذهب "الفراء" و"الزمخشري" في الكشاف. ويؤنس إليه غلبة مجئ ابتغاء، مفعولاً لأجله في الآيات التي استعملت هذه الصيغة على النصب. وأما القراءة بالرفع، فتأولوه فيها على البدل من نعمة، وهي من الصنعة الإعرابية في موضع رفع، وحرف الجر قبلها زائد (البحر المحيط) . والإبتغاء في اللغة، التماس بغية يجتهد في طلبها. ويكون في الشر بملحظ من البغي والعدوان وتجاوز الحد. ومنه في القرآن الكريم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلهة (التوبة 48، وآل عمران 7) والعدوان (المؤمنون 7، والمعارج 31) وابتغاء عرض الحياة الدنيا (النساء 34، والرعد 17) ., ويكون الابتغاء في الخير، بملحظ من الجأب في التماسه والاجتهاد في طلبه، وهو ما يبدو بوضوح في آيات السعي في البر والبحر ابتغاء فضل الله ورزقه: (النحل 14، والإسراء 12، 66، والقصص 73، والروم 23، 46، وفاطر 12، والجاثية 12، والمزمل 20، والجمعة 10) . كما يبدو ملحظ الدأب في العبادة، والجهاد، ابتغاء فضل الله ورضوانه في مثل آيات: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الفتح 29) {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} (الممتحنة 1) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر 8) ومثله الدأب في الخير، إنفاقاً للمال وسعياً في معروف وإصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، كالذي في آيات: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء 114) ومعها آيات: (البقرة 265، 272، والرعد 22) . ولا مجال للخوض هنا فيما تعلق به المجسمة من لفظ "وجه" وما حلفت به كتب الكلاميين من تأويل له، وإنما نوجه همنا إلى التفسير البياني، فنقول: الوجه في اللغة ما يستقبلك من كل شيء، وأكثر ما يستعمل حسياً للوجه المعروف من الجسم، ومنه في القرآن الكريم، آيتا يوسف 93، 96: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} . زآية الذاريات في حديث إبراهيم: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} 29. وآيات الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والتيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (المائدة 7) والقبلة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة 144) والعربية تطلق الوجه، مراداً به الذات، من حيث كان الوجه هو الذي يميز الشخص ويحدد ملامحه. ومن جاء استعمال الوجوه لأعيان القوم. وبملحظ من كون الوجه هو أول ما يستقبل الجسم، جاء الوجه بمعنى القصد والإتجاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وقد جاء "وجه" مضافاً إلى الله سبحانه في إحدى عشرة آية من القرآن الكريم، ثمان منها فيما ينفق المؤمنون إبتغاء وجه الله، وفي المتقين من عبادة يريدون وجهه تعالى. وآيات: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة 115) {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن 27) {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القصص 88) قيل في تأويلها إن لفظ وجه "في كل هذا زائد، والمعنى: فثم الله، كل شيء هالك إلا هو، وابتغاء الله ..... ". وأنكره بعضهم وقالوا: "إنما الوجه من معنى القصد والتوجه". ونقتصر هنا في التفسير البياني، على ما ألفته العربية في إطلاقها الوجه مقصوداً به الذات، وفيما جرى بيانها من مثل: وجه الحق، ووجه الأمر ووجه الرأى، ووجه النهار ..... دون أي ملحظ ينم عن تجسيد! * * * وأشار الرازي في تفسيره إلى ما يتعلق به الملحدة في "ربه الأعلى" من اقتضاء أن يكون هناك رب آخر دونه في العلو. وذلك من عقم الحس فيهم، يغيب عنه سر العربية في إطلاق هذه الصيغة دون قيد بمفضول، وإنما القصد إلى المضي بالعلو إلى نهايته القصوى، على ما التفتنا إليه في تدبر صيغ: الحسنى واليسرى والعسرى، والأشقى. ونظيره في الإطلاق بغير حدود ولا قيود، قوله تعالى في سورة الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} لا يعني أن هناك رباً عالياً دونه، وإنما هو إطلاق للعلو إلى أقصى مداده، دون ملحظ من المفاضلة بين أعلى وعالٍ. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وأكثر المفسرين على أن فاعل "يرضى" المضمر، هو الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى. ونؤثر أن نبقيه على إطلاقه، فيحتمل رضى الأتقى، ورضى الأعلى. والبيان القرآني يأتي بهذين الوجهين من الرضى متلازمين، في مثل آية الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} . وآيات: البينة في خير البرية، والمجادلة في حزب الله، والمائدة في الصادقين: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وفسروا رضى العبد عن ربه في آية الليل، بأنه لا يكره ما يجرى به قضاؤه تعالى. (مفردات الراغب) . وهذه العبارة تقصر عن جلال الآية: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . ولن تكون غاية رضى الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى ابتغاء وجه ربه الأعلى، إلا أن يرضى عنه ربه، ولسوف يرضى. وإنها لكما قال "ابن القيم" أعلى الغايات وأشرف المطالب. * * * وعلى هذا النسق من البيان المعجز، يتم الربط بين المقسم به في أول السورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} والمقسم عليه من تفاوت سعى البشر في الأولى، بين إعطاء خير وتقوى وتصديق بالحسنى، وبخل خاسر وتكذيب بالحسنى. ثم التفاوت في الأخرى، بين مصير الأشقى الذي يصلى ناراً تلظى، والأتقى {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 سورة الفجر بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 السورة مكية مبكرة، ترتيبها العاشرة في النزول. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى. والفجر ضوء الصباح أول ظهوره في سواد الليل، ومنه يطلق على وقت ظهور هذا الضوء. وتقتصر معاجمنا على صيغة الفجر في هذا الاستعمال، فلا يقال أفجر فلان بمعنى دخل في الفجر، مثلما يقال أصبح وأضحى وأمسى المساء. ولعل الاستعمال الحسي الأول للمادة، في تفجر الماء من الأرض. وتتصرف العربية في هذا الاستعمال فيأتي منه: فجَر وفجَّر وتفجر، كما تأتي صيغ اشتقاقية أخرى كالمتفجر والمفجر والمنفجر، وقريب من استعماله في الماء، التفجر والإنفجار في البراكين وشبهها. ومن هذه الدلالة الحسية جاءت الاستعمالات المجازية فيما هو انبعاث واضح، فإذا كان في النور والخير والجود والمعروف فهو الفجر، وإذا كان في الشر والفاحشة فهو فُجر، وفي الفسق والمعصية فجور، وأيام الفجار أربعة كان فيها قتال في الأشهر الحرم بين قريش وقيس عيلان في الجاهلية. وانفجرت الدواهي أتت من كل وجه. وفي القرآن الكريم: جاءت المادة في أربعة وعشرين موضعاً، منها عشر مرات أفعالاً، يغلب مجئ الفعل منها في تفجر الماء وتفجيره، وانفجاره على المطاوعة. (البقرة 60، 74، والإسراء 90، 91، والكهف 33، يس 34، القمر 12، الإنسان 9، الإنفطار 3) ولم يأت الفعل في غير الماء غلآ مرة واحدة في الفجور في آية القيامة: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} 5. ويقل استعماله اسماً في الماء، حيث لم يأت منه إلا في تفجير الأنهار بآية (الإسراء 91) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وتفجير عين بآية (الإنسان 6) ووردت ست مرات في الفجور: مقابلاً بالتقوى في آية (الشمس 8) وبصيغ فاجر وفجرة وفجار، مقابلة بالمتقين والأبرار، في آيات (نوح 17، عبس 42، الإنفطار 14، المطففين 7) . وأما الفجر بدلالته على ضوء الصباح أول ظهوره في سواد الليل، أو على وقته، فجاء منه في القرآن ست آيات: (القدر 5، والبقرة 187، والإسراء 78، والنور 58) وآية الفجر. وتدل آية البقرة على أن علامة مطلع الفجر، أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إيذاناً بإنبثاق النور في الظلمة، كما تدل آية الإسراء على أن الفجر بعد غسق الليل. والغسق ظلام مختلط ببوادر النور في آخر الليل. أو بقايا الضوء بعد مغيب النهار وغروب الشمس. من ثم لا نرى وجهاً لتفسير الفجر بأنه النهار كله كما في "الطبري" عن "ابن عباس" وإنما هو الفجر المعهود عند تبين الخيط الأبيض من سواد الليل، وقد رده "الراغب" إلى معنى الشق "كما في تفجير الأرض عيوناً وأنهاراً، ومنه قيل للصبح فجراً لكونه فاجر الليل، والفجور شق في ستر الديانة". ونؤثر أن نرده كذلك إلى دلالة الإنبثاق والإنبعاث، يكون حسياً بشق متعمد، كما يكون تلقائياً كالإنفجار، ومعنوياً في الفجور والإنبعاث المجازي. وتأوله عدد من المفسرين في سورة الفجر، على الإضافة إلى محذوف اختلفوا في تقديره: قيل، ورب الفجر، أو وقرآن الفجر، على ما نقل الإمام الطبري، ومثله عند النيسابورى والزمخشري. وخصه قوم بفجر بذاته، اختلفوا كذلك في المراد به" قيل هو "فجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين" أو هو "فجر المحرم لأنه أول يوم من كل سنة، أو عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه وفيها حياة الخلق" (الرازي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 أو هو فجر ذي الحجة، لقوله تعالى بعده: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} كما في (التبيان) لابن قيم الجوزية. وهم في ذلك كله متأثرين بفكرتهم في تعظيم المقسم به بهذه الواو، وذلك ما نعرض له بعد تدبر الآيات الداخلة مع الفجر في حيز المقسم به. * * * {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} العشر والعشرة: أول العقود. وللعربية فيه استعمالات مختلفة الصيغ، ترد جميعاً إلى معنى العدد: فالعشر الجزء من عشرة أجزاء، والمعشار القسم منها والنصيب، والعشار الإبل أتى عليها عشرة أشهر من حملها. والعشار من يستحل قبض عشر المال وإنما الفرض فيه ربع العشر. والعشر أن ترد الإبل في اليوم العاشر، والمعشر الجماعة ذات العدد، والعشيرى أهل الرجل يتكثر بهم عدداً. والعشر أخص من العشيرة، فهو المعاشر يكون لعشيره رفيقاً وصاحباً فلا يبقى فراداً واحداً. وفي القرآن الكريم: جاء من المادة العشار بمعنى الحوامل من الإبل في آية التكوير: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} وجاء الفعل من المعاشرة في آية النساء: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} كما جاء العشير والعشيرة في آيات (الحج 13، والشعراء 214، والتوبة 24، والمجادلة 22) ومعشر في آيات (الأنعام 128، 130، والرحمن 33) . وجاء بدلالته على العدد في ثمانية عشر موضعاً، أحدها بلفظ معشار في آية سبأ 45: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} . ويبدو أن المعشار فيها بدلالة بيانية على مطلق التجزئة والتقليل. على حين يستعمل العشر بدلالته الرقمية المحددة: الجزء من عشرة، ولم يأت في القرآن بهذه الصيغة. وجاء العدد: عشرون، مرة واحدة في آية الأنفال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 65. ودلالتها على النسبية أقرب من الدلالة الرقمية المحددة. وجاءت عشر، أو عشرة، مفردة ومركبة، في ستة موضعاً، نتبدبرها جميعاً فنلمح ملحظاً دقيقاً في الاستعمال القرآني للعدد: حين يأتي في سياق الأحكام أو الأنباء والأخبار، يحدد العدد دلالته الرقمية الحسابية كما في آيات: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة 234) {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (القصص 27) {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة 196) {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة 89) {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف 142) {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة 60) وآيات (الأعراف 160، المائدة 12، التوبة 36، يوسف 4) . على حين تحتمل دلالة العدد نطلق التعدد والكثرة، في سياق الترغيب والعبرة، أو الوعيد والتحدي كالذي في آيات: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام 160) {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} (طه 103) {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود 13) وليس بين المفسرين، فيما أعلم، خلاف على أن عشراً في آية الفجر {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} بدلالتها الرقمية الحسابية، لكنهم اختلفوا في هذه الليالي العشر وذهبوا في تأويلها مذاهب شتى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 * فهي العشر الأولى من ذي الحجة، في قول جماعة ذكرهم الإمام الطبري بأسمائهم. وابن القيم في (التبيان) والزمخشري في (الكشاف) . وأيده النيسابورى بما جاء في فضل هذه الأيام: "ما من أيام العمل فيهن أفضل من عشر ذي الحجة". * وقيل هي العشر الأولى من المحرم. نقله الطبري والنيسابورى. * وعن مسروق ومجاهد، أنها عشر موسى التي أتمها لله تعالى (آية الأعراف) . وقد أورد الفخر الرازي الأقوال الثلاثة سرداً دون ترجيح. * واختار الإمام الطبري أن تكون ليالي عشراً هي العشرة الأخيرة من رمضان. * واختار الشيخ محمد عبده أن تكون عشر ليال من أول كل شهر، كما اختار في الفجر أن يكون "لجنس ذلك الوقت المعروف". وتنكير ليال عشر، إطلاق قد يراد به، والله أعلم، كل ليال عشر من أواخر شهر رمضان، كما اختار الإمام الطبري. ويؤنس إليه الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر: "فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان". ويكون اللفت بها - في آية الفجر - إلى نزول القرآن فيها هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. وعلى هذا الوجه ترتبط ليال عشر بما قبلها وما بعدها من الفجر الصادق البازغ، نوراً ينسخ ظلمة الليل إذا يسرى. * * * {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} . اللفظان يستعملان