الكتاب: درة التنزيل وغرة التأويل المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ) دراسة وتحقيق وتعليق: د/ محمد مصطفى آيدين الناشر: جامعة أم القرى، وزارة التعليم العالي سلسلة الرسائل العلمية الموصى بها (30) معهد البحوث العلمية مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- درة التنزيل وغرة التأويل الخطيب الإسكافي الكتاب: درة التنزيل وغرة التأويل المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ) دراسة وتحقيق وتعليق: د/ محمد مصطفى آيدين الناشر: جامعة أم القرى، وزارة التعليم العالي سلسلة الرسائل العلمية الموصى بها (30) معهد البحوث العلمية مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جامعة أم القرى، 1418 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر. الخطيب الإسكافي، محمد بن عبد الله درة التنزيل وغرة التأويل/ تحقيق محمد مصطفى آيدن، إشراف عبد الستار فتح الله سعيد، مكة المكرمة 480ص 24x 17 سم ردمك: 268-03- 9960 مجموعة 8-269-03-9960 ج1 1 القرآن المحكم والتشابه أآيدين، محمد مصطفى محقق ب سعيد، عبد الستار فتح الله مشرف ج العنوان ديوي 63، 226 رقم الايداع: 1990/18 ردمك: 268-03- 9960 مجموعة 8-269-03-9960 ج1 الطبعة الأولى حقوق الطبع محفوظة لجامعة أم القرى أصل هذا العمل رسالة دكتوراه بعنوان درة التنزيل وغرة التأويل كلية الدعوة وأصول الدين بمكة المكرمة: قسم الكتاب والسنة أوصت لجنة المناقشة بطبعها.. وبالله التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فهرس اجمالي للكتاب الموضوع الجزء والصفحة شكر وتقدير 6 مفتاح رموز التحقيق 8 المقدمة 10 أسباب اختياري تحقيق هذا الكتاب 13 خطة البحث 16 قسم الدراسة 20 الفصل الأول عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب وحياته 21 المبحث الأول عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب 22 المبحث الثاني حياة الإمام أبي عبد الله الخطيب 28 الفصل الثاني التعريف بعلم متشابه القرآن ودراسة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل 45 المبحث الأول التعريف بعلم متشابه القرآن 47 المطلب الأول: التعريف بالمتشابه لغة وإصلاحا: 47 المطلب الثاني: التعريف بالمتشابه في القرآن الكريم 49 تعريف المتشابه اللفظي إصلاحا 53 المطلب الثالث: موضوع علم المتشابه اللفظي في القرآن وتطوره وتدوينه 64 المطلب الرابع: نكتة هذا العلم، وحكمته، وأهميته، وفوائده 61 المطلب الخامس: نشأة علم متشابه القرآن اللفظي 69 المطلب السادس: التأليف في توجيه متشابه القرآن اللفظي، وفي توجيه 72 المطلب السابع: الكتب المؤلفة في المتشاتبع اللفظي، وفي توجيهه 72 المبحث الثاني دراسة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل 87 المطلب الأول: تحقيق صحة اسم الكتاب 88 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 معنى اسم الكتاب 91 المطلب الثاني: تحقيق صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف 93 المطلب الثالث: موضوع الكتاب 134 المطلب الرابع: سبب تأليف الكتاب 137 المطلب الخامس: منهج المؤلف في الكتاب 138 المطلب السادس: قيمة الكتاب العلمية، وأثره فيمن بعده 162 المطلب الثامن: المآخذ على الكتاب 173 الفصل الثالث وصف النسخ ومنهج التحقيق 178 المبحث الأول وصف النسخ 179 المطلب الأول: وصف النسخ المطبوعة 179 المطلب الثاني وصف النسخ المخطوطة 187 المبحث الثاني منهج التحقيق 209 النص المحقق لكتاب درة التنزيل وغرة التأويل 214 خاتمة 1377 الفهارس 1379 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 شكر وتقدير الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإني اشكر الله عز وجل الذي تفضل علي بنعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وحقق لي بفضله وكرمه إنجاز هذا العمل المبارك بجوار بيته العتيق، الذي جعل مثابه للناس وأمنا، فله الحمد أولا وآخرا. ثم إني أقدم جزيل شكري، وعظيم امتناني، وعميق تقديري لكل من بذل جهدا في تعليمي، وكان له فضل علي في توجيهي، وإرشادي من أساتذتي الكرام. وأخص منهم بالذكر شيخي، واستاذي المشرف على هذه الرسالة: الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد فلقد أولاني من حسن رعايته، وجميل صبرهن وسعة صدره، وكان نعم المشرف في كل شيء علما وخلقا وتعاونا وتواضعا، ولم يدخر وسعا في التوجيه، والتسديد، والإرشاد والتتبع الجاد الدقيق لمراحل الدراسة والتحقيق أولا فأولا، ولم يكن لهذا الكتاب أن يرى النور على هذه الصورة لولا فضل اله أولا، ثم متابعته التامة، ونصائحه السديدة. كما أرى لزاما علي أن أسجل هنا أنني قد أفدت منه كثيرا في المسائل العلمية، والبحث والتنقيب، وحل المشاكل التي كانت تواجهني أثناء البحث وكان يجلس معي الساعات الطوال وأن يبارك في علمه، وينفع به الإسلام والمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأيضا أقدم جزيل شكري وخاص تقديري لصاحبي الفضيلة الأستاذين الكريمين عضوي لجنة المناقشة، فجزاهما الله عني خير الجزاء على ما بذ من جهد في قراءة هذه الرسالة، لتبرز في أكمل حله بما قدماه من نصح وتوجيه وتصحيح. ولا يفوتني أن اتقدم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الشيخ الدكتور الشريف منصور بن عون العبدلي، أستاذي وشيخي، الذي نلت من فضيلته منذ عرفته، كل مساعدة علمية عالية، وكل تشجيع في سبيل تقدمي علميا، غجزاه الله عني وعن العلم وأهله وطلابه خير الجزاء. كما أشكر أخي وزميلي الدكتور سليمان ملا إبراهيم أغلو إمام وخطيب جامع السليمانية باستانبول، الذي كان له فضل عظيم في الإشارة إلى تحقيق هذا الكتاب. كما أشكر إخواني وزملائي الذين كان لهم فضل علي، فجزاهم الله عني خير الجزاء. 5 ولا أنسى هنا أن اتقدم بالشكر الجزيل لجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والعاملين فيها، وعلى رأسهم معالي مدير الجامعة فضيلة الدكتور الشريف راشد الراجح، وةكلية الدعوة واصول الدين متمثلة في عميدها فضيلة الدكمتور عبد الله بن عمر الدميجي، ورئيس قسم الكتاب والسنة الفضيلة الدكتور محمد سعيد البخاري وسائر أساتذتي فيها على رعايتهم، وحسن معاملتهم لنا في أطوار مراحل الدراسة، مع ما قدموه لنا من حسن الضيافة، وجميل الإكرام، فجزاهم الله عني وعن طلبة العلم خير الجزاء، ووفق الله الجميع فيه رضاه، إنه سميع الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مفتاح رموز التحقيق الدرة: درة التنزيل وغرة التاويل لأبي عبد الله الخطيب البرهان: المراد به برهان في متشابه القرآن للكرماني الملاك: المراد به ملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي كشف المعاني: المراد به كشف المعاني في المتشابه من المثاني لابن الجماعة فتح الرحمن: فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري اللسان: لسان العرب لابن منظور السير: سير أعلام النبلاء للذهبي المفردات: المراد به مفردات ألفاظ القرآن للراغب عمدة الحفاظ: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي الخطيب: المراد به صاحب أبو عبد الله محمد بن عبد الله مؤلف كتاب درة التنزل الكرماني: المراد به صاحب البرهان في متشابه القرآن وليس الكرماني شارح البخاري (3/123) : أقصد بالرقم الأول الجزء أو المجلد، وبالرقم الثاني الصفحة (أ) : نسخة أحمد الثالث (ب) : نسخة بايزيد (حـ) : نسخة أحمد الثالث الثانية (خـ) : نسخة خسرو باشا (د) : نسخة دار الكتب المصرية (ر) : نسخة راغب باشا (س) : نسخة أسعد أفندي (ك) : نسخة مكتبة كوبريلني الأولى (ق) : نسخة مكتبة كوبريلي الثانية (ل) : نسخة المتحف البريطاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (و) : نسخة ولي الدين [] : حصرت بهما أرقام الآيات ... ووضعت بينهما أيضا ما اضفته للضرورة () : حصرت بينهما الآيات القرآنية الكريمة (()) : حصرت بهما الأحاديث والاثار والأقوال المنقولة بنصها. /: خط مائل: فصلت بين رقم الورقة من المخطوط وبين الرمز المشير إلى الصفحة، وكذلك يشير هذا الخط إلى بداية صفحة جديدة من الأصل. (ص) : اختصار كلمة صفحة (ط) : اختصار كلمة طبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 7 المقدمة الحمد لله الذي (نزل الحديث كتابا متشابها) [المزر: 23] ، وهو كتاب أحكمت آياته، وزاتقنت فصوله، وابدعت جمله، واختيرت كلماته، وعلا أسلوبه، واتفقت معانيه وائتلفت مبانيهن فلا ترى فيه عوجا، ولا تجد فيه اختلافا وتناقضا، وصدق إذ يقول (وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) . [فصلت: 41-34] . والصلاة والسلام على سيدنا محمّد بن عبد الله، النبي الأمي الذي أرسله الله (شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) . [الأحزاب: 45-46] ، ... وعى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من اهتدى بهديه، وسار على نهجه إلى يوم الدين أما بعد: فقد كثرت العلوم، وتنوعت الأبحاث حول القرآن الكريم حيث نزوله، وجمعه وترتيبه، ومناسباته، ومبهماته، وأسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتفسيره.. وما إلى ذلك من علوم تتعلق بكتاب الله، أو تتصل به. وعلم المتشابه اللفظي واحد من تلك العلوم الشريفة الكريمة، ولد في أحضان أئمة القراء، ونما وربى على أيدي الكبار العلماء، الذين عكفوا طوال حياتهم على إحاطة كتاب الله بعقولهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، وبذلو في خدمته عصارة أعمارهم وأوقاتهم، حتى عدوا كلماته، وحروفه، وذكروا الفرق بين الآيتين، أو الآيات المتشابهة لفظا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ونتعرف بهذا العلم على أسلوب القرآن الكريم في تكرير بعض الآيات بالكلمات المتفقة أو المختلفة، وحروفها المتشابهة، بأن تذكر الآية الواحدة ذات الموضوع الواحد في أكثر من موقع، مع إختلاف في جوانب التناول بين موقع وآخر، تقديما وتأخيرا، أو تعريفا وتنكيرا، أو جمعا وإفرادا، أو إبدال كلمة بأخرى، أو حرف بآخر، إلى غير ذلك من أنواع التشابه، وكثيرا ما يتصل هذا الاختلاف بمناسبة السياق القرآني عرض الآيات، وذكر الأحداث التي يشتمل عليها. إن هذا التنويع في الأسلوب القرآني هو لون عظيم من ألوان إعجازه، ووجه بديع من وجوه بلاغته، ذلك لأن تكرير الأيات القرآنية بألفاظ متفقة، أو مختلفة ليس كما قد يظنه بعض قصار النظر تكرارا خاليا عن فوائد وأسرار، وفي هذا الصدد يقول مؤلفنا أبو عبد الله الخطيب رحمه الله تعالى: ((إذا أو رد الحكيم- تقدست أسماؤه- آية على لفظة مخصوصة، ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غير لفظة عما كانت عليه في الأولى فلا بد من حكمة هناك تطلب، وإن أدركتموها 8 فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك، بل جهلتم)) 1. ومن هذا يتبين خطر هذا الموضوع، وأنه يجب أن يحاط بسياج من التحقيق العلمي الرصين، تتكسر دونه أمواج الشبهات التي يسوقها الجاهلون، وترتد عنه أعاصير المطاعن التي يثيرها الزائغون، وما أكثر هؤلاء وأولئك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وكتاب الإمام الخطيب أبي عبد الله درة التنزيل وغرة التأويل هو أقدم المصنفات فيما نعلم التي صنفت مستقلة، مخصصة في توجيه ما يتشابه، أو يتماثل، أو يتكرر من ألفاظ القرآن وآياته، عرفه علماء هذا الشأن قديما وحديثا، فأثنوا عليه، واتخذوا مثلا يحتذي، مع أن المعاصرين لم يروه إلا من خلال مطبوعة غير محققة، كثيرة الخطأ والخلل، والسقط. وإني أحمد الله تعالى على أن وفقني، بمنه وكرمه، إلى تحقيق هذا الكتاب النفيس والاستفادة منه، وتقديمه إلى العلماء والقراء، إعلاء لكلام الله، وخدمة له، ونشر كنوزه بين أبناء الأمة الإسلامية عامة، وبين المتخصصين في الدراسات القرآنية خاصة، إذ أن القارئ الكريم سيجد في مباحثه اليوم وفي الغد إن شاء الله ما يساعده للرد على الطاعنين في القرآن الكريم، بجانب ما سيعلمه من أسرار التكرار، والتشابه اللفظي في كتاب الله عز وجل. والكتاب الذي بين أيدينا يخرج محققا لأول مرة، وأنا بعد هذا الجهد لشاكر لله تعالى فضله علي، إذ وفقني إلى إخراجه في هذه الصورة، وسعيد بأنني عشت في رحاب القرآن أربع سنوات، وأمضيت بجواره أياما وليالي، هي من أحسن أيام العمر، وهل هنالك لحظات أسعد أهنأ آنس للنفس وأمتع من تلك التي يقضيها المؤمن مع كتاب ربه؟ يتدبر معانيه، ويستجلي أسراره، ويتلقى نفحاته، فيزيد إيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أسباب إختياري تحقيق هذا الكتاب دفعتني إلى تحقيق هذا الكتاب أمور كثيرة، منها: / 1 - أن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله الخطيب يندرج تحت علم متشابه القرآن، وهو من أهم علوم القرآن التي يحتاج إليها الدارس لتفسير القرآن الكريم، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أهمية موضوعه هو إبراز المعاني الكامنة فيما تشابه وتكرر من الآيات القرآنية، والرد على الطاعنين في القرآن الكريم. 9 2- القيمة العلمية للكتاب عالية القدر جدا، لدفع الإشكالات في الآيات القرآنية التي ظاهرها التعارض. 3- ومن الأسباب التي جعلتني أختار هذا الكتاب للتحقيق رغبتي العلمية الملحة في حسم أمره، لوجود اختلاف في تسميته، وفي نسبته إلى مؤلفه الحقيقي، والفصل في قضية الإختلاف في اسم الكتاب، واسم مؤلفه بالأدلة والقرائن العلمية عمل علمي ضروري، خاصة بالنسبة لمثل هذا الكتاب في شرف موضوعه، وجلال قدره العلمي. 4- كنت أعرف قبل ان أشرع في هذا العمل أن الكتاب طبع في القاهرة مرتين سنة 1326هـ، وسنة 1327 هـ وأصبح نادرا، لا يمكن أن يحصل المرء اليوم على نسخة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وكنت أعرف هذا، وأعرف كذلك أن هذا الكتاب طبع في لبنان مرتين: الأولى سنة 1973م، والثانية سنة 1979م في دار الآفاق الجديدة ببيروت. ويبدو أن الذي أشرف على إعادة طبعه ما كان يريد تحقيقه أو مقابلة نسخه من جديد، ولا كان عنده محاولة ذلك، لأن نفس الأخطاء والنقص في الطبعة المصرية القديمة تكررت كما هي، وليست هذه الأخطاء التي ترددت في تلك الطبعات هينة ولا يسيرة. والشأن في كتاب طبع أربع مرات، أن يكون في غنى عن أن يقدم محققا، لكنه في كل هذه الطبعات لم يأخذ حظه من التحقيق، والتصحيح، والتمحيص، والدراسة فجاءت كلها مليئة بالخطأ والتصحيف والتحريف، والاضطراب في بعض الكلمات، لكونها قرئت على غير حقيقتها، كما سنذكر لذلك أمثلة- إن شاء الله- في مطلب وصف النسخ المطبوعة. 5- أن الكتاب المطبوع المتداول لم يقابل بالنسخ المخطوطة الكثيرة، فمعلوم أن تقويم النص بمقابلة النسخ يعين على الفهم الراشد، والحكم السديد، ولذا لا بد من الوقوف عند كل إختلاف بين النسخ، والتزام ذكر ما كان منها على الصواب، وما يناسب السياق. 6- أن الكتاب المطبوع خال تماما من أي دراسة علمية عن الكتاب لم تحسم نسبته إلى مؤلفه، بل كان فيها اختلاف كثير، حتى وفقني الله تعالى للفصل في أمره 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 7- ومن أسباب اختياري هذا الكتاب درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله الخطيب للتحقيق والدراسة أنه كان من أهم مراجعي عند إعدادي رسالة الماجيستير، التي كانت تحمل عنوان: ((الأسماء الحسنى ومناسبتها للآيات التي ختمت بها)) ، حيث إن درة التنزيل كان يهتم بذكر 10 مناسبة الأسماء الحسنى لمضامين الآيات التي ختمت بها، ولقد نشأت في نفسي خلال تلك الفترة رغبة قوية لخدمة هذا الكتاب بإخراجه إخراجا يليق بخطر موضوعه، وجلال مضمونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 3- هذا الموضوع قسم بين ثلاثة باحثين في القرآن كله، وكان نصيبي فيه من أول سورة ((المائدة)) إلى آخر سورة ((المؤمنون)) . خطة البحث هذا، وقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى قسمين رئيسين: قسم الدراسة. وقسم التحقيق. أما قسم الدراسة فيتكون من مقدمة وثلاثة فصول: المقدمة: وفيها ذكر الباعث على اختياري التحقيق هذا الكتاب، وبينت فيها أهمية الموضوع، وخطة البحث. أما الفصول فكانت كما يلي: الفصل الأول: عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب وحياته، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب، وتناولت فيه: الحالة السياسية. الحالة الإجتماعية. الحالة العلمية. المبحث الثاني: حياة الإمام أبي عبد الله الخطيب، وفيه مطالب أربعة. المطلب الأول: اسمه، نسبه، كنيته، لقبه نسبته. المطلب الثاني: مولده، نشأته، أسرته، طلب للعلم، رحلاته، مذهبه، شيوخه، تلامذته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المطلب الثالث: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه. المطلب الرابع: آثاره العلمية، ووفاته. الفصل الثاني: في التعريف بعلم متشابه القرآن، ودراسة كتاب ((درة التنزيل وغرة التأويل)) ، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: التعريف بعلم متشابه القرآن، ويشتمل على مطالب سبعة: 11 المطلب الأول: التعريف بالمتشابه لغة وإصلاحا: المطلب الثاني: التعريف بالمتشابه في القرآن الكريم المطلب الثالث: موضوع علم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. المطلب الرابع: نكتة هذا العلم، وحكمته، وأهميته، وفوائده. المطلب الخامس: نشأة علم متشابه اللفظي في القرآن، وتطوره، وتدوينه. المطلب السادس: التأليف في توجيه متشابه القرآن اللفظي. المبحث الثاني: دراسة كتاب ((درة التنزيل)) ، ويشتمل على مطالب ثمانية: المطلب الأول: تحقيق صحة اسم الكتاب. المطلب الثاني: تحقيق صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف. المطلب الثالث: موضوع الكتاب. المطلب الرابع: سبب تأليف الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المطلب الخامس: منهج المؤلف في الكتاب. المطلب السادس: مصادر المؤلف في الكتاب. المطلب السابع: قيمة الكتاب العلمية، وأثره فيمن بعده. المطلب الثامن: المآخذ على الكتاب. الفصل الثالث: وصف النسخ، ومنهج التحقيق، وفيه مبحثان: المبحث الأول: وصف النسخ، وفيه مطلبان: المطلب الأول: وصف النسخ المطبوعة. المطلب الثاني: وصف النسخ المخطوطة، مع نماذج مصورة منها. المبحث الثاني: منهج التحقيق، وفيه تفصيل لنهجي في تحقيق الكتاب4. والقسم الثاني: النص المحقق فقد طبقت المنهج الذي أعددته على نصوص الكتاب، وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق، وغير ذلك مما خدمت به نص الكتاب بفضل الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 13 هذا ما بذلته من الجهد في هذا الكتاب الجليل، وإني لأرجو الله تعالى أن أكون قد أديت حقه العلمي وخدمته بهذا التحقيق والإخراج، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، يؤتيه من يشاء، وإن أخطأت فمني، وأستغفر الله من تقصيري، والله أسأل أن يتقبل صالح عملي، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يدخر ثوابه في صحائف أعمالي يوم لا ينفع مال ولا بنون*إلا من أتى بقلب سليم] الشعراء: 88_89 [. كما أرجو من القارئ الكريم أن يعذرني فيما يرى من خطأ أو زلل، فالكمال لله وحده، وأن يدعو لي بظهر الغيب دعوة صالحة بالرحمة والغفران، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. مكة المكرمة محمد مصطفى آيدن 25 من ذي الحجة سنة 1414 هـ 4 يونيو حزيران سنة 1994م 1411 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 القسم الأول قسم الدراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الفصل الأول عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب وحياته يشتمل على مبحثين: المبحث الأول: عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب فيه المطالب الآتية: الحالة السياسية. الحالة الإجتماعية. الحالة العلمية. المبحث الثاني: حياة الإمام أبي عبد الله الخطيب. يشتمل على مطالب أربعة: المطلب الأول: اسمه، نسبه، كنيته، لقبه، نسبته. المطلب الثاني: مولده، نشأته، أسرته، طلبه للعلم، وحلاته، مذهبه، شيوخه، تلامذته. المطلب الثالث: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه. المطلب الرابع: آثاره العلمية، ووفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المبحث الأول عصر الإمام أبي عبد الله الخطيب الحالة السياسية: كانت رقعة الإسلام خلال القرن الرابع الهجري تمتد من كاشغر (1) في أقصى المشرق إلى الأندلس في المغرب. وبعد هذا الإتساع بدأ العالم الإسلامي يفقد من الناحية السياسية، حيث ضعف كيان الدولة الإسلامية وتفككت، وذلك بسبب أن الأمراء والسلاطين بدأوا يستقلون عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، فنشأت دويلات كثيرة، وقد أخذت كل دولة من هذه الدويلات تهدف إلى تكوين كيان 15 مستقل، وذات سيادة مستقلة. لتنطلق منها إلى الاعتداء على غيرها من الدويلات والاستلاء على ما تحت يدها. وقد تضافرت على العالم الإسلامي ظروف داخلية وخارجية صعبة، فقد كانت الروم تهدد العالم الإسلامي من الخارج، واليهود والنصارى والفرق الضالة والدعوات الشعوبية تهدد من الداخل، حيث كان هؤلاء جميعا يمثلون قوة خبيثة داخل المجتمع الإسلامي، وكانوا يحرصون كل الحرص على أن لا تكون لدولة الإسلام وحدة سياسية، وأن: ان يسرون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وفي هذه الفترة التي عاش فيها أبو عبد الله الخطيب شهد الجزء الشرقي من الأمة الإسلامية أشد حالات الانقسام والفوضى السياسية، بسبب كثرة الدويلات، والنزاع بين الأمراء والسلاطين، وعلى سبيل المثال فقد استبد البويهيون (2) (334-447هـ) أمور الدولة وشاركوا الخلفاء العباسيين حتى في بعض مظاهر الخلافة وشاراتها، فكان الأمير البويهي هو الذي يصدر الأوامر وعلى الخليفة توقيعها لتكتسب الشرعية أمام الرأي العام، ولولا عمق جذور الخلافة العباسية، وولاء الناس لها لأسباب تتصل بالعقيدة الدينية، لما أبقى البويهيون على وجودها حتى بالصورة الرمزية التي كانت عليها (3) . ومن خلال هذا العرض السريع للأوضاع السياسية التي عاصرها المؤلف في عهد الخلافة العباسية وسيطرة البويهيين نستنتج أنه عاش عصر اضطرابات ودويلات متناحرة في ظل خلافة ضعيفة لا تقدر على القيام بحماية نفسها. ولكن المؤلف لم يعكس لنا من خلال مؤلفاته شيئا من الواقع السياسي الذي عاصره، فقد كان منكبا على العالم مشتغلا به تعلما وتعليما وتصنيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الناحية الاجتماعية: كانت السلطة في القرن الرابع الهجري في يد الدولة العباسية، وعاصمتها بغداد، ولكن تغلب عليها آل بويه الفرس، الذين امتد حكمهم من فارس إلى بغداد نفسها، الأمر الذي جعلهم قادرين على الأخذ بزمام الأمور والتحكم بالبلاد ورقاب العباد، وقد أصبح لهم بحكم ذلك فرص لهم بحكم ذلك فرص الضرائب والمكوس، وجباية الأموال من كل طريق مما أثقل كواهل الناس، وجعل حياتهم الاقتصادية شاقة. 111 كما أن الفساد انتشر في جميع أركان الدولة حتى شمل الحسبة (4) والقضاء، وهما أهم ما يرتبط في حياة الناس المعيشية، والاجتماعية، فعمت الفوضى والسرقة والغش والرشوة والتلاعب بمقدرات الناس مما جعلهم يغرقون في الفقر والحاجة حتى أصبحت الحياة بالنسبة لعامة الناس حملا ثقيلا لا يطاق. وإضافة إلى هذه الفوضى، فقد ازداد الخلاف المذهبي في هذا القرن، وكان البويهيون وهم -الشيعة- يشجعون دعاة المذاهب الشيعية على التغلغل في البلدان، وفي نفس الوقت كانوا يشجعون النزاع المذهبي أيضا للقضاء على الخلافة العباسية (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الناحية العلمية: وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة التي سبقت الإشارة إلى بعضها، ظل العلم والعلماء في مقاومة طويلة شاملة لكل عوامل التخلف والضياع، التي تسربت إلى جذور الأمة الإسلامية وحياتها، ذلك لأن العلم عند المسلمين دين، ومسؤولية إسلامية، وعبادة وقربى إلى الله تعالى، لذلك وجدناه ينطلق من خلال أئئمته الأعلم في حركة غلابة، من غير نظر إلى التقلبات العاصفة في السياسة والحروب، أو الأزمات الطاحنة من فتن، وثورات، ونكبات (6) . ويعتبر القرن الرابع الهجري قرنا مزدهرا من الناحية العلمية، حيث نضجت فيه ثمار العلوم في مختلف أنواعها، وظهر فيه كثير من أفذاذ العلماء والأدباء والشعراء ذوي الشهرة الواسعة في شتى ميادين العلوم والثقافة، في التفسير، والفقه، واللغة، والأدب، والشعر، والنقر، وغير ذلك من الفنون. وكانت المكتبات العامة المليئة بذخائر العلوم تنتشر في كل مكان من العالم الإسلامي الواسع، فلا يكاد يخلو مسجد من مكتبة عامرة، وذلك أن العلماء كان من عادتهم أن يقفوا مكتباتهم على المساجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وكانت هنالك مكتبات في غير المساجد مثل بيت الكتب للصاحب ابن عباد (ت 385 هـ) (7) بالري، وكان يحوي من الكتب ما يحتاج نقله إلى أربعمائة جمل أو أكثر، وكانت فهرستها تقع في عشرة مجلدات (8) . وقد أوجد انقسام الدولة العباسية إلى دويلات عواصم ثقافية كثيرة، وكل منها يتنافس ليكون له كيانه الثقافي الخاص بجوار بغداد التي كانت آنذاك أكبر مركز ثقافي. ومن هذه المدن التي ازدهرت بالعلوم والثقافة في مشرق العالم الإسلامي مدينتنا أصبهان (9) 17 والري (10) ، وبخاصة في عهد البويهيين الذين اندفعوا في التأثير في الأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 العربي اندفاعا تاما، مع أن أصلهم كان من الفرس كما أن أغلب وزرائهم كابن العميد وابن عباد كانوا من الفرس (11) . وأبو عبد الله الخطيب الذي هو مؤلف كتاب درة التنزيل وغرة التأويل عاش بين هاتين المدينتين في فترة من أزهى الفترات العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المبحث الثاني حياة الإمام أبي عبد الله الخطيب. المطلب الأول: اسمه، نسبه، كنيته، لقبه، نسبته. هو محمد بن عبد الله (12) ، المكنى بأبي عبد الله، والملقب بالخطيب، الأصبهاني (نسبة إلى أصبهان، وهي وطنه الأصلي) ، الرازي (13) (نسبة إلى الري، وهي التي تولى فيها الخطابة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والمراجع التي بأيدينا لا تسعفنا في تحديد كونه فارسيا أو عربيا، وإنما نرجح أنه كان من أهل أصبهان نسبا ومولدا. أما نسبته الإسكافي (14) فهو نسبة إلى الأسكفة، وهي حرفة الإسكاف (15) ، وكان بعض الأصبهانيين ينسبون إلى هـ\ه الحرفة، يقول ابن لأثير (ت 630 هـ) في كتابه ((اللباب في تهذيب الأنساب)) ، ولعل مؤلفنا الشيخ أبا عبد الله الخطيب كان من هؤلاء. والله أعلم. (12) مصادر ترجمته: معجم الأدباء لياقوت الحموي (ت 626هـ) ، 6/2549، وانظر كذلك في ترجمة أبي علي المرزوقي (2/506) حيث فيها ذكر للخطيب أيضا. الوافي بالوفيات للصفدي (ت 764 هـ) ، 3/337. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة السيوطي (ت 911 هـ) ، 1/149. هدية العارفين لاسماعيل باشا البغدادي (ت 1339هـ) ، 2/64، وجاء فيها: الخطيب البغدادي وهو خطأ ظاهر. معجم المؤلفين لرضا كحالة، 10/211. ... تاريخ الأدب العربي بروكمام، 1/6/227. الأعلام لخير الدين الزركلي، 6/227. معجم المفسرين لعادل نويهض، 2/558 18 قال ياقوت الحموي (ت 626هـ) في ترجمته ((محمد بن عبد الله خطيب القلعة الفخرية (17) ، أبو عبد الله، المعروف بالخطيب الإسكافي، الأديب اللغوي، صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 التصانيف الحسنة، أحد أصحاب ابن عباد (ت 385 هـ) ، وكان من أهل أصبهان، وخطيبا بالري)) (18) . المطلب الثاني: مولده، نشأته، وأسرته، طلبه للعلم، رحلاته، مذهبه، شيوخه، تلامذته: يحيط غموض كبير بهذه الجوانب كلها من حياة الخطيب الأصبهاني رغم ما ذكره الصاحب ابن عباد (ت 385 هـ) من ذيوع شعرته، وكان خليقا بهذه الشهرة أن يكون لصاحبها تاريخ حافل بالأخبار، يحكي تفاصيل حياته، ويروي دقائق طفولته، وشبابه، وكهولته. ولكن الكتب لم تسعفنا بأخبار وافية وشافية عن حياة الخطيب، بل حظه من الحديث في المصادر والمراجع قليل جدا. فليس فيما بين أيدينا من المصادر ذكر لتاريخ ميلاده، ولا نعرف شيئا عن أسرته التي تربى فيها، ولا نعرف شيئا عن أسرته التي تربى فيها، ولا عن نشأته في ذلك شأن الكثير من القدماء. ولم تحدثنا أيضا تلك الكتب التي ترجمت له عن الفترة التي مكثها في أصبهان، ومتى صار خطيبا بالري. فخر اباذ، وهي مشرفة على البساتين والمياه الجارية أنزه شيء يكون، وأظنها قلعة طبرك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وكذلك الأمر في طلبه، فلم ترو المصادر من أين ممن أخذ العلم؟ ، ولانعرف شيئا عن رحلاته العلمية إن كانت، وليس هناك أي ذكر على أنه غادر مدينة أصبهان والري، ولم تظهر أية إشارة إلى ذلك في الكتب التي ترجمت له. كما أن المصادر لم تذكر شيئا عن شيوخه، ولا عن تلامذته، ولا شك أن هذا أمر يؤسف له، خاصة بالنسبة للعالم جليل مثل أبي عبد الله الخطيب، وقد وقع مثل هذا العدد من الأئمة الأعلام، كل بسبب خاص به، كالإمام أبي عبد الله القرطبي (ت 671 هـ) صاحب ((الجامع لأحكام القرآن)) ، حيث لم يذكر من ترجم له التلاميذ الذين أخذوا عنه، وتخرجوا عليه، وأفادوا من معرفته الشيء الكثير، فيبعد جدا أن يعزف الناس عنه، ولا يفيد منه. ولعل السبب بالنسبة للخطيب الإسكافي هو ميله للعزلة كما سيظهر بعد قليل إن شاء الله، ولعل هذا هو ما جعل بعض المراجع الشهيرة في التراجم يغفل ذكره على الإطلاق مثل ((سير أعلام 19 النبلاء)) ، الذي ترجم فيه الذهبي لعلماء دون الخطيب الإسكافي بمراحل شاسعة. والله أعلم. مذهبه في العقيدة: ظهر لي بحسب واقع ما جاء في كتاب ((درة التنزيل)) أن الخطيب سني المذهب في العقيدة، إذ لم أجد عنده نفيا للصفات، أو تأويلا لها بالمجاز، ونحوه، أو غلوا في أحكام التكفير بالذنب، ويتضح ذلك بالاعتبارات التالية: أولا: مما يدل على أنه مثبت للصفات، منكر على نفاتها، مقر لمذهب أهل السنة في علم الله تعالى بالجزئيات والكليات: ما قاله في تفسير قوله تعالى) إنه سميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عليم) [الأعراف: 200] ((أي يسمع ما يكون منك، ويعلمه مع كل مسموع ومعلوم)) (19) . ثانيا: مما يدل على أنه ينقد المذاهب العقائدية، حيث يقول ((وأما أن يكون الحكم بخلاف ما أنزل الله كفرا فهو مذهب الخوارج، يذهبون ب ((من)) هنا إلى الشياع الذي في المجازاة، وهذا مخصوص به اليهود الذين تقدم ذكرهم وتبديلهم حكم الله تعالى ليكذبوا رسول الله ص وذلك كفر)) (20) . مذهب الفقهي: ولما كان موضوع كتاب ((درة التنزيل)) بعيدا عن المسائل الفقهية لم نعرف من خلال الكتاب مذهبه الفقهي ولم يذكر من ترجم له أيضا انتسابه إلى أحد من المذاهب الفقهية. ولم أجد أحدا قبل ياقوت الحموي (ت 626هـ) يذكر ترجمة الخطيب، بل تأكد لدي أن كل ما أورده أصحاب كتب التراجم عنه إنما هو عبارة عن أخبار يسيرة في أسطر قليلة وردت في معجم الأدباء لياقوت، والذين أتوا بعده كرروا ما جاء فيه ونقلوه من غير زيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولا شك أن ترجمة الخطيب التي أوردها ياقوت في معجمه جاءت موجزة، لا تتفق ومنزلته العلمية، ولا تشفي غليل الباحث أيضا، لأنها لا تتعدى اسمه وكنيته، وعمله، وشهرته التي عرف بها، وثناء الصاحب ابن عباد (ت 385هـ) عليه، وتسمية بعض الكتب التي صنفها. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنه عاش حياة علمية خالصة فلم يختلط بالناس، وعلى ذلك لا توجد له إلا أخبار يسيرة. وقد يكون ابتعاده عن الخلفاء والولاة وعدم اتصاله بهم وتقربه إليهم، سببا في هذا الإغفال. لأن كثيرا من العلماء والشعراء والأدباء، لم يعرفوا ولم يشتهروا إلا بعد أن إرتبط اسمهم بخليفة قربهم إليه، أو وال شملهم برعايته. 20 غير أن ياقوتا الحموي يشير في ترجمته التي كتبها عنه في ((معجم الأدباء)) ، إلى أنه كان أحد أصحاب ابن عباد الصاحب- وزير أل بويه الشهير. وإذا كان ذلك صحيحا، فإنه يعني أن مجال الشهرة كان مفتوحا أمامه لو أراد، لما نعرفه عن الصاحب ورعايته العلماء والأدباء. إلا أننا لم نلمس لهذه الصحبة أي تأثير على الخطيب الإسكافي، فإن من يدرس حياة ابن عباد، ويتعرف على من اتصل به من العلماء والأدباء والشعراء، يجدهم كثيرين، وذاعت شهرتهم، وبعضهم ممن ليسوا بمنزلة الإسكافي العلمية والأدبية، وقد اقترنت أسماؤهم باسم ابن عباد، وهذا يجعلنا نميل إلى القول بأن الخطيب الإسكافي كان يؤثر العزلة في حياته، حتى لو كان من أصحاب ابن عباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولعله كان منصرفا إلى مهنته الخحاصة التي اتخذها مصدرا لعيشه، وقد آثرها على الكسب من تقربه إلى ذوي السلطان، فلم يطرق أبوابهم أو يتردد على مجالسهم. فابتعد بذلك عن مجال الإشتهار، لأن وقته مستغرق في العلم والمهنة (21) . المطلب الثالث: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه: ربما كان بيان مكانته الخطيب العلمية أسعد حالا، وإن غطى الغموض جوانب ترجمته، لأن الذي وصل من مؤلفاته كان كافيا لتكوين فكرة جليلة عن هذا الرجل وعلمه، كما يوجد من معاصريه من امتدحه، وكذلك فإن كثيرا ممن نقلوا عنه متأخرا امتدحوا علمه. كفى الخطيب مكانا أن يكون من أوائل المؤلفين الذين ألفوا في توجيه الآيات المتشابهة لفظا في القرآن الكريم، ومن جاء بعده ممكن ألف في هذا النوع من أنواع التفسير هم عيال عليه، وقد عرف قيمته الأئمة وقدروه، حتى ابن الزبير الغرناطي (ت 708هـ) حذا في كتابه ((ملاك التأويل)) حذو ((درة التنزيل)) للإسكافي، ونهج نهجه فاعتمد عين ما ورد فيه من آيات مع استدراك ما أغفل، ووصف مؤلفه قائلا: ((.. إنه (22) باب لم يقرعه من تقدم وسلف، ومن حذا حذوهم ممن أتى بعدهم وخلف، أحد فيما علمته على توالي الأعصار والمدد، وترادف أيام الأبد، مع عظيم موقعه، وجليل منزعه، ومكانته في الدين، وفته أعضاء ذوي الشك والارتياب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الطاعنين والملحدين، إلى أن ورد على كتاب لبعض المعتنين من جلة المشارقة نفعه الله سماه بكتاب ((درة التنزيل وغرة التأويل)) ، قرع به مغلق هذا الباب، وأتى في هذا المقصد بصفو من التوجيهات لباب، وعرف أنه باب لم يوجف عليه (23) أحد قبله بخيل ولا ركاب، ولا نطق ناطق قبل فيه بحرف مما فيه. وصدق رحمه الله، 21 وأحسن فيما سلك وسن، وحق لنا به-لإحسان- أن نفتدي ونستن ... )) (24) . ولقد من الله على الخطيب بالعلم الواسع، حتى نال إعجاب العلماء المعاصرين له، كالصاحب ابن عباد (ت 385 هـ) حيث أشاد بمكانته العلمية عند ما قال- كما روى ياقوت الحموي (25) : ((قال ابن عباد: فاز بالعلم من أهل أصبهان ثلاثة: حائك، وحلاج، وإسكاف. فالحائك: أبو علي المرزوقي، والحلاج: أبو منصور ابن ماشدة، والإسكاف: أبو بعد الله الخطيب)) . ونقل ياقوت قول ابن عباد في ترجمة أبي علي المرزوقي (ت 421 هـ) أيضا، حيث ((قال الصاحب بن عباد: فاز بالعلم من أصبهان ثلاثة: حائك، وحلاج، وإسكاف، فالحائك هو المرزوقي، والحلاج أبو منصور ابن ماشدة، والإسكاف أبو عبد الله الخطيب بالري، صاحب التصانيف في اللغة)) (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وذلك لا شك دليل واضح على سوي مكانة أبي عبد الله الخطيب العلمية ومركزه الثقافي في العصر الذي عاش فيه رحمه الله تعالى. وليس يعني الصاحب أن أصبهان لم يبرز منها إلا هؤلاء العباقرة، ولكنه عني أنهم نبغوا من بين أصحاب الصناعات، وإلا فإن عباقرة أصبهان كثيرون، وقد ظهر فيها فحول كثار (27) . أو لعله يقصد أجمعهم للعلم، وأعظمهم في فنونه، فهم الذروة من أهل أصبهان. ولقد تتبعت كثيرا أقوال العلماء الذين نقلوا في مؤلفاتهم عن ((درة التنزيل)) فألفيت بعض العبارات التي تدل على مكانة الخطيب العلمية الفذة في علم اللغة والتفسير، ومن ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثم قال الكرماني تعقيبا على جواب الخطيب: ((وهذا جواب حسن، إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر)) (29) . ولا يزال الثناء والتقدير مستمرين على الخطيب وكتابه الجليل من العماء في كل عصر، كلما جاءت مناسبة ذلك. وقد نوه الشيخ الزرقاني - في عصرنا الحاضر- بمكانة الخطيب أثناء كلامه عن أسلوب القرآن في كتابه الممتع ((مناهل العرفان في علوم القرآن)) حيث قال: ((ولعلمائنا الأفاضل - أكرمهم الله- أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة، مكان حرف أو كلمة، ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفي سنة 420هـ (30) في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل، وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه، إذ 22 يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ ((كلوا)) من قوله سبحانه في سورة البقرة [58] : (وإذ قلنا ادخلو هذه القرية فكلوا منها حيث شأتم) ، وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ ((كلوا)) أيضا، من قوله سبحان في سورة الأعراف [161] : (وإذا لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 شئتم..) مع أن القصة واحدة، ومدخول الحرف واحد، ثم نقل جواب الخطيب على هذه المسألة (31) . المطلب الرابع: آثاره العلمية، ووفاته: للخطيب مؤلفات عديدة متنوعة بعضها في اللغة، والأدب، وبعضها في التفسير وعلوم القرآن، ونذكرها هنا ما وصل إلى علمنا منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وكتاب ((مبادئ اللغة)) يشتمل على موضوعات شتى، أولها باب ذكر السماء والكواكب، ثم باب أسماء البروج والأزمنة، ثم باب الليل والنهار، ثم باب صفة الحر والبرد، وباب الرياح، وباب أسماء الرعد والبرق، وباب المياه وأوصافها وذكر أماكنها..الخ. ((شواهد كتاب سيبويه)) (35) . وفي هذا الكتاب شرح الخطيب أبيات كتاب سيبويه (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ((نقد الشعر)) (37) . ((درة التنزيل وغرة التأويل)) في الآيات المتشابهة (38) . هذا الكتاب أفرده مؤلفه ليتناول فيه جانبا من جوانب التفسير، وهو توجيه الآيات المتشابهة لفظا، وهو الكتاب الذي نقوم بتحقيقه، والحمد لله الذي قدر لي هذا العمل المبارك، وسيأتي الكلام عليه، موسعا في الفصل الثاني، تحت المبحث الثاني (39) إن شاء الله تعالى. وهو أخلق كتبه بأن يقال فيه أنه أشهر كتبه، وأعظمها ابتكارا. ((لطف التدبير في سياسات الملوك)) (40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 تناول الخطيب فيه أخبار الملوك والأمراء السابقين رغبة في إفادة من عاصره من الولاة، مرتبا ذلك كله على أبواب يحتاج إليها كل من ساس أمر الناس، أو ولي شأنهم، فكان ذلك مجيدا بارعا في التقسيم والتبويب وحسن العرض (41) . وهذه الكتب السبعة المتقدمة ذكرها ياقوت في ((معجم الأدباء)) وتناقلها عنه من ترجم للمؤلف بعد ذلك. وهناك كتب أخرى لأبي عبد اله الخطيب لم تذكرها المصادر التي ترجمت له، وعثرت منها على 23 ما يأتي: ((كتاب المجالس)) (42) . تكلم الخطيب في كتابه المجالس على شرح طائفة من الآيات القرآنية التي يعترض عليها الملحدون، والأحاديث، والأمثال، والأشعار، والحكم، مع ذكر ما يناسبها من العلوم المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 9 كتاب ((خلق الإنسان)) (43) . يبدأ الخطيب كتابه هذا بمقدمة يتناول فيها تدرج الإنسان في سنه، منذ ولادته إلى آخر مراحل سنه، ثم يتناول أسماء جملة خلق الإنسان، مثل الطلل، والشبح (44) ، والجسم، والجسمان، وهكذا، ثم فصل في أجزائه مبتدئا بالرأس.. إلى أن انتهى إلى القدم ... ، ثم يختم كتابه ب ((باب الحمل والولادة)) . 10 ((مختصر كتاب العين)) (45) . لم يذكر هذا الكتاب من ترجم له، وهو صريح النسبة إلى الخطيب، حيث جاء في الغلاف: ((مختصر كتاب العين)) استخراج أبي عبد الله الخطيب أيده الله 11 ((شرح الحماسة)) . (46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 12 ((جامع التفسير)) (47) . 13 ((معاني القرآن)) 48. ومن العجيب أن الذين ترجموا للخطيب الإسكافي لم ينوهوا إلا بجانبه اللغوي والأدبي، ولم ينوهوا بتفوقه في التفسير وعلوم القرآن، مع رسوخ قدمه فيهما، بل لم يذكروا له كتابا في التفسير، غير كتاب ((درة التنزيل)) مع أنه يشير في آخر هذا الكتاب في ((سورة الكافرون)) إلى أن له كتابا في التفسير يحمل اسم ((جامع التفسير)) (49) . وكذلك يشير في كتبه ((المجالس)) إلى أن له كتابا في التفسير يحمل اسم ((معاني القرآن) حيث جاء فيه أثناء الكلام عن الحروف المقطعة (50) : ((والكلام في تفصيلها يطول، وهو مجموع في باب من أبواب خطبة الكتاب الذي ألفناه في معاني القرآن)) . وفاة المؤلف: أصحاب كتب التراجم (51) الذين ترجموا للخطيب ذكروا بالتحديد أنه توفي سنة عشرين وأربعمائة من الهجرة النبوية (420 هـ) ، وهذا هو المشهور المتداول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 24 وقيل: كانت وفاته سنة 421 هـ، وهو ما ذكره حاجي خليفة في ((كشف الظنون)) (52) ، وإسماعيل باشا في ((هدية العارفين)) (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 25 الفصل الثاني التعريف بعلم متشابه القرآن ودراسة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل يشتمل على مبحثيت: المبحث الأول: التعريف بعلم متشابه القرآن. يشتمل على مطالب سبعة: المطلب الأول: التعريف بالمتشابه لغة واصلاحا المطلب الثاني: التعريف بالمتشابه في القرآن الكريم. المطلب الثالث: موضوع علم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. المطلب الرابع: نكتة هذا العلم، وحكمته، وأهميته، وفوائده. المطلب الخامس: نشأة علم المتشابه اللفظي في القرآن وتطوره، وتدوينه. المطلب السادس: التأليف في توجيه متشابه القرآن اللفظي. المطلب السابع: الكتب المؤلفة في المتشابه اللفظي. المبحث الثاني: دراسة درة التنزيل وغرة التأويل يشتمل على مطالب ثمانية: المطلب الأول: تحقيق صحة اسم الكتاب. المطلب الثاني: تحقيق صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف. المطلب الثالث: موضوع الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المطلب الرابع: سبب تأليف الكتاب المطلب الخامس: منهج المؤلف في الكتاب المطلب السادس: مصادر المؤلف في الكتاب المطلب السابع: قيمة الكتاب العلمية، وأثره فيمن بعده. المطلب الثامن: المآخذ على الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المبحث الأول التعريف بعلم متشابه القرآن. المطلب الأول: التعريف بالمتشابه لغة وإصلاحا: 26 المتشابه في اللغة: اسم فاعل مشتق من التشابه، وأبدأ هنا كر ما قاله علماء اللغة في بيان معناه، فأقول وبالله التوفيق: 1 - قال إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ)) ) والمتشابهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات)) (1) . 2- قال أحمد بن فارس (ت395 هـ) : ((الشين والباء والهاء: أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونا ووصفا ... )) (2) . 3- قال محمود بن عمر الزمخشري (ت 538هـ) : تشابه الشيآن واشتبها، واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لإشباه بعضها بعضا)) (3) . 4- قال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور (ت 711 هـ) : ((تشابه الشيآن واشتبها: أشبه كل واحد منهما صاحبه. والمشتبهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات.. وأمور مشتبهة ومشبهة: مشكلة يشبه بعضها بعضا (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 5- قال أحمد بن محمد الفيومي (ت 770هـ) : ((واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميز ولم تظهر..، وتشابهت الآيات: تساوت أيضا..، فالمشابهة: المشاركة في معنى من المعاني، والإشتباه: الإلتباس)) (5) . 6- قال محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817 هـ) : وشابه وأشبهه: ماثله، وتشابها واشتبها: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا، وأمور مشتبهة ومشبهة: مشكلة (6) . نستطيع- حسب ما مر بنا لدى أهل اللغة- أن نقرر بأن المتشابه يطلق في اللغة على ما تماثل من الأشياء وأشبه بعضها بعضا، وعلى ما يلتبس من الأمور. المتشابه في الإصلاح: أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعنى، كما قال تعالى في وصف ثمر الجنة (وأتوا به متشابها) [البقرة: 25] أي: متفق المناظر ومختلف الطعوم. وقد يقال لكل ما غمض ودق: ومتشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، كما يقال للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه لخلفاء معناها، وليس من جهة الشبه بغيرها والتباسا بها. والمتشابه مثل المشكل، لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله (7) . وقال محمد عبد الرؤوف المناوي (ت 1031 هـ) : ((المتشابه: المشكل الذي يحتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فيه إلى فكر وتأمل (8)) ) . وهو أعم من المتشابه في القرآن وغيره، والدليل على ذلك أن أبا منصور الثعالبي (ت 429 هـ) 27 ألف كتابا بعنوان ((المتشابه)) ، وهو كتاب صغير الحجم خصصه لأخبار الأدباء والشعراء والكتاب، وقد أوجز في مقدمة كتابه هذا، الخطة التي سار عليها فقال)) ثم إن هذا الكتاب مبني على ثلاثة أقسام: فالقسم الأول في المتشابه الذي يشبه التصحيف (9) ، والقسم الثاني في المتشابه من التجنيس الصحيح، والقسم الثالث في المتشابه خطأ ولفظا)) (10) . اهـ المطلب الثاني: التعريف بالمتشابه في القرآن الكريم: ذهب ابن المنادي (11) - وهو من أوائل من ألف في متشابه القرآن- إلى أن المتشابه في القرآن الكريم يطلق على أشياء كثيرة، حيث قال: ((إن المتشابه كائن في أشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فمنها متشابه إعراب حروف القرآن، ومنها متشابه غريب القرآن ومعانيه، وفيلك كتب عن المسمين آنفا، ومنها متشابه تأويل القرآن، وفي ذلك كتب عن أهل التأويل كمجاهد وقتادة، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار، وعطية، والسدي، وأبي صالح، وغيرهم، ومنتهى أكثر ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما، يدخل في ذلك متشابه ناسخ القرآن ومنسوخه، وتقديمه وتأخيره، وخصوصه وعمومه، وأكثر من سمينا قبل لهم كتب في ذلك. وقد يدخل في ذلك متشابه النوادر، والفرائض، والإباحات والتصريح والكنايات، وفي ذلك كتب لعدة من الفقهاء. ومنها متشابه خطوط المصاحف الأول، وحروف كتب في بعضها على خلاف ما كتبت في البعض الآخر، وفي ذلككتب لبعض القراء. ومنها متشابه حروف القرآن المجموعة للأذكار من النسيان، وهو هذا الضرب (12) الذي أجرينا ذكر أصول المتشابه من أجله)) (13) . ومن الواضح أن ابن المنادي - رحمه الله- توسع في استعمال كلمة المتشابه، وبالرجوع إلى الكتب المصنفة في علوم القرآن نجد أن أصحابها تناولوا المتشابه في نوعين منفصلين، واقتصروا عليهما فقط، وهما: الأول: المتشابه الذي يقابل المحكم (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والثاني: المتشابه اللفظي الذي يحصل في بعض آيات القرآن الكريم. وإذا كان المتشابه (15) هو الذي يحتمل أثر من وجه من وجوه الرأي والنظر، لما فيه اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فإن الآيات التي فيها تشابه لفظي هي عبارة عن الآيات التي تكررت واشتبهت بسبب التقديم والتأخير، أو الزيادة والحذف، أو التعريف والتنكير، أو إبدال حرف مكان حرف آخر، أو كلمة مكان كلمة أخرى ... والنوع الأول (16) ليس مجال بحثنا الآن في هذه الرسالة، وقد تناوله الزركشي في كتابه 28 ((البرهان)) (17) تحت عنوان: ((النوع السادس والثلاثون: معرفة المحكم من المتشابه)) . وتناوله السيوطي في ((الإتقان)) (18) تحت عنوان ((النوع الثالث والأربعون: في المحكم والمتشابه)) ، وبحث أيضا في هذا الموضوع في كتابه ((معترك الأقران)) (19) تحت عنوان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ((الوجه التاسع من وجوه إعجازه: انقسامه إلى محكم ومتشابه)) ، كما تناوله في كتابه ((التحبير)) (20) تحت عنوان: ((النوع الرابع والأربعون والخامس والأربعون: المحكم والمتشابه)) . وأما النوع الثاني فهو المتشابه اللفظ في بعض آيات القرآن وسوره، وهذا هو موضوع كتاب ((درة التنزيل)) الذي وفقني الله تعالى لتحقيقه. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من المتشابه قد تناوله علماء الدراسات القرآنية تحت تسمية مختلفة، ولعل ذلك يرجع إلى زيادة في البيان والإيضاح. فمثلا: قد تناوله الإمام أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي (ت 597 هـ) في كتابه ((فنون الأفنان)) تحت عنوان: أبواب المتشابهة، وقال: ((فنحن نذكرالآن من محاسن المتشابه في اللفظ: أبواب المتشابه)) (21) ، وأورد تحت هذا العنوان بعض أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بذكر أمثلة كثيرة، من غير ذكر السبب والحكمة في ذلك. وسمى الإمام الزركشي (ت 794 هـ) في كتابه ((البرهان في علوم القرآن)) هذا النوع علم المتشابه (22) . وسماه الإمام السيوطي في ((الإتقان)) (23) الآيات المشتبهات، وتناوله رحمه الله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 كتابه ((معترك الأقران)) (24) تحت عنوان: الوجه السادس من وجوه إعجازه مشتبهات آياته، وتناوله أيضا في كتابه ((التحبير)) (25) تحت عنوان: النوع التاسع والستون: الأشباه. وكل ما تقدم يكشف لنا أن الذين صنفوا في علوم القرآن أشاروا إلى هذا التفريق بين المتشابه الذي يقابل المحكم وين المتشابه في اللفظ، وراعوا هذا التقسيم في مصنفاتهم، وجعلوا كل قسم علما خاصا مستقلا من علوم القرآن. تعريف المتشابه اللفظي اصلاحا: ويجدر بنا في هذا المقام أن نورد ما ذكره العلماء في تعريف علم المتشابه اللفظي الذي هو موضوع بحثنا: 1- قال الزركشي (ت794 هـ) في البرهان ((وهو - أي علم المتشابه- إيراد القصة الواحدة في 29 صور شتى وفواصل مختلفة..)) (26) . اهـ. 2- قال السيوطي (ت911 هـ في إتقان (27) : ((والقصد ايراد القصة الواحدة في صور شتى، وفواصل مختلفة بأن يأتي (28) : في موضع واحد مقدما وفي آخر مؤخرا كقوله تعالى: (وادخلوا الباب سجادا وقولوا حطة) [البقرة 58] ، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 [الأعراف 161] : (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا) ..، وفي موضع بزيادة وفي آخر بدونها..، وفي موضع معرفا وفي آخر منكرا، أو مفردا وفي آخر جمعا، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر، أو مدغما وفي آخر مفكوكا)) . اهـ. 3- قال أبو البقاء (ت 1094 هـ) في كتابه الكليات (29) : ((إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة في التقديم والتأخير، والزيادة والترك، والتعريف والتنكير، والجمع والإفراد، والإدغام والفك، وتبديل حرف)) اهـ. وتتبين لنا من كلام السيوطي وأبي البقاء متابعتهما لما قاله الزركشي من قبل. ويجدر أيضا أن أذكر هنا أن هؤلاء العلماء الأجلاء ما أرادوا من القصة: المعنى المشهور للقصة القرآنية، مقصة موسى عليه السلام، بل المراد بالقصة (30) عندهم: الأمر والموضوع مطلقا، سواء ورد في أثناء قصة قرآنية أو غيرها، والدليل على ذلك أن الأمثلة التي ذكروها، منها ما يوجد في هذا القصص القرآني، ومنها ما يوجد في غيره، ومن الأمثلة على وجود آيات متشابهات في غير القصص: قوله تعالى في [سورة النساء 135] : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله..) وفي [سورة المائدة 8] : (يا أيها الذين آمنواكنوا قوامين لله شهداء بالقسط..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يقول أبو عبد الله الخطيب رحمه الله تعقيبا على ذلك: ((للسائل أن يسأئل فيقول: ما الفائدة في تقديم قوله (بالقسط) على قوله (شهداء الله) في الآية الأولى، وتأخيره عنه في الآية الثانية؟)) ثم أجاب عن المسألة (31) . وقد فهم بعض الباحثين (32) أن المراد بالقصة في كلام الزركشي والسيوطي المعنى المشهور للقصة، ولكن الصواب أن تفهم على معناها العام، لأن الزركشي لم يحصر المتشابه في القصص، بل صرح بأنه يكثر فيه حيث قال ((يكثر في إيراد القصص والأنباء)) (33) . وكذلك المثال الذي تقدم ذكره ذكره يؤيد ما ذهبنا إليه أيضا، لأنه ليس من القصص القرآني والله أعلم. وفي نهاية المطاف نستطيع أن نقول: إن المتشابه اللفظي في آيات القرآن الكريم هو أن تجيء الآيات القرآنية متكررة في القصة الواحدة من قصص القرآن، أو موضوعاته، في ألفاظ متشابهة، 30 وصور متعددة، وفواصل شتى، وأساليب متنوعة، تقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصا، وذكرا وحذفا، وتعريفا وتنكيرا، وإفرادا وجمعا، وإيجازا وإطنابا، وإبدال حرف بحرف آخر، أو كلمة بكلمة أخرى، ونحو ذلك، مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 اتحاد المعنى لغرض بلاغي، أو لمعنى دقيق يراد تقريره، لا يدركه إلا جهابذة العلماء وأساطين البيان (34) . المطلب الثالث: موضوع علم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم: موضوع هذا العلم هو الآيات القرآنية باعتبار ما فيها من تشابه لفظي. ونتعرف به على تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن الكريم في تكرير بعض آياته في عدة مواضع بالكلمات المتفقة، أو وتقديما وتأخيرا، وذكرا وحذفا ... ، إلى غير ذلك من الأنواع التي تقدم ذكرها سابقا، مما قد يظنه بعض قصار النظر تكرارا خاليا عن فوائد وأسرار، فالمتشابه اللفظي في الآيات القرآنية على هذا النحو لون من ألوان الإعجاز في القرآن الكريم. لقد تناول ابن المنادي (ت336 هـ) هذا المتشابه اللفظي في كتابه تحت نوعين رئيسيين، هما: الأول: النوع الأبوابي، فقد خصصه لجمع النظائر من ألفاظ القرآن التي تشبه على من كان سيء الحفظ من حفاظ القرآن الكريم. وقد ذكر تحت هذا النوع تسعة أقسام، وأشار أثناء ذكر هذه الأقسام (35) أكثر من مرة أن منها ما يجمع للحفظ فقط (36) ، ومنها ما يجمع لرأي العين دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الحفظ37، ومنها ما يصلح بعضه للحفظ، وبعضه لرأي العين 38. وقد أوصل ابن المنادي أبواب هذا النوع من المتشابه إلى خمسين بابا، إضافة إلى عشرين بابا فأكثر تتفرع منه تحتها، حيث قال: ((ومبلغ أبوابه الأصول خمسون بابا، والمتفرعة عشرون بابا فأكثر، وبذلك كمل النوع الأبوابي من متشابه الكلام المخوف على بعض القرأة- بترك مراعاة حفظ نظم حروفه- الغلط..)) (39) . وبالتتبع تبين لي أن هذه الأمثلة وغيرها مما ذكرها ابن المنادي تحت النوع الأبوابي كلها فيما تكرر من أجزاء متفقة في الآيات القرآنية، سواء كانت تلك الآيات في موضوع واحد، أو موضوعات مختلفة، وليس فيها ذكر من الآيات المتشابهة التي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 بعضها شيء مما ليس في الأخرى، من تقديم وتأخير، وحذف وزيادة، وتعريف وتنكير، في قضية واحدة، وموضوع واحد. والثاني: النوع السوري (40) ، فقد ذكر ابن المنادي فيه الآيات التي تتغاير فيها أبنية الكلام والقصص، والآيات التي يتغير ترتيبها في التقديم والتأخير، والإيجاز والتأكيد ... (41) . 31 وهذا النوع السوري الذي ذكره ابن المنادي هو أساس للكتب المؤلفة المتخصصة لتوجيه الآيات المتشابهة، بمعنى أن الآيات التي ذكرت في هذا النوع هي التي تكون متن مسائل تلك الكتب، والتي منها كتاب ((درة التنزيل وغرة التأويل)) الذي نحققه. واعتنى أيضا بذكر أنواع هذا الول من المتشابه بعض العلماء الذين صنفوا في علوم القرآن. فقد توسع ابن الجوزي (ت597هـ) فيه، وأخذ هذا البحث حجما كبيرا من كتابه (42) ، حيث إنه رحمه الله جعل لهذا المتشابه سلسلة من الأبواب، وتحت بعضها عدة فصول، ولكنه لم يحصر أنواعه، وإنما اكتفى بذكر بعضها، مثل باب إبدال كلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أو حرف بحرف من المتشابه، وباب الحروف الزوائد والنواقص من المتشابه، وباب في المقدم والمؤخر من المتشابه. ثم تناول هذا الموضوع من مصنفي علوم القرآن بعد ابن الجوزي: الإمام الزركشي (ت 794هـ) ، وبين ما يتعلق به خمسة عشر فصلا، وجعل الفصل الأول منها: ((المتشابه باعتبار الأفراد)) (43) ، وحصر هذا النوع من المتشابه في ثمانية أقسام (44) : الأول: أن يكون في موضع على نظم، وفي آخر على عكسه، كقوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى..) [البقرة: 120، الأنعام: 71] ، وفي سورة آل عمران 73: (قل إن الهدى هدى الله..) . الثاني: ما يشتبه بالزيادة والنقصان، ومثاله في سورة البقرة 38: (فمن تبع هداي..) وفي طه 123: (فمن اتبع هداي..) . الثالث: بالتقديم والتأخير، وهو قريب من الأول، ومنه في البقرة 129: (.. يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم..) بتأخير (يزكيهم) ، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 سواه: (.. ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) [آل عمران: 164، الجمعة: 2] بتقديم (ويزيكهم) . الرابع: بالتعريف والتنكير، ومنه في سورة البقرة 126 قوله تعالى: (هذا بلدا آمنا) ، وفي سورة إبراهيم 35 قوله تعالى: (هذا البلد آمنا) . الخامس: بالجمع والإفراد، كقوله تعالى في سورة البقرة 80: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وفي آل عمران 24: (.. لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) . السادس: بإبدال حرف بحرف غيره، كقوله تعالى في سورة البقرة 58: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا..) بالفاء، وفي سورة الأعراف 161: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها..) بالواو. 32 السابع: بإبدال كلمة بأخرى، ومنه قوله تعالى في البقرة 170: (.. ما ألفينا عليه آباءنا..) وفي سورة لقمان 21: (..ما وجدنا عليه آباءنا..) . الثامن: بالإدغام وتركه، ومنه قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول) النساء: 115، وفي سورة الحشر 4: (.. ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) . وهذه الأنواع الثمانية التي ذكرها الزركشي في الفصل الأول آنفا، هي مجمل الأنواع التي اشتملت عليها الكتب المؤلفة في توجيه الآيات المتكررة والمشتبهة في كتاب الله العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 والذي يطلع على الكتب القديمة المؤلفة في توجيه الآيات المتشابهة يرى أن مؤلفيها لم يحددوا أنواع هذا اللون من المتشابه، وإنما أشاروا في مقدمات كتبهم إلى بعض ما ستتضمنه كتبهم من صوره (45) . المطلب الرابع: نكتة هذا العلم، وحكمته، وأهميته، وفوائده: نكتته (46) : ((ما في إحدى المتشابهتين مما ليس في الأخرى من تقديم أو تأخير أو زيادة)) (47) . حكمته: ((التصرف في الكلام، والإتيان به على ضروب، ليعلمهم- أي العرب- عجزهم عن جميع طرق ذلك: مبتدأ به ومتكررا (48)) ) ، وهذا التصرف في اللفظ برئ من الإسراف والتقتير، حيث أنك تجد القرآن الكريم قد احتفظ بالمعنى في صورة كاملة لا ينقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيه، كما أنه لا يزيد شيئا يعتبر دخيلا فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وغريبا عنه، بل هو كما قال الله تعالى: (كتاب أحكمت آيياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1. أهميته: ترجع أهميته هذا العلم إلى تأصيل الدراسات القرآنية والعلمية، وإذ أن علم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم قسم قائم بذاته، وهو من الأنواع التي اشمل عليها القرآن في بيان أنه وحي، لا عمل للبشر فيه مع تنوع استعمالاته من تقديم وتأخير، أو زيادة وحذف، أو تعريف وتنكير، أو إبدال شيء منه بشيء آخر في الموضوع الواحد ... وترجع أهميته أيضا إلى أهمية نشأته، حيث إنه أنشيء حفاظا على القرآن الكريم من أن يقع اللحن في كلماته، وتيسيرا لحفظة كتاب الله عز وجل، وهو من علوم القرآن التي تخدمه وتحافظ عليه وتبرز كثيرا من وجوه إعجازه وأسراره التي تنفذ. من فوائد هذا العلم: 33 1- من خلال دراسة هذا العلم نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار، وبذلك نتعرف على أن لأسلوب القرآن الكريم طابعا خاصا يسلكه في اختيار ألفاظه وتراكيبه، ولذا فإن هذا العلم هو أساس هام للدراسات اللفظية في القرآن الكريم. (49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ومن ناحية أخرى فإن هـ\االعلم يكشف لنا أن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم مترابطة الأجزاء والجمل مع تنويع الأسلوب في الاستعمالات القرآنية من تكرار، وإيجاز وإطناب، وتقديم وتأخير، حذف وزيادة، وتعريف وتنكير، وفي قضية واحدة وموضوع واحد. 2- أنه يرد على بعض المشككين والملحدين الذين يطعنون في القرآن من خلال ما تشابه أو تماثل أو تكرر من ألفاظ القرآن وآياته، مدعين أن ما به من المتشابه اللفظي غير مفهوم، أو تكرار لا هدف له. 3- من عجيب أمر هذا العلم ((المتشابه اللفظي في القرآن الكريم)) أنه كما كان دليل إعجاز من ناحية، كان أكبر عون على حفظ كتاب الله تعالى، إذ أن التصنيف في هذا العلم يساعد حفاظ القرآن الكريم على ضبط حفظهم بأداء كل لفظ في موطنه، دون ما التباس بالمتشابه معه. 4- إن علم الآيات المتشابهات يملأ النفس إيمانا بعظمة الله تعالى وقدرته حين يقف الإنسان في تفسير هذا النوع من الآيات على دقائق الأسلوب البياني للقرآن الكريم، ودراسته تعين على الفقه في كتاب الله، وإظهار إعجازه وغزارة معانيه وأسراره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المطلب الخامس: نشأة علم المتشابه اللفظي في القرآن وتطوره وتدوينه: إن القول على سبيل الجزم والقطع ببداية محددة لهذا الفن ليس بأمر هين، لعدم وجود أخبار قاطعة بذلك، ولكن أستطيع القول حسب ما أمكنني الإطلاع عليه من المراجع أن هذا النوع من المتشابه تدرج كالتالي: 1- نشأ أول ما نشأ محدودا يسيرا يتداول القراء، تيسرا لحفظ ألفاظ القرآن المتشابة، وصيانة لها من الغلط. ثم بدأ فيه التأليف بما وضعه بعض القراء لإرشاد الذين يحفظون كتاب الله، حيث يتحير الحافظ أحيانا، أو يتنقل سهوا من آية إلى آية، ومن سورة إلى أخرى. وأقدم ما وقفت عليه كتاب يحمل اسم (متشابه القرآن) (50) ، لأحد الأئمة القراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 السبعة، وهو أبو الحسن على بن حمزة الكسائي (ت189 هـ) (51) . وقد وضع الكسائي كتبه هذا على أساس طريقة الجمع التي تقوم على عرض الآيات المتشابهة لفظا. وقال ابن المنادي (ت 336هـ) في مقدمة كتابه ((متشابه القرآن)) : ((ولم يبق إلا النوع الذي استحدثه فريق من القراء، ولقبوه المتشابه، وإنما حملهم على وضعهم إياه للقرأة ردا من سوء الحفظ، وحداهم (52) كون القرآن ذا قصص، وتقديم وتأخير، كثير ترداد أنبائه ومواعظه، وتكرار أخبار من سلف من الأنبياء، والمهلكين الأشقياء، يأتي بعضه بكلام متساوي الأبنية والمعاني على تفريق ذلك في آن القرآن وسوره، قد يجيء حرف من غير هذا الضرب، فيأتي بالواو مرة، وبالفاء مرة، وآخر يأتي بالإدغام تارة، وبالتبيان تارة، وأسماء متماثلة..)) ثم قال: ((فاستحبوا أن يجمعوا من حروف متشابهة القرآن ما إذا حفظ منع الغلط)) (53) . ومما يؤكد أن واضعي هذا العلم هم الأئمة القراء، أن ابن المنادي رحمه الله قد اقتصر في سياق أسماء القراء، حيث يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ((سألت أبا الحسن إدريس بن عبد الكريم (55) المقريء، أن يدفع إلى كتاب خلف ابن هشام (56) ت 229 هـ، الذي صنفه في متشابه حروف القرآن، فقال لي حين سألته ذلك: قال لي خلف حين سألته ما سألتني: إيش تعمل بهذا الكتاب؟ فقلت له: أكتبه عنك كما كتبه غيري، وإحفظه كما حفظه فلان وفلان، قال: فقال لي خلف: أرأيت إن قلت لكم إن في القرآن ثلاثة أحرف من وجوه المتشابه فوجدتموه أكثر مما قلت لكم، أكنتهم تقبلون ذلك مني؟ فقلت له: لا، ولكني لا أجد بدا من أن أكتبه عنك، قال: فأعطانيه، وقال لي: قد نصحت لك وأنت أعلم ... (57) . ثم يقول ما خلاصته: إنه مكث مدة يظن أن خلفا أول من رسم للناس هـ\االمتشابه من أجل المحاورة التي كانت جرت بينه وبين إدريس فيه، حتى ورد إليه كتب أخرى من مشايخ القرآة المتقديمين. ويستدل بما يراه دليلا عنده أن كتاب موسى الفراء من بين تلك الكتب أول شيء وضع في هذا الضرب (58) . 2- وهناك من توسع في هذا النوع أسئلة أو تأليفا، حتى ذكروا أمورا لا جدوى وراءها، ودقائق لا طائل تحتها، مما دفع ابن المنادي إلى استنكار ذلك حيث يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ((ولقد أوغل جماعة ممن شاهدناهم فيه، حتى بلغوا به ألف حرف، ثم صعدوا به وصوبوا، فأقبلوا يتذاكرون فيما بينهم منه بمحلات، وبما لا يجدي، وإن كان غير محال نفعا فكان ممن يحذق فيه أبو جعفر محمد بن اسحاق الكوفي المراوحي (59) ، وكان مما يلقيه: كم في القرآن: من، ومن، وما ولن،..)) وكان غيره يلقي: كم في القرآن حرفان مقترنان على لفظ واحد؟ يريد بذلك قوله في أل عمران 15: (..ورضوان من اله والله بصير بالعباد) ، وفيها: (.. واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) أل عمران: 174 ... (60) . 34 3- وهناك طريقة أخرى استحدثت في تصنيف الآيات المتشابهات، تعد تطورا كبيرا في تدرج هذا الفن، وهي تعتمد على حصر المتشابهات على أساس كل سورة سورة، حسب ترتيب المصحف الشريف، وقد أشار إلى ذلك ابن المنادي، وجعل النصف الثاني من كتابه متشابه القرآن لهذا النوع من التأليف (61) ، حيث قال ((نذكر ما في النوع السوري من تغايير أبنية الكلام والقصص، وترتيبها في التقديم والتأخير، والإيجاز، والتأكيد.. (62)) ) . ثم قال: ((.. وكأن الذي استحدثه أراد أن يقرب بعض الأشكال إلى بعض، فعمد إلى ما في سورة البقرة من حرف له نظير مذكور في سورة أخرى أو سور عدة، فأضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تلك النظائر إلى الحرف أو الحروف التي تشبهها في سورة القرة، حتى إذا استنظف (63) ما في سورة البقرة من ذكر القصص والحروف المتشابهة ذكر ما في سورة أل عمران وما يليها إلى آخر القرآن بذلك النعت)) (64) . وهكذا بدأت هذه الدراسة القرآنية متمثلة في تتبع الآيات التي تشابهت، وجمع نظائرها كما فعل أئمة القراءات. 4 ثم تطور التصنيف فيه، فاتجهت همة طائفة من العلماء إلى توجيه هذا النوع من الآيات، وبيان السبب، والحكمة في اختصاص كل آية بما جاء فيها مختلفا عن الآية المشابهة لها، وذلك لما نشأ أقوام من الزنادقة والملحدين فجعلوا يطعنون في كتاب الله العزيز، محتجين لباطلهم بما في القرآن من آيات تبدو لهم متعارضة المعنى، وتكرار لا فائدة فيه، وتشابه في الألفاظ القرآنية مما يؤدي إلى اشتباه بعضها ببعض، بسبب تقديم أو تأخير، أو في غير ذلك مما تقدم ذكره. ومن هنا انتقل هذا العلم إلى مرحلة من أجل مراحل العلم، وهي مرحلة توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وبيان أسراره العلمية، وما فيه من وجوه الإعجاز، وهذه المرحلة هي التي كان فيها الكتاب الذي نحققه درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله الخطيب، وما تبعه من المؤلفات التي سنذكرها إن شاء الله بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المطلب السادس: التأليف في توجيه متشابه القرآن اللفظي: تكلمنا فيما سبق عن نشأة وتطور التأليف في كتب المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، سواء منها ما جمع تحت النوع الأبوابي، أو النوع السوري (65) كما سماهما ابن المنادي رحمه الله تعالى. والنوع السوري الذي ذكر ابن المنادي صورة التأليف فيه (66) وهو أساس للكتب التي خصصت لتوجيه الآيات المتشابهة كما قلنا سابقا، فهو بمثابة المتن لها، وهي شارحة وموجهة، 35 ومبينة لأسرار التشابه في الآيات المتعددة. من كل ما تقدم يمكننا أن نقسم المؤلفات في المتشابه اللفظي في القرآن الكريم إلى قسمين: أولا: مؤلفات ظهر فيها الإقتصار على جمع الآيات المتشابهات. وهذا النوع من التأليف يتمثل فيما قال به بعض أئمة القراءات من جمع النظائر من ألفاظ القرآن التي تشتبه على من يرد حفظ القرآن الكريم، ليتنبه لها، فيتقن حفظها دون أي التباس بما يشبهها. وأقدم ما وصل إلينا من مؤلفات بهذا النوع هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ما يعزى إلى ابي الحسن الكسائي ت 189هـ بعنوان متشابه القرآن كما تقدم ذكره. وقد أشار إلى هذا النوع من التأليف الكرماني ت 505هـ في مقدمة كتابه البرهان متشابه القرآن فقال: واقتصروا على ذكر الآية ونظيرها ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها، المشكلة الذي لا يقوم بأعبائه من وفقه الله لأدائه (67) . ثانيا: مؤلفات لم يكتف أصحابها بجمع تلك الآيات، بل اتجهوا إلى توجيه ما تكرر، واشتبه لفظا، أو اختلف من آيات الكتاب العزيز تقديما وتأخيرا، وإفرادا وجمعا، وتعريفا وتنكيرا، إلى غير ذلك من أنواع المتشابه. والتأليف في توجيه المتشابه اللفظي اخذ طريقتين: الأول: توجيه مدرج في ثنايا كتب التفسير وعلوم القرآن والإعراب وغير ذلك، حيث يذكره المؤلف عند مناسبته، ولا يفرده البحث. وعلى سبيل المثال يقول القاضي عبد الجبار ت 415هـ في سر تكرار قوله تعالى: (لا أعبد ما تعبدون) . ((وبما قيل في قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون) الكافرون: 1-2، كيف يحسن ذلك في الحكمة مع التكرار الذي فيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وجوابنا أنه لا تكرار في ذلك، لأن قوله تعالى: (لا أعبد ما تعبدون) المراد به في المستقبل، وقوله تعالى (ولا أنت عابدون ما أعبد) الكافرون: 3-5 المراد به في الحال، (ولا أنا عابد ما عبدتم) الكافرون 4، المراد به في المستقبل، وفي الحال: أي لا أعبد ما تقدمت عبادتكم له، ومن يعد ذلك تكرارا فمن قلة معرفته، وتدبره، لأنه ينظر إلى اللفظ الثاني: توجيه مفرد بالتأليف، مستقل في كتب خاصة به والذين سلكوا هذا النوع من التأليف في ويعدل عن تأمل المعنى)) (68) اهـ متشابه القرآن اتخذوا محورا خاصا من حيث كيفية تناوله، ومن حيث معالجته، حيث إنهم 36 يذكرون الوجوه المحتملة في بيان هذا النوع من التفسير، وذلك يتم بعد تتبع الآيات ذات الموضوع الواحد، أو ذات الأسلوب الواحد، وفي ذلك يستعملون طريقة طرح السؤال والجواب عنه، كما في درة التنزيل لأبي عبد الله الخطيب ت 420هـ، وملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي ت 708 هـ، وكشف المعاني لأبي عبد الله ابن جماعة ت 733هـ. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الذين يؤلفون في توجيه الآيات المتشابهات لا يقفون عند كل آية هي من المتشابه اللفظي، بل يتنقلون بين الآيات المتشابهة منتقين ما يحتاج إلى توجيه، تاركين توجيه ما لا يحتاج إلى أعمال فكر، وما لا يبدو فيه إشكال. ومن هذا اختلف المتشابه بالنسبة للأفراد والعلماء بحسب دائرة علم كل منهم، فما يهتدي إليه عالم قد يغفل عنه الآخر، وقد تشبهه الآية على عالم ولا تشبهه على غير وهكذا، ومما لا شك فيه أيضا أن قدرات المشتغلين بتوجيه الآيات من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 النوع تتفاوت تفاوتا بعيدا، لأن ميدان التوجيه فسيح وحمال ذو وجوه تحتملها ألفاظ الآية الكريمة. وبهذا الإعتناء ونحوه وما أكثره يصون الله كتابه من طعن الملحدين وما زالت الدراسات حول هذه الآيات في حاجة إلى استكمال، وإلى توسيع، وتعميق، حسب ما جد من حاجات الزمان. المطلب السابع: الكتب المؤلفة في المتشابه الفظي، وفي توجيهه: نذكر في هذا المبحث ما استطعنا جمعه وإحصاءه من الكتب المؤلفة في نوعي التأليف في علم متشابه القرآن الكريم، وهما: أ- جمع الآيات المتشابهات لفظا. ب- توجيه الآيات المتشابهات لفظا. أولا: الكتب التي جمعت الآيات المتشبهات لفظا: 1- كتاب (69) نافع بن عبد الرحمن، وهو أحد القراء السبعة ت 169هـ (70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 2- متشابه القرآن لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وهو أحد القراء السبعة ت 189 هـ، وهو فيما يحسبه السيوطي أول كتاب أفرد بالتصنيف في متشابه القرآن (71) ، وقد جمع مصنفه فيه رحمه الله الآيات المتشابهات من حيث اللفظ، بحسب ترتيب الصور ولم يتعرض لأسرار المتشابه وبيان فروقه الدقيقة. 3- كتاب محمود بن الحسن (72) . 4- كتاب خلف بن هشام الأزدي، وهو أحد القراء العشرة. ت229هـ (73) . 37 5- كتاب القطيعي (74.) 6- كتاب حمزة بن حبيب الزيات ت 158 (75) . 7 - كتاب علي بن القاسم الرشيدي (76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 8- كتاب جعفر بن حرب المعتزلي ت 236 هـ (77) . 9- كتاب مقاتل بن سليمان البلخي ت 150 (78) . 10- كتاب أبي علي الجبائي ت 303 هـ (79) 11- كتاب أبي هذيل العلاف (80) . 12- متشابه القرآن العظيم، تأليف أبي حسين احمد بن جعفر ابن أبي داود المنادي 336هـ، وكتاب ابن المنادي هذا يعتبر مرحلة أساسية في تحديد هذا العلم وتعقيده، ووضع ضوابط له، وقد جمع فيه مصنفه النظائر من ألفاظ القرآن التي تشبه على القارئ ليحفظها وينتبه لها فيتقن حفظها. ونجد في آخر هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الكتاب مبحثين (81) تناولهم االمؤلف على طريقة الكتب التي ألفت في توجيه تلك الآيات مما يدل على اهتمامه بهذا الجانب أيضا. 13- مجالس ابن الجوزي في المتشابه من الآيات القرآنية (82) . 14- هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في معرفة متشابهات كلام رب الأرباب (83) ، تأليف شيخ القراء نور الدين علي بن عبد الله السخاوي الشافعي ت 643هـ وهي أحسن منظومة فيما يشتبه على القارئ محمد نجيب الشهير بالآلا، وسماه كشف الحجاب عن هداية المرتاب (48) . 15- بغية المريد حفظ القرآن المجيد (85) ، تأليف السيد عمر السهمودي المدني (86، يقع في 31 ورقة، ويقول مؤلفه في المقدمة: قد نظم العالم العامل ... ، خاتمة المحققين عمدة المدققين نور الدين علي السخاوي ... ، منظومة في مشكل القرآن ومتشابه الفرقان، فإنها بينة الألفاظ واضحة المعنى للحفاظ، وأما من أراد الحفظ فقد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يعسر لضيق النظم عليه في بعض المواضع الفهم خصوصا وقد تقاصرت الهمم وتقاعست (87) عن الترقي بحفظ المتشابه والمحكم، فاقتديت في ذلك بالشيخ الإمام ... ، وألفت هذه الرسالة المتكفلة بواضح البيان والدلالة وسميتها بغية المريد حفظ القرآن المجيد (88) . 16- مشابه القرآن على حروف المعجم لمحمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرحي القرطبي ت 671هـ (89) . 17- التبيان في متشابهات القرآن، تأليف الحافظ جلال الدين السيوطي ت911هـ (90) . 38 18- كتاب معين الإنسان على ضبط متشابه القرآن (91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 19- المشكل والمتشابه من آيات القرآن منظومة (92) . 20- إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابه وتجويد القرآن للعلامة عطية بن عطية الأجهوري الشافعي ت 1194هـ. 20- إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابه وتجويد القرآن للعلامة عطية بن عطية الأجهوري الشافعي ت 1194هـ (93) . 21- منظومة في مشابهات القرآن، للعلامة محمد الخضري الدمياطي ت 1287هـ (94) . 22- كنز المتشابهات، تأليف محمد محبوب (95) . 23- متشابه التنزيل (منظومة) (96) . 24- تيسير الوهاب المنان على توضيح متشابه القرآن، تأليف محمد بن انبوجا التثيتي، (توفي في أول القرن الثاني الهجري) ، وهو شرح محمد أحمد الأسود الشنقيطي (97) ، وهو كما قال: شرح لطيف وجيز على نظم متشابه القرآن العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الذي من جملة الكتاب المسمى بالبحر المحيط المشتمل على ألف بيت منها المفردات والثنائيات والثلاثيات إلى التسعة والعشرين إلى غير ذلك..)) . 25- مثاني الآيات المتشابهات الكاملات (98) ، تأليف عبد الرزاق بن أحمد الشاحذي اليماني، جعله مؤلفه لحفاظ كتاب الله عز وجل، ورتبته على ترتيب السور. 26- التفسير في متشابه القرآن، وهو يبحث في المعاني المختلفة لكلمات مفردة مثل هدى وكفر.. الخ وذلك في مواضع مختلفة من القرآن (99) . 27- سلسلة ضبط المتشابهات في القرآن الكريم، جمع وترتيب محمد بن عبد الله الصغير (100) . 28- التوضيح والبيان في تكرار وتشابه آي القرآن، تأليف عبد الغفور عبد الكريم البنجابي (101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ثانيا: الكتب المتخصصة في توجيه الآيات المتشابهة لفظا توجيه الآيات المتشابهة يهتبر نوعا مستقلا بذاته في علم التفسير، حيث أفردت له مؤلفات خاصة كما أفردت مؤلفات مستقلة تتعلق تتعلق بوانب خاصة من تفسير القرآن الكريم، مثل تفسير مبهمات القرآن، وتفسير آيات الأحكام وتفسير غريب القرآن. ومن المؤلفات في توجيه الآيات المتشابهات: 40 1- درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب ت 420هـ وهو الكتابالذي قمت بتحقيقه بتوفيق من الله عز وجل، وقد خصصنا لدراسة هذا الكتاب مبحثا مستقلا (102) . 2- البرهان في متشابه القرآن للإمام محمود بن حمزة الكرماني ت505 هـ. ويعرفنا به مؤلفه فيقول: فإن هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكررت في القرآن، وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها رزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك مما يوجب إختلافا بين الآيتين أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان، وأبين ما السبب في تكرارها، والفائدة في إعادتها. وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى؟ ، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة الأخرى التي تشاكلها أم لا؟ ليجري ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وتمتاز بها عن أشكالها من غير أن أشتغل بتفسيرها وتأويلها.. (103. وفي نهاية مقدمته يشير إلى أنه سيحكي كلام الخطيب إذا بلغ إليه، وإن كان يتضح من كلامه أنه لم يطلع على كتاب الخطيب، حيث يقول: ((وروى أبو مسلم في تفسيره عن أبي عبد الله الخطيب كلمات معدودات منها. وأنا أحكي لك كلامه فيها إذا بلغت إليها مستعينا باله ومتوكلا عليه)) (104) . 3- ملاك التأويل لأحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي ت 708هـ (105) ، وقد حصر مصنفه موضوعه في توجيه الآيات التي تكررت واشتبهت في القرآن الكريم. وهو يعتبر أوسع وأشمل من الكتب المؤلفة في موضوعه. قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن إبراهيم بن الزبير الاندلسي ت 708: ((وجمع كتابا في فن من فنون التفسير سماه ملاك التأويل نحى فيه طريق الحصكفي (106) الخطيب في ذلك، فلخص كتابه وزاد عليه شيئا بنفسه)) (107) . 4- كشف المعاني في المتشابه من المثاني، تأليف شيخ الإسلام بدر الدين بن جماعات ت 733هـ (108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 5- كتاب قطف الأزهار في كشف الأسرار للإمام جلال الدين السيوطي ت 911هـ (109) . وهذا الكتاب يعتبر من الكتب المؤلفة في توجيه متشابهات القرآن كما أشار إلى ذلك مؤلفة حيث قال: وهذا كتاب شفعت به تلك، ونظمته معها في سلك، في أسرار التقديم والتأخير، والتأكيد، والحذف، والايجاز والاطناب، والنكت البيانية: من التشبيه (110) ، والاستعارة (111) ... ، إلى غير ذلك 41 من أنواعه، وسر ما اختلفت فيه الآيات المتشابهة من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقص، أو إبدال كلمة بأخرى ... (112) . 6 - فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن (113) ، تأليف شيخ الإسلام أبي زكريا الأنصاري ت 926 هـ يقول مؤلفه رحمه الله تعالى في المقدمة: فهذا مختصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 من ذكر آيات القرآن المتشابهات المختلفة بزيادة أو تقديم، أو إبدال حرف بآخر، أو غير ذلك مع بيان سبب تكراره.. (114) . 7- أضواء على متشابهات القرآن يحتوي على 1651 سؤال وجواب، بقلم الشيخ خليل ياسين (115) . الكتب التي اهتمت في ثناياها بتوجيه تلك الآيات المتشابهات: ويلحق بهذا النوع كتب، تعرض أصحابها- في بعض المواضع للحديث عن توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، أثناء تفسير القرآن الكريم، أو رد شبهات الطاعنين، ولكنهم تناولوا هذا النوع من التوجيه بمنهج آخر، غير الذي لجأ إليه أصحاب الكتب المتخصصة في هذا الفن، من طرح سؤال وجواب. ولا ننسى في هذا المقام التنبيه إلى أن هؤلاء قد يفوقون وإن كان في قليل من المواضع على تعليلات وتوجيهات أصحاب هذا الشأن، وقد أشرت إليها في هوامش الكتاب في كثير من الأحيان. ومن تلك الكتب: 1- تأويل مشكل القرآن (116) لابن قتيبة ت 276هـ 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري ت 310هـ (117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 3- معاني القرآن لأبي جعفر النحاس ت 338هـ (118) . 4- تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبد الجبار بن أحمد ت 415هـ (119) 5- الكشاف للزمخشري (538هـ (120.) . 6- المحرر الوجيز لابن عطية ت 542هـ (121) . 7- زاد المسير لابن الجوزي ت 597 هـ (122) . 8- التفسير الكبير للفخر الرازي 606هـ (123) . 9- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ت 671 هـ (124) . 42 10- أنموذج جليل في أسئالةى وأجوبة من غرائب آي التنزيل (125) ، لمحمد بن أبي بكر الرازي صاحب مختار الصحاح توفي بعد سنة 691 هـ (126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 11- غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسين بن محمد النيسابوري ت 728هـ (127) . 12- لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن ت 741هـ (128) . 13- البحر المحيط لأبي حيان ت 745هـ (129) . 14- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي ت 756هـ (130) . 15- تفسير ابن كثير ت 774هـ (131) . 16- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت 817هـ (132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 17- الفتوحات الإلاهية، المعروف ب حاشية الجمل للشيخ سليمان بن عمر ت 1204هـ (133) . 18 روح المعاني للآلوسي ت 1270هـ (134) . 19- تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ت 1393 هـ (135) . فائدة وتنبيه: هناك بعض الكتب ألفت في المتشابه، بحث أصحابها في آيات الصفات والعقائد، أو في المتشابه الذي يقابل المحكم، دون أن يبحثوا في المتشابه اللفظي، نذكر بعضها هنا دفعا للاشتباه، وتحاشيا من التباسها بموضوعنا: 1- حل الآيات المتشابهات (136) ، وكتب على غلاف المخطوط: كتاب في حل المشكل والمتشابهات من الأحاديث والآيات والرد على الملحدين، للشيخ الجليل الإمام أبي بكر محمد بن حسن بن فورك الأصبهاني ت 406هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 2- حقائق التأويل في متشابه التنزيل، تأليف السيد الشريف الرضي ت 406 (137) . 3- متشابه القرآن لقاضي عبد الجبار الهمذاني ت 415هـ (138) . 4- متشابهات القرآن (139) لمحمد بن عبد المؤمن الدمشقي المصري المعروف باين اللبان ت 749هـ 5- تفسير الآيات المتشابهات (140) ، للشيخ ملا علي القارئ ت 1014 هـ، وهذا الكتاب يبحث في المتشابه الذي أشار إليه قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات..) آل عمران: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 43 المبحث الثاني دراسة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل يشمل على مطالب ثمانية: المطلب الأول: تحقيق صحة اسم الكتاب المطلب الثاني: تحقيق صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف المطلب الثالث: موضوع الكتاب المطلب الرابع: سبب تأليف الكتاب المطلب الخامس: منهج المؤلف في الكتاب المطلب السادس: مصادر المؤلف في الكتاب المطلب السابع: قيمة الكتاب العلمية، وأثره فيمن بعده المطلب الثامن: المآخذ على الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المطلب الأول: تحقيق صحة اسم الكتاب 44 ذكر المصنف رحمه الله اسم الكتاب في مقدمة كتابه حيث قال: وسميته درة التنزيل وغرة التأويل (141) ، ولا شك أن هذا تصريح من صاحب الكتاب، والحكم في صحة العنوان هو المصنف نفسه، وليس لغيره أن يتحكم في اسم كتابه الذي نص عليه. وهذا الاسم هو الذي ذكر في جميع الكتب التي ترجمت للخطيب بلا استثناءه، وسار ذكره عليه، واشتهر به وكذلك الحال في النسخ الخطية المنسبة إلى الخطيب، بخلاف النسخ المنسوبة إلى غير الخطيب، حيث جاء فيها العنوان للكتاب مختلفا من نسخة إلى أخرى مما يدب على التصرف. ولم يقع اختلاف في عنوان الكتاب إلى في النسخ المنسوبة إلى الغلاف إلى الراغب الأصفهاني، فهو في بعضها: تفسير درة التأويل في متشابه التنزيل" للراغب الأصفهاني (142) وفي البعض الآخر: كتاب "درة التأويل وغرة التنزيل في الآيات المتشابهة والمكررة" (143) ، وفي بعضها الآخر: حل متشابهات في القرآن" للراغب الأصفهاني (144) ، وفي بعضها الآخر: كتاب أسرار التأويل وغرة التنزيل للراغب وأما الكتاب المنسوب للراغب الأصفهاني (145) ، وإحدى نسختي أحمد الثالث ليس فيها عنوان الكتاب (146) في الغلاف، ولا في أول الكتاب، إلا أنها تنسب للراغب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الأصفهاني في فهرست طوب قبو سراي باسم درة التأويل في متشابه التنزيل. وبعد البحث والتنقيب لا أتردد في أن اسم الكتاب هو كما سماه مصنفه، إذ تأكد لدي يقينا أن اسم الكتاب هو درة التنزيل وغرة التأويل ولا عبرة بأي عنوان يختلف مع هذا العنوان، وذلك للأسباب الآتية: 1- ورود ذكر العنوان في مقدمة المؤلف في النسخ المعتمدة، إضافة إلى ذلك أن أوثق وأكمل النسخ التي اخترتها للتحقيق قد حملت هذا الاسم بالذات، وذلك واضح في غلاف تلك النسخ، وفي مقدمتها (أ، ب، ك) ، وكذلك في بعض النسخ غير المعتمدة، وهي (د، ق) . 2- تصريح من نقل عنه بنفس العنوان مثل ابن الزبير ت 708 هـ (147) ، والسيوطي ت 911هـ (148) ، وهناك من يقتصر أحيانا على الجزء الأول من العنوان وهو درة التنزيل (149) ، أو صاحب كتاب الدرة (150) ، أو صاحب درة التنزيل، إما لشهرته وإما لأن الناقل لا يعرف اسمه الكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأما الكتاب المنسوب للراغب فإنه يحمل أسماء مختلفة منها: درة التأويل وغرة التنزيل، وحل متشابهات القرآن، كما تقدم. 45 3- الذين ترجموا للخطيب وذكرو تصانيفه لم يختلفوا في عنوان هذا الكتاب بلا استثناء (151) حيث حوت تلك الكتب المترجمة للخطيب هذا الاسم درة التنزيل وغرة التأويل بحروفه. ونطمئن بذلك إلى أن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل عنوان صحيح، لوجوده على أغلفة النسخ المعتمدة الثلاثة، وفي مقدمة تلك النسخ، وهي: نسخة مكتبة أحمد الثالث، وبا يزيد، وكوبرلي، وكذلك نسخة دار الكتب المصرية، ولتصريح الأئمة الناقلين بها أيضا، كالإمام ابن الزبير حيث صرح باسم كتاب الخطيب وقال:.. إلى أن ولرد علي كتاب لبعض المعتنين من جلة المشارقة نفعه الله، سماه بكتاب درة التنزيل وغرة التأويل. (152) . فإذا ثبت هذا فما معنى التسائل عن صحة عنوان الكتاب إذن؟ إن الذي يثير هذا التسائل ويفرضه على الباحث هو أنه ألفت كتب أخرى تحمل هذا الإسم، أو قريبا منه، وعلى رأس ذلك كتاب ذكر في مؤلفات الراغب، يحمل اسم غرة التنزيل ودرة التأويل كما في تاريخ حكماء الاسلام لظهير الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 البيهقي ت 565 هـ (153) ، وفي كشف الظنون (154) يحمل اسم درة التأويل في متشابه التنزيل، والكتاب الذي يحمل هذا الاسم في كشف الظنون (155) هو نفس كتاب الخطيب (156) ، بنفس المقدمة التي ذكرها حاجي خليفة. ولا يخفى أن العناوين متشابهة، ولا مانع أن يكون الراغب قد ألف كتابا بهذا العنوان وهو كما ترى قريب من عنوان درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب. والله أعلم. معنى اسم الكتاب: من حق المؤلف أن يطلق على الكتاب الذي ألفه الاسم الذي يوحي بأنه معتز به، وبعلمه الذي قام به، ولا يعاب المؤلف بسبب ذلك، وهذا الشيء مألوف عند العلماء الاسلام قديما وحديثا، فالإمام الطبري ت 310هـ سمى تفسيره العظيم جامع البيان عن تأويل آي القرآن، والإمام الراغب الأصبهاني ت 502هـ سمى كتابه باسم تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين (157) ، والامام ابن قدامة (158) ت 682هـ سمى كتابه في الفقه المقارن باسم المغني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومؤلفنا رحمه الله تعالى إنما سار على هذا الدرب الذي سار عليه العلماء في تسمية كتبهم، فأطلق على كتابه هذا الاسم العظيم، ألا وهو درة التنزيل وغرة التأويل. ومعنى الدة كما قال ابن دريد ت 321 هـ: الحبة العظيمة من اللؤلؤ (159) ، كما أن الغرة: هي أول كل شيء، أو أفضله (160) . 46 وعلى ذلك فاسم الكتاب يدل على أن العمل الذي قام به صاحب هذا الكتاب عمل عظيم، يوصف تارة بالدرة، وتارة بالغرة. وإضافة درة إلى التنزيل على معنى اللام، والمعنى: أن هذا الكتاب العظيم يشتمل على أسرار عظيمة لكتاب الله المتصف بالعظمة والجلال، فهو بالنسبة لغيره من الكتب المؤلفة في هذا الفن كالدرة بالنسبة لغيرها من حبات اللؤلؤ. أما إضافة غرة إلى التأويل وهو التفسير فإنها توحي بأن ما قام به المؤلف في هذا الكتاب هو عمل رائد في بابه، لم يسبق إليه، فهو أول كتاب في هذا الفن، وأفضل كتاب كذلك، ولا يراد من التأويل هنا المعنى العام من التأويل، وإنما يراد به ضرب معين من التأويل، وهو ما يتعلق بأسرار الآيات القرآنية المتشابهة لفظا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المطلب الثاني: تحقيق صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف ظل كتاب درة التنزيل وغرة التأويل مرجعا أساسيا يستسقي منه المؤلفون في توجيه الآيات المتشابهة لفظا، ولكن هذا الكتاب على جلالة قدره من الكتب العجيبة التي تحير العلماء والمؤلفون في نسبته إلى مؤلفه الحقيقي. الاختلاف في نسبة الكتاب وأسبابه: محتوى هذا الكتب في جميع النسخ واحد، مع ما يقع بين هذه النسخ المخطوطة ما يقع بين نسخ أي مخطوط، من اختلاف يسير، إلا أنه قد ذكر على أغلفة بعض النسخ المخطوطة، وفي بعض كتب التراجم ما يخالف ذلكم، مما أثار مسألة التنازع في نسبة الكتاب إلى المؤلف الأصلي. فبعض الدارسين يقول: إن مؤلف هذا الكتاب هو حسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني المتوفي سنة 502 هـ (161) . وبعضهم يقول: إنه لفخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفي سنة 606 هـ. وفي كشف الظنون (162) ذكر للكتاب غير أن مؤلفه نسبة إلى الراغب مرة، وإلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفخر الرازي مرة أخرى، وهذا ما جاء في أغلفة بعض مخطوطات الكتاب، وفي نسخة راغب باشا ونسخة خسرو باشا، ونسخة أسعد أفندي كتب أنها من تأليف الحسين بن المفضل الراغب الأصفهاني رحمه الله. وكذلك الأمر في بعض فهارس المكتبات، حيث نسب الكتاب في بعضها للفخر الرازي كما في فهرس مكتبة كوبرلي برقم 155 (163) ، وفهرس دار الكتب المصرية برقم 440 (164) ، من 47 غير أن يكون هناك أي اختلاف جوهري بين النسخ كلها سواء كان نسب الكتاب إلى الخطيب، أو إلى الراغب، أو إلى الفخر الرازي. وما فعله بعض المفهرسين من اكتفاء بمجرد وجود العنوان والنسبة على الغلاف، لا يكفي للجزم بأن هذا الكتاب لمن ورد اسمه في الغلاف، وبخاصة إذا ورد ما ينافي ذلك في مكان آخر. تحقيق نسبة الكتاب للخطيب فقط: ولعل أول شيء يجب أن نقرره هنا هو أن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل صحيح النسبة إلى مؤلفه أبي عبد الله الخطيب الأصفهاني المتوفي سنة 420 هـ، وذلك للأمور التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 1- ذكر اسمه صريحا في النسخ المعتمدة (165) على ورقة العنوان: حيث جاء في نسخة أحمد الثالث أ: درة التنزيل وغرة التأويل إملاء الشيخ الإمام العالم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الأصبهاني رحمه الله تعالى وجاء في نسخة با يزيد ب: كتاب درر التنزيل وغرر التأويل تأليف الإمام العالم الأوحد الزاهد الورع أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب تغمده الله تعالى بفضله ورحمته وجاء في نسخة كوبرلي ق: درة التنزيل وغرة التأويل إملاء الشيخ الإمام العالم العامل العارف أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الرازي رحمه الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بخلاف النسخ إلى الراغب الأصفهاني فإن عنوان الكتاب فيها مختلف كما أشرنا إلى ذلك في المطلب الأول من هذا البحث (167) . 2- ما ذكره راوي الكتاب إبراهيل بن علي المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني (168) في 48 مقدمة الكتاب (169) ما نصه: هذه المسائل بيان الآيات المتشابهة لفظا بأعلام نصبت عليها من المعنى أملاها أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب رحمه الله في القلعة الفخرية إملاء لما خلا ولم يحضره غيري ممن يسوغ له حمل ما يكتب فيه ويكتب به، فكتبت عنه لفظه المسائل والأجوبة.. (170) . 3- عدم شك المتقدمين ممن نقل من الكتاب في نسبته إلى الخطيب، ولا يطعن في نسبته إليه وجود كتاب يحمل اسم ة التنزيل وغرة التأويل منسوبا إلى أكثر من واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إن أقدم من نص على الكتاب ونسبة لأبي عبد الله الخطيب، هو أبو مسلم محمد بن علي الأصبهاني ت (459) ، وهذا التريخ قريب إلى وفاة المصنف ت 420 بتسعة وثيلاثين عاما كما يظهر ذلك من تاريخ وفاتهما. ويذكر لنا ذلك محمود بن حمزة الكرماني ت 505 هـ في كتابين شهيرين من كتبه، هما: غرائب التفسير وعجائب التأويل، والبرهان في متشابه القرآن. الكتاب الأول: غرائب التفسير وعجائب التأويل (171) ، ولقد قدمت هذا الكتاب في الذكر، لأنه ألف قبل البرهان في متشابه القرآن، كما أشار إلى ذلك مؤلفه الكرماني في مقدمة البرهان، حيث قال: فإني بحمد الله قد بينت ذلك كله بشرائط في كتاب لباب التفسير (172) ، وكتاب غرائب التفسير وعجائب التأويل، مشتملا على أكثر ما نحن بصدد، ولكني فردت هذا الكتاب (173) لبيان المتشابه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ويصرح الكرماني في كتابه غرائب التفسير باسم الخطيم أحيانا فيما ينقله عنه، وعلى سبيل المثال يقول: سؤال: لم ختم هذه الآية بقوله: (هم الأخسرون) ، وختم ما في النحل بقوله: (هم الأخسرون) ؟ الجواب: هؤلاء قوم وصفوا بفعلين كل واحد منهما موجد للخسران، وهو أنهم صدوا وصدوا غيرهم، ولهذا قال: يضاعف لهم العذاب، وليس كذلك ما في النحل، لأنهم وصفوا بفعل واحد، وهو قوله: (استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) النحل: 107. ثم استمر قائلا: قال الخطيب: إنما جمع هاهنا على الأخسرين مراعاة لما قبلها من الفواصل، وهي: (يفترون) و (ويبصرون) ، وليس معها ألف، وما في النحل معها ألف، وهو: (الكافرون) ، و (الغافلون) (174) . 49 وللمقارنة رجعت إلى كلام الخطيب من كتابه درة التنزيل في هذا الموضع، وتأكدت أن الكرماني لخص كلام الخطيب (175) . ويقول الكرماني في موضع آخر من كتابه غرائب التفسير: قال الخطيب: لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة (176) ، ومرة الصيحة (177) ، ومرة الظلة (178) ، ازداد التأنيث حسنا. اهـ (179) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وجاء في درة التنزيل للخطيب في هذا الموضع: فلما اجتمعت ثلاثة أشياء مؤنثة الألفاظ في العبارة عن العذاب الذي أهلكوا (180) به غلب التأنيث في هذا المكان على المكان الذي لم تتوال فيه هذه المؤنثات (181) . الكتاب الثاني: البرهان في متشابه القرآن، وتبدوا أهمية ذكر هذا الكتاب، لأنه كتاب ألفه الكرماني مخصصا لنفس الموضوع الذي تناوله كتاب درة التنزيل للخطيب، وهو توجيه الآيات المتشابهة لفظا.. وفي هذا الكتاب يشير إلى أنه ينقل عن الدرة بواسطة أبي مسلم الأصفهاني هذا، حيث يقول: وروى أبو مسلم (182) في تفسيره عن أبي عبد الله الخطيب كلمات معدودات منها وأنا أحكي لك كلامه فيها إذا بلغت إليها مستعينا بالله ومتوكلا عليه (184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وفي موضع آخر قال الكرماني في أثناء بحثه عن سر التشابه اللفظي للآيات: قال أبو مسلم حاكيا عن الخطيب: إنما جاء المعروف في الأولى معرف اللفظ.. (185) . وبالرجوع إلى كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب في هذا الموضع وجدت نفس العبارة (186) . ومما يلفت النظر أيضا أن الكرماني قد لا يذكر حكاية أبي مسلم عن الخطيب، بل يصرح باسم الخطيب فيقول حين ينتقل عن الدرة: قال الخطيب، في مرات كثيرة (187) . وعلى سبيل المثال يقول في كتابه البرهان في متشابه القرآن. (188) . قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) الأنفال: 52. ثم قال بعد آية: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) الأنفال 54. ثم يقول (189) قال الخطيب: قد أجاب عنها بعض أهل النظر بأن قال: ذكر في الآية لأولى عقوبته إياهم عند الموت كما فعل بآل فرعون ومن قبلهم من الكفار. وذكر في الثانية ما يفعله بهم بعد الموت كما فعله بآل فرعون، ومن قبلهم، فلم يكن تكرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ثم يمضي ويقول: قال الخطيب: فالجواب عندي: أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحدا من 50 فعله: وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم. والثاني: إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق. وبالرجوع إلى كلام الخطيب من كتابه درة التنزيل في هذه المسألة، وهي السؤال عن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضعين (190) نجد أن هناك تطابقا شبه كامل، حيث يقول الخطيب: وهذه المسألة قد أجاب عنها بعض أهل النظر بأن قال: أخبر الله تعالى عن إجراء العادة فيهم بنوعين من العذاب مختلفين، وإذا كان كذلك لم تكرارا، لأنه ذكر في الآية الأولى عقوبته إياهم عند الموت، والبشارة التي أتتهم بعذاب الحريق، وأنه فعل بهم ذلك كما فعله بآل فرعون، من كان قبلهم من الكفار، ثم ذكر في الثانية ما يفعله بهم من شدة عقابه بعد الموت كما فعله بآل فرعون ومن كان قبلهم من الكفار، وما أجرى عليه العادة في تعذيبه إياهم بعد الموت في القبور وغيرها. ثم استمر الخطيب قائلا: والجواب عندي: أنه أخبر في الأولى عما عاقبهم به من العذاب الذي لم يملك الناس إيقاعه، ولم يكن بعضهم من أن يفعل ببعض مثله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم، وإخبارهم إياهم بمصيرهم إلى عذاب يحرقهم، وفي الثانية أخبر عما أنزله بهم من العذاب الذي مكن الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق، لأن ذلك مما أقدر الله تعالى العب عليه (191) . اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 واتضح مما سبق أن الكرماني نقل عن كتاب درة التنزيل بواسطة أبي مسم الأصفهاني المتوفي سنة 459هـ، مصرحا باسم أبي عبد الله الخطيب- وهو قريب العهد بالمؤلف وهذا يكفي وحده الإطمئنان إلى صحة نسبة هذا الكتاب إلى الخطيب، بخلاف الذين نقلوا عن الكتاب ونسبوه إلى الراغب كالآلوسي (192) ، وإلى الفخر الرازي كابن عاشور (193) . ومن الجدير بالذكر هنا أن الفيروز آبادي ت 817 هـ صاحب القاموس المحيط قد نقل حرفيا (194) كتاب البرهان في متشابه القرآن للكرماني في الجزء الأول من كتابه الموسوم ب بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، وأقر الكرماني على تصريح باسم الخطيب (195) ، في جميع المواضع التي نقل عنه فيها، بل في بعض المرات يلقب الخطيب بقوله: قال الإمام (196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وما يدل على صحة نسبة الكتاب إلى الخطيب تصريح الشيخ الحسين بن سليمان بن الريان ت 770هـ باسم درة التنزيل واسم مؤلفه في مقدمة كتبه المسمى ب الروض الريان في أسئلة القرآن حيث قال: جمعته من عدة كتب، منها: مفاتيح الغيب تفسير الإمام فخر الدين بن الخطيب الرازي، ومن الكشاف 51 عن حقائق التنزيل للزمخشري، ومن التلخيص للكواشي، ومن أشئلة القرآن لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ومن درة التنزيل وغرة الاويل لمحمد بن عبد الله الخطيب الأصفهاني، وفيه أسئلة أخذتها من أفواه العلماء لم أجدها في شيء من هذه الكتب. نفعنا الله بالقرآن العظيم آمين (197) . وقد أرسل إلى مؤخرا شقيقي سليمان حفظه الله من القاهرة رسالة صغيرة (198) في بيان الحكمة في آيتي البقرة والأعراف، وهي رسالة في حكمة تغاير التعبير في آيتي البقرة والأعراف حيث قال في الأولى: (قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا) البقرة: 35، وفي الثانية (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما) الأعراف: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وصاحب الرسالة نقل، عن الدرة، وصرح باسم الخطيب، وأرى أن أنقل ما جاء في الدرة والرسالة المذكورة لتتم المقارنة على سبيل المثال الاستئناس لما جزمنا به من نسبة الكتاب. قال الخطيب في درة التنزيل (199) في الحكمة عن العطف في سورة البقرة بالواو، وفي سورة الأعراف بالفاء: ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، والآخر بعده.. 200. وجاء في الرسالة: وكذلك في تفسير الخطيب (201) ، ذكر أن ما في البقرة خطاب لهما بعد الدخول، وما في الأعراف قبل الدخول. 4- جميع كتب التراجم التي ترجمت للخطيب ذكرت كتاب درة التنزيل ضمن مؤلفاته التي صنفها، ومن أقدم وأشهر العلماء الذين ترجموا له وذكروا كتابه: ياقوت بن عبد الله الحموي ت (ت 626هـ) في كتابه معجم الأدباء 202، وصلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الدين الصفدي ت 764 هـ في كتابه الوافي بالوفيات (203) ، والحافظ جلال الدين السيوطي ت 911 هـ في كتابه بغية الوعاة 204. 5- اتفق كل الذين ترجموا للمؤلف، وتعرضوا لبيان مؤلفاته (205) ، على لقبه الخطيب بلا استثناء، ولم يعرف بع أحد ممن يظن نسبة الكتاب إليه إلا أبو عبد الله محمد ابن عبد الله المعروف الخطيب الإسكافي، وفي ذلك ما يثبت أن الكتاب للخطيب لا للراغب أو غيره، لأن الراغب أو قوام السنة، أو الفخر الرازي لم يعرف واحد منهم بلقب الخطيب، رحمهم الله تعالى. 6- ويؤيد نسبة الكتاب إلى الخطيب ما أشرنا إليه سابقا أن ابن الزبير الغرناطي صرح باسم كتاب درة التنزيل وغرة التأويل في مقدمة كتابه ملاك التأويل (206) ، ولكنه لم يذكر اسم مؤلفه. ولكن في الدرر الكامنة لابن حجر نص على هذا الكتاب الذي ذكره ابن الزبير مقدمة كتابه ملاك التأويل هو الخطيب، حيث يقول ابن حجر في ترجمة ابن الزبير المذكور: وجمع كتابا في فن من 52 فنون التفسير سماه ملاك التأويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 نحا فيه طريق الحصكفي (207) الخطيب في ذلك، فلخص كتابه وزاد عليه شيئا بنفسه (208) . قلت: إن الحصكفي (209) وفي نسخة الهند: الحصافي لعلهما تصحيف من الإسكافي، حيث إن الحصافي أقرب إلى الإسكافي كما لا يخفى، لكن المهم هو ذكر لقب الخطيب هنا. 7- وجود تشابه في الأسلوب والطريقة والغرض بين ما جاء في كتابه المجالس للخطيب، وبين ما جاء في كتابه درة التنزيل حيث إني قارنت بينهما للتعرف على أسلوب المؤلف من خلال هذين الكتابين، ومن ثم فقد رأيت تشابها في الأسلوب، وفي الطريقة مما يرجح أن الكتابين الدرة والمجالس لمؤلف، ومن الأمثلة على ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يقول الخطيب في كتابه المجالس. مسألة من المعشرات في آي القرآن، وهي التي لكل واحد منها عشرة أجوبة من الآيات التي يعترض بها الملحدون (210) . وقول الخطيب في مقدمة كتابه درة التنزيل ففتقت من أكمام المعاني ما أوقع فرقانا، وصار المبهم المتشابه، وتكرارا المتكرر تبيانا، ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلك الملحدين سدا (211) . وفي نهاية تفس الكتب يشير من جديد إلى الغرض الذي من أجله ألف كتابه الدرة ويقول: هذا آخر 207 في طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند 1/48 إشارة في الهامش إلى نسخة فيها: الحصافي بدلا من الحصكفي، يقول المحقق قلت: وفي كشف الظنون لحاجي خليفة 2/1813 الحصنكفي. ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرق منها إلى عيبها.. (212) . ولا يخفى علينا أن النصوص التي أوردناها من الكتابين الدرة والمجالس تشابها في أمر بارز، وهو: الاتفاق بين الكتابين في الغرض الذي من أجله تناوله مؤلفنا مثل هذه الآيات. يقول في المجالس مسألة من المعشرات في آي القرآن، وهي التي لكل واحد منها عشرة أجوبة من الآيات التي يعترض بها الملحدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ويقول في مقدمة كتابه درة التنزيل: ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلك الملحدين سدا.. ويقول في نهاية الدرة كما مر آنفا: هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرق منها إلى عيبها.. 213. وهناك ملاحظة تجذب الانتباه، وهي استعمال كلمة والسلام في أواخر الآيات التي يتناولها في هذا الكتاب (214) وفي كتابه المجالس في آخر كل مجلس (215) . هذه بعض الأدلة والقرائن التي تثبت أن كتاب درة التنزيل صحيح النسبة مؤلفة أبي عبد الله 53 الخطيب، وتعيد نسبة الكتاب إلى صاحبه بعد أن تردد طويلا بين مؤلفين جمع بينهم مجرد البلد أو الكنية أو الحرفة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مناقشة بعض الآراء التي تنفي الكتاب عن الخطيب: يذهب الأستاذ الدكتور أحمد فرحات (216) إلى أن عدم ذكر ابن الزبير الغرناطي في كتابه ملاك التأويل اسم الخطيب يدل على شكله في نسبة كتاب درة التنزيل إلى الخطيب. والسؤال هنا: لماذا كانت عبارة ابن الزبير تدل على شكله في نسبة الكتاب إلى الخطيب فقط، ولا تدل على شكله في نسبته إلى قوام السنة الذي نسبه إليه (217) ، فلو سلمنا جدلا أن العبارة تحمل معنى الشك وهذا غير مسلم، فهو شك بالنسبة للجميع، وليس للخطيب فقط. ومما يذكره الدكتور أحمد فرحات أيضا في نفي نسبة الكتاب إلى الخطيب أن الخطيب لم يعرف في التفسير..، ولم يعرف له كتابا في التفسير إلا ما قيل من نسبة كتاب الدرة وفي بعض ما يغلط به أهل الأدب، ولطف التدبير في سياسة الملوك، وغلط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 كتاب العين، ونقد الشعر، ونقض العثمانية وهي للجاحظ، وشرح كتاب سيبويه (218) . أقول جوابا على هذه النقطة: هل هناك تعارض بين اللغة والتفسير؟ والتفسير من أسسه اللغة، وكثير من علماء اللغة ألفوا في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه، بل إن الزمخشري وهو إمام من أئمة اللغة، وضع أعظم كتبه في التفسير من حيث اللغة والبلاغة، وهو الكشاف، مع علمنا بما شأنه به من الإعتزاليات. وهكذا أثار الدكتور أحمد فرحات جملة من أمثال هذه الأقوال، وكلها لا تثبت عند البحث والتمحيص العلمي. لكن الأستاذ الدكتور أحمد فرحات بعد هذه الجولة ينسب الكتاب إلى قوام السنة الأصبهاني، وسنعود لمناقشة هذا بعد نفي نسبة الكتاب إلى الراغب الأصفهاني إن شاء الله تعالى. كتاب درة التنزيل ليس للراغب الأصفهاني: وقد نسب كتاب درة التنزيل إلى الراغب بعض الذين نقلوا عن الكتاب مثل الإمام الآلوسي 1217هـ، صاحب روح المعاني، حيث نقل عن كتاب الدرة أكثر من مرة ونسبة إلى الراغب، ومن الأمثلة على ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يقول الآلوسي رحمه الله تعالى: وعن الراغب معنى قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا..) (219) المنافقون: 7 أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات، ولا يفطنون أنهم 54 إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم، فهم لا يفقهون، ذلك، ولا يفطنون له.. (220) . هذه العبارات تقارب تقارب تماما عبارات الخطيب في درة التنزيل (221) . والآلوسي رحمه الله أحيانا ينقل عن الدرة ولا يصرح باسم مؤلفه، وهذا يدلنا على أنه إما نقل بالواسطة وإما أنه يشك في نسبته إلى الراغب، حيث يقول: وقال بعضهم قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قواه الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغني عنه (222) الجسد الحي، وذلك الحي، وذلك الحب الذي يختبر قيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجز به.. (223) . هذه العبارة تقارب أيضا من عبارات الخطيب في درة التنزيل (224) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وفي بعض الأحيان يصرح الآلوسي باسم الراغب، ولكنه ينقل بصيغة التمريض حيث يقول: ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل (225) إن أول ما يطالعنا في هذه المواضع التي نقل فيها الآلوسي عن كتاب درة التنزيل أن الآلوسي لا يستخدم صيغة الجزم، وإنما يذكر العبارات التالية: عن الراغب (226) ، ونقل عن الراغب (227) ، وقال بعضهم (228) . والذي يبدو والله أعلم أن وجود اسم الراغب الأصبهاني على غلاف النسخة التي وقف عليها الآلوسي هو الذي أدى إلى هذا الخطأ، حيث إنه أثبت ما وجده على الغلاف، علما بأن الجميع النسخ المنسوبة إلى الراغب كما أشرنا سابقا انفردت من بين النسخ المنسوبة إلى الخطيب بعدم ورود اسم الراوي، واسم الكتاب، واسم مؤلفه في مقدمة الكتاب. كما حصل ذلك لأبي عبد الله البلنسي ت 782هـ في كتابه تفسير مبهمات القرآن المرسوم بصلة الجمع وعائد التذييل.. (229) ، حيث نسب كتاب درة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التنزيل إلى رواية ابن أبي الفرج الأردستاني (230) ، لوجود اسمه على غلاف بعض النسخ، وهو في الحقيقة من تأليف الخطيب بدليل ما كتب في مقدمة تلك النسخ من أنه قد أملأه عليه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب في القلعة الفخرية إملاء (231) . ومما ينفي نسبة الكتاب إلى الراغب أيضا وجود الناقلين عن الكتاب، القريبين من عهد المؤلف كأبي مسلم، والكرماني اللذين صرحا بسام أبي عبد الله الخطيب (232) ، إذ أن هذا الاسم والكنية 55 لا يشترك فيهما الراغب الأصفهاني، الذي هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (233) . ومن الأدلة التي تنفي أيضا نسبة الكتاب للراغب عدم وجود تشابه بين الكلمات التي فسرها الراغب في المفردات وبين الكلمات المفسرة في الدرة، ومن أمثلة ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قال الراغب في المفردات في معنى الوليجة: الولوج: الدخول في مضيق، قال تعالى (حتى يلج الجمل في سم الخياط) الأعراف: 40..، والوليجة: كل ما يتخذه الانسان معتمدا عليه، وليس من أهله، من قولهم: فلان وليجة في القوم: إذا لحق بهم وليس منهم، إنسانا كان أو غيره.. (234) وقال الخطيب في بيان معنى الكلمة نفسها: فقولك: ولج، بمعنى دخل، والوليجة: المدخل، وهو الوسيلة التي يدخل بها (235) الانسان حريم الانسان، كالباب المفتوح له يفعل فعله.. (236) . مثال آخر: قال الراغب في معنى السلطان: السلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطته عليه، فتسلط، قال تعالى: (ولو شاء الله لسلطهم) النساء: 90..، ومنه سمي السلطان، والسلطان: يقال في السلاطة، نحو: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) الإسراء: 33..، وقد يقال لذي السلاطة، وهو الأكثر، وسمي الحجة سلطانا..، والسليط: الزيت بلغة أهل اليمن.. (237) . وقال الخطيب في درة التنزيل: وحقيقة السلطان من السليط، وهو الزيت الذي بشيء به السراج، والسلطان: الحجة، لأنها تضيء، فتبين الحق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الباطل، والسلطان الذي يملك الناس ضياء يدفع ظلام الظلم عنهم، إذ كانوا لولا هو لصاروا من التغاور (238) والتناهب (239) ظلام يتزايد ولا يتناقص، كأنه ضياء يجلو ظلام الدنيا. (240) . في هذين المثالين يتضح لنا الفارق بين الأسلوبين، وأنهما لشخصين مختلفين، وأن عبارات الخطيب وألفاظه يغلب عليها الطابع الأدبي السهل، ولا شك أن هذا لا يستغرب من الخطيب لأنه كما مر أديب لغوي، اختصر كتاب العين للخليل بن أحمد ت 170هـ، وهو أول معجم للغة العربية والله أعلم. مناقشة من ينسب الكتاب إلى الراغب: وقد اطلعت على مقالتين للدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي في موضوع نسبة الكتاب درة التنزيل وغرة التأويل إلى مؤلفه: إحداهما في مجلة اللغة العربية بدمشق بعنوان: كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للراغب، وليس للخطيب الإسكافي (241) ، والأخرى في مجلة مجمع اللغة 56 العربية الأردني (242) ، بعنوان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تحقيق نسبة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل: وينفي فيهما الدكتور الساريسي أن يكون الخطيب مؤلفا لكتاب درة التنزيل وغرة التأويل، ويحاول إثبات نسبته إلى الراغب الأصفهاني، قائلا: تنسب بعض المصادر هذا الكتاب لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف الخطيب الإسكافي المتوفي 420هـ، كما نرى في معجم الأدباء لياقوت (243) ، وفي الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (244) ، بل إن هذا الكتاب قد طبع مرتين فيما أعلم، منسوبا إليه أيضا. ونسبة هذا الكتاب إلى هذا المصنف بحاجة إلى إعادة نظر، ذلك أنني أنني وجدته، وأنا أنقب في بحثي هذا، منسوبا لمصنف آخر، هو الراغب الأصفهاني، الحسين بن مفضل بن محمد، الذي عاش إلى أوائل المائة الخامسة، وذلك بتعديل طفيف أجري على العنوان ليصبح درة التنزيل في متشابه التنزيل ثم يشير إلى أرقام النسخ التي ذكر على أغلفتها اسم الراغب صريحا، مع بعض اختلاف في عنوان الكتاب من نسخة إلى أخرى، ثم يقول إن النسخ تلتقي في أمرين هامين، هما: النسبة الصريحة للراغب الأصفهاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والمادة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب من إدارة الفروق الدقيقة بين الآيات القرآنية المتشابهة الصيغ والتراكيب. وهكذا لمجرد وجود اسم الراغب على تلك النسخ السابقة يرى الدكتور الساريسي أو يجزم بنسبة الكتاب إلى راغب، وينفيها عن خطيب. والحقيقة أن وجود اسم الراغب على أغلفة بعض النسخ قد أوهم عددا من الباحثين (246) أن الكتاب للراغب الأصفهاني، وليست الحال كذلك، لأنه ليس للراغب كتاب بسام درة التنزيل وغرة التأويل، وإنما ذكروا له كتابا اسمه غرة التنزيل ودرة التأويل كما قال ذلك الدين البيهقي ت 560هـ في كتابه تاريخ حكماء الإسلام (247) ، وقد ذكر هذا الكتاب أيضا باختلاف يسير في العنوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وهو درة التأويل في متشابه التنزيل منسوبا إلى الراغب في بعض كتب التراجم الأخرى التي تقدمت الإشارة إلى بعضها، مثل كشف الظنون (248) . هذا، ومن ناحية أخرى فإن النسخ المنسوبة إلى الراغب لم تورد اسم الكتاب ولا اسم المؤلف في المقدمة، حيث وقع في مقدمة تلك النسخ، ووقع فيها اختلاف جوهري أيضا لم يذكر فيها كلام 57 راوي الكتاب الذي يصرح عادة باسم الكتاب وصاحبه بخلاف النسخ المنسوبة إلى الخطيب، ففها تصريح اسم الكتاب، ومؤلفه الخطيب. ثم يذكر الدكتور عمر السارسي دليلا آخر حسب رأيه يستدل به على نسبة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للراغب الأصفهاني فيقول: ويدعم القول بصحة هذه النسبة للراغب، إلى جانب هذه الإشارات، غشارة الراغب نفسه في بعض مصنفاته إليه، من جهة، وإشارته فيه إلى بعض كتبه المتواترة نسبتها إليه، من جهة أخرى. كما نلاحظ أن الدكتور السارسي ذكر في هذا الدليل إشارتين إلى جانب الإشارات السابقة ينطلق منهما في تحقيق نسبة الكتاب للراغب. يقول الدكتور السارسيي في الإشارة الأولى من هذا الدليل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فهو في مقدمة كتاب مفردات ألفاظ القرآن الكريم يشير إليه في قوله واتبع هذا الكتاب أي المفردات إن شاء الله تعالى ونسأ في ألجل، بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ دون غيره من إخوانه، نحو ذكره القلب مرة، والفؤاد مرة، والصدر مرة، نحو ذكره تعالى في عقب قصة: "إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" [الروم: 37] وفي أخرى "لقوم يفكرون" [يونس: 24] ، وفي أخرى "لقوك يعلمون" [البقرة: 23] ، وفي أخرى "الذي حجر" [الفجر: 5] ، وفي أخرى "لأولي النهى" [طه: 45] ، ونحو ذلك مما بعده من لا يحق ويبطل الباطل، أنه باب واحد، فيقدر أنه إذا فسر "الحمد لله" بقوله الشكر لله، "لا ريب فيه" بـ لاشك فيه، فقد فسر القرآن ووفاه التبيان. ثم يقول الدكتور الساريسي تعقيبا على كلاك الراغب السابق. إنه في مقدمة المفدرات رسم خطة هذا الكتاب لينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد وما بينهما من الفروق الغامضة، أي ليوضح ما بين المفردات من فروق دقيقة يخيل للقارئ أنها مترادفة على معنى واحد، وذلك كما يمثل للقلب والفؤاد والصدر، وكما يمثل للآيات "لقوم يؤمنون"، و" لقوم يتفكرون"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 و"قوم يعلمون" و"يفقهون"، و"أولي الأبصار" و"أولي النهى" و"ذي حجر". وهي أمثلة نافذة في ملاحظة الفروق الدقيقة بين الصيغ المتشابهة. ثم يقول الدكتور الساريسي وهو ينجر ما يعد به، وذلك في الآية السادسة في سورة المائدة قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هو الكافرون: [المائدة: 44] ، وبعده " فأولئك هم الظالمون" [المائدة: 45] ، وبعده" "فأولئك هم الفاسقون" [المائدة: 47] . 58 ثم يقول الساريسي ويضيف أي الراغب وللسائل أن يسأل فيقول الموضع الذي وصف فيه من لم يحكم بكتاب الله بالكفر، هل باين الموضع وصف فيه من ترك حكم الله بالظلم والفسق؟ ثم يأخذ في الإجابة للتدليل على أن ثمة فروقا في المعنى بين هذه الآيات. ثم يستمر الدكتور الساريسي قائلا وكذلك يفعل في المسألة العاشرة من سورة الأنعام في قوله تعالى: "قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون" [الأنعام: 98] والآية الثانية بعدها "قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون" [الأنعام: 97] ، والآية الثالثة "إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون" [الأنعام: 99] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ثم يضيف الدكتور فيقول" وذلك يفعل في مختلف مسائل آيات هذا الكتاب فحو يعدد الآيات المتشابهة في السورة أو في السور/ ثم يثير الأسئلة عن الفروق المعنوية بينت ثم يجيب عليها. هذا الذي استدل به الدكتور الساريسي في الإشارة الأولى من الدليل السابق على نسبة الكتاب الراغب لا يصلح أن يكون دليلا لما بينها سابق. ومما يؤيد كلامنا هذا ذلك المقال الطويل الذي رد به الدكتور أحمد فرحات على مقاله الدكتور الساريسي السابقة وجعل عنوانه. كتاب درة التنزيل وغرة التأويل لا تصح نسبته إلى الراغب الأصفهاني. وقد ناقش الدكتور أحمد فرحات ما تسدل به الدكتور الساريسي في الدليل السابق بالإشارتين اللتين تتشكلان نقطة انطلاقه له على أن الكتاب للراغب فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سبق أن راينا أن الذي الكاتب يعتبر الكتاب الذي أشار إليه الراغب في مقدمة كتاب المفردات بعنوان تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد وما بينها من الفروق الغامضة هو نفس الكتاب المسمى بـ درة التنزيل وغرة التأويل مع تعديل طفيف في العنوان. اعترض الدكتور أحمد فرحات على هذا الاعتبار قائلا: ونقول للأخ الكاتب: إن هناك اختلافا جوهريا بين عنواني الكتابين، وليس اختلافا طفيفا كما زعم، بل إن هذا الاختلاف بين العنوانين يؤدي إلى اختلاف كبير بين موضوعي الكتابين كما هو واضح من صفة كل منهما: فكتاب تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد هو أولا كتاب في الألفاظ المترادفة التي يظن الناس عدم وجود فروق بينها، ومن ثم يمكن استعمالها بمعنى واحد. وقد مثل لها الراغب بالقلب والفؤاد والصدر وقد ألحق الراغب بالألفاظ المترادفة على المعنى 59 الواحد، ما تختم به الآيات مما يظنه الناس أنه باب واحد، وقد أشار إلى ذلك بقوله ونحو ذكره تعالى في عقب قصة "إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [الروم] ، وفي أخرى "لقوم يتفكرون" [يونس: 24] وفي أخرى "لقوم يعلمون" [البقرة: 230] وفي أخرى"لقوم يفقهون" [الأنعام: 98] وفي أخرى: " لأولي الأبصار" [آل عمران: 13] ، وفي أخرى "لذي حجر" [الفجر: 5] / وفي أخرى "لأولي النهى" [طه: 45] ، ونحو ذلك مما يعده من لا يحق الحق ويبطل الباطل أنه باب واحد ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فكتاب المفردات يشير إلى كتاب في تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد والألفاظ المترادفة في اللفظ وتشترك في المعنى. أما درة التنزيل فهو في الآيات المتشابهة في اللفظ، والمختلفة في المعنى، نتيجة لاختلاف السياق الذي وردت فيه، ومن ثم فهناك فرق كبير بين موضوعي الكتابين: الأول يكون التركيز في على الألفاظ التي يظن فيها الاتفاق في المعنى، فبين ما بينها من الفروق الدقيقة والغامضة. والثاني: يتناول الآيات المشتركة في الألفاظ ليبين مناسبة كل لفظ للسياف الذي ورد فيه، مراعيا معنى الآية، وكذلك ما ذليت به الآيات "لقفوم يفقهون" أو "يعقلون" أو " يؤمنون" فكتاب تحقيق الألفاظ يتناولها من جانب بيان الفروق بين "يفقهون" و" يعقلون" و" يؤمنون" لبيان الفروق بين هذه الكلمات، بينما درة التنزيل باعتبار التشابه الوارد في الألفاظ الآية " إن في ذلك لآيات"، "إن في ذلك لآيات" ومناسبة كل تذليل لما سبقه من الآيات المشار إليها. ثم يقول الدكتور أحمد فرحات وما أظن أن الأخ الكاتب باستطاعته أن يأتي بالفروق الغامضة الدقيقة بين القلب والفؤاد والصدر وبين قوله "لذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 حجر" و"لأولي النهى" التي أشار إليها الراغب من كتابه درة التنزيل لأن كتاب درة التنزيل لم يقصد إلى هذا. وما جاء فيه من الكلام وعلى قوله تعالى "ومن يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة: 44] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة: 45] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة: 47] ، لم يكن بهدف بيان الفرق بين الكفر والظلم والفسوق، وإنما لاشتراك في لفظ "ومن لم يحكم بما أنزل الله" بين الآيات الثلاث، ولبيان المناسبة بين كل لفظ والموضع الذي ذكر فيه، ومن ثم لم يبين صاحب درة التنزيل الفروق بين الكفر والظلم والفسوق. وكذلك ما جاء في سورة الأنعام من قوله تعالى "قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [الأنعام: 97] ، 60 وبعدها "لقوم يفقهون" [الأنعام: 98] ، وبعدها " لقوم يؤمنون" [الأنعام: 99] ، وهو المثال الثاني الذي استشهد به الأخ الباحث على بيان الفروق الدقيقة الغامضة بين المفردات. ثم أورد ما قاله صاحب درة التنزيل في توجيه الآيات الثالث من سورة المائدة، وهي: قوله عز وجل: (..ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة: 44. وبعده: (فأولئك هم الظالمون) المائدة: 45. وبعده: (فأولئك هم الفاسقون) المائدة: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وكذلك أورد ما قاله صاحب الدرة في توجيه الآيات الثلاث من سورة الأنعام، وهي: قوله تعالى: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) الأنعام: 98. والآية الثانية بعدها: (وقد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: 98. والآية الثالثة: (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) الأنعام: 99. ثم يعلق الدكتور أحمد فرحات على ذلك فيقول: وهكذا نرى بعد أن ذكرنا تفصيل ما جاء في المثالين، أنهما لا يصح فيهما ما قاله الأخ الباحث: من أن الراغب أنجز ما وعد به من بين الفروق الدقيقة الغامضة في الألفاظ المترادفة، كما لا يصح قوله: إنه يفعل ذلك في مختلف مسائل آيات هذا الكتاب. ثم يمضي الدكتور أحمد فرحات يناقش الدكتور الساريسي في الإشارة الثانية من ذلك الدليل فيقول: يقول الأخ الكاتب: أما إشارته في هذا المصنف نفسه، أي: درة التنزيل وغرة التأويل إلى مصنفاته الأخرى، فقد وردت في عرضه لما في سورة الكافرون: (قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون* ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنت عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين) من تكرار، إذ يقول على إحدى صفحات مخطوطة درة التأويل وغرة التنزيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 إن سأل سائل عن التكرار في هذه السورة، فالجواب أن يقال: إنا قد أجبنا في جامع التفسير عن ذلك بأجوبة كثيرة، فنذكر منها واحد في هذا الموضع..، وينهي إجابته بقوله: فلم يقع تكرار على هذا الوجه، ولا على الأوجه آخر التي ذكرنا في جامع التفسير. ثم يقول الدكتور الساريسي: وحينما راجعت كتب الخطيب الإسكافي لم أجد فيها جامع التفسير هذا بل، إنه هو تفسير الراغب الموجود في مكتبة أيا صوفيا برقم 212 فيإستنبول، وهو باسم جامع التفسير بعينه. 61 ويقول الدكتور أحمد فرحات تعقيبا على هذا الكلام: ونقول للأخ الكاتب إن ما وصلنا من تفسيره الراغب، لم يرد فيه، ما يشير إلى أن المؤلف قد سماه بسام الجامع، فهذه مقدمة تفسيره يقول فيها الراغب: القصد في هذا الإملاء إن نفس الله في العمر- ووقانا من نوب الدهر: وهو مرجو أن يسعفنا بالأمرين أن نبين من تفسير القرآن وتأويله نكتا بارعة تنطوي على تفصيل ما أشار إليه أعيان الصحابة والتابعين ومن دونهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 من السلف المتقدمين رحمهم الله إشارة مجملة، ونبين من ذلك ما ينكشف عنه السر، ويثلج به الصدر. ثم إن النسختين الموجودتين من تفسير الراغب في المكتبة السليمانية تحملان اسم تفسير القرآن العظيم للعالم العلامة الراغب الأصفهاني، وكذلك لم يسمه صاحب معجم الأدباء، وإنما قال: له كتاب تفسير القرآن وهو كبير. ويمضي الدكتور أحمد فرحات قائلا: ثم إن بعض المترجمين للراغب ذكروا أن للراغب تفسيرا، ولكنه لم يتمه، وما بين أيدينا من نسخ تفسير الراغب يؤكد هذه الحقيقة. وهذا يعني أن الإحالة التي وردت في سورة الكافرون في كتاب درة التنزيل على جامع التفسير لا يمكن أن تكون إلى تفسير الراغب، لأن سورة الكافرون في آخر القرآن، ومن ثم لا يمكن أن يكون الراغب قد فسرها، لأنه لم يتم تفسيره. ثم يقول الدكتور أحمد فرحات: وبناء على هذا فلا يمكن الجزم بأن اسم تفسيره الراغب هو جامع التفسير لمجرد ورود ذلك في بعض النسخ الخطية دون تحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ثم يشير الدكتور هنا إلى إعادة النظر في تسمية تفسير الراغب حيث يقول: وبناء على هذا التحقيق لا بد من إعادة النظر فيما سبق أن سميناه مقدمة جامع التفاسير والذي طبع بتحقيقنا. ثم يمضي الدكتور أحمد فرحات يناقش الساريسي فيما ذهب إليه من آراء حول عنوان الكتاب، ومقدمة الكتاب، والإملاء، والتمهيد للمسائل في مادة الكتاب، ومادة الكتاب. ولا أريد أن أتعرض لهذا كله، لأن ما ذكره الدكتور الساريسي في المواضع السابقة لإثبات نسبة كتاب درة التنزيل للراغب الأصفهاني لا يعدو أن يكون مجرد رأي لا يملك عليه دليلا قويا. وإنما أطلنا النقل نوعا ما عن الدكتور أحمد فرحات لسببين: أ- لتأكيد وجهاتنا في نفي الكتاب عن الراغب. ب- وأيضا تمهيدا لمناقشة ورد الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ الدكتور أحمد فرحات من نسبة الكتاب إلى إسماعيل بن محمد الأصبهاني المعروف بقوام السنة ت 535هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 62 مناقشة من نسب الكتاب لقوام السنة الأصفهاني: فلقد حاول الدكتور أحمد فرحات أن يثبت كتاب درة التنزيل لإسماعيل بن محمد المعروف بقوام السنة بعد أن نفى نسبة الكتاب إلى كل من الراغب والخطيب. وهذه دعوى أهون من سابقتها على كل حال، وأيسر في الرد والإبطال، لأن نسبة الكتاب إلى أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني، المعروف بقوام السنة لا تصح لما يأتي: 1- لأنه لم يرد اسمه على أي من مخطوطات هذا الكتاب الكثيرة، ولا مطبوعاته، ولا في الكتب التي ترجمت له، وما ذكره الدكتور أحمد فرحات من احتمال أن النسخ حرفوا اسم المؤلف وغيروه غير مسلم، وهو احتمال بعيد. 2- والذي أوقع الدكتور أحمد فرحات في هذا هو وجود تشابه في الكنية وبعض الإسم بين أبي القاسم الحسين بن محمد المفضل الأصفهاني المعروف بالراغب، والذي نفى أن يكون الكتاب له، وبين أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني المعروف بقوام السنة. 2- كذلك لا يمكن أن يكون الكتاب لقوام السنة، نظرا لأن قوام السنة من أهل القرن السادس، حيث توفي سنة 535هـ، وكتاب درة التنزيل كان قبل ذلك بكثير، حيث قد استفاد منه أبو مسلم بن علي بن محمد بن الحسن بن مهر يزد الأصبهاني 459 هـ في تفسيره كما يشير إلى ذلك الكرماني في مقدمة كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 البرهان إذ يقول وروى أبو مسلم في تفسيره عن أبي عبد الله الخطيب كلمات معدودات منها، وأنا أحكي لك كلامه فيها إذا بلغت إليها. لم يسبق لأحد من معاصري قوام السنة، أو ممن ترجموا له أن نسب الكتاب إليه، ولو على سبيل الظن والاحتمال، وبالتالي فلا يوجد مصدر واحد يمكن للدكتور أحمد فرحات أن يستند إليه في هذه النسبة المستحدثة. وأما ذكره الدكتور أحمد فرحات من أنه لا يوجد كتاب يحمل اسم الجامع في التفسير لفظا إلا كتاب أبي القاسم إسماعيل بن محمد المعروف بقوام السنة، والذي ذكره معظم من ترجموا له فغير مسلم، لأن مؤلف كتاب درة التنزيل سمي تفسيره في سورة الكافرون مرتين بعنوان جامع التفسير حيث جاء على لسانه إنا قد أجبنا في جامع التفسير وفي آخر السورة قال فلم يقع تكرار على هذا الوجه ولا على الوجوه الأخرى التي ذكرناها في جامع التفسير فأين هذا من كتاب يحمل اسم الجامع في التفسير؟ 63 وما ذهب إليه من أن هذا العنوان الجامع في التنفسير لا ينطبق إلا على كتاب واحد يعود إلى مؤلف واحد، وهو أبوة القاسم اسماعيل بن محمد الأصفهاني ت 535 هـ فغير مسلم أيضا لأن هذا الكتاب بنفس العنوان الجامع في التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ذكر أيضا من مؤلفات أبي الحسن علي بن عيسى الرماني ت 314 هـ مما يبعد هذا الاحتمال الذي أورده الدكتور أحمد فرحات. وأما ذكره الدكتور أحمد فرحات من أن كتاب جامع التفسير الذي ورد في اسمه في سورة الكافرون من كتاب درة التنزيل فلم تذكر كتب التراجم أن للخطيب كتابا بهذا العنوان فغير مسم أيضا، أذ أن للخطيب كتبا أخرى وقفت عليها، لم تذكرها الكتب التي ترجمت للخطيب، مثل مختصر العين، وكتاب المجالس وكتاب خلق الإنسان. وعدم ذكر كتاب الجامع التفسير في ترجمة الخطيب لا يكفي دليلا على أنه ليس من مؤلفاته، حيث أن الخطيب نفسه أشار أيضا إلى كتاب له بعنوان معان القرآن في ثنايا المجالس مع ذلك لم يشر إليه من ترجموا له، ولم يكن االإهمال مقصود، بل ربما كان المصنف قد ألفه في فترة متأخرة من حياته، ولم تذع شهرته كسائر مصنفاته لعدم ظهور أهميته في حياته أو إشادته به من خلال مصنفات أخرى تبعته. ومن الجائز أن يكون تفسير الخطيب المسمى بالجامع التفسير والذي جاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 تسميته في سورة الكافرون وهو عين كتابه معاني القرآن والذي جاءت تسميته في كتابه المجالس ومن الجائز أيضا أن يكون له كتاب، أو أكثر فيما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، وبناء على هذا الاحتمال يكون جامع التفسير ومعاني القرآن كتابين مختلفين من كتبه التي بلم تذكر في ترجمته والله أعلم. الخلاصة أن ما ذكرناه سابقا يمثل أدلة قاطعة على عدم صحة نسبة الكتاب إلى قوام السنة، ومكان ذكرناه من احتمالات هي أقرب إلى الواقع من الاحتمالات التي ذكرها الأستاذ الدكتور أحمد فرحات، فإذا تعادلت الاحتمالات أو تساقطت فإن أدلتنا تبقى سالمة من المعارضة بفضل الله تعالى. كتاب درة التنزيل ليس للفخر الرازي: لقد صرح أصحاب كتب التراجم التي ترجمت للخطيب بنسبة كتاب درة التنزيل إليه وأخطأ صاحب كشف الظنون فنسب الكتاب إلى الفخر الرازي الذي ينسب إلى مدينة الري كما ينسب إليها الخطيب الاسكافي، لكونه خطيبا بها، كما ذكر ذلك ياقوت في معجم الأدباء. 64 وكذلك وقع في نفس الوهم الشيخ ابن عاشور ت 1393 هـ في تفسيره التحرير والتنوير حينما ذكر في مقدمة التفسير المذكور كتاب درة التنزيل من بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أهم الكتب التي ألفت في التفسير حيث قال وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الاصفهاني، وقد جانب الصواب تماما حينما صرح بنسبة الكتاب إلى الرازي حيث قال وأبدى الفخر في درة التنزيل وجها لاختلاف الأوصاف في قوله تعالى "لقوم يتفكرون" وقوله "لقوم يعقلون" وقوله"لقوم يذّكرون". وسبب الوقع في هذا الخطأ هو أن الخطيب الاسكافي والفخر الراز كليهما يلقبان بـ أبي عبد الله مع أن اسمهمها مختلف إذ أن اسم الخطيب الاسكافي محمد بن عبد الله واسم الفخر الراز محمد بن عمر، ولكن لكونهما ينسبان إلى مدينة الري صار اشتباه بينهما، ولكن الفخر الرازي لم يلقب ب الخطيب وإنما اشتهر ب ابن الخطيب. وأبو مسلم الأصبهاني ت 459 هـ والكرماني ت 505 هـ تقريبا ذكرا السنين فكيف ينسب الكتاب للفخر الرازي؟ إذ من غير الممكن أن أبا مسلم والكرماني ينقلان عن أحد عاش بعدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المطلب الثالث: موضوع الكتاب موضوع الكتاب هو توجيه لآيات القرآنية المتشابهة لفظا التي تتفق في بعض ألفاظها وتفترق في البعض الآخر، أو تتكرر في عدة مواضع بالكلمات المتفقة، أو المختلفة والتي يرد حولها سؤال أو يقع فيها إشكال أو يحتمل أن تكون محل نظر لسبب من الأسباب التي تتعلق بالاستعمالات القرآنية من تكرار أو تقديم وتأخير أو اختيار كلمة مكان أخرى، وإلى غير ذلك من الأنواع التي تقدم ذكرها في مطلب موضوع علم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. وقد لا يتبادر إلى ذهن القارئ موضوع الكتاب من اسمه درة التنزيل وغرة التأويل أو يتبادر إليه شيء آخر بعيد عن صميم الموضوع، بخلاف عنوان كتاب متشابه القرآن العظيم لابم المنادي ت 336 وكتاب البرهان في متشابه القرآن للكرماني ت 505 هـ، لأن القارئ لهذين العنوانين يعلم أن موضوع الكتابين: علم متشابه القرآن، وكذلك الأمر في عنوان كتاب تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ت 276 هـ وكتاب العمدة في غريب القرآن لمكي بن أبي طالب ت 437 هـ حيث إن قارئ هذين العنوانين لا يتردد في تصنيفهما ضمن مصنفات علم غريب القرآن. والمتأمل في الخطبة الموجزة التي استهل بها الخطيب كتاب درة التنزيل والآيات التي تناولها في الكتاب من حيث كيفية تناوله، ومعالجته للمشكلات وتوجيهاته فيها، لا يجد أي صعوبة ولو لم 65 يشر اسم الكتاب إلى ذلك في تصنيف درة التنزيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ضمن الكتب المؤلفة في علم متشابه القرآن، بل يتأكد إذا قارن كتاب درة التنزيل بغيره من الكتب المؤلفة في هذا الباب أن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل يعتبر سجلا أو مرجعا أساسيا لمن ألف في هذا الفن. وقد أشار المؤلف رحمه الله تعالى إلى موضوع كتابه، حيث قال تدعوني دواع قوية يبقها نظر وروية في الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة وحروفها المتشابهة. وهو يشير أيضا في المسألة الرابعة من مسائل الآية الرابعة في سورة البقرة إلى موضوع الكتاب فيقول: والمسألة الرابعة في هذه الآية تقديم قوله عز وجل "وقولوا حطة" وتأخيره في سورة البقرة عن قوله "وادخلوا الباب سجدا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والجواب عن ذلك مما يحتاج إليه في مواضع من القرآن في مثل هذه الآية التي قصدنا الفرق بين مختلفاتها: وهو أن ما أخبر الله تعالى به من قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم، وما حكاه من قولهم، وقوله عز وجل لهم لم يقصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنما قصد إلى اقتصاص معانيها. ويقول رحمه الله تعالى في الآية الحادية عشر من سورة البقرة: الآية الحادية عشر من هذه السورة مفارقة الآية التي شرطنا الفرق بينها فيما خالفها بلفظ يسير من الآية التي بازالها غير انهها مثلها في التكرير، والحاجة إلى ذكر الفائدة في إعادتها. من كل ما تقدم يتبين لنا أن الخطيب رحمه الله جعل موضوع كتابه درة التنزيل في توجيه ما تكرر من آيات الكتاب العزيز بالكلمات المتفقة والمختلفة تشابه لفظا، أو اختلف ايجازا واطنابا، أو تقديما وتقديرا، أو ذكرا وحذفا أو تعريفا وتنكيرا، أو إبدال لفظ بآخر ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المطلب الرابع: سبب تأليف الكتاب ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الأسباب التي دفعته إلى تأليفه هذا الكتاب، هي: طلب رفع اللبس في الآيات القرآنية التي تتكرر في عدة مواضع، والآيات التي تتشابه بسبب التقديم والتأخير لا أو التنكير والتعريف إلى تغير ذلك من أنواع التشابه وبيان سر الاختلاف بين تلك الآيات ووجه الحكمة من وراء ذلك. 66 وقد ذكر المؤلف هذا السبب قائلا: تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها وتخص الكلمة بآياتها دون أشكالها. ترك العلماء الذين سبقوه هذا الجانب من التفسير، وهو توجيه الآيات المتشابهة وتبين ما أشكل منها، حيث يقول رحمه الله، تأملت أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين، وفتشت على أسرارها معاني المتأولين المحققين المتبحرين، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كننها، كيف؟ ولم يقرع بابها، ولم يفتر لهم عن نابلها، ولم يفسر عن وجهها. الرد على الملحدين الطاعنين الذين يزعمون أن في القرآن اختلافا، وأن أسلوبه يتعارض بعضه مع بعض، على الرغم من أن الموضوع واحد، فجاء هذا الكتاب ليبين الحكمة من اختلاف هذا الأسلوب بالتقديم تارة، والتأخير تارة أخرى وبزيادة بعض الألفاظ في موضع دون موضع، نحو ذلك، كما تقدمت الإشارة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ذلك فبذلك يزداد المؤمنون إيمانا بكتاب ربهم، وتطمئن قلوبهم إلى أنه الكتاب المعجز. وإلى هذا السبب يشير المؤلف بقوله: ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلم الملحدين، وفي نهاية الكتاب يقول: هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرق منها إلى عيبها. المطلب الخامس: منهج المؤلف في الكتاب كما علمنا مما سبق أن الخطيب رحمه الله تعالى قد حصر موضوع كتابه درة التنزيل في الآيات المتشابهة لفظا، والتي تتكرر بألفاظ متفقة أو مختلفة دون غيرها من الآيات، وقد صرح المؤلف بذلك في مقدمته. وبعد النظر لا في هذا الكتاب، والتتبع لطرائق المؤلف، والمقارنة بين قضايها نستطيع تقديم صورة علمية لمنهج المؤلف فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الإنشاء والابتكار: فإن المؤلف رحمه الله تعالى يتميز بالاستقلال البارز بما لم يسبق إليه، في توجيه، الآيات المتشابهة لفظا، حيث إنه يعتمد في كتابه هذا الفن تقل عنه، أو تأثر به، كما أبان هو ذلك في مقدمة الكتاب. الترتيب: سلك المؤلف رحمه الله تعالى في تأليف كتابه درة التنزيل مسلك المفسرين وصنف كتابه على ترتيب السور، والآيات في المصحف الشريف، مبتدئا من سورة البقرة ثم سورة آل عمران، 67 وسورة النساء، وهكذا فيورد اسم السورة ثم يتتبع كل ما تكرر واشتبه من الآيات في تلك السورة مع الآيات في غيرها من السور، فيقول مثلا: سورة البقرة: الآية الأولى منها والآية الثانية منها، والآية الثالثة منها، حتى إذا ما انتهى من سورة البقرة، انتقل إلى السورة التي يليها وهي سورة آل عمران، ثم إلى سورة النساء، وهكذا. وقد بلغ عدد ما تناوله الخطيب في هذا الكتاب من الآيات الأم أربعا وسبعين ومائتين آية، من غير أن يلحق بها في العد ما يشبهها من الآيات، وقد بلغت من الآيات المتشابهة التابعة للأصول السابقة اثنين وخمسين وثلاثمائة آية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الاستدراك على نفسه: انتهج المؤلف أن يذكر المتشابه في الموضع الأول حسب ترتيب المصحف كما قلنا في الترتيب، وقد يستدرك على نفسه فيذكر الآية التي فيها التشابه في الموضع الثاني إذا نسي ذلك في الموضع الأول، وينبه على أن مكانها كان في سورة كذا، وقد حصل ذك منه في مواضع عدة، ومن أمثلة ذلك: تناوله رحمه الله آية سورة النساء، وهي قوله تعالى "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم" [النساء: 13] ، في الحديث عن الآية السابعة من سورة المائدة وهي قوله تعالى " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم" [المائدة: 119] ، وقال " وكان حقها أن تذكر في موضعها لكني لم تحضرني هناك فذكرتها مع أخواتها وإن كان ذكرها مقدما في القرآن". كما رأينا أن المؤلف لما لم يذكر الآية في موضعها الأول، في سورة النساء ذكرها هنا في سورة المائدة. وبهذا يتضح أن ما وضعه ابن الزبير في كتابه ملاك التأويل عند آية سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 النساء السابقة من علامة، وهي غ تدل على أن صاحب الدرة غفل عنها فليس بصحيح، لأن المؤلف رحمه الله استدرك تلك الآية وذكرناها في هذا الموضع من سورة المائدة مع أخواتها، إلا إذا قصد ابن الزبير أن المؤلف ترك ذكرها في موضعها الأصلي من سورة النساء، فهذا صحيح كما قرر المؤلف نفسه ذلك. ويقول في الآية الثامنة من سورة هود: 67 "حكم هذه الآية أن يكون ذكرها في سورة الأعراف، ثم لما تأخرت وجب أن تذكر في سورة العنكبوت، إلا أنا رأيناها بهذه السورة فذكرناها فيها، وهي قوله تعالى: وإلى مدين أخاهم قال يا قوم اعبدوا الله" [هود: 84، الأعراف: 85] ، ومثله في سورة العنكبوت، يخالفه بزيادة إلغاء وهو قوله " وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله" [العنكبوت: 36] ويقول الخطيب في الآسية الأولى من سورة الفرقان: قوله تعالى "واتخذوا من دونه آلهة لا يخلفون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" [الفرقان: 3] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقال قبله في سورة الرعد وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك "قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا" [الرعد: 16] ومن الجدير بالذكر أن الخطيب لم ينفرد بذلك وحده، إذ أن ممن ألف في هذا الفن وقع فيما وقع فيه الخطيب، من نسيان أو غفلة ذكر المتشابه في الموضع الأول، وذكره في الموضوع التالي الذي يشبهه حين يتذكر، وعلى سبيل المثال أن الكرماني تناول آية سورة النحل [96] "ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" في سورة الزمر عند قوله تعالى "ويجزيهم بأحسن الذين كانوا يعملون [الزمر: 35] ، حيث قال في هذا الموضع وكان حقه أن يذكر هناك. طريقة العرض: وقد اتخذ المؤلف رحمه الله تعالى في عرض للآيات المتشابهة التي يريد توجيهها منهجا خاصا، حيث عقد في كل سورة بحثا خاصا لكل آية يعتبرها من نوع التشابه اللفظي، ويذكر معها ما يشبهها من آيات أخرى، سواء كانت من نفس السورة، أو من سور أخرى، ثم يقوم بتوجيه تلك الآيات التي اجتمعت أمامهن على طريقة إثارة السؤال، وتقرير الجواب، والرد على ما يعرض من شبه في هذا المقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وهذا المنهج الذي ابتكره الخطيب في كتابه منهج محدد، تبعه في ذلك من ألف بعده في توجيه الآيات المتشابهة لفظا. ونعرض مثالا صغيرا الحجر ليتضح الأمر أكثر وضوحا في منهج المؤلف في عرض الآيات المتشابهة: فلدى تعرضه مثلا لما بين آية سورة النساء وآية سورة النساء وآية سورة الأحزاب من تشابه، 68 يستهل كلامه على النحو التالي: الآية الخامسة منها: قوله عز وجل: إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا" [النساء: 149] وقال في سورة الأحزاب [45] " إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما" للسائل أن يسأل عن الآية الأولى لم خص فيها "خيرا" ولم عم في الثانية بلفظ "شيء"؟ والجواب أن يقال: إنما خص في هذا الموضع الخير بالابجاء لأنه بإزاء السوء الذي قال فيه " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" [النساء: 148] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 والمعنى لا يحب الله أن يجهر بالقول السيئ غير المظلوم، وهو أن يدعو على من ظلمه أو أن يخبر بظلمه له، أو أن ينتصر منه بسوء مقاله فيه فقال: إن أبديتم ثناء وذكر جميلا لمن يستحقهما أو أخفيتموهما أو سكتم عمن أساء إليكم بالعفو عنه فإن الله مع قدرته كثير العفو عن حليفته فتقتضت في هذه الآية المقابلة أن يجعل بإزاء السوء الخير. وأما في الآية التي في الأحزاب قبلها تحذيرا من إضمار ما لا يحسن إضماره في قوله عز وجل " والله يعلم ما في قلوبكم" [الأحزاب: 51] وقوله: " وإذا سألتموهن متعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" [الأحزاب: 35] ، فاقتضى هذا المكان العموم، فقال تعالى: أن تبدوا مما حذرتكن شيئا أو تخفوه" فإن الله كان بكل شيء عليما" لم يزل عليما بما يكون لعلمه بما كان. ويتكرر في صفحات الكتاب كما في المثال السابق وعلى وثيرة واحدة ابتدءا المؤلف المسألة بعبارى للسائل أن يسأل فيقول أو للسائل أن يسأل عن كذا، أو نحو ذلك ويبدأ الإجابة وغالبا بعبارة الجواب أن يقال الجواب عن ذلك أن يقال ثم يأتي الجواب، أو تتوالى الأجوبة على السؤال الواحد، إن اقتضى الأمر التفريغ والتنويع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الأدلة والشواهد: إن المؤلف رحمه الله تعالى كان يوجه كلامه غالبا بما يشهد له من القرآن الكريم أو الحديث والأثر أو شعر العرب على النحو التالي: القرآن الكريم 69 مما يلفت الانتباه في كتاب درة التنزيل وغرة التأويل أن مؤلفه يكثر من الاستدلال والاستشهاد بالآيات القرآنية على ما يقول. وعلى سبيل المثال يتحدث المؤلف رحمه الله عن الفائدة في تقديم "بالقسط" على "شهداء" في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" [النساء: 135] وتأخيره عنه في قوله تعالى " يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط" [المائدة: 8] ويقول: وأما الآية التي في سورة المائدة فإن فحواها يدل على أنها للولاة: فقال "كونوا قوامين لله" لا لنفع ويكون "بالقسط متعلقا بقوامين أي: كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل والحكم به في حال كونكم شهداء أي: وسائط بين الخلق والخلق أو بين النبي ص وأمته كما قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " [البقرة: 136] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الأحاديث والآثار: كان الخطيب مقلا من الاستشهاد بالحديث والأثر، وما قلة شواهده من الحديث والأثر إلا دليل عدم ربط التوجيه في الآيات المتشابه بهما كثيرا، لأن موضوع الكتاب كان منصبا على معرفة الحكمة والسر في التغير الحاصل في بعض ألفاظ القرآن الكريم للقصة الواحدة أو الموضوع الواحد، من تقديم وتأخير، أو جمع وإفراد، وإلى غير ذلك من أنواع التشابه. ومن الأمثلة التي تدل على استشهاده بالحديث الشريف ما جاء في الآية الثامنة عشر من سورة البقرة: قوله تعالى "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقبربوها" [البقرة: 187] . وقال في موضع آخر من هذه السورة "تلك حدود الله فلا تعتدوها" [البقرة: 229] وفي هذا الموضع يقول الخطيب: للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختص الموضع الأول بقوله "فلا تقربوها" والموضع الثاني بقوله " فلا تعتدوها؟ الجواب أن يقال: الأول خرج على أغلظ الوعيد كما قال ولا تقربا هذه الشجرة [البقرة: 35] وإنما كان نهى عن أكلها لا عن الدنو منها، فخرج مخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قول القائل إذا نهى عن الشيء وشدد الأمر فيه لا تقترب هذا الشيء وما أحسن ما قال النبي في المنع من مقاربة الحرام من 70 رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وكذلك الأمر في الآثار فإنه لم يورد منها إلا قليلا ومن الأمثلة على ذلك ما أورده عن قتادة في الموضع الذي بحث فيه عن الفرق بين قوله تعالى يحرفون الكلم عن مواضعه [المائدة: 13] ، وبين قوله تعالى من بعد مواضعه [المائدة: 41] حيث قال في هذا الموضع: ... ويحتمل أن يكون المراد ما ذهب إليه أكثر أهل التفسير، وهو أن قوما أرسلوا هؤلاء إلى النبي في قصة زان محصن فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه. وقال قتادة: كان هذا في قتيل منهم فقالوا: إن أفتاكم محمد بالدية فأقبلوه، وإن أفتاكم بالقود فاحذروه. والخطيب رحمه الله يورد الأحاديث والآثار بدون أسانيدها، ولا يذكر درجة ما أورده من الروايات، وإنما يقول على سبيل المثال: قال قتادة، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الحسن..، كما فعل بعض المفسرين مثل الماوردي في تفسيره النكت والعيون. قد قمت بفضل الله تعالى بتخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها بقدر الإمكان في مواضعها. ج- الشعر العربي: إنه بعض الأحيان يوجه كلامه بما يستشهده بشعر العرب، لأن الشهر ديوان العرب، وفيه تفسير معاني كتاب الله تعالى، والقرآن نزل بلسان عربي مبين. ومن أمثلة ذلك ما ذكره في سورة المائدة عند تناوله قوله عز وجل: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة: 9، وما يشبه من قوله تعالى في آخر سورة الفتح 29: (.. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) حيث قال: للسائل أن يسأل فيقول: لم رفع قوله (مغفرة وأجر عظيم) في الآية الألى، ونصب في الثانية؟ والجواب أن يقال: لقوله تعالى (لهم) في الأولى، وقوله: (منهم) في الثانيةفائدة، وذلك أنه لما قال في الأولى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) علم أنهم وعدوا بما هو حق لهم، فعدل عن ذكر المفعول إلى جملة تضمنت معناه، والجملة ابتداء وخبر، وهي في موضع مفرد منصوب، كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا مغفرة، ومثله قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 .. ... 2*2*2*2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقيل: تلووا بمعنى تمطلوا، من لويت الغريم إذا دفعته، كأنه قال: إن تدفعوا الشهادة ولم تؤدوها وقت الحاجة إليها. ومن قرأ تلوا بضم اللام وواو واحدة فالمعنى: إن تلوا أمر الناس، ومن الولاية، أو تتركوه. وسجوز أيضا أن يكون الأصل تلوا فأبدلت من واو المضمونة همزة، ثم خففت بإلقاء حركتها على الام، وحذفها وإن كان هـ\امستضعفا في الهمزة العارضة. ومما بحث فيه قوله تعالى في سورة البقرة 58: (..نغفر لكم خطاياكم..) ، وقوله تعالى سورة الأعراف 161: (..نغفر لكم خطيئاتيكم..) ، وقال رحمه الله: وأما المسألة الثانية فجمعه للخطيئة على الخطايا في سورة البقة، وعلى الخطئات في سورة الأعراف على قول أكثر القراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 7- عدم التفات لأسباب النزول إلا عند المناسبة: لا يلتفت رحمه الله كثيرا إلى ذكر أسباب نزول الآيات، ولكنه لا يغفل عندما يدعو الأمر إلى ذلك، كما أنه لا يذكر سبب النزول إلا بشيء من التحفظ، فيقول: روي، أو قييل..، يحمل المسؤولية على الذين رووه. 8- تفسير بعض الكلمات الغريبة لتوضيح المعنى والتوجيه الذي ذكره: وإذا أردت أن ترى بين يديك نصوصا لغوية من نصوص الخطيب في كتابه الدرة لتتبين بنفسك كونه إماما في اللغة، فإليك ما قاله في معنى العلي، وفي معنى الهلوع، وما ذكره في معنى الدأب، وفي الفرق بين الضلالة والسفاهة: قال رحمه الله تعالى: وأما قوله: (إنه علي حكيم) فالعلي: القادر على الشيء، القاهر له، ولذلك قال الشاعر: اعمد لما تعلو فما لك بالذي لا تستطيع من الأمور يدان فجعل بإزاء تعلوا: لا تستطيع، فالقادر على الشيء أتم قدرة يكون عاليا به قاهرا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال رحمه الله تعالى في معنى الهلوع: والجواب الذي أذهب إليه أن الهلع أصله التسرع والقلق نحو الشيء، فالحريص، يهلع، والجزوع يهلع، أي: يتسرع إلى تمكين الحزن من نفسه، .... والحريص يتسرع إلى مشتهاه، اتباعا لهواه، وإن كان فيه رداه، والإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال، لأنه يتسرع إلى الثدي، ويحرص على الرضاع، وإن مسه ألم جزع وبكى، وإن تمسك بثدي فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء، فلا يزال يفعل ذلك حتى يرد @@@ 72 إليه الخير الذي كان له، ثم هو على ذلك إلى آخر عمره، والهلع في كلام العرب أصله: القلق والتسرع في الحرص والجزع، يقال: ناقة هلواع: أي مسرعة، وظلمان هو الهلع: أي مسرعات. اهـ. وقال رحمه الله تعالى في معنى الدأب: الدأب، أصله الهمز، وهو العادة، وما يجري عليه قوم في معاملة. وقال رحمه الله تعالى في الفرق بين الضلال والسفاهة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والضلال من صفات الفعل، تقول: ضل فهو ضال، والسفاهة من صفات النفس، وهي ضد الحلم، وهي معنى ثابت يولد الخفة والعجلة المذمومتين، والحلم معنى ثابت يولد الأناة المحمود. 9- التحقيق والتمحيص لما ينقل من الآراء: تظهر شخصية الخطيب في نقده الصريح والخفي لآراء بعض العلماء، بعبارات تدل على أنه كان مجتهدا، ولم يكن ناقلا أو معتمدا على آراء غيره تمحيص وتحقيق، مثل قوله: فليس بشيء.. أو باطل. ومن ذلك ما قاله في معرض بيان وجه الحكمة عن مجيء قوله تعالى (بلدا) نكرة في سورة البقرة، ومعرفة (البلد) في سورة إبراهيم. فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة، كما تقول: رأيت رجلا، فأكرمت الرجل، فليس بشيء، وليس ما ذكره مثل هذا المكان مكانه. مما يدل أيضا على أن المؤلف ناقد محقق ما جاء في سورة آل عمران عند كلامه عن تذكير الضمير (فأنفخ فيه) ، وتأنيثه (فتنفخ فيها) ، وعن وجه ذكر قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 تعالى: (بإذني) مضافا إلى ضميره سبحانه وتعالى، ووجه ذكر قوله تعالى: (بإذن الله) مضافا إلى الظاهر، وهو لفظ الجلالة، حيث قال في هذا الموضع: مسألة في ذلك: قد قال بعض أهل النظر في معنى هذه الآية: إنما قال: (.. فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحييي الموتى بإذن الله..) ، فذكر إذن الله في هذين الموضعين، ولم يقل بإذن الله في قوله: (..أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) ولا في قوله: (فأنفخ فيه) ولا في قوله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم..) ، لأن ما وصفه من هذه الأفعال إنما هي أفعاله، ولم تكن فعلا لله تعالى، فلهذا لم يذكر أن ذلك كان بإذن الله، كما ذكر الإذن فيما وصفه من @@@ 73 قبل مما فعله الله عز وجل دونه، وذلك أنه لم يعن بالإذن أمره له بأن يطيعه في ذلك، وإنما عنى به أن الله تعالى هو الذي فعله، فلهذا جعل ذكر الإذن فصلا بين فعله وفعل الله تعالى. ثم قال تعليقا على ذلك: قلت ذلك سهوا منه، لأن الذي ذكر أنه لم يذكر معه إذن الله، لأنه من فعل عيسى على نبينا وعليه السلام، فقد نطقت سورة المائدة بخلافه، وهو قوله تعالى: (.. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 طيرا بإذني) المائدة: 110 فسوى بين الفعلين اللذين ذكرهما من حكيت كلامه أنهما مختلفان، وأن أحدهما فعل عيسى عليه السلام، فلهذا لم يذكر معه الإذن، والآخر فعل غيره. ثم قال تعالى: (.. وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني..) المائدة: 110. فذكر الإذن في أربعة مواضع لأفعال عيسى عليه السلام، وهذا دل على أن ما ذهب إليه من ذكرت كلامه بذكر الإذن في فعلين من سورة آل عمران على أنهما فعل الله تعالى وما لم يذكر معه الإذن فعل عيسى عليه السلام باطل. 10- عدم الإلتزام بعزو الأقوال لأصحابها مع أمانة النقل: يذكر الأقوال أحيانا دون ذكر أصحابها، ولا يلتزم رحمه الله تعالى بعزوها إلى أصحابها نقلها، ولكنه لا يتصرف في الأقوال التي ينسبها إلى أصحابها، بل يوردها كما هي. ومن الأمثلة على ذلك: نقله عن الزجاج ت 311هـ في الموضع الذي تحدث فيه عن الفرق بين قوله: (ثلاثة رابعهم) ، (وخمسة سادسهم) بلا واو، وبين قوله: (سبعة وثامنهم) بالواو، حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقد سوى النحويون بين الجملة التي تجري صفة للنكرة، أو حالا للمعرفة إذا كان فيها ذكر الأول في أن دخول الواو عليها، وحذفها منها جائزان قال الزجاج: دخول الواو هاهنا، وإخراجها من الأول واحد. وهذه العبارة التي نقلها الخطيب عن الزجاج موجودة حرفيا في كتاب معاني القرآن للزجاج، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على دقته في إسناد القول إلى صاحبه، وتقيده بعبارة من ينقل عنه. 11- يقف الخطيب مرجحا، معللا، مختارا، حيث إننا كثيرا ما نراه ويرجح وجها من الوجوه المتعددة التي يعرضها في المسائل النحوية، مع تعليل لهذا الإختيار. وعلى سبيل المثال حين كان يتحدث عن رفع قوله: (الصائبون) في سورة المائدة قال: @@@ 74 فرفع الصائبون ونوى به التأخير عن مكانه، كأنه قال بعد ما أتى بخبر: أن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصائبون هذه حالهم أيضا، وهذا مذهب سيبويه، لأنه لا يجوز عنده ولا عند المصريين، وكثير من الكوفيين إن زيدا وعمر قائمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثم رجح رأي سيبويه حيث قال:.. إن إن لها عملان، النصب والرفع على مذهب البصريين، وأن لها عملا واحدا عند الكوفيين، وهو النصب إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهذه الآية تدل عليه، لأنه قدم فيه الصائبون والنية بها التأخير على مذهب سيبويه، وإنما قدم اللفظ وأخر في النية، لأن التقديم الحقيقي التقديم لكتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم السلام.. 12- التركيز على نقد الآراء لا الأشخاص: إلتزم المؤلف رحمه الله بأخلاق الإسلام، وأدب العلماء، وذلك بعدم التصريح باسم من ينقده، وإنما قصر كلامه على نقد الرأي في ذاته، كما نرى ذلك في الآية الأولى من سورة القمر حيث قال: للسائل أن يسأل عن قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) في ابتداء قصة عاد وتكريه في آخرها؟ وقد سئل عن ذلك بعض أهل النظر فأجاب بأن الأول ليس هو تخويفا لعاد وأن الثاني لها، فلا يكون تكريرا، إذ جعل كل واحد من الخبرين خبرا من غير ما أخبر به عن الآخر وهذا الذي ذهب إليه لا وجد له، لأنه قال: (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا..) القمر 18-19 فلا يصح أن تدخل الفاء في قوله: (فكيف كان) عقيب إخباره عن عاد بأنها كذبت ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وهذه أبرز السمات التي توضح لنا منهج الخطيب في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل ويتضح لنا أيضا من هذا العرض أن الإمام الخطيب صاحب منهج راق في التصنيف والتأليف، شأنه في ذلك شأن العلماء الأجلاء رضي الله عنهم أجمعين. المطلب السادس: مصادر المؤلف في الكتاب: يتبين المطلع على كتاب درة التنزيل وغرة التأويل أن مؤلفه الخطيب رحمه الله تعالى على علم وثقافة عالية، وإطلاع واسع على الكتب والمؤلفات، حيث يقول في مقدمة الكتاب تأملت أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين..، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كنهها. والحقيقة ليس هناك أي تصريح هناك أي تصريح في مقدمة الكتاب ولا في داخله بأي من أسماء @@@ 75 المصادر التي قد يكون استقى منها المؤلف معلومات في توجيه الآيات المتشابهة. لكننا إذا تتبعنا ما في الكتاب نلمح بوضوح أن المؤلف اعتمد ولو كان قليلا على أقوال بعض المفسرين من الصحابة والتابعين، وكذلك اعتمد على أقوال بعض أئمة اللغة والنحو في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وذكر الخطيب رحمه الله من المفسرين بعض أسماء أعلام الصحابة والتابعين، مثل ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وقتادة والسدي، ولم يذكر كتبا معنة. أما في الجانب اللغوي والنحوي فقد ذكر الخطيب على قلة عددا من أسماء الأئمة المعروفين مثل: الخليل بن أحمد، وسيبويه، والزجاج، والفراء، والمبرد، وقد يصرح أحيانا بأسماء كتبهم التي رجع إليها. فقد ورد ذكر كتاب العين للخليل بن أحمد في درة التنزيل مرة واحدة وذلك عند بيان معنى اللهو، وفي هذا الموضع نقل صاحب الدرة عنه، حيث قال: واللهو، قال فيه صاحب العين: ما شغل الإنسان من هوى وطرب. ومن مصادره النحوية: الكتاب لسيبويه، والمتقضب لأبي العباس المبرد، ومعاني القرآن للزجاج، ومعاني القرآن للفراء. أما كتاب سيبويه فهو المصدر الأول للخطيب في قضايا النحو كما أنه مصدر أساسي لمن بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وكتاب المقتضب لأبي العباس المبرد، وهو مخصص للنحو فقط، وله كتاب آخر في النحو واللغة والأدب وهو الكامل وقد وجدت أن الخطيب في درة التنزيل نقل عن المبرد رأيا واحد من غير أن يذكر اسم الكتاب، وعثرت عليه في كتابه المقتضب. وكتاب معاني القرآن للزجاج كان من المصادر الأولى التي اعتمد عليها الخطيب في كتابه الدرة، وكان تأثر الخطيب بكتاب الزجاج واضحا، رغم أنه رحمه الله صرح باسم الزجاج مرة واحدة، ولكنني اكتشفت مواضع أخرى اتفقت فيها عبارات الخطيب مع العبارات التي وجدتها في معاني القرآن للزجاج وإن لم يشر إليه الخطيب صراحة. وكذلك معاني القرآن للفراء، كان الخطيب يرجع إليه، في بيان مذهب أهل الكوفة النحوي، ونلاحظ أن الخطيب مع انتمائه للمذهب البصري في النحو يجوز رأي الفراء الذي يعتبر إماما في النحو الكوفي، ولا يدل هذا إلا على اهتمام الخطيب بآراء الفراء النحوية، وعلى سعة أفقه العلمي حيث لم يتعصب لمذهبه فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 @@@ 76 المطلب السابع القيمة العليمية، وأثره: تأتي أهمية كتاب درة التنزيل وغرة التأويل من كونه أول كتاب وصل إلينا خالصا لتوجيه وتفسير الآيات المتشابهة في القرآن الكريم. وقد أشار الخطيب في مقدمة كتابه الدرة إلى أنه لم يجد أحدا من العلماء قبله، تناول هذا النوع من التأليف، وأقره على ذلك ابن الزبير ت 708هـ في كتابه ملاك التأويل، وصرح بأن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب أول كتاب عرف من بين الكتب المؤلفة في توجيه الآيات المتشابهة لفاظا، ولم يعرف قبله كتاب آخر في موضوعه. هذا، ومن ناحية أخرى فإن أهمية كتاب الخطيب لا تقتصر على سبقه وحسب، بل تظهر فيما انطوى عليه من توجيهات علمية سديدة، وفوائد نادرة، تكشف عن كثير من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، وتبرز عظمة القرآن في مبانيه ومعانيه، وما أودعه الله تعالى فيه من دقائق الأساليب، وجوامع الإحكام والإتقان، ومراعاة أدق الفروق عند استعمال الألفاظ، في القصص والأخبار المكررة، التي طعن الملحدون في القرآن الكريم بها، لأنهم يجهلون أسرارها، وما وراءها، ومن جهل شيئا عاداه كما قيل بحق. وقد جاء هذا الكتاب فريدا في شموله لكثير من الآيات التي تتكرر وتشبه على بعض الناس، وفي منهج تأليفه التوجيهي الدقيق، وهو يضم في أعطافه وثناياه ما يهب القارئ ملكة التفهم لأسرار هذا الكتاب العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وإذا أراد الإنسان أن يتعلم الرد على الطاعنين في أسلوب القرآن من ناحية اشتماله على الآيات التي تتكرر بألفاظ تتفق أحيانا، وتختلف أحيانا أخرى، فإنه يجد بغيته في هذا الكتاب، لأن مؤلفه رحمه الله تعالى قدم من خلال هذه الآيات حلولا كثيرة، لما قد يثيره بعض الملحدين من مشكلات لغوية، ونحوية، وأسلوبية. والكتاب أيضا ذو فائدة كبيرة في بعض المسائل النحوية واللغوية، فإنه تطرق إلى شرح بعض الكلمات القرآنية الغريبة، وذكر بعض قضايا النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أثر الكتاب في اللاحقين عليه: تقبل العلماء قديما وحديثا كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب بالقبول الحسن، وكان ولا يزال عمدة العلماء في موضوعه، بل هو أنموذج فريد لما جاء بعده، لأنه كتاب متمحض للبحث في توجيه الآيات المتكررة والمشتبهة بحثا شاملا، فلا عجب أن ترك أثره الكبير فيمن صنف بعد @@@ 77 الخطيب في هذا النوع من التأليف. فلقد استفاد من درة التنزيل العلماء الذين داروا في فلك موضوع هذا الكتاب، ونهلوا منه، فاستفاد منه أصحاب الكتب المتخصصة في توجيه الآيات المتشابهة إلى حد كبير، والمفسرون، وغيرهم، سواء ذكروا الكتاب ومؤلفه، أم تركوا ذلك، لأنه كما أشرنا سابقا أن كتاب درة التنزيل يعتبر أساسا للكتب المؤلفة في موضوعه، ولم نعرف إلى الآن من سبقه إلى التأليف مستقلا. وقد صرح بذلك الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي وبين ما قلناه من أصالة، وأهمية لكتاب الدرة في موضوعه حيث يقول: .. بقي هنا نكتة، وهو أنه جمع اللهو واللعب في آيات، فتارة قدم اللعب كما هنا، وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت، فهل لهذا التفنن نكتة خاصة أم لا؟ فأبدى بعضهم لذلك نكتة وزعم أنها من نتائج أفكاره، وليس كما قال: فإنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 مذكورة في درة التنزيل، وهو أبو عذرته في هذا الفن..، ثم يقول في آخر نفس الصفحة: وإن أردت التفصيل فطالع درة التنزيل. اهـ. وقد ظهر أثر كتاب درة التنزيل في الكتب المؤلفة بعده واضحا في صور: أولها: التأثر باقتفاء أثره في التأليف في هذا الفن، ومتبعة خطاه، والسير على طريقته التي ابتكرها، مع إضافة ما يفتح الله به على اللاحق، وللسابق فضل العلم والسبق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ثانيها: التأثر المصرح به، أي: نقل الرأي منسوبا إلى الخطيب، وقد نقل الكرماني في كتابه البرهان عن الخطيب مصرحا باسمه في ستة عشر موضعا، وأحيانا ينقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عنه دون التصريح باسمه بعبارات متفقة في الكتابين. ثالثها: التأثر غير المصرح به، أي نقل الرأي دون ما عزو له إلى قائله. وبعد تقص وتمحيص ومقارنة تبين لي أن جل الآيات التي تناولتها الكتب المؤلفة بعد الخطيب تكاد تتفق في عناوينها ومضمونها مع ما جاء في درة التنزيل، بل إن قوة التشابه بلغت في بعض الأحيان حد التطابق في العبارة، الأمر الذي يؤيد الشوط الكبير لتأثر الكتب بعد الخطيب بكتابه درة التنزيل. وأذكر هنا مثالا من الدرة على صعيد التوجيه، ثم أنقل ما قاله أصحاب الكتب المؤلفة بعد الدرة لنتأكد أن الالتقاء بين كتاب الدرة للخطيب والكتب الأخرى المؤلفة بعد الدرة واضح إلى حد كبير، ولكي يتجلى لنا أيضا مدى أثر كتاب الخطيب في اللاحقين عليه، خلال بضعة قرون. @@@ 78 يقول الخطيب: الآية الحادية عشرة منها. قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا اله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) الأنعام: 102. وقال في سورة المؤمن 62: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا اله إلا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فأنى تأفكون) . للسائل أن يسأل فيقول: لماذا قدم في سورة الأنعام (لا اله إلا هز) على قوله: (خالق كل شيء) ، وقدم في سورة المؤمن: (خالق كل شيء) على قوله: (لا اله إلا هو) ؟ والجواب أن يقال: لأن ما في السورة جاء بعد قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم..) الأنعام: 100، فلما قال: (ذلكم الله ربكم) أتى بعده بما يدفع قول من جعل لله شريكا، فقال: (لا إله إلا هو) ثم قال: (خالق كل شيء) . وفي سورة المؤمن جاء هذا بعد قوله تعالى: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) غافر: 57، فكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان، لا على نفي الشريك عنه هنا، كما كان في الآية الأولى، فكان تقديم (خالق كل شيء) هاهنا أولى. اهـ ويقول الكرماني ت 505هـ في هذا الموضع وهو من أوائل من نقل عن درة التنزيل: قوله تعالى: لكم الله ربكم لا اله إلا هو خالق كل شيء) الأنعام: 102. وفي هذه السورة، وفي سورة المؤمن 62: (خالق كل شيء لا اله إلا هو) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قدم (لا إله إلا هو) في هذه السورة، لأن فيما قبله ذكر الشركاء والبنين والبنات، فدفع قول قائليه بقوله: (لا إله إلا هو) ، ثم قال: (خالق كل شيء) . وفي المؤمن قبله ذكر الخلق، وهو لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) غافر: 57، فجرى الكلام على إثبات خلق الناس، لا على نفي الشريك: فقدم في كل سورة ما يقتضيه ما قبله من الآيات. وقال ابن الزبير ت 708 هـ في نفس الموضع: والجواب عن ذلك: أن آية الأنعام لما تقدم فيها قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) الأنعام: 100 وقوله تعالى: (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) الأنعام: 101 كان الملائم نفي ما جعلوه وادعوه من الشركاء، والصاحبة والولد، فقدم ما الأمر عليه من وحدانيته سبحانه وتعالى عن الشركاء، والولد فقال: (لا اله إلا هو) وعرف العباد @@@ 79 بعد بأن كل ما سواه سبحانه خلقه وملكه فقدم الأهم في الموضع. وأما آية غافر فتقدمها قوله تعالى: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) غافر: 57 ثم قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا..) غافر: 61، فلما تقدم ذكر الخلق الأعظم ولم يتقدم هنا ما تقدم في آية الأنعام ما أتبع بالتنبيه على أنه سبحانه خالق كل شيء فكان تقديم هذا التعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هنا أنسب وأهم، ثم أعقب بالتعريف بوحدانيته تعالى فجاء كل على ما يجب ويناسب.. وقال الحسين بن محمد النيسابوري ت 728هـ في تفسيره غرائب القرآن: وإنما قال ههنا: (لا إله إلا هو خالق كل شيء) الأنعام: 102 وفي المؤمن بالعكس، لأنه وقع ههنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات، فكان دفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض، فكان تقديم الخالقية أهم. وقال ابن جماعة ت 733هـ في الموضع السابق: لما تقدم هنا: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم..) الأنعام: 100 فناسب تقديم كلمة التوحيد النافية للشرك ردا عليهم، ثم ذكر الخلق. ولما تقدم في المؤمن كونه خالقا بقوله تعالى: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) غافر 57 ناسب تقديم كلمة الخلق ثم كلمة التوحيد. وقال الآلوسي ت 1270 هـ رحمه الله تعالى في هذا الموضع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال بعض المحققين: لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء) الأنعام: 100، فلما قال جل شأنه: (ذلكم الله ربكم) أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا: (لا اله إلا هو) الأنعام: 102 ثم (خالق كل شيء) الأنعام: 102 وتلك جاءت بعد قوله سبحانه: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) غافر: 57، فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره، لا على نفي الشريك عنه جل ش"أنه كما كان في الآية الأولى، فكان تقديم (خالق كل شيء) هناك أولى، والله تعالى؟ أعلم بأسرار كلامه. وقد نقل الفخرالرازي ت 606هـ في تفسيره المسمى ب مكفاتيح الغيب عن كتاب درة التنزيل من غير عزو إليه باختلاف يسير في الألفاظ، حيث جاء فيه. قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة: 48، اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب @@@ 80 والشدائد، لأن نفس اليوم لا يتقي، ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعا، فالمراد ما ذكرناه. ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلا، وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلك ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته. فإن رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 من لا طاقة له بمانعته عاد بوجود الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة. فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله إما مال أو غيره وإن تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والإخوان، فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الإخوة. اهـ كلام الفخر الرازي. فلما رجعت إلى كتاب الخطيب في درة التنزيل وجدت هذه العبارات التي ذكرها الرازي في هذه المسألة متفقة في أكثرها مع عبارات الخطيب في الدرة وأرى من المناسب أيها القارئ أن أنقل لك كلام الخطيب في درة التنزيل حتى تقارن بين كلامه وكلام الرازي، فتعرف مدى تأثر الفخر الرازي بالخطيب الإسكافي. قال الخطيب في كتابه درة التنزيل: والوجه في الأول أنه لما قال: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) بمعنى: لا يغني أحد عن أحد فيما يلزمه من العقاب ولا يكفر سيآته ما له من الثواب، وهو كقوله عز من قائل: ( ... واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ... ) لقمان: 33 فهذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية امتناع وقوعها في الآخرة أربعة أنواع تتقى بها المكاره وتتداوى بها الشدائد، ألا ترى العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وارتهنت نفسه بعظيمة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه وتخليص منه بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فذبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عنه كما يذب الوالد عن وده بغاية قوته وجلده، فإن رأى من لا قبل له بممانعته ولا يد له بمدافعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف المسألة والشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان ولم تنجه الخلتان من الخشونة واللين لم يبق بعدهما إلا فداء الشيء بمثله، وفكه من الأسر بعدله إما بمال وإما بغيره، فإن لم تغن هذه الثلاثة في العاجلة تعلل بما يرجوه من نصر في الآجلة، وإدالة في الخاتمة، كما قال تعالى: ( ... ثم بغي عليه لينصره الله) الحج: 60 وقال تعالى: ( ... فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) الإسراء: 33 على أحد وجوه التفسير، فأخبر الله تعالى أن ما يغني في هذه الدنيا عن المجرمين، وترتب هذه المراتب بين العالمين، لا يغني منه شيء في الآخرة عن الظالمين. @@@ 81 * هذه بعض أمثلة مما نقلها هؤلاء العلماء من درة التنزيل وما ضمنوه نصوص في مؤلفاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وهكذا نرى التأثير الواضح لكتاب درة التنزيل على من بعده، واستمرار هذا التأثير عبر القرون المتتالية، ونفوذه إلى أئمة التأليف في هذا الفن، وإلى أئمة التفسير، وما ذلك إلا لأصالة ما حواه كتاب درة التنزيل من علم مكين، وما سطره الخطيب من تحقيق وتحرير، فحرم الله أئمتنا الأعلام، ورضي عنهم أجمعين. المطلب الثامن: المآخذ على الكتاب أشرت من قبل إلى أهمية الكتاب وسعة انتشاره وتداوله بين الناس، فلأذكر الآن ما يؤخذ عليه استكمال لدائرة دراسته، لأن كل عمل بشري من غير المعصوم لا بد أن يكون فيه نقص وعليه مآخذ، ومن المآخذ التي تؤخذ على هذا الكتاب ما يلي: 1- مبالغة المؤلفة رحمه الله، وتوسعه في القضايا النحوية، والقضايا اللغوية، وعدم اقتصاره على ما هو بصدده، من توجيه الآيات التي فيها تشابه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 تقديم وتأخير، أو تعريف وتنكير، أو زيادة وحذف..، وبيان الحكمة في تكرير بعض الآيات بالكلمات المتفقة أو المختلفة. ولا شك أن هناك قضايا نحوية يضيفها الشيخ في كتابه، القصد منها توجيه ما يراه من تشابه واشتباه في بعض الآيات القرآنية، ومثل هذه الأمور يجدها القارئ في ثنايا الكتاب، هي زيادات تنبئ عن شخصية المؤلف العلمية، وتدل على مدى تعمقه في اللغة والنحو. لكن محل النقد هو توسعه واستطراده في هذا اللون، زيادة على المطلوب في الموطن الذي يبحثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 2- التكرار، وهذا قليل، ولم يكن إلا مرتين أو ثلاث مرات، فقد درج الخطيب على الإلتزام ترتيب السور والآيات، وهذه الطريقة إذا كان لها كثير من المزايا فإنها في بعض الأحيان توقعه في التكرار، بأن يتناول الآية مع ما يشبهها من آية أو آيات في موضعين حيث يعيد في الموضع الثاني بعض الآيات التي تناولها في الموضع الأول، بألفاظ متقاربة. 3- تناوله بعض الآيات بالتطويل أخرجه عن نطاق الموضوع، وهو توجيه الآيات المتشابهة لفظا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وعلى سبيل المثال: أنه رحمه الله تطرق إلى معنى قوله عز وجل: (إن يكن غنيا أو فقيرا) النساء: 135، وكذلك معنى قوله تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا..) النساء: 135، في الموضع الذي لا يستدعي المقام ذكر هذا كله، حيث إنه كان يتحدث في هذا الموضع عن الفائدة في تقديم (بالقسط) على (شهداء) في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء @@@ 82 الله) النساء: 135، وتأخيره عنه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط..) المائدة: 8. 4- وهناك جانب آخر وهو الإطناب في الجواب، مما يسبب أحيانا اضطرابا في الكلام. وعلى سبيل المثال يبحث رحمه الله في الآية العشرين من سورة البقرة عن الحكمة في كيفية اختلاف اللفظ في المواضع الثلاثة التي موضوع كل منها واحد، وهو البعث والحث على الجهاد في حدود أربه صفحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ويأتي الكرماني صاحب كتاب متشابه القرآن ويستخلص كلام الخطيب ويقول: أطنب الخطيب في هذه الآيات: ومحصول الكلام أن الأول للنبي والمؤمنين. والثاني للمؤمنين والثالث: للمخاطبين. 5- عدم وضوح العبارة في بعض الأحيان حيث إن الخطيب قد تبدر منه أحيانا بعض العبارات الغامضة، فقد يقدم ما يستحق التأخير، وقد يختصر في العبارة مما يخل المعنى، ولكن يخفف من حدة هذا أن عبارته مستقيمة في أكثر الأحيان، ولعل هذا المأخذ راجع إلى أخطاء النساخ. 6- عدم تصريح الخطيب بمن يأخذ عنه، أو كر رأيه أحيانا، حيث يقول مثلا: قال بعض أهل النظر، وأكثر أهل التفسير،.. ولم يوضح أسماء من نقل عنهم. وهذه بعض الأمور التي لاحظتها خلال دراستي لكتاب درة التنزيل لأبي عبد الله الخطيب، منها ما تكون في صميم جوهر العمل، ومنها ما تكون جانبية، أو شكلية، ولا تقلل من قيمة الكتاب، ولا تضعف الثقة به، بل سيظل مصدرا أساسيا مهما لمن يصنف في توجيه الآيات المتشابهة لفظا. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الفصل الثالث وصف النسخ ومنهج التحقيق فيه مبحثان: المبحث الأول: وصف النسخ فيه مطلبان المطلب الأول: وصف النسخ المطبوعة. المطلب الثاني: وصف النسخ المخطوطة. المبحث الثاني: منهج التحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المبحث الأول @@@ 83 وصف النسخ المطلب الأول: وصف النسخ المطبوعة. تحقيق كتاب درة التنزيل وغرة التأويل اقتضاني أن ألقي ضوءا على تاريخ نشره في تفصيل عملي. وقد طهر الكتاب قبل تحقيقي عن طريق المطبعة في أربع طبقات، هي كما يلي: الطبعة الأولى: لقد طبع هذا الكتاب القيم سنة 1326هـ - 1908م في مطبعة السعادة بمصر باعتناء الشيخ عبد المعطي السقا، أحد علماء الأزهر الشريف رحمه الله وأجزل مثوبته. ومحقق هذه الطبعة قد اعتمد في تصحيح الكتاب على مخطوطتين، حيث جاء في غلاف النسخة المطبوعة: تنبيه: صحح هذا الكتاب على نسختين: الأولى محفوظة برواق السادة الأتراك. والثانية بالكتبخانة الخديوية بمصر حضرة الفاضل الشيخ عبد المعطي السقا، أحد علماء الأزهر الشريف. ولكن ليس هناك أي وصف لهاتين النسختين اللتين ذكرهما، وأستطيع القول إن مصحح هذا الكتاب ربما لم يقف على نسخة كاملة من مخطوطاته، ولذا فالكتاب المطبوع فيه سقط كبير مهم، وذلك يبدأ من النصف الأخير للآية الرابعة من سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 البقرة، والجزء الكبير من الآية الخامسة، والمصحح أشار إليه في موضعه بوضع نقاط كثير هكذا: ( .......... ) . وهذه الطبعة في مجلد واحد في 398 صفحة، بدون أي مقدمة عن الكتاب أو عن المؤلف، وقد جاءت خالية أيضا عن أي تعليق، أو تخريج، أو توضيح في المواضع التي تحتاج إلى ذلك، ومع ذلك نلاحظ فيها أحيانا ذكر بعض الفروق بين النسخ أثناء الكتاب. وجاء عنوان الكتاب في هه الطبعة هكذا: كتاب درة التزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز للشيخ الإمام أبي عبد الله الخطيب الإسكافي المتوفي سنة 421 هـ. رواية الإمام إبراهيم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الطبعة الثانية: الطبعة الثانية لهذا الكتاب بعد سنة من ظهور الأولى، حيث كانت في سنة 1327هـ- 1909م في @@@ 84 مطبعة محمد محمد مطر الوراق بمصر أيضا. وكلتا الطبعتين الأولى والثانية طبعت على نفقة أحمد ناجي الجمالي، ومحمد أمين الخانجي الكتبي وأخيه، وقد تيسر لي الحصول عليهما عن طريق شقيقي سليمان حفظه الله تعالى. والحقيقة أن هاتين الطبعتين نسخة واحدة، إلا أن في الثانية استدرك السقد الموجودة في الآية الرابهة والخامسة من سورة البقرة، وليس أي إضافة أخرى. وجاء في ورقة العنوان من هذه الطبعة: كتاب درة التزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد الخطيب الإسكافي المتوفي سنة 421 هـ. رواية الإمام إبراهيم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 تنبيه: صحح هذا الكتاب على ثلاث نسخ، الأولى محفوظة برواق السادة الأتراك، والثانية بالكبتخانة الخديوية بمصر، والثالثة منسوخة من نسخة من مكتبة الحنبلية بالقدس الشريف. ونلاحظ في هذا الطبعة عدم وجود أذكر لمن اعتنى بإخراج الكتاب. الطبعة الثالثة والرابعة: بعد الطبعتين المصريتين السابقتين أعيد طبع هذا الكتاب في بيروت في دار الآفاق الجديدة مرتين، أولاهما في سنة 1973م، وكانت الثانية في سنة 1979م. وهاتان الطبعتان لا تختلفات عن بعضهما البعض، وكلتاهما مأخوذة بحروفها عن الطبعة الأولى المصرية التي طبعت بعناية الشيخ عبد المعطي السقا رحمه الله، وكتب على الطبعتين الأخيرتين في ورقة العنوان: طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة. وجاءت في مقدمة الناشر العبارة التالية: ..ودرة التنزيل وغرة التأول، وهو هذا الكتاب الذي يسر دار الآفاق الجديدة بيروت أن تقدمه للقراء، وللباحثين في الدراسات القرآنية، بعد أن صححه وقابله على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة الأستاذ عادل نويهض..، من غير أي إشارة إلى الطبعة المصرية مما يوهم أن عملا جديدا تم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولكن الحقيقة أن طبعتي دار الآفاق الجديدة هما طبق الأصل من الطبعة المصرية الأولى، على ما فيها من أوهام وأخطاء وتصحيفات ونقص، مع إضافة نحو صفحة ونصف عن ترجمة @@@ 85 الخطيب، عدد من الحواشي التي فيها عزو بعض الآيات، ولم يضيفوا أي مخطوطة جديدة مما يسد السقط الموجود في الطبعة المصرية الأولى التي أعادوا طبعها. كما أن جميع التعليقات التي يشار إليها في الطبعة المصرية الأولى عينها موجودة في الطبعتين (1973، 1979م) اللتين طبعتا في دار الآفاق الجديدة، مما يدلنا على أن هذا الكتاب قد طبع بمصر. ومما يجدر ذكره أن طبعتي بيروت لم ينتبه مخرجهما إلى التصحيح الذي جاء في الطبعة الثانية للكتاب، والذي ذكرناه من قبل، ولهذا جاءت طبعتا بيروت أيضا تحملان السقط الذي حصل في الطبعة المصرية الأولى، بلا أي جهد جديد يستحق ادعاء ما ادعوه حين إخراج الكتاب في طبعتيه الأخيرتين (1973، 1979م) . جزى الله الشيخ عبد المعطي السقا خيرا على مقام به من جهد في إخراج الكتاب لأول مرة، فقد أحيا كنزا من تراثنا العلمي، وجزى الله ناشري الكتاب أيضا خيرا على ما قاموا به في هذا السبيل. غير أننا لاحظنا وجود أخطاء كثيرة جدا في المطبوع سواء في الطبعتين المصريتين القديمتين، أو في طبعتي بيروت اللتين كررتا كل الأخطاء السابقة بلا أدنى تغيير تقريبا، وهي أخطاء شائعة في اللغة، وألفاظ الآيات، وتصحيف الكلمات، وأسقاط ألفاظ أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 جمل من النص الأصلي، مما يفسد المعنى في كثير من الأحيان، بل يقلبه قلبا، ويفيد نقيض المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الجداول المطلب الثاني: وصف النسخ المخطوطة: بين أيدينا اثنتا عشرة نسخة خطية، واعتمدت على ثلاثة منها اعتمادا تاما، وهي نسخة مكتبة أحمد الثالث (أ) ، ونسخة مكتبة بايزيد (ب) ، ونسخة مكتبة كوبرلي (ك) لأنها فقط تامة من بين النسخ كلها، صريحة النسبة إلى محمد بن عبد الله، أبي عبد الله الخطيب، وصريحة عنوان الكتاب. وقفت عندها طويل لاختيار نسخة الأصل، وبعد دراسة ومقارنة طويلة تم اختيار نسخة الثالث (أ) أصلا، وجعلتها معتمدي الأول في التحقي، ولكني أعدل عندها إذا ظهر لي وجه الحق في النسختين الأخيرتين (ب، ك) ، وقد أنتقل عند الضرورة إلى نسخة أخرى غير الثلاثة المذكورة (أ، ب، ك) ، ولذا يجد القارئ هوامش كثيرة مما يدل على كثرة الفروق بين النسخ. @@@ 86 وأقل النسخ تصحيفا بعد نسخة أحمد الثالث نسختا بايزيد (ب) وكوبرلي (ك) ، وقابلت النص عليهما، وكثيرا ما رجعت إلى النس الباقية لبيان فروق جوهرية. ولقد كان همي الأول بمقابلة هذه النسخ الثلاث مقابلة دقيقة مع كثرة الرجوع إلى النسخ الأخرى: استكمال النقص، وتصحيح الخطأ، وتدارك السهو. وفيما يلي تفصيل وصف النسخ التي جعلتها معتمدي في التحقيق، والنسخ الباقية التي جعلت اثنت منها للمقابلة، والأخر للمراجعة عند الحاجة: 1- نسخة مكتبة أحمد الثالث: توجد هذه النسخة بمكتبة أحمد الثالث التابعة لمتحف طوب قبو باستنبول أعاد الله أعزها وأمجادها بالإسلام تحت رقم 85 تفسير، وهي التي جعلتها الأصل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقد حصلت على صورة منها بواسطة الأخ حسن كوك بولوت، وتتكون هذه النسخة من ثماني ومائة لوحة 108، وكل لوحة فيها صفحتان، صفحة فيها خمسة وعشرون سطرا. وفي مقدمة الشروط التي يجب أن تتوافر في النسخة الأم: الأقدمية، والضبط: بمعنى أنها تكون من الناحية التاريخية أقرب إلى عصر المؤلف، ومن الناحية العلمية تكون أقرب النسخ إلى كلام المصنف.. وبعد دراسة دقيقة وفحص عميق لما لدينا من النسخ لم يبق أمامنا إلا اختيار نسخة مكتبة أحمد الثالث لتكون أساسا للتحقيق وذلك للاعتبارات التالية: الأول: أنها أقدم الأصول المخطوطة وأقربها إلى عصر المؤلف، إذ كتبت في القرن السابع، كتبها ياقوت الحموي المتوفي سنة 626 هـ. الثاني: أنها أضبط النسخ من حيث استقامة العبارة، أنها وأتقنها، وأقلها تصحيفا، ويرجع ذلك إلى أن ناسخها من العلماء المعروفين وهو ياقوت الحموي كما ذكر ذلك في ورقة العنوان. الثالث: أنها تامة، ليست فيها مخرمة، وهي مأخوذة من نسخة على نسخة المؤلف وعليها تمليكات ومطالعات. الرابع: عند مقابلتها مع النسخ الأخرى خصوصا النسخة (ب، ك) وجدتها قليلة السقط والأغلاط، فقد كتب في حواشي بعض صفحاتها مقابل السطر ما فات ناسخها من كلمات، ووضع إلى جانبها إشارة (صح) ، ومن السطر إشارة إلى مكانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ولهذا اتخذت هذه النسخ أصلا في التحقيق، فنقلت النص منها، وحددت أرقام أوراقها في الهامش، @@@ 87 وبعد ذلك عارضت النص كما قلت سابقا بنسختي (ب، ك) لجمع الخلافات، وجعله أقرب ما يكون إلى الصورة التي أرادها المؤلف، وكثيرا ما استعنت بالكتب المطبوع في قراءة بعض الكلمات. ورمزت إليها بالحرف (أ) ، وفي السطر الواحد 15 كلمة تقريبا، وهي كاملة في مجلد واحد، وخطهاا مقروء نسخي معتاد، واضح إلى حد كبير، وقد كتبت فيها أسماء السور والرؤوس مثل الآية الأول، والآية الثانية، وبعض الكلمات مثل: للسائل أن يسأل فيقول بالمداد الأحمر، وكذلك الىيات القرآنية التي يريد المؤلف أن يتناولها من نوع تشابه لفظي. وفي الصفحة الأولى عنوان الكتاب واسم مؤلفه هكذا: درة التزيل وغرة التأويل إملاء الشيخ الإمام العالم أبي عبد الله محمد الخطيب الأصبهاني رحمه الله تعالى وفي مقدمة هذا النسخة أن الراوي الذي قام بكتابة هذا الكتاب هو إبراهيم بن علي ابن محمد، المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني، حيث صرح بأن أبا عبد الله الخطيب قد أملاه عليه في القلعة الفخرية لما خلا فيها ولم يحضره غيره. وعلى الجانب الأيمن من ورقة العنوان كتابة قليلة، وهي: الحمد لله وحده، بسم العبد الفقير إلى الله تعالى.. وباقي الكتابة غير مقروءة، وعلى الجانب الأيسر كتب اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 متملكه بخط مغاير لخط الناسخ هكذا: الحمد لله ملكه من فضل الله ذي اللطيف الحفي محمد بن ابراهيم العزي الحنفي في رجب سنة خمس وتسعين. وتحت كتبة التمليك كتابة أخرى بخط مغاير أيضا هكذا: ياقوت الحموي لا ياقوت المستعصمي ورحمهما الله ... وسائر المسلمين. يبدو والله أعلم أن هذه التفرقة بسبب خلط بعض الباحثين بين ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس والمولد، الحموي ت 626هـ، وياقوت المستعصمي ت 697 هـ، ونسبوا لأحدهما ما للآخر، حيث إن الخط العربي عرف أربعة من كبار الخطاطين تشاركوا باسم واحد، هو ياقوت، وكانوا جميعا في عصر واحد، هو القرن السابع، وقد مز بينهم نسبتهم أو لقبهم. وفي الصفحة الأولى أيضا عبارة بخط ناسخ الكتاب في عرض الصفحة تشير إلى أن هذه النسخة قد قوبلت بالأم، وهي: شاهدت على الأصل المنقول منه هذا الكتاب ما صورته: شاهدت على الأصل المنقول منه: أبو عبد الله الخطيب مصنف هذا الكتب أديب مشهور من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أصبهان، له تصانيف حسنة مفيدة @@@ 88 يعرف بفضلها أهل أصبهان والري، وكان في أيام الصاحب يقول: تعينت فضائل أصبهان لرجلين حائك وإسكاف، يريد بالإسكاف أبا عبد الله الخطيب هذا، ولذلك يعرف بالإسكافي، ويريد بالحائك أبا الحسن أحمد بن محمد المرزوقي مصنف شرح الحماسة، وشرح المفضليات، وكتاب الأزمنة وغير ذلك. كتب عبد الله الفقير إليه ياقوت بن عبد الله الرومي ثم الحموي أبو عبد الله رفق الله تعالى به. كما جاء في الصفحة الأولى: فائدة: لا تكمل مروءة المرء حتى تستكمل فيه اثنتا عشرة خصلة من خصائل الطير: الأولى: الديك (3) الثاني: الغراب (3) الكرم، والعزلة، ومعرفة أوقات الصلوات البكورة إلى المعاش، والحذر من الشدائد، وإخفاء النكاح والثالث: البوم (3) والرابع: الحمام (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 القناعة، والعزلة، والصمت حب الوطن، والتآلف والصبر على الشدائد وهذا كلام يبدو لي والله أعلم أنه من إضافات النساخ للطرافة، ولا تعلق له بالموضوع. 2 نسخة مكتبة بايزيد: هذه النسخة تامة أيضا، كتبت بخط معتاد، وعلى الورقة الأولى كتب: درر التنزيل وغرر التأويل وهو غير العنوان الحقيقي للكتاب، لأن عنوان الكتاب في مقدمة هذه النسخة لا يختلف عن سابقاتها، إذ فيها تصريح المؤلف بتسمية الكتاب أيضا إذ يقول فيها: وسميته درة التنزيل وغرة التأويل. ونسبت هذه النسخة الكتاب إلى أبي عبد الله الخطيب حيث جاء في الغلاف: كتاب درر التنزيل وغرر التأويل تأليف الإمام العالم الوحد الزاهد الورع أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب تغمده الله تعالى بفضله ورحمته وهذه النسخة لا تقل عن نسخة أحمد الثالث (أ) في الجورة والإتقان، وهي تعد أصوب النسخ الموجودة بغض النظر عن نسخة أحمد الثالث، لولا أن كاتبها رحمه الله شطح قلمه فأسقط في @@@ 89 غير ما موضع منه كلمة أو جملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ورمزت إليها بالحرف (ب) ، وهي مصورة من المكتبة العمومية باستنبول بايزيد تحت رقم 365، وتقع في 147 ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة من 21 سطرا، وفي السطر الواحد من 16 إلى 18 كلمة. ويوجد على الصفحة الأولى عدة تمليكات، مما يدل على أن الكتاب تداولته أيد كثيرة، حيث انتقل من واحد إلى آخر بالشراء الشرعي، ومن عبارات التمليك المقروءة: هو الباقي بحمد الله ومنه للعبد الضعيف محمد بن الحسين عفا الله عنهما بحكم التمليك في نصف شعبان من.. وفي أعلى وأسفل عنوان الكتاب توجد كتابات كثيرة، والذي يبدو لي أنها من قبل النساخ، وأكثرها غير مقروءة. وفي الصفحة الأخيرة: والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه الأخيار المنتخبين، وسلم تسليما كثيرا، وفرغ من كتبه: العبد الراجي عفو الله تبارك وتعلى عبد الله بن أبي البدر بن علي بن علي بلغه الله أمانيه، وغفر له ولوالديه وللمسلمين، وذلك في شهر جمادى الآخرة من سنة خمس وسبعين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ورمزت إليها بالحرف (ك) ، وهي من مكتبة كوبرلي باستنبول، تحت رقم (154) ، وهي ذات خط واضح في عمومه، تعتريها بعض الأخطاء، وكتبت بخط النسخ القديم في مائتين وتسع وثلاثين ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وأسطر صفحاتها سبعة عشر سطرا، بمعدل (15) كلمة في كل سطر. ونسبت هذه النسخة هذا الكتاب في الغلاف إلى رواية حيث جاء فيه: كتاب درة التنزيل وغرة التأويل لأبي الفرج الاردستاني رحمه الله تعالى آمين. وأما في مقدمة الكتاب جاءت النسبة صريحة إلى أبي عبد الله الخطيب، هكذا: قال الشيخ الإمام بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني: هذه المسائل في بيان الآيات المتشابهة لفظا بأعلام نصبت عليها من المعنى أملاها أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب رحمه الله في القلعة الفخرية إملاء لما خلا فيها، ولم يحضره غيري ممن يسوغ له حمل ما يكتب فيه ويكتب به، فكتبت عن لفظه المسائل والأجوبة.. وليس في هذه النسخة ما يشير إلى تاريخ نسخها، وربما تكون من القرن السابع، واتخذتها من الأصول لقدمها ودقة ضبطها، وقلة سقطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 @@@ 90 ويوجد على صفحة هذه النسخة ختم تملك غير مقروء، كما يوجد في أقصى يسار صفحة العنوان: من نعم الله سبحانه على الراجي رحمته محمد الحافظ بن جمال الدين القدسي عفا عنهما بمنه وكرمه. أما الصفحة التي تلي صفحة العنوان ففي أعلاها كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر وأعن يا كريم، قال الشيخ الإمام إبراهيم بن علي المعروف بابن أبي الفرح الأردستاني. 4- نسخة مكتبة كوبرلي الثانية: ورمزت إليها بالحرف (ق) ، وهي في مكتبة كوبرلي التابعة باستنبول تحت رقم (155) ، عدد أوراقها 146 ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة 21 سطرا، وفي السطر 15 كلمة تقريبا. وجاء في غلاف هذه النسخة: كتاب درة التنزيل وغرة التأويل إملاء الشيخ الإمام العالم العارف أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الرازي رحمه الله تعالى بالقلعة الفخرية، كتب برسم ولد العزيز ملا عثمان حفضه الله تعالى، آمين يا رب العاملمين، إلا أن خطة الراوي التي جاءت في النسخ السابقة (أ، ب، ك) غير موجودة في هذه النسخة. وكتب أيضا في الورقة الأولى تحت العنوان: قال العلامة الجلال السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن: النوع الثالث والستون في الآيات المتشابهات، أفرده بالتصنيف خلق، أولهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الكرماني كتابه البرهان في متشابه القرآن، وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد اله الرازي.. الخ. وهي نسخة كاملة، ولكنها قليلة الإتقان، وكثيرة الأغلاط، وخطها نسخي معتاد، واضح مقروء، وعلى الورقة الأخيرة كتب: وتم الفراغ منه ليلة الثلاثاء 23 جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وستمائة للهجرة النبوية صلى الله على صاحبها وسلم تسليما كثيرا آمين. كتب برسم ولد العزيز بن ملا عثمان حفظ الله تعالى آمين سنة إحدى وستين بعد الألف، عافانا الله من الفتن، وأعاننا بفضله من المحن، إنه ذو الطول ... فمن استرحم لصاحبه وكاتبه غفر له آمين. كتبه: أحمد بن ملا عثمان الكردي الشافعي عفي عنهما. آمين. 5- نسخة دار الكتب المصرية: @@@ 91 توجد هذه النسخة بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة تحت رقم (440) تفسير، وبهذه النسخة نقص غير قليل في المقدمة مما يدل على أنها لم تقابل بنسخ أخرى، والورقة الثالثة منها غير موجودة عندي، وهي إما ساقطة من الأصل، وإما غير موجودة نهائيا، وإلى جانب ذلك أن آخر الآية الرابعة والجزء الكبير من الآية الخامسة في سورة البقرة سقطت من هذه النسخة كالمطبوعة، وهي تتكون من 247 ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة 21 سطرا، وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (د) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقد أطلقت هذه النسخة على الكتاب اسم درة التنزيل وغرة التأول إلا أنها نسبت الكتاب إلى رواية المشار إليه، وهو ابراهيم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني، ولكنه للخطيب الإسكافي بدليل ما كتب في المقدمة من أنه أملاه عليه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب في القلعة الفخرية لما خلا فيها ... وعلى الورقة الأخيرة ختم غير مقروء، وفيها تاريخ النسخ واسم الناسخ، حيث جاء فيها: والحمد لله وحده وصلوات الله وسلامته على سيدنا محمد وآلهوصحبه وسم، وكان الفراغ من كتابة هذا في ثالث شهر محرم الحرام سنة تسع وتسعين وتسمائة على يد العبد الفقير الراجي عفو ربه الباري الفقير يوسف بن سراج الحنفي الأزهري غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالمغفرة وجميع المسلمين. آمين. 6- نسخة مكتبة راغب باشا: هذه النسخة والتي بعدها منسوبة في أغلفتها إلى الراغب الأصبهاني، وهي مثل مضمون النسخ المتقدمة المنسوبة إلى الخطيب، إلا أنها جاءت باختصار ذكر الأسئلة التي كان المؤلف يصوغها على ألسنة السائلين ليجيب عنها، كما أن مقدمة المؤلف فيها تنقص عن النسخ المنسوبة إلى الخطيب، بالإضافة إلى سقط بعض الآيات تماما، مقل الآية التسعة من سورة الأنعام، مما يجعل النسخ التي اعتمدت عليها أتم وأكل من النسخ المنسوبة إلى الراغب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وبالنظر لشدة التشابه والتقارب بين النسخ المنسوبة للراغب، نستطيع أن نقول إنها قد نقلت عن أصل واحد، وأما الإختلافات الموجودة بينها، وهي قليلة، فمردها إلى الناسخ في كل منها، إما لنسيانه نسخ بعض الكلمات والعبارات أو لعدم استطاعته قراءة الأصل. والخط الذي كتبت به النسخ المنسوبة إلى الراغب، من حيث نوعه ووضوحه، يجعلنا نرجع أنها كتبت مؤخرا. @@@ 92 ومع ذلك كنت جادا في الاطلاع على النسخ المنسوبة إلى الراغب بغض النظر عن كونها ناقصة بالمقارنة إلى النسخ المنسوبة إلى الخطيب، والمعتمدة في التحقيق، وكنت أشير إلى الفروق بين تلك النسخ في موقعها عند الضرورة. ونسخة الراغب باشا رمزت لها بالحرف (ر) ، وعنوان هذه النسخة: حل متشابهان القرآن، للراغب الأصفهاني، وقد كتبت بخط جميل مضبوط بالشكل أحيانا، والنسخة المصححة ومقابلة على بعض النسخ الأخرى. وهي مصورة عن مخطوطة في مكتبة راغب باشا، التابعة للمكتبة السلمانية باستانبول، وقد جاءت هذه النسخة ضمن مجموع تحت رقم 180، وتقع في 135 ورقة، وهي الكتاب الثاني في هذا المجموع، حيث تبدأ من الورقة 128، وتنهي في 281. وهذا المجموع يشمل ستة كتب، وهي بالترتيب: حل متشابهات الحديث لابن فورك حل متشابهان القرآن للراغب الأصفهاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين لراغب الأصفهاني لمع في الاعتقاد للشيخ أبي القاسم القشيري بغية المقاصد للشيخ الفصول في أصول التوحيد للشيخ الكامل المرقوم والناسخ لم يذكر اسمه في آخر المخطوطة كما هو المعتاد، بل اكتفى بقوله: والحمد لله على إنعامه وصلواته على النبي محمد وآله، فرغ من كتابه في اليوم الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول لسنة ثلاث وستين ومائة وألف. نسخة مكتبة أحمد الثالث الثانية: لا توجد لهذه النسخة ورقة العنوان، وفي الصفحة الأولى منها فهرسة للسور القرآنة حسب أرقام الصفحات للمخطوطة، وعلى سبيل المثال: سورة الكهف، 101، وسورة الأنبياء: 103، وهكذا. وهي منسوبة للراغب الأصبهاني بعنوان: درة التأويل في متشابه التنزيل، تحت رقم 183 في فهرسة مكتبة أحمد الثالث التابعة لقصر طوب قبو سراي باستنابلول، وتقع في 177، ورقة، ولا يوجد لها تاريخ للنسخ، ولا اسم ناسخها، وقد رمزت لها بالحرف ح. نسخة أسعد أفندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 @@@ 93 وهي نسخة الخطية المحفوظة بمكتبة اسعد أفندي التابعة للمكتبة السلمانية تحت رقم 176 تفسير وخطها مقروء، ولكنها مضغوطة الكتابة، وهي تقع في 107 ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة 25 سطرا، ولا نجد اسما لناسخها، ولا تاريخا لنسخها، وقد رمزت لها بالحرف س. واسم الكتاب كما جاء في العنوان: كتاب درة التأويل وغرة التنزيل في الآيات المتشابهة والمكررة، تصنيف الإمام البارع الوارع أبي القاسم الحسين بن محمد بن الفضل الأصفهاني، المعروف بالراغب برد الله مضجعه وجعل الجنة مأواه. 9- النسخة كتبت بخط النسخ الجميل، بمداد أسودثابت، عدا العناوين التي كتبت بالمداد الأمر، وعلى الورقة الأولى كتب: تفسير درة التأويل في متشابه التنزيل للراغب الأصفهاني عليه رحمة الباري. وهي مصورة عن مكتبة خسرو باشا، التابعة للمكتبة السليمانية باستنبول، تحت رقم (25) ، وهي تقع في (185) ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة 21 سطرا. وجاء في نهاية المخطوطة: قد وقع الفراغ والاختتام بلطف الله على وجه الاهتمام في المدرسة المسماة بدرا الحديث السليمانية في شهر إسلام بول على يد أضعف العباد حال تشتيت الفؤاد المحتاج إلى رحمة ربه الرحمن في اليوم السابع من شهر رمضان من سنة ست وسبعين ومائة وألف مصطفى بن إبراهيم بن محمد، أحسن إليه وإليهما الصمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 10 نسخة المتحف البريطاني: وهي مثل النسخ المنسوبة إلى الراغب، توجد في المتحف البريطاني تحت رقم (5784) ، وتشتمل على 234 ورقة، بعنوان كتاب أسرار التأويل وغرة التنزيل، واسم المؤلف غير واضح، لوجود الطمس في ورقة العنوان، إلا أنه نسب إلى الراغب الأصفهاني في فهرست معهد إحياء المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة. وقد حصلت على نسخة منها مصورة من المتحف البريطاني بواسطة أخي الدكتور حنيف القاسمي حفظه الله تعالى. وخط هذه النسخة واضح إلى حد كبير، ولكنها كثيرة الطمس مما أدى إلى صعوبة قراءتها، مع @@@ 94 أنها حديثة العهد، وقد رمزت لها بالحرف (ل) . 11- نسخة مكتبة ولي الدين: هذه النسخة محفوظة في مكتبة ولي الدين التابعة للمكتبة السليمانية باستنبول تحت رقم (253) ، وتقع في (118) ورقة، وهي مسجلة في فهرسة تلك المكتبة بعنوان تفسير متشابه القرآن، من غير ذكر اسم مؤلفه، ولكنها عين إحدى النسخ المتقدمة المنسوبة للراغب الأصفهاني، ورمزت لها بالحرف (و) . 12- نسخة دار الكتب المصرية الثانية: هذه النسخة حديثة العهد، وه كتبت في سنة 1317 هـ، وهي محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم 660 صفحة، وتقع في 527 صفحة، ورمزت لها بحرف (م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وليس لها ورقة العنوان، إلا أن الكتاب في الصفحة الألى بعد ورقة العنوان منسوبة إلى الراغب الأصفهاني كسابقاتها. ولا بد لي من التنويه هنا قبل أن أختم القول في هذه الفقرة: أنه يوجد للكتاب مخطوطتان أخريان لم أقف عليهما، وهما: 13- نسخة جوتا: جاء في فهرس جوتا: درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله، محمد بن عبد الله الخطيب فخر الدين الرازي. وفي نسبة الكتاب إلى الفخر الرازي خطأ، إذ أن فخر الدين الرازي ليس هو محمد بن عبد الله الخطيب، وإنما هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الخطيب. 14- نسخة إيران: لم أستطع الحصول على نسخة إيران حتى ساعة تقديم الرسالة للمناقشة، مع بذل كل الجهود الممكنة عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، ممركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي. وهي مذكورة في فهرست الكتب الموجودة بالمكتبة المركزية بجامعة طهران، في المجلد الثالث عشر: 3393-3394 ضمن مجموعة برقم 4434، وتقع المجموعة في 136 ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي كل صفحة 15 سطرا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والمقاس: 13× 18 وذكر المفهرس أن تاريخ النسخ يرجع إلى القرنين التاسع والعاشر، وأنها نسخة مصححة وفيها مقابلات. @@@ 95 ولما كانت الفهرست باللغة الفارسية قام أحد الإخوة جزاه الله خيرا بالترجمة للجزء المطلوب. يقول المفهرس: الكتاب الأول من هذه المجموعة هو: كتاب درة التنزيل وغرة التأويل (1-64/ب) ، من تأليف محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي المتوفي سنة 421هـ، وقد طبع بمصر سنة 1326هـ، وليس بدرة الويل وفي متشابه التنزيل للراغب الأصفهاني، وليس بدرة التزيل وغرة التأويل للإمام الفخر الرازي. ثم يقول: الكتاب يختص بآيات جاءت في القرآن متشابه ومكررة مع اختلاف يسير، وأصبحت حجة للملحدين الذين يريدون الطعن في القرآن. وهذا القسم يشمل المقدمة إلى الآية السابعة من سورة المائدة، وفي أوله وآخره سقط، ويبدأ من قول المؤلف في مقدمة الكتاب: في حالة توزع الرأي فيها مذاهب..، وينتهي عند قوله: وقال في سورة المجادلة: (تجري من تحتها الأنهار..) المجادلة: 22. ويرى في هذه النسخة عدة أسطر في المقدمة، ليست موجودة في النسخة المطبوعة بمصر. والكتاب الثاني من هذه المجموعة هو: تفسير المتشابهات، من ص (65/أ-134/ب) ، ومن الممكن أن يكون الإمام الرازي أو للراغب، وهو غير تنزيه القرآن عن المطاعن لعبد الجبار الرازي، الذي طبع في مصر 1324هـ، والذي عناوينه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 مسائل وأجوبة، ويشبه تماما كتاب درة التزيل وغرة التأويل للإسكافي، ويمكن أنه زبدة الكتاب ومختصره وصفه: خطه أقدم، ويبدأ من سورة البقرة إلى سورة التحريم. أوله: في التأكيد بتكرار الأمر. مسألة: قوله تعالى: (.. قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا..) البقرة 170، جوابه: أن ألفينا وجدنا معناهما واحد. وآخره: مسألة: قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض..) الملك: 16، جوابه: لما تقدم هنا (هو الذ جعل لكم الأرض ذلولا) الملك: 15. الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 نماذج مصورة من بعض النسخ المخطوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إلى صفحة 208 @@@ 96 المبحث الثاني منهج التحقيق يتلخص عملي في تحقيق هذا الكتاب بما يلي: 1- اعتمدت على نسخة مكتبة أحمد الثالث (أ) ، واتخذتها أصلا للاعتبارات التي تقدم ذكرها في مبحث وصف النسخ، وأثبتت أرقام المخطوطة إلى جانبها، ورمزت لصورة الصفحة اليمنى ب (أ) ، ولصورة الصفحة اليسرى ب (ب) ، وأشرت بخط مائل في وسط الكلام إلى إنتهاء صفحة الأصل المخطوط، وابتداء صفحة جديدة. وبعد أن انتهيت من النسخ قابلت نسخة أحمد الثالث (أ) بنسختي بازيد (ب) وكوبريلي (ك) المعتمدين، وأشرت إلى ما كان بينهما من فروق في الحواشي، وكثيرا ما رجعت إلى سائر النسخ الأخرى غير الثلاثة، وربما أثبت منها في المتن ما رأيته صوابا من حيث المعنى مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية، ولم أضع المثبت من النسخ الأخرى بين حاصرتين في المتن، وإنما كتبته في الحاشية بين علامتي التنصيص هكذا: ... تحاشيا عن التشويش. وكنت أريد أن أجعل النسخة المطبوعة المتداولة بين الناس واحدة من النسخ الت أقابل عليها، لكن وجدت بها جملة وافرة من الأخطاء والتصحيفات، والأسقاط، وهي أيضا في مضمونها لا تخرج عن النسخ الموجودة عندي، ولم أعول على إثبات الفروق بين النسخ المخطوطة وبين المطبوع، إلا فيما أثبته من المطبوع بخلاف المخطوطات، ونبهت عليه في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 2- اعتمدت ف انتساخ الكتاب الرسم الإملائي المتعارف عليه في عصرنا، واستعملت علامات الترقيم كالنقطة، والفاصلة، وعلامة الإستفهام، والتعجب، وقسمت الجمل والفقرات حسب إرادة المعنى المقصود منها. 3- إذا اقتضى المقام زيادة كلمة أو عبارة، زدتها ووضعتها بين معقوفين هكذا..، وهو يرمز لزيادة مني يقتضيها السياق. 4- ضبطت من الألفاظ ما يحتاج إلى ضبط حتى لا تلتبس قراءته على القراء مع شرح الغريب منها، معتمدا في ذلك على المصادر الموثوق بها عند أهل اللغة، وشرحت أيضا بعض العبارات الغامضة في الكتاب بما يكشف غموضها ويوضح مراد المؤلف قدر المستطاع. 5- لم ألتزم ذكر الاختلاف بين النسخ في عبارات الترحم والترضي والثناء، مثل عبارة تعالى @@@ 97 وعبارة عز وجل بعد لفظ الجلالة، ومثل عبارة عليه السلام، وصلوات الله عليه وسلامه بعد ذكر الرسول أو النبي، ومثل رضوان الله عليه، وk بعد ذكر اسم الصحابي، لأنها كثيرة أولا، ولا تؤثر في النص ثانيا، ولأنها من تصرف النساخ غالبا. 6- جعلت الآيات القرآنية بين هلالين مزهرين هكذا: () ، مع عزوها إلى سورها في القرآن الكريم، واضعا رقمها مع اسم سورتها بجانبها بين معقوفين في داخل النص، هكذا: [] ، وذلك حسب ورودها في المصحف الشريف، وكذلك الآيات المستشهد بها من سورة أخرى، فكنت أعزوها وأكتب اسم السورة، ورقم الآية بعد كتابة الآية، منعها للتشويش، وكثرة الحواشي بما لا طائل تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 7- وضعت أمام كل آية، أراد المؤلف توجيهها رقما متسلسلا بين المعقوفين هكذا [1] [2] مثل [1] الآية الأولى من سورة البقرة قوله تعالى ... ، [2] الآية الثانية منها قوله تعالى ... ، [3] الآية الثالثة منها قوله تعالى..، وهكذا حسب ترتيب المؤلف، للتنبيه على بدء آية جديدة، وإنتهاء آية سابقة، ليسهل على الباحث الرجوع إلى ما يريد عند الحاجة، بيسر وسهولة. وذلك من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الناس، حيث بلغ عدد الآيات التي تناولها المؤلف بالتوجيه 274 آية، عدا نحو 400 آية، والتي قارن بها الآيات الأصول. 8- إذا كان في المخطوط في كتابة الآيات القرآنية خطأ صوبته من المصحف الشريف من غير تنبيه إلى ذلك في الحاشية في أكثر الأحيان، ومسترشدا في ذلك ب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى. 9- ربما ذكر المؤلف أسماء للسور غير متداولة، فأذكر ما هو المتداول بين القراء والموجود في أحدث طبعات المصحف، فسورة التوبة يذكرها المؤلف باسم سورة براءة، وسورة غافر يذكرها باسم سورة حم المؤمن، وهكذا. 10- علقت على بعض التوجيهات التي ذكرها المؤلف بالرجوع إلى المؤلفات الأخرى في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، مثل كتاب البرهان في متشابه القرآن للكرماني، وملاك التأويل لابن الزبير، وفتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن للأنصاري، وذلك لتوضيح ما أبهم من كلام المؤلف، أو إبداء توجيه آخر لم يذكره المؤلف، أو إلى بعض الفروق التي لمستها بين ما أورده الخطيب من توجيهات، وما ذكره غيره، وأشرت لذلك في الحواشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقد حاولت أيضا أن أرجع في تحقيق بعض النصوص التي فيها تصحيف أو اضطراب إلى @@@ 98 الكتب التي نقلت عن كتابنا درة التنزيل لمقابلتها وتصحيحها بحسب ما جاءت في تلك النقول، وقد أشرت في الهامش إلى تصويب من هذا القبيل. 11- قمت بتخريج ما في الكتاب ما في الكتاب من الأحاديث والآثار، وذلك بالرجوع إلى كتب الأحاديث المعروفة، مشيرا إلى الكتاب، والباب، ورقم الصفحة ورقم الحديث أو الأثر إن وجد، وإن لم أجد في كتب الحديث رجعت إلى التفاسير المهتمة بالروايات، وذكرت حكم ما توصل إليه السابقون إن وجد. 12- قد عنيت بتخريج الشواهد الشعرية المستشهد بها من الدواوين، والمعاجم، وكتب النحو والأدب واللغة، وبعض المصادر الأخرى، وقمت بضبطها وشرح ألفاظها الغريبة، وبينت موضع الشاهد إن كان غامضا. 13- ترجمت للإعلام والواردة في النص، مع مراعاة الإيجاز، وقد لا أعرف ببعض مشاهيرهم، وإذا تكرر العلم في موضع آخر وهذا ما يحصل كثيرا اكتفيت بترجمته في الموضع الأول. 14- أشرت في حدود الإمكان إلى مواضع النصوص النحوية واللغوية في كتب أصحابها، أو في الكتب التي فيها، ككتاب سيبويه، والعين للخليل والمقتضب للمبرد، وجمهرة اللغة لابن دريد. 15- عرفت بالأماكن المذكورة في الكتاب معتمدا على المعاجم المتخصصة بتحديد البلدان. 16- وأخيرا ألحقت بالكتاب عددا من الفهارس الفنية التي تساعد الباحث على الحصول على طلبه من الكتاب بسهولة وسرعة، وكان فيها فهرس للآيات المتشابهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 التي تناولها المؤلف بالتوجيه، وثان للآيات التي استشهد بها المؤلف في غير موضعها، وثالث للأحاديث والآثار، ورابع للأعلام الواردة في النص، وخامس للأبيات الشعرية، وسادس للأماكن، وسابع للقبائل والأمم، وثامن للمذاهب والفرق، وتاسع للمراجع والمصادر، وعاش للموضوعات الواردة في الرسالة تفصيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 @@@ 99 القسم الثاني النص المحقق لكتاب درة التنزيل وغرة التأويل تأليف الإمام أبي عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي المتوفى سنة 420هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب قال إبراهيم بن علي بن محمد، المعروف بابن أبي الفرج الأردستاني: هذه المسائل في بيان الآيات المتشابهة لفظا بأعلام نصبت عليها من المعنى، أملاها أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب رحمه الله في القلعة الفخرية إملاء لما خلا فيها، ولم يحضره غيري ممن يسوغ له حمل ما يكتب فيه، ويكتب به، فكتبت عن لفظه المسائل والأجوبة، وسألته أن يصدرها بخطبة، فارتجالها كارتجاله سائر الكلام بعدها، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآه الراشدين المرشدين الطاهرين الزاهدين، أما بعد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فاعلموا حملة الكتاب المبين الحكيم، وحفظة القرآن المتين الكريم، وفقكم الله تعالى لحق علمه، بعد حق تلاوته، وأذاقكم من لذة قراءته، وبرد شراب معرفته، ما يشغف قلوبكم بحلاوته، أني مذ خصني الله تعالى بإكرامه وعنايته، وشرفني بإقراء كلامه ودراسته، تدعوني دواع قوية، يبعثها نظر وروية، في الآيات المتكررة، بالكلمات المتفقة، والمختلفة، وحروفها المتشابهة المتعلقة، والمنحرفة تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، وتخص الكلمة بآياتها، دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أشكالها، فعزمت عليها بعد أن تأملت أكثر كتب المتقدمين، والمتأخرين، وفتشت عن أسرار معاني المتأولين المحققين المتبرين، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كننها، كيف؟ ولم يقرع بابها ولم يفتر عن نابها، ولم يسفر عن وجهها، ففتقت من أكمام المعاني ما أوقع فرقانا، وصار لمبهم المتشابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وتكرار المتكرر تبيانا، ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلك الملحدين سدا، وسميته درة التنزيل وغرة التأويل وليس على الله بأمر منكر مستبدع أن يعثر خاطر عبد ربيء، على كنز حكمة في القرآن خبيء، أو يبلغه في لطيف من لطائف كلامه حدا، لا يبلغه أحد وإن كان أوحدا. فإذا عرفتم ما نحوناه من سنن الآثار أمنتم عند القراءة مخاوف العثار، ثم تطلعون بعده على علوم تبدو للنفس، وتحتقرون معها بيان اللبس، وترون ممالك لم تملكها قبلكم أمة، ومسالك لم تجل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 مدارجها همة، فتعلمون أن كلام الله جل ذكره وعلا شأنه وأمره بحر لا تستنفد جواهره، وذو عجائب لا تستدرك بواطنه وظواهره، وذو عمق لا يبلغ آخره، وذو طول وعرض لا يقطعه مزاخره، وهو المغنم الذي من حازه ظفرت يداه، ولم يجزع لفوت ما عداه، فالدنيا قد تتبرج بزخارفها، وتخدع نفس عارفها، إلا نفسا غلب نور قلبها ضياء بصرها، وتصورت العواقب من ثمرها، لا البوادي من زهرها، وشوهت ما تناظر منها بالفكر في قوله تعالى: 1/ب (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) يونس: 58، فلا تحزن إن أجدبت مراعيها المنتجعة، ولا إن زويت عنها عواريها المرتجعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فحق من دلكم عليه أن تدعوا له بالمغفرة والرحمة، والمعونة على شكر ما أولى من النعمة، شغلنا الله بالحق عما يلهي من أحوال العاجلة، وبالعمل على ما يهون أهوال الآجلة، إنه لطيف قريب سميع مجيب. ومن الآن أبين الطريق الذي سلكته، وأفضى به إلى علم عرفته، وأذكر ما نبهني على علم ما ادعيته، لأريكم مثل ما رأيته، وبالله التوفيق، وبه أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 سورة البقرة [1] [الآية الأولى] فأول آية ابتدأت بها قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ... ) [البقرة: 35] . وقال في سورة الأعراف [19] : (ويا آدم اسكن أنت وزجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ... ) . فعطف (كلا) على (اسكن) بالفاء في هذه السورة وعطفها عليه في سورة البقرة بالواو. والأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالإبتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 رغدا..) [البقرة: 58] فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها، فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده. يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه من سورة الأعراف: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة..) [الأعراف: 161] فعطف (كلوا) على قوله (اسكنوا) بالواو دون الفاء، لأن اسكنوا من السكنى، وهي المقام مع طول لبث. والأكل لا يختص وجوده بوجوده، لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه وإن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء، وعلى هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما) . وبقي أنبين المراد بالفاء في قوله تعالى: (.. فكلا من حيث شأتما..) من سورة الأعراف [19] مع عطفه على قوله (اسكن) وهو أن اسكن يقال لمن دخل مكانا، فيراد به: الزم المكان الذي/ دخلته ولا تنتقل منه، ويقال أيضا لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لم يدخله اسكن هذا المكان، عني ادخله واسكنه، كما تقول لمن تعرض عليه دارا ينزلها سكنى فتقول: اسكن هذه الدار فاصنع فيها ما شئت من الصناعات، معناه: ادخلها ساكنا لها فافعل فيها كذا وكذا، فعلى هذا الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا ... ) بالفاء. فالحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى، عز من قائل وجل قال لإبليس: (.. اخرج منها مذءوما مدحورا..) [الأعراف 18] فكأنه قال لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة، أي: ادخل، فيقال: اسكن، يعني ادخل ساكنا، ليوافق الدخول الخروج، ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، والآخر بعده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مبالغة في الإعذار، ... وتأكيد للإنذار وتحققا لمعنى قوله عز وجل: (..ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) [البقرة: 35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [2] الآية الثانية قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) [البقرة: 48] . وقال في هذه السورة بعد العشرين والمائة: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) [البقرة: 123] . فقدم في الأولى قبول الشفاعة على أخذ الفدية، وفي الثانية قبول الفدية على نفع الشفاعة. والوجه في الأول أنه لما قال: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) بمعنى: لا يغني أحد عن أحد فيما يلزمه من العقاب، ولا يكفر سيآته ما له من الثواب، وهو كقوله عز من قائل: (.. واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا..) لقمان: 33 فهذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية امتناع وقوعها في الآخرة أربعة أنواع تتقى بها المكاره وتتداوى بها الشدائد، ألا ترى العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وارتهنت نفسه بعظيمة وحاولت أعزته دفاعا ذلك عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وتخليصه منه بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فذبت عنه كما يذب الوالد عن والده بغاية قوته وجلده، فإن رأى من لا قبل له بممانعته ولا يدله بمدافعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف المسألة والشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان ولم تنجه الخلتان من الخشونة واللين لم يبق بعدهما إلا فداء الشيء بمثله، وفكه من الأسر إما بمال وإما بغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فإن لم تغن عنه هذه الثلاثة في العاجلة تعل بما يرجوه من نصر في الآجلة، وإدالة في الخاتمة، كما قال تعالى (.. ثم بغي عليه لينصرنه الله..) الحج: 60 وقال تعالى: (..فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) الإسراء: 33 على أحد وجوه التفسير، فأخبر الله تعالى أن ما يغني في هذه الدنيا عن المجرمين، ويترتب هذه المراتب بين العالمين، لا يغني منه شيء/ في الآخرة عن الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والفائدة في قوله تعالى في الآية الثانية وتقديم الفدية على نفع الشفاعة هي: أنه لما قال: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) ومعناه ما ذكرنا، عقبه بنفي الفداء، لأن النفس بفداء مؤقت يرتهن عنها مدة معلومة، ولا يكون بعد ذلك فداء يفك الرهن ويخلصه من التبعات، فيكون معنى (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) لا تغني عنها بفداء محصور بوقت، ولا بفداء ويخلصه على وجه الدهر، ويكون بعد ذلك (لا تنفعها شفاعة) معناه: ولا تخفف مسألة من عذابها، ولا ينقص شفيع من عقابها، (ولا هم ينصرون) وهو الوجه الرابع الذي ذكرناه أخيرا في شرح الآية المتقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 3 الآية الثالثة: قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ... ) البقرة: 49. وقوله عز من قائل في سورة ابراهيم عليه السلام 6: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ... ) . فأدخل الواو في قوله: (ويذبحون أبناءكم) في سورة إبراهيم، وحذفها منه في سورة البقرة، وجعل (يذبحون) بدلا من قوله (يسومونكم سوء العذاب) . والقول في ذلك: أنه إذا جعل (يذبحون) بدلا من قوله: (يسومونكم سوء العذاب) لم يحتج إلى الواو، وإذا جعل قوله: (يسومونكم سوء العذاب) عبارة عن ضروب من المكروه هي غير ذبح الأبناء لم يكن الثاني إلا بالواو، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الموضعين يحتمل الوجهان إلا أن الفائدة التي تجوز أن تكون خصصت لها الآية في سورة إبراهيم بالعطف بالواو، هي أنها وقعت هنا في خبر قد ضمن خبرا متعلقا به، لأنه قال قبله: (قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن ذلك لآيات لكل صبار شكور) إبراهيم: 5 ثم قال (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم..) فضمن إخباره عن إرساله موسى بآياته إخباره عنه بتنبيه قومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 على نعمة الله ودعائهم إلى شكرها، فكان قوله (يذبحون) في هذه السورة في قصة مضمنة قصة تتعلق بها، هي قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا..) . والقصة المعطوفة على مثلها يقوى معنى العطف فيها فيختار فيما كان يجوز في العطف على سبيل الإيثار، لا على سبيل الجواز، وليس كذلك موقع (يذبحون) في الآية التي في سورة البقرة، لأنه تعالى أخبر عن نفسه بإنجازه بني إسرائيل، وهناك أخبر عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه كذا، بعد أن أخبر عنه أنه أرسله إليهم بآياته. فافترق الموضعان من هذه الجهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 4 الآية الرابعة قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطايكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا..) البقرة: 58-59. ففي هذه الآية إذا ما ذكرت ست مسائل إذا قوبلت بالآية التي تشابهها من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: (وإذ قيل لهم اسكونوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا..) الأعراف: 161-162 فالمسالة الأولى عطف كلوا على ما قبله بالفاء في سورة البقرة، وبالواو في سورة الأعراف، وهذه قد مر الكلام فيها مستقصى في قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة..) البقرة: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأما المسألة الثانية فجمعه للخطيئة على الخطايا في سورة البقرة، وعلى الخطيئات في سورة الأعراف على قول أكثر القراء. وأما المسألة الثالثة زيادة رغدا في سورة البقرة وحذفه له في سورة الأعراف. وأما المسألة الرابعة تقديم (وقولوا حطة) في سورة الأعراف وتأخيره في سورة البقرة. والمسألة الخامسة إدخاله الواو على (سنزيد) في هذه السورة وإسقاطها منها في سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والمسألة السادسة زيادة (منهم) في سورة الأعراف في قوله: (.. فبدل الذين ظلموا منهم..) وسقوطها من الآية في سورة البقرة. فأما الكلام في (الخطايا) واختيارها في سورة البقرة فلأنها بناء موضوع للجمع الأكثر، والخطيئات جمع السلامة وهي للأقل الدليل على ذلك أنك إذا صغرت الدراهم قلت: دريهمات، فتردها إلى الواحد، وتصغره ثم تجمعه على لفظ القليل الملائم للتصغير، وكذلك الخطايا، لو صغرت لقلت: خطيئات فرددتها إلى خطيئة ثم صغرتها على خطيئة ثم جمعتها جمع السلامة الذي هو على حد التثنية المنبئ عن العدد الأقل من الجمع، فإذا ظهر الفرق بين الخطايا والخطيئات، وكان هذا الجمع المكسر موضوعا للكثير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والمسلم موضوعا للقليل استعمل لفظ الكثير في الموضع الذي جعل الإخبار فيه نفسه بقوله: (وإذ قلنا اخلوا ... ) وشرط لمن قام بهذه الطاعة ما يشرطه الكريم إذا وعد من مغفرته الخطايا كلها، وقرن إلى الأخبار عن نفسه جل ذكره ما يليق بجوده وكرمه فأتى باللفظ الموضوع للشمول فيصير كالتوكيد بالعموم لو قال:: نغفر لكم خطاياكم كلها أجمع. ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه عز اسمه وإنما قال: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية..) فلم يسم الفاعل، أتى بلفظ (الخطيئات) ، وإن كان المراد بها الكثرة كالمراد بالخطايا إلا أنه أتى في الأول لما ذكر الفاعل بما هو لائق بضمانه من اللفظ. ولما لم يسم الفاعل في الثاني في سورة الأعراف وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 اللفظ غير موضعه للفرقان بين ما يؤتى به على الأصل وبين ما يعدل عنه إلى الفرع. والمسألة الثالثة في الإتيان بقوله (رغدا) في هذه السورة وحذفها في سورة الأعراف فالجواب عنها كالجواب في الخطايا والخطيئات، لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه تعالى كان اللفظ بالأشرف الأكرم، فذكر معه الإنعام الأجسم، وهو أن يأكلوا رغدا، ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه لم يكن مثل الفعل الذي في سورة البقرة، فلم يذكر معه ما ذكر فيها من الإكرام الأوفر، وإذا تقدم اسم المنعم الكريم افتضى ذكر نعمته الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والمسألة الرابعة في هذه الآية تقديم قوله عز من قائل: (وقولوا حطة) وتأخيره في سورة البقرة عن قوله: (وادخلوا الباب سجدا) والجواب عن ذلك مما يحتاج إليه في مواضع من القرآن في مثل هذه الآية التي قصدنا الفرق بين مختلفتها: وهو أن ما أخبر الله تعالى به قصة موسى عليه السلام وبني اسرائيل وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم وما حكاه من قولهم وقوله عز وجل لهم لم يقصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنما قصد إلى اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك؟ واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فإذا حكاية اللفظ زائلة وتبقى حكاية المعنى، ومن قصد حكاية المعنى كان مخيرا بأن يؤديه بأي لفظ أراد، وكيف شاء من تقديم وتأخير بحرف لا يدل على ترتيب كالواو، ولو قصد حكاية اللفظ ثم وقع في المحكى اختلاف لم يجز، ولو قال قائل حاكيا عن غيره: قال فلان: زيد وعمرو ذهبا، وكان هذا لفظا محكيا، ثم قال ثانيا قاصدا إلى حكاية هذه اللفظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 من كلامه: عمرو وزيد ذهبا، لم يجز له ذلك، لأنه غير قوله وأخر ما قدمه، وإن قصد حكاية المعنى كان ذلك مرخصا له. والمسألة الخامسة في هذه الآية إثبات الواو في قوله: (وسنزيد المحسنين) في هذه السورة، وحذفها في سورة الاعراف منها، فالفرق بين الموضعين المؤثر في الموضع الذين يقصد الفرق فيه دقيق، وهو أنه قوله: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) (ادخلوا) في موضع المفعول من (قلنا) ، والمفعول يكون مفردا، ويكون مكانه جملة، والفاعل عند البصرييين لا يكون إلا مفردا، ولا تصح الجملة مكانه، وكذلك يقولون في قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه..) يوسف: 35 إن فاعل (بدا) هو البداء الذي دل عليه الفعل، لأن الفعل دال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 على مصدره وكذلك قوله: (أولم يهد لهم كم أهلكنا..) السجدة: 26، فاعل (يهد) عندنا مفرد محذوف وعند الكوفيين تصح الجملة أن تقوم مقام الفاعل. فعلى مذهبنا (وإذ قيل لهم اسكنوا..) : الذي أقيم مقام الفاعل (قيل) مفرد لا يصح أن يكون جملة، ولا يجوز أن يكون (اسكنوا) مكان الفاعل كما كانت مكان المفعول في قوله (وإذ قلنا/ ادخلوا..) فيكون في هذا المقام الفاعل لفظا مفردا هو القول كما كان البداء فاعل قوله: (ثم بدا لهم..) وإذ خرج قوله قوله اسكنوا عن أن يكون فاعلا، وكان لفظة في موضع الفاعل ولم يتعلق بالفعل الذي قبله تعلق الفاعل بفعله معنى، ولا تعلق المفعول بفعله الواقع به في قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا..) صار كأنه منفصل عن الفعل في الحكم وإن كان متصلا به اللفظ وجواب الأمر الذي هو (اسكنوا) قوله: (نفغفر لكم خطاياكم) ، والجواب في حكم الإبتداء ينفصل كما ينفصل ولا دليل في اللفظ على انفصاله إلا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف وهو: (وسنزيد المحسنين) وحذف الواو منه واستئنافه خبرا مفردا وهذه المسألة هي التي غلط فيها أبو سعيد السيرافي في أول ما شرحه من ترجمة الكتاب، وهي قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية وعدة الوجوه التي تحتملها هذه اللفظة، وذكره في جملتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 هذا باب أن يعلم ما الكلم من العربية فجعل ما الكلم وهي جملة في موضع الفاعل من يعلم، وهذا ما يأبه مذهبه، ومذهب أهل البصرة وقد أومأت إلى غرضي فيما يجوز أن تكون الواو فيه محذوفة من قوله (سنزيد المحسنين) في سورة الأعراف وثابتة فيه في سورة البقرة، فتأملوه فإنه مسألة مشكلة في النحو تفهموه إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 المسألة السادسة في هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم..) ، وفي سورة الأعراف في هذه القصة: (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم) . وللسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة (منهم) في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة وفائدة تقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟ والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا..) وإن لم يذكر فيه منهم معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: (ادخلوا هذه القرية) ، (فكلوا) ، (وقولا حطة) ، فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل، والمغيرون لما قدم إليهم من القول إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة منهم هناك ولا يقتضيها هنا، وهو أن أول القصة في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز بدليل لفظ من لأنه قال تعالى: (ومن قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف: 159، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عد صنوفا إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال: (فبدل الذين ظلموا منهم..) فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعم الله عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليه فأتى بلفظ من التي هي للتخصيص والتمييز بناء على أول القصة التي هي: (ومن قوم موسى..) ليكون آخر5/ب الكلام لأوله مساوقا، وعجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قول موسى بإزاء الهادين منهم، وهناك ذكر أمة هادية عادلة، وهنا ذكر أمة مبدلة عادية مائلة، وكلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر (منهم) في سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وأما في سورة البقرة فإنه لم تبين الآيات التي قبل قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا..) على تخصيص وتبغيض، فتحمل الآية الأخيرة على مثل حالها، ألا ترى أنه قال: (ابني إسرائيل اذكلوا نعمتي التي أنعمت عليكم..) البقرة: 48 ثم تكرر الخطاب لهم إلى أن انتهى إلى قوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى..) البقرة: 57، وقوله: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية..) البقرة 58، وتعقبه بقوله: (فبدل الذين ظلموا ... ) فلم يحتج إلى منهم لأنه لم يتقدمه ما تقدم في سورة الأعراف مما يقتضيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 5 الآية الخامسة: قوله تعالى في سورة البقرة 61: (ذلك بأنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق..) بالألف واللام. وقال في سورة آل عمران 21: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق..) نكرة غير معرفة. وكذلك في السورة: (.. ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون..) (آل عمران: 112) . والجواب عن ذلك: أن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عرفوا وعرفت أفعالهم ومضت أزمتهم وأحوالهم، فلما شهروا شهر فعلهم بوقوعه منهم. وقيل: " الحق" هو ما قاله الله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ... ) (الأنعام: 151) ، والحق هو أن يكون قتل نفسا مؤمنة لم يجب عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 القتل، والقاتل مكلف، أو أن يرتد أو يزني وهو محصن، فهذا معلوم مخبر عنه بلفظ المعرفة، والقتل وقع منهم من غير أن يكون على الأوجه الثلاثة المعلومة. على أن هذه الآية يسأل عنها فيقال: قد كان في قوله: (ويقتلون النبيين) كفاية، لأنه لا يقتل نبي بحق، لأنه لا يرتكب واحد من الأوجه الثلاثة التي توجب القتل. وعن هذا أجوبة، منها: ما ذكرنا، والآخر أن يقال: إن المعنى: أنهم كانوا يقتلون من غير أن يقع منهم ما يوجب عليهم القتل عندهم، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 دينهم، وليس هذا موضع ذكر هذه الوجوه، وإنما القصد في هذا المكان إلى التفرقة بين لفظ المعرفة والنكرة في الآيتين. والموضع الثاني الذي نكر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك ويعتقدونه ويدينون به، ألا تراه قال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران: 21، هؤلاء قوم لم يمضوا ولم ينقرضوا، فلذلك قال: (فبشرهم بعذاب أليم) . وقال في أول الآية: (إن الذين يكفرون..) ولم يقل: إن الذين كفروا فلما لم تكن هذه الحالة واقعة منهم كانت مخالفة للحال الواقعة التي جعلت خبرا عن قوم مضوا على هذه الأفعال، فقال فيهم: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) . فألما قوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله..) آل عمران: 112 فهو خبر عن قوم كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ويقتلون الأنبياء بغير حق..) آل عمران: 112 فكان خبرا عن اعتقادهم لأنه لا يجوز أن يعاقبوا وتضرب عليهم الذلة والمسكنة بذنوب وقعت من آباهم لا منهم فيصيرون مثل الأولين الذين أخبر عنهم بقوله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين..) آل عمران 21 في تمييزه إياهم عن القوم الذين كانوا في11 عصر موسى صلى الله على نبينا وعليه، فقال لهم: (..اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم..) البقرة: 61 فأختير لفظ المعرفة في القصة التي وقعت ووقع الإخبار عنها، ولفظ النكرة في القصة التي وقع التهديد مقارنا لها ليمنع من وقوعها، وما كان في خبر ما لم يقع فالذنب في حيز المذكور، والعقاب عليه مثله كالمذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 6 الآية السادسة قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62 وقال في سورة المائدة 69: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . وقال في سورة الحج17: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) . للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق وتأخيرها، ورفع الصائبين في آية ونصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك؟ فالجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غير فيها لفظة عما كانت عليه في الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فلا بد من حكمة هناك تطلب، وإن أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك، بل جهلتم. فأما الآية الأولى في هذه السورة ففيها مسائل، ليس هذا المكان مكانها، لأنه يقال: كيف قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا..) إلى قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر.) أي: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، وإذا وصفوا بأنهم آمنوا فقد ذكر أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر، إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين آمنوا بكتب الله المتقدمة مثل صحف إبراهيم والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود، والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى، فهذا ترتيب على حسب ما ترتب عليه تنزيل الله تعالى كتبه، فصحف إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 عليه السلام قبل التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، والتواة قبل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام، فرتبهم الله عز وجل في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة. ثم أتى بلفظ الصابئين، وهم الذين لا يثبتون على دين وينتقلون من ملة إلى ملة، ولا كتاب لهم، كما للطائفتين اللتين ذكرهما الله تعالى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قوله: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من11 قبلنا ... ) الانعام: 156، فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب. وأما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة، وتقديم الصابئين على النصارى ورفعه هنا ونصبه هناك ترتيب ثان لهم. فالأول على ترتيب الكتب، والثاني على ترتيب الأزمنة لأن الصائبين، وإن كانو متأخرين عن النصارى، بأنه لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم، لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فرفع الصابئون ونوى به التأخير عن مكانه، كأنه قال بعد ما أتى بخبر: إن الذين آمونا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون هذه حالهم أيضا، وهذا مذهب سيبويه، لأنه لا يجوز عنده ولا عند البصريين، وكثير من الكوفيين: إن زيدا وعمرو قائمان. والفراء يجيز هذا على شريطه أن يكون الاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الأول المنصوب ب إن لا إعراب فيه، نحو: إن هذا وزيد قائمان، وهذه من كبار المسائل ذوات الشعب. ويتعلق بالخلاف بين البصريين والكوفيين في أن إن لها عملان، النصب والرفع على مذهب البصريين، وأن لها عملا واحدا عند الكوفيين، وهو النصب إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهذه الآية تدل عليه، لأنه قدم فيه الصابئون والنية بها التأخير على مذهب سيبويه، وإنما قدم في اللفظ وأخر في النية، لأن التقديم الحقيقي التقديم لكتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، فإذا فعل ذلك في الآية الأولى وكان هنا تقديم آخر بتقديم الزمان، وجاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قبل ثم أقيمت في لفظه إمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلا على أن هذا الترتيب بالأزمنة، وأن النية به التأخير والترتيب بالكتب المنزلة. وأما الترتيب الثالث في سورة الحج فترتيب الأزمنة الذي لا نية للتأخير معه، لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب، إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتاب لهم، وهم الصابئون والمجوس والذين أشركوا عبدة الأوثان، فهذه ثلاث طوائف، وأهل الكتاب طائفتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة، وأخروا الذين أشركوا لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة وكانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات الله عليهم، فإنهمك كانوا أكثر ممن مني رسول الله بهم، وصلى بجهادهم، وكأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي كانوا أهل زمانه، وهذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين1111 قدم ذكرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 7 الآية السابعة قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة..) البقرة: 80. وفي سورة آل عمران (.. قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات..) آل عمران: 24. فإن قيل: فما الفرق بين اللفظتين؟ ولم كانت الأولى (معدودة) والثانية (معدودات) والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو قوله: (أياما) ؟ والجواب عنه أن يقال: إن الجمع بالألف والتاء أصله للمؤنث نحو مسلمة ومسلمات، وصفحة وصفحات، ومكسورة ومكسورات، ولا يجيء الجمع الذي واحده مذكر هذا المجيء إلا ألفاظ معدودة، نحو حمام وحمامات، وجمل سبطر وجمال سبطرات، وأسد سبطرات، أي: تسبطر عند الوثوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وأما قولهم: كوز مكسور، وجرة مكسورة، فإن ما فيه هاء التأنيث يجمع على" مكسورات" فيقال: جرات مكسورات، وكيزان مكسورة، وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قولك: كيزان مكسورات بأصل، بل المستعمل المستمر في ذلك أن يقال: " كيزان مكسورة" و" ثياب مقطوعة" و" سرر مرفوعة" و"أكواب موضوعة" و" نمارق مصفوفة". فالصفة الجارية على جمع المذكر الواحد يستمر فيه التأنيث على الحد الذي بينته. وعلامة الجمع المؤنث الواحد: الألف والتاء في الأصل، فلما كان "معدودة" من الطرد المستمر، استعمل لفضها في الأول، ولما كان الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بالألف والتاء قد يكون فيما واحد مذكر وإن قل، فكان على سبيل من سبل المجاز، يستعمل ذلك فيه كقوله تعالى: " واذكر الله في أيام معدودات". (البقرة: 203) وقال: ( ... في أيام معلومات) الحج: 28. والأيام جمع يوم، وهو مذكر، فيكون هذا على أحد الوجهين، إما أن يكون المراد: اذكروا الله في ساعات أيام معلومات ومعدودات، لأن المراد أن يكبر الله تعالى في اليوم الواحد في أدبار الصلوات الخمس المكتوبة، فحذفت الساعات، وأقيم المضاف إليها مقامها، وإما أن يكون ألحق بما في واحد علامة التأنيث لاستوائهما في الجمع ودخولهما في الفرعية التي يكتسبان بها لفظ المؤنث. فلما قيل: جرات مكسورة، والجرة مؤنثة جاز أيضا" كيزان مكسورات" حملا على الجمع الذي ليس بحقيقي، وإذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ذلك ف (معدودة) المذكورة في الآية التي في سورة البقرة مستمرة في1111111111 بابها وباب غيرها، والجمع بالألف والتاء ليس بمستمر، وإنما هو على ضرب من التشبيه بما أصله الألف والتاء، فكان استعمالها أولا أولى، ولجواز الألف والتاء على غير طريق الاستمرار استعمل في الثاني ليشمل الأصل والجائز بالاستعمال. فأما المعنى في القلة فسواء في قوله (معدودة) و (معدودات) ، وقد قال أيضا) أيام معلومات) على أن تكون الأيام المعلومة في الأصل تسعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فثلاثة منها أيام معلومة، وثلاثة أخرى منها مثلها، وثلاثة ثالثة معلومة، فتجمع هذه الثلاثات على الأيام المعلومات، لأن واحدتها أيام معلومة، والمعلومة تجمع على المعلومات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 "8" الآية الثامنة: قوله تعالى: ( ... فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليهم بالظالين. " (البقرة: 94-95) وقال عز وجل في سورة الجمعة (6-7) : ... ) فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنوه أبدا بما قدمت/ أيديهم ... ) . وللسائل أن يقول: هل في الآية الأولى ما يقتضي" لن" الناصبة، وفي الثانية ما يقتضي الاقتصار على" لا" ورفع الفعل بعدها؟ فالجواب أن يقال: إن الآية الأولى لما كانت مفتتحة بشرط علقت صحته بتمني الموت، ووقع هذا الشرط غاية ما يطلبه المطيع، ولا مطلوب وراءه على ما ادعوا لأنفسهم، وهو أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم وجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه، وأبلغه في المعنى، وينتفي شرطهم به، فكان ذلك بلفظه" لن" التي هي للقطع والثبات، ثم أكدت بقوله تعالى: (أبدا) ليبطل تمني الموت الذي يبطل دعواهم بغاية ما يبطل به مثله. ألا ترى أنه ليس بعد حصول الدار الآخرة خالصة لأمة من الأمم مقترح، ولا مطلب لمطلب. وليس كذلك الشرط الذي علق به تمني الموت في سورة الجمعة، لأنه قال: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمكم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (الجمعة: 6) ، وليس زعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس، المطلوب الذي لا مطلوب وراءه، لأنهم يطلبون بعد ذلك إذا صح لهم هذا الوصف دار الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فلما كان الشرط في هذا المكان قاصرا عن الشرط في المكان الأول، ولم يكن الدعوى دعوى غاية مطلوبة، لم يحتج في نفيه وإبطاله إلى ما هو غاية في بابه، فوقع الاقتصار على (لا يتمنونه) ، وليس في لفظه معنى التأبيد، وإنما حصل ذلك فيه بمقارنته من قوله) أبدا) ، فكان الأول أو كد وأبلغ، لأن لفظي الاسم والفعل للتأبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فافترق الموضعان لهذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (9) الآية التاسعة: قوله تعالى: ( ... قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) البقرة: 120. وقال في هذه السورة أيضا: ( ... وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبله بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) البقرة: 145. وقال في سورة الرعد (37) : (ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله ولي ولا واق) . للسائل أن يسأل فيقول: (ما) في هذه الموضع بمعنى" الذي" فما الفائدة في إخراج بعضها على لفظ" الذي" وإيقاع الآخر على لفظ"ما"، وإدخال" من" في " بعد" في قوله تعالى: (من بعد ما جاءك من العلم) البقرة: 145؟ وهل بين قوله تعالى: (من بعد ما جاءك من العلم) ، وقوله: (بعدما جاءك من العلم) فرق؟ وهل بين" الذي" و" ما" فرق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والجواب عن ذلك أن يقال: نبين أولا الفرق بين" الذي" وبين" ما"/ ليصح الفصل ويظهر موضع كل واحد منهما، والمعنى الذي يليق بهما. اعلم أن" ما" إذا كانت" الذي" فإنها توافقها، بأنها تبين بصلتها، وتخالفها في أشياء كثيرة، فتصير" الذي" متضمنة من البيان ما لا تتضمنه" ما"، فمن ذلك أنك تدخل على"الذي" أسماء الإشارة، فتكون" الذي" صفة لها كقوله تعالى: (آمن هذا الذي هو جند لكم ... ) الملك: 20 وقوله تعالى: (آمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ... ) الملك: 21. فيكتنف" الذي" بيانات: أحدهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الإشارة قبلها، والآخرة الصلة بعدها، ولا يكون ذلك في "ما" لأنها لا يوصف بها كما يوصف ب" الذي"، لا يقال: آمن هذا هو جند لكم. والثاني: إن" ما" تنكر فيجري ما كان صلة لها صفة تبينها، وليس ذلك في" الذي"وهو كقوله في الشعر: رب ما تكره النفوس من الأ ر له فرجه كحل العقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والثالثة: إن" الذي" تثنى وتجمع وتؤنث فتلحقها هذه العلامات بيانا لهذه المعاني، و" ما" لا يلحقها ذلك، بل هي على لفظة واحدة في التثنية والجمع والتأنيث. والرابع: إن" الذي" لزمتها أمارة التعريف، وهي الألف واللام، وليس ذلك ولا شيئ مما ذكرنا في" ما" ولشدة إبهامها خص التعجب بها، لأن سبب التعجب إذا استبهم كان أبلغ في معناه. فإذا تبينت أن" الذي" و"ما" التي بمعناها اسمان مبهمان ناقصان، ف" الذي" تزيد على" ما" في وجود البيان التي ذكرنا، رجعنا إلى الآيات الثلاث، وبينا ما يليق من الاسمين بكل آية، فكان قوله تعالى: ( .... بعد الذي جاءك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 العلم .... ) البقرة 120. أي: لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتها، ولن ترضى عنك النصارى حتى تتبع نلتها، وإتباع الملتين في عصر النبي (، ولذلك قال الله تعالى: ( .... قل إن هدى الله هو الهدى..) أي: الإيمان الذي بعثك به هو الطريق المؤدي إلى رضا الله وإلى ثوابه. ثم قال: ( ... ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي نصير) البقرة: 120. فمنعه من إتباع الفرقتين بالعلم الذي حصل له بصحة الإيمان وبطلان الكفر. و" الذي" في هذا المكان واقعة على العلم الذي ثبت به الإسلام، وصح به الإيمان، وكما أن هذا العلم مانع من الكفر الذي هو أكبر الذنوب، فالعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الذي يمنع منه أفضل العلوم، فإذا عبر عنه بأحد هذين الاسمين المبهمين، وجب أن يختص منهما بالأشهر، إذا كان للعلم المحيط بالأكثر، وهو جملة الدين. فأما الموضعان الآخران فليس القصد فيما عبر بلفظة ما عنه فيهما مثل القصد في الآية الأولى، وذلك أن قوله: (..من بعد ما جاءك من العلم ... ) جاء بعد خبر الله تعالى عن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم في القبلة، لأنه عز اسمه قال: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل الآية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين..) البقرة: 145، فمنع عز وجل من اتباع أهوائهم في أمر القبلة، وهو بعض الشرع بما حصل له من العلم بأن القبلة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إليها، فإذا كان ذلك بعض الشرع كان العلم بصحته بعض علم الشرع، ولم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 كالعلم في الآية الأولى الذي هو محيط بكل الشرع وبكل الإيمان فلما كان واقعا على بعض ما وقع عليه الأول، لم يشتهر شهرته فعبر عنه باللفظ الأشهر. وكذلك قوله تعالى في سورة الرعد 37: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق) ، إنما جاء بعد قوله: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه..) الرعد: 36، فنهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم في البعض مما أنزل إليك، وهو الذي ينكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الأحزاب بما ثبت له من العلم بصحة هذا البعض الذي ينكرونه، كما ثبت له بباقيه. فلما كان هذا العلم الذي عبر عنه بلفظة الذي صار كالشائع في أبعاض هي مجموعة في الأول الذي عبر عنه باللفظ الأشهر، فكان العلم المانع من اتباع أهواءهم فيه مثل ما عبر به عن ذلك. فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة من فقال: (.. من بعد ما جاءك من العلم..) البقرة: 145 ولم يكن ذلك في قوله: (.. بعد الذي جاءك من العلم..) وهل لاختصاص هذا المكان ب من فائدة تخصه دون المكانين الآخرين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قلت: هنا فائدة تقتضي من وليست في الآيتين الأخيرتين، وهي: أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم وفي الليلة مؤقتة، فخص بمن التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: (.. ولئن اتبعت أهواءهم..) من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها، وأمرت بالتوجه نحوها صوت من الظالمين. فلما تخصص بوقت مضيق محدود لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: (..قل إن هدى الله هو الهدى..) لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان، وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة من التي هي للحد وابتداء الغاية. وكذلك الآية في سورة الرعد، لما كان العلم المانع من اتباع أهواءهم علما بأن جميع ما أنزل الله تعالى حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل، كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الفرض فيها بوقت يجب حده بزمان بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول من في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ومما يبين لك الأغراض التي أشرت إليها في الآي الثلاث، وأنها تجوز أن تكون مقصودة والله أعلم: ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه من اتباع أهوائهم في قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة: 120، هو منع من الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا نصير) البقرة: 120. والآية الأخيرة أيضا، لما كان العلم بها مانعا من العمل بشطر من الدين، وترك شطر منه، كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا واق) الرعد: 37. وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يجوز تبديله وتغييره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون في الموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إن إذا لمن الظالمين) البقرة: 145 أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء غير موضعه ونقصت الدين حقه فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 10 الآية العاشرة قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا..) البقرة: 126. وقال في سورة ابراهيم 35: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا..) . للسائل أن يسأل فيقول: لم كان في سورة البقرة بلدا نكرة، وفي سورة ابراهيم معرفة؟ والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلدا، فكأنه قال: رب اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، لأن الله تعالى حكى عنه أنه قال: (ربنا إني أسكت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 المحرم) ابراهيم: 37 بعد قوله: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، ووجه الكلام فيه: تنكير بلد الذي هو مفعول ثان، وهذا مفعول أول. والدعوة الثانية وقعت، وقد جعل الوادي بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته كما أردت ومصرته كما سألت ذا أمن على من أوى إليه ولاذ به فيكون البلد على هذا عطف بيان على مذهب سيبويه، وصفة على مذهب أبي العباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المبرد وآمنا مفعولا ثانيا، فعرف حيث عرف بالبلدية، ونكر حيث كان مكانا من الأمكنة غير مشهور بالتميز عنها بخصوصية من عمارة وسكنى الناس. والجواب الثاني: أن تكون الدعوتان واقعيتين بعد ما صار المكان بلدا، وإنما طلب من الله تعالى أن يجعله آمنا، وللقائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أن يقول: اجعل ولدك هذا ولدا أديبا، وهو ليس يأمره بأن يجعله ولدا، لأن ذلك ليس إليه، وإنما أمره بتأديبه، فكأنه قال: اجعله على هذه الصفة، وهذا كما يقول: كن رجلا موصوفا بالسخاء، وليس يأمره بأن يكون رجلا، وإنما يأمره بما يجعله وصفا له من السخاء، فذكر الموصوف وأتبعه الصفة، وهذا كما تقول: كان اليوم حارا، فتجعل يوما خبر كان، وحارا صفة له، ولم تقصد أن تخبر عن اليوم بأنه كان يوما، لأنه يصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 خبرا غير مفيد، وإنما القصد أن تخبر عن حر اليوم، فكان الأصل أن تقولك كان اليوم حارا، وأعدت لفظ يوم لتجمع بين الصفة والموصوف، فكأنك قلت: كان هذا اليوم من الأيام الحارة، وكذلك تقول: كانت الليلة ليلة باردة، فتنصب ليلة على أنها خبر كان وحكم الخبر أن يتم به الكلام، ولم قلت: كانت الليلة ليلة لم يكن الكلام تاما، لأن القصد إلى الصفة دون الموصوف فكذلك قوله تعالى: (.. رب اجعل هذا بلدا آمنا..) البقرة: 126 يجوز أن يكون المراد: اجعل هذا البلد بلدا آمنا، فيدعو له بالأمن بعد ما قد صار بلدا على ما مثلت، ويكون مثل قوله: (..اجعل هذا البلد آمنا..) إبراهيم: 35، وتكون الدعوة واحدة قد أخبر الله تعالى عنها في الموضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة، كما تقول: رأيت رجلا، فأكرمت الرجل، فليس بشيء، وليس ما ذكره مثلا لهذا، ولا هذا المكان مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 11 الآية الحادية عشرة في هذه السورة مفارقة للآي التي شرطنا الفرق بينهما وبين ما خالفها بلفظ يسير من الآية التي بإزائها غير أنها مثلها في التكرار، والحاجة إلى ذكر الفائدة في إعادتها، وهي قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: 134. للسائل سؤالان: أحدهما: أن يقول: ما فائدة الآية وهي خبر يعلمه المخاطب قبل أن يخبر به، ولا يستفيد بذكره ما لم يكن يعلمه قبل، لأنه يعلم أن الأمة التي وصاها يعقوب عليه السلام قد مضت وانقضت ولها ما كسبت من أجر، وعليها ما اكتسبت من إثم، وللمخاطبين أيضا أن يؤاخذوا بعملهم، لا بعمل غيرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ولا يسألوا عما عملهم من تقدمهم. وإذ كان معنى الآية هكذا فهو معلوم لكل أحد مميز لا يحتاج إلى استفادته بإخبار مخبر؟ والسؤال الثاني هو عن تكرار هذه الآية، لأنها ذكرت في صدر العشر المفتحة بقوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم..) البقرة: 131، ثم أعيدت في خاتمة هذه العشر التي تنقطع إلى قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها..) البقرة: 142. فأما الجواب عن السؤال الأول وذكر فائدة الآية مع وضوح معناها لكل ذي معرفة فمن وجهين. أحدهما: أن يكون مثل هذا الكلام يقال، وإن كان معلوما للإنسان على سبيل التنبيه على العصيان والبراءة إليه من فعله، وأنه هو المؤاخذ به من دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 غيره، فيخرج الكلام على حد من المعدلة والنصفة لا مذهب لأحد عنه، ويكون هذا أدعى له إلى التأمل والتدبر وأقرب له من التبصر، كما قال تعالى لتنبيه: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) يونس: 41، فهذا أيضا معلوم إلا أنه على سبيل تخليتهم مع النظر لأنفسهم والتبريء مما يعود بسوء العاقبة عليهم، وعلى هذا الحد: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون: 6، وهذا كثير، والقصد به مفيد كما بينا. والوجه الثاني من الجواب عن السؤال الأول أن يقال: إن هذه الآية تبكيت للمعاندين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن لزوم دينهم وشريعتهم مما أوجبه الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه على سلفهم وخلفهم، فاحتج عليهم بأن ما يدعونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لا يقدرون فيه على أن يقولوا: إنهم سمعوا ذلك منهم مشاهدة، لقوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي..) البقرة: 133 على معنى لم تكونوا شهداء، فإذا لم يثبت ذلك عندهم بمشاهدة تقطع العذر وتلزم الحجة، لأن تلك الأمة قد خلت وانقضت وأدت عن الله تعالى ما تحملت، وهو أن تكون التوراة قد خلت وانقضت وأدت عن الله تعالى ما تحملت، وهو أن تكون التوراة قد أخبرت بمجيء عيسى عليه السلام ومجيء النبي بعده، فلها الأجر في صحة أداءها وإظهارها ما أخذ الله به من الميثاق عليها في قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) آل عمران: 187. ومعنى (ولكم ما كسبتم) أي: إثم ما كسبتم لما نبذتم ذلك وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ظهوركم، واشتريتم به ثمنا قليلا، فهذا معنى قوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتهم..) يبين ذلك أنهم إذا لم يعملوا ما يدعونه من طريق المشاهدة لم يبق إلا أن يعلموه بخبر مخبر، والمخبر الذي بينهم وبين تلك الأمة ممن يجوز عليه الكذب، فهذا خبر الله تعالى، وهو الخبر الذي يكذب نبيه على ذلك بقوله عند الانتهاء: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله..) البقرة: 140 أي: إذ لم تعلموا ذلك من طريق مشاهدة لانقضاء تلك الأمة، فالله تعالى أعلم منكم، قوله أصدق من قبلكم، وأنتم تعلمون فتكتمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ما عندكم من الشهادة حسدا وبغيا وطلبا للرئاسة، والله تعالى قد ثبت يبعثه محمد أنه رسوله، وأن هذا القرآن تنزيله بحج لائحة، وبراهين واضحة وهو عز من قائل يخبر خبرا حقا وقولا صدقا، أن الذي يدعون نقله عنهم ليس بحق فإذا بطل علمكم من طريق المشاهدة، ومن طريق الخبر، لم يثبت لكم من الحجة ما ثبت عليكم، ويكون معنى قوله: (ولا تسألون عنا كانوا يعملون) ولا تسألون عن عملهم، لأنه لا حجة لكم فيه، بل حجة عليكم، وقد قاموا به حق القيام، وثبت لهم صدق هذا المقام، فلا تسألون عن عملهم الذي هو صفتهم، ولا قال لكم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 هل أدوا ذلك إليكم، ولوضوح الحجة به عليكم. ويجوز أن يكون في ضمن هذه الآية: وهم مسؤولون عن عملكم تبكيتا لكم، وتثبيتا لحجتكم عليكم فيذكر أحد الضدين، ويكتفي به عن الضد الذي ينافيه، كما قال الله تعالى (..وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر..) في معاناه: وتقيكم البرد، فكذلك قوله: (ولا تسألون عما كانوا يعملون) وهم مسؤولون عن عملكم كقوله تعالى: (وإذ قال الله يا عسى ابن مريم أأنت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله..) المائدة: 116 فأخبر عز اسمه أنه يسأل عيسى عليه السلام عن عمل القوم بعده، وادعائهم عليه ما لم يقله تبكيتا للقوم وتثبيتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 للحجة عليهم، فذلك معنى المحذوف من الآية بإزاء المثبت فيها اكتفاء بذكره عنه. وبقي الجواب عن فائدة تكرار الآية في أول هذه العشر، وفي آخرها، وهو أنها ذكرت في الأول بعد قوله تعالى: (أم كنتم شهذاء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم..) البقرة: 133 -134 ومعناه: أن إسرائيل عليه السلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم ووصاهم بها، فقال تعالى لهؤلاء: أتنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السلام بنيه، وتقريره إياهم، وإقرارهم بها، والأمة قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 انقضت، وحالها في عبادتها قد ثبتت ومن نفى ما ثبت من الدين فقد دخل في الكفر، فهذه الآية الأولى عقب ما ثبت من تقرير يعقوب عليه السلام لبنيه وإقرارهم له، وهذه الآية كرر بعينها بعد قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله..) البقرة: 140 أي أم أنتم تثبتون ما هو منتصف، ومن أثبت في الدين ما ليس منه من هذا البهتان العظيم فهو في الإثم كمن نفى عنه ما هو منه، ففي الأول نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل، وفي الثاني إثبات ما هو منتف من كون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق هودا أو نصارى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وكل واحد من هذين يوجب من البراءة ويستحق به غلط الوعيد، والتخويف بالعقاب، والتنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قدم في الدعوى الأولى الكاذبة، وكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها وتنبيه على فساد قوله، كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، وحقها كما وقعت الأولى في محلها ومستحقها، فلم يكن ذلك تكرارا، بل كان وعيدا عقيب كبيرة، كما كان الأول وعيدا عقيب كبيرة أخرى غير الثانية والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 12 الآية الثانية عشر قوله تعالى في هذه السورة: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة: 136. وقال تعالى شبيها بهذه الآية في سورة آل عمران 48: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) . للسائل أن يسأل عن موضعين من هاتين الآيتين: أحدهما: قوله عز وجل: (أنزل إلينا) في الأولى (علينا) في الثانية، والموضع الثانيـ تكرار (أوتي) في الأولى، وحذفها في الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فيقول: هل لاختيار إلى مع قوله (أنزل) في سورة البقرة فائدة توجب اختصاصها؟ وهل لاختيار على مع (أنزل) في سورة آل عمران معنى يقتضيها؟ ولم كرر (أوتي) هنا ولم يكرر هناك؟ والجواب المختصر المشار به إلى الفرق بين الموضعين في إلى وعلى: أن أول الآية التي اختصت بها على (قل آمنا بالله..) وأول الآية التي اختصت بها إلى: (قولوا آمنا بالله..) وشرح ذلك: أن على موضوعة لكون الشيء فوق الشيء، ومجيئه من علو فهي مختصة من الجهات الست بجهة واحدة وإلى للمنتهى، ويكون المنتهى من الجهات الست كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وإن توجه نحو الشيء شيء عن يمينه أو عن شماله، أو من قدامه، أو من ورائه، أو من فوقه، أو من تحته، فإنه إذا بلغة يقال فيه انتهى إليه، فلا تتخصص إلى بجهة واحدة، كما تتخصص على. فقوله تعالى (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا..) اختيرت فيها إلى لأنها مصدرة بخطاب المسلمين، فوجب أن يختار لها إلى، ثم جعل ما عطف عليه على لفظه الحق الإتباع، وإن صح فيه معنى الانتهاء، فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، وإنما أنزل على الأنبياء صلوات الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عليهم وسلامه، ثم انتهى من عندهم إليهم، فلما كان (قولوا) خطابا لغير الأنبياء وكان لأممهم كان اختيار إلى ألى من اختيار على. ولما كانت في سورة آل عمران قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا) كانت على أحق بهذا المكان، لأن الوحي أنزل عليه. وفي لفظة أنزل دلالة انفصال الشيء من فوق إلى أسفل وأن يقرن إليه ما يشاكله فيما يستحقه من المعنى أولى، وإن كان القرآن قد نطق بجميع ذلك في الأنبياء صلوات الله عليهم وفي غيرهم، كقوله عز وجل: (.. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه..) آل عمران: 3 وقال بعده: (هو الذي أنزل عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الكتاب منه آيات محكمات..) أل عمران: 7 وقال في موضع آخر: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق..) المائدة: 48. فالمنزل على الأنبياء منته إليهم، فلذلك صحت إلى إلا أن على أصلها: إذا قصد الإفصاح بالمعنى أن يستعمل فيمن نزل الوحي عليه، وشركة الأمة في اللفظة له مجاز لا حقيقة، وإلى في ذكر الإنزال المتعلق بأمم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أشبه بحقيقة معناها من على، فلذلك خصتا في الموضعين باللفظين المختلفين، وجعل ما بعدهما يجري مجراهما كما يجب في حكم الإتباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظة (أوتي) من سورة البقرة ولم تعد فيما بإزائها من سورة آل عمران، فالجواب عنه أن يقال: إنما اختصر هناك، لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة..) آل عمران: 81 فقدم ذكر إيتاء الكتاب، واكتفى بع عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل التأكيد. وبيان ذلك: أن هذه العشر مبنية على ذكر عهد الله إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وما أخذ عليهم من المواثيق في تبيين ما أنزله إليهم للناس، فقوله: (.. وما أوتي النبيون من ربهم) هو قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) في المعنى، فلما تقدم هذا الذكر وجاء (وما أوتي موسى وعيسى) اكتفى عن إعادة (وما أوتي النبيون) بالذكر المتقدم، ولما لم يتقدم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 سورة البقرة ذكر إيتاء النبيين ما أوتوا من الكتب في هذه العشر لم يكن فيه ما يغني عن التأكيد بإعادة اللفظ. هذا الفرق بين الموضعين. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره..) (البقرة: 144) وقال بعده في هذه العشر: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعلمون. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره..) (البقرة: 149-150) . للسائل أن يسأل عن الفائدة في تكرار هذه الآي في هذه العشر مع أن في واحدة كفاية؟ فالجواب عنه أن يقال: إن قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) هو الأمر الأول بالتوجه محو القبلة التي هي الكعبة، والخطاب للنبي (وما بعده هو خطاب له ولأمته، وهو قوله: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وأما الآية الثانية وهي قوله: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) ، فالخروج خروجان، أحدهما: خروج المصلي من مكان إلى مكان يرى فيه الكعبة وهو المسجد الحرام، فكأنه قال: ومن أي باب من أبواب المسجد خرجت فتوخ استقبال الكعبة بالصلاة، والخروج الثاني خروج من البلد الذي فيه المسجد الحرام وهو الحرم، فكأنه قال: وإن خرجت من البلد من أي باب خرجت فاجعل الكعبة قبلة لك تتوجه نحوها بصلاتك. فعلى هذا يكون لكل آية فائدة، فالأولى ليس فيها خروج، والثانية فيها خروج من أقرب الأماكن إلى الكعبة، والثالثة خروج مما عدا ذلك عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 في البلاد. وقد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا يثبت مثلها للبعد، فوقعت مظاهر بالأمر بتولي القبلة في القرب والبعد. ولفظة (خرجت) لفظة الماضي، وهي في موضع المستقبل لأن المعنى الشرط والجزاء، و (حيث) وحدها وإن تضمنت معنى الشرط فإنه لا يجوز بعدها الفعل المستقبل، بل تقول: من حيث تخرج، فترفع/ الفعل، وإن أردت: من أي موضع تخرج، ف" أي موضع" يجزم الفعل، و"حيث" لا تجزمه إلا إذا قارنتها "ما"، فتقول: حيثما تنزل أنزل، فإن قلت: حيث تنزل أنزل، بطل الجزم ووجب الرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 @@@ 12111 فقوله تعالى: (وحيث ما كنتم) ، و" كنتم" في هذا المكان في موضع الفعل مجزوم، كأنه قال: وحيث ما تكونوا فولوا وجوهكم شطره، وليس كذلك (ومن حيث خرجت) إلا أنه لا يخرج عن تضمن معنى الشرط، يبين ذلك دخول الفاء في الجواب، ولولا هذا المعنى ما احتيج إليها، فلهذا قلنا: إن الماضي بعدها بمنزلة المستقبل، كما يكون في قولك: إن خرجت خرجت، إلا أن الماضي لا يجزم كما لا يجزم الفعل في صلة الذي وإن دخله معنى الشرط. إذ قلت: الذي يزورني فله درهم، فأوجبت الدرهم بالزيادة، وحيث في هذا الموضع على غير ما هي عليه في قولك: قعدت اليوم حيث قعدت أمس، لأن تلك شائعة كشياع الأسماء التي تقع بمعنى الشرط ويجازي بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الآية الرابعة عشرة قوله تعالى: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أول كان آبائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) البقرة 180. وفي هذه الآية موضعان يشابهان موضعين من آيتين أخريين: الأول: قوله: (ما ألفينا عليه آباءنا..) وبإزائه قوله في سورة لقمان الآية: 21: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا..) . والموضع الثاني يشبه قوله في سورة المائدة الآية: 104: (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) . للسائل أن يسأل فيقول: هل لتخصيص الموضع الذي في سورة البقرة بقوله: (ألفينا دون قوله) : (وجدنا) دون قوله: (وجدنا) فائدة تخصه؟ وهل لتخصيص الموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الثاني بقوله: (لا يعقلون شيئا) دون قوله: (لا يعلمون شيئا) فائدة؟ وهل لتخصيص (لا يعلمون) في موضعه دون قوله: (لا يعقلون) في موضعه فائدة؟ والجواب عن الموضع الأول وهو قوله: (ألفينا) : أن (ألفينا) يقصد بها بعض الوجوه التي ستعمل عليها: (وجدنا) ، لأنه يقال: وجدت الشيء، فلا يحتاج إلى مفعول ثان إذا وجدته عن عدم، ولوجدان الضالة الضالة تقول: وجدت الضالة وتقول: وجدت زيدا عاقلا، فيكون الوجود متعلقا بالخبر الذي هو المفعول الثاني، فلا بد له في هذا الوجه منه، ولا يكتفي بالمفعول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وأما قولهم: ألفيت، فإنها مخصوصة بهذا الوجه من وجوه وجدت، لا يقال: ألفيت درهما بمعنى: وجدت درهما، ولا ألفيت الضالة، فكان في الموضع الأول استعمال اللفظ الأخص أولى، وتأخير اللفظ المشترك إلى المكان الثاني أولى. وأما المسألة الثانية من هذه الآية في قوله: (أولو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) فالجواب عنها أن يقال: إن لقوله: (يعلمون) رتبة ليست لقوله (يعقلون) ، وإذا وقفت على ما بينها سهلت عليك معرفة ما أوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فقول القائل: يعلم، معناه: يدرك الشيء على ما هو به مع سكون إليه، وقوله: يعقل، معناه يحصره بإدراك له عما لا يدركه، ولذلك جاز أن تقول: يعلم الله كذا، ولا يجوز أن تقول يعقل الله كذا، لأن العقل: الشد، والعاقل: الذي يحبس نفسه عما تدعو إليه الشهوات، ولا شهوة الله تعالى فيحبس عنها، فلذلك لا يقال الله عاقل، ويقال: عقل فلان الشيء وهو يعقله بمعنى حصره بإدراكه له عما لا يدركه، وشده بتميزه له عن غيره مما لا يدركه، وهذا لا يصح في حق الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فإذا كانت رتبة (يعلمون) زائدة على رتبة (يعقلون) فأخبر الله تعالى عن الكفار في سورة المائدة فقال (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أول كان آبائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) المائدة: 104 فبين أنهم ادعوا رتبة العلم بصحة ما كان آباءهم عليه، لأنهم قالوا: (حسبنا ما وجنا عليه آباءنا) ، ولفظة حسبنا تستعمل فيما يكفي في بابه ويغني عن غيره، فالمدرك للشيء إذا أدركه على ما هو به وسكنت نفسه إليه فذاك حسبه، فاستعمل لفظة يعملون ونفي عنهم النهاية لأنهم اعدوها بقولهم: حسبنا، فكأنهم قالوا: معنا علم سكنت نفوسنا إليه مما وجدنا عليه آباءنا من الدين، فنفى ما ادعوه بعينه وهو العلم. والموضع الأول في سورة البقرة لم يحك عنهم فيه أنهم ادعوا تناهيهم في معرفة ما اتبعوا عليه آباءهم، بل كان قوله تعالى: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا..) البقرة: 170، ولم يدعوا أن ما ألفوا عليه آباءهم كان كافيهم وحسبهم، فاكتفى بنفي أدنى منازل العلم لتكون كل دعوى مقابلة بما هو بإزائها مما يبطلها والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 15 الآية الخامسة عشرة قوله تعالى في هذه السورة: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) البقرة: 172-173. وجاء في ثلاثة مواضع بعده: (وما أهل لغير الله به) : أولها في سورة المائدة، (الآية: 3)) حرمت علكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به..) . والثاني في آخر سورة الأنعام" الآية: 145": (قل لا أجد فيها أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دم مفسوخا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به..) وفي سورة النحل" الآية: 115" (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به..) . فجاء في المواضع الثلاثة (به) مؤخرة عن قوله (لغير الله) ، وفي الموضع الأول من سورة البقرة مقدمة على قوله (لغير الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 للسائل أن يسأل فيقول: لم أختلف الموضع الأول مع المواضع التي بعده؟ والجواب أن يقال: أما الموضع الأول فإنه جاء على الأصل الذي يقتضيه حكم اللفظ، لأن الباء التي يتعدى بها الفعل في هذا المكان من جملة الباءآت/ التي كحرف من نفس الفعل، تقول: ذهبت بزيد، ثم تقول: أذهبت زيدا، فتصير الباء كالهمزة المزيدة في بنية الفعل، فيجب لذلك أن تكون أحق بالتقديم، وما يتعدى إليه الفعل باللام لا تتنزل لأمة منزلة الحرف من نفس الفعل فصار قوله: (أهل بغير الله) بمنزلة ذبح لغير الله مسمى عليه اسم بعض الآلهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فلما كان هذا الأصل في الأول جرة الآية عليه، ولما كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلا إذا كان لغير الله، كان ما عدا الأصل بالتقديم المستنكر أحق وأولى. ألا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعنى، فيقولون: ضرب زيدا عمرو، فيقدمون المفعول على الفاعل، لأن الاهتمام بأمره أتم، لأن هذا ينفي به ما في وهم متوهم، أو قول قائل: ضرب زيد محمد، فيقع الخلاف في المفعول لا في الفاعل، فيقول المنكر لذلك صحة ما عنده: ضرب عمرا زيد لا محمد، فإن ترك قوله: محمد كان مكتفيا عنه بتقديم المفعول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وكذلك ما ينكره من الفضلات كالظرفين والحال، فقال المخاطب لو توهم: ضرب زيد عمرا اليوم، فقال المنكر: ضرب أمس زيد عمرا، فقدم" أمس" على الفاعل والمفعول به، لأنه هو الذي ينكره ويمنع أن يكون على ما توهمه، والباقي من الكلام ليس فيه ما يستنكره، فالعناية بتقديم ما يزيل الشك عنه أتم، وهو بالتقديم أحق، وكذلك قوله تعالى: (وما أهل لغير الله) مع قوله: (وما أهل لغير الله به) في هذه الآي الثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 "16" الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: (.. فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) " البقرة: 173". وقال في سورة الأنعام: " الآية: 145": (.. فمن اضطر غير باع ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) . وقال في سورة النحل"115": (.. فمن اضطر غير باع ولا عاد فإن الله غفور رحيم) . للسائل أن يسأل فيقول: هل لاختلاف هذه الألفاظ التي أتعبت قوله: (فمن اضطر غير باع ولا عاد) معنى يخصص كل مكان باللفظ الذي اختص به؟ والجواب أن يقال: قصد الله تعالى في المواضع الثلاثة أن يبين للمضطر ما له أن يتناوله من المحرم الذي يمسكه به رمقة، فذكر في الموضعين الأخيرين: (فإن ربك غفور رحيم) و (فإن الله غفور رحيم) فكان تعريضا بمغفرته لمن اضطر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تناول المحرم في حالته، والموضع الأول بدا فيه بصريح اللفظ في إسقاط الإثم فقال: (فلا إثم عليه) ثم عقبه بما اتصف به من المغفرة والرحمة. وفي هذه الآي الثلاث سؤال آخر، وهو أنه قال في الأولى: (إن الله غفور رحيم) وفي الثانية: (فإن ربك غفور رحيم) وفي الثالثة: (فإن الله غفور رحيم) فهل لاختصاص الأول والأخير بذكر"الله" تعالى فائدة؟ ولاختصاصه في الآية الثانية بقوله: (فإن ربك غفور رحيم) وعدو له عن ذكر "الله" تعالى إلى ذكر/"ربك" فائدة تخصصه بمكانه؟ والجواب عن ذلك أن يقال: لكل موضع معنى يوجب اختصاص اللفظ الذي ذكر فيه، فأما الأول فلأنه لما قال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 كذا، كان بما قدمه مثبتا عليهم إلهيته، لأن الإله هو الذي تحق له العبادة بما له من النعمة، فلما قدم ذكر ما رزقهم منها وطالبهم بشكرها أتبعه بقوله: (إن كنتم إياه تعبدون) ، وختم الآية بأنه قال: (إن الله غفور رحيم) أي: إن من أنعم عليكم غاية النعمة واستحق بها غاية التعبد والتذلل هو الذي يغفر لكم عند الضرورة تناول ما حرم عليكم في حال الاختيار، رحيم بكم. وكذلك الآية الثالثة مبينة على مثل هذا، لأن أولها: (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون) "النحل: 114" فكان مشبها لما قدمنا ذكره فقال: (فإن الله غفور رحيم) . وأما الثانية فلأنه قدم ذكر أصناف ما خلقه الله تعالى لتربية الأجسام، فقال: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات..) فذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الثمار والحب وأتبعه بذكر الحيوان من الإبل والبقر والغنم خص هذا الموضع بذكر" الرب" لأن الرب هو القائم بمصالح المربوب فكان هذا أليق بهذا المكان. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 "17" الآية السابعة عشر: قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) . " البقرة: 174". وقال في سورة آل عمران" آية: 77": (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إلهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) . للسائل أن يسأل فيقول: إن الإخبار في الموضعين عن أهل الكتاب الذين كتموا ذكر النبي (من كتابهم المنزل عليهم من التورات والإنجيل، والتوعد في الموضعين مختلف، والكبير واحدة، فهل هناك معنى يوجب اختلاف الوعيد في المكانين. الجواب أن يقال: الوعيد في كل مكان من المكانين حسب ما ذكر من عظيم الذنب وكبير الجرم، فقال في سورة "البقرة: 174": (إن الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) فوصفهم بأنهم خالفوا الله في أمره ونقضوا ما قدم إليهم من عهده، حيث قال: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه..) "آل عمران: 187" فهؤلاء لم يبينوا وكتموا فخالفوا بارتكاب ما نهى الله عن ارتكابه وترك ما أمر الله بإتيانه ثم قال: (ويشترون به ثمنا قليلا) أي: نصيبا يسيرا من الدنيا، فجاء على هذا أغلظ الوعيد، وهو قوله: (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) أي: هذا الحظ اليسير الذي نالوه من الدنيا من مطعم ومشرب إنما هو نار في أجوافهم، ثم قال: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) أي: ليسوا ممن ترجى نجاتهم فيجيئهم من قبل الله كلام أو سلام كما قال في أوليائه: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) " الأحزاب: 44" ثم قال: (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم مكن الذنب الكفر بالعفو عنهم، (ولهم عذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أليم) ، ثم قال: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) " البقرة: 175"، فكرر ذكر سوء اشترائهم ووعيدهم، وأنهم باعوا الإسلام بالكفر، واشتروا عذاب الله بالغفران، واقتحموا عذاب النار فعل من يعجب من صبره عليها. فهذه أنواع كثيرة من التوعد اقترنت بما حصل من الذنب العظيم في كتمانه، والإعراض عن تبيين ما وجب بيانه. الآية التي في سورة آل عمران لم يذكر في أولها من الذنوب التي ارتكبوها مثل ما ذكر في أول هذه الآية قال: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فكان هاهنا ذكر بعض ما ذكر في الآية الأولى وهو: (يشترون به ثمنا قليلا) فقرن به من الوعيد أقل مما قرنه بالآية الأولى، وهو أن قال: (لا خلاق لهم في الآخرة) أي: لا نصيب لهم من الخير، (ولا يكلمهم الله) كما يكلم أولياءه (ولا ينظر إليهم) نظرة رحمة (ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 "18" الآية الثامنة عشر: قوله تعالى: (.. ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها..) " البقرة: 187". وقال في موضع آخر من هذه السورة: (.. تلك حدود الله فلا تعتدوها..) " البقرة: 229". للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختص الموضع الأول بقوله) فلا تقربوها) والموضع الثاني بقوله: (فلا تعتدوها) ؟ الجواب أن يقال: الأول خرج على أغلظ الوعيد كما قال: (ولا تقربا هذه الشجرة..) "البقرة: 35"، وإنما كان نهي عن أكلها لا عن الدنو منها، فخرج مخرج قول القائل- إذا نهى عن الشيئ وشدد الأمر فيه -: لا تقرب هذا الشيئ، وما أحسن ما قال النبي في المنع من مقاربة الحرام: " من رتع حول الحمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 يوشك أن يقع فيه، وكما روي عن بعض الصالحين أنه قال: " إني لأحب أن يكثف الحاجز بيني وبين ما حرم الله". فلما كان هذا الموضع الأول نهيا عن مواقعة النساء في حالة الاعتكاف في المساجد صار فيه تحذير من دواعي المواقعة فاقتضى من المبالغة ما لم يقتضيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قوله: (.. فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها..) " البقرة: 229"، فكأنه قال: لا تتجاوزوها، يعني المرأة إذا افتدت بمهرها وخالفت زوجها لم يكن عليها إثم. وهذه حدود نهي عن تعديها. والحدود ضربان، حد هو منع من ارتكاب المحظور، وحد هو فاصلة بين الحلال والحرام، فأول ينهى عن مقاربته والثاني ينهي عن مجاوزته، وهما المذكوران في هذه السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 "19" الآية التاسعة عشر: قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) " البقرة: 193". وقال في سورة الأنفال" الآية: 39": (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعلمون بصير) . للسائل أن يسأل فيقول: لأي فائدة قال في هذه السورة: (ويكون الدين لله) ولم يأكده، وعقبه بقوله: (فلا عدوان إلا على الظالمين) / وقال في سورة الأنفال: (ويكون الدين كله لله) فأكده واتبعه بقوله: (فإن الله بما تعلمون بصير) ؟ الجواب عن ذلك أن يقال: إن الآية الأولى من سورة البقرة جاءت في قتال أهل مكة، ألا ترى ما قبلها: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أخرجوكم..) " البقرة: 191"، ثم قال: (.. ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه..) "ى البقرة: 191"، وهذا مختص بقتال قوم مخصوصين من أهل الشرك، وهم نازلو الحرم، فاقتصر على الدين من غير توكيد على معنى: حتى يكون الدين حيث هؤلاء، ولا في كل مكان، لأنه لا يحصل بقتل مشركي مكة الدين في كل بلاد. وقوله: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) أي: انتهوا عن كفرهم فلا عدوان عليهم، إنما العدوان على من أقام على الضلالة وظلم نفسه بلزوم الجهالة. وأما في سورة الأنفال فالأمر ورد عاما في قتال كل الكافرين، ألا ترى أن قبل الآية: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف..) " الأنفال: 38"، وليس هذا في طائفة من الكفار دون طائفة، فإذا كان كذلك، وقال بعده: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة..) أي: لا يكون شرك وكفر، اقتضى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أن يكون بعده: (ويكون الدين كله لله) فأمروا بإبطال كل كفر قدروا عليه، واتبعه قوله: (فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير) أي: إن انتهوا وانتقلوا إلى الإيمان وكفوكم عن قتالهم بما يظهرون من الإسلام فإن الله يعلم عملكم وعملهم على القرائين جميعا، فيكون الخطاب للمقاتلين، ولفظ المغايبة للمقاتلين. ويمكن أن يقال إن الخطاب في: (تعلمون) يشمل الكل، لأنه قال: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ، فكلهم قد صاروا مؤمنين، فلا جرم ضمنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 خطاب واحد، وأعلمهم أنه مجازيهم على عملهم، مطلع على سرائرهم، يعلم من كان انتهاؤه عن الكفر لرغبة من رغائب الدنيا، ومن كان انتهاؤه عنه للتبصر، فسوى بين السر والجهر، فاللفظة في ضمنها- إذا وردة من القادر الحكيم- غاية التخويف والوعيد في العقاب الأليم، وغاية الترغيب في الثواب العظيم لفرقتي الطاعة والعصيان، فهذا وجهه. والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 "20" الآية العشرون: قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) " البقرة: 214". وقال في سورة آل عمران"142") أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) . وقال في سورة التوبة"16": (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون) . وللسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلف اللفظ في المواضع الثلاثة، وهو فيها كلها بعث على الجهاد؟ وهل صلح ما هو في الأول للآخر، أم اقتضاه مكانه بعينه دون غيره؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الجواب أن يقال: بل لكل موضع معنى يقتضي اللفظ الذي خص به، فالآية الأولى من سورة البقرة وردت عقيب قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..) " البقرة: 213" ثم قال: (.. وما اختلف في إلا الذين أوتوه) يعني الكتاب (من بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم) فكانت هذه الحالة التي أخبر الله عنها مشبهة حالة النبي/ (والمؤمنين معه فيما دفعوا إليه من بغي المشركين، ومقاتلتهم لهم مجاهدين، فقال: أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها خالدين فيها ولم تفعلوا أفعال الأمم الماضية فيما دفعت إليه هي وأنبياؤها وما نالهم من قتال الكفار من الشدة والمضرة والانزعاج عن المواطن حتى استعجلوا النصر لما استنفدوا الصبر أعلمهم الله عز وجل أن نصره قريب من أوليائه، غير بعيد عن حزبه، وكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم وعاقبه أمرهم ومآلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ومعنى قوله: (تدخلوا الجنة) هو ما بينه في قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون..) " التوبة: 111" فكان في ذكر ذلك شحذ لبصائرهم في الجهاد، وحملهم على الاقتداء بفرق الصلاح وأمم الأنبياء صلوات الله عليهم قبلهم وتأنيس لهم بالصبر على ما حل بهم حتى حمدوا عاقبة أمرهم. وأما الآية الثانية في سورة آل عمران وهي: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) " أل عمران: 142" فهي خطاب للمسلمين الذين نالهم من قتال المشركين جراحات، لأنه قال فيها: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله..) " آل عمران: 140" فقال: أم حسبتم أن تنالوا الجنة ولما تجاهدوا الأعداء من الكفار فيعلم الله ذلك منكم، ولما تصبروا صبرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 زائدا على صبرهم فيرى ذلك من فضلكم عليهم، أي الجنة لمن فعل ما أمره الله تعالى به في الوقت من قتال أهل الكفر وتوطينهم النفس فيه على الصبر فيخفف عليه ما يجد من الألم بما يتحقق من الفوز في الآجلة. والآية التي ردفتها هذه الآية اقتضت البعث على التشمر للقتال والصبر بعد صبر الأعداء، وقيل لبعض العرب: ما كان سبب كثرة ظفركم بأعدائكم، فقال: كنا نصبر بعد صبرهم ساعة فيكون ذلك سبب الظفر. وأما الآية الثالثة في سورة براءة وهي قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 والله خبير بما تعملون) التوبة: 16، فإنها خطاب للمجاهدين من المؤمنين، وتوعد لمن كان منهم يبقى على أقارب له عند الظفر بهم لقوله بعده: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون* قل إن كان آباؤكم..) التوبة: 23-24 الآيتين، فحذر المنافقين الذين ضاموا المؤمنين في قتال المشركين أن يعلم الله مجاهدتهم أعداءهم وقد اتخذوا معها وليجة بينهم وبين المكشرين. فالوليجة: هي المدخل الذي ذكره الله تعالى في الآية. بعدها عند وصف المنافقين فقال: (ويحلفون بالله لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون* لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) التوبة: 56-57 الآيتين فقولك: ولج، بمعنى دخل، والوليجة: المدخل وهو الوسيلة التي يدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 بها الإنسان حريم الإنسان، كالباب المفتوح له يفعل فعله، فكأن التوعد كان يقتضي أن يقال لهم: أظننتم أن تتكركوا وما تظهرون من مجاهدتكم أعدائكم أعداءكم ولم يكن منكم جهاد خالص لله تعالى لا تمالئون فيه أبا ولا ابنا، ولا تراعون فيه حميما ولا قريبا، فلا تبقون على ذي معرفة إبقاء تتقربون به رجاء أن يجازوكم عليه، فإن قدرتم أنكم تتركون ومضامة المسلمين في القتال من غير أن يعلم منكم باطنا عاريا من هذه الحال فقد أخطأ ظنكم وأخلف تقديركم فإنكم مطالبون بالتوفقة بين سركم وجهركم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 21 الآية الحادية والعشرون قوله عز وجل: (.. ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر..) البقرة: 232. وقال في سورة الطلاق: 2 (.. ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر..) . للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان الكاف في (ذلك) للمخاطب، فيجمع إذا كثروا ويقال: ذلكم، كما قال في الآيتين، وكما قال: (ذلكم أزكى لكم وأطهر، وقال في مخاطبة الإثنين: (..ذلكما مما علمني ربي) يوسف: 37، وكما قال في مخاطبة النساء: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه..) يوسف: 32، فيثنى ويجمع على حسب المخاطب كما يؤنث ويذكر فيكسر كقوله: (قال كذلك قال ربك هو علي هين..) مريم: 21، فما بال قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 تعالى: (ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر..) في سورة البقرة موحدا الكاف من ذلك مع جمعها في نظيرها في سورة الطلاق؟ . والجواب عن ذلك أن يقال: إن الكاف تجئ في الكلام اسما للمخاطب كقوله: رأيتك، وغلامك، والكاف هاهنا اسم للمخاطب، وموضعها نصب في رأيتك وجر في غلامك. وتجيء متصلة بالأسماء المبهمة التي للإشارة وليست باسما ولكنها للخطاب، ويراد بها معنى آخر وهو تبعيد المشار إليه، نحو ذاك وذلك وأولئك، والدليل على أنها ليست اسما قوله تعالى: (..فذانك برهانان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ربك) القصص: 32، لو كانت اسما مجرورا لما اجتمعت مع نون التثنية في ذالك كما لا تجتمع معها في قولك: غلاماك، لا تقول: غلمانك، ولا يجوز أن تكون الكاف بعد المبهمة اسما منصوبا، لأنه لا ناصب له. وشيء آخر، وهو أن هذه المبهمة معارف ولا تصح إضافتها، والكاف بعدها ليس اسما مضافا إليه، فإذا عريت من الإسمية لم تعر من معنى الخطاب، والمعنى الذي يقارنها مع الخطاب في المبهم أنك تقول: ذا فيكون إشارة إلى قريب، فإذا قلت: ذاك صار بالكاف إشارة إلى بعيد. فلما عريت الكاف من الاسمية قصد بها إلى أحد المعنيين الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وضعت لهما ك ذلك. والأسماء المبهمة كما قصد بها معنيان الخطاب والتبعيد جاز أن تعري من أحدهما، وهو الخطاب ويقتصر بها على معنى التبعيد حسب، على حسب قصد القاصد. وإذا جاءت اللفظة مثناة اللفظ أو مجموعة على حسب حال المخاطبين فهي على المعنيين. وتبيين الموضع الذي يقصد فيه التبعيد وحده لغرض من الأغراض دون الخطاب والتبعيد معا باستقراء كل لفظ في القرآن جاءت فيه ذلك والمخاطبون عدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وتأمل موضعها مع تأمل المواضع الأخر التي ثنيت فيها وجمعت، واستنبط حكمة تقتضي في ذلك الموضع استعمالها للتبعيد وحده دون الخطاب، وسنتأمل هذا على استكمال في كل مكان إن شاء الله تعالى. وجواب آخر عن المسألة وهو أن كل موضع أفردت فيه الكاف والخطاب لجماعة، فإنما قصد بالكاف المفردة مخاطبة النبي، ثم العدول عنها إلى مخاطبة أمته كقوله عز من قائل: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن..) الطلاق: 1 فلم يمنعه قوله: (إذا طلقتم) وهو خطاب الجماعة أن يفرد للنبي خطابا له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 مخصوصا موحدا، وهو قوله: (يا أيها النبي) . وكذلك قوله تعالى: (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله..) البقرة: 232 تكون الكاف في ذلك لخطاب النبي والكاف في (منكم) خطاب لأمته، وكذا كل موضع جاءت الكاف فيه هذا المجيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 22 الآية الثانية والعشرون قوله تعالى: (..فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم بالمعروف والله بما تعملون خبير) البقرة: 234. وقال في آخر هذه العشر (..فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم) البقرة: 240. للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف والباء فقال: (بالمعروف) والمكان الثاني بالتنكير ولفظة (من) ؟ فالجواب عن ذلك أن يقال: إن الأول تعلق بقوله (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم بالمعروف..) البقرة: 234 أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهم بأمر الله المشهور، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 انقضاء العدة، فالمعروف هاهنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي شرعه وبعث عليه عباده. والموضع الثاني: أن المراد به: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من جملة الأفعال التي لهم أن يفعلن من تزوج أو قعود، فالمعروف هاهنا فعل من أفعالهم، يعرف في الدين جوازه، وهو بعض ما لهن أن يفعلنه، ولهذا المعنى خص بلفظة من وجاء نكرة. فجاء المعروف في الأول معرف اللفظ لما أشرت إليه وهو أن يفعلن في أنفسهم بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع لهن ذلك، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه، فعرف إذ كان وجها من الوجوه التي لهم أن يأتينه، فأخرج مخرج النكرة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 23 الآية الثالثة والعشرون قوله عز وجل: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) البقرة: 276. وقال في سورة النساء 36-37 في الموضع الأول إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا* الذين يبخلون..) . وفي الموضع الثاني (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) النساء: 107. وقال في سورة الحديد 23-24: (والله لا يحب كل مختال فخور* الذين يبخلون..) . للسائل أن يسأل عن المواضع الأربعة، عن اختلاف اللفظين في الموضعين، واتفاقهما في الموضعين، واختصاص الموضع بالواو، واختصاص الموضعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الآخرين ب إن؟ والجواب أن يقال: أن يقال: إن الآية الأولى في الكفار الذين استحلوا ما حرم الله، وعارضوا ما أنزل الله فقالوا (إنما البيع مثل الربا) البقرة: 245 حتى قال: (فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون) البقرة: 275، فعظم الله تعالى كفرهم، وسمى كل واحد منهم كفارا على لفظ المبالغة، لأن كفارا بعد كافر، لمن هو مقيم على الكفر، والكفر عادته، كضارب وضراب، وخائط وخياط، ثم أتبعه بقوله: (أثيم) أي: مبالغ في اكتساب الإثم، وأثيم أبلغ من آثم فإذا أثم إثما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بعد إثم فالإثم عادته، وهو وصف من أخير عنه بالاستحلال للربا، سماه كفارا، وصار أثيما بذلك وسائر سيئات الأفعال التي يلحقها بالكفر. والموضع الثاني وهو الأول من سورة النساء، أمرهم بالعبادة وترك الشرك فقال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا..) : 36 أخبرهم أنهم عبيد، والعبد لا يحسن منه الاختيال والفخر، لأن الرق والذل يخالفانه، فلذلك عقبه بقوله: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) وعقبها ب (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) النساء: 37، لأنه بعد العبادة أمرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 بالإحسان للوالدين وإعطاء ذي القربى واليتامى والمساكين فقال: إن الله تعالى لا يحب العبد المختال الفخور البخيل. وأما الموضع الثالث وهو الثاني من سورة النساء: (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) النساء: 107، فلأنه ذكر قبله: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) فأخبر عن حالهم، فاقتضى بتقدم الذكر هذا الوصف. والموضع الرابع (والله لا يحب كل مختال فخور) في سورة الحديد الآية: 23، جاء بعد نهيه عن تمكين الحزن والأسا من على ما يفوت من أحوال الدنيا، ويفجع به الإنسان من مستفاد النعمى للعلم السابق بأنها عوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مرتجعة، وكذلك إذا خول منها الكثير لا يمرح لحبه ولا يبطر فيه كما قال (ولا تمش في الأرض مرحا) الإسراء: 37 أي: فعل المختال، فذم الإفراط في الجزع عند المصيبة والفجيعة، والغلو في الفرح، والمرح عند العطية وكثرة السعة حتى يخرج عن التواضع بما يحول إلى الكبرياء فيبطر ويمرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ويفخر، وقال عقيب ذلك: (والله لا يحب من كان مختالا فخورا) ، وإنما عقبها ب (الذين يبخلون) الحديد: 24 لأن المتقدم عليه (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم..) الحديد: 18 فكأنه حثهم على الصدقة وإقراض الله تعالى، فإن من لم يفعل ذلك يكون بخيلا، والله لا يحب البخيل. وأما الفرق بين الواو وإن فإن الواو في أكثر الأحوال لا تكون أجنبية مما قبلها بخلاف إن فإنها كلمة أجنبية من الكلمتين وضعت لابتداء الكلام، ففي سورة البقرة وسورة الحديد الكلام متصل بعضه ببعض، فذكره بواو حيث قال: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فوصلها بالواو، وكذلك في الحديد: (ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) . والإختيال والفخر إنما يكونان من الفرح، فيجمع بينهما بواو. وأما الموضعان الآخران في سورة النساء فقد تم الكلام فيهما، لأن في الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أمرهم بالعبادة وترك الشرك، والإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار وملك اليمين، وقد تمت هذه الأوامر، ثم ابتدأ بقوله: (إن الله لا يحب من كان) كذا وكذا. وكذلك الموضع الثاني، لأنه نهى النبي (عن المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم، وتم الكلام ثم قال: (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) فاختص كل مكان بالوصف الذي لاق به والسلام. مضى الكلام فيما شابه من سورة البقرة مكانا آخر منها أو من غيرها على اثنين وثلاثين موضعا وقع فيها السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 سورة آل عمران 24 الآية الأولى منها قوله عز وجل: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) آل عمران: 11. وقال في سورة الأنفال52: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب) الأنفال: 52. وبعدها بآية: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) الأنفال: 54. للسائل أن يسأل في هذه الآي عن مسائل: منها في الآية الأولى عن قوله تعالى: (كذبوا بآياتنا) والعدول بعده عن الإخبار عن النفس بالإسم المضمر إلى الاسم المظهر، وهو قوله: (فأخذهم الله بذنوبهم) ولم يقل: فأخذناهم، وهل هاهنا فائدة توجب العدول عن إجراء الكلام الثاني مجرى الكلام الأول في إسناد الفعل إلى ما أسند إليه فيما قبل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 والمسألة الثانية أن يسأل عن الكاف في (كدأب) ووجه اتصالها بما قبلها وموضعها من الإعراب، لأنها بمعنى مثل، والكاف التي يصح مكانها مثل محتوم على موضعها برفع أو نصب أو جر؟ والمسألة الثالثة في الآية الثانية مخالفتها للآية الأولى في إجراء الخبر كله على لفظة واحدة، وهي لفظة الله، لأنه قال تعالى (كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم) ولم يقل: كفروا بآياتنا، كما قال في الآية الأولى؟ والمسألة الرابعة في الآية الثالثة، وهي أنه قال: (كذبوا بآيات ربهم) ولم يقل: بآياتنا، كما قال في الأولى، ولا بآيات الله كما قال في الثانية، بل أتى بصفة من صفات الله عز وجل وهي الرب. والمسألة الخامسة عن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضعين لا يحجر بينهما إلا آية واحدة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أما المسألة الأولى في قوله (كذبوا بآياتنا) ، فوقع الإخبار عن النفس كما يجب في مثله إذا أخبر الماكلم عن نفسه بفعل فأتى بلفظ المضمر دون المظهر ثم خالف ذلك اللفظ إلى غيره فقال: (فأخذهم الله) ، فالجواب عن هذا أن يقال: العدول عن النهج الأول المستمر في الإخبار عن النفس إلى لفظ ظاهر هو لفائدة تتضمنها هذه اللفظة من الإحتجاج، وليست هذه الفائدة في لفظةالإضمار، وكانت الآية التي قبلها قد وقع فيها مثل هذا العدول إلى هذا اللفظة للإحتجاج الذي من أجله وقع العدول في هذا المكان إليه، وهو قوله تعالى: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 عمران 9، فقوله: (ربنا) يقتضي أن يكون بعده: إنك لا تخلف الميعاد، كما قال: (ربنا وآتنا وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) آل عمران: 194. فلما قال تعالى في هذا الموضع: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) فكان المعنى: إنك خلقت الدار الأولى للتكليف، ومكنت العباد فيها من الطاعة والعصيان، ورغبت المطيع في الثواب وخوفت العاصي من العقاب، فوقع منك وعد ووعيد، فأنت تجمع الخلائق ليوم الجزاء، لأن من خلق وأنعم نعمة حقت بها العبادة، ولزمت من أجلها الطاعة، وهذا معنى قولنا: إن الله إذا وعد صدق، فلا خلف في قوله، ولا تبديل لكلام. فلما كان معنى قولنا الله بمعنى الإله، والإله مشتق من أله يأله الإلهة، أي: عبد يعبد عبادة، فالإله هو الذي حقت عبادته لما عظمت نعمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 كان العدول إلى هذه اللفظة للاختجاج بمعناها فائدة لم تكن لتحصل، لو قال: إنك لا تخلف الميعاد. فلما تقدمت هذه الآية التي وقع العدول فيها عن لفظة لما قصد من الإحتجاج بمعناه، كذلك بنيت هذه الآية التي تلتها عليها في مثل هذا الحكم لما ثبت من مثل هذا المعنى، فقال تعالى: (كدأب آل فرعون والذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 من قبلهم كذبوا بآياتنا) فأتى بضمير الفاعل وكان يعق من قوله: (كذبوا بآياتنا) أنا عرضناهم للإيمان، ومكناهم من الإسلام، وأزحنا العلة، ونصبنا الأدلة، فكذبوا بها فالذي حقت له العبادة، وعظمت منه النعمة أخذهم بذنوبهم، والله تعالى يعاقب الكفار عقوبة تشد عليهم، ولا تخفف عنهم، لما قدموا من العصيان ما استمر مثله، ولم ينقل عنه قدم ولا عقبه بعد الإصرار عليه ندم، فهذه فائدة العدول إلى لفظة الله في قوله: (فأخذهم الله) دون قوله فأخذناهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 المسألة الثانية أن يسأل عن الكاف في (كدأب) ووجه اتصالها بما قبلها وموضعها من الإعراب، لأنها بمعنى مثل، فالكاف التي يصح مكانها مثل محكوم على موضعها برفع أوم نصب أو جر. والجواب فيها أن يقال: يجوز أن تكون الكاف متعلقة بقوله: (.. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم..) فيكون موضع الكاف نصبا على معنى المصدر، كأنه قال: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم مثل ما لم تغن عن آل فرعون، أي: إذا جاء عقاب الله لم يدفعه المال والولد، كما لم يدفع ذلك عن آل فرعون. والدأب أصله الهمز، وهو العادة، وما أجري عليه قوم في معاملة. ويجوزأن تكون الكاف متعلقة بعنى قوله: (وقود النار) كأنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأولئك يصلون النار كما أجرى الله حكمة عادة لآل فرعون. وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون موضع الكاف رفعا على أنه خبر ابتداء، كأنه قال: حال هؤلاء مثل حال آل فرعون، ودأبهم كدأبهم. على لفظة واحدة وهي لفظة واحدة وهي لفظة الله لأنه قال: (كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم) ، ولم يقل (كذبوا بآياتنا) كما قال في الأولى، والجواب عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ذلك أن يقال: إن الآية التي تقدمت هذه هي قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) الأنفال: 49 فجرى الخبر في هذه الآية على اللفظ الظاهر، وهو: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) ، ثم جاء بعدها: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة..) الأنفال: 50، ولم يكن فيها خبر عن الله تعالى، وجاءت الآية التي هي: (كدأب آل فرعون..) وفيها إخبار عن الله تعالى، فكان بناؤها على الآية التي قبلها أولى، كما كان في الآية التي في سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 آل عمران، فاقتضى بناؤها على الآية التي قبلها العدول عن لفظ الإضمار إلى لفظ الإظهار، ثم كان اللفظ الصريح في معناه احتجاج عليهم كما كان في اللفظ الذي عدل إليه الآيتين المتقدمتين من قوله: (إن الله لا يخلف الميعاد) آل عمران: 9 وقوله: ( فأخذهم الله بذنوبهم) الأنفال: 52. والمسألة الرابعة في الآية الثالثة وهي أنه قال: (كذبوا بآيات ربهم) ، ولم يقل: بآياتنا، كما قال في الأولى، ولا: بآيات الله، كما قال الثانية، والجواب أن يقال: لما أخبر تعالى عن نعمته على عباده، وأن منهم من يغيرها بعصيانه فيستحق بذلك تغيير النعمة عنه، وهو معنى قوله: (ذلك بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الأنفال: 53، والمنعم على عباده ربهم، لأنهم مربوبون بنعمته، كان القصد في هذه الآية إلى ذكر تنعيمهم في الدنيا، وتتغير النعمة عليهم فيها إذ لم يقوموا بحقها بعقاب من عقاب الدنيا مثله ما يفعله بعض الناس ببعض، فلذلك قال (فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون) الأنفال: 54، فكأنه قال: كذبوا بآيات من أرقام في أنفسهم شواهد بتربيته إياهم بصنوف نعمته، ونقل الوليد عن أولى حالتيه إلى غيرها مما يبلغ به غاية قوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وسأشرح ذلك في جواب المسألة الخامسة، وهي السؤال عن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضعين لا يحجز بينهما إلا آية واحدة. وهذه المسألة قد أجاب عنها بعض أهل النظر بأن قال: أخبر الله تعالى عن إجراء العادة فيهم بنوعين من العذاب مختلفتين، وإذا كان لم يكن تكرار، لأنه في الآية الأولى عقوبته إياهم عند الموت، والبشارة التي أتتهم بعذاب الحريق، وأنه فعل بهم ذلك كما فعله بآل فرعون، ومن كان قبلهم من الكفار، ثم ذكر في الثانية ما يفعله بهم من شدة عقابه بعد الموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 كما فعله بآل فرعون ومن كان قبلهم من الكفار، وما أجرى عليه العادة في تعذيبه إياهم بعد الموت في القبور وغيرها. والجواب عندي: أنه أخبر في الأولى عما عاقبهم به من العذاب الذي لم يملك الناي إيقاعه، ولم يمكن بعضهم من أن يفعل ببعض مثله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم، وإخبارهم إياهم بمصيرهم إلى عذاب يحرقهم، وفي الثانية أخبر عما أنزله بهم من العذاب الذي مكن الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق، لأن ذلك مما أقدر الله تعالى العباد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فالنوعان هما: العذاب الأول من أحكام الىخرة بعد ظهور أشراط الساعة، والعذاب الثاني من أحكام عذاب الدنيا، والذي يبين ذلك أنه قال في الآية الأولى (كفروا بآيات الله) فأخبر عن أعظم ما ارتكبوه، وهو الكفر، وذكر آيات الله وهو الاسم الذي يفيد استحقاق العبادة التي هي مضادة الكفر، كما قال في سورة آل عمران 11: (كذبوا بآيتنا فأخذهم الله بذنوبهم) أي: أخذهم من أنعم عليهم ليشكروا لما عصوا وكفروا بذنوبهم التي ارتكبوها. ثم قال: (والله شديد العقاب) والمراد به عقاب الآخرة كما قال: (..ولعذاب الآخرة أشد..) طه: 127، ويشهد لذلك قوله لذلك قوله في الثانية (كذبوا بآيات ربهم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فذكر هذا الاسم دون غيره، لأن فيه معنى: أنه نعمهم ورباهم وقام بمصالحهم حتى بلغوا حد التكليف، والمبلغ الذي قدروا فيه على آداء حق الإنعام. فلما غيروا ما أنعم الله به عليهم عن جهته، وصرفوه إلى معصيته وتقووا بنعمته على مخالفته سلبهم ذلك في الدنيا بأن عجل هلاكهم فأغرقهم. فالعقاب الموجود ذكره في الآية الأخيرة مما يفعله أهل الدنيا بعضهم ببعض، فذكره عقيب إنعامه عليهم وتغييرهم له بوضع الكفر موضع الشكر، فغير الله سابق الإنعام بيد الإنتقام وكما غيروا غير عليهم. فالعقاب الأول أولى أن يكون المراد به عذاب الآخرة، لأن فيه الإخبار بالإحراق. والثاني هو العذاب بالإغراق مثل قوله تعالى: (وذوقوا عذاب الحريق) الأنفال: 50 ويعقبه قوله: (..كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم) الأنفال: 52 وقوله في سورة آل عمران 10: (وأولئك هم وقود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 النار) فذكر أنهم وقود النار، وذلك في الآخرة، ثم قال: (فأخذهم الله بذنوبهم) فذكر الاسم الذي يفيد ما هو حجة عليهم كما ذكرت قبل. وجواب آخر، وهو أنه يجوز أن يكون الأول خبرا عن عادتهم في اللأشر والبطر والطغيان عند الاستغناء، والمعنى: جرت عادتهم بمقابلة الإحسان بقبيح العصيان، ويكون الأخير بعد ذكر الله معاقبتهم على فعلهم خبرا عما أجرى الله تعالى به العادة في عقاب مثلهم، فكان معنى الأول عودوا من أنفسهم عادة، ومعنى الثاني: عودوا إذا فعلوا ذلك عادة، وهي سلب نعمة الدنيا، والنقل إلى عذاب الآخرة والله تعالى أعلم بالمراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 25 الآية الثانية منها قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم..) آل عمران: 48-49. وقال في سورة المائدة 110: (.. وإذ تخلق من الطين بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني..) . للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان المذكور في الموضعين (كهيئة الطير) وصلح أن يعود الضمير إلى مذكر وإلى مؤنث، فيراد مثل هيئة الطير، وهو مذكر، أو يراد هيئة كهيئة الطير، وهي مؤنثة، فما بال ما في آل عمران خص بالتذكير، وما في سورة المائدة خص بالتأنيث؟ فالجواب أن يقال/ إن الأول الذي ذكر الضمير فيه؟ إنما هو فيما أخبر الله عز وجل به عن عيسى على نبينا وعليه السلام وقوله عليه السلام لبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 إسرائيل (. أني قد جئتكم بآية من ربكم) وعد الآيات كلها عليهم، منها: أني آخذ من الطين ما أصور منه صورة على هيئة الطير في تركيبه، فأنفخ فيه، فينقلب حيوانا لحما، قد ركب عظما وخالط دما واكتسى ريشا وجناحا كالطائر الحي، والقصد في هذا المكان إلى ذكر ما تقوم به حجته عليهم، وذلك أول ما يصور الطين على هيئة الطير، ويكون واحدا تلزم به الحجة، فالتذكير أولى به. والآية في سورة المائدة المخصوصة بتأنيث الضمير العائد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ما يخلقه، هي في ذكر ما عدد الله من النعم على عيسى عليه السلام وما أصحبه إياه من المعجزات وأظهر على يده من الآيات، وابتداؤها: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني..) المائدة: 110، والإشارة في هذه الآية ليست إلى أول ما يبديه لبني إسرائيل من ذلك محتجا به عليهم، وإنما هي إلى جميع ما أذن الله تعالى في كونه دلالة على صدقة من قبيل الصور التي يصورها من الطين على هيئة الطير، وذلك جمع التأنيث أولى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 مسألة في ذلك: قد قال بعض أهل النظر في معنى هذه الآية إنما قال: (فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) ، فذكر إذن الله تعالى في هذين الموضعين، ولم يقل بإذن الله في قوله: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) ولا يقل بإذن الله في قوله (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) لأن ما وصفه من هذه الأفعال إنما هي أفعاله، وولم تكن أفعالا لله تعالى، فلهذا لم يذكر أن ذلك كان بإذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الله، كما ذكر الإذن فيما وصفه من قبل مما فعله الله عز وجل دونه، وذلك أنه لم يعن بالإذن أمره له بأن يطيعه في ذلك، وإنما عنى به أن الله تعالى هو الذي فعله، فلهذا جعل ذكر الإذن فصلا بين فعله وفعل الله تعالى انتهى كلامه. قلت: ذلك سهو منه، لأن الذي أنكر أنه لم يذكر معه إذن الله، لأنه من فعل عيسى على نبينا وعليه السلام، فقد نطقت سورة المائدة بخلاف، وهو قوله تعالى (.. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) المائدة: 110 فسوى بين الفعلين اللذين ذكرهما من حكيت كلامه أنهما مختلفان، وأن أحدهما فعل عيسى عليه السلام، فلهذا لم يذكر معه الإذن، والآخر فعل غيره ثم قال تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) المائدة: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فذكر الإذن في أربعة مواضع لأفعال عيسى عليه السلام، وهذا دل على أن ما ذهب إليه من ذكرت كلامه بذكر الإذن في فعلين من سورة آل عمران على أنهما فعل الله تعالى، وما لم يذكر معه الإذن فعل عيسى عليه السلام باطل. وقد رأين أن ما اعتد به الله سبحانه عليه في سورة المائدة ينطق أن ما ذكر أنه بغير إذنه هو بإذنه وإذا كان كذلك وجب أن يكون المعنى في الآية من آل عمران: (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) ألقبه بعد التركيب على مثال الطائر لحما ودما وعظما، ثم بالنفخ فيه أجعله حيوانا، وكل ذلك بإذن الله تعالى، ويكون معنى قوله (فيكون طيرا بإذن الله) راجعا إلى كل ما ذكر أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يفعله من مبتدأ قوله: (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) فجميع تلك الأفعال واقعة بإذن الله تعالى، وإذن الله عبارة هن إرادته وخلقه على يده، فسهل ذلك على يد عيسى على نبينا وعليه السلام عند الاحتجاج به وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ثلاثة أفعال لا تكون إلا بإذن الله تعالى. وقوله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) هذا وإن كان إخبارا من عيسى عليه السلام وفعلا من أفعاله فإنه لا يصح أن يكون إلا بإذن الله، وإلا فما يعلم ما يفعلونه من بيوتهم فما يعلم ما يفعلونه من بيوتهم مما هو غيب عنه إلا بإذن الله عز وجل للملائكة وإطلاعه عليه وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 26 الآية الثالثة منها قوله: تعالى: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) آل عمران: 51. وقال في سورة مريم مثله وقال في سورة الزخرف 64 حكاية عمن حكى عنه في السورتين: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) ، فزاد هو في هذه الآية من هذه السورة. للسائل أن يسأل عما أوجب اختصاصها بهذا التوكيد دون الموضعين الأولين، وهي كلها فيما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السلام؟ والجواب أن يقال: إنما لم يجب في الأولين من التوكيد ما أوجبه اختيار الكلام الموضع الثالث، لأن قوله عز وجل: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) حكاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 عن عيسى عليه السلام بعد ما مضت آيات كثيرة في ذكره وابتداء أمره من مبتدأ الآية التي نزلت في شأن مريم، وهي: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) آل عمران: 42 إلى آخر هذه العشر. فلما تناصرت هذه الآيات المتقدمة في ذكره، ودلت إحداثه وخلقه، كانت فيها دلالة على أنه مربوب مصنوع بكثرة الأفعال التي أسندت إليه، وجعلت آيات له، وأنه عبد من عبيده، والله به ومالكه والقائم بمصالحه، وأنه أصحبه معجزات تدل على صدقة في نبوته، وكذب من قال ببنوته، فصرفتهم تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الأفعال التي ذكرها إلى العلم بأنه تعالى ربه. وكذلك في سورة مريم جاء قوله: (وإن الله ربي وربكم) بعد ما مضت آيات كثيرة ابتداءها: (واذكر في الكتاب مريم) مريم: 16 وبعد عشرين آية مرت في قصتها قال: (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه) مريم: 36 وكانت تلك العشرون آية ناطقة بأن الله تعالى ربه، فاكتفى بما طال من الكلام المؤكد لحاله على حقيقتها عن التوكيد الذي جاء في سورة الزخرف، لأنه لم يذكر هذه الآية إلا بعد قوله: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تخفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه) الزخرف: 63-64. فالموضع الذي خلا من الآيات الكثيرة الدالة على أن الله تعالى ربه، وهو عبده، لا ابنه حسن تأكيد الكلام فيه صرفا للناس عما ادعوا من أنه ابن الله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أنه عبده. ألا ترى قوله في سورة مريم (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه..) مريم: 35-36. واعلم أن التأكيد بقولك هو في مثل هذا الموضع يكون لأخذ وجهين، إما أن تريد أنه على الصفة التي جعلتها خبرا عنه، لا على غيرها، وإما أن تريد أن صحاب هذه الصفة التي جعلت خبرا عنه إنما هو فلان، لا غيره. إذا قال القائل: إن زيدا هو أخوك، أي هو صديقك لا عدوك، أو يريد أن يقول: هو أخوك لا عمرو، فكذلك قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم يحتمل أن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 يريد التأكيدين: أن يريد أنه هو خالقي والقائم بمصالحي، لا غيره من الآلهة التي ترون عبادتها، وأن يريد أنه هو ربي، لا أبي كما زعمت النصارى، تعالى الله عن أن يكون له ولد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 27 الآية الرابعة منها قوله عز وجل (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) آل عمران: 52، فحذف النون من أنا. وقال في سورة المائدة111: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) ، بإثبات النون. للسائل أن يسأل فيقول: لم أخص ما سورة آل عمران ب (أنا) ، وما في سورة المائدة ب (أننا) ، والحرفان سواء، والتخفيف جائز في الموضعين كما يجوز الإتيان به على الأصل فيهما؟ والجواب أن يقال: إن الذي في سورة المائدة جاء على الأصل غير مخفف بالحذف، لأنه أول كلام الحواريين في هذا المعنى، ألا تراه خبرا عن الله تعالى أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 قال: (وإذ أوحيت إلى الحواررين أن آمنوا برسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) المائدة: 111، والذي في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام أنه ساهم عما أقروا به لله تعالى، فقال (من أنصاري إلى الله قال الحواريين نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) فكان ذلك منهم إقرارا ثانيا لرسوله عليه السلام بمثل ما أقروا به الله تعالى، والثاني يختار فيه من التخفيف ما لا يختار في الأول، لأن الأول قد وفى العبارة حقها، والثانية معتمدة على ما قبلها، وهي مكررة، والعرب تستقل المعاد ما لا تستثقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 غيره، فاختير في سورة آل عمران ما لم يختر في سورة المائدة لذلك. ثم أذكر فصلا في هذه النون. مسألة: اعلم أن النون التي حذفت من أنا غير النون التي حذفت من أنني وقد جاء القرآن بهما جميعا: قوله تعالى: (..إني آنست نارا..) طه: 10 و (..إني أنا ربك..) طه: 12 وأني أتى على الأصل بعده: (..فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله..) طه: 13-14. وقال: (.. إنا رادوه إليك..) القصص: 7، (..وإنا لفاعلون) يوسف: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقال: (.. وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) هود: 62 في قصة صالح عليه السلام. ومن لم يرتض بهذا العلم يتوهم أن النون التي خففت بحذفها أني هي التي خففت بحذفها أنا، ولي الأمر كذلك، لأن التي حذفت من أني هي النون العماد واللاحقة مع الياء بدلالة حذفها من نظائرها، إذ قلت: لعلي في لعلني. وأما النون التي في أنا من قولك أننا فإنها مع الألف اسم المخبرين عن أنفسهم، ولا سقوط التي تجيء مع الياء، فإذا قلت إنا فالنون الساقطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 هي الأخيرة من أن دون اللاحقة مع الضمير بها. فاعرف إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 28 الآية الخامسة منها قوله تعالى (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم آل عمران) : 126. وقال في سورة الأنفال 10: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) . للسائل أن يسأل فيقول: ما في الآية الأولى مما يوجب أن يأتي فيها بقوله: (قلوبكم) وقدم في هذه الآية وحذفه من الثانية مع العلم بأن الله تعالى جعل إخباره بإنزال الملائكة لنصرتهم بشارة لهم، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 (لكم) مضمرة في سورة الأنفال كما هي مظهرة في هذه السورة، فلأن الأولى جاءت على الأصل، والثانية قد تقدمها (لكم) فأغنت عن إعادتها بلفظها ومعناها، وهي في قوله: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الأنفال: 9. فلما قال: (فاستجاب لكم) علم أنه جعل بشرى لهم، فأغنت (لكم) الأولى بلفظها ومعناها عن الثانية، وفي الآية الأولى لم يتقدم ما يقوم مثل هذا المقام، فأتى بقوله: (لكم) على الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وأما تأخير (به) بعد قوله (قلوبكم) فلأنه لما أخر الجار والمجرور في الكلام الأول، وهو قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى لكم..) ، وعطف الكلام الثاني عليه، وقد وقع فيه جار ومجرور وجب تأخيرهما في اختيار الكلام ليكون الثاني كالأول في تقديم ما الكلام أحوج إليه، وتأخير ما قد يستغني عنه. وأما تقديم (به) في الآية الثانية، فلأن الأصل فيكل خبر يصدر بفعل أن يكون الفاعل بعده ثم المفعول والجار المجرور، وقد يقدم المفعول على الفاعل إذا كان اللبس واقعيا فيه، وأريد إزالته عنه، كما تقول: ضرب عمرا زيد، لا محمدا، لأن المخاطب عنده أن المضروب محمد، ولا خلاف بين المتخاطبين في أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الضارب زيد، فهو يبدأ بما هو أهم، وعنايته ببيانه أتم وكذلك الجار والمجرور بمنزلة المفعول به في التقديم والتأخير وشبههما. وفي هذا الموضع إذا لم يعرض في اللفظ من التوفقة ما يوجب إجراء الكلام على الأصل كما كان في سورة آل عمران، فإن المعتمد بتحقيقه عند المخاطبين إنما هو الإمداد بالملائكة، وهو الذي أخبر الله تعالى عنه أنه لم يجعله إلا بشرى، فوجب أن يقدم في الكلام الثاني، وهو المضمر بعد الباء في قوله تعالى (به) على الفاعل، فقال تعالى: (.. ولتطمئن به قلوبكم) الأنفال: 10. وفي هذه الآية مسألة أخرى وهي أن يقال: كيف اختلف الإخبار عن الله تعالى بالعز والحمكة في الآيتين، فجاء في سورة آل عمران مجيء الصفة فقال تعالى: (..وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) ، وجاء في سورة الأنفال بلفظ خبر ثان مستأنف فقال: (إن الله عزيز حكيم) . والجواب أن يقال: القصد إعلام المخاطبين أن النصر ليس من قبل الملائكة، ولا من جهة العدد والعدة وفضل القوة، ولكنه من القادر الذي لا يغلب ولا يمنع عما يريد فعله، والحكيم الذي يضع النصر موضعه. والآية التي في الأنفال إنما هي في قصة يوم بدر، وبين الله تعالى ذلك بلفظ (جعله) كالعلة لكون النصر بيده، فكأنه قال في المعنى: النصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ليس إلا من عند الله، لأنه العزيز الذي لا يمنع عما يريد فعله، الحكيم الذي يضع النصر في موضعه، ففصل ذلك في خبرين على الأصل الواجب في توفية كل معنى حقه من البيان. والآية التي في سورة آل عمران هي في قصة يوم الأحد، وهي بعد يوم بدر. وكان هذا البيان قد جعل خبرا عن النصر في اليوم الأول، فاقتصر اليوم الأول، فاقتصر من ذكر مثله في اليوم الثاني على خبر واحد، يجري عليه معنى الخبر الثاني مجرى الوصف، لاختصار المعنى عن البسط، اعتمادا على ما فصل في الخبر الأول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فكان الاختصار بالثاني أليق، وكان الثاني له أجمل، فخص كل موضع بما رأيت لما ذكرت والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 29 الآية السادسة منها قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) آل عمران: 136. وقال في سورة العنكبوت الآية: 58: (..خالدين فيها نعم أجر العاملين) . للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في السورة بالواو من قوله: (ونعم) وإخلائها في سورة العنكبوت منها؟ والجواب: أن الآية من هذه السورة مبنية على تداخل الأخبار، لأن أولها: (جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) . ف (أولئك) مبتدأ، و (جزائهم) مبتدأ ثان، و (مغفرة) خبر المبتدأ الثاني، وهو مع خبره خبر عن المبتدأ الأول، والجزاء هو الأجر، فكأنه قال: أولئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم، وإدامة نعمهم، وهذا الأجر مفضل على كل أجر يعطاه عامل عمله، فنسقت الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي هيئت لرجاء الراجلين، وأكملت بها منية المتهمين. والخبر إذا جاء بعد خبر في هذا المكان الذي تفصل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو، وكقولك: هذا جزاء كذا وكذا، أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب والتنعم في جنة الخلد، وتفضيله على كل جزاء جوزي به عامل، وذلك تشريف وكرامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وأما الآية التي في سورة العنكبوت فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة، وهي: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا..) العنكبوت/ 58. فقوله: (والذين آمنوا) مبتدأ، وقوله: (لنبوئنهم) في موضع خبره، وهذا الخبر يتصل به مفعولان، الأول: (هم) والثاني (غرفا) . و (غرفا) نكرة موصوفة بقوله: (تجري من تحتها الأنهار) وقوله: (خالدين فيها) حال من التبوئة. فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد، وهي جملة ابتداء وخبر، واحتمل (نعم أجر العاملين) أن تجيء بالواو وأن يجيء من دونها، اختير مجيئها بغير واو ليشبه ما تقدم من صفة الخبر، لا على سبيل عطف ونسق بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ويحتمل أن يكون في موضع خبر ومبتدأ، كأنه قال: ذلك نعم أجر العاملين، ويكون قوله: (ذلك) إشارة إلى ما ذكر الله من إسكانهم الجنة، فيجري بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام كقوله تعالى: (..والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجناب لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) الشورى: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقوله: (ذلك) وإن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى، فكأنه قال: (لهم ما يشاؤون عند ربهم) مشار إليه بأنه الفضل الكبير. وقوله: (نعم أجر العاملين) أي: ذلك نعم أجر العاملين، والمعنى مشار إليه بتفضيل على أجور العاملين وإذا كان الأمر على ما ذكرت في الآيتين لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 30 الآية السابعة منها قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) آل عمران: 184. وقال في سورة الملائكة 25: (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) . للسائل أن يسأل عن اختلاف الآيتين في إدخال الباء في: قوله: (وبالزبر وبالكتاب المنير) في موضع، وحذفها منه في موضع في قراءة الأكثرين؟ والجواب أن يقال: إن الزبر والكتاب المنير في سورة آل عمران وقعا في كلام بني على الاختصار والاكتفاء بالقليل عن الكثير مع وضوح المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وكان أول ذلك قوله: (فإن كذبوك) والتقدير: فإن يكذبوك، فوضع الماضي الذي هو أخف موضع المستقبل الذي هو أثقل بدلالة إنالتي للشرط وحصول الخفة في اللفظ، ثم إن الفعل الذي جاء في جواب الشرط بني للمفعول، ولم يسم فاعله، فكان الاختيار أن يجعل آخر الكلام كأوله بالاكتفاء بما قل عما كثر منه مع وضوح المعنى. والآية التي في سورة الملائكة صدرت بما يخالف ذلك في الموضعين، لأن الشرط جاء فيها على الأصل بلفظ المستقبل، وهو: (وإن يكذبوك) وجاء الجزاء أيضا مبنيا للفاعل، ولم يحذف منه ما حذف من الأول. فلما قصد توفيه اللفظ حقه أتبع آخر الكلام أوله في توفية كل معمول في عامله، وهي حروف الجر التي استوفتها المجرورات، فلذلك اختلفت الآيتان والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 مضت سورة آل عمران عن سبع آيات وثلاثة عشر مسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 حيث لا يحتاج إلى ذكر الفاعل، وأيراد فعل الشرط ماضيا وأصله المستقبل، ولفظ الماضي أخف من المضارع. كذلك حذف الجار في قوله: (والزبر والكتاب المنير) تخفيفا لمناسبة ما تقدم في الاختصار. وأما آية سورة فاطر فسياقها البسط بدليل وقوع فعل الشرط فيه بلفظ المستقبل، وإظهار فاعل ومفعول في قوله تعالى: (جاءتكم رسلكم) فناسب هذا البسط ذكر الجار" الباء" في الثلاثة (بالبينات وبالزابور وبالكتاب المنير) ليكون كله على نسق واحد. (ينظر: البرهان للكرماني: 152، كشف المعاني لابن جماعة: 134، حيث أفدت منهما في هذا التوضيح) . (17) في (ك) : عن ست آيات وإحدى عشر مسألة، وذلك خطأ حيث ذكرت فيها آيات سبعة كما في (أ، ب) . وأما النسخ الأخري (ح، خ، ر، س) لم يأت فيها ذكر الآية السادسة من هذه السورة. (18) بعد التتبع نجد أن المؤلف رحمه الله تناول في هذه السورة خمس عشر مسألة، ومسألتان في الرابعة، وثلاث مسائل في الخامسة، ومسألة في السادسة ومسألة في السابعة، وبذلك يكون عدد المسائل خمسة عشر مسألة. ولعل ذلك يرجع إلى ظهور مسائل جديدة للمؤلف وهو يملي، كما قال في صفحة241: " وفي هذه الآية مسألة أخرى، وهي أن يقال ... " وقد تتكر مثل هذه الحالات أثناء الإملاء، ولعل هذا يفسر لنا الاختلاف الموجود في ذكر عدد المسائل في آخر بعض السور كما سنرى ذلك إن شاء الله. سورة النساء "31" الآية الأولى منها: قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) " سورة النساء: 48". وقال في هذه السورة أيضا: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) " النساء: 116" للسائل أن يسأل عن فائدة تكرار هذه الآية، وله أن يسأل فيقول: لم كان جواب (من يشرك بالله) في الآية الأولى: (فقد افترى إثما عظيما) وجوابه في الآية الثانية: (فقد ضل ضلالا بعيدا) ؟ فأما الجواب عن التكرار فلأن هذه السورة لما اشتمل صدرها على ذكر الأحكام، وانتهى إلى ذكر التيمم، ثم انقطع ذلك بقوله: (ألم تر الذين أوتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 نصيبا من الكتاب..) " النساء: 44" وهم اليهود الذين أوتوا التوراة فحرفوا ما فيه دلالة على صحة نبوة محمد- (- إلى ما يدعوا إلى ترك الإيمان به، ثم توعدهم إن أقاموا على ذلك الكفر بقوله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها..) " النساء: 47" أتبع ذلك بما دل به على عظم الكفر الذي هو الشرك، وذلك في أمر اليهود، ويحتمل أن يقال: إنما سماهم مشركين لما قالوا عزير ابن الله، ومن ادعى لله ابنا فهو مشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والموضع الثاني تقدمت فيه آية هي قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) " النساء: 115"، ومعناه من عادى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهرت آياته وتظاهرت دلالاته، وتبع سبيل الكفار فإن الله تعالى يوليه ما تولى من الأصنام التي عبدها بأن يكله إليها ليستظهر بها، ولا نصر عندها، وهؤلاء مشركو العرب، فدل على أن من تقدم ذكرهم وإن كانوا أوتوا الكتاب كهؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 المشركين الذين لا كتاب لهم، كفرهم ككفرهم، وسبيلهم كسبيلهم، فأعاد تقدم ذكرهم ليعلم أنهم وإن خالفوهم دينا فقد وافقوهم كفرا، فهذه فائدة التكرار. وأما إتباع الأول (فقد افترى إثما عظيما) فلأن من أريد بالآية الأولى قوم عرفوا صحة نبوة النبي من الكتاب الذي معهم، فكذبوا وافتروا ما لم يكن عندهم، فكان كفرهم من هذا الوجه الذي أضلوا به أتباعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وأما اتباع الثاني (فقد ضل ضلالا بعيدا) من أريد بهم المشركون العرب، وهم لم يتعلقوا بما يهديهم، ولا كتاب في أيديهم فيرجعوا إليه فيما يتشككون فيه فقد بعدوا عن الرشد وضلوا أتم الضلالات، فاقتضى المعنيون بالأول ما ذكره الله تعال والمعنيون بالثاني ما أتبعه إياه، وإن كان الفريقان مفترين إثما عظيما، وضالين ضلالا بعيدا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 32 الآية الثانية منها قوله تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعلمون خبيرا) النساء: 128. وقال بعده: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) النساء: 129. للسائل أن يسأل عن مسألتين في ذلك: إحداهما قوله تعالى في الآية الأولى: (وإن تحسنوا وتتقوا) وفي الثانية (وإن تصلحوا وتتقوا) ؟ والمسألة الثانية ختم الآية الأولى بقوله: (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) والثانية بقوله: (فإن الله كان غفورا رحيما) . والجواب عن الأولى: أن معناها: إن خافت امرأة من زوجها ترفعا ونبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 لملل أو إعراضا موجدة أو بدل فلا إثم في إثم في أن يتصالحا على أن تترك له من مهرها، أو بعض أياما ما يتراضيان به، والصلح خير من أن يقيما على التباعد، أو يصيرا إلى القطيعة ونفس كل واحد منهما تشح بما لها قبل صاحبها وقيل: المراد: شحهن على النقصان من أموالهن وأنصبائهن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أزواجهن وهذا يقتضي مخاطبة الأزواج بمجانبة القبيح وإيثار الحسنى في معاملتهم، فبعث الله تعالى في هذا المكان على فعل الإحسان. وأما الثانية فجاءت بعد قوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) في محبتهن والشهوة لهن، لأن ذلك ليس إليكم، وإن حرصتم على التسوية بينهن (فلا تميلوا كل الميل) بأن تجعلوا كل مبيتكم وخلوتكم وجميل عشرتكم وسعة نفقتكم عند التي تشتهونها دون الأخرى، فتبقى تلك معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، فاقتضى هذا الموضع أن يحث الأزواج على إصلاح ما كان منهم من الأنصاب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الواحدة دون ضراتها بالتوبة مما سلف، واستئناف ما يقدرون عليه من التسوية، ويملكونه من الخلوة، وسعة النفقة، وحسن العشرة، فقال: (وإن تصحوا وتتقوا) . وأما جواب المسألة الثانية فقد بان ووضح بما ذكرت وبينت أنه لما قال: (وإن جانبتم القبيح وآثرتم الإحسان فإن الله به عالم، وعليه مجاز، وهو قوله: (فإن الله كان بما تعلمون خبيرا) . ولما عذر الأزواج في بعض الميل، وهو الذي لا يملكون خلافه، حثهم على ***** يطيقون/ فعله بما ذكرت، وعلى إصلاح ما سلف منهم بما بينت، فإن الله تعالى يغفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لمن يقلع عن قبائحه ويؤثر بعدها الحسنى من أفعاله، وهذا معنى قوله: (فإن الله غفورا رحيما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 " 33" الآية الثالثة منها: قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما* ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن الله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا* ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) " النساء: 130-132". للسائل أن يسأل في هذه الآيات عن مسألتين: إحداهما: عن تكرار قوله: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) ثلاث مرات؟ والثانية: عما تبع المكرر في قوله في آية: (وكان الله غنيا حميدا) وفي أخرى: (وكفى بالله وكيلا) والأولى لم يتبعها مثل ما تبع الوسطى والآخرة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 والجواب عن المسألة الأولى- وهي التكرار- أنه: إذا أعيد الكلام لأسباب مختلفة لم يسم تكرارا، فالأول بعد الإذن للرجل وامرأته في أن يتفرقا بطلاق، وتسليتهما عن الوصلة بأنه هو الذي يغني المحتاج منهما، وإن كان قبل ذلك أغنى كل واحد منهما بصاحبه، فإنهما بعد الفرقة يرجوان الغنى من عنده، لأنه واسع الرزق وواسع المقدرة، فإن الله ما في السموات وما في الأرض، وأرزاق العباد من جملتها. وأما الثاني فإنه بعد قوله: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) " النساء: 131" أي اتقوا الله، فإنه واسع النعمة والفضل والرحمة، وقد أوسعكم منها، ووصاكم ومن قبلكم بتقواه والاستجارة بطاعته من عقوبته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فإنكم إن عصيتم وكفرتم لم يكن لله حاجة إلى طاعتكم، وإنما أنتم تحتاجون إليها، والله غني حميد، فوجب عليكم طاعته، لأن له ما في السموات وما في الأرض، وهو غني بنفسه، حميد، لأنه جاد بما استحمد به إلى خلقه من الإحسان إليهم، والإنعام عليهم، فالمقتضى لذكر (لله ما في السموات وما في الأرض) وفي الثاني غير المقتضي له في الأول. وأما الثالث فلأنه لما ذكر أنه أوجب طاعته على من قبلهم وعليهم، لأنه ملك ما في السموات وما في الأرض، وأنعم عليهم من ذلك ما حققت به العبادة، اقتضى ذلك أن يخبرهم عن دوام هذه القدرة له، فكأنه قال: وله ذلك دائما، وكفى به له حافظا، أي لا زيادة على كفايته في حفظ ما هو موكول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 تدبيره والوكيل: القيم بمصالح الشيء، وقيل: هو الحافظ، وما قام الله تعالى بمصالحه فهو حافظه فقد بان أن ذلك ليس بتكرار. وأما الجواب عن المسألة الثانية من اتبعه قوله: (وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا) فقد تضمنه الجواب عما ذكرت من التكرار، وهو كقوله: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) الزمر: 7 أي أنتم محتاجون إلى طاعته، ولم يقتض ما تقدم غير هذا الوصف ولما اتصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 تعالى بالغني، وكان الغني إذا لم يجد من غناه مذموما، والله تعالى قد غمر بعطائه المستحق وغيره من الكفار كان الغني الحميد. وأما قوله بعد الثالث (وكفى بالله وكيلا) فلأنه لما كان المعنى أنه دائم القدرة أخبر أن ما يحفظه مما في السموات وما في الأرض يكتفي به حافظا، إذ ملكه عليه دائم وتدبيره فيه قائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 34 الآية الرابعة قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) النساء: 135. وقال في سورة المائدة 8: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) . للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة في تقديم قوله (بالقسط) على قوله (شهداء) في الآية الأولى، وتأخيره عنه في الآية الثانية؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى في الشهادة أمر الله عز وجل من عنده شهادة أن يقوم بالحق فيها، ويشهد لله تعالى على كل من عنده حق لغيره يمنعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 إياه حتى يصل إليه فقال: قوموا (بالقسط) أي بالعدل في حال شهادتكم لله على كل ظالم حتى يؤخذ الحق منه، فقدم (بالقسط) لأنه من تمام (قوامين) إذ فعله يتعدى إلى مفعوله بالباء. وأما (شهداء) فإنها إذا كانت حالا من الضمير في (قوامين) فإن حقها أن تجيء بعد تمام (قوامين) ، وكذلك إن كانت خبرا ثانيا، إن كانت صفة ل (قوامين) فإن حقها أن تجيء بعدها. وأما قوله (لله) بعد (شهداء) فلتعلقه بالشهادة، كأنه قال: كونوا شهداء لله، لا للهو والميل إلى ذوي القربى، والدليل على أنه: (ولو على أنفسكم) وشهادة الإنسان على نفسه أن يقر بالحق لخصمه، أي افعلوا ذلك لله وإن كان عليكم أو على الوالدين وذوي القربى منكم. وقوله عز وجل: (إن يكن غنيا أو فقيرا) أي إن يكن من عليه الحق على أحد هذين الوصفين فانتهوا في أمره إلى أمر ما أمر الله تعالى به، ولا يحملنكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الإشفاق من فقره على محاباته ولا يدعونكم غني الغني إلى مداراته، فإن الله تعالى أولى بالنظر لهما، ولجميع عباده منهم لأنفسهم ولغيرهم. وقوله (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) أي كراهة أن تعدلوا (وإن تلووا) ألسنتهكم بالشهادة ولم تفصحوا بها ولم تقوموا بما يجب عليكم فيها، أو تتركوا ما يلزمكم منها، فإن الله عليم بعملكم/ وهو مجازيكم على فعلكم. وقيل: تلووا بمعنى تمطلوا، من لويت الغريم إذا دفعته، كأنه قال: إن تدفعوا الشهادة ولم تؤدوها وقت الحاجة إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ومن قرأ تلوا بضم اللام وواو واحدة فالمعنى: إن تلوا أمر الناس، من الولاية، أو تتركوه. ويجوز أيضا أن يكون الأصل تلووا فأبدلت من الواو المضمومة همزة، ثم خففت بإلقاء حركتها على اللام، وحذفها وإن كان هذا مستضعفا في الهمزة العارضة. وأما الآية التي في سورة المائدة فإن فحواها يدل على أنها للولاة، فقال: (كونوا قوامين لله) لا لنفع، ويكون (بالقسط) متعلقا ب (قوامين) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل والحكم به في حال كونكم (شهداء) أي: وسائط بين الخالق والخلق، أو بين النبي وأمته كما قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 143، فالقائم بتنفيذ أحكام الله تعالى بين خلقه إذا وفى ما عليه من حقه، فهو شهيد على من وليه، والرسول شهيد عليه بما نقله إليه، والدليل على أن الخطاب لولاة الأحكام قوله بعده: (ولا يجرمنك شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب لتتقوى) المائدة: 8، وذلك عام في المخالفين من أهل الأديان والموافقين ممن حصلت لهم بغضة وعداوة، أي: اعدلوا على الولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 والعدو عدلا واحدا. وقيل في هذه الآية: إنها أيضا في الشهادة في الحقوق وقيل: في الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق وقيل معناه قوموا في كل ما يلزمكم القيام فيه من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتحنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 35 الآية الخامسة منها قوله عز وجل: (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) النساء: 149. وقال في سورة الأحزاب 54: (إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما) . للسائل أن يسأل عن الآية الأولى لم خص فيها خير، ولم عم في الثانية بلفظ شيء؟ والجواب أن يقال: إنما خص في هذا الموضع الخير بالإبداء لأنه بإزاء السوء الذي قال فيه: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) النساء: 148، والمعنى: لا يحب الله أن يجهر بالقول السيء غير المظلوم، وهو أن يدعوا على من ظلمه، أو أن بخبر بظلمه له، أو أن ينتصر منه بسوء مقاله فيه فقال: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أبديتم ثناء وذكرا جميلا لمن يستحقهما أو أخفيتموهما أو سكتم عمن أساء إليكم بالعفو عنه فإن الله مع قدرته كثير العفو عن خليقته، فاقتضت في هذه الآية المقابلة أن يجعل بإزاء السوء الخير. وأما في الآية التي في الأحزاب فلأن قبلها تحذيرا من إضمار ما لا يحسن إضماره في قوله عز وجل: (والله يعلم ما في قلوبكم..) الأحزاب: 51، وقوله: (..وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) ... وقيل معناه قوموا في كل ما يلزمكم القيام فيه من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتحبه. 35 الآية الخامسة منها قوله عز وجل: (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) النساء: 149. وقال في سورة الأحزاب 54: (إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما) . للسائل أن يسأل عن الآية الأولى لم خص فيها خير، ولم عم في الثانية بلفظ شيء؟ والجواب أن يقال: إنما خص في هذا الموضع الخير بالإبداء لأنه بإزاء السوء الذي قال فيه: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) النساء: 148، والمعنى: لا يحب الله أن يجهر بالقول السيء غير المظلوم، وهو أن يدعوا على من ظلمه، أو أن بخبر بظلمه له، أو أن ينتصر منه بسوء مقاله فيه فقال: إن أبديتم ثناء وذكرا جميلا لمن يستحقهما أو أخفيتموهما أو سكتم عمن أساء إليكم بالعفو عنه فإن الله مع قدرته كثير العفو عن خليقته، فاقتضت في هذه الآية المقابلة أن يجعل بإزاء السوء الخير. وأما في الآية التي في الأحزاب فلأن قبلها تحذيرا من إضمار ما لا يحسن إضماره في قوله عز وجل: (والله يعلم ما في قلوبكم..) الأحزاب: 51، وقوله: (..وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وقلوبهن) الأحزاب: 53، فاقتضى هذا المكان العموم، فقال تعالى: إن تبدوا مما حذركم الله شيئا أو تخفوه (فإن الله كان بكل شيء عليما) لم يزل عليما بما يكون كعلمه بما كان. انقضت سورة النساء عن خمس آيات، وسبع مسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 سورة المائدة 36 الآية الأولى منها قوله عز وجل: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة: 9. وقال في آخر سورة الفتح 29: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) . للسائل أن يسأل فيقول: لم رفع قوله (مغفرة وأجر عظيما) . في الآية الأولى، ونصب في الثانية؟ والجواب أن يقال: لقوله تعالى: (لهم) في الأولى، وقوله: (منهم) في الثانية فائدة، وذلك أنه لما قال في الأولى، وقوله (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) علم أنهم وعدوا بما هو حق لهم فعدل عن ذكر المفعول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 جملة تضمنت معناه، والجملة ابتداء وخبر، وهي في موضع مفرد منصوب، كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا مغفرة. ومثله قول الشاعر: وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 كأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء وجنات وعينا، فاللام في لهم داخلة على ضمير الصالحين فكأنها داخلة عليهم، وكأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء، وعطف على موضع الجملة التي هي جزاء منصوبا، إذ كان موضع الجملة موضع نصب. وأما الآية الأخرى فإن (منهم) فيها متعلقة ب (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ومن تمامها، ولم يكن هناك ما ترتفع (مغفرة) به، فتعدى إليها الفعل الذي هو (وعد) فجرى على الأصل في نصب المفعول به. فإن قيل: كيف يحتمل أن يبعض، والقوم الذين أخبر الله عنهم بقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) الفتح: 29 مع سائر ما وصفهم الله تعالى به، وأثنى عليهم بذكره، كلهم وعدوا مغفرة وأجرا عظيما؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أن يقال: إن من في هذا المكان ليست للتبغيض، وإنما هي لتبيين الجنس، كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين هم هم، كما قال: (..فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الحج: 30، أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والجواب الثاني أن يكون التقييد للتحذير، لأنهم وإن علم الله تعالى منهم الثبات على ما هم عليه من العمل الصالح فإنه لا يخليهم من الأمر والنهي والوعد والوعيد، على معنى: دوموا على ما أنتم عليه: فإن من داوم منكم عليه فقد وعده الله تعالى مغفرة وأجرا عظيما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فإن قال قائل: فلماذا خصت الآية بأن جعل مفعولها الثاني جملة، والآية الثانية مفعولها مفردا. قلت: لأن الأولى خطاب لقوم حثهم على توخي العدل فيما يحكمون به، وهو أعم من حث الصحابة الذين ذكرهم في آخر سورة الفتح، وأثنى عليهم بالشدة على الكفار، والرحمة للمؤمنين وملازمة الركوع والسجود وابتغاء رضوان الله، وأن مثلهم (كزرع أخرج شطأه) إلى آخر الآية، فخص هؤلاء بصريح المغفرة وذكر أنه وعدهم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وقال في الآية الأولى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات فكان إخبارا عن وعده إياهم، ثم أتى بخبر ثان فقال: لهم مفغرة على معنى: إن وافوا بذلك ولم يحبطوه بالسيئات، فجوز منهم هذا، ولم يعلق المغفرة بوعد فيعد به إليها. وفي الآية الثانية حقق المغفرة لهم، وعدى الفعل إليها، وكان كالحكم بأنهم يوافون الآخرة بأعمالهم الصالحة، وقد وعدهم الله تعالى عنها المغفرة والأجر العظيم فلاق بكل آية ما خصت به فاعرفه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 37 الآية الثانية منها قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به) المائدة: 13 وقال تعالى بعده في هذه السورة: (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه) المائدة: 41. للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الآية الأولى: (يحرفون الكلم عن مواضعه) وقال في الثانية: (من بعد مواضعه) ؟ وما الفرق بين الموضعين وبين اللفظين حتى اختص كل واحد منهما باللفظ الذي خص به؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى في اليهود الذين حرفوا ما أنزل الله تعالى من كلامه عما علموه تأويلا له، فيكون هذا تحريفا من جهة التأويل، وحرفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أيضا من جهة التنزيل كما قال: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعملون) آل عمران: 78. فقولك: عن في كلام العرب موضوع لما عدا الشيء، تقول: أطعمه عن جوع وكساه عن عري، فكانوا يعدون بالكلم تأويله الذي له، وتنزيله الذي جاء عليه إلى غيره مما هو باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وعن في هذا الموضع تقرب من معنى بعد، لأنك تقول: أطعمه بعد جوع وكساه بعد عري، / إلا أن الأصل في هذا المكان أن تستعمل عن، لأن بعد قد تكون لما تأخر زمان غيره بأزمنة كثيرة وبزمن واحد، وعن لما جاوز الشيء إلى غيره وملاصقا زمنه، والمراد: إذا قال: أطعمه عن جوع، وسقاه عن عطش، وليسش يراد به إلا أنه لما عطش سقاه، ولما جاع أطعمه. وأما الآية الثانية فهي في قوم من اليهود أخبر الله تعالى عنهم أنهم سماعون لما تقوم ليكذبوا عليك، ويخبروا بخلاف ما تقول عنك، وينقلوا كلامك إلى قوم آخرين لم يأتوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ومعنى (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) يحتمل أن يكون المراد من بعد موت النبي ليجعلوه على خلاف ما سمعوه منه، وهذا موضع بعد لا موضع عن، لأنه ليس يعدوه إلى المحرف إليه فينفصل عنا جاء عليه إلى الكذب مقارنا له، وإنما ذلك بعده بأزمنة كثيرة يتوقعون مضيها ليسهل كذبهم بعدها، ويكون التقدير: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أي: ناوين تحريفه من بعد وقوعه مواقعه، وحصلوه مواضعه، فمحرفين بمعنى ناوين التحريف كقوله تعالى: (وخروا له سجدا) يوسف: 100 أي ناوين السجود، وكذلك: (فادخلوها خالدين) الزمر: 73أي: ناوين الخلود، ومقدرين له وهذا ظاهر في هذا المكان، لا يصلح فيه إلا ما نطق القرآن به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ويحتمل أن يكون المراد ما ذهب إليه أكثر أهل التفسير، وهو أن قوما أرسلوا هؤلاء إلى النبي في قصة زان محصن فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه وقال قتادة: كان هذا في قتيل منهم فقالوا: إن أفتاكم محمد بالدية فأقبلوه، وإن أفتاكم بالقود فاحذروه. وكانوا حرفوا في القولين حكم الله تعالى الذي في التوراة من بعد أن عمل به فس مواضعه ولم يحرفوه ساعة نزوله ووجوب العمل به، وهذا معنى قوله تعالى: (.. يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤته فاحذرهم..) المائدة: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وقيل: إن هذا إشارة إلى دين اليهود، أي: إذ جاءكم محمد بدينكم فاقبلوه، وإن لم يأتكم به فاحذروه. فقد بان الفرق بين الموضعين بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بيناه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الآية الثالثة منها: قوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. [المائدة: 15] . وقال بعده: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. [المائدة: 19] . للسائل أن يسأل فيقول: نبه أهل الكتاب بمجيء الرسول في الآية الأوللا، وأخبر أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، وقال في الآية الثانية: إنه قد جاء يبين لهم على فترة، من الرسل أن يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 نذير، فعل ما ذكر من التبين في الآية الثانية كان يجوز أن يقترن بالتبين في الأولى/ أم وجب لكل ما تبعه من الكلام؟ فالجواب يقال: إن قوله تعالى في الآية الأولى: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون معناه، يبين لكم كثيرا مما في التوراة والإنجيل من وصف الرسول وسائر ما يدعوا إلى الدخول في الإسلام، ويترك كثيرا مما حرفتموه، فلا يبينه، لأنه ليس في ذكره ما يلزمكم حجة ويجدد لكم ملة، فهذا التبيين حقه التقديم للاحتجاج به، ولذلك ردفه، قوله: قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 جاءكم من الله نور، [المائدة: 15] ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أي يهديكم إلى منافع دينكم كمما تهتدون بالنور إلى منافع دنياكم. وأما الآية الثانية التي بعدها فمعناها: جاءكم رسولنا يبين لكم على حين دروس، مما كانت الرسل أتو به مما، يلزمكم في دينكم احتجاجا عليكم، وقطعا بعذركم لئلا تحتجوا بأنه لم يجئكم من يبشركم بالثواب ويخوفكم من العقاب، فالأول احتجاج لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، تبين الداعي إلى بعثته، وهو ما ذكر في الآية الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الآية الرابعة منعا: قوله تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) . المائدة: 17. وقال بعدها: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لكم لمن يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير. المائدة: 18 للسائل أن يسأل عن شيئين في هاتين المتصلة إحداهما بالأخرى، أحدهما: عن تكرار قوله: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما: والثاني: صلة الأول بقوله: يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير، وصلة الثاني بقوله: وإليه المصير، وله أن يسأل عن قوله: قل فمن يملك لكم، في سورة الفتح بزيادة لكم هناك، وحذفها هنا. والجواب أن يقال: إن الآية في سورة الفتح نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله من غير عذر، وتأخروا عن الجهاد، وقالوا، شغلتنا أموالنا وأهلونا، ثم سألوه عليه السلام أن يستغفر لهم، يكتمون بذلك نفقاتهم ويظهرون وفاقهم، وقصدهم استمالته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 كيلا تضركم عداوته، فقال عز وجل، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، الفتح: 11، ومن يملك لك ضرا إن أراد بكم نفعا، فلما كان في قوم مخصوصين احتيج إلى لكم، للتبيين فأما في هذه السورة فإنها لم تنزل لفريق مخصوص دون فريق بل عم بها دليله، إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، المائدة: 17، فلما كانت الآية للعموم لم تحتج إلى لكم التي للخصوص. والجواب عن التكرار أن يقال: إن الآية الأولى في النصارى خاصة، وهم الذين لما قالوا في عيسى عليه السلام، إنه إله، والإله واحد صاروا كأنهم قالوا: الله هو المسيح ابن مريم، فرد لله تعالى ذلك، عليهم بما دل به على أن عيسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 عبد مخلوق مملوك لله، ليس بابن له، ولا بإله، لأن أحدا لا يملك أن يدفع عن المسيح وأمه وسائر من في الأرض من الخلق ما يريد/ الله تعالى إيقاعه بهم من موت أو هلاك، ولا المسيح يملك ذلك، فدل هذا على أنه مخلوق وأن الله تعالى له ملك السماوات والأرض وما بينهما، والمسيح من جملته مملوك مدبر، ولو كان إلها لكان شريكا تته تعالى، ولم يكن لله تعالى ملك السماوات والأرض. فالقصد بذكر ملك السماوات والأرض وما بينهما في الآية الأولى: أن يبين أن المسيح مخلوق ومملوك ليس بإله ولا بابن الله، إذ لو كان إلها كما زعموا لما كان الله ملكا لجميع السموات والأرض وما بينهما، ولما تهيأ إهلاك المسيح، وكان هذا احتجاجا عليهم خاصة بأنه مخلوق وأن الله يخلق ما يشاء من أمثاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 بدلالة أنه قادر على إهلاكه، وفي ذلك جواب عن المسألة الثانية، وهي صلة الاولى بقوله: (يخلق ما يشاء) . وأما الآية الثانية وهي قوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) فروي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود حين حذرهم النبي نقمات الله وعقوبته قالوا: لا تخوفنا، فإنا أبناء الله وأحباؤه. وقيل: إن اليهود تزعم ان الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد وقال الحسن: وإنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد والنصارى تألوا ما في الإنجيل من قوله: أذهب إلى أبي وأبيكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وقيل: بل لما قالوا المسيح ابن الله أجري على القائلين بذلك مثل ما تجري العرب على الواحد من هذيل، إذ قالوا: نحن الشعراء، والمراد: منا، وكما يجري رهط مسيلمة هذا الإطلاق على قبيلتهم فيقولون: نحن الأنبياء، لما قال واحد منهم ذلك وتابعه الباقون عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فلما كان هذا مقال الفريقين رد الله تعالى عليهم قولهم مع اعترافهم بأنهم يعذبون بذنوبهم، إذ لو لم يقولوا ذلك لأباحوا ارتكاب الفواحش، فقال: (فلم يعذبكم بذنوبكم) والأب المشفق على ولده لا يعذبه، وكذلك الحبي لا يذب حبيبه، فكان هذا احتجاجا عليهم بما يعتقدون صحته من عذاب الآخرة، فإنكم لستم لله تعالى بأبناء ولا أحباء. ثم قال: وهو المتفرد بملك السموات والأرض وما بينهما، وأنه لا ولد له ولا نظير ولا شريك له، إذ لو ثبت له ذلك تعالى الله عنه لما كان ملكا لجميعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فلما احتج على إبطال قولهم بما يعتقدون صحته من عذاب المذنب منهم وذلك من أحوال الآخرة ثم احتج بملكه السموات والأرض على ذلك قرن إليه قوله: (إليه المصير) أي: مآل الخلق إلى أن لا يملك أحد لهم نفعا ولا ضرا غيره تعالى. وفي جواب المسألة الثانية من اقتران ما اقترن بذكره ملك السموات والأرض وما بينهما في الآيتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 40 الآية الخامسة منها قوله عز وجل: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. المائدة: 20. وقال في سورة إبراهيم 6: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون. للسائل أن يسأل فيقول: هل للتنبيه في الآية الأولى من سورة المائدة بقوله: يا قوم، فائدة لم يكن مثلها في الخطاب الواقع في سورة إبراهيم لما لم يقل فيه يا قوم: والجواب أن يقال: إن تسمية المخاطب بندائه مع إقبال عليه يفيد مبالغه في التنبيه له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فإذا قال القائل: افعل كذا يا فلان، فكأنه قال: أعينك بخطابي لا غيرك، ممن يصح ألأن ينصرف الخطاب إليه، ألا ترى أنه إذا عزي من النداء صلح لكل مخاطب، فإذا قارن النداء الأمر كان مقصورا على صاحب الاسم الذي دخله حرف النداء والمبالغة في التنبيه حقها أن لا تكون في الأهم الأعم نفعا. وقوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه اقوم اذكروا يصح أن يجاب عنه بجوابين. أحدهما: أن يقال لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام ليشكروا على هذه النعم العظام بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم، يدعونه إلى طاعة ربهم ويثنون *** عن المحظور من شهواتهم، وأن جعلهم ملوكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 حيث أغناهم بما أنزل عليهم من المن والسلوى، عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم، وتكلف خدمتهم وأعمالهم، وبما ملكهم من المال والعبيد والإماء الذين كانوا يخدمونه ويكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم. والمنبه عليه في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب، والملك الذي هو غاية ما تسمو الهمم في دار التكليف فنبهوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 بأبلغ الألفاظ ليقوموا بشكر ما عليهم من الأنعام، والآية التي في سورة إبراهيم تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء، وليس عو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء مع صرف البلاء. وجواب ثان وهو أن المن والسلوى مما لم ينعم به على أحد قبلهم ولا بعدهم، فلذلك قال: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فإذا نبهوا على شكر نعمة خصوا بها دون الناس كلهم كانت المبالغة في ذلك أولى. وجواب ثالث وهو أن يقال: لما جعل الخطاب بعد قوله: يا أهل الكتاب في آيتين، وصدر المخاطبات نبه فيها المخاطبين بمناداتهم فيما حكى من أقوالهم، كقوله تعالى بعده، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، المائدة: 21، وقوله: قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين، المائدة،: 22 وبعده: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، المائدة: 24، وبعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قوله: قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، المائدة: 25، كان الاختيار أن يجري مجرى نظائره المتقدمة والمتأخرة ولم يكن شيء من ذلك في الآية التي في سورة إبراهيم، فلم يذكر هناك، يا قوم، لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وقد اختلف الناس فيمن يسمى ملكا، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد ابن أسلم، والحسن أقل الحال التي إذا كانت كان الإنسان بها ملكا الدار، والمرأة والخادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وقال غيرهم: الملك: الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش. وبنو إسرائيل سموا ملوكا لما من الله تعالى عليهم به من المن والسلوى والحجر، والغعمام، عن ابن عباس وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وقال الحسن، لأنهم ملوك، أنفسهم بالتخلص من القبط، الذين كانوا يستعبدونه. وقال السدي: ملك كل واحد منهم، نفسه وأهله وماله، وقال قتاده، كانوا أول من ملك الخدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فأما قوله: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد من عالمي زمانكم، كما قال تعالى: وأني فضلتكم على العالمين، البقرة، 47، 122، أي على عالمي زمانكم. ويحتمل أن يراد هاهنا: أتاكم المن والسلوى، وهما مما لم يؤت أحدا من العالمين وقد ذكرته قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 41 الآية السادسة منها قوله عز وجل: ومن لم يحكم بنما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، المائدة: 44. وبعده: فأولئك هم الظالمون، المائدة: 45 وبعده: فأولئك هم الفاسقون، المائدة: 47 للسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذي وصف فيه من لم يحكم بكتاب الله بالكفر هل باين الموضع الذي وصف فيه تارك حكم الله بالظلم والفسق. والجواب أن يقال: إن الآية الأولى قوله تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار استحفظوا من كتاب الله وكانوا عله شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. المائدة: 44 قال فيها بعض أهل النظر: إن من فيها ليست كـ من في المجازاة، وإنما هي بمعنى الذي ويصح دخول الفاء في جوابها كما تدخل في جواب الشرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 لتضمنها ذلك المعنى وإن كان لا يجازى بها، وهو كقولك، الذي يزورني فله درهم، إذا أوجبت له بالزيارة، إن لم ترد: من يزرني فله درهم. فقوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله في هذه الآية، المراد به اليهود الذين كانوا يبيعون حكم الله بما يشترونه من ثمن قليل يرتشونه فيبدلون حكم الله باليسير الذي يأخذون، فهم يكفرون بذلك. وأما أن يكون الحكم بخلاف ما أنزل الله كفرا فهو مذهب الخوارج، يذهبون بـ من هنا إلى الشياع الذي في المجازاة، وهذا مخصوص به اليهود الذين تقدم ذكرهم وتبديلهم حكم الله تعالى ليكذبوا رسول الله وذلك كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وأما الآية الثانية فهي فيهم أيضا لقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس،، المائدة: 45، ومعناه: كتبنا على هؤلاء في التوراة، فرد الذكر، إلى الذين هادوا، وهم الذين كفرهم لتركهم دين الله، والحكم بما أنزل، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وصفهم بعد خروجهم عن حكم الله في القصاص بين عباده في قتل النفس وقطع أعضائها بأنهم، مع كفرهم الذي تقدم ذكره، ظالمون، وكل كافر ظالم لنفسه إلا أنه قد يكون كافر غير ظالم لغيره، فكأنه وصف في هذه الآية بصفة زائدة على صفة الكفر بالله، وهي ظلمه لعباد الله تعالى بخروجه في القصاص عن حكم الله ومن لم يحكم في هذه الآية، المراد بهم، الذين لا يحكمون من اليهود. وأما الآية الثالثة فإنها بعد قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومعناه، قيل لهم في ذلك الزمان وأمروا أن يحكموا به، ومن لم يحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 بما أنزل الله، قال فيه من حكيت عنه قوله من المتقدمين أنه بمعنى الذي. والذي أذهب إليه أنا: أن من هاهنا بمعنى المجازماة، لا بمعنى الذي كما تقول فيمن لم يحكم/ بما أنزل لله منا، إنه لا يبلغ منزلة الكفر، وإنما يوصف بالفسق، فلذلك قال: فأولئك هم الفاسقون. فقد بان أن كل موضع من الآيات الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل: بالكفر والظلم والفسق، إنما وجب فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 النصارى، وعلى ضوء ذلك ذكر مناسبة ختم الأولى بالكافرين، وختم الثانية بالظالمين ولم يذكر مناسبة ختم الآية الثالثة بالفاسقين لوضوحها والله أعلم لأنه تقدم قوله تعالى: وليحكم وهو أمر، فناسب ذكر الفسق لأن من يخرج عن أمر الله تعالى يكون فاسقا كما قال تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، الكهف: 50، أي خرج عن طاعة أمره تعالى، ينظر البحر المحيط لأبي حيان. وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من أن هذه الآيات الثلاث في أهل الكتاب هو رأي جمع من المفسرين كأبي صالح والضحاك وعكرمة، وهو اختيار الطبري في تفسيره، والنحاس في كتابه إعراب القرآن، وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون، والراجح، وإن كان السياق في أهل الكتاب أن ظاهر هذه الآيات: العموم، وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحسن، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من استحل الحكم بغير ما أنزل الله جاحدا به فهو كافر. وأما من لم يحكم بما أنزل الله وهو مقر تارك الظالم الفاسق. قال الطبري في تفسيره: فإن قائل الله تعالى ذكره قد عم بالخير بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه، كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي. قال الآلوسي رحمه الله في تفسيره ولعل الله تعالى وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فالانكارهم ذلك وصفوا بالكافرين، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظالمين، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفاسقين، وهو أي الآلوسي يرى أيضا أن الخطاب يشمل اليهود وغيرهم فيقول: والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ذاك، ولم يحسن فيه غيره هناك، فاعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 42، الآية السابعة منها قوله تعالى: قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم، المائدة 119 وقال في سورة براءة 88-89 (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) . وقال بعده: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم، التوبة: 100 وقال في سورة النساء: 13، (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) ، وكان حقها أن تذكر في موضعها، لكي لم تحضرني هناك فذكرتها مع أخواتها، وإن كان ذكرها مقدما في القرآن. وقال في سورة الحديد 12، (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وفي المجادلة 22: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) . وقال في سورة الطلاق11: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) . للسائل أن يسأل عن مسائل فيقول: لم لم يذكر في سورة براءة في الآية الثانية في قوله: (تحتها الأنهار) لفظة من في قراءة الأكثرين، وقد ذكر في الآي الأخرى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والثاني: لم حذف (ابدأ) في بعض المواضع ولم يحذف في بعضها؟ والثالث: لم ذكر في سورة النساء 13: (وذلك الفوز العظيم) وفي سورة الحديد12: (ذلك الفوز العظيم) وفي غيرهما (ذلك الفوز العظيم) ؟ ولجواب عنه أن يقال: إن الآية الأولى وهي قوله تعالى (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) وإن كانت عامة في كل صادق مؤمن فإنها خرجت على يبكت الله به النصارى من دعاويهم الباطلة، ومقالاتهم الكاذبة منسوبة إلى عيسى عليه السلام في قوله (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله..) المائدة: 116 فانكشف هذا عن صدقه عليه السلام، وكذب القوم لما أجاب وقال: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) المائدة: 117، فلفظة الصادقين في قوله: (هذا يوم ينفع الصادقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 صدقهم) أي: الذين صدقوا في الدنيا، ينفعهم اليوم صدقهم. والصادقون يجوز أن يكون منصرفا إلى عيسى وأمثاله من الأنبياء صلوات الله عليهم لقوله عز وجل: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) الصافات: 37 أي قال: هم الصادقون، فتكون الإشارة بالألف واللام إليهم صلوات الله عليهم، وإن كان كل صادق داخلا في حكمهم من الانتفاع بصدقه. وكذلك الآية التي في آخر المجادلة خرجت على ذكر الرسل لقوله تعالى: (كتب الله لألغبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) المجادلة: 21 ثم قال: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم قال: (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) المجادلة: 22 فكان الذين أخبر الله عنهم بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار: الأنبياء وغيرهم صلوات الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ومن لابتداء الغاية، والأنهار مباديها أشرف، والجنات التي مبادء الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها. فكل موضع ذكر فيه (من تحتها) إنما هو عام لقوم فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يذكر فيه من إنما هو لقوم مخصوصين، ليس فيهم الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة براءة، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. فجعل مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر الله أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات، وفيهم الأنبياء عليهم السلام، بل هم أولهم، والمعتاد أنها أشرف الأنهار. والآية التي في سورة المجادلة فيها الأنبياء عليهم السلام والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها، لأن اللفظ لم يشتمل عليهم، فلم يخبر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت اشجارها كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السلام، إذ لا موضع في القرآن ذكرت فيه الجنات وجري الأنهار تحتها إلا ودخلتها من سوى الموضع الذي لم ينطو ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السلام، فهذا الكلام في من تحتها، اعتبروا بما ذكرت ما جميع القرآن. وأما الجواب عن حذف أبدا في بعضها والاتيان في بعضها فهو أنها إنما حذفت عن أولى الآيتين اللتين في براءة آية في سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 المجادلة، لأنه ذكر قبل الآية التي في سورة براءة، وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، وبعد الآية التي في آخر سورة المجادلة رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون فاستغنى بذكر خالدين عن ذكر قوله أبدا في هاتين الآيتين من فلاحهم وثناء الله عليهم لما طال الكلام. وأما في سورة النساء فإنها لمك تذكر أبدا لأنه بعده في مقابلة خالدين فيها قوله خالدا فيها ولم يقل أبدا فلو ذكر فيهما أبدا لطال الكلام، فاستغنى بقوله خالدين وخالدا فيهما عن ابدا. وأما في سورة الحديد فلأنه ذكر قبله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ذلك هو الفوز العظيم، الحديد، فلما طال الكلام في مدحهم وذكر بعد ذلك تأكيدا بقول الله تعالى هو استغنى بقوله خالدين عن ابدا. وهذا الجواب عن إدخال هو بعد ذلك لأنه ذكر ذلك بدلا وتأكيدا عن أبدا وليس كذلك في المواضع الآخر. وأما إدخال الواو في قوله وذلك الفوز العظيم في سورة النساء المحذوف أبدا عنه فلإدخال الوار في قرينة الكافر وله عذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 مهين، النساء، فأدخل الواو فيه، أي وذلك لهم الفوز العظيم وليس كذلك في المواضع الآخر، إذا قرآت ما قبلها وما بعدها تبين لك ما قلت فارفه. انقضت سورة المائدة عن سبع آيات فيها ثماني مسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 تم الجزء الأول من درة التنزيل وغرة التأويل ويليه الجزء الثاني وأوله سورة الأنعام اصل هذا العمل رسالة دكتوراه بعنوان درة التنزيل وغرة التأويل كلية الدعوة وأصول الدين بمكة المكرمة قسم الكتاب والسنة أوصت لجنة المناقشة بطبعها وبالله التوفيق بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام الآية الأولى منها قوله عز وجل: فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف أتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون، الأنعام: 5 وقال في سورة الشعراء: فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون. للسائل أن يسأل فيقول: قد ذكر في الآية التي في الأنعام ما كذبوا به وهو الحق لما جاءهم وقال، فسوف يأتيهم، وفي سورة الشعراء لم يذكر ما كذبوا به، وجعل بدل سوف السين، فهل كان يجوز أحدهما مكان الآخر؟ فالجواب أن يقال إن الآية والأولى قد وفي المعنى فيها حقه من اللفظ، لأنها سابقة للثانية وإن كانتا مكيتين فاشبعت ألفاظ الأولى مستوفية لمعناها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وفي الآية الثانية اعتمد على الاختصار لما سبق في الأولى من البيان اقتصر على قوله كذبوا وهذا اللفظ إذا أطلق كان لمن كذب بالحق، ألا ترى قوله عز وجل ويل يومئذ للمكذبين المرسلات وإذا قيد جاز أن يقول: كذب وكذب الصدق، وكذب مسيلمة وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه إذا عري عن التقييد لم يصح إلا لمن كذب بالحق، فصار قوله تعالى في الشعراء من هذا القبيل بعد البيان الذي سبق في سورة الأنعام. ولما بنيت هذه الثانية على الاختصار والاكتفاء بالقليل من الكثير جعل فيها بدل سوف السيف وحدها، وهي مؤدية معناها. ومن النحويين من ذهب إلى أنها من سوف وإن كان ذلك عندنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ليس بصحيح. الآية الثانية: قوله عز وجل متصلا بالآية التي تقدم ذكرها: ألم يرو كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم. الأنعام. وقال في سورة الشعراء متصلا بذلك بتلك الآية التي ذكرنا: أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من زل زوج كريم، الشعراء 7 للسائل أن يسأل فيقول: ما با الألف في الأية الأولى دخلت على لم وفي الآية الثانية دخلت على ولم فكان بين الألف ولم واو العطف ولم يكن في سورة الأنعام؟ وما الفصل بين ألم وألأو فهل ما في الشعراء مكان ما في سورة الأنعام أم لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 والجواب أن يقال: إن الألف تدخل على واو العطف في الاستخبار والإنكار والتقريع على تقدير أن تكون الجملة التي فيها الواو معطوفة على الكلام مثلها يقتضيها وذلك كقولك لقائل: هل رأيت زيدا ثمة؟ أو زيد؟ ممن يكون ثمة فصورته بصورة من ثبت ذلك عنده أو قاله، فاستفهمه وعطفت على ما توهمت أنه في علمه أو وهمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تبكيت على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو، فالاعتبار به لكثرة أمثاله كقوله تعالى: أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم، كأن قائلا قال: كذبوا الرسول وغفلوا عن الفكر والتدبر فقد فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة. وكذلك قوله تعالى: ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أو لم يروا إى الطير فوقهم صافات، الملك، 18/19. كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات. وكذلك قوله: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتقيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون، النحل: 48، لأن ذلك مشاهد. وكل ما فيه واو مثل أولم يروا فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال منبهةو لكثرتها، فالتكبيت فيه أعظم، هذا كله في المشاهد وما في حكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وما ليس فيه واو مثل ألم يروا فهو مما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده، لأنه من باب ما لا يكثر مثله، وذلك فيما يؤدي إلى علمه الاستدلالات كقوله تعالى في سورة الأنعام: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكانهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم، الأنعام: 6 وهذا مما لم يشاهدوه ولكن علموه. وكذلك قوله: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون، يس: 31 هو ما الطريق إلى العلم به الاستدلال لا المشاهدة. فهذا ونحوه مما لم يكثر في معلومهم أشباهه، فهم ينبهون عليه ابتداء من غير تقدير تنبيه على شيء مثله مما قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فإن عارض معارض بقوله تعالى: ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء، النحل: 79، وقال هذا من القسم الذي يشاهد، وحقه أن يكون ملحقا بقوله، أولأم كما كان قوله أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات، الملك: 19، وهما في شيء واحد، فما بالك اختلفا من حيث وجب أن يتفقا؟ والانفصال أن يقال: إنا عللنا موضع ألم بما يوجب أن يكون هذا الموضع من أماكنها، ألا ترى أنا قلنا، هو كل موضع ينبهون عليه ابتداءا من غير تنبيه على شيء مثله مما قبله، فعللنا المشاهدات بما يخرج هذا عنها، لأن قبل هذه الآية: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفدة لعلكم تشكرون، الم يروا إلى الطير مسخرات، النحل: 78- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 79. فبنيت هذه الآية على التي أخبر الله فيها عز وجل عن أول أحوال الإنسان، وأنه أخرجهم أطفالا صغارا، من بطون أمهاتهم، لا يعلمون شيئا من منافعهم فيقصدونها ولا من مضارهم فيتجنبونها، ثم بصرهم حتى عرفوا ونبههم على ما يشاهده كل حي من تصرف الطير في الهواء وعجزه عن مثل ذلك. وكان هذا مقرونا بأولى الأحوال، ولم يتقدمه أمثاله له يقع التنبيه عليها قبله فيكون في حكم ما يعطف على ما تقدمه. فإن عارض بقوله عز وجل: وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقطنون، أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، الروم: 36-37، وقال إن ذلك مما لا يعلم ولا يشاهد، وحكمه أن يكون بـ ألم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 قيل له: التوسعة في الرزق والتقتير فيه لما كانت لهما أمارات ترى وتشاهد من أحوال الغنى والفقر صار أمرهما كالمشاهدات فكانا مما شوهدت أمثال لهما فعطف عليها. فإن سأل عما جاء بالفاء في قوله تعالى: أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، سبأ: 9، وقال: ما الفرق بين هذا المكان الذي جاءت فيه الفاء وبين الأماكن التي جاءت فيها الواو؟ وهل كان يصح في اختيار الكلام الواو مكان الفاء ها هنا؟ فالجواب أن يقال: الفاء هاهنا أولى/ لأن قبلها: وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد، أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد، أفلم يروا إلى ما بين أيديهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وما خلفهم من السماء والأرض، سبأ: 7-9 فكأنه قيل فيهم، أنهم كذبوا الله ورسوله بما أنكروه من البعث، فلم يتفكروا ولم يخشوا غقيب هذا المقال نقمة تنزل بهم فقيل: لم يتفكروا ولم يخشوا أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي: هم لا ينفكون من أرض تقلهم وسماء تظلهم، والذي جعلها تحتهم وفوقهم قادر على أن يخسف الأرض بهم، أو يسقط السماء عليهم، فهذا موضع الفاء، لا موضع غيرها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 لما بيّنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الآية الثالثة منها: قوله تعالى: قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، الأنعام: 11. وفي سورة النمل: 29: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين. وقال في سورة العنكبوت 20: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير. وقال في سورة الروم 42: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين. للسائل أن يسأل فيقول: التي في سورة الأنعام ما بين السر والنظر فيها مهلة متراخية، عبر عنها بـ ثم وسائر الآي المهلة بينهما فيها أقل فعبر عنها بالفاء، فما الذي خصص الأولى بـ ثم والباقية بالفاء؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: ... سيروا في الأرض فانظروا، يدل على أن السير يؤدي إلى النظر فيقع بوقوعه، وليس كذلك ثم ألا ترى الفاء وقعت في الجزاء، ولم تقع فيه ثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 فقوله في سورة الأنعام: قل سيروا في الأرض ثم انظروا لم يجعل النظر فيه واقعا عقيب السير، متعلقا وجوده بوجوده، لأنه بعث على سير بعد سير لما تقدم من الآية التي تدل على أنه تعالى حداهم على استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد، وأن يستكثروا من ذلك ليروا أثرا بعد اثر، في ديار بعد ديار قد عمم أهلها بدمار، لقوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكانهم في الأرض ما لم نمكن لكم، ثم قال: فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين. الأنعام: 6 فذكر في قوله: كم أهلكنا من قبلهم من قرن أي: قرونا كثيرة أهلكانهم، ثم قال، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، فدعا إلى العلم بذلك بالسير في البلاد ومشاهدة هذه الآثار، وفي ذلك ذهاب أزمنة كثيرة ومدد طويلة تمنع النظر من ملاصقة السير، كما قال في المواضع الآخر التي دخلها الفاء لما قصد فيها من معنى التعقيب واتصال النظر بالسير، إذ ليس في شيء من الأماكن التي استعملتها فيها الفاء ما في هذا المكان من البعث على استقراء الديار وتأمل الآثار، فجعل السير في الأرض في هذا المكان مأمورا به على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 حدة، والنظر بعده مأمورا به على حدة، وسائر الأماكن التي دخلتها الفاء علق فيها وقوع النظر بوقوع السير، لأنه لم يتقدم الآية ما يحدوا على السير الذي حدا عليه فيما قبل هذه الآية، فلذلك خصت بـ ثم التي تفيد تراخي المهلة بين الفعلين والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 الآية الرابعة منها: قوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير، الأنعام: 17 وقال في سورة يونس: 107، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله. للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب أن يقرن إلى جملتي الشرط والجزاء في الآية الأولى: وإن يمسسك، ويجعل جواب الشرط الثاني: فهو على كل شيء قدير ثم قرن في الآية الثانية إلى جملتي الشرط والجزاء وإن يردك بخير ويجعل جوابه فلا راد لفضله فخالف الأول؟ والجواب أن يقال: إن السورتين اللتين وقعت فيهما الآيتان مكيتان، والأولى منها قبل الثانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فأما التي في سورة الأنعام وهي: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو فمعناها، إن يمسسك الله ضرا وهو سوء الحال، فلا مزيل لع غير الله ولا يملك ما يعبد من دونه كشفه. ومعنى يمسسك ينلك لأن المماسة في الأعراض مجاز وتوسع في اللغة فمعنى مسه الله بضر: أنا له الله ضرا وأوصله إليه. وقوله: وإن يمسسك بخر فهو على كل شيء قدير أي: إن ينلك خيرا يرج الأكثر منه، لأنه قادر عليه وعلى أمثاله، والدليل على أن المعنى هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 أن الجزاء إذا كان جملة ابتداءا وخبر فإن معنى الخبر يكون جزاءا ومقدرا في مكان الفاء، كقولك: إن زرتي فأنا مكرم لك، وإن أحسنت إلي فأنا قادر على مقابلتك، والتقدير: إن زرتي أكرمك، وإن أحسنت إلى قدرت على مقابلتك، وفي قولك: قدرت على مقابلتك ضمان المقابلة. وأنت إذا قدرت قوله تعالى: وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير، وإن ينلك خيرا يقدر عليه، لم يستقم الكلام، لأن الجزاء حقه أن يكون بعد الشرط، والقدرة على الفعل لا تكون بعده، والمعنى، إن ينلك خيرا يرج لأمثاله، لأنه قادر عليه، وعلى كل شيء قدير، وكونه تعالى قادرا من صفات النفس، وإنالة الخير فعل من أفعاله، فلا يصح أن يكون كونه قادرا متأخرا عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 فالمعنى: إن نقلك إلى سوء حال لم يملك كشفه عنك غيره، وذلك كشدائد الدنيا من الأمراض والآلام والنقصان في الأموال. وإن نقلك إلى حسن حال، كان بعده قادرا على أمثاله، ومالكا لأضعافه، لأنه قادر على كل ما يصح أن يكون مقدورا عليه له، فهذا وصفه بالقدرة على النفع والضر. وأما الآية الثانية ففيها نفي أن يغالبه مغالب، ويمنعه عما يريد فعله مانع، لأن معناها: إذا أنزل بك مكروها لم يقدر أحد على دفع ما يريد إيقاعه بك، وإن أراد إحلال خير بك لم يرده أحد عنك، وهو معنى: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ورتبة هذا الوصف بعد رتبة الوصف الأول، لأنه يوصف الفاعل أولا بقدرته على الضدين، وليس كل من كان كذلك كان ممتنعا عن أن يقهره قاهر فيحول بينه وبين ما يريد فعله، فإذا وصفه بأنه قادر غالب للقادرين لا يدفعه عن مراد له دافع وصفا ثانيا، فلاق بكل موضع ما ورد فيه ونطق القرآن به. فالذي اقتضى هذا الوصف في الآيتين قوله تعالى قبل الأولى: (.. قل إني أمرت أن أكون أول مسلم ولا تكونن من المشركين) (الأنعام: 14) أي: إني لا أعبد إلها معه فأشرك به. وقوله قبل الآية الثانية: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفع ولا يضر فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) (يوسف: 106) ، ومثلها قوله تعالى: (.. قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته..) (الزمر: 38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 (47) الآية الخامسة منها: قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) (الأنعام: 21) . وقال تعالى في سورة يونس (17) : (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) . للسائل أن يسأل عن موضعين في الآيتين: أحدهما: عن الواو في الأول الآية الأولى وهو (ومن أظلم) ، والفاء في أول الآية الثانية وهو (فمن أظلم) ؟ والثاني: عن اختصاص آخر الآية الأولى بقوله: (الظالمون) واختصاص آخر الآية الثانية بقوله: (المجرمون) ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 والجواب عن الأول أن يقال: إن ما تقدم الآية الأولى من قوله: (قل أي شئ أكبر شهادة..) إلى قوله: (ومن أظلم..) جمل عطف صدور بعضها على بعض الواو، ولم تتعلق الثانية بالأولى تعلق ما هو من سببها، فأجرى قوله: (ومن أظلم) مجراها، وعطف بالواو عليها، ألا ترى قوله: (.. وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ..) وبعده: (.. وإنني برئ مما تشركون) (الأنعام: 19) . وأما الآية الثانية فإن ما قبلها عطف بعضها على بعض بالفاء كقوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم به فقد لبث فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) (يونس: 16) فتعلق كل ما بعد الفاء بما قبله تعلق المسبب بسببه، لأنه المعنى: لو أراد الله أن لا يوحي إلي هذا القرآن لما تلوته عليكم ولا عرفكم إياه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 هذا الوقت الذي أخبرتكم أن الله بعثني به إليكم، وهذا يؤديكم إلى أن تعلموا أني طويت فيكم شيئا مما تلوته الآن، فيؤديكم هذا إلى أن تعرفوا صحة ما أقول إنه من عند الله، لا من فعلي وقولي، فعطف بعض هذا الكلام على بعض بالفاء. وقوله بعده: (فمن أظلم) أي: إذا عرفتم أنه ليس من قولي لظهوره مني بعد ما لم يكن فيما مضى من عمري، فليس أحد أشد إضرارا بنفسه منكم في قولكم على الله ما لم يقله، فهذا موضع الفاء. وكل موضع في القرآن يكون بعد هاتين الآيتين بالواو أو بالفاء فاعتبره بما بينه لك. وفي الأعراف أيضا: (فمن أظلم) بالفاء فالجواب عنه مثل ما مضى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 والجواب عن السؤال الثاني أنه لما قال في الآية الأولى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا..) وكان المعنى أنه لا أحد أظلم لنفسه ممن وصف الله تعالى بخلاف وصفه فأوردها العذاب الدائم، كان قوله: (إنه لا يفلح) عائدا إلى من فعل هذا الفعل، أي: لا يظفر برحمه الله ولا يفوز بنجاة نفسه من كان ما ذكر من فعله، فبناء الآخر على الأول اقتضى أن يكون: (إنه لا يفلح الظالمون) . وأما الآية الثانية في سورة يونس وتعقيبها بقوله: (إنه لا يفلح المجرمون) دون قوله: (إنه لا يفلح الظالمون) وإن كان الوصفان لفريق واحد، فلأنهما تقدمتها الآية التي تضمنت وصف هؤلاء القوم بما عاقبهم به فقال: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتكم رسلكم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 القوم المجرمين) (يونس: 14-15) فوصفهم بأنهم مجرمون عند تعليق الجزاء بهم. وقال بعده: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات..) (يونس: 14- إلى الموضع الذي أبطل فيه حجتهم ودفع سؤالهم وهو (..ائت بقرآن غير هذا أو بدله) يونس: 15 فقال تعالى: (إنه لا يفلح المجرمون) ليعلم أن هؤلاء سبيلهم في الضلال سبيل القوم الذين أخبر عن هلاكهم وقال: (كذلك نجزي القوم المجرمين) يونس: 13 ليوقع التسوية بينهم في الوصف كما أوقع التسوية بينهم في الوعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 48 الآية السادسة منها قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يرو كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) الأنعام: 25. وقال في سورة يونس 42-43: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون* ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهتدي العمى ولو كانوا لا يبصرون) . للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: (من يستمع إليك) في الآية الأولى، وتوحيد الضمير العائد إلى من حملا على فظها؟ وعن قوله: (من يستمعون إليك) في الآية الثانية، وجمع الضمير العائذ إلى من حملا على معناها؟ ولماذا اختص الأول بالتوحيد والثاني بالجمع؟ وهل كان يجوز في الختيار عكس ذلك في المكانين؟ والجواب أن يقال: إن لكل من الموضعين ما يوجب اختصاصه باللفظ الذي جاء فيه فأما قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا كل قلوبهم أكنة أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 يفقهوه وفي آذانهم وقرا) ، فقد قيل فيه: إنه في قوم من الكفار كانوا يستمعون إلى النبي وإلى قراءته بالليل، فإذا عرفوا بها مكانه رجموه وآذوه ومنعوه من الصلاة خوفا من أن يسمعه منهم من تدعوه دواعي الحق فيسلم. وهذا قوم قليلي العدد يرصدونه عليه السلام بالليل، وكان الله عز وجل يمنعهم عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 بنوم يلقيه عليهم، وحجاب يحجبه به عنهم لقوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) الإسراء: 45 فصار ذلك كالكنان على قلوبهم، وكالصم في آذانهم. وأما قوله تعالى: (ومنهم من يستموعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون* ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) الآيتين، فهو في كل الكفار الذين يستمعون مسموعا هو حجة عليهم، وهو القرآن ولا ينتفعون بسماعه، فكأنهم صم عنه. فلما كانت من تصلح للواحد فما فوقه، ويجوز أن يعود الضمير إلى لفظه وهو لفظ الواحد وإلى معناه، وهو ما يراد به من الواحد أو اثنين أو ثلاث، واختلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 هذان المكانان في القلة والكثرة حملت في موضع القلة على حكم اللفظ، وعاد الضمير إليها بلفظ الواحد فقال: (ومنهم من يستمع إليك) وفي موضع الكثرة على حكم المعنى، وعاد الضمير إليها بلفظ الجمع، فقال: (ومنهم من يستمعون إليك) ليفاد بالاختلاف هذا المعنى، فلم يصلح في كل مكان إلا اللفظ الذ خصه مع القصد الذي ذكرت. فإن قال قائل: فعلى هذا وجب في الاختيار: ومنهم من ينظرون إليك، لأنهم الأكثرون كالمستمعين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قلت: إن المستمعين لما كانوا محجوجين بما يستمعون من القرآن كانوا الأكثرين في الحجاج، وليس كذلك المنظور إليه، لأن الآيات التي رئيت بالعين لم تكثر كثرة آيات القرآن التي سمعت بالآذان، فباين السامعون الناظرين في الكثرة عند الحجاج، فلذلك عاد الضمير إليهم بلفظ الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 49 الآية السابعة منها قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) الأنعام: 40. وقال بعدها: (قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون) الأنعام: 47. فقال في هذين الموضعين: (أرأيتم) . وقال في هذه السورة: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به) الأنعام: 46. وقال في سورة يونس: 50: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) . للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى قال في الموضعين الأولين اللذين قدمنا ذكرهما: (أرأيتم) وفي الموضعين الأخريين: (أرأيتم) ، وهل كان الاختيار أن يكون أحدهما مكان الآخر أم لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 فالجواب أن يقال: إن النحويين في قوله تعالى: (أريأتكم) على مذهبين: أحدهما: مذهب أهل البصرة، وهو أن الكاف في أرأيتك زيدا عاقلا للخطاب كالكاف في أرأيتك زيدا عاقلا للخطاب كالكاف في ذلك وليست باسم، ويقولون للاثنين: أرأيتكما زيدا عاقلا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وللجماعة أرأيتكم زيدا عاقلا، وأرأيتك زيدا عاقلا؟ بمعنى: أعلمته عاقلا؟ والتاء لا تتغير عن الفتح، وهي علامة الضمير دون الكاف، واكتفى بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء وجمعها. ومن مذهب أهل الكوفة في الآيتين أن التاء اسم، والكاف اسم مضمر، والتقدير: أرأيتم أنفسكم إن أتاكم عذاب الله. والتاء موحدة اللفظ مع الكاف التي تختلف باختلاف المخاطبين اكتفاء باختلافها عن اختلاء التاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ولا اتخلاف في ترادف الخطابين التاء والكاف على المذهبين، ولا يترادفان إلا عند المبالغة في التنبيه، والمبالغة فيه هو أن يعلم المخاطب أنه لا تنبيه بعد. وما يتصل بقوله: (أرأيتكم) في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع لم ينفع عنده الزجر والتنبيه. وما يتصل بقوله: (أرأيتكم) في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع لم ينفع عنده الزجر والتنبيه. ألا تراه يقول: (أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون..) وعند إتيان العذاب وقيام الساعة لا ينفع الانتباه ولا يقع التنبيه وأرأيتكم فعل متعد إلى مفعولين، والجملة التي هي: (إن أتاكم عذاب الله) مضمنة مفعوليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وكذلك قوله: (أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون) معناه: أعلمتم إن أتاكم العذاب مفاجأة من حيث لا يعلم، أو عيانا من حيث يشاهد، هل يهلك عنده إلا القوم الظالمون، وهم المخاطبون، أي هل يهلك غيركم؟ . فلما علق ب أرأيتكم جملة تتضمن مفعوليها، معنى الجملة تناهي الأمر في تخويفهم بالخشونة إلى حيث ينقطع التنبيه عندها، كان هذا الموضع أحق المواضع بالمبالغة فيه لمرادفة التنبيه، فلذلك أتى بالتاء والكاف التين لا تخلوان من الخطاب على مذهبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 على أن مذهب الكوفيين في الآيتين صحيح محتمل، الآية الأولى تقديرها: أرأيتم أنفسكم داعية غير الله إن أتاكم عذاب الله؟ والآية الثانية تقديرها: أرأيتم أنفسكم غير هالكة إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة؟ وأرأيتم أنفسكم هل يهلك غيرها؟ لأنهم هم الظالمون. أما الآيتين الأخريان اللتان اقتصر فيهما على أرأيتم ولم يترادف في كل واحدة منهما الخطابان الدالان على التناهي في التنبيه إلى حيث لا تنبيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 بعده بذكر ما يفزعون به وينذرون قرب حلوله، فلأن الجملتين بعدهما لم تتضمنا من المبالغة فيما يحذرون ما ينقطع التنبيه عنده. أما الأولى فقوله (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به) أي: أعلمتم إن سلبكم الله صحة ما تحسون به المشاهدات، وتعلمون به المغيبات إلها غير الله يردها عليكم؟ وليس هذا استئصالا كما في الآيتين المتقدمتين. وأما قوله: (أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) فلأن قبله: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) يونس: 48. مخبرا أنهم استعجلوا العذاب وقيام الساعة فنزلوا منزلة من لا يخافون ما أوعدوا به، ولذلك قال: (ماذا يستعجل منه المجرمون) فلم يكن فيه صريح الاستئصال والإفصاح بالهلاك، فكأنه لم يبلغ حدا لا مزيد للتنبيه فيه، بل هم في تلك الحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 أحوج ما كانوا إلى الزجر، إذ لم يبلغ منتهاه، كما بلغ في اللآيتين الأخريين، يستعجلون هلاكهم ولا يعلمون ومعناه: أعلموا هم طالبين هلاك أنفسهم ما يستعجلونه من نزل عذاب الله بهم؟ فقد بان هذا الفرق بين الآيات وما ترادفت فيه علامتا الخطاب وغيره مما جرى على أصل الكلام والعلم عند الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 50 الآية الثامنة منها قوله عز وجل: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا..) الأنعام: 70. وقال في سورة الأعراف 50-51: (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين* الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا..) وقال في سورة العنكبوت 64 (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهم ولعب) فقدم اللهو على اللعبفي هاتين الآيتين. وجاء في سورة الحديد20: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة) فقدم اللعب هنا على اللهو كما قدمه في سورة الأنعام. للسائل أن يسأل فيقول: إذ كانت الواو للجمع بين الشيئين والأشياء بلا ترتيب، فهل لتقديم أحد الاسمين على الآخر في موضع دون موضع، وتقديم الآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 عليه في غير ذلك الموضع فائدة تخصه أم كان جائزا في كل مكان تقديم أيهما شاء المتكلم لا لغرض يخصه؟ فالجواب أن يقال: إن الآية الأولى التي في سورة الأنعام في قوم من الكفار، كانوا إذا سمعوا آيات الله هزلوا عندها واستهزأوا بها، فهذا اتخاذهم دين الله لعبا، وهو كما قال في آية أخرى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر ويستهزأ بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم..) النساء: 140. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وقوله عز وجل (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا..) كقوله: (..فلا تقعدوا معهم..) النساء 140 فهؤلاء قوم حضروا النبي وسمعوا القرآن، وعبثوا عند سماعه ولعبوا بآياته، وأجروها مجرى أفعال يستروح إليها، ولا نفع في عقباها، ثم شغلوا بدنياهم عن تدبرها وألهتهم حلاوتها عن الفكر في صحتها، فأول أفعالهم لعب، وثانيها لهو، واللعب فعل في غاية الجهل تتعجل منه مسرة واللهو قال فيه صاحب العين: ما شغل الإنسان من هوى وطرب. فهؤلاء لما فعلوا عند سماع القرآن من الاستهزاء والعبث أطلق على فعلهم اسم اللعب، ثم شغلوا عنه باستحلاء الدنيا كان هذا لهوا منهم بعد اللعب وكان أول دينهم لعبا وما بعده لهوا، فلذلك قدم لعب على لهو في هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وأما قوله في سورة الأعراف: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين* الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا..) الأعراف: 50-51، وتقديم اللهو على اللعب في هذه الآية فلأن الكافرين هنا لعامة الكفار، غير مختص بمن سمع الآيات، فقدم فعل أكثرهم على فعل أقلهم، وهم الذين شغلتهم الحياة الدنيا وحلاوتها، والولاية وغباوتها، واستحلاء ما مرنت عليه طباعها، وهذا هو اللهو. ثم كانت أفعالهم التي اقتدوا فيها بآبائهم لما طابت لهم ولم يجدوا في العاقبة نفعا عليهم كاللعب الذي ينطوي على أفعال تبطل في الآجل وإن سرت في العاجل، وهذا بعد الأول. وأكثر الكفار دأبهم اللهو وإن شغلتهم الحال التي استصحبوها عن الفكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 فيما يطرأ عليها فوجب لهذا تقديم ذكر اللهو لوجهين: لتقدمه على ما هو كالعب ولأنه أكثرهم. واللعب الذي أريد به في الآية الأولى فعل أقلهم وهو هناك أول ما رد به ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما قوله تعالى في سورة الحديد: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد..) ، وتقديم اللعب فيع على اللهو فلأن معناه: الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها من أعمال الآخرة مقسومة من الصبا، وهو وقت اللعب، وبعده اللهو، وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهم، ومن أخذ الزينة تنشأ مباهاة الأكفاء ومفاخرة الأشكال والنظراء، ثم بعده المكاثرة بالأموال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 والأولاد، فترتيب الحياة على هذه الأحوال يوجب تقديم حال اللعب على حال اللهو. واللهو إذا أطلق في كلامهم فهو اجتلاب المسرة بمخالطة النساء، ولذلك قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم انني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وقال الآخر: لهونا بمنجول البراقع حقبة فما بال دهر لزنا بالوصاوص وقيل في قوله تعالى (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) الأنبياء: 16-17. قيل في تفسير الهو: المرأة، وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن: المرأة أي: لفعلناه من حيث يختص بعلمنا، فلا يطلع عليه غيرنا، تعالى الله عن الصاحبة والولد، فعلى هذا سميت المرأة لهوا باسم الفعل لكثرة ما يقع ذلك بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وأما قوله تعالى في سورة العنكبوت 64: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وغن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) ، فليس المراد به أن الحياة الدنيا كلها لهو ولعب، وليست شيئا غيرها، لقوله: ما هي إلا هما، لأنه لو كان المراد هذا لكان لقائل أن يقول: ما هذه الحياة الدنيا إلا خوف وحزن، فالخوف اضطراب القلب لتوقع مكروه، والحزن ألمه لفقد محبوب ثم إن هذه الحياة تنطوي على أنواع من عبادة الله تعالى وعلى تلاوة كتابة، وعلى ما يكسب رضي الله عز وجل، ويوجب ثوابه الدائم، فكيف يقال فيما يتضمن كل هذه الخيرات: ليس هو إلا لهوا ولعبا، بل المراد: المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى، فكأنه قال: ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 واللعب، فهي أزمنة لشغل النفس بحلاوة ما يتعجل كما قال القائل: شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار وقال آخر: وليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر والدليل على أن المراد هذا ذكرت قبل، وما ذكروه الله تعالى بعد من قوله عز وجل: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) العنكبوت: 64 أي: أن حياتها تبقى أبدا، ولا تعزب أمدا. وإنما قدم الله على اللعب هنا، لأن الأزمنة التي يقصرها الله أكثر من الأزمنة التي يقصرها اللعب، لأن التشاغل به أكثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فلما كان معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة، لأن ذلك آخذ بالشبه، وأبلغ في وصف المشبه، ولا خلاف أن الناس أزمنة المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب، وإن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها. فمعظم ما يرى الزمان الطويل قصيرا زمان اللهو بالنساء، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب فهذا الكلام في هذه الآي والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 51 الآية التاسعة منها قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) الأنعام: 95. وقال في سور أخر قبلها وبعدها: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) الروم: 19. للسائل أن يسأل فيقول: لم عطف الاسم على لفظ الفعل ولم يعطف عليه لفظ الفعل، كما قال في السور الأخر؟ وإذا عطف عليه بلفظ الاسم وهو (مخرج الميت من الحي) ، هلا ذكر اللفظ الأول بالاسم فيقول: مخرج الحي من الميت، فما الفائدة في ذلك؟ وما الفرق بينها وبين الآي الأخر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 والجواب أن يقال: إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم وهو (فالق الحب والنوى) فكان اللائق به أن يقال: ومخرج الحي من الميت ولكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف العلة دفعة واحدة، وهي: الواو من النوى والياء من النوى والواو من مخرج وهي واو العطف، ونقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج ومخرج بمعنى واحد، فقال: (يخرج الحي من الميت) فجعل الجملة وهي: (يخرج الحي من الميت) خبر الابتداء، كما تقول: إن زيدا ضارب عمرو يكرم بكرا، ومكرم جعفرا، فهذا أفصح من أن تقول: إن زيدا ضارب عمرو، ومكرم بكر، ومكرم جعفر، فلهذا المعنى قال: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 فلما انتهى إلى العاطف من قرينه لم تكن فيه تلك العلة التي كانت في المعطوف عليه فأجري على ما أجري عليه اول الآيى، وهو: (فالق الحب) وما بعده: (فالق الاصباح وجعل الليل ساكنا) الأنعام: 96، وعاد إلى لفظ الاسم وهو: (ومخرج الميت من الحي) ، وعطفه على (فالق الحب) ، وليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها وبعدها من الاسمية، فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها ومعطوفها فبان الفرق بينهما على ما بينت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 52 الآية العاشرة منها قوله تعالى: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) الأنعام: 97. والآية الثانية بعدها: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: 98. والآية الثالثة: (.. إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) الأنعام: 99. للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في اختيار الكلام أن يقال في الأولى يعلمون وفي الثانية يفقهون وفي الثالثة يؤمنون؟ وهل صلح بعض ذلك مكان بعض أم في كل معنى يخض اللفظ الذي جاء عليه؟ . فالجواب أن يقال: إن قوله تعالى: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) جاء بعد آيات نبهت على معرفة الله تعالى، وهي من قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى..) إلى قوله: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 والبحر ... ) الأنعام: 95-97 فكان جميع ذلك دالا على العلم بالله تعالى وبوحدانيته، وهو أشرف معلوم. ولا لفظ من ألفاظ يعلمون ويعقلون ويفقهون ويشعرون إلا ولفظة يعلمون أعلى منه، ولذلك صحت في الخبر عن الله تعالى ولميصح فيه غيرها من الألفاظ التي ذكرت فلما كان المعلوم أشرف المعلوم المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف. وأما ما استعمل في يفقهون فهو بعد قوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع.) الأنعام: 98 فأخبر عن ابتدائه الإنسان وإنشائه إياه، ثم نبهه بما أراه من تنقله من حال إلى حال، من عدم إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وجود، ومن مكان إلى مكان، ومن صلب إلى رحب، ومن بطن أم إلى وجه الأرض، ومن وجه الأرض إلى بطنها، على أنه كما نقل من موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، كذلك ينقل من الموت إلى الحياة، ومن القبر إلى المحشر، ومنه إلى إحدى الدارين، لأن الاستيداع في الدنيا، والمستقر في العقبى كما نقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 في التفاسير فنطقت تلك الأحوال الحادثة لمن يفهمها ويفطن لها، ويستدل بمشاهدها على مغيبها أن بعد الموت بعثا وحشرا وثوابا وعقابا، وهذا مما يفطن له، فـ يفقهون أولى به. وأما قوله تعالى: إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون، الأنعام: 99، بعد ما عد نعمه على خلقه، وما وسعه من رزقه من الحب المعد للأقوات، ومن ضروب الأشجار وصنوف الثمار، وكان هذا مستدعيا للإيمان، المشتمل على شكر نعمته، والقيام بما فرض من طاعته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وأوجب من عبادته، كانت الآيات في ذلك معرضة لمن آمن بالله، فلذلك قال في الأخير، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 53 الآية الحادية عشر منها: قوله تعالى: ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، الأنعام: 102. وقال في سورة المؤمن 62: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون. للسائل أن يسأل فيقو: لماذا في سورة الأنعام لا إله إلا هو على قوله: خالق كل شيء، وقدم في سورة المؤمن،: خالق كل شيء، على قوله تعالى: لا إله إلا هو؟ والجواب أن يقال: لأن ما في هذه السورة جاء بعد قوله تعالى: وجعلوا الله شركاء الجن وخلقكم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، الأنعام: 100، فلما قال: ذلكم الله ربكم، أتى بعده بما يدفع قول من جعل لله شريكا، فقال: لا إله إلا هو، ثم قال: خالق كل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وفي سورة المؤمن جاء هذا بعد قوله تعالى: لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، غافر: 57 فكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان، لا على نفي الشريك عنه هنا، كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالق كل شيء هاهنا أولى. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 54 الآية الثانية عشرة منها: قوله تعالى: ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، الأنعام: 112، وقال بعده: ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون، الأنعام: 137. للسائل أن يسأل فيقول: كيف قال: وقال ربك، في الأولى، وفي الثانية ولو شاء الله؟ وهل في المكانين ما يوجب اختلاف الاسمين؟ والجواب أن يقال: إن الأولى قبلها: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، الأنعام: 112، أي: كا للأنبياء قبلك من قبل العدو من الإنس والجن، ولو شاء من رباك وربك وقام بمصالحك لألجأهم إلى موافقتك وترك مخالفتك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 كان من يقوم بتربيتك يحجزهم عم مضرتك، وأن يظفروا بمرادهم من عداوتك فقد تضمن قوله ربك هذا المعنى. وقوله في الآية الأخرى: ولو شاء الله ما فعلوه جاء بعد قوله تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، الأنعام: 136، فأخبر أنهم أقاموا لله الذي يحق إفراده بالعبادة شركاء ولو شاء الله أي: ولو شاء من نعمته عليهم نعمة توجب التأله إلا يعبدوا سواه ما تمكنوا من فعله، فهذا موضع لم يلق به إلا الإسم الذي يفيد معنى فيه حجة عليهم دون غيره من ألسماء فأفاد كل اسم من الإسمين في مكانه ما لم يكن ليستفاد بغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 55 الآية الثالثة عشرة منها: قوله تعالى: إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، الأنعام: 117. وفي سورة القلم: 7: (إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) . للسائل أن يسأل عن الفرق بين اللفظين، وحذف الباء وإثباتها، وهل كان يصح ما في سورة القلم أن يكون في سورة الأنعام، وما في سورة الأنعام أن يكون مكانها؟ والجواب أن يقال: إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، وبين اللفظين فرق في المعنى يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له بمكانه. فقوله: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) معناه: الله أعلم أي المأمورين يضل عن سبيله، أزيد أم عمرو؟ وهذا المعنى يقتضيه ما تقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 هذه الآية وما جاء بعدها مما تعلق بها، فالذي قبلها: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..) الأنعام: 116 أي: إن تطع الكفار يضلوك عن طاعة الله وعبادته، ثم أخبر أنه يعلم من الذين يغوونه ويضلونه ومن الذين لا يتمكنون من إضلاله؟ ولعد هذه الآية: (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله..) الأنعام: 119. وأما قوله: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) فمعناه غير معنى الآية الأولى أي: الله أعلم بأحوال من ضل، كيف كان ابتداء ضلاله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وما يكون من مآلهظ أيصر على باطله أم يرجع عنه إلى حقه، وقبلها: (فتبصر ويبصرون* بأييكم المفتون) القلم: 5-6. من جعل المفتون كالمعقول بمعنى العقل، كان معناه فستعلم ويعلمون، بك أو بهم الفتون، وخبال العقل وفساد الرأي؟ ومن جعل المفتون: المبتلى بفساد التمييز، حكاية معنى قولهم: إنه مجنون، كان كما يقال: في أي الفرقتين المجنون؟ أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الكفر؟ والباء تقارب معنى في كما يقال: فيه عيب، فينوب كل واحد من الحرفين مناب الآخر في أداء المعنى. ويجوز أن تكون الباء بمعناها على ما يقال: فلان: بالله وبك أي: ثباته به وبك، معناه: ستعلم بأي الطائفتين ثبات الجنون ودوام الفتون. وإذا كان مدار الكلام على أنه سيبصر بأيكم الخبال والجنون كان قوله تعالى بأي (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) أي: الله أعلم بي وبكم، وبالمخبل والمجنون مني ومنكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وإذ قال: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) أي: هو أعلم بابت اء ضلالة، وانتهاء أمره، وهل يقيم على كفره أم يقلع عن غية لرشده فقد بان لك أن كل موضع أتى فيه بما اقتضاه المعنى من اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 56 الآية الرابعة عشرة منها: قوله تعالى: كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون، الأنعام: 122 وقال في سورة يونس 12: كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون، للسائل أن يسأل فيقول: ما فائدة اختصاص الأول بـ الكافرين، والثاني بـ المسرفين؟ والجواب أن يقال: إن الأول قبله، أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، الأنعام: 122 والمراد بالميت هاهنا: الكافر، والنور الإيمان وحياته به، ومن في الظلمات: من استمر به الكفر ولم يتنقل عنه، فكان ذكر الكافرين بعده أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وأما المكان الثاني فإن القبلة: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، يونس: 7، فهذا صفة كفار نعموا أبدانهم ودنسوا أديانهم، واقتصروا على عمارة الحياة الدنيا واطمأنوا بها، ولم يتبعوا لطلب الأخرى، وهم المسرفون الذين قال الله تعالى فيهم: وأن المسرفين هم أصحاب الناس، غافر: 43، لأنهم غلوا في غيثار الدنيا وتعجل نعيمها، وتجاوزها الحد في عمارتها، والإعراض عما هو أهم لهم منها. ويجوز أن يكون الكفار سموا مسرفين لمجاوزتهم الحد في العصيان، إذ يقال لمن أفرط في ظلم: أسرف، والذين رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها وغفلوا عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 تدبر آيات الله تعالى يقال لهم: مسرفون على وجهين: أحدهما المبالغة في تنعيم النفوس وجعلهم الدنيا حظهم مما عرضوا له من النعيم. والثاني: مجاوزتهم الحد في معصية الله تعالى. فلما قال: فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون، يونس: 11، واشار إلى من التقديم ذكرهم في قوله: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا، يونس: 7، ثم وصف حال الانسان في الشدة والرخاء، وانقطاعه في الشدة إلى الدعاء، ونسيانه له في الرخاء، فسمى الذين هذه صفتهم مسرفين على أحد الوجهين اللذين ذكرنا لإسرافهم في الحالين. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 57 الآية الخامسة عشرة منها: قوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، الأنعام: 131 وقال في سورة هود 117: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. للسائل أن يسأل فيقول: لم كان في الأول غافلون وفي الثاني مصلحون؟ والجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من العقاب في قوله: قال النار مثواكم خالدين فيهان الأنعام: 128، وبعده: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا، الأنعام: 130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وأما الموضوع الثاني الذي ذكر فيه: وأهلها مصلحون فللبناء على ما تقدم: وهو قوله تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم ألو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) هود: 116. فدل أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم أولو بقية عن الفساد في الأرض فإن نقيض الفساد الصلاح، فقال: لم يكن الله ليهلكهم وهم مصلحون، فاقتضى ما تقدم في كل آية ما اتبعت من الغافلين والمصلحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 58 الآية السادسة عشرة منها: قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون) ألأنعام: 135. وقال في سورة هود 93 في قصة شعيب (يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون) . وقال في سورة الزمر 39: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون) للسائل أن يسأل عن الآية التي في سورة هود: لم جاءت بحذف الفاء من سوف وجاءت الآيتان الأخريان بإثباتها فقال: (فسوف تعملون) ، وهل يصلح ما فيه الفاء مكان ما لا فاء فيه؟ والجواب أن يقال: أمر الله نبيه في سورة الأنعام بأن يخاطب الكفار على سبيل الوعيد: اعملوا على طريقتكم وجهتكم، أو على تمكنكم فسوف تعملون، أي: اعملوا فستجزون وتعملون وإساءتكم إلى أنفسكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 فالعمل سبب للجزاء الذي عبر عنه بقوله: (فسوف تعلمون) فالفاء متعلقة بقوله: (اعملوا) ، والتقدير: اعملوا فسوف تعلمون، إني عامل فسوف أعلم، فحذف للعلم به. وكذلك ما في سورة الزمر خطاب من الله تعالى لنبيه على هذا الوجه. وأما في سورة هود فإنه حكاية عن شعيب عليه السلام لما تجاهل قومه عليه فقالوا له: (.. ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) هود: 91 فقال لهم: (.. اعملوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 مكانتكم إني عامل سوف تعلمون) وتعرفون عملي، وإن قلتم إنا لا نفقه أكثر ما تقوله، فجعل (سوف تعلمون) مكان الوصف لقوله: (عامل) فلم يصح على هذا المعنى دخول الفاء، وقصد هذا المعنى لما أظهروا من جهلهم به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 وأنهم لا يعرفون كثيرا مما يقول لهم فقال لهم: (إني عامل سوف تعلمون) عملي وتعرفونه بعدما أنكرتموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 59 الآية السابعة عشرة منها قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم..) الأنعام: 148. وقال في سورة النحل 35: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم) النحل: 35. للسائل أن يسأل هنا عن مسألتين: إحداهما: أنه ذكر في الثانية: (من دونه من شيء) ولم يذكره في الأولى. وهل كان يجوز لو وصلت إحداهما بما وصلت به الأخرى؟ . والثانية: تأكيد الضمير في سورة النحل، ثم العطف عليه، وفي سورة الأنعام لم يؤكد، وعطف عليه: (ولا آباؤنا) والفصل الذي يقول مقام التأكيد في المكانين حاصل. والجواب أن يقال: إن قوله: (ما أشركنا) مستغن عن ذكر المفعول به، وإن كان في الأصل متعديا إليه، كقوله ("ألا تشركوا به شيئا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 الأنعام: 151 وإنما 59 الآية السابعة عشرة منها قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم..) الأنعام: 148. وقال في سورة النحل 35: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم..) الأنعام: 148. وقال في سورة النحل 35: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم..) النحل: 35. للسائل أن يسأل هنا مسألتين: إحداهما: أنه ذكر في الثانية: (من دونه من شيء) ولم يذكره في الأولى وهل كان يجوز لو وصلت إحداهما بما وصلت به الأخرى؟ والثانية: تأكيد الضمير في سورة النحل، ثم العطف عليه، وفي سورة الأنعام لم يؤكد، وعطف عليه: (ولا آباؤنا) والفصل الذي يقوم مقام التأكيد في المكانين حاصل. والجواب أن يقال: إن قوله: (ما أشركنا) مستغن عن ذكر المفعول به، وإن كان في الأصل متعديا إليه، كقوله (..ألا تشركوا به شيئا..) الأنعام 151 إنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه (عبدنا) ، لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، والعبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته، لأنها تدل على معبود، هو مثبت لا يصح نفيه، فقوله: (ما عبدنا) غير مستنكر أن يعبدوا، وإنما المستنكر أن يعبدوا غير الله شيئا، فكان تمام المعنى بذكر قوله: (من دونه من شيء) . وكذلك: (ولا حرمنا من دونه من شيء) : لا بد مع قوله: (حرمنا) من قوله: (من دونه من شيء) ولم يحتج إليه بعد قوله: (ما أشركنا) ، لأن الإشراك دال على أن صاحبه يعبد شيئا من دون الله، ولا يدل (عبدنا) على ذلك، فوفي اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 والجواب عن السؤال الثاني، وهو تأكيد علامة الإضمار في سورة النحل ب نحن وترك ذلك في سورة الأنعام مع أن بعد واو العطف لا في الموضعين: هو أن كل ما أكد معنى الفعل الذي ضمير الفاعل كالجزء منه إذا وليه، ولم تكثر الحواجز بينهما، مقام التأكيد بعلامة الإضمار مثل أنا ونحن. وقوله: (ما أشركنا ولا آباؤنا) : أشركنا منه منفي ب ما ولا بعد الواو مؤكد معنى ما الداخلة على الفعل، وكأنها مؤكدة للفعل وإذا أكدت الفعل وعلامة الإضمار جزء منه فكأنما أكدتها، ومثله قوله: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك..) هود: 112، و (من تاب) عطف على المضمر في قوله: (فاستقم) وصح، لأن قوله: (كما أمرت) بمعنى استقامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 مثل ما أمرت به، ف (كما امرت) في موضع المصدر، والمصدر هو تأكيد للفعل نفسه، فصار مثل تأكيد ما هو جزء منه، فكان هذا التأكيد للفعل يليه في هذا المكان، وفي قوله: (ما أشركنا ولا آباؤنا) . فأما قوله: (ما عبدنا من دونه من شيء) لم يكن الفصل مؤكدا لنفس الفعل، كما كان المصدر في قوله: (فاستقم) وكما كان لا بعد واو العطف فيقوله: (ولا آباؤنا) مؤكدة معنى ما التي تنفي الفعل فتصير كأنها مؤكدة ما هو كبعض الفعل، لأن الفصل هاهنا بالمفعول به، وهو من شيء وبقوله من دونه، ومعناه: ما عبدنا غير شيئا، فيكون بمعنى الاستثناء، وليس شيء من هذين مؤكداها، وجاءت: (ولا آباؤنا) وكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 لا مؤكدة إلا أنها لم تل علامة الضمير المعطوف عليها لحجزه بينهما بقوله: (من دونه من شيء) . والحواجز إذا كثرت وبعدت ما بين الكلمتين اختير إعادة العامل مع أن في المتقدم كفاية كقوله عز وجل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) الكهف: 30، وكقوله: (أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون) النمل: 67 وكقوله: (أيعدكم أنكم إذا متتم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) المؤمنون: 35 فلما بعد الخبر وهو مخرجون من أنكم الأولى أعيدت. وإذا كان الإختيار ما ذكرنا فيما طال الفصل فيه، وكان الفصل في قوله تعالى: (ما عبدنا من دونه من شيء) قد طال بجارين ومجرورين بين علامة الضمير في (عبدنا) وبين لا المؤكدة ل ما التي تنفي الفعل الذي علامة الضمير في تضاعيفه، كجزء من أجزائه وكحرف من حروفه، احتاج الضمير في العطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 عليه إلى ما يؤكده، فلذلك أدخل نحن هاهنا، ولم تدخل في قوله: (ما أشركنا ولا آباؤنا) فافهمه، فإنه من دقيق النحو، وفقنا الله وإياكم لمعرفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 60 الآية الثامنة عشرة منها قوله تعالى: (قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم..) الأنعام: 151. وقال في سورة بني إسرائيل 31: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نرزقهم وإياكم..) . للسائل أن يسأل فيقول: قوله عز وجل: (نحن نرزقكم وإياهم) هو ما عليه الإختيار في كلام العرب من تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب بناء على قولك: أعطيتكه. والآية في سورة بني اسرائيل قدم فيها الضمير الغائب على المخاطب، فكأنها بنيت على قولك: أعطكيتهك، وهذا ليس بمختار، فما الذي أوجب اختصاص الأول بتقديم ضمير المخاطب، وأوجب اختصاص الثاني بتقدم ضمير الغائب؟ والجواب أن يقال أولا: ليس الضميران إذا اتصلا بالفعل كالضميرين إذا انفصل أحدهما وعطف على الآخر، لأن قوله: أكرمته وإياك، مثل قوله: أكرمتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وإياه في أن كل واحد منهما مختار في مكانه الذي يوجب تقديم ما قدم وتأخير ما أخر بخلاف ما يختار إذا اتصل بالفعل في مثل: أعطيتكه. فأما قوله في سورة الأنعام: (نحن نرزقكم وإياهم) فلأن قبله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) أي: من أجل إملاق وانقطاع مال وزاد، وهذا نهي عن قتلهم مع فقرهم وخوفهم على أنفسهم إذا لزمتهم مؤونة غيرهم، فكأنه قال: الذي يدعوكم إليه من حالكم في أنفسكم ثم في غيركم لا يجب أن تشفقوا منه فإني أرزقكم وإياهم. وأما الآية الثانية فإنه قال فيها: (خشية إملاق) والإملاق غير واقع، فكأنه قال: خوف الفقر على الأولاد، وكان عقب هذا إزالة الخوف عنهم، ثم عن القاتلين، أي: لا تقتلوهم لما تخشون عليهم من الفقر، فالله يرزقهم وإياكم، فقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 في كل موضع من الموضعين ما اقتضى تقديمه، وأخر ما اقتضى الموضع تأخيره والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 61 الآية التاسعة عشرة منها قوله تعالى في الوصية الأولى من هذه السورة: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) الأنعام: 151. وفي الثانية: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) الأنعام: 152. وفي الثالثة: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام: 153. للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي اقتضى في الأولى (تعقلون) وفي الثانية (تذكرون) وفي الثالثة (تتقون) ؟ وهل صلحت الثانية مكان الأولى في اختيار الكلام؟ والجواب أن يقال: قدم الله تعالى الوصية بالأشرف الأعظم وهو الإيمان بدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 الشرك، وفيه أداء حق أكبر المنعمين ثم الإحسان إلى الوالدين ونعمتهما على الولد أكبر النعم بعد نعمة الله تعالى، فحقها يتلو حقه، ثم الإحسان إلى الأولاد بترتيبهم، وترك ما كانت عليه العرب في جاهليتها من أود البنات للفقر والإملاق، ثم أن لا يقربوا ما لعله يكون سبب ولد لا يصح نسبه وهذا في النهي عن سبب الإحداث كالأول في النهي عن سبب الإهلاك، ثم أن يحقنوا الدماء ولا يسفكوها إلا بحقها، وهو أن يقتلوها للقصاص، والزنى بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 الإحصان، والكفر بعد الإيمان. فهذه خمسة تتعلق بأكبر الحقوق وأوكد الأصول، فالشرك اعتقاد مذهب باطل بهوى، وترك الإحسان إلى الوالدين يكون إما لمحبة مال لا يسمح به لهما، أو إتباع هوى يدعو إلى مخالفتهما، ووأود البنات لخوف الفقر والعار، والزنى وما يقبح جدا من المعاصي التي تحمل عليها الشهوة، وقتل النفس بغير حق يدعو إليه شفاء غيظ النفس الأمارة بالسوء وكل ذلك قبيح في العقول يحتاج في ذب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 النفس عنها إلى زاجر من عقل يدفع الهوى، فلذلك قال: (لعلكم تعقلون) أي تستعملون العقل الذي يحبس نفوسكم عن قبيح الإرادات وفواحش الشهوات. وبعد هذه الخمسة خمسة أخرى هي متعلقة بالحقول في الأموال دون النفوس، فأولها حفظ مال اليتيم عليه، لأنه لا يقوى على حفظه، والأطماع تمتد إلى ماله، وذو الولد يفكر في حاله وما يكرهه لولده فلا يستجيزه لولد غيره، وبعده العدل في الكيل، وإيفاء الكيل والوزن بالقسط، وهو الذي توعد الله تعالى عليه في قوله: (ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) المطففين: 1-3 ومعنى قوله (لا نكلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 نفسا إلا وسعها الأنعام: 152 أي: إذا اجتهدت في التحري وتوخي القسط، فقد أسقط عنها ما يتعذر تجنبه من أقل القليل فيما يكال ويوزن، والرابع القول بالعدل، وهو في الحكم والشهادة، والخامس الوفاء بعهد الله، وهو أن يحلف بالله في غير معصية. وكل هذه قد دعي فيها الإنسان إلى تذكر حاله ورضاه ف نفسه لو كان هو المعامل بما يعامل هو به غيره، أي: لو كان ولده اليتيم، أو كان الذي يكال له ويوزن، أو كان الذي يحكم به عليه، أو تقام الشهادة بما لا يلزمه، أو يحلف بالله على إذهاب حق له، أو يحلف له بما يلزمه الوفاء به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 فلا يرضين من ذلك لغيره إلا ما يرضاه لنفسه، فذكرهم حالا مرت لهم، أو يخافون مرورها عليهم؟ فلذلك قال: (لعلكم تذكرون) . وأما الآية الأخيرة وهي: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام: 152 فمعناه: الشرع الذي شرعته لكم هو طريق أشرعته إلى نعيمكم الدائم فاسلكوه، ولا تتبعوا الديانات المخالفة له فتبعدكم عن سبيله المؤدي إلى نعيمه، لعلكم تتجنبون بلزومه معصيته، وتتقون بطاعته عقوبته، فأتبع كل صنف من الوصية ما اقتضاه معناها وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 سورة الأعراف 62 الآية الأولى منها قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) الأعراف: 12-13. وقال في سورة الحجر 32-34: (قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين* قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون* قال فاخرج منها فإنك رجيم) . وقال في سورة ص75: (.. يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي..) الآية، قال: (أنا خير منه..) الآية سورة ص: 76. للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان هذا في قصة واحدة، ووقع في كلام الله تعالى حكاية عما قال إبليس، وعما قيل له عندما يظهر من عصيانه، فلماذا اختلفت الحكايتان والمحكي شيء واحد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 والجواب ما قلته فيما قبله، وأقوله فيما بعده من أن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها، وإنما المقصود ذكر المعني، فإن الألفاظ إذا اختلفت وأدت المعنى المقصود كان اختلافها واتفاقها سواء. فقوله عز وجل هامنا: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) وقوله في سورة الحجر 32: (إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين) وقوله في سورة ص 75: (.. يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين) أقوال ثلاثة، في بعض ألفاظها اختلاف وفي المعنى اتفاق، وهي: (ما منعك أن تسجد) و (ما منعك ألا تسجد) و (ما لك ألا تكون مع الساجدين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فأما قوله: (لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين) سورة ص: 75 فيه زيادة إخبار عن حال لم تكن في الآيتين المتقدمتين، ولم يقل عندهما إنه لم يكن هناك خطاب إلا ما حكيناه فيهما، فتكون الزيادة معدودة في الاختلاف. وأما قوله، وهو حكاية ما كان من جواب إبليس في سورة الأعراف 12 وفي سورة ص 76: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وفي سورة الحجر 36: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) . فغنه يحصل للسامع في الآيات الأربع معنى واحد، وهو ذكر ما حمله على ترك السجود لآدم عليه السلام، لما كان مخلوقا من النار، وآدم مخلوقا من الطي، ورأى أصله أشرف من أصله، وإن كان في إحداهما ذكر بعض ما دعاه إلى ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 فعل، وفي الآخر ينكر كله من مقابلة أصله بأصله، وتوهمه أنه أشرف، إن سجود الأشرف لما دونه لا يجوز. وكذلك ما حكاه الله تعالى من قوله له في سورة الأعراف 13 (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) لا يخالف قوله في سورة الحجر 34-35: (قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ولا يخالف أيضا قوله في سورة ص 77-78: (قال فاخرج منها فإنك رجيم *وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) لأنه إذا أمره بالخروج من الجنة أو من السماء فقد أمره بالهبوط إلى الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وقوله: (وإن عليك اللعنة) الحجر: 35 و (لعنتي) واحد، لأن اللعنة في الحقيقة إبعاد الله من يعصيه عن الخير، ثم لعن الملائكة والناس من التبع للعنة، نعوذ بالله منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 63 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قالانظرني إلى يوم يبعثون* قالإنك من المنظرين) الأعراف: 14-15. وقال في سورة الحجر 36-38 وسورة ص 79-81: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم) . للسائل أن يسأل عن إدخال الفاء في قوله: (رب فأنظرني) في سورتي الحجر وص، وحذفها منه في سورة الأعراف؟ والجواب أن يقال: إن قوله: (أنظرني) في سورة الأعراف وقد مستأنفا، غير مقصود به عطف على ما يقع به هذا السؤال عقيبه فلم يحتج إلى الفاء. والجواب أيضا: لما لم يكن إجابة له إلى ما طلب لم يكن أيضا معطوفا عليه بالفاء، وإنما سأل تأخير اجله، فقال: (إنك) ف حكمي ممن أخر أجله، لا لأجل مسألتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 وأما في الآيتين في سورتي الحجر وص فإنه قال عز من قائل: (قال رب فأنظرني) وجاء بعد إخبار الله بلعنه له، فكأنه قال: يا رب إن لعنتي وآيستني من الجنة فأخر أجلي إلى يوم يبعثون، ويوم يبعثون هو يوم القيامة، لا يوم الإماتة، فلم تقع الإجابة إلى ما طلب، لأنه قال: (فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم) أي: إلى الوقت الذي هو آخر أوقات الأحياء فاقتضى إضمار إن لعنتي يا رب أن يأتي بالفاء فيقول: فأنظرني ويأتي في جوابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 بها وهو قوله: (فإنك من المنظرين) ، لأن التقدير: إن طلبت تأخير الأجل وتنفيس المهل من أجل أن لعنت فإنك مؤخر الموت لما حكمت به لك، لا لإجابتك إلى مسألتك، فهو معطوف على السؤال عطف الكلام على الكلام الذي يقتضيه، لا عطف الإيجاب على السؤال، لأن الله تعالى لم يجب عاصيا مثله إلى ما يسأل. فدخول الفاء في الموضعين لتقدم ذكر العن وأن المعنى: وأن المعنى: إن آيستني من رحمتك فأخر أجلي لأنال من عدوي الذي كان سبب ذلك ما أقدر عليه من الإغواء له، ولكم يكون من نسله، واستشفى بذلك لجهله، نعوذ بالله من طاعة الهوى المؤدي إلى سبيل الردى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 64 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) الأعراف: 16-17. وقال في سورة الحجر 39-40: (قال رب بما أغويتني لأزينهن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين) . وقال في سورة ص 82-83: (قال فبعزتي لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين) للسائل أن يسأل في هذه الآي عن شيئين: أحدهما: اختلاف المحكيات، ففي موضع (فبما أغويتني) وفي موضع (رب بما أغويتني) وفي الآخر (فبعزتك) ؟ والثاني: حذف الفاء في سورة الحجر من قوله: (رب بما أغويتني) وإثباتها في الآيتين الأخريين؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 والجواب عن اختلاف الألفاظ المحكية ان يقال متى حملت الباء على القسم في قوله: (فبما أغويتني) و (رب بما أغويتني) في الآيتين بشهادة الآية الثالثة، وهي: (فبعزتك) لم يكن هناك اختلاف في المعنى، لأن المراد في قوله: (بما أغويتني) : بإغوائك إياي، وهو يحتمل وجوها من المعاني. أحدهما: أن يكون المراد: بتخييبك إياي لأجتهدن في تخييبهن في تخييبهم، وهذا ظاهر الكلام، لأن القسم متلقى بالام، ولأن قوله: (فبعزتك) في مقابلتهما من الآية الأخرى وتخييب الله إياه هو بعزته، ومنه قول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي: من يخب لم ينل خيرا يشهد لذلك صدر البيت، وهو: فمن يلق خيرا يحمده الناس أمره. والثاني أن يكون المراد بإهلاكك إياي بأن لعنتي، وهذا الفعل أيضا عزة من الله تعالى. وكذلك إن حمل على معنى الحكم بغوايته فهو عزة من الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وإذا كان كذلك تساوت في المعنى، وكل قسم، والإغواء الذي هو التخييب أو الإهلاك أو الحكم بالغواية، كل ذلك عزة من الله تعالى، فالقسم به كالقسم بعزته. والجواب عن السؤال الثاني، وهو حذف الفاء من قوله: (رب بما أغويتني) ولأن الدعاء في الصدر يستأنف بعده الكلام، والقصة غير مقتضاة لما قبلها كما إقتضاه قوله: (رب فأنظرني) والفاء توجب ما بعدها بما قبلها. والنداء أولا يوجب القطع واستئناف الكلام لا سيما في قصة لا يقتضيها ما قبلها، فلم تحسن الفاء مع قوله: (رب بما أغويتني) ، والموضعان الآخران لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 يدخل الكلام فيهما نداء يوجب استئناف ما بعده، فلذلك وصل القسم فيهما بالأول بدخول الفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 65 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (..فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين* الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون) الأعراف: 44-45. وقال في سورة هود: 18-19: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين *الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون) . للسائل أن يسأل عن إعادة هم في قوله: (وهم بالآخرة هم كافرون) في سورة هود، وترك ذلك في سورة الأعراف؟ . والجواب أن يقال: إن الذي في سورة الأعراف جاء على أصله غير مزيد فيه ما يجري مجرى التوكيد، والذي في سورة هود جاء بعد قوله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذي كذبوا على ربهم) فأشير إليهم، ثم قال: (ألا لعنة الله على الظالمين) فأظهر ذكر الظالمين في موضع الإضمار، ولو أجرى على الحكم في إضمار الاسم عقيب الذكر لكان: ألا لعنة الله عليهم لأن المراد ب الظالمين هم المشار إليهم بقوله: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 فلما أظهر مكان الإضمار تضمن معنى هم، أي: الظالمون هم الذين كذبوا على ربهم، وأشير بالكلام المتقدم إليهم، فلما استمر الكلام على الإضمار بعد ذكر الظالمين صار الظاهر كأنهم غير المشار إليهم بقوله: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) فأعيد هم في قوله: (هم كافرون) لتحقق الكفر عليهم بنسبة الأوصاف المتقدمة إليهم، وأولها كذبهم على ربهم، ثم ظلمهم لأنفسهم، وصدهم عن سبيل الله، وأولها كذبهم على ربهم، ثم ظلمهم لأنفسهم، وصدهم عن سبيل الله، ووصفهم لها بدل الاستقامة بالاعوجاج، وكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ووصفهم لها بدل الاستقامة بالإعوجاج، وكفرهم في هذه الأفعال بالله واستحقاقهم به، عقوبة الله في الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 فلما لم يصرف الخبر الثاني في سورة الأعراف مصرف ما ليس هو بالأول لم يحتج إلى توكيده. ولما عدل في سورة هود عن إعادة الضمير إلى الأول، ووضع مكانه ظاهر يحتمل أن يكون غير الأول، وعنى هم أنهم هم، كان الموضع موضع توكيد لتحقيق الخبر عنهم بالكفر، وتثبيته عليهم بأوكد لفظ، لأنا لما قلنا: هم هم، فهو المعاد المعاد في قوله: (وهم بالآخرة هم كافرون) ، إلا أنا نبين بذلك المكان مكان توكيد لنفرق بينه وبين الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 66 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء ... ) الأعراف: 57. وقال في سورة الفرقان: 48: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وانزلنا من السماء ماء طهورا) . وقال في سورة الروم 48: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ... ) . وقال في سورة الملائكة 9: (والله أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) . للسائل أن يسأل فيقول: هذه الآي الأربع قد خصت آيتان منها بقوله (يرسل) على لفظ المستقبل، وآيتان بقوله (أرسل) على لفظ الماضي، فهل في كل مكان ما قتضي اللفظ الذي خصه، أم كل جائز لو جاء عليه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 والجواب أن يقال: بل لكل ما يوجب في الإختيار اللفظ الذي جاء عليه، وإن كان وصف الله عز وجل بأنه أرسل الرياح فبسط بها السحاب فساقه فأنزل منه الأمطار فأحيا بها البلاد، كوصفه بأنه يفعل ذلك في المستقبل، لأنه قادر كما كان، وقد عودنا فعل ذلك وأعلمناه مشاهدة. إلا أن الآية التي في سورة الأعراف جاء فيها (يرسل) بلفظ المستقبل، لأن قبلها: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين* ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 الأعراف: 55-56 فكان في ذلك بعث على الدعاء والتضرع، وتعليق الخوف والطمع بما يكون منه من الرحمة وصنوف ما رزق الله الخلق من النعم فكان لفظ المستقبل أشبه بموضع الخوف والطمع للداعين، وأدعى لهم إلى الدعاء. وأما في سورة الفرقان، ومجيء هذا اللفظ فيها بلفظ الماضي فلأن قبل الآية: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا* وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا* وهو الذي أرسل الرياح) الفرقان: 45-48 فلما عدد أنواع ما أنعم به، وكان إرسال الرياح من جملة عده مع ما تقمه، وأخبر منه عما فعله وأوجده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وأما في سورة الروم فغن قبل الآية: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجزي الفلك بأمره ... ) الروم: 46، فبنى قوله: (الله الذي يرسل الرياح..) على البناء الذي جعل عليه ما هو من آياته، فحث على الاعتبار بما يعتاد من فعله تبارك الله سبحانه وتعالى. وأما في سورة الملائكة، واختيار لفظ الماضي فيها على المستقبل فلأن أولها: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا ... ) فاطر: 1 بمعنى فطر وجعل، وخاتمة هذه العشر من مبتدأ السورة: (والله الذي أرسل الرياح ... ) فاطر: 9 فلما اقترح العشر من أول السورة بالتمدح بما صنع أتبعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ما كان من جنسه مما فعل، فكان اختيار لفظ الماضي هاهنا، فافهمه فإنه يفتح عليك ما يشبهه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 67 الآية السادسة منها قوله تعالى: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) الأعراف: 59. وقال في سورة هود 25: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) . وفي سورة المؤمنين23: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) . للسائل ان يسأل عن حذف الواو من (لقد أرسلنا) في سورة الأعراف، والإتيان بها في سورتي هود والمؤمنين؟ والجواب أن يقال إن الآيات التي تقدمت قوله تعالى: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه..) في سورة الأعراف إلى أن اتصلت به في وصف ما اختص الله عز وجل به من أحداث خلقه وبدائع فعله من حيث قال: (إن ربكم الله الذي خلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 السموات والأرض في ستة أيام..) الأعراف: 54 إلى ذكر الشمس والقمر، والرياح والأمطار والنبات، والسهل من الأرض والطيب، والحزن منها والصلد، ولم يكن فيها ذكر بعثة نبي ومخالفة من كان له من عدو، فصار كالأجنبي من الأول فلم يعطف عليه، واستؤنف ابتداء كلام ليدل على أنه في حكم المنقطع من الأول. وليس كذلك الآية التي في سورة هود، لأن أولها افتتح إلى أن انتهى إلى قصة نوح بما هو احتاج على الكفار بآيات الله التي أظهرها على أيدي أنبيائه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 وألسنتهم صلوات الله عليهم، وتوعد لهم على كفرهم، وذكر قصة من قصص من تقدمهم من الأنبياء الذين جحد بآياتهم أممهم، فعطفت هذه الآية على ما قبلها إذ كانت مثلها ألا ترى أن أول السورة) ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير* ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) هود: 1-2 وبعد العشر منها: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز..) إلى قوله: (.. قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات..) هود 12-13، ثم وصف حال من آمن بالله ورسله، وأخبت إلى ربه، وحال من افترى على ربه، وحصل على خسران نفسه وشبههما بحال من انطوى على ذكره في قوله: (مثل الفريقين كالأعمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا ... ) هود 24 فاقتضى تشابه القصتين عطف الثانية على الأولى. وأما في سورة المؤمنين فإن قبل هذه الآية منها: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون: 12 ثم قوله: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين المؤمنون: 17 ثم انقطعت الآي إلى قوله: (وعليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وعلى الفلك تحملون المؤمنون: 22، فكان ما تقدم في هذا المكان مثل ما تقدم الآية في سورة الأعراف إلا أنه باينة بأن كان فيه: (ولقد خلقنا الإنسان) وقوله (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) ثم انقطعت إلى قوله: (وعليهما وعلى الفلك تحملون والفلك التي يحمل عليها مما اتخذه نوح عليه السلام، فدخلت واو العطف في قصة نوح عليه السلام للفظين المتقدمين، وهما: (ولقد) في رؤوس الآيتين، وللمعنى المقتضى من ذكر الفلك الذي نجى الله عليه من جعله أصل الخلق وبذر هذا النسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 68 الآية السابعة منها قوله تعالى متصلا بقوله: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأعراف: 59. وقال في سورة هود 25-26: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين *فقال ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) . وقال في سورة المؤمنين23: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) . للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكيات كقوله بعد: (مالكم من إله غيره) : (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) وقال في سورة هود: (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) وفي المؤمنين: (ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) والقصة قصة واحدة؟ والجواب أن يقال: إن للأنبياء صلوات الله عليهم مقامات مع أممهم يكرر فيها الإعذار والإنذار، ويرجع فيها عودا على بدء، الوعد والوعيد، ولا يكون دعاؤهم إلى الإيمان بالله، ورفض عبادة ما سوى الله تعالى في موقف واحد بلفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 واحد لا يتغير عن حاله، مثل الواعظ يفتن في مقاله، والجاحد المنكر تختلف أجوبته في مواقفه، جاءت المحكيات على اختلافها لم يطالب، وقد اختلفت في الأصل باتفاقها، لأنه قال لهم مرة باللفظ الذي حكى، ومرة أخرى بلفظ آخر في معناه كما ذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وكذلك الجواب يرد من اقوام يكثر عددهم ويختلف كلامهم ومفصدهم، وصدق الخبر يتناول الشيء على ما كان عليه، فلا وجه إذا للاعتراض على هذا ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 69 الآية الثامنة منها: متصلة بهذه الآية قوله تعالى: قال من قومه إنا لنراك في ضلال مبين*قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، الأعراف: 60-61. وقال في سورة هود: فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا. وقال في سورة المؤمنين: فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم، الآية. للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى خلت قال في سورة الأعراف من الفاء وقد جاء مثلها في السورتين بالفاء وهو فقال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 والجواب أن يقال: إن الموضعين اللذين دخلتهما الفاء ما بعدهما مما اقتضاه كلام النبي مما رآه الكفار جوابا له، فكان بناء الجواب على الابتداء يوجب دخول الفاء. وليس كذلك الآية في سورة الأعراف، لأنهم في جوابهم صاروا كالمبتدئين له بالخطاب، غير سالكين طريق الجواب، لأنهم قالوا: إنا لنراك في ضلال مبين، قال يا قوم ليس بي ضلالة، الأعراف: 60-61 فكان كلامهم له كالكلام الذ يبتدئ به الإنسان صاحبه، فلذلك جاء بغير فاء مخالفا طريقة ما الكلام بعده مبني بناء الجواب. ومما أخرج من الأجوبة مخرج الابتداء بالكلام وإن كان في ضمنه الجواب قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 امرأته كانت من الغابرين) العنكبوت: 31-32. فلم يأت بالفاء في اللفظتين اللذين كان ما بعد كل واحد منهما كالجواب لما قبله. ومما يؤكد صحة هذا القول قوله تعالى فيما كان من جواب عاد لهوج: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) . الأعراف 65-66، ولم يقل: فقال الكلأ لأن ما بعد قال هنا مسلوك به طريق الابتداء بالخطاب، إذ رمي بالسفاهة كما رمي نوح -عليه السلام- بالضلالة، فلم تدخل على واحد منهما الفاء التي تجعل الثاني متعلقا بالأول تعلق الجواب بالابتداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 70 الآية التاسعة منها: قوله تعالى: (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون) الأعراف: 62. وقال في قصة هود: (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ضريح ناصح أمين) الأعراف: 68. للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: (وأنصح لكم) وبين قوله (وأنا لكم ناصح أمين) وما الذي اقتضى الاسم في الآخر والفعل في الأول، وهل كان يصح أحدهما مكان صاحبه؟ والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أن يقال: إن المعنى كلام نوح عليه السلام ما نطق به القرآن، ومعنى كلام هود عليه السلام ما ذكره الله تعالى حاكيا عنه، وليس لقائل أن يقول: إذ كان القولان صحيحين في موضعهما فهلا قال أحدهما قول آخر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 والوجه الثاني أن يقال: إن قول نوح عليه السلام جواب من ضلل، لأنه قيل له: (إنا لنراك في ضلال مبين) ، الأعراف: 60 وهود عليه السلام قيل له: (إنا لنراك في سفاهة) . الأعراف: 66. والضلال من صفات الفعل، تقول ضل فهو ضال، والسفاهة من صفات النفس وهي ضد الحلم، وهو معنى ثابت يولد الخفة، والعجلة المذمومتين، والحلم معنى ثابت يولد الأناة المحمودة، فكان جواب من عيب بفعل مذموم نفيه بفعل محمود، لا بل بأفعال تنفي ما ادعوه عليه، وهي أن قال لست ضالا ولكني رسول من رب العالمين أؤدي إليكم ما تحملت من أوامره، وأدعوكم بإخلاص إلى إصلاح أمركم، وأعلم من سوء عاقبة ما أنتم عليه ما لا تعلمون فنفى الضلال بهذه الأفعال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وهود عليه السلام لما رمي بالسفاهة وهي من الخصال المذمومة الثابتة، وليست من الأفعال التي ينتقل الإنسان عنها إلى أضدادها في الزمن القصير مرارا كثيرة، فكان نفيها بصفات ثابتة تبطلها أولى، كما كان نفي الفعل المذموم بالفعل المحمود أولى. فقوله: (وأنا لكم ناصح أمين) أي أنا ثابت لكم على النصح ثقة في النفس، لا أنتقل من النصح إلى الغش، ولا أتبدل خيانة بالأمانة وكان جواب كل من الكلامين ما لاق به واقتضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 71 الآية العاشرة منها قوله تعالى: (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذي كذبوا بآتنا إنهم كانواقوما عمين) الاعراف: 64 وقال في سورة يونس 73: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فنظر كيف كان عاقبة المنذرين) . للسائل أن يسأل فيقول: لم اختصت الآية الأولى بقوله (فأنجيناه والذين معه) والثانية بقوله: (فنجيناه ومن معه) وزاد فيها (وجعلناهم خلائف) ؟ والجواب أن يقال: السورتان مكيتان جميعا، إلا الآية في سورة الأعراف، وقوله: أنجينا أصل في هذا الباب، لأن أفعلت في باب النقل أصل ل فعلت وهو أكثر، تقول: نجا، وأنجيته كما تقول: ذهب وأذهبته، ودخل وأدخلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 فأما فلته فمن القلة، بحيث يمكن عده، نحو فزع وفزعته وخاف وخوفته وقد يجاء معه الهمزة فيقال: أفزعته وأخفته، ولا يجاء مع تشديد العين الهمزة ولا تقول: ذهبته، ودخلته في أذهبته، وأدخلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 فالآية الأولى جاءت على الأصل الأكثر، ولهذا أكثر ما جاء في القرآن جاء على أنجيناه كقوله تعالى: (فأنجيناه والذين معه برحمة منا..) الاعراف: 72 وكقوله: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين) الشعراء: 65، وكقوله: (فأنجاه الله من النار) العنكبوت: 24. وليست الجيم المزيدة المشددة في (نجيناه) للكثرة، وإنما هي المعاقبة للهمزة بدلالة قوله تعالى في ذي النون: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم) الأنبياء88 ولا كثرة هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 وأما قوله: (والذين معه في الفلك) فهو الأصل، ومن تجيء بمعناها، وتكونان مشتركتين في معان والذين خالصة للخبر، مخصوصة بالصلة، فاستعمل الأصل في اللفظين، وهما: أنجينا والذين. ولما كرر هذا الذكر كان العدول إلى اللفظين الآخرين اللذين هما معناهما، وهما: نجينا ومن أشبه بطريقة الفصحاء وعادة البلغاء. وأما قوله: (وجعلناهم خلائف) في الآية الثانية فإنه زيادة في الخبر عن أحوال الذين نجوا من الغرق فصاروا خلفاء للهالكين. وقيل: كانوا ثمانين نفسا، وهلك سائر أهل الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 فإن قال قائل: كان الإراق قبل أن جعلوا خلائف، فكيف قدم عليه؟ قلنا: جوز أن يكون معنى (وجعلناهم خلائف) وإنما قدم لأنه من صفة الذين أجاهم، فلما أخبر عنهم بذلك ضم إليه الخبر الثاني، ويجوز أن يكون معنى (وجعلناهم خلائف) أي حكمنا لهم بذلك، ثم كان الإغراق بعده على أن الواو لا ترتيب فيها، ولا يمتنع أن يكون المذكور بعدها مقدما على ما قبلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 72 الآية الحادية عشرة منها قوله تعالى في قصة نوح ( ... قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ف>روها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) الأعراف: 72. وقال في سورة هود 64: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) . وقال في سورة الشعراء 155-156: (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم* ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) . للسائل أن يسأل عن اختلاف الخبر الواحد في الأماكن الثلاثة، وهو حكاية ما قاله صالح عليه السلام لقومه لما حذرهم التعرض للناقة؟ والجواب أن يقال: إن هؤلاء سألوا أن يخرج لهم من هضبة ملساء ناقة، فسأل الله تعالى صالح عليه السلام، وفي خبر آخر: أنه بدأهم بهذه الآية، لا عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 مسألة كانت منهم، فانفرجت عن ناقة بعدما تمخضت تمخض المرأة، والناقة عشراء، فنتجت بعد ذلك فصلا، فكانت ترد ماء لهم بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 جبلين يوما فتشربه كله وتسقيم اللبن بدله، وللقوم شرب يوم يخصهم، فثقل عليهم السلام التعرض لها إلى أن عقرها أحمر ثمود، فصار سبب هلاكهم. فالآية الألة من سورة الأعراف عامة في جمل ما كان من وعظه لهم، لأنه قال: (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي آية تشهد بصحتها نفوسكم أنها من قدرة الله تعالى المختصة بفعله، لا بفعل غيره، ثم قال: (هذه ناقة الله لكم آية) هود: 64 أي: هذه ناقة ليست ملك أحمد منكم، وإنما هي لله استخرجها من الصخرة أو الهضبة أمارة لصدق نبيه لتؤمنوا عندها، فاتركوها ترع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 في الصحارى التي هي أرض الله من الكلأ الذي هو من نعمة الله تعالى، ولا تتعرضوا لها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ينال منكم ويؤلمكم. وهذه المعاني المجملة في الآية الأولى زيدت بيانا في الآيتين، فالآية الأولى تحذير للقوم على طريق العموم. وأما قوله تعالى في الثانية: (فيأخذكم عذاب قريب) هود 64 بعد ما قال في الآية الأولى: (أليم) فإنه اختص هذا المكان ب (قريب) لما بعده من قوله: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام..) هود: 65 قدر المدة التي بينهم وبين هلاكهم، وقرب ما توعدهم به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 من عذاب الله لهم، والقريب لا ينافي الأليم بل هو أشد ألما، إذ لم يكن بعد مهل فاختصاص الآية الثانية ب (قريب) دون (أليم) لما ذكرنا من قرب الميعاد المقرون ذكره إلى ذكره. وأما الآية الثالثة واختصاصها بقوله: (فيأخذكم عذاب يوم عظيم) الشعراء: 165 فلأن قبلها ذكر اليومين المقسومين بين الناقة وبينهم، كأنه قال لهم: إن منعتموها يومها بعقر ولا تتركونه لها أخذكم عذاب يوم عظيم. فيوم تؤلمونها فيه فيكون به يوم يؤلمكم الله فيه بعذاب الاستئصال، وهو يوم عظيم عليكم، وكل ذلك بمعنى واحد، وهو أنهم إن عقروها عوقبوا، بالألفاظ المختلفة دائرة على هذا المعنى، واختلافها لاختلاف مواضعها المقتضية تغيير الألفاظ فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 73 الآية الثانية عشرة منها قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: (فأخذتكم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) الأعراف: 78. وقال فيهم في سورة هود 65: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام..) . وقال فيهم في هذه السورة بعد هذه الآية: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين) هود: 67. وقال في قصة شعيب عليه السلام وقومه في سورة الأعراف 91: (فأخذتكم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) . وقال في هذه القصة في سورة هود 94 (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: (فأصبحوا في دارهم) وتوحيد الدار في موضع، وجمعها في موضع، وهل هناك فرقان بين موضع الواحد وموضع الجمع؟ والجواب أن يقال: إذا كان الجمع والتوحيد جائزين كان وجه التوحيد على طريقين: أحدهما: أن يراد بدارهم بلدهم، فيوحد ذهابا إلى معنى البلد، وهو موحد. أو يذهب به مذهب الجنس كما تقول: دينارهم شر من درهمهم، كما قال: دينار آل سليمان ودرهمهم كالبابليين حفا بالعفاريت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 بقي الكلام في اختصاص موضع بالتوحيد، وموضع بالجمع، وأن يقال: هل ذلك لفائدة تخصصه به؟ فنقول: إنه تعالى وحد ذلك في كل مكان ذكر في ابتدائه: (وإلى ثمود أخاهم صالحا) الأعراف: 73، هود: 61 (وإلى مدين أخاهم شعيبا) الأعراف:: 85، هود: 84، العنكبوت: 37 ولم يذكر إخراج النبي ومن آمن معه من بينهم، فجعلهم بني أب واحد، وجعلهم لذلك أهل دار واحدة، ورجاء أيضا أن يصيروا بالإيمان فرقة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وكل موضع موضع أخبر عن تفرقه بينهم، وإخراج النبي ومن آمن منهم معه، أخبر عنهم الإخبار الدال على تفرق شملهم، وتشتت أمرهم، وذهاب المعنى الذي كان يجمعهم لأب واحد ودار واحدة، وأن يصيروا مع المؤمنين فرقة واحدة فقال: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ... * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود: 66-67. فإن قال قائل: فقد قال في قصة شعيب عليه السلام في سورة الأعراف 91: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) فوحد الدارأ وقد خرج شعيب عليه السلام من بين أظهرهم، ووقع الحكم بتفرق شملهم، فكان ما ذهبت إليه يقتضي أن يجمع الدار فيقال ديارهم في هذا المكان؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 والجواب أن يقال: إنه لم يتقدم في هذا الموضع ذكر إخراجه بينهم مع الذين آمنوا معه، كما ذكر في الموضعين الآخرين في قصة صالح عليه السلام في سوروة هود، وفي قصة شعيب فيها. ألا ترى قال في قصة صالح عليه السلام في سورة الأعراف وسورة هود قبل أن أخبر أنه نجاه ومن آمن معه منهم لما جاء أمره مرتين، فوحد الدار فيهما، وفي الموضع الذي ذكرت قصته مع المؤمنين منهم جمع الدار فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 وكذلك جاء في قصة شعيب عليه السلام في موضعين: أحدهما: جمع فيه، وفي الآخر وحد، والجمع حيث ذكر إخراجه منهم مع المؤمنين معه، فتدبره إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 74 الآية الثالثة عشرة منها قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) الأعراف: 79. وقال في قصة شعيب عليه السلام: (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) الأعراف: 93. للسائل أن يسأل عن إفراد الرسالة في قصة صالح عليه السلام، وجمعها في قصة شعيب عليه السلام، وما الفائدة المخصصة لكل واحد من الفظين بمكانه؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن الذي نطق به القرآن من تحذير صالح عليه السلام قومه بعد أن أمرهم باتقاء الله تعالى وطاعته، وهو أمر الناقة، والمنع من التعرض لها، فجعل الرسالة جملة لما لم يفصل تفصيل ما أتى به شعيب عليه السلام حين نهاهم عن عبادة الأوثان بدلالة قوله تعالى: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد هود: 87 ثم قال: (إن لكم رسول أمين* فاتقوا الله وأطيعون) الشعراء: 178-179 ثم قال: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين* وزنوا بالقسطاس المستقيم* ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) الشعراء: 181- 183 وقال: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله..) الأعراف: 86. قيل في التفسير: هم العشارون، عن قتادة والسدي، وقيل: كانوا يقعدون من قصد شعيبا فيوعدونه ويصدونه عن دين الله، فهذه التي أمر شعيب بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 قومه أشياء كثيرة، ليس ما أمر به صالح قومه مثها كثرة، فلهذا جمع الرسالة فقال: (رسالات ربي) وقال في قصة صالح عليه السلام: (رسالة ربي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وجواب ثان: وهو على ما يروى أن أيكة غير مدين، وأن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين، وهذا عن قتادة. وقيل: الأيكة: الغيضة الملتفة، وأصحاب الأيكة هم أهل مدين، فإذا حمل على الأول كان إلى كل واحدة من أمتيه رسالة، فجمع لاختلاف قوله، وتخصيص كل منهم برسالة من الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 فغن قال قائل: عذاب الله أهلكوا، وقد نطق القرآن بالرجفة في أمرهم، ونطق بالصيحة التي خروا لها وماتوا، ونطق بعذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم فأحرقهم الحر تحتها، وهذه أنواع من العذاب مختلفة، وفي كل واحد منها ما يغني عن الآخر في الغهلاك، فإذا أهلكوا بأحدها اكتفى به عن غيرها؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 والجواب أن يقال: في التفسير عن محمد بن كعب، قال: عذب قوم شعيب عليه السلام بثلاثة اصناف من العذاب، أصابتهم الرجفة فخرجوا من ديارهم، ثم أصابهم حر شديد، ففرقوا من أن يدخلوا البيوت خوف الزلزلة، فبعث الله عليهم الظلة، وهي سحبة أنمنشئت لهم فصاح رجل منهم: هل لكم في الظلة؟ هل لكم في الظلة؟ وفي رواية: عليكم بالظلة، فما رأيت كاليوم من ظل أطيب ولا أبرد، فلجأوا إليها هربا من الحر الذي أصابهم، فلما اجتمعوا تحتحا أمطرتهم نارا فأحرقتهم وقيل: صيح بهم صيحة واحدة فماتوا منها فعلى هذا سلطت عليهم الأنواع الثلاثة من العذاب عذاب الاستئصال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 75 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 الآية الرابعة عشرة منها قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين* إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون* وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون* فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) الأعراف: 80-83. وقال في سورة النمل 54-58: (ولوطا إذ قال قوله أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون* أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم تجهلون* فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون* فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين* وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) . وقال في سورة العنكبوت 28-30: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين* قال رب انصرني على القوم المفسدين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 للسائل أن يسأل في هذه الآي عن موضع: فالأول: قوله في سورة الأعراف81: (..شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون) وقال فيما وقع في سورة النمل55: (شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) . والثاني: قوله تعالى بعد ذلك: (وما كان جواب قومه) في سورة الاعراف 82 بالواو، وقال فيما أشبهه من سورة النمل 56: (فما كان جواب قومه) بالفاء، وهل صلح أحدهما مكان الآخر في الاختيار؟ والثالث: قوله في سورة الأعراف82: (إلا أن قالوا أخرجوهم) وقال في سورة النمل 56: (إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط) فأضمر في الأول واظهر في الثاني؟ والرابع: قوله في سورة الأعراف 83: (إلا امرأته كانت من الغابرين) وفي سورة النمل 57: (إلا امرأته قدرناه من الغابرين) . والخامس: قوله في سورة الأعراف 80: (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) وقال في سورة النمل 54: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 والسادس: اختلاف المحكيات، قال في سورة الأعراف 82 (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم) وفي النمل 56: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط) وفي العنكبوت 29 (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) . فأما المسألة الأولى، وهي مجيء (بل أنتم قوم مسرفون) في الأعراف، و (بل أنتم قوم تجهلون) في سورة النمل، فالمسرف مجهل بإسرافه، والجاهل مسرف بأفعاله، إذ الإسراف مجاوزة الحد الواجب إلى الفساد، فيجوز أن يكون لوط عليه السلام لما كانت له مع قومه مقامات قال في بعضها هذا اللفظ، وفي بعضها اللفظ الآخر، ولم يناف أحدهما الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 ثم اختصاص مسرفين بسورة الأعراف، فلأن الآيات التي قبلها فواصلها أسماء جمعت هذا الجمع، من حيث قال: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض..) الأعراف: 74 فكانت فاصلة هذه الآية: (مفسدين) وفاصلة ما بعدها: (مؤمنون) وما بعدها: (كافرون) وبعدها: (المرسلين) وبعدها: (جاثمين) وبعدها: (الناصحين) ، وبعد ذلك إذ انتهى إلى هذه الآية (العالمين) فكان الاسم أحق بالوضع في هذا المكان لتتساوى الفواصل، وفي سورة النمل تقدم الآية التي فاصلتها: (بل أنتم قوم تجهلون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 النمل: 55 قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون* وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون* ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) النمل: 52-54 فلما تناسقت هذه الأفعال في هذه الفواصل التي قبل هذه الفواصل التي قبل هذه الفاصلة كان بناؤها على ما قبلها بلفظ الفعل أولى بها، فجاء: (تجهلون) في هذا الموضع و (مسرفون) في الأول لهذا من القصد والله تعالى أعلم. وأما المسألة الثانية في اختصاص الواو بسورة الأعراف في قوله: (وما كان جواب قومه) ، والفاء في سورة النمل: (فما كان جواب قومه) فلأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 قبلها (مسرفون) وهو اسم وإن أدى معنى الفعل، و (تجهلون) صريح لفظ الفعل والأجوبة التي تتعلق بالأول المبتدأ به، وإنما أصلها ف الأفعال التي تقع وتوجد لوجود غيرها، والواو والفاء جائزتان في الموضعين إلا انه يختار حيث جاء الأصل الذي وضعت الفاء فيه لتوجب ما بعدها لوجود ما قبلها، وهو الفعل، واختيرت الواو حيث كان الملفوظ به الاسم ليفرق بين الموضعين، فيختار لكل ما هو أليق به، إذ ليس الاسم أصلا فيما جعلت الفاء للجواب فيه. وأما المسألة الثالثة، وهي إضمار آل لوط في الأعراف حيث قال (إلا أن قالوا أخرجوهم) وإظهاره في سورة النمل لما قال: (أخرجوا آل لوط من قريتكم) فالجواب عنه أن يقال: إن السورتين مكيتان وموجب هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 الإضمار والإظهار ان يكون ما جاء فيه الإظهار نازلا قبل ما جاء فيه من الإضمار، فلما أظهر في الآية المنزلة قبل اعتمد في القصة التي هي عند ذكرهم على الإضمار الذ أصله أن يكون بعد تقدم الذكر. وأما المسألة الرابهة وهي (إلا امرأته كانت من الغابرين) في سورة الأعراف، وفي سورة النمل: (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) فالجواب عنها ما يدل عليه الجواب عن المسألة الثالثة، وهو أن هذه القصة في سورة النمل نازلة قبل القصة التي في سورة الأعراف بدليل الإضمار والإظهار، وإذا بنينا على هذا فإن قوله: (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي: كتبنا عليها أن تكون من الباقين في القرية الهالكين مع أهلها، فلما ذكر في الآية المنزلة أولا أحال في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 الثانية على الأولى في البيان فقال: (كانت من الغابرين) أي: في تقدير الله الذي قدره لها، وأخبر فيما قبل عن حكمه عليها. وأما المسألة الخامسة فهي قوله تعالى في سورة الأعراف: (..أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) وقال في سورة النمل: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) فالجواب عنها على ما بينا، وهو أن ذكر قصة لوط وقومه نزل القرآن به قبل ذكره في سورة الأعراف، وتبكيتهم على الفاحشة، وتعظيم أمرها، وفحشهم فيها قبل الإخبار عن سبقهم إليها، فكان قوله: (وأنتم تبصرون) أي: لا تتكاتمون بها، لأنهم كانوا في مجالسهم لا يتحاشون عنها، وقيل: (وأنتم تبصرون) فحشها وشناعة قبحها، وهذه صفة ترجع إلى الفعلة نفسها، ثم إنهم لم يسبقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 إليها، كما قيل في الخبر: نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط وهذا وصف حقه أي يجيء بعد توفيه الفاحشة حق وصفها في نفوسها، فأخر ذكره إلى حكاية الثانية لهذه القصة، وقد خاطبهم لوط عليه السلام بذلك وأكثر منه في مقامات إنكاره عليهم ودعائهم لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وأما المسألة السادسة فعن اختلاف المحكيات، إذ كان في سورتي الأعراف والنمل: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) و (أخرجوا آل لوط) وقال في سورة العنكبوت: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) والجواب عن ذلك أن هؤلاء لما كرر عليهم لوط عليه السلام الإنكار وأعاد عليهم الإعذار والإنذار، قال في موقف ما حكاه الله تعالى عنه، فكان جوابهم له في ذلك الموقف ما ذكره الله تعالى. والجواب الثاني وإن خالف الجواب الأول فهو من جهتهم، وإذا خالفوا بين الأجوبة تناولت الحكاية مختلفها، على لو كان كل ذلك في موقف واحد لكان جائزا أن يكون جواب طائفة منهم ما ذكر أولا، وجواب طائفة أخرى ما ذكر ثانيا، وكل من الطائفتين قومه. فإذا قيل: (وما كان جواب قومه) أبعض قومه، فإذا كان قاله بعض ورضي به الآخرون، فكلهم أو في حكم القائلين، فلا يقدح ما جاء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 اختلاف أجوبتهم في الآيات التي نزلت في هذه القصة على ما يظنه المعترض، وإنما يتعلق بمثله من جهل للأنبياء عليهم السلام موافقها، ولم يعرف اللغات ومصارفها، وهذا كثير في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وحكايتها في هذه السور وغيرها مما نقف عليه إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 76 الآية الخامسة عشرة منها تشتمل على ثلاث مسائل: قوله تعالى: (نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرون) الأعراف: 101. وقال في سورة يونس 74: (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) . للسائل ان يسأل عن اختلاف ما اختلف في الآيتين المتشابهتين فلم سقط (به) في سورة الأعراف دون سورة يونس؟ ولم قال: (يطبع الله) في الأولى، و (نطبع) في الثانية؟ ولم جعل الطبع على قلوب الكافرين في الأعراف، وعلى قلوب المعتدين في يونس؟ والجواب عن ذلك: أن سقوط (به) من قوله: (كذبوا) هو للبناء على ما جعل صدرا لهذه الآيات التي نزلت في الترغيب والترهيب، وهو: (ولو أن أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون الأعراف: 96 فقوله: (ولكن كذبوا) لم يذكر له مفعول، وأنساقت الآيات بعد التحذير المتوالي بقوله: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا) الأعراف: 97 ثم ختمت بقوله: (تلك القرى نقص عليك مكن أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) الأعراف: 101. فالمكذبون هنا هم المكذبون في قوله (ولكن كذبوا) فدل على ذلك بأن أجرى مجراه في حذف ما يتعدى إليه كذب وما يتعدى إليه كذب إذا كان غير مميز يتعدى إليه بالباء، كقوله: (كذبوا بآياتنا) يونس: 73. وإذا كان من المميزين فإنه يتعدى إليه بغير حرف إضافة نحو كذبه كقوله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 (فكذبوا رسلي) سبأ: 45 فالمحذوف في هذا المكان هو المفعول به، وهو الذي يتعدى إليه الفعل بالباء. وأما قوله تعالى في سورة يونس 74: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) وإثبات المفعول به هنا فلأن قبله نوح عليه السلام، وهي (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله) . يونس: 71. ثم بعده: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك) ثم بعده: (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) يونس: 73 فجاءت كذب أمام القصة المبنية على القصة التي قبلها متعدية إلى ما وجب لها في موضعها، فروعي تعديها، فلما وقعت الإشارة في قوله: (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوه من قبل) إلى تكذيب من كذب من قوم نوح، اختير تعدية الفعل المكرر على الفعل الأول، ليعلم أن هذا الفعل معني به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 ما تقدم، فلما جاء ذلك متعديا جاء هذا مثله. ولما لم يجيء في الآية التي في سورة الأعراف متعديا لم يجيء فيما بني عليه إلا محذوف المفعول به. وأما الجواب عن قوله) كذلك يطبع الله) الأعراف: 101 و (كذلك نطبع) يونس: 74 فلأن الآية في سورة الأعراف مبنية على ما تقدمها من الآيات، وهي تنتقل من الإضمار إلى الإظهار، ومن الإظهار إلى الإضمار، أعني في أخبار الله عز وجل عن نفسه لقوله: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا) الأعراف: 97. و (أن يأتيهم بأسنا ضحى) الأعراف: 97 وقوله بعده: (أفأمنوا مكر الله) الأعراف: 99 فأظهر: ولم يقل: أفأمنوا مكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 فلما وقع هذا الإخبار في هذا المكان، ثم جاء بعده: (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو شاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم) الأعراف: 100. فأجرى الفعل على إضمار فاعله، ثم عاد إلى ذكر الطبع، كان إجراؤه على إظهار الفاعل أشبه بما بنيت عليه الآيات المتقدمة من الانتقال من الإضمار إلى الإظهار المختار استعماله في المكان. وأما الآية التي في سورة يونس وهي: (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) يونس: 74. فلأن ما قبلها جار على حد واحد وسنن لاحب وهو إضمار الفاعل من حيث في قصة نوح قبلهن وهي من مبتدأ العشر (واتل عليهم نبأ نوح) يونس: 71 إلى أن قال) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين* ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم) فقال بعده: كذلك نطبع على قلوب المعتدين) يونس: 73-74 ولم يتقدمه ما يخالفه هذا المنهج، ولم يبن على الطريقين فاتبع الأول وحمل عليه في إضمار الفاعل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 والمسألة الثالثة في هذه الآية قوله في سورة الأعراف 101: (على قلوب الكافرين) وفي سورة يونس 74: (على قلوب المعتدين) فالجواب عنها: أن الآيات التي تقدمت في سورة الأعراف تضمنت وصف الكفاء، لأنه لا يحذر عقاب الله ومجيئه بياتا أو ضحى إلا الكفار، ثم إطلاق الخاسرين لا يكون إلا في الكافرين/فلما وقع التصريح بصفات الكفر صرح به عند ذكر الطبع، ولما كانت الآية في سورة يونس قد تقدمها في وصف الكفار ما كان كالكناية عنهم فقال: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) يونس: 73. وما كل منذر كافر، كنى عن الكفار بعده عند ذكر الطبع بـ المعتدين وما كل معتد كافر، فمخالفة كل واحدة من الآيتين للأخرى إنما هي لموافقة ما قبل كل واحدة منهما من طرح الكلام وقصد الالتئام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 77 الآية السادسة عشرة منها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: (قال إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين* فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين* ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين* قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم* يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون* قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين* يأتوك بكل ساحر عليم* وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقربين* قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) . الأعراف: 106-115. وقال في سورة الشعراء مكان قولهك (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم) الأعراف: 109. (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم* يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون* قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين* يأتوك بكل سحار عليم* فجمع السحرة) . الشعراء: 34-38. للسائل أن يسأل في هذه القصة عن مسائل: أولها: قوله في سورة الأعراف 109-110. (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم* يريد أن يخرجكم من أرضكم) ثم قال في سورة الشعراء 34. (قال للملأ حوله إن هذا لساحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 عليم) . فأخبر في الأولى أن قائل ذلك الملأ من قومه وفي الثانية أن فرعون هو القائل ذلك لملئه، وهذا اختلاف ظاهر في الخبرين؟ والجواب أن يقال: إن قول الملأ فيما حكاه الله تعالى في سورة الأعراف قول فرعون، أداه عنه رؤساء قومه إلى عامة اصحابه، والدليل على أن ذلك قوله، وأنهم فيه مؤدو رسالة عنه قول العامة في جوابه: (أرجه وأخاه) الأعراف: 111، فكان هذا خطابا لفرعون ولم يكن للملأ، إذ لو كان لهم لكان: أرجوه وأخاه وإذا كان كذلك لم يخالف ما قاله في الشعراء من أنه: (قال للملأ حوله) الشعراء: 34 بل يكون هو البادئ بذلك لمن حوله ليؤدوا إلى من بعد عنه قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 فإن قال قائل: فكيف اختصت سورة الأعراف بحكاية ما قال الملأ، وسورة الشعراء بما قاله فرعون؟ قيل: إن أول من رد قول موسى عليه السلام فرعون، ثم مالأنه عليه ملؤه، وهو ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء واقتص حاله حيث أخبر عنه بما قاله: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) الشعراء: 18. إلى أن انتهت الآيات إلى القصة المودعة ذكر السحرة، فقل فرعون للملأ حوله ما أدوه عنه إلى غيرهم، وسورة الشعراء مكية كسورة الأعراف، وترتيب الاقتصاص يقتضي أن تكون قبلها، وفي السورة الثانية أخبر عما أداه عنه ملؤه إلى الناس الذين أجابوه بأن (أرجه وأخاه) فكان قول فرعون للملأ حوله سابقا قول الملأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 الذين أدوا إلى غيرهم قوله، فذكر حيث قصد اقتصاص أول من دعاء موسى عليه السلام إلى طاعة الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 78 الآية السابعة منها قوله تعالى فيها: (يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) الأعراف: 110. وقوله في سورة الشعراء 35: (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون) . للسائل أن يسأل فيقول: ذكر في الآية الأولى: أنه قال: (يريد أن يخرجكم من أرضكم) فحسب، وذكر في الثانية أنه قال: (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) والقول واحد، فلماذا اختلف؟ والجواب أن يقال: لما أسند الفعل في سورة الشعراء إلى فرعون، وحكى ما قاله وأنه قال للملأ حوله من قومه (إن هذا لساحر عليم) الشعراء: 34 وكان أشهدهم تمردا وأولهم تجبرا، وأبلغهم فيما يرد به الحق، كان في قوله: (يريد أن يخرجكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 من أرضكم) ذكر السبب الذي يصل به إلى الإخراج، وهو (بسحره) فأشبع المقال بعد قوله: (إن هذا لساحر عليم) بأن ذكر أنه (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره.) . وأما الموضع الذي لم يذكر فيه (بسحره) فهو ما حكى من قول الملأ في سورة الأعراف، حيث قال: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم* يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) الأعراف: 109-110 والملأ لم يبلغوا مبلغ فرعون في إبطال ما أورده موسى عليه السلام، ولم يجفوا في الخطاب جفاءه، فتناولت الحكاية ما قاله فرعون على جهته بتكرير لفظ السحر من فعله بعدما أخرجه بصفته حيث قال: (إن هذا لساحر عليم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 فإن قال قائل: فقد ذكر الله عز وجل في سورة طه 63 عن الملأ أنهم: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ... ) . قيل له: قوله تعالى: (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى* قالوا إن هذان لساحران ... ) طه: 62-63 خبر عن فرعون وملئه فلما كان من جملتهم غلب أمره على أمرهم، ألا ترى أن ابتداء ذلك: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) طه: 56 وهذا خبر عن فرعون، ثم بعده: (قال أجأتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى* فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى* قال موعدكم يوم الزينة..) طه: 57-59 وهو خطاب لفرعون ومن تبعه، ويجوز أن يكون له وحده على ما يخاطب به الملوك من لفظ الجمع كما يخبرون بمثله عن أنفسهم، فذكر قوله: (بسحره) فيما حكاه من كلام فرعون، فلذلك خلا منه الموضع الذي كان الخبر فيه عن الملأ عن قومه. فاعلمه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 79 الآية الثامنة عشرة منها قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين) الأعراف: 111. وقال في سورة الشعراء 36: (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين) . للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى اختلف اللفظان في الآيتين، فكان في الأولى أرسل وفي الثانية وهل يجوز أحدهما مكان الآخر؟ والجواب أن يقال: اللفظتان نظيرتان، تستعمل إحداهما مكان الأخرى، وقد جاء: بعث الرسول، وأرسله معا، إلا أن أرسل يختص بما لا يختص به بعث لأن البعث لا يتضمن ترتيبا، والإرسال أصله: تنفيذ من فوق إلى أسفل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 وأرسل في سورة الأعراف حكاية قول العامة للملأ المؤدين كلام فرعون إليهم، فلما تعالى عليهم ولم يخاطبهم بنفسه كان قولهم في جواب ما استأ مرهم فيه واستشارهم في فعله على الترتيب الذي رتب لهم في الخطاب، فكانت الحكاية باللفظ الذي يفخم به المخاطب، كما خفم في تحميله ملأه أن يؤدوا كلامه إلى من دونه. ولما تناولت الحكاية في سورة الشعراء ما تولاه فرعون بنفسه من مخاطبة قومه بإسقاط الحجاب بينهم وبينه، وتسوية قدره، لقوله: (قال للملأ حوله) الشعراء: 34 كان هذا الموضع مخالفا للموضع الأول في مقتضى الحال من التفخيم، فخص باللفظ الذي ليس فيه ما في الأول من التعظيم، وهو قوله: ابعث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 80 الآية التاسعة منها قوله تعالى بعد ما قال: (يأتوك بكل ساحر عليم) الأعراف: 112 (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا) الأعراف: 113. وقال في سورة الشعراء بعد: (بكل سحار عليم) الشعراء: 37 (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم* وقيل للناس هل أنتم مجتمعون* لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين* فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا ... ) الشعراء: 38-41. لسائل أن يسأل فيقول: المحكى في الشعراء أكثر من المحكى في سورة الأعراف بعد قوله: (يأتوك بكل سحار عليم) إلى أن انتهى قوله تعالى إلى ما هو خبر عن السحرة من قولهم لفرعون: (أئن لنا لأجرا) الشعراء: 41؟ والجواب ما دللنا عليه من أن ما في سورة الشعراء أشد ابتداء مبعثه إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 حيث قال: (وإذ نادى ربك موسى أن إئت القوم الظالمين* قوم فرعون ألا يتقون) الشعراء: 10-11. فجاء في هذه الآيات التي في ذكر السحرة من بيان ما جرى ما لم يجيء في التي في سورة الأعراف، فمنه قول الله تعالى: (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) الشعراء: 38 كما قال في سورة طه 57-59: (قال أجأتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى* فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى* قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) فهذا هو قوله: (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) الشعراء: 38. وفي سورة الأعراف لما لم تبدأ القصة فيها بذكر مبعثه عله السلام، وابتداء أمره لم تكن مبنية على ما بنيتا عليه من اقتصاص معظم حاله، وأول ما كان من مبعثه حيث يقول: (اذهب إلى فرعون إنه طغى* قال رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري) طه 24-26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 فلما كان القصد في سورة الأعراف ذكر الجمل من بعض ما كان، لا ذكر تفصيله، كان الاقتصار بعد ذكر إرسال الحاشرين إلى السحرة، ومجيئهم يغني عن ذكر توعدهم ليوم يظهرون فيه حيلهم وتمويهاتهم، إذ معلوم أن مثل ذلك الخطب الجسيم، وحشر العدد الكثير ينتهي إلى يوم يتواعد إليه مشهود، وعلى هذا يبني الكلام في أكثر متشابه هذه القصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 81 الآية العشرون منها قوله تعالى في الآية التي قبل: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين) الأعراف: 113. وقال في سورة الشعراء 41: (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين) . للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلفت الآيتان، وكيف جاز: (وجاء السحرة فرعون قالوا) وحق الكلام أن يكون في قالوا واو أو فاء، نحو جاء السحرة فرعون فقالوا أئن لنا لأجرا، أو وقالوا؟ والجواب أن يقال: لما تقدم في سورة الشعراء ما شرحه أكثر وما في سورة الأعراف أوجز وأخصر، كان قوله في الأعراف: (وجاء السحرة فرعون) بمعنى ما كان بإزائه في سورة الشعراء: (فلما جاء السحرة) فلم يحتج في جواب لما إلى فاء ولا إلى واو، وكذلك هنا في سورة الأعراف، لما قصد هذا المعنى دل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 بحذف العاطف على هذا القصد، فكأنه قال: فلما جاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 82 الآية الحادية والعشرون منها قوله تعالى: (قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقربين) الأعراف: 113-114. وقال في سورة الشعراء 42: (قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) . للسائل أن يسأل عن زيادة إذا في سورة الشعراء، وخلو سورة الأعراف منها؟ والجواب أن معنى قوله إذا جواب وجزاء، وكان من قول فرعون لهم: إن غلبتم فجزائي أن أجازيكم بإعلاء رتبتكم، وتقريب منزلتكم، لأنها موضع بني على فصل اقتصاص لما جرى، لم يبن غيرها عليه من نحو ما تقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وما يجيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 83 الآية الثانية والعشرون منها قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) الأعراف: 115. وقال في سورة طه 65: (قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) . للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكي في الموضعين مع ذلك في شيء واحد؟ والجواب أن يقال: أن المقصود معنى واحد، فاختير في سورة الأعراف: (.. وإما أن نكون نحن الملقين) لأن الفواصل قبله على هذا الوزان، واختير في سورة طه: (وإما أن نكون أول من ألقى) لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ومثله قوله تعالى: (وألقي السحرة ساجدين) في سورة الأعراف 120 وسورة الشعراء 46 لتكون الفاصلة فيهما مساوية للفواصل قبلها، وبإزاء (ساجدين) قوله: (فألقى السحر سجدا..) في سورة طه 70 لذلك. ومثله قوله تعالى: (قالوا آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون) في السورتين للفواصل التي حملت هذه عليها. وقال في سورة طه 70: (.. قالوا آمنا برب هارون وموسى) فقدم هارون ليكون موسى فاصلة مثل الفواصل المتقدمة. فهذا ونحوه مما يراعى الفواصل، ألا ترى إلى قوله تعالى: ( ... وأطعنا الرسولا) و (فأضلوا سبيلا) فزيدت الألف، لا للبدل من التنوين، إذ لا تنوين مع الألف واللام، وإنما ذلك للتوفقه بينهما وبين الفواصل التي قبلها وبعدهما، نحو (تقتيلا) و (وتبديلا) و (وقريبا) و (سعيرا) و (نصيرا) وبعدهما: (كبيرا) و (وجيها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 و (سديدا) و (عظيما) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 84 الآية الثالثة والعشرون منها قوله تعالى: (قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون) الأعراف: 121-122. وقال في سورة الشعراء 47-48 مثله. وقال في سورة طه 70: ( ... قالوا آمنا برب هارون وموسى) . للسائل أن يسأل فيقول: لم كرر ذكر رب في السورتين ولم يكرره في سورة طه، وإنما قال: (قالوا آمنا برب هارون وموسى) ؟ والجواب أن يقال: إذا قيل: (رب العالمين) فقد دخل فيهم موسى وهارون وهما دعوا إلى رب العالمين لما قالا: (.. إنا رسول رب العالمين) الشعراء: 16 إلا إنه كرر في السورتين: (رب موسى وهارون) ليدل بتخصصهما بعد العموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 على تصديقهم بما جاءا به عليهما السلام عن الله تبارك وتعالى، فكأنهم قالوا: آمنا برب العالمين، وهو الذي يدعو إليه موسى وهارون. وأما في سورة طه فلم يذكر رب العالمين لأنه كان الكلام يتم به آية كما ثم في السورتين، فيكون مقطع الآية فاصلة مخالفة للفواصل التي بنيت عليها سورة طه، فقال تعالى: (آمنا برب هارون وموسى) وربهما هو رب العالمين، وكان القصد حكاية المعنى لا أداء اللفظ على جهته كما دللنا عليه قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 85 الآية الرابعة والعشرون منها قوله تعالى: (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ... ) الأعراف: 123 وقال في سورة طه 71: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم..) للسائل أن يسأل عن موضعين من هذه الآية: أحدهما: إظهار اسم فرعون لعنه الله في سورة الأعراف في هذا اللفظ وإضماره له في مثله من سورتي طه والشعراء؟ والثاني: قوله: (آمنتم به) وقال في الموضعين الآخرين: (آمنتم له) ووجه اختلافهما؟ والجواب عن السؤال الأول، وهو إظهار اسم فرعون في سورة الأعراف، لأنه جاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 في الآية العاشرة من الآيى التي أضمر فيها ذكره، وهي قوله: (قال نعم وإنكم لمن المقربين) الأعراف: 114 وجاء في الآية العاشرة من هذه السورة: (قال فرعون أمنتم به) الأعراف: 123 ولم يبعد هذا الذكر في الآيتين اللتين في سورة طه والشعراء، لأن فرعون مذكور في سورة طه في جملة قومه الذين اخبر عنهم بقوله: (قال أجأتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) طه: 57 وبعده: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى* قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى) طه: 60-61 وهذا خطابه لفرعون وقومه، وضمرهم منطو على ضميره إلى قوله: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا..) طه: 64. والذكر في قوله: (قال آمنتم له..) طه: 71 إنما هو السابع من الآي التي جرى ذكره فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 وكذلك في سورة الشعراء لم يبعد الذكر بعده في سورة الأعراف، ألا ترى أن آخر ما ذكر فيما اتصل بهذه الآية قوله تعالى: (قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) الشعراء: 42 وذكره بعد ذلك في الآية الثامنة من الآي التي جرى ذكره فيها. فلما بعد الذكر في سورة الأعراف خلاف بعده في السورتين إذ كان في إحداهما في السابعة، وفي الأخرى في الثامنة، وهي الأعراف في العاشرة أعيد ذكره الظاهر لذلك. والجواب عن السؤال الثاني وهو قوله: (آمنتم به) غير الهاء في (آمنتم له، وكل واحدة تعود إلى غير ما تعود إليه الأخرى. فالتي في (آمنتم به) تعود إلى رب العالمين، لأنه تعالى حكى عنهم أنهم: (قالوا آمنا برب العالمين) الأعراف: 121 وهو الذي دعا إليه موسى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 السلام وأما الهاء في قوله: (آمنتم له) تعود إلى موسى عليه السلام، والدليل على ذلك أنه جاء في السورتين بعدها: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ... ) طه: 71، الشعراء: 49 فالهاء في (إنه) هي التي في (آمنتم له) فلا خلاف أن هذه لموسى عليه السلام. والذي جاء بعد قوله: (آمنتم به) قوله: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة .... ) الأعراف: 132 أي إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان برب العالمين وقع على تواطؤ منكم، أخفيتموه لتستولوا على العباد والبلاد، ويجوز أن يكون الهاء في (أمنتم به) ضمير موسى عليه السلام، لأنه يقال: آمن بالرسول، أي أظهرتم تصديقه، وأقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه، وهذا المكر مكرتموه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 تعود إلى موسى عليه السلام، والدليل على ذلك أنه جاء في السورتين بعدها: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ... ) طه: 71، الشعراء: 49 فالهاء في (إنه) هي التي في (آمنتم له) فلا خلاف أن هذه لموسى عليه السلام. والذي جاء بعد قوله: (آمنتم به) قوله: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة .... ) الأعراف: 132 أي إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان برب العالمين وقع على تواطؤ منكم، أخفيتموه لتستولوا على العباد والبلاد، ويجوز أن يكون الهاء في (أمنتم به) ضمير موسى عليه السلام، لأنه يقال: آمن بالرسول، أي أظهرتم تصديقه، وأقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه، وهذا المكر مكرتموه، وسر أسررتموه لتقلبوا الناس على، فاقتضى هذا الموضع الذي ذكر فيه المكر إنكار الإيمان به. فأما الإيمان له موضعين الآخرين فاللام تفيد معنى الإيمان من أجله، ومن أجل ما أتى به من الآيات، فكأنه قال: آمنتم برب العالمين لأجل ما ظهر لكم على يدي موسى عليه السلام من آياته، والموضع الذي ذكر فيه (له) أي من أجله، وعبر عنه باللام هو الموضع الذي قصد فيه إلى الإخبار ب (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) فلذلك خص باللام، والأول خص بالباء. وقد تدل اللام على الإتباع فيكون المعنى: اتبعتموه لأنه كبيركم في عمل السحر، وقد يؤمن بالخبر من لا يعمل عليه، ولا يتبع الدعي إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 86الآية الخامسة والعشرون منها قوله تعالى: (فسوف تعملون) الأعراف: 123. وقال في سورة طه 71: (..إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم.. . وقال في سورة الشعراء 49: (..إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم) . للسائل أن يسأل فيقول: قال في سورة الأعراف: (فسوف تعلمون) ولم يقل في سورة طه، وإنما أدخل الفاء على قوله: (فلأقطعن) طه: 71، وأما في سورة الشعراء فإنه أتى ب سوف تعلمون مع اللام فقال: (فلسوف تعلمون) فما وجه اختلاف هذه، واختصاص بعض بمكان دون غيره؟ والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: (فسوف تعلمون) من الوعيد المبهم المعرض بأي: فعلت بجهل ما تعرف من بعد نتيجته، وطرحت بذر شر، عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 حصده تعلم نهايته. وهذا النوع من الوعيد أبلغ من الإفصاح بقدره، على أنه قد قرن إليه بيانه، وهو: (لأقطعن أيديكم) الآية الأعراف: 124، فنطق القرآن بحكاية التعريض بالوعيد والإفصاح بالتهديد معا. وأما اختصاص سورة الشعراء بقوله: (فلسوف) وزيادة اللام فلتقريب ما خوفهم به من اطلاعهم عليه وقربه منهم، حتى كأنه في الحال موجود: إذ اللام للحال، فالجمع بينها وبين سوف التي للاستقبال، إنما هو لتحقيق الفعل، وإدائه من الوقوع كما قال تعالى: (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) النحل: 124 فجمع بين اللام وبين يوم القيامة كما جمع بينها وبين سوف على ما قاله عز وجل: (.. وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب..) النحل: 77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وقد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصا لأحوال موسى عليه السلام في بعثه، وابتداء أمره، وانتهاء حاله مع عدوه، فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له، المحقق وقوعه إلى اللفظ المفصح بمعناه، ثم وقع الإقتصار في السورة التي لم يقصد فيها من اقتصاص الحال ما قصد في سورة الشعراء على ذكر بعض ما هو في موضع البسط والشرح، وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به. وأما في سور طه فإنه اقتصر على التصريح بما أوعدهم به وترك: (فسوف تعلمون) وقال: (فلأقطعن أيديكم) طه: 71 إلا أنه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها ويقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من ابتدائها إلى حين انتهائها، وهو قوله بعده: (..ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) طه: 71 فاللام والنون في: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 (لتعلمن) للقسم، وهما لتحقيق الفعل وتوكده، كما أن اللام في قوله: (فلسوف تعلمون) الشعراء: 49 لإدناء الفعل وتقريبه، فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحال من إعلاء الحق وإزهاق الباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 87الآية السادسة والعشرون منها قوله تعالى (.. ثم لأصلبنكم أجمعين) الأعراف: 124. وقال في السورتين طه 71 والشعراء 49: (.. ولأصلبنكم ... ) بالواو. للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة الأعراف ب ثم والأخريين بالواو؟ والجواب أن يقال: إن السورتين اللتين اختصا بالواو هما المبنيتان على الاقتصاص الأكثر والبسط الأوسع، والواو أشبه بهذا المعنى، لأنه يجوز أن يكون ما بعدها ملاصقا لما قبلها كالتعقيب الذي يفاد بالفاء، ويجوز أن يكون متراخيا عنه كالمهلة التي تفاد ب ثم لا بل يجوز أن يكون ما بعدها مقدما على ما قبلها، ومجامعا لها، إذ هـ موضوعة للجمع ولا ترتيب فيها، فكانت الواو أشبه بهذين المكانين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وثم تختص بأحد المواضع التي تصلح الواو لجميعها، فلما كانت مقتصرا بها على بعض ما وضعت له الواو، استعملت حيث اختصرت الحال، فاقترن بكل مكان ما يليق بالمقصود فيه فلذلك خصت ثم بسورة الأعراف، والواو بالسورتين الأخيرتين. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 88 الآية السابعة والعشرون منها قوله تعالى: (قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) الأعراف: 125. وقال في سورة الشعراء 50: (قالوا لا ضير إلى ربنا منقلبون) . للسائل أن يسأل عن زيادة قوله: (لا ضرير) على ما ذكر في سورة الأعراف واختصاص تلك بها من دون هذه؟ . والجواب أن يقال: إنهم قابلوا وعيده بما يهونه ويزيل ألمه من انتقالهم إلى ثواب ربهم مع المتحقق من منقلب معذبهم، فجاء في سورة الشعراء وهي التي قصد بها الإقتصاص الأكبر: (لا ضرير) أي لا ضرر علينا، فإن منقلبنا إلى جزاء ربنا فننعم أبدا، وتعذب أنت أبدا، فالضرر الذي تحاول إنزاله بنا، بك نازل، وعليك مقيم، ونحن نألم ساعة لا يعتد بها مع دوام النعيم بعدها، فكأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 لم يلحقنا ضرر وفي سورة الاعراف وقع الإقتصار على قوله: ( ... إنا إلى ربنا منقلبون) وفيه كفاية وإبانة عن هذا المعنى، ودلالة بناء على ما قصد فيها مما يبين وشرح في سواها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 89 الآية الثامنة والعشرون منها قوله تعالى: (.. قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون* قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ... ) . الأعراف: 187-188. قوله تعالى: (..ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين *قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ... ) . للسائل أن يسأل عن الآيتين، وتقدم النفع على الضر في الأولى، وتأخيره عنه في الأخرى، وهل لفائدة أوجبت في الاختيار تقديم المقدم وتأخير المؤخر؟ والجواب أن يقال: إن الألى بعد قوله: (يسألونك عن الساعة أان مرساها قل إنما علمها عند ربي) وبعده: (قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الأعراف: 178 فكان معنى قوله: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) أي: لا أملك تعجيل ثواب ولا عقاب لها، إلا ما ملكنية الله، فلا أملك إلا ما ملكت ولا أعلم إلا ما علمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 والذي تسألون عنه أخفى الغيوب، وأنا لا أعلم منها ما هو أقرب إلى ججم الظنون، فكيف ما يختص به علام الغيوب؟ ولو علمت الغيب لاستكثرت في السنة المخصبة ما يدفع كلب المجدبة، وقيل لاستكثرت من العمل الصالح، الذي أتحقق أنه رفع الأعمال عند الله تعالى درجة، لأن من علم الغيب عرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 الأفضل عند الله ولم يتركه إلى ما هو دونه وقوله (وما مسني السوء) الأعراف: 188 أي: ما بي جنون كما زعم المشركون، وقيل: الفقر لاستكثاري من الخير الذي يتدارك به الفقر عند شدة الزمان. وأما الآية في سورة يونس فإنها فيما كان يستعجله الكفار من عذاب الله تعالى، وقبلها (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) يونس: 46. أي: إن أريناك بعض ما نتوعد به هؤلاء الكفار من العذاب في عاجل الدنيا حتى تراه نازلا بهم في حياتك، أو أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك ووفاتهم، فإن ذلك لا يفوتهم، لأن مرجعهم إلى حيث ييجازذى فيه العباد، ولا يملك بعضهم أمر بعض، ويقول الكفار: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) يونس: 48. قل لا أملك ما وعدكم الله من هذا العذاب، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 أن أدفع عنكم سوء العقاب، كما لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله أن يملكينه منهما، فتقديم ضر على نفع في هذه الآية لخروجها عن ذكر العذاب الذي قال الله تعالى فيه بعدها: (أثم إذا ما وقع آمنتم به آلان وقد كنتم به تستعجلون) . يونس: 51 ثم إن اللفظة التي تزاوج لفظة الضر هي لفظة النفع ومعناه في الآية: إنه لا يملك الله منه عباده، وأنا واحد منهم، فلذلك أتبع ذكره ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 90 الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) الأعراف: 200. وقال في سورة حم السجدة: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إن هو السميع العليم) . للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف (سميع عليم) على لفظ النكرة، وفي سورة حم السجدة معرفتين بالألف واللام مؤكدتين بـ هو؟ والجواب أن يقال: إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة، واسماء مأخوذة من الأفعال نحو قوله تعالى (فتعالى الله عما يشركون) الأعراف: 190. وبعده (يخلقون) الأعراف: 191 و (ينصرون) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 الأعراف: 192 و (لا يبصرون) الأعراف: 198 و (الجاهلين) الأعراف: 199. فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل، أعني النكرة، وكان المعنى: استعذ بالله إنه يسمع استعاذك، ويعلم استجارتك. والتي في سورة (حم السجدة) قبلها فواصل سلك بها طريق الأسماء، وهي ما في قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت: 34-35. فقوله: (ولي حميم) ليس من السماء التي يراد بها الأفعال، وكذلك قوله: (ذو حظ عظيم) ليس ذو حظ بمعنى فعل، فأخرج (سميع عليم) بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل، فكأنه قال: إنه هو الذي لا يخفي عليه مسموع ولا معلوم، فليس القصد الإخبار عن الفعل، كما كان في الأولى: إنه يسمع الدعاء، ويعلم الإخلاص، فهذا فرق ما بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 المكانين. انقضت سورة الأعراف عن تسع وعشرين آية، فيها ثمان وثلاثون مسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 سورة الأنفال قد مر في سورة البقرة، وآل عمران من الآيات التي تشبه الآيات من هذه السورة، وهذه الآية التي نذكرها فيها، قد سبقت نظيرتها في سورة الأعراف، فذكرناها في هذا المكان، كراهة إخلاء هذه السورة من تخصيصها/ بما خصصنا به أمثالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 91 الآية الأولى منها: قوله تعالى: (فذوقوا العذاب بما كنت تكفرون) الأنفال: 35. وقال في سورة الأعراف قبلها، 39 (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) . للسائل أن يسأل فيقول: إن الخبر في الموضعين عن الكفار، فما بال أحدهما احتص بقوله: (بما كنتم تكفرون) والآخر اختص بقوله (بما كنتم تكسبون) ؟ . والجواب أن يقال: إن التي في سورة الأعراف خبر عن قوم ذكروا قبل هذه الآية في قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصبيهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) . الأعراف: 37. والمعنى في قوله: (ينالهم نصيبهم من الكتاب) أي حظهم من العذاب المكتوب عليهم بقدر ما كسبوه من سيئات الأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) أي يستوفونهم من دون غيرهم ليسوقوهم إلى النار. وهذا عن الحسن، وبين ذلك بعده قوله (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 إذا أداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربناء هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) . الأعراف: 38. فأخبر أن أخراهم تسأل الله أن يضعف العذاب على أولاهم لأنهم ضلوا وأضلوا فيستحقون العذاب على قدر اكتسابهم، فلذلك طبلوا أن يكون عذابهم ضعف عذاب هؤلاء لإثمهم، بما كسبوا من ضلالهم في أنفسهم وإثمهم بما اكتسبوا من إضلال غيرهم، (وقال أولاهم فما كان لكم علينا من فضل) الأعراف: 39 أي: كنتم مثلنا في الضلال، لم يكن علينا فضل في تركه أو التقلل منه (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) أي يقول الله تعالى ذلك ذوقوا العذاب بقدر ما كنتم تكسبون فهذا موضع يقتضي ذكر الاكتساب، وما يجب على قدره من العقاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 وأما الآية في الأنفال فهي في ذكر الكفار الذين قال الله تعالى فيهم (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال: 35 أي: صفيرا وتصفيفا لم تكن صلاتهم تسبيحا، وتمجيدا، وخضوعا لله تعالى كما يفعل المؤمنون فقال لهم في الآخرة، ذوقوا العذاب بكفركم ولم يتقدم هذه الآية ما يوجب قدرا من العذاب دون قدر حتى يقال: ذوقوا من العذاب بقدر كسبهم له، كما كان في الآية الأولى، وإنما ذكر كفرهم من حيث قال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون* وما لهم ألا يعذبهم وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 الأنفال: 34-35 وذلك كله في كفار قريش، فلذلك جاء فيه بعد (فذوقوا) (بما كنتم تكفرون) دون (بما كنتم تكسبون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 92 الآية الثانية منها: قوله تعالى: (إن الذين أمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) الأنفال: 72. وقال في سورة براءة 20: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) . لم قدم ذكر الأموال والأنفس في الآية الأولى على قوله (في سبيل الله) ، وأخر في الأخرى؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى في سورة الأنفال عقيب ما أنكره الله تعالى على من قال لهم: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) الأنفال: 67، وهم أصحاب النبي لما أسروا المشركين، ولم يقتلوهم طمعا في الفداء، فقال تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الأنفال: 68 أي: فيما أخذتم من هؤلاء الأسرى من الفداء، ثم قال تعالى لما غفر لهم ما كان منهم من ترك القتل إلى الأسرى: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) الأنفال: 69. أي: استمتعوا بما نلتم من أموال المشركين، وبما أخذتم من فدائهم، فعقب ذلك/ بهذه الآية التي مدح فيها من أنفق أمواله في سبيل الله، لا من يجاهد طلبا للنفع العاجل فقال: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) فقدم (بأموالهم وأنفسهم) على قوله (في سبيل الله) ليعلموا أن ذلك يجب أن يكون أهم لهم، وأولى بتقديمه عندهم صرفا لهم عما حرصوا عليه من فائدة الفداء. ولم تكن كذلك الآية التي في سورة براءة ، لأنها بعدما يوجب تقديم قوله (في سبيل الله) على ذمر المال، لأنه قال تعالى (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 الذين جاهدوا منكم) التوبة: 16. ثم قال في إبطال ما أتى به المشركون من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج من المقام على الكفر.: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) التوبة: 19. فكان المندوب إليه في هذه الآية بعد الإيمان بالله الجهاد في سبيل الله، فقال بعده مادحا لمن تلقى بالطاعة أمره. (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ثم ذكر (بأموالهم وأنفسهم) لما قدم ذكر ما اقتضى الموضع تقديمه، وأن يجعل أهم إليهم من غيره، فخالف هذا المكان قوله في سورة الأنفال، فقدم فيه ما أخر هناك لذلك فأعلمه. وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 انقضت سورة الأنفال عن آيتين ومسألتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 سورة براءة 93 الآية الأولى منها قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الظالمين) بعد قوله (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كما آمن بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله لا يستوون عند الله) التوبة: 19. وقال بعده: (والله لا يهدي القوم الفاسقين) بعد قوله (قل إن كان آباؤهم وأبناؤكم وإخوانكم) من التوبة: 24 وقال في هذه السورة: (والله لا يهدي القوم الكافرين) موصولة بقوله (إنما زيادة في الكفر) من التوبة: 37. للسائل أن يسأل عن تخصيص بعض هذه الآيات بـ (الظالمين) وبعضها (الفاسقين) وبعضها بـ (الكافرين) ، وهل ذلك لمعنى يخضه؟ والجواب أن يقال: إن المراد ب، (الظالمين) في الآية الأولى مشركو العرب الذين أقاموا بسقايا الحاج، وأنفقوا على المسجد الحرام رجاء الثواب مع المقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 الكفر والعصيان، فهم لأنفسهم بالكفر ظالمون، وبعملهم الذي يؤملون الانتفاع به مع مضامة الكفر واضعون الشيء غير موضعه، فلما فعل هؤلاء المشركون ذلك وكلن كل مشرك ظالما، وكل من وضع شيئا في غير موضعه يكون ظالما، وإنما يكون غير ظالم إذا أنفق في حال الإسلام على الملسمين من الحجاج دون الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، عبر عنهم بـ (الظالمين) لانطواؤ هذه الصفة على الكفر، وعلى المعنى الزائد بتضييع المال في حال الشرك، والمعنى لا يهديهم إلى نيل الثواب الذي ينفقون، وبسببه يعمرون، ولا يدلههم على ثمرة ما يؤمنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 وأما الموضع الثاني، وهو (والله لا يهدي القوم الفاسقين) فإنه تحذير لمن قال فيهم من المسلمين: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله) . التوبة: 24 فعرفهم أن من آثر مراعاة هذه الأبواب التي عدها على طاعة الله تعالى، التي أوجبها من الجهاد في سبيله، فليتربص نازل عقاب الله به، وأنه بفعله ذلك من جملة الفاسقين، وأن حكمه حكمهم، والله لا يهديهم إلى ما أعدوه للمؤمنين من الثواب لتعرضهم لمخالفة أمر الله تعالى للعقاب، فكان ذكر الفاسقين أليف بهذا المكان. وأما الموضع الثالث، وهو (والله لا يهدي القوم الكافرين) فإنه بعد قوله في وصف الكفار: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 ويحرمونه عاما) التوبة: 37 وهو/ ما كان بعض العرب يأتيه من تحليل بعض الأشهر الحرم، وتحريم بدله من الشهر الذي ليس بمحرم ليوفي عدة الأربعة، فيكون في ذلك تحريم ما حلله الله وتحليل ما حرمه، فأخبر الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم، ثم عقبة بوصفهم بأنه لا يهديهم، فكان أحق الأوصاف في هذا المكان لفظة (الكافرين) التي اقتضاها هذا المعنى والذكر المتقدم في مكانين من الآية. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 94 الآية الثانية منها قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) . التوبة: 32. وقال في سورة الصف8: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره لو كره الكافرون) . للسائل أن يسأل فيقول: قال تعالى في الآية الأولى: (يريدون أن يطفئوا نور الله) وقال في الثانية (ليطفئوا) فما الذي أوجب اختصاص الأولى بما اختصت به، والثانية باللام دون أن تكون مثل الأولى بـ أن وهي الأصل في تعدي الإرادة إليه؟ والجواب أن يقال: إن الإرادة في الآية الأولى تعلقت بإطفاء نور الله بأفواههم، وإطفاء نور الله إنما يكون بما حاولوا من دفع الحق بالباطل فالحق يسمى نورا، لأن حججه وبراهينه تضيء لطالبه بها إليه، والباطل هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 قوله بأفواههم، وهو ما أخبر الله تعالى به قبل عن اليهود والنصارى فقال: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) التوبة: 30. أي: هو قول لا حقيقة له، ولا محصول، وبمصله لا يدفع الحق وبالأفواه لا يطفأ هذا النور كما يطفأ السراج، لأن هذا النور وإن أشبهه في أنه يهدي ويبين الحق من الباطل، فهو بخلافه في الامتناع من الإطفاء كما يتهيأ ذلك في السراج. والنور يجوز أن يكون الآية المنيرة والحجة الساطعة ويجوز أن يكون المراد به القرآن، ويجوز أن يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (إنا أرسلناك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 شاهدا ومبشرا ونذيرا*وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) الأحزاب: 45-46. فالسراج المنير يسمى نورا، وكل واحد من الثلاثة إذا دفعوه جاز أن يقال: حاولوا إطفاءه والخبر عن اليهود والنصارى الذين قال فيهم عز وجل: (ذلك قولهم بأفواههم يضائهون قول الذين كفروا من قبل) التوبة: 30. أي: يشاكلون بإثباتهم لله بنا وشريكا قول من أثبت مع الله آلهة: (وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) التوبة: 31. وهذا واضح وتعدى الإرادة إلى هذا المراد ظاهر، وهو وجه الكلام والأصل. وأما الآية في سورة الصف، وتعليق الإرادة فيها بالإطفاء مع زيادة اللام، فإن للنحوين في ذلك مذهبين. أحدهما: أن اللام توضع موضع أن لكثرة ما يقال: زرتك لتكرمني، فاللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 لما شهرت بنيابتها عن أن وقيامها مقامها في الموقع، كان تعدى الفعل إليها مع ما بعدها من الفعل كتعديه إلى أن وما تنصبه من المسقبل فيقال قصدت أن تفرح وقصدت لتفرح، وهذا لا يكون إلا على سبيل التوسع دون الحقيقة. فأما المذهب الآخر فللمحققين، وهو أن الفعل معدى إلى المفعول محذوف، واللام الداخلة على الفعل المنصوب تكون منبئة على العلة التي لها أنشئ الفعل. والمراد في الآية/ على هذا التحقيق: يريدون أن يكذبوا ليطفئوا نور الله بأفواههم لأن قبلها: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام) الصف: 7. فقوله: (يريدون) لم يذكر فيه مفعول ما يريدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 اعتمادا على ما نبه عليه بقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب) فكأنه قيل: يريدون افتراء الكذب ليطفئوا نور الله، وهو على نحو قوله. أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود أي أردت أن انزع سراويلي ليعلم الناس إذا رأوا طولها على أنها عادي القامة، ثمودي الخلقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 فلهذا خصت الآية الثانية بدخول اللام على يطفئوا ولما كان المراد في الآية الأولى الإطفاء بالأفواه لما دل عليه مفتتح العشر، وهو: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) التوبة: 30. كانت الإرادة معداة إلى إطفاء نور الله تعالى بأفواههم، وهو ما حكى الله تعالى عنهم أنه قولهم بأفواههم، أي: يريدون أن يدفعوا الحق بالباطل من أفواههم، وهذا واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 95 الآية الثالثة منها: قوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) . التوبة: 45. وقال في موضعين آخرين من هذه السورة: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) التوبة: 80. وبعده: (ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) التوبة: 84. للسائل أن يسأل عن الفرق بين هذه الأماكن حتى أعيد في الأول حرف الجر مع المعطوف، ولم يعد في المكانين الآخرين؟ والجواب أن يقال: لما كان الأول فيه إيجاب بعد نفي صار الخبر أوكد، وإلى أمارة التوكيد أو حج، ألا ترى أن قولك ما زيد إلا فاضل أوكد من قولك: زيد فاضل، وكذلك ما زيد إلا قائم أوكد من قولك زيد قائم فلما كان كذلك احتاج المعطوف على قوله (بالله) إلى توكيد لم يحتج إليه في قوله: (كفروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 بالله ورسوله) إذ ليس أحد من الموضعين الآخرين متضمنا إيجابا بعد نفي كما تضمنه قوله: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 96 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (ولا ينفقون إلا وهم كارهون* فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبكم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) التوبة: 54-55. وقال بعده: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبكم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) التوبة: 85. للسائل أن يسأل في الآيتين عن أربع مسائل: أولها: (فلا تعجبك) بالفاء في الآية الأولى، وقوله (ولا تعجبك) بالوار في الآية الثانية. والمسألة الثانية: تكرار لا في قوله: (ولا أولادهم) وتركه في قوله: (ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 تعجبك أموالهم وأولادهم) . والثالثة قوله: (إنما يريد الله ليعذبهم) باللام، وقال في الآية الأخرى: (إنما يريد الله أن يعذبهمن) . والمسألة الرابعة قوله: (في الحياة الدنيا) في الآية الأولى، وفي الآخرة: (في الدنيا) من غير ذكر الحياة الموصوفة بها/. والجواب عن المسألة الأولى في الفاء والوار، ومجيء الآية الأولى على (فلا تعجبك) والآخرة على (ولا تعجبك) هو أن يقال: إن قبل الفاء قوله تعالى (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) . التوبة: 45. فأخبر عن المنافقين بما يقصدونه بأفعالهم التي يوقعونها في حالهم واستقبالهم على معنى: أن يكسلوا عن الصلاة ويتكرهوا الصدقات، فإن الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 ليس يجازيهم بما يسوءهم من أموالهم، بل يجعل ذلك عذابا لهم مدة بقائهم بما ينالهم من النقص في أموالهم بما أباح منها للمسلمين بالقتال، وما يصيبهم في الأولاد من السبي والاستبعاد، ثم عند الفراق يكون الألم على قدر محبة الأحياء، هذا سوء الانقلاب وما أعد لهم من العذاب ليوم المآب، فلما كان الفعل الذي قبل الفاء بمعنى الشرط صار بعدها في موضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 الجزاء فخضعت بالفاء لذلك. وأما الآية التي دخلتها الواو فإن قبلها أفعالا ماضية كقوله: (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) التوبة: 84، وهذه الأفعال بمضيها وانقضائها لا تكونشرطا فتعقب بالفاء التي تدل على الجزاء، فعطفت الآية بعدها على ما قبلها بالواو لبطلان المعنى الذي يقتضي الفاء. ألا ترى أنه قال: (وماتوا وهم فاسقون) ولا يشترط فعل من قد مات فيعقب بذكر الجزاء، فلذلك اختلفا في الفاء والواو. والجواب عن المسألة الثانية، وهي توكيد قوله (ولا أولادهم) بـ لا في قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) وتعرية الثانية منها حيث قال: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) هو أن الذي نبأ عن معنى الشرط في الفعل الأول وهو: (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) التوبة: 45. بني على أوكد ما يبنى عليه الأخبار من الإيجاب بعد النفي، فلما علقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 الجملة الثانية به تعلق الجزاء بالشرط اقتضت من التوكيد ما قصد به مثله في الأول، فكان من ذلك أن أكد معنى النهي بتكرير لا في قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) . وأما الثانية فهي مخالفة للأولى في هذا المعنى، لأنه لا شرط ينطوي عليه الفعل الذي قبلها كما انطوى علي الفعل الذي قبل الفاء، ولم يتضمن أيضا من التوكيد المقتضى بناء يتعلق عليه فخلا من الدواعي إلى التوكيد، فلم يكرر فيه لا لذلك. والجواب عن المسألة الثالثة وهي وصل الإرادة باللام في الأولى حيث قال: (ليعذبهم بها) ووصلها ب أن في الثانية حيث قال: (أن يعذبهم) هو أن الأولى معناها: إنما يريد الله أن يزيد في نعمائهم بالأموال والأولاد ليعذبهم بها في الحياة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 الدنيا، فمفعول الإرادة محذوف، واللام لام الصيرورة، والآية الأخيرة مخالفة للأولى في ذلك، لأنها في الإخبار عن قوم قد ماتوا وانقرضوا على النفاق، فلم يضمر للإرادة مفعول، وهو: أن يزيد في نعمائهم لانقطاع الزيادة بالموت عنهم، فعديت الإرادة إلى ما آل إليه حالهم من تعذيبهم، فصار المعنى: إنما يريد الله في حال إنعامه عليهم تعذيبهم به في الدنيا، ففرق بين الخبرين إذ كان أحدهما خبرا عن قوم معرضين لزيادة إنعام الله عليهم، والأخير خبرا عمن انقطعت أعمالهم وبلغت نعمة الله عليهم غاية لا مزيد فيها لهم، والله يريد تعذيبهم بذلك بعد كفرهم ومقامهم على نفاقهم. والجواب عن المسألة الرابعة وهي قوله في الأولى: (في الحياة الدنيا) فجعل الدنيا صفة للحياة، قوله في الآخرة: (في الدنيا) فأغنى بذكر الصفة عن ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 الموصوف هو أن الثانية لما كانت بعد الأولى، وقد نبه فيها على الموصوف، كان في ذكره هناك غنى عن ذكره في هذا المكان، لا سيما والدنيا كاسم علم للحياة الأولى وللدار الدنيا، فأغنى كل ذلك عن ذكر الحياة، والإتيان بالموصوف، وهذه حال الصفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 97 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (.. استأذنك أولو الطول منهم وقالوا منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين* رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) التوبة: 86-87. وقال بعدها في العشر التي تلي هذه العشر: (وإنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبه الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) التوبة: 93. للسائل أن يسأل هنا عن مسأليتين: إحداهما عن قوله في الأولى: (وطبع) بفعل مالم يسم فاعله وفي الثانية سمى فاعله بقوله:: (وطبع الله) . والمسألة الثانية قوله في الأولى: (فهم لا يفقهون) وفي الآخرة: (فهم لا يعلمون) . والجواب عن المسألة الأولى أن قوله تعالى: (وطبع) في آخر آية افتتحت بقوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة) التوبة: 86 والمعنى: وإذا أنزل الله سورة، فلما صدرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 الآية بفعل علم أن فاعله الله فيما لا يقتضي ذكر الفاعل به مزية، بل يقوم المفعول به مقام، كان مثل هذا الفعل في منتهى الآية محمولا عليه، لأنه معلوم أن الله تعالى يطبع، كما علم أن الله ينزل، فكانت التوفقة بين آخر الآية وأولها في ذلك هو الاختيار. والآية الأخرى وقعت هذه اللفظة منها في موضع إشباع وتأكيد، لا تراها في قوله: (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء) التوبة: 93 فجاءت إنما بعد نفي مكرر في قوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ... ) التوبة 91-92 فنفى الحرج عمن قعد عن الجهاد لإحدى المعاذير التي ذكرها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 ثم ألزم الحرج القوم الذين حالهم مضادة لأحوال أولئك، فقال: (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف..) أي الاثم يتوجه على من يستأذن في المقام، وهو قادر على الجهاد بالغنى واليسار وصحة الأبدان، رضوا بأن يكونوا مع النساء والزمنى والضعفاء، والله طبع على قلوبهم، فهم لا يعلمون، فلما كان هذا الموضع موضعا يتبين فيه مضادة حالهم لأحوال غيرهم لتخالف بين أفعالهم وأفعال من فسخ في القعود لهم، كان موضع تنبيه وتأكيد وتخويف وتحذير، فسمى الفاعل وهو الله تعالى ليليق الفعل إذا جاء هذا المجيء بمكانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 والجواب عن المسألة الثانية هو أن الذين ذكروا بالطول، وهو الفضل في النفس والمال والقدرة على الجهاد وإنما مالوا إلى الدعة، وأخلدوا إلى الراحة، وأشفقوا من الحر، ولم يفطنوا أن الراحة في تحمل التعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الدعة توجد بتحمل المشقة معه، فطلبوا ما كان مطلوبهم ضده لو فقهوا، وتفطنوا، فكان هنا موضع يفقهون. وأما الآية الأخرى وهي: (وإنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 العقاب يتوجه إلى هؤلاء، وهم الذين لا يعلمون ما أعد الله لكل ذي عمل محق عمله ما يعلمه المؤمنون الذين يستجبون للخروج، والذين تفيض أعينهم، إذ لم يعنهم بالركوب فلما كان بإزائهم في الآتين اللتين قبل، ذكر من تحقق، وعلم الثواب والعقاب على اليقين، وخالفهم هؤلاء، نفي عنهم ما أثبته لأولئك وهو العلم، فلذلك جاء في هذا المكان: (فهم لا يعلمون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 98 الآية السادسة قوله تعالى (..قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبئنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون) التوبة: 94. وقال بعده: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون) التوبة: 94. للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان: أحدهما: ذكر (والمؤمنون) في الآية الثانية، وتركه في الأولى. والسؤال الثاني: قوله في الآية الأولى: (ثم تردون) وفي الآية الثانية: (وستردون) وهل لاختلافهما معنى يوجبه ويخصصه بالمكان الذي يخصه؟ والجواب عن الأولى أن يقال: إن المخاطبين في الآية الأولى هم المنافقون، والمخاطبون في الثانية هم المؤمنون، لأنه قال في الأولى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبئنا الله من أخباركم..) والثانية قال قبلها (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم..) التوبة: 103 وبعدها: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ... ) التوبة: 104 ثم قال: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة: 105. وإذا اختلف المخاطبون بما بينا في الآيتين كان قوله: (وسيرى الله عملكم ورسوله) بعد قوله: (قد نبأنا الله من أخباركم) معناه: أن الله قد أخبرنا بأخباركم التي تخفونها في أنفسكم وتجاهرون بها من كان من المنافقين مثلكم، والله سيرى ما يكون منكم بعد، ويرى رسوله بإطلاع الله له عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 وأعمالهم التي لأجلها يحكم عليها بالإنفاق يراها الله تعالى ويطلع الله عليها صلى الله عليه وسلم، وما كل مؤمن يعلمها، فلذلك لم يقل في هذا المكان: (والمؤمنون) بعد قوله: (وسيرى الله عملكم ورسوله) . وأما الآية الثانية فإنها فيمن أمر الله تعالى نبيه وهم الذين أوجب عليهم الصدقات بأن يقول لهم: اعملوا ما أمركم الله تعالى به من الطاعات كالصلوات والصدقات، فإن الله ورسوله والمؤمنين يرون ذلك. وهذه الأعمال مما ترى بالعين خلاف أعمال المنافقين التي تقتضي لهم النفاق لإضمارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 خلاف إظهارهم، وهو مما لا يرى بالعين، وإنما يعلمه عالم الغيب، فلذلك لك يذكر (المؤمنون) في الأولى، وذكروا في الثانية. والجواب عن المسألة الثانية: أن معنى قوه للمنافقين: (..قد نبأنا الله أن أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله) أي: سيعلم الله حقيقة عملكم، وأنه عن غير صحة اعتقاد منكم، وأن اعتذاركم قول بلسانكم، لا يطابقه منطوى ضميركم، وهذا ظاهر، يكون الجزاء عليه خلافه، ففصل بينه وبين ردهم إلى الله تعالى للجزاء عليه بقوله: (ثم) أي: عملكم، يعلم الله من باطنه خلاف ظاهره، وقد أمرنا بالرضى به وحقن دمائكم له، ثم إن الحكم إذا رددتم إلى الله تعالى في الآخرة بخلافه، فلبعد ما بين الظاهر من عملكم، وما تجازون به دخلت ثم. وليست كذلك الآية الأخيرة، لأن قبلها بعثا على عمل الخير بقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة: 105 وهو وعد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 والأول وعيد، وبعده: (وستردون) لأنه وعد بما يشاكل أفعالهم ويطابق أعمالهم من حسن الثواب وجميل الجزاء، ولم يبعد عنها كبعد جزاء المنافقين عما هو ظاهر من أعمالهم التي يراؤونها بها، ويعلم الله تعالى خلافها منهم، فجرى الكلام على نسق واحد، فقال: (فسيرى الله) (وستردون) ولم تدخل ثم التي هي للتراخي والتباعد، فاختصاص كل موضع بما اختص به من اللفظ لما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 99 الآية السابعة منها قوله تعالى: (..ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا غريبا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله ليضيع أجر المحسنين) التوبة: 120. وقال بعده: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة: 121. للسائل أن يسأل في ذلك عن مسألتين: إحداهما: قوله تعالى في الآية الأولى: (إلا كتب لهم به عمل صالح) وقوله في الثانية: (إلا كتب لهم به) فحسب، ولم يذكر (عمل صالح) كما ذكر في الأولى. والمسألة الثانية: تعقيبه الأولى بقوله: (إن الله ليضيع أجر المحسنين) وتعقيبه الثانية بقوله: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ووجه الاختلاف في هاتين الآيتين. والجواب عن المسألة الأولى هو أن في جملة ما ذكره تعالى مما أوجب لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 الأجر ليست من أعمالهم، لأن الظمأ ليس هو من فعل الإنسان والنصب والمخمصة كذلك فلما تضمن مما نسق بعضه على بعض ما ليس بعمل لهم وما هو عمل لهم بقوله: (ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا) الحق أجر ما ليس بعمل لهم بما هو عمل لهم فقط فقال: (إلا كتب لهم به عمل صالح) أي أجر عمل صالح. وما ذكر الله تعالى في الآية الثانية كله من أعملهم، وهو قوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم) أي: لا يخرجون من أموالهم ما دق أو جل، ولا يقطعون في مسيرهم على أعدائهم واديا إلا كان ذلك محفوظا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 لهم معلوما مكتوبا، أو كالمكتوب عند الله تعالى ليجزيهم عليه أحسن الجزاء فلما كان ما في الثانية عملهم كتب على جهته، ولم يحتج إلى أن يكتب بع عمل صالح، لأنه هو والأول كان فيه ما ليس بعملهم فكتب به أجر مثل عملهم، فلذلك كانت الزيادة في الأولى ولم تحتج إليها الأخرى. والجواب عن المسألة الثانية وهي تعقيب الأولى بقوله: (إن الله لا يضيع أجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 المحسنين) هو أن من أخبر عنه بأنه أصابه ظمأ ونصب وجوع، فقد أخبر عنه بفعل غيره، ولم يخبر عنه بفعل فعله هو، إلا أنه يحسب له بما وصل إليه من ألم العطش والجوع والتعب والنصب الأجر، فلذلك عقبه بقوله: (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي: أجر من أحسن طاعة اللع وتعرض منها لما تلحقه فيه هذه الشدائد. وأما الآية الثانية وتعقيبها بقوله: (ليجزيهم) الله أحسن ما كانوا يعملون فلأن جميع ما ذكر كان عملا لهم، فوعدهم حسن الجزاء على عملهم وذلك ظاهر والله أعلم. انقضت سورة براءة عن سبعة مواضع فيها ثلاثة عشرة مسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 سورة يونس عليه السلام 100 الآية الأولى منها قول تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم..) يونس: 18 وقال في سورة الفرقان55: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ... ) للسائل أن يسأل عن تقديم (يضرهم) على (ينفعهم) في الآية الأولى، وتقديم (ينفعهم) على (يضرهم) في الآية الثانية؟ وهل صلح أحدهما مكان الآخر؟ . فالجواب ان يقال: إنما قدم: (ما لا يضرهم) على (لا ينفعهم) في الآية الأولى لأن العبادة تقام للمعبود خوفا من العقاب أولا، ثم رجاء للثواب ثانيا، وقد تقدم في هذا المكان ما أوجب تقديم (ما لا يضرهم) على (لا ينفعهم) في الآية الأولى، وهو قوله: (..إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) يونس: 15 فكأنه قال: ويعبدون من دون الله ما لا يخافون ضررا في معصيته، ولا يرجون نفعا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 طاعته، فتقدم (ما لا يضرهم) على (لا ينفعهم) في هذا المكان لهذا المعنى ولهذا اللفظ المتقدم. وأما سورة الفرقان فقد تقدمت فيها آيات قدم فيها الأفضل على الأدون كقوله عز وجل: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج..) الفرقان: 53، وكقوله بعده: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) الفرقان: 54، وصلة النسب أفضل من صلة المصاهرة، كما أن العذب من الماء أفضل من الملح، وقال بعده: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم) أي: يتكلفون المشقة بعبادة ما لا يرجونه لنفع، ولا يخشونه لضر، فقدم الأفضل على الأدون لهذا المعنى، وللبناء على ما تقدم من الآيات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 فجاء في كل موضع على ما اقتضاه ما تقدم، وصح المعنى الذي اعتمد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 101 الآية الثانية منها قوله تعالى (.. فلماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون* كذلك حقت كلمة ربك الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) يونس: 32-33. وقال في سورة المؤمن 5-6 (..وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب* وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) . للسائل أن يسأل في هاتين الآيتين عن ثلاث مسائل: إحداهما: دخول الواو على (كذلك) في سورة المؤمن وخلوها منها في سورة يونس. والثانية قوله في الأولى: (على الذين فسقوا) وفي الثانية: (على الذين كفروا) . والثالثة: قوله في يونس: (أنهم لا يؤمنون) وفي المؤمن (أنهم أصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 النار) . والجواب عن المسألة الأولى، وهي ترك الواو في هذا الموضع وإثباتها في سورة المؤمن: أن القصة بعد (كذلك) هي التي قبلها، فهي مرتبطة بها بعودها إليها، وبكاف التشبيه، فاستغنت بهذين الرابطين عن حرف العطف، هؤلاء الذين حقت عليه كلمة الله، أنهم لا يؤمنون، هم الذين خوطبوا بقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض ... ) يونس: 31. وليس كذلك ما في سورة المؤمن، لأنه وإن تعلق به بكاف التشبيه فإنه ينقطع عنه بأن المذكورين بعد كذلك غير المذكورين قبلها، ألا ترى أن قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل..) المؤمن: 5 خبر عن الذين كانوا قبل النبي وما بعد قوله: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) المؤمن: 6 إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 هو وعيد لمن هو في عصره عليه الصلاة والسلام، فلمت انقطع ما بعد كذلك هنا عما قبلها احتاج إلى الواو، وما في سورة يونس لما لم ينقطع ما بعدها عما قبلها لم يحتج إليها. والجواب عن اختصاصه بقوله (على الذين فسقوا) في سورة يونس، واختصاص ما في سورة المؤمن بقوله: (على الذين كفروا) فلأن الأول في ذكر قوم أخبر عنهم بقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض..) يونس: 31 فأخذ إقرارهم بأن الله تعالى هو الذي يرزقهم من مطر السماء ونبات الأرض، وهو الذي يملك أسماعهم وأبصارهم، فإن أحب سمعوا وأبصرواـ وإن لم يرد ذلك صمو وعموا، وهو الذي يخرج الحي من الميت كالفرخ من البيضة، ويخرج الميت من الحي كالبيضة من الدجاجة، وأنه هو الذي يدبر أمور الخلق من ابتداء أحوالهم إلى انتهائها، وكانوا ممن أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ( ... والذين اتخذوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ... ) الزمر: 3 فباينوا بإثبات الصانع وما زعموه من معرفة الخالق من أنكره وجحد بآياته، وفسقوا بأن عبدوا معه غيره، ولم يثبتوا النبي ونبوته الفسق الذي هو كفر لا ينفع معه الإقرار الاول، فقال تعالى: هؤلاء الذين أقروا بالصانع وصفات فعله، ثم خرجوا عما دخلوا فيه بإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعبادة آلهة مع الله تعالى كان ذلك فسقا لخروجهم عن حكم من يقر بما أقروا به، والفسق فسقان: أحدهما هو الكفر، وتسميته به لهذا الوجه الذي قلناه، وهو كقوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) السجدة: 20. والثاني فسق ليس بكفر كقوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) النور: 4 ليس المراه بهد الكافرين، فأخبر عن هؤلاء بـ (الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 فسقوا) في سورة يونس لذلك. وأما في سورة المؤمن فإنه لم يتقدمه مثل ما تقدم هنا، بل قال تعالى قبله: (ما يجادل في آيات الله الذين كفروا فلا يغررنك تقلبهم في البلاد* كذبت قبلهم قوم نوح ... ) المؤمن: 4-5 فأخبر عن الكفار الذين في عصره بأنهم كفروا بمجادلتهم في آيات الله، فشبههم بالقوم الذين مضوا قبلهم حيث قال (..وهمت كل أمة بسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق..) المؤمن: 5 ثم قال تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) المؤمن: 6 فلما أراد الذين قدم ذكرهم من أول القصة، وهو الذين أخبر عنهم بقوله) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررنك تقلبهم) المؤمن: 4 كان أن يصفهم بما وصفهم به قبل من الكفر أولى وأدل على أن المعنيين بوجوب النار لهم، هم الذين قدم ذكرهم. والجواب عن المسألة الثالثة، وهي: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا ؤمنون) يونس: 33 وقوله في سورة المؤمن 6: (أنهم أصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 النار) فلأنه تعالى أراد أن يبين أنهم وإن أقروا بالله تعالى وأثبتوه خالقا قادرا صانعا غير مؤمنين، وما داموا يعبدون غير لا يؤمنون، فالقصد إلى إبطال ما بذلوه بألسنتهم من الإقرار بخالقهم، والقصد في الآية التي في سورة المؤمن توعدهم على كفرهم بالنار إذ لم يتقدم ذكر إقرار يشبه إقرار المؤمنين، فيبطل بتركهم سائر ما أمر الله تعالى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 102 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكقرهم لا يعلمون) يونس: 55. وقال بعده في العشر التي تلي هذه العشر: (ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ... ) يونس: 66. وقال بعده في هذه العشر: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا .... ) يونس: 68. للسائل أن يسأل في ذلك عن مسائل: إحداهما: لماذا كان في الآية الأولى: (ما في السموات والأرض) وفي الثانية: (من في السموات ومن في الأرض) وهل صلح من في الآية الأولى، وما في الثانية؟ والمسألة الثانية: ما الذي دعا إلى التوكيد في من حتى أعدت في قوله: (ومن في الأرض) ، ولم تعد ما في الآية الأولى عند ذكر الأرض؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 والمسألة الثالقة عما دعا إلى تكرير ما في قوله: (له ما في السموات وما فيالأرض) ولم يكررها في الآية الأولى في قوله:: (ألا إن لله ما فغي السموات والأرض..) ولم يقل: وما في الأرض؟ . فالجواب عن المسألة الأولى، واختصاص ما حيث اختصت، واختصاص من حيث اختصت، هو أن الأولى جاءت بعد قوله تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به..) ونس 54، فكان المعنى: أن النفس الظالمة إذا رأت عذاب الله تعالى لو ملكت جميع ما في الأرض لبذلته في فداء نفسها، وهي تحرص على اليسير من حطامها في ظلم أهلها، فكرر على ذلك بقوله: (ألا إن لله ما في السموات والأرض) يونس 55 أي أن النفس الظالمة لا تملك ما في الأرض فتفتد به، ولو ملكته لما قبل في فدائها، وكيف يكون لها ذلك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 والله تعالى مالك ما في السموات والأرض، وليس للعبد ذلك، ولا محله هنالك، يوجب لهذا المكان ما لقوله: (ما في السموات والأرض) ، والمراد: نفائس ما في الأرض مما ملكه الله تعالى العباد. وأما الموضع الذي ذكر فيه من فلم يصح فيها غيرها، لأن قبله (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم* ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض) يونس: 65-66 والمعنى: لا يحزنك ما يتوعدك به الكفار من القتل وأنواع المكروه فغن العزة لله تعالى، لا يمنح الكفار قدرة على ما يريدونه منك، بل يعطيك القدرة عليهم، والغلبة لهم، فإنه يملك من في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 السموات ومن في الأرض، ولا قوة لهم إلا به، ولا قدرة لهم إلا من عنده، فاقتضى هذا المكان من كما رأيت. والجواب غ عن المسألة الثانية، والسبب في إعادة من فيها، وترك إعادة ما في الآية الأولى فقال: (ومن في الأرض) وقال هناك: (ألا إن لله ما في السموات والأرض) ولم يقل: ما في الأرض، فلأن المقصود بالذكر أنه قادر على أن يكفي النبي أمره هو، من في الأرض من الكفار الذين بعث إليهم وخوفوه أذاهم، فقرن إلى ذكرهم ذكر من في السموات، وهم أكبر شأن وأعظم أمرا، فإذا ملكوا كان من دونهم أدون، فإعادة من مع ذكر الأرض للتوكيد الذي اقتضاه القصد إلى ذكرهم. وأما حذف ما في الآية الأولى عند ذكر الأرض فلأن ذكرها قد تقدم، وهو: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض) فلما قال: (ألا إن لله ما في السموات والأرض) كان ما في ذكر الأرض هناك، ورجوع هذا إلى ذلك المعنى مثل ذكره في هذا الموضع، فأغنى ذلك عن التكرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 والجواب عن المسألة الثالثة، وهي تكرير ما في قوله تعالى: (..له ما في السموات وما في الأرض) يونس: 68 مع حذفها من الآية الأولى، هو أن قبله: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض) يونس: 68 فنزه نفسه تعالى عن الولد، وأخبر أنه غني عما يجلب باتخاذه، ويستفاد بمكانه، إذ كان مالكا لكل ما في السموات وما في الأرض، فكان الموضع موضع توكيد، فكأنه قال: إذا كان له كل ما في السموات وما في الأرض، فلماذا يتخذ الولد؟ ولا يجوز عليه اجتلاب مسرة وانتفاع به، لأنه هو الغني بنفسه، فإعادة ما في هذا المكان لهذا الضرب من التوكيد، أي هو غني لا يحتاج إلى ولد يعينه على شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 مما في السموات، وهو مالك له كله، ولا إلى أن يعينه على شيء مما في الأرض، وهو مالك له بأسره، فلما تأكد الكلام في مثل هذا المكان جاءت ما معادة لهذا الشأن والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 103 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (.. وأمرت أن أكون من المؤمنين) يونس: 104. وقال في سورة النمل في آخرها 91: ( ... وأمرت أن أكون من المسلمين) للسائل أن يسأل عن اختصاص هذا المكان ب (المؤمنين) واختصاص آخر سورة النمل ب (المسلمين) ؟ والجواب أن يقال: أن قبل هذه الآية في سورة يونس قوله تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) يونس: 103 فقال بعده: وأمرت أن أكون منهم. وأما في سورة النمل فإن قبل هذه الآية منها: ((وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) النمل: 81 فكأنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 وأمرت أن أكون ممن إذا سمع بآياته آمن بها، وكان من المسلمين الذين مدحوا بأن النبي يسمعهم، إذا ينتفعون بما يسمعونه منه، فلما تقاربت اللفظتان وكانتا تستعملان لمعنى واحد، حملت كل واحدة منهما على اللفظ الذي تقدمها ولا ئمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 104 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) يونس: 108. وقال في آخر سورة النمل 92: (فمن اهتدى فإنما يهدتي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) . للسائل ان يسأل عن اختلاف الموضعين، وقوله في الأولى: (ومن ضل فإنما يضل عليها) وفي الثانية (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) ؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى فإنه لما قال فيها: (فمن يهتدي لنفسه) أي منفعة اهتدائه له، وهي دوام النعمة والخلود في الجنة فاقتضى هذا في الضلال ضده، فقال: ((ومن ضل فإنما يضل عليها) أي ضرر ضلاله عليه، وهو دوام العقاب بأليم العذاب (وما أنا عليكم بوكيل) ولا يلزمني أن أقيكم ما لا تقونه أنفسكم كالوكيل الذين يلزمه حفظ ما وكل به مما يضره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 وأما في الآية الثانية في آخر سورة النمل فإنها عدل بها عند ذكر الضلال عما حملت عليه في الآية التي في آخر سورة يونس لتحمل على الفواصل التي قبلها وهي مختومة بالواو والنون، أو الياء والنون، فقال تعالى (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي: ممن يعلمكم ما يلزمكم أن تحذروه ويخوفكم ما يجب عليكم أن تجتنبوه فاشتمل هذا على معنى: (ومن ظل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) لأن في قوله تعالى: (فإنما يضل عليها) أي: لست ممن يكره على ما يحميكم من النار، ويقيكم حر العقاب كالوكيل الذي يحامي على/ ما وكل به أن يناله ضرر، مثل (وما أنا عليكم بوكيل) فجاء على لفظ (إنما أنا من المنذرين) لتكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 الفاصلة مشاكلة للفواصل التي قبلها مع تأدية مثل المعنى الذي أدته الآية التي شابهتها. انقطعت سورة يونس عن خمس آيات فيها تسع مسائل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 سورة هود عليه السلام (105) الآية الأولى منها: قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) (هود: 22) . وقال في سورة النحل (109) : (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) . للسائل أن يسأل عما خصص كل واحد من اللفظين بمكانه دون الآخر؟ والجواب أن يقال: إن الآية التي في سورة هود قد تقدمها قوله: ( ... وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) (هود20) وإنما قال: (يضاعف لهم العذاب) لأنه خبر عن قوم أخبر عنهم بالفعل الذي استحقوا به مضاعفة العذاب في قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم الكافرون) (هود19) فإذا صدوا هم عن الدين صدودا، وصدوا غيرهم عنه صدا استحقوا تضعيف العذاب، لأنهم ضلوا وأضلوا، فهذا ل (الأخسرين) دون (الخاسرين) من طريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 المعنى، وهاهنا ما يضامه من طريق اللفظ، وهو أن ما قبله من الفواصل (يبصرون) (هود: 20) (وضل عنهم ما كانوا يفترون) (هود: 21) قبل نونه وواوه متحركان، مستندان إلى ما قبلهما، فاجتماع المعنى الذي ذكرناه، والتوفقة بين الفواصل التي بينا أوجبا اختيار (الأخسرين) في هذا الموضع على (الخاسرين) . وأما التي في سورة النحل فإنها في آية لم يخبر فيها عن الكفار بأنهم مع ضلالهم أضلوا من سواهم، وإنما قال فيهم: (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله يهدي القوم الكافرين) (النحل: 107) فلم يذكر ما يوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 مضاعفة العذاب، ثم كانت الفواصل التي حملت هذه عليها وزان (الكافرين) و (الغافلين) فاقتضى هذان الشيئان أن يقال: (هم الخاسرون) كما اقتضى السببان في الأولى المخالفان للسببين هنا أن قال: (الأخسرون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 (106) الآية الثانية منها: قوله تعالى في قصة نوح: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده ... ) (هود: 28) . وقال في قصة صالح عليه السلام في هذه السورة: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ... ) (هود: 23) . للسائل أن يسأل عن مخاطبة النبيين نوح وصالح على نبينا وعليهما السلام. قوميهما باللفظين تساويا إلا فيما اختلفا فيه من تقديم المفعول الثاني في الآية الأولى على الجار والمجرور، وتأخيره عنهما في الآية الثانية؟ والجواب أن يقال: إن المعنيين واحد في الموضعين، وقول النبيين سواء لأمتيهما، وإنما اختلفا بإخبار الله تعالى في موضع خبر قدم فيه المفعول الثاني على الجار والمجرور، لإجراء هذا الفعل ومفعوليه على ما جرى عليه الفعل الذي قبله، وهو: ( ... ما نراك إلا بشرا مثلنا ... ) (هود: 27) ف (بشرا) مفعول ثاني من/ (نراك) ، وقوله: (وما نراك اتبعك) (هود: 27) ، فـ (اتبعك) في موضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 المفعول الثاني من (نراك) ثم بعده:: (بل نظنكم كاذبين) هود: 27 فلما تقدمت أفعال ثلاثة كل واحد منها يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الثاني منهما لا يحجزه عن الأول معمول فيه، كان إجراء هذا الفعل الذي هو: (وآتاني رحمة من عنده) مجرى تلك الأفعال التي وقعت (آتاني) في جوابها، وجاءت من كلام نوح عليه السلام في مقابلتها أولى. وأما في قصة صالح عليه السلام فإنه بإزاء قول قومه له: (..يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا..) هود: 62 فوقع خبر كان الذي هو كالمفعول لها، وقد تقدمه الجار والمجرور، فجرى جواب صالح عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 فيما صار عبارة عنه من العربية مجرى الإبتداء في هذا المعنى، فترجح في هذا المكان تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وآتاني منه رحمة) على المفعول الثاني، كما ترجح هناك تقديم المفعول الثاني على الجار والمجرور وكل جائز إلا أن كلامنا في الترجيح في الموضعين وفي هذا القدر كفاية والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 107 الآية الثالثة منها قوله تعالى في قصة سورة هود عليه السلام وذكر قومه: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) هود: 60. وقال في قصة موسى عليه السلام في هذه السورة وإرساله إلى فرعون وملئه: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) هود: 99. للسائل أن يسأل عن حذف (الدنيا) من الآية الثانية وإثباتها في الأولى، وهل كان يجوز في الاختيار عكس ذلك؟ والجواب أن الاولى أتى فيها بالموصوف والصفة جميعا، وهو الأصل الأول، ثم الاكتفاء بالصفة عن الموصوف بعده لقيام الدلالة على الموصوف، فيجوز لذلك حذفه، وإقامة الصفة مقامه. ولما جاءت الآيتان في سورة واحدة وفيت الأولى ما هو بها أولى من الإجراء على الأصل، والإتيان بالموصوف والوصف فقال تعالى: (في هذه الدنيا) واكتفى في الثانية لما قامت الدلالة على الموصوف بالصفة وحدها فقال: (وأتبعوا في هذه لعنة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 108 الآية الرابعة منها قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) هود: 62. وقال في سورة إبراهيم عليه السلام 9: (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) . للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: (وإننا لفي شك) على الأصل و (مما تدعونا) بنون واحدة، وقال في الثانية: ((وإنا لفي شك) على التخفيف، بحذف إحدى النونات وهي المتوسطة، ثم جاء بعده: (تدعوننا) بنونين؟ والجواب أن يقال: أما (تدعونا) في الأولى و (تدعوننا) في الثانية، فلا يصح مكانهما غيرهما، فلا يجوز في الأولى إلا نون واحدة ولا يجوز في الثانية إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 نونان اثنتان، لأن الأولى خطاب لصالح عليه السلام، والنون مع الألف ضمير المتكلم، وتدعو فعل واحد، لا نون فيه، وليس كذلك تدعوننا الثانية، لأنه خطاب للرسل، وهم جماعة، ولا يقال لهم في حال الجمع إلا تدعوننا عند الرفع، ولا تسقط النون إلا لناصب أو جازم، نحو لن تدعونا ولم تدعونا فأما إذا رفعت خطاب الجماعة لم تكن إلا تدعوننا وهذا من مبادئ هذا العلم. وأما (إننا) في الأولى، و (إنا) في الثانية مع جواز اللفظين في كل مكان، فلأن الضمير الذي دخلت عليه إن في هذا المكان هو على لفظ ضمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 المنصوب المتصل بالفعل في قوله تعالى: (أتنهانا) وضمير المنصوب إذا اتصل بالفعل لم يغير له آخره كما يغير إذا اتصل به ضمير المرفوع، نحو ضربنا تسكن لصالح عليه السلام، والنون مع الألف ضمير المتكلم، وتدعو فعل واحد، لا نون فيه، وليس كذلك تدعوننا الثانية، لأنه خطاب للرسل، وهم جماعة، ولا يقال لهم في حال الجمع إلا تدعوننا عند الرفع، ولا تسقط النون إلا لناصب أو جازم، نحو لن تدعونا ولم تدعونا فأما إذا رفعت خطاب الجماعة لم تكن إلا تدعوننا وهذا من مبادئ هذا العلم. وأما (إننا) في الأولى، و (إنا) في الثانية مع جواز اللفظين في كل مكان، فلأن الضمير الذي دخلت عليه إن في هذا المكان هو على لفظ ضمير المنصوب المتصل بالفعل في قوله تعالى: (أتنهانا) وضمير المنصوب إذا اتصل بالفعل لم يغير له آخره كما يغير إذا اتصل به ضمير المرفوع، نحو ضربنا تسكن الباء لاتصالها ضمير الفاعلين بها، ولا تسكنها لاتصال ضمير المفعولين بها، إذا قلت: ضربنا فلما أشبه المنصوب ب إن المنصوب في ضربنا، ولم ينازعه شبه الفاعل، سلم لفظ إن عند اتصالها به، ولم يلحقه حذف. ولما كانت إنا في سورة إبراهيم وإن كانت منصوبة مشبهة للفظ الفاعل، إذا قلت ضربنا بكونها على لفظها، وبوقوعها موقع المرفوع المبتدأ، وبأن هذا اللفظ المتقدم عليها في الآية التي قبلها هو ضمير المرفوع خلاف ما تقدم في الآية في سورة هود، وهو قوله (كفرنا بما أرسلتم به) إبراهيم: 9، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 وقبل ذلك ضمير مرفوع على غير هذا اللفظ للذين لهم هذا اللفظ، وهو الواو في قوله تعالى (فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) ثم قوله تعالى: (إنا كفرنا) حذفت منها النون تشبيها للضمير بعدها بالضمير المرفوع بعد الفعل، وكما أن الفعل يلحقه حذف حركة عند اتصال هذا الضمير به، وكان الضمير الذي يحذف من إن النون، حذفت لينقص لفظها عند اتصاله بما هو كالضمير المرفوع لفظا ومعنى، وموقعا، حملا على ما تقدم، عما يكون عليه إذا لم يواصله، وجاءت تدعوننا على مقتضى الإعراب الواجب لها بنونين. فهذا فرق ما بين الموضعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 109 الآية الخامسة منها قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا ف ديارهم جاثمين) هود: 67. وقال في هذه السورة في قصة شعيب عليه السلام: (..وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود: 94. للسائل أن يسأل عن اختلاف الفعلين في اتصال علامة التأنيث بأحدهما، وسقوطها من الآخر، مع أن الفاعل فى الموضعين شيء واحد وهو (الصيحة) مع أن الحاجز بين الفعل والفاعل في المكانين حاجز واحد، وهو (الذين ظلموا) ؟ والجواب أن يقال: إن مثل هذا إذا جاء في كلام العرب سهل الكلام فيه، لأنه يقال: حمل على المعنى، والصيحة بمعنى الصياح، كما أن قول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 حمل على المعنى إذ الصوت بمعنى الصيحة. غير أن السؤال الذي بنيت الآيات لازم، وهو أن يقال: فهل كان يجوز مكان أخذت أخذ في القرآن؟ وهل لتخصيص قصة شعيب ب أخذت فائدة ليست لها قصة صالح عليه السلام. والجواب عن هذا الموضع هو أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن العذاب الذي أهلك به قوم شعيب عليه السلام بثلاثة ألفاظ: منها (الرجفة) في سورة الأعراف فيقوله: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون* فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين* الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) الأعراف: 90-32 وذكر ذلك قبله في مكان آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 ومنها (الصيحة) في سورة هود في قوله تعالى: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين) هود: 94. ومنها (الظلة) في سورة الشعراء 89 في قوله تعالى: (فأخذهم عذاب يوم الظلة) . وفي التفسير أن هذه الثلاث جمعت لإهلاكهم واحدة بعد أخرى، لأن الرجفة بدأت بهم فانزعجوا لها عن الكن إلى البراح، فلما أصروا نال منهم حر الشمس وظهرت لهم ظلة تبادروا إليها، وهي سحابة سكنوا إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 روح ظل تحتها فجاءت الصيحة فهمدوا لها. فلما اجتمعت ثلاث أشياء مؤنثة الألفاظ في العبارة عن العذاب الذي أهلكوا به غلب التأنيث في هذا المكان على المكان الذي لم تتوال فيه هذه المؤنثات، فلذلك جاء في قصة شعب: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 110 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) هود: 68. للسائل أن يسأل عن صرف ثمود في قوله تعالى: (ألا إن ثمودا) ، ومنه الصرف بعد قوله تعالى: (ألا بعدا لثمود) وهل كان يجوز أن يمنع الصرف في اللفظ الأول ويصرف اللفظ الثاني؟ والجواب أن يقال: الأول بالصرف أولى، والثاني بالامتناع منه أحق، لأنه في الأول ينحي به نحو الأب والأقربين من أولادهم في الكفر، وإذا قصد هذا القصد انصرف هذا الاسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 وفي الثاني قصد ذكر الإهلاك وكان للقبيلة بأسرها لما أصرت عليه من كفرها، فنحى نحو القبيلة، فمنع الصرف للتعريف والتأنيث الحاصلين فيما خرج عن أخف الأصلين، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) هود: 95 فالكفر من أولهم، والإهلاك قصد به ذكر كلهم، فكان معنى القبيلة به أولى. وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 111 الآية السابعة منها قوله تعالى: قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 81. وقال في سورة الحجر 65: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون) . للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان: أحدهما: أن يقول: إنه استثنى في سورة هود من قوله تعالى (فأسر بأهلك بقطع من الليل) قوله: (إلا امرأتك) ولم يستثن ذلك في سورة الحجر؟ والثاني: قوله تعالى في سورة الحجر: (.. واتبع أدبارهم) وتركه في سورة هود؟ والجواب عن المسألة الأولى: أن الاستثناء في سورة الحجر أغنى منه قوله تعالى فيما حكى عن الرسل: (..إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين* إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين* إلا امرأته إنها لمن الغابرين) الحجر: 58-60، فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 الاستثناء الذي لم يقع مثله في سورة هود أغنى عن الاستثناء في قوله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) . والجواب عن المسألة الثانية أن يقال: إنه لما اقتص في هذه السورة بعض ما اقتص في الأحرى، فذكر أن الرسل قالوا له: (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) هود: 81 والمعنى: لن يصلوا إليك وإلى المؤمنين من أهلك، قيد ذلك في قوله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 81. بأن أمروه بإخراج أهله من بين أظهرهم ليلا من غير أن يعرج أحد منهم على شيء خلفه يعوقه عن المضي إلى حيث ما أمر به. ولما قال في سورة الحجر: (إنا لمنجوهم أجمعين* إلا امرأته) اخبارا عن الرسل أنهم خاطبوا إبراهيم عليه السلام به، ثم أخبر عن مخاطبتهم لوطا في هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 السورة بما يضاهي قولهم لإبراهيم عليه السلام، أردفوا قولهم له: (فأسر بأهلك) بقولهم: (واتبع أدبارهم) لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم كان تحقيقا لخبرهم أنهم منجوهم أجمعين، فزيد: (واتبع أدبارهم) لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم كان من ورائهم كان تحقيقا لخبرهم أنهم منجوهم أجمعين، فزيد: (واتبع أدبارهم) لتجاوب مخاطبتهم له مخاطبتهم لإبراهيم عليه السلام بسببه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 112 الآية الثامنة منها حكم هذه الآية يكون ذكرها في سورة الأعراف، ثم لما تأخرت وجب أن تذكر في سورة العنكبوت، إلا أنا رأيناها تتعلق بهذه السورة فذكرناها فيها، وهي: قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله) الأعراف: 85، هود: 84. ومثله في سورة العنكبوت، يخالفه بزيادة الفاء، وهو قوله: (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله) العنكبوت: 36. ففي كل القرآن: (وإلى مدين أخاهم شعبيا قال يا قوم اعبدوا الله) وفي سورة العنكبوت خصوصا فقال. للسائل أن يسأل عن اختصاص هذا المكان بالفاء، وخلو المكانين قبله منها؟ والجواب أن يقال: إن مفتتح قصص الأنبياء عليهم السلام في سورة الأعراف قوله تعالى: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) الأعراف: 59 وبعده: (وإلى عاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 أخاهم هودا) الأعراف: 65 وبعده: (وإلى ثمود أخاهم صالحا) الأعراف: 73، وبعده: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) الأعراف: 85 وكذلك في سورة هود على هذا النسق، وإلا أن قصة نوح عليه السلام مفتتحة بالواو: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) هود: 25 وهي في سورة الأعراف بلا واو، وقد ذكرنا السبب في ذلك. فلما تساوت هذه المعطوفات على المعطوف عليها الأول، فكان الفعل المضمر للمعطوف مثل المظهر أولا في التعلق بالمرسل والمرسل إليهم، كعاد المرسل إليهم هود، وكثمود المرسل إليهم صالح، وكمدين المرسل إليهم شعيب عليه السلام جرى الجمع مجرى واحدا، فكان التقدير: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وأرسلنا إلى مدين شعيبا، ولم يعترض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 بين القصص ما أضمر فيه، خلاف ما أظهر قبل، وهو: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) هود: 25. وكان الأمر في ذلك في سورة العنكبوت مخالفا بعض المخالفة، لأن هـ افتتحت القصة بقوله: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت: 14 وجاءت بعدها قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام، فلم تجريا على الفعل الأول في التعلق بالمرسل والمرسل إليهم كما كان ذلك في قصة هود وصالح عليهما السلام في السورتين، بل جاء بعد قوله: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) قوله: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه) العنكبوت: 16 وقوله: (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) العنكبوت: 28، فلم يكن المعطوف على قصة نوح في هذه السورة كالمعطوف عليها فيما تقدم من سورتي الأعراف وهود، ولم يتعد الفعل المضمر تعدي الفعل المظهر، وكان جائزا أن يكون المعنى: واذكر إبراهيم إذ قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 لقومه، واذكر لوطا إذ قال لقومه، ثم جاءت قصة شعيب عليه السلام فأجريت مجرى القصة الأولى التي هي قصة نوح عليه السلام في تعدي الفعل فيها إلى المرسل وإلى المرسل إليهم وقد تخلل ذلك ما ليس مثله من الأفعال المضمرة، فجاء: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) العنكبوت: 36 فأقيمت فيها دلالة على أن هذه القصة مجراه مجرى القصة البعيدة عنها دون القريبة منها وكانت الأولى يتساوى عطفها على ما قرب منها، وبعد عنها لاستواء الفعل المظهر والمضمر، فكانت تلك الدلالة التي تدل على أنها مردودة إلى القصة الأولى أن تتلقى بما تلقيت به تلك من الفاء مع صحة المعنى، فلما كان: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة) العنكبوت: 14 قبل (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله) العنكبوت: 36 تعلق ما بعدها بالفاء، كما كانت الفاء في قوله: (فلبث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 فيهم) لما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 113الآية التاسعة منها قوله عز وجل: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين* إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) هود: 96 -97. وقال في سورة المؤمن 23-24: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين* إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) . وقال في سورة الزخرف 46: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين) . للسائل أن يسأل فيقول: السلطان المبين من آيات الله، فلم جاء في الآيتين المتقدمتين مع ذكر السلطان المبين ولم يجيء في الآية الأخيرة، إلا الآيات وحدها؟ والجواب أن يقال: إن الآيات: الأمارات التي يكتفي بها في صدق الرسل عليهم السلام، وبها تقوم الحجة على من تبعث إليهم، والسلطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 المبين هو الحجج القاهرة التي تقهر القوم، كأنواع العذاب التي أنزلت على قوم موسى عليه السلام، وكانت عند قوله. فلما كان القصد في الآيتين المتقدمتين ذكر جملة أمرهم إلى منتهى حالهم من هلاك الأبد انطوت تلك الجملة على جميع ما احتج به عليهم إلى أن زال التكليف عنهم، وأخبر عن مستقرهم من العقاب الدائم عليهم ألا ترى الكلام في الآية الأولى في سورة هود ينساق إلى قوله: (وما أمر فرعون برشيد*يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) هود: 97-98، وكذلك في الآية الثانية ينساق الكلام فيها إلى قوله: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب* النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) غافر: 45- 46 فذكر في الآيتين جميع ما احتج به عليهم من الآيات التي سخروا بها عند رؤيتها، والآيات التي فزعوا إلى مسألته عند مشاهدتها في كشفها لقوله تعالى: (ولما وقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 لك) الأعراف: 134. وأما الآية الثالثة التي اقتصر فيها على ذكر آياتنا دون السلطان المبين وهي التي في سورة الزخرف 46-47: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين* فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) فلم يكن القصد إلى ذكر جملة مما عوملوا به في الدنيا وانتهائه بهم إلى عذاب الأخرى، بل كان بعده: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) الزخرف: 48 فاقتص ما عوملوا به حالا بعد حال إلى أن أهلكوا في الدنيا، حيث قال: (فأغرقناهم أجمعين* فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) الزخرف: 55-56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 فإن قيل: فقد قال تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين) المؤمنون: 45-46 ولم يذكر في هذه القصة أحوالهم المنتهية إلى عقاب الأبد. قلت: أولا ليست الآية على سنن الآي التي ذكرنا مما افتتح بقوله: (ولقد أرسلنا) هود: 96، المؤمنون: 23 وهي إن افتتحت بقوله: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون) المؤمنون: 45 فإنها مثل الآيتين المتقدمتين في تضمنها ذكر الجملة من أحوالهم إلى ما كان من هلاكهم لقوله: (فكذبوهما فكانوا من المهلكين) المؤمنون: 48 والمهلكون في الحقيقة هم المعاقبون بالنار والخلود فيها، نعوذ بالله منها. فقد صار كل ما ذكر فيه مع آياتنا وسلطان مبين هو ما اشتمل على جملة ما عوملوا به إلى أن استقروا مقرهم من عذاب الله الدائم عليهم. وحقيقة السلطان من السليط، وهو الزيت الذي يضيء به السراج، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 والسلطان: الحجة، لأنها تضيء فتبين الحق من الباطل، والسلطان الذي يملك الناس ضياء يدفع ظلام الظلم عنهم، إذ كانوا لولا هو لصاروا من التغاور والتناهب في ظلام يتزايد ولا يتناقص، كأنه ضياء يجلو ظلام الدنيا، والآيات التي جاءت بعد التوراة والعصا واليد جاءت وقد أنارت وأوضحت عندهم الحق حتى سألوا أن يمهلوا ليؤمنوا إذا كشف عنهم ما أظلم، فإن عادوا بعد كشفه جللهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 114 الآية العاشرة منها قوله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلكها مصلحون) هود 117. وقال في سورة القصص 59: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) . للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: (وما كان ربك ليهلك القرى) وبين قوله: (وما كنا مهلكي القرى) وكيف اختصت الآية التي في سورة هود بلفظ الفعل في خبر كان، والأخريان بالاسم وهو مهلك؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه اللام تسمى لام الجحود، ولا تخلوا منه، وهي تخالف لام كي بأشياء. منها: إن لام كي يصلح إظهار أن بعدها، إذا قلت: جئت لتكرمني، وهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 لا يصلح فيها ذلك، لا تقول: ما كنت لأن أفعل. ومنها: أن المصدر الواقع موقع أن مع الفعل يصح اللفظ به، فتقول جئت للاكرام، ولا يصح: ما كنت للاكرام. ومنها أن اللام يصح حذفها والاتيان بأن لام كي تدخل على ما هو عذر في إنشاء الفعل، فهذا وإن كان لفظه المستقبل فإنه مقارنة كان قد صار بمعنى الماضي، كما تقول كان زيد يركب، على حكاية الحال التي يستأنف فيها الركوب ويقول القائل: جئتك اليوم لتكرمني غدا، فمتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 علق بزمان لم يصح فيه الزمان الآخر. وكذلك: كان زيد فاعلا، يصلح للماضي والحال، وعلى معنى أنه كان على أن يفعل في أقرب الأوقات التي يستقبلها. وليس كذلك معنى ما كنت لأفعل لأنه مبالغة في نفي هذا الفعل في أزمنة كلها،، والمعنى: كون هذا الفعل مناف لكوني، فإذا جعلت السبب في نفي هذا الحدث كون المحدث، والمحدث كونه فيما مضى ككونه فيما يستقبل، وفيما هو للحال، فالمعنى: لم يكن فيما مضى يقع مني هذا الفعل ولا يقع فيما يستقبل ولا في الحال لسبب ينافي وجوده وهو كون الفاعل، ولذلك لا يصح من الأفعال في هذا المكان غير ما يتصرف لفظه من كان. وإذا كان كذلك وكان هذا نهاية ما يخاطب بع العرب في نفي الفعل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 وامتناع وقوعه خصه الله تعالى بالمكان الذي لا يقع ذلك منه أبدا، ولم يقع منه قط، وهو أنه لم يكن فيما مضى يهلك القرى ظالما لها مع صلاح أهلها ولا يفعله، ولا يليق بعدله، وهو منزه عنه تعالى الله عن ذلك. وأما قوله تعالى: (ىوما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتننا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) القصص: 59 فإنه لم يكن فيها صريح ظلم ينسب إليه، ولم يكن ملفوظا به، فيؤتى باللفظ الأبلغ في نفيه، كما كان في قوله: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم) . فإن قال: فلم ادعيت أن هذا أبلغ في الانتفاء من الظلم؟ قلت: إن أول ما يستدل به أن من عرف كلام العرب يعقل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 قول القائل: ما كنت لأظلمك، وما كنت لأشتمك، وما كنت لأذيك، ما لا يعقله من قوله: ما كنت ظالما لك، وماكنت شاتما لك، لأن ذلك نفي الظلم والشتم في وقت دون وقت. وإذا قال: ما كنت لأشتمك، فكأنه قال: ما كنت بضام كوني شتيمة لك، فجعل كونه منافيا لشتمه. فإن قال: ما كنت لأشتمك، فكأنه قال: ما كنت بضام كوني شتيمة لك، فجعل كونه منافيا لشتمه. فإن قال: فلماذا ألزم لفظة الاستقبال والنصب؟ قلت: لأن التقدير: ما كنت في شيء من الأوقات بمستقبل شتمك، وما كان كوني بضام شتمك، وهذا مستمر أبدا بيني وبينك، فكلما لم أشتمك لكوني كذلك لا أشتمك لكوني كذلك. فإن قال: فلأي معنى لم يجز إظهار أن كما جاز في لام كي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 قلت: لأنها لو ظهرت لوجب أن يصح الاسم مكانها، فلما ألزمت لفظة كنت وأكون وجب أن يكون النفي الداخل عليها خبرا، أن كوني ينافي أن أفعل كذا، وإني كما لم أحصل في حال وجودي على استئناف شتمك، كذلك لا أحصل على هذه الصفة، وهي الشروع في شتمك إذ كان وجودي هو الذي ينافيه، وجب أن يحفظ لفظ المستقبل المنصوب، فلم يكن بد من إصمار أن. فإن قال: فهلا جوزت حذف اللام كما كان ذلك في لا كي؟ قلت: لأن اللام ثباتها يسد عن الفعل المنصوب طرق العوامل، فكأنها أقيمت مقام أن لأن اللام لا تدخل إلا على الاسم في المعنى، وهذا موضع خبر كان فحفظ لفظ الفعل لما ذكرنا، وألزم الحرف المختص بالاسم ليدل به على أن الموضع موضع الاسم فافهمه. فإن قال: فهذا الفعل الذي حفظت له لفظ الاستقبال والنصب، كيف جاز أن يراد به الأزمنة، وهو مختص بزمان واحد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 وكان يصلي، تريد في الحال، وتقول: قصدته وكان يركب، تريد المستقبل، وتقول: قصدته وكان قد ركب، ولو قلت: قصدته فكان ركب لم يحسن حسنه مع قد التي تقرب من معنى المستقبل، وعلى هذا حمل قوله تعالى: (أو جاءوهم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم) النساء: 90 في بعض الأقاويل، فكان ذلك عائدا إلى لفظ المستقبل، وما يجوز لقربه منه في المعنى، فلذلك صلح النفي في الأول واستمراره في المستقبل وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 115 الآية الحادية عشرة منها قد تأخرت عن مكانها من السورة، لأنها سئل عنها بعدما أمليت ما تقدم منها، فذكرناها في آخرها لئلا تغير تراجم المسائل، وترتيب الآي فيها. فإن قال قائل: قوله تعالى في سورة هود 58 (ولما جاء أمرنا نجينا هودا) وفي آخر السورة في قصة شعيب: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا) هود: 94 فعطف لما على ما قبلها بالواو، وقال في قصتي صالح ولوط عليها السلام: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا) هود: 66 وقال: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) هود: 82 نعطف لما بالفاء دون الواو، وما الفرق الذي أوجب اختلاف حرفي العطف في المواضع الأربعة من هذه السورة؟ والجواب أن يقال: إن هذا الحرف في قصة هود بعد خروج من خبر عنه، هو حكاية لقوله إلى ما هو إخبار من الله تعالى عما كان من فعله ألا تراه قال تعالى: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون) هود: 54 إلى قوله: (فإن تولوا فقد أبلغتكم مأرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا) هود: 57 أي: يهلككم ويقيم غيركم مقامكم فينزل بكم أكبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 الضرر، ولا تضرونه شيئا بعبادتكم غيره، ثم قال: (ولما جاء امرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) هود: 58 فلم يتقدم تخويف بقرب ما أوعدوا به ليدل على اتصال الثاني بالأول واقتضاء العطف بالفاء، مكان العطف بالواو، وكان الموضع موضع الواو، لأن المراد الجمع بين الخبرين من دون ذكر ما يقلل الزمان بين الفعلين. وكذلك قصة شيب لم يدل فيها على أنهم أوعدوا بعذاب قد أظلهم، وقرب منهم، وإنما أخبر عز وجل عن شعيب عليه السلام أنه قال لهم (اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب) هود: 93 فلم يتوعدهم بالاقتراب، بل دعاهم إلى الارتقاب، فالتخويف قارنه التسويف لقوله تعالى (سوف تعلمون) فكان الموضع موضع الواو لخروج ما قبله عما يقتضي اتصال الثاني به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 وليست كذلك الموضعان اللذان نسقا على الأول بالفاء، وهما قوله تعالى في قصة صالح: (فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب * فلما جاء أرنا نجينا صالحا) هود: 65-66 وقوله في قصة لوط: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد إلا امرأته إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب* فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) هود 81-82 فكان ذلك بعقبه غير متراخ فاقتضى الفاء التي تدل على التعقيب واتصال ما بعدها بما قبلها من غير مهلة بينهما. وكذلك جاء في سورة العنكبوت في قصة لوط في موضعين بالواو، وهما على هذا السبيل: فالأول قوله بعد قصة لوط وقوله لقومه: (أئنكم لتأتون الفاحشة) العنكبوت: 28 إلى قوله: (رب انصرني على القوم المفسدين) العنكبوت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 30 فاستنصر الله تعالى عليهم، ولم يتوعدهم بقرب عذاب منهم، وجاء بعده: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) العنكبوت: 31 فخرج عما كان بين لوط وبين قومه إلى قصة هي بين إبراهيم عليه السلام والملائكة عليهم السلام لما أتوه بالبشرى، وبإهلاك من في قرية لوط، فنزل لوط فيما كان من محاورتهم لإبراهيم منزلة الغائب عنهم، فكان الموضع موضع الواو لاختلاف القصتين وخلو الأولى عما قرب ما بين الحالين. وكذلك قوله تعالى بعده: (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا ... ) العنكبوت: 33 خبر عن مجيء رسل الله عز وجل من الملائكة إلى لوط، وارتياعه لهم وفزعه لمجيئهم، وكان مجيئهم إلى ابراهيم عليه السلام مجيء البشرى لما قالوا (سلاما قال سلام) الذاريات: 25 فعطف هذه القصة على الأولى بالواو لاختلاف مورديهما، وأنه لم يكن في الأولى منهما ما يقتضي التصاق الثانية بها فتعطف عليها بالفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 انقضت سورة هود عليه السلام عن احدى عشرة آية واثنتي عشرة مسألة، فكملت مائة وإحدى وخمسين مسألة والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 سورة يوسف عليه السلام 116 الآية الأولى منها قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) يوسف: 22. وقال في سورة القصص 14 في ذكر موسى عليه السلام: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) . للسائل أن يسأل عن الفائدة في تخصيصي موسى عليه السلام بذكر الاستواء، واخلاء يوسف عليه السلام من ذلك، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر، أم قصد الحكمة يمنع منه؟ والجواب أن يقال: إن بلوغ الأشد مختلف فيه: قيل: هو أن يبلغ ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل: خمسا وعشرين سنة، وقيل: عشرين سنة وإحدى عشرين، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 يقال: إن الصبي يثغر لسبع سنين، ويبلغ لسبع بعدها، ويتناهى طوله لسبع بعدها، وحجه من قال ذلك: أنه قال: (آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) فإيتاء الحكم والعلم مجازاة على إحسان كان منه، وذلك بعد بلوغ، وقيل: إن بلوغ الأشد هو أن يحتلم والأشد جمع شد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 وهو قوى من العقل، تحتمل التكليف، ويجوز أن يكون البلوغ سمي الأشد، لأن الغلام إ\ابلغ شدت أعماله وكتبت حسناته وسيآته بعد أن كانت محلولة عنه غير مشدودة عليه وقد يأتي قبل البلوغ بحسنات يجازيه الله تعالى عليها. وقيل في قوله: بلغ أشده واستوى أي أدرك واستوت لحيته. وقيل: الاستواء أن يبلغ أربعين سنة، وهو معنى بين في الآية الأخرى: (حتى إذا بلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 أشده وبلغ أربعين سنة) الأحقاف: 15. وال\ي يفرق بين المكانين حتى لم ينتظر بيوسف عليه السلام الاستواء بعد بلوغ الأشد هو أن يوسف عليه السلام أخبر الله تعالى أنه أوحى إليه لما طرحه إخوته في الجب حيث قال: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) يوسف: 15 وأراه عز وجل الرؤيا التي قصها على أبيه، موسى عليه السلام لم يفعل به شيء من ذلك إلى أن بلغ الأشد واستوى، لأنه لم يعلم ما أريد به إلا بعد أن استأجره شعيب عليه السلام، ومضت سنو 'إجازته وسار بأهله، فهناك آتاه ما آتاه من كرامة الله تعالى وقيل: إنه بعد الأربعين، فلم ينتظر بيوسف في إيتاء الحكم والعلم والتشريف بالوحي ما انتظر به موسى، والحكم هو الفصل بين المتحاكمين المبنى على العلم، لأنه يكون بحسب ما يدعو إليه وقيل: معنى استوى: كمل جسمه وتم طوله وعرضه وخرج عن جملة الأحداث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 117 الآية الثانية قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) يوسف: 109. وقال في سورة النحل 43: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . وقال في سورة الأنبياء 7-8: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون*وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) . للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك: 5وما أرسلنا قبلك - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه. وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان ال\ي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا. فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان: 20. فأمل الأول فغنه حذفت منه من بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع. فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21 فإن قال: فقد جيء ب من في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك ب من. قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسولي ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفى عنهما إلا ما أثبته لهما بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 قوله: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) فلما كان المكانان معتمدين بالخبر صح التوكيد وكان المقصود والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 118 الآية الثالثة منها قوله عز وجل: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من فبقلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا) يوسف: 109 وقال في سورة الروم 9: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة ال\ين من قبلهم كانوا أشد كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض) للسائل أن يسأل عما جاء من هذا في القرآن بالفاء، وما جاء منه بالواو، والمعنى المقتضى لكل واحد من الحرفيين؟ والجواب أن يقال: كل موضع تقدم قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض) فإنه في موضع يقتضي الأول وقوع ما بعد الفاء. وكل موضع تقدم: أولم يسيروا في الأرض فإنه في المواضع التي لا تقتضي الدعاء إلى السير والبعث على الاعتبار، فيكون ذلك مؤديا إليه، وإنما يكون بالواو عطف جملة على جملة، وإن كانت الثانية أجنبية من الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 فقوله في سورة يوسف: (أفلم يسيروا في الأرض) قبله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) معناه: كان الرسل من القرى التي بعثوا إليها، فلما طغوا نزل بهم العذاب ما بقي أثره في ديارهم من الخسف والانقلاب، فصار معنى قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) أي لم يكونوا إلا رجالا أرسلوا إليهم فخالفوهم، فاعتبروا أنت بآثارهم ومشاهدة ديارهم لتجنبوا ما يجلب عليكم مثل حالهم. وكذلك قوله تعالى في سورة الحج 46: (أفلم يسيروا في أرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) هو بعد قوله: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) الحج: 45 فكأنه قال: إذا كان كذا فسيروا في الأرض واعتبروا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 وأما قوله في سورة الروم 9: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة وأثاروا الأرض) فإنه لم يتقدمه ما يصير هذا كالجواب عنه، إذ لم يجر ذكر حال أمة من الأمم خالفت نبيها فعوقبت على فعلها، بل الآية التي قبلها قوله: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) الروم: 8 فكان الموضع موضع الواو، وهذا مع أنه معطوف على قوله: (أولم يتفكروا) وهو بالواو، فكان حملة على ذلك مع اقتضاء المعنى للواو، وهو الواجب. وقوله في سورة الملائكة 44: (اولم يسيرو في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان لله ليعجزه من شيء) . لم يتقدمه الذين من قبلهم ما يكون هذا كالجواب عنه فلم يحسن إلا الواو، لأن الآية التي قبله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 ليست في وصف قوم عوقبوا على مخالفة نبيهم، وبقيت آثار بهم من العذاب في منازلهم وديارهم. وكذا قوله في سورة المؤمن 20-21: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقتضون بشيء إن الله هو السميع البصير * اولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض) فالآيات التي تقدمت هذه الآية ليس ما يقتضي أن يكون هذا كالجواب له، فلذلك جاء بالواو. فأما الآية التي في آخر هذه السورة وهي: (أفلم يسيروا في الأرض) المؤمن: 82 فإن ما قبلها يقتضي الفاء، ألا ترى قوله: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون) المؤمن: 78 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 فإنه في وصف من بعث من الأنبياء ومجيء أمرا لله فيمن فالفهم وكيف خسر مبطلهم. فإن قال قائل: فقوله في سورة محمد 10: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم الكافرين أمثالها) لمخ يتقدمه ما يقتضي الفاء قلت: قوله (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينضركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا لهم وأضل أعمالهم* ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) سورة محمد: 7-9 معناه: أن أولياء الله منصورون، وأن الكفار مخذولون فليعتبروا بمن تقدمهم في الكفر ليعلموا أنهم صائرون إلى مثل حالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 119 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) يوسف: 109. وقال تعالى في سورة الأعراف 169: (والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) وكان حق هذه الآية أن تذكر هناك، إلا أنا ذكرناها لما انتهينا إلى هذا المكان، وقد تقدمت نظيرتها، وهي قوله تعالى: (وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) الأنعام: 32. للسائل أن يسأل في الآيتين عن موضعين: أحدهما: قوله تعالى في سورة الأعراف: (والدار الآخرة) فوصف الدار بالآخرة، وفي الآية التي في سورة يوسف أضاف الدار إلى الآخرة؟ والثاني: قوله: (خير للذين يتقون) هناك، وفي هذا المكان: (خير للذين اتقوا) . والجواب عن الأول أن قبله: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 عرض هذا الأدنى) الاعراف: 169، فقوله: (هذه الأدنى) إنما يعني هذا المنزل الأدنى وهو والدار الدنيا بمعنى واحد فلما جعل الأدنى وصفا للمنزل ذكر الدار الآخرة بعده فجعل الدار موصوفة والآخرة صفة لها، وكل يؤدي معنى واحد، إلا أنه يختص ببعض اللفظ دون بعض لمشاكلة ما قبله وموافقته له. وأما قوله: (ولدار الآخرة) في يوسف فإن قبله: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة) يوسف: 107 والساعة هي الساعة الآخرة، وهي القيامة، فلما ذكرت الدار أضيفت إليها، فكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة خير فتقدم كل آية ما كان المذكور بعده أليق به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 والجواب عن المسألة الثانية وهي قوله تعالى (للذين يتقون) في سورة الأعراف، وقوله: (للذين اتقوا) في سورة يوسف هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم، وهي خاوية على عروشها ليعلموا أن الدار الآخرة خير لمن اتقى منهم. وقوله في سورة الأعراف ترهيب لليهود الذين في عصر النبي، وارتشائهم على كتمان أمر النبي د، وترغيب لهم فيها عند الله عز وجل إذا صدقوا ما في كتاب الله عز وجل، والترغيب والترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال: ط (للذين يتقون أفلا تعقلون) . وفي هاتين الآيتين مسألة ثالثة، وهي إدخال اللام على دار الآخرة في سورة يوسف، وإخلاؤها منها في سورة الأعراف في قوله: (والدار الآخرة) والجواب عن ذلك: أن قوله: (ولدار الآخرة) جاء بعد قوله: (فينظروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) يوسف:: 109، ومعناه: فيعلموا كيف كان حال من قبلهم، وأن الدار الآخرة خير لهم، فالام هي التي تدخل على المبتدأ فتعلق الفعل، والفعل هو فيعلموا الدار خير، كما تقول: علمت لزيد أفضل من عمرو. وأما قوله: (الدار الآخرة) في سورة الأعراف فلم يتقدمه اللام، بل قوله: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير) الأعراف: 169 من غير أن يتقدمه ما يجري مجرى التوكيد والقسم الذي يتلقى باللام. انقضت سورة يوسف عن أربع آيات وخمس مسائل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 سورة الرعد 120 الآية الأولى منها قوله عز وجل: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الرعد: 3. وقال في الآية التي بعدها: (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) إلى قوله: (إن في ذلك لآيات قوم يعقلون) الرعد: 4 للسائل أن يسأل عن قوله تعالى (يتفكرون) في هذه الآية وقوله في الآية التي بعدها (يعقلون) ، هل كان يصح أحدهما مكان الآخرة؟ والجواب أن يقال: إن التفكر هو المؤدي إلى معرفة الشيء، والعلم بالآيات التي تدل على وحدانية الله تعالى، فهو قبل، فإذا استعمل على وجه عقل ما جعلت هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 الأشياء أمارة له ودلالة عليه. فبدئ في الأول بما يحتاج إليه أولا من التفكر والتدبر المفضيين بصاحبهما إلى إدراك المطلوب، وخص الآخر بما يستقر عليه آخر التفكر من سكون النفس إلى عرفان ما دلت الآيات عليه، فكان في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر إشارة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 سورة إبراهيم عليه السلام قد تقدمت نظائر آيات فيها قبلها فذكرت معها. 121 الآية الأولى منها قوله عز وجل: (الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 الثمرات رزقا لكم) إبراهيم: 32. وقال في سورة النمل 60: (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنتبوا شجرها) . للسائل أن يسأل فيقول: قال في هذه الآية الأولى (وأنزل من السماء) وقال في الثانية: (وأنزل لكم من السماء) فما الذي أوجب لكم في الثانية، ولم يوجبها في الأولى؟ والجواب إن لكم في آخر الآية الأولى مذكورة، لأنه قال: (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) فأغنى ذكرها هناك عن ذكرها أولا، والآية الثانية لما لم يكن في آخرها ذكر أنه فعل لهم ذكر في أولها لكم لأن بعدها: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) وليست لكم في قوله: (ما كان لكم أن تنتبوا شجرها) تكفي من ذكرها في أولها، لأنها في معنى غير معنى: خلق لكم أصناف النعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 سورة الحجر 122 الآية الأولى منها قوله عز وجل: (فاخرج منها فإنك رجيم* وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) الحجر: 34-35. وقال في سورة ص 78: (عليك لعنتي إلى يوم الدين) . للسائل أن يسأل فيقول: إ كان المراد ب اللعنة ولعنتي شيئا واحدا، فما بال اللفظين اختلفا فجاء في سورة الحجر بالألف واللام، وفي سورة ص مضافا، وهل يصح في الاختيار أحدهما مكان الآخر؟ والجواب أن يقال: إن القصة في سورة الحجر ابتدءت في المعتمد بالذكر، وهو خلق الانس والجن باسم الجنس المعرف بالألف واللام بقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون* والجان خلقناه من قبل من نار السموم) الحجر: 26-27 ثم قال: (ما لك ألا تكون من الساجدين) الحجر: 32 فكان ما استحقه إبليس بترك السجود من الجزاء ما أطلق عليه اللفظ الذي ابتدءت بمثله القصة، وهو اسم الجنس المعرف واللام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 وكان الأمر في سورة ص بخلاف ذلك، لأن أول الآية: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين* قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنا من العالين) سورة ص: 71-75 فلم تفتتح الآية بذكر الصنفين من الإنس والجن باللفظ المعرف بالألف واللام كما أن في سورة الحجر. ولما كان موضع (ما لك ألا تكون مع الساجدين) الحجر: 32 جاء بدله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت) سورة ص: 75 فجعل بدل الساجدين أن تسجد ثم قال: (لما خلقت بيدي) فخصصه بالإضافة إليه دون واسطة يأمره بقلعه، أجري لفظ ما استحقه من العقاب على لفظ الإضافة، كما قال: (بيدي) فقال: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) فكان الإختيار في التوفقة بين الألفاظ التي افتتحت بها الآية واستمرت إلى آخرها هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 123 الآية الثانية منها قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) الحجر: 75. وقال في الآية التي بعدها: (وإنها للبسبيل مقيم* إن في ذلك لآية للمؤمنين) الحجر: 76-77. للسائل أن يسأل عن جمع الآيات أولا، وتوحيدها آخرا فيقول: لم اختصت الأولى ب الآية على التوحيد، وهل كانت الآيات لو ذكرت في الثانية، والآية لو ذكرت في الأولى، فما يكون في اختيار الكلام؟ والجواب أن يقال: ذلك في قوله: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) إشارة إلى ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم، وتعرض قوم لهم طمعا فيهم، وما كان من أمرهم آخرا من إهلاك الكفار وقلب المدينة على من فيها وإمطار الحجارة على من غاب عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وهذه أشياء كثيرة، في كل واحدة منها آية، وفي جميعها آيات لمن يتوسم، أي يتدبر السمة، وهي ما وسم الله تعالى به العاصين من عباده ليستدلوا بها على حال من عند عن عبادته فيتجنبها، فكان ذكر الآيات ها هنا أولى وأشبه بالمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 وأما قوله: (لآية للمؤمنين) فلأن قبلها: (وإنها لبسبيل مقيم) أي تلك المدينة المقلوبة ثابتة الآثار، مقيمة للنظار، فكأنها بمرأى العيون لبقاء آثارها، وهذه واحدة من تلك الآيات، فلذلك جاء عقيبها: (إن في ذلك لآية للمؤمنين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 سورة النحل الآية الأولى منها قوله تعالى: (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون* وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) النحل: 11 - 13. للسائل أن يسأل عن توحيد الآية أولا وآخرا وجمعها في المتوسط، ولم كان ذلك الاختار؟ وفي كل ذلك آيات كثيرة، ولم عبر عنها بآية واحدة؟ والجواب أن يقال: إنما وحد في الأولى، لأن جميع ما أخبر عنه خلقه إنما هو في جنس من صنعه، ونوع من خلقه، وهو كل ما نجم من الأرض مما فيه قوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 الخلق. والذي فيه ذكر الآيات الليل والنهار وهو إظلام الجو لغروب الشمس والقمر النيران اللذان في كل واحد منهما من ميسرة ف فلك، ثم ما أجرى العادة به من إحداث ريح أو مطر عند انتهاء أحدها إلى بعض المجاري، فكان ذكر الآيات هنا أولى، وذكر الآية في الأولى أحق، لأن الأولى فيما يطلع من الأرض بالماء، فكأنه يجمع جميعها شيء واحد، والثانية بخلافها فلذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 وأما الثالثة فهي: (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه) المعنى والله أعلم جميع جواهر الأرض كالذهب والفضة والحديد وغيرها من النعم التي تبعث على الفكر والتنبيه على ما جعل فيها من المنافع للخلائق، وهي كلها كالشيء الواحد في أنها عروق جارية مختلفة في شيء واحد، هو أمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 ، وهي الأرض، ولذلك قدم الإنعام بالزرع والثمار لعلم الخاصة والعامة بما فيها من قرب النفع وإمساك الخلق، ثم عقب ذلك بما هو أصله من الهواء وماء السماء والكواكب التي جعلها الله قواما لتربية ما به ثبات البرية، فلما صرف العقول إلى ما نص من الأمارات في أصناف ما سببه في البر أتبعه بما سخر في البحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 مسألة ثانية في هذه الآيات: فإن قال قائل: فلم قال في الأولى (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) وقال في الثانية: (لقوم يعقلون) وفي الثالثة: (لقوم يذكرون) ؟ فالجواب: إن التفكر إعمال النظر لتطلب فائدة، وهذه المخلوقات التي تنجم من الأرض إذا أفكر فيها علم أن معظمها ليس إلا للأكل، وأن الأكل به قوام ذي روح، وأن المنعم عليه يحتاج أن يعرف المنعم به ليقصده شكر إحسانه، فهذا موضع تفكر بعث الناس ليفضي بهم إلى المطلوب منهم. وأما تعقيب ذكر الليل والنهار وما سخر في الهواء من الأنوار بقوله: (لقوم يعقلون) فلأن متدبر ذلك أعلى رتبة من متدبر متقدما، إذ كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 المنافع المجعولة فيها أخفى، وأغمض، فمن استدرك الآيات فيها استحق الوصف بما هو أعلى من رتبة المتفكر المتدبر، لأنه المنزلة الثانية التي تؤدي إليها الفكرة، وهو أن يعقل مطلوبه منها، ويدرك فائدته منها. وأما الثالثة، وهي (لآية لقوم يذكرون) فلأنه لما نبه في الأوليين على إثبات الصانع نبه في الثالثة على أنه لا شبه له مما صنع، لأن من رأى المخلوقات أصنافا مزدوجة مؤتلفة أو مختلفة نفى عنه صفاتها، وعلم أن خالقها يخالفها، لا يشبهها ولا تشبهه، وقال في سورة ق 7 - 8: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج* تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 أي فعلنا ذلك لنبصركم ونريكم آياتنا ولنذكركم بازدواجها مخالفة صانعها، كما قال: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) الذاريات: 51 فيعلم بعد العلم بما تقدم أنه لا صاحبة له ولا ولد، ولا مشبه له فيما أنشأ وبرأ، إذا تذكر حاله فيها اتفق منه واختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) النحل: 14 وقال في سورة الملائكة 12: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) . للسائل أن يسأل فيقول: أية فائدة خصت في الآية الأولى أن تقدم فيها (مواخر) على قوله (فيه) ، وأن تدخل الواو على (ولتبتغوا) ؟ وأية فائدة خصت في الآية الثانية من سورة الملائكة أن تقدم فيها قوله (فيه) على (مواخر) ، وأن تحذف الواو من قوله (لتبتغوا) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 والجواب أن يقال: لما ذكر الله تعالى في سورة النحل النعم التي سخرها البحر من أجلها فقال: (وهو الذي سخر البحر) لكذا وكذا، فعد جملا ثلاثة من نيل سمكة، واستخراج حلية، وطلب فضله بركوبه، كان وجه، فعد جملا ثلاثة من نيل سمكة، واستخراج حلية، وطلب فضله بركوبه، كان وجه الكلام أن يعطف الثالثة على ما قبلها بالواو، لأن نعمة التسخير نظمها مع تقدمها، والمشتركات في فعل حقها أن يعطف بعضها على بعض لتستوي في تعلقها به، واجتماعها فيه، فلما ذكر النعمتين في قوله: (لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) احتاج ذكر النعمة الثالثة في عطفها عل ما تقدم إلى وصف ما عليه البحر مما وطأه الله تعالى منه ليتمكن به من الثالثة، وهي ما يطلب من فضل الله تعالى بأنواع التجارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 في البحر، ونقل الأمتعة فيه من مصر إلى مصر، وإلى سائر ما علق به مصالح الخلق من الأودية المتفرقة على وجه الأرض فقال: (وترى الفلك مواخر فيه) لأن الابتغاء من فضل الله تعالى يتسهل بالسير فيه، ولا سبيل إليه بالفلك وسيرها بشق الماء يمينا وشمالا لتجري إلى الجهة المقصودة. وليس قوله: (وترى الفلك) عطفا على (وتستخرجوا منه) لأنه خطاب واحد، وما قبله وما بعده خطاب جمع، فهو مباين لهما في ذلك، وفي العامل والإعراب ولهذه اللفظة اختصاص إذا استعملت يقصد بها كون الشيء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 تلك الصفة حتى إذا طلبه طالب رآه عليها، وليس الضمير لواحد مخصوص معين دون غيره، لكنه كقوله: يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، وكما: ترى العراقي أرق طبعا من الجبلي، وترى البصري أفصح من الواسطي، وكما قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد مزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 وعلى هذا الوجه قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم) الشورى: 22 وكقوله تعالى: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل من مرد من سبيل* وتراهم يعرضون عليها خاشعين من ذل ينظرون من طرف خفي) الشورى: 44 - 45، وقوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) الجاثية: 28 وكقوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نبته ثم يهيج فتراه مصفرا) في سورتي الزمر والحديد، وكقوله: (وترى الملائكة حافين من حول العرش) الزمر: 75. والدليل على ما ذكرنا من الآية ان قبل قوله: (وترى الفلك) فعل جماعة، وهو (لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) وبعدها أيضا فعل جماعة، وهو: (ولتبتغوا من فضله) والمعنى في ذلك كله أنه على هذا الوصف، فمن رآه، رآه عليه وإذا كان الأمر في موضع في هذه الجملة من الجملتين المتقدمة والمتأخرة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 ما بينا صار ما بعدها محمولا على ما قبلها، فوجب عطف الثالثة عليه بالواو، لأن حجزه لا يعتد به، ولأن الفعل الذي هو: (سخر البحر) يقتضي إشراكه فيما دخل فيه ما قبله، ولأن (مواخر قد فصل قوله (فيه) بينها وبين قوله: (ولتبتغوا من فضله) فاجتماع هذه الأشياء أوجب اختيار الواو في هذا المكان في قوله: (ولتبتغوا) . وأما تقديم: (مواخر) في هذا المكان على قوله: (فيه) فلقوة حكم الفعل الذي اعتد الله تعالى بذكره على عباده في هذه الآية، لأنها مصدرة بقوله: (وهو الذي سخر البحر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 وإذا قوي حكم الفعل في مكان وجب أن يترتب ما يتعدى إليه على ما يقتضيه في الأصل، وهو أن يقدم في الفعل المتعدي إلى مفعولين: مفعوله الأول الذي أصله أن يكون معرفة، ثم مفعوله الثاني الذي أصله أن يكون نكره، ثم الظرف الذي هو كالفضة فجاء على هذا الأصل. وأما تقديم (فيه) في الآية الأخرى على (مواخر) فلأن الفعل الذي قدم فيها، وعطف هذا عليه بولغ في تقديم الجار والمجرور فيه مبالغة لا مرمى وراءها، ولا زيادة عليها، ألا تراهما قدما على الفعل نفسه، وهو: (ومن كل تأكلون لحما طريا) ، فلما عرض قوله: (وترى الفلك) بعد فعل هذه صفته، وقد حصل فيه مفعولان، وجار ومجرور قوي تقديم الجار والمجرور (فيه) على أحد معوليه ليعلم أنه من جملة كلام بني الفعل فيه على تقديم الجار والمجرور عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 وأما حذف الواو من قوله: (لتبتغوا) لأنه لما لم تبن الآية على الفعل يقتضي استيعاب ما يتعلق به كما كان في قوله تعالى (وهو الذي سخر البحر) لكذا وكذا، وذكر بعضه إثر بعض، ثم صارت (مواخر) يليها قوله (لتبتغوا) وصح تعلق الكلام بمعنى المواخر، لأن معناها: التي تشق الماء وتسير بأهلها، والله سخرها على هذه الصفة لتبتغوا من فضله فيما جعل الطريق إليه من المنافع التي لا تنال إلا بها، وقد ذكرنا نبذا منها. فلما اتصلت (مواخر) بقوله (لتبتغوا) ولم يحجز بينهما ظرف استغنى عن الواو لذلك، ولأنه لم يتقدم فعل بنيت عليه الآية دال على تعلقه بنعم يجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 ينسق بعضها على بعض كما كان في قوله: (وهو الذي سخر البحر) إذ أول هذه الآية: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) فبان الفرق بين الموضعين فيما يختار له إثبات الواو وتركها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 126 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبس مثوى المتكبرين) النحل: 29. وقال في سورة الزمر 72: (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) . وقال في سورة المؤمن 76: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) . للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الآية في سورة النحل خصت وحدها بدخول اللام على قوله (لبئس) فيها وإخلاء الآيتين من السورتين منها؟ والجواب أن يقال: إن الآية من هذه السورة في ذكر قوم قد ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، وهم الذين أخبر الله تعالى عن أتباعهم أنهم أنهم سألوهم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 القرآن فقالوا: ليس من عند الله، وإنما هو أساطير الأولين، قال الله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين* ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلون بغير علم ألا ساء ما يزرون) النحل: 24 - 25 وهؤلاء أكثر الناس وأشدهم آثاما، وأشدهم عقابا ومن هذه صفته احتيج عند تغليظ العقاب له إلى المبالغة في تأكيد لفظه، فاختيرت اللام هنا لذلك، ولأن بعدها في ذكر أهل الجنة قوله: (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) النحل: 30 فاللام في (ولنعم) بإزاء اللام في لبئس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 وليس كذلك الآيتان في سورتي الزمر والمؤمن، لأنهما في ذكر جملة الكفار، قال الله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) الزمر: 71 وقال في سورة قوله: 70، (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون) . إلى قوله: (ادخلوا أبواب جهنم) . فلما كان المذكورون في سورة النحل ممن لزمهم وزران عن ذنوبهم التي أتوها وعن ذنوب غيرهم التي حملوا عليها، ولم يذكر من سواهم في الآيتين الأخريين بحمل أثقالهم حسن التوكيد هناك فضل حسن، فلذلك خص باللام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) . وقال في سورة الروم: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) . وقال قبلها في سورة العنكبوت: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الآية في سورة العنكبوت وحدها خصّت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 بقوله: (وليتمتعوا) وجاءت الآيتان الأخريان بلفظ الأمر على معنى التهديد، وهو (فتمتعوا) ؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى افتتحت بخطاب الشاهد فأجرى قوله: (فتمتعوا) على هذا اللفظ، والآية الأخيرة افتتحت بالإخبار عن الغائب، وهو قوله: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ... ) ومرّ سائر الأفعال في هذه الآية على ذلك ولم يكن لها نظير في لفظها تردّ إليه فأجرى قوله (وليتمتعوا) عليه. والآية التي في سورة الروم وإن افتتحت بلفظ الإخبار عن الغائب فإن لها في لفظها نظيرة رُدّت إليها وصارت كالفرع عليها، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 فهذه الآية مفتتحة بمثل ما افتتحت به تلك، إلا أنّ هذه الآية لواحد من الناس، وتلك للجمع، فصارت كالفرع على الأولى. فكان حملها في هذه اللفظة عليها أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ... ) . وقال في سووة الملائكة: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى (بظلمهم) وقوله (ما ترك عليها) وعن قوله في الثانية (بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا) . والجواب أن يقال: قد تقدّم في العشر التي تليها: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) الخبرُ عن الذين نهوا عن أن يتخذوا إلهين اتنين وأن يشركوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 الأصنام في عبادته، وأن يجعلوا لها نصيبا من أموالهم، ويدعوا الملائكة بنات ربّهم، وأن يَئدُوا بناتهم خوفَ إملاقهم. وكل ذلك من أفعالهم ظلم منهم لأنفسهم مع ظلمهم لغيرهم، فقال تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس) بما ظلموا به غيرهم وأنفسهم، وأجرى حكمه على معاجلة المذنبين بعقوباتهم لأنه دالّ على نفس كل إنسان، إذ لا أحد يعدّ أباءه إلا ويجد فيهم من عصى ربه، فلو اختُرم عند خطيئته لانقطع نسله، ولا سبيل إلى ولدٍ لا يصح أصله، فذكر في هذه الآية التابعة لمِا أخبر الله به عن القوم الظالمين بأنواع الظلم التي نسقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 في العشر التي تقدمتها، ثم قال: (ما ترك عليها) يريد: على الأرض، وذلك من الإيجاز الذي يقوم مقام الإكثار والإظهار، تقول العرب: ما فوقها أصدق من فلان ولا تحتها أكذب من فلان، يعنون فوق الأرض وتحت السماء، وقوي إضمار هذا الاسم لشهرة الاستعمال فيه، ولأن المذكور مشاهَد لكل متكلّم يقدر على الإشارة إليه، فجرى مجرى "أنا" و (أنت) ، في صحة العلم به، والأمن من لبسه بغيره. وأما قوله في السورة الأخرى: (رلو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ... ) فالمراد: بما كسبوا من الآثام، وإن كان "كسب " يستعمل في الخير والشرّ كقوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ، فإنما حذّر الإنسان بهذه اللفظة ما تَجْنيه يداه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 فيكون هو المؤاخذ به دون من عداه. وجاء بعده: (ما ترل على ظهرها) والمراد: ظهر الأرض. ولم يذكر ((الظّهر)) في الآية الأولى لتقدّم "الظاء" في المبتدأ بعد "لو"، والظاء تعزُّ في كلام العرب. ألا ترى أنها ليست لأمة من الأمم سوى العرب، فلما اختصّت بلغتها وتُجُنِّبَت إلاّ فيها استعملت في الآية الأولى في الابتداء بعد "لو"، واستعملت في الآية الثانية في جواب ما بعد "لو" لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 ولم تجئ في هذه السورة إلا في سبعة أحرف تكرّرت، نحو. الظلم، والنظر، والظل، و (ظلّ وجهه) والظعن والعظم والوعظ، وأجريت مُجرى ما استثقل من الحروف فلم يجمع بينهما في جملتين معقودتين عقد كلامٍ واحد، وهما ما بعد "لو" وجوابها. وحسن التأليف وقصد الحروف مراعى في الفصاحة لا يخفى على أهل البلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 الآية السادسة منها قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) . للسائل أن يساًل في هذه الآى عن ثلاث مسائل: إحداها عن توحيد، "الآية" في جميعها، ومنها ما فيه آيات. والثانية عن قوله: "يسمعون" في الأولى،. و "يعقلون" في الثانية، و"يتفكرون" في الثالثة. والثالثة عن قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ... ) وقال في سورة المؤمنين 211،: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ... ) فأعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 في أحد الموضعين ذكر المذكر، وفي الآخر ذكر المؤنث، واللفظان سواء، فهل كان يجوز أن يكون حيث عاد المذكر مذكراً يكون مؤنثاً، وحيث عاد مؤنثاً يعود مذكراً؟ المسألة الأولى يجاب عنها فيقال: لماّ كان المذكور في كل آية صنفاً واحداً جعل ما دلّ منه على الصانع آية واحدة. فإن قال قائل: إنّ الأنعام وثمرات النخيل والأعناب قد جُمعت، وليس جمعها صنفاً واحداً، وكان على قضيتك يجب في الاختيار أن يقال هنا: إن في ذلك لآيات؟ قيل له: إن قوله: (إن في ذلك) إشارة إلى ثمرات النخيل والأعناب دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 الأنعام، وذلك صنف واحد، فلذلك قال: آية، وأما "الأنعام " فقد استند بذكر الآية فيها قوله في ابتداء آيتها: (وإن لكم في الأنعام لَعبرة) فكأنه قال: لكم فيها آية، إذ الاعتبار يؤدي إليها، فخلصت (إن في ذلك) للصنف الواحد من ثمر الشجر. وأما الثالثة فمقصود بها النحل خاصة، فلذلك قال: (إن في ذلك لآية) . والمسألة الثانية يجاب عنها فيقال: إنما ذكر (يسمعون) في الأولى توبيخاً لمن أنكر البعث واستبعد الحياة الثانية، فكأنه قيل له: إن ذلك قبل التدبر مقرر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 أول العقل حتى إن من يسمعه يعترف به، وهو أن الأرض الميتة يحييها الله تعالى بماء السماء فتعود حيّة بنباتها، فكذلك لايستنكر أن يحى الخليقة بعد موتها. وأما اختصاص الثانية بقوله: (يعقلون) فلأنه قال: ( ... نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)) ، وقد علمنا أن الفرث والدم لا ينعصر منه ما يسوغ للشارب، وأن الدم أحمر فيحول بقدرة الله تعالىَ لبناً أبيض طيباً بعد بُعده ممّا استحال عنه في اللون والطيب، ففيه عبرة لمن اعتبر، ولماّ قرن إليه ثمرات النخيل والأعناب وما يتحوّل من عصيرهما إلى ما يستلذ ويجلب ما يسرّ سوى طيب رطبها ويابسها احتاج ذلك إلا تدبّر يعقل به صنع صانع لا يقدر غيره عليه، فلذلك قال في الثانية: (يعقلون) . وأما اختصاص الثالثة بقوله: (يتفكرون) فلأن التفكر استعمال الفكر حالا بعد حال، وفي النحل عجائب من صنع الله تعالى تتبع كل أعجوبة أعجوبة من طاعتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 لرئيسها، ثم أشكال ما تبنى من بيوتها التي لو حاول الإنسان مثلها بأمثلة يحتذيها وتقديرات يقدّمها لتعذّر عليه، ثم إنها تجى من أزاهير النبات والأشجار ما هداها إليه إلهام الله تعالى لها وأرشدها إليه، ثم تَقْلِس ما يجتمع في جوفها عسلاً، فهذه أشياء تقتضى فكراً بعد فكر، ونظراً بعد نظر، فلذلك عقبت بقوله: (يتفكرون) . والمسألة الثانية يجاب عنها بأن يقال: "الأنعام" في سورة النحل وإن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها ألا ترى أن الدَّر لا يكون لجميعها، وأن اللبن لبعض إناثها، فكأنه قال: وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم ممّا في بطونه، ولهذا ذهب من ذهب إلى أنه رُدّ على النعم، لأنه يؤدي ما يؤديه الأنعام من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 المعنى، والمراد - والله أعلم - ما ذكرنا للدلالة التي بيننا. وليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين، لأنه قال: ( ... نسقيكم ممّا في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون) فأخبر عن النِّعم التي في أصناف النعم إناثها وذكورها، فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 الآية السابعة منها قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) . وقال في سورة الحج: ( ... ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) للسائل أن يسأل فيقول: ما الفرق بين قوله (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) إذ لم يكن فيه ((مِن)) وبين قوله: (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) ولِم اختصت الآية التي في سورة الحج بـ "من" وخلت منها الآية في سورة النحل؟ والجواب أن يقال: ذكر في سورة النحل الجملة التي فصّلت في سورة الحج، وكانت لفظة "بعد" لجملة الزمان المتأخر عن الشيء، قال: (والله خلقكم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 فأجمل ما فصّله في السورة الأخرى، وبعده: (تم يتوفّاكم ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئاً) أي: يعزب عنه في حال الهرم ما كان يعلمه قبل من الحكم ويستدركه من الآراء المصيبة، ويرتكبه من المذاهب القويمة، فكان هذا موضع جمل لا تفصيل معها ولاتحديد، ولم يكن كذلك الأمر في سورة الحج، لأنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ... ) ، يعنى أصلكم، وهو آدم عليه السلام، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أولاده (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ... ) فذكر تفصيل الأحوال ومباديئها فقال: من كذا وكذا لابتداء كل حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 ينتقل منه إلى غيره، فبنى ذكر الحال التي ينتقل فيها من العلم إلى فقده على الأحوال الى تقدم ذكرها، فكما حدّد أوائلها بـ "مِن" كذلك حدّد الحال الأخيرة المتنقلة عمّا قبلها بـ "مِن" فقال: (من بعد علم) أي فقد العلم من بعد أن كان عالما، فباين الموضعَ الأولَ لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 الآية الثامنة منها قوله عز وجل: ( ... أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) ، وقال في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) . للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الآية من سورة النحل زيد فيها (هم) وخلت منها الآية من سورة العنكبوت؟ والجواب أن يقال: إن الكلام في سورة النحل قد نقل عن الخطاب الذي يصلح لغير الكفار إلى الإخبار عنهم، وهو قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... ) ، ثم انتقل الكلام عن الخطاب العام إلى الإخبار الخاص فقال: ( ... أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) فأكدّ الكلام بقوله: (هم) لئلا يتوهّم أن هذا الإخبار خطاب، وهو بالتاء دون الياء، إذ لا فرق في الخطّ بينهما، ولم يكن كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 الأمر في سورة العنكبوت، لأن الإخبار المستمر في الآية التي قبل هذه أغنى عمّا يحصره للخبر دون غيره، وهو قوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) ، فترادُف الإخبار عن الغيب أغنى عن توكيده بما يحصره على الخبر، وذلك واضح لمن تدبّره. انقضت سورة النحل عن ثماني آيات وإحدى عشرة مسألة، والله الموفق للصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 سورة بني إسرائيل الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) . ْوقال في هذه السورة: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) . وقال في سورة الكهف : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) . للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات في قلّة لفظ الأولى، والتقديم والتأخير في الثانية والثالثة. والجواب أن يقال: إن الأولى جاءت بعد إخبار المتمرّدين من الكفار وعما آل إليه أمرهم من الدّمار من مبتدأ السورة، ثم عمّا أقامه من الدلائل النيِّرة، والآيات البينة، وعما علّقه من الحساب بالأهلّة، وآية النهار المبصرة، إلى ما حذّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 من حال الآخرة، واشتمال الكتاب على ما قدّم من الحسنة والسيئة، وما بعد ذلك من الأوامر والنواهي، فجاء بعد ذلك كله قوله تعالى: (ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكروا) فأبهم القول ليحيط بأنواع تصاريف الكلام من الخبر والعبر وضرب المثل والأمر والنهي والوعظ والزجر إذ كان فيما قبله: (كل ذلك. وأما الآية الثانية فإنها جاءت بعد الأولى، وبعد أمثال ضربت، نحو: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً) ، وبعد تخويف النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحذيره كتحذير الناس كلهم، إذ يقول تعالى: (وإنْ كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ... إلى قوله: (إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضِعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) ، فقال بعده، وقدّم الناس: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) تنبيها للناس، وليهتمّوا بتفهّمه، ويعنوا بتدبّره، ويقفوا عند أوامره، وينتهوا عن زواحره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 فكان موضع الآية يقتضي تقديم "الناس" على عادة العرب في تقديم ما عنايتُهم به أتم. وأما الثالثة فإنها وقعت في السورة التي تقدم فيها ذكر أصحاب الكهف، وما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن الإخبار به ممّا لم يقدر عليه إلاّ بأن يوحى إليه، وكان جميع ذلك من خبر موسى عليه السلام، مع مَن وُعد لقاءَه، وقصة ذي القرنين بعدهما ممّا أودع القرآن وتضمّنه الكتاب، فقال في هذا المكان: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل) للدلالة على ماطلبوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قد أوحى الله تعالى به إليه في كتابه، فكان تقديم ذلك في هذا المكان أولى. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 الآية الثانية منها قوله تعالى: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) . وقال بعد ذلك بآيات: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) . ثم قال بعده: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) . للسائل أن يسأل عن اختصاص خواتم هذه الآيات الأربع: (ثم لاتجدوا) (ثم لا تجد) بما خصّت به، وهل كان يجوز أن تكون هذه مكان تلك، وتلك مكان هذه؟. والجواب أن يقال: إن الأولى بعد قوله: (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) وهو خطاب لمن ينجيهم من ضرّ البحر ويُسلمهم إلى البرّ فيعوضون عن ذكر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 كانوا فيه من المخافة عند الأمن، ويكفرون بما أنعم به عليهم من النجاة، فقال: الذي خفتموه من عذاب الله تعالى في البحر لا تأمنوا مثله في البر، لأن الغرق الذي خفتموه هناك بإزائه الخسفُ وإرسالُ الرياح الحاملة للحصباء، فلا يعجزه الآن ما أمكنه إذ ذاك، ثم لا تجدوا مَن يقوم مقامكم ويعصمكم مما يريد إنزاله بكم، وهذا أول ما يطلبه مَن يشرف على هلكةٍ لينقله إلى نجاة. وأما قوله: (أم أمنتم أن يعيدكم فيه) يعنى في البحر، فيُغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا مَن يتبعنا إذا أهلكناكم بمطالبةٍ بدمائكم، أو بإنكار ما أنزلناه بكم، فالذي يلجأ إليه إذا لم يغن الوكيل في دفع الضرر ووقوع الهلَكة مَن يتبع ذلك بإنكار أوانتصار، وهذا أيضاً مما لا تجدونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 وأما قوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي: لأنزلنا بك عند قليل الركون إلى الكفار ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك عِزّاً تمتنع به ممّا نريد إحلاله بك، وهذا هو النصير. وكذلك قوله عز وجل: (ولئن شئنا لَنذهبنّ بالذي أوحينا إليك) أي: لأنسيناكه ولَمحونا من القلوب والكتب ذكره، ثم لا تجد مَن يتوكّل لك بردّ شيء منه إليك، لكني دبّرتك بالرحمة لك، فأوليتك من النعم والألطاف ما ثبتَّ به على الإيمان، وسلمت به من الركون إلى ما دعاك إليه أهل الشرك، وكانوا قالوا له: لا نتركك تستلم الحجر حتى تُلمّ بآلهتنا، فقال في نفسه: ما عليّ أن أفعل ذلك، والله يعلم ما في نفسى فأتمكّن من استلام الحجر. وقيل: إنهم قالوا له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 اطرُدْ عنك سُقّاط الناس ومواليهم، والذين رائحتهم رائحة الضأن، لأنهم كانوا يلبسون الصوف إنْ كنتَ قد أرسلت إلينا لتجلس معنا، ونسمع منك، فهمّ أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم فنزل هذا الوعيد، لأن الله تعالى أمره بغير ذلك في قوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه) ، وقال: (ولا تدع مع الله إلها آخر) ، ولذلك قال: (وإن كادوا لَيفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفترى علينا غيره) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 وهذان البابان اللذان همّ بأحدهما من غير عزم منه عليه، هما غير ما أوحى الله إليه، فقد تبيّن أن خاتمة كل آية واقعة موقعها لا يصلح سواها مكانها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 سورة الكهف الآية الأولى منها قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ... ) . للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: (ثلاثة رابعهم) و (خمسة سادسهم) بلا واو، وبيّن قوله (سبعةٌ وثامنهم) بالواو؟. وقد سوىّ النحويّون بين الجملة التي تجري صفة للنكرة، أو حالاً للمعرفة إذا كان فيها ذكر الأول في أنّ دخول الواو عليها وحذفها منها جائزان. قال الزجاج: دخول الواو ها هنا وإخراجها من الأول واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 فإن قال السائل هل في اختصاص السبعة وعطف الجملة عليها فائدة تخصّها ليست فيما قبلها؟ فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أن يقال: إن الفرقة التي قالت: كانوا ثلاثة كانت بعدها فرقتان أخريان، وكذلك الثانية التي قالت: خمسة سادسهم كلبهم، وأما السبعة فانتهت عندها العدة، وانقطعت بها القصة، ولم تكن هناك فرقة رابعة تذكر قولا رابعا، والشيء إذا تمّ وانتهى وكانت الجملة فيما لم ينته تتصل بالأول اتصال الشيء منه كانت الواو فيها دليلا على انقضائها، والآخر في كلامٍ في حكم المنقطع منها في اللفظ وإن كان اتصاله بها في المعنى كاتصال الأوّلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 والثاني: أن السبعة لمّا كانت أصلا للنهاية في تركيب العدد، لأن أصل الجمع واحد، والواحد فرد، والتركيب بعده بأن يضمّ فرد إلى فرد فيصيران زوجا، فيحصل بضمّهما إلى الواحد السابق ثلاثة فرد لم يضمّ إليه شىء، وفرد ضمّ إليه فرد، ثم ضمّا إلى فرد فحصل به ضمّ زوج إلى فرد، وبلغت عدة المركّبات ثلاثة، وبقي أن يضم زوج إلى زوج، وهو اثنان يضمّان إلى اثنين فيصير أربعة، فإذا ضمّت الأربعة إلى الثلاثة تكاملت التركيبات، فلا ترى بعدها تركيبا خارجا عن ذلك، فصارت السبعة أصلا للمبالغة في العدد، ولذا خصّت السموات بسبع من العدد، والأرضون مثلها، والكواكب والأسبوع، وقال تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ..) ، وقال: (.. فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 وللمفسرين في ذلك جواب ثالث، وهو: أن العرب تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، فإذا بلغت الثمانية لم تُجرها مجرى الأخوات التي لا يعطَف بعضها على بعض كما يقال في الحروف المقطعة: ألف، باء، تاء، ثاء، واحتجوا بآيات من القرآن كقوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ) ، فعطف الثامن على ما قبله، ولم يدخل واو العطف على ما قبله، وكذلك قالوا في قوله: (.. حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 أبواب جهنم سبعة، وقال: (.. حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... ) ، لأن أبواب الجنة ثمانية، وقالوا مثل ذلك في قوله: (.. مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) ، وإن كان هذا مخالفا لما تقدّم، إذ الثيّبات لا توصف بالأبكار، فكانت الواو هنا من جهة أخرى، لا يجوز تركها. قلت: ويمكن أن ينصر هذا القول، ويعضد بطريق من القياس، تختص بثمانية، وهو أن الياء في ((ثمانية)) و ((ثماني)) ، ياءُ النسب التي في قولك: يمانٍ وشامٍ وتهام ورَباَع في الفرس الرباعى، وكان الأصل يمنىّ، وشآميّ، وتهامي وربعي وثمني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 فقلبت إحدى اليائين ألفاً، وقدّمت على لام الاسم، وبقيت الياء الأخيرة ساكنة. وياء النسب من خصائص الأسماء التي لا تكون في غيرها، وهي إذا دخلت على ما خرج من الاسم عن بابه كمدين وطلحة إلى باب ما لا ينصرف أعادته إلى باب الاسم وأبطلت عنه شبه غيره الموجب لمنع الصرف، فتقول: مدائنى وطَلحي، فتصرفه وإن صار بالياء أثقل ممّا كان، فلما دخل على "ثمانية" ما يخصصها بباب الاسم أجريت على حكم الاسم، وأزيل عنها حكم الحروف فعطفت على ما قبلها بالواو. فإن قال قائل: فإن هذا يلزمك في ثلاثة، لأن التأنيث من خصائص الاسم؟ قلت: هذه العلامة - أعنى أمارة التأتيث - تتصل بالفعل في نحو: قامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 وقعدت، وتتصل بالحرف في نحو: رُبَّتَ وثَمَّتَ، فيزول عنها الاختصاص. " فإن قال قائل: فالتثنية لا تكون إلاّ في الاسم فوجب في قولك: اثنان أن تقول: واحد واثنان. قيل: لا يختلف البصريون في أنّ الكاف من "ذلك " ليست اسما وهى تثنى وتجمع في قولك: ذاكما و (ذلكما ممّا علّمني ربّي) ، و (ذلكم يوعظ به) ، فيزول بما ذكرنا اختصاص ما عارض به من المختص بالاسم دون غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) . وقال في سورة حم السجدة: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) . للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: (رددت) وقوله في الثانية: (رجعت) وهل كان يجوز أحد اللفظين مكان الآخر في الاختيار؟ والجواب أن يقال: إن الأولى بقوله: (رُددت إلى ربّى) أولى، وذلك لما تقدّم من وصف الجنتين اللتين حوتا مراده، واشتملتا على ما أراده، وتقديره فيها أنهما يدومان له. والردّ عن الشيء يتضمن معنى كراهية للمردود تقول: قصد فلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 فلاناً فرُدّ عنه، وقصد فلاناً فرجع عنه، فلما كان الأول ينقل عن جنته وهو خلاف محبّته كان استعمال اللفظ الذي يدل على الكراهية فيه أولى والثانية لم يتقدمها مثل ما تقدم هذه، لأن قبلها: (لايسأم الإنسان من دعاء الخير وإنْ مسّه الشر فيئوس قنوط) ، إلى قوله: (لَلحسنى) وليس في ((رُجع)) " ما في ((رُدّ)) من كراهة وهوانٍ يلحقان المردود ولا يلحقان المرجوع، فافترقا لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ. وقال في سورة السجدة: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) . للسائل أن يسأل عن استعمال الفاء في سورة الكهف في قوله: (فأعرض عنها) واستعمال ((ثم)) في سورة السجدة؟ والجواب أن يقال: إن ((الفاء)) و ((ثم)) مشتركان في أنّ ما بعدهما في اللفظ متأخر عمّا قبلها في المعنى، ومختلفان في أنّ "الفاء" قرُب ما بعدها ممّا قبلها، وفي "ثم " تراخ عنه وبُعْد، فكان استعمال الفاء في سورة الكهف أولى، واستعمال ((ثم)) هناك أحق وأحرى، وذلك أنّ ما في سورة الكهف في ذكر قومٍ يُستدعَون إلى الإيمان، ولم تختم أعمالهم بالكفر لقوله تعالى: ( ... وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) . وليس كذلك قوله: (ثم أعرض عنها) الآية، في وصف الكفار بعد موافاتهم القيامة لقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... ) إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 قوله: (ثم أعرض عنها) ، أي: ذكّر مدّة عمره بآيات ربّه، وتطاول الأمر بزجره ووعظه، ثم ختم ذلك بترك القبول وبالإعراض، فكان هذا قولاً يقال فيهم عند الانتقام منهم كما حكى قولهم: (.. رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) ، فقد بان بما ذكرنا أن ((ثم)) هنا مكانها، والفاء هناك مكانها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 الآية الرابعة منها قوله تعالى في الحكاية عن موسى عليه السلام لماّ خرق الخضر عليه السلام السفينة: ... (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) . ولما قتل الغلام: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)) . للسائل أن يسأل عن "الإمر" و "النُّكر" وهل كان أحدهما يصلح في موضع الآخر، أم لكل واحد معنى يخصصه بمكانه؟. والجواب أن يقال: قيل: الإمر: إنه الداهية، وقيل: إنه العجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 والنُّكر: ما تنكره العقول ولا تعرفه ولا تجوّزه. ويروى عن قتادة أنه قال: النّكر أعظم من الإمر، لأن الإمر إن حُمل على الداهية فهي التي تدْهى الإنسان ممّا لم يخشه فيحترز من وقوعه. والعجب قد يكون غير منكر، والنّكر لا يستعمل إلا في المذموم الذي يخرج عن المعروف في العقل أو الدين، فاختص الأول بالإمر، لأن خرق السفينة التي لم يغرق فيها أحد أهون من قتل الغلام الذي قد هلك. وقيل: "الإمر" أعظم من النكر، لأن تغريق مَن في السفينة أنكر من قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 نفس واحدة، وليس كذلك لأن الغرق لم يقع، والقتل قد حصل. هذا القول قول الزجاج في معاني القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 الآية الخامسة منها قوله تعالى في الحكاية عن الخضر عليه السلام بعد قوله: ( ... لقد جئت شيئاً إمراً) : ( ... ألم أقل إنك لن تستطع معي صبراً) . وبعد قوله تعالى: (.. لقد جئت شيئاً نكراً: (.. ألم أقل لك إنك لن تستطع معي صبراً) . للسائل أن يسأل عن زيادة (لك) في الثانية وإخلاء الأولى منها. والجواب أن يقال: إنه في الأولى لماّ قرّر موسى وذكر ما كان قدّم القول فيه من أن الصبر على ما يشاهده منه يثقل عليه فقال: ( ... ألم أقل إنك لن تستطع معي صبراً) معناه في غالب ظني: إنك تعجز عن احتمال ما ترى حتى تبادر إلى الإنكار، فلما رأى قتل الغلام وعاد إلى الإنكار أكد التقرير الثاني بقوله: (لك) كما يقول القائل: لك أقول، وإياك أعنى، فيقدم (لك)) و"إياك " ولو قال: أقول لك، وأعنيك بكلامي لاستويا في المعنى إلا أنّ في (لك) تأكيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 الخطاب بالتقديم، فكأنه قال: ألم يكن خطابي لك دون مَن سواك، وهذا وجب في الثانى لا في الأول الذي لم تتأكد حجة الخضر عليه السلام كتأكّدها في الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 الآية الصادسة منها قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) للسائل أن يسأل عن (اسْطَاعُوا) في الأولى، فلم خصّت بحذف التاء، دون الثانية في جلّ القراءات. والجواب أن يقال: إن الثانية تعدّت إلى اسم، وهو قوله عز وجل: (نقباً) فخفّ متعلقُها فاحتملت بأن يتمّ لفظها، فأمّا الأولى فإنها تعلّق مكانُ مفعولها بـ "أن " والفعل بعدها، وهي أربعة أشياء: أنْ، والفعل، والفاعل، والمفعول الذي هو الهاء، فثقل لفظ "استطاعوا" وكان يجوز تحقيقه حيث لا يقارنه ما يزيده ثقلاً، فلما اجتمع الثقلان، واحتمل الأول التخفيف ألزم في الأول دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 الثاني الذي خف متعلّقه. انقضت سورة الكهف عن ست آيات وست مسائل. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 سورة مريم الآية الأولى منها قوله عزوجل: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) . وقال في سورة الزخرف: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) . للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف لفظي (كفروا) و (ظلموا) في الآيتين ما يخص أحدهما بمكانه، والآخر بالموضع الذي جاء فيه. والجواب أن يقال: كلتا الآيتين في قصّة عيسى عليه السلام وتوعّد من أثبت لله تعالى ولداً لقوله تعالى في سورة مريم: (ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) ، وقال في سورة الزخرف: (ولماّ جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه..) إلى قوله: (. فويل للذين ظلموا..) والكفر أعظم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 الظلم وإن كان كل كافر ظالماً لنفسه، فلماّ قالوا في عيسى عليه السلام إنه ابن الله كفروا. بذلك وظلموا أنفسهم فأخبر الله تعالى عنهم في القصة التي شرح فيها ابتداء أمره بالوصف الذي يتضمن لفظ أكبر الذنوب، وهو الكفر. ولماّ أجمل في السورة الثانية ما فصّله في الأولى وصفهم بالوصف الذي يدل على أنهم حرّموا أنفسهم ما عُرضوا له من الثواب، وأوجبوا عليها أليم العذاب، فبذلك ظلموها، أعني بالكفر الذي كان منهم لماّ دعوا للرحمن ولداً، تقدس الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 الآية الثانية منها قوله تعالى: ( ... فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) . وقال في سورة الفرقان: ( ... وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ..... للسائل أن يسأل فيقول:. ما بال الفعل في الآية الأخيرة أكد بذكر المصدر معه من دون الفعل في الآية الأولى. والجواب أن يقال: أما الأول فإنه بعد قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ... ) ، فكان موضع إيجاز لذكر المعاصي فبُنى الكلام عند ذكر التوبة على ما بنى عليه ذكر المعصية. ولم يكن كذلك الموضع الثاني، لأنه بدئ بقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 ، فلما ذكر الكبائر، وأنّ أولياء الله يجتنبونها، وأن من أتاها ضوعف له العذاب إلاّ أن يتوب ويعمل عملا صالحاً، كان الموضع موضع تأكيد لأنه لمن يعمل العمل الصالح بعد ارتكاب الكبائر التي عدّدها. فلمّا أكّد الكلام هناك وجب تأكيده هنا، أعني عند محو السيئات المتقدمة بالحسنات المستأنفة، فاختلاف الآيتين في التوكيد لما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 سورة طه الآية الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ... ) ، إلى قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ) . وقال في سورة النمل: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ ... ) . للسائل أن يسأل فيقول: قال الله تعالى: ( ... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) ، وهل الاختلاف إلا هذا الذي جاء في سوره في الإخبار عن قصة واحدة، مرة أنه قال لأهله: (.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 ، وفي أيةٍ: ( ... سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ ... ) ، وقال في القصص،: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ .... ) ثم قوله تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ... ) ، إلى قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)) . وفي السورة الثانية: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ ... ) . وكذلك جاء في سووة القصص: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا..) . والجواب أن يقال: إن الله تعالى لم يخبر أنه خاطب موسى عليه السلام باللغة العربية بألفاظ إذا عدل عنها إلى غيرها ممّا يخالف معناها كان اختلافا في القرآن قادحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 فيه، بل معلوم أن الخطاب كان بغير هذه اللغة، وأنه تعالى أخبر في بعض السور ببعض ما جرى، وفي الأخرى بأكثر ممّا أخبر به في التي قبلها، وليس يدفع بعضها بعضا. فأما قوله تعالى: ( ... لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) ، فهو معنى قوله: ( ... سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبسٍ ... ) ، لأن الخبر الذي يأتيهم به هو أن يجد على النار من يهديه ويخبره أن الطريق ما هو عليه، أو غيره، ووجود الهدى وأن يخبر بخبر اهتدائه في طريقه أو غيره شيء واحد لا اختلافَ فيه. وأما قوله عز وجل: (فلما أتاها نودى يا موسي إنى أنا ربك فاخلع نعليك ... ) ، فهو ممّا جرى، ولم يخبر الله تعالى به في سائر السور، فأخبر به في هذه. وكذلك القول في العصا وسؤاله وتقريره على ما وصف من حالها، حيث يقول: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 ، إلى قوله:، ( ... سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى، هو من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 الآية الثانية منها قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) ، إلى قوله: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) . وقال في سورة الشعراء: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) . وقال في سورة القصص: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 للسائل أن يسأل عما حكى الله تعالى من قول موسى عليه السلام لما بعثه إلى فرعون واختلافه في السور الثلاثة لأنّ ما في سورة طه سوى ما في سورة الشعراء وما في سورة القصص. والجواب عن ذلك أن قوله: (ربّ اشرح لي صدري) طلب أمانٍ له من أن يقتَل بمن قتله، وهذا معنى قوله: ( ... أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ... ) ، لأنهم لو صدّقوه لما خاف أن يقتلوه. وكذلك قوله في السورة الثالثة: (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) ، وقوله: (ويسّر لي أمري) ، أي: سهّله حتى أؤدّي رسالتك، وإذا أمن من القتل فقد فعل به ما طلبه. وأما قوله: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) ، فهو معنى قوله: (ولا ينطلق لساني فأرسل إلي هارون) . وكذلك في سورة القصص: (وأخى هارون هو أفصح منى لساناً فأرسله معي رِدا يُصَدِّقُنِى إنى أخاف أن يكذّبون) فطلب أن يحلّ عقدة من عقد لسانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 وأن يؤيَّد بأخيه، فأجيب إليهما، ولم يطلب حلّ كل عقد لسانه لما حكاه الله تعالى عن فرعون: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) ، وسائر ما ذكر في سورة ولم يذكر في أخرى ليس من الاختلاف الذي يعاب. وأما قوله: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) ، وقوله في الشعراء: (أن ائت القوم الظالمين قومَ فرعون ألا يتقون) وقوله في القصص: (إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوماً فاسقين) . ففي " الآية الأولى ذُكر فرعون وحده، لأن قومه تبع له، وكأنهم مذكورون معه، وفي الآية الثانية ذكر قوم فرعون من دونه، ومعلوم أنه منهم ومخاطب بمثل خطابهم، فإذا اتقوا وآمنوا كان فرعون وحده لا يقدر على مخالفتهم، فترك ذكره، لأنه في هذه الحالة في حكم التابع لهم وخطابهم خطابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 وأما الموضع الثالث فإنّ الحكاية أتت على فرعون وملئه فبيّنت ما انطوت عليه الآيات قبل من ذكر بعض والاكتفاء به عن بعض، وهذا كما قال في موضع لموسى وحده: (اذهب إلى فرعون) ، وفي موضع: ( ... أن ائت القوم الظالمين) ، لأنّ هارون تابع له، وداخل في حكمه، وأبان ذلك في موضع فقال: (فأتيا فرعونَ فقولا إنّا رسول ربّ العالمين) ، وقال بعده: (فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) . وقال في سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) . للسائل أن يسأل في هذه الآية عن موضعين: أحدهما: اختصاص الأولى بالفاء، والثانية بالواو. والثاني: أنه قال في السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ) فأدخل ((من)) على (قبلهم) هنا ولم يدخلها هناك مع تساوى المكانين والمعنيين. فيقال للسائل عن ذلك: لمّا كائت هذه الآية مفتتحة بقوله: (أفلم) ، وتلك مفتتحة بقوله: (أو لم) اختلفتا من هذه الجهة، فكان ما دخلته الفاء، لأنه يتعلّق بما قبله تعلّق الجواب بالمبتدأ، والجزاء بالشرط، فتكون جملة تمامها بجملةٍ قبلها تثقل فيختار لها التخفيف. وما دخلته الواو لا يقتضي ما تقتضيه الفاء بنفسها، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 حقه الانقطاع عما قبله، ولذلك يجوز أن يكون المؤخر بعدها في اللفظ مقدّما في المعنى وأما دخول "مِن " وحذفها فقد بيّنّاه في قوله: (.. ولئن اتبعت أهوائَهم من بعد ماجاءك من العلم..) ، وفي موضع.. بعدما جاءك..) ، وهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض. فإن قال قائل: فلم جاء في سورة طه: (أفلم) بالفاء؟ قلت: لأنه تقدم قوله: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ... ) ، ومعناه: فتركت الاهتداء بها، ثم قرّرهم على نصبه لهدايتهم واحتجّ عليهم بتركهم الاهتداء به فقال: (أفلم يهد لهم) والتقدير: مَن تأته آياتنا فعليه الاهتداء بها، وأنتم أتتكم آياتنا فلم توفوها حقّها، فهلاّ فعلتم ما لزمامكم منها؟ فالذي أوجب الفاء في هذا المكان هذا المعنى، ولم يكن مثله في سورة السجدة من تعلّق مابعد (أوَ لم) بما قبله تعلُّق هذه الآية بما تقدمها، لأن هناك: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ... ) . فلمّا انفصل جاء بالواو، ولمّا جاء بالواو ولم يكن من شرطها تركيب جملة مع جملة تكونان كلاماً واحداً فخفّ، وأدخلت عليه "من" التي حذفت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 الآية الأولى لِيُحَدّ ابتداء الزمان فيكون أبلغ في الاستيعاب. انقضت سورة طه عن ثلاث آيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 سورة الأنبياء عليهم السلام الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ... ) . وقال في سورة الفرقان: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ... ) . للسائل أن يسأل عن إظهار الفاعلين في: (رآك الذين كفروا) من سورة الأنبياء، وإضمارهم من سورة الفرقان. والجواب أن يقال: إنّ ماقبل الآية في سورة الأنبياء: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) فلم يجر للكفار ذِكر في الآية التي قبل هذه، فكان الاختيار الإظهار. وأمّا في سورة الفرقان فإن قبل الآية: ( ... أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) أي: ألم ير الكفار في زمانك القرية التي أمطرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 مطر السّوْء، فيحذروا، فلما كان الذكر متقدّماً في أقرب الكلام إليها كان الاختيار الإضمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 الآية الثانية منها قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) . وقال في سورة الشعراء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) . للسائل أن يسأل عن اختصاص هذا المكان بقوله: (بل) وخلوّ المكان الأول منها. والجواب أن يقال: إن الآية الأولى وقع السؤال فيها على وجه لا يقتضى "بل" في الجواب، لأنه قال: ما هذه الأصنام التي نحتّموها تماثيل وعكفتم عليها، فكأنه سفّه آراءهم وقال لهم: لم تفعلون ذلك، وتعبدون ما تنحتون فقالوا: وجدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 آباءنا لها عابدين فاقتدينا بهم. وفي سورة الشعراء تقدم سؤال أضربوا عنه، ونفوا ما تضمّنه، لأنه: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فقالوا مضربين عن هذه الأشياء التي وبّخوا عليها من عبادتهم ما لايسمع ولا ينفع ولا يضر وما يعلمون أنه جماد لاحياة فيه ولا نفع ولا ضرر عنده، وكأنهم قالوا: لا، بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فلأنّ السؤال هنا يقتضى في جوابهم أن ينفوا ما نفاه إبراهيم عليه السلام أضربوا عنه إضراب من بنفى الأول، ويثبت الثاني، فاختصاص المكان بـ "بل" لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) . وقال في سورة الصافات 971،: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) . للسائل أن يسأل فيقول: هذا في قصة واحدة، فجاء في موضع: (الأخسرين) وفي موضع (الأسفلين) فهل في كلٍ من المكانين ما يختص باللفظ الذي خصّ به؟. والجواب أن يقال: أمّا في سورة الأنبياء فإن الله تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: (وتالله لأكيدنّ أصنامكم..) ، ثم أخبر عن الكفار لمّا ألقوه في النار وأرادوا به كيداً: (فجعلناهم الأخسرين) والكيد: سعي في مضرة لتورد على غفلة، فذكر مكايدة بينهم وبين إبراهيم عليه السلام، فكادهم ولم يكيدوه فخسرت تجهارتهم وعادت عليهم مكايدتهم، لأنه كسّر أصنامهم ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فذكر الأخسرين لأنهم خسروا فيما عاملهم به وعاملوه من المكايدة التي أضيفت إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 وأما الآية التي في سورة الصافات فإن الله تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من الأسفلين، وهو أنه قال: (قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم) ، فبنوا له بناء عاليا ورفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أجّجوها، فلما علوا ذلك البناءَ وحطّوه منه إلى أسفل، عادوا هم الأسفلين، لأنهم أهلكوا في الدنيا وسفل أمرهم في الأخرى، والله تعالى نجّى نبيّه - عليه السلام - وأعلاه عليهم، فانقلب عاليّ أمرهم في صعود البناء وسافل أمر إبراهيم عليه السلام. د فلمّا حُطّ إلا النار صار ذلك سافلا، وأمر النبي عليه السلام عاليا، فلذلك اختصت هذه الآية بقوله: (فجعلناهم الأسفلين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) . وقال في سورة "ص ": (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) . للسائل أن يسأل عن الفرق بين موضعي قوله (رحمة من عندنا) و (رحمة منا) وقوله (وذكرى للعابدين) وقوله: (وذكرى لأولى الألباب) وهل في كل مكانٍ من المكانين ما يختص بذلك دون غيره؟. والجواب أن يقال: أخبر الله تعالى في سورة الأنبياء عن أيوب عليه السلام بأنه نادى ربّه وشكا إليه ما مسّه من الضرّ وسوء الحال بالمرض الذي طالت به أياّمه حتى تآكّل جسمه وتساقط لحمه، ثم بالفقر الذي ناله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 واجتاح مالَه، وكان الله تعالى ابتلاه بجميع ذلك وأحدث فيه المرض الذي أضعفه عن تعهّد حاله حتى زال جميع ماله ليعطيه على صبره الثوابَ العظيم، وليعوِّضه من نعيم الجنّة ما هو خير له ممّا سلبه من ماله وصحة بدنه، فكأنه لما قال: (مسّنيَ الضرّ) قال: مسنى من عندك يا ربِّ ما تعلم، وأنت الأكرم الأرحم، فقال: (وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم رحمة من عندنا) أي: كما كان الضر من عندنا كان كشفه والرحمة مكانه من عندنا، ومعنى (من عندنا) أي من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 لا تناله قدر العباد، فكل مكان اختص بقدرة الله تعالى وحده يطلق عليه "عند الله ". وأما قوله: (وذكرى للعابدين) فالمعنى: فعلنا به ما فعلناه رحمة له منا، وتذكرةً لمن عبد الله بعده بإخلاص منه، فلا يحُول عن حمده وطاعته مع ما يُصَبّ عليه من شدائد الدنيا ومصائبها التي ينزلها الله به، بل يثبت معها على إدامة العبادة، وإمدادها بالزيادة كما فعله أيوب عليه السلام. وأما في سورة ص فإن الله تعالى لما أخبر فيها عنه أنه قال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربَّه أني مسّني الشيطان بنُصْبٍ وعذاب) ، وشكا إلى الله تعالى ما يلحقه من أذى الشيطان بوسوسته إليه، وفنون احتياله عليه ليضيّق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 صدره وينقص حمدَه وشكرَه، فهان عليه المرض الذي ينقص من الأبدان في جنب ما يؤثّر في الأديان، ويُخلّ بالطاعات، ويشغل من الزمان في مدافعة الوسواس، فلمّا كان هذا له أعمّ وخاف من جهته الضررَ الأشدّ أغاثه الله برحمة منه مضافة إليه مختصة بإرادته، إذ كانت أفعال الله تعالى منها ما يختصّ به، ويضيفها إلى نفسه كقوله تعالى: (.. أن تسجُد لما خلقتُ بيدّي..) ، ومنها ما يأمر به بعض ملائكته وإن أخبر أنه من فعله، ومختصّ به كقوله: (.. فنفخنا فيها من روحنا ... ) ، يقال: أنه أمر جبريل عليه السلام فنفخ الروح في فرجها وخلق الله عيسى في رحمها، فلما كانت شكوى أيوب - عليه السلام - فيما أخبر الله تعالى به في سورة ((ص) أعظم والبلوى به أكبر، أخبر أنه رحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 رحمةً، وأنعم عليه نعمةً لا يُجري أمثالها على أيدي خلقه، بل هي ممّا يختص بفعله، ولا يولّيه مقرَّباً من ملائكته، وإن كان ما يقدّرهم عليه من مثل ذلك مضافا إلى قدرته تعالى، فهذا فرق ما بين قوله: (رحمة من عندنا) و (رحمة منّا) ، وأما قوله: (وذكرى لأولي الألباب) فلأنّ أولي الألباب أعمّ من العابدين، واستدفاعُ وساوس الشيطان أعمّ من الاستشفاء للأبدان، فخص كلّ آية بما اقتضاه صدر الكلام وتعريض أيوب عليه السلام بالسؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) . وقال في سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) . للسائل أن يسأل فيقول: هل كان مختاراً أن يعود ضمير المذكّر في الآية من سورة الأنبياء فيجيء "فنفخنا فيه" كما جاء في الآية الأخيرة؟ أم لكلّ مكان ما يختص باللفظ الذي جاء عليه؟. والجواب أن يقال: لما كان القصد في سورة الأنبياء إلى الإخبار عن حال مريم وابنها، وأنهما جُعلا آية للناس، وكان النفخ فيها ممّا جعلها حاملا، والحامل صفة للجملة، فكأنه قال: (والتي أحصنت فرجها) فصيّرها النفخُ حاملا حتى ولدت، والعادة جارية أن لاتحمل المرأة إلا من فحل، ولايولد الولد من غير أب، فلما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 القصد التعجب من حاليهما، وأنها بالنفخ صارت حاملا ردّ الضمير إلى جملتها، إذ كان النفخ في فرجها نفخاً فيها أوجب القصد إلى وصفها بعد النفخ بصفةٍ ترجع إلى جملتها دون بعضها، كان قوله: (فنفخنا فيها) أولى من قوله: (فنفخنا فيه) . وأما قوله في سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) فلما لم يكن القصد فيه إلى التعجّب من حالها بالحمل عن النفخ، وولادتها لا عن اقتراب فحل لم يكن ثَمّ من القصد إلى وصف جملتها بغير الصفة التي كانت عليها قبلها ما كان في الآية الأولى، فجاء اللفظ على أصله، والمعنى: نفخنا في فرجها، ولم يُسَقِ الكلامُ إلى ما سيق إليه في سورة الأنبياء من وصف حالها بعد النفخ، فاختلفا لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 الآية السادسة منها قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) . وقال في سورة المؤمنين: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) . للسائل أن يسأل عن اختلاف قوله: (فاعبدون) وقوله (فاتقون) في الآيتين، وعن الواو والفاء في قوله: (فتقطعوا) (وتقطعوا) . والجواب أن يقال: في قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) ثلاثة أقوال: أحدها: أن تكون الإشارة بـ "هذه " إلى أمم الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - ويكون المعنى: أمتكم في حال كونهم جماعة واحدة، وعلى دين واحد في أصول الشرع، كالتوحيد وصفات الله عز وجل، وإثبات النبوات، والمقام على طاعة الله، فمتى تفرّقوا في طرق الباطل لم تكن بينكم وبينهم نسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 والثانى: أن يكون المعنى: (إن هذه أمتكم أمةً واحدة) مقصوداً بها دين واحد، والأمة كل جماعة يسلَك بها مقصد واحد، والأمة، من أمّ إذا قصد، أي: أممكم وإن تفرّقت أزمنتها فإنها يقصَد بها دين واحد فهي أمتكم، مقصود بها التوحيد، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة والإخلاص له فيها. والثالث: أن تكون الأمة: الملّة، وهي الدين، أي: هذه ملتكم ملة واحدة، لأنها الإسلام وقوله: (وأنا ربكم فاعبدون) أي: وربكم القائم بمصالحكم من ابتداء كونكم إلى انتهاء أحوالكم هو أنا فأخلصوا لي العبادةَ وحدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 وقوله: (وتقطّعوا أمرهم) جاء بالواو، لأنه لم يكن ما بعد الواو كالجواب لما قبلها، كما كان ذلك في الفاء، لأنه يجوز أن يكونْ تقطّعهم أمرهم قبل أن خوطبوا بقوله: (فاعبدونِ) فلا تصلح الفاء، ألا ترى أن تفرّقهم فِرقا وتقطّعهم أمرهم قطعاً، فصار بعضهم يعبد الله وحده، وبعضهم يعبد معه غيره، وبعضهم لا يعبده، كان قبل إخبار الله تعالى جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أن هذه الأممَ أممهم جماعة واحدة غير متفرقة، وهو الذي دعا إلى أن نبّههم فقال: خالقكم واحد، والذي يربّيكم هو، فاقصدوه بالعبادة دون من سواه، وإذا كان كذلك كان قوله: (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي: تقطعوا أمر دينهم قطعا وافترقوا فيه فِرقاً، خبراً غير متعلق بما قبله تعلّق الجواب بالابتداء، بل ذلك هو ما بعد الفاء في عقب هذه الآية: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) أي: تفرقوا فرقا، فمن كان من فرقهم يعمل الصالحات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 وهو مؤمن فإنّ سعيه مقبول، وهو على عمله مثاب، ومن عمل صالحا ولا إيمان معه مثل معونة الضعيف، وإغاثة اللهيف (1) ، وصلة الرحم، وإفاضة النعم، والكف عن الظلم لم يقبَل سعيُه، وهو في ضمن قوله: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) . وأما قوله في الآية الأولى: (وأنا ربكم فاعبدون) واختصاصها دون قوله: (فاتقون) فلأنه خطاب للفرق التي تفرقت في طرق الباطل، ولم تخلص العبادة لله فنبّأهم إلى أن يعبدوه. والتي في سورة المؤمنين إنما هي خطاب للرسل عليهم السلام لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)) . وقد جاء في خطاب الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والمؤمنين والصالحات بعدهم: اتقوا الله، قال الله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ... ) ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .   (1) اللهيف: المضطر (اللسان 32219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 ْفلمّا كان أكثر مَن خوطب في السورة الأخيرة الأنبياء والمؤمنون، وهم يعبدون الله جل ذكره، وضمّ إليهم غيرهم من الفرق غُلِّبوا عليهم فخوطبوا بما يخاطَب به المؤمنون، وهو: (اتقوا الله) إذ كان أكثرهم له عابدين، ومعنى "اتقوا)) : احترزوا بطاعته ممّا أعدّه لأهل معصيته، وامتنعوا بموجبات الثواب عن موجبات العقاب، فكان هذا موضع (فاتقون) وفي الأولى موضع (فاعبدون) . وأما الفاء في سورة المؤمنين في قولهْ (فتقطّعوا) فلأنه لما ذكر الزبر صار قوله: (فتقطّعوا) كالجواب لما قبله، لأنهم قطّعوا أمر دينهم كتباً منزلة من الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 عزّ اسمه، فمنهم من دان بالتوراة وكفر بما سواها من الانجيل والقرآن، ومنهم مَن دان بالإنجيل وكفر بالتوراة والقرآن. فلمّا كان ما قبل الفاء خطابا للرسل وأممهم، وقال: كونوا جماعة واحدة ذات دين واحد، صار كأنه قال: أمرتهم بالائتلاف والاتفاق في الدين فتقطعوا أمرهم فيه قِطعا، وافترقوا فِرقا، وكلٌّ يقدّر أنه على الصواب، وممتثل بما في الكتاب، فهو فرح بما لديه، ومعوّل عليه، فكان ما بعد الفاء هنا في تعلّقه بالأول تعلّق الجواب بالمبتدأ، كما بعد الفاء في قوله في الآية الأولى، وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 (فمن يعمل من الصاحات وهو مؤمن ... ) ، في أنه متعلّق بما قبله تعلّق الجواب دون قوله: (وتقطّعوا) . والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 سورة الحج الآية الأولى منها قوله عز وجل: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) . وقال في سورة السجدة: ( ... كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . للسائل أن يسأل عن قوله: (مِنْ غَمٍّ) في سورة الحج، وخلوّ الآية التي في سورة السجدة منه؟ والجواب أن يقال: إنه تعالى لماّ وصف من أحوال أهل النار في هذه السورة في الآية المتضمنة لهذه اللفظة بقوله: ( ... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) ، فأخبر أن النار تشتمل عليهم من جوانبهم كاشتمال الثياب. وقيل: هي ثياب نحاس من نار، وهي النهاية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 الإحماء والإحراق، ثم خصص الرؤوس بصبّ الماء المغليّ عليها. وقيل في التفسير: إنه ينفد إلى أجوافهم فيَسْلت ما فيها، ويذوب ما في بطونهم من الشحوم ويتساقط ما عليهم من الجلود، مع زبانية بأيديهم عُمُدٌ من حديد يضربون بها رؤوسهم إذا حاولوا الخروج من النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 فلما وصفهم بأن العذاب من جميع الجوانب اكتنفهم صاروا بإحاطة ذلك بهم، وبسدّ أنفاسهم عليهم بمنزلة البعير المغموم بالغمامة التي تسدّ متنفّسه فلا يجد فرجة، والطبق (1) المغموم المستور. وقال القطامي: إذا رأسٌ رأيتَ به طِماحاً شَدَدْتَ له الغمائمَ والصِّقاَعا وليس الغم هاهنا الحزن، وإن كان أصله من ذلك، لكنه تغطية بالعذاب،   (1) والطبق: السحاب الممتلىً بالماء. قال في النهاية: ((في حديث الاستسقاء: اللهم اسقنا غيثاً طبقاً، أي مالئاً للأرض مغطياً لها. يقال غيث طبق: أي عام واسع ". " والطبق: انطاق الغيم في الهواء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 وأخذ بكظمهم، فلماّ تقدّمه وصف ما أحاط بهم ذكر هذا الغم، أي كلّما أرادوا من الكرب الذي يأخذ بكظمهم أن يخرحوا من النار التي جلبت عليهم كلّ ذلك أقبلت الزبانية نحوهم بما يدقّ رؤوسهم. والآية التي في سورة السجدة لم تشتمل من إحاطة العذاب من ذكر الثياب من النار، وصبّ الحميم، وإذابة الشحوم على ما ذكر في هذه الآية، لأنه قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) فلما لم يتقدم ذكر ما يُطيف بهم ويغمهم ويصير كما يسدّ مخارج أنفاسهم لم يذكر أنهم يحاولون الخروج من أجل الغم الذي اقتضت الآية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 الحج ذكره، ولم يقع مثله في سورة السجدة من مقتض، فلم يقع المقتضى كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 الآية الثانية منها قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) . وقال بعده بآيات: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) . للسائل أن يسأل عن قوله. في الأولى: (أهلكناها) وقوله في الثانية: (أمليت لها) ، وهل لكل من اللفظين ما يوجب اختصاصه. بمكانه دون الآخر؟ والجواب أن يقال: إن قوله: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ... ) جاء بعد قوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... ) ، إلى قوله: ( ... وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فلما جاء عقيب ما وصف من إهلاكهم وصفهم بذلك. والثانية بعد قوله: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإنّ يوماً عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدّون) ، فذكر عقيب استعجالهم العذاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 والله يريد غيره من الإملاء لهم، وتأكيد الحجة عليهم، فكل لفظة في مكانها الذي تليق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) . وقال بعده بآيات: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) . للسائل أن يسأل فيقول: هل كان يجوز في الأول: (في جنّات النعيم) وفي الثاني: (لهم مغفرة ورزق كريم) وما المعنى الذي خصّ كلاّ من اللفظين بمكانه؟. والجواب: أن الأول خبر عن حال القوم في الدنيا: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) ، ثم قال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وُعدوا بالغفران والرزق الكريم، ولم يجز هنا أن يقال: هم. في جنات النعيم، إلا على ضرب من المجاز أنهم مستحقون لها، فكأنهم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 وليس كذلك الآية الأخيرة لأنها خبر عن الحال في الآخرة لقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) أي يوم القيامة يكونون في دار الثواب، فلما اختلف المقتضِيان اختلف المقتضَيان فذكر كل واحد في المكان الذي لاق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) . وقال في سورة لقمان: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) . للسائل أن يسأل عن تخصيص الآية من سورة الحج بالتوكيد في قوله: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) وإخلائه منه في سورة لقمان. والجواب أن يقال: إن الأولى وقعت في مكان تقدمت فيه توكيدات مترادفة في ستة مواضع، وهي: قوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ... ) ، فاللام والنون مؤكدتان، وبعده: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) ، واللام مع "هو" مؤكّدتان، وبعده: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ) ، واللام والنون سبيلهما تلك السبيل، وبعده: (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 ، واللام التي في خبر "إن" كذلك. وبعده (لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)) . فلما ترادفت التوكيدات في هذا الموضع، وجاء بعده خبر بين خبرين أكّدا، وهو: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) اقتضت إشباهه مثله فجاء الخبر الثاني الواقع بين الخبرين، وبعد الأخبار المؤكّدة مؤكداً بقوله: "هو" فقال: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) وليس كذلك ما جاء في سورة لقمان، لأنه لم يتقدمه التوكيدات التي تستتبع أمثالها كما تقدمت في الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) وقال في سورة لقمان،: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) . للسائل أن يسأل عن إعادة "ما" في الآية الأولى في قوله: (له ما في السموات وما في الأرض) وإخلاء الثانية منها لقوله: (لله ما في السموات والأرض) وعن قوله في الآية الأولى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فأدخل اللام على قوله "هو" ولم يدخلها في التي في سورة لقمان. والجواب عن ذلك نحو الجواب الأول، وهو شاهد يحقّق ما أجبنا به من اختيار التوكيد، حيث يقصد بناؤه على الكلام المتقدم له، لأن هذه الآية تالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 لتلك لا يحجزها عنها إلاّ قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) ، فحُملت على نظائرها المذكورة قبلها، وخالفت التي في سورة لقمان تلك. بموقعها، فلم تؤكد كما وُكدّت الأولى لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 سورة المؤمنين الآية الأول منها قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ... ) . وقال بعد هذه القصة: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. للسائل أن يسأل عن تقديم: (مِنْ قَوْمِهِ) في الآية الأخيرة وتأخيره في الآية الأولى، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 والجواب أن يقال: لما انقطعت صفة الملأ في الآية الأولى إلى المحكي من قولهم قرن الوصف بـ "الذين " إلى الموصوف، ثم جىء بالجار والمجرور فكانا منتهى بيان فاعل "قال" ولم تكن كذلك القصة في الآية الأخيرة، لأنه عدّدت فيها أفعال عُطفت على الفعل الذي هو صلة "الذين" فقدم الجار والمجرور لئلا يحال بين الصلة وما عطف عليها، فقال (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..) ، فكان كل ذلك ما أتبع قوله: "كفروا" ولو قال: وقال الملأ الذين كفروا من قومه وكذبوا بلقاء الآخرة لم يكن على النظم المرتضى فيما يستفصَح من الكلام وإن كان جائزاً، فلذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 قدّم الجار والمجرور في الأخيرة وأخّر في الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 الآية الثانية منها قوله عز وجل: ( ... فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ) . وقال في سورة هود، وكان حقّ ذلك أن يذكر هناك: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ) . للسائل أن يسأل فيقول: لِم اختلف في الآيتين قوله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) وقوله: (فَاسْلُكْ فِيهَا) وهل كان يصلح واحد منهما مكان الآخر أم هناك معنىً يخصص كلاًّ بمكانه؟ والجواب أن يقال: إن قوله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) إخبارٌ عمّا كان من الله تعالى إلى نوح عليه السلام من الأمر بحمل ما يحمله في السفينة، ومَن يحمله من المؤمنين، وتقدّم إليه بإعدادهم للركوب معه ومنع مَن حُظر عليه استصحابه، ثم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 ذلك أمره بقوله: (اركبوا فيها) ، فالأول أمر بتهيئته ما يستبقى من الحيوان، ومَن يستبقى من المؤمنين. والثاني أمر بركوب السفينة، والثالث أمر بالهبوط منها بقوله: (قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركاتٍ عليك) فالذي جاء في سورة هود جاء على مقتضى أوامر الله تعالى المفصّلة من إعداد مَن يركب معه، ومن الركوب ومن النزول. وأما قوله في سورة المؤمنين: (فاسلك فيها) فإنه مجمل ما فصل في الآية الأولى، إذ كان الشرح والبيان مقصورين عليها، وكانت الثانية مشملة على بعض ما اشتملت عليه الأولى، وفي قوله: "اسلك " ما يتضمن: "احمل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 و "اركب " و "اعبر" ومن ذلك سمي الطريق مسلكاً، (وسلكه ينابيعَ في الأرض) ، أى أجراه، وسلك الطريق: نفذ فيه، فكان موضع الاختصار أولى بالمجمل من الكلام، وموضعُ البيان أولى بالبسط، فقصة نوح في سورة هود قد شغلت بها خمس وعشرون آية، وهي في سورة المؤمنين واقعة في ثمان آيات، فاقترن بكل من المكانين ما اقتضاه القصد من زيادة بيان أو اختصارِ كلامٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) . وقال بعده في ذكر القرون: ... (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) . للسائل أن يسأل ما الذي أوجب في الأولى: (للقوم الظالمين) وفي الثانية: (لقوم لا يؤمنون) ؟. والجواب أن يقال: إن القصة الأولى وإن خرجت على لفظ التنكير فقال: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... ) ، فإنه معلوم مَن المراد بالرسول، وبالمرسَل إليهم، ودلّ على ذلك بأن قال: أهلكتهم بالصيحة، وهم قوم صالح عليه السلام، فلمّا كان في أقوام معلومين أتى بذكرهم معرفة فقال: (فبعداً للقوم الظالمين) وخصّ وصفهم بالظلم، لأنه شيء عاملوا به غيرهم، وعاملوا به أنفسهم لتكذيبهم الرسل، وظلمهم لهم بنسبتهم إلى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 هم منزّهون عنه، ثم هم ظالمون لأنفسهم بأن منعوها ما عرضوا له من النعيم الأبد والثواب السرمد. وأماّ قوله: (فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) فإنه جاء بعد خاتمة قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) ، فلم يبيَّن بالمعنى مَن المراد كما بُيّن في الأولى، وكانوا منكورين للمسلمين، فلمّا أمرهم بلفظ الدعاء عليهم استعمل فيهم ما يستعمل فيمن لم يتعيّن ولم يشتهر، فنكّر اللفظ فقال: (لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) أي: أهلك الله كلّ قوم لا يؤمنون عند ظهور آيات الله لهم، ووجوب حججه عليهم. والمعنى: بُعداً لكل قومٍ، ليليق بقوله: ( ... كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 ، فأخبر خبراً عاماً وأمر بأن يُدْعَى عليهم دعاء عاماً فوجب في كل موضع ما جاء فيه دون الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) . وقال في سورة النمل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) . للسائل أن يسأل عن تقديم توكيد المضمر المرفوع بقوله (نحن) وتأخير المفعول، وهو (هذا) في الآية الأولى وعكس ذلك في الآية الثانية، وهل لذلك فائدة تقتضى لكل مكانٍ ما خصّ به؟. والجواب أن يقال: لما كان الأول في حكاية تظاهرت فيها أفعال أسندت إلى فاعليها متصلة بها، وهي: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) فهذان فعلان تعلّق بهما هذا المحكي، وكل واحد منهما جاء بعده فاعله مواصلا له غير منفصل عنه، ثم بعده: (قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا) فكل هذه الأفعال قُصد بها حكاية ما جاء بعدها، فلمّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 كان: (لقد وعدنا) وجب في البناء على الأفعال المتقدمة أن يتمّم حكم الفاعل، وهو توكيده، والعطف عليه، فقدّم (نحن وآباؤنا) على المفعول الثاني، وهو (هذا) لذلك، ولأن الأصل إذا أجرى عليه الشيء أولى من غيره. وأما الآية الثانية من سورة النمل فإن الذي تقدمها: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا) فأخّر المعطوف على اسم (كان) الذي هو كالفاعل لها، وهو قوله: (وآباؤنا) عن المنصوب الذي هو كالمفعول لها، وهو قوله: (ترابا) فصار ما هو كالمفعول مقدّما على ما هو معطوف على الفاعل، فاقتضى البناء عليه تقديم المفعول ثم العطف على الفاعل المضمر فجاء: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 مِنْ قَبْلُ ... ) لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) للسائل أن يسأل عن خاتمة الآية الأولى بقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) وخاتمة الثانية بقوله: (أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) وخاتمة الثالثة بقوله: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) وما الذي خصّ كلاًّ بمكانه؟. والجواب أن يقال: إنّ هذه الآي جاءت بعدما أخبر الله تعالى عن الكفار من إنكار البعث، وهو في الآية التى تكلمّنا فيها، واتصلت هذه بها، فأمر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بأن يسألهم لمِن الأرض ومن فيها؟ أي: مَن يملكها، ويملك الناس الذين فيها؟ فإنهم يقرّون أن جميع ذلك لخالقها، وهو الله تعالى، فإذا أقرّوا بذلك فقل لهم: (أفلا تذكّرون) إذا قلنا لكم إنه ينشئ نشأة ثانية ما كان من النشأة الأولى كما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ... ) أي: عندكم، وفي تقديركم الفاعلين منكم، فخصّت بالتذكّر، لأنهم إذا أثبتوا الخلق الأول لزمهم الخلق الثاني. وأما قوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) فإنّما معناه: من الذي به قوام السموات السبع والعرش العظيم، ولايستغنى عنه، وهذه الأشياء من أكبر ما يرى من خلق الله تعالى، وما ثبت بالصدق من الخبر عندنا، فمن يملك هذه الأشياء من السموات السبع والأرض والعرش العظيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 وأقررتم له بذلك، فلِم لا تجتنبون معصيته، ولا تتقون عقوبته إذ كانت هذه الأجرام العظيمة لا تستغنى عنه ساعة، فأنتم أحوج إلى أن يرُبَّكم، وأن تقوموا بحقّ ربانيته لكم، فتمتنعوا بطاعته من موجب عقابه، فهذه لائقة بمكانها، حالّة في موضعها. وأما الثالثة وهي: (فأنّى تُسحَرون) فإنها جاءت بعد تقرير ثالث، وهو: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ) أي: مَن الذي مُلكه على الأشياء أتمّ ملك فهو يَمنع ولا يُمنع منه، أي يمنع من المكروه مَن شاء، ولا يملك أحد منع من أراده بسوءٍ، وهذا أعظم ملك وأبلغه، فإذا أقرّوا بذلك فقال لهم: كيف تخدعون عن عقولكم حتى تتخذوا الأوثان والأصنام آلهة، وهي لا تسمع ولا تبصر مع القادر العليم الذي قد أقررتم له بأتمّ الملك، وبكلّ الخلق الذي يشهدكم، والذي يغيب عنكم. وقوله: (فأنى تسحَرون) أي: من أين يأتيكم ما يغلب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 عقولكم فيخيِّل الباطلَ إليها حقّا، والقبيح عندها حسنا أَمِنْ علمكم بأن الله تعالى مالك الأرض ومَن فيها، أم من علمكم بأنه ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم، أَم مِن علمكم بأن له الملك الأغلب والعزّ الأغلب، وأنه يَمنع ولا يُمنع منه، ويحمِي عقابه، ولايحمَى منه، وليس في شىء من ذلك ما يُري الفاسد صحيحاً، والمِعوجَّ قويماً. فهذا الذي ختم به الثالثة ناظم معناه بخواتيم ما قبله. وكلّ في مكانه اللائق به. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 سورة النور الآية الأولى منها قوله تعالى في أخر العشر من أول السورة: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . وقال في آخر العشرين من أول السورة: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) . للسائل أن يسأل عن خاتمتي العشرين واختلافهما بقوله في الأولى: (تواب حكيم) وفي الثانية: (رؤوف رحيم) مع حذف جواب "لولا" في الآيتين. والجواب أن يقال: لما ذكر في أول السورة حدّ الزنا والقذف وختم ذلك بقذف الرجل امرأته، والحكم فيه اعتدّ عليهم بأن أمهلهم ليتوبوا ولم يعاجلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 بالعقوبة على ما قارفوا، فقال: (ولولا فضل الله ... ) فإنّه يرجع به لمن رجع إليه، وأن من تاب تاب الله عليه، لعجّل إهلاككم، ورمى بكم إلى العقاب الدائم، والعذاب الواصب. وهذا الجواب قد ذكر في الآية التى في أهل الإفك، وهي: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)) ، فهذا معنى قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) ومعنى (حكيم) : أن أفعاله مبنية على الحكمة، ومن الحكمة أن لا يعاجل كلّ مذنب بعقوبته عند وقوع خطيئته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 وأما خاتمة العشرين بقوله: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) فإن معناه: لولا أن الله أنعم عليكم، ورَحِمَكم، وقد أجرى حكمه بأن يرحم أمثالكم ويرؤفَ بكم عند هذا الذنب الكبير والإفك العظيم، فهذا موضع الرحمة لما تخوّلهم بالموعظة فقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) ،. والأول مطلق غير محصور على قوم بأعيانهم، وإنّما المراد مَن فعل ذلك منكم فحكمه كذا، وحدّه كذا في الدنيا، وعذاب دائم في الأخرى. ومخاطبة أهل الإفك لأقوام معيّنين أكبر لعظم ذنبهم، وأنهم لم يهلكوا لرأفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 بهم، فكان كل موضع من الموضعين مقتضيا لما اختصّ به من الآيتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 الآية الثانية منها قوله تعالى: ( ... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) . للسائل أن يساًل فيقول: لِم قال في الأولى: (الآيات) وفي الثانية (آياته) ؟ والجواب أن يقال: إن الأولى إشارة إلى ما تقدم ذكره فيما أوّله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ... ) إلى قوله: (ثلاث عورات ... ) ، وجعل الأوقات الثلاثة آيات لهم، وعلامات للمنع من دخول المماليك والأطفال على النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 954 وجوازه فيما سواها، وعبر عنها بـ (الآيات) لما لم يكن الدخول في تلك الأوقات من الأفعال التي تختصّ بقدرته. ولما كان بلوغ الحلم مما يختصّ بفعله، ولم يقدر فاعل على مثله أضافه إلى نفسه فقال: (كذلك يبيّن الله لكم آياته) . ويبيّن ذلك قوله تعالى في العشر الأخير بعد قوله: (ليس على الأعمى حرج ... إلى قوله: (أن تأكلوا من بيوتكم ... ) ، فعدّ القرابات التى أجاز تناول طعامها: (.. كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون) ، فلم يضفها إلى نفسه، لأنها آيات مثل الأول التي تقدمت أنها لا تختصّ بقدرته، أى يبيّن لكم العلامات التى نصبها على ما يبيح وما يحظر، وما يضيّق فيه وما يوسّع، ومثله قوله تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 ، لما أشار إلى حدّ الزانى والقاذف. والفرق بين المكانين واضح، فاعرفه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 سورة الفرقان الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) . وقال قبله في سورة الرعد، وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ... ) للسائل أن يسأل عن تقديم "نفع" على "ضر" في سورة الرعد، وعكس ذلك في سورة الفرقان، وما الذي أوجب هذا الاختلاف؟. والجواب أن يقال: أما في سورة الرعد فإنه قدّم فيها الأفضل على الأنقص، لأن اجتلاب النفع أشرف من استدفاع الضر، وهو رتبة فوقه، فمن فاته ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 طلب دفع الضر فهو على وجهه في الترتيب. وأما في سورة الفرقان فإنه بني على ما قبله، وهو: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، وقوله: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا) نفى، وقوله: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) إثبات، فقدّم النفي على الإثبات، وكان الضرّ نفياً، والنفع إثباتا، إذ النفع إثبات المصالح وإيجادها، والضرُّ نفيها، فكما قدّم فيما قبله ما نفى على ما أثبت حمل المعطوف عليه ليكون مشاكلا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) . وقال في سورة يونس - وكان هذا يجب أن يذكر فيها -: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. للسائل أن يسأل في هاتين الآيتين عن مثل ما سأل عنه في الأوليين؟. والجواب أن يقال: أمّا في سورة يونس فإنه بدأ بما هو أبلغ إذا ابتدئ به، لأن امتلاك الضر أسهل من امتلاك النفع، فالواحد منّا يقدر لغيره من الضرّ على ما لايقدر عليه من النفع، ويتسهّل عليه ضرّه ما لايتسهّل عليه نفعه، أي يعبدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 أصناماً لا تقدر على ما يتسهل على الفاعلين، فكيف ما يتعذر؟ ثم ذكر بعده: (ولا ينفعهم) لاستيعاب مافي الباب. وأما في سورة الفرقان فإنه تبع على ما قدّم فيه الأفضل على الأنقص لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ... ) ، وقوله بعده: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ... ) ، فقدم خِلطة النسب على خلطة السبب، وهى المصاهرة، ثم جاء بعد ذلك: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ) فقدّم النفع على الضرّ اتباعاً لما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 سورة الشعراء الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) . وقال في سورة الأنبيا. ء وهو ما وجب ذكره هناك: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) للسائل أن يسأل ما الذي خصّ ذكر (الرحمن) بسورة الشعراء وذكر (ربهم) بسورة الأنبياء؟ والجواب أنه إنما خصّ هذين الوصفين من صفات الله تعالى في هذين الموضعين، لأن "الرب" هو القائم بمصالح الخلق من ابتداء التربية إلى أخر العمر، والرحمن هو المنعم عليهم في الدنيا بما خلق فيها، والمعرّض للنعيم الدائم بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 وإتيانهم بالذكر من عنده، وهو القرآن مما يصلحهم فوق ما تصلحهم الأغذيةُ المخلوقة لهم، فذكر أن الرب الذي أصلح بأنواع ما خلق أجسادَهم أصلح بما صرفهم عليه من طاعة الله أديانَهم، فهو ما يقتضيه الوصف بالربّ والوصف بالرحمن. فأما اختصاص سورة الشعراء بـ (الرحمن) فلأن السورة مقصود بها ذكر الأمم الذين بعث إليهم الأنبياء عليهم السلام، وختم على كل قصة من قصصهم بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 وأولاها قصة موسى عليه السلام: (وإذ نادى ربُّك موسى) ، فاتصف تعالى بـ (العزيز الرحيم) لما يوجبانه من الخوف والرجاء اللذين بهما لزوم الطاعات، والرغبة فيما علا من الدرجات، وأراد بالرحمة أن هذه الأمم أمهلت لتُقلع عن تمرّدها، وتعود إلى ربها، وتتوب من ذنبها، فلما لم تفعل عوقبت في الدنيا سوى ما أعدّ لها في الأخرى. وقال في أول هذه السورة: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) ، لأنه أراد أن لايكونوا كالْمُلْجَئِين في دينهم إلا اعتقاد ما يعتقدونه، فأمهلهم رحمة منه بهم فقال: (وما يأتيهم مِن ذِكرٍ من الرحمن محدَثٍ ... ) فاختص هذا الوصف هنا لذلك. وأما قوله في سورة الأنبياء (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَثٍ ... ) فلأنه عدّ إصلاح أديانهم من جملة إصلاح أبدانهم، والربُّ: القائم بما يصلح العبد، والدين أبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 في إصلاحه ممّا يغذوه من طعامه، وخص هذا الموضع بذكر (ربهم) لأنه قال: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) ، ولا يغفلون إلا إذا كانوا في رغَدٍ من عيشهم، ولا سبيل إليه إلا بمظاهرة النعمة من الله تعالى، وفعلُه هذا بهم يقتضي وصفه ب (ربهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) . وقال في سورة الصافات: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) . للسائل أن يسأل عن زيادة "ذا" في قوله في الصافات: (ماذا تعبدون) وإخلاء (ما) في الشعراء منها؟ والجواب أن يقال: إن قوله: (ما تعبدون) معناه: أيّ شيء تعبدون، وقوله: "ماذا" في كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن تكون "ما" وحدها اسما، و" ذا" بمعنى الذي، والمعنى: ما الذي تعبدون، و (تعبدون) صلة لها. والآخر: أن تكون " ما" مع " ذا" اسما واحداً بمعنى: أيّ شىءٍ، وهو في الحالين أبلغ من "ما" وحدها، إذا قيل: ما تفعل؟ فـ (ما تعبدون) في سورة الشعراء إخبار عن تنبيهه لهم، لأنهم أجروا مقاله مجرى مقال المستفهم فأجابوه وقالوا: (نعبد أصناماً فنظلُّ لها عاكفين) ، فنبّه ثانياً بقوله: ( ... هل يسمعونكم إذ تدعون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 وأما: (ماذا تعبدون) في سورة الصافات فإنها تقريع، وهو حال بعد التنبيه، ولعلّهم إذا علموا بأنه يقصد توبيخهم وتبكيتهم لا يجيبون بإجابتهم في الأول، ثم أضاف تبكيتا إلى تبكيت، ولم يستدع منهم جواباً فقال: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) . فلما قصد في الأول التنبيه كانت "ما" كافية، ولماّ بالغ وقرّع استعمل اللفظ الأبلغ، وهو "ماذا" التي إن جعلت "ذا" منها بمعنى " الذي" فهو أبلغ من "ما" وحدها. وإنْ جُعلا اسما كان أيضاً أبلغ وأوكد من "ما" إذا خلت من "ذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) . للسائل أن يسأل فيقول ما الذي أوجب إدخال " هو" في قوله: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) ، وقوله: (فَهُوَ يَشْفِينِ (80) ، وإخلاء قوله: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) منها، ولم يقل: والذي هو يميتني، كما قال: والذي هو يطعمني؟ والجواب أن يقال: لو جاء: والذي يطعمني ويسقين، وإذا مرضت يشفين، لَكان معلوماً أن مراده الله تعالى. وذكر "هو" توكيداً لمعنى الكلام، وتخصيص الفعل به دون غيره، واحتاج ذكر الإطعام والشفاء إلى هذا التوكيد، لأنهما ممّا يدّعي الخلقُ فِعله، فيقال: فلان يطعم فلانا، والطبيب يداوي، ويسبّب الشفاء، فكانت إضافة هذين الفعلين إلى الله تعالى محتاجة إلى لفظ التوكيد- لما يتوهم من إضافته إلى المخلوق- إلى ما لا يحتاج إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 إضافة الموت والحياة، لأن أحداً لا يدّعي فعلهما كما يدّعى الأوّلين. فافترقا لهذا الشأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 الآية الرابعة منها قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) . وقال في قصة شعيب عليه السلام: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) . للسائل أن يسأل عن إثبات الواو في قصة شعيب في قوله: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) وحذفها من مثله في قصة صالح عليه السلام. والجواب أن يقال: إن قوم صالح في حال هذا الخطاب لم يدفعوا أمره، كما دفع أمر شعيب قومه كما حكى الله تعالى من قولهم لصالح عليه السلام. (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) ثم لم يطلبوا منه ما ليس لهم طلبه، لأنهم قالوا: (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) وهذا لا شطط فيه، ولا في قولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 (أنت من المسحّرين) وقولهم: (ما أنت إلا بشر مثلنا) لأن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إليّ ... ) ،. والمسحّرون فيهم أقوال: أحدها: أنهم الذين لهم سَحْرٌ ورِئَة، وقيل: المعلّلون بالطعام والشراب كما قال امرؤ القيس: أَراَناَ مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بالطّعام وبالشّرابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 وقال لبيد: فإنْ تَسْأَلِيناَ فِيمَ نحن فإنّناَ عَصاَفِيُر مِن هذا الأَناَمِ المسَحرِ وقيل: المسحّرون: المسحورون، كأنه سحر مرارا حتى خبل وفسد عقله واضطرب رأيه، عن مجاهد وقتادة. وقيل: المسحّرون: المخلوقون، عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 فالموضع الذي لا واو فيه هو بدل من الجملة التي قبله، ثم قال: (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) ولهم أن يقولوا ذلك. فأما قوم شعيب فإنهم في خطابهم المحكى عنهم مُشِطُّون ومبالغون في ردّه وتكذيبه، فقالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... ) فدلّ على خبرين عُطف أحدهما على الآخر، وقالوا بعده: (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)) على معنى: وإنا لنّظنك كاذباً، أي الغالب في أمرك عندنا أنك كاذب، فلم يجعلوا الخبر خبراً واحداً، بل جعلوه أخباراً ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972 قولهم: أنت من المسحّرين، أي: لست من الملائكة الذين هم رسل الله إلى خلقه، فلا يطعمون ولا يشربون، بل أنت من المتغَذّين بالطعام والشراب؟ وقولهم: (وما أنت إلا بشر مثلنا) أي لا فضل لك علينا، فهو خبر ثان؟ وقولهم: (وإن نظك لمن الكاذبين) خبر ثالث. ثم طلبُهم إسقاط كسفا من السماء عليهم يكون أمارة لصدقه خلاف ما طلبته ثمود حين قالت: ((فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)) ، ولم تقترح، والحالة التي كانت فيها عند مخاطبة نبيّها لها، لم يقارنها من التمرّد ما قارن حال قوم شعيب حين ردّوا عليه في خبر بعد خبر، فكان موضع الواو في قصتهم لذلك، ولم يكن لها موضع في الأولى لما بينا من إبدالهم الجملة الثانية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 973 الأولى، واقتصارهم على بعض ما انبسط فيه غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 974 سورة النمل الآية الأولى منها قوله تعالى: (.. فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) . وقال في سورة القصص : (.. فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... ) . للسائل أن يسأل فيقول: في سورة النمل ما ليس في سورة القصص، والمحكي شىء واحد، والزيادة قوله: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ... ) الآية وفي سورة القصص: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... ) الجواب أن يقال: إنّ المحكيات ليس يشترط فيها إذا أدّيت معانيها دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 975 ألفاظها استيعاب جميعها في مكان واحد، بل يجوز أن تفرق في أماكن كثيرة، فهذا وجه، ويكون معنى: (إنك من الآمنين) أي من المرسلين الذين لا يخافون، ويجوز أن يكون: (إلا من ظلم) خارجا عن الحكاية، ويكون خبراً من الله تعالى يخبر به نبيّنا، (فيعترض بين جُمل ما يحكى، كما قال الله تعالى فيما حكى من كلام صاحبة سبأ: (.. إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)) ، فيكون: (وكذلك يفعلون) غير محكىّ، وإنما يكون خبراً من الله تعالى معترضاً بين ما حكى تصديقا لها، ثم قال عائداً إلى حكاية قولها: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ... ) ، ويجوز في هذا المكان أن يكون معنى: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) على الحكاية على معنى أن الملوك تأثيرهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 976 القرى التى يدخلونها تخريبها، وكذلك يفعل هؤلاء، تعنى سليمان عليه السلام وخيله. ومعنى قوله في الآية الأولى: (إلاّ من ظلم) محمول على وجهين: أحدهما: أن يكون استثناء من متصل لا مِنْ منقطع، فيكون مستثنى ممّا يدلّ عليه: (.. لا يخاف لدىّ المرسلون) وهذا يدل على أن غيرهم يخافون فترك ذِكرهم، لقوّة الدلالة عليه كما قال: (.. وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر..) ، فحذف البرد لعلم المخاطبين به، وإذا كان: لكن غير المرسلين يخافون: مقدّراً إثباته كان الاستثناء منهم، أى: أنهم يخافون إلا مَن محا ظلمه بتوبته. والوجه الثاني أن يكون استثناء منقطعا تقديره: لكن مَن ظلم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 977 غير المرسلين، ثم بدّل سيئةً بحسنة ومحا خطيئةً بتوبةٍ فإن الله غفور رحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 978 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) . للسائل أن يسأل عما ختمت به هذه الآيات بعد قوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) وهل تقدم ما يوجب اختصاص ذلك به دون غيره؟. والجواب أن يقال: إنّ قوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) بنيت عليه هذه الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 979 وتكلم أهل النظر في قولك: هذا أفضل من هذا، وهذا خير من هذا، فقال بعضهم: يقال في الخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لاخير فيه، إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به، هذا الخير خير من الشرّ، وأنكر على من خالف هذا، وعلم هذا عند أهل الإعراب، وهو أن الأصل في باب " أفعل من كذا" للتفضيل، فإذا قيل: هذه الاسطوانة أطول من تلك، فقد وصفها بالطول، إلاّ أنه يزيد طول إحداهما على الأخرى، وألزم "أفعلُ مِن" لابتداء الغاية، كان المعنى ابتداء زيادة طولها منتهى الاسطوانة الأخرى، فلا يقال: أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 980 من كذا، إلاّ والمفضّلُ عليه فيه ذلك المعنى الذى زاد به المفضّلَ عليه. فأمّا قوله تعالى بعد وصف النار: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) ... إلى قوله: (.. وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ... ) ، ولا خير في الأول، فإنّما المعنى أن هؤلاء الكفار يحرصون على ما يكسبهم النار، كأنهم يرونها يراً لهم، ثم وصف ما يختارونه بصفته، وأتبعه الخيرَ الذي لا شر معه، فقال: فِعلكم فعل من يرى النار خيراً له من الجنة، فانظروا هل هي كذلك أم لا؟ وكذلك قوله: (فما أصبرهم على النار) ، أي: يتعرضون لها ويكسبونها، ففعلهم فعل من يصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 981 عليها، وكذلك قوله،: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)) أى: هم مشغولون بعبادة الأوثان عن عبادة الرحمن، ففعلهم ينبئ أنها تنفعهم فوق ما ينفعهم خالقهم، فكأنهم قالوا: إن تلك أنفع لهم منه تبارك وتعالى، ثم قرّرهم فقال: آلله أنفع لكم أم الأوثان؟. وفصّل (26) عِظم المنافع التى أنعم الله تعالى بها ولم يشاركه غيره فيها فقال: (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً ... ) أى: إذا اعترفتم بأن الله تعالى سنى لكم المصالح، ويسّر لكم المنافع، وخلق السموات والأرض اللتين بهما أمسك الخلق، وأنزل المطر من فوق، وأنبت به ما به قوام الناس من تحت، من بساتين ذوات المناظر الحسنة سوى المآكل الطيبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 982 ثم قال: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أى: أيحتاج من يفعل هذا إلى عضد ومعين؟ بل الكفار قوم يعدلون عن الحق، وقيل: يعدلون بمن يفعل هذا غيره، تعالى الله عن ذلك، فهذا موضع: (بل هم قوم يعدلون) لأن أوّل الذنوب: العدول عن الحق وقبوله، وأن يثبت مع الله إلها آخر، فيعدله به. وقوله: (أمّن جعل الأرض قراراً) وصف ما أظهر الله تعالى من قدرته في البَر والبحر مما به مِساك الأرض، ثم قال: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أى: أمع الله من يفعل مثل فعله. (بل أكثرهم لا يعلمون) ما لهم في عبادة الله تعالى، وإخلاصها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 983 وما عليهم في إشراك غيره فيها أى: لو علموا ما تنتهى إليه عواقب هذين لمَاَ عدلوا عمّا هو لهم أنفع إلى ما هو لهم أضر، وهذا مكانه بعد قوله: (بل هم قوم يعدلون) . وقوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) ذكّرهم بما لا يكاد ينفك منه أحد إذا دُفع إلى شدة، واضطر إلى الانقطاع إلى الله تعالى، فدعاه فكشف شدته، وقوله: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) أى: يقيم المظلوم مقام الظالم في أرضه، ويجعل من في العصر الثانى خلفا ممّن في العصر قبله، وهذا موضع يَنْسى فيه الإنسان سالفَ شدّته بِراهن نعمته، فقال: قليلٌ يذكِّركم ما مرّ في دهرهم من بلائهم وشرهم، وهذا موضع يليق به ما جاء فيه، وهو: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 984 وقوله: (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) . قوله: يهديكم في ظلمات البر والبحر) معناه: ينجيكم منها بهدايته، وما نصب لكم من آياته بالنجوم التى تعوّلون عليها في البحر وفي البر إذا لم تهتدوا في الظلمات وهو مثل قوله: (قل من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر تدعونه تضرّعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكوننّ من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كلّ كَرْبٍ ثم أنتم تشركون) ، فلما كانت هدايته في البحر وتسييره جواري الفلك بالريح ضمّ إليه الريح الأخرى المبشرة بالقطر فلما ختم الآية التى هى في معناها بقوله: (ثم أنتم تشركون) ختم هذه بقوله: (تعالى الله عمّا يشركون) لأن المذكورين في هذه الآية هم المذكورون في تلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 985 وأما قوله: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) أي: مَن لابتداء كونكم وهو خلقُكم، ومَن لانتهائه وهو بعثُكم لمجازاتكم، ومَن لِلحال المتوسطة بين هذين، وهى حفظُ حياتكم بأقواتكم وأرزاقكم من السماء والأرض، أإله مع الله هاهنا؟ مَن يعدل ربّ العالمين؟ هاتوا برهانكم، وما يظهر في النفوس أنّ ما تقولونه حق، وأنّ ماعداه باطل، فإنكم لا تقدرون إلاّ على ضده، ممّا يدل على أنّ " ما تقولونه باطل، وماعداه ممّا تخالفونه حق. فقد بان ووضح أن كل خاتمة لائقة بمكانه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 986 سورة القصص الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) . وقال في حم عسق: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) . للسائل أن يساًل في هذا المكان عن مسألتين: إحداهما: (وما أوتيتم) فِى الأولى بالواو، وفي الثانية بالفاء، وما الذى خصص "كلّ مكان بما جاء فيه؟. والثانية: قوله تعالى في الأولى: (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) فذكر (الزينة) في الأولى ولم يذكرها في الأخرى؟. والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه الآية جاءت بعد قوله: ... وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون) ، ثم خاطب الذين أوعدهم بمثل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 987 أهلك به مَن قبلهم، وأنه ليس لكم فيما تؤتونه في الدنيا عوض ممّا يفوتكم في الأخرى لأن جميع ذلك لا ينفكّ ممّا تنتفعون به انتفاعا منقطعا وإن تطاول أمده، وتتزيّنون به، فجميع أعراض الدنيا مستوعبة بهذين اللفظين: إما مالا يستغني عنه الحى من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح، ويرى العاقل المتعة بها قليلة وإن كانت طويلة لانقطاعها بالموت وإنهائها إلى حسرة الموت؟ وإمّا ما لاحاجة به إليه من فضول العيش مما يتزيَّن به من الملابس الفاخرة والآلات الحسنة، والدور المزوَّقة المنجَّدة، والخيل والبغال والحمير ما ركب منها للحاجة إليها، وما اتخذ زينة يتجمل به عند الأكفاء، فما كان محتاحاً إليه فهو متاع أيام قليلة، وما فضل عن ذلك فهو ممّا يقتنى لعبا وزينة. والدليل على أن الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 988 خارج على هؤلاء، وإن صلح عظة لجميع الناس، التفصيلُ الذي جاء بعده في قوله تعالى: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) أي: يحضرون للعقاب لتقدّم ذكر مَن يعطَى الثوابَ، فلم يكن لعطف هذه الجملة على الجملة المتقدمة غير الواو، إذ لا معنى ها هنا من معاني الفاء. وأمّا ذكر (زينتها) فلاستيعاب جميع ما بُسط فيه الرزق للكفار. والآية الثانية قبلها: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ، ولفظ ذلك" عام ومعناه خاص، إذ كانت المصائب تصيب مَن لم يذنب ولا عقاب عليه، فالمراد به بعض المصابين وبعض المصائب، ثم تبعه قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 989 أي: إن شاء أنجى أهلها، وإن شاء أهلكهم بذنوبهم، وقد لا يهلكهم ويعفو عمّن يسئحق العفو، ويمهل من علم منه الصلاح، والذين يجادلون في آياتنا - وهم الكفار - يعلمون وهم في السفن أنْ لا منجى لهم إلا بالله ولطفه، ثم خاطبهم فقال: وإن أوتيتم السلامة، ورزقتم بعدها العافية، فذلك قليل البقاء وإن أمتدّ أياماً، فليس القصد في هذا المكان استيعاب جميع ما يؤتيهم في دنياهم، بل هو مطلوبهم في تلك الحال من النجاة والأمن في الحياة، فلم يحتج إلى ذكر "الزينة" ولم يكن إلاّ موضع الفا لأنّ تعلّق ما بعدها بقوله: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) ، أي: يغلب على ظنونهم ذلك، فإن أنجاهم الله تعالى وأعطاهم مرادهم في تلك الحال، فإن ذلك سريع الزوال عنهم، قليل البقاء معهم، والذي أعدّه الله تعالى للمؤمنين خير وأبقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 990 ثم وصف المؤمنين بصفات يرغّبهم في الكون عليها في قوله: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) ، إلا آخر القصة، كما زهّدهم في التمسك بالدنيا الفانية، فالمراد بما يؤتونه إنما هو مطلوبهم عن السلامة والنجاة من تلك الهلكة، والأمن من أمثالها من الورَطات، وذلك عقيب ما أشرفوا عليه من الغرق، ولا موضع لهذا الكلام يحسن غير العطف على ما قبله بالفاء، لأنه عقّب مالهم من المخافة بما أوتوه من الأمنة وحال السلامة إلى سائر ما لله تعالى من النعمة، فقد تضم ما ذكرنا الجواب عن المسألتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 991 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 992 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) . للسائل أن يسأل عن تقديم الليل على النهار، وأنه لو قدّم النهار، هل كان على مقتضى الحكمة؟ وقوله عقيب هذا: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) وعقيب الآخر: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه، لأن الليل في دار التكليف للاستراحة والاستعانة بالجَمام والراحة على ما يلزم من الكلَف المتعِبة والمشاق المُنصبة. ودار النعيم يستغنَى فيها عن ذلك، لأنها مقصورة على نيل المشتهى وعلى ما تلتذّ به النفس وتهوى، فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 993 الذي يمكّن من التصرف في المعايش والسعي في المصالح إلى ما لا يحصى كثرةً من المنافع المتعلقة بالشمس أحقُّ وأولى. وقوله: (أفلا تسمعون) أي: أفلا تسمعون سماع من يتدبّر المسموع ليستدرك منه قصد القائل، ويحيط بأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع أم أنتم صمّ عن سماع ما ينفعكم؟ وقوله: (يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون) أى: أفلا تستدركون من ذلك ما يجب استدراكه، فإنّ عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع، إذا كان هناك تدبّرٌ له وتفكر فيه ولم يجعله السامع دبر أذنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 994 سورة العنكبوت الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وقال في سورة لقمان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) . وقال في سورهَ الأحقاف: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 995 للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات الواردة في الوصاة بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما إلا إذا دَعَوا إلى الشرك وبعثا على الكفر، وعن مواقعها وهل كان يصلح إحداها مكان الأخرى؟. والجواب أن يقال: أما موقع هذه الآية من سورة العنكبوت فمشبه مواقع الآيات التى قبلها والتى بعدها، وذلك أنه أجملت فيها الأخبار كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) اشتمل هذا على جميع معاملة المؤمنين له الدنيا والآخرة، وهى في الدنيا إيمانهم وصالحات أعمالهم التى تكفر بها السيئآت، فلا يؤاخذ بها مَن ضمن جزاؤه على أحسن عمله، وهو طاعهَ الله تعالى التى أخلصها له ولم يقصد أن يعلمها خلقُه، ثم قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) أي ألزمناه حسنا في أمر والديه، وقياما بحقوقهما عليه ثم قال: وإن أراداك على الشرك فلا طاعة عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 996 لهما. فهذه جملة تتضمن ذكر السبب فيما أكّد الحق، بل اقتصر فيها على مالا غنى عن علمه، ولا يعذر أحد في جهله. وأما الآية في سورة لقمان فإنها ذكرت بعدما حكى الله تعالى عن لقمان - عليه السلام - من وصيته ابنَه إذ يقول: (.. يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ، فذكر الله تعالى عقيب ذلك وصية الإنسان بهما ونبّه على السبب الذي له عظم حقهما فقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) ، أى: ضعف حمل مضافا إلى ضعف المرأة، وقيل: ضعفا يتزايد على ضعف كما يتزايد ثقل الجنين، وأرضعته عامين، وهذان وإن انفردت بهما الأم فإنّ الأب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 997 يتحمّل الشدائد في القيام بأمر الولد، والأمّ حتى تقدر على تربيته، وربما ضيّق على نفسه فيما يصرف إليهما من نفقته فقال: (أن اشكر لي ولوالديك) ، والمعنى: ووصيناه بأن اشكر لي ولوالديك، و"أن" بمعنى "أي" وهو تفسير للوصية، والتنبيه على عظم النعمة ووجوب شكر اللهِ المنعِم على قدر ما أولاه، إذ كان هو خلَقَه وسوّى أعضاءه، ونفخ فيه الروح، وأنعم عليه قبل استحقاقه ثم عرّضه للنعمة الشريفة والدرجة العلية وشكرُ بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 998 ذلك يستغرق الجهد ويُفني الطوْقَ وأما شكر الوالدين فهو أن يحسن إليهما ويبرّهما ويكرمهما ويطعهما إلاّ إذا أمراه بمعصية الله تعالى فتسقط عنه طاعتهما، لأنه مع إسقاط حق الخالق لا يثبت حق الوالدين، لأن الله تعالى عقد شكرهما بشكره، فإذا دعواه إلى معصيته فقد أبطلا به شكره فانحل شكرهما المعقود معه. وقيل: إن هذه الآية نزلت في سعد بن مالك وهو سعد بن أبى وقاص وروى عنه أنه قال: كنت برّا بأمى، فلما أسلمت قالت لي: يا سعد: ما هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 999 الذي أراك قد أحدثت، والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلا ماكنت عليه أو أموت فتعيّر بي فيقال: قاتل أمه، فلم تأكل ولم تشرب يوما وليلة فأصبحت وقد جهدت، فلما كانت الليلة القابلة لم تأكل ولم تشرب ثم أصبحت وقد اشتد بها الجهد، فقلت لها: يا أمّه: تعلمين واللهِ لو كان لك سبعون نفسا فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشىء فلما رأت ذلك أكلت وشربت فأنزل الله تعالى هذه الآية في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1000 فهذه الآية قد تضمنت من البيان والتفصيل ما لم تتضمنه الأولى، لأن تلك مذكورة مع الجَمْل، وهذه مذكورة لقصة مشروحة فيما بين آيات تضمنّت الوصايا الواجبات والمستحبات فيما حكى الله عز اسمه قصة لقمان لابنه، ثم كانت في ذكر أب وصّى ابنه بمجانبة الشرك، وقرن إليه ما كان من خلاف ابن لأم بعثتْه بجهدها على الكف، وممّا يروى عن لقمان أنه. قال: يابني: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1001 الله تعالى رضيني لك، فلم يوصني بك، ولم يرضك لي، فأوصاك بي، وهذا كلام شريف، له وقع كبير ذكرناه ليتدبّر معناه. وأما الآية الثالثة فإنها فيمن وصّي بوالديه، وهما مؤمنان، لا يمنعانه عن الإيمان، وهو من طاب نفسا وأصلا ورغب إلى الله تعالى أن يطب فرعا، لأنه قال تعالى حكاية عنه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) ، وبعد هذه الآية ذُكر ولد كافر استغاث الله والداه لإصراره على كفره، ولما أعياهما مدارأة أمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1002 فأما قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) ، فإن المراد أقلّ حمله، وهو ستة أشهر، وروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتى بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور الناس في رجمها، فقال ابن عباس - رضي الله عنها -: إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..) وقال (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) فالحمل ستة أشهر والفصال عامان، فخلّى سبيلها، وأما معنى قوله: (وفصاله في عامين) في انقضاء عامين، لأن الفصال هو الفِطام إذا فصل الولد عن الأم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1003 وكانت الوصية الأولى في سورة العنكبوت وصية مجملة عامة للناس، والثانية فيمن منعه أحد والديه عن الإيمان، والثالثة فيمن آمن وآمن أبواه، وسأل الله أن يصلح أولاده، وكان هذا مذكوراً مع آية في ذكر ولد كافر يجتهد والداه في دعائه إلى الإيمان، والثالث في مؤمن أبواه مؤمنان، والثانى في مؤمن أحد والديه يمنعه من الإيمان، والأول عامّ كما ترى، وقد استوعبت القِسمة ما يحتاج إلى ذكره في دعاء مَن يدعو ولده إلى كفر أو إيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1004 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) . وقال في سورة حم عسق: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) . للسائل أن يسأل عن فائدة قوله: (وَلَا فِي السَّمَاءِ) في سورة العنكبوت، والاقتصار على ذكر الأرض في هذه، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر؟. والجواب أن يقال: إن الآية التي في سورة العنكبوت تحكي قول إبراهيم عليه السلام لكفار قومه وفيهم نُمووذ بن كنعان الذى حاجه، وفي كثير عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1005 الأخبار أنه رام الصعود إلى الجوّ يوهم أنه يحاول ربّ السماء، كما قال فى فرعون لِهامان في بناء الصرح ما حكاه الله تعالى في كتابه في موضعين، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: لا تفوتون الله، في الأرض كنتم أو في السماء، ولا سبيل لكم إليها، كما قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1006 وأما الآية في سورة حم عسق فإنها بعد قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وهذا عام في المصائب، والمراد به الخصوص، لأنه ليس كل مصيبة مستحقة باجترام، إذ قد تصيب من لا جرم له، ومن لم يبلغ حدَّ التكليف فلا يجب عقابه على ذنب يكون منه، والمخاطبون مخصوصون بالمعنى وإن عموا باللفظ. وقوله: (ويعفو عن كثير) أي: عن ذنوب كثيرة يتجاوز عنها، ويؤاخِد بها، ولا يكون ذلك للكفار، لأن العفو مبذول لمستحقه، وإذا صح أن هذا الخطاب متوجّه على المسلمين، وتبعه قوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) علم أنه وعيد لهم، وليسوا من القوم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1007 يخاطبون بقوله: (ولا في السماء) ومعناه: لا تسلكون مسلكا تلتجئون إليه من عقاب الله تعالى إذا وجب عليكم، وقدْ جاء هذا بغير لفظ الأرض والسماء، وهو قوله: (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) فيكون هذا مطلقا في كل ملجأ ومهرب. وقد قيل في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) أي: لاتفوتون مَن في الأرض مِن الإنس والجن، ولا مَنْ في السماء من الملائكة، وهم خلقُ الله، فكيف تعجزون الخالق؟ تعالى الله عن ذلك. وقول ثالث وهو أن يكون المراد: لا تفوتون بأنفسكم ما يحقّ من عذاب الله عليكم وإن هربتم في الأرض كلّ مهرب، وإن صعدتم في السماء كلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1008 مصعد لو استطعتموه كما قال: ( ... فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ... ) أي: لا يكون ذلك أبدا. وفي الجواب الأول كفاية في الفرق بين الموضعين، وما يختار لكل واحد منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1009 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وقال بعده: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) . للسائل أن يسأل فيقول: قال في إنجاء إبراهيم عليه السلام من النار: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) . وقال في خلق السموات والأرض: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) فوحّد الآية، هنا وجمعها هناك، والآيات في خلق السموات والأرض أكثر منها في تخليص إبراهيم عليه السلام من النار؟. والجواب أن يقال: إذا أخبر الله تعالى عن المؤمنين في كتابه فهو متناول من كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم محدودون، وإذا قال: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) فهؤلاء أقوام لا يتناهون، فكلّ من يؤمن إلى يوم القيامة منهم داخل فيهم، وكلّ دلالةٍ وأمارة آية، فجمعت لعدتّهم التى لم تتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1010 ولمّا قال في خلق السموات والأرض: (لآية للمؤمنين) وهم جماعة واحدة محصور عددهم، والآية الواحدة تجمعهم باين الخبر عنهم الخبرَ عمّن وُجد وعمن لم يوجد أكثرهم. فاختلفت بهم الدلالات، وجمعت لهم الآيات لانتشار أعدادهم وتباين مددهم، فاختلف الموضعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1011 الآيهّ الرابعهّ منها قوله تعالى: ( ... وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) . للسائل أن يسأل عن تسمية الجاحدين في الآية الأولى ب "الكافرين، وفي الثانية ب (الظالمين) ، وأولئك ظالمون كما أن هؤلاء كافرون، فلماذا اختصاص الأولى بتلك الصفة، والثانية بهذه الصفة؟. والجواب أن من جحد آيات الله فقد كفر نعمه، وهذا أول ما يفعله، لأن ذلك متعلّق بما قبله ممّن تولّى خلقه وأنعم عليه بما استوجب به شكره، فأول فعله كفر نعم الله، ثم إنه مسيء إلا نفسه، ظالم لها بأن أُبدلها من النعم الذي عُرض له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1012 عذاباً لا يطيقه، فكفره أول في الذكر، وظلمه ثان لأنه فوت نفسه عظم الأجر، فهو آخر فِى العمل، فقدم (الكافرين) على (الظالمين) لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1013 الآية الخامسة منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) وقال في سورة آل عمران: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) . للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة آل عمران بالواو في قوله: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وإخلاء ما في سورة العنكبوت منها؟. والجواب أن يقال: إن الآية في سورة آل عمران مبنيّة على تداخل الأخبار، لأن أولها: ((أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فـ (أولئك) مبتدأ، و (جزاؤهم) مبتدأ ثان، و (مغفرة) خبر المبتدأ الثانى، وهو مع خبره خبر المبتدأ الأول، والجزاء هو الأجر، فكأنه قال: أولئك أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم وإدامة نعيمهم، فهذا الأجر مفضّل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنسقت (1)   (1) أي عطفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1014 الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي تقدّمت لرجاء الراجين، وأكملت بها منية المتمنّين، والخبر إذا جاء بعد خبر في مثل هذا المكان الذي تفصل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو، وكقولك: هذا الجزاء كذا وكذا، أي هو ترك المؤاخذة بالذنب، والتنعيم في جنة الخلد، وتفضيله على كل جزاء جُزى به عامل، وذلك تشريف وكرامة. وأما الآية في سورة العنكبوت فإن ما قبلها مبنيّ على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة، وهى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا) فقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ، وقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) في موضع خبره، وهذا الخبر يتصل به مفعولان الأول: قوله: (هم) والثاني قوله (غرفا) و (غرفا) نكرة موصوفة بقوله: (تجري من تحتها الأنهار) وقوله (خالدين فيها) حال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1015 التبوئة فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد، وهو جملة ابتداء وخبر. واحتمل قوله: (نعم أجر العاملين) أن يرد بالواو وأن يجيء منْ دونها، اختير مجيئها بغير واو ليشبه ما تقدم من عقد بخبر، لا على سبيل عطف ونسق فجاء بغير واو، ويحتمل أن يكون في موضع خبر مبتدأ، فكأنه قال: ذلك نعم أجر العاملين، ويكون قوله "ذلك " إشارة إلى ما ذكر الله تعالى من إسكانهم الجنة، فجرى بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام الأول، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فقوله (ذلك) ، وإن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى، وكأنه قال: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مشار إليه بأنه الفضل الكبير، وقوله: (نعم أجر العاملين) أى ذلك نعم أجر العاملين مشار إليه بالتفضيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1016 على أجور العاملين، وإذا كان الأمر على ماذكرنا من الآيتين لم يَلِقْ بكل منهما إلا ماجاءت به فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1017 الآية السادلمة منها قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) . وقال في سورة القصص 821،: ( ... وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا. وقال في سورة حم عسق: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) . وكذلك قوله تعالى في سورة الرعد: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا .... للسائل أن يسأل عن الآية الأولى وتخصيصها بالذكر بقوله: (من عباده) وبقوله: (له) وعن تخصيص ما في القصص بقوله: (من عباده) دون قوله: (له) ، وعن الأخريين ومجيئهما عاريتين من اللفظين، وهما (عن عباده) و (له) ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1018 والجواب عن ذلك أن يقال: أما الأولى في سورة العنكبوت فإنها جاءت بعد قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) فلمّا ذكر أن الله هو رازق جميع الحيوان ما ادخّر منه كالنمل، وما لم يدّخر كالطير تغدو خِماصا وتروح بِطانا، فبين لنا أنه كما كان في غيرنا من الحيوان ما هو موسع عليه، وما هو مضيق عليه، كذلك الأمر فينا، ثم قال: (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) فكان بعد القسمة الأولى من يبسط له الرزق في حال، ويضيَّق عليه في أخرى فقال: (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ..) فالهاء في (له) ترجع إلى (مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) و (لِمَنْ يَشَاءُ) مفعول (يَبْسُطُ) فكان من يقدر له هو من يبسط له في وقتين مختلفين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1019 فاقتضى هذا المكان اللفظ الذي جاء فيه بالمعنى الذى هو غير الأول من جمعالبسط والقبض لواحد في الحالين، وكذلك قوله (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) . وأما قوله في سورة القصص: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ... ) فالمعنى: انتبهوا لأن الله يوسع الرزق لمن يشاء، لا لكرامته كما وسّع على قارون، ويضيقه على من يشاء، لا لهوانه كما ضيّق على كثير ممّن آمن به، ثم قال تعالى حكاية عنهم: (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) : أي: لولا أن الله منّ علينا بأن صرف عنا الغنى الذى يقع الكفر معه لكفرنا نحن مثل كفره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1020 ولخسف بنا كما خسف به، فقوله: (لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ... ) أي: يبسط الرزق لمن يشاء بسْطه له، ويقدره لمن يشاء قدره عليه، فأضمر للفعل الثاني مثل ما تعدى إليه الفعل الأول، وهو: (من يشاء) لعلم المخاطب به، وأنه في المعنى غير الأول وإن كان في اللفظ مثله. وأما الآيتان في سورة حم عسق وسورة الرعد، فإنهما مقصورتان على ذكر البسط والقبض فحسب، والتي في الرعد جاءت مع قوله: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1021 وفيه دليل على أنهم موسع عليهم في الرزق لقوله: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولما قال: (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) علم أن حظّهم في الدنيا ليس لكرامتهم وأنّ مَن ضيّق عليه فيها ليس ذلك لهوانه، فاقتضى المكان هذا لأجل المعنى ووقع اختصار في اللفظ في الفعل الثانى لأن ما تعدّى إليه مثل ما تعدى إليه الفعل الأول من المذكور بعده. وكذلك قوله في سورة حم عسق: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ..) أجمل القول في التوسعة والتضييق لمّا أخبر أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجا أى من أجناسنا أشكالا ذكورا وإناثا، ومن الأنعام مثلها، وأنه ينشئنا في هذا الخلق فلا يزال الآخِر مخلوقا فِى الأول في ظهور الآباء وبطون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1022 الأمهات إلى الوقت المعلوم، وهو يملك أرزاق هذا الجمع من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، فوادٍ أُخْطئ، ووادٍ مُطِر على ما يشاء رب العالمين، فتبارك الله أحسن الخالقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1023 الآية السابعة منها قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... ) . وقال في سورة الجاثية: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .... ) وقال في سورة البقرة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... ) . للسائل أن يسأل عن الآية في سورة العنكبوت،، لماذا خصّت (مِنْ) ، في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وأخلي الموضعان الآخران منها؟. والجواب أن يقال: إن التقرير يؤثَر فيه من تحقيق الكلام ما لا يوُثَر في غيره، والظروف إذا حدّت حقّقت، تقول سرت اليومَ، فإن قلت من أوله إلى آخره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1024 كان الجد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحدّ زال هذا الوهم. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) تحقيق، لأنه محدود بـ "من " وخصّ به التقرير، لأنه من أماكنه، وقوله تعالى في الآيتين الأخريين: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ليس فيه تقرير كما كانت الأولى، وإن كان يؤدّي معنى المحدود، إلا أنه ليس له لفظه، فاختلف الموضعان لما ذكرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1025 الآية الثامنة منها قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) . وقال في سورة لقمان: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) . للسائل أن يسأل عن اختصاص الأولى بقوله: (لَا يَعْقِلُونَ) والثانية بقوله: (لَا يَعْلَمُونَ) ؟. والجواب أن يقال: إن الأول فى التنبيه على البعث والإحياء بعد الموت فاستعمل فيه: (لَا يَعْقِلُونَ) أى: لا يفهمون عن هذا الفعل مثله، وفي مثل هذا يقال: عقلت كلامه، إذا استدركت وفهمت، ومن تنبّه على الشيء وعلمه بعد أن لم يكن متنبّها عليه يستعمل فيه مثل: فطن له، وعقله، وأدركه، وشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1026 به، وإن صحب كلَّ ذلك العلمُ، إلاّ أنه علم على وصف. وكذلك لما فصّل الآيات التى أقامها في السماء والأرض وفي أصناف الخلق وذكرها في سورة الروم، وعقّب بعضها بقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) و ((إن في ذلك لآيات للعالمين) و ((إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) ، قال فيما معناه ما ذكرنا (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) ، فخصّ ذلك بقوله: (يَعْقِلُونَ) دون ما تقدم من الآيات المختومة بغيره من الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1027 وليس كذلك الآية في سورة لقمان، لأن الكفار فيها مقرّون بأن الله وحده خالق السموات والأرض، وهم يعلمون ذلك، ويثبتون معه آلهة فكأنهم لا يعلمون، فلذلك قال (بل أكثرهم لا يعلمون) فإذا عبدوا الأصنام العبادة التى تحق لمن خلق السموات والأرض بإقرارهم، فكأنهم لم يعلموا ما أقروا به وثبت معلوماً لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1028 الآية التاسعة منها آية حضر ذكرها في سورة العنكبوت بعد الفراغ ممّا جاء فيها فذكرناها في آخر ها، وهى: قوله تعالى (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ... ) ، فأكدت "لمّا" بـ "أنْ" التى قرنت إليها. وهى في قوله من سورة هود (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) فلم تؤكّد "لمّا" فيها بـ "أنْ" توكيدها بها في سورة العنكبوت، وما الفرق بينها وبين ذكرها في سائر القرآن خالية من التوكيد بـ "أنْ"؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1029 والجواب أن يقال: اقتران "أنْ" بـ "لمّا" في سورة العنكبوت تكملة لمعناها في نفسها ليدل بذلك على أنه قد قارن جوابها متصلا به ما يكمّله ويخلّصه لتحقيق أو بطلان، فالتي في سورة العنكبوت قد اتصل بجوابها، وهو: (سىء بهم وضاق بهم ذرعا) ما يكمله ويخلِّصه لبطلان الروع السابق إليه. ومثله: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) فقوله: (أَلْقَاهُ) جواب "لمّا" وقوله متصلا به: (فَارْتَدَّ بَصِيرًا) تكملة للجواب وكذلك قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1030 ولماّ أنْ (رأيتُ ابني شُمَيْطٍ وجوابه في البيت الثاني تجلّلْتُ العَصَا. وتكملة قوله متصلا به: ...... وعَلِمْتُ أني ... رَهِينُ مُخَيِّصرٍ إنْ أدركوني وكذلك قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1031 فلما أن تنشَّى قاَمَ خِرْقٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1032 فهذا جواب "لمّا" وبعده ما يدل على أنه عرقب ناقة سمينة له، فكان تكملة لجواب "لما". وهي في قوله في سورة هود لم يتصل بجوابها ما يخلّصه لتحقيق أو بطلان إلا في الآية الخامسة عند قوله: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ... ) ، فبَعُدَ هذا عن الجواب ولم يتصل به اتصال ما يكون من تمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1033 سورة الروم الآية الأولى منها قوله تحانمما:: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ... ) وقال في سورة فاطر: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) . وقال في سورة المؤمن: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) . وقال في أخر هده السورة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1034 للسائل أن يسأل عن اختلاف ألفاظ هذه الآيات واختصاص كل بما خالف الآخر. بمكانه؟. والجواب عن ذلك أن يقال: أما التى في سورة الروم فإنها وقعت في سورة أجملت فيها القصص في ذكر الآيات والمواعظ والفرائص، فبُنيت هذه الآية على ذلك، ألا ترى أن قبلها: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) ، ثم قال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... ) إلى قوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ... ) ، وقال في تنزيه الله سبحانه وتعالى وتسبيحه في الصلوات: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) للصلاتين إذ أمسى: (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، لصلاة الفجر، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّاأ ... لصلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1035 ، لصلاة الظهر، فأجمل القول فيما فسّره على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما كان الموضع موضعا قصد منه ذِكر الجَمْل قال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ومعنى (من قبلهم) و (قبلهم) واحد، والعامل في الظرف كونٌ محذوف، لأن الكون المذكور هو لكيفية العاقبة، وهذا لكونهم قبلهم، وقد أظهر في سورة المؤمن حيث قال: ( ... كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... ) ، ثم استأنف. الإخبار عنهم بأفعال فعلوها أو قدّم ذكر أحدها ونسق الباقي عليه فقال: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ... ) إلى آخر أمرهم، فكان حذف الواو الاختيار في هذا المكان، لأن التقدير لمّا قال: ( ... كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... ) صار كأن سائلا سأل فقال: كيف كانوا وبماذا عوملوا؟ فجاء، (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1036 مجىء الجواب المتضمن لأفعالهم، ثم ذكر بعده ماتضمن الجزاء على أعمالهم، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى الواو كما احتاج إليها ما في سورة الملائكة، لأن تلك تضمّ مابعدها إلى ما قبلها، كأنه قال: فينظروا كيف أُذلّوا وكانوا أعز منكم عزة، وكيف أضعفوا وكانوا أشدّ منكم قوة، أي لَحقهم ذلك في حال متناهية بهم من أحوال الدنيا فأُبدلوا بحالهم غيرَها، وقبل ذلك: ... فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) ، أي: ليس الكفار ينظرون إلا الهلاك المستأصل لهم، كما حكم الله تعالى به على الأمم قبلهم، والله تعالى سنّ ذلك في أمة كل نبىّ، بعده نبىٌّ آخر وحكم في هذه الأمهَ بأن لا تستأصل كما استؤصل غيرها، فلا الأمةُ التي حكم عليها بالهلاك يبدّل حكمُه فيها ويجعَل مكان الاستئصال الاستبقاء، ولا التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1037 حكم عليها بغير الاجتياح تُجْتاَح فيحوّل إليها الحكم الذي سنه في غيرها، وهؤلاء الذين بُعث على تدبّر حالهم هم الذين أهينوا بعد عزة وأضعفوا بعد قوة فبدّلت حالهم، فكأنه قال: أضعفوا وكانوا أشد منكم قوة، فكان وجه الكلام هاهنا الواو، إذ لم يكن في ابتداء خبرٍ تنسقّ عليه أخبار يخبر بها عن الكفار كما كان في الآية الأولى وأما التي في سورة المؤمن. أوّلاً فإنها في موضع بسط وشرح ألا ترى أنها افتتاح قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وفيها نحو ثلائين آية، فاقتضى ذلك في هذه الآية الشرح الذي لم يكن في غيرها فقال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1038 ، فأظهر الكودى الذي صار (من قبلهم) ظرفا له، ثم فال: (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) و (هم) للفصل توكيدٌ للخبر، فاختص التوكيد والشرح بموضعهما وأما التى في آخر هذه السورة وهى: (أفلم يسيروا في الأرض) فقد تكلمنا في "الفاء" مكان "الواو"، في "أفلم"، و"أولم" وهى أنها في موضع جمل، كالآية التى في سورة الروم، لأن قبلها: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1039 فبنيت الآية على الإيجاز الذي بنيت عليه تلك، فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ... ) ، فحدفت الواو من (كانو) لأنها استئناف أخبار، كأنه قال: كانوا أكثر منهم وكانوا أشد قوة، وكانوا أكثر آثارا في الأرض. رمثله ممّا أجمل فيه القول (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) . وقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) ، وكانت لقريش رِحل إلى الشام يجوزون فيها بديار عاد وثمود فيرون آثارهم ويشاهدون ديارهم فاستدعت هذه الآيات اعتبارهم فما اعتبروا وحاق بهم ماكانوا يستهزءون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1040 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) . للسائل أن يسأل "عمّا اختصت به هذه الآيات فجاء في الأولى: (لآيات لقوم يتفكرون) وفي الثانية: (لآيات للعالِمِين) وفي الثالثة: (لآيات لقوم يسمعون) وفي الرابعة: (لآيات لقوم يعقلون) ؟. والجواب أن يقال: أما اختصاص الأولى بقوله: (يتفكرون) فلأن المراد بما ذكر قبله يؤدي الفكر فيه إلى معناه، وهو قوله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1041 أي خلق لكم من شكلكم وجنسكم نساء، وهذا أدعى إلى الألفة والمحبّة لوجود المشاكلة، وقوله: (لتسكنوا إليها) أي جعلها على حال تتيسر المسرةُ بها ويطمئن القلب إليها، فإذا فكر الإنسان في خلقها، ونعمة الله تعالى على الرجال بها، سِوى أنهن أوعية للأولاد الذين إذا برّوا فمن أكبر نعم الله على العباد، فالفكر في ذلك وفى المعاني التي لها خُلقن يؤدي إلى العلم بقادر عليم وصانع حكيم وواحدٍ قديم لا يقدر أحد كقدرته، ولا يعرف حكيم حدّاً لحكمته فحثّنا بالتفكّر على العلم بهذا كلّه. وقوله عز وجل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1042 (وجعل بينكم مودّة ورحمة) أىِ: ميل نفس بالمجانسة، ورقّة قلب تبعث على التعاطف ليتكامل سرور كلّ منهما بصاحبه، وذلك من فضل الله ونظره لخلقه. وأما قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فلأنه جاء بعد قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) ولا أحد إلا والسماء تظلّه والأرض تقله، فلا ينفك منهما، ولا أحد يخلو من كونه بينهما، يعلم ذلك باصظرار، وأما اختلاف الألسنة فالمراد أن آلات الكلام متقاربة، وأجراس الأصوات والنّغم مختلفة، حتى ترى كلّ واحد من الناطقين مختصاً بلطيفة من الله تعالى في صوته وفى جرس لسانه، لا يخفى بها على مَن عرفه إذا سمع كلامه، والسمع يميّز بينه وبين من سواه قبل أن يراه، ويعلم هذا كل من نفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1043 ْوممّن يجاوره ويعاشره ويناطقه حتى لا تكاد ترى اثنين فى الدهم العظيم، والبشر الكثير يتشابه صوتاهما، ويلتبس كلامهما، وهذه اللطفة لا سبيل إلى وصفها حتى يتهيأ وصف كل صوت بما يحصره على صاحبه ويخصّه بناطقه، تبارك الله أحسن الخالقين، وكذلك قوله: (وألوانكم) ليس المراد بها السواد والبياض، والسمرة والحمرة، والأدْمَة والصفرة، وإنما المعنى اختصاص كل واحد من الناس بخِلقة، وانفرادُه بصورة يقارنها لُطف تدبير من الله، يجعلِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1044 على لونٍ ونوع من التصوير يتميّز به عن سائر أمثاله حتى لايلتبس بواحد من أشكاله، فلا تكاد تجد في بلد يحوي من لا يحصر بعدد اثنين يتشابهان تشابه لبس، بل كل واحد مخصوص بخصوصية في وجهه، يعرَف بها من غيره، وهو أيضا مما يعجز عنه بالنعت ولا يمكن إبانةُ واحدٍ من الآخر بالوصف حتى يستغنى به عن المشاهدة، ويقوم من جهه الواصف له مقام الرؤية. فهذه آيات يشترك في معرفتها الناس كلّهم وإن استمرت الغفلة بهم، ووقع على تأملها سهو منهم، فلذلك قال: (إن في ذلك لآيات للعالِمين) أي: لجماعات الناس، فكل أمة " منهم عالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1045 وأما قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) فهو من باب لفّ الخبرين، المعنى:. منامكم بالليل للسكون، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، كما قال فيما قبله: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ... ) أي: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، وكلُّ من سمع هذا علم أن النوم عجيب من فضل الله تعالى، لا يقدر الإنسان على اجتلابه إذا امتنع، ولا على دفاعه إذا ورد، ثم إنه بالنهار لابد له من تصرّف لمعاش وطلب قوت وطعام، به قوامُ الأجساد، فلذلك قال: (يسمعون) وقيل: معنى قوله: (يسمعون) : يستجيبون لِما تدعوهم إليه الآيات، ويصرفون أفكارهم إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1046 وأما قوله: (يعقلون) فقد ذكرناه في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1047 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) . وقال في سورة الزمر: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) . للسائل أن يسأل عن الموضع الذى ذكر فيه: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) والموضع الذى ذكر فيه: (أَوَلَمْ يَرَوْا) وما الذي أوجب اختصاص كل واحد من المكانين باللفظ الذى خصّ به؟ والجواب أن يقال: إنّ: قوله تعالى في سورة الروم: (أَوَلَمْ يَرَوْا) جاء عقيب قوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) ، والمعنى: إذا أنعمنا عليهم نعمة ترى عليهم وتملأ مسارحهم ومُراحهم وتغمر أفنيتَهم وآنيتهم ملكهم الفرحُ واستولى عليهم البطَر، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1048 أصابتهم عقوبة على ما قدموا من معصية، ونالتهم شديدة من جدب وقحط يصفر لها الإناء، ويَقْرَع منها الفناء حتى لا ترى لهم ثاغية ولا راغية لم يعتبروا ولم يقلعوا عمّا أتوا مما جرّ عليهم تلك الشديدة، وفعلوا فِعل من ييأس من أن يأتيه الله بعد ذلك بنعمة إن تدارك سيئته بتوبة، فكان الأليق بهذا المكان: (أو يروا) أي: أموالَ من يبسط الله له الرزق فيعلموا أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1049 يوسّغ لمن يشاء، ويضيّق على من يشاء، وكلتا الحالتين مرئيتان عندهم مشاهدتان لديهم، فإنّ من بُسط له الرزق رُئي ماله، ولم يَخْف على المشاهد حاله، ومن انقلب أمره وانقطع خيره أدركت العين منه خلاف ما كان قبل، فلما جاءت هذه الآية بعد ذكر النعمة إذا وُهبت، وحالِ الإنسان فيها إذا سُلبت، والنعمة مرئية لاق بهذا المكان (أو لم يروا) . وأما الآية في سورة الزمر فإن قبلها: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ... ) ، فقوله: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1050 والضر سوء الحال من مرض في النفس. ونقص في المال، وهو الذي شكاه أيوب عليه السلام بقوله: (مسّني الضرّ ... ) ، وقوله: (ثم إذا خوّلناه نعمة منا) أي: إذا أعطيناه بعد العلة صحةً، وبعد القلة ثروة، ادعى أنه أوتي ما أوتي بعلمه، وأنه جلب العافية إلى نفسه بطبه، وأنه لم تعاوده الصحة من قبل ربه، ويقول فيما يحسن من حاله: إني افتقرت من قبل لأني قصّرت، والآن عرفت كيف التأتى للاكتساب واستعادة الغنى بعد الافتقار، وتلك النعمة من الله، وهي فتنة له، أي تشديد في التكليف عليه لأنه يطالب بمعرفتها التي ذهب عنها وعن حكمها، وغفل عن شكر واهبها وألهاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1051 الانغماس في لذتها عن حمد من تفضّل بها وأكثر الناس لا يعمل بموجبها، فكأنه لا يعلمها، فهذا معنى: (ولكنّ أكثرهم لا يعلمون) ثم قال: (قد قالها الذين مِن قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) ، أي: قد كفر مثل كفرهم مَن كان من قبلهم، فلما نزل عذاب الله بهم لم يملكوا دفعه بعلمهم ولا بمالهم، ولكن أصابتهم عقوبات ما ساء من أعمالسهم، والظالون في عصرك يا محمد سيصيبهم عقوبة ما عملوا، ثم فال: (أولم يعلموا أن الله) يوسّع على الفقير حتى يستغني ويفتح له أبواب الرزق حتى يثري، وأنه يضيّق على من يشاء أن يضيق عليه، ويُسْقِم من يشاء إسقامه، ويُصحّ من يشاء صحته، فقابل ما ادّعوه من العلم كما قال كافرهم: (إنما أوتيته على علم) بأن قال: هلاّ علمتم ما هو أوضح من أحوالكم، فتعلموا أن الخصب والجدب ليْسا بأيديكم، وكذلك المرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1052 والشفاء ليْسا إليكم، وإنما ذلك ما تعلمونه عن بسط الله الرزق إذا أرسل السماء عليكم مدراراً، وما تتألمون منه إذا ضَنّ السحاب بقطره، وابتلي أحدكم بفقره، فكان (أولم يعلموا) أولى بهذا المكان من قوله: (أولم يروا) كما كانت (أو لم يروا) في سورة الروم أولى. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1053 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) . وقال في سورة. الجاثية: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) . إن سأل سائل عن زيادة قوله تعالى: (فيه) في سورة الجاثية " وتركها في سورة الروم، كان الجواب قريبا على مَن له أدنى معرفة، وهو أن الهاء في قوله: (فيه) عائدة إلى البحر، وقد ذكر في سورة الجاثية فعاد إليه الضمير، وهو قوله: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) ولم يتقدم للبحر ذكر في الآية التي ذكر فيها جري الفلك في سورة الروم، وإثمّا نبّه على النعمة بالرياح وإظهار آياته فيها فقال: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) أي باجتلاب السحاب واعتصاره للأمطار، وهو الذي يذيقنا من رحمته مع ما تلقّح منه الأشجار في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1054 وقته وقال: (ولتجري الفلك بأمره) أي: بالرياح إذا أذن الله تعالى، وهذا ممّا لا إشكال فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1055 سورة لقمان الآية الأولى منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) . وقال في سورة الملائكة: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى..) الآية. وقال في سورة الزمر (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ... ) الآية للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: (يجري إلى أجل مسمّى) وما سواه إنما هو: (يجري لأجل مسمّى) والجواب أن يقال: إن معنى قوله عزوْجل: (يجري لأجل مسمّى) لبلوغ أجل، ومعنى قوله: (يجرىِ إلى أجل) معناه: لا يزال كلّ من الشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1056 والقمر جاريا حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمّى له، وإنما خص ما في سورة لقمان بـ "إلى" التي للانتهاء، واللام تؤدي معناها، لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى، لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة، فقبلها: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... ) . وبعدها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ... ) ، فكان المعنى: كلّ يجري إلى ذلك الوقت، وهو الوقت الذي تكوّر فيه الشمسُ وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى. وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هى في الإخبار عن ابتداء الخلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1057 وهو قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... 2) ، فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء الخلق وابتداء جرْي الكواكب، وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية. وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي ابتدأ بها في البر والبحر إذ يقول: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ) إلى قوله: (.. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1058 ، فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها، واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1059 سورة السجدة الآية الأولى منها فوله عزوجل: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) . وقال في سورة سال سائل: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) . للسائل أن يسأل فيقول: هذا اليوم جُعل مقداره في السورة الأولى ألف سنة، وفِى السورة الثانية خمسين ألف ممنة، وقد قُدّر بألف سنة في موضع آخر من سورة الحج فقال: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) ، فكيف يجمع بين هذه الأخبار؟. والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن يكون المعنى: أن الله تعالى يدبر أمر أهل الأرض في السماء من دعائهم إلى الطاعات، وتكليفهم أنواع العبادات، فينزل به مَن يأمر من ملائكته لميبعث بذلك رسله، ويضمّ إليه آياته وكتبه، ثم يصعد الملك الذي جاء به إلى المكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1060 الذي نزل منه في يوم من أيام الدنيا، وهذه المسافة التي قطعها الملك في النزول والصعود مقدارها مسيرة ألف عام من غيره، لأنّ ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فيقع النزول والصعود في يوم تستغرق أوقاته سير ألف سنة من السنين التي يعدها أهل الأرض في الدنيا،، وهذا التدبير الذي يدبر في السماء لأهل الأرض هو ما يكلفون من العبادات، وما يقدر عليهم، من مدد أعمارهم، وما يحدث في اللوح المحفوظ ممّا يدل الملائكة على أنهم مأمورون بأن ينزلوا به إلى المصطفَيْن من عباده بالرسالة، ثم يعودون إلى أماكنهم في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1061 وأما قوله في سورة الحج: (.. وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) أي: يقع في يوم من تنعيم المطعين وتعذيب العاصين قدرُ ما يناله المنعَّم في ألف سنة من أيام الدنيا، ويعذّب فيه العصاة في يوم مقدار ما يعذّب به الإنسان في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي فيها، فعذابه عذاب ألف سنة، وذلك لِما يتضاعف عليهما من الآلام والملاذ، ويصل إليهما من الغموم والسرور، والدليل على أن المراد في هذه الآية ذلك قوله قبله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) ، فجهّلهم باستعجالهم العذاب الذي هذا وصفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1062 وأما قوله في سورة سأل سائل: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) أي: تصعد الملائكة وجبريل عليهم السلام إلى حيث يعطى الله تعالى فيه الثواب أهل طاعته، ويحلّ فيه العقاب بأهل معصيته، وإن ذلك في يوم هو يوم القيامة، ويفعل الله تعالى فيه من محاسبة عباده، وتبليغ كل منهم حقّه ما لا يكون مثله في الدنيا إلا في خمسين ألف سنة. وجواب ثان: وهو أنه يجوز أن يكون يوم القيامة يوما بلا آخر، وفيه أوقات مختلفة طولا وقصرا، كما في أيام الدنيا، كما كان في الوقت بين صلاة الفجر وصلاة الظهر أطول ممّا بين الظهر والعصر، وكما كان ذلك بين صلاتى العشاء الأولى والعشاء الآخرة فبعضها ألف سنة، وبعضها خمسون ألف سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1063 وجواب ثالث: هو أن يكون اليوم الذي أخبر الله تعالى عنه في السجدة والذي في الحج هما من الأيام التي عند الله تعالى، وهي التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض، وكلُّ يم منها ألف سنة من سني الدنيا. وأما في سورة سأل سائل فإن المراد به أنه لثقله على الكافرين واستطالتهم له وصعوبته، وهوْله عليهم يصير كخمسين ألف سنة، وفي كل واحد من الأجوبة التي ذكرناها ما يكفي في جواب السائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1064 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1065 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . وقال في سورة سبأ: (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) . للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في سورة "السجدة أن يعود الوصف بـ "الذي " إلى العذاب الذي هو مذكر، ويعود مثله في سورة سبأ إلى النار التي هى مؤنثة، فهل كان اختياراً لو جاء هذا على العكس، فكان ما في سورة السجدة يرجع الوصف فيه إلى النار، وما في الأخرى يرجع الوصف فيه إلى العذاب؟. والجواب أن يقال: إن النار في قوله في سورة السجدة، ظاهرة موضع المضمر لتقدم ذكره في قوله: ((وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1066 فأضمرت في قوله: (أعيدوا فيها) وأظهرت في قوله: (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار) أي عذابها، فوقعت مظهرة مكان المضمر. والتي في سورة سبأ لم تجئ هذا المجىء، لأنها في مكانها مظهرة. فلما كان المضمر لا يوصف بعُد عن الوصف ما حلّ محلّه، لأنه سدّ مسدّه، فوصف ما أضيف إليه وهو العذاب، فجاء: (عذابَ النار الذي كنتم به تكذبون) ولماّ لم يتقدم ما في سورة سبأ ما منزلته منزلة المضمر صرّح الوصف له فأجري عليه وجاء: (عذابَ النار التي كنتم بها تكذبون) ألا ترى أن أوّله: (ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار ... ) الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1067 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) فأتى بالنون فى (تَكُنْ) وقال تعالى في سورة هود فى موضعين: (فَلَا تَكُ) وكان حق ذلك أن يذكر هناك بغير نون، وهو قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وقال فى آخرها (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ... ) للسائل أن يسأل عن حذف النون حيث حذفت، وإثباتها حيث أثبتت، وما الذى خصص كلا بمكانه؟. الجواب أن يقال: إن هذه النون فى قوله: (لَا تَكُنْ) لما أشبهت بسكونها حروف المد واللين ثم كثرت استجيز حذفها للسببين جميعا، فإن تحركت خرجت عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1068 شبهها، نحو: لم يكن الرجل منطلقا، فلا يجوز أن تقول: لم يك الرجل منطلقا. وأما إذا سكنت وتحرك ما بعدها فلك أن تأتي بها ولك أن تحذفها، كما كان في الموضعين، ثم إنه يختار فيها الحذف إذا تحرّك ما بعدها متى تعلّقت بالجمل الكثيرة، ويختار إتباتها إذا تعلّقت بالقليلة، لأن الكثرة أحد سببي جواز حذفها، وهذه الكثرة أعني أنها في أم الأفعال التي هي "كان " ويعبر بها عن كل فعل، ألا ترى أنه لا يجوز: لم يَهُ، ولم يَصُ زيد، في لم يَهُنْ) ولم يصُنْ) وكثرة الجمل هي التي تثقلها تعلقت بها من قبلها أو من بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1069 فقوله في سورة هود: (.. فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... ) جاء بعد أن تعلّق بآيات ذوات جمل تقدمته وهي: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ... ) ، ألا ترى فقد تقدمته جمل جاء عقيبها متعلقاً بها فثقل من أجلها فاختير تخفيفها بحذف نونها. وكذلك قوله: ( ... وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) جاء بعد قوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) ، وقع في جواب الله تعالى له بعد الكلام الذىِ كان منه لما بُشّر بالولد، فطال الكلام جدا، وخفّف بالحذف في موضعه اختيارا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1070 وكذلك قوله تعالى: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) ، تعلّق هذا بقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) . فأما قوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) ، فإنه قلّت الجمل قبله ولم يتعلّق إلا بما تقدّمه تعلّق ما ذكرته، فلم يثقل فاختير الإتمام على الأصل. وكذلك قوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ... ) ، لم يتقدمه ما يثقله من الجمل ما تقدم غيره ممّا ذكرنا. وهذه النون حذفها في حال سكونها لشبهها بحروف المد واللين، إذ كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1071 صوتا جاريا في هواء الأنف، كما أن تلك أصوات تجري في هواء الفم، ثم انضاف إلى هذا السبب كثرتها في الكلام، وهي أنها تدخل على كل فعل فيقال: كان زيد فاعلا، ولم يك زيد فاعلا، فإذا كانت الكثرة أحد سببي حذف النون في الأصل صارت كثرة المتعلّقات أحد سببي اختيار حذفها. فإن سأل عن قوله: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ..) ، وقبله: (.. عطاءً غير مجذوذ) ،. وقد انقطع الكلام، ولا تعلق لقوله: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ) بما قبله؟ قلت: لم نعتلّ بمتعلقات الجملة التي فيها "تكن" بما قبلها دون ما بعدها، وهذه وإن لم تثقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1072 بتعلقها بما قبلها فإنها ثقلت بتعلقها بما بعدها لقوله. (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) ، أي: لا تشك فيما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام أنهم يعبدونها بحجة فإنهم لا يعبدونها إلا تقليدا لآبائهم الذين كانوا يعبدونها من قبل، فكل يجرى بمستحقه، وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به هو ومن آمن به، فقد تعلقت: ((فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) بهذا الكلام كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1073 سورة الأحزاب ليس فيها شيء من ذلك. سورة سبأ الآية الأولى منها قوله عز وجل: ( ... عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) . وقال بعده في هذه السورة: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وقال في سورة يونس: ( ... وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1074 للسائل أن يسأل عن تقديم (السموات) على "الأرض " في الموضعين من سورة سبأ، وعن تقديم "الأرض على السماء في سورة يونس، وكان موضع ذكر هذه " الآية هناك إلا أنها تأخّرت إلى هذا المكان؟. والجواب عنه أن يقال: إنما قدّم ذكر "السموات " على "الأرض " في سورة سبأ لأن هذه الآية مبنية على مفتتح السورة، وهو: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... ) ، فقّدم ذكر "السموات " لأن ملكها أعظم شأنا وأكبر سلطانا، وكذلك الآية التى بعدها من سورتها". وأما التى في سورة يونس فإنها جاءت عقيب قوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) ، فكان القصد إلى ذكر علمه بما يتصرف فيه العباد من خير أو شر، وذلك في الأرض، فأتمه بقوله: ( ... وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1075 فاستوعب جميع ما في الأرض، ثم أتبعه ذكر السماء، لأن الابتداء وقع بما يتعلق بها، وما يعمل العباد فيها، فلذلك قدّمت "الأرض" عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1076 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) . وقال في سورة بنى إسرإئيل 561،: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... ) الآية. للسائل أن يسأل عن إظهار اسم الله تعالى في سورة سبأ في قوله: (من دون الله) وإضماره في سورة بني إسرائيل في قوله: (من دونه) وقد جرى الذكر قبلُ فى الموضعين، لأنّ قبل هذه الآية،: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) ، وهناك: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... ) والجواب أن يقال: إنما اختير الإضمار في سورة بني إسرائيل لقوة الذكر قبلُ، ألا ترى أنه تكرر في عشرة مواضع مضمرا ومظهرا لقوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1077 فربّكم واحد، وفى (أعلم) ضميره، و (إن يشأ) فيه ضميره، وفي قوله: (يرحمكم) ضميره، وقوله: (أو إن يشأ) فيه ضمير فاعل، وقوله: (وما أرسلنا) : النون والألف فيه ذكر له تعالى، و (ربك أعلم) اسمان، (ولقد فضّلنا بعض النبيين) قوله "نا" اسمه، وكذلك: (وآتينا داود زبورا) فكان الإضمار تِلْو الإضمارات أولى بهذا المكان، فلذلك جاء: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) . وأما في سورة سبأ فإن الذى تقدمه: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1078 فالذكر تقدم في ثلاثة مواضع وهناك في أكثر من عشرة مواضع، فحسن الإظهار هنا، وقوي الإضمار هناك، فلذلك اختلفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1079 سورة فاطر الآية الأولى منها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ... ) . وقال في آخر سورة الأنعام ـ وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك ـ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ... ) ، فأضاف "خلائف إلى (الأرض) بغير واسطة "فى" وهناك نكرها، وأضافها ب (فى) . للسائل أن يسأل عن التعريف أولا والتنكير ثانيا وعمّا خصّص كل مكان بما اختص به. والجواب أن الذي في سورة الأنعام أجرى مجرى المعرفة، لأنه بعد ذكر متكرّر وخطاب متردّد مبتدأ من مبتدأ قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، فلمّا خوطبوا بألفاظ المعارف أتبع ما في هذه الآية من ذكرهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1080 موضع النكرة، وهو المفعول الثانى من "جعلكم " ذكر المعرفة فكسي لفظها فصار التقدير: وهو الذي جعل كل واحد منكم الخليفة في الأرض التى ورثها عمّن تقدمّه، فمنكم الأعلى، ومنكم الأوسط، ومنكم الأسفل. وليس كذلك الأمر في سورة الملائكة، لأن ما تقدم هذه الآية منها ذكر أهل النار من مبتدأ قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) ، إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) ، ثم قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) فأخرج لفظ (الخلائف) مخرج النكرة كأنه قال: جعلكم خلفا لمن تقدّمكم غير معلوم إلاّ عند الله ما يكون من أمركم، فأنتم مجهولون عند أشباهكم وأمثالكم، فمن كفر منكم فضرر كفره راجع عليه، فكان التنكير أولى بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1081 المكان، لأنه لم يتقدمه من الأسماء المضمرة التي للخطاب المعرفة بحكم الإضمار ما تقدم في سورة الأنعام، ثم نزلهم منزلة قوم مجهولين لا يتوقع ما يكون من أمرهم في إيمانهم أو كفرهم، فلم يجعلوا في حكم الخطاب الأول في قوم بأعيانهم للانقسام الواقع عليهم، فهذا فرق مابين المكانين. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1082 سورة يس الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) . وقال في في سورة القصص: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) . للسائل أن يسأل عن تقديم قوله: (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) على (رجل) الذى هو الفاعل في سورة يس وتأخيره في السورة التى قبلها؟. والجواب أن يقال: إن الفاعل في الموضعين لما كان نكرة فالمعنى جاء جاءٍ وقد دلّ الفعل على جاء، ولا يكون الجائي من أقصى المدينة فى الأعم الأغلب إلا رجلا، وكان الذى يفاد المخاطب أن يعلم أنه جاء عن مكان بعيد إلى مجتمع " الناس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1083 القرية، وحيث لايقرب من مجاري القصة ولا يحضر موضع الدعوة ومشهد المعجزة، فقدّم ما تبكيت القوم به أعظم، والتعجب منه أكثر، فقال: ((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) ينصح لهم ما لا ينصحون مثله لأنفسهم ولا ينصح لهم أقربوهم مع أنه لم يحضر جميع ما يحضرونه، ولم يشاهد من كلام الأنبياء ما يشاهدونه، فبعثهم على اتباع الرسل المبعوثين إليهم، وقبول ما يأتون به من عند مرسلهم. وأمّا الآية الأولى من سورة القصص فإن المراد: جاء مَن لا يعرفه موسى من مكان لم يكن مجاورا لمكانه فاعلمه ما فيه الكفار من ائتمارهم به، فاستوى حكم الفاعل والمكان الذي جاء منه، فقدّم ما أصله التقديم وهو الفاعل، إذ لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1084 يكن هنا تبكيت للقوم بكونه من أقصى المدينة كما كان ذلك في الآية المتقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1085 الآية الثانية منها. قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) . وقال في سورة الفرقان: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) . للسائل أن يسأل عن إظهار اسم الله تعالى فى سورة يس وسورة مريم فى قوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) وإضماره فى سورة الفرقان حيث قال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ؟. والجواب عن ذلك أن يقال: إنه لما قال في سورة الفرقان فأخبر عن نفسه، لا كإخبار المتكلم بلفظة (التاء والنون والألف فى مثل: فعلت، وفعلنا، بل كما يخبر المخبِر عن غيره فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) ، إلى قوله: ( ... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ، كان ذكر الله تعالى قد تقدم فى الآيتين، فأجرى ذكره فى الثالثة مجراه فى الأوليين على مقتضى كلام العرب فى الإضمار بعد الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1086 ولم يكن كذلك الأمر فى الآيتين فى سورتي يس ومريم لأن الذكر المتقدم إنما على لفظ المخبر عن نفسه لقوله: (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) ، ثم قال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) أي: اتخذوا من دون مَن يحقّ له العبادة أصناما يعبدونها ولا تحق عبادتها، فأظهر اسمه تعالى إذ كان لم يتقدم ظاهر يقع الإضمار بعده، وجهلوا بأن أشركوا بالله تعالى ما ليس بإله فقابلوا الحقّ بباطلهم وأرُوا أن هذا الفعل من فاعلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1087 وكذلك كان الأمر فى سورة يس حيث قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) إلى قوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1088 سورة الصافات الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) . وقال فى هذه السورة: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) للسائل أن يسأل عن قوله: (لَمَبْعُوثُونَ) أولا، وفيما بعده (لَمدينون) ، ولماذا اختلفا في المكانين وإن كانا فيما يراد من تحقيق الإحياء بعد الموت سواء؟. والجواب أن يقال ": إن الأول حكاية ما قاله الكفار من إنكار البعث، والمبعوثُ هو الذي يبعَث من قبره ويحيا بعد موته، والمدين هو المجازى بما كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1089 كسبه، والبعث قبل الجزاء، وهو يفعَل من أجله. وحكاية الآخر الذي قال: (أئنا لَمدينون) إنما هى عند حصوله فى النار، وهو الجزاء الذي أنكره لقوله تعالى (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) فهذا المؤمن الذي حكى الله تعالى عنه قوله، وأنه أخبر عن قرينه فى الدنيا بأنه كان ينكر أن يحيى ويدان بما صنع هو الذي إذا رآه فى سَواء الجحيم: (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1090 فالتفريع على ما أنكر إنما يقع إذا تحقّق وحصل فيه من كفره، نعوذ بالله من عقابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1091 الآية الثانية منها قوله تعالى فى أواخر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) . وبعدها في قصة إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) . وقال فيما بعدها فى قصة موسى وهارون: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) . وبعدها فى قصة إلياس: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) . فجاء في كل ذلك: (إِنَّا كَذَلِكَ) إلا فى قصة إبراهيم عليه السلام فإنه جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1092 فيها: (كَذَلِكَ) من دون (إِنَّا) . للسائل أن يسأل عما أوجب اختصاص هذا المكان بسقوط (إنا) منه، وإثباتها فيما سواه من الآيات التي أنهيت بها قصص الأنبياء عليهم السلام. والجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لما جعل أمارة لانتهاء كل قصة، وكانت قصة إبراهيم عليه السلام متضمنة ذِكره وذكر ولده الذي رأى فى المنام ذبحه، فقيل له بعدما تلّه للجبين: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1093 فجاء: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) . وقد بقيت من القصة آيات وهى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) ثم جاء ما جعل خبرا فى آخر كل قصة من قصصهم: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) ، فلم يذكر "إنا" هنا لسببين: أحدهما تقدم ذكره فى هذه القصة حيث فال: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) . والآخر: أن يخالف بين منتهى هذه الآية لأنها من القصة الأولى التي ختمت ب (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) وبين منتهى قصة يس لأن ما قبلها منها، فكان: (إناّ كذلك) لما ذكرت فى هذه القصة مرة اكتفى بها، ولم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1094 منقطعا لها، فخالفت ما تقدمها وما تأخّر عنها لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1095 الآية الثالثة منها. قوله تعالى: (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) . وقال بعده: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) . للسائل أن يسأل عن تعدية هذا الفعل الأول وهو: (وأبصرهم) وحذف ما تعدّى إليه "أبصر" فى الثانية، ثم عن تكرير (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) . والجواب أن يقال: إن هذا بعدما بشر الله تعالى به عباده حيث قال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) ومعناه: إن المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين إذا حاربوا أعداء الله بأمر الله فإن الله قد حكم لهم بالظفر والنصر فى عاقبة أمورهم وإن كان بعد مدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1096 فقوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) أي: أعرِضْ عن محاربتهم إلى الحين الذي يعلم الله أنه يظفرك بهم، (وأبصرهم) فى الوقت الذي تنصر فيه عليهم، فسوف يبصرون قهركم لهم وذلهم. فأما حذف أ (هم) (أبصر) فى الثانية فلِذكرها في الأولى، ولأن هناك معاني أخرى تنضم إلى ذكرهم فيترك ذكرُ المفعول لِيشرع الفعل إلى تلك المعاني كلها، ويبيّن ذلك في الجواب عن فائدة تكرار العامل، وهي أنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1097 قوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) إنما يراد به الحين فى الدنيا وهو الوقت الذي ينصر فيه المسلمون عليهم ويقهرون بأيديهم. وقوله ثانيا: (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) ، أي: بعد أن تنصر عليهم فيهلكوا فى الدنيا توقّعْ ما يحلّ بهم في الأخرى - (وأبصرهم) ، هناك وأنواع العذاب التي تصب عليهم، وعمل النار فيهم ثم مالهم فيها من البقاء والخلود ومع تبديل الجلود وسائر ما أعدّ الله تعالى للكفار في عذاب النار، فقوله "وَأَبْصِرْ"، مودَع فيه كل ذلك: (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1098 تهدد لهم أي سوف يلقون ما أوعد الله به أهل معصيته من أليم عقوبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1099 سورة ص الآية الأولى منها قوله عز وجل: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) . وقال فى سورة ق،: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) . للسائل أن يسأل عن اختصاص "قال بالواو فى سورة ص- واختصاصها بالفاء فى سورة ق؟. والجواب أن يقال: إن التى فى سورة "ق" خبر عن عجبهم فى أنفسهم واتصال قولهم به فقال: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) فكان أخر الكلام راجعاً إلى أوله الذي هو خبر عن ضميرهم من حصول العجب فيه، وهو قولهم عقيبه: (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1100 وليس كذلك ما فى سورة "ص "، لأن قوله هناك: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) خبر عن عجبهم قولا وفعلا، وقولهم بعد ذلك ليس هو راجعا إلى قوله: (وعجبوا) رجوعَ ما فى سورة " ق " إليه لأنه أخبر عنهم أنهم قالوا: (هذا ساحر كذاب) فلم يرجع إلى قوله: (وعجبوا) رجوع قولهم إليه: (هذا شىء عجيب) فيقع عقيبه ويقتضى الفاء اقتضاءه إذ لم يكن قولهم: (هذا ساحر كذّاب) من مقتضى (عجبوا) كما كان قولهم: (هذا شيء عجيب) منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1101 الآية الثانية منها قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وقال فى سورة ق: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) . للسائل أن يسأل عن اختلاف الترتيب فى هاتين الآيتين، وعن قوله فى خاتمتهما: (فَحَقَّ عِقَابِ) فى سورة ص وقوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) فى سورة ق. والجواب أن يقال: إن سورة "ص" مبنيّة فواصلها على أن تُرْدَف أواخرها بالألف، فكانت الآية التي من هذه العشر مختومةَ الفاصلة بوصف فرعون بِذى الأوتاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1102 وبعدها: (أولئك الأحزاب) وبعدها: (فحقّ عقاب) وجاء بإزاء ذلك فى سورة "ق": (وأصحاب الرّسّ وثم ود، ومكان: (فحقّ عقاب) قوله تعالى، (فحقّ وعيد) . وكذلك فى هذه السورة: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) ، وفى سورة الصافات (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) لأن فواصل الآيات التي في سورة الصافات مردفة أواخرها بالياء أو بالواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1103 والقصد التوفقة بين الألفاظ مع صحة المعاني كما قال تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) فى الشعرار، وفى سورة طه ( ... قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) فاعرف ذلك، فإنه ممّا يكثر إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1104 سورة الزمر الآية الأولى منها قوله عز وحل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) . وقال فى هذه السورة أيضا:، (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) . للسائل أن يسأل عن المكان الذى خصّ بقوله: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) دون قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) وما الفائدة المخصصة كلّ واحدة من اللفظين بمكانها الذي استعملت فيه؟ والجواب أن يقال: قد تقدم قولنا فى الفرق بين: (أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) و (أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1105 وأنّ على" تتضمن معنى "فوق" وأن يكون الوحي جاءه من تلك الجهة، وأن "إلى" للنهاية، فلا تختص بجهة دون جهة، ولذلك كان أكثر المواضع التي ذكر فيها إنزال القرآن على النبىّ - صلى الله عليه وسلم - (عدّي ب بـ "على" كقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ، وكقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... ) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ، وقال: ( ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . وأكثر ما ذكر إنزاله على الناس جاء معدّى ب "إلى"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1106 كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) . ثم كلّ موضع قيل فيه: (أنزلنا إليك) فقدشدد التكليف عليه، ونزل منزلة أمته فيما يجب على عالمهم تبيينُه لمتعلّمهم، كقوله تعالى فى أول هذه السورة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) ، فقد أمر بإخلاص العبادة، والمراد هو وأمته، وكقوله: (.. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . وكان المراد فى المواضع التى استعملت فيها "إلى" أنه تناهي إلى حيث لا متعدّى وراءه من عالم سنة مقصور عليه، فكل موضع عدّي فيه الإنزال بـ "على" فإن المراد به أنه شرّفك وأعلى بذلك ذكرك لتؤدىّ ما عليك فتنذر وتبشّر، فمن قبل فحظّه أصاب ومن أعرص فنفسه أوبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1107 ، ويكون فيه تهديد لمن ترك القبول، كقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) ثم قال: (.. لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وكما قال فى هذه السورة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) فقد أسقط عنه فى ظاهر اللفظ القصد إلى الوعيد ما ألزمه عند قوله فى الآية التي فى سورة النساء (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) . فمن عرف حقيقة اللفظين وتخصِيص كلّ مكان بواحد منهما علم أن ما جاء عليه في أول السورة هو مميّز عمّا جاء عليه في وسطها، ولم يخف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1108 عليه الفرقان ببنهما. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1109 الآية الثانية منها قوله عز وجل: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) . للسائل أن يسأل فيقول: لأىّ معنى عدّي "أُمِرْتُ" الأول بـ "أن"، وعدّى "أُمِرْتُ" الثاني باللام فقال: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) وما فائدة اللام؟ ولو قال: أمرت أن أكون أول المسلمين لَكان الكلام مستغنيا عن اللام؟. والجواب أن يقال: إن القصد فى الأمر الثاني غير القصد فى الأمر الأول، وذلك أن الأول يتعدّى إلى العبادة، والثاني معناه: وأمرت أن أعبد الله لأن أكون أول المسلمين، أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله تعالى، وبعثت رسولا لأن أكون أول مَن يبدأ بطاعة الله تعالى وعبادته على الإخلاص المطلوب، فاللام ليست مقحَمَة على ما ذهب إليه كثير عن النحويين، وإنما معناه ما ذكرنا من أنّ الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1110 بالعبادة لأجل أن يفعل أولا ما أمر به، ثم يحمل الناس على مثله، وهذا واضح، فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1111 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) . وقال فى سورة النحل: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) . للسائل أن يسأل عن الموضع الذي استعمل فيه "الذى" فى قوله (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) وعن الموضع الذى استعمل فيه "ما" فى قوله: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . والجواب أن يقال: إنّ كل واحدة من الآيتين تقدّم فيها ما اقتضى حمل هذين المختلفين عليه أعنى "الذي"، و "ما" وهما إذا كانتا موصولتين بمعن، إلاّ فى قصور"ما" عمّا يتبع له "الذى" لأنك إذا قلت: رأيتُ ما عندك، لم يدخل تحتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1112 المميِّزون، وإذا قلتَ: رأيتُ الذي عندك دخل، فإنه يصلح للمميّزين والبهائم والجمادات ثم إنه يحسن حذف المبتدأ من صلة (الذي) إذا كان ضميرها، كقوله تعالى فى قراءة من قرأ: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ... ) ، والمعنى: تماماً على الذي هو أحسن، وكما جاء: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، ولا يحسن ذلك فى "ما" ولا فى "من " لو قلتَ: رأيتُ ما عامر، تريد: ما هو عامر. ورأيتُ مَن عاقل، تريد من هو عاقل، لم يحسُن كحسنه فى صلة "الذى" لمزيّة "الذي" على "من " و "ما" فى اللفظ والتصرف ولوقوعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1113 على الجنس كقوله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) وقوله فى سورة الزمر: (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) و (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) إنّما هو للبناء على م اتقدم، وهو قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) فافتتحت الآية قبلها بـ "الذي" ووُصلت بفعل تعلّق به قولُه: (ليكفِّرَ الله عنهم أسوأ الذي عملوا) ، وقصد جنس عملهم السيء، وجنس عملهم الحسن، فكان استعمال "الذى" فى هذا المكان أولى ليتلاءم اللفظان المتعلّق أحدهما بالآخر كما تلاءم معناهما، وأمّا الآية التى فى سوة النحل فإن الأمر فيها على مثل ما فى سورة الزمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1114 من حمل اللفظ على نظيره مع مطابقة المعنى له، وذلك أنّ أوّل الآية هناك (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ... ) فقال في الذي عند الله: "ما عند الله. ثم قال: (ماعندكم ينفد) والمعنى: الذي عندكم ينفد، فاستعمل "ما" فى قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ... ) فلمّا جاء ذكر الجزاء وهو: (مَا عِنْدَ اللَّهِ) كان استعمال اللفظ الذي يرجع إلى ما تقدم أولى من استعمال غيره، فقال: ( ... وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) . وأحسن ما كانوا يعملون هو ما عند الله ممّا أعدّ من الأجر له ثم بعده ": (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1115 فاستعمل "من" وهى للمميّزين عامّة فيهم، وبإزإئها فى غيرهم: "ما"، فلمّا استعملت "من" هنا شرطاً كان استعمال "ما" التي هى قرينتها فيما يتعلّق في بجزاء شرطها أولى ممّا لا يلائمها. فكما كانت "الذى" فى سورة الزمر أحق بمكانها كانت "ما" فى سورة النحل أحقّ بموضعها، والسبب واحد فيهما. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1116 الآية الرابعة منها قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) . وقال فى سورة الجاثية: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) . للسائل أن يسأل عن اختصاص سورة الزمر بقوله: (كسبوا) وسورة الجاثية بقوله: (عملوا) وعن الفائدة في ذلك؟ والجواب أن يقال: إنما جاء قوله: (كسبوا) في هذه السورة بناء على ما وقع الخبر به عن الظالمين فى الآية التي قبل هذه الآية حيث يقول: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) ، ثم اعترضت آيات تؤكد ما على الظالمين من الوعيد، وتقوي ما للمصدقين من الوعد إلى أن انتهت إلى ذكر هؤلاء الظالمين الذي قيل لهم: ذوقوا ماكنتم تكسبون) فقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) ، فكان المعنى: ولو أنّ للظالمينِ الذين تقدم ذكرهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب، ثم قال: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) أي الجزاء على ماكسبوا من سيئآتهم، كما قيل لهم: ذوقوا ماكنتم تكسبون) ، أي: جزاءه، ثم تبعه ذكر السب فى الآيات الئى بعدها فى قوله: (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1117 وأما الآية التي فى سورة الجاثية فالطريق فى اختيار "عملوا" فيها كالطريق فى اختيار "كسبوا" فى سورة الزمر، لأن قبلها قوله تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) ، وبعدها: (.. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فى الموضعين، وتبع ذلك قوله: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) . فبنى (، عملوا) على ما سبق، كما بني هناك "كسبوا" على ما تقدم. فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1118 الآية الخامسة منها قوله تعالى في حال أهل النار ( ... حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ. وقال في أهل الجنة: ( ... حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) . للسائل أن يسأل عن الواو في قوله في الثانى: "وفُتحت " وتركها في الأول؟ والجواب عن ذلك ما ذهب إليه بعض المفسرين: أن في ذلك دلالة على أن أبواب جهنم كانت مغلقة ففتحت لماّ جاءوها، وأن أبواب الجنة كانت مفتوحة قبل مجىء المؤمنين إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1119 وهذا يحتاج إلى بيان، وهو أنّ قوله: (فُتحت أبوابها) جواب لقوله: (حتى إذا جاءوها) لأن في "إذا" معنى الشرط، وفى جوابها معنى الجزاء، ولابد لها منه، وأنت تقول: إذا جئتُ زيدا فتح لي الباب، أردتَ أن الباب كان مغلقاً، ففتح لمجيئك، وتقول: إذا جئت زيدا وفتح لي الباب. فإنّ ما بعد (الواو) لايقوم مقام الجزاء، والمخاطب متوقع عند سماع ذلك ما يتم به الكلام فإن أراد المتكلم إضمار الجزاء، واكتفى بدلالة الشرط عليه وذلك إذا كان لفظاهما واحداً جاز حذفه وعطف ما بعده عليه، فيكون المعنى حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها فتحذف "جاءوها" الثانية لدلالة الأولى عديها. وعلى هذا قول، امرىء القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1120 فلماّ أجزْنا ساحة الحيِّ وانْتَحى بِناَ بَطْن حِقْف ذي رُكام عَقَنْقَلِ معناه: فلماّ أجزنا ساحة الحىّ أجزناها وانتحى بنا. فإن قال قائل: وهل يختلف المعنى إذا حذفت الواو وإذا أثبتت؟ قلت: يختلف بأن الفتح يقع عند مجيء أهل النار، لأن قوله: (فتحت) جزاء للشرط، وحقه إذا كان فعلا أن لا تدخله "واو" ولا "فاء"، ويكون عقيب الشرط، وإذا حذف الجزاء وعطف فعل عليه فقيل: حتى إذا جاءوها وفتحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1121 ، كان التقدير: حتى إذا جاءوها جاءوها وأبوابها مفتّحة، فهذا حكم اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1122 وأمّا حكم المعنى فإن جهنم لمّا كانت أشدّ المحابس ومن عادة الناس إذا شدّدوا أمرها أن لا يفتحوا أبوابها إلاّ لداخل وخارج، وكانت جهنم أهولها أمراً، وأبلغها عقابا أخبر عنها الإخبار عمّا شوهد من أحوال الحبوس التى تضيّق على محبوسها، فوقع الفتح عقيب مجيئهم ليتطابق لذلك اللفظ والمعنى، ولم يكن هناك حذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1123 وأما الجنة فلأنّ من فيها يتشوّقون للقاء أهلها، ومن رسم المنازل إذ بشِّر مَن فيها بإياب أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارا بهم، وتطلّعا إليهم، ويكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن المؤمنين وحالهم على ما جرت به عادة الدنيا فى أمثالهم، فيكون حذف الجزاء وإدخال "الواو" على الفعل المعطوف عليه لذلك. فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1124 سورة المؤمن الآية الأولى منها. قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) : وقال فى سورة طه (2) 151،: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) . للسائل أن يسأل عن اللام الداخلة على "آتية، فى سورة المؤمن وخلّوها منها فى سورة طه؟. الجواب أن يقال: إن اللام التى تقع فى خبر "إنّ أو اسمها إذا حلّت محلّ الخبر تؤكّد الكلام والعرب تحرض على التوكيد فى موضعه، وتركه فى غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1125 موضعه، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) ، وقال قبل الآية في سورة المؤمن: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) والمعنى: أن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الناس، ومن قدر علىْ خلق الناس أوّلا قادر على خلقهم ثانيا، وهذان من مواضع التوكيد، وتحقيق الخبر أن الساعة حقّ وأنها آتية لا ريب فيها، والخطاب لقومٍ كفّار ينكرونها. والتي فى سورة طه خطاب لموسى عليه السلام، وهى فى ضمن كلام الله تعالى له: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ، وقال: ( ... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا:، 1-15، ولم يكن موسى عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1126 ممّن ينكر ذلك فيؤكد الكلام عليه توكيده على منكريه والجاحدين له على أنه تحميل له ليعلِم قومَه، وهو: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) :، فإذا كان الأمر على ما بينا وضح الفرق بين الموضعين بالذي ذكرناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1127 الآية الثانية منها قوله عز وجل: (.. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) . وقال فى سورة يونس:.. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ. للسائل أن يسأل فيقول: كيف أظهر الناس فى موضع الإضمار فى سورة المؤمن (وقد أضمر فى موضع الإظهار فى سورة يونس، وهل كان جائزا وقوع هذا موضع ذاك؟ والجواب أن يقال: إنّ كل موضع يحتمل الإضمار لقرب الذكر ويحتمل الإظهار لتعظيم الأمر، وذكر أخصّ الأسماء المقصود بالتقريع والتفنيد فإنه يحمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1128 على مايلائم الآيات المتقدمة له ليكون قد جمع إلى صحة المعنى واللفظ مشاكلة ما قبله من الآي فأما قوله تعالى فى سورة المؤمن: (ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون بعد قوله: (إن الله لذو فضل على الناس - ولو قال: ولكن أكثرهم لا يشكرون لقرب الذكر لَكان من الجائز الحسن فإنه محمول على الآيات التى قبله، وهى قوله: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقال بعده: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) : ثم جاء (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) فأظهر ذكر الناس كما أظهر فى الآيتين قبلها للمشاكلة والملائمة، وليس كذلك الأمر في سورة يونس عليه السلام، لأن الكلام هناك بني على الإضمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1129 في الآي المتقدمة، ألا ترى أنه قال تعالى مخبرا عمّن يدخل من الظالمين النار: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) ، فانقضى هذا الكلام، واسئؤنف خبر عن القوم الذين بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) ، فأضمر ذكره فى قوله: ويستنبئوك ثم قال بعده: (.. ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون، فأضمر ما أضاف إليه أكثر، ثم انتهى إلى قوله تعالى بعده: (.. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) فاقتضى ما بني عليه الكلام فى هذه الآيات أن يكون ما بعد الشرط بلفظ الإضمار كما كان ما تقدمه، فاختلاف الموضعين فى الإظهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1130 والإضمار لما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1131 الآية الثالثة منها قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) . وبعده: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) ثم بعده: (.. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) . للسائل أن يسأل عن المواضع الثلاتة التي جاء فيها لا يعلمون وجاء فيها (لا يؤمنون وجاء فيها لا يشكرون، وعمّا يخصّ كلاّ بمكانه، وهل كان يجوز وضع أحدهما موضع قرينه أم كل آية اقتضت ما ختمت به؟. والجواب أن يقال: إنّ مَن أقر بخلق السموات والأرض وأنكر الإعادة والبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1132 ثم نبّه على أن يعلم أنّ من قدر على الأكبر قادر على الأصغر، وهذا موضع يفتقر إلى العلم الذي نفاه عمن لم يقرّ به فقال: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فاختص هذا الموضع بنفي العلم، والعلم هو المحتاج إليه والمبعوث عليه. وقوله: (إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) فمن أنكر البعث فهو محتاج إلى الإيمان به بعد علمه بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم. وأما الآية الأخيرة فقوله: (.. إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الثاس لا يشكرون) ، ومَن كان لله فضل عليه فهو محتاج إلى أن يؤدي حقّه بالشكر، فقال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) : لا يقابلون نعمة الله عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1133 بما يستديمها لهم من الشكر الذي يربطها لديهم، فقد بان أن كل ما ختمت به آية هو في مكانه اللائق به، ولا يقتضي سواه. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1134 سورة حم السجدة الآية الأولى قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ .... للسائل أن يسأل فيقول: ذُكر في هذه الآية أنه خلق الأرض في يومين، ثم قال: وجعل فيها الجبال مع سائر ما ذكر في أربعة أيام، وقضى السموات السبع في يومين، فهذه ثمانية أيام، وقد قال فِى موضع آخر: خلق السموات والأرض وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1135 بينهما في ستة أيام؟. وما أجاب به المفسرون هو أن معنى قوله: (في أربعة أيام أي: فى تتمة أربعة أيام وفيكون لِخلق الأرض يومان، ولِخلق ما فيها من الجبال والأقوات والشجر والمياه وغيرها من عامر وغامر يومان، فتكون الأربعة أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1136 المذكورة معها يوماَ خلقِ الأرض، قالوا: وهذا كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما وأنت تعني خمسة عشر، مع العشرة التي سرت فيها من البصرة إلى بغداد، فتخبر عن جملة الأيام التي وقع السير فيها. وكذلك أخبر الله تعالى عند ذكر ما خلقه في الأرض عن جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض وما اتصل بها، وإنما ضمّ اليومين إلى اليومين المتقدعين لاتصال خلق ما في الأرض بخلق الأرض. هذا ما أجاب به أهل التفسير والنظر وأُولو المعرفة بكلام العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1137 وبقي سؤال يحتاج إلى جواب وهو أن يقال: ما الذي أوجب في العربية أن يُضمّ اليومان اللذان أرسيت فيهما الجبال وأخرجت فيهما من الأرض المياه إلى اليومين اللذين وقع فيهما خلق الأرض؟ وهلا ذُكر يوماَ ذلك مفردين على اليومين المتقدمين ليزول الإشكال ولا يقع الاعتراض. والجواب عن ذلك: سوى ما يقوله النظار من ردّ المتشابه إلى المحكم وبنائه عليه بموجب النظر ليتبين مزية أهل العلم وما خصوا به من الفضل ووُعدوه من جزيل الأجر هو أن يقال: إن في الكلام ما أوجب ضم اليومين إلى اليومين الأولين فذكر أربعة أيام في هذا المكان، وهو من دقيق الكلام فى الإعراب، وذلك أنه تعالى قال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فتمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1138 الذي " بصلتها، وصلتُها: (خلق الأرض) وانقطعت الصلة بقوله: (وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين) لأن (وتجعلون معطوف على قوله: (لَتَكْفُرُونَ) فانقطعت الصلة بالعطف على ما قبل الموصول والصلة، وقوله بعد ذلك: (وجعل فيها رواسي من فوقها) عطف على قوله: (خلق الأرض في يومين) ولا يصح العطف على فعل هو صلة "الذي"، وقد حجز بينهما كلام أجنبي عنهما، فلو قلت الذي خرج محمد وركب، لم يَجُز، لأن قولك "وركب معطوف على "خرج، و (خرج،) صلة الذي " وقد انقطعت بقولك: "محمد، فلا يصح العطف على الصلة مع حجزه، ولو قلت: الذىِ خرج وركب محمد، صلح. وإذا كان كذلك وجاء قوله: (وجعل فيها رواسي) معطوفا على (خلق الأرض) وامتنع هذا العطف لما ذكرت، لم يكن بدُّ من أحدِ أمرين: إما أن يُنوى بهذه الجملة المعطوفة التقديم حتى تعطف على (خلق الأرض) وينوى بقوله: (وتجعلون له أندادا) التأخير، وهذا مما يجوز في ضرورات الشعر، وهو قبيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1139 وإما أن تعطف على فعل مثل ما وقع في الصلة بدلالة الأول عليه، فيضمر: (خلق الأرض ِ) ، وهو ما دل عليه الأول، ثم يعطَف: (وجعل فيها رواسي من فوقها عليها) ، "فيصير كأنه قال: أئنكم لَتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها، وقدّر فيها أقوأتها في أربعة أيام، فيضم) اليومان اللذان يقتضيهما خلق الأرض إلى اليومين اللذين هما لِخلق ما فيها للمعنى الداعى إلى إضمار قوله: (خلق الأرض) ، بعد قوله: (ذلك رب العالمين) فهذا الذي أوجب من طريق اللفظ والمعنى أن يتناول الخبر الثانى فى المعطوف على الأول جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض وما اتصل بها وهو بيّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1140 لمن تنبّه إليه مفسّر. فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1141 الآية الثانيهّ منها قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) . وقال في سورة الزخرف: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وقال قبله: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا يعني أبواب جهنم وقال بعده: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يعنى أبواب الجنة للسائل أن يسأل عن زيادة (ما) بعد إذا في سورة السجدة وحذفها فى الموضع الآخر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1142 والجواب أن يقال: إنه إذ قصد توكيد معنى الشرط الذي تتضمنه "إذا" لقوة معنى الجزاء استعملت "ما" بعدها، وإذا لم يقصد ذلك لقرب معنى الجزاء من الشرط لم تستعمل، (ما) بعدها. فقوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) شهادة السمع وسائر الجوارح من المعاني القوية التي لا يقتضيها الشرط الذي هو المجيء، ألا ترى استنكارهم لها حين قالوا لجلودهم: (لِم شهدتم علينا) فأجابوا بأن: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) ، وليس كذلك (حتى إذا جاءوها فتحت أبوأبها) : 71، لأن المجيء يقتضي فتح الأبواب، وإن أضمِر في الثاني الجزاء على معنى: حتى إذا جاءوها نالوا المُنى عندها وأدركوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1143 مطلوبهم وموعودهم فيها، فقد صار المكان مكان اختصار وحذف لما لا بد للكلام منه، فكيف يزاد فيه ما يستغني عنه؟ وكذلك: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك) أي: قال الآدمي لقرينه من الجن اللذَيْن اشتركا في الدنيا في معصية الله تعالى، ثم اشتركا في العذاب في الآخرة: يا ليتني لم أتبعك، وكان بعْدُ ما بين المشرقين بيني وبينك. وهذا أيضا مما يتوقع كونه منهما، ثم يتبرّي بعض من بعض، فليس في الجزاء ما يوجب قوة الشرط من المعنى الذي لا يتوقع ولا يستفاد إلا به ومنه، ولا يكون في الشرط تنبيه عليه وإشارة اليد، فيتركُ التوكيد حيث لا يدعو داع إلى الإتيان به أحسن، وإذا دعا الداعي إليه فالإتيان به أحرى وأقمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1144 الآية الثالثة منها قوله تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وقال في سورة الأعراف: " (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) للسائل أن يسأل عن التوكيد في سورة السجدة، في قوله: (إنه هو السميع العليم وتعريفه الصفتين بالألف واللام، وترك التوكيد بقوله "هو، وترك التعريف في (سميع عليم من الأعراف؟ والجواب أن يقال: إن الذي في سورة السجدة لما كان بعد دعاء إلى ما يشق على الإنسان فعله، وهو أن يدفع السيئة بالحسنة " ويقابل غلظة عدوه بالملاينة، استكفافاً لشره وأذاه حتى يعود إلى اللطف في المقال والجميل في الفِعال، فيصير وإن كان عدوا كأنه صديق حميم قريب القربى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1145 ثم قال: (وما يلقاّها إلا الذين صبروا) أي: ما يوفق لذلك إلا مَن ملك أمر نفسه، وصبر على احتمال الأذى من عدوه، ولا يوفق لذلك إلا مَن له نصيب وافر، وحظ جزيل من الإسلام. وهذا الذي بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين عليه ما ينتهز الشيطان الفرصة عنده، ويبعث على عداوة من تجلب عداوته ضره، ويوسوس إلى الغضبان بالحمية والأنَفَة، وإذا كان الإنسان ثابت العزم، مالكاً لنفسه عند الغضب فجاءه من قبل الشيطان مثل ما ذكرت مما يحمل على خلاف ما رغّب الله تعالى فيه، ويدعو إلى معصيته، ووجد في نفسه فسادا يتزين له من جهة شيطانه فهو مأمور عند ذلك بالاستعاذة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1146 بالله من الشيطان الرجيم، ومن ضرر ما يحمل عليه ليعيذه الله تعالى منه. فلما كان الأمر الذى بعث الله تعالى عليه أولياءه شاقا عظيما حتى قال: (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم كانت وسوسة الشيطان فِى مثله أعظم، والمؤمن لها أيقظ، ومِن قبولها أبعد، وكان الترغيب في مدافعته أبلغ، وتقدير علم الله تعالى. بما يلاقي من ذلك أودكد فجاء قوله: (إنه هو السميع العليم) أي لا سميعا عليما قديما إلا هو، فهو لم يزل يعلم ما يكون قبل أن يكون، وكيفية ما يتكلف به من المشاق فيما دعاك إليه. فهذا وجه التوكيد والتعريف في هذه الآية. وأما الآية التي في سورة الأعراف فإن قبلها: (خذ العفو وأمُرْ بالعُرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1147 وأعرض عن الجاهلين) ولم تعظم فيها الأفعال التي دعا إليها كما عظمت في سورة السجدة. بل كان ما هناك بعثا على أحسن الأخلاق، ولم يخص نوعا من المشاق كما خص في سورة السجدة، فلم تقع المبالغة في اللفظ فاقتصر في الخبر على الأصل، وهو: (إنه سميع عليم) أي يسمع ما يكون منك ويعلمه مع كل مسموع ومعلوم، فجعل اسم "إن " معرفة وخبرها نكرة، - وذلك الأصل قبل تأكيد الألفاظ. لتأكيد المعاني. فاعرفه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1148 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1149 الآية الرابعة منها قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) . وقال في سورة حم عسق: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) . للسائل (3) أن يسأل عن خلو هذه الآية من ذكر النهاية المذكورة في الأخيرة، وهو قوله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) . والجواب أن خبر الله تعالى عما آتاه موسى عليه السلام عن التوراة يدل على أن أولئك القوم اختلفوا فيه كاختلاف مَن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - (في القرآن الذي أنزل عليه، ثم قال؟ (ولولا كلمة سبقت من ربك) أي: لولا أن الله تعالى قال: إني أوفّي كلا من المطيع والعاصي حقه من الثواب والعقاب فى الآخرة لأنزل بكل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1150 ما يجب له وعليه عند فعله في الدنيا، فأخبر أنْ سبيلهم في الإمهال سبيلهم لما سبق من حكم الله تعالى، وقوله في تأخير المستحق من الثواب والعقاب إلى الآخرة. فأما اختصاص ما في سورة حم عسق بذكر النهاية في قوله: (إلى أجل مسمى) فلأن قبله: (وما تفرقرا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) ، فأخبر مبتدإ كفرهم وهو إنكارهم بعد مجيء العلم، أي: القرآن والآيات التي أوقعت العلم بصحة ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما قال: إلا من بعد ما جاء و "من، لابتداء الغاية، وكان ذلك ابتداء كفرهم ذكرت النهاية التي أمهلوا إليها ليكون ابتداء عقابهم، فيكون الحد مذكورا مع الحد، ولأنه جرى ذلك محدودا من الطرفين، قال بعده: (ولولا كلمة الفَصْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1151 أي: لولا قوله: إني أفصل في الآخرة لأفصل في الدنيا. وهذا بيّن واضح فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1152 الآية الخامسة منها- قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسّته لَيقولَن هذا لي،. وقال في سورة هود،: (ولئن أذقناه نعماءَ بعد ضراء مسّتْه لَيقولَنّ ذهب السيئآت عنى إنه لَفَرِح فخور) . للسائل أن يسأل فيقول: قوله في السجدة: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسّتْه) ولم يكن في سورة هود "منا، ولا "مِن ". والجواب: أن يقال: إن قوله (منا) مما بالكلام إلى ذكره حاجة، وقد أستغنى عنها في سورة هود عليه السلام لتقدم ذكرها في الآية التي قبلها، وهي: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعْناها منه إنه ليئوس كَفور) . وأما قوله: (من بعد ضراّء مسته) فلأنهِ لما حد الرحمة والجهة الواقعة منها حدّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1153 الطرف الذي بعدها ليتشاكل المقترنان في التحقيق،، ولما لم يكن ذلك في الآية التي في سورة هود من حدّ في الأول لم يحتج إليه في الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1154 الآية السادسة منها قوله تعالى: (قل أرأيئم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أضلُّ ممن هو في شقاق بعيد) ،. وقال في سورة الأحقاف: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . للسائل أن يسأل عن قوله: (ثم كفرتم به) في الأول وقوله: (وكفرتم به) في الثانى، وهل يصلح كل واحد منهما مكان الآخر؟ والجواب: أن يقال: إن معنى قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله أرأيتم إن كان ما أتيتكم به من كلامه وسائر ما أدّيته إليكم من أمور دينه، وكان قصاراكم وآخر أمركم: الكفر به، فهل ترون أضل منكم عن الصواب؟ فإن لم تحققوه فلا بد من أن تتأملوا فيه فتعلموا بعدَكم عن الهدى وإيغالكم في الضلال، فذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1155 فعلين أحدهما: (إن كاد من عند الله) وختمه بقوله: (ثم كفرتم به) على معنى: أنكم بعد إمهالي لكم لتدبّره وحثّي إياكم على تأمله كان عاقبة أمركم: الكفر به، فلم يحسُن في المعنى إلاّ، (ثم) ، للمهلة بين الاستدعاء إلى الحق، وخاتمة أفعالهم بالكفر وهو من مواضع "ثم". وأما في سورة الأحقاف فإن قوله: (وكفرتم به) لم يجعله آخر ما أخبر به في القصة وخاتمة أمره معهم من الدعوة، بل ذكر (وكفرتم به) وعطف عليها أفعالا بعدها، وهى: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) فكأنه قال: قابلتم بالكفر ما أتيت به؟ واحتج عليكم مِن بني إسرائيل مَن قرأ الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1156 وعرف ما أتيت به من الصدق فآمن وتكبرتم عما التزم من التذلل في طاعة الله تعالى، ألا تكونون ظالمين بذلك والله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما يهدي إليه المؤمنين. فلما لم يجعل قوله: وكفرتم به) الكفر الذي يوافي به الآخرة لما ذكر بعده من الاحتجاج عليهم وتوقع من إيمانهم، وشهادة مَن كان على دينهم وإيمانه، واستكبارهم، خالف المكان الذي ختمت أفعالهم فيه بالكفر فاستعملت " الواو،، هنا بدل استعمال ((ثم)) هناكْ. والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1157 سورة الشورى الآية الأولى منها قوله تعالى: (ولَمن صبر وغفر إن ذلك لَمن عزم الأمور) . وقال قبله في سورة لقمان (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) . للسائل أن يسأل عما اقتضى توكيد الخبر باللام في سورة حم عسق في قوله: (لَمن عزم الأمور) وتركه في سورة لقمان؟ والجواب أن يقال: إنّ ما رغب الله تعالى فيه عبده من الصبر على ما آلم قلبه من جناية جان عليه حتى يغفر لمن ظلمه ويهب له من القصاص حقه ترغيب فيما يشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1158 على الإنسان فعله، إلا أن الله حسّنه. بما وعد مَن عفا عما يجب له من الأجر الذي ضمنه، ففيه مع جزيل الثواب إصلاحُ ما بين عشيرته وعشيرة الجانى عليه بإطفاء الثائرة عنهما، وإذا كان ذا من أصعب ما يتحمله الإنسان وجب من توكيد الكلام فيه ما لا يجب في غيره فأدخلت اللام على: (لَمن عزم الأمور) ، على معنى أنه من الأمور التي يُحتاج إلى توطين النفس عليها، وتخير أرفعها وأعلاها. وليس كذلك ما في سورة لقمان؟ لأنه قال: (واصبر على ما أصابك) وليس يختص صبرا على ظلم يلحقه فيرغب في العفو عن الظالم بل تكون شدائد لا يهيّج النفوس الانتصار فيها ولا تدعو دواع إلى الانتقام لها من الرزَايا في الأنفس والأموال، وما يكون من قبل الله تعالى مما تعبّدنا فيه بالصبر وليس لنا غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1159 فأما الموضع الذي أبيح فيه الانتصاف فالصبر فيه أشق، وكظم الغيظ معه أشد، والكلام فيه إلى التوكيد أحوج. ألا ترى أن صبر مَن قُتل بعضُ أعزته رغبة فيما وعده الله تعالى من مثوبة ليس كصبر مَن مات له بعض أحبته، فافتقر المكان الأول من تقوية الكلام فيما ينبه على الأفضل ما لم يحتج إليه المكان الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1160 الآية الثانية منها. قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) . وقال في سوة الروم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) . للسائل أن يسأل عن اختلاف ما انقطع إليه قوله: (لا مردّ له من الله) فجاء في هده السورة: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) وفي الروم: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) . والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم) معناه: استقم أنت ومن معك من المؤمنين على الدين المستقيم من قبل أن مجيء يوم لا ينفع فيه الإيمان فكأنه خاطب الناس بالاجتماع على الإيمان والتآلف على الإسلام قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1161 يوم القيامة الذي تتفرق فيه الجموع، ففريق في الجنة وفريق في السعير (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم) فلما كان قوله: (فأقم وجهك للدين القيم) أمراً للناس كلهم بالاجتماع على الحق ورفض الباطل حذّرهم التفرق في الآخرة، ومصير المطيع إلى دار الثواب والعاصي إلى دار العقاب فكان هذا ملائما لما قبله. والآية التي في سورة حم عسق جاءت بعد قوله: (أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) . فلما قال: إن الظالمين لا وليّ لهم ينصرهم من دون الله قال عند ذكر اليوم الذي لا مرد له من الله: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي لا معقل لكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1162 تعتصمون به من عذاب الله، ولا يمكّنكم إنكار ما يحل بكم بدفعه عن أنفسكم بنصرة ناصر لكم فاقتضى ما تقدم من ذكر أنه لا ناصر لهم يدفع عذاب الله تعالى عنهم سدّ طرق النجاة دونهم بأنه لا ملجأ لهم ولا ذابّ عنهم ومن دهمه الخطب العظيم الذي لا يطيق احتماله فلم يجد مهربا ولا ناصرا لم يبق له إلا الاستسلام) . والله أعلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1163 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) . وقال بعده (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) . للسائل أن يسأل عن مجيء (عليم قدير) بعد ذكر الذُكران والإناث من الأولاد والنعمة بهما على العباد، ومجيء (علىّ حكيم) بعد ذكر الجهة التي منها يَرِد أمر الله تعالى لعباده بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته، واختلاف أحوال الرسل في خطابه لهم وأمره إياهم، وهل للصفتين الأولتين اختصاص بالآية التي ختمت بهما، وللصفتين الأخرتين اختصاص بما جاءتا بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1164 والجواب أن يقال: لمّا نبّه الله تعالى العباد على ما يشاهدون خلْقه لهم من أولادهم ذكورهم وإناثهم، وأنه يخصّ مَن يشاء بالإناث، ويختص من يشاء بالذكور، أو يؤلفهم ببناتٍ وبنين فيجمعهما للواحد، ومن أراد أن يعْقِمَه من الوالدين حتى لا يكون له نسل حَرَمَه الولدَ، والناسُ في الأولاد لا ينفكون عن الأحوال الثلاث، قال عقيبه: (إنه عليم قدير) أي يعلم الغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1165 ويطلع على العواقب، فيفعل ما يصلح دون ما لا يصلح، وهو قادر لا قدرة كقدرته، فاختلاف الأحوال التي ذكرها هو لعلمه بما يصلح منها، وقدرته على إيجادها فاقتضى الفعل المتقدم هذين الوصفين. وأما قوله: (إنه علي حكيم) فالعلي: القادر على الشيء القاهر له، وكذلك قال الشاعر: اعمد لمِا تعلو فَماَ لك بالذي لا تَستَطِع من الأمور يَدانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1166 فجعل بإزاء تعلو: لا تستطع، فالقادر على الشىء أتم قدرة يكون عالما به قاهراً له، فذكر هذا الوصف يعد الأشرف من الأفعال من بعثة الرسل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1167 اختلاف السبل وأنه قاهر لمِا أراد فعله من ذلك، إنما أراد فعلا على وجه الصواب، لا مزيد عليه وهو الوجه الذي تقتضيه الحكمة. وجواب ثان في قوله: (عليّ حكيم) أنه يتعالى عن أن يكون كلامه لمن يكلم ككلام غيره ممن يشاهد المكلّم له مشاهدة رؤية، فهو عليّ عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1168 ذلك وحكيم في إبلاغهم كلامه من الوجه الذي ذكره والقِسم الذي قسمه، فقد تبتتَ أن كل آية اتبعت ما اقتضته. وقد ذهب بعض أهل النظر إلى أن معنى قوله: (أو يزوجهم ذُكراناً وإناثا) : أن يزوج ذكران عبيده بإناثهم، وهذا لا يكون ب (أو) لأنه لا يهب الإناث ولا الذكور إلا أن يزوج ذكرانهم بإناثهم، فليس هو قسما ثالثا تدخله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1169 (أو) حتى يقال فيه: هذا أو هذا، وإنما وجه الكلام ما ذكرنا، والقسمة التي لا مزيد عليها ما قسمنا، فاعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1170 سورة الزخرف الآية الأولى منها قوله تعالى: ( ... وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . وقال (في سورة الشعراء: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) . للسائل أن يسأل عما أوجب التوكيد في قوله هنا (لمنقلبون) . ولم يوجبه في سورة الشعراء حتى لم تدخل اللام على خبر (إنا) دخولها في الأول والجواب أن يقال: إن " معنى قوله: (وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا) إلى آخر الآية: لتذكروا إنعام الله عليكم وتشكروه، وتخالفوا الكفار بأن تقروا بما أنكروه فتؤمنوا بالبعث والحياة بعد الموت وهذا خطاب لكل مَن كان في ذلك العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1171 ومن أن يكون بعدهم إلى انقضاء الدهر، فالتوكيد لمثله لازم، وفي الكلام الذي للتأييد واجب. والذي في سورة الشعراء إنما هو خبر عن السحرة لما آمنوا ووصفوا حالهم واستهانتهم بما خوّفوا أن ينالهم من عقوبة فرعون، إذ كان منقلبهم إلى ربهم وكانوا مجازين على إيمانهم وصدقهم وصبرهم، فلم يحتج من التوكيد إلى ما احتاج إليه ما هو على التأييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1172 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) . وقال في سورة الجاثية: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) . للسائل أن يسأل عما بعد قوله: ما لهم بذلك من علم) في سورة الزخرف: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) وما بعده من سورة الجاثية: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) ، وهل لاختصاص كل باللفظة التي تقارنه فائدة تقتضيها؟ والجواب أن يقال: إن قبل الآية من سورة الزخرف: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) . فأخبر عنهم أنهم قالوا: الملائكة بنات الله وأن الله أراد أن يعبدوهم، (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1173 وليس ذلك من علم، بل هم كاذبون فيما يدعونه، ويخبرون به، فأبطل خبرهم بالتكذيب لهم وهو الذي يليق بالموضع. والذي في سورة الجاثية خبر عن الكفار الذين دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاسلام بأنهم قالوا: لا بعث لنا وإنما هو أن تموت الأسلاف وتحيى الأخلاف، فكلما هدم الدهر قوما فأفناهم أنشأ فيه آخرين وأحياهم، وهؤلاء لم يقولوا ما قالوا بمعرفة بل قالوه على سبيل الظن فكان، (إن هم إلا يظنون) لائقأ بهذا المكان كما لاق بالأول: ْ (إن هم إلاّ يخرصون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1174 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) ... ) ثم قال بعده (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) للسائل أن يسأل عن قوله (مُهْتَدُونَ) في فاصلة الآية الأولى و (مُقْتَدُونَ) في فاصلة الآية الثانية، وهل كانت تصلح هذه مكان تلك أم هناك معنى يخصصها بمكانها؟ الجواب أن يقال: إن الأولى حكاية قول الكفار الذين حادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال مخبرا عنهم (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن فهم به مستمسكون) أي كتابا فيه حجة بصحة دعواهم فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1175 متعلقون به فأعرض عن ذلك، وقال تعالى لا ححة لهم لكنهم قالوا: (وجدنا آباءنا على أمة) أي: على ملة وطريقة في الدين مقصودة ونحن في اتباع آثارهم على هداية فادّعوا الاهتداء بسلوكهم سبيل آبائهم. وأما الآية الثانية فإنها خبر عن الأمم الكافرة بأنبيائها، قال: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) ، أي: ذووا النعم والأموال من أهلها قريبا من قول هؤلاء الذين في عصرك يا محمد، فكان أقصى ما احتجوا به أن قالوا: وجدنا أباءنا على أمة، أي ملة فاقتدينا بهم، ولم يؤكد الخبر عنهم بدعواهم الاهتداء كما أكده عمن كان في عصره ممن يدعيه لبطلان قول الجميع وزوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1176 الماضين عن احتجاجهم وثبات هؤلاء في حِجاجهم، وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) ، خطاب لمن قال: ... (وإنا على آثارهم مهتدون) دون الذين قالوا (مقتدون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1177 سورة الدخان ليس فيها شىء من ذلك. سورة الجاثية الآية الأولى منها قوله تعالى (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) للسائل أن يسأل عما ختمت به الآية الأولى وهو (لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وما ختمت به الثانية وهو (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) ختمت به الثالثة وهو) : (آيات لقوم يعقلون) ، وعن الفائدة في اختصاص هذه بهذه دون تلك. والجواب أن يقال: لما قال الله تعالى قبلُ خَلق السموات والأرض بالحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1178 إن في ذلك لآية للمؤمنين، وقال في سورة ص: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. فأخبر أن في خلقهما بالحق آية للمؤمنين، وإن خلقهما باطلا لا ليعبَد فيهما ويطاع ظن الكافرين، كانت الآية الأولى من سورة الجاثية محمولة على ما تقدم من إثبات الآيات فيهما للمؤمنين، ومن تلك الآيات أنه لا شىء أعظم في الموجودات منها، ثم اتّساق النجوم فيها وتسخيرها على انتظام مما يدل على مدبِّرها، ثم وقوفها مع عظمها وثقل جرمها بغير دعامة من تحتها ولا علاقة من فوقها يدل على قدرة قادر لا يشبهه قادر، فمن وفّى النظر حقه في ذلك وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1179 سائر ما فيها من الآيات الأخر أداّه إلى الايمان بالله تعالى، فلذلك قال: (لآيات للمؤمنين) فخصهم لانتفاعهم بها، وإن كانت الآيات منصوبة لهم ولغيرهم، إلا أنهم لما لم ينتفعوا بها صارت كأنها لم تكن لهم آيات. وأما قوله: (رفي خلقكم وما يبث من دابّة آيات لقوم يوقنون) فإن العجائب في خلق الحيوان، وما له من الأعضاء والحواس التي بها يدرك المحسوسات، ثم ما في باطنه من جواذب المواد التي بها قوام الحياة، ثم الروح التي بها ثبات الأجساد أكثر من أن تحصى وتعد، فإن عرضت شبهة لملحد بأن كون الولد بوطْءِ الوالد أمَّه، ومن نطفته يأخذ شبهة، فإنه يطرح ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1180 ويرتاح بالآيات التي ليس إلى الوالد فِعلُها ولا جارحة من جوارحه يحيط علمه بنشأتها والحكمة في تركيبها، فكيف أن يكون فاعلها تبارك وتعالى مَن صنعها وزيّنها بالعقل الذي هو من أكبر نعمه، فهذا هو المتفكر في ذلك ينتقل من ظن إلى علم، وتيقن بعد شك، واليقين علم يحصل بعد تشكك، فلذلك لا يوصف الله تعالى بأنه موقن، ويوصف بأنه عالم، فلهذا قال: (آيات لقوم يوقنون) . وأما الآية الأخيرة وهي: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) ، فقد تقدم من قولنا في الفرق بين (يعقلون) و (يعلمون) ، ما يبيّن الجواب عن الفائدة في اختصاص هذه الآية بقوله: (يعقلون) كما قال تعالى في سوره البقرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1181 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) ، فخص هذا المكان أيضا بقوله: (يعقلون) لأن المعنى أنهم يفطون بمعلوم لمعلوم آخر، فيعقلون من إحيا الله تعالى الأرض بالمطر حتى تكتسِى بالنبات والشجر أنه يحى العظام وهي رميم وهذا موضع يقال فيه: عقل من كذا كذا، أي استدركه بالعلم بعد أن لم يكن مستدركا له، فكأنه في معنى يفطون ويدرون ويشعرون، كما أن أصل الوصف بالعقل موضوع لحالة ثانية ومعرفة طارئة، فلذلك خصت الآية الثالثة بهذه اللفظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1182 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1183 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) . وقال في سورة لقمان 71، ْ (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) . للسائل أن يسأل عن فائدة قوله: (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) ، واستغناء الكلام عنه في سورة الجاثية مع أن القصتين مشتبهتان؟ والجواب: أن هذا الكافر لما أخبر الله تعالى عنه في سورة لقمان أنه، يعرض عن القرآن إذا سمعه غير منتفع به حتى كأنه لم يسمعه، وتستمر به هذه الحال كما تستمر لمن به صَمَم، وقوله في الجاثية: (ثم يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها) يدل على ما دل عليه: (كأن في أذنيه وقراً) لأن الإصرار عزم لا يتهم معه بإقلاع، فإذا أصر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1184 التصام فهو كمن في أذنيه وقر، فصار أحد اللفظين يغني عن الآخر، ويقوم مقامه، ويؤدي من المعنى أداءه، فلذلك لم يجمع بينهما، وكان الموضع الذي ذكر فيه: (ولى مسئكبراً) أحق بقوله: (كأن في أذنيه وقرا) والموضع الذي ذكر فيه الإصرار على ترك الاستماع أغنى عن ذكر (كأن في أذنيه وقرا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1185 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) . وقال في سورة يونس،: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) . للسائل أن يسأل عن اختلاف ما اختلف من الآيتين زيادة ألفاظ ما في سورة الجاثية على ما في سورة يونس وإبدال ألفاظ مكان ألفاظ؟ والجواب أن يقال: إن سورة الجاثية لم يذكر فيها عن قصة بني إسرائيل غير هاتين الآيتين، والتي في سورة يونس إنما هي بعد سبع عشرة آية قصرت على ذكر موسى عليه السلام وما دار بينه وبين فرعون من حيث قال: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ) :، إلى الآية التي ذكر فيها غرق فرعون المختومة بقوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ، وكانت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1186 السبع عشرة آية قد اختصرت فيها جميع ما بسط في الآيات الكثيرة من سورة طه وسورة الشعراء فكان الموضع موضع اختصار، فاختصر قوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) عما شرح في الآيتين اللتين في سورة الجاثية فأودعت آية واحدة من سورة يونس ما أودع آيتين من سورة الجاثية. فقوله: (ولقد بوّأنا بني إسرئيل مبوّأ صدق) أي: أنزلناهم منزل اختيار ورفعة وجلالة وتفضيل وكرامة، ولا منزل في الدنيا أعلى مما تجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1187 النبوة والكناب والحكومة بين الناس لفضل العلم، فقوله: (مبوأ صدق) مشتمل على كل ذلك. وقوله: (ورزقناهم من الطيبات) في الآيتين سواء. وقوله: (فما اختلفوا) من تمام الآية في سورة يونس، وهو في آية مفردة من سورة الجاثية، أولها: (وآتيناهم بينات من الأمر) يعني أمر الدين (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) تضمنت أربعة ألفاظ منها، وهى الأمر بعد ما تضمّنه لفظ واحد في الآية في سورة يونس، وهي (حتى) وذلك أن "حتى" للنهاية أي لم يختلفوا وكانوا متفقين إلى أن جاءهم العلم، وهو كتاب الله تعالى؟ فحتى لمنتهى الاتفاق، وقد دخلت على " جاءهم العلم "، فمجيء العلم منتهى ما تقدم ومبتدأ الاختلاف الذي لم يكن إلا بعد وجوده، فاحتملت الآيتان من سورة واحدة في قصة واحدة من بسط الألفاظ وشرح المعاني ما اختير اختصاره حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1188 شغلت بتلك القصة آيات كثيرة وهي مع كثرتها مبنية على الإيجاز، فكان من البسط قوله: (إلا من بعد ما) بدل قوله: (حتى) وقوله: (بغيا بينهم) بيان ما دعاهم إلى الاختلاف وهو البغى والحسد وعداوة بعضهم لبعض، وقوله: (إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة) في المكانين واحد. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1189 سورة الأحقاف ما في سورة الأحقاف قد تقدم ذكره في غيرها. سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - شىء من ذلك. سورة الفتح الآية الأولى منها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) . وقال بعده: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1190 للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وقوله في الثانية: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) ؟. ْوالجواب أن يقال: إن قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) :، قد فسر على وجهين: أحدهما: أنها نزلت عليه مرجعَه من عام الحديبية مبشرة بما يكون من الفتح في قابل، ومعناها: إنا قضينا بفتح مكة عن محاربةٍ منك لأهلها ومغالبتهم على دخولها (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1191 بما يملكك بعده جميع أرض العرب، وقد علم الله ما يكون قبل كونه، وقرن الحكمة بصنعه، وهو مبشر لكم بما لم يجعله في وقته لما اقتضت الحكمة من تأخيره، فهذا معنى قوله (وكان الله عليما حكيما) والوجه الآخر: أن تكون قد نزلت لما فتح الله له مكة وكان وعد الله قد سبق بها وبغيرها من البلدان، فلما فتحت مكة ازداد المؤمنون بصيرة إلى بصيرتهم لما صدق الله تعالى من وعدهم فوثقوا أتم ثقة باعتلاء أمرهم، وقوله: (وكان الله عليما حكيما) أي بما يكون مما أخبركم به وبسائر المعلومات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1192 حكيما في أفعاله المخصوصة بالأوقات، فيقدّم ويؤخّر على مقتضى الحكمة لا على مقتضى إرادة الخليقة. وأما قوله: (ولله جنود السموات والأرض) أي يملك مَن فيهما من الملائكة والإنس والجن، فإذا أراد تسليطهم على كفار عباده لينتقم منهم فعل، وقيل: (لله) أي: هم عبيد له وقيل: لطاعة الله جنود السموات والأرض، أي خلقوا لذلك، ومنها نصرة دينه. وأما قوله بعد: (وكان الله عزيزا حكيما) فإنما جاء بعد قوله (ويعذبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) ، فذكر قدرته على عقابهم وقهره لهم بعذابهم، فلما عذّبهم بأن أذلّهم وأباح للمؤمنين قتلهم وغنّمهم أموالهم، كان هذا المكان مقتضيا أن يتصف الله تعالى بالقهر والعزة والحكمة فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1193 يظهر من القدرة، فصار كل من خاتمي الآيتين في موضعه، وهذا كما قال في هذه السورة في أهل البيعة تحت الشجرة: ( ... وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) ، فاتصف بالعز والحكمة لما كان في موضع القهر والغلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1194 الآية الثانية منها قوله تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) . وقال في سورة المائدة: ... (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) .. . للسائل أن يسأل عن زيادة (لكم) في هذه السورة، وحذفها في سورة المائدة والجواب أن يقال: إن هذه الآية في قوم تخلّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من غير عذر، وتأخررا عن الجهاد معه والغزو، وقالوا: (.. شغلتنا أموالنا وأهلونا) . ثم سألوه - صلى الله عليه وسلم - (أن يستغفر لهم يكتمون بذلك نفاقهم، ويظهرون وِفاقهم، وأنهم محتاجون إلى استغفار لهم، وقصدهم استمالته، وأن لا تضرهم عداوته، ثم قال: (قل فمن يملك لكم من الله شيئا) أي: من يملك لكم نفعا إن أراد بكم ضرا؟ ومن يملك لكم ضرا إن أراد بكم نفعا؟ ومعناه إن أراد إنزل العذاب بكم لم يكن لكم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1195 يدفعه عنكم، كما أنه إن أراد الإنعام عليكم لم تضرّكم إساءة المسيء إليكم، فلما كان في قوم مخصوصين احتيج إلى قوله: (لكم) للتبيين. فأما الآية في سورة المائدة فإنها لم تخرج على أن تكون مخصوصة في فريق دون فريق بل عم بها، أي لا يملك أحد دون الله شيئا فيما يريده من خير وشر، ونفع وضر في عباده ويدل عليه قوله. (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً) فلما سيقت الآية إلى العموم لم يحتج إلى (لكم) ، التي للخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1196 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) وقال بعده: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) . للسائل أن يسأل عن الأولى لماذا ختمت بقوله: (خبيرا) وعن الثانية لماذا ختمت بقوله: (بصيرا) ؟ والجواب أن يقال: لأن الأولى في ذكر ما أسرّه المنافقون من نفاقهم، لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، وطلبوا الاستغفار لهم، ولا إرادة فيه منهم، فكأنه قال: بل الله يخبُر باطنكم. والآية الثانية بعد قوله: (كفّ أيدهم عنكم) أي: بما قذف في قلوبهم من الرعب (وأيديكم عنهم) بأن أمركم بأن لا تحاربوهم، فيفعل كل ما أراده الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1197 منهم والله أبصر فعلكم، وهذا ظاهر يوصف بأن الله تعالى يراه، والذي في الأولى باطن يوصف بأن الله تعالى يخبره، فلذلك خصت الأولى ب (خبير) والثانية ب (بصبير) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1198 سورة الحجرات ليس فيها شيء من ذلك. سورة ق الآية الأولى منها قوله تعالى: (.. فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) ، وقال بعده: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) . للسائل أن يسأل عن إدخال "الواو" في قوله: (وقال قرينه) وحذفها في الثاني حيث، قال: (قال قرينه) . والجواب أن يقال: إن القرين الأول فيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1199 أحدهما: أن يراد به الملك الشهيد عليه، وهو المشاهد لمِا يعمله الإنسان فيكتبه عليه، فيقول له يوم القيامة: (هذا ما لدىّ عتيد) أي: معدّ محفوظ عليك. والوجه الآخر: أن يقول قرينه من الشياطين كان في الدنيا: هذا ما عندي من العذاب الحاضر المعد لي ولك. وعلى الوجهين هو خطاب للإنسان من قرينه. وأما الآية الثانية فإنها منفصلة، لأن القول هناك ليس للإنسان ولا ما بعده خطاب له، فلما لم يكن القائل ولا المقول له انقطع واستؤنف، ألا ترى أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1200 للقرين، وأنه يخاطب الله تعالى بقوله: (ربنا ما أطغيته) فلما لم يكن القائل المخاطب، ولا المقول له المخاطب صار كأنه مستأنف فالآيات التي أجريت هذا المجرى بعده وهي: (قال لا تختصموا لدىّ) وقوله: (ما يبدّل القول لدي) ..، فلما لم يكن في واحدة منهما واو عاطفة، كانت الأخرى كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1201 الآية اك نية منها قوله تعالى: (.. وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ... وقال في سورة طه،: (.. وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) .. ... للسائل أن يسأل عن الموضعين وأن يقول: لِم كان في سورة طه: (وقبل غروبها) وفي هذه: (وقبل الغروب) ؟ والجواب قريب وهو أن فواصل أكثر الآيات في سورة طه أواخرها ألف، فعدل إلى (غروبها، وهو الأصل، لأن الطلوع مضاف إلى الشمس وحق الغروب أن يكون مضافا إلى ضميرها، وضميرها بعدها ألف. وأما سورة ق فإن فواصلها مردفة بواو أو ياء، كالسجود والجلود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1202 والقعيد والعتيد والمَرِيج والغروب متى ذكر علم أنه أريد به غروبها، فكان ذلك أشبه بالفواصل إلي تقدمتها في المكانين، فلذلك اختلفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1203 سورة الذاريات الآية الأولى قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) قوله: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) . وفال في الطور: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) . للسائل أن يسأل عن اختلاف ما اختلف من الأخبار عن أهل الجنة في هاتين السورتين؟ والجواب أن يقال: إنه تعالى أخبر عنهم في (الذايات) أنهم صاروا إلى الجنة بأعمال عدّدها ودعا العباد إليها ليفعلوا فِعلهم لها فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1204 والمراد بالجنات ما ذكره في سورة الرحمن حيث قال: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ، وبعده: (ومن دونهما جنتان) . ثم قال: (وعيون) لما كان المعنى بالجنات البساتين التي لها ظلال، والظلّ والماء مطلوبان للعرب، ولكن ما ذرأ الله من النسم، قرن إلى الجنات العيون، كما قال: (إن المتقين في ظلال وعيون) ، وجعل ذلك بإزاء ما يعذب به أهل النار، حيث يقول (يوم هم على النار يفتنون) ،. أي: يحرقون ليزول عنهم الخبثُ، وكلهم خبثٌ لا يخلص منهم ما يستغنى عن الإحراق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1205 ثم قال: (آخذين ما آتاهم ربهم) أي: متقبلين عطية ربهم، لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا في فعلهم، فاقتدوا بهم لتكونوا كمثلهم، وأقِلُّوا الهجوع بالليل لتنالوا مثل نيلهم، واستغفِروا لتفوزوا كما فازوا باستغفارهم، وأخرِجوا فضلات أموالكم لمن يسأل من الفقراء، ومن يحرم نفسه بترك السؤال كما أخرجوها فغنموا بها، واعتبِروا بالآيات التي نصبها الله تعالى في الأرض كالجبال الراسيات، والعيون الجاريات، وما يطلع منها من نام وغير نام من جواهر المعادن، فإنهم به اعتبَروا، وبه وصلوا، إلى ما وصلوا. وهذه الآية، تدل على أنّ وصف أهل الجنة في هذه السورة بالأعمال التي قدموها تتضمن أمر المكلفين بمثل ما جعل خبرا عنهم أنهم فعلوه لأن طريق قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1206 (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) ، غير طريق قوله: (وفي الأرض آيات للموقنين) ، إن لم يحمل على ما ذكرنا، فلما كان القصد في هذه السورة الحث على أفعال أهل الجنة بالآيات المتعلقة بوصفهم المخلصة لخطاب مَن يُدعَى إلى فعلهم، استمر الكلام على هذا النظم إلى أن انتهى إلى ذكر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام وأممهم الكافرة، وما أنزله من العذاب بأمة أمة منهم. وأما الآية التي في سورة الطور فإنه وصف تعالى نعيمهم في الجنة وأصناف ما حصلوا فيه من اللذة فقال: (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1207 إلى قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) ، لأنه إذا ذكرت الأفعال التي تستوحب بها الجنة، ذكر من الجزاء فيها ما تنتهي إليه اللذة، وتقترحه الشهوة، وهو ما فصله الله تعالى في سورة الطور، ثم ختم الآيات بقوله: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجبون) ، فاختلاف الآيات في السورتين لما ذكرنا. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1208 الآية الثانية منها قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) . للسائل أن يسأل عن تكرار قوله: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وعن موقع الإنذار مرة بعد أخرى في آيتين متواليتين. والجواب أن يقال: إن قوله تعالى قبل هاتين الآيتين: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) ، ومعناه: خلقنا من الحيوانات ذكراً وأنثى، ومن غيرها الشىء وما يزاوجه مما يماثله أو يضادّه فيقابله لتذكروا أن خالقكم بعيد عن شبهكم وأنه وحده لا نظير له يشاكله، ولا ضدّ له يناصبه ويقابله، لأن الخالق بخلاف خلقه، لا يجوز ما ذكرنا في نعته، ففرّوا عما حذّركم من معصيته إلى ما حثكم عليه من طاعته، فإني أنذركم ما توعّدكم به من عقوبته، وهذا تحذير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1209 المعاصي كلها، وبعث على الطاعات جميعها، ثم خص ما هو أعظم فقال: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) أي: لا تتخذوا الأصنام آلهة تعبدونها مع عبادة الله تعالى فإني أحذركم أن تجعلوا له مثلا، فالنذراة الأولى متعلقة بترك الطاعة إلى المعصية، والثانية متعلقة بالشرك الذي هو أعظم المعاصي، وإذا كانت متعلقة بغير ما تعلقت به الأول لم يكن ذلك تكرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1210 سورة الطور الآية الأولى منها قوله تعالى (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) . وقال في سورة ن والقلم: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) . للسائل أن يسأل عما انقطع إليه: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) في السورتين، فكانت في سورة الطور تنقطع إلى قوله: (أم يريدون كيدا) وفي سورة القلم تنقطع إلى قوله: (فاصبر لحكم ربك) . والجواب أن يقال: إن عبدة الأوثان من قريش مع إدعائهم أنهم أهل الحِجَى وأولو النّهى " ألزموا في سورة الطور إلزامات يستنكرونها ولا يقولون بها إذا صرفوا عقولهم عنه وهى خمسة عشر إلزاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1211 أولها: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) ، بعد قوله: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) ، والقوم عرفوا الشعر وطريقة، وهذا الكلام وأسلوبه، ولو تدبروه علموا أنه ليس بشعر، وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بشاعر. والثانى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) ، أي: أم تدعوهم عقولهم إلى عبادة مَن هو دونهم، لأنهم أحياء وتلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1212 أموات، وهم يعقلون وتلك لا تعقل، وهم يفعلون وتلك لا تفعل، فهذا على سبيل الإنكار وما بعده على سيبل الإيجاب، وهو: (أم هم قوم طاغون) أي: طالبون اعتلاء بالباطل والظلم، وهذا ثالث. والرابع: (أم يقولون تقوّله) ... ، أي: اختلق القرآن، فإن كان عندهم كما زعموا فليأتوا. بمثله، وهو الذي عجزوا عنه، فلزمتهم الحجة فيه، وهذا رابع. والخامس: (أم خُلِقوا من غير شيء) ، أي: أم خلقوا من غير خالق، ولا يقولون به: (أم هم الخالقون) ، فلا أمر عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1213 ولا نهي، وهذا سادس أيضاً، ولا يقولونه. (أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون) ، وهذا أيضا سابع لا يدعونه، وهو أن السموات والأرض ليس لهما خالق قديم لا يشبه المخلوقين، وهم خلقوها، بل لا يسلكون طريق الفكر في ذلك فيؤديهم إلى برد اليقين والثامن: (أم عندهم خزائن ربك) ، أي: أم يملكون ما يخلقه الله لعباده من الأرزاق، وما في علمه أن ينعم به عليهم فإذا علموا من أنفسم عجزهم عنه، وجب أن يعلموا أن الله تعالى هو المالك لجميع ذلك فيفردوه بالعبادة. والتاسع: (أم هم المصيطرون) أي المسلّطون، على الناس والمقوّمون لهم، وليس لهم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1214 والعاشر: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)) : أم لهم ما يتسبَبون به إلى السماء وسماع كلام الملائكة، وما يتذاكرونه، من أخبار ما يجريه الله تعالى في الأرض فيعلمون بذلك، أنهم على الحق، ومَن يدعوهم إلى الدين على الباطل، فإن كان كذلك فليأتِ مستمعهم بحجة قاهرة، وهي أخبار عن غيوب تصح، وليس لهم ذلك. والحادي عشر: يعجب الخلق ممّا ادّعوه من أن الملائكة بنات الله تعالى، فقال: يرزقكم البنين ويجعل لنفسه البنات، وصاحب البنين أعلى كلمة من صاحب البنات.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1215 والثاني عشر: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أى: أم ثقُل عليهم تصديقك لأنك ألزمتهم مالاً يَغْرَمونه لك أجراً، على ما هديتهم له، ولا عذر لهم في ذلك لأنك لم تفعله. والثالث عشر: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) ، أي: أم يدعون علم الغيب، ما يكون في مستقبل الدهر، فيصوّرا لهم أن أمرك لا يثبت وأنه يضمحلّ، عن قريب خلاف ما وعد الله تعالى في قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) . وقيل: أم يعلمون الغيب بوحي من السماء فيكتبونه ويلقونه إلى الناس كما يفعله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1216 والرابع عشر: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) ، أي: أم يريدون بالممانعة والمدافعة وترك الانقياد للمتابعة احتيالا عليك لإبادة أصحابك وقتلك وتدبير ذلك سراً منك، فالكفار هم الذين ينقلب عليهم ما يدبّرونه على المؤمنين فيكونون هم المقهورين المغلوبين الهالكين المقتولين. فانقطعت الآية الثالثة عشرة عن الاحتجاجات إلى المطالبات بالمماكَرات لاستيعاب أكثر ما في الباب وختمت هذه الخامسة عشرة، وهى: (أم لهم إله غير الله) ، أي: خالق يحق عليكم عبادته غير الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1217 الذي خلق السموات والأرض وذلك يجب أن يكون على صفة الله تعالى من القدرة والعلم والإنعام بما يحق به له العبادة سبحان الله وتعالى عن ذلك. وأما الآية التي في سورة القلم فإنها الخامسة من إلزامات الكفار الذين دلّت أفعالهم على أن المسلمين عندهم كالمجرمين فأنكره الله تعالى ذلك ففال: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) ، ثم أحتج لبطلان دعواهم: (أم لكم كتاب فيه تدرسون) أي: أم أنزل عليكم كتابا تعتمدونه وتتركون له ما دونه، ولا تلتفتون معه إلى ما يخالفه، وقد قامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1218 الحجة به عليكم فتمسّكتم له بدعواكم، وأن لكم في الدنيا والآخرة اختياركم، وقد علمتم أن هذا ليس لكم. والثانى: (أم لكم أيمان علينا بالغة) ، أي: أم لكم أن تحجّوننا بأيمان الله حلفناها لكم بأن لا نخالفكم فيما تحكمون به من اتخاذ الآلهة، وإقامة العبادة لغير الله، فتلزموننا تصديق أيماننا لكم، وهل أقمنا كفيلا تدلون عليه بضمان ذلك لكم. والثالث: أم تنسبون صحة ما تلزمونه إلى الآلهة التي جعلتموها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1219 شركاء لله وهم بتبرؤون منكم إذا جمعكم وإياهم يوم القيامة يوم يكشف عن ساق ويشتد الأمر ويستدعى منكم السجود الذي ترتفع به استاهكم على رؤوسكم وهو ما أنفتم منه في دنياكم فتبكون وتقرعون بذلك، فلا تقدرون فتخسرون به وتعرفون أنكم تركتموه حيث كان ينفعكم حتى فاتكم. ثم الرابع والخامس مانع دنيا لغرامة تثقل عليكم بأجر النبي المبعوث إليكم أم نزول كتاب عليكم بأن الحق فيما لديكم وكل ذلك لا حجة فيه لكم. فلما بان من هذه الأوجه أن المحقّ ليس كالمبطل وأن المسلم ليس كالمجرم، دعا الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى لزوم الصبر وتوفع نزول النصر وترك العجلة في الأمر ومباينة صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1220 الحوت في التضجر بالكفر، فانقطعت الآي هنا إلى ذكره ووصف جمل أمره بعد شرح كثير من حاله في السورة المتضمنة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1221 سورة النجم الآية الأولى منها قوله تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وقال بعده: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) . للسائل أن يسأل عما انقطعت إليه: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) في الآيتين، واختلافه، والفائدة في تقديم ما تقدم وتأخير ما تأخر، وهل كان يجوز عكس ذلك؟. والجواب أن يقال: لماّ قال قبل الأولى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1222 ثم قال: (إن هى إلا أسماء سميتموها) أي: سميتم هذه الأصنام ألهة، والملائكة بنات الله تسمية باطلة لا حجة لكم فيها، فلم يحصل لكم إلا ألفاظها، فأما المعانى فإنكم تتبعون فيها الظن وهوى النفس وما في الطبع من حبّ الإلف، وقد أتاكم من ربكم ما يَثْنيكم عنه إلى الرشاد، ومن جاءه من الله الهدى فتركه لاتباع الهوى فقد ضل وهوى فلما كان الذي يجذبهم إلى مقالتهم شيئان: ظن وهوى ذُكرا معا ليبين صارفهم عن الحق.. ثم فال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1223 فخص الذين يقولون: الملائكة بنات الله بالذكر توكيدا لإلزامه الحجة عليهم، وأنهم يتّبعون الظن ب مقالتهم، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يغني غناه. والمراد بالحق ها هنا هو العلم، فوصف أن الذي تعتمدونه لا يجوز أن يعتمَد، لأنه ظن وبإزائه علم يبطله وهديً من الله تعالى يدفعه ويصرف عنه إلى الحق الذي لا مهرب منه، ومن لم يقبله بعد وضوح الحجة له فأعرض عنه، وهو قوله: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا..) . ففى الآية الأولى ذكر صارفهم عن الحق، وداعيهمْ إلى الباطل فبين ما هو؟ وفي الثانية: طعن على هذا الصارف والداعي إلى الباطل. وإثبات الشىء أوّل في العقل، ووصفه بأنه صحيح أو سقيم ثان في الرتبة، فلذلك اختصت الأولى بما اختصت، والثانية. بما تبعها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1224 سورة القمر الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) . للسائل أن يسأل عن قوله: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) في ابتداء قصة عاد وتكريره في آخرها؟. وقد سئل عن ذلك بعض أهل النظر فأجاب بأن الأول ليس هو تخويفا لعاد، وأن الثاني لها، فلا يكون تكريرا إذ جعل كل واحد من الخبرين خبرا عن غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1225 ما أخبر به عن الآخر. وهذا الذي ذهب إليه لا وجه له، لأنه قال: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا. فلا يصح أن تدخل الفاء في قوله: (فكيف كان) عقيب إخباره عن عاد بأنها كذّبت، ثم يصرف عن أن تتعلق به تعلق الجزاء بالشرط. هذا ولم يتقدم في السورة سوى قصة نوح عليه السلام وقومه، وقد عقبت بقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) . وهذا الذي ذهب إليه مَن ذكرنا قوله لا يصح أن يراد: كذبت عاد فلم تعتبِر كيف كان عذابي ونذُر، لمن كذب قبلهم من قوم نوح ويكون ذهابا عن الظاهر إلى إضمار لا دلالة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1226 والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: إن عاد اختص ما نزل فيها من كتاب الله تعالى بذكر عذابين لها، كما قال تعالى: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) . فـ (كيف) الأول لعذاب الدنيا والثانى لعذاب الآخرة، ويكون قوله في الثانى: "فكيف كان) ، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجري مجرى: (رنادى أصحاب الأعراف) .، في أنّ ما حقّ من وعيد الله هو الكائن الواقع لصحته فيخبر عن مستقبله الإخبار عن ماضيه، لاستوائهما في زوال المِرية عن وجودهما. والثاني: أن يكوف المعنى فكيف كان ما قدّمت إليها من الوعيد الذي صحّ شطره، وهو وعيد الدنيا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1227 ودلّ على وقوع ما في الأخرى كما صح في الأولى. والجواب الثاني: أن يكون المعنى في الأول: فكيف كان وعيد عذابى ونذري لما حذّرناهم قبل أن أوقعنا بهم، ويكون الثاني بعد إرسال الريح عليهم وإيقاع العذاب بهم والمعنى: فكيف كان عذابي محقّقا، ونذُري مصدّقا فيسلم من التكرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1228 سورة الرحمن الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) . للسائل أن يسأل عن إعادة ذكر الميزان ثلاث مرات في أواخر هذه الآي، وقد كان حقّها الإضمار، وهل في اختيار الكلام أن يتكرر في موضع السّجع في النثر والقافية في النظم مثله، أو في ثلاثة أسجاع متوالية أو في ثلاث قوافٍ متواطئة حتى يرتضى في ثلاث فواصل مترادفة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1229 والذي أجاب به عن ذلك أهل النظر: أنه أعيد ذكر (الميزان ثلاث مرات) لأن هذه الآيات لم تنزل معاً في وقت واحد، ولو نزلت معاً لأضمر ذكر (الميزان) ولكن لمّا نزلت متفرقة. لم يجز إلاّ إظهار ذكر (الميزان لأنه لم يجرِ له ذكر في كل وقت أنزلت فيه إحدى هذه الآيات. وهذا إن تأتّى في (الميزان،) الثالث فإنه لا يتأتى فيما قبله لأن الثانى تفسير للأول إنْ كانت أنْ بمعنى (أي) ، أو علة إذا كانت "أن" مقدرة معها. اللام، أي: لئلاّ تطغوا، فكلّ ذلك لا يجوز مع انقطاع الثاني عن الأول، والأول عن الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1230 وقد أجيب عن ذلك بجواب آخر، وهو أن يكون أعيد ذكر (الميزان) لتكون كل آية مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى غيرها، إذ الإضمار يضمّن الثاني الأولَ فلا يقوم الثاني بنفسه، ولا الثالث لو أضمر فيها ذكر ما في الأول. والجواب الذي يعتمد عليه هو أن يجعل لكل واحد معنى غير الآخر، يريد: والسماء رفعها ووضع الميزان أي: وضع البِنية المعدّلة، وهي بنية الإنسان التي خلق من أمشاج ومن تأليفات مختلفات على اعتدال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1231 حرارة وبرودة ورُطوبة ويبوسة. ومعنى رفع السماء ووضع بنية الاعتدال ما ذكره في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ... ) ، أي: رفعنا السماء عن الأرض، وخلقنا الهواء بينهما. ولم يكن للحىّ الذي أراد خلقه بدٌّ من هواء تخترقه الروح، وينساب فيه الريح فخلق عز وجل آدم أبا البشر عليه السلام من طين، وفيه مسارب للهواء، فجعل فيه الطين الأرضي والماء الذي قال الله تعالى فيه (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) والهواء الذي يجذب الأنفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1232 إليه من خارج ما بَرَدَ، ويخرج منه عن باطن ما حَمِىَ، والنار التي إذا فقدها الحيّ خمدَ وبَطَلَ. فلما دبر الله تعالى خلقه على الاعتدال من هذه الأصول كان هذا الذي جمع فيه ما ذكرنا مركّبا عن الأشياء التي وصفنا لكل معتدل عنده قبول: وله عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1233 كل خارج عن حدّ الاعتدال نِفار ونُبُوّ حتى إذا رأى مربّعا مستوي التربيع، وآخر مختلفا خارجا عن الاعتدال في الأبنية وغيرها يقبل الأول وينأى عن الثانى، وكما في الطبع قبول البيت من الشعر إذا اعتدلت أجزاؤه، واتزنت أفعاله إلى وضع عليها، وردُّه للمنكسر الذي فقد التعديل في البناء، وهذا مما يضطر الإنسان إلى علمه كما يضطر في الأول إلى كراهة الْمُعْرَجَّات وقبول المستويات، فقال تعالى: رفع السماء وركب بنية الإنسان المعدلة، وكان معنى ذلك: أن لا تجاوزوا في حكم المعاملة حد المعادلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1234 والميزان الثانى: الأحكام التى حُكم فيها على اعتدال، وقدّر في الطباع كراهية ما خرج منها على اعتداء كقتل نفسين بنفس والجانيةُ إحداهما وقطع أذنين بأذن وأنفين بأنفٍ، وفَقْإ عينين بعين، وأخذ أموال. بمال، ودواب بدابّةوغير ذلك من مجاوزة الحد في القصاص، والأرش ما يثبت به حكم الطبع قبل حبهم السمع، وكان المعنى: عدّل خلقة الإنسان ليتوخى المعدلة في الأحكام. فالميزان الأول بنية الاعتدال وهي بنية الإنسان على الوصف، الذي ذكرنا، والميزان الثاني: الحكم "بالعدل، والثالث: آلة التعديل، وهي التي يقع بها الأخذ والإعطاء فيتبين لها مقادير الحقوق ليقتصر كل ذي حق على قد ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1235 يجب له منها، فلا يأخذ أكثر ما له، ولا يعطي أقل مما يجب عليه، وهو القسط الذي أمر الله تعالى به المتبايعين، لا رجحان ولا نقصان. وإذا كان كذلك لم يكن في إعادة لفظ (الميزان) تكرار، إذا كان الأول بمعنى غير معنى الثانىِ، والثاني بمعنًى غير معنى الثالث، كما تخرج القوافي عن الإيطاء إذا اتفقت ألفاظا واختلفت معانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1236 الآية الثانية منها قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) وتكريره إحدى وثلائين مرة. للسائل أن يسأل عن العدة التي جاءت عليها هذه الآية متكررة، وعن فائدتها. والجواب أن يقال: نبه الله تعالى على ما خلق من نعم الدنيا المختلفة في سبع منها، وأفرد سبعا للترهيب والإنذار والتخويف بالنار، وفصل بين السبع الأول والسبع الأخر بواحدة تلت آية سوّى فيها بين الناس كلهم فيما كتب الله من الفناء عليهم حيث يقول: (كل من عليها فان) أيْ مَن على الأرض: وهذه الفاصلة للتسوية بين الملائكة وبين الإنس والجن في الافتقار إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1237 تعالى، وإلى المسألة وإلى الإشفاق من خشية الله وهو قوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) . وإنما كانت الأولى سبعا لأن أمهات النعم خلقها الله تعالى سبعاً سبعاً كالسموات والأرضين، ومعظم الكواكب. وكانت الثانية سبعا لأنها على قسمهَ أبواب جهنم لما كانت في ذكرها. وبعد هذه السبع ثمانية في وصف الجنات وأهلها على قسمة أبوابها. وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين، لأنه قال تعالى في مفتتحه الثمانية المتقدمة: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1238 فلما استكملت هذه الآية ثماني مرات قال: (ومن دونهما جنتان) . فمضت ثمانية في وصف الجنان وأهلها تالية للثمانية المتقدمة فكان الجميع إحدى وتلاثين مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1239 فإن قال قائل: فقد سوى بين الجنة والنار في الاعتداد بالإنعام على الثقلين بوصفهما، وإنما النعمة إحداهما دون الأخرى فالجواب أن يقال: إن الله تعالى منعم على عباده نعمتين نعمة الدنيا ونعمة الدين، وأعظمها في الأخرى، واجتهاد الإثسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه، فالترهيب زجر عن المعاصي وبعث على الطاعات، وهو سبب النفع الدائم، فأية نعمة أكبر إذاً من التخويف بالضرر المؤدي إلى أشرف النعم، فلما جاز عند ذكر ما أنعم به علينا في الدنيا، وعند ذكر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1240 أعدّه للمطيعين في الأخرى أن يقول: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) جاز أن يقول عند ذكر ما تخوفنا به مما يصرفنا عن معصيته إلى طاعته التي تكسبنا نعيم جنته، لأن هذا أسوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعد فيها من النعمة. فإن قال: إن السبع الأول قد عرفت من ست منها نعمة الله علينا في البر والبحر، والسابعة هي: (كل من عليها فان) ، فأية نعمة في ذلك حتى تعد من نعم الدنيا؟ فالجواب أن يقال: إن فيه التسوية بين الصغير والكبير، والأمير والمأمور، والمالك والمملوك والظالم والمظلوم في الفناء المؤدي إلى دار البقاء، ومجازاة المحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1241 والمسيء بحقه من الجزاء، فالمظلوم يأخذ حقه، والظالم يفزَع فيترك الظلم له وسبب الفناء يعلمه الإنسان باضطرار فلا نعمه إذاً أكبر من هذه. فإن قال: ذكر بعد قوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قولُه: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلى أن انتهى إلى قوله: (ومن دونهما جنتان) وجاء بعده ثماني مرّات قولُه: (فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان) كما جاء بعد الجنتين الأوليين، وفي أثناء الثمانية الأخر من معاني الجنتين ما في أثناء الثمانية الأول، فما الجنتان الأوليان، وما الجنتان الأخريان حتى يبعث على طلب هاتين كما بعث على طلب تينك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1242 فيجاب عن ذلك بأجوبة: أولها: أن يقال: إن التثنية ها هنا في الجنتين لاتصال الجنان أي: كلما كان الولي في جنة وُصلت بأخرى فلا تنقطع غرائب الجنان عنه أبداً، كما كان في (حَنَانَيْكَ) دعاء وطلبا لرحمته متصلة بنعمِه فلا تنقطع أبدا إذا كان كذلك، وكقولهم: لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وسائر ما جاء مثنى يراد به هذا المعنى. فإن قال قائل: فما معنى الجنتين الأخرين وفي الأوليين كفاية إذا قصد المعنى الذي ذكرت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1243 قلت: المراد بالجنتين الأوليين جنتان خارج قصره، والمعنى: كلما كان في جنة وُصلت بثانية غريبة مستطرفة، ثم إذا كان في الثانية كانت حالها في اتصال الأخرى بها كحال الأولى، وعلى ذلك يكون أبدا، فكأنه قال: ولمن خاف مقام ربّه جنتان خارج قصره متتابعتان لا تنقطعان. وأما: (ومن دونهما جنتان) فإن المراد بهما على هذا الوجه أي: أقرب من هاتين الجنتين جنتان داخل قصره، وهما في أن الجنة منهما متصلة بأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1244 بعدها، فلا يزال المكرَّم فيها ينتقل من واحدة إلا أخرى تليها. وجواب ثان، وهو أن تكون الجنان الأربع في الجهات الأربع بين يديه، وخلفه، وعن يمينه، وشماله، وأقربها ما كان نصْب عينيه، ومرمى طرفه، فلا يحتاج إلى أن يلتفت له إلى خلفه. وجواب ثالث: وهو ما ذهب إليه الحسن من أن الجنتين الأوليين للسابقين وهم الذين سبقوا إلى اتباع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ووضعوا لطاعة الله حرمة الآباء والأبناء وجاهدوا معهم في توطئة الإسلام، وبذلوا أرواحهم في قتال الكفار، وأولئك أعظم درجة وأعلى رتبة، ومن دون جنتيْهم جنتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1245 للتابعين ثم على ذلك، كما قال الله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1246 سورة الواقعة الآية الأولى منها قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) وبعده: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) . وبعده: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) . وبعده: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) . للسائل أن يسأل عن ترتيب هذه الأشياء التي تختص بقدرة الله تعالى، وتقديم بعضها على بعض، وهل كان يجوز تقديم ذكر النار على ذكر الماء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1247 والجواب أن يقال الأول هو خلقُ الإنسان من نطفة؟ والنعمةُ في ذلك قبل النعمة في الثلائة الأخر التي بعده فوجب تقديمه، ثم بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث، وهى الطعام الذي لا يستغني عنه جسد الحىّ، وهو ذلك الحبّ الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلا حصول ما يعجن به، وهو الماء، ثم إلى النار التي تعدّه خبزا فالترتيب على حسب الحاجة، والنعمة الثانية بعد الأولى. فإن قال: فقد قال في الأولى: (لولا تذكّرون) ، وقال في الماء: (.. فلولا تشكرون) ، فهل كان يجوز أن يكون أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1248 مكان الآخر؟ قلت: الأولى تنبيه على البعث والإعادة وهي النشأة الثانية كالنشأة الأولى، وحمل عى أن يتذكر الأول الذي هو الأصل ليثبت به الثاني الذي هو فرع، على أن القادر كما كان لم يتغير. وأما قوله: (فلولا تشكرون) فإنه بعد قوله: (لو نشاء جعلناه أجاجاً) أي: شديد الملوحة كماء البحر كما قال: ( ... وهذا ملح أجاج) . أي: فهلاّ تشكرون أن جعله عذبا، فكل مكان لائق به ما ذكر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1249 سورة الحديد الآية الأولى منها قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ،. وقال في سورة الحشر: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) . وقال في سورة الصف: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) . وقال في سورة الجمعة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) . وقال في سورة التغابن: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) للسائل أن يسأل عمّا أوجب اختصاص فاتحة سورة الحديد بقوله (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقد أعيد فِى فواتح السور الأخر؟ والجواب أن يقال: إنه لما كان هذا الكلام مسوقا إلى كلمات ثلاث عقدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1250 في كل واحدة منها السموات والأرص في عقدة واحدة، جمع المخلوق فيها تحت لفظة واحدة، فكان معنى قوله: (سبح لله ما في السموات والأرض) : سبح لله الخلق في المكانين، فلفظة "ما" في هذا المكان عامة شاملة للخلق فيهما، فإذا أعيدت "ما" في قوله: (ما في الأرض) كانت الأولى خاصة للخلق في السموات دون الأرض، والكلمات الثلاث التي عقدت السموات والأرض في كل واحدة منها في عقدة واحدة، قوله: (له ملك السموات والأرض) ، وقوله بعده: (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) .، وقوله بعده: (له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1251 فلما كان افتتاح السورة، ينتهي إلى هذه الآيات بعدها، وهي تنظم المكانين نظما واحدا اختير أن يجعل الخلق فيهما خلقا واحدا، فلا يفصل بينهما بخلقهما، والقصد جمعهما في نظام واحد ولم يكن هذا المعنى موجودا في سائر السور، فكان الفصل فيه أولى، وهو إعادة "ما" والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر سورة الحشر (يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) لأن قبله (هو الله الخالق البارىء المصور) ، فنظم تحت هذه الصفات مخلوقات السماء والأرض، وكذلك قبله: (الملك القدوس) ، وكذلك نظم المخلوق في المكانين فيما يكون من تسبيحهم وتقديسهم على الأول الذي هو الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1252 الآية الثانية منها قوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) . وقال بعدها بآيتين: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) . للسائل أن يسأل عن إعادة هذه اللفظة في المكان القريب من الأولى وصلتها في الأولى بقوله: (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ثم صلتها في الأخرى بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ؟ والجواب أن يقال: إن المعنى: له الملك أولا وآخرا، فالأول في الدنيا، وهو وقت الإحياء والإماتة والآخر في الآخرة حين ترجع الأمور إليه، ولا يملك أحد سواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1253 لا ملكا وملكا، فقرن بالأول: (يُحْيِي وَيُمِيتُ) لأنهما من أمارات الملك وقرن بالآخر ما يكون في الآخرة من مرجع الخلق وجزائهم بالثواب والعقاب إليه، فجاء في كل مكان ما اقتضاه، وما شاكل معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1254 الآية الثالثة منها قوله تعالى: (.. كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ... ) قال فيما تقدم من سورة الزمر: (.. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا.. . للسائل أن يسأل عن قوله في سورة الحديد: (ثُمَّ يَكُونُ) وقوله في سورة الزمر: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) وهل كان وجه الكلام أن لو جاء أحدهما مكان الآخر؟ والجواب أن يقال: إن الأفعال التى نسق هذا الفعل عليها في سورة الزمر هى أفعال الله تعالى، لأنه قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) ، فهو معطوف على قوله: (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا) . والذي في سورة الحديد لم يسند الفعل المتقدم فيه إلى الله تعالى فيسنَد إليه ما بعده، وإنما هو: (.. كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1255 فلم يصلح في كل مكان إلا ما جاء فيه من اختيار الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1256 سورة المجادلة الآية الأولى منها قوله تعالى: ( ... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) . للسائل أن يسأل عن خاتمتي الآيتين، وهما: (عَذَابٌ أَلِيمٌ) و (عَذَابٌ مُهِينٌ) وعما أوجب اختصاص كل واحدة منهما. بما ذكر فيها؟ والجواب أن يقال: لما قال في الأولى: ( ... ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ) أي: يبين لكم ذلك لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وذكر الحدود التي حدّها لعباده، ثم سمَّى من لم يؤمن كافرا باسمه وتوعده بالعذاب الموجع المبالغ فيه، وهو ما يخوّف الله تعالى به عباده، نعوذ بالله منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1257 وأما قوله: (عذاب مهين) فلأن قبله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا) فضمن معنى الفعلين الشرط والجزاء، فجعل الكَبْت جزاء مَن آثر حزبا غير حزب الله ورسوله، وحدا غير حدّهما، والكبْت: الإذلال، وقيل: الغلب والقهر والتخييب، وكل ذلك متقارب، فلما أخبر الله تعالى بالكبت عمن حادّ الله ورسوله وجانبهما وصار في حد غير حدّهما وصف العذاب الذي ينزل به بالإذلال والاهانة وإن كان كل مؤلم مهيناً وكل مهين مؤلمأ، ومما يشهد لذلك قوله تعالى في آخر السورة: إن الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلين) ، فقوله هنا: (أولئك في الأذلين) كقوله في الأول: (إن الذين يحادّون الله ورسوله) فهذا في الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1258 وقد توعّد المنافقين الذين تولّوهم بمثله في هذه السورة، وهو قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) أي: إنهم لما أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ووضعوا في أنفسهم أنه إن اطلع على حالهم حلفوا للنبي بالله، أن الأمر بخلافه، فيَكلهم إلى أيمانهم، فهم يخرجون بهذا الأمر في الحكم عن ذلة الكفر، ولهم عذاب يسلبهم هذا العزّ، ويبدلهم منها إلى الهوان والذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1259 سورة الحشر الآية الأولى منها قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) . وقال قبله في سورة الأنفال (1" 131،: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) . وقال قبله في سوة النساء (2" 1151،: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) . للسائل أن يسأل عن الإدغام في قوله: (ومن يشاقّ الله في سورة الحشر، وعن تركه في سورة الأنفال والنساء مع أن مثله فِى لغة العرب يصح إدغامه وإظهاره كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) وقوله تعالى: ( ... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1260 والجواب أن يقال: إن الاصل في ذلك: إذا قويت الحركة فى القاف أن تدغم ألا ترى أن من جوّز (اردد) ، مكان (ردّ) وكانت لغته الإظهار متى حرك الدال الأخيرة في قولك للاثنين: (ردا) ، وقولك للجمع: (ردوا) لم ير إلاّ الإدغام، ولم يجوز "ارْدُدا"، ولا (ارْدُدُوا) ، ولا (ارْدُدِي ". فقوله تعالى: (ومن يشاقِّ الله) فقد قويت الحركة منه في القاف الأخيرة لأنها لاقت كلمة قد لزم أولها السكون، وهو اللام الأولى من (اللَه) وكانت تحرّك لملاقاة الساكن بعدها في مثل (اعبد الله) حيث لا تضعيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1261 يهرب من ثقله إلى تخفيف برفع اللسان عن الحرفين دفعة واحدة، فقوله: (ومن يشاق الله) لا تلاقي القاف هنا مما يتعلق به إلا ساكنا قد لزم الكلمة فقويت الحركة في القاف التي تلاقي هذا الساكن لأنها لا تلاقي سواه فيما علّق الفعل به. وليس كذلك: (ومن يشاقِقِ الله ورسوله) لأن القاف قد تلاقى ما يتعلق بها متحركا، وهو (ورسوله) ، لأن التقدير: ومن يشاقق رسوله، فلم تخلص القاف فيما يتعلق بها للحركة، كما خلصت لها في الأول. وأما قوله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) فليس الساكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1262 من الرسول الذى تلاقيه القاف كالساكن من لفظة " الله " لأنه قد يحذف فيصح لملاقاة القاف متحرّكا منه، نحو: ومَن يشاقق رسول الله، فالذي أوجب في سورة الحشر في قوله: (ومن يشاق الله) الادغام هو قوة الحركة في القاف، وقوتها أنه لا يصح أن تلاقي الاسم. الذي بعدها إلا ساكنا منه لا يقوم مقامه متحرّك في حال، وما سواه من المواضع ليس على هذا الوصف، فبان الفرقان فاعرفه والله أعلم. " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1263 الآية الثانية منها قوله تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) . وقال بعده: ( ... تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) . ْللسائل أن يسأل عن اختصاص خاتمة الآية الأولى بقوله (لا يفقهون) واختصاص الثانية بقوله: (لا يعقلون) . والجواب أن يقال: لما قال: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي: خوفهم منكم أشد من خوفهم من الله تعالى، لأنهم يعلمون " ظاهرا ولا يعرفون ما استتر عنهم منه، والفقيه: مَن يستدرك من الكلام ظاهره الجليّ وغامضه الخفى بسرعة فطنته وجودة قريحته فلما رهبوا النبي ما لم يرهبوا الله عز ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1264 ، صاروا كمن يعرف ما يشهده ويجهل ما يغيب عنه، ولو فقهوا لَعلموا أنّ لِما ظهر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطنا خفي عنهم من أمر الله تعالى، فلذلك وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون، وقيل: (لا يفقهون) أي: لا يستدركون عظمة الله تعالى ويشاهدون جلالة المؤمنين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا يعلمون أن ذلك بالله تعالى، وقيل: لا يفقهون من معنى المرسِل والرسول معنى المرسَل وعظمته فيتقون الله حق تقاته. وأما قوله: (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) فإنه بعد قوله: (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى..) ، ومعناه: لا يجمعهم الحق على طريقة واحدة، بل هم أتباع أهوائهم فهم مختلفون باختلاف آرائهم، ولو عقلوا الرشد من الغيّ، لاجتمعوا على الحق فاختلافهم لأنهم لا يعقلون ما يدعو إلى طاعة الله ويهدي إلى ما قال الله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..) ، فالحق سبيل واحد مستقيم، والباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1265 سبل كثيرة تحمل عليها أهواء متشعبة، فقد بان لك أنّ كلاّ من الخاتمتين ختم بما يقتضيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1266 سورة الممتحنة الآية الأولى منها قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا. وقال بعده: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) . للسائل أن يسأل عن المعنى الذي له أعيد: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وعن متعلق كل واحد من اللفظين، وهل صلح الأول مكان الثاني، والثاني مكان الأول؟ والجواب أن يقال: إن الاسلام بُني أوله على التبرىء من الآلهة ومن عبدتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1267 ومن الأصنام، وعبدتها، ألا ترى قول من يشهد بالتوحيد أنه ينفى الآلهة أولا بقوله: " لا إله " ويثبت ثانيا بقوله "إلا الله " الواحد الذي تحق له العبادة فقال في الأسوة الأولى المتعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم (.. إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وأنهم يعادونهم إلى أن يؤمنوا، فهذه الأسوة تفصل المؤمن من الكافر ليتميز عنه في الظاهر، ويتبرأ من صداقته ويتحقق بعداوته. والثانية معناها: تأسّوا بهم لتنالوا مثل ثوابهم وتنقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم مبشرين بالجنة غير" خائفين من العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1268 سورة الصف الآية الأولى منها قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام..) وقال قبله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته إنه لا يفلح الظالمون. وقال فيها: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إليّ ولم يوح إليه شيء.. وقال في آخر سورة العنكبوت: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) . وقال في سورة الأعراف: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.. . وقال في سورة: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1269 ْللسائل أن يسأل عن هذا الموضع واختصاصه بلفظ التعريف في الكذب مع أن نظائره في الآي التي ذكرنا بلفظ التنكير. والجواب أن يقال: إن الكذب مصدر يسمى به الكلام المكذوب فيه، وهو فى قوله تعالى: (أفترى على الله كذبا) على أصله، مصدر غير منقول، والمصدر إذا عرف قصد به الجنس، والفرق بين معرفته ونكرته إذا قال القائل: قلت كذبا، أي: قلت نوعا من أنواع الكذب التي هي كثيرة، وإذا قال: قلت الكذب، فكأنه قال: قلت القول الذي يشهد بالكذب ويشار إليه به، وليس يراد به الجنس كله، كما لا يراد إذا قال: شربت الماء كل الماء، وإنما يراد بعضه بدلالة العرف، وإنما يختار التنكير إذا قارنه لفظ يقتضيه أو كلام متقدم عليه يوحب له ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1270 ومما قارنه لفظ يقتضي له التنكير كل موضع جاء فيه (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب فقوله: (أو كذب يقتضي أحد كذبينْ، وإذا ضم إلى الكذب الأول كذبا ثانيا يثنى الأول المذكور. وما يكون أمثال يتنكر بعضها ببعض، كما كان ذلك فيمايقع على واحد من أمة شائع فيها فيكون فيها نكرة، فإذا جاءت بعد كذب قرينة تقتضيْ له التنكير، فأكثر ما جاء منكرا معها، وهو: (أو كذب بآيائه إنه لا يفلح الظالمون (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء (أو كذّب بآياته إنه لا يفلح المجرمون، (أو كذّب بالحق لما جاءه أليس في حهنم مثوى للكافرين، (أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب* فهذه خمسة مواضع تقدمها قوله (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وكانت مقارنة تقضي التنكير في لفظها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1271 وأما قوله في سورة الأنعام: ( .... فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا لِيُضِلَّ الناس بغير علم) فإنما معناه: فمن أظلم لنفسه ممن يختلق كذبا يقصد به الضلال للناس، فكل من ضل منهم يكذبه فقد أضله كذب أخلقه، ففيه دليل أمثال له يقتضى تنكيره، وكذلك قوله تعالى في سورة هود: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرَضون على ربهم) فكانت لفظة "من، (ممن افترَى على الّه كذبا* لفظة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1272 والمعنى: كل كاذب كذبا، فمضامّة أنواع الكذب لمضامّة الكاذبين لهم يقتضى تنكير لفظه، إذا صاروا واحدا من جماعة شائعاً فيها. وأما تعريفه في سورة الصف فلأن القصد الإشارة إلى ذلك الكذب، وهو تكذيب اليهود بآيات الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - (وتكذيب النصارى بها، وقد تقدمت قصتهما في قوله: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني.. وبعده: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعَى إلى الإسلام ... أي: ومن أظلم ممن يكذب الكذب الذي تشير إليه الأمم من المسلمين والنصارى واليهود على اختلاف اعتقاداتهم، فقد صح أنه الكذب المعروف عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1273 المسلمين وعند علماء الطائفتين من أهل الكتاب، فالتعريف في هذا المكان فائدته التي تخصه ما ذكرنا، كما أن ما جاء منه منكرا اقتضاه مكانه على ما بينَّا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1274 سورة الجمعة ما فيها قد تقدم ذكره في سورة البقرة سورة المنافقين الآية الأولى منها قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) . للسائل أن يسأل عن قوله في آخر الآية الأولى: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) وعن قوله: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) في آخر الثانية، وما أوجب اختصاص كل واحد بما اختص به من قوله: (لَا يَفْقَهُونَ)) وقوله: (لَا يَعْلَمُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1275 الجواب أن يقال: إن معنى قوله: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَن عند رسول الله) أي: يأمرونهم بالإضرار بهم وحبس النفقات عنهم، ولا يفطون، لأنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم دون مَن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله لا يحبس ما قدر مِن أرراقهم فلا يضرهمْ إذا حبسوا إنفاقهم، فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له. وقوله في الثانية: (لا يعلمون) بعد قوله ": (.. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، لأن الأعزّ مَن له القوة والغلبة، على ما كانوا عليه في الجاهلية، ولا يعلمون أن هذ القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره، إنما هي من الله تعالى فهي لله تعالى ولمن يخصه بها من عباده، والمنافقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1276 لا يعلمون أن الذلة لمن يقدرون فيه العزة وأن الله معزّ أولياءه بطاعتهم له، ومذلّ أعداءَه لمخالفتهم أمره، فقد أختصت كل آية بما اقتضاه معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1277 سورة التغابن الآية الأولى منها قوله تعالى: يسبح لله ما في السموات وما في الأرض .... وقال بعده: (يعلم ما فى السموات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون للسائل أن يسأل عن تكرير "ما" في افتتاح السورة في قوله: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض* وترك ذلك في قوله: (يعلم ما في السموات والأرض ثم تكرير (ما) ، في قوله: (ويعلم ما تسرّون وما تعلنون) وهل كانت الفائدة، تحصل بعكس ذلك وتكرير (ما) حيث لم تتكرر "؟ وحذفها حيث لم تحذف؟ والجواب أن يقال: لما كان تسبيح ما في السموات على خلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1278 تسبيح ما في الأرض كثرة وقلة وخلوصا من غير مقارنة المعاصي واختلاطها بها أعيدت لفظة، (ما) لهذا الاختلاف. ولم يكن الأمر في قوله: (يعلم ما فى السموات والأرض كذلك، لأن علمه نظم ما فيهما نظما واحدا وعلى حدّ واحد، فصار علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوتها وعلمه بما في السماءكعلمه بما في غيرها، كما كان علمه بما يكون كعلمه بما كان لا يختلف، فلم يتباين، فتعاد للمخالفة لفظة "ما" للتمييز بها عما خالفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1279 وأما لفظ (ما تسرون) فإنه نحالف ل (وما يعلنون) غاية المخالفة، فلم يصلح إلا بإعادة "ما" فقد بان ووضح الفرق بين المواضع الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1280 12461 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) . وقال بعده في سورة الطلاق: (.. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) . للسائل أن يسأل عما خصص الآية الأولى بقوله: (يكفر عنه سيئآته) وإخلاء الآية الثانية منه؟ والجواب أن يقال: إن الآية الأولى جاءت بعد قوله مخبرا عن الكفار: ( ... فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) . فهذه سيئات تحتاج إلى تكفير إذا آمن بالله بعدها فقال ة (.. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) في مستقبل عمره، يمسح عنه ما سبق من كفره ثم يوجب له جنات والآية الثانية لم يتقدمها خبر عن كفاّر بسيئاَت فيوعَدوا بتكفيرها إذا أقلعوا عنها وتابوا منها وعملوا الصالحات مكانها وكان مضمونا تكفيرْ السيئات عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1281 الإيمان، وعمل الصالحات، فلم يحتج إلى ذكره كما كان الأمر في غيره. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1282 سورة الطلاق الآية الأولى منها قوله تعالى: (. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وقال بعده: (.. وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ. وقال بعده ( ..... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) .. للسائل أن يسأل عن قوله في خلال ذكر الطلاق والعدد: ( ..... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) ثلات مرات، يفعل به كذا واختصاص كل جزاء بمكان فأوله: (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) والثاني (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) والثالث: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرً) . والجواب أن يقال: إنما اقترن بالطلاق والعدة هذا الوعظ لأن الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1283 رفض حال متمهدة، وقطع آمال متأكدة"، والعدة باستيفائها يخلص النسب، ويصح للزوج الثاني الولد، ولو لم يكن هذا الحد الذي حده الله تعالى لَكان الفساد متصلا فى انقضاء الدنيا فهو أحق الأشياء بالمراعاة وتأكيد المقال فيه والوصاة، قال الله عز من قائل بعد ذكر الطلاق: (. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) أي: من تمسك بتقوى الله عز وجل فيما يحل ويعقد ويصدر ويورد فإن الله يلقيه في شدته فرجا ويجعل له مما يكرهه مخرحا، ويتيح له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1284 محبوبه من حيث لا يقدر، ويوجه له رزقه من حيث لا يحتسب، وفي ضمنه أنه إذا طلّق لكراهة أحد القرينين لصاحبه وقارن ذلك تقوى الله فإن الله يسبب له القرينة الصالحة ولها القرين الصالح ويرزق أحدهما على يد الآخر من حيث لا يبلغه تقديره ولا يدركه حسبانه، وهذا وعد منه فى الدنيا ويصح له مثله فى الآخرة لأنه يجعل للمتقين منجى من عذابه، وأمنا من مخافته فيخرجهم من الغم إلى السرور، ومن الفزع إلى الأمن، ويعدّ لهم من كرامته وثوابه ونعمته ما يكتفون به ولا يحتاحون معه إلى غيره. ويكون قوله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) مرادا به حال الآخرة إذ المتوكل على الله قد يضَام في الدنيا، وقد يقتل أيضا، هذا قول بعض أهل النظر، ويجوز أن يراد بالتوكل أن يكل أمره إليه، فيتبعه راضيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1285 بما يصرفه إليه كالدابة المواكلة التي تسير بسير غيرها منقادة لحكمه، فإذا كان المتوكل - على الله مَن هذه صفته فالله تعالى حسبه حافظا له ممن يحاول ظلمه، أو منتقماً منه إن رأى ذلك أنفع له، فهو يبلغه مراده في الوقت الذي قدّره، إذ كان فد جعل لكل شىء حينا يقع عنده لا يتعجل قبله ولا يتباطأ بعده. وأما قولهْ بعد ذكر عدة الحامل: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1286 أي: من لزم التقى سهل الله عليه الصعب من أمره، كما يجعل أمر الولادة سهلاً إذا قامت الأم عن ولدها سُرحاً ثم عقب حال الدنيا بذكر ما يفعله في الآخرة من تكفير سيئآته وإعظام أجره. فكل شرط من (تُقى الله) قرن إليه من الجزاء ما لاق. بمكانه الذي ذكر فيه، والأخير لما كان مقدما على أحوال احتاجت إلى غاية الترغيب وإلى المبالغة في الترهيب وعد عليه أفضل الجزاء، وهو ما يكون في الآخرة من النعماء، فتدبره تجده على ما ذكرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1287 سورة التحريم ما فيها قد مر في سورة الأنبياء سورة الملك الآية الأولى منها قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) . للسائل أن يسأل عن تقديم التوعد بالخسْف على التوعد بالحاصب، وهل كان يختار التوعد بتقديم الحاصب أم لم يجز في الاختيار إلا ما جاء عليه الوعيد في الآيتين؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1288 الجواب أن يقال: لما كانت الأرض التى خلقها الله تعالى لهم ومهدها لاستقرارهم يعبدون عليها غير خالقها، ويعظمون فيها الأصنام التي هي من شجرها وحجرها، خوّفهم بما هو أقرب إليهم من الأشياء التي أهلك بها من كان قبلهم. والآية الثانية تخويف بالحاصب من السماء، وهي التي لا يصعد إليها الطيب من كلامهم ولا الحسن من عملهم إلا سيئآت أفعالهم ونتائج ما كتب عليهم، وتلك حال ثانية فذكر في الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1289 سورة القلم الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وقال في سورة المطففين: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) . للسائل أن يسأل عما انقطعت إليه الآية الأولى من الجزاء في الدنيا والآية الثانية من الجزاء في الآخرة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1290 الجواب أن يقال: إن الموصوف في الآية الأولى موصوف بجامعة لخصال الذم فاضحة، وهي الحلف بالكذب الذي يورث الضعة والمهانة والوقيعة في الناس،. مما ليس فيهم، وهو يكسب العداوة، والنميمة، وهي نقل الكلام للتعريف الذي يجلب الضغينة والبخل الذي لا يدع خيره ينفع غيره، والاعتداءُ وهو تجاوز الحق في المعاملة، وجفاءُ الطبع والخليقة وغلِظهما، والدعوةُ التى تلصقه بقبيلة ليس منها فيكون كالزنَمَة المتدلِّية من الجدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1291 فلما وصفه بهذه الأشياء الظاهرة القبح جعل في مقابلتها نكالا ظاهرا يَبِينُا على الوجه فقال: (سنسمه على الخرطوم، أي: نشهره بعلامة تنبئ عن قبائحه وفضائحه. وأما الآية الأخيرة في المطففين فإن قبلها: (الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كلُّ معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) فأخبر عنهم أنهم لا يؤمنون بالبعث، وأن الذنوب التي قارفوها غلبت على قلوبهم حتى كأنها تنكّرت ولذلك قال الحسن: الرَّيْن: الذنب على الذنب حتى يسود القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1292 فلما لم ينعتهم إلا بالكفر أخبر عن جزائهم في اللآخرة وهو أن يحجبوا عما لا يحجب عنه المؤمنون من ثواب الله تعالى يوم القيامة، وأن يصلوا نار جهنم يَلزموها عقابا لهم على المعصية، فأتبع كلاّ من المكانين ما لاق به وصلح في مقابله ما تقدم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1293 سورة الحاقة 2501، الآية الأولى منها (1) . قوله تعالى (2) : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) - للسائل أن يسأل عن الذي أوجب أن يكون قوله: (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) عقيب (شاعر وقوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ عقيب كاهن) . والجواب أن يقال: من نسب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه شاعر وأن ما أتى به شعر فهو جاحد كافر، لأنه يعلم أن القرآن ليس بشعر لا في أوزان آياته ولا في تشاكل مقاطعه إذ منه آية طويلة، وأخرى إلى جنبها قصيرة كآية الدّين في طولها والآية التى قبلها في قصرها وهى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) وأما اختلاف المقاطع فإنه ينبئ أيضا العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1294 شاعرها ومفحَمها أنه ليس بشعر، فمن نسبه إلى أنه شاعر فهو لقلة إيمانه. وأما من قال إنه كاهن، فإن كلام الكهنة نثر غير نظم، وفيه سجع وهو مخالف للشعر أيضا، فمن قال إنه ككلام الكهاّن فإنه ذاهل عن تذكر ما بُنِي عليه كلامهم من السجع الذي يتبعون فيه معاني ألفاظهم، وحقّ اللفظ في البلاغة أن يكون تابعأ للمعنى، وهو ما عليهْ القرآن كقوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1295 فلو ئذكر قائل هذا القول: أن هذا النثر مخالف لكلام الكهنة فيما ذكرنا لَمَا قال إنه قول كاهن، فلذلك عقبه بقوله: (قليلا ما تذكرون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1296 سورة المعارج الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) وقال قبله في سورة المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1297 للسائل أن يسأل عن الآيات المتجاوبة في السورتين لفظا ومعنى؟ وعن اختصاص سورة "سأل سائل " بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وحذفه من سورة المؤمنين. والجواب عن ذلك أن يقال: لما أخبر الله تعالى في هذه السورة عن طبائع البشر فقال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) -، وكان المعنى: أنه خلق متسرعاً إلى ما يلتذه غير متماسك عماّ يشتهيه، وإن كان مكروهه، وكان مفرطا فى ذلك، فإن مسه شر اشتد له قلقه وإن مسه خير شحّت به نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1298 ثم استثنى من هولاء بعد أن وصفهم بخصال مذمومة مفرطة في معايبها، من يفرط فيما يضادها ويبالغ من طاعة الله فيما يخالفها فقال: (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) ، أي: إلا الذين يؤدّون الصلاة ويقيمونها ويديمونها، ثم أكّد ذلك في آخر هذه الآيات كراً عليها بقوله: (والذين هم على صلاتهم يحافظون، ومحافظتهم عليها: مراعاتهم لأوقاتها وقيامهم بحقوقها المفروضة قبلها، والمفروضة عند افتتاحها، والمفروضة عند جملة حدودها إلى حين اختتامها، فهذا في وصف المصلين. وبعدهم المزكّون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، يعطون ما يجب عليهم من زكوات أموالهم مَن يسألهم ومن يترك المسألة فيحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1299 مثل ما يعطاه السائل وهذا أيضا مبالغة في وصف من يستشف أحوال الفقراء فيعطهم لما يعلمه من حاجتهم، لا لِما يشاهد من إلحاحهم في مسألتهم. وبعده: (والذين يصدقون بيوم الدين*) ، أي: يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء.، ثم أتبع ذلك التوكيد بقوله: (والذين هم عن عذاب ربهم مشفقون) .،؟ ومن صدق بيوم الدين أشفق من عذاب الله تعالى له على سيئات أعماله، فأراد أنهم يصدقون بيوم الدين، ويرهبون عذاب الله عز وجل فيعملون الصالحات طلبا للنجاة منه. وبعده: (والذين هم لفروحهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) ، أي:، يطلقون فروجهم عنى معاصى الله إلا على أزواحهم أو ما ملكت أيمانهم، ثم بالغ في تحذيرهم فقال: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، أي: من خرج عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1300 هذا الحدّ إلى ما وراءه، وذلك شامل للجهات كلها، فأولئك خارجون عن الحق إلى الظلم، وهذه الآية جاءت في سورة المؤمنين. وبعدها في السورتين: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . ، فوصفهم بأنهم يرعون أمانة الله عندهم، وأمانات الناس لديهم، وعهودهم قِبلهم. ثم خص الآية في سورة "سأل سائل بما أجرى عليه الآيات قبلها من المبالغة في الطاعات التي تضمنت ذكرها فقال: (والدين هم بشهاداتهم قائمون) أي: يؤدون بعد الأمانات التي هي في رقابهم وذممهم الأمانات التي فِى ذِمم غيرهم وثباتها بشهاداتهم، فوصف من يؤدي الأمانات التي تخصه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1301 مستودعيها على غيرهم فكان من المبالغة التي تقتضيها الآيات المتقدمة ذكر الشهادات عقيب أداء الأمانات، وقوله إخبارا: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) مردود إلى الآيات الأول: وقد بينا ذلك أولا. فإن قال قائل: كيف يصح أن يقال: خلق الإنسان هلوعا جزوعا منوعا؟ وهذا يوجب أن يكون الهلع والجزع والمنع موجودة فيه في حال خلق الله له، وليس هو كذلك لأنه لا يشعر بهذه للطفولة (ِ) . قلت: أجيب عن ذلك بأن جعل معناه: خلق حيوانا ضعيفا لا يصبر على الشدائد إذا دامت عليه، وإجراؤه الصفة عليه فِى حال الخلق توسّع ومجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1302 الجواب الذي أذهب اليه أن الهلع أصلهالتسرّع والقلَق نحو الشيء، فالحريص يهلَع، والجزع يهلع، أي يتسرّع إلى تمكين الحزن من نفسه، وإدخال ألمه على قلبه، والحريص يتسرّع إلى مشتهاه اتباعا لهواه وإن كانن فيه رَداه. والإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال، لأنه يتسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع، وإن مسه ألَم جزع وبكى، وإن تمسك بثدي فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء، فلا يزال يفعل ذلك حتى يرد إليه الحيز الذي كان له، ثم هو على ذلك إلى آخر عمره. والهلع في كلام العرب، أصله: القلق والتسرع في الحرص والجزع، يقال: ناقة هلواع، أي مسرعة، وظلمان هوالعأي مسرعات وإذا كان كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1303 لم يكن الهلوع والجزوع والمنوع مجازا، فتبين بالمبالغات التي هي في الخصال المذمومة وإردافها بالمبالغات في الطاعات المحمودة الآيات التي في هذه السورة من الآيات التي في سورةالمؤمنين التي يتقدمها مبالغات في مساوئ الأخلاق. فإن قال قائل: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق قلت: الحكمة في خلق شهوة القبيح ليمانع نفسه الإنسان، إذا نازعته نحوه، ويحارب شيطانه عند تزيينه معصية، فيستحق من الله تعالى عقوبته ويستوجب عليه جنته، وهذا واضح لمن تدبّره، فاعرفه تصب إن شا الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1304 سورة نوح عليه السلام الآية الأولى منها قوله تعالى: ( ... ولا تزد الظالمين إلا ضلالا* وقال في أخر السورة: (.. ولا تزد الظالين إلا تبارا*. للسائل أن يسأل عن الأول واختصاصه بالإضلال، وعن الثاني واختصاصه بالإهلاك الذي هو التبار؟ الجواب أن يقال: إن الأول جاء بعد قوله ... ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيراَّ.. أي: لما قالوا: ... لا تذرن آلهتكم ولا تذرُن وَدّا ولا سواعا..، فأمروا أتباعهم بالتمسك بعبادة هذه الأصنام، وأضلوهم عن طريق الرشاد دعا عليهم نوح عليه السلام بان يضلهم التواب بعد استحقاق العقاب ليجاوب قوله: (وقد أضلوا كتيرا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1305 وأما الآخر فإن معناه؟ زدهم هلاكا على هلاك، وعذابا فوق عذاب بما وافوا عليه القيامة من كفر وضلال، وذلك عند دخول النار، فاقتضى كلّ من المكانين ما جاء فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1306 سورة الجن ليس فيها شيء من ذلك سورة المزمل ليس فيها شىء من ذلك سورة المدثر الآية الأولى منها قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) . للسائل أن يسأل عما تكرر من قول (قدر) في ثلاثة مواضع وعن الفائدة فيها؟ والجواب أن يقال: كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي قدر ما أتى به من من ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1307 الفرآن، فقال: إق قلنا شاعر كذّبتنا العرب، إذا قدرت، ما أتى به على الشعر ولم يكن إياه، وكان يقصد في هذا التقدير تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بضرب من احتيال يمكنه تجويزه على العقلاء، فلذلك كان تقديرا مستحقاً لعقوبة من الله تعالى، هي كالقتل إهلاكا له فهذا معنى: فقتل كيف قدّر* أيْ: هلك هلاك المقتول كيف قد رأى هو في تقديره ونظره غير طالب لحق، بل هو مثبت باطلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1308 وإن كان القرآن ليس بشعر، ولا يجوز مثله على" من عرف النثر والنظم، فهو بالصدق في ذلك قاصد إلى تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - (بوجه آخر يدعيه - على ما أتى به. وقوله: (ثم قتل كيف قدر) أي: أنه قال: وليس ما أتى به من كلام الكهنة، فإن ادعينا ذلك عليه كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان، فهو في ئقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكا له، فهو في نفيه عن القرآن الأقسام الفاسدة قاصد إلى إبطاله وإلى إثبات قسم لا يصح إثباته، وهو قول الله تعالى، حاكيا عنه: (فقال إنْ هذا إلا سحر يؤثر إنْ هذا إلا قول البشر) . وإذا كان كذلك لم يكن في إعادة (قدّر تكرار) بل المعنى ما ذكرنا من تعلّق كل تقدير بمقدّر غيرِ الأول لفائدة تخصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1309 الآية الثانية منها قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . وقال في سورة الإنسان: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) . للسائل أن يسأل عن اختلاف المكانين، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) وقوله (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) والهاء ضمير مذكر والعائد يعود على مؤنت؟ الجواب أن يقال: إن التذكرة مصدر من: ذكرت أذكر تذكيرا وتذكرة، كما يقال: قدمت تقديما وتقدمة، وكرمت تكريما وتكرمة، فلما كانت الآيات المتقدمة فواصلها في الوقف هاء، كقوله لَعافى: ( ..... حمر مستنفرة فرّت من قسورة) و ( ...... صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره) عادت الهاء إلى مذكر دلت التذكرة عليه، وهو بمعناها، وهو" التذكرة والتذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1310 لتتعادل الفواصل. ومعنى (فمن شاء ذكره أي: من شاء انتفع به فيكون ذاكرا له، وإذا لم ينتفع به فيكون كالناسى له. فأما قوله: (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) فهو بمعنى (فمن شاء ذكره لأن من انتفع بالذكر سلك سبيل الطاعات التي تؤدي إلى ثواب الله تعالى فعدل إلى قوله: (اتخذ إلى ربه سبيلا) للتوفقة بين الفواصل من هذه السورة إذ كانت مردفة بياء أو واو منقطعة بالألف، فحصل في المكانين المعنيان متفقين مع ملائمة الفواصل في الموضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1311 سورة القيامة الآية الأولى منها قوله تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) . للسائل أن يسأل عماّ أعيد من لفظ "القمر" في الفاصلتين المتواصلتين؟ الجواب أن يقال: لماّ قال: (برق البصر) أي: تلألأ ولمع لهول ما شاهد، وهذا يلحق العيون عند شدة الأمر، والقمرُ يجوز أن يراد به بياض العين، وخسوف غيبته والبياض الذي فوق الحَدَقَة يغيب إذا انقلبت العين حتى يتعلّق البياض الذي تحت السواد. ويكون قوله: (وجمع الشمس والقمر) يجوز أن يكون المعنى جُمعا من مكان يقرب من المكان الذي فيه الناس، ويجوز أن يكون المراد جمعا في سلب الضياء وفقْد النّور فعلى هذا لا يكون القمر مكرَّرا إذا أريد بالثاني غير الأول، ولا يكون معيبا إذا أريد به الأول أيضا، لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول والأشياء التي ليس خيالها أمثالُها يجوز أن يقام ظاهرها مقام مضمرها، كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1312 لا أرى الموتَ يَسبِق الموتَ شيء نَغص الموتا ذا الغِنَى والفقيرا فهذا في كلام واحد في البيت، والأول في كلامين، وهو أحسن، ومثله: (ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1313 الآية الثانية منها قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) . للسائل أن يسأل عن تكرير ذلك، وعن الفائدة فيه، وعن حقيقة اللفظ واشتقاقه. الجواب أن يقال: اللفظة مششقة من " وليَ يَلى) ، إذا قرب منه قرب مجاورة، فكأنه قال: الهلاك قريب منك، مجاور لك، بل هو "أولى وأقرب. وأما التكرير لفظا فهو غير معيب إذا لم يتكرر المعنى، فالأول يراد به الهلاك في الدنيا، والثانى بعده يراد به الهلاك في الآخرة، وعلى هذا يخرج من التكريرات المعيبة فاعرفه ترشد إن شاء الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1314 سورة الإنسان الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) . وقال بعده: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) .. للسائل أن يسأل عن قوله: (ويطاف عليهم) وهو فعل ما لم يسمّ فاعله، وبعده: (ويطوف عليهم) وهو فعل سمِّي فاعله، وعن اختصاص كل من المكانين بواحد منهما، وعن الفائدة فيها. الجواب أن يقال: إن القصد في الأولى إلى وصف ما يطاف به من الأواني دون وصف الطائفين بها، فلماّ كان المعتمد بالافادة ذاك بني الفعل مقصودا به ذكر المفعول به لا الفاعل، فقال تعالى: (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1315 قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي: آلات من فضة صفاؤها كصفاء القوارير، لا تمنع أن يرى ما وراءها، وقد قدّرت على صفة فجاءت على ما قدّرت وفقا لمنية المتمنىّ، وقيل: قدرت تقدير ما يسع الريّ. وقيل: قدّرت على ما يريد الشارب أن يكون عليه، لا زيادة ولا نقصان، ثم قال تعالى: (ويُسْقون فيها كأسا) ، فوصف بعد الإناء الذي تسبق العين إليه ما يحويه من مشروبٍ وطيبه، فلذلك لم يسمّ فاعل ويطاف، ولأنه جاء بعد قوله: (وذُلّلت قطوفها تذليلا. وأماّ الموضع الثانى الذي " سُمّي فيه الفاعل، وهو قوله: (ويطوف عليهم وِلدان مخلدون) فإن القصدْ فيه إلى وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1316 فوجب ذكرُهم لتتعلّق الصفة بهم، فقال تعالى: (ويطوف عليهم وِلدان مخلدون. وفي (مخلدون ثلاثة أقوال: باقون أبدا، دائمون. وقيل: يبقون على هيئة الوصفاء، فلا يَشِبُّون. وقيل؟ مخلدون: مُحلون، والْخَلَدَة القُرْطُ. وقوله: (إذا رأيتَهم حسبتَهم لؤلؤا منثورا) في صفاءِ ألوانهم، وضياءِ وجوههم وحسنِهم وإشراقِهم، وماءِ النعيم المترقْرِق فيهم، وإذا كان كذلك أوجب ما بنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1317 عليه الكلام أنْ لا يسمّى الفاعل في الأول، ويسمى في الثاني كما جاءت عليه الآيتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1318 سورة المرسلات الآية الآولى منها قوله تعالى: ويل يومئذ للمكذِّبين. للسائل أن يسأل عن هذه الآية، لِم كررت عشر مراّت؟ وتخصيص ما بعد كل منها بما قرن إليها، والفائدة في تقديم ما بعد الأولى على ما بعد الثانية؟ ثم السؤال في الجميع على هذه الطريقة؟ الجواب أن يقال: إنّ هذه السورة مقصورة على إثبات ما أنكره الكفاّر من البعث والإحياء بعد الموت، والحساب، والثواب والعقاب، وتخويف المكذبين به، ليرجعوا عنه، ويتمسّكوا بالحقّ دونه، فأقسم- تعالى- في أول السورة. بما أقسم: (إنما توعدون لَواقع) في يوم الفصل بين المسيء والمحسن، والعاصي والمطيع. ْواحتجّ على المكذبين فيما بين ثلاثة من المتكررات بما يحجبهم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1319 قوله: (وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئد للمكذِّبين) أي: ويل لمن كذب بيوم القيامة، وهو اليوم الذي يفصل. فيه بين المحسن والمسىء بأعظم المثوبة وأشدّ العقوبة، وبدأ بعد إيجاب الويل في الآخرة لمن كذب بها بذكرِ مَن أهلك من أمم الأنبياء الأوّلين كقوم نوح وعاد وثمودَ، ثم أتبعهم الآخرين الذين أهلكوا من بعدهم، قوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وال فرعون وملئه، ثم توعد المجرمين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (وأنهم يلحقون بأمثالهم إذا استمرّوا في التكذيب على مثالهم، فكان ذلكْ زجرا بالغا بما صحّ عندهم من أخبارهم كما قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) فحذرهم نكالا يقع بهم كما يقع فى بمن عمل مثل أعمالهم فقال بعد ذلك: (ويل يومئد للمكذِّبين) ، أي: لمن كذّب بالآخرة بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1320 أن احتجّ عليه في هذه الآية بإهلاك الأمة بعد الأمة، وأنهم على إثرهم فى الهلاك إن أقاموا على الإشراك. ئم احتج عليهم في الثانية بقوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) أي جعلنا أشرف من تشاهدون من أقلّ ما تعرفون، وهو النطفة التي أقرّها في الرحم، ونقلها حالا بعد حال حتى بلغ حدّ التمام والكمال استواء جوارح، ووصل مفاصل، وأجرى هذا التقدير في جميع ما يولد من الحيوان، وخلق فيهم مجاري أغذيتهم ومشاربِ القوة المستفادة من أكلهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1321 فدلّ بما نبّه عليه من النشأة في الابتداء على النشأة الثانية للانتهاء فقال: ويل لمن كذب بها بعد لزوم الحجة. ثم احتجّ عليهم في الثالثة بقوله: (ألم نجعلِ الأرضَ كِفاتاً أحياء وأمواتا) ، أي: جعلناها تضمّ أحياءهم وموتاهم، بما تخرج من أقواتها، وتواري من أمواتها، كما قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) ، هذا مع ما أقام فيها من الجبال الثوابت الرفيعة التي هي أوتاد الأرض وما أجري فيها للحيوان من الماء العذب، وفي كلّ ذلك دليل على أنه قادر عليم، وصانع حكيم لم يخلق الناس عبثا، ويتركهم سدى، وهو كما يبدي يعيد لِيحقّ منه الوعد والوعيد. ثم قصرت ثلاثة على ما يكون من تبكيتهم على ما كذّبوا به عند مشاهدتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1322 له، وهي: (انطَلِقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون) ، أي: يقال لهم يوم القيامة ذلك، والثاني من هذه الثلاثة: (هذا يومُ لا يَنطقون) ، والثالث: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأوّلِين) ، فأمروا أوّلا بالانطلاق إلى ما كذّبوا به، وفي الثاني معناه: أمضوا إليها فلا عذر لكم ولا حجّة فقد أعذر إليكم في الدار الأولى مَن مكثكم، وفي الثالث: (هذا يوم الفصل، ومعناه معنى قوله تعالى: (وامتازوا اليومَ أيها المجرمون ْ) ، لأثّكم جمعتم في يوم يفصل فيه بين المطيع والعاصي، والمحق والمبطل. ومعنى قوله: (فإنْ كان لكم كيد فكيدون) ، أي: كنتم تغتاظون وتسخطون لمخالفة ما أمركم به، واليومَ قد عجزتم عن أنفسكم، فإنْ قدرتم على ما كنتم تفعلونه قبل ما فعلوا، كما قال: (.. ويُدعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1323 وبقيت أربعة بعد أولها وصف أهل الجنة أنهم يجازون بأعمالهم ويصيرون إلى ثمرات أفعالهم. وبعد الثاني: خطاب لمن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبالغة في زجرهم، وأنهم في إيثارعم العاجلة الفانية على الآجلة الباقية من جملة المجرمين الذين قال فيهم عند مفتتح هذه الآي: كذلك نفعل بالمجرمين) ، فرجع عجُزُ الكلام إلى صدره. بقوله: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون) . وبعد الثالث: خبر عنهم بأنهم يَكرهون التجبية كما حكي عن هند بنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1324 عتبة رضى الله عنها لما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يوم الفتح: يا هند هل ترين بالاسلام بأسا؟ قالت: بأبي وأمّي، ما أحسنه، لولا ثلاث خصال. قال: ما هن؟ قالت: التجبية والخمار ورقيّ هذا العبد الأسود فوق الكعبة. قال - صلى الله عليه وسلم -: أماّ التجبية فإنه لا صلاة إلا بركوع، وأماّ قولكِ: الخمار فلا شيء أحسن منه، وأستر من الخمار، وأماّ قولكِ: ورقي هذا العبد الأسود فوق الكعبة، فنعم عبد الله هو) . يقال: جبّى الرجل يجبّي تجبية، إذا ركع، ومنه قوله: كأنّ خُصْيَيْه إذا ماجُبا دَجاجَتانِ يلقطانِ حَباّ فكراهتهم للتجبية من أجل ما يحكى عن أحدهم أنه قال: أكره أن تعلوني اِسْتي. ومعنى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1325 إذا دعوا إلى الصلاة لم يصلّوها لا بحجة ولا بشبهة، ولكن بباطل، هو ما حكيناه، وقيل: لم يصلّوا لجهلهم بما في الصلاة من المنافع لصاحبها، وقيل: لم يصلّوا لتكذيبهم بوجوبها. وبعد الرابع قوله تعالى: (فبأي حديث بعده يؤمنون) أي: إذا كذّبوا بالقرآن المتضمن لوجوب الصلاة، وبذل غاية الخضوع بالسجود والركوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1326 لمن له غايات الإحسان، فلم يصدقوا أنه من عند الله تعالى مع ما قارنه من واضح البرهان، فبأيّ كلام يَسْمَحون بعده بالإيمان. ومعنى قوله: (اركعوا) أي صلّوا، ومنه قوله تعالى: (.. ويؤتون الزكاة وهم راكعون) أي: مصلّون. وإذا كان قوله: (ويل يومئذ للمكذِّبين) رِدْفَ كلام يدل على ما يجب تصديقه، وترك التكذيب به، وكانت المعاني مختلفة، سلم من التكرار 7". وعلى الترتيب الذي بينا يتبين ما يختص بالتقديم مما يختص بالتأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1327 سورة النبأ الآية الأولى منها قوله تعالى: (كلا سيعلمون ثمّ كلا سيعلمون) . للسائل أن يسأل عن تكرار ذلك وفائدته؟ الجواب أن يقال: إن الأول وعيد بما يرونه في الدنيا عند فراقها من مقرّهم، والثاني وعيد بما يَلقونه في الآخرة من عذاب ربهم، وإذا لم يرد بالثانىِ ما أريد بالأول لم يكن تكرارا وقيل الأول توعّد بالقيامة وهولها، والثاني توعّد بما بعدها من النار وحرّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1328 الآية الثانية منها قوله تعالى: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) . وقال في وصف أهل الجنة: (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) . للسائل أن يسأل عن الجزائين، ووصف الأول منهما بالوفاق، ووصف الثاني بأنه حساب، وهل كان يصح أن يقال في العطاء وفاقا، وفي العقاب حسابا؟ الجواب أن يقال: إن الله تعالى قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) وقال (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) ، فلماّ كانت الحسنة بأضعافها، والسّيئة. بمثلها استعمل في جزاء السّيئة أنه وِفاق لها غير زائد عليها، ولا قاصر عنها. ولماّ كانت الحسنة بأضعافها استعمل في جزأئها أنه عطاء يكفي معطاه، ويبلغ من مطلوبه منتهاه، فقال: (عطاء بحسبه أي يكفيه مما يريد ويشتهيه ويغنيه عن طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1329 زيادة إليه، وإذا كان كذلك لم يصلح لكل مكانٍ إلا ما استعمل فيه - والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1330 سورة النازعات الآية الأولى منها قوله تعالى: (فإذا جاءتِ الطاّمّةُ الكبْرى. يومَ يتذكّر الإنسان ما سعى) وقال في سورة عبس : (فإذا جاءتِ الصاّخّةُ) . للسائل أن يسأل عما سمَّاه الطاّمة الكبرى، وعما سمَّاه، الضاّخّة، وهل يصلح أن تستعمل الأولى مكان الثانية والثانية مكان الأولى؟ الجواب أن يقال: إن الطاّمة تستعمل في الشديدة التى تنسى عندها الشدائد، فتَطم على ما تقدّمها، أىِ تستره وتغطيه، ومنه يقال: طَم البئرَ إذا كَبَسَها، والطِّم: الكبْس، والقيامة: الطاّمّة الكبرى، لأنها تنسى شدّتها ما تقدم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1331 شدائد الدنيا حتى يصير الناس فيها كما قال الله تعالى: (كأنّهم يومَ يَرَوْنَها لم يَلْبَثوا إلاّ عشية أو ضحاها) أي: تصير شدائد الدنيا عندها محتقرة بمنزلة ما لم يروه إلاّ ساعة كعشيّة أو ضحاها. وإنما استعملت الطامّة الكبرى في هذه السورة لأن فيها ذكر ما أوتي به فرعون من الطاّمّة الكبرى في الكفر حيث قال:.. أنا ربُّكم الأعلى، فهذه في الكبائر كشديدة الآخرة في الشدائد فكأنه قرن إلى ذكر الكبيرة الموفِيَة على أمثالها ذِكر الطاّمّة الكبرى وأهوالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1332 وأماّ الصاّخة فهي صيحة تطعن الآذان فتُصِمّها، يقال: صخّ الغراب، بمنقاره في دبر البعير، أي طعن، فالصاّخة صيحة شديدة لِشدّة صوتها تحى لها الناس كالصيحة الشديدة التى تنبه لها النوّام. فلماّ تقدم في هذه السورة من حالة الإنسان ما نطق (به قوله تعالى: (ثمّ أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره) ، كان الإنشار بالصاّخّة التي تطعن الآذان، فيقضي الله تعالى عندها إحياء الموتى، فقارن الآيات التي في السورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1333 ما شاكلها والآيات في الآخرة ما شابهها والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1334 سورة عبس مرّ ما فيها في السورة التي قبلها. سورة التكوير الآية الأولى منها قوله تعالى: (وإذا البِحارُ سجِّرت وإذا النُّفُوسُ زُوجت) . وقال في سورة الانفطار : (وإذا البِحارُ فُجّرت وإذا القُبُورُ بعْثِرتْ) . للسائل أن يسأل عن اختصاص الأولى بقوله: (سجِّرت واختصاص الثانية بقوله: (فُجِّرت) ؟ الجواب أن يقال: إنّ الأفعال التي جاءت بعد إذا في السورة الأولى في جملتها: وإذا الجحيم سُعرتْ وإذا الجنّةُ أزْلفتْ) ولم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1335 ذلك في سورة الانفطار. ومعنى: سُجِّرت البحار: أوقدت فصارت نارا كما يسجَّر التنُّور، وقيل: المراد بها بحار في جهنم تملأ حميماً ليعذّب بها أهل النار، فكان ذكر هذا المعنى حيث وقع التوعّد بتسعير الجحيم أشبهَ وأولى. وأماّ قوله: (وإذا البحارُ فُجّرت) ، فإنّ معناه: سُيّب ماؤها، فأسيح حتى فاض المكان، لأنّ قبلها خبرا عن الأشياء التي يحكم الله تعالى بمزايلتها أماكنها كقوله تعالى: (إذا السماء انفطرت) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1336 ومعناه: انشقت، كما قال: (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدِّهان) ، وبعده (وإذا الكواكبُ انتثرتْ) ، وبعده: (وإذا البِحارُ فُجرتْ) ، فبإزاء انتثار الكواكب انفجار البحار، فكان الإخبار عنها بهذا المعنى أولى بهذا المكان لتقدم ما يشبهها من التغيير، ومجيء ما هو تزييل عن مكانه من بعثرة القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1337 الآية الثانية منها قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) . وقال بعدها في سورة الانفطار (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) . للسائل أن يسأل فيقول: قال الله تعالى: لما كانت القيامة وغيّر الله ما به قوام الدنيا لما يريد من إبطالها، وتجديد أمر الآخرة، حينئذ علِمت نفس ما أحضرت، وقال في السورة الأخرى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) فهل يصح مكانَ (ما أحضرت) (ما قدّمت وأخّرت) ؟ فيجاب في سورة التكوير بما أجيب به في سورة الانفطار، أم خصوص الفائدة توجب تخصيص اللفظة؟ والجواب أن يقال: إنّ الأول لما جاء بعد ذكر النار والجنة، وهو قوله: (وإذا الجحيمُ سُعِّرت وإذا الجنّةُ أزْلفتْ علمت نفس ما أحضرت) ، أي عملت عملا تستحق به الجنة، أم عملاً تستحقّ به النار، وذلك إذا نوِّلت الكتابَ ورأت التوابَ والعقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1338 وأما الثاني فإنه بعد قوله: (وإذا القبور بُعْثِرت) أي: قُلِّب ترابها، وجعل أسفلها أعلاها بإخراج موتاها، فلماّ كان آخرَ شرط انقطع إلى ذكر الجزاء لفظا ذا نقيض، وهو البعثرة التي تجعل أسفل الشىء أعلاه، كأن أن يُجعل الجزاء ما يتضمن لفظا ذا نقيض أولى من غيره، وهو: (علمت نفس ما قدّمت وأخّرت) ، وقيل: معناه: ما أقامت من طاعة الله وما تركت، وقيل: معناه: علمت نفس جميع ما عملته مدّة عمرها في الدنيا ما عملته، وما فعلته في أول شبابها وما فعلته آخر أيامها. وقيل: معناه: ما قدّمت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1339 عملها الذي انقطع بانقطاع حياتها، وما أخّرت من سنة سنّتها فعُمل بها بعده، وإذا كان كذلك فقد قرن إلى كل شىء شرط جوابه الذي هو أشبه بما قاربه، وأولى لما قارنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1340 سورة الانفطار ما فيها قد مرّ في السورة التي قبلها. سورة المطففين الآية الأولى منها قوله تعالى وقال تعالى في كتاب الفجار: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) وقال تعالى في كتاب الأبرار: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) . للسائل أن يسأل عن قوله تعالى فيقول: (كتاب مرقوم وانقطاع إلى قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) وانقطاع الثاني إلى قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) . الجواب أن يقال: قوله: في سجِّين فسّر على وجوه؟ قال أبو عبيدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1341 سجين: شديد، ومنه قول ابن مقبل: ضَرْبا تواصَوا به الأبطالُ سِجينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1342 أي: شديد، وهذا يحمل على وجهين في حبس شديد كشدّة السجن لِيدلّ به على خساسة منزلتهم. وقيل: (لفى سِجِّين) : أي أمر شديد عذابه وغُمة، وقيل: لفي سِجِّين من الأرض السابعة، وقيل: لفي سِجِّين، أي في سجن والياء للمبالغة: أي كتاب سيئاتهم فوجب تخليد حبسهم، وقيل هذا كتابهم لما دام التقريع به دام عقابهم له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1343 ومعنى قوله: (وما أدراك ما سِجِّين) أي: ليس هذا مما كنت تعلمه أنت ولا قومك لولا ما أتاك به الوحى من عندنا، ثم فسّر فقال: (كتاب مرقوم) أي: كئاب مُعلم بعلامات تدل على دوام خزيهم، واتصال عذابهم بما فيه من سيئآتهم، ثم قال: ويل لهم، لأنهم كذّبوا رسلَ الله. وأماّ قوله: (كلاّ إن كتاب الأبرارِ لَفي عِليين) أي: في مراتب عالية مكنوفة بجلالة فلما فضلت الرتب دلّت على عظم شأنها بجمعها بالواو والنون تشبيها بما يميّز ويخاطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1344 وقيل: (عِليّون) : السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين. وقيل: عليون: غرف الجنة. وقيل: سدرة المنتهى، وهى التى ينتهى إليها كل شيء من أمر الله تعالى، وهي في السماء السابعة. وقيل: عِليون: علوّ على علوّ مضاعف، والواحد عليّ، كشِريب وسِيِّهر وخمير، فكأنه لأعلى الأمكنة، ثم جمعَ بالواو والنون لتفخيم شأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1345 وقيل: هذا جمع لما لا يُحَدُّ، واحده كثلاثين وأربعين، فثلاثون كأن لفظه لفظَ جمع ثلاث، قال الزجاج وهو كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1346 فكان دُهَيدِهين، وهي حاشية الإبل وصغارها، وأبيكرين، جمع ليس واحده معلوم العدد. وقوله في كتاب الأبرار: (كتاب مرقوم يشهده المقربون) ، أي: كتاب معلم بعلامات تدل على ما يقر أعينهم، ويوجب دوام سرورهم لما أودع من حسناتهم المفضية بهم إلى جناتهم. فكان رقم كتاب الفجار ممّا يوحب المصير إلى النار فانقطع إلى ما يوجب لهم الويل، ورقم كتاب الأبرار ممّا يوجبِ المصير إلى غرف الجنان، ورضى الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1347 فانقطع إلى ذكر مشاهدة المقرّبين، وتبشيره بدوام نعيم صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1348 الآية الثانية منها قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) . للسائل أن يسأل عن إفراد هذه الآية في هذه السورة مع تكراره في سورة المرسلات عشر مرات؟ والجواب أن يقال: إن قوله: ويل لهم كلمة تقال في كلْ من وقع في هلكة لا يُرجى خلاصه منها، وهى في سورة المرسلات قد بيّنّا وجه الفائدة فيما أعيد منها، وهي في هذه السورة مذكورة مرة واحدة، لأنها مقصورة على الترهيب من النار ووصفها ومعاقبة أهلها، وعلى الترغيب في الجنة ونعيم أهلها، ليس في السورة غير هذين المعنيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1349 فلماّ جرّدت لهما ذكرت الكلمة عند ذكر ما كتب على المكذّبين وأعلم به كتابهم بما يكون إليه مآلهمْ. ثم شرع في وصف كتاب الأبرار ومحلّه وتبعيد ما بين جزائهم وجزاء غيرهم، فاكتفى بذكر الكلمة مرة لما بني على اختصار السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1350 سورة الانشقاق الآية الأولى منها قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) ْللسائل أن يسأل عن تكرير قوله: (وأذنت لربها وحقت؟ الجواب أن يقال إن الأول للسماء والثاني للأرض، أمرت بالانصداع فسمعت وانقادت لأمر الله تعالى وانصدعت، وحق لها أن تسمع وتطيع.. ومعنى (أذنت) : سمعت ـ لا أنها سمعت بإذن، قال عدي بن زيد: فى سماع يأذن الشيخ له وحديثٍ مثلِ ما ذِي مُشَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1351 وقوله: (وإذا الأرض مدّت) أي: بُسطت بانتساف جبالها وتطاطُؤ آكامها وتلالها، وألقت ما حوته من الموتى والمعادن والكنوز، وتخلّتْ منها كما تتخلى المرأة الحامل من حملها، إذا ألقت ما في بطها، وسمعت وأطاعت، وحقّ لها ذلك، يقال: حقّت فهي محقوقة، وحقيق بكذا، ويقال لها، أيضا: حقّ له ذلك، فالأول لغير ما له الثاني، فلا يكون تكرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1352 الآية الثانية منها قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) . وقال في سورة البروج: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) . للسائل أن يسأل عن اختصاص الأولى بقوله: (يكذِّبون، والثانية بقوله: (في تكذيب) ؟ الجواب أن يقال: إنّ معنى قوله: (يكذبون وهم في تكذيب واحد، واختلف اللفظان لاختلاف الفواصل في السورتين، ألا ترى أنّ قبل الأولى: (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1353 يكذبون) ، وكانت الفواصل التي تقدّمتها على (يفعلون) ، فجعلت هذه تابعة لها مع صحة المعنى واللفظ. والثانية في فواصل مردفة بياء أو واو وهي قوله: (هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط) صحة اللفظ والمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1354 سورة البروج ليس فيها شيء إلا ما ذكرنا (2) . سورة الطارق إلى البلد ليس فيهن شيء من ذلك.. سورة البلد الآية الأولى منها قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) . للسائل أن يسأل عن تكرير (البلد، وجعله فاصلة بين الآيتين؟ وهل ذلك مما يرتَضَى في البلاغة، ويعد من جملة الفصاحة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1355 الجواب أن يقال: إذا عنى بالثانى غير المقصود بالأول من وصف، يوجب له حكما غير حكم الأول كان من مختار الكلام، فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثانى وهو مكة، لأن معناه: أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقوله: (وأنت حلّ) أي محل أحل لك منه ما حرم على غيرك، فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيما له، وهو معْ أنه محرم على غيرك، محلّل لك إكراما لمنزلتك، فالبلد في الأول محرّم، وفي الثاني محلّل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحل له قتل من رأى قتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1356 حين أذن له في قتال المشركين، فأمر بقتل ابن خطل صبرا وهو متعلق بأستار الكعبة، ولم يحلّ لأحد قبله ولا يحل لأحد بعده ما أحلّ له. وإذا كان كذلك صار الثاني معنياّ به غير ما عني بالأول، فكأنه ذكر وصفا غير وصفه المتقدم، فجمع فوائد من تعظيم البلد، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - (حيَن أبيح له ما حظر منه على سواه، وقيلْ أحلت له ساعة من نهارولم تحل لغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1357 الآية الثانية منها قوله تعالى: ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد) . وقال بعده في سورة التين: (وهذا البلدِ الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسنِ تقويم) . للسائل أن يسأل عن اختلاف ما بعد: (لقد خلقناالإنسان في الموضعين، وصلة الأول بقوله: (في كبد، والثاني بقوله: في أحسن تقويم؟ والجواب أن يقال:) قوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فيه أقوال: أحدها: في شدة ونصب يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1358 وسائرُ الحيوان كالمنكبّ على وجهه غير منتصب والثالث: هو مخلوق في شدة أمر تكونه أولا في الرحم في ظلمات ثلاث، ثم ينتقل إلى القِماط والرّباط، ثم هو عند البلوغ على الخطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1359 العظيم يقوده إليه عمله من جنة أو نار، فالدنيا له دار كَبَد والآخرة له دار راحة ونعمة إنْ وافاها، بما كلّف من طاعته. والرابع: أنه خلق في بطن أمه ورأسه قِبل رأسها منتصباً كانتصابها، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل، فيخرج رأسه قبل رجليه، وقد تخرج رجلاه قبل رأسه، وذلك نادر، والأولْ عام شائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1360 فهذه الأوجه الأربعة تعم جميع الناس لا يستثنى منها أحد منهم، ثم خص بعض الكفار بالذكر عن هذا العموم، فقال: (أيحسب أن لن يقدِر عليه أحد) ،. فلما تقدم القَسم ب (.. والد وما ولدَ) وفيه قولان: أحدهما آدم وولده، والقول الثاني: كل والد وكل مولود، قرن إلى القسم العام بما يشبهه من الجواب العام. وأما قوله: (والتين والزيتون) ، فقد قيل فيهما إن التين: دمشق والزيتون: بيت المقدس، وقيل: جبل عليه دمشق، وجبل عليه بيت المقدس. وقيل: مسجدان، فالتين مسجد نوح عليه السلام، والزيتون مسجد دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1361 وقيل: التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يعصر، فالقَسَم واقع بأشياء مخصوصة من بقاع أو غيرها، فعُلِّق بجواب وقع فيه تخصيص بالاستثناء، وهو: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفلْ سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات..) ، أي خلقناه في أحسن صورة ثم رددناه - يعني الكافر - إلى أقبح صورة حين حطّ عن الخلق الأول إلى المحطّ الأسفل، فصار في أوحش منظر بعد أن كان في أحسن صورة. وقيل: "في أحسن تقويم أي في خلقة قويمة ودلالة على طريقة مستقيمة. ثم رددناه إلى أرذل العمر، وهو الضعف الذي يفقد معه العلم، ولا يملك فيه إقامة الطاعات، والثبات على العبادات إلاّ المؤمنين، فإنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1362 يوَفون أوقاتِ العبادات التي كانوا يقيمونها إذا لم يقدروا مع الضعف الذي نقلهم الله تعالى إليه أجرهم، يدل على ذلك قوله تعالى: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) . وإذا كان معنى الآيتين ما ذكرنا، لاق بكل من القسمين الجوابُ الذي جاء له. ويمكن أن يجاب عن الفرق بين الموضعين بالفواصل، لأن القسم في سورة البلد بهذا اللفظ، وهو قوله: (ووالدٍ وما ولد) . الشمس والليل والضحى ليس في الشمس والليل والضحى شىء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1363 سورة ألم نشرح الآية الأولى منها: قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . للسائل أن يسأل عن فائدة تكرراه؟ والجواب أن يقال: إن الله تعالى وعد في عسر أن يعقبه بيسرين، وأن من كان في شدة قطعها عنه إلى نعمة بعد نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب عسر يسرين ") ، لأن العسر لماّ أعيد لفظه معرّفا كالأول لم يكن إلاّ إياه، ويسر لماّ أعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1364 لفظه نكرة كان غير الأول، وإذا لم يكن ذاك لم يكن لفظه تكرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1365 سووة التين قد تقدم ما فيها. سورة العلق الآية الأولى منها. قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق. للسائل أن يسأل عن تكرير خلق؟ والجواب أن يقال: إنّ قوله (خلق بعد الذىِ عام في المخلوقات كلها، سمائها وأرضها، ثم استأنف التنبيه على خلق المخاطبين أنفسهم فقال: (خلق الإنسان من علق) أي: عرف انقلابه من حال الدم إلى ما يشاهد لِتعرف حاله الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1366 التي ليست بأبعد فى نفسك من هذه الناشئة، وإذا كان كذلك سلم من التكرار. والله أعلم. القدر والبيّنة إلى "القارعة ليس في ((القدر والبيّنة إلى "القارعة) شىء عن ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1367 سورة التكاثر الآية الأولى منها: قوله تعالى: كلا سوف تعلمون ثم كلاّ سوف تعلمون) . ، للسائل أن يسأل عن تكرير اللفظين؟ والجواب أن يقال: إن أحدهما توعد غير ما توعّد به الآخر، فالأول توعّد بما ينالهم في الدنيا، والثانى توعّد بما أعدّ لهم في الأخرى. وقيل: الأول ماْ يلقونه عند الفراق إذا بشّروا بالمصير إلى النار، والثاني ما يرونه من عذاب القبر فكلاهما عذاب فى الدنيا، إلاّ أن أحدهمَا غير الآخر وهو مثله في الشدة، فلذلك أعيد بتلك اللفظة. وإذا حمل على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لم يكن تكرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1368 العصر ـ إلى الكافرين ليس فى العصر ـ إلى الكافرين شىء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1369 سورة الكافرين إن سأل سائل عن التكرار في هذه السورة فالجواب أن يقال: قد أجبنا في (جامع التفسير) عن ذلك بأجوبة كثيرة، فنذكر (منها واحدا في هذا الموضع، وهو أن يقال: معناه لا أعبد الأصنام لعلمي بفساد ذلك، ولا أنتم تعبدون الله لجهلكم ما يوجب عليكم، ولا أعبد آلهتكم لتعبدوا الله مناوبة بيننا، ولا أنتم تعبدون الله من أجل أن يكون سبقت مني عبادة آلهتكم، وذلك أن المشَركين قالوا له - صلى الله عليه وسلم -: اعبدْ سنةً ما نعبدُ، ونعبدُ سنةً ما تعبد، ونشرك نحن وأنت في أمرنا كله، فقال في الأول: لا يكون مني عبادة الأصنام لعلمي ببطلانها، ولا تكون منكم عبادة الله لجهلكم بأنه وحده هو الذي تحقّ له العبادة. وقال في الثانى ما نفى العبادة التي دعوا إليها مناوبة منهم، فلم يقع تكرار على هذا الوجه، ولا على الأوجه الأخر التي ذكرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1370 فى "جامع التفسير. ليس فيما بعدها إلى سورة "الناس شيء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1371 سورة الناس للسائل أن يسأل عن تكرير الناس في فواصل هذه السورة في خمسة مواضع، وهي ست آيات، قد ختمت أواخر خمس منها ب (الناس، وواحدة ب (الخناس) ؟ والجواب عن ذلك " أن يقال: إنما اتصف الله تعالى أولا برب الناس، ثم ب (ملك الناس، ثم بإله الناس، لحكمة دعت إلى ذلك، وأوحبت تقديم الأول وتعقيبه بالثاني والثالث على الترتيب الذي جاء، لأن ربّ الشيء هو القائم بإصلاحه وتدبير أمره فنبّه بتقديمه على ما ترتب من نعمه على الإنسان لما أنشأه ورباه، وهذه أولى أحواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1372 والثانية إنعامه عليه بالعقل الذى ثبتت عليه ملكته له، فعلم أنه عبد مملوك وأن الذى بلغ به تلك الحال من حد الطفولية هو الذى يملكه وأمثاله، فجعل الوصف الثانى ملك الناس، ولما كان بعد ذلك تكليف العبادات التى هى حق الله تعالى على من عرفه نفسه أنه عبد مملوك وعرفه أنه عليه الصلاة والسلام خالقه وتلزمه طاعته ليلتزم غاية التذلل لمن له أكبر الإنعام والتطول جعل الوصف الثالث " إله الناس " فصار الناس الذين أضيف لهم رب كأنهم غير الناس الذين أضيف إليهم ملك والذين أضيف ملك غير الذين أضيف إليهم إله، وإذا أريد بالثانى غير الأول لم يكن تكرارا بل يكون كأنه قال: قل أعوذ برب الأجنة والأطفال الذين ربهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1373 ورباهم وقت الإنشاء والتربية، وحين لم يقدر آباؤهم لهم على التغذية وبمن بلغ بالوالدين حدا عرفوه فيه بالملكة وأنفسهم بالعبودية، ثم إله المكلفين المعرضين لأكبر النعم وهم الذين بلغوا وقاموا بأداء ما كلفوا فترتيب الصفات تنبيه على أن المراد بالناس ذوو الأحوال المختلفة فى الصغر والترعرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1374 والبلوغ، فسلم على ذلك من التكرار، ويتضمن هذا المعنى اللطيف الذى دل عليه ترتيب الصفات تعالى الله وكلامه عن المعاب وقوله " الذى يوسوس فى صدور الناس " فالمراد بالناس الأول الأبرار وبالناس الثانى الأشرار فكان المعنى الذى يوسوس فى صدور الناس الأخيار من الجن وأشرار الناس فقد صار المعني بالآخر فكأنه غيره وإن كان الجنس قد جمع هذا كله. اهـ هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التى يقصد الملحدون التطرق منها إلى عيبها، والحمد لله وحده وسلامه على سيد البشر محمد وآله وأصحابه الطيبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1375 الطاهرين صلاة زاكية نامية دائمة إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1376