الكتاب: البرهان فى تناسب سور القرآن المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708هـ) تحقيق: محمد شعباني دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- البرهان فى تناسب سور القرآن ابن الزبير الغرناطي الكتاب: البرهان فى تناسب سور القرآن المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708هـ) تحقيق: محمد شعباني دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب: البرهان فى تناسب سور القرآن (ويسمى: البرهان فى ترتيب سور القرآن) المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708هـ) تحقيق: محمد شعباني دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم تسليماً قال الشيخ الإمام، العالم العَلَم الأوحد الصدر الجليل، المحدث الناقد المحقق، حبر التأويل وكاشف أسرار التنزيل، أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي - رحمه الله - الحمد لله الحكيم العليم، العلي العظيم، ذي الفضل العميم والجود القديم، الذي ابتدأ الإنسان بالنعم فُرادى ومثنى، وخلقه في أحسن تقويم بعد كونه نطفة من مني تُمنى، وخصه بمزية التشريف والتكريم، أهّله لتلقي خطابه، وهيأه لتحمل فرقانه العزيز وكتابه، وقد قال سبحانه فيه: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) . والصلاة على محمد نبيه المعظم ورسوله المصطفى المكرم، المخصوص بالكتاب، والفاتح لأولي البصائر - بما أيد به من الأعلام الباهرة والحجج القاطعة القاهرة - مستغلق ذلك الباب، فأوضح السبيل للسالك، فلن يهلك على الله بعد بيانه إلّا هالك، وأنى بسلوك ذلك الباب لمن حقت عليه كلمة العذاب، وقد قال سبحانه: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) . وبعد، فإني اعتبرت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وتأملت ما أيد به عليه السلام من المعجزات سوى القرآن، فإذا بدروب لا يحصيها العد، ولا كاد تنحصر بالحد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما كان الذي أوتيت وحياً" يشير إلى دليل القرآن، وما خص به - صلى الله عليه وسلم - من ساطع ذلك البرهان، وما ذاك إلا لكون معجزته أوضح وأحكم، وأهدى وأقوم، فإنما ضمنت إلى - الدلالة والشهادة إيضاح الطربق وأعلمت بحال كل فريق، ثم زادت بنقائها للمعتبر ومشاهدتها للمدَّكر، وقد اضطر من تأخر فيما سواها للخبر، وليس كالعيان، فلله ما أعظمها معجزة باقية مدى الدهور والأزمان، وللمشاهدة حال لا ينكر وتعريف لا يتنكر، وفرق بين ما عرف بالمشاهدة وبين ما علم بالدليل، وحسبك سوال نبي الله الخليل. فالحمد لله الذي جمع لهذه الأمة الأمرين وخصها بالاعتبارين، فمن معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - المستوضح اعتبارا بالبيان، والمشاهد حسا بالعيان، وكما أن من تعامى في حياته - صلى الله عليه وسلم - عن نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من معجزاته ملوم مدحور، مأزرر غير مأجور، فكذلك من تعامى عن آيات الكثاب وكأن لم يقرع أذنه قارع من هذا الباب، ولهذا نبه تعالى بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ"، وبقوله: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"، وجهات اعتباره كثيرة، ولسلف هذه الأمة وخلفها مسالك في ذلك شهيرة. وإني تأملت منها - بفضل الله - وجوه ارتباطاته وتلاحم سوره وآياته إلى ما يلتحم مع هذا القبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عجائب شواهد التنزيل فعلقت في ذلك ما قدر لي "ثم قطعت بى قواطع الأيام عن تتميم رومى من ذلك وعملي، فاقتصرت بحكم الاضطرار في هذا الاختصار على توجيه ترتيب السور، وإن لم أر في هذا الضرب شيئا لمن تقدم وغبر، وإنما بدر لبعضهم توجيه ارتباط آيات في مواضع مفترقات، وذلك في الباب أوضح، ومجال الكلام فيه أفسح وأسرخ. أما تعلق السور على ما ترتبب في الإمام، واتفق عليه الصحابة الأعلام فمما لم يتعرض له فيما أعلم، ولا قرع أحد هذا الباب ممن تأخر أو تقدم، فإن صلى أحد بعد فهذه الإقامة، أو أتمَّ فمرتبط حتما بهذه الإمامة، فإن أنصف فلابد أن ينشد إذعانا للحق وإنابة: فلو قَبل مبكاها بَكت صبابة ولما كمل لي بفضل الله الأمل من جليل هذا العمل، غريبا في بابه، رفيعا في نصابه، موفى التحرير، معدوم النظير، تحصل بمطالعته العلم اليقين، ويفصح بشهادته أن العاقبة للمتقين، والله ينفع فيه بالنية من مرضاته الأُمنيَّة بمنه ويمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 باب التعريف بترتيب السور وهل ذلك بتوتيف من الشارع - صلى الله عليه وسلم - أم هو من فعل الصحابة؟ اعلم أولا أن ترتيب الآيات في سورها وقع بتوقيف - صلى الله عليه وسلم - وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين، وإنما اختلف في ترتيب السور على ما هي عليه وكما ثبت في الإمام مصحف عمان بن عفان رضي الله عنه الذي بعث بنسخة إلى الآفاق، وأطبقت الصحابة على موافقة عثمان في ترتيب سوره وعمله فيه، فذهب مالك، والقاضي أبو بكر بن الطيب. فيما اعتمده واستقر عليه مذهبه من قوليه، والجمهور من العلماء، إلى أن تريب السور إنما وقع باجتهاد الصحابة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوض ذلك إلى أمته بعده، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن ذلك إنما وقع بتوقيفه عدوط وأمره، ولكل من الطائفتين جهات تعلق، وكلا القولين والحمد لله لا يقدح في الدين، ولا يثمر إلا اليقين، فأقول مستعينا بالله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 اعلم أن الأمر في ذلك كيفما قدر فلابد من رعي التناسب، والتفات التواصل والتجاذب، فإن كان بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مجال للخصم بعد ذلك التحديد الجليل والرسم، وإن كان مما فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده فقد أعمل الكل من الصحابة في ذلك جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه، والعارفون بأسباب نزول الآيات، ومواقع الكلمات، وإنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول مالك ضي الله عنه في حكاية بعضهم عنه، ومالك أحد القائلين بأن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين كما تقدم عنه، فكيف مادار الأمر، فمنه - صلى الله عليه وسلم - عرف ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك يتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقى لهم فيه مجال للنظر؟ فهذا موضع الخلاف. فإن قيل إذَا كانوا قد سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - استقر عليه ترتيبه ففيم إذاً عملوا الأنظار، وأي مجال بقي لهم بعد للاختيار؟ فالجواب أنا قد روينا في صحيح مسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح بالبقرة، فقلت يركع عند المائة؟ ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران ....... الحديث. فلما كان - صلى الله عليه وسلم - ربما فعل هذا إرادة التوسعة على الأمة، وبيانا لجليل تلك النعمة، كان محلا للتوقف حتى استقر النظر على وعى من كان من فعله الأكثر فهذا محل اجتهادهم في المسألة والله اعلم. ثم يشهد لما بنينا كتابنا هذا عليه ما روينا في مصنف ابن أبي شيبة عن أناس من أهل المدينة قال الحكم: أرى منهم أبا جعفر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم، وأما صورة المنافقين فيؤيس بها المنافقين ويوبخهم. وحكى الخطابى أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن، وضعوا سورة القدر عقيب العلق، واستدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكتابة في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) إشارة إلى قوله: اقرأ، قال القاضى أبو بكر بن العربي. وهذا بديع جدا، قلت: ومن ظن ممن اعتمد القول بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة أنهم لم يراعوا في ذلك التناسب والاشتباه فقد سقطت مخاطبته، وإلا فما المراعى وترتيب النزول غير ملحوظ في ذلك بالقطع، بل هذا معلوم في ترتيب آي اقرآن، الواقع ترتيبها بأمره عليه السلام وتوقيفه بغير خلاف، ألا ترى أن سورة البقرة من المدني وقد تقدمت سور القرآن بتوقيفه عليه السلام في الصحيح المقطوع به، وتقدم المدني على المكي في ترتيب السور والآي كثير جدا، فإذا سقط تعلق الضمان بترتيب النزول لم يبق إلى رعي التناسب والاشتباه، وارتباط النظائر والاشباه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وتدبر بعقلك وضوح ذلك في عدة سور كالأنفال وبراءة، والطلاق والتحريم، والتكوير والانفطار، والضحى وألم نشرح، والفيل وقريش، والمعوذتين إلى غير هذه السور مما لا يتوقف في وضوحه من له أدنى نظر. وقد مال القاضى أبو محمد عبد الحق بن عطية. رحمه الله في ترتيب السور إلى القول بالتفصيل. وهو أن كثيرا من سور القرآن قد كان علم ترتيبها في أيامه - صلى الله عليه وسلم - كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل، وأشار كلامه إلى أن مما سوى ذلك يمكن أن يكون عليه السلام فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده، ولم يقطع القاضى أبو محمد في هذا القسم الثاني بشىء. وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله، على أن ما مهدناه من المراعاة في الترتيب حاصل لا محالة على كل قول، ولنورد هنا بعض ما يشهد بظاهره من الآثار لما قاله القاضى أبو محمد على ما نطنا به فمن ذلك: قوله عليه السلام: (اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) . في حديث خرجه مسلم وغيره، وخرج أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وفي مصنف ابن أبى شيبة عن معبد بن خالد. قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبع الطوال في ركعة، وفيه أنه عليه السلام (كان يجمع المفصل في ركعة. وفي صحيح البخارى عن عبد الرحمن بن زيد قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأولى، وهن من تلادى، فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. وفي صحيح البخارى أيضا عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق،وقل أعوذ برب الناس ..... الحديث. وفي المصنف عن عمر أنه قرأ في ركعة واحدة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، وروى أنهما في مصحف أبى غير مفصول بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 بالبسملة. قلت والوارد من هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن كبار الصحابة قبل كتب المصحف كثير ومروى من طرق شتى، في أحوال مختلفة، فإن قيل فقد كان يجب على ما أشرت إليه أن يكون القول بالتوقيف أكثر وأشهر، والأمر على خلاف ذلك، فإن مالكا رحمه الله، والقاضى أبا بكر من المتكلمين وأكثر أهل العلم قائلون بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة وقد مر. فالجواب أن الآثار المستفيضة والمقطوع به منها، إنما ورد ذلك في الأكثر ولم يرد فيما بين كل سورتين سورتين، ولا شك أنه إذا بقي بعض ذلك لاجتهادهم ولو فيما بين سورتين، جرى المقول المشهور عليه وصح اعتماده، ثم أن الآثار إنما وقعت بفعل، لا بقول وأمر يحصل منه الوقيف. فإذا قد آل الأمر إلى أن تلك الآثار هي مستند اجتهادهم وأصل اتفاقهم، وهذا أراد مالك رحمه الله بقوله: وإنما ألفوا القران على ما كانوا يسمعونه من رسول الله - عز وجل -، وهذا القدر كاف في المقصود، والحمد لله رب العالمين. سورة أم القرآن قد ذكر الناس كيفية تضمنها مجملا لما تفصل في الكتاب العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بجملته. وهو أوضح وجه في تقدمها سوره الكريمة. ثم هي مما يلزم المسلمين حفظه، ولابد للمصلين من قرائتها، ثم افتتاحها بحمد الله سبحانه. وقد شرع في ابتداءات الأمور، وأوضح الشرع فضل ذلك وأخذ به كل خطيب ومتكلم، وفيها تعقيب الحمد لله سبحانه بذكر صفاته الحسنى والإشارة إلى إرسال الرسل في قوله، "اهدنا" وقوله "صراط الذين أنعمت عليهم "، وقد قال تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام 95) وذكر افتراق الخلق بذكر المهتدين، وذكر المغضوب عليهم ولا الضالين، وإن ملاك الهدى بيده، "وإياك نستعين " وهذا كله أشفى شيء في بيان التقديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سورة البقرة لما قال العبد بتوفيق ربه "اهدنا الصراط المستقيم " قيل له: "ذلك الكتاب لا ريب فيه " (آية 2) هو مطلوبك وفيه أربك، وهو الصراط المستقيم "هدى للمتقين " (آية 2) القائلين اهدنا الصراط المستقيم والخائفين من حال الفريقين المغضوب عليهم ولا الضالين، فاتخذوا وقاية من العذاب خوف ربهم وتقواه بامتثال أمره ونهيه، ثم أشير من الأعمال إلى ما يستحق سائرها من قبيلي البدنيات والماليات بيانا للصراط المستقيم فقيل في وصف المتقين أنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وحصل من هذا حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، في مهد التفسير عند ضم ما ورد هنا إلى قوله: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" (العنكبوت 43) ووقع الفعل صريحا والترك إيماء للتناسب المبين حيث ذكر، ثم بين لهم قدر النعمة عليهم في طلب الهدى من الله في قولهم "اهدنا" قيل: "إن الذين كفروا .... الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ليعلموا أن الهدى من عنده فيلحوا في الطلب ويتبرؤوا من ادعاء حول أو قوة. تم نبهوا على الإخلاص، وأن يكون قولهم "اهدنا الصراط " صادرا عن يقين وإخلاص حتى لا يشبهوا من يقول: "آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين "، وبسط لهم حال هؤلاء في ثلاث عشرة آية ما يوضح لهم طريق الهدى الواضح، إذ حذروا من شكك هؤلاء وحيرتهم فقالوا: اهدنا عن يقين وإخلاص، ثم أعقب ذلك الدلائل المشاهدة من جعل الأرض فراشا والسماء بناء وإنزال الماء وإخراج النبات وذلك كله أمر مشاهد يصل إليه كل عاقل بأول وهلة. ثم أعقب بابتداء الخلق وهو قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وذلك كله مبين لقوله "رب العالمين ملك يوم الدين " إذ من البدأة تعلم العودة لمن تدبر، وقد نبه تعالى بتكرر النبات. ثم ذكر أحوال بني إسرائيل وإمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة وذلك مبين سعة رحمته، وأعلم تعالى أن أفعالهم تلك مما أعقبهم أن "ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله " (البقرة: 61) تحذيرا لمن طلب سلوك الطريق المستقيم من حالهم، وإعلاما لعباده أن المتقين المستجاب لهم عند قولهم "اهدنا" ليسوا في شيء من ذلك لأنهم قالوا اهدنا عن يقين وإخلاص متبرين من المساوىء. ثم أعقب تعالى تفصيل أحوال هؤلاء بقوله: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "البقرة 124) ليبين أحوال المصطفى من أهل الصراط المستقيم فأنبأ تعالى بحال إبراهيم، وإتمام ما ابتلاه به من غير توقف ولا بحث عن علة، وهي أسنى أحوال العباد، وفي طرف من حال من قدم من بني إسرائيل وهذا الموضع مما يعضد ما ظهر في قصة أمر بنى إسرائيل في ذبح البقرة من وجوه الحكمة، فتوقفوا وشددوا بعد إسائتهم الأدب مع نببهم فأورثهم ذلك نكالا وبعدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فالصراط المستقيم حال إبراهيم عليه السلام ومن ذكر من الأنبياء والرسل "أولئك الذين هدى الله " (الأنعام 95) وهم المنعم عليهم. ثم أعقب ذلك بما نسبوا لإبراهيم وبنيه المصطفين بعد أن بين حاله فقال: "أم يقولون أن إبراهيم ... الآية (البقرة: 140) وبين فساد اليهودية والنصرانية وبرأ نبيه إبراهيم والأنبياء عن ذلك، وأوضح أن الصراط المستقيم هو ما كانوا عليه لا اليهودية ولا النصرانية. ثم ذكرهم بوحدانيته تعالى "وإلهكم إله واحد" (البقرة: 163) ثم نبه على الاعتبار ودلائل التوحيد، وبين حال من اعتمد سواه جل وتعالى فقال: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" (البقرة: 166) وبين سوء حال المشركين وأنهم لاحقون باليهود والنصارى في انحرافهم عن الصراط المستقيم وحيدتهم عن الجادة، ووقع تنبيه هؤلاء بدون ما ضمنه تنبيه بنى إسرائيل من التقريع والتوبيخ لفرقان ما بينهم لأن كفر هؤلاء تعنيت بعد مشاهدة الآيات "وجعلنا قلوبهم قاسية". ومتى بين شيء في الكتاب العزيز من أحوال النصارى فليس على ما ورد مثله في (بني إشرائيل) لا ذكر، وخطاب مشركي العرب فيما أشير إليه دون خطاب الفريقين إذ قد تقدم لهم (ذكر) ما لم يتقدم للعرب، وبشروا في. كتبهم وليس لمشركي العرب (مثل ذلك) ، والزيغ عن الهدى شامل للكل، وليسوا في شيء من الصراط المستقيم، مع أن أسؤا الأحوال حال من أضله الله على علم) .. وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد (البقرة: 176 (. وهنا انتهى ذكر ما حذر منه ونهى عنه من أراد سلوك الصراط المستقيم، وبيان حال من حاد عنه وتنكبه، وظن أنه على شىء، وضم مفترق أصناف الزائغين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أصناف ثلاثة وهم: اليهود، والنصارى، وأهل الشرك، وبهم يلحق سائر من تنكب فيلحق باليهود منافقو أمتنا ممن ارتاب بعد إظهار إيمانه وفَعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم، وبالمشركين من جعل لله ندا (أو اعتقد) فعلا لغيره تعالى على غير طريقة الكسب، والمجوس لاحقون بأهل الشرك، والشرك أكثر هذه الطرق السيئة تشعبا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل "، ومن فعل أفعال من ذكر ولم ينته به الأمر إلى مفارقة دينه والخروج في شيء من اعتقاده خيف عليه أن يكون ذلك وسيلة إلى اللحوق بمن تشبه به وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا". إلى أشباه هذا من الأحاديث. ثم ذكر تعالى من أول آية "ليس البر" (177) ما لزم - المتقين لما بين لهم ما هو خروج عن الصراط المستقيم، وحذروا منها عقب ذكر ما يلزمهم، فابتدىء من هناك بذكر الأحكام إلى قوله: "آمن الرسول " خاتمة السور، وفصل لهم كثيرا مما كلفوه، فذكر الإيمان وفصل تفصيلا لم يتقدم، وأعقب بذكر الصدقة وموقعها على التفصيل، وفي ذكر إتيان المال عقب الإيمان إشعارا بما فيه السلامة من فتنة المال "إنما أموالكم وأولاكم فتنة" التغابن: 15) ، وإشارة من الآية إلى أنه يبعد حب المال بل يستحيل وجوده ممن أحب الله سبحانه، وأن محبة الله تعالى تهون عليه كل شىء "لا تمدن عينيك .... إلى "لا نسألك رزقا" (طه: 131 - 132) ، ثم ذكر الزكاة والصيام والحج والجهاد إلى غير ذلك من الأحكام كالنكاح والطلاق والعدد والحيض والرضاع والحدود والربا والبيوع إلى ما تخلل هذه الآيات من تفاصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الأحكام ومجملها، وقدم منها الوفاء بالعهد والصبر، لأن ذلك يحتاجِ إليه في كل الأعمال، وما تخلل هذه الآيات من لدن قوله: "وليس البر" إلى قوله "آمن الرسول " مما ليس من قبيل الإلزام. والتكليف فلسبب أوجب ذكره ولتعلق أو نسق استدعاه ولما بين سبحانه أن الكتاب هو الصراط المستقيم، وذكر افتراق الأمم كما شاء، وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيرا من حالهم ونهيا عن مرتكبهم وحصل قبيل التروك بجملته وانحصار التاركين، وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود، أعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال تعالى: "آمن الرسول " فاعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا:. "سمعنا وأطعنا" لا كقول بني إسرائيل "سمعنا عصينا" وأنه أثابهم على إيمانهم برفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان عنهم فقال: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال. أخذا وتركا، وبيان شرف من أخذ به، وسوء حال من تنكب عنه، وكأن العباد لما عُلِّموا (أن يقولوا) اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قيل لهم عليكم بالكتاب إجابة لسؤالهم، ثم - بين لهم حال من سلك ما طلبوه، فكان قد قيل لهم أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين من شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين من أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين من شأنهم وأمرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا، وأن (ينسحب إيمانه) على كل ذلك وأن يسلم الأمر لله الذي يَطلب منه الهداية ويتضرع إليه بأن لا يواخذه لما يثمره الخطأ والنسيان وألا يُحمله ما ليس في وسعه وأن يعفو عنه إلى آخر السؤال. سورة آل عمران اتصالها بسورة البقرة والله أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضا إلى أن الصراط المستقيم قد بين شأنه لمن تقدم في كتبهم، وأن هذا (الكتاب) جاء مصدقا لها (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ) ليبين لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أن من تقدمهم قد بين لهم "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا". والثالثة قصة عيسى عليه السلام، وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه السلام، ولهذا أشار قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم (آل عمران: 39) كما اتبعت قصة آدم بذكر بني إسرائيل لوقوففم من تلك القصة. على ما لم تكن العرب تعرفه وأنذروا وحذروا، واتبعت أيضا قصة عيسى عليه السلام بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة حسبما نبسط بعد، ولنبين وجه الانفصال من صدر السورة فأقول مستعينا بالله. إن قوله سبحانه: نزل عليك الكتاب "بيان لحال الكتاب الذى هو هدى للمتقين ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنيت بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 إسرائيل وتوقفهم ما تقدم، أخبر تعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة وأنزل بعده الإنجيل وأن كل ذلك هدى لمن وفق. ثم أشار قوله تعالى: "إن الله لا يخفى عليه شىء" (آل عمران: 5) إلى ما تقدم من تفصيل أخبارهم، فكان الكلام في قوة أن لو قيل أتخفى عليه مرتكبات العباد وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره. ثم لما بلغ الكلام هنا، كأن قد قيل فكيف طرأ عليهم مع وجود الكتاب فأخبر تعالى بشأن الكتاب، وأنه محكم ومتشابه وكذا غيره من الكتب والله أعلم.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ المتشابه والتعلق به، وهذا بيان قوله: "يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا (البقرة: 26) وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقا وأوضح بيانا، إذ قد أوضح أحوال المختلفين، ومن أين أتي عليهم مع وجود الكتب، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم، وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر لا طريق إلى تنكب الصراط، فنهوا حين علموا الدعاء من قوله "وإياك نستعين ". ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً ففيه معظم البيان، ومنه ينشأ الشرك الأكبر، إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها "والله خلقكم وما تعملون " (الصافات: 96) ، فمن التنبيه "إن الذين كفروا" (البقرة: 6) ومنه "يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا" (البقرة: 26) ومنه "آمن الرسول" إلى خاتمتها) . هذا من جلى التنبيه ومحكمه، ومما يرجع إليه ويحرز معناه بعد اعتباره (وإلهكم إله واحد) وقوله: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم " (البقرة: 255) ، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى: "إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد. (آل عمران: 4) ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها. سورة النساء لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ما ذكر في صدرها أمر عيسى عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأنه كمثل آدم في (عدم) الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه السلام، (فكان سائر الحيوان لا يتوقف على أبوين، أو كان يكون) عيسى عليه السلام لا يتوقف إلا على أم فقط، أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهم السلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً". ثم أعلم تعالى بكيفية النكاح المجعول سببا في التناسل وما يتعلق به، وبين حكم الأرحام والمواريث، وتضمنت السورة ابتداء الأمر وانهاءه فاعلمنا بكيفية الناكح، وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض كيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح وما لا ينكح وما أبيح من العدد، وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله، إلا الطلاق لأن أحكامه قد تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام) وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المكتوب علينا وناسب هذا المقصود (من) التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله (تعالى) : "اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" بالالتئام والوصلة، ولهذا خصت حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدل إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق ليناسب هذا فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة ويدق ذلك ويغمض، لذلك ما تكرر كثيرا في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت "اتقوا ربكم " "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ" "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ" ثم حذروا من حال من صمم على الكفر، وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوى التقلب في الأديان بعدًا عن اليقين، "وكل ذلك تأكيد لا أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إِلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة. سورة المائدة لما بين تعالى حالة أهل الصراط المستقيم ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم ولا الضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذا وتركا، وحصل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 حذيفة من قوله: (الإسلام ثمانية أسهم: الشهادة سهم، والصلاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، وقد خاب من لا سهم له) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس، وقد تحصلت وتحصل مما تقدم أيضا أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وإن ذلك ببغيهم وعدوانهم ونقضهم العهود "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى: لعباده المؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" لأن اليهود والنصارى إنما أتي عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود فحذر المؤمنين. ولهذا الغرض والله أعلم ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى: "وأوفوا بعهدي " (البقرة: 40) فقال تعالى: " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " إلى قوله: "فقد ضل سواء السبيل " (المائدة: 12) . ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال: "فبما نقضهم ميثاقهم " (آية: 13) وذكر تعالى عهد الآخرين فقال: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم .... الآية (آية: 14) ، ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم فيما نقضوا (فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة إلى غير ذلك مما ذكره في أحكام هذه السورة ثم بين تفاوتهمِ في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة .... الآية (آية: 82) ثم نصح عباده وبين لهم أبوابا منها دخول الامتحان، وهي سبب في كل ابتلاء فقال تعالى: "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" (آية: 89) . وأعقب ذلك بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ ... الآية " (آية: 95) ثم قال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام ... الآية (آية: 97) فنبه على سوء العاقبة في تتبع البحث عن التعليل، وطلب الوقوف على ما لعله استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتي على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك، وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" (آية: 151) ووعظهم بحال غيرهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 هذا، وأنهم سألوا فخيروا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم فقال تعالى: "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " (آية: 102) ثم عرف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " (آية: 103) فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض فيه غيرهم وذكرهم ببعض ما وقع فيه النقض، وما أعقب ذلك فاعله، واعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته فقال تعالى: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ" إلى قوله تعالى "هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ" إلى آخر السورة (116 - 120) . فحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحال من حاد ونقض، وعاقبة من وفى وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ". سورة الأنعام لما بين سبحانه وتعالى لعباده حال المتقين وهو الصراط المستقيم وأوضح تعالى ما يحذرون من جانبي الأخذ والترك، وبين حال من تنكب عنه ممن كان قد يلمحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وهم اليهود والنصارى وكونهم لم يلتزموا الوفاء، وحادوا عما أنهج لهم، وانقضى أمر الفريقين ذما لحالهم وبيانا لنقضهم وتحذيرا للمتقين أن يصيبهم ما أصابهم، وختم ذلك ببيان حال الموقنين في القيامة "يوم ينفع الصادقين صدقهم ". وقد كان انجرَّ مع ذلك ذكر مشركي العرب وصممهم عن الداعى، وعماهم عن الآيات فكانوا أشبه بالهائم منهم بالأناسي، أعقب ذلك تعالى بالإشارة إلى طائفة أومأت إلى النظر والاعتبار، فلم توفق لإصابة الحق، وقصرت عن الاستضاءة بأنوار الهدى وليسوا ممن يرجع إلى شريعة قد حرفت وغيرت، بل هم في صورة من هم أن يهتدى بهدى الفطرة، ويستدل بما بسط الله تعالى في المخلوقات، فلم يمعن النظر ولم يوفق فضل وهم المجوس وسائر الثنويه ممن كان قصارى أمره نسبة الفعل إلى النور والإظلام ولم يكن تقدم لهؤلاء ذكر ولا أخبار بحال فقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) . فبدأ تعالى بذكر خلق السموات والأرض التي عنها أوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 النور والظلمة، إذ الظلمة ظلال هذه الأجرام، والنور عن أجرام نيرة محمولة فيها (وهي الشمس) ، والقمر والنجوم، فكأن الكلام في قوة: الحمد لله الذي أوضح الأمر لمن اعتبر واستبصر فعلم أن وجود النور والظلمة متوقف بحكم السببية التي شاءها تعالى على وجود أجرام السموات والأرض وما أودع فيها، ومع بيان الأمر في ذلك حاد عنه من عمي عن الاستبصار "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " وقوله تعالى: "هو الذي خلقكم من طين " (آية: 2) مما يزيد هذا المعنى وضوحا فإنه تعالى ذكر أصلنا والمادة التي عنها أوجدنا ذكر للنور والظلمة ما هو كالمادة وهو وجود السموات والأرض وأشعر لفظ "جعل " بتوقف الوجود بحسب المشيئة على ما ذكر فكأن قد قيل: أي فرق بين وجود النور والظلمة عن وجود السموات والأرض وبين وجودكم عن الطين حتى يقع امتراء فتدعى نسبة الإيجاد إلى النور والظلمة؟ وهما لم يوجدا إلا بعد مادة أو سبب،كما طرأ في إيجادكم، فالأمر في ذلك أوضح شيء ثم أنتم تمترون. ثم مرت السورة من أولها إلى آخرها منبهة على بسط الدلالات في الموجودات مع التنبيه على أن ذلك لا يصل إلى استثمار فائدته إلا من هيء بحسب السابقة. فقال (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (آية 36) ثم قال تعالى (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) (آية: 36) وهو والله أعلم من نمط "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ" أجمل هنا، ثم فسر بعد في السورة بعينها، والمراد أن من الخلق من جعله الله سامعا مستيقظا معتبرا بأول وهلة، وقد أرى المثال سبحانه وتعالى من ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله "وكذلك نري إبراهيم مكوت السموات والأرض " (آية: 75) فكأنه يقول لعباده المتقين تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أبيكم إبراهيم، كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ فلم يعرج في أول نظرة على ما سبب وجوده بين فيحتاج فيه إلى فرض ما فرض في الكوكب والقمر والشمس، بل نظر فيما عنده صدور النور لا في النور "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا" (آية: 76) فتأمل قوله عليه السلام لم يطول النظر بالتفات النور، ثم كان يرجع إلى اعتبار الجرم الذي عنه النور، بل لما رأى النور أجرام سماوية تأمل تلك الأجرام وما قام بها من الصفات فرأى الأفول والطلوع والانتقال فقال هذا لا يليق بالربوبية لأنها صفات حدوث، ثم رقى النظر إلى القمر والشمس فرأى ذلك الحكم جاريا فيهما، فحكم بأن وراءها مدبرا لها يتنزه عن الانتقال والغيبة والأفول فقال: "إني وجهت وجهي للذى فطر السموات والأرض " (آية: 79) وخص عليه السلام ذكر هذين لحملهما أجرام النور وسببيتهما في وجود الظلمة، ثم تأمل هذا النظر منه عليه السلام، وكيف خص بالاعتبار أشرف الوجودين وأعلاهما فكان في ذلك وجهان من الحكمة. أحدهما علو النظر ونفوذ البصيرة في اعتبار الأشرف الذي إذا بان فيه الأمر فهو فيما سواه أبين، فجمع بين قرب التناول وعلو التهدي. والوجه الثاني: التناسب بين حال الناظر والمنظور فيه، والتفاؤل والجرى على الفطرة العلية، وهو من قبيل أخذ نبينا عليه السلام اللبن حين عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن فقيل له اخترت الفطرة، فكان قد قيل: هذا النظر والاعتبار بالهام لا نظر من أخلد إلى الأرض فعبد الضياء والظلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وينبغى أن يعتمد في قصة إبراهيم عليه السلام في هذا الاعتبار أنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "هذا ربي " (آية: 78) إنما قصد قطع حجة من عبد شيئا من ذلك، إذ كان دين قومه، فبسط لهم الاعتبار والدلالة، وأخذ بعرض ما قد تنزه قدره عن الميل إليه، فهو كما يقول المناظر لمن يناظره هب أن هذا على ما تقول يريد بذلك إذعان خصمه (واساتدناءه) للاعتبار حتى يكون غير (منافر له فيسلم له ما لا يعتقده ليبنى على ذلك مقصوده لقنع خصمه وهو على يقين من أمره. فهذا ما ينبغى أن يعتمد هنا لقول يوسف عليه السلام "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء" (يوسف: 38) فالعصمة قد اكتنفتهم عما يتوهمه المبطلون ويتقوله المفترون، ويشهد لما قلناه قوله تعالى: "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " (آية: 83) ، فهذه حال من علت درجته من الذين يسمعون، فمن الخلق من جعله الله سامعا بأول وهلة، وهذا مثال شاف في ذلك، ومنهم الميت، والموتى على ضربين منهم من يزاح ضربين عمهه، ومنهم من يبقى في ظلماته ميتا لا حراك به يبين ذلك قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ولما كانت السورة مضمنة جهات الاعتبار ومحركة إلى النظر ومعلنة من مجموع آياتها أن المعتبر والمتأمل وإن لم يكن متيقظا بأول وهلة، ولا سامعا أول محرك ولا مستجيباً لأول سامع قد تنقل حاله عن جموده وغفلته إلى أن يسمع ويلحق بمن كان تيقظ في أول وهلة، ناسب تحريك العباد وأمرهم بالنظر أن تقع الإشارة في صدر السورة إلى حالتين: حالة السامعين لأول وهلة، وحالة السامعين في ثاني حال فقيل: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ والموتى يبعثهم الله ". ولم تقع هنا إشارة إلى القسم الثالث مع العلم به وهو الباقي على هموده وموته ممن لم يحركه زاجر ولا واعظ ولا اعتبار، وكان هذا الضرب لو ذكر هنا لكان فيه ما يُكسل من ضعفت همته ورجعت حاله ابتدائية، فقيل "والموتى يبعثهم الله " وأطلق القول ليعمل الكل على هذا البعث من الجهل والتيقظ من سنة الغفلة، كا دعي الكل إلى الله دعاء واحداً فقيل: "يا أيها الناس اعبدوا لربكم " (البقرة: 21) ثم اختلفوا في إجابة الداعي بحسب السوابق هكذا ورد في هذا "والموقى ييعثهم الله " اسماعاً للكل، وفي صورة التساوي مناسبة للدعاء لتقوم الحجة على العباد، حتى إذا انبسطت الدلائل وانشرحت الصدور لتلقيها، وتشبثت النفوس وتعلقت بحسب ما قدر، وفاز بالخير أهله قال تعالى بعد آى "أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (آية: 122) وكان قد قيل لمن انتقل عن حالة الموت فرأى قدر نعمة الله عليه بإحيائه هل تشبه الآن حالك النيرة بما منحت حين اعتبرت (بحالك الجمادية فاشكر ربك، واضرع إليه في طلب الزيادة (واتعظ بحال من لزم حال موته، فلم تغن عنه الآيات وهو المشار إليه بقوله: "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" (آية: 122) "إنا جعلنا على قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أكنة أن يفقهوه " (الكهف: 57) (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، وكان القسم المتقدم الذى سمع لأول وهلة لم يكن ليقع ذكره هنا من جهة قصد إراءة قدر هذه النعمة، وإنقاذ المتصف بها من حيرة شكه موقعها فيما تقدم من قوله: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ " (آية: 36) فذكر هنا ما"هو واقع في إراءة قدر نعمة الإنقاذ والتخليص من عمى الجهل، وهذا حال من انتقل بتوفيق ربه وحال من بقي على موته، أو يكون الضربان قد شملهما قوله: "أومن كان ميتا فأحييناه ". وأما الثاني وهو الذي تبينت فيه صورة النقل فأمره صريح من الآية وأما الضرب الأول وهو السامع لأول وهلة المكفي المؤنة بواقي العصمة من طوارق الجهل والشكوك فدخوله تحت مقتضى هذا اللفظ من حيث أن وقايته تلك أو سماعه بأول وهلة ليس من جهته ولا بما هو إنسان أو مكلف، بل بإسداء الرحمة وتقديم النعمة ولو أبقاه لنفسه ووكله إليها لم يكن كذلك، "وما بكم من نعمة فمن الله " (النحل: 53) فبهذا النظر قد تكون الآية قد شملت الضروب الثلاثة وهو أولى. أما سقوط الضرب الثالث من قوله: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ " فلما قدم والله أعلم بما أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ولما تضمنت هذه السورة الكريمة من بسط الاعتبار وإبداء جهات النظر ما إذا تأمله التأمل علم أن حجة الله قائمة على العباد، وأن إرساله الرسل رحمة ونعمة وفضل وإحسان، وإذا كانت الدلالات مبسوطة والموجودات شاهدة مفصحة، ودلالة النظر من سمع وإبصار وأفئدة موجودة، فكيف يتوقف عاقل في عظيم رحمته تعالى بإرسال الرسل، فتأكدت الحجة وتعاضدت البراهين. فلما عرف الخلق بقيام الحجة عليهم بطريقي الإصغاء إلى الداعي والاعتبار بالصنعة قال الله تعالى: "قل فلله الحجة البالغة" (آية 149) "فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ" (آية: 137) فما عذر المعتذر بعد هذا أتريدون كشف الغطاء ورؤية الأمر عيانا، لو استبصرتم لحصل لكم ما منحتم "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ". (الآية: 138) ، ثم ختمت السورة من التسليم والتفويض بما يجدي مع قوله: "فلو شاء لهداكم أحمعين " (آية: 149) وحصل من السور الأربع بيان أهل الصراط المستقيم وطبقاتهم في سلوكهم وما ينبغي لهم التزامه أو تركه وبيان حال المتنكبين عن سلوكه من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس. سورة الأعراف لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ثم قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) ثم قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ثم قال تعالى: (ولقد كذب رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا .... الآية " (الأنعام: 36) وقال تعالى: "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء ...... الآية (الأنعام: 42) وقال تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي" فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجريان ما جرى له لمن تقدمه من الرسل (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة وهلاك تلك القرون الماضية، والإعلام بصبر الرسل عليهم السلام وتلطفهم في دعائهم ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية، وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذا وتركا وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له، ولا تم له أمل من الفريقين المستندين للسمع والمعتمدين للنظر، فحاد الأولون بطارىء التغيير والتبديل وتنكب الآخرون سوء التأويل وقصور الأفهام، وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم، وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة، وقد كان قدم لرسوله عليه السلام عند ذكر الأنبياء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود وإلى قوله سبحانه "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ". فتأمل بما افتتحت السور المقصود بها قصص الأمم وبما اختتمت يلوح لك ما أشرت إليه والله أعلم بمراده، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله "فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " وختم القصص فيها بقوله: "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " (الأعراف: 176) بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ... الآية " (الأعراف: 173) ثم قال: "ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا" (الأعراف: 176) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص كيف الحق من كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب وغيرهم (ممن) قص ذكره من المكذبين، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم، وفي ذلك أعظم موعظة، قال الله تعالى إثر ذلك "من يهد الله فهو المهتدى ... الآية " فبدأ الاستجابة لنبيه بذكر ما أنعم به عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى: "المص كتاب أنزل إليك " فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين، وأشار هنا إلى ما يحمله على التسلية وشرح الصدور بما حوى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونورا فقال "فلا يكن في صدرك حرج منه " أي أنه قد تضمن مما احلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك بسنتهم وليتذكر المؤمنون. ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " فإن هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس، ثم أتبع تعالى ذلك بقصة آدم عليه السلام ليتبين لعباده ما جرت به سنته فيهم من تسلط الشيطان وكيده وأنه عدو لهم (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك، كتصريح اللعين بالحسد، وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه، ثم أخذه في الوسوسة إلى آدم عليه السلام، وحلفه له (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) وكل هذا مما أجمل في صورة البقرة، ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها أعنى أنها تفيد مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أولا، ثم انجرت الآي إلى ابتداء قصة (نوح عليه السلام) واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصة آدم وما جرى من محنة إبليس، وفصل هنا الكثير، وذكر ما لم يذكر في سورة البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط. ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلا القصتين مستقل شاف وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله، ووضح كماله، فتبارك مَن هذا كلامه، ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة. ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمومنين بالعفو والصفح فقال تعالى: "فاعفوا واصفحوا" (آية: 159) أعقبه تعالى أيضا هنا بقوله لنبيه (عليه الصلاة والسلام) (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وقد خرجنا عن المقصود فلنرجع إليه. سورة الأنفال . لما قص سبحانه على نبيه عليه السلام في سورة الأعراف أخبار الأمم وقطع المومنين من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة لافتتاح السورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم، ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتي منه على بلعام بقوله سبحانه "ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " (الأعراف: 176) فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أصل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جلة فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فكأن قد قيل لهم اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم وفوضوا في أمره لله وللرسول فذلك أسلم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم، وترك أهوائكم، وقد أُلف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيرا، وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر، والنظرة، والخطبة في العدة، واعتداد النوم الثقيل ناقضا، فهذه مظان يقع الحكم فيها على ما هو لا نفسها، ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان وروادع لا منع لعينه، أو استوجب حكما ما لعينه وعلته الخاصة به. ولما أُمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر، إذ كان المقاتِلة قد هموا بأخذها، وحدثوا أنفسهم بالانفراد بها، ورأوا أنها من حقهم، وأن من لم يباشر قتالا من الشيوخ، ومن انحاز فئة لهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضا أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فئة للمقاتلين، وعدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله ورسوله من باب حسم الذرائع، لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرياسة النفوس، واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض فيه لله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الاتباع بقوله "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم .... الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثم ذكروا بما ينبغي لهم أن يلتزموا فقال تعالى: "إنما المؤمنون" إلى قوله: "زادتهم إيمانا"، ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغى للمؤمن أن يعتمد عليه اعتمادا يدخل عليه ضررا من الشرك أو التفاتا إلى غير الله سبحانه بقوله: "وعلى ربهم يتوكلون " (آية: 2) ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق، ثم قال: "أولئك هم المؤمنون حقا" تنبيها على أن من قصر عن هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان، ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره، وكاأن هذا إشعارا بعذرهم في كلامهم في الأنفال، وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب، وشِرب من التمسك والاتباع لكن أعلى الدرجات ما بيِّن لهم ومُنحوه، وأنه الكمال والفوز. ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر، وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم، وهو سبحانه يريهم. حسن العاقبة فيما اختار لهم فقد كانوا تمنوا لقاء العير واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء -: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم، ونبههم على ما يثَبت يقينهم ويزيد في إيمانهم. ثم اعلم أن الخير كله في التقوى فقال: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا"، وهذا الفرقان هو الذى حرفه إبليس وبلعام فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت حصول الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معا في قوله: "والله ذو الفضل العظيم ". والفضل العظيم بعد تفضيل ما إليه إسراع المؤمن من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخير الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 تنزيها للمؤمن - في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات والغفران - عن ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب، فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلا مع ما لا يجانسه ولا يشاكله، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان "، ثم التحمت الآى. ووجه آخر وهو أنه سبحانه لما قال: "وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له " (الأعراف: 204) بين لهم كيفية هذا الاستماع وما الذى يتصف به المؤمن من ضروبه فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها، ولا قلوب لا يفقهون بها ولو كانت كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية، وزادتهم الآيات إيماناً، فإذاً إنما يكون سماع المومن هكذا، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) . ولما كان هؤلا إنما أتي عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أغراضهم وشهواتهم يأخذون عرض هذا الأدنى "ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " وهذه بعينها كانت آفة إبليس فإنه رأى لنفسه مزية واعتقد لها الحق ثم أتبع هذا الهوى حين قال: (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) فلما كان اتباع الأهواء أصلا في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أُمر المؤمنون بحسم باب الأهواء والتسليم فيما لهم به تعلق وإن لم يكن هوى مجردا. لكنه مظنة تيسير اتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال، وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها بما شاء، فاتقوا الله واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره، وأصلحوا ذات بينكم برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين، وقد أمرتم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله تعالى: "إنما المؤمنون ". ووجه آخر، وهو أن قصص بني إسرائيل عقّب بوصاة المؤمنين خصوصا بالتقوى، وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بنى إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" ولما كان قصصهم مفتتحا بذكر تفضيلهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) افتتح خطاب هذه الأمةِ بما يشعر بتفضيلهم، وتأمل ما بين "يا بني إسرائيل " و"يا أيها الذين آمنوا"، وأمَر أولئك بالإيمان "وآمنوا بما أنزلت " وًأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل: "وقولوا انظرنا واسمعوا". ثم أعقبت البقرة بآل عمران: وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذى من جهته أتي على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم. ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيما أعقب بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) ثم أعقبت السورة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار "هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا"، فهذا بهت، ومنها قولهم: "إن الله فقير ونحن أغنياء" إلى ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 تعمدهم الجرائم، فعدل عن "يا أيها الذين آمنوا" إلى "يا أيها الناس " ليكون أوقع في الترتيب وأخوف وأوضح مناسبة لما ذكر. ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " إلى قوله: "وأكلهم أموال الناس بالباطل "، أتبعت بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة وبين فيها اعتداءهم وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأعراض طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) . ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تسبب يقيم عذرهم شرعا فيما كان منهم، فكأن قد قيل لهم ترك هذا أسلم وأبعد عن اتباع الأهواء فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله، واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآى وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه والحمد لله. سورة براءة اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف توجيهه، حتى أن شدة المشابهة والالتئام - مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بَيَّنَ انفصالهما - أوْجَبَ أن لا يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوبة فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار، وأنها على الضعف، وحكم الأسرى، وحكم ولاية المؤمنين ومن يدخل تحت هذه الولاية، ومن يخرج عنها، ثم ذكر في السورة الأخرى من عهد إليه من المشركين، والبراءة منهم إذا لم يوفوا، وحكم من استجار منهم إلى ما يتعلق بهذا وكله باب واحد، وأحكام متواردة على قضية واحدة وهو تحرير حكم المخالف، فالتحمت السورتان أعظم التحام ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أسرارهم. سورة يونس عليه السلام لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى: "إلاتنصروه فقد نصره الله " وقوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم " وقوله: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وقوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر السورة، إلى ما تخلل أثناء آى هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب، ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا مع ما انطوت عليه هي والأنفال من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهور دينه، وعلو دعوته وإعلاء لكلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، كان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك، ومثيرا لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم، ما مُنحه عليه السلام قال تعالى في هذه السورة: "أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) ثم قال تعالى: "إن ربكم الله " الآيات وما بعدها فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد "ذلكم الله ربكم فاعبدوه " "ما خلق الله ذلك إلا بالحق " ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكير في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا "مال هذا الرسول يأكل الطعام يمشى في الأسواق " "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا" وهذه مقالات الأمم المتقدمة "قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا"، "ما نراك إلا بشرا مثلنا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) "مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ" فقال تعالى متوعداً للغافلين: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ.. الآيات " وكل هذا بين الالتحام جليل الالتئام ثم تناسجت آى السورة. سورة هود عليه السلام لما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت من آي التنبيه والتحريك للنظر، ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيبب والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم ما لم تشتمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 تكرر ذلك فيها والله أعلم، أنها أعقبت بها السبع الطوال، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاف أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كا تقدم، وبسطت ما أجمل من أمرهم، ثم أتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحذروا وأنذروا كشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين، وتم المقصود من هذا في سورة (الأنفال وبراءة) ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم، فكان مظنة لتأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس عليه السلام مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله "إن ربكم الله ... الآيات، ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" (آية: 21) ، ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ" ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين فمن التنبيه "إن ربكم الله " إن في اختلاف الليل والنهار" "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض " إلى غير هذا. وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ" فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها، كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين، فلما تقرر هذا كله، أتبع المجموع بقوله: " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما: الحكيم، الخبير، ثم تأمل تلاؤم صدر السورة لقوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ" وقد كان تقدم قوله تعالى: "قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ" فأتبع قوله تعالى: "قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ" بقوله في صدر سورة هود كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق توبيخهم في قوله تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ". والعجب في عمههم مع أحكامه وتفصيله، ولكن. (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) . وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة والله أعلم بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم، وملتزمات متبعيه أخذا وتركا، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في أخبار الله تعالى سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ" وقد نسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به، وذُكِرَ اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم، كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وفصل من أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاما وتركاً ما أوضح طريقهم وعين حزبهم وفريقهم، "أولئك الذين هدى الله" وذكر أحوال الأمم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلا، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام، وحال الملائكة في التسليم والإذعان، وذكر فريقا الجن من مؤمن وكافر، وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي، وتكرر دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعا فيه ورحمة، وإعلام الخلق بما هو عليه سبحانه، وما يجب له من الصفات العلا، والأسماء الحسنى، ونبه العباد على الاعتبار وعلموا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المنفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به، والله يقول الحق. فلما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها، أعقب ذلك بقوله: " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" ثم أتبع هذا بالايماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آى الكتاب، وهي فصل الإلهية وفصل الرسالة وفصل التكاليف. أما الأول فأشار إليه قوله: "أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" وأما فصل الرسالة فأشار إليه سبحانه: "إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ" وأما فصل التكاليف فأشار إليه قوله سبحانه: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ" وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آى القران، وعليها مدار السورة الكريمة. فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد، واتضح الحق وبان، قال سبحانه وتعالى: "وجاءك في هذه الحق " إشارة إلى كمال المقصود، وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق، وقد وضح من هذا تلاؤم هذه السورة الكريمة لما تقدمها، ومما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يشهد لهذا والله أعلم قوله تعالى: "أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ" وقوله تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا" فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق. كيف تنكب من حُرم سلوكَه من الخلق. ونظير قوله سبحانه: "وجاءك في هذه الحق " عقب ما ذكر سبحانه "لمن الملك اليوم" وقوله تعالى: "يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ" فتأمل ذلك والله المستعان. سورة يوسف عليه السلام هذه السورة من جملة ما قص عليه عليه السلام من أنباء الرسل وأخبار من تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله تعالى: "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك "، ومما وقعت الإحالة عليه في سورة الأنعام كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تقدم، وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أممهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص، ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام كيفية تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم، ْ أما هذه القصة فحاصلها فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه، وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والأخوة والسجن، ثم امتحن جميعهم بشمول الضرر وقلة ذات اليد "مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ" ثم تداركهم الله بإلفهم وجمع كلهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد من كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك، وكل ذلك مما أعقبه جيل الصبر، وجلالة اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة، ثم انجر في أثناء هذه القصة الجليلة إثابة امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم استخلاص العزيز إياه إلى ما أنجز في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر، "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ". فقد انفردت هذه القصة بنفسها وتناسب ما ذكر منْ قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى من أممهمْ، فلهذا فصِلت عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما في طي ذلك، وقد صرح لهم بما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا" وكانت قصة يوسف (عليه السلام) ، بجملتها أشبه شىء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشتتهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم إلى أن جمع الله شملهم "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" وأورثهم الأرض وأيدهم ونصرهم، ذلك. بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم. فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص والله أعلم، وأما تأخر ذكرها عنها فمناسب لحالها، ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ ووقف عند ما حُد له فلم يضره ما كان، ولم تُذكر إثر قصص الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود، ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حث عاقبة الصبر والحض عليه كما مر فأخرت إلى عقب سورة هود عليه السلام لمجموع هذا والله تعالى أعلم. ثم ناسبت سورة يوسف أيضا أن تذكر إثر قوله تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات " وقوله: "واصبر فإن الله لا يضيع أمر المحسنين " وقوله: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة الآية " وقوله "وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون " فتدبر ذلك. أما نسبتها للآية الأولى فإن ندم إخوة يوسف واعترافهم بخطإ فعلهم وفضل يوسف عليهم "لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ" وعفوه عنهم "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"، وندم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 امرأة العزيز وقولها "الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ... الآية" كل هذا من باب إذهاب الحسنة السيئة، وكأن ذلك مثال لما عرف المومنون من إذهاب الحسنة السيئة، وأما نسبة السورة لقوله تعالى: "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه السلام بالصبر على قومه، فأتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما السلام، وما كان من صبرهما مع طول المدة وتوالي امتحان يوسف عليه السلام بالجب ومفارقة الأب والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات، ألا ترى قول نبينا (عليه الصلاة والسلام) ، وقد ذكر يوسف عليه السلام فشهد له بجلالة الحال، وعظيم الصبر فقال: "ولو لبثت في السجن ما لبث أخي يوسف لأجبت الداعي "، فتأمل عذره له عليهما السلام وشهادته بعظيم قدر يوسف "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ". لما قيل له عليه السلام "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " أتبع بحال يعقوب ويوسف من المحسنين، "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى قوله "وكذلك نجزي المحسنين ". وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف (عليهما السلام) ، ونبينا عليه الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم، وقيل له "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " ويوسف عليه السلام من أولي العزم (صلى الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام في صبرهما ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب أنسب شىء لحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه، ثم تعقب ذلك بظفره بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده على حالة قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه فتأمل ذلك. ويوضح ما ذكرناه ختم السورة بقوله تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ... " الآية.، فحاصل هذا كله الأمر بالصبر وحسن عاقبة أولياء الله فيه. وأما النسبة لقوله "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين " فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء لأب واحد من أنبياء الله وصالحى عباده جرى بينهم من التشتت ما جعله الله عبرة لأولى الألباب، وأما النسبة لآية التهديد فبينة، وكأن الكلام في قوة اعملوا على مكانتكم وانتظروا، فلن نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف (عليهما السلام) ، وقد وضح بفضل الله وجه ورود هذه السورة عقب سورة هود والله أعلم. سورة الرعد هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) فبيان آى السمماوات في قوله (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وبيان آي الأرض في قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فهذه آي السماوات والأرض وقد زيدت بيانا في مواضع ثم في قوله تعالى: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ" ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض والضياء عن نور الشمس وهى سماوية ثم زاد تعالى آيات الأرض بيانا وتفصيلا في قوله: "وفي الأرض قطع متجاورات" إلى قوله "لقوم يعقلون " ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية ودليلا واضحا على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى "كذلك نخرج الموتى" وكان قد ورد هنا على أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة، تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة "تسقى بماء واحد وتفضل بعضها على بعض في الأكل " لذلك أعقب قوله تعالى: "وفي الأرض قطع متجاورات ... الآية بقوله "وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... " الآية، ثم أتبعِ ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى ... ". الآيات إلى قوله "وما لكم من دونه من وال " ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم "هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا ... الآيات " وما بعدها وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة. ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" والمراد لكان هذا القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" ، والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ" فهو من نحو "إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين"، "وفي أنفسكم "، أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم كفتكم في بيان الطريق إليه، ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيم، (من عرف نفسه عرف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فمن قبيل هذا القرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) فقد أشار إليه قوله تعالى: "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " "إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله: "وقليل ما هم " والمقول فيهم "أولئك هم المؤمنون حقا" ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم وإليهم الإشارة بقوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) قال عليه الصلاة والسلام (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل) فهذا بيان ما أجمل في قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) . وأما قوله تعالى: " أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ" فما عجل لهم من ذلك في قوله: "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ" القاطع دابرهم والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ .... الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فقد أوضحت آى سورة الرعد سبيله عليه السلام وبينته بما تحتمله من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين كما تقدم. ثم قد تعرضت السورة لبيان جلي سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى: "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " إلى آخر ما حلاهم به أخذا وتركا. ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليمه عليه السلام في أمرهم "إنما أنت منذر" "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً" "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ" "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا" والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات، ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سورة إبراهيم عليه السلام لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات واليراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لعظيم شأنها واتضاح أمرها، قال تعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ" أى إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ولما كان الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئة الله سبحانه وسابق إرادته، وقد قال لنبيه عليه السلام: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" قال تعالى هنا "بإذن ربهم " "فإنما عليك البلاغ " وكما قال تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، ثم بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال: "الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض " فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما وما بينهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكا وخلقا واختراعا "وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها" "وويل للكافرين من عذاب شديد" لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه، ويصدون عن سبيل الله مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك بالدليل ثم قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " وكان هذا من تمام قوله سبحانه "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد إِلفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا: "أبشر يهدوننا" "ما أنتم إلا بشر مثلنا" وحتى قالت قريش: " لولا أنزل عليه ملك " و "مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" فلما كثر هذا منهم وتبع خلفُهم في هذا سلفَهم رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فشيئا، فأول الوارد من ذلك في معرض السرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى: "أكان للناس عجبا ان أوحينا إلى رجل منهم ... الآية "، ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء، لأن الكل خلقه وملكه وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذه الآى كل جاحد ومعاند، ثم ذكر تعالى في سورة هود قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا ... الآية" وجوابه عليه السلام: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ" أي وإني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله من فضله وآتاني رحمة من عنده وبرهانا على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أوضح عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام وديدن الأمم أبدا مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى، وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعريفا بأحوال من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام) ليسمع ذلك من جرى له مثل ماجرى لهم فقال مثل مقالتهم فقال تعالى: "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" وأعلم سبحانه أن هذا لا يحيط شيئا من مناصبهم بل هو أوقع في قيام الحجة على العباد، ثم تلى ذلك بقوله: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة لا نفهم عنهم، إذ قد قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 "مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ" هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم، فكيف لو كان على خلاف ذلك، بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد، واستعمال الأغذية وغير ذلك من مألوفات البشر لكان ذلك منفرا، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر، ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية وإليه الإشارة بقوله تعالى: "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة. ولما كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة كان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم وتأمل كم بين كتابه - صلى الله عليه وسلم - لأنس (رضى الله عنه) في الصدقة، وكتابه إلى وائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ابن حُجْر مع اتخاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخر وعذابها. سورة الحجر لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنته الآي المختتم بها سورة إبراهيم عليه السلام من لدن قوله سبحانه: "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " إلى خاتمتها (الآيات: 42 - 32) أعقب ذلك بقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أي عند مشاهدة تلك الأهوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيدا لذلك الوعيد (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) ثم أعقب تعالى هذا بيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان لا انفكاك لهما عنها، ولا تقدم ولا تأخر إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، قال تعالى: "وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم " وكان هذا يزيده إيضاحا قوله عز وجل "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" وقوله: "وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ" وقوله: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ... الآية. وتأمل نزول قوله تعالى: "رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ" على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله. وأما افتتاح السورة بقوله: " (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) " فأحاله على أمرين واضحين أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضا، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع الشاهد لضدة البيان، في صحة الوقوع، فالعجب من التوقف والتكذيب ثم أعقب هذا بقوله: "رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سورة النحل هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) (وقال بعد ذلك في وعيد المستهزئين "فسوف يعلمون " أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) وزاد هذا بيانا قوله سبحانه وتعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم واتبع ذلك تنبيها وتعظيما فقال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته "خلق الإنسان من نطفة) . ثم أبلغه تعالى حدا يكون منه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه (سبحانه) في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة وما هو سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله قوله: "ولو شاء لهداكم أجمعين " فبين أن كل الواقع من هداية وضلال، خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد وابتدأهم ابتداء واحدا "خلق الإنسان من نطفة"، فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) . سورة الإسراء (291) لما تقدم قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) إلى قوله (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا .... الآية " كان ظاهر ذلك تفضيل إبراهيم عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع الأنبياء لا سيما مع الأمر بالاتباع، فأعقب ذلك بسورة الإسراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقد تضمنت من خصائص نبينا (عليه السلام) وانطوت على ما حَصل من النصوص في الصحيح والمقطوع به والمجمع عليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم فاستفتحت السورة بقصة الإسراء، وقد تضمنت حسبما وقع في صحيح مسلم وغيره إمامته بالأنبياء عليهم السلام وفيهم إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء من غير استثناء، هذه رواية ثابت عن أنس (ضي الله عنه) (وهي أنقى رواية عند أهل صناعة الحديث وأجودها) ، وفي حديث أبي هريرة أنه عليه السلام أثنى على ربه فقال: (الحمد لله الذي أرسلنى رحمة للعالمين كافة وللناس بشيرا ونذيرا. وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شي وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري ورفع لي ذكرى، وجعلني فاتحا وخاتما فقال إبراهيم (عليه السلام) بهذا فضلكم محمد. وفي رواية أبي هريرة (ضى الله عنه) من طريق الربيع بن أنس وذكر - صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهى وأنه تبارك وتعالى قال له: سل فقال إنك اتخذت إبراهم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، كلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألَنْتَ له الحديد وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجن والإنس والشياطين والرياح وأعطيته مكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك حبيبا فهو مكتوب في التوراة (محمد) حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيئين خلقا وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثاني ولم أعطهما لنبي قبلك وأعطيتك خواتم البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وفي حديث شريك أنه رأى موسى عليه السلام في السماء السابعة قال بتفضيل كلام الله، قال ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله فقال موسى لم أظن أن يرفع علي أحد. وفي حديث علي بن أبي طالب (رضى الله عنه) أخرجه البزار في ذكر تعليمه عليه (السلام) الأذان وخروج الملك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ياجبريل من هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه ... الحديث، وفيه ثم أخذ الملك بيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 محمد - صلى الله عليه وسلم - فقدمه فأم أهل السماء فيهم آدم ونوح. وفي هذا الحديث قال أبو جعفر محمد بن علي راويه: أكمل الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الشرف على أهل السماوات والأرض، قلت: وفي هذا الحديث إشكالات صعبة فلهذا لم نورد منه إلا أطرافاً بحسب الحاجات، إذ ليس ما فيه الإشكال من مطلوبنا هنا. وقد حصل منه تفضيله - صلى الله عليه وسلم - بالاسراء وخصوصه بذلك، ثم قد انطوت السورة على ذكر المقام المحمود، وهو مقامه في الشفاعة الكبرى، وذلك مما خص به حسبما ثبت في الصحيح، وانعقد عليه إجماع أهل السنة، ولا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء مثل ما تضمنت هذه السورة والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 سورة الكهف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 من الثابت المشهور أن قريشا بعثوا إلى يهود بالمدينة يسألونهم في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابتها يهود بسؤاله عن ثلاثة أشياء قالوا فإن أجابكم (بجوابها) فهو نبي، وإن عجز عن جوابكم فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم وهي: الروح، وفتية ذهبوا في الدهر الأول، وهم أهل الكهف، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغربها، فأنزل الله عليه (سبحانه) جواب ما سألوه وبعضه في سورة الإسراء "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" واستفتح تعالى سورة الكهف بحمده وذكر نعمة الكتاب وما أنزل بقريش وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح وبشارة المؤمنين بذلك وما منحهم الله من النعيم الدائم وإنذار القائلين بالولد من النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم: "إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا"، وتسلية نبى الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر جمعهم "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... " والتحمت الآي أعظم التحام وأحسن التئام إلى ذكر ما سأل عنه الكفار من أمر الفتية (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) ثم بسطت الآي قصتهم وأوضحت أمرهم واستوفت خبرهم، ثم ذكر سبحانه أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره فقال: "ويسألونك عن ذي القرنين .... الآيات " (آية: 83 - 94) وقد فصلت بين القصتين مواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط وأجل اتساق ومن جملتها قصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما بينهما كفر صاحبهما واغترَاره وهما من بني إسرائيل ولهما قصة، وقد أفصحت هذه الآي منها باغترار أحدهما بما لديه وكونه إلى توهم البقاء وتعويل صاحبه على ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء أمره بعد المحاورة الواقعة نمط الآيات بينهما إلى إزالة ما تخيل الفتون بقاءه ورجع ذلك كأنه لم يكن ولم يبق بيده إلا الندم، ولا صح له من جنتيه بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشى والعدم. وهذه حال من ركن إلى ما سوى المالك، وكل شىء إلا وجهه سبحانه وتعالى فإنه فان وهالك، "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" "ففروا إلى الله ". ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر، وأعقب تلك الآيات بقصة موسى والخضر عليهما السلام إلى تمامها وفي كل ذلك من تأديب بنى إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه السلام عن القصص الثلاث، أن قد حازوا العلم وانفردوا بالوقوف على ما لا يعمله غيرهم، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع دابرهم، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا وتحريك لمن سبقت له منهم السعادة، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة لمن هو العليم الخبير، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه عاد الكلام إلى بقية سؤالهم فقال: "ويسألونك عن ذي القرنين " إلى آخر القصة (آية: 83) وليس بسط هذه القصص من مقصودنا وقد حصل ما أردناه ولم يبق إلا السؤال عن وجه انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد وهذا ليس من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن قدر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 سورة مريم لما قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين موسى والخضر (عليهما السلام) ، وقصة ذي القرنين، أتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة زكريا به بعد الشيخوخة وقطع الرجاء وعقر الزوج حتى سأل زكريا مستفهما ومتعجبا (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) فأجابه الله تعالى بأن ذلك عليه هين وأنه يجعل ذلك آية للناس وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة فكأن قد قيل: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيمِ كانوا من آياتنا عجبا نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية وهو قصة زكريا في ابنه يحيى عليهما السلام، وقصة عيسى (عليه السلام) في كينونته بغير أب ليعلم أن الأسباب في الحقيقة لا يتوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 عليها شىء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله، وإنما الفعل له سبحانه لا لسبب وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه السلام "وقد خلقتك من قبل ولم تكن شيئا" (آية: 9) ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإتيانه الحكم صبيا ثم بذكر مريم وابنها عليهما السلام وتعلقت الآي بعد إلى انقضاء السورة. سورة طه لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم وما منحه وأعطاه وقصص الأنبياء بعده بما خصهم به، وأعقب ذلك بقوله تعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ" (مريم: 58) وكان ظاهر هذا الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العالية والدرجات المنيفة الجليلة لا سيما وقد أتبع ذلك بقوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) كان هذا مظنة إشفاق وخوف فأتبعه تعالى بملاطفة نبيه (محمد) - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وأيضا فقد ختمت سورة مريم بقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) بعد قوله: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وقد رأى عليه السلام من تأخر قريش عن الإسلام ولردها ما أوجب إشفاقه وخوفه عليهم ولا شك أنه عليه السلام يحزنه تأخر إيمانهم ولذلك قيل له: فلا تحزن عليهم ". فكأنه، عليه الصلاة والسلام ظن أنه يستصعب المقصود من استجابتهم أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة فبشره سبحانه بقوله: "ما أنزلنا عليه القرآن لتشقى" فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهم فسيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر "فلا يحزنك قولهم " (آية: يس 76) . ثم أتبع (سبحانه) ذلك تعريفا وتأنيسا بقوله: "الرحمن على العرش استوى" (آية: 5) إلى أول قصص موسى عليه السلام فأعلم سبحانه أن الكل خلقه وملكه وتحت قهره وقبضته لا يشذ شىء عن ملكه، فإذا شاء هداية لم من وفقه لم يصعب أمره، ثم أتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام وما كان منه في إلقائه صغيرا في اليم، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع وهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 سورة الأنبياء لما تقدم قوله سبحانه "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ" إلى قوله "فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى" (طه: 31 1 - 135) قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق ويسأل عن قليل ذلك كثيره "لتسألن يومئذ عن النعيم " (التكاثر: 8) والأمر قريب "اقترب للناس حسابهم " وأيضا فإنه تعالى لما قال: "وتنذر به قوما لدا" (مريم: 97) وهم الشديدو الخصومة في الباطل المرتكبوا للجج، ثم قال تعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) استدعت هذه الجملة بسط حال ابتدأت بتأنيسه عليه السلام وتسليته حتى لا يشق عليه لردهم، فتضمنت. سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حال بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لدد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله وأهلكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وأورث عباده أرضهم وديارهم، ثم أتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه - صلى الله عليه وسلم - سننه في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه، وكل هذا تأنيس للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا تقرر لديه أنها سنة الله تعالى في عباده هان عليه لدد قريش ومكابدتهم ثم ابتدأت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس فبين اقتراب الحساب ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجليل الجزاء، ثم أتبع سبحانه ذلك بعظات ودلائل ومواعظ وبسط آيات، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته فأهلك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفى الأمم "ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها" (آية: 6) وفي قوله: "أفهم يؤمنون " (آية: 6) تعزية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمرقريش ومن قبيل ما الكلام بسبيله. وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها ما يعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر على الابتلاء وهو من مقصود السورة في قوله تعالى: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) إجمال لما فسره النصف الأخير من هذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم واهلاك من أسرف وأفك ولم يؤمن، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذى تضمنه النصف الأخير من لدن قوله: "ولقد آتينا إبراهبم رشده (آية: 51) إلى آخر السورة" كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه وتفصيل المجمل (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 سورة الحج لما افتتحت سورة الأنبياء بقوله تعالى: "اقترب للناس حسابهم " وكان في معرض التهديد، وتكرر في مواضع منها كقوله تعالى: "وإلينا يرجعون " (آية: 35) "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ" (الآيات: 37 - @ر 3) "ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك (آية: 46) "ونضع الوازين القسط ليوم القيامة" (آية: 47) "وهم من الساعة مشفقون " (آية: 49) "كل إلينا راجعون " (آية: 93) "وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ" (آية: 97) "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) " (آية: 98) "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ" (آية: 104) إلى ما تخلل هذه الآي من التهديد وتشديد الوعيد حتى لا تكاد تجد أمثال هذه الآي في الوعيد والإنذار بما في الساعة وما بعدها وما بين يديها في نظائر هذه السورة، وقد ختمت من ذلك بمثل ما به ابتدئت، اتصل بذلك ما يناسبه من الإعلام بهول الساعة وعظيم أمرها فقال تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم" إلى قوله تعالى "ولكن عذاب الله شديد" ثم أتبع هذا ببسط الدلالات على البعث الأخير وإقامة البرهان "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ" ثم قال: "ذلك بأن الله هو الحق " أي اطرد هذا الحكم العجيب ووضح من تقلبكم من حالة إلى حالة قي الأرحام وبعد خروجكم إلى الدنيا وأنتم تعلمون ذلك من أنفسكم وتشاهدون الأرض على صفة من الهمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 والموت إلى حين نزول الماء فتحيى وتخرج أنواع النبات وضروب الثمرات تسقى بماء واحد "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى" كما أحياكم أولا وأخرجكم من العدم إلى الوجود وأحيى الأرض بعد موتها وهمودها كذلك تاقي الساعة من غير ريب ولا شك ويبعثكم لما وعدتم من حسابكم وجزائكم "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ". سورة المؤمنين فُصِّل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع، ولالتحام الكلامين أورد الأول أمرا والثاني مدحة وتعريفا بما به كمال الحال، وكأنه لما أمر المؤمنين وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله كان مظنة لسؤاله عن تفضيل ما أمر به من العبادة وفعل الخير الذى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 يكمل فلاحه فقيل له: المفلح من التزم كذا وكذا وذكر سبعة أضرب من العبادة وفعل الخير الذي يكمل به فلاحه، فقيل له هي أصول لما وراءها ومستتبعة سائر التكاليف، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة. ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) لذلك اختتمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادات بذكر التنبيه على الخشوع فيها أولا، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" إلى قوله: "ثم أنشأناه خلقا آخر فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " وكان قد قيل له إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد هذه التقلبات السبعة، وإنما تتخلص من دنياك بالتزام هذه العبادات السبع، وقد وقع عقب هذه الآيات قوله تعالى: "ولقد خلقنا فوقك سبع طرائق " (آية: 17) ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار، ووارد لمناسبته والله أعلم. وكان صدر هذه السورة مفسرا لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان. سورة النور لما قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) ... " ثم قال تعالى "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) " استدعى الكلام بيان حكم العادين في ذلك، ولم يبين فيها، فأوضحه في سورة النور فقال تعالى: "الزانية والزاني ... الآية " (آية: 2) ، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف، وانجر مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيرا للمؤمنين من زلل الألسنة رجما بالغيب "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ" (آية: 15) ، وأتبع ذلك بوعيد محبى شياع الفاحشة في المؤمنين بقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ... الآيات " (آية: 23) ثم بالتحذير من دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع، ثم بالأمر بغض البصر للرجال والنساء، ونهي النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام، وكل هذا مما يبرىء ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله به من ذلك والوقوف عند ما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباط التفسير، وليس من شرطنا هنا والله سبحانه يوفقنا لفهم كتابه. سورة الفرقان لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنا ورمي الزوجات به والقذف والاستئذان والحجاب، وإسعاف الفقير والكتابة وغير ذلك، والكشف عن مغيبات من تغاير حالات تبين بمعرفتها والاطلاع عليها الخبيث من الطيب - كإطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الِإفك وبيان حالهم واضمحلال محالهم - ثم في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون، ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين "وعد الله الذين آمنوا منكم (وعملوا الصالحات) " (النور: 35) ، ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا" إلى آخر الآية كان في مجموع هذا فرقانا يعتضد به الإيمان ولا ينكره مقر بالرحمن، يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة رسالته ويوضح مضمن قوله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) من عظيم قدره - صلى الله عليه وسلم -، وعلي جلالته أتبعه سبحانه بقوله: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ" وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر "لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"، فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم، ثم تناسج الكلام والتحم جليل المقصود من ذلك النظام. وقد تضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرهاكقولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ... الآيات " (آية: 7) وقولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" (آية: 21) وقولهم: "لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة" (آية: 32) ، وقولهم: "وما الرحمن " (آية: 60) إلى ما عضَّد هذه وتخللها، ولهذا ختمت بقواطع الوعيد، وأشد التهديد وهو قوله سبحانه (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 سورة الشعراء لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين وختمت بما ذكر في الوعيد كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه السلام وتأسفه على فوت إيمانهم لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه السلام وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه: "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وقد تكرر هذا المعنى عند إرادته تسليته عليه السلام كقوله تعالى: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَ" "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ " "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى". وقل ما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصة موسى عليه السلام وما كابد من بنى إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكرر، وإنه ظَنَّ ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكرر في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها وسنوضح هذا في التفسير بحول الله تعالى. ئم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) مع أممهم على الطريقة المذكورة وتأنيسا له عليه السلام حتى لا يهلك نفسه أسفا على فوت إيمان قومه، ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ" فيا لها كرامة تقصر الألسنة عن شكرها وتعجز العقول عن تقريرها، ثم أخبر تعالى أنه بلسان عربي مبين، ثم أخبر سبحانه بعلي أمر هذا الكتاب وشائعِ ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء عليهم السلام فقال: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب مع أنه هدى ونور قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) وقال تعالى: في هذا المعنى: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) ، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله على أن تتسور الشياطين. على شىء منه أو تصل إليه فقال سبحانه: "وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم " أي ليسوا أهلين له ولا يقدرون على استراق سمعه بل هم معزولون عن السمع مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمراد المؤمنون فقال: "فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ، ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) . ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه وأهلية ما تخيلوه فقال: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) . ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه عليه السلام على ما يقولوه، ثم هددهم وتوعدهم فقال: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 سورة النمل لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء أو رحم به الأولياء وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقانا قاطعا ونورا ساطعا، أتبع ذلك سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصا واعتناء فقال: "تلك آيات القرآن " أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات القرآن (وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين " ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع وليقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه، وسيعلم الذين ظلموا من عظيم ذلك المطلع، ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الأهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيها لعباده المتقين وأوليائه المخلصين عن دنس الشكوك والافتراء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) . أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والإظلام لارتياب الخواطر والأفهام، ثم أتبع ذلك بتسليته عليه السلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطا له وتعريفاً بعلو منصبه، وإطلاعا له على عجيب صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه السلام. سووة القصص لما تضمن قوله سبحانه: "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ" إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذار والتهديد ما انجر معه الإشعار بأنه عليه السلام سيملك مكة ويفتحها تعالى عليه، ويذل عتاة قريش ومتمرديهم، ويعز أتباع رسوله عليه السلام ومن استضعفته قريش من المؤمنين، أتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من نظير ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أشار إليه في قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون واستيلائه عليهم وفتكه بهم إلى أن أعزهم الله وأظهرهم على عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم. ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى: "سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا" وبقوله في الثانية: "وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ". ثم قص ابتداء أمر فرعون واستعصامه بقتل ذكور الأولاد، ثم لم يغن ذلك عنه من قدر الله شيئا، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار، ودليل أنه سبحانه أنه المنفرد بملكه يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء لا ينازعه نازع ولا يمنعه عما يشاء مانع "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ"، وقد أفصح قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" بما أشار إليه مجملا ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة القصص ونحن. نزيده بيانا بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول: إن قوله تعالى معلما لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وآمراً "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا" إلى قوله: "وقل الحمد لله سيريكم آياته " لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد وشديد الوعيد. ثم في قوله: "رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أشار أنه عليه السلام سيفتحها ويملكها لأنها بلدة ربه وملكه وهو عبده ورسوله، وقد اختصه برسالته وله كل شىء، فالعباد والبلاد ملكه، ففي هذا من الإشارة مثل ما في قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ " وقوله: "وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ". أي ليسمعوه فيتذكر من سبقت له السعادة ويلحظ سنة الله في العباد والبلاد، ويسمع ما جرى لمن عاند وعتا، وكذب واستكبر، كيف وقصه الله وأخذه ولم يغن عنه حذره، وأورث مستضعف عباده أرضه ودياره، ومكن لهم في الأرض، وأعز رسله وأتباعهم، "نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " أي يصدقون ويعتبرون ويستدلون فيستوضحون وقوله: "سيريكم آياته" يشير إلى ما حل بهم يوم بدر، وبعد ذلك إلى يوم فتح مكة، وإذعان من لم يكن يظن انقياده، وإهلاك من ظن تمرده وعناده وانقياد العرب بجملتها بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا، وعزة أقوام وذلة آخرين بحاكم " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (الحجرات: 13) إلى فتح الله على الصحابة (رضوان الله عليهم) ما وعدهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فكان كما وعد. فلما تضمنت (هذه الآي ما أشير إليه أعقب بما هو في قوة أن لو قيل ليس عتوكم بأعظم من عتو فرعون وآله، ولا حال مستضعفى المؤمنين بمكة ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قصدتم فتنته في دينه، بدون حال بني إسرائيل حين كان فرعون يمتحنهم بذبح أبنائهم، فهلا تأملتم عاقبة الفريقين وسلكتهم أنهج الطريقين "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" إلى قوله: "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " (غافر: 82) ، فلو تأملتم ذلك لعلمتم أن العاقبة للمتقين فقال سبحانه بعد افتتاح السورة "إن فرعون علا في الأرض " (آية: 4) ، ثم ذكر من خبره ما فيه عبرة، وذكر سبحانه آياته الباهرة في أمر موسى عليه السلام وحفظه ورعايته وأخذ أم عدوه إياه "عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" (آية: 9) فلم يذبح الأبناء خيفة من مولود يهتك ملكه حتى إذا كان ذلك المولود تولى بنفسه تربيته وحفظه وخدمته ليعلم لمن التدبير والإمضاء، كيف يقود سابق الحكم والقضاء فهلا سألت قريش وسمعت وفكرت واعتبرت "أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى: " (طه: 133) . ثم أتبع سبحانه ذلك بخروج موسى عليه السلام من أرضه "فخرج منها خائفا يترقب " (آية: 21) وما ناله عليه السلام في ذلك الخروج من عظيم السعادة، وفي ذلك شبهة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خروجه من مكة وتعزية له، وإعلام بأنه تعالى سيعيده إلى بلده ويفتحه عليه، وبهذا المستشعر من هنا صرح آخر السورة في قوله تعالى: "إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" وهذا كاف فيما قصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 سورة العنكبوت افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بنى إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم، وانجر مع ذلك بما هو منه، لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولة وابتداء الرضاع، وصبرها على أليم ذلك المذاق) حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه السلام بأمر القبطي وخروجه خائفا يترقب، وحسن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب خيرا، وختم برحمة، ثم بضرب آخر من الابتلاء، أعقب محنة وأورث شرا وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتتانه به "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" فحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 من هذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة، وجرت منه سبحانه في عباده ليميز الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به، إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه، إذ هو موجده وخالقه كان خيرا أو شرا، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى ما به يتعرف أحوال العباد، أو يتوقف علمه على سبب "ألا يعلم من خلق " (الملك: 14) ولكن هى سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك حتى يشهدوا على أنفسهم وتقوم الحجة عليهم باعترافهم ولا افتقار به تعالى إلى شىء من ذلك. فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقع افتتاحها واختتامها هذا، وقد انجر بحكم الإشارة أولا خروج نبينا - صلى الله عليه وسلم - من بلده ومنشئه ليأخذه عليه السلام بأوفر حظ مما ابتلى به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعلي درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته - صلى الله عليه وسلم - آخرا بالعودة والظفر " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ " (القصص: 85) ، فأعقب سبحانه هذا بقوله معلما للعباد ومنبها أنها سنته فيهم فقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم وظاهر إنابتهم ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات وضروب الاختبارات: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقى العليم، إن ذلك من عند الله ابتلاء واختبارا يكون تسخيرا لهم وتخليصا، ومن فريق يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان والمسارعة إلى الكفر والخذلان "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان، فإذا أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، وكان عنده مقاوما لعذاب الله الصارف لمن عرفه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ" فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة وأشد في المحنة. ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم السلام وطول مكابدتهم من قومهم، فذكر نوحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، وخص هؤلاء عليهم السلام بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام، فلبث في قومه كما أخبر الله سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمن معه إلا قليل، وأما إبراهيم عليه السلام فرمي بالمنجنيق في النار فكانت عليه بردا وسلاما، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين (صلى الله عليهما وسلم وعلى الرسل والأنبياء أجمعين) بضروب من الابتلاءات خصلوا على ثوابها وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال: "فكلا أخذنا بذنبه " (آية: 40) ثم وصى نبيه عليه السلام وأوضح حجته وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 سورة الروم لما عنَّف سبحانه أهل مكة ونعى عليهم قبح صنيعهم في، التغافل عن الاعتبار بحالهم وكونهم مع قلة عددهم قد منع الله بلدهم عن قاصد نهبه، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع تعاور أيدي المنتهبين من حولهم، وتكرُّر ذلك واطراده صونا منه لحرمه وبيته فقال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" أي أولم يكفهم هذا في الاعتبار ويتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع، وإنما هو بصون الله إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل بهم نقمه ويسلبهم نعمه، فلما قدم تذكارهم بهذا أعقبه بذكر طائفة هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلادا وقد أيد غيرهم ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم فقال: "الم غلبت الروم في أدنى الأرض ... الآيات " فذكر تعالى (غلبة) غيرهم لهم، وأنهم ستكون لهم كرة ثم يغلبون، وما ذلك إلا بنصر الله من شاء من عبيده ينصر من يشاء فلو كشف عن أبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يتكرر على من حولهم من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم، إنما هو بمنع الله تعالى وكريم صونه لمن جاور حرمه وبيته، وإلا فالروم أكثر عددا وأطول مددا ومع ذلك تتكرر عليهم الفتكات والغارات وتتوالى عليهم الغلبات أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وأيضا فإنه سبحانه لما قال: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ" أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها وتبين اضمحلالها ومحالها، وأنها لا تصفو ولا تتم وإنما حالها أبدا التقلب وعدم الثبات، فأخبر بأمر هذه الطائفة التي هى من أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم الروم، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب فوجب اعتبار العاقل بذلك وطلبته الحصول على تنعم دار لا يتقلب حالها، ولا يتوقع انقلابها وزوالها، "وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ" ومما يقوي هذا المأخذ قوله تعالى: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها لهو ولعب ولعرفوا أمر الآخرة "من عرف نفسه عرف ربه " ومما يشهد لكل من القصدين ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه: "أولم يسيروا في الأرض ... الآيات " (آية: 9 وما بعدها) أى لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين لهم عدم بقائها على أحد، فتحققوا لهوها ولعبها، وعلموا أن حالهم ستؤول إلى حال من ارتكب في العناد والتكذيب وسوء التبار والهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 سورة لقمان لما تكرر الآمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله: "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق " (آية: 8) وقوله "أولم يسيروا في الأرض " (آية: 9) وقوله: "الله يبدأ الخلق ثم يعيده " (آية: 11) وقوله: "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي " إلى قوله "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون " 11 لآيات: 19 - 28) وهى عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا تبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل، وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " (آية: 38) وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وسني العظات، وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق "الم تلك آيات الكتاب الحكيم " أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهم المحسنون الذين ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن فطرة الله التى فطر الناس عليها فقال: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ... الآيات " (آية: 6 وما بعدها) ، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند ويقطع بكل جاحد، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ْثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها ثم قال سبحانه "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ" ثم أتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزِغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال: "ولقد آتينا لقمان الحكمة ... الآية " ليبين لنا سنن من أتبع فطرة الله التى تقدم ذكرها فِى سورة الروم ثم تناسق الكلام وتناسج. سورة السجدة لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه في عالم السماوات والأرض على ذكر الفطرة ثم أتبعت بسورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد هدى به من شاء إلى سبيل الفطرة، وان لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذُكر فلم يغن عنه، ودُعىَ فلم يجب، وتكررت الإنذارات فلم يُصْغِ لها، إن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، وأتبع سبحانه ذلك بما ينبه المعتبر على صحته فقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة في الاستسلام له ولما يقع من أحكامه، وعزَّى نبيه، وصبَّره بقوله: "ومن كفر فلا يحزنك كفره " ثم ذكر تعالى لَجْأ الكل قهرا ورجوعا بحكم اضطرارهم - لوضوح الأمر - إلى الله تعالى فقال: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" ثم وعظ تعالى الكل بقوله: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" أى أن ذلك لا يشق عليه تعالى ولايصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل في النهار وجريان الفلك بنعمته "ذلك بأن الله هو الحق " ثم أكد ما تقدم من رجوعهم في الشدائد إليه فقال: "وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" فلما خلصهم سبحانه ونجاهم عادوا إلى سيء أحوالهم هذا، وقد عاينوا رفقة بهم، وأخذهم عند الشدائد بأيديهم، وقد اعترفوا بأنه خلق السماوات وسخر الشمس والأرض والقمر وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على ما قدر لهم ووقوفهم عند حدود السوابق (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه وحذرهم يوم المعاد وشدته وحذرهم من الاغترار وأعلمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أنه المنفرد بعلم الساعة وإنزال الغيث وعلم ما في الأرحام وما يقع من المكتسبات وحيث يموت كل المخلوقات. ولما كانت سورة لقمان بما بين من مضمنها محتوية من التنبيه والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم أتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب ويزيل كل شك فقال: "الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" أى أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء شواهده، ثم أتبع ذلك بقوله ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " وهو تمام لقوله: "ومن يسلم وجهه إلى الله " ولقوله: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ولقوله: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين " ولقوله: "ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون " بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته فمالكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات متوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم ولجأتم إليه عند احتياجكم. ثم أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع ولا يغنى عنه إجابة فقال: "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ" ثم أعلم سبحانه أن الواقع منهم إنما هو بإرادته وسابق من حكمه ليأخذ الموفق الموقن نفسه بالتسليم فقال: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 كما فعلنا بلقان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذُكِّر فأعرض فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) وتعلق الكلام إلى آخر السورة. سورة الأحزاب افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه ونهيه عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين، واتباعه ما يوحى الله إليه تنزيها لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة، وأمرا له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل " ولما تحصل من السورتين قبل (ما يَعقب العاِلمَ من الخوف أشده لغيبة العلم بالخواتم، وما جرى في السورتين من الإشارة إلى السوابق "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" كان ذلك مظنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 لتيئيس نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحي أتباعه، فلهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجرى على المعهود من لطفه تعالى وسعة رحمته، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه بالتقوى وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة، وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله وإيضاح دليله، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر ورد عقب تخويف وإنذار بيان كان عليه السلام قد نَزه الله قدره عن أن يكون منه خلاف التقوى وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعَلي منصبه ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص إلا مدحٌ من محمود صفاتهم ومنه: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ..... الآية " فذكره باسم الرسالة، ومهما كان الأمر أو النهى عدل في الغالب إلى الأعم ومنه "يا أيها النبي اتق الله " "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" "يا أيها النبي لِم تحرم ما أحل الله لك " "يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات "، وقد بين في غير هذا، وإن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن الطرد كقوله: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ"، فوجه هذا أن قوله سبحانه: "وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ"، موقعه شديد فعدل بذكره عليه السلام باسم الرسالة لضرب من التلطف فهو من باب "عفا الله عنك لم أذنت لهم " وفيه بعض غموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وأيضا فإنه لما قيل له: "بلغ " طابق هذا ذكره بالرسالة، فإن المبلغ رسول والرسول مبلغ ولا يلزم النبى أن يبلغ إلا أن يرسل، وأما قوله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" (المائدة: 41) فأمره وإن كان نهيا أوضح من الأول لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه، فماَله راجع إلى ما يرد مدحا مجردا عن الطلب وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا. ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلى حاله ومزية قدره، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع: منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه أمهات للمؤمنين فنزههن عن أن يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصا وإجلالا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها قوله تعالى: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب .... الآية" فنزههم لم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) والآية بعد كذلك وهى قوله تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا". ومنها "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ" فنزههن تعالى وبين شرفهن على من عداهن. ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" ..... الآية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ومنها الأمر بالحجاب "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ" فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب وصانهن عن التبذل والامتهان. ومنها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى" فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) ثم قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا" إلى قوله "أَجْرًا كَرِيمًا " وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ .... الآية" وقوله تعالى: "إن المسلمين والمسلمات" إلى قوله "أجرا عظيما" وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح الآية إلى قوله عظيما" (آية: 70) وقوله: "ويتوب الله على المؤمنين والمومنات وكان الله غفورا رحيماً" (آية: 73) وقوله سبحانه مثنيا على المؤمنين بوفائهم وصدقهم "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ - إلى قوله: - وما بدلوا تبديلا" (الآيتان: 22 - 23) وقوله سبحانه تعظيما لحرمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) . وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر سورة الخوف الحاصل في سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم تأنيسا لا رفعا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ومن هذا القبيل أيضا ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين خلاصهم كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وقوله تعالى: "وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ" إلى قوله: "وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا" (الآيات: 25 - 27) وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد منْ دليل قصدها وبيانها على ما وضح والحمد لله، ولما كان حاصلها رحمة ولطفا ونعمة لا يقدر عظيم قدرها وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها أعقب بما ينبغى من الحمد (يعنى أول سبأ) . سورة سبأ افتتحت بالحمد لله سبحانه لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حسبما بيَّن آنفا فكان مظنة الحمد على ما مَنح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ملكا واختراعا وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعا عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتقريعهم بحسب ما شاء، فكأن قد قيل إذا كانوا له - مِلكا وعبيدا أفلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من تيسير للحسنى أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته أو استطلاع سببه بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع وهو الحكيم الخبير وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم، وأشار قوله: "وله الحمد في الآخرة" إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء وعظيم الثواب في الآخرة على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ". ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى: "يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها (إلى قوله) (وهو الرحيم الغفور) "، فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم، فله الحمد الذى هو أهله، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب كفر مع عظيم اجترائهم لتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (إلى قوله) : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ" (الآيات: 3 - 9) أى إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم: "لا تأتينا الساعة" وقوله: "هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" (آية: 7) وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات، ففي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر، ثم بسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 لعباده المؤمنين من ذكر آلائه ونعمه وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه، ويشير إلى عظيم ملكه، كما أعلم في قوله سبحانه: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" فقال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) ثم قال (ولسليمان الريح" إلى قوله "اعملوا آل داود شكرا"، ثم أتبع ذلك بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها، ثم وبخ (تعالى) من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله " (آية: 22) إلى وصفه حالهَم الأخروي ومراجعة متكبريهم ضعفاءَهم، وضعفاءهم متكبريهم "وأسروا الندامة لما رأوا العذاب "، ثم التحمت الاآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها. سورة فاطر لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة في البحار الزاخرة فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصي العقول أو تحيط به الأفهام، فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، وشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى: "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة .... الآية " وقوله: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ... هل من خالق غير الله يرزقكم " (آية: 2) وقوله: "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا .... الآية " (آية: 8) وقوله: "الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا ... الآية " "والله خلقكم من تراب " "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ" (آية: 13) ، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا" "هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ" (آية: 39) "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا". فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق والاختراع أو مشيرة، ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف والاستبداد بذلك والإبداء به، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان وقوله سبحانه: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ... الآيات " يتضح لك ما ذكرناه وما انجر في السورتين مما ظاهره الخروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 عن هذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي، رزقنا الله الفهم عنه بمنه. سورة يس لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاءه، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدراكها واستولت عليها الغفلة، فكأن قد خمدت عن معهود حراكها، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات واصطفاه بإيضاح تلك البينات فقال تعالى: "يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم " ثم قال: "لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ" فأشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار ويبعثه التيقظ بالتذكار، ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه، وإن كان مسببا عن الطبع وشر السابقة "لقد حق القول على أكثرهم .... الآيات "، ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عن تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى " (آية: 12) فكذا نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم "أومن كان ميتا فأحيناه " (الأنعام: 122) ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل الكذبين مع بيان الأمر فقال: "واضرب لهم مثلا أصحاب القرية .... الآيات " (آية: 13 وما بعدها) ، وأتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ .... الآية " ثم قال: "وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا" إلى قوله "أَفَلَا يَشْكُرُونَ" (آية: 33) ثم قال: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار (إلى - قوله) : وكل في فلك يسبحون " (الآيات: 37 - 40) ثم قال: "وآية لهم أنَّا حملنا ذريتهم (إلى قوله) إلى حين " (الآيات: 41 - 44) ثم ذكروا إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة أعضائهم بأعمالهم ثم تناسجت الآي جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة. سورة الصافات لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد ما يهتدي الموفق باعتبار بعضه ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 بجملته لواحد وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم على وحدانيته فقال تعالى: "وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) (إلى قوله) وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) " (الآيات: 1 - 5) ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى: "إنا زينا السماء بزينة الكواكب" إلى قوله "شهاب ثاقب " (الآيات: 7 - 15) ، ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا، والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب وأخذ كل بذنبه وتخليص رسل الله وحزبه وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائه وقربه، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعاندين إلى ختم السورة. سورة ص لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مغ أنبيائهم في العتو والتكذيب وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والويل كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم، وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب فحل بالمعاند سوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 العذاب) ، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) . ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قولهم: "عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ" (آية: 16) أتبِع ذلك بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر فقال: "اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ" (آية: 17) ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ". سورة الزمر لما بينت سورة (ص) على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 هو نقيض حال من تقدم وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب، فقال تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) وجاء قوله تعالى: "والذين اتخذوا من دونه أولياء .... الآية " (آية: 3) في معرض أن لو قيل عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص فسترى حاله وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال لم "لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى .... الآية " فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه: "هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتى النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شىء وأدل شاهد، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل، ثم بين تعالى أنه غنى عن الكل بقوله: "إن تكفروا فإن الله غنى عنكم " ثم قال: "ولا يرضى لعباده الكفر" (آية: 7) فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى بالكفر وحصل من ذلك بمفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به، ثم آنس من آمن ولم يتبع سبيل أبيه وقبيلته من المشار إليهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 السورة قبل فقال تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ" "وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا" ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة. سورة المؤمن لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالأمر بالاخلاص وذكر سببَه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعريض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص تتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ" ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 استمرار المراد لأحدهم وذكر قبيح اعتذارهم بقولهم: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"، ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخيل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره فقال تعالى: "أليس الله بكاف عبده (إلى قوله) : أليس الله بعزيز ذي انتقام " (الزمر: 36 - 37) ، ثم أتبع ذلك بحال أندادهم في أنها لا تضر ولا تنفع فقال: "قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ". ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال: "قل لله الشفاعة جميعا" "قل اللهم فاطر السماوات والأرض " "أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" ثم عنفهم وقرعرهم فقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) . ثم قال تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ". ثم أتبع تعالى بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق، ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين فتبارك المنفرد بالعزة والقهر. فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه أعقب ذلك بقوله: "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيها على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق فأخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار مع قهره للكل في الدارين معا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره ثم قال تعالى: "غافر الذنب وقابل التوب " تأنيباً لمن استجاب بحمده وأناب بلطفه، وجريا على حكم سبقية الرحمة وتقليبها ثم قال: "شديد العقاب ذى الطول " ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله شديد العقاب بقوله غافر الذنب وقابل التوب وقوله ذي الطول، وأشار سبحانه بقوله: "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" (آية: 4) إلى قوله قبل وأورثنا الأرض " (الزمر: 74) وكأنه في تقدير إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم وجدالهم في الآيات كجدالهم وإن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب وسبق لهم في أم الكتاب. سورة حم السجدة لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم وكأن بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها ألا ترى قوله تعالى: "مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا" وتأنيس نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: "فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ" فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ" فعصمتهم واقية: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقال تعالى: "وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" أى فكيف رأيت ما حل بهم وقد بلغت خبرهم فهلا اعتبر هؤلاء بهم (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات "ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله " (غافر: 22) ، ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون وبسط القصة تنبيها على سوء عاقبة من عاند وجادل بالباطل وكذب الآيات ثم قال تعالى بعد آيات: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (غافر: 56) إذ الحول والقوة ليست لهم فاستعذ بالله من شرهم، فخلق غيرهم لو استبصروا أعظم من خلقهم "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ" (غافر: 57) وهم غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين "إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء" (سبأ: 9) ثم قال تعالى: بعد هذا "ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون " أي إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم: "ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا" (غافر: 74) ثم صبر تعالى نبيه عليه السلام بقوله: "فاصبر إن وعد الله حق " (غافر: 77) ثم أعاد تنبيهم فقال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض" إلى ختم السورة" (غافر: 82 - 85) ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آى هذه السورة في سورة الزمر شىء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فلما بنيت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التى تحديت بها العرب وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكأن قد قيل لهم احذروا ما قدم لكم فقد جاءكم محمد - صلى الله عليه وسلم - بأوضح آية وأعظم برهان "تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (الآيات: 3 - 4) وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره كبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة تبهر العقول بأول وهلة فلا يكن للعريى الفصيح في شاهد برهانها أدنى توقف ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، "وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) " (آية: 41 - 42) "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" (آية: 44) فوبخهم تعالى وادحض حجتهم وأرغم باطلهمِ، وبكت دعاويهم ثم قال: "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" (آية: 44) " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ " وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم: "قلوبنا في أكنة مما تدعون إليه وفي آذاننا وقر" (آية: 3) وقولهم "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " (آية: 26) وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته وتسليمهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ .... الآية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم وهم الذين قدم ذكرهم مجملا في سورة غافر في آيتى "أولم يسيروا في الأرض " "أفلم يسيروا" فقال تعالى مفصلا لبعض ذلك الإجمال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) ثم قال: "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" ثم قال: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا.. الآية " ثم قال: "وأما ثمود فهديناهم" (آية: 17) فبين تعالى حالهم وأخذهم فاعتضد التحمام السورتين واتصال المقصدين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 سورة الشورى لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حال المعاندين والجاحدين وأعقبت بسورة السجدة بيانا أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمهم وإيضاحا لآيات الكتاب العزيز وعظيم برهانه، ومع ذلك فلم تجد على من قضى عليه تعالى بالكفر، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم المشيئة الأزلية "فريق في الجنة وفريق في السعير" (آية: 7) "وما أنت عليهم بوكيل " (آية: 6) "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" (آية: 8) "ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم " (آية: 14) "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " (آية: 15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 "ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم " (آية: 21) "وهو على جمعهم إذا يشاء قدير" "وما أنتم بمعجزين في الأرض " (آية: 31) "ومن يضلل الله فما له من سبيل " (آية: 46) "إن عليك إلا البلاغ " (آية: 48) "نهدي به من نشاء من عبادنا " (آية: 52) . فتأمل هذه الآي وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر وبحكم ما استجره وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها. ولما اختتمت سورة السجدة بقوله تعالى: "ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم " (فصلت 54) أعقبها سبحانه بتنزيهه وتعاليه عن ريبهم وشكهم فقال تعالى: "تكاد السمماوات يتفطرن من فوقهن " (آية: 5) كما أعقب بمثله في قوله: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّا" (مريم: 88 - 89) فقال: "يكاد السماوات يتفطرن منه " (الآيات: 95) . ولما تكرر في حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله: "فأعرض أكثرهم " (آية: 4) "وقالوا قلوبنا في أكنة" (آية: 5) إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم فقال تعالى في سورة الشورى: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " (آية: 13) . سورة الزخرف لما أخبر سبحانه بامتحان خلف بنى إسرائيل في شكهم في كتابهم بقولهم: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ووصى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتبري من سىء حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال تعالى "ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ... الآية " وتكرر الثناء على الكتاب العزيز كقوله: "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا" وقوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان " (الشورى: 17) وقوله: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ... الآية " إلى آخر السورة (الشورى: 32 - 53) ، أعقب ذلك بالقسم به، وعضد الثناء. عليه فقال: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده، ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) ولما قدم في الشورى قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) . فأعلم أن ذلك يكون بقدرته وإرادته والجاري على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) فكمل الواقع هنا بما تعلق به، وكذلك قوله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ" (الشورى: 27) وقوله في الزخرف: "وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ". سورة الدخان لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز مما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه وحصل من مجموع ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وقوله "قرآناً عربيا" إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، استفتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال: "إنا أنرلناه في ليلة مباركة" ثم ذكر من فضلها فقال: "فيها يفرق كل أمر حكيم " فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا، وتقدم الأهم في ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت نزوله إذ ليس في التأكيد كالمتقدم ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) وما تقدمه من قوله تعالى: "أم ابرموا أمرا فإنا مبرمون " (الزخرف: 79) وقوله سبحانه: "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " (الزخرف: 80) وتنزيهه تعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) وقوله: "يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى .... الآية " والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بفرعونهم في مقالته، "ما بين لابتيها أعز منى ولا أكرم " فذكر تعالى شجرة الزقوم إلى قوله: "ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول ثم أتبع بذكر حال المتقين جريا على الطرد من شفع آية الترهيب بالترغيب ليبين حال الفريقين، وينهج على الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه عليه السلام (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه إنما يتذكر من يخشى ثم قال:فارتقب وعدك ووعيدهم إنهم مرتقبون. سورة الشريعة لما تضمنت السور الثلاث المتقدمة إيضاح أمر الكتاب وعظيم بيانه وأنه شاف كاف وهدى ونور، وكان أمر من كفر من العرب أعظم شيء لانقطاعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وعجزهم وقيام الحجة به عليهم حتى رضوا بالقتل والخزي العاجل وما فاهوا بادعاء معارضة ولا تشوفوا إلى الاستناد إلى عظيم تلك المعارضة، أتبع ذلك تعالى تنبيه نبيه والمؤمنين إلى ما قد نصبه من الدلائل سواء مما صد المعرض عن الاعتبار بها أو ببعضها مجرد هواه، ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله فقال تعالى بعد القسم بالكتاب المبين ... "إن في السماوات والأرض لآيات للمومنين " أى لو لم تجئهم يا محمد بعظيم آية الكتاب فقد كان لهم فيما نصبنا من الأدلة أعظم برهان وأعظم تبيان "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى" (الروم: 8) . فلما نبه بخلق السماوات والأرض أتبع بذكر ما بث في الأرض فقال: "وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار" أي في دخول أحدهما على الآخر بألطف اتصال وأربط انفصال، "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار" ثم نبه على الاعتبار بإنزال الماء من السماء وسماه رزقا .... فقال: "وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" ثم قال: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" والاستدلال بهذه الآي يستدعي بسطا يطول ثم قال: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق " أي علاماته ودلائله "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ " ثم قال: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) بعد ما شاهدوه من شاهد الكتاب وما تضمنه خلق السماوات والأرض وما فيها وما بينهن من عجائب الدلائل الواضحة لأولى الألباب، فإذا لم يعتبروا بشيء من ذلك فبماذا يعتبر، ثم أردف تعالى بتقريعهم وتوبيخهم في تصحيحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 مع وضوح الأمر فقال: "ويل لكل أفاك أثيم .... الآيات الثلاث " (7 - 9) ثم قال: "هذا هدى" (آية: 11) وأشار إلى الكتاب وجعله نفس الهدى لتحمله كل أسباب الهدى في جميع جهاته ثم توعد من كفر به ثم أردف ذلك بذكر نعمه وآلائه ليكون ذلك زائدا في توبيخهم، والتحمت الآي عاضدة هذا الغرض تقريعا وتوبيخا ووعيدا وتهديدا إلى آخر السورة. سورة الأحقاف لما قدم ذكر الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه وأردف ذلك بما تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه قد نصب من دلائل السماوات والأرض ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها كاف في الدلالة وقائم بالحجة ومع ذلك فلم يجر عليهم إلا التمادي على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيء محالهم، أردفت بسورة الأحقاف تسجيلا بسوء مرتكبهم وإعلاما بأليم منقلبهم فقال تعالى: " مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى "، ولو اعتبروا بعظيم ذلك الخلق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثا ولكنهم عموا عن الآيات، وتنكبوا عن انتهاج الدلالات "والذين كفروا عما أنذروا معرضون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ثم أخذ سبحانه في تعنيفهم وتقريعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال: "قل أرأيتم ما تدعون من دون الله" إلى قوله: "وكانوا بعبادتهم كافرين "الآيات: 4 - 6) ثم ذكر عنادهم عند سماع الآيات فقال: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات .... الآيات " ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة. سورة القتال لما أنبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من. مآل من كذب وكفر، وافتتحت السورة بإعراضهم، ختمت بما قد تكرر من تقريعهم وتوبيخهم فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله: "فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " فلما ختم بذكر هلاكهم، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ .... الآية " بعد ابتداء السورة بقوله تعالى: "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم "، فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده، فنبه على الطرفين بقوله: "وأضل أعمالهم ") وقوله في الآخر: "كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم " (آية: 2) ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختبارا ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال: "إن تنصروا الله ينصركم " ثم التحمت الآى. سورة الفتح ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات، وقد يغمض بعضها منها: أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله: "إن تنصروا الله ينصركم " استدعى ذلك تشوق النفوس إلى حال العاقبة فعرِّفوا بذلك في هذه السورة فقال تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .... الآيات " فعرف تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ .... الآيات " (آية: 4 وما بعدها) والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته - صلى الله عليه وسلم -، وحكم المخلفين من الأعراب، والحض على الجهاد، وبيان حال ذوى الأعذار، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ" وأثابهم الفتح وأخذ المغانم، وبشارتهم بفتح مكة. "لتدخلن السجد الحرام " (آية: 27) إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمه عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة. ووجه آخر وهو أنه لما قال تعالى في آخر سورة القتال (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) كان هذا إجمالا في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم، فتضمنت سورة الفتح - تفسير هذا الإجمال وبسطه وهذا يستدعى من بسط الكلام ما لم نعتمده في هذا التعليق، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ووجه آخر مما قد يغمض وهو أن قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب، وقد أشار أيضا إلى هذا قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .... الآيات " (المائدة: 54) وأشار إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام) : "ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وعقد السبابة بالإبهام "، أشار عليه السلام إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين وإنما أشار عليه السلام بقوله: "اليوم إلى التقديم وتأخر وقوع هذا الأمر إلى أيام أبي جعفر المنصور، فغلبت الفرس والأكراد وأهل جهات الصين وصين الصين وهو ما يلى يأجوج ومأجوج، وكان فتحا وعزا وظهورا لكلمة الإسلام وغلبة هؤلاء في الخطط والتدبير الإمارى، وسادوا غيرهم، ولهذا جعل - صلى الله عليه وسلم - مجيئهم فتحا فقال: (فتح اليوم) ، ولو أراد غير هذا لم يعبر بفتح، ألا ترى قول عمر لحذيفة (رضى الله عنهما) في حديث الفتن حين قال له: "إن بينك وبينها بابا مغلقا فقال عمر أيفتح ذلك الباب أم يكسر فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بل يكسر"، ففرق بين الفتح والكسر، وإنما أشار إلى قتل عمر (رضى الله عنهما) ، فلذا قال عليه الصلاة والسلام: "فتح " وقال: "من ردم يأجوج ومأجوج "، وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم، لأن الفرس ومن أتى معهم، هم أهل تلك الجهات التي تلي الروم، فعلى تمهيد هذا يكون قوله تعالى: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ"، إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات والخطط الدينية والمناصب العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصا وحطا، بين تعالى أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام فقال: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) . ذكر القاضى أبو بكر بن العربي في تخليصُ التِّلخيص علماء المالكية مشيرا إلى تفاوت درجاتهم ثم قال: "وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان، العجم أنسابا وبلدانا العرب عقائدا وإيمانا، الذين تنجز فيهم وعد الصادق المصدوق، وملكهم الله تعالى مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها وأقبلت على الدنيا واستوثقت منها. قال أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله من هؤلاء الذين قال الله فيهم: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" فأشار عليه السلام إلى سلمان وقال: "لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء". سورة الحجرات لما وصف سبحانه عباده المصطفين من صحابة نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى لهم بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفردوا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 115) وشهدت لهم بعظيم المنزلة لديه، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية (والجري قولا وفعلا وعملا ظاهرا وباطنا على أوضح عمل وأخلص نية، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل: "يا موسى ادع لنا ربك " إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" .... الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ" إلى قوله "والله غفور رحيم" فطولبوا بآداب تناسب عَليَّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في درجتهم، وقد قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وكأن قد قيل لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب - وسوء قصد في الجواب، وطابقوا بين بواطنكم وظواهركم، وليكن علنكم منبئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بسليم سرائركم "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى " ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" ثم أمروا بالتثبت عند نزعة شيطان أو تقول ذى بهتان "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... الآية " ثم أمرهم تعالى بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الايماني والتواضع، وأن الخير كله في التقوى " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (آية: 13) وكل ذلك محذر لِعَلِيِّ صفاتهم التى وصفوا بها في خاتمة سورة الفتح. سورة ق لما كانت سورة الحجرات قد انطوت على جملة من الألطاف التى خص بها تعالى عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق ""يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ .... الآية " وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه وأن لا يعاملوه في الجهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 بالقول كمعاملة بعضهم بعضا، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة وأمرهم بالتواضع في قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وأخبرهم تعالى أن استجابتهم، وامتثال هذه الأوامر ليست بحولهم ولكن بفضله وإنعامه فقال: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ .... الآية " ثم أعقب تعالى بقوله: "يمنون عليك أن أسلموا .... الآية " ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه، بل جعله في طرفٍ من حال مَنْ أمر ونهي في سورة الحجرات، مع المساواة في الخلق وتماثل الذوات فقال تعالى: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ .... الآيات " ثم ذكر سبحانه وضوح الأدلة "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم ... الآيات " ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم "كذبت قبلهم قوم نوح " ليتذكر مجموع هذا من قدم ذكر حاله وأمره ونهيه في سورة الحجرات وليتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه منْ الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه، ثم التحمت الآي إلى قوله خاتمة السورة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 سورة الذاريات لما ذكر سبحانه المواعد الأخراوية في سورة "ق " وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله: "وجاءت سكرة الموت بالحق" إلى آخر السورة" ثم أتبع سبحانه ذلك بالقسم على صحة وقوعه وصدقه فقال تعالى: "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا" إلى قوله "إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) " والدين الجزاء أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما"، ولما أقسم تعالى على صدق وعده ووقوع الجزاء أعقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال: "يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) " ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله: "وفي الأرض آيات للموقنين " فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ثم آنس نبيه عليه السلام) بقوله: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " (آية: 32) أي أن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاه بعضهم إلى بعض فقال تعالى: "أتواصوا به بل هم قوم طاغون " أي عجبا لهم في جريهم في التكذيب والعناد في مضمار واحد، ثم قال تعالى: "بل هم قوم طاغون " أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق " وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا " ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء لما ورد على طريقة تخييره عليه الصلاة والسلام في أمرهم من قوله تعالى: "فتول عنهم فما أنت بملوم " (آية: 34) ، ثم أشار تعالى بقوله: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " (آية: 35) إلى أن إحراز أجره عليه الصلاة والسلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة، (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن مكذبيه سينالهم قسط ونصيب مما نال غيرهم ممن ارتكب مرتكبهم وسلك مسلكهم فقال تعالى: "فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ" إلى آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 سورة الطور لما توعد تعالى كفار قريش ومن كان على طريقتهم من سائر من كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيصيبهم ما أصاب غيرهم من مكذبي الأمم المنبه على ذكرهم في السورة قبل، ثم أشار سبحانه إلى عظيم ما ينالهم من الخزي وأليم العذاب بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) أقسم سبحانه على صحة ذلك ووقوعه والعياذ بالله سبحانه من سخطه وأليم عذابه فقال تعالى: "والطور" إلى قوله: "إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع" ثم أومأ سبحانه إلى مستحقيه ومستوجبه فقال "فويل يومئذ للمكذبين " ثم ذكرما يعنفون به ويوبخون على ما سلف منهم من نسبته عليه السلام إلى السحر وتكذيبه فقال: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) ثم أعقب بذكره حال المومنين المستجيبين، ثم ذكر إثر إعلامه بحال الفريقين نعمته على نبيه عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 السلام وعصمته ووقايته مما تقوله المفترون فقال تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) . ثم جرت الآي على توبيخهم في مقالاتهم ووهن انتقالاتهم، فمرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون، ومرة يقولون شاعر نترقب موته، فوبخهم على ذلك كله وبين كذبهم وأزعامهم وأسقط ما بأيديهم بقوله: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) وهذا هو المسقط لما تقولوه أولا وآخر، وهو الذي يجدوا عنه جوابا، ورضوا بالسيف والجلاء ولم يتعرضوا لتعاطي معارضته، وهذا هو الوارد في قوله تعالى في سورة البقرة: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ... فما نطقوا في جوابه ببنت شفة "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ". فتبارك من جعله آية باهرة وحجة قاهرة. سورة والنجم لما قطع سبحانه تعلقهم بقولهم شاعر وساحر ومجنون إلى ما هزؤوا به مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 علموا أنه لا يقوم على ساق ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى كل ما أمكنه وإن لم يغن عنه أعقب تعالى ذلك بقسمه على تنزيه نبيه وصفيه من خلقه عما تقوله وتوهمه ضعفاؤهم فقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه، وفي أثناء ذلك يحركهم جل وتعالى ويذكرهم ويوبخهم على سوء مرتكباتهم بتلطف واستدعاء كريم منعم فقال: "أفرايتم اللات والعزى" والتحمت الآى على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام لا يشاركه في شىء من ذلك فقال تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) ولما بين كل ذلك قال: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) أي في أي نعمة تشكون أم بأية آية تكذبون، ثم قال: "هذا نذير من النذر الأولى" وإذا كان عليه الصلاة والسلام (نذير) فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره. سورة القمر لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى وأن عليه النشأة الأخرى وأن ذلك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 للازدجار فقال تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر" ثم إن سورة (ص) تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم، وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما لا يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها. وبعد الشبه في السور قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله الله وخذله، أنبئت السور بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم تخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم كقوله في الزمر "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (آية: 3) وقوله: "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء" (آية: 4) وقوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ" وقوله مثلا لحالهم: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ .... الآية " إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ وقوله في سورة غافر: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) وقوله: "ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا" وقوله: "أولم يسيروا في الأرض .... الآية " (آية: 21) وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (آية: 36) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) . إلى قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وقوله تعالى: "أولم يسيروا في الأرض " إلى ما تخلل هذه الآي كقوله في السجدة: "فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ" "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " "إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا" إلى قوله "أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وقوله: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ" إلى خاتمة السورة وقوله في الشورى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " "وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... الآية " "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ... الآية " (آية: 21) "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا" وقوله في الزخرف: "أفنضرب عنكم الذكر صفحا .... الآية " "وجعلوا له من عباده جزءا" إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها، وقوله في الدخان: "بل هم في شك يلعبون " إلى قوله: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " وقوله: "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين " إلى قوله: "إن هذا ما كنتم به تمترون" وقوله في الشريعة: "فبأى حديث بعد الله وَآياته يؤمنون .... الآيات إلى قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) وقوله: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" إلى آخر السورة وقوله في الأحقاف: "والذين كفروا عما أنذروا معرضون " ومعظم آي هذه السورة لم يخرج عن هذا إلى خاتمتها، وكذا سورة القتال ولو لم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل خزيهم "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ" وأما سورة الفتح فمما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به، ولم تخرج عن الغرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المتقدم وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتعزيز النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضا من ائتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وموقع هذا من العدو بحيث لا يخفى على أحد، وأما سورة "والذاريات "، "والطور"، "والنجم "، فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء، وبذلك افتتحت كل سورة منها، فتأمل مطالعها، ففي ذلك كفاية في الغرض، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغت الآي في هذه السور من ذلك أقصى غاية، تمحض باطلهم وانقطع دابرهم، ولم يجدوا جوابا، عرض عليهم سبحانه في سورة القمر أحوال الأمم مع أنبيائهم وكان القصد من ذلك - والله أعلم مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم، وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم، وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر، لهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) وختمها بقوله: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ" وهذا يبين ما قدمناه، وكأن قد قيل أى فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنون أنكم ستفوزون بعظيم جرأتكم، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفحم عبارة وألطف إشارة فبدأ بقصة قوم نوح "كذبت قبلهم قوم نوح " إلى قوله: "ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابى ونذر" ثم استمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسب ما ذكروا في السور الواردة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فيها أخبارهم من ذكر أمة بعد أمة، إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرف في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ختمت كل قصة بقوله: " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " وتخلل هذه القصص قوله تعالى: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وهى إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الوقوف على زواجره وتنبيهاته ومواعظه، ويدعى بعد ذلك استغلاقه إنه ميسر قريب المرام، وهذا فيما يحصل منه التنبيه والتذكير لما عنه تكون الاستجابة بإذن الله، ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره، وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجمعيه، والعمل بمحكمه، ثم يفتح الله تعالى ففي ذلك على من شرفه به وأعلى درجته فيبين له بحسب ما يشرح الله صدره "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" ومن تيسير المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أيُّ حفظ منها أطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم، ثم إذا ضم ذلك بعضه إلى بعض اجتمع فيه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السور فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهانا قاطعا على صدق الآي به، وصراطا مستقيما ونورا مبينا. ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ" ومن هذا النمط قول شعيب عليه الصلاة والسلام: "وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ .... الآية " (هود: 89) ثم قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) أي إنكم إن تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر، وقتل صناديدكم فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حجتكم بعد هذا وقد أنبأ مساق القصص في هذه السور واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم. ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام إلى مشركي العرب في قوله: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ" وليس في شىء من السور المذكور فيها قصص الأمم على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود ونظائرهما، ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركى العرب على الصفة الوارة هنا، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره، وانقضى هذا الغرض، وذلك أنهم ذكروا أولا بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة ممن إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم بل يفهم من كلامه الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم، ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يتبين فظاعة التهديد وشدة الوعيد، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ، ثم لو كان لاغتفر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الوعظة فلم تغن، فهنا يحل الغضب وشدة الوعيد، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنون والظلة والصافات، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف، وأميل إلى الزجر والتعنيف، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى: "وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه على الفوز وهو الذى "أخلد الى الأرض واتبع هواه، فقال بعد ذلك "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " وتذكيره إياه بمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة، وقال تعالى بعد قصص سورة هود "وكذلك أخذ ربك .... الآية " وقال بعد "فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ" إلى قوله: "وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ" وتكررت آى إلى آخر السورة تجاري ما ذكر، وكم بين هذه وآى الأعراف في تلطف الاستدعاء. وقال تعالى في آخر قصص سورة المؤمنين "فذرهم في غمرتهم حتى حين " إلى قوله "لا يشعرون " (الآيات: 54 - 56) ، ثم قال تعالى بعد "وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) . استمرت آى على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضا إلى قوله:. "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا" وقوله تعالى بعد "إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " وكم بين هذه الآي الواقعة عقب قصص سورة هود "وقال في آخر قصص الظلة "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى قوله خاتمة السورة "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ". فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه عليه الصلاة والسلام عن سوء توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم وكل هذا تعنيف وزجر لم يتقدم لهم مثله في السور المذكورة، ثم هو صريح في مشركى العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى: "إن في ذلك لآية" وفيه تهديد ووعيد بين، فقال تعالى في آخر قصص والصافات (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) . وهذا أعظم تقريع وأشد توبيخ، ثم نزه نفسه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم بقوله سبحانه (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فلما أخذوا كل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم، قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - "فتول عنهم" وتمامها، "حتى حين" ولم يقع أمره - صلى الله عليه وسلم - بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلا بعد حصول القصص في السور المذكورة وأخذهم بكل طريق، وأول أمره بذلك - صلى الله عليه وسلم - في سورة السجدة "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) ثم في سورة الذاريات "فتول عنهم فما أنت بملوم " ثم في قوله هنا "فتول عنهم " (آية: 6) ، فتأمل ذلك، ثم ذكر تعالى قصص الأمم إثر قوله تعالى هنا "فتول عنهم " بأشد وعيد وأعظم تهديد يعقب كل قصة بقوله تعالى: "وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" وقوله " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " ثم صرف الكلام إليهم بما تقدم في قوله "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ" فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان والإعذار، ثم قال تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر" فعرف سبحانه بسابق حكمته فيهم إنا كل شيء خلقناه بقدر وانقضى ذكر القصص، فلم يتعرض لها مستوفاة على هذا المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية باهرة إلى يوم الدين، وقطع به عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بيانا كافيا ونورا هاديا وواعظا شافيا، جعلنا الله ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة. سورة الرحمن من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آياته كلها معجزة باهرة وسوره في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة، فبعضها أوضح من بعض في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 تبين إعجازها. وتظاهر بلاغتها وإيجازها، ألا ترى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى: "وقيل يا أرض ابلعى ماءك " (هود: 44) وقوله: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) لا يتوقف في أمر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه، أو صُد عنه باب الفهم جملة، فأنى له بولوجه وقرعه؟ وسورة القمر من هذا النمط، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار، ولولا أني لم أقصد التعليق - إلا ما بنيته عليه من ترتيب السور - لأوضحت ما أشرت إليه ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير يفتح الله به وييسر فيه. فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبأن فيها عظيم الرحمة في ذكر القصص ونفع العظات، وظهرت حجة الله على الخلق وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر الكتاب ووفقه لفهمه واعتباره أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تعالى: "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعارا برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار، ومن أين للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يزدادوا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 بسط الدلالات، وإيضاح البينات إن يعذر إليهم زيادة في الإبلاع فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال: "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصا ببني آدم، بل بمشركى العرب منهم فقط فأتبعت بسورة الرحمن تنبيها للثقلين وإعذارا إليهم وتقريرا للجنس على ما أودع الله تعالى في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى: "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" خطابا للجنسين وإعذارا للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان. سورة الواقعة لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين وأعلم في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) . "وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وأعلمهم سبحانه في الواقعة بانقسامهم الأخروي فافتتح بذكر الساعة "إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) إِلى قوله "وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) " فتجردت هذه السورة للتعريف بأحوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الأخروية وصدرت بذلك عما جرد في السورتين قبل التعريف بحالهم في هذه الدار، وما انجر في السور الثلاث جاريا على غير هذا الأسلوب فبحكم استدعاء الترغيب والترهيب لطفا بالعباد ورحمة، ومطالعها مبنية على ما ذكرته تصريحا لا تلويحا، وعلى الاستيفاء لا بالإشارة والإيحاء، ولهذا قال تعالى في آخر قصص افتراق أحوالهم الأخروية في هذه السورة "هذا نزلهم يوم الدين " (الواقعة: 36) فأخبر أن هذا حالهم يوم الجزاء، وقد قدم حالهم الدنيوى في السورتين قبل وتأكد التعريف المتقدم فيما بعد وذلك قوله: "فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) . إلى خاتمتها. سورة الحديد لما تقدم قوله تعالى: "نحن خلقناكم فلولا تصدقون " وفيه من التقريع والتوبيخ لمن قرع به ما لاخفاء به، ثم أتبع بقوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) ... الآيات إلى قوله: "وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فنذروا ووبخوا على سوء جهلهم وقبح ضلالهم ثم قال بعد ذلك "أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " واستمر توبيخهم إلى قوله: "إن كنتم صادقين ". فلما أشارت هذه الآيات إلى قبائح مرتكباتهم أعقب تعالى ذلك بتنزيه عز وجل من سوء ما انتحلوه وضلالهم فيما جهلوه فقال تعالى: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" أى نزهه عن عظيم ضلالهم وسوء اجترامهم، ثم أعقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ذلك بقوله: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ثم أتبع ذلك بقوله له: "له الملك وله الحمد" فبين تعالى انفراده بصفة الجلال ونعوت الكمال، وأنه المنفرد بالملك والحمد، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلى قوله: "وهو عليم بذات الصدور" (الحديد: 6) فتضمنت هذه الآي إرغام من أشير إلى حاله في الآي المتقدمة في سورة الواقعة وقطع ضلالهم والتعريف بما جهلوه من صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وتعالى، والتحمت آى السورتين واتصلت معانيها ثم صرف الخطاب إلى عباده المؤمنين فقال تعالى: "آمنوا بالله ورسوله " (الحديد: 7) واستمرت الآي على خطابهم إلى آخر السورة. سورة المجادلة لما نزه سبحانه نفسه عن مقول الملحدين وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها لا يمكن أن يشبه شيئا منها بل يتنزه عن أوصافها ويتقدس عن سماتها فقال: "سبح لله ما في السماوات والأرض " ومضت آى تعرف بعظيم سلطانه وعلي ملكه، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله: "آمنوا بالله ورسوله" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إلى ما بعد ذلك من الآي، وكان ذلك ضرب من الالتفات الواقع منه هنا أشبه شيء بقوله سبحانه في سورة ابقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ" فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم، وحال من تشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده "يا أيها الناس اعبدوا ربكم " (البقرة: 21) ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام ببدء الخلق "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" فجاء ضربا من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم وبخهم في عدة سور غالب آيها جار على ذلك ومجرد له، أولها سورة (ص) ، كما نبه عليه في سورة القمر وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه، وكذا في سورة الرحمن بعدها. ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزول الأخروي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم، فأتبعت بسورة الحديد ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين، واستمر ذلك إلى آخر السورة، وجرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفا خطابها إلى نازلة يتشوف المؤمنون إلى تعرف حكمها وهو الظهار المبين أمره فيها، فلم يعدل بالكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله: "آمنوا بالله ورسوله " (الحديد: 7) بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم. ثم إن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء ما قصد في التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية، وتقريع من عاند وتوبيخه، وذكر مآل الخلق واستقرارهم الأخروي، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه خلاصهم ومعظم آي السورة بعد هذا شأنها، وإن انجر غيرها فلاستدعاء وموجب وهو الأقل كما بينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 سورة الحشر لا خفاء باتصال آيها بما تأخر من آى سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" إنما يراد به يهود، فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم، ثم قال في آخر السورة: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين منهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه. فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر اتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وتمكين المسلمين منهم جرى على ما تقدم الإيماء إليه من سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه وتناسخ الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم، إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب، وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب، وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم "أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة: 60) وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداؤهم أيضا في مواضع، فلما كان الغضب مشيرا إلى ما ذكر من عظيم الشرك أتبعه سبحانه تنزيه نفسه جل وتعالى فقال: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" وإنما يرد التنزيه في الكتاب إثر جريمة تقع من العباد، وعظيمة يرتكبونها، وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد إلى الِإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم ثم تناسبت الآي. سورة الممتحنة افتتحت هذه السورة بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونههيهم عن ذلك، وأمرهم بالتبري منهم وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ" إلى آخر السورة"، وقد حصل منها أن هذه أسنى أحوال أهل الإيمان، وأعلى مناصبهم "أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء، ووعظهم بقصة إبراهيم عليه السلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليها، واعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك بذكر ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 رضى الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة، والقصة مشهورة، وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلب المعاداة للجميع واحد، فلهذا فصل بما هو من تمام الِإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث، وكثر في سورة الممتحنة ترداد الوصايا والعهود، وطلب الوفاء بذلك كله، ولهذه المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء، وما يشترط عليهن في ذلك، فبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحا واختتاما حسبما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة. سورة الصف افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله: "لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " وهم اليهود، وقد تقدم الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا، فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه، فإنه مما يعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء، وهو الذي قدم لهم في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 "لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ" (النساء: 45) "مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ" (المائدة: 43) "وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ" (النور: 45) ، وبمجموع هذا استجمعوا اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن وفى قولا وعقداً لسانا وضميرا، وثبت على ما أمر به فقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّ .... الآية " ثم تناسج ما بعد. ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق الوصية وسبيل النصح والإشفاق، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون ذكره بعد ما تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر، وتأمل كم بين قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ .... الآية. " وما تضمنت من التلطف وبين قوله: "لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) . سورة الجمعة لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فأتبع ذلك بذكر هذه الأمة والثناء عليها، فافتتحت السورة بالتنزيه كما أشار إليه قوله: "كفرت طائفة" (الصف: 14) فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال: "هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم" إلى قوله "ذو الفضل العظيم "، ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لها نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها، ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة .... الآية". وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمة الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات، ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك المتحَنين فإنهم مُقتوا ولُعنوا بعد حملهم التوراة، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلا بمثالبهم لطفا من الله بهذه الأمة (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) . سورة المنافقون لما أعقب حال المؤمنين فيما خصهم الله به مما انطوت عليه الآيات الثلاث في صدر سورة الجمعة إلى قوله: "والله ذو الفضل العظيم " (بذكر حال من لم ينتفع بما حُمِّل حسبما تقدم، وكان في ذلك من المواعظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والتنبيه مما ينتفع به من سبقت له السعادة أتبع بما هو أوقع في الغرض، وأبلغ في المقصود وهو ذكر طائفة ممن أظهر الإيمان - ممن قدم الثناء عليهم ومن أقرانهم وأترابهم أقارربهم تلبست في الظاهر بالإيمان وأظهرت الانقياد والإذعان، وتعرضت فأعرضت وتنصلت فما وصلت، بل عاقتها الأقدار فعميت البصائر والأبصار. ومن المطرد المعلوم أن اتعاظ الإنسان بأقرب الناس إليه وبأهل زمانه أغلب من اتعاظه بمن بعد عنه زمانا ونسبا، فأتبعت سورة الجمعة بسورة المنافقين وعظا للمؤمنين بحال أهل النفاق، وبَسَط من قصصهم ما يلائم ما ذكرناه، وكأن قد قيل لهم ليس من أظهر الانقياد والاستجابة في بني إسرائيل، ثم كان فيما حمل كمثل الحمار يحمل أسفارا بأعجب من حال إخوانكم زمانا وقرابة، وأنتم أعرف الناس بهم، وأنهم كانوا في الجاهلية موصوفين بجودة الرأى وحسن النظر "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" "وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) . قلت: "وقد مر في الخطبة ما رويناه في مصنف ابن أبي شيبة من قول أناس من المؤمنين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم وأما سورة المنافقين فيؤيس بها المنافقين ويوبخهم وهذا نحو ما ذكرناه أولا. سورة التغابن لما بسط في السورتين قبل من حال مَن حمل التوراة في بني إسرائيل، ثم لم يحملها، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام وقلوبهم كفر وعناد متكاثفة الإظلام وما بين خروج الفرقتين عن سواء السبيل المستقيم، وتنكبهم عن هَديِ الدين القويم، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم في الكفر بوسم الانفراد وسم ينبئء عن عظيم ذلك الإبعاد سوى ما تناول غيرهم من أضراب الكفار، فأنبأ تعالى عن أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق، وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقتين، فقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات وأهل الكفر ذوو طبقات، وأهل النفاق أدونهم حالا وأسوأهم كفرا وضلالاً "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" (النساء: 143) وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم، ولولم تنطو سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" وقد أشار قوله تعالى: "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 "والله عليم بذات الصدور" إلى ما قبله وما بعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم ما لم تنطو عليه قلوبهم "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " واتخاذهم إيمانهم جُنّة إلى ما وصفهم سبحانه به، فافتتح تعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه - سبحانه "ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " (التوبة: 78) ثم قال تعالى: "ويعلم ما تسرون وما تعلنون " (التغابن: 4) فقرع ووبخ في عدة آيات، ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات وصدهم عن اعتبار المعجزات وأنه الكبر المهلك غيرهم، فقال تعالى مخبرا عن سلفهم في هذا المرتكب ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب "ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا" ثم تناسج الكلام معرفا بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله "وبئس المصير" (التغابن: 15) ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله. سورة الطلاق لما تقدم قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" وقوله في التغابن: "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" وقوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ" والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه على فتنته وعظيم محنته، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق، وموضحة أحكام الطلاق، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة وإن اضطرمت، لا توجب التبري بالجملة وقطع المعروف "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيرا من وقوع الطلاق في الحيض الموجب طول العدة وتكثير المدة، وأكد سبحانه هذا بقوله:"واتقوا الله ربكم " ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال: "لا تخرجوهن من بيوتهن " إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله، ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع والله أعلم. سورة التحريم لا خفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما: وقد ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه حين اعتزل في الشرفة حتى سأله عمر رضى الله عنه، والقصة معروفة، وتخييره - صلى الله عليه وسلم - إياهن إثر ذلك وبعد اعتزالهن شهرا كاملا، وعتب الله تعالى عليهن في قوله: "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ " وقوله: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ..... الآية ". فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأنسبه لسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 سورة الملك ورود ما افتتحت بهذ السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى: "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 عقب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقا آخر، وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء آى قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي والجلال. ولما كان أوقع في سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر وأعلى آية لمن استبصر من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة لعباده "واجتهادا في دعاء الخلق فحرم الاستنارة بنورهما، والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه، ولا أكثر مشاهدة لما مدَّا به من الآيات وعظيم المعجزات، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يضرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته، مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت: "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة" وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك بها أولى الناس في ظاهر الأمر، وتقديم سبب امتحان سلم منه أقرب الناس إلى التورط فيه، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين السببين، وانفصلت في مقدماتها عن تينك القصتين وهو ذكر مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب، أعقب تعالى ذلك بقوله الحق "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شىء قدير" وإذا كان الملك بيده سبحانه فهو الذى يؤتي الملك والفضل من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها، ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسط التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 سورة ن لما تضمنت سورة الملك من عظيم البراهين ما تعجز العقول من استيفاء الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السمماوات في قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا" أي يطابق بعضها بعضا، من طابق النعل إذا خصفها طبقا عن طبق، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها والله أعلم، ووقع الوصف بالمصدر ليشعر باستحكام مطابقة بعضها بعضا من غير زيادة ولا نقص "مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ" أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض، إنما هي مستوية مستقيمة، وجيء بالظاهر في قوله: "مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ" ولم يقل ما ترى فيه من تفاوت ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا، كل شكل يناسب شكله لا تفاوت في شىء من ذلك ولا اضطراب، فأعطى الظاهر من التعميم ما لم يكن يعطيه الإضمار، كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذه الأدلة المبسوطة من الرحمة للخلائق لمن رُزْق الاعتبار، ثم نبه تعالى على ما يدفع الريب ويزيح الإشكال فقال: "فارجع البصر" أي عاود البصر والتأمل مما تشاهده من المخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا يبقى معك في ذلك شبهة "فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" أى صدوع وشقوق ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحا ومتمتعا، هل تجد عيبا أو خللا "يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا" أي أنك إذا فعلت هذا رفع بصرك بعيدا عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والإعياء وبالكلال لطول الإجالة والترديد، وأمر برجوع البصر ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي يمكن فيها الغفلة والذهول، إلا أن يحسر بصره من طول المعاودة إذ معنى التنبيه في قوله: "كرتين " التكرير، كقوله لبيك وسعديك، فيحسر البصر من طول التكرار ولا يعثر على شيء من فطور، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان ذلك أعظم معتبر وأوضح دليل لمن استبصر، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات، ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة، ثم قد تكون في السورة دلالات كقوله: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" وقوله: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ" إلى آخر السورة، وأدناها كاف في الاعتبار، فأنى يصدر نقص عن متصف ببعض ما هزؤوا به في قولهم: مجنون وساحر وشاعر، "بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ". فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين، أتبعت بتنزيه الآتي به - - صلى الله عليه وسلم - مما تقوَّله المبطلون، مقسما على ذلك زيادة في التعظيم وتأكيدا في التعزيز والتكريم فقال تعالى: "ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون " وأنى يصح تَصوُّّر بعد تلك البراهين وقد انقطعت دونك أنظار العقلاء، فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز، ونظم معجز، وتلاؤم حير العقول، وعبارة تفوق كل مقول، تعرف، ولا تدرك، ويستوضحِ سبيلها فلا يسلك "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ". فقوله سبحانه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ" جواب لقوله تعالى في آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 السورة "وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) "، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ليكون أبلغ في إجلاله - صلى الله عليه وسلم -، وأخف وقعا عليه وأبسط لحاله في تلقى ذلك منهم، ولذا قدم مدحه - صلى الله عليه وسلم - بما خص به من الخلق العظيم، فكان هذا أوقع في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده، إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزه عنها أتم في الغرض وأكمل، ولا موضع أليق بذكر تنزيهه عليه الصلاة والسلام ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته سورة الملك مما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل منصف بصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - وجليل صدقه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) فقد تبين موقع هذه السورة هنا، وتلاؤم ما بعد من آيها يذكر في التفسير. سورة الحاقة لما بنيت سورة "ن والقلم " على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبى الله - صلى الله عليه وسلم - عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم، وبين حسدهم وعداوتهم "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ" أتبعت بسورة الحاقة وعيدا لهم وبيانا أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 "كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) ... فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) " "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ " (الأنعام: 6) "فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ" "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) ". فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق "لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) . ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم أتبع ذلك بذكر الوعيد الأخروي "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) . ثم عاد الكلام إلى ما بنيت عليه سورة "ن والقلم " من تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - وتكريمه مقسما على ذلك "إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن " وانتهى نفي ما يقولونه منصوصا على نزاهته عن كل جملة منها في السورتين "مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) . أي ما الذي جئت به بقول شاعر ولا بقول كاهن بل هو تنزيل من رب العالين، (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) " ... "وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) " فنزه ربك وقدسه عن عظيم ما ارتكبوه. سورة المعارج لما انطوت سورة الحاقة على أشد وعيد وأعظمه اتبعت بجواب من استبطأ ذلك واستبعده، إذ هو مما يلجأ إليه المعاند الممتحن فقال تعالى: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) " إلى قوله: "إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) " ، ثم ذكر حالهم إذاك "يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ .... الآية. ثم أتبع بأن ذلك لا يغني عنه ولا يفيده "إنها لظى" ثم ختمت السورة بتأكيد الوعيد وأشد التهديد "فذرهم يخوضوا ويلعبوا" إلى قوله "ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون " أي: ذلك يوم الحاقة ويوم القارعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 سورة نوح عليه السلام لما أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر في قوله تعالى: "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) وجليل الإغضاء في قوله: "فذرهم يخوضوا ويلعبوا" أتبع ذلك بذكر قصة نوح عليه السلام وتكرر دعاء قومه إلى الإيمان وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم وليتأسى به في الصبر والرفق في الدعاء كما قيل له صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " فقد دام دعاء نوح قومَه أدوم من مدتك ومع ذلك فلم يزدهم إلا فرارا (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثم مضت آى السورة على هذا المنهج من تجديد الِإخبار بطول مكابدته عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 السلام وتكرار دعائه، فلم يزدهم ذلك إلا بعدا وتصميما على كفرهم حتى أخذهم الله وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام "رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) . وذلك ليأسه من فلاحهم، وانجر في هذا حض نبينا - صلى الله عليه وسلم - على الصبر على قومه والتححمل منهم كما صرح به في قوله: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وكما قيل له (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) . سورة الجن لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة "ن والقلم "، ثم اتبعت بوعيدهم في الحاقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج، ثم تسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح مع قومه أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله، فقد كانت استجابة معاندى قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبيء من جنسهم ومن أنفسهم، فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذى به يتحاورون ولغتهم التى بها يتكلمون فقد بهرت العقول آياته ووضحت لكل قلب سليم براهينه ومعجزاته، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين، ومع ذلك عموا وصموا، وسبق إلى الإيمان من ليس من جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم وهم الجن ممن سبقت لهم من الله الحسنى فآمنوا وصدقوا، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالإخبار بذلك فأنزل عليه "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ".. إلى قوله إخبارا عن تعريف الجن سائر إخوانهم بما شاهدوه من عناد كفار العرب "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) ثم استمرت الآى ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة. سورة المزمل لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها، وتم مقصدها ومبناها، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة وأقرب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ظاهر الأمر إلى الإنابة بعد تقديم وعيدهم وشديد تهديدهم، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره مفتتحا ذلك بأجمل مكاملة وألطف مخاطبة "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ" تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" وليحصل منه ألَّا اكتراث بعناد من قدم عناده وكثر لججه، واتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى:، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) وهذا عين الوارد في قوله: " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " وفي قوله: "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار" (ق. 45) ثم قال: "إن لدينا أنكالا" فذكر ما أعد لهم، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه وبان لك التحام ما ذكره، ثم رجع الكلام إلى التلطف به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضى الله عنهم وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله "عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، إلى قوله: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَهُ " ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المتقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما يفي العباد - المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) . سورة المدثر ملاءمتها لسورة المزمل واضحة واستفتاح السورتين من نمط واحد، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه - صلى الله عليه وسلم - وعظيم تكريمه "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" والأمر فيهما بما يخصه "قم الليل إلا قليلا نصفه ... الآى" وفي الأخرى "قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) أتبعت في الأولى بقوله: "واصبر على ما يقولون " (15) وفي الثانية بقوله: "ولربك فاصبر" (7) وكل ذلك قصد واحد وأتبع أمره بالصبر في المزمل بتهديد الكفار ووعيدهم "وذرني والمكذبين ... الآيات " (11) وكذلك في الأخرى "ذرني ومن خلقت وحيدا .... الآية " (11) فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد. سورة القيامة لما تقدم قوله مخبرا عن أهل الكفر "وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ" (45) ثم تقدم في صدر السورة قوله تعالى: "فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ".. إلى قوله "غَيْرُ يَسِيرٍ" والمراد به يوم القيامة، والوعيد به لمن ذكر بعد في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ومن كان على حاله في تكذيب وقوع ذلك اليوم، ثم تكرر ذكره عند جواب من سئل بقوله: "ما سلككم في سقر" (41) فبسط القول في هذه السورة في بيان ذكر ذلك اليوم وأهواله، وأشير إلى حال من كذب به في قوله تعالى: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) وفي قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) ثم أتبع ذلك بذكر أحوال الخلائق في ذلك اليوم (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) . سورة الإنسان قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) . تعريف للإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه وأن لا يغالطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 والتكرمة، فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه "وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ". ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عنادا واستكبارا وتعاميا عن النظر والاعتبار "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ" وقوله بعد: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أي يتبختر عتوا واستكبار، وفرحا وتجبرا، وتعريفه بحاله التي لو ذكر منها لما كان منه ما وصف، وذلك قوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) . ثم أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه قد كان لا شىء، فلا نطفة ولا علقة، ثم أنعم عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين، ثم كان علقة ثم مضعة إلى إخراجه وتسويته خلقا آخر فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حالها، والواضح فناؤها واضمحلالها، وأمده الله بتوفيقه، عرف حرمان من وصف في قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) . فسبحان الله ما أعظم حلمه أكرم رفقه، ثم بين تعالى أن ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له، ومن إدراكه أدركه الغلط وارتكب الشطط. سورة المرسلات أقسم تعالى بالملائكة المتتابعين في الإرسال والرياح المسخرة والآتية بالمطر والملائكة الفارقة بما تنزل به بين الحق والباطل، والملقيات الذكر بالوحي إلى الأنبياء إعذارا من الله وإنذارا: أقسم تعالى بما ذكره من مخلوقاته على صدق الموعود به في قوله: "إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا .... الآية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) وقوله: "وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ... إلى قوله: "وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) . وقوله "وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) وقوله: "يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) . ولو لم يتقدم إلا هذا الوعد والوعيد المختتم به السورة لطابق افتتاح الأخرى قَسَماً عليه أشد المطابقة، فكيف وصورة "هل أتى على الإنسان " برأسها مواعد أخروية وإخبارات جزائية، فأقسم سبحانه وتعالى على صحة الوقوع وهو المتعالي الحق وكلامه الصدق. سورة عم سورة النبأ أما مطلعها فمرتب على التساؤل واستفهام وقع منهم، وكأنه وار هنا في معرض العدول والالتفات، وأما قوله: "كلا سيعلمون " فمناسب للوعيد المكرر في قوله: "ويل يومئذ للمكذبين "، كأن قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قيل سيعلمون عاقبة تكذيبهم، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شىء منه عبثا بل ليعتبر به، ويستوضح وجه الحكمة فيه فيعلم أنه لابد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع تلك الدلائل، ويستشعر من تكرار الفصول وتجدد الحالات وإحياء الأرض بعد موتها جري ذلك في البعث واطراد الحكم، وإليه الإشارة بقوله: "كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى" فقال تعالى منبها على ما ذكرناه: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) .. إلى قوله وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) . فهذه المصنوعات المقصودة بها الاعتبار كما تقدم، ثم قال تعالى.: "إن يوم الفصل كان ميقاتا" (17) أي موعدا لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه، ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم، فويل يومئذ للمكذبين، ويشهد لهذا القصد مما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) ثم قال بعد: "إن للمتقين مفازا" (31) وقوله بعد "ذلك اليوم الحق ". وأما الحياة الدنيا فلعب ولهو "وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ" وقوله بعد: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) . سورة النازعات لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا" عند نظره ما قدمت يداه، ومعاينته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك بما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر "وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شىء أهون من شيء " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" فقال تعالى: "وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) ... إلى قوله: "يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) إذ يستعبدون ذلك ويستدفعونه، "فإنما هى زجرة واحدة" أي صيحة "فإذا هم بالساهرة" أي الأرض قياما ينظرون ما قدمت أيديهم، ويتمنون أن لو كانوا ترابا ولا ينفعهم ذلك، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) . سورة عبس لما قال سبحانه: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) . وقال بعد "إنما أنت منذر من يخشاها" افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهَّله لطاعته وإجابة رسوله صلى الله عليهم وسلم، وأعلى منزلته لديه "رب أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره " ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت بطريق العتب وصاة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وتنبيها على أن يحمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن أم مكتوم وأن لا يحتقره وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، ولكن التحذير من هذا وإن لم يكن وقع يشعر بعظيم الاعتناء بمن حذر، ومنه قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 سبحانه: "لئن أشركت ليحبطن عملك " (الزمر: 65) "ولا تدع مع الله إلها آخر" (القصص: 88) ولا تمش في الأرض مرحا" وهو كثير، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق. لما دخل عليه - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم رضي الله عنه سائلا ومسترشدا وهو - صلى الله عليه وسلم - يكلم رجلا من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجا إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه فتمادى على مكالمة هذا الرجل لما كان يرجوه، ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه، فأغفل فورية مجاوبته، وشق عليه الحاجة خوفا من تفلت الآخر ومضيه على عقبه وهلاكه، عتب سبحانه عليه فقال: "عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) وهى منه سبحانه واجبة، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: "هل لك إلى أن تزكى" فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعده صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها، وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال: "مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ" (غافر: 37) فأنى يزكى ولو سبقت له سعادة لأبصر من حاله عين اللهو واللعب حين مقالته الشنعاء "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ" (الزخرف: 52) ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره الصيت الدنيوي ولا أخل به عماه بل عظم ربه شأنه لما نزل في حقه "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) فيا له صيتا ما أجله بخلاف من قدم ذكره من طرد فلم يَتَزَكَّ ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها "إنما أنت منذر من يخشاها" (النازعات: 45) كابن أم مكتوم رضى الله عنه، ومن نمط ما نزل في ابن أم مكتوم رضي الله عنه قوله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" (الكهف: 28) فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 سورة التكوير لما قال سبحانه: "فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه .... الآيات إلى آخر السورة" كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع ومتى يكون فقال تعالى: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) . ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كان ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه إلى ما ذكر إلى آخر السورة، لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة فيصح أن يكون أمارة للأول وعلما عليه. سورة الانفطار هذه السورة كأنها من تمام سورة التكوير لاتحاد القصد فاتصالها بها واضح وقد مضى نظير هذا. سورة التطفيف لما قال سبحانه في سورة الانفطار "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) . وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا" (الأنبياء: 47) أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم، وذلك التطفيف في المكيال والانحراف عن إقامة القسط في ذلك فقال تعالى: "ويل للمطففين " (1) ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 "أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى خاتمتها. سورة الانشقاق لما تقدم في الانفطار التعريف بالحفظة وإحصائهم على العباد في كتبهم وعاد الكلام إلى ذكر ما يكتب على البر والفاجر واستقرار ذلك في قوله تعالى: "إن كتاب الأبرار لفي عليين " (18) وقوله: "إن كتاب الفجار لفى سجين" أتبع ذالك بذكر التعريف بأخذ هذه الكتب في القيامة عند العرض، وأن أخذها بالأيمان عنوان السعادة، وأخذها وراء الظهر عنوان الشقاء، إذ قد تقدم في السورتين قبل ذكر الكتب واستقرارها بحسب اختلاف مضمناتها فمنها في عليين ومنها في سجين إلى يوم العرض فيؤتى كل كتابه فآخذ بيمينه وهو عنوان سعادته، وآخذ وراء ظهره وهو عنوان هلاكه، فتحصل الِإخبار بهذه الكتب ابتداء واستقرارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وتفريقا يوم العرض، وافتتحت السورة بذكر انشقاق السماء، ومد الأرض وإلقائها ما فيها وتخليها، تعريفا بهذا اليوم العظيم بما يتذكر به من سبقت سعادته والمناسبة بينة. سورة البروج وردت هذه السورة في قصة أصحاب الأخدود وقد تقدم هذا الضرب في سورة المجادلة وسورة النبأ وبينا وقوعه في أنفس السور ومتونها وهو أقرب فيما بين السورتين وأوضح. سورة الطارق لما قال تعالى في سورة البروج، والله على كل شىء شهيد". "والله من ورائهم محيط " وكان في ذلك تعريف العباد بأنه سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 لا يغيب عنه شيء، ولا يفوته هارب أردف ذلك بتفصيل يزيد إيضاح ذلك التعريف الجملي من شهادته سبحانه على كل شيء وإحاطته به فقال: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) . فأعلم سبحانه بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" (ق: 18) ليعلم العبد أنه ليس بمهل ولا مضيع، وهو سبحانه الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم ولكن هي سنة حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق، وأقسم تعالى على ذلك تحقيقا وتاكيدا. يناسب القصد المذكور.. سورة الأعلى لما قال سبحان مخبرا عن عَمَه الكفار في ظلام حيرتهم أنهم يكيدون كيدا، وكان وقوع ذلك من العبيد المحاط بأعمالهم ودقائق أنفساهم وأحوالهم من أقبح مرتكب وأبعده عن المعرفة بشىء من عظيم أمر الخالق جل جلاله وتعالى علاؤأه وشأنه، أتبع سبحانه ذلك بأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتنزيه ربه الأعلى عن شنيع اعتدائهم وإفك افترائهم فقال: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) . أي نزهه عن قبيح مقالهم، وقدم التنبيه على التنزيه في أمثال هذا ونظائره، ووقع ذلك أثناء السور وفيما بين سورة وأخرى، وأتبع سبحانه من التعريف بعظيم قدرته وعليِّ حكمته بما يبين ضلالهم فقال: "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) " " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " وتنزه عما يتقوله المفترون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 سورة الغاشية لما تقدم تنزيهه سبحانه عما توهمه الظالمون، واستمرت آي السورة على ما يوضح تنزيه الخالق جل جلاله عن عظيم مقالهم، أتبع ذلك بذكر الغاشية بعد افتتاح السورة بصورة الاستفهام تعظيما لأمرها فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وهي القيامة فكأنه سبحانه يقول: في ذلك اليوم يشاهدون جزاءهم ويشتد تحسرهم حين لا يغني عنهم، ثم عَرف بعظيم امتحانهم في قوله: "لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) مع ما بعد ذلك وما قبله، ثم عرف بذكر حال من كان في نقيض حالهم إذ ذاك أزيد في القرع وأدهى ثم أردف بذكر ما نصب من الدلائل كيف لم تغن فقال: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ..... الآيات " (17) أى أفلا يعتبرون بكل ذلك ويستدلون على الصانع ثم أمره بالتذكار. سورة الفجر أبدى سبحانه لمن تقدم ذكره وجها آخر من الاعتبار، وهو أن يتذكروا حال من تقدمهم من الأمم وما أعقب تكذيبهم واجترائهم فقال: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) ... إلى قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) أي لا يخفى عليه شىء من مرتكبات الخلائق، ولا يغيب عنه ما أكنوه (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فهلا اعتبر هؤلاء بما يعانونه ويشاهدونه من خلق الابل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض وكل ذلك لمصالحهم ومنافعهم، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم، والسماء لسقيهم وإظلالهم، والجبال لاختزان مياههم وإقلالهم، والأرض لحلولهم، وارتحالهم، فلا بهذه استبصروا، ولا بمن خلا من القرون اعتبروا "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ" (الآية: 6) على عظيم طغيانها وصميم بهتانها "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (آية: 14) سيتذكرون حين لا ينفع التذكر (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) . سورة البلد ْلما أوضح سبحانه حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهما وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسرا حين لا ينفع الندم ولات حين مطمع، أتبع ذلك بتعريف نبيه علي الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التى شاءها والحكمة التى قدرها كما جاء في الموضع الآخر "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" فأشار تعالى إلى هذا بقوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أي إنا خلقناه كذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعا لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار، "وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد، وأعقل قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد، وقد بين سبحانه فعله هذا بهم في قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" فأنت تشاهدهم يا محمد ذوى أبصار وآلات يعتبر بها النظار، "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) . فلا أخذ في خلاص نفسه واعتبر بحاله وأمسه "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ" ولكن "وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ". سورة الشمس لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من الكبد مع ما جعل له سبحانه من آلات النظر وبسط له من الدلائل والعبر، وأظهره في صورة من مَلك قياده وميز رشده وعناده وهذا بيان النجدين "إنا هديناه السبيل " وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التى حقيقتها اهتمام أو كد أو ألم وأتى بالاستبداد والاستقلال ثم "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" أقسم سبحانه في هذه السورة على فلاح من اختار رشده واستعمل جهده، وأنفق وجده "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) " وخيبة من عاب هداه فاتبع هواه، "وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) . فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين. ْ سورة الليل لما بين قبل حالهم في الافتراق وأقسم سبحانه على ذلك الشأن في الخلائق بحسب تقديره أزلا "لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" فقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى"، فاتصل بقوله تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، ثم ان قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى - إلى - العسرى" (5 - 15) يلائمه تفسيرا وتذكيرا - بما الأمر عليه من كون الخير والشر بإرادته وإلهامه بحسب السوابق - قوله: "فألهمها فجورها وتقواها" فهو سبحانه أهَّلهم للإعطاء وللاتقاء والتصدق، والمقدر للبخل والاستغناء والتكذيب، "والله خلقكم وما تعملون " "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ "، ثم زاد ذلك إيضاحا بقوله تعالى: "إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فتَبًّا للقدرية والمعتزلة (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) . سورة الضحى لما قال تعالى: "فألهمها فجورها وتقواها"، ثم اتبعه بقوله: "فسنيسره " وبقوله: "إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فلزم الخوف، واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان بالتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، آنس تعالى أحب عباده إليه وأعظم منزلة لديه، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) وأعقب ذلك بقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وقهر من سأل وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه، ولكنه تذكير بالنعم، وليستوضح الطريق من وفق من أمته - صلى الله عليه وسلم -، أما هو - صلى الله عليه وسلم - فحسبك من تعرف رحمته ورفعه قوله: "وكان بالمؤمنين رحيما"، "عزيز عليه ما عنتم - إلى - رحيم ". ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود، وكذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله: "والليل إذا يغشى" تنبيها على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب، وليناسب هذا حال التذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصاء ما به يحصل اليقين واستصغار درجة المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائب بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهِّل للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده بملازمة التقوى والاعتبار على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعيانا ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 لحارثة: (عرفت فالزم) وقال مثله للصديق، وقال تعالى: "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ"، "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ" فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام بما منحهم سبحانه من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله: "يجعل لكم فرقانا" "ويجعل لكم نورا تمشون به " "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا" فعمل هؤلاء على بصيرة، واستدلوا اجتهادا بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة فقطعوا عن الدنيا الآمال وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ"، "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ" ، فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: "والليل إذا يغشى" ولما تؤول إليه الحال في حق من كتب في حقه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه: "والنهار إذا تجلى" ولانحصار السبيل وإن تشعبت في طريقين: "فمنكم كافر ومنكم مؤمن " "فريق في الجنة وفريق في السعير" أشار قوله تعالى: "وما خلق الذكر والأنثى"، "ومن كل شىء خلقنا زوجين "، ففروا إلى الله الواحد مطلقا، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما ليس من تخصيص هذا القسم والله أعلم. أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة استفتاح القسم بالضحى بما يسره له سبحانه لا سيما إذا اعتبرت ما ذكر من سبب نرول السورة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فتر عنه الوحى حتى قال بعض الكفار: قلا محمدا ربُّه، فنزلت السورة مسفرة عن هذه النعمة والبشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 سورة الشرح معنى هذه السورة من معنى السورة التي قبلها، وحاصل السورتين تعداد نعمه عليه سبحانه، فإن قلت فلم فصلت سورة "ألم نشرح " ولم ينسق ذكر هذه النعم في سورة واحدة قلت: من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماء أن يذكر له أولا ما شاهد الحصول عليه منها بكسبه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء، فإذا استوفى له ما قصده من هذا، أتبعه بذكر نعم ابتدائية قد كان ابتداؤه لها قبل وجوده كقول الأب مثلا لابنه: ألم أختر لأجلك الأم، والبقعة، حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا، ونظير ما أشرنا إليه قوله سبحانه لزكرياء عليه الصلاة والسلام "ولم تك شيئا" وقد قدم له: "إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى" وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قَصر نظره ولم يوَّفق، فابتدأ بذكرها، ثم أعقب ما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك وهو قوله: " وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا " وله نظائر من الكتاب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 سورة التين هذه سورة موضحة ومتممة للمقصود في السورتين قبلها، فبان لك أن الصور الإنسانية بظاهر الأمر مما هىْ عليه من الترتيب والإتقان، قد كانت تقتضي الاتفاق بظاهر ارتباط الكمال بها من حيث إنها في أحسن تقويم والافتراق يبعد في الظاهر،فكيف افترق الحكم واختلف السلوك، فمن صاعد بالاستيضاح والامتثال، ونازل أسفل سافلين فضلا عن ترقي درجات الكمال، فإذن ليس يرقى من خص بمزيه التقرب إلا أنه نودي من قريب فأسرع في إجابة مناديه وأصاخ، وما اعتل بحاديه فسلك من واضحات السبيل ما رسم له وبنى على ما كتب له من ذلك عمله، "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" فعلى العاقل المنصف في نفسه أن يعلم أن كلا ميسر لما خلق له، فيضرع إلى خالقه في طلب الخلاص، من وجد خيرا فليحمد الله. فأوضحت هذه السورة أن ما أعطى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وخصه به من ضروب الكرامات وابتدأه به من عظيم الآلاء مما تضمنت السورتان إلى ما منحه من خير الدارين، وما تضمن قسمه سبحانه أنه ما ودعه ولا قلاه من الملاطفة والتأني ودلائل الحب والتقريب، كل ذلك فضل منه تعالى وإحسان لا لعمل تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 يستوجب ذلك أو بعضه، ولو تقدم عمل لم يقع إلا بمشيئته وتوفيقه وإرادته ولا يستوجب أحد عليه شيئاً وإنما هو فضله يوتيه من يشاء، فقال سبحانه منبها على ما وقع الإيماء إلى بعضه "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) . ومع ذلك لا ينفعه وقوع صورته الظاهرة في عالم الشهادة على أكمل خلق وأتم وضع، بل إذا لم يصحبه توفيق وسبقية سعادة من خالقه ولم يجعل له نورا يمشي به لم ير غير نفسه، ولا عرف إلا أبناء جنسه فقصر نظره على أول ما شاهد، ووقف عندما عاين من غير اعتبار يجره إلى تحقيق مآله وتبيين حاله أنه لم يكن شيئا مذكورا، فلما قصر وما أبصر اعتقد لنفسه الكمال وعمي عن المبدأ والمآل، فصار أسفل سافلين حيث لم ينتفع بآلات نظره ولا تعرف حقيقة خبره، "أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ". ثم قال تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فهم الذين هداهم ربهم بإيمانهم فجروا بسنة من خلقهم في أحسن تقويم، واستوضحوا الصراط المستقيم، واستبصروا، فأبصروا ونظروا فاعتبروا، وقالوا ربنا الله ثم استقاموا، "فلهم أجر غير ممنون ". سورة العلق لما قال سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) . وكان معنى ذلك على هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه، وقد نزهه تعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى: "لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته - صلى الله عليه وسلم - من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم فتقدير الكلام أي شىء يمن فيه أن يحملكم على التوقف والتكذيب بأمر الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، فلم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين، أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم، أيحسن أن يفعل ذلك عبثا وقد قال تعالى: "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا" (ص: 27) فلما قرر سبحانه للعبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم من موجب نفي الاسترابة في وقوع الجزاء إذا اعتبر ونظر، وقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشقاء، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء أوهو كتابه المبين الذي جعله تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال: "اقرأ باسم ربك " أي مستعينا به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليك، "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" وأيضا فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان "في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين " وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين المتقابلين، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا". وقد بين سبحانه أقصر غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجليل وعده الكريم له في قوله: "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وفصل حال ابتداء "ألم نشرح " على ما تقدم سؤال "رب اشرح لي صدري " إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع تعقيب ذلك بسورة تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الطرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال من، أشير من لدن قوله تعالى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) - إلى قوله -: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين وهي العادة المطردة في الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الطرف الآخر ليطابق المقصود، ولعل بعض من يتفطن، يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولا، فيقال له وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيما بعد من المكي ما لا يحصى، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور على ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام كان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه، فارجع بصرك وأعد في الخطبة نظرك والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته ويحملنا في ذلك ما يقربنا إليه بمنه وفضله. سورة القدر وردت تعريفا بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتاب وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب، أعلم سبحانه بليلة إنزاله وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا وتعلق رجائنا ونبحث على الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها، ومن قبيل الصلاة الوسطى، ولله سبحانه في إخفاء ذلك رحمة وكأن في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 سورة البينة هي من تمام ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بأن هذا الكتاب هو الذي كانت يهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر الآتي به حتى إذا حصل ذلك مشاهدا لهم كانوا أول كافر به فقال تعالى: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) .. إلى قوله (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) . وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج بإذن الله التسليم والتبري من ادعاء حول أو قوة، فإن هؤلاء كانوا قد قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به ما يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه، فرحم الله من لم يكن عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضى الله عنهم، وحرم هؤلاء الذين قد كانوا على بصيرة من أمره وجعلهم بكفرهم شر البرية ورضي عن الآخرين ورضوا عنه، وأسكنهم في جواره ومنحهم الفوز الكببر والحياة الأبدية، وإن كانوا قبل بعثه عليه الصلاة والسلام على جهالة وعمى فلم يضرهم إذ قد سبق لهم في الأزل "أولئك هم خير البريئة". سورة الزلزلة وردت عقب سورة البينة ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب".. إلى قوله: شر البريئة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقوله: "إن الذين آمنوا".. إلى خاتمة السورة ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) . سورة العاديات أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو، فقال: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) أى لكفور يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازى ولا يحاسب على قليل ذلك كثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما جمع بقوله: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره "، "وإنه لحب الخير" أى المال "لشديد" لبخيل "وإنه على ذلك لشهيد" وأن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) ، أى ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه "إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) لا يخفى عليه شىء من أمرهم "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . سورة القارعة لما قال تعالى: "أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) " وكان ذلك مظنة لأن يسأل متى ذلك، فقيل يوم القيامة الهائل الأمر، الفظيع الحال، الشديد البأس والقيامة هي القارعة، وكررت تعظيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لأمرها كما ورد في قوله تعالى: "الحاقة ما الحاقة" وقوله. تعالى: "فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) ثم زاد عظيم هولها إيضاحا بقوله تعالى: (يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) . والفراش: ما تهافت في النار من البعوض، والمبثوث المنتشر (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) . والعهن: الصوف المصبوغ، وخص لإعداده للغزل، إذ لا يصبغ بخلاف الأبيض فإنه لا يلزم فيه ذلك، ثم ذكر حال الخلق في وزن الأعمال وصيرورة كل فريق ما كتب له وقدر. سورة التكاثر لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها وهو التكاثر بالعدد والقربات والأهلين فقال: ألهاكم التكاثر" وهو في معرض التهديد والتقريع، وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله: "كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون " ثم قال: "كلا لو تعلمون علم اليقين " وحذف جواب لو، والتقدير لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ... الحديث) وقوله تعالى: "لترون الجحيم " جواب لقسم مقدر أى والله لترون الجحيم وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 سورة العصر لما قال تعالى: "ألهاكم التكاثر"، وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع أنه كان ظلوما جهولا، أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ، فالقصور شأنه والظلم طبعه والجهل جبلته فيحق أن يلهيه التكاثر ولا يدخل الله عليه روح الإيمان "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.. إلى آخرها" فهؤلاء الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. سورة الهمزة لما قال سبحانه "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"، أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره، واعتماده على ما جمعه من المال ظنا أنه يخلده وينجيه، وهذا كله عين النقص الذي هو شأن الإنسان وهو المذكور في السورة قبل فقال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده، والهمزة: العياب الطعان، واللمزة مثله، ثم ذكر تعالى مآله ومستقره بقوله: "لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ" أي ليطرحن في النار جزاء على اغتراره وطعنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 سورة الفيل لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده، وما أعقبه ذلك أتبع هذا بأصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم فتعجلوا النقمة وجعل الله كيدهم في تضليل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) : أي جماعات متفرقة (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) ، حتى استأصلهم وقُطعت دابرهم (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ، وأثمر لهم ذلك، اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم. سورة قريش لا خفاء باتصالهما أى أنه تعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش وهم سكان الحرم وقطان بيت الله وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 سورة الماعون لما تضمنت السورة المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جار على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله تعالى: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ، "يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) . وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية إلى ما ذكر أيضا فيها كالشغل بالتكاثر والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها، وأعمال ممن يتصف بها وإن لم يكن من أهلها. كدع اليتيم وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به وعدم الحض على إطعام السكين والتغافل عن الصلاة والسهو عنها والرياء بالأعمال ومنع الزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض، ويمكن أن يتضمن إيهام الماعون هذا كله. ولا شك أن هذه الصفات توجد في المنتمين إلى الإسلام فأخبر سبحانه أنها من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب، إشارة إلى أن هؤلاء هم أهلها ومن هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا". وقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة، وقد بسطته في كتاب: "إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل "، فمن هذا القبيل والله أعلم قوله: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) . أى إن هذه الصفات من دفع اليتيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وبعد الشفقة عليه، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال، ومنع الحاجات كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء، لأن نفي البعد عنها إنما يكون إذ ذاك، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعى المبرور، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه، فمن تشبه بقوم فهو منهم، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذى أهلك أصحاب الفيل وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده، والسهو عن الصلاة من ثمرات ألهاكم التكاثر والشغل بالأموال والأولاد، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور. سورة الكوثر لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتغرر بالمال والجاه وطلب الدنيا، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون وهو الكوثر وهو الخير الكثير، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة، لا يظمأ من شرب منه، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف، ومن هذا الخير قدم له في دنياه كتحليل الغنائم والنصر بالرعب والخلق العظيم، إلى ما لا يحصى من خير الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) ومن الكوثر والخير الذى أعطاه الله كتابه المبين الجامع لعلم الأولين والآخرين، والشفاء لما في الصدور، ولما كمل له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 سبحانه من النعم مالا يأتي عليه حصر مما لا ينايسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها قال له منبها على عظيم ما أعطاه "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... إلى قوله "وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذى أوتي كل ما ذكره تعالى في كتابه من نعيم أهل الدنيا، تمكن من تمكن منهم وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيمِ الدنيا ولا ذكر أحد المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شىء من ذلك كما تقدم من إشارتها وتبين بهذا وجه تعقيبها والله أعلم. سورة الكافرون لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتي درجاتهم وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" ، فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق، إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك، "فريق في الجنة وفريق في السعير" "فمنكم كافر ومنكم مومن " والسالكون طريق السلامة على درجات، فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الخصوص منهم والقرب، ثم أحوال من تمسك بهم ورتبتهم مختلفة، وإن جمعهم جامع وهو قوله: "فريق في الجنة"، وأما أهل التنكب عن هذه الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضا، ويضم جميعهم طريق واحد، فكيف ما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت ذكره تفصيلا لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن "هدى للمتقين " (البقرة: 2) إلى قوله: "إن شانئك هو الأبتر" (الكوثر: 3) أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى: "قل يل أيها الكافرون" فبين سبحانه أن من قضى عليه بالكفر والموافاة عليه لا سبيل إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبدا (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ولو أنهم بعد عذاب الآخرة، ومعاينة البعث وعظيم تلك الأهوال، وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ " فلو أجيبوا إلى هذا وأرجعوا لعادوا إلى حالهم الأول، "وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ". تصديقا لكلمة الله وإحكاما لسابق قدره "أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) فقال لهم "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) . إلى آخرها" فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال واستمر كل على طريقه "فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ"، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ " (الشورى: 48) فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما فصل في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها. والله أعلم. سورة النصر لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره - صلى الله عليه وسلم -، وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه السلام نفاذ عمره وانقضاء أجله، وجعلت على ذلك علامة دخول الناس في دين الله جماعات بعد التوقف والتثبط حكمة بالغة "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" (الأنعام: 33) ، وأمِر بالإكثار من الاستغفار المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم الأخذ مما عسى أن يتخلل من لغو أو فتور، فشرع سبحانه الاستغفار ليحرز لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 يكفي بعلي أجورهم كما وعدهم "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ" وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة، وكل كلام ربنا عظيم فيما قيدته في غير هذا، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف منها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعيت إليه نفسه الكريمة على ربه، وعرف بدنو أجله، وقد أشار إليه هذا الغرض أيضا بأبعد من الواقع في هذه السورة قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... " وسورة براءة، وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، لكن لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم يقين الأمر إلا من هذه السورة، وهي عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفا شافيا واستشعر الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه، وغلبوا رجاءهم في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من توقف، فلما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك استيقانا حمله على البكاء لما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم. سورة المسد هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل قد انقضى عمرك يا محمد وانتهى مما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك، وتأدية ما تحملته وحان أجلك، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجا واستجابتهم بعد تلكؤهم، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك، وإن كان أقرب الناس إليك، فقد فصلت سورة "قل يا أيها الكافرون " بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك ومن عاداك ولهذا سماها - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 المبرئة من النفاق، ليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان وأن القرابات غير نافعة ولا تجديه شيئا إلا مع الإيمان (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ، (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) ، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وها هنا انتهى أمر الكتاب بجملته. سورة الإخلاص لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان وأشعر العالم بحالهم من ترددهم بين عدمين ثم الله ينشىء النشأة الآخرة، فوجودهم منه سبحانه وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من أفعالهم وأقوالهم، كل ذلك خلقه واختراعه، وقد كان سبحانه ولا عالم ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان لا يفتقر إلى أحد ولا يحتاج إلى معين، ولا يتقيد بالزمان ولا يتحيز بالمكان، فالحمد لله رب العالمين أهل الحمد ومستحقه مطلقا، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) . الموجود الحق وكلامه الصدق، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، فطوبى لمن استوضح آى كتاب الله وأتى الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 من بابه وعرف نفسه ودنياه وأجاب داعي الله ولم ير فاعلا في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه، ولما كمل مقصود الكتاب واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء، فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ، وشر الثقلين. سورة الفلق قد أشير، أى في الكلام على ارتباط الإخلاص إلى وجه ارتباطها آنفا وذلك أوضح ان شاء الله. سورة الناس وجه تأخيرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية، ألا ترى عموم قوله "من شر ما خلق " (الفلق: 2) وإبهام (ما) وتنكير غاسق وحاسد، والعهد فيما استعيذ من شره في سورة الناس " وتعريفه ونعته، فبدأ بالعموم، ثم أتبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه وأوفى بالمقصود، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص ليتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فمعنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد إلا في عموم الصفة الأولى وكونها في المبالغة وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر. تم الكتاب ولله الحمد والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386