في العربية، بدلالة على العدد الزوجي والفردي. ومعنى الشفع لغة، ضم الشيء إلى مثله. وملحظ الأزدواج واضح في استعمال الشفع حسياً في: الناقة الشافع وهي التي يتبعها ولد وفي بطنها آخر. والشفوع من النوق: التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة، والشفائع ألوان من الرعى، ينبت اثنين اثنين .... ومن هذا الازدواج، جاءت الشفاعة بمعنى الإنضمام للتقوية والتأييد والنصره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ولا تكون الشفاعة إلا ممن هو أقوى أو أعلى حرمة ومرتبة، لمن هو أدنى منه، على ما لحظ الراغب في (المفردات) . والشفعة في الشريعة: حق المالك لدار أو عقار، للشريك أو الجار، مع دفع العوض. واستعمل الشفع، بملحظ الأزدواج، في العدد الزوجي. ونقيضه الوتر، أي العدد المفرد لم يشفع بعدد آخر. ويقول العرب: ناقة مواترة، تضع إحدى ركبتيها في البروك ثم تضع الأخرى، ولا تبرك بهما معاً، والمواترة بين الأشياء أن تقع بينهما فترة، ومواترة الصوم أن تصوم على غير مواصلة، ووتر القوم أو جعل شفعهم وتراً. وفي القرآن الكريم: جاءت مادة (ش ف ع) اسماً وفعلاً إحدى وثلاثين مرة. كلها في الشفاعة باستثناء آية الفجر، وفيها الشفع مقابلاً للوتر. أما الوتر فلم يجئ من مادته في القرآن إلا ثلاث آيات، إحداها في الترة بمعنى النقص، بآية محمد 35: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . ومرة في تتابع الرسل على فترة بينهم: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} (المؤمنون 44) وآية الفجر، وفيها الوتر مع الشفع. قال الرازي: اضطرب المفسرون في تفسر الشفع والوتر وأكثروا فيهما. وقد جمع من تأويلاتهم: قيل الشفع المخلوقات من حيث هي مركبات {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} والوتر هو الله من حيث هو الفرد الواحد. وعبارة "ابن القيم" في التبيان: كل شيء شفع والله وتر. وقيل الشفع ولد آدم، والوتر آدم لأنه لم يأت عن والد. أو أن الوتر آدم وشفع بزوجه حواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وقيل: الشعائر المعظمة منها شفع ومنها وتر، في الأمكنة والأزمنه والأعمال: فالصفا شفع وعرفه وتر، والطواف وتر وركعتاه شفع، والصلاة منها شفع ومنها وتر. وأقتصر "الراغب" من هذا الوجه على القول بأن الشفع يوم النحر من حيث إن له نظيراً يليه، والوتر يوم عرفه. وقيل: العدد كله، شفع ووتر. وقيل: الشفع درجات الجنة وهي ثمان، والوتر دركات النار وهي سبع. وقيل: الشفع صفات الخلق، كالعم والجهل، والقدرة والعجز، والرغبة والكراهية، والحياة والموت ... أما الوتر فهو صفة الخالق: وجود بلا عدم، حياة بلا موت، علم بلا جهل، قدرة ولا عجز، عزة ولا ذل ..... وقيل: الشفع كل نبي له اسمان، مثل: محمد وأحمد، عيسى والمسيح، ويونس وذي النون، إبراهيم والخليل .... والوتر كل نبي له اسن واحد مثل: نوح وهود وصالح .... وقيل: الشفع البروج عددها اثنا عشر، الوتر الكواكب السبعة .... وقيل: الشفع الأعضاء، والوتر القلب ..... وقد بلغ ما أورده الفخر الرازي مما اضطرب فيه المفسرون في الشفع والتر، عشرين وجهاً. وعنده "أن كل وجه من هذه الوجوه محتمل، والظاهر لا إشعار له بشيء منها على التعيين. فإن ثبت في شيء منها خبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع من أهل التأويل، حكم بأنه المراد، وإن لم يثبت فيجب أن يكون التأويل على طريقة الجواز لا على وجه القطع. ولقائل أن يقول: إني أحمل الكلام على الكل، لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد التعميم". ولا نعلم أن أهل التأويل، قد أجمعوا على وجه في المواد بالشفع والوتر، وإنما اضطريت أقوالهم تحمل الآية، كما يقول الإمام الطبري: "ما لم تدل عليه بخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 ولا عقل، وهو تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر. ولم يخصص نوعاً من الشفع ولا من الوتر دون نوع. وكل شفع ووتر فهم مما أقسم به". أو كما قال الزمخشري: "أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه". ونحتكم إلى النص القرآني فلا نراه يحتمل كل هذه الأقوال المضطربة والتأويلات المسرفة في التكليف، وإنما حسبنا منت الشفع والوتر دلالتها الصريحة، لغة ونصاً وسياقاً، على الأزدواج والإفراد، مع ملحظ فيهما من التقابل والتضاد. ودون تكلف في تأويلهما بما يتجه بهما نحو التعظيم، فإذا كانت الشعائر المعظمة شفعاً ووتراً، فكذلك كل الأشياء، العظيم منها والحقير، تحتمل أن تكون شفعاً ووتراً ...... ومثله في التقابل، الفجر وسرى الليل ..... ولا وجه عندنا، بعد أن تدبرنا آيات القسم بالواو في القرآن الكريم، للوقوف به عند أصل استعماله اللغوي في التعظيم، والأولى أن يخرج عنه إلى الاستعمال البلاغي الذي لا يتعلق بما جاء على أصل الوضع اللغوي، بل يعدل عنه لملحظ بياني، هو في آيات الفجر: اللفت إلى انبثاق نور الفجر في ظلمة الليل الساري، توطئة إيضاحية بالحسى المدرك، إلى معنويات من الهدى والضلال. * * * {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} السرى في العربية: السير عامة الليل. وفي دلالته اللغوية الأولى معنى الخفاء. وربما كان أصل استعماله الحسي في السرى، وهو عرق الشجر دب تحت الأرض. لحظ فيه الامتداد مع الخفاء، فاستعمل في السرى لما في السير مدى الليل من خفاء، واختص السرى بالليل تمييزاً له عن عامة السير. والأصل أن الليل يسرى فيه. فإسناد السرى إلى الليل في آية الفجر، من الإسناد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 المجازى، وهو في صنعة البلاغيين لعلاقة الزمان أي وقت السرى. لكنه في الفن القولي أعمق نفاذاً من ذلك الملحظ القريب المتبادر الذي تكتفي به الصنعة، إذ فيه تجسيم لليل وتشخيص وفاعلية، بحيث يتمثل كائناً حياً يسرى. وفيه كذلك إلباس للحدث بزمانه، فالليل نفسه يسرى كما يسرى فيه كل كل سار بليل. وقد جاءت المادة في القرآن الكريم ثماني مرات كلها في سرى الليل، باستثناء آية مريم: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} 24. والمرات السبع في سرى الليل، كلها أفعال: مرة للماضي في آية الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وخمس مرات فعل أمر للوطٍ وموسى، عليهما السلام بآيات: هو 81، الحجر 65، طه 77، الشعراء 52، الدخان 23. وآية الفجر: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} على إسناد السرى إلى الليل نفسه مجازاً. في (تفسير الطبري) عن مقاتل: هي ليلة المزدلفة والساري هو الحج. وهذا، فيما نرى، تخصيص قد يمنعه عموم اللفظ. وفسره أبو حيان: إذا يمضى، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} ومثله النيسابورى في الغرائب. وفسره ابن القيم في التبيان، بالإقبال أو بالإدبار. ويبعده المفهوم من معنى السرى، يمتد من أول الليل إلى آخره، على وجه الاستغراق الذي يستوعب مداه. وتأوله الشيخ محمد عبده بالظلمة! قال: "أقسم تعالى بالليل مراداً منه الظلمة، وكثيراً كا يطلق اسم الليل وتراد ظلمته". ويمنعه أن الليل في آيات القسم به، لم يأت قط على إطلاقه، بل قيد هنا بـ: إذا يسرى، كما قيد في غير سورة الفجر، بـ: أذا سجى، وإذا يغشى، وإذا عسعس، وإذا أدبر ..... وغير متصور أن يكون المراد منها جميعاً الظلمة، دون نظر إلى القيد في كل آية. ثم توسع الشيخ في تأول وجه الإعظام والتفخيم لهذه الظلمة المقسم بها فقال: "ولما كان ظلام الليل واختلاط قطعة عظيمة منه بضوء القمر في الليلة الواحدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 مقصوداً إلى تفخيم أمره بالقسم، خص الليالي التي يظهر فيها ضوء القمر مع تغلب الظلام فيها بعشر فقط، وإلا فقد يكون ظلام في أكثر من عشر من الشهر لكن زمنه قليل لا يليق ذكره بمقام التفخيم! وفي الفجر تفريجه كربه الليل من جهة، وتنبيه العامل إلى استقبال عمله من جهة أخرى، وفي ليالي القمر واستمالتها الأنفس للسمر وتيسير السير في السفر، ثم في قصر بقاء القمر وانتظار هجوم الظلمة وابتغاء الغنيمة (؟) مع الاستعداد للسكون عندما يرخى الليل ستاره، في كل ذلك رغبات للنفس ورهبات، وللهواجس غدوات وروحات، وللأماني فيه دبيب ووثبات، فهو جدير بأن يقسم به". ولا يخفي ما في هذا التأويل من بعد التكلف وعسر الملحظ، وإلا فالعشر الوسطى من الشهر القمري أسنى وأبهى وأقوى استمالة للسمر! وإذا كانت قلة الظلام مما لا يليق ذكره بمقام التفخيم، فكيف يليق معهذكر الفجر تفخيماً له بما يخفف من كربة الظلام وما ينسخ من آية الليل! وفي أقسام القرآن قسم بالصبح إذا تنفس، وبالضحى وبالنهار إذا تجلى، كما فيها قسم بالليل إذا سجى وإذا عسعس، وإذا وقب، وإذا يغشى، وإذا أدبر!؟ ونعود فنقول إن مثل هذا القسم بالواو في القرآن الكريم ظاهرة أسلوبية عدل فيها البيان القرآني بالقسم عن أصل استعماله الأول للتعظيم، لملحظ بلاغي هو اللفت بالواو إلى واقع حسي مدرك لا مجال للمهاراة فيه، توطئة للإقناع بما هو موضع جدل أو ارتياب، من المعوويات والغيبيات غير المدركة. وقد سبق بيان لهذه الظاهرة فيما تناولنا من سور الضحى والعاديات والنازعات في الجزء الأول، ثم في سورتى العصر والليل هنا. ونعرض ملحظنا فيها على آيات القسم بالواو في مستهل سورة الفجر، فنراها جميعاً لافتة لفتاً قوياً إلى صور مدركة من التقابل في الأضواء، ما بين نور الفجر وسرى الليل، وفي العدد، أياً كان المعدود، من شفع ووتر. توطئة بيانية لما يتلو من آيات محكمات فيها تقابل بين الإبتلاء بالقوة وبالغنى والنعمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أو بالفقر والحرمان، وما يظن معهما من إكرام أو إهانة، ثم التقابل في المصير ما بين عذاب الطاغين المغرورين، ونعيم النفس المطمئنة. دون أن نتجشم عناء التأويل بما يفخم كل مقسم به ويعظمه، أو نخلط بين التفخيم والتعظيم والتشريف، والحكمة الإلهية في كل ما خلق الخالق، لا فيما أقسم به بالواو فحسب. وبمثل هذا الأسلوب يبلغ البيان القرآني غايته من الإقناع والإلزام بالحجة. وعلى نحو ما يجلو معاني من الهدى والضلال، والإيمان والكفر، والحق والباطل، بحسيات مدركة من النور والظلمة، يجلو في سورة الفجر، بالضوء والظلمة في درجات متفاوتة، مغاني من الحق والباطل: فالفجر إذ ينبثق نوره فينسخ ظلمة الليل، والهلال إذ يبزغ وليداً إثر المحاق ويمضى رويداً في دحر الظلام، والليل إذ يسرى ما بين بدء الظلمة ومطلع الفجر، كل هذا بيان لافت إلى صراع الحق والباطل، وإلى انبثاق نور الهدى بعد أن غشيت ظلمة ليل طال، ضلت فيه أمم وطغى وأفسدوا في الأرض، مثلما نشهد في الواقع المحسوس مسرى اللسل ما بين إدبار النهار ومطلع الفجر. والقسم بالشفع والوتر في هذه الصورة البيانية، لافت إلى أن التقابل في آيات الفجر وليال عشر والليل إذا يسر، هو موضع التنبه والالتفات. ومن ثم لا نحمل هذه الآيات "ما لم تدل عليه بخبر ولا عقل" كما قال الإمام الطبري، ولا نخبط في متاهات التأويل التي "اضطرب فيها المفسرون"، كما قال الفخر الرازي، وأكثروا حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقع في الشفع والوتر وليال عشر: "وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه" بنص عبارة الزمخشري. * * * وشغل المفسرون بالبحس عن جواب القسم فاضطربوا فيه كمثل ما اضطربوا في الفجر وليال عشر والشفع والوتر. فالزمخشري يذهب إلى أن الجواب محذوف تقديره: لتُعَذَّبنَّ، بدلالة قوله تعالى بعد آيات القسم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} إلى قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ونرى السياق أولى بالعظة والإعتبار. والفخر الرازي، يرى أن الجواب هو: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما بينه وبين القسم معترض. وابن القيم يفهم الجواب متضمناً، قال: "فلما تضمن القسم ما جاء بع إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (؟) كان في ذلك ما دل على المقسم به". وقال أوب حيان في البحر: "والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية وهو قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . وهو بنصه، ما في تفسير الشيخ محمد عبده. وفي هذا الربط بين سورتى الفجر والغاشية وهو جر إليه أن سورة الغاشية تأتي قبل سورة الفجر مباشرة في ترتيب المصحف. ولكنها في ترتيب النزول متأخرة عنها، فالغاشية نزلت في أواخر العهد المكي، وترتيبها في النزول الثامنة والستون، فبينها وبن الفجر ثمان وخمسون سورة، على المشهور في ترتيب النزول. ونفهم أن يكون ترتيب السور في المصحف لملحظ ذي شأن، لكنا لا نتصور ارتباط قسم بالفجر وليال عشر، بجواب عنه في سورة الغاشية، وكأن القسم ظل معلقاً بغير جواب، حتى نزلت به سورة الغاشية بعد ثمان وخمسين سورة! ونطمئن إلى أن آيات القسم في سورة الفجر قد تم بها المقصود من اللفت إلى المقسم به، بما يغنى عن تأول جواب محذوف أو غر محذوف، وقد تمت آيات القسم بهذا السؤال الصادع: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} . فلم يعد السياق في حاجة إلى تكملة أو جواب. والحجْر: العقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ولعل أصل استعماله الحسي لغوياً في الحَجَر. أتخذ لصلابته حاجزاً فيما يراد منعه وحجزه، ومنه الحاجز: يمنع مسيل الماء إلى الوداي، والحجرة مكان يسور بالجدران ليحجز عن غير أهله، والمحجز: ما أحاط بالعين، والحمى لا يرعاه غير صاحبه. والحِجْرُ: الثوب، بملحظ من إمكان ثنية لحفظ الأشياء وحملها. وبمثل هذه الدلالة، يأتي الحجر في الحفظ المعنوي، فيقال: تربى في حجر فلان، اي في حفظه ورعايته، وسمى العقل حجراً بملحظ من حجزه صاحبه عما لا ينبغي ولا يليق. ومن الحجر على من لا حجر له يحجزه ويضبط أمره، لسفه أو جنون. وفي القرآن الكريم: جاءت المادة على أصل معناها اللغوي في الحجر بآيتى (البقرة 60، والأعراف 160) : {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} خطاباً لموسى عليه السلام. وفي الحجارة، عشر مرات، إما على أصل استعمالها اللغوي، وإما على وجه التشبيه والمجاز، في آيات: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة 24 والتحريم 9) {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ..... } (البقرة 74) {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ..... } (الإسراء 50) {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ..... } (هود 82) ومعها (الفيل 4، والأنفال 32، والحجر 74، والذاريات 23) . وجاءت مرة في (الحجرات) بمعنى الغرف والبيوت، ومرة في الحجور بآية النساء 23: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ...... } وسميت ديار ثمود حجراً، لما كان الظن من مناعة مبانيها. وجاء الحجر في المحتجز لأصحابه من أنعام ومرعى بآية الأنعام 138: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ ..... } وبمعنى الحاجز المانع والحد الفاصل {حِجْرًا مَحْجُورًا} في آيتى (الأنفال 22، 53) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وكلها ملحوظ فيها الدلالة الأصلية للمادة، على الحجز والضبط والمنع. وكذلك جاء حجز في آية الفجر بمعنى العقل، لا لمجرد رعاية الفاصلة بل اقتضاه معها ملحظ معنوي من السياق، في الحجز يحجز صاحبه عن السفه والضلال، ويمنع من الغي والطغيان، ويميز بين النور والظلام. وبهذا فسره جمهور المفسرين. وأضاف ابن القيم في التبيان: "يحجز صاحبه عن الغفلة وإتباع الهوى ويحمله على إتباع الرسل". أما وجه الاستفهام في الآية، فذهب الفخر الرازي إلى أن المراد منه التأكيد وقال الشيخ محمد عبده إنه "للتقرير وتفخيم أمر المقسم به". والتأكيد والتقرير، طلاهما، ممت تكتفي به الصنعة البلاغية، ونؤثر أن نحمل الاستفهام على وجه الإلتزام بالمسئولية، حين يضع ذات الحجر في موقف المسئول عما ينبغي أن يكون له من رقابة عقله وضبط نهاه، حجر عما لا يليق بذي حجر من سفه وغرور وعتو وطغيان وضلال. * * * {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . وفي الايات لكل ي حجر عبرة .... وقد أكثر المفسرون في الكلام عن عاد إرم ذات العماد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، بما لم تتجه عناية القرآن إلى شيء مما ذكروه. واختلفوا اختلافاً بعيداً. ففي عاد إرم ذات العماد: قيل إن عاداً، هو ابن إرم بن عوص بن سام بن نوح، أو إن إرم هو جد عاد لا لأبوه، ثم صار عاد للقبيلة: قالقدامى منهم هم عاد الأولى، والمتأخرون هم عاد الأخيرة. وفي رواية أخرى بالطبري: إن إرم ذات العماد اسم بلدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ثم لم يتفق اصحاب التأويل على بلدة إرم: قال الجمهور - فيما نقل أبو حيان بالبحر - إنما مدينة عظيمة كانت لهم باليمن. وقيل إنها الإسكندرية، أو دمشق، أو ديار ثمود في حضرموت بين الرمال المسماة بالأحقاف، كما حدد النيسابورى في (الغرائب) وقريب منه متا في تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده. وقيل إن الإرم: العلم، يعني بعاد، اهل الأعلام ذات العمار - ذكره الزمخشري في الكشاف. والأشبه بالصواب عند الإمام الطبري، أن تكون إرم ذات العماذ اسم قبيلة من عاد "ولذلك جاءت القراءة {عَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} بترك إضافة عاد إليها، ولوكانت اسم بلدة أو اسم جد لعاد، لجاءت القراءة بالإضافة". وكان "ابن الزبير" يقرأ: "بعادِ إرمٍ" على الإضافة والكسر. وقراءة الجمهور بتنوين عادٍ، فيها عند أبي حيان والرازي وجهان: إن جعلنا إرم اسم قبيلة، كان عطف بيان، وإن جعلناه اسم البلدة أو اإعلام، كان التقدير بعاد إرم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . وفي {ذَاتِ الْعِمَادِ} قالوا إنها تعني أهل القوة والمنعة، وقيل إنها قد تعني أهل الأعمدة والخيام حلا وترحالاً. وقيل كذلك إنها القصور المشيدة والأبراج. وذكر مفسرون أنها مدينة بناها شداد لما سمع بذكر الجنة - نقله أبو حيان. وتأولوا "التي لم يخلق مثلها في البلاد": إما بطول الأجسام، ثم أبعدوا فحددوا هذا الطول بين اثنى عشر ذراعاً في السماء، كما نقل الطبري، وأربعمائة ذراع كما في الكشاف وتفسير الرازي! وإما بعظم مدينة بناها شداد بن عاد، وذكروا حكاية خلاصتها أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، ملكا وقهرا زماناً ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فبدا له أن يبني مثلها، فبنى مدينة إرم في بعض صحارى عدن، وقد استغرق بناؤها ثلثمائة سنة من آخر عمر شداد - والحكاية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 تقول إن عمره كان تسعمائة سنة! - فلم ير قط مثلها: كانت قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار. فلما تم بناؤها سار إليها "شداد" بأهل مملكته فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله فيهمة صيحة من السماء فهلكوا. وقيل إنه يكد يضع إحدى قدميه في إرم حتى فاضت روحه. وكذلك تعددت أقوالهم في {ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} . قيل معناه خرقوا الصخر ونحتوه بيوتاً، وقد كانت ثمود أول من نحت الجبال والصخور والرخام، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة فيما نقل الفخر الرازي. وقيل معناه قطعوا الوادي. وقيل: إنهم شقوا الصخر واتخذوه وادياً يخزنون فيه الماء لمنافعهم "ولا يفعل ذلك إلا أهل القوة والفهم من الأمم" كعبارة الشيخ محمد عبده. {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} تأولوه على عدة وجوه: فهو كناية عن كثرة جند فرعون، بكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا. أو هو ذو الملك والرجال. أو هي أوتاد لفرعون كان يشدها ليعذب الناس بشدهم عليها حتى يموتوا وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وحعل على صدرها رحى وأستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ألاية، ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته! وقول ثالث: إن الأوتاد تعني ملاعب كانت تقام مشدودة بالأوتاد، يلعبون تحتها وفرعون مطل عليهم. وأولاها بالصواب عند الإمام الطبير، قول من قال: عنى بها الأوتاد من خشب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 أو حديد لأن ذلك هو المعروف من معاني الأوتاد، ووصف فرعون بذلك إما لأنه كان يعذب الناس بها، أو لأنه كان يلعب له تحتها. والزمخشري يختار تأويلها إما بكثرة جنود فرعون ومضاربهم، أو التعذيب بالأوتاد كما فعل بماشطة بنته، وبآسية زوجته! والرازي يرى "أن الكلام يحتمل كل هذه الوجوه". وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن "أظهر أقوالهم فيها ملاءمة للحقيقة، أن الأوتاد المباني العظيمة الثابتة". ثم أضاف متاولاً: "وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض، بل أن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة .... وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين"! * * * وفي منهجنا أن كل هذه التأويلات تحمل القرآن الكريم ما ليس من بيانه وطبيعته، وقد بدا منه العمد الواضح إلى طي هذه التفصيلات الجزئية، اكتفاء بما يلفت إلى موضع العبرة لذي حجر، في مصاير هؤلاء الطغاة. وأكثر ما قالوه في الأطوال والأحجام والأسماء والأرقام ومواد البناء، من الإسرائيليات المقحمة على كتاب الإسلام نصاً وسياقاً. ولكي نتقي التورط فيها، نحتكم إليه في كل هذه الأقوال التي أكثروا منها واختلفوا فيها، فإذا أردنا مزيد بيان لآيات الفجر، فإنما نلتمسه من القرآن الكريم: "عاد" من العرب البائدة، وقد وردت في القرآن أربعاً وعشرين مرة، ليس فيها إشارة إلى نسب عاد أو تصريح باسم أبيه وجده أو ولديه شديد وشداد، أو بيان لأطوال أجسام أو تحديد لأعمار. وإنما يأتي ذكر "عاد" دائماً، لفتاً إلى ما كان من تكذيبها لنبيها هود عليه السلام، وطغيانها في الأرض، وما سلط الله عليها من العذاب، وحق عليها من عقاب. فعاد في القرآن هم {قَوْمِ هُودٍ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 كان منزلهم {بِالْأَحْقَافِ} بعث الله فيهم أخاهم هوداً رسولاً ونذيراً: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأحقاف 21 ومعها هود 50) فكذبوه {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (هود 53) وكذبزا المرسلين (الشعراء 123، ص 12، ق 13، القمر 18، الحج 42) . وكفروا بالله، وجحدوا آياته، وعصوا واستكبروا في الأرض بغير الحق (هود 59، 60، ق 13) فأرسل عليهم الريح العقيم (الذاريات) وأهلكوا بريح صرصر عاتية (الحاقة 6) : {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (الأحقاف 25) فكانوا عبرة لمن اعتبر: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} . و"العماد" تنفرد بصيغتها، لا تتكرر، في القرآن الكريم. وجاءت صيغة عمد، جمع عمود، ثلاث مرات: اثنتين في السموات خلقها الله ورفعها بغير عمد ترونها (الرعد 2، لقمان 10) والثالثة في وعيد كل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده، بالحطمة {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} . والعمود لغة: ما به قوام الشيء، مادياً كعمود الظهر وعمود الخباء، ويجمع على أعمدة جمع قلة، وعلى عَمَد وعُمُد بالتحريك فيهما، وعماد وتختص بالأبنية الرفيعة إلا أن تجئ على وجه المجاز والكناية. فبملحظ التقوية جاء عماد القوم لمن يعتمدون عليه، فهو مقصدهم وسندهم. والعمد بمعنى القصد القوي الواضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ولم يرد لفظ "إرم" في القرآن إلا في هذه الآية من سورة الفجر. وهو في القاموس واحد الآرام بمعنى الأعلام، وذكر المفسرون أن إرم اسم قبيلة عاد أو هي بلدتهم. ونص ألاية يقبل تفسير إرم باسم القبيلة أو البلدة، دون تزيد بتفصيلات أمسك القرآن عن ذكرها. كما يكتفي في عاد القبيلة بأنها قوم هود من العرب البائدة، ومن البلدى بأنها مسكنهم بالأحقاف، ولا وجه لقول بأنها دمشق أو الإسكندرية ... كما لا وجه لتحديد زمنها التاريخي، أو أعمار أهلها وأطوالهم، بل نكتفي في زمنها، بما في القرآن الكريم من أنها جاءت بعد قوم نوح، بصريح آيات: (التوبة 70، إبراهيم 9، الحج 42، غافر 31، ص 12) . وأقرب ما يفهم من ذات العماد أنها ذات القوة والمنازل العالية، على مألوف البيان العربي في رفيع العماد، دون إقحام لعدد المباني أو مواد بنائها أو اسم بانيها، إلى آخر هذه الجزئيات التي لم يتعلق القرآن بها، وليس شيء منها بموضع عبرة، ومن ثم نستغنى في فهم النص، بهذا اللفت البليغ الموجز إلى ما مكن الله من أسباب القوة، لعاد التي لم يخلق مثلها في البلاد. ونؤثر أن يكون الضمير في {مِثْلِهَا} عائد على ذات العماد، إذ هي أقرب مذكور. ولا مانع من أن يكون عود الضمير على {عَادٍ} بمعنى القبيلة أو على إرم، كما ذهب بعض المفسرون. والوجه متقاربة مع اتصال السياق. ثم لا ضرورة لتحديد وجه المماثلة بما قالوه من العظم أو البطش والأيد، بل الأولى أن يبقى على ظاهرة من الإطلاق. * * * وثمود من العرب البائدة كذلك. وزمنهم التاريخي تالٍ لعاد قوم هود، كالمفهوم من سياق آيات (إبراهيم 9، الفرقان 38، العنكبوت 38، غافر 31، النجم 51، الحج 42، التوبة 70) . ونكتفي بما ذكره القرآن عنها، باستقراء الآيات التي جاءت في ثمود وعددها ست وعشرون آية، كلها في سياق العبرة بعاقبة الكفر والطغيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وجوهر قصتهم فيما نتلو من آيات الكتاب المحكم أنهم قوم صالح عليه السلام، بعثة الله فيهم داعياً إلى عبادة الله وحده، ما لهم من إله غيره (الأعراف 73، هود 61، النمل 45) . فكذبوه وعقروا الناقة التي نهاهم عن ذبحها (الشمس 14، هود 65، ص 13) {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت 17) {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة 5) {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} (الذاريات 44، فصلت 13) {صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت 17) ونجى الله صالحاً والذين أمنوا معه برحمة منه {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} (هود 68) والجوب في العربية: القطع. ومن الاستعمالات الحسية فيه: الجوب درع يقطع للمرأة. والجوبة الحفرة، وفجوة بين البيوت، أو بين أرضين، ومنه جاب الوادي بمعنى قطعه وعبره، وجواب آفاق. ومن القطع جاء النفاذ والحسم، فاستعمل في الجواب عن السؤال. وقد ذهب "الراغب" إلى أنه جاء "من قطع الفجوة بين فم المجيب إلى أذن السامع". والأولى عندنا أن يكون قطعاً مجازياً، لما فيه من مظنة النفاذ إلى السامع وحسم ما يسأل عنه. وفي القرآن الكريم، جاءت المادة في الجواب أربع عشرة مرة، وبمعنى الاستجابة ثمانيا وعشرين مرة، ولم تأت في الجوب إلا في آية الفجر. ولا نرى حملها على غير معناها من القطع والنفاذ، دلالة على ما أتيح لثمود من قوة ومنعه إذ قطعوا الصخر بالوادى، وقد كانت لهم فيه ديارهم ومساكنهم المشيدة المأهولة قبل أن تأخذهم الصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ونستأنس لفهمه ياستقراء "الوادي" في القرآن، وقد كان لعاد أوديتها بالأحقاف: 37. ولذرية إبراهيم مسكنهم بواد غير زرع: (إبراهيم 37) وسميت مساكن النما وادياً في قصة سليمان: (النمل 18) ويتخصص الوادي بالتعريف والوصف في "الوادي المقدس" حيث تجلى الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: (طه 12، القصص 30، النازعات 16) * * * وكذلك الأمر في {فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} . نقتصر فيه على ما يلفت إليه سياق الآية مما كان لفرعون من قوة وجبروت. مستأنسين في فهمها بآية (ص 12) : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} ولم تأت الأوتاد، معرفة، إلا في هاتين الآيتين، وصفاً لفرعون ذي الأوتاد. وجاءت نكرة في آية النبأ بياناً لرسوخ الجبال وصلابتها: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} . وفرعون - وإن كان لقباً لملوك مصر القديمة - يأتي في القرآن غالباً، خاصاً بفرعون موسى. ولا يتعلق البيان القرآني بتفصيلات جزئية من اسم فرعون أو زمنه أو تاريخه، وإنما تتجه العناية إلى ما هو مناط عبرة من جوهر القصة: لقد تهيأ لفرعون من ملك مصر وخيرات أرضها الطيبة ما لم يتح مثله لملك غيره، وآتاه الله ملأه من فضله، زينة وأموالاً (يونس 88) . فعلاً وتجبر واسرف (القصص 4، يونس 83) وأخذته العزة بالإثم فطغى (طه 24، 43، والنازعات 17) وتطاول فأمر "هامان" أن يبني له صرحاً لعله يبلغ أسباب السماء (غافر 36، والقصص 38) . وحين دعاه موسى إلى عبادة رب العالمين، قال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ ونادى في قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ؟ (الزخرف 51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص 38) {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} (المزمل 16) {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف 130) {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف 137) وكل هذه الآيات في فرعون موسى. وشاع مع ذلك، إطلاق فرعون على كل طاغية، حملاً على فرعون موسى. وسواء أخذنا "فرعون" في آية الفجر على أنه فرعون موسى، أو طاغية مثله من الفراعين، ففيما قص علينا القرآن من نبأ عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، ما يغنى عن مزيد تفصيل لم يشأ البيان القرآني أن يعرض له. ولا وجه لافتراض أن يكون المصطفى عليه الصلاة والسلام أو قومه الأميون الذين نزل فيهم القرآن عصر المبعث، قد علموا من تفصيل أنباء الأولين أكثر مما تزل به القرآن، ونخن نتلو ما عقب به على أنباء قوم نوح وعاد وثمود ومدين، في سورة هود: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 49. فمن أين جاءت كل هاتيك التفصيلات والحكايات التي حشيت بها كتب التفسير، ولا علم للرسول عليه الصلاة والسلام وقومه إلا بما نزل به القرآن، إلا أن تكون من الإسرائيليات التي أقحمها نفر من يهود، على فهمنا لكتاب ديننا، وأضافوا إلى ما جاء في التوارة منها، مرويات أسطورية لا يقبلها عقل ولا يعرفها تاريخ؟ * * * ويتجه البيان القرآني، بما لفت إليه مما فعل ربك بعاد وثمود وفرعوم، إلى مناط العبرة وجوهر الموقف، اتجاهاً صريحاً مباشراً: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . وفي الذي تقدم من تدبر لآياتهم في الفجر، مع الاستئناس بما جاء فيهم في القرآن الكريم، ما يغني عن طول وقوف عندما تأوله المفسرون في تحديد أنواع فساد أولئك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الطغاة ومعاصيهم وما نزل بهم من نقم. والطغيان تجاوز الحد، وأصل استعماله في الماء يطغى فيغرق، ومنه في القرآن الكريم في الطوفان (آية الحاقة 11: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . ثم شاع استعماله في كل ما جاوز الحد من جبروت العتاة، وقد سبق تدبره في تفسير آية النازعات خطاباً لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . وللغويين والمفسرين في إعراب جملة {الَّذِينَ طَغَوْا} ثلاثة أوجه: النصب على الاختصاص بالذم. والرفع على تقدير مبتدأ محذوف: هم الذين طغوا. والجر على الوصف. والأوجه الثلاثة تقبلها قواعد الصنعة الإعرابية، لكن البيان الأعلى لا يراها متماثلة، بل لابد أن يكون وجه واحد منها أقوى في المعنى. ونرى ربطه بالصلة على وجه الإتباع لما قبله، أولى من الاختصاص، ومن الخبرية التي تحتاج إلى تقدير مبتدأ محذوف يفصل الجملة عما قبلها بابتداء مستأنف. وأصل الصب في اللغة إراقة الماء ونحوه مع تدفق: تصبب الماء وأنصب في الوادي أنحدر. ويطلق على ما يبقى منه: صبة وصبابة، ومن ثم تستعمل في بقية الشيء المادي والمعنوي. وجاء الصب في القرآن، فعلاً ومصدراً، خمس مرات: اثنتان منها على الأصل اللغوي في الماء بآية (عبس) {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} ومرتان في صب الحميم وعذابه بالجحيم في آيتى (الدخان 48، والحج 19) وصب سوط عذاب في آية الفجر. والسوط أداة الضرب المعروفة، وإذ غلب استعماله في التعذيب، صار الضرب بالسوط مثلاً لأليم العذاب. أخذه بعض اللغويين من: ساط يسوط بمعنى خلط. قال الليث: "ساطه إذا خلطه بالسوط، ومنه قول الشاعر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا تزايلن حتى ما يمس دم دما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ولا حاجة إليه، مع ما شاع من استعمال السوط في الأداة المعروفة للضرب والجلد والتعذيب. والأصل في السوط أن يضرب به، لكن البيان القرآني عدل عن الأصل إلى صب {سَوْطَ عَذَابٍ} فوصل بالتعذيب والعقاب إلى أقصى المدى، بما يعني الصب من تدفق وغمر، مع إسناده إلى "ربك" الخالق الجبار. ثم كانت إضافة سوط إلى عذاب مع التنكير، إطلاقاً له في الترويع، يذهب فيه التصور كل مذهب. وهذا أولى من تأويل "ابن القيم" في تنكير سوط عذاب: "ونكره إما للتعظيم، وإما لأن يسيراً من عذاب استأصلهم ولم يكن معه بقاء ولا ثبات". * * * {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . الرصد المراقبة، والمرصد والمرصاد الطريق أو المكان يرصد منه. وقد يغلب استعمال الأول قياسياً مفتوح الميم والصاد، في المصدر الميمي واسم المكان، ويكثر استعمال المرصاد في الترصد والمراقبة الشديدة. وفي القرآن الكريم، جاءت المادة ست مرات كلها في المراقبة الشديدة التي لا تفلت شيئاً مما يرصد بالسمع أو بالبصر، منها آيتا الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 9. {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 27. وىيتا التوبة في رصد العدو وإرصاده: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 107. والمرصاد بآيتى النبأ والفجر، في سياق النذير بالعذاب للطغاة: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . نستأنس بهما معاً في لمح الملحظ القرآني في استعمال هذه الرقابة على الطغاة بالمرصاد، دون أن نخوض في الخلاف: هل الآية في العصاة والكافرين أو في عامة الناس، المؤمنين والكافرين؟. إذ المقام أولى بالطاغين. كما لا مجال عندنا لمثل ما تأولوه في هذه الآية، من قناطر ثلاث على جهنم: "قنطرة عليها الأمانة إذا مروا بها تقول: يارب هذا أمين،، وهذا خائن. وقنطرة عليها الرحم تقول: يارب هذا واصل وهذا قاطع. وقنطرة عليها الرب". فالآية لن تتعلق بذكر قناطر، ثلاث أو أقل أو أكثر، والنص صريح على أن "ربك" هو الذي بالمرصاد للذين طغوا في البلاد، لا تخفي عليه سبحانه منهم خافية، ولا يفلت شيء من رقابته تعالى وعلمه. * * * وكما ارتبط هذا البيان لمصير الطغاة بالآية قبله {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} يرتبط الآيات بعده، على وجه العظة والإعتبار، في الإنسان المبتلى بالنعمة أو بالحرمان: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} . والابتلاء الإمتحان، يكون بالنعمة والخير كما يكون بالحرمان والشر: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء 35) والإكرام العطاء والتشريف للمكرم، وهو من المكرم جود وفضل. والإهانة الإذلال. والقدر في اللغة المقدار لا يتجاوز حقه. يقال قدرت الثوب إذا جاء على مقداره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 لا يزيد. والقدر والتقدير قياس الشيء على قدره، مادياً ومعنوياً. ومنه في القرآن الكريم آيات: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام 91 والزمر 87 والحج 74) {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (سبأ 11) ومنه جاء القدر في القضاء والحكم، والقدرة في الطاقة المكافئة لاحتمال العبء، والتقدير إحكام وزن الأمور وضبط مقاييسها. و"القدير، والقادر" من أسماء الله الحسنى، وهو تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} . ومن ملحظ القدرة واإحكام جاء القدر بمعنى المكانة الجليلة السامية. ومنه "ليلة القدر". وبملحظ من عدم التجاوز في التقدير، جاء القدر مقابل البسط والتوسع، ومنه في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (في آيات: سبأ 36، 39، الرعد 26، الإسراء 30، الوم 37، الزمر 52، الشورة 12) . والقدر فيها مقابل للبسط. وجاء مقابلاً للسعة في النفقة بآية الطلاق 7: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وبهذا المعنى نفهم آية الفجر: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بمعنى أعطاه بقدر على غير بسط وسعة. والإنسان في الآية، لعموم الإنسان على الإطلاق، وإن خصه بعض المفسرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 بنفر قيل إن الآية نزلت فيهم: عتبة بن أبي ربيعة وأبو حذيفة بن المغيرة في رواية عن "ابن عباس" أو أبي بن خلف فيما روع عن "الكلبي ومقاتل". وقد جهد المفسرون في تأويل وجه الإنكار في قول المنعم عليه: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} . وفيه إقرار بالنعمة، وقول من قدر الله عليه رزقه: {رَبِّي أَهَانَنِ} وفيه إقرار بأن الله هو الذي يبسط الرزق ويقدر. تأوله بعضهم بأن الإكرام والإهانة لا يكونان في الدنيا، وإنما العبرة بما ينال الإنسان في الآخرة. وقريب منه القول بأن الإكرام إنما يكون بالطاعة، والإهانة تكون بالعصيان. وهذا التأويل هو ما اختاره الإمام الطبري، ومثله في (البحر المحيط) . وقيل إن الإنسان لا يدري حقيقة النعم والنقم، فقد يكون ما يبدو نعمة وبالاً على صاحبه، ما يبدو نقمة خيراً له، إذ يجول الإنغماس في النعم دون العكوف على الطاعات، كما قد يؤدي الحرمان إلى الزهد والتعبد. أو أن النعمة تجعل فراق الدنيا صعباً قاسياً، والحرمان يجعل الحياة هينة وفراقها بالموت غير صعب. أو ربما كانت كثرة النعم سبباً للتعرض للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب، وكلن الحرمان سبباً للسلامة والأمن وراحة البال. وقيل بل أنكر سبحانه أن يكون حمد الإنسان على نعمه تعالى دون فقره، وشكواه الفاقة. وكان ينبغي أن يحمد خالقه على الأمرين جميعاً. ونحلص من هذه التأويلات إلى تدبر البيان القرآني. فنرى السياق صريحاً في أن الأمر في الإكرام والنعمة وفي التضييق في الرزق، إنما هو إبتلاء يمتحن به الإنسان ليعرف مدى صبره على فتنة النعم وبلاء الحرمان، ولتنكشف حقيقته في أداء حق النهمة والصبر على الضيق. ووجه الزجر والإنكار، أن يتوهم المنعم أن الله. أكرمه ونعمه إلا لأنه أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لذاك، وأن يظن المبتلى بالتضييق أن هذا لهوان أمره على ربه تعالى. كلا، ليس الأمر في الحالين على ما تصوره هذا الإنسان، فالله سبحانه وتعالى إنما يبلوه بالشر والخير فتنة. وذلك ما انتهى إليه ابن القيم بقوله: "وأخبر تعالى أن توسعته على من وسع عليه وإن كان إكرامأ له في الدنيا فليس ذلك إكراماً على الحقيقة ولا يدل على أنه كريم عنده من أهل محبته، وأن تقتيره على من قتر عليه لا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع ويقتر ابتلاءً وامتحاناً. فيبتلى بالنعم كما يبتلى بالمصائب". وبعد سورة الفجر، نزلت آيات محكمات في مثل هذل الإبتلاء، وأكثر ما يكون بالنعم والمال يمتحن الإنسان فيكشف عن خيريته وإيثاره أو غروره وأثرته، وبالفقر والحرمان يبلو تعففه وصبره أو ذلته وقنوطه. وبالجهاد يكشف عن ثباته وصدق إيمانه أضعفه وتخاذله، كآيتى القتال (محمد) : {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} - 4. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 31. ومن الإبتلاء جاء البلاء في المصائب ومواقف الشدة امتحاناً لطاقة الإنسان ومعدنه، كالذي في آيات: (الأعراف 141، إبراهيم 6، البقرة 49) . والإبتلاء في سورة الفجر، إنما هو بالنعمة من حيث هي ذريعة ترف وفساد في الأرض، وبالإكرام من حيث هو منظة غرور وأثره واستكبار وتعال على الناس وعدوان على حقوقهم بدعوى الأهلية للتشريف والإكرام من الله. وكذلك الإبتلاء بالحرمان والضيق في الرزق، من حيث هما مظنه الشغف بالدنيا واشتهاء ما لم يتح للمحروم من ملاذها، والإحساس بهوانه على ربه الذي قسم الرزق، يبسطه سبحانه على من يشاء ويقدر .... * * * {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} . التراث ما يقتنى بالميراث. وأصل اللم في اللغة، جمع الشتيت والمشعت. واللمة الجماعة تأتي من جهات شتى. وألم بهم جاء من غير وجه متوقع، ومنه استعمل في المصائب الملمات. واللمم خبال يلم بالعقل، والملموم المجنون. واستعمل اللمم في صغار الذنوب، مما لا يظن أنها تدخل في الحساب. وكونهم يأكلون التراث أكلاً لماً، فيه ملحظ من مادية الأكل ومذاق طعمه، فيمن يتهالكون على انتهاب التراث وجمعه دون نظر إلى وجهه ومصدره. والعرب تقول لملمت ما على الخوان، إذا أكلته كله فأتيت عليه. وقد تأوله المفسرون بأنه: "الاعتداء على الميراث. يأكل الإنسان فيه نصيبه ونصيب غيره، وكانوا لا يورثون النساء والصغار، فيأكلون نصيبهم يقولون: لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة". وقيل: كانوا يأكلون ما جمعه الميت من أموال الظلمة والبطالين، وهو عالم بذلك. وأخذه "الراغب" من: لممت الشيء جمعته ولممت شعثه. وأولى منه ما اختره "الإمام الطبري" وهو أكل الميراث لا يسأل عن وجهه ولا يدري أحلال هو أم حرام، إرضاء لشهوة حب المال. وبهذا البيان المحكم، ترتبط الآيات التي لفتت ذا حجر إلى مصير الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بفتنة المال وشر الفردية التي لا يعنيها إلا التكالب على حطام الدنيا في أثرة خاسرة تهين اليتيم ولا تخض على التكافل الإجتماعي، وأكل التراث أكلاً لما لا يميز بين طيب منه وخبيث، بين حلال وحرام، وحب المال حباً جماً يعطل الضمير ويعشى البصيرة ويحجر القلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وإن في ذلك لعبرة لكل ذي حجر. * * * {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . الدك لغة الهدم، وتسوية ما ارتفع من الأرض كالجبال والمباني، بما انخفض كالخور والقيعان والوديان. والذكاء الناقة لا سنام لها. وك البئر طمها ودفنها. وباستثناء آية الأعراف 143 التي جاء فيها للجبل حين تجلى الله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . يأتي الذك يوم القيامة، من أحداث الساعة وأهوال البعث والحشر: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة 14، ومعها الكهف 98) وكذلك الدك في آية الفجر، للأرض دكا دكا، يوم القيامة. وقد نقل الطبير من الأقوال في تفسيرها: دكت، رجت وزلزلت وحركت تحريكاً بعد تحريك. وقال الزمخشري: دكا بعد دك، كرر عليها الدك حتى عادت هباء منثوراً. وكأنهم حملوا تكرار الدك، على المرة بعد المرة. والأقرب أن يكون من التأكيد. وأحداث قيام الساعة لا تقتصر في القرآن الكريم على دك الأرض، فلعل إيثاره بالذكر هنا - والله أعلم - أن الأرض هي مكان ما يحشده المتكالبون على الجدنيا من زخرف ومتاع، ومن يشيدونه عليها من المباني ذات العماد والأوتاد. وبناء الفعل للمجهول، يتسق مع الظاهرة الأسلوبية التي يطرد فيها صرف النظر عن الفاعل، في أحداث الساعة. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 والصف مصدر يصف، وواحد الصفوف. ومن استعمالاته الحسية في اللغة: الصفيف ما صف في الشمس أو على النار لينضج. وتصافوا في القتال انتظموا صفوفاً. وصف الطائر جناحيه بسطهما، والمصفوف ما نسق وصف. ومنه في القرآن الكريم: صافات: للطير تبسط أجنحتها بآيات: (الصافات 1، الملك 19، النور 41) الصافون: جمع صاف. بآية (الصافات 165) صواف: في الشعائر من البدن. بآية (الحج 36) مصفوفة: وصفاً لسرر الجنة ونمارقها: (الطور 20، الغاشية 15) وجاءت صيغة "صف" سبع مرات، كلها منصوبة على الحال، فيما نرجح. منها آيتا _طه والصف) في الحشد والتجمع: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . 64 {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 4. وآية الكهف 48 في الكافرين، يوم القيامة: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} . وآيتا النبأ والفجر: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} 38. {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . بمعنى الجمع المنسق. وقد وقف المفسرون هنا عند {وَجَاءَ رَبُّكَ} وكأنهم كانوا في حاجة إلى التصريح بأنه "ليس مجئ نقله، والحركة عليه محال لأنها تكون من جسم والجسم يستحيل أن يكون أزلياً". ومن ثم تألوه على أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 أنه على حذف مضاف أقيم المضاف إليه مقامه، وتقديره: جاءت أمر ربك، أو جاء قهر ربك. وعند الزمخشري "أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وسلطانه، بحال الملك إذا حضر بنفسه وظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر إلا بحضور عساكره ووزرائه وخواصه". وهو تأويل ينبو عنه الحس، إذ لا وجه لتمثيل مهابة الله تعالى والملك، بحال ملوك الدنيا "فلا تظهر هيبتهم إلا بحضور عساكرهم ووزرائهم"! كما لا مجال لتمثيل ذلك الموقف المهيب في الآخرة، بمواكب الملوك في الدنيا. وبعدي كذلك، قول من تأولوا "ربك" في الآية: "ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة، هو مرب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، المراد من قوله تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ} . وتأباه الآية نصاً وسياقاً، كما يجفوه حس البيان العربي لا يرى في مجئ الله إلا تجلياً مهيباً يوم يقوم الناس لرب العالمين. * * * {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . قال الأصوليون فيها: معلوم أن جهنم لا تنفك عن مكانها، فالمراد: وبرزت. ثم ما أكثر ما جاء به المفسرون بعد ذلك من عجيب التأويلات والمرويات عن غيب لم يشر إليه القرآن من قريب أو بعيد! تأوله جماعه، قالوا: "جيء بجهنم مزمومة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع". ومثله غرابة وبعداً، ما نقله الإمام الطبري من قول الضحاك بن مزاحم: "إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء فنزل من فيها من الملائكة وأحاطوا بالأرض ومن عليها وصفوا صفاً. ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندوا فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 التَّنَادِ} ، {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وعن "ابن عباس": "إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها فيجئ الله والأمم جثى صفوفاً، وينادى مناد: "ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال فيقومون فيسرحون .... " وعن "ابن كعب القرظي" يرفعه إلى أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توقفون موقفاً واحداً يوم القيامة مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم. قد حصر عليكم فتبكون حتى ينقطع الدمع ثم تدمعون دماً .... فتضجون ثم تقولون: من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ ويأتي أبوهم آدم فيأبى، ثم يأتون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاءوا نبياً أبى، حتى يأتوني فإذا جاءوني خرجت حتى آتى الفحص قدام العرش فأخر ساجداً فلا أزال ساجداً حتى يبعث الله إلى ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فأقول: يارب وعدتني الشفاعة، شفعني في خلقك فاقض بينهم. فأنصرف حتى أقف بين الناس فبينا نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فهالنا، فنزل أهل السماء يمثلى من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت بنورهم وأخذوا مصافهم ..... ". ويعفينا الدرس البياني للقرآن الكريم، من تعقب هذه المرويات والنظر في أسانيدها ورواتها عند أئمة النقاد وأصحاب الصحاح. حسبنا أن نقول إن مجئ جهنم هنا، هو على وجه التشخيص والتجسيم والفاعلية، وهذه ظاهرة بيانية مطردة في أحداث اليوم الآخر، عرضنا لها بمزيد تفصيل في تفسير "سورة الزلزلة". وكما عرضت جهنم {يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} في آية الكهف، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} في آية النازعات، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} في آية الشعراء، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} في آية النبأ. جيء بجهنم هنا، تجسيماً للهول الأكبر بالتشخيص والإبراز. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . وجه القول هنا على التحسر كما حمله الزمخشري في (الكشاف) وإن استطرد فتأوله، على مذهب الإعتزال: "بأن فيه دليلاً على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم. وأنهم لم يكونوا محجوزين عن الطاعات مجبورين على المعاصي وإلا فما معنى التحسر؟ ". وندع الخوض في مشكلة الجبر والاختيار، ونقبل توجيه القول في الآية على التحسر. وفي التحسر معنى الندم والإقرار بأن ما فات هيهات أن يعود. ثم نخلص للملاحظ البيانية، فنقول: أنى للبعد، وليت للتمني في البعيد والمستحيل، والإنسان يخصصه السياق بمن تصدق عليه الآيات التي سبقت من سورة الفجر. يتمنى هذا الإنسان، الذي غرته الدنيا وغره بالله الغرور، يوم تقوم القيامة ويتحقق ما طالما استبعده أو نسيه، لو أن له كرة فيقدم لحياته من صالح الأعمال ما يتقى به هذا العذاب الأكبر. واستغنى البيان القرآني عن تحديد "حياتي" فاختلف المفسرون بين أن يكون المراد بها حياتي الآخرة، أو وقت حياتي الأولى في الدنيا، أو في القرالذي كنت أكذب به؟. والأولى أن تحمل على الحياة الأخرى الباقية، فما كانت الدنيا سوى رحلة عابرة لحياة فانية، لا يبقى منها سوى ما يتزود به الإنسان لأخراه، حين لا يجدى تحسر على ما ضاع، أو تمن لاستدراك ما فات، وقد قضى الأمر وفات الأوان. * * * {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قراءة الجمهور بكسر الذال والثاء في الفعلين، على البناء للمعلوم، وهي التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 أجمع عليها قراء الأمصار الأئمة، عدا "الكسائي" فإنه قرأهما بالفتح، على البناء للمجهول، اعتلالا منه بخبر روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأة كذلك. وقال "الطبري" فيه: إنه واهي الإسناد. وإسناد فعل التعذيب والإيثاق إلى الله تعالى، يبلغ به الترويع منتهاه، في موقف الحساب والجزاء والعقاب، بعد أن قامت القيامة ووقعت الواقعة. وقد جاء التعذيب في القرآن الكريم إحدى وأربعين مرة، كلها مسندة إلى الله سبحانة باستثناء آيات: في وعيد سليمان للهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (النمل 21) وفي ذي القرنين: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} (الكهف 86، 87) وفي قراءة آية الفجر بالفتح، على البناء للمجهول، قيل احتجاجاً لها: "كيف يجوز الكسر ولا معذب يومئذ إلا الله؟ " وهو قول فيه أثر الصنعة البلاغية التي تبنى للمجهول للعلم بالفاعل، ويفوتها استقراء آيات الكتاب المحكم الذي لم يأت فيه فعل العذاب إلا مبنياً للمعلوم: "عذب، عذبنا، نعذب، يعذب" مع الإسناد إلى الله سبحانه، سواء أكان العذاب في الدنيا أم في الآخرة، في المرات التي قاربت أربعين موضعاً. ويأتي وصف عذاب الآخرة في القرآن الكريم، بأنه أشد العذاب، والعذاب الأكبر، وهو عذاب مهين، أليم، عظيم، مقيم، نكر، عذاب النار وعذاب الحريق. وقيل إن الضمير في "عذابه" بآية الفجر، عائد على "أبي بن خلف خلف، نزلت فيه الآية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 واللفظ، في سياق آيات الفجر، يعم كل إنسان نكص عن تكاليف إنسانيته وتخلى عن أداء حق الله والجماعة، فهو ممن لا يكرمون اليتيم ولا يحاضون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلاً لما، ويحبون المال حباً جماً. وتأوله بعض المفسرين بأنه لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر، فسحبوه إلى الماضي بلفظ الدنيا. وهو قول واهٍ تضعفه الظرفية للمستقبل في "يومئذ" كما لحظ أبو حيان في البحر المحيط. وقيل إن المعنى: يومئذ لا يكل الله سبحانه عذابه ولا وثاقه إلى أحد سواه، لأن الأمر يومئذ لله وحده. وهو ما اختاره أبو حيان. والنص يحتمله، وإن يكن في غنى عن تقييد وتأويل، فهو العذاب الذي لا يماثله عذاب!. * * * وبعد هذا الوعيد الرهيب، تأتي خاتمة سورة الفجر فتبقى على الإنسانية ثقتها في إمكان اتقاء ذلك المصير الخاسر والعذاب الأكبر، وتفسح لها مجال الأمل في خير مصير: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} . قرأ الجمهور بتاء التأنيث في النداء. وفي قراءة "زيد بن علي": "يأيها النفس" قال أبو حيان: "ولا أعلم أحداً ذكر أنها تنذكر من المنادى المؤنث، إلا صاحب البديع. وهذه القراءة ذاهدة بذلك". ثم التمس لها أبو حيان وجهاً من القياس، وهو أن "أيها، لا تثنى ولا تجمع في نداء المثنى والجمع، فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث". وقد فات أبا حيان هذه المقايسة أن نداء المثنى والجمع بـ "أيها" يطرد في نداء المذكر. وأما مثنى المؤنث وجمعه، فإن تاء التأنيث قلما تنفك عن ندائها مثنى أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 جمعاً: أيتها. وإثبات التاء في ندائهما بـ: أيتها، مع بقائها على الإفراد، أقرب إلى أن يكون وجهاً للقياس في تأنيث "أيتها" لنداء المؤنثة، من حيث بقيت التاء في نداء مثناها وجمعها، وأداة النداء فيهما على الإفراد. ولا خلاف عند المفسرين في أن اطمئنان النفس هو أمنها وسكينتها. لكنهم اختلفوا بعد ذلك في تأويل وجه الاطمئنان في الآية. قيل: المطمئنة التي لا يتفزها خوف ولا حزن. وقيل: إنها لا تصير أمارة بالسوء (الراغب) . وقيل: المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك. أو هي التي اطمأنت إلى لقاء ربها، وإلى وعده أهل الإيمان من الكرامة في الآخرة. أو هي المصدقة المؤمنة بأن الله ربها، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها (الطبري) . كما اختلفوا في تحديد وقت الطمأنينة: هل تحصل للمؤمن عند الموت، وقت خروج نفسه وسماعه البشرى برضى ربه عنه؟ أو تكون الطمأنينة عند البعث ويوم الجمع؟ أو عند دخول الجنة لا محالة؟ كذلك اختلفوا في توجيه الخطاب في صدر الآية بالنداء: "إما أن يكون كلاماً من الله إكراماً للمؤمن كما كلم الله موسى عليه السلام، وإما أن يكون الكلام على لسان ملك". وهي وجوه محتملة والأولى الإطلاق ليعمها دون قيد أو تحديد. وحسبنا أن نتدبر موضع العبرة وأسرار البيان: الفعل "اطمأن" في العربية من أفعال القلوب، بمعنى أنه لا يكون إلا من القلب وفيه، حين تنتفى هواجس الحيرة والشك والقلق والخوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وكذلك تأتي الطمأنينة في القرآن الكريم، سكينة معنوية، عن راحة البال وهدوء النفس والقلب. وقد جاء الفعل منها في القرآن الكريم ثماني مرات، خمس منها بصريح الإسناد إلى القلوب في سياق البشرى بنصر المؤمنين: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} (آل عمران 126) (الأنفال 10) وفيما نجد القلوب من راحة الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد 28) ومعها آية البقرة 260، فيما التمس إبراهيم من راحة القلب واطمئنانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . واقترنت الطمأنينة بالأمن في آية (النحل 112) وعدم الخوف من العدو في الحرب (النساء 103) . وهي في آية الفجر صفة للنفس، إيذاناً صريحاً بأن العبرة في الطمأنينة بسكينة النفس. وهذا يعفينا من التعرض لما أثار الكلاميون والفلاسفة والمجسمة من جدل حول هذه النفس المطمئنة، مما فصله الفخر الرازي في تفسيره. فهل تكون طمأنينة للجسم إذا أعوزتها راحة النفس واطمئنان القلب؟ إن الأمر هنا لا يخرج عن مألوف حس العربية الأصيل في كل الأفعال التي تعرف بأفعال القلوب، كالخشوع والثقة والإيمان واليقين. وكما اقترنت طمأنينة القلب بالبشرى في آيتى آل عمران والأنفال، وبحسن المآب في آية الرعد، وبالأمن من الخوف في آيتى النحل والنساء، جاءت النفس المطمئنة هنا مقترنة بالرضى، في سياق البشرى بحسن المآب، بعد كل الذي سبق من آيات الاعتبار بمصير الطغاة {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 عَذَابٍ} ومن نذير ووعيد لمن أغواهم حب المال وفتنتهم النعمة وأعمتهم الأثرة فضلوا ضلالاً بعيداً. * * * وفي قوله تعالى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} . نقل الإمام الطبير من تأويلهم لها: قيل: إنه أمر لنفس المؤمن في جسد صاحبها. وتأولوا {رَبِّكِ} بمعنى صاحبك! وقال آخرون: إن الأمر بالرجوع يكون عند الموت، ثم {ادْخُلِي جَنَّتِي} يوم القيامة. فباعدوا بين المعطوفين بالواو، وجعلوا أحدهما عند الموت، والآخر عند نهاية المصير في الجنة! واختلفوا كذلك في تأويل {عِبَادِي} . قيل إنه بمعنى عبادي الصالحين، أو فادخلي في طاعتي، أو في حزبي. واختار الإمام الطبري أن تكون بمعنى: فادخلي في عبادي الصالحين. والمقام مستغنٍ عن وصفهم بالصالحين، إذ لا تكون النفس المطمئنة الموعودة بدخول الجنة، إلا من عباد الله الصالحين، ونظيره في القرآن الكريم آيتا الزمر 17: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} والزخرف 68: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} . ورضى النفس المؤمنة في رضى الله، فهي راضية مرضية. * * * وأقول هنا، ما قلت في سورتى التكاثر والبلد، ثم في سورة العصر: هذه سورة مبكرة من العهد المكي الذي اتجهت فيه عناية القرآن الكريم إلى تقرير أصول الدعوة، توجه إلى تحرير البشرية من أوضاع فاسدة، وتقرر مسئولية الإنسان عنها، فتصل في رياضته إلى المدى الذي يصير فيه أداء حق الجماعة ديناً وعقيدة، وتكون طمأنينة النفس هي الزاد الذي يتزود به الإنسان لمصيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وكل نفس ذائقة الموت. فأي عزاء يمكن أن يجده الإنسان المؤمن إذ يواجه هذا القضاء المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب، إلا أن يتلو آيات الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 سورة الهمزة بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 السورة مكية. والمشهور في ترتيب نزولها أنها الثانية والثلاثون. * * * قيل نزلت في "الأخنس بن شريق" كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل نزلت في "الوليد بن المغيرة المخزومي" كان يغتاب المصطفى عليه الصلاة والسلام من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقال محمد بن إسحاق في السيرة النبوية: "مازلنا نسمع أن هذه السورة نتزلت في أبي بن خلف". وأياً من كان الذي نزلت فيه السورة، فالنذير عام لكل همزة لمزة. وهذا هو الصواب عند الإمام الطبري. وقال الزمخشري في (الكشاف) ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً ليتناول كل من باشر ذلك القبيح. * * * ويل: كلمة عذاب وسخط. ويكثر استعمالها مع هاء الندبة في التفجع عند الكوارث. وتأولها بعض المفسرين في آية الهمزة، بأنها "واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيحهم". ونستقرئ مواضع الاستعمال في القرآن الكريم للكلمة، فنجدها في أربعين موضعاً. منها ثلاث عشرة مرة، معرفة بالإضافة، في موقف التحسر والتفجع والندبة، بآيات: (القلم 31، هود 72، الفرقان 28، الكهف 49، الأحقاف 18، طه 61، القصص 80، الأنبياء 14، 46، 97، يس 52، الصافات 20، المائدة 31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وباقي الآيات الأربعين، في سياق النذير من الله سبحانه. وباستثناء آية الأنبياء: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} معرفة بأل، جاءت "ويل" نكرة، بمثل الأسلوب في آية الهمزة. والنذير في كل آياتها من الله سبحانه، بويل، للكافرين، والمشركين، والمكذبين، والظالمين، والمطففين، والمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، والقاسية قلوبهم، وكل أفاك أثيم، وكل همزة لمزة. والوعيد فيها بويل: من مشهد يوم عظيم، ومن النار، وعذاب أليم، ومن يوم الدين، ويومهم الذي يوعدون، والنبذ في الحطمة. وفي هذا الاستقراء ما يكفي إدراكا لما للفظ ويلٍ من رهبة، وما يثير من خوف ورعب، دون أن نحتاج فيه إلى تأويلٍ بوادٍ في جهنم يسيل قيحاً، أحسبه من الإسرائيليات التي أدخل فيها اليهود عناصر من وصفهم لجهنم. * * * ولم تأت "هُمزَة" بهذه الصيغة في القرآن الكريم إلا هنا، وإن جاء من مادتها صيغتان أخريان: هماز: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (القلم 11) وهمزات: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (المؤمنون 97) * * * كذلك لم تأت صيغة "لُمَزَة" في القرآن كله إلا في آية الهمزة، وجاء الفعل مضارعاً في ثلاث آيات: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات 11) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة 58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ومعها آية (التوبة 79) في اللمز في الصدقات أيضاً. وهذا هو كل ما في القرآن الكريم من مادتي الهمز واللمز. * * * ولا خلاف، أعلمه، بين اللغويين والمفسرين، في أن مثل صيغة همزة ولمزة، تستعمل فيمن يكثر منه فعلها حتى كأن ذلك عادة منه قد ضرى بها. . . ولكنهم لم يتفقوا على الدلالة، فمنهم من لا يفرق بين الهمزة واللمزة. ومنهم من يجعل الهمز للتحقير والعيب في الغيبة، أو التعريض بالإشارة والكلام المبهم، أما اللمز فهو التحقير والهزء صراحةً ومواجهةً. ومنهم من عكس الوضع، فجعل اللمز في الغيبة، والهمز في المواجهة والحضور. ونحتكم إلى القرآن الكريم فيجلو لنا الفرق بين اللفظين في الدلالة، حين يستعمل الهمز لوسوسة الشيطان (المؤمنون) والنميمة (القلم) . وفيهما الخفاء والغيبة. أما اللمز فيستعمله مع التنابز بالألقاب (الحجرات) وفي الاعتراض على تقسيم الصدقات (التوبة) . ولا يكون ذلك إلا مواجهةً. وهذه التفرقة تؤكد أصالة الاستعمال اللغوي الذي فرقت فيه العربية بين المادتين: فاستعملت اللمز في الضرب والطعن. واستعملت الهمز حسياً في الهمزة للنقرة والمكان المنخسف، والمهماز حديدة في مؤخر خف الذي يروض الفرس، والمهامز مقارع النخاسين ينخسون بها الدواب والرقيق. ولا يكون النخس في العربية إلى في مؤخر الدابة أو جنبها دون وجهها وصدرها. وبهذا كله نستأنس في فهم الآية، فلا نذهب مع الشيخ محمد عبده إلى "أن الهمز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 يكون بالعين والشدق واليد، حركات إلى التحقير والهزء، واللمز يكون باللسان". وإنما نطمئن إلى أن الهمزة هو الذي يدأب على تحقير الناس والإيغال في تجريحهم من خلف ظهورهم، واللمزة الذي يدأب على مواجتهم بكلمة السوء تحقيراً لهم وغضاً من شأنهم. * * * ويصل القرآن الكريم، الكلام عن كل همزة لمزة: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} . قرأ "ابن عامر، وحمزة، والكسائي": {جَمَّعَ} بتشديد الميم. والباقون بفتحها. وأما {وَعَدَّدَهُ} فلا خلاف بينهم فيه، وهم مجمعون على قراءته بالتشديد إلا ما روى عن قراءة فيها بتخفيف الدال، بإسناد غير ثابت. قال الإمام الطبري: "وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعة ذلك". وعلى قراءة الجمهور: قال الإمام الطبري في تفسير الجمع: "جمع مالاً وحفظه وأحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولم يؤد حق الله فيه". وفرق الفخر الرازي بين القراءتين، فقال: "إن جمع بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا، وأنه لم يجمعه في يوم واحد ولا في يومين ولا في شهر ولا في شهرين. وأما جمع بالتخفيف فلا يفيد ذلك ...... وقوله تعالى: وعدده، فيه وجوه: أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة لحوادث الدهر، أو هو من العد والإحصاء. أو - على القراءة بالتخفيف - جمع المال وضبط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 عدده، أو هو من قولهم: فلان ذو عدد". والجمع في اللغة ضد التفرق، مع ملحظ من التفاوت بين أفراده: يطلق اسماً على المجموع وعلى الجماعة من الناس أو غيرهم. وجماع الناس أخلاطهم من قبائل شتى. والمجتمع ما اجتمع من الرمال من هنا ومن هناك. والجمع صنف من التمر أو النخل خرج من النوى لا يعرف اسمه. ويأتي الجمع مصدراً، بمعنى لم الشتات المتفرق أفراداً. والإجماع اتفاق الجماعة على رأي أو عمل، وتجمعوا اجتمعوا من ومن هناك. وفي النصطلح الديني سميت صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة باجتماع الناص على اختلافهم للصلاة، كما سمى اليوم الآخر يوم الجمع، يجمع الناس على اختلاف أجناسهم وأممهم وطبقاتهم وعقائدهم. ويلحظ في الاستعمال القرآني للمادة، أنها تجئ أكثر ليوم القيامة: في نحو أربعين موضعاً. ومن الفعل الثلاثي، جاء جمع، وجميع، وجامع، ومجموع ومجموعون، ومجمع. ولم يأت الفعل "جمع" بتضعيف الميم، في المصدر أو أي مشتق من مشتقاته. وجاء الفعل ثلاثياً ثماني عشرة مرة، لا نخطئ فيها حس العربية الأصيل للمادة، في الدلالة على لم الشتات المتفرق المختلط. منها ثلاث عشرة مرة، الفعل فيها مسند إلى الله سبحانه، ولو شاء لجمع الناس على الهدى ولم يتفرقوا في الدين، وهو تعالى قادر على أن يجمع عظام الإنسان المفتتة بالبلى، وهو يجمع الناس على اختلافهم ليةم الفصل، يوم الجمع {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} والمرات الخمس الأخرى في رحمة ربك {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بآيات (آل عمران 157، ويونس 58، والزخرف32) على ما يفيده الإطلاق من الجمع اللم، وآية (آل عمران 173) في {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 يفيد الجمع من الحشد لشتى الجند والسلاح. ولا يتختلف الملحظ في آية المحارم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وإنما يحل الجمع حين تفترق الدماء وتختلف الأرحام والأصلاب. فملحظ الحشد مع الإختلاط، هو ما يعطيه هذا الاستقراء عن قرب، وبه نفهم آية الهمزة في جمع مال مختلط، والتلهي بتعديده احصاءً وتكاثراً وأثرة، ومعها آية المعارج: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} 18. وإذن فهي فتنة المال ووثنيته، وما تدفع إليه من أثرة وتجبر وخيلاء. وإزدراء للناس وتحقيرهم والغض من شأنهم خفية وعلانية، من وراء ظهورهم وفي وجوههم، من حيث لا يعلمون أو يعلمون. * * * {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} والعربية تستعمل الحساب والمحاسبة حسياً في العد والإحصاء {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . كما تستعمله معنوياً في التقدير والتدبير، وفي المسئولية والمؤاخذة، والحسيب الرقيب المحاسب. ومنه نقل إلى المصطلح الديني في محاسبة الإنسان على عمله "يوم احساب" وأكثر ما يجئ الفعل الرباعي، بهذه الدلالة، مسناً إلى الله تعالى. أما الثلاثي، فالعربية تفرق في مضارعه بين المادي والمعنوي: فيغلب كسر السين للحساب بمعنى العد، وفتحها في معنى التقدير أو التدبير. وخص الحسب بما يعد من مفاخر الآباء. وفي القرآن الكريم: جاء الفعل الثلاثي ثلاث مرة، يؤذن سياقها أنها بمعنى التقدير عن ظن وتصور، كالذي في آيات: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} (النمل 44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ومعها آيتا (الكهف 9 والإنسان 19) ويكثر مجيئه بأسلوب الاستفهام الإنكاري، فيعطيه السياق دلالة ضلال الوهم، والخطأ في التقدير، مثل آيات: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ؟ (العنكبوت 2) {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ؟ (الجاثية 21) {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} (محمد 29) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون 115) ومعها آيات: (العنكبوت 4، البقرة 214، آل عمران 142، التوبة 16) ويتأيد ملحظ استعماله في غير العد الحسابي، بمجئ الفعل المضارع مفتوح السين في آياته الإحدى والثلاثين، في سياق النهي أو التحذير من خطأ التقدير على الظن أو التوهم. والفعل فيخا جميعاً مسند إلى المخلوقين. ويأذن لنا هذا الإستقراء، في حمل "يَحْسب" في آية الهمزة، على التوهم الذي يخطئ حقيقة التقدير، في حسابه أن ماله أخلده. والخلد في العربية البقاء والدوام، استعملته حسياً في الخوالد وهي الجبال الرواسي الثوابت والحجارة والصخور لطول بقائها. ومنه قيل المخلد للرجل الذي أسن دون أن يشيب. والخلود البقاء الدائم، ضد الفناء. والقرآن الكريم يستعمل الخلود بملحظ لا يتخلف، فهم فيه دائماً في سياق الحديث عن الآخرة، إما خلوداً في الجنة والنعيم ودار الخلد، أو خلوداً في العذاب والنار. وحين يستعمله في الدنيا، فعلى وجه النفي والإنكار أن يكون فيها خلود وإنما هي دار فناء. ترى ذلك واضحاً في مثل آيات: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء 34) {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (الأنبياء 8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء 129) ومعها آية الهمزة في {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} فيضله الوهم ضلالاً بعيداً، ويعيمه عن حقيقة الدنيا الفانية التي يتهالك على حطامها. * * * {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} . مع الردع والزجر بـ: كلا، يأتي هذا النبذ في الحطمة. والنبذ في العربية الطرح لما هو هين وحقير، والمنبوذ ولد الزنى، واللقيط الملقى في الطريق. وقبر منبوذ بعيد منعزل. والنبيذة الناقة لا تؤكل من فرط سقمها وهزالها، والأنباذ الأوباش. والانتباذ التنحي والانسحاب إلى مكان مهجور، ومنه في القرآن آيتا مريم {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} ، {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} . والنبذ في الحرب أن يخرج أحد الفريقين إلى حيث انتحى الآخر وانتبذ، ومنه آية الأنفال 58: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وكل ما في القرآن من النبذ، غير آيتى مريم والأنفال، هو من الطرح والنفي، عن هوان بامنبوذ على النابذ. {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (القلم 49) (والصافات 145) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (القصص 40) (والذاريات 40) {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} (البقرة 100) وبكل ما في لفظ النبذ من دلالة على الهوان والضياع، يأتي الفعل في الهمزة، مؤكداً باللام والنون المذددة، وعيداً لعابد المال الذي يحتقر الناس ويزدريهم، ويدأب على تجريحهم همزاً ولمزاً. وقد فسرها الإمام "الطبري" بالقذف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ولمح "الفخر الرازي" ما في النبذ من إهانة. والإهانة أصلية في دلالة النبذ لغة، والبيان القرآني يجلوها على هذا النحو الباهر حين يزجر بها ذلك المتفاخر المتعالي المغرور بماله يحسب لأنه أخلده، وإنما ينتظره خلود آخر مهين أليم، منبوذاً في الحطمة. وأصل الحطم في العربية: التهشيم مع اختصاص بما هو يابس كالعظام، وقيل الحطوم للأسد يحطم كل شيء ويهشمه، وللريح تقوض البناء. والحاطوم والحطمة السنة المشئومة. ورجل حطم يلتهم كل شيء ولا يشبع. وراع حطمة وحطم، كأنه يحطم الماشية عن سوقها، لعنفه. وهذا الملحظ الأصيل من التهشيم مع العنف والقسوة، لا تخطئه في الاستعمال القرآني للمادة، في المواضع الستة التي جاءت فيها: وبصيغة الفعل المضارع في آية النمل 18: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . ولنا أنت نتصور وطأة الحطم من سليمان وجنوده، للنمل مع ضآلة جرمه ووهن قواه. وثلاث مرات بصيغة حطام في آيتى (الزمر 21، والحديد 20) للرزع المصفر اليبيس المهشم، تمثيلاً لحطام الدنيا {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ومعهما آية الواقعة 65. ومرتان بصيغة حطمة التي انفردت بها آيتا الهمزة. قالوا في تفسيرها: هي اسم من اسماء النار، وهي الدركة الثانية من ردكاتها. وفي الطبري عن "مقاتل": تحطم العظام وتأكل اللحم حتى تهجم على القلوب. ورووا فيه حديثاً: "إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر. ثم يرمى به إلى النار". وأخذه الزمخشري في (الكشاف) من معنى النار تحطم كل ما يلقى فيها كالرجل الأكول الحطمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 والقرآن يغنينا عن تأويل بما تولى من بيان الحطمة في الآيات بعدها، وتبدأ بالسؤال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} . والدراية أخص من المعرفة. والخاصة البيانية لهذا الأسلوب: ما أدراك، استعماله فيما يجاوز دراية المسئول: إما لجلال الأمر وعظمة كآيتى: القدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، والعقبة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} . وإما لكونه من الغيب المتعلق بالصبر في اليوم الآخر، يتجاوز دراية البشر ويعييهم إدراكه وتمثله، كآيات: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} (المدثر 27) {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة 1 - 3) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} (القارعة 3، 10) {لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} (الرسلات 14) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (الإنفطار 17، 18) {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (المطففين 8، 18) وفي كل آية من هذه الآيات، يعقب على السؤال المثير {وَمَا أَدْرَاكَ} ؟ ببيان مناط العلو أو الرهبة والهول، فلنا إذن أن نلتمس مثل ذلك فيما تلا آية: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} من بيان لها في الآيات بعدها: * * * {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} . وباستقراء الاستعمال اتلقرآني للنار، نلحظ غلبة مجيئها لنار الجحيم في الآخرة، حيث وردت فيها نحو مائة وعشرين مرة، في مقابل خمس وعشرين مرة للنار في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 الدنيا، إما على الحقيقة في النار المعروفة المعهودة، وإما على المجاز في مثل نار الحرب (المائدة 64) ومع كثرة استعمال النار في القرآن لنار الجحيم، لم تأت مضافة إلى الله تعالى إلا في "الهمزة" فشهد ذلك بفداحة النكر لفتنة المال وما تغرى به من تكبر وبغى، وعدوان وضلال. والإيقاد الإشعال، وأصله في العربية للنار إلا أت يستعمل مجازاً في الفتنة والحرب والضغينة وما أشبهها. وقد جاءت مادة (قد) في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، اثنتان منها على المجاز في آية النور: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} 35. وبآية (المائدة) في اليهود: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} 64. وخمس مرات للنار المعروفة، إيقاداً ووقوداً واستيقادا: (يس 80، الرعد 17، القصص 38، البروج 5، البقرة 17) . وأربع مرات لنار الجحيم {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} بآيات: (البقرة 24، وآل عمران 10، والتحريم 6) . و {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} في آية الهمزة. والمار لا تكون إلا موقدة، فوصفها بالموقدة في مقام النذير، تأكيد للوعيد وإرهاب بهوله. وليس من الضرورى أن نتأول إطلاع نار الله الموقدة على الأفئدة، بأنها: "تعلوها وتقلبها وتشتمل عليها" كما ذهب الزمخشري وأذه الشيخ محمد عبده، ولا بأنها "تأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب" كما نقل الطبري. وأولى من هذا الهجوم والأكل، أن نامح أسرار التعبير في هذا البيان القرآني، فنتدبر موضع الأفئدة هنا، ولا نقول إنها جاءت مكان القلوب لمجرد ملحظ لفظي في رعاية الفاصلة، بل لأن القلب قد يطلق في العربية على العضو العضلي المعروف من أعضاء الجسم، أما الفؤاد فلا يطلق إلا على المعنوي من وضع الشعور والعواطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 والعقيدة والأهواء. وبهذا المعنى جاء الفؤاد في القرآن مفرداً وجمعاً، ست عشرة مرة، ليس فيها ما يحمل على الجارحة، كآيات: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود 120) {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان 32) {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم 11) {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} (القصص 10) {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم 37) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الأنعام 113) {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (إبراهيم 43) والزمخشري التفت إلى أن الأفئدة مواطن الكفر والعقائد الفاسدة، كما قال الشيخ محمد عبده إنها موضع الوجدان والشعور. وبقى أن نلتفت إلى أن هذه المعنويات هي الغالبة كذلك على استعمال القرآن للفظ قلب وقلوب. إذ يأتي اللفظ مع الإطمئنان والسكينة والرحمة والتآلف والخشوع والوجل والفقه والطهر. كما يأتي مع الارتياب واللهو والتقلب والرعب والوجل والخوف والاشمئزاز والقسوة والتكبر والجبروت، والزيغ والمرض والإثم والغفلة والعمى ..... وكلها مما لا مجال له في القلب بدلالته العضوية التي تعرفها له العربية في مألوف الاستعمال ومنه في القرآن آية الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . وإذن يكون إيثار الأفئدة هنا لا لنسق الفاصلة فحسب، ولكنه كذلك لتخليض الأفئدة من حس العضوية التي تدخل على دلالة لفظ القلوب في المألوف من لغة العرب، إذ نستعمل القلب بمعناه العضوي، ولا نستعمل الفؤاد بهذا المعنى قط. وإسناد الإطلاع إلى نار الله الموقدة، فيه تشخيص لهولها وتقرير لفاعليتها، على نحو ما شخص القرآن الكريم هذا الهول بتقرير فاعلية النار، في آيات أخرى، تأتي النار فيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 مبصرة منفعلة: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان 12) {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} . ناطقة داعية: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (الملك 7، 8) {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج 17) بل أعطاها كذلك صفة الولاية على المفتونين المغرورين والكفار الجاحدين: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد 15) * * * {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} . نلمح من سر البيان فيها، أنها {عَلَيْهِمْ} بما تفيد من الإطباق الملاصق المباشر. ولا تقوم مقامها "فوقهم" مثلاً، لاحتمال أن تكون الفوقية غير ملاصقة ولا مطبقة ملابسة. والعربية استعملت الوصيد للبيت الحصين يتخذ للمال من حجارة فب الجبال. واستوصد في الجبل: اتخذ فيه حظيرة من حجارة. والعمد: حمع عمود، وأصل استعماله فيما يقوم عليه الخباء، وعمد الحائط دعمه. وسبق استقراء مادته في ذات العماد من آية الفجر. والمد: الجذب للبسط، وطراف ممدد مشدود بالأطناب. ومد بصره إلى الشيء طمح إليه. والمد فيضان الماء نقيض انحساره في الجزر. فسره الزمخشري بقوله: فتوصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق، ونظيره قول الشاعر: تحن إلى أجيال مكة ناقتى ومن دونها أبواب صنعاء موصده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ونؤثر أن نستأنس في فهم الآية، بالحس اللغوي الأصيل للإيصاد، بمعنى الإغلاق المحكم، وباستعمال القرآن الكريم للمادة، في آياتها الثلاث: الوصيد في آية الكهف 18: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} . ومؤصدة في ختام سورة البلد: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} . والآية مسبوقة ببيان لغرور المال وفتنته، يضل الإنسان ضلالاً بعيداً: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ؟ وفي آية البلد من إيصاد النار وإطباقها المباشر، مقل ما في ختام سورة الهمزة: {عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} . نذيراً كذلك ووعيداً بويل {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} . صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) } صدق الله العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 السورة مكية مبكرة، نزلت بعد التكاثر. وترتيبها في النزول السابعة عشرة، على المشهور. وجاءت باسم سورة "أرأيت" في جامع البيان للطبري والكشاف للزمخشري والتفسير الكبير للفخر الرازي. * * * وقراءة الجمهور: أرأيتَ. وقرأ بعضهم "أريتَ" بحذف الهمزة من رأى، قال في الكشاف: "وليس بالاختيار، لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريْتَ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهلم في أول الكلام، ونحوه: صاح هل ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في العلاب وقالوا في أسباب النزول، إنها نزلت في: أبي سفيان، أو العاص بن وائل السهمي، أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل، وقال ابن عباس: "نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة". والعبرة على كل حال بعموم اللفظ. * * * وتستهل السورة بهذا الاستفهام المثير" {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} ؟ والأصل في الاستفهام أن يكون من سائل يطلب الفهم ويستفسر عما يجهل، أما حين يكون المستفهم على علم بما يستفهم عنه، فإن الاستفهام يخرج بذلك عن أصل معناه في الوضع اللغوي، إلى المجاز البلاغي. وفيما أحصى البلاغيون من أغراض يخرج بها الاستفهام عن معناه الأصلي، لا أجد ما يجلو السر البياني لمثل هذا الاستفهام القرآني: {أَرَأَيْتَ} ؟ وعند "الراغب" أن "أرأيت، يجرى مجرى: أخبرني" وأن كل ما في القرآن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 هذا الأسلوب "فيه معنى التنبيه"، قال الفخر الرازي فيه: "إن الغرض منه المبالغة في التعجب" وذهب الشيخ محمد عبده إلى "أن المقصود به التنبيه إلى خفى مجهول". وأميل إلى القول بأن سره البياني فس الاستفهام عما يبدو للناس واضحاً غير خفي، ويحسبونه معلوماً غير مجهول، إذ ليس التكذيب بالدين مظنه خفاء، والناس يحسبونه أنه يكفي المرء تصديق بالدين لأن ينطق الشهادتين ويؤدي العبادات المفروضة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً. ومن ثم يأتي الاستفهام عما يحسبه الناس مستغنياً عن كل بيان، فيثير أقصى اليقظة والانتباه، ويرهف الدهشة والترقب انتظاراً لجواب غير متوقع، وتطلعاً إلى معرفة ماذا يكون التكذيب بالدين غير الذي يعلمون منه بالضرورة؟ * * * والدين في العربية: الطاعة والخضوع. وسمى العبد مديناً لأن العبودية أخضعته. والديان: القهار، والقاضي، والحاكم. وشاع استعماله في الملة بعامة، وفي الإسلام بوجه خاص، وهو المعنى الغالب في الاستعمال القرآني. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً} . {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وسمى اليوم الآخر "يوم الدين" أربع عشرة مرة. وفي آية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} فسر الدين بأنه ثواب الله وعقابه (الطبري) واختار الزمخشري كذلك أن يكون بمعنى الجزاء. والأولى عند الرازي أن يكون بمعنى الإسلام. وهي أقوال متقاربة، وإن يكن حمله على الدين بمعنى العقيدة والإسلام، أقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 عندنا، والله أعلم، من حمله على الحساب والجزاء، لأن التكذيب بهما لا يكون إلا عن تكذيب بالدين. * * * والكذب: نقيض الصدق. استعملته العربية ف الناقة الكذوب يظن أنها حامل ثم تخلف الظن، وفي البرق يوهم أن وراءه مطراً ثم لا يكون مطر، كما استعملته في خداع الحس، فقيل كذبت العين أو الأذن إذا أخطأت حقيقة ما تبصر أو ما تسمع. ومنه جاء الحلم الكاذب والرجاء الكاذب، وكل ما أخلف الظن والتقدير. وقيل مذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال مالاً لا يكاد يكون. وكذب بالأمر. أنكره ولم يصدقه. وبهذا الحس الأصيل من سوء التقدير وإنكار الحق، يأتي التكذيب في القرآن الكريم أكثر ما يأتي في التكذيب بالله وآياته ورسله. وهو التكذيب بالحق والصدق. ومنه التكذيب بالنذر، وبالساعة، وبلقاء الله والآخرة. وبيوم الفصل، وبجهنم والعذاب. وكثر في القرآن الوعيد والإنذار بعاقبة المكذبين، ووصفوا بأنهم الضالون، والمجرمون، والكافرون، والغافلون. كما أسند إليهم: الأفتراء، والظلم، والإثم، والإعتداء، والمعصية، والخسران، وإتباع الأهواء. وجاء التكذيب بالدين في آيات: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} (الانفطار 9) {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التين 7) {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (الماعون 1) وتتولى الآيات بعدها بيان المستفهم عنه من هذا التكذيب بالدين: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . والدع الدفع العنيف مع قسوة وجفاء. ولم يستعمله القرآن الكريم إلا في آيتين، إحداهما للمعاملة في الدنيا وقد خص به اليتيم في آية الماعون. والأخرى في دع المكذبين إلى النار يوم الدين بآية الطور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} 13. وهذا يكفي لمح الحس القرآني للدع، بما فيه من قسوة وغلظة وجفاء. واليتيم الصبي فقد أباه. وقد سبق استقراء آياته في الضحى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ولحظنا اقتران اليتيم في هذه الآيات، بالمسكين والأسير (الإنسان، والبلد) ، والضال والعائل (الضحى) وجاء اليتامى مع المساكين وابن السبيل في خمس آيات، ومع الرقاب للأرقاء في آيتى (البقرة 177، النساء 36) . فشهد ذلك بحساسية بالغة الرقة لمكان اليتيم في مجتمع غير متراحم ولا متكافل، مما اقتضى أن يقرر كتاب الإسلام حق اليتيم في المجتمع الإسلامي الصالح، وأن يجعله تالياً لحق الله والرسول وذوي القربي في آيات (الأنفال 41، الحشر 7) ومعهما (البقرة 177، 215) وتالياً لعبادة الله والإحسان بالوالدين وبذي القربي في آيتى (البقرة 83، النساء 36) . وفي (سورة الفجر) الوعيد الرهيب لمن لا يكرمون اليتيم. وهنا في آية (الماعون) يبلغ بالقرآن أن يعد دع اليتيم تكذيباً بالدين: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} . والعربية تستعمل الحض في الحث وبعث الحمية، نقلا من الحث الشديد على السير. وقد نقلنا في آية الفجر: {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} قول الراغب الأصفهاني في (المفردات) إن الحث يكون بسير، بخلاف الحض. والذي نطمئن إليه من حس العربية، هو مألوف استعمالها للحض في الحمل على ما يكره، ولعل أصل الاستعمال اللغوي من الحضض وهو داء يشفي بعصارة الصبر، أو هو عصارة من أخلاط كريهة كانوا يتداوون بها. وحضوض: اسم جبل في البحر كانت العرب تنفى إليه خلعاءها. والقرآن الكريم لم يستعمل الحض في آياته الثلاث، إلا في سياقالإنكار لعدم التواصي برعاية المسكين وإطعامه مع اقتران هذا الإنكار بالكفر بالله والتكذيب بالدين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 آية الحاقة 34: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} . الغسلين، طعام من لا يحض على طعام المسكين، فسر بأنه ما يسيل من جلود أهل النار. وآية الفجر 18: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} . وفي آية الماعون، تجئ آية: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في بيان الذي يكذب بالدين. أوجز "الطبريط ففسرها بأنه الذي لا يحث غيره على إطعام المحتاج إلى الطعام. وقال الزمخشري: "ولا يبعث أهله على بذل طعلن المسكين. جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك". وأضاف إليه الرازي احتمال أن يكون المعنى: ولا يحض نفسه على طعام المسكين. ونرى أن تفسير الحض بالحث، لا يعطي ملحظ الحمل على ما يكره عادة، كما يفوته لمح خصوصية الاستعمال القرآني للحض في الإنكار لعدم التحاض على طعام المسكين. وتقسسد الآية بعدم حض الأهل، لا يعين عليه النص لفظاً وسياقاً، وإنما هو إنكار لموقف من ينكصون عن احتمال التبعة فلا يؤدون حق الجماعةفي الدعوة إلى الخير والتواصي بالمرحمة، وفي حسابهم أنه يكفي الإنسان تصديقاً بالدين، أن يؤدي فروض عبادته، وأن خطيئات غيره لا يقع عليه منها إثم السكوت على منكر. وتأويل الحض بأنه لا يحض نفسه، غير قريب. فضلاً عن كونه يخرج بالآية عن سياقها القرآني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وللفخر الرازي ملحظ دقيق في إضافة طعام إلى المسكين، يجدى على ما نفرغ له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 من دراسة بيانية. قال: "وإضافة طعام إلى المسكين تدل على أن ذلك حق المسكين. فكأنه - المكذب بالدين - منع المسكين مما هو حقه، وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه". * * * {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} سبق الحديث عن لفظ "ويل" واستقراء الاستعمال القرآني له، في تفسير آية الهمزة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} . والسهو لغة: النسيان والغفلة. ولم يستعمله القرآن الكريم إلا في آيتين: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (الذاريات 11) وآية الماعون، والسهو فيها عن الصلاة، وليس في الصلاة. ومن ثم نستبعد ابتداء قول من تأولوا السهو في الآية بأنه سهو في الصلاة وليس السهو فيها بخطيئة ولا منكر، وكل مؤمن عرضه لأن يسهو في صلاته، وينجبر مثل هذا السهو في الصلاة بسجود السهو والنوافل على ما هو مقرر في باب سجود السهو من أحكام الفقه. فما يكون السهو عن الصلاة؟ اختلف أهل التأويل فيه، وقد أورد الإمام الطبري من أقوالهم في المقصود بهذا السهو: أنه تأخير الصلاة، لا يصلونها إلا بعد خروجها عنه وقتها. أنه الترك للصلاة لا على نية القضاء. وعن ابن عباس: هم المنافقون كانوا يراءون بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا. أو هو التهاون بها والتغافل عنها، ولا يبالى أحدهم صلى أم لم يصل. وأولى الأقوال عند الطبري بالصواب: "أنهم ساهون لا هون يتغافلون عنها. وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحياناً وتضييع وقتها أحياناً أخرى. فصح بذلك قول من قال: عنى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنى تركها". وأضاف "الزمخشري" إلى هذين الوجهين وجهاً ثالثاً: "أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدرى الواحد منهم كم أنصرف، ولا ما قرأ من السور". ووقف "الرازي" عند تأويل السهو عن الصلاة بتركها، فأثار فيه مسألتين: "أن يقال إن الله تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} وأيضاً فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك، لا يكون نفاقاً ولا كفر، فيعود الإشكال .... ثم قال: "ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مصلين نظراً إلى الصورة، وبأنهم نسوا الصلاة نظراً إلى المعنى كما قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله". * * * ولا نفهم الآبة بمعزل عن الآية التالية لها وقد ارتبطت بها ارتباط الصلة بالموصول: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . والمراءاة في العربية أن يظهر الإنسلن خلاف ما يبطن. ووجه المفاعلة فيها أنه يرى الناس من ظاهر أمره ما يرونه موضع ثناء. وهي قريبة من النفاق، وإن شاع في المجال الديني تخصيص النفاق بمن يكتم الكفر ويظهر الإسلام. وإطلاق الرياء عاماً في التظاهر بالإيمان وبالصلاح والبر، وإضمار نقيضها. وهو ما يؤنس إليه استعمال القرآن الكريم للرياء والمراءاة في الآيات الخمس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة 264) ومعها آيتا: (النساء 38، 142) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال 47) وآية الماعون في {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . ومن معاني الماعون في معاجم اللغة: الماء والمطر، وكل ما يستعار للمنفعة عند الحاجة من فأس وقدر وإناء، ومنه شاع استعماله في الإناء. وقد يطلق الماعون أيضاً على الزكاة، بملحظ من إعطاء حق المال المفروض، على قلته، لمن يحتاج إليه ولا يجوز إمساكه عنه. ولم يأت الماعون في القرآن الكريم إلا في هذه الآية. في قول إنه الزكاة، اختراه الزمخشري. على أن أكثر المفسرين فيما نقل الفخر الرازي، تأولوه بأنه ما يتعاوره الناس في العادة، كالفأس والدلو والمقدحة، والملح والماء والنار. وعند الرازي أنها سميت ما عوناً لقلة شأنها، كما سميت الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير. ونبه الزمخشري إلى أن منع هذه الأشياء التي يتعاورها الناس "قد يكون محظوراً في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، وقبيحاً في الموءة في غير حال الضرورة". على حين يرى الرازي "أن البخل بهذه الأشياء القليلة يكون في غاية الدناءة. ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم إياه، ولا يقتصر من ذلك على الواجب". ونقول من الإمام الطبري: "إنهم يمنعون الناس ما يتعاورونه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من حقوق، لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض".} } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وقد احترز عدد من المفسرين في تأويل: {يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} من أن تتجه المراءاة إلى إظهار العمل الصالح إذا كان فريضة "لأن الفرائض شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن، فيجل نفي التهمة بالإظهار وإنما المكروه المراءاة بإظهار ما هو تطوع ونافلة" واحترزوا في هذا أيضاً بألا يكون القصد من إظهاره أن يقتدي به. وأرى السياق في غنى عن مثل هذا الاحتراز، إذ ليس في إظهار فرائض العبادات، ولا في موضع القدوة، مظنة مراءاة توعد بويل. * * * ونفرغ بعد هذا لتدبر البيان القرآني لآيات الماعون، فنرى النذير بويل {لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قد أثبت أنهم فعلاً يؤدون الصلاة، ولكنهم ساهون عن صلاتهم غافلون عن كونها قياماً بين يدى الخالق، يكبح غرور الإنسان ويأخذه بالخشوع والتواضع أمام جلال خالقه وعظمته وقدرته، ويرهف نفسه اللوامة، فلا يطيق دع يتيم محتاج إلى العطف والرحمة، أو السكوت على مسكين يضام ويمنع حقه في طعامه. وصلاة الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، لا يمكن أن تقام عن قلب خاشع وضمير مؤمن، وإنما هي مراءاة وتظاهر بالعبادة والتدين والتقوى، قصداً إلى جلب منفعة أو دفع أذى. وحين لا تؤدى الصلاة غايتها من النهي عن الفحشاء والمنكر، فإنها تعود بذلط طقوساً شكلية وحركات آلية مجردة عن معناها وحكمتها. والإسلام يرفض هذه الآلية في شعائر الدين، ويتجه بالعبادات إلى أن تكون تهذيباً للنفس ورياضة للضمير وهداية إلى خير الفرد والجماعة. والذي في آية البر: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ} } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة 177) وفي آية الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 37. هو ما في آية الماعون، في المصلين الذين يؤدون الصلاة أداء شكلياً وطقوساً وحركات آلية يراءون بها، غافلين عن حكمة إقامتها، ساهين عما تنهي عنه من الفحشاء والمنكر. * * * ويمثل ذلك الهدى القرآني، يروض الإسلام بشريتنا على احتما المسئولية العامة، ويرتقي بالإنسان إلى حيث لا يكتفي بالواجب الفردي وأداء العبادات، بل يعد دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين تكذيباً بالدين. وليس وراء ذلك مطمح للإنسانية في التزام تبعة وجودها واحتمال أمانة الحق العام في التكافل والتراحم، والدعوة إلى الخير والتواصي بالحق والمرحمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} صدق الله العظيم تمَّ الكتاب بحمد الله وتوفيقه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192