الكتاب: أعيان العصر وأعوان النصر المؤلف: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ) المحقق: الدكتور علي أبو زيد، الدكتور نبيل أبو عشمة، الدكتور محمد موعد، الدكتور محمود سالم محمد قدم له: مازن عبد القادر المبارك الناشر: دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان، دار الفكر، دمشق - سوريا الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1998 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أعيان العصر وأعوان النصر الصفدي الكتاب: أعيان العصر وأعوان النصر المؤلف: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ) المحقق: الدكتور علي أبو زيد، الدكتور نبيل أبو عشمة، الدكتور محمد موعد، الدكتور محمود سالم محمد قدم له: مازن عبد القادر المبارك الناشر: دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان، دار الفكر، دمشق - سوريا الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1998 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب. الحمد لله الذي حكم على أهل الوجود بالعدم، وقدره عليهم بالقدم، وقضى به على الخلق فما أفاد معه محاذاة حذر ولا مناداة ندم، وأورد الموت على فناء أعمارهم فانهد وبناء أبشارهم فانهدم. نحمده على نعمه التي فسحت مدة الأجل، ومنحت تراخي المهلة ولم تؤثر العجل، ونزحت القلوب إلا من الأمن، ودفعت ما عظم وجل من الوجل. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي الذخر يوم الفاقة، والحق أن لا ترد يوم المحاقة، والفارط الذي قدمناه ونحن نرجو لحاقه. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي حذر معاطب الغرور، وبصر عواقب السرور التي تليها الشرور، وأظهر كواكب الحق فهي في فلك البدور تدور، فهو الذي. لم أجر غاية فكري منه في وصفة ... إلا وجدت مداها غاية الأبد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الذين كانوا شجى في لهوات من كفر، وكان الباطل بهم دجى حتى جلوا الحق فلاح صباح الفالح بهم وسفر، وراضوا الزمان فاستقاد لهم من بعد ما تقاعس ونفر، ورآهم الزمان جمال هذه الأرض في الحياة، وبعد الممات جمال الكتب والسير، فهم الذين سجع الحمام بمدحهم وصدح، وشرح الخاطر وصفهم لما جال في سرد مناقبهم وسرح، وإياهم أراد ابن الرومي لا من خاطبه ومد المدى لما مدح، إذ يقول: آراؤكم ووجوهكم وحلومكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم صلاة لا يمل الزمان دوامها، ولا يرى الدهر انصرافها وانصرامها، ما نبت في رياض الدياجي نرجس نجوم، وراحت أطيار الدراري على نهر المجرة وهي تحوم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وبعد: فإن الوقوف على أخبار من تقدم، وخرب ربع عمره بالموت وتهدم، ووصف في حياته أو غادر للشعراء في رثائه لما تردى ما تردم مما تتشوق النفوس إلى الوقوف عليه، وتتشوف بجملتها إليه، فإنه: في الذاهبين الأولين لنا بصائر. وفي آثار من درج وأخباره أدلة للتأسي وأمائر، وفي التفكر في مصارعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ما يصلح الظواهر والضمائر، وقد حض القرآن على مثل هذ وحث، ورم بوعظه ما رق من القسوة ورث. والتاريخ فن لا يمله طرف مطالع، ولا يسأمه سمع مصغ ولا مراجع، ولا يخلو من يقف على التواريخ من فائدة، ولا يطوي صحفها إلا وقد حصل منها على صلة وعائدة، ولا تمر به كائنة إلا تنبه لها وأجراها على ما في ذهنه من القاعدة، وما كان التراجم في التواريخ إلا كتاب ورد من غايب، أو خبر جاء به نجاب إما بالمحاسن أو بالمعايب: فلا تبخلوا مع بعدكم بوجوهكم ... علينا ألا إن الوجوه هي الكتب فكم قد سمعنا بموجود ولم نتبين حاله، ولا عرفنا حقه ولا محاله، ولا علمنا ما تصف به من ذم أو مدح، ولا ما لاتحف به من موجب شكر أو قدح، وربما كان للإنسان قريب وقد درج، أو لزم وقد دخل هذه الدار وخرج، ولا علم له بما عامله به زمانه، ولا ما أحدث له حدثانه: وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب فإذا راجع التواريخ كان كمن شاهد من مضى، وعاين ما جرى به عليه القدر وقضى، وأنا أرى التأريخ والترجمة معاداً ثانياً في المعنى لا في الوجود، ونشراً أول قبل نشر الرفات إلا أنها لم يفض عنها ختم اللحود. وكنت قد أنفقت مدة من العمر ما وجدت لها عوضاً، ولا حسبتها إلا لمعة برق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أومض لي ومضى، في جمع تاريخي الكبير الذي سميته الوافي بالوفيات، وسقت فيه ذكر جمل من الأعيان من زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى زماني، ونصبت فيه نفسي دريئة لمن طعن في أو رماني، إلا أنه جاء مطولاً، وأصبح وجه مضمونه عن الاقتصار والاختصار مخولاً، فأردت بعد فراغي منه أن أقتصد وأقتصر، وأختار مما أمتار وأختص وأختصر، وأجمع تاريخاً لمن أدركه عصري وجنى ثمر غصنه هصري، وضمتني وإياه دائرة وجودي أو نقطة مصري، وكان في زماني ولم أره، أو نقل الرواة الأثبات خبره: أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تداني وتنظر للهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني وما أحسن قول الآخر: قال لي قائل لأية حال ... ترقب البدر ثم تهوى سواه قلت إما لشبه من حجبوه ... أو لأني أراه وهو يراه وابتدأت ذلك من سنة ست وتسعين وست مئة، وهي سنة مولدي، ونهلة موردي، وجذوة موقدي، وبدأة موعدي. ورتبت أسماء من فيه على حروف المعجم، وأدمت غيث فوائده الذي انسجم وجعجعت بفارس الإطناب فيه، فكر وما فكر، وحج وما أحجم. وهو شيء جمعته لنفسي لا لأحد من أبناء جنسي، وجعلته لي رأس مال، وبضاعة ضمت الحلل المرقومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والبرود الأسمال، فمن رآه كثيراً وما حل من قبله محلاً أثيراً، أو قابل صفحات وجهه بالإعراض، أو أرسل سهام نظره فما أصابت منه الأغراض؛ فذاك أمر به علي قضى الباري، وشيء جرى به القلم وما هو إلا كالجبانة أزور فيها قبور أصحابي، وأتردد منها إلى أجداث أترابي وحبابي، وألتف في أكفان شيبي الذي نزل بي وأقسم أنه ما يرحل إلا بي، فقد ذكرت فيه جماعة رأيتهم وما راءيتهم، ودانيتهم حق الصحبة وما داينتهم، ورثت حبال صبري التي ورثتها لما رثيتهم، ممن انتفعت بعلومهم، ورفعت بين نجومهم، وشركت بعضهم في ماله، وتركت النظر إلى البدر لأنه ما فاز بمثل جماله، ولا حاز مثل كماله: ومعاذ الغله أن أتعزى ... عنه طول الزمان أو أتسلى فكم فيمن ذكرته من جرعني ما غصص، وجرعني رداء الصبر وقلص، وتقدم أمامي وهو يقودني إلى حفرتي بزمامي، وغادرني بعده وحيداً، وأخذ حظي معه وراح. وأهل هذا العصر يريدون شيئاً جديداً، ولله أبو عبادة البحتري حيث يقول في رثاء المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان: أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي مضوا أمماً قبلي وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير والي منبج والله أسأل أن يجمعنا في دار كرامته، ويمد علينا ظل لطفه ورحمته، ويجرينا على ما ألفناه وألفناه من نعمته: وإن استطع في الحشر جئتك زائداً ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 اعترضت بهذه الجملة، وزدت هم القلب هذه الحملة، فإنها من المصدور نفثة، واستراحة في نصف الطريق ممن أعيا ولبثة. وأعود إلى ما كنت فيه، وأفي له بحقه وأوفيه، فأقول: وقد كنت رأيت فيما وقفت عليه من أخبار الوزير أبي الوليد أحمد بن زيدون المغربي أنه لما كان بقرطبة وزيراً توفيت ابنته، ولما فرغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الموقف عبارة قالها لأحد. قلت: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأراه أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء وأنه ما سمع منه كلمة فيها حرف راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله؛ أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة في معناها وليس فيها راء، وهو كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ: فرس قال: جواد أو سابح أو صافن، أو العدول عن لفظ: رمح قال: قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ: صارم، قال: حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه: إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها التشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون فقد قطعة من كبده: ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقد استعمل الحريري رحمه الله هذا في مقاماته، فهو في كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبي زيد ويحتاج إلى أن يقول: فلما أصبح الصبح، تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى، فتارة قال: فلما لاح ابن ذكاء، وألحف الجو الضياء، وتارة قال: إلى أن أطل التنوير، وحسر الصبح المنير، وتارة قال: حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعي الفلاح، وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته، وهذا كثير في مقاماته، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة رحمه الله تعالى ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدةً معناها من أولها إلى آخرها: يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه، فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عنه هذه النكتة فيه، وقد خطر لي أنا مثل ذلك عند ذكر وفاة كل من الأعيان الذين أذكرهم في هذا التأريخ، فإن اتفق لي مثل هذا فهو بحول الله وقوته، وإنقاذ الجبان من دحض هوته، وإلا فعذر المزلة في هذا المقام واضح، والإقالة من عثرته أمر راجح، وأعوذ بالله من إعجاب المرء بنفسه، وجره رداء الخيلاء وهو حقير في نوعه وجنسه. وقد سميت الكتاب عندما أردت وضعه، وقصدت تأليفه وجمعه أعيان العصر وأعوان النصر، وبالله الاستغاثة والاستعانة، وطلب الإنابة إليه في الإعانة على الإبانة والعياذة مما نحن به في هذا الزمان من الزمانة، إنه ولي الخيرات في الدنيا والآخرة سبحانه، عليه توكلت وإليه أنيب. بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حرف الهمزة أباجي الأمير سيف الدين، النائب بقلعة دمشق. أول ما عرفته من شأنه وألفته من ترفع مكانه أنه كان في أعداد أمراء حلب، وصاب بعد ذلك مآله إلى دمشق والمنقلب. أظنه جاء إلى قلعة دمشق بعد موت الأمير علاء الدين مغلطاي المرتيني نائبها، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وضبط أمر القلعة طبطاً تاماً، وحفظ أمرها حفظاً عاماً، خصوصاً في وقعة بيبغاروس ومن بغى معه من تلك الروس، لأنه حصنها، جمّلها بآلات الحصار وحسّنها، وصابر أولئك الغاوين، ولم يتحيز إلى فئة الباغين، فشكر لذلك مقامُه، وزاد في القلوب احترامه. وهو زوج أخت الأمير سيف الدين طشبغا الدوادارِ، وكان شيخاً طُوالاً ذا رواء، وقوامٍ يحاكي القناةَ في الاعتدال والاستواء. وقد قربَ منه الأجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وتدلّى، ووصل إلى النقا ولم يبق إلا المصلى، ولم يزل على حاله إلى أن نزل من القلعة على ظهره، وانحطّ بعد الرفعة إلى قعر قبره. وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت عاشر شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. إبراهيم بن أحمد بن هلال القاضي برهانُ الدين الزرعي الحنبلي، ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بدمشق. مولده سنة ثمانٍ وست مئة، ووفاته في نصف شهر رجب الفرد يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. لم يحصد الموت من زرعٍ له نظيراً، ولا اجتلى الناس من حوران مثله قمراً منيراً، أتقن الفروع، وبهر فيها من الشروع، وجوّد أصول الفقه وشغل فيها الناس، وأوضح لهم فيه ما حصل من الإلباس، وبرع في النحو وظهر، ومارس غوامضه ومهر، وقرأ الفرائض، وأتى فيها وحده بما لم يأتِ به ألف رائض، اشتغل في الحساب، وغني بذهنه الوقاد عن الاكتساب، وكتب المنسوب الفائق، وسلك فيه أحسن الطرائق، وكان الناس يأتون إليه بالمجلدات ليكتب عليها أسماءها، ويُزينَ بكواكب حروفه سماءها، رغبةً في حسنِ خطه ليقوم مقامَ الفواتح المذهبة، والأعمال التي هي لأهل الصنائع متعبة. ولقد كان قادراً على حكاية الخطوط المنسوبة، والطرائق التي هي عند أرباب هذا الفن محسوبة، فكم قد كمّل من مجلد انخرم، وأخمد من نار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 صاحبه الضرم، فإذا رآه العارف لم يُنكر شيئاً من أمره، ولا علم فاسده ولو بحث فيه مدة عمره، والمكاتيبُ الشرعية إلى الآن تشهد له بحسن العلائم، وتمد لعيونِ الكتاب منها موائد وتعمل لهم فيها ولائم. وكان حسن الشكل والعمة، وافر العقل عالي الهمة، ندب في أيام الصاحب شمس الدين غبريال لنظر بيت المال، فأتبى وفكر في العقبى والمال، وكان بصيراً بالفتوى، جيد الأحكام لا يقع منها في بلوى، يتوقد ذهنه من الذكاء والفطنة، ويدرك الغوامض التي مضى الأوائل وفي قلوبهم منها إحنةً، وكان يميل إلى التسري بالأتراك، ويقع معهن في الحبائل والأشراك، فكنت أراه جمعةً في سوق الجواري، وجمعة في سوق الكتب ليجمع بذلك بني الدر والدراري. وتعلم اللغة التركية من جواريه، وتكلم بها فقل من يؤاخذه فيها لما يجاريه. هذا مع براعة في عبارته، وفصاحة في كلامه، وبلاغة في إشارته. أخذ الأصول عن العلامة كمال الدين بن الزملكاني، قاضي القضاة، وجلال الدين القزويني لما كان خطيباً، وغصن برهان الدين المذكور من الشباب رطيباً. ورأيته يحضر دروس العلامة ابن تيمية كثيراً، ويأخذ من فوائده ما شادَ به مجداً أثيلاً أثيراً، يجلس منصتاً لا يتكلف لبحث ولا يتكلم، ويرى أنه يتعلقُ بأهدافه ويتعلم، إلى أن قضى نحبه وسكن تُربه، ولقي ربه، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكان قد درس في الوقف الجديد الذي أوقفه الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية، وكان درساً حافلاً حضره الأعيان في خامس عشري شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودرس بالحنبليّة داخل باب الفراديس عاشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضره القضاة والفضلاء، وأولي نيابة الحكم في مستهل جُمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وأعاد بالمدرسة الصدرية وبالجوزية والمسمارية. إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء القاضي صدر الدين بن الشيخ محيي الدين البصروي الحنفي. درس وأفتى وأعاد وأعان الطلبة وأفاد، ولي قضاء حلب، وأقام بها مدةً يسيرة، فما بلغ ما طلب، ثم توجه إلى مصر وسعى سعياً شديداً وحصل بقضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 حلب تقليداً، وعاد فأدركه الأجل بدمشق، وبطل قلم حياته من الحظ والمشق، وتعجّب الناس من حرضه الذي بلغ النهاية مع ما كان له بدمشق من الكفاية. وولد بصرى سنة تسع وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبعٍ وتسعين وست مئة، في حادي عشر رمضان. إبراهيم بن أحمد بن حاتم بن علي الفقيه أبو إسحاق البعلبكي الحنبلي، شيخ بعلبك. أجاز له نصر بن عبد الرزاق، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن الأواني وابن القبيطي، وعدة. وسمع من سليمان الإسعردي، وأبي سليمان بن الحافظ، خطيب مردا. واشتغل على الفقيه اليونيني، وصحبهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كانت له وظائف، ونسخ من العلم صحائف، كتب المغني بقلمه، وأدخله بنسخه تحت علمه، وتفقه لابن حنبل، وكان يرى أنه في مذهبه من غيره أنبل، مع تواضع، لا يترفع، ولا يتعرف إلى الكبر ولا يتفرع، يبدأ من يلقاه بالكلام، ويعامل الناس بالانقياد لهم والاستسلام، إلى أن وافاه حمامه وانمحق من بدره تمامه. وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين وست مئة، ووفاته - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. إبراهيم بن أحمد بن عيسى بن يعقوب العلامة، شيخ القراء والنحاة، أبو إسحاق الإشبيلي الفافقي. شيخ سبتة، حمل صغيراً إلى سبتة، وسمع التيسير من محمد بن جوبر الراوي عن ابن أبي جمرة، وسمع الموطأ والشفا وأشياء. وأكثر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أبي عبد الله الأزدي سنة ستين، وقرأ بالروايات على أبي بكر بن مشليون، وقرأ كتاب سيبويه على أبي الحسين بن أبي الربيع. ساد أهل المغرب في لسان العرب، وبلغ من النحو غاية الأمل وأقصى الأرب، وألف كتاباً في شرح الجمل، وانتهى فيه إلى ما رامه من الأمل، ووضع مصنفاً في قراءة نافع، ونفع بذلك كل كهل ويافع، واصبح قلبُ أهل الشرق وهو خافق من التطلع إلى شيخ غافق، وسكن لما ظعن من بلده في مدينة سبتة، وقطع بها جمعه عمره وسبته، حتى قضى نحبه، وكدّر الموت من الحياة شربه. وولد سنة إحدى وأربعين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة عشرة وسبع مئة. إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن أحمد الشيخ الفقيه، الإمام الصالح، الخير المعمر، عز الدين العلويّ الحسيني الغرافي، ثم الإسكندري، الشافعي الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 سمع بدمشق سنة اثنتين وخمسين من حليمة حفيدةِ جمال الإسلام، ومن الباذرائي ومن الزين خالد. وسمع بحلب من نقيب الشرفاء، وأجاز له الموفق بن يعيش النحوي، وابن رواج، والجميزي، وجماعة. وحدث وهو ابن بضعٍ وعشرين سنة، وأخذ عنه الوجيه السبتي. كان يرترق بالنسخ، وعنده في ذلك ثبوتٌ ورسخٌ، مع زهد ونزاهة، وتقدم عند أهل الخير ووجاهة. وكان أصغر من أخيه الشيخ تاج الدين الغرّافي بعشر سنين. ولما توفي أخُوه صار هو في المشيخة مكانه، وأسمع الحديث وشيد أركانه، وولي مشيخة دار الحديث النبهيّة مكان أخيه، وسلك طريقه في تأنّيه وتراخيه. قيل: إنه حفظ وجيز الغزالي، وأحرز ما فيه من اللآلي، وحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إيضاح أبي علي، وأصبح يسردُ ما فيه وهو مليّ، وكان معين الدين المصغوني يقوم بمصالحه، ويعينه بقضاء حوائجه ودفع حوائجه، إلى أن فرغ مدى عمره ووصل نهاية أمره. ولد بالثغر سنة ثمانٍ وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر المحرّم سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. وهو من ذريّة موسى الكاظم رضي الله عنه. إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي الشيخ الإمام القدوة المذكر القانت، أبو إسحاق الرقي الحنبلي، نزيل دمشق. تلا بالروايات على الشيخ إبراهيم القفصي، وصحب الشيخ عبد الصمد ابن أبي الجيش، وعني بالتفسير والفقه والتذكير، وبرع في الطب، وشارك في المعارف، وله بالوعظ إلى القلوب أيادٍ وعوارف، وكان يشير في كلامه إلى لطائف مُحركة، ويُهدي بعبادته إلى السامعين فوائد بين النفوس والتقوى مشركة، طالما أجرى دمعاً، وخرق بالموعظة سمعاً، وجر لمن انتصب له رفعاً، يهز الأعطاف إذا لفظ، ويحرك القلوب الغافلة إذا وعظ، على رأسه طاقية وخرقة صغيرة، ونفسه غنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عن الملوك وإن كانت حالته فقيرة، صُنع له منزلٌ تحت المئذنة الشرقية بالجامع الأموي من دمشق، فلازمه إلى أن شالت نعامتُه، وسكنت بعد ذلك التذكار نامته. وله نظمٌ يترقرق، ونثرٌ بالبلاغة يتدفق، وربما كان يحضر السماع، ويجد الناسُ به مزيد انتفاع، وحضوره بأدب ووقار، وسكون لا تحرّكه نشوة العقار. وألف تفسيراً للفاتحة، وأتى فيه بكل فائدةٍ سانحة، وله تواليفُ ومختصرات، وتصانيف على المحاسن مُقتدرات. ولد سنة نيفٍ وأربعين وست مئة، وتُوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاثٍ وسبع مئة في خامس عشر المحرم، ومن نظمه: يزورُ فتنجلي عني هُمُومي ... لأنّ جلاءَ همِّي في يَديهِ ويمضي بالمسرةِ حين يمضي ... لأنّ حِوالتي فيها عليهِ ولولا أنّه يعدُ التلاقي ... لكنتُ أموتُ من شوقي إليه ومنه أيضاً: لولا رجاءُ نعيمي في دياركمُ ... بالوصلِ ما كنتُ أهوى الدارَ والوطنا إن المساكن لا تحلو لساكنها ... حتى يشاهدَ في أثنائها السكنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 إبراهيم بن أحمد بن ظافر القاضي برهان الدين البرلسي، بضم الباء الموحدة والراء وتشديد اللام وبعدها سينٌ مهملة. كان فقيهاً وبينَ أهلِ العلم وجيهاً، يُعين في قضاء القُضاة، ويُحبه كلّ من أهلَ مذهبه ويرضاه، وتجمّل به مذهب مالك، وتكمل به نور القمر في الليل الحالك. وكان ناظرَ بيت المال بالقاهرة، ونجوم أموال النجوم به زاهرة، ولم يزل على حاله إلى أن لقي ربّه، ونوله ما أحبه. ووفاته في شهر رمضان صفر سنة ثمانٍ وسبع مئة، وولي مكانه في نظر بيت المال القاضي نور الدين الزواوي نائب المالكي. إبراهيم بن أحمد بن أبي الفتح بن محمود القاضي الصدر شرف الدين ابن الشيخ العالم الكاتب كمال الدين ابن العطار. كان قد باشر جهاتِ أخيه عندَ موته، وهي نظر الأشراف، ونظر البيمارستان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الصغير، ونظر المدرسة الظاهرية، وبقي على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى في تاسع الحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده بالكرك في الجفل سنة سبع مئة، وكان شكلاً حسناً. إبراهيم بن أحمد القاضي الرئيس الكبير جمال الدين، رئيس الأطباء بالديار المصريّة، المعروف بابن المغربي، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في مكانه. لم يكن لأحدٍ مكانه عند السلطان الملك الناصر، ولا عُقدت على مثل سعادته الخناصر، يدخل إلى السلطان في كل يومٍ على الشمع، فيشتمل عليه بالبصر، ويصغي إليه بالسمع، ويحكي له ما جرى في بارحته عند الحريم، وما اتفق له مع آرامِ وجرة وغزلان الصريم، ويُفضي إليه بأسرارٍ لا يُودعُها سواه، ويقضي له كل ما وافق آفاق غرضه ولاءم ولائم هواه. وكان فخر الدين ناظرُ الجيش يضيق منه ذرعُه، ويذوي من سُموم تعديه عليه زرعه. وكانت إشاراته عند سائر أهل الدولة مقبولة، وطباعُهم على ما يراه من العزل والولاية مقبولة، وقل أن يكونَ يومُ خدمة وما عليه تشريف، ولا لهُ فيه أمرٌ في تجدد السعد ولا تصريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وحاول جماعة ممن هو قريب من السلطان إبعاده، وتعبَ كلّ منهم فما بلغه الله قصده ولا أتم له مراده: إذا أنت أعُطيت السعادةَ لم تُبَل ... ولو نظرت شزراً إليك القبائلَ ولم يزل على حالهِ إلى أن حشرج، ولم يكن له من ذلك الضّيق مخرج، ووصل الخبرُ إلى دمشق بوفاته في أواخرِ ذي القعدةِ سنة ست وخمسين وسبع مئة. وكان مليحَ الوجهِ ظريف اللباس، متمكناً من السلطان، أراد القاضي شرف الدين النشو أن يُنزله من عين السلطان بكل طريق فلم يتجه له فيه عمل، فعمل أوراقاً بما على الخاصَ من الدّيون من زمان من تقدمه وذكر فيه جملاً كثيرة باسم القاضي جمال الدين ابن المغربي، من ثمن رصاصٍ وبرّ وحرير وغيره، ودخل وقرأ الأوراق على السلطان، ليعلم أنّ له أموالاً متّسعة يتكسّب فيها ويتّجرُ على السلطان، وأعاد ذكر جمال الدين مرّات، فما زاد السلطانُ على أن قال: هذا القاضي جمالُ الدين، لا تؤخر له شيئاً أطلع الساعة وادفع له جميع مالهِ. وكان قد توجه مع السلطان إلى الكرك، وأقام عنده يخدم حريمه، وحظاياه وخواصّه من مماليكه وجواريه في أمراضهم. وكان يدخل إليه كلّ يوم على الشمع قبل كل ذي وظيفة راتبة من أرباب الأقلام، ويسأل عن مزاج السلطان وأحواله وأعراضه في ليلته، ثم في بقية أمراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الدور والحريم والأولاد، ويسأله عن أحوال المدينة وما تجدد فيها وما لعله لوالٍ أو أمير أو قاض أو مُحتسب إلى غيرهم من الرعايا، فيُطلعه على ما عنده ويسمعه السلطانُ منه قبل الناس كلهم، وصار لذلك يُخشى ويرجى، ولا يقدرُ أحد يردُّ له شفاعة، وقل أن يمرَ يومَ خدمةٍ وما رأيته قد لبس فيه تشريفاً إمّا من جهة السلطان، أو من جهة الدّور الدولة الكبار، أو من جهة السلطان، أو من جهة بنات السلطان، أو من جهة أمراء الدولة الكبار، أو من جهة خاصكية السلطان، وهذا أمر زائد عن الحد، هذا إلى ماله من المعلوم الوافر، وأنواع الرواتب، وكل من يُزكى في الطب بالشام ومصر، وما له من الأملاك والمتاجر، ولعل هذا لم يتفق لغيره، ولا في المدة، ولا في المادة، ومع ذلك فكان مُقتصداً في نفقته على نفسه وعلى عياله، فما كان في مصر إلا قارون هذا القرن: " ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون ". إبراهيم بن أحمد بن محمد بن سليمان القاضي أمين الدين ابن القاضي شهاب الدين بن غانم كانت الإنشاء بدمشق، وهو من بيت رياسة وكتابة إنشاء، وسيأتي ذكر جماعةٍ من أهل بيته في هذا التاريخ، كل واحد منهم في مكانه. كان هذا أمين الدين ينظم البيتين والثلاثة، ويُجيد في بعضها لما لهُ في البلاغة من الوراثة، ويندرُ له النصف والبيت، ويُطربُ به الحي والميت، لأنه كان قريحته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 نظامة، وموادّه من العلم ما خالطت لحمه ولا عظامه، وكانت تقع له في أثناء المحاورات ألفاظ على طريقِ الاتباع، يخلصُ من خصومه فيها بالباع والذراع، وكان خفيفَ الروح لدى المجالس، يخلط جدّ الملائك بمجون الأبالس، وله على بلوغ مآربه قدرةٌ وتمكنٌ، وفي التوصل إلى مقاصده ذلة وتمسكن، قد جبل الله على ذلك طباعه، وألف الناسُ في ذلك لطفه وانطباعه.. ولم يزل على حاله إلى أن خانت الأمينَ منيتُه، ووارت قامتهُ حنيتُه. وتوفي، رحمه الله تعالى، في بكرةِ الاثنين ثالث جُمادى الآخرة سنة إحدى وستين وسبع مئة، جوا باب الفرج بدمشق، ودفن بالصالحية من يومه. ومولدُه تقريباً في سنة سبع وتسعين وست مئة. دخل إلى ديوان الإنشاء بدمشق سنة تسعٍ وعشرين وسبع مئة. وكان والده في مدةِ مقامهِ بالديار المصرية عند القاضي فخر الدين ناظر الجيش يطلبه فيتوجه في كل سنة إلى زيارةِ والده، ويعُود على البريد بعناية القاضي فخر الدين، وكان فيه كيس ودُعابة، وعنده عشرة ولطف، وإذا كان له أربُ في شيء توصل إليه بكل طريق وناله، وإذا فرغ أربُه شرد وقطع الرسن، وما يعود يلوي على إلفٍ ولا وطن، فكنا - جماعة الديوان - نعرف ذلك منه، وأنه متلونٌ ذو استحالة. وكنتُ في وقت عزمي على الحج في سنة خمس وخمسين وسبع ومئة قد اتفق معي ومع القاضي ناصر الدين كاتب السر بالشام على أنه يحُجّ معنا، وأعطانا على ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 مواثيق وعهوداً، فلما حقت النهضة غاب عنا، ولم نظفر به، فلما عدت من الحج كتبتُ إليه من الطريق: أفدي الذين غدتْ محافظتي على ... ميثاقهم دونَ الورى تغيريني قالوا استحلتَ وخنتَ عهدكَ قلتَ ما ... أنا في محبتكم أمينَ الدين ذاك ابنُ غانم يَستحيلَ ويستحي ... أن لا يراه الدهرُ غير خؤون إلا أنه كان فيه كرمٌ وجود وتواضع واعرافٌ بالتقصير في فنه، وكان في وقتٍ قد كتب إلى القاضي ناصر الدين كاتبِ السرّ الشريف ونحن بمرج الغسولة أبياتاً فكتب جوابهُ القاضي ناصرُ الدين في وزنه ورويه، ومن جُملة الجواب: أيا من غدا يستوعبُ الوقتَ مدحهُ ... لنقص فعالٍ وهو قولٌ مُلفقُ إذا ما شكرتَ الله زاداكَ رفعةً ... فشكرك إياهُ شعارٌ موفق تسود أوراقاً وتكتبُ مأثما ... ويظهرُ منك القولُ وهو مُزَوّق ونظمُك عندي جوهرٌ ونظامُهُ ... بليغٌ وهذا النظمُ بالصدق أليقُ فتأذى أمينُ الدين وقال: قد تبتُ عن نظم الشعر، فكتبُ أنا إليه ارتجالاً: تاب أمينُ الدين من نظمه ... وخلصَ الأقوام من ذمهِ فقال لا عُدتُ إلى مثلها ... فقلتُ لم تهربُ من سهمهِ فقال لي والله لو أنه ... مسك لما ملتُ إلى شمهِ فقد كفى ما نلته من أذىٍ ... وما التقى قلبي من همهِ وكتب إليه القاضي ناصرُ الدين أيضاً في ذلك: إن كان قد تاب بلا مرية ... وأحسنَ التوبة من جرمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقدمَ الإخلاص في فعلهِ ... وقوله دل على حزمه منها: وإن أعاد القولَ فيما بدا ... منهُ ولاح الزيف في نظمه فإنني مستأنفٌ همةً ... في منعه القولَ وفي ذمهِ وكتبت أنا إيه أيضاً: إنّ أمينَ الدّين مذ تابا ... أغلق للأبواب أبواباً وكانت الأعطافُ من نظمهِ ... ونثره تهتزُ إعجاباً وكيف ينسى لذةً طالما ... دار لها بالكعبِ دولاباً ما زال مذ شبّ على نظمهِ ... حتى رأينا رأسهُ شاباً وذهنُهُ في كل معنى إذا ... حاولهُ يسبق نشاباً فإن يكن أمسى غشيماً كما ... يزعُم أعطيناهُ ركاباً وكتب أمين الدين إلي، وقد تخلفتُ عنهم في بعض السفرات إلى مرج الغسولة: خليلي ما المرجُ الخصيب بطيبٍ ... إذا لم ير إبراهيمُ وجهَ خليله وما هو إلا مارجٌ بعد بعده ... ولو زارهُ جال الندى بنخيله وكتب إلي وقد حصل لي يرقان: حاشاك من ألمٍ ألمّ بمهجة ... قد مسها ألم من اليرقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وكفيت كل ملمةٍ ومخافةٍ ... ولبستَ ثوبَ سلامةٍ وأمان متمتعاً متنعماً في جلقِ ال ... فيحاء ذاتِ جنى وجنان وترى بها أترابها وكواعباً ... بخدُودهنّ شقائقُ النعمان يا أوحداً في جيله بجميلهِ ... كم في فنون فناك من أفنان منذا يضارع بحر شعرك في الورى ... يا خبرَ علم مالهُ من ثانِ وكنت قد كتبتُ أنا إليه جواباً من رحبة مالك بن طوق في سنة ثلاثين وسبع مئة: كتابك نورٌ صُنته بجفوني ... وتاجُ علاً أعددتهُ لجبيني أتاني فلا والله ما احتجتُ بعده ... إلى أن تُقر الحادثاتُ عُيوني ونفسَ من ضيقٍ برحبة مالك ... أكابدُه من لوعةٍ وحنين فما الطرف إذا أبصرتهُ بمسهد ... ولا القلبُ إذ عاينته بحزين تغازلين ألفاظهُ في سطوره ... بسحر معانٍ من لواحظ عينِ أنظر في منثوره مُتنزهاً ... فأشهدَ سجع الورق فوق غُصونِ غدوت أمين الدين بالفضل باديا ... وفزتَ بسبق في العلاء مُبين بعثتَ مثالاً ما ظفرتُ بمثله ... وحسبك من حسنٍ بغير قرين فما كل حسن مثله بمكمل ... ولا كل در مثله بثمين بضائعه تجلو علينا محاسناً ... ولستَ على هذا أشتاتَ الفضائل دوني أضعتُ أنا فضلي واصبحَ حافظاً ... وكيفَ يضيع الفضل عند أمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليُسر شاكر بن عبد الله الشيخ الأصيل تقي الدين التنوخي. كان من جُملة الشهود، وهو كثير السكون، قليل اللام. سمعَ من السخاوي، وابن قُميرة، وعز الدين بن عساكر، وتاج الدين القرطبي، وغيرهم. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مشيخة ابن شادان الكبيرة وغيرها. وتوفي رحمه الله تعالى سابع جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. إبراهيم بن منير الشيخ الصالح الزاهد العابد البقاعي، المعروف بابن الصياح. كان من كبار الصُلحاء الأخيار، وممن يتفتت المسك حسداً إذا ذكرت عنه الأخبار، له سيماء الولاية، وعليه طلاوة القُرب والعناية، انعزل عن الناس، ووجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في الوحشة الإيناس، انجمع فامتدت له المعارف، وانخزل فأجزلت له العوارف، وكان متوحشاً من نوعه، نافراً عن الذي لا يراه في طوعه، يمشي في الجامع كأنه مُريب، وينفر حتى تقول: هذا غريب، لا يأنس بإنسان ولا يتألف بإحسان، من رآه قال: هذا طافح السكرة، لافح الجمرة، سافح العبرة، جامح الخطرة إلى الحضرة، جانح الفكرة إلى الخلاص من العثرة. ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه فأسرع، واخضر له القبر فأمرى وأمرع. وتوفي رحمه الله تعالى في أول ليلة الأربعاء مستهل المحرم، سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وحمله الناس على الأعناق والرؤوس والأصابع، ودفن بمقابر باب الصغير، وسبب موته أنه استدفأ بمجمرةٍ فاحترق، ودخل حجاب المنون واخترق، وكان له بيت في المئذنة الشرقية يأوي إليه، وكان كثيراً ما يقول: يا دائم المعروف، يا دائم المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً، يا الله. ورثاه الأديب جمال الدين محمد بن نباتة بقوله: على مثلها فلتهم أعيُننا العبرى ... وتطلق في ميدانها الشهبَ والجمرا فقدنا بني الدنيا فلما تلفتت ... وجوهُ أمانينا فقدنا بني الأخرى لفقدك إبراهيم أمست قلوبنا ... مؤججة لا برد في نارها الحرى وأنت بجنات النعيم مُهنأ ... بما كنت تُبلي في تطلبه العُمرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عريتَ وجوعتَ الفؤاد فحبذا ... مساكنُ فيها لا تجوعُ ولا تعرى بكى الجامعُ المعمورُ فقدك بعدما ... لبثت على رغم الديار به عُمرا وفارقتهُ بعد التوطن سارياً ... إلى جنة المأوى فسبحانَ من أسرى كأن مصابيحَ الظلام بأفقه ... لفقدك نيرانُ الصبابةِ والذكرى كانَ المحاريبَ القيام بصدره ... لفرقة ذاك الصدرِ قد قوست ظهراً مضيتَ وخلفت الدّيار وأهلها ... بمضيعةٍ تشكو الشدائد والوزرا فمن لسهامِ الليل بعدك إنها ... معطلة ليست تراشُ ولا تبرى ومن لعفافٍ عن ثراءٍ ثنى الورى ... عبيدَ الأماني وانثنيت به حراً سيعلم كل من ذوي المال في غدٍ ... إذا نصبَ الميزانُ من يشتكي الفقرا عليك سلامُ الله من متيقظٍ ... صبورٍ إذا لم يستطع بشرٌ صبرا ومن ضامر الكشحين يسبق في غدٍ ... إلى غايةٍ من أجلها تُحمد الضمرا أيعلم ذو التسليك أنّ جفوننا ... على شخصهِ النائي قد انتثرت درا وأن الأسى والحزنَ قد جال جولةً ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى ألا ربّ ليل قد حمى فيه من وغى ... حمى الشام والأجفانُ غافلةٌ تكرى إذا ضحك السمار حجب ثغره ... كذلك يحمي العابدُ الثغر والثغرا إلى الله قلباً بعده في تغابنٍ ... إلى أن أرى صف القيامة والحشرا لقد كنتُ ألقاهُ وصدري محرج ... فيفتحُ لي يسرا ويشرحُ لي صدراً والثمُ يُمناه وفكري ظامئ ... كأني منها ألثمُ الوابل الغمرا أمولاي إني كنت أرجوك للدعا ... فلا تنسني في الخلد للدعوة الكبرى سقى القطرُ أرضاً قد حللت بتربها ... وإن كنت أستسقي بتربتك القطرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إبراهيم شاه بن بارنباي هو إبراهيم شاه، وجده سوتاي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف السين. لما فتل طغاي بن سوتاي، على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، قام ابنُ أخيه إبراهيم شاه هذا مقامهُ في الحكم على ديار بكر من جعة المُغل، فتزوج ابنة الملك الصالح شمس الدين صاحب ماردين، ومقامهُ بالموصل، وكان يُظهر المودة لصاحب مصر ويبوء بخلاف ذلك بالإثم والإصر مكراً منه ودهاءً، وفخراً بذلك على غيره وبهاءً. وكانت رسله تفد على الأبواب الشريفة، وتعود إليه بالهدايا والتحف الظريفة، وهو يدعي أنه من جملة من وادها، وقام على من عاداها في وقتٍ أو حادها، فتصل إليه التشاريف الثمينة، والكتب التي تتنزل منها على قلب مثله السكينة. وكان قد قتل عمه طغاي في بعض حُروبه التي اتفقت، وسألت سيول وقعتها واندفقت، ولما وقف عليه قتيلاً نزل إليه وبكى، وحط رأسه على حجره واتكا، واعتذر إليه، وذلك يجود بنفسه إلى مكان رمسه. لا جرم أن إبراهيم شاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ما تهنا بعده، وزار عن قريب لحده، لأنه مرض بالفالج وما نجع فيه مداواة طبيبٍ ولا مُعالج، وبقي قريباً من سنتين على جنبه مُلقى، لا يترفع على عافيةٍ ولا يترقى. وقيل: إن الشيخ حسن بن هندو حاكم سنجار دسّ عليه من سمّه، وأعدمه نسيم الحياة وشمّه. وكانت وفاته في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. إبراهيم بن بركات بن أبي الفضل الشيخ الصالح أبو إسحاق الصوفي البعلبكي الحنبلي المعروف بابن قربشة. أحد الإخوة، شيخ الخانقاه الأسدية بدمشق، وإمام تربة بني صصرى. سمع من ابن عبد الدائم، وعلي بن الأوحد، وابن أبي اليسر، وأبي زكريا بن الصيرفي وغيرهم. وروى الكثير، واشتُهر، وسمع منه جماعة، وأجاز لي بخطّه في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة بدمشق. كان شيخاً ذا شيبة منورة، وشكالة بالمهابة مسورة، حسن المُلتقى لمن يعرفه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كثير الإنصاف لمن اجتمع به وإن كان ما يُنصفه، حلو المذاكرة، ظريفَ المحاضرة، قد صحب المشايخ ورآها، ودخل غاب أسدهم وعراها، عليه أنسُ الفقراء، وحشمة الأمراء. روى عنه علمُ الدين البرزالي في حياته، وغيره. وعاش هو من بعد ذلك وما انقطع سيره، ولم يزل على حاله إلى أن لبس كفنه، ولحدهُ اللاحدُ ودفنهُ. ولد سنة ثمانٍ وأربعين وست مئة، وتُوفي، رحمه الله تعالى، سنة أربعين وسبع مئة بجبل الصالحية. إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيز شمس الدين الكتبي الجزري، المعروف بالفاشوشة، ويُعرف بابن شمعون. كان يّذكر أنّه سمع من فخر الدين بن تيمية. كان يتجر بالكتب باللبادين، ويدخر منها كل ما يطلبه من عاج إلى ملة أو مال إلى دين. وكان يتشيع، ويرى أن عرفه بذاك يتضوع وهو يتضيع. احترقت كتبه في حريق اللبادين المشهور، وذهب له في ذلك خمسة آلاف مجلدة على ما هو مذكور، ولم يبق له إلا ما هو في العرض، أو في العارية التي رمق منها عيشه على برض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 توجه في أيام الكامل بن العادل إلى مصر في تجارة، واتفق أن حضرت بنت بوري المغنية مجلس الكامل وغنت: يا طلعة القمرِ المنيرِ ... من جورِ هجرك من مُجيري فأعجبَ السلطانَ ذلك، وطلب الزيادةَ عليه، فتوجهت إلى شمس الدين المذكور، وسألتهُ الزيادةَ على ذلك، فنظم لها: قسماً بديجُور الشعور ... وبصُبُح أسفارِ الثُّغورِ وبأسمرٍ حُلوِ المعا ... طفِ واللمى أمسى سميري ما للصوارم والقنا ... فعلُ اللواحظِ في الصدور فحضرت عند السلطان وغنّته بالأبيات فأعجبه ذلك، وأطلق لها كل ما في المجلس، ثم إنّ شمس الدين عرض له مرض، فنقلته ابنة بُوري إلى دارها وخدمته إلى أن عوفي، فقالت له: كل ما في هذا البيت هو من إحسانك، وحكت له ما جرى، ومن شعره: قالوا به يبسٌ وفرط قساوةٍ ... وكأنّه في الحالتين حديدُ فأجبتهم: كذباً وميناً قُلتُم ... من أين يشبه طبعه الجُلمود ومياهُ جلقَ كلَّها مُنحازةٌ ... في بعضه فهو الفتى المحمود ألفاظه بردى وصُورة جسمه ... ثورا وأمّا كذبه فيزيد ولد سنة اثنتين وست مئة، وتوفي سنة سبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن محمد بن علي القاضي شمس الدين أبو إسحاق ابن قاضي القضاة نجم الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين، ابن قاضي القضاة شمس الدين بن سنا الدولة. كان مدرس الركنية بدمشق، وعنده انقطاعٌ ومحبةٌ للفقراء. روى عن خطيب مردا، وسمع من الفقير محمد اليونيني. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن شهر ربيع الأول سنة عشر وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة ثمان وأربعين وست مئة. إبراهيم بن حباسة القاضي سعد الدين، مستوفي دمشق وحلب وصفد. كان مليحَ الشكالة، سديد المقالة، درب صناعة الديوان وخبرها، وتمم نقصها وجبرها، وكان - كما كان يُقال - يداً وفكاً، ونحريراً لا يرى النقاد فيه شكاً. ولي استيفاء صفد مدةً، ورأى فيها من السعادة ضُروباً عدة. وتوجه إلى باب السلطان في واقعة سنجر الساقي، وانتصر عليه، وجعل رُوحه في التراقي. ثم إنه نُقل إلى استيفاء حلب، فامترى فيها ضُروع السعادة وحلب، ثم نُقل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 استيفاء النظر بدمشق، وهو على سعده مقيم، وحظه الزائد يستغني عن التقويم، إلى أن فوز، وحصل على ما تحوز. وتوفي رحمه الله تعالى، في ثلاث عشر المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. كان أولاً نصرانياً، وباشر عمالة خان سلار لما عمره الجاولي. قال لي: حصلت فيه خمسين ألف درهم. ثم إنه أسلم وعلم استيفاء صفد، ورأى فيه خيراً كثيراً، ولما وقعت فتنة علم الدين سنجر الساقي بينه وبين الأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، جهزه إلى مصر، فانتصر الساقي عليه قدام السلطان، وجهز الجميع إلى عند تنكز نائب الشام، فتأخر بعده ولحقه، ودخل إلى تنكز وحاققه، فنصره الله عليه. وعاد إلى صفد وأقام مدّة، ثم إنه رُسم له بحلب فتوجه إليها وأقام مدّة، ثم جهز إلى دمشق مستوفي النظر، فأقام بها مدّة إلى أن مات. إبراهيم بن الحسين بن صدقة بن إبراهيم شرف الدين أبو إسحاق البغدادي المخرمي الدمشقي. سمع من ابن اللتي، وأبي نصر بن عساكر، وأبي الحسن بن مقير، ومُكرم بن أبي الصقر، وجعفر الهمداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأجاز له ابن صباح والناصح وأبو الوفاء محمود بن منده. تفرد وروى الكثير وعُمر دهراً، وأصفت له الحياة الشهية نهراً، وكان حسن الأخلاق، تزكو محاسنه على الإنفاق، يؤم في مسجد، ويغير في التسميع وينجد، إلى أن نزل ضريحهُ، وسكن الموتُ ريحه. ولد سنة أربع وعشرين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسعٍ وسبع مئة. إبراهيم بن الحسن بن علي بن عبد الرفيع الرَّبَعي المالكي قاضي تونس. سمع من محمد بن عبد الجبار الرعيني سنة خمس وخمسين كتاب البخاري عن أبي محمد بن حوط الله، وذكر أنه سمع الموطأ عن ابن حوط الله عن أبي عبد الله بن زرقون، قال: وسمعت أربعين السلفي على الفقيه عُثمان بن سفيان التميمي سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ثمانٍ وخمسين عن الحافظ ابن المفضل، وسمعت مقامات الحريري عليه أنا وابن جبير عن الخشوعي. كان بمدينة تونس قاضياً، وبما قُسم له في العلم راضياً، ينتقي وينتخب، ويدخر أجره عند الله ويحتسب. اختصر كتاب التفريغ، وسماه السهل البديع، والكتاب المذكور لابن الجلاب في مذهب مالك. وعمر زمناً طويلاً، ووجدت مدةُ حياته إلى الطول سبيلاً، إلى أن اجتحفه سيل المنية، وقطع من السير لذته الهنية. ولد سنة ست وثلاثين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. إبراهيم بن خالد بن عباس الأنصاري الدمشقي الأمير جمال الدين بن النحاس. كان رجلاً عارفاً بالسعي والتقدّم، والتعمير والتهدمِ، قفز من سوق النّحاس إلى أن صار تُفدى كفه وتُباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وتولى بدمشق ولاية الحرب، وتحدّث في الوصل والقطع والضرب، ولم يزل إلى أن ضعف باصُره، وقل في ذلك ناصُره، وناب عنه ولدُه مدة إلى أن عمي، وجاش صدره بالحقد وحمي، فعزل عن الولاية، وذهبت تلك العناية، ثم إنه لبث مدّة إلى أن ما حمل النحاسُ التطريق، وغص وهي في حلقومه بالريق. وتوفي رحمه الله تعالى عاشر ذي العقدة سنة ثلاثة عشرة وسبع مئة. كان أولاً هو وأبوه من سُوق النحاس بدمشق. وكان يخدم الأمراء، وبالغ في خدمة الأفرم قبل النيابة، فلما تولى النيابة تولى مدينة دمشق في ولاية الحرب، وكان له ثروة وأملاك وسعادة، ولم يزل إلى أن ضعف بصره وناب عنه ولده إلى أن عمي فعزل، ولزم بيته إلى أن مات. إبراهيم بن صابر مقدم الدولة، عهدي به مقدمُ الدولة في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وأظنه كان فيها من قبل ذلك. وكان السلطان الملك لناصر مُحمد بن قلاوون يُعظمه ويطلبه وهو في دستة دار العدل، ويقول: يا إبراهيم تعال، فيجيء إليه ويدينه حتى يضع فمه في أذنه، ويُسر إليه ما يأمره به، ومثلُ الأمير سيف الدين الأكوز الآتي ذكره إن شاء الله واقف، حتى صارت أرفع من الحجاب ومن غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وكان ضخماً طويلاً عارفاً بما يعانيه من التقدم نبيلاً، ابتز الناسَ أموالهمُ في المصادرات، وتناولها في الأوائل والمبادرات. فحصل أموالاً جمة، وأملاكاً ما حصلها قبله ذو هّمة ورتبه السلطان وعشرةً من رجاله يمشُون في ركاب شرف الدين النشو ناظر الخاص لما جُرح تلك الجراحة، وكان لا يُؤذن الفجر إلا وهو في رجاله على الباب، فإذا ركبَ كانوا معه إلى أن يدخل القلعة، وإذا نزل منها مشوا في ركابه إلى أن يدخل بيته، هكذا أبداً في السفر والحضر، وكلنه بعد ذلك تسلمه عند غضب السّلطان عليه، فكان يُعاقبه ويضربه، فيقولك يا مُقدّم إبراهيم، فيتعذر إليه بأنّه مأمور. ومات هو وجماعة من أهله وجماعةٌ من المصادرين تحت مقارعه، إلا أنه مع ضخامته وطوله لم يكن فظاً غليظ القلب، بل كان فيه رحمةٌ ورفق بالضعيف، واصطناعٌ للمسكين، وإيثارٌ للفقير، ولم يزل على حاله في الوجاهة مدّة حياة السلطان الملك الناصر، وأقام بعده، لكنه ليس في تلك العظمة إلى أن توفي في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، والظاهر أنّه نُكبَ قبلَ موته وصُودر، والله أعلم. إبراهيم بن سليمان ابن الشيخ الإمام العالم رضي الدين الحموي الآب كرمي. نسبة إلى آب كرم، بليدة صغيرة قريبة من قونيه كثيرةُ الفواكه - الرومي الحنفي المعروف بالمنطقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 كان شيخاً عليه وقار، ومهابةٌ لا يعتريها احتقار، أبيضَ الشيبة طويلها، حسن الطلعة أسيلها، يعرف المنطق جيداً، ويدعى فيه سيداً، وتفرد بهذا الفنّ في زمانه، وكأنه فيه أرسطو أوانه، وكان لينَ العريكة، كأنه من سهولته تريكة، محسنَ إلى الطلبة والتلاميذ والأصحاب، باذل البشر لمن أمه يتلقاه بالترحاب. وكان ديناً، خيراً أميناً، حج سبع مرات، ونال ما قدره الله له فيها من المبرات، ولم يزل على حاله إلى أن خرس المنطقي، وأتاه ما كان يرتقب ويتقي. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة سادس عشري شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وحضر جنازته جماعة. وقرأ عليه جماعة من الأعيان والأفاضل، وكان مدرس القايمازية التي تحت القلعة، وتولاها بعده قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي. إبراهيم بن سليمان بن أبي الحسن بن ريان القاضي كمال الدين ابن القاضي جمال الدين الطائي، وسيأتي ذكر والده في مكانه إن شاء الله تعالى. كان من جملة موقعي حلب، ووقع في الدست قبل موته بقليل. وكان يكتب المنسوب الرائق، ويراعي فيه الأصل الفائق، فتخالُ طروسه حدائق ونباتاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 خدي غلام مراهق، وتظن أنها برود يمانية وليست مهارق، وكان يُعرب جيداً ويُغرب، ويأتي بما هو أغرب من عنقاء مغرب، إلا أن الأجل تحيف كماله، وأدخل على ألف قدةِ من المنون الإمالة. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء، ثالث عشري ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده بصفد في حُدود العشرين وسبع مئة فيما أظن. وكتبت إلى أخيه القاضي شرف الدين حُسين أعزّيه فيه، وأوّل الكتاب قصيدة، وهي: تعزَّ يا باهر السناء ... وطيّبَ الأصل والثّناء واصبر لتحظى بخير حظّ ... من غير حضًّ يومَ اللقاء واثبت لفقدِ الكمال يا منْ ... كماله خافق اللواء أكرم به من أخٍ كريم ... قد فاق في الفهم والذكاء مكمل الذات قد تجلّى ... بالحلم والعلم والوفاء يُمناه كم قد برت يَراعاً ... كأنّه السيف في المضاء ووشعت طرسها ووشت ... بالزهر من أحرف الهجاء غلطت فيما أراه حقاً ... إذ ليس والزهرُ بالسواء لأن زهر الرياض يذوي ... وذا يُرى دائَم الرِّواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فما له ابن الوحيد ثانٍ ... في صحّه الوضع والصفاء إعرابه ساد في البرايا ... إذا شاد محكم البناء طار ابن عصفورَ منه خوفاً ... لما تعرى منه الكسائي وكان غصناً رطباً ثناه ال ... ردى إلى روضة البقاء وراح غضاً خفيف حملٍ ... من الخطايا يوم الجزاء وليس مثل الذي رثاه ... عنيت نفسي ذاتَ الشقاء ستون عاماً كانت أمامي ... لم أدرِ حتى غدت ورائي وأثقلت بالذنوب ظهري ... وأسمعتني داعي الفناء دع ذا فخطبي به جسيم ... جلّ وعد بي إلى الرثاء كان جميلَ الصفات فرداً ... في الجهر منه وفي الخفاء وجملةً الأمر فيه أني ... أقولُ قولاً بلا رياء إن فراق الكمالِ صعبٌ ... حتى على البدر في السماء وكان هو قد كتب إلي من حلب في أوائل سنة خمس وخمسين وسبع مئة: يُقبلُ الأرض التي هي من براعته ويراعته مجمعُ البحرين، ومن لفظ وخطه مغاصُ النفيسين من الدرين، فأضحت بذلك في الشام شامة، وغدا برقُ فضلها لامعاً لمن شامه. وينهي بعد أشواق تفيء سطور الطروس في غضونها وأثنيةٍ تستنزل الورق بأطواقها من غصونها. إنه ما برح يتذكر مولانا وفوائده ويشاهدها، ويتعاطى نشوة فضّ الختام وبتعاهدها، ولم يزل له من أمثلة مولانا الواردة إلى أخبي الملوك كؤوسُ مدام، ولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 من ميم مسك قصيدته الميميّة ختام، ومن مخبآت شرح اللامية عرائسُ تجلى على الأفهام، وإنما أماكنُ تحتاج إلى مُقابلةٍ على النسخة الأصلية، ومواطنُ لم تكن مرآتها في قراءتها جلية، وتتّمات تركت فعسلت مطالعها إذ كانت من الكتابة خليّة، فاختار المملوك حيث اسمه إبراهيم أن يطرب بنوبته في نُسخته الخليلية، فإن اقتضى رأيُ مولانا أن يُنعم بتجهيز النسخةِ الصحيحة الكاملة ليقابل عليها نسخته التي حرمها الكاتب ما يجب من المقابلة، ومنعها من جبرها بالتصحيح فاستحقّ المقابلة، ليُحكم المملوك جوهري معانيها الصّحاح، ويُزيل تعجبه من فساد هذه النسخة المنسوبة إلى الصلاح، وإن تعذر تجهيزها جملةً فليكن مجلداً بعد مجلد ليقابلَ عليها ويعيدها إلى خليله، والعودُ أحمد إن شاء الله تعالى. فكتبت أنا إليه الجواب ارتجالاً من رأس القلم: لا يُنكر الناسُ قطُّ شوقي ... إلى كمالٍ حوى المعالي فالبدر أفنى الظلام سيراً ... ليرزق الفوز بالكمال يقبلُ الأرض حيثُ ابن مقلة لتلك الكتابة شاخص، والفاضل لذلك الترسل ناقص، والميداني لتلك البلاغة على عقبيه ناكص، تقبيل من زكا ودّة، وتأكّد في المحبة عهدُه، وتجّدد في الثناء على مرّ الزمان وردُه، وعذُب في الدعاء وردُه، فما نبع إلاّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وأينع بالإجابة وردُه، ورود المشرب الذي حلا، وغلا قدرهُ في البلاغة وعلا، وشاع ذكره لما ملأت محاسنه الملأ، واتضح معناه في ليل سطوره التي أسدفت فقال أنا ابن جلا، وضمه إلى صدره فشفى به عليل مهجته، ورفعه على ناظره فقضى له بتجديد بهجته، وفضه عن طروس فضة، أو الدراري الثابتة في أوجها لا المنقضة، فسرهُ إذ فسره، وصدق بمعجز آياته لما تصوره، وشنفه وقلّه وسوره، وورد منهل فضله المصفى، ورأى ما لو رآه الخياط لمزق حلل الرفّا، وعلم أنّ الكتاب من قبله في نقص وإبراهيم الذي وفى، وقال: هذا الفن الفذ الذي مات، وما رآه أبو حيان في جيانا، وهذه الفضائل التي ضوع رياها بنو ريان، وهذا النثر الذي شكا الفقر إليه صاحب القلائد، وهذا السجع الذي لا يتطاول إلى قصوره أصحاب البيوت ولا أرباب القصائد، وهذا البيان الذي حملقت إليه عين الجاحظ، وهذا البديع الذي لاق بالأسماع وراق في اللواحظ، وهذا وهذا وهذا، إلى أن لم نجد للوصف ملجأ ولا للعطف ملاذاً. وانتهى إلي ما أشار إليه مولانا من شرح اللامية التي في خدمته، والنسخة التي أسقمها الناسخ وساقها إلى حوزته، وما تحتاج إليه مع جبر مولانا من المقابلة التي يصحّ ما بها من السقم، ويسلك بها من الصواب أرشد نعم، وقابل المملوك ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بالامتثال، وتحقق أنّ ذلك من جملة الإحسان والشفقة على المملوك حتى لا يُنسبُ إليه جهل ولا نقصان، والمملوكُ مُعتقد في فضائل مولانا ما يغنيه عن ذلك، ولو أمعن النظر في أغلاطها، وأنعم بجوده التأمل لضوا ليلها الحالك، وجعلها في الصحة مناراً يهتدي به السالك، فهو لا يأتي على لحن إلا أعربه، ولا خطأ إلا صوبه، ولا نقص إلى أتمه، ولا مشكل إلا ونوّر ليلته المدلهمّة، على أنّ المملوك ما يفرح بأن يرى الأصل عنده كاملاً، ولا يرى السعد لضم أجزائه شاملاً، ولا تزال الأجزاء مفرّقة في العاريّة جزءاً بعد جزء، إمّا لجدّ من الطالب وإمّا لهزء، فإن اقتضى الرأي العالي تجهيزَ النسخة التي في خدمته ليتولى المملوك مقابلتها بنفسه، ويتشرف بخدمة مولانا بين أبناء جنسه فلمولانا علو الرأي وشرفه، وفردوسُ الأمر وغُرفُه، إن شاء الله تعالى. إبراهيم بن صالح بن هاشم الشيخ عز الدين أبو إسحاق بن العجمي الحلبي الشافعي. سمع بدمشق من خطيب مردا، ولم يكن بالمكثر، وكان آخر من روى بالسماع، عن الحافظ ابن خليل. كان من بيت علم ورياسة، وحلمٍ وسياسة، وحدث بدمشق وحلب، وقصده الناس بالسعي والطلب. وأخذ عنه الشيخ شمس الدين الذهبي وغيره، ولم يزل إلى أن نعب غُراب بينه، ونام في القبر ملء عينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 توفي، رحمه الله تعالى، سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكان من أبناء التسعين، كان عنده عن الحافظ ابن خليل ثلاثةُ أجزاء رواها غير مرة، وقدمَ دمشق غير مرّة، فحدّث بها، ورحل الناس إيه. إبراهيم بن عبد الله الشيخ الصالح الكردي المشرقي المعروف بالهدمة، كان عابداً زاهداً، صابراً لفقره مجاهداً، منجمعاً عن الناس، منقطعاً عن مخالطة الأدناس، ماله مطمعُ في مطعم، ولا مطمح إلى قوتٍ وإن عم به من أنعم. انقطع بقريةٍ بين القدسِ، والخليل، ورضي بذلته بين يدي الملك الجليل، فأصلح لنفسه مكاناً وزرعه، وغرس به شجراً أطعمه من رغبه في ذاك وأطمعه وتأهل بعد ثمانين وست مئة، وجاءته الأولاد على كبر، وكان أمرهُ في ذلك من العبر، وقصد بالزيارة، وظهرت علامة كرامته والأمارة، وحكيت عنه كراماتُ عدّة، وجليت من بركاته ليالٍ مسودة. ولم يزل إلى أن طفي مصباحُه، وطغى من الموت اجتياحه. وتوفي رحمه الله سنة ثلاثين وسبع مئة. إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد زين الدين أبو إسحاق بن نجم الدين بن تاج الدين بن الشيرازي الدمشقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 كان شيخاً جليلاً، مسنداً نبيلاً، يشهد مع العُدول، وما له عن الخير عُدول، له في مسجدٍ إمامة، والبهاء وراءه وأمامه. وكان قد سمع من السخاوي، وكريمة، وتاج الدين بن حمويه وجده وعدة. وخرج له الشيخ الإمام صلاح الدين العلائي مشيخة وتفرد بعدّة أجزاء. ولم يزل يُسمع الطلبة، وما به من ذلك قلبة، إلى أن سكن الثرى، وعدم من الحياة القرى. ولد سنة أربع وثلاثين وست مئة، وتوفي رحمه الله سنة أربع عشرة وسبع مئة. إبراهيم صارم العوّاد كان في صناعة الطرب كاملاً، وعلمُه بدقائقها شاملاً، لعب بالكمنجا إلى أن لم يجد الأستاذ فيها له منه منجا، وفاق في فنها، فلم يكن كمن راحَ ولا كمن جا، وأمّا الطار فكل قلب طارَ إليه، وتخيل أن الشمس والبدر في يديه، ولم ير الناس مثله من يُطرب، ولا ألطفَ من حركاته كلما صرخ في يديه يضرب، وما يرى أحد أنه ملكٌ فيه غيره ما ملك، ولا أنه سلك في إتقانه ما سلك، وأمّا العواد فكان إبراهيمُ فيه إبراهيم الموصلي، بل لو عاصره لتحقق أنه مثلُ بطن عوده فارغٌ غير ممتلي، يكاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لخفة يده يجري الماء في عوده، ويرى البرق من يده في العفاقات يلمع في حدوره وصعوده، كأنما هو حمامة تسجع على عودها، وتغدو وتروح، وإذا غنى هو جاوبه عُوده، ولم يكن شجر الأراك مع الحمام ينوح: يلعبُ بالعقل شدوه لعبَ المزج ... بمنثور لؤلؤ الحببِ لو تسمع الورقُ شدوه خلعت ... عليه أطواقها من الطرب وجرت له مع الناصر أحمد أمور، ولو صحّ أمره لكان أميراً كبيراً وغيره المأمور، ولكن فات ما ذبحَ، وما خسر إلا من ربح، ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى البلى بغصته، ولم يقدر على شرح قصته. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. كان قد قربه الأمير سيف الدين تنكز ولازمه في سفره وحضره، وكان يعلّم عنده جواري، وأعطاه إقطاعاً جيداً في حلقة دمشق، وألبسه الكلفتا، ولما أمسك تنكز طلبه طاجار الدوادار ودخل به إلى السلطان الملك الناصر، وأقام بمصر تلك المدّة، ثم إنّ السلطان الناصر أحمد أخذه معه إلى الكرك وأقام عنده تلك المدّة، ووعده بأمورٍ منها أن يعطيه إمرة طبلخاناه، وهذا أقلُ ما أعتقده في حقه، وإلا من الناس من قال: إن وعده بنيابة دمشق، ثم إنه بعد ذلك كله أخذ منه الإقطاع، واستمر بيده راتبٌ كان لها أولاً على دار الطعم بدمشق فارتفق به، وبطل الخدم إلى أن مات رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إبراهيم بن عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد ابن نصر القاضي الرئيس، الكاتب البليغ شمس الدين ابن القاضي جمال الدين ابن الصاحب فتح الدين ابن القيسراني المخزومي الخالدي، كانت الإنشاء بالديار المصريّة، كان شكلاً، تاماً في خلقه ساداً لما يسند إليه من الإنشاء من سعة خرقه، العقود، ويباهي به الروضَ المجود، وتزدهي الكواكب بضيائه إذ كانت في منازل السعود إن أنشئ وشى المهارق وأخمل زهر الخمائل والحدائق وحسد العذار الجديدُ سطوره، وتمنى الروضُ اليانع لو حوى منثوره، وودّ الأفق لو استعار من طرسه صبحه، ومن مداده ديجُوره، يُرشفُ السمع كلامُهُ مُداماً، ويتعاطى كؤوس فقراته الندامى، ومن بيت كتابةٍ ووزارة ورياسة قديمة وصدارة. رافقتُه في ديوان الإنشاء في قلعة الجبل مدة، وحللتُ برؤيته من الهم شدة الشدة، ثم إنه رسم له السلطان الملك الناصر بتوقيع الدّست قبل موته بقليل بسفارة الأمير سيف الدين تنكز فيما أظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال قاضي القضاة بهاء الدين أبو حامد السبكي: تولى كتابة الدست في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ولم يزل على حاله في توقيع الدّست إلى أن دعاه الله للقياه، وأوحشت الدنيا من بُقياه. وتوفي رحمه الله تعالى في أحد شهري ربيع من سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. وكان عنده مماليك تُرك، وله تجملٌ في ملبسه، وورث نعمة طائلة، وحصلت له وجاهةٌ عند النواب، ولو دام له الأمير سيف الدين بهادُر التمرتاشي لرقى. وكان قد استعار من القاضي جمال الدين ابن العلامة شهاب الدين محمود جزءاً من قلائد العقيان، وأبطأ رده، قال جمال الدين، فكتبتُ إليه: قل لربّ العلا فتى القيسراني ... حين يأتي منشية المهراني حل جيدي بالفضل منك فإني ... عاطلٌ من قلائد العقيان فلما وقف عليها القاضي الشريف شهاب الدين الحسيني قال: يا ابن غيثِ الندى وبحر المعاني ... درهُ في النحور والتيجان أنت للملكِ زينةٌ وجمال ... غنيت عن قلائد العقيان وكتب لي شمس الدين المذكور توقيعاً بزيادةٍ عن السلطان الملك الناصر محمد، وهو: رسم بالأمر الشريف العالي - لازالت أوامره تزين المناصب بأكفائها، وتزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المراتب وجاهة بمن تريد صلاحه في علائها، ومراسيمه تمُن بعوارف آلائها لمن جعله عرفانُه من أوليائها - أن يزاد المجلسُ السامي القضائي فلان الدين على معلومه الذي بيده المستقر باسمه في الشهر دراهم كذا غلة كذا، وفي اليوم خبز كذا، لحم كذا، شعير كذا، وفي السنة كذا زيادة على الجوخة قرطية مغشاه لتفرده في البلاغة عن مناضل أو مناظر، وتفننه في الكتابة التي تثلج الصدور، وتبهج النواظر، وإتيانه بالمعنى البسيط في اللفظ الوجيز، واعتراف أمثاله بالقصور عّما ينتجه فكره السليم من التعجيز، طالما دبج المهارق بأبوابنا الشريفة برائقِ خطّه وفائق لفظه، ونظم في تقاليد الوزارة المنيفة من دررِ معانيه ما تتسارعُ الهمم إلى التقاطه وحفظه، فيتناول ذلك شاكراً لأنعمنا الشريفة على هذا المزيد، وليعلم أن إحساننا إليه ثابت ويزيد، والله يُبلغه من النعم ما يريد بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى، فكتبت إليه أتشكر إحسانه ارتجالاً: كلماتُ القيسراني ... لطفُ معناها براني فهي في الحُسن كليلى ... وإليها قيسُ راني إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الشيخ الإمام الورع العلامة شيخ الشافعية، برهان الدين أبو إسحاق الفزاري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الصعيدي الأصل، الدمشقي الشافعي، مدرس الباذرائية وابن مدرسها الشيخ تاج الدين. سمَّعه والده الكثير في صغره من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر والموجودين في ذلك العصر. قرأ العربية على عمه شرف الدين الفزاري، وتفقه على والده، وقرأ الأصول وبعض المنطق، وكان يخالف الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسائل، وما تهاجرا قط، وكل منهما يحترم صاحبه إذا اجتمعا، ولما بلغته وفاته استرجع وشيع جنازته. وكان رحمه الله تعالى قد نشأ في صيانه ورقى في ديانه، وإكبابٍ على العلم والإفادة طول عمره، وتواضع وخيرِ من أول حاله إلى خاتمة أمره، وزاد اشتغاله بعد أبيه، وطالع ونظر، وما اقتصر على التنبيه، يكاد يستحضر غالب الرافعي في مسائله، ويورد لفظه بتقاريره ودلائله، حتى يقول: هذه المسألة في الصفحة الفلانية من المجلد الفلاني، ويكشف عليه فما يخطئ الصواب بل يقارب ويداني، اشتهر بذاك، وعلم جميع الكتاب حتى كأنه باب السواك، وعلق على التنبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 شرحاً حافلاً، وأتى به لغوامض المذهب كافلاً، لو أنصفه الناس لم ترفع لغير الرافعي راية، وتحققوا أنّ بداية هذا الكتاب مثل النهاية، ولا بد لهذا الشرح من وقت يوفى فيه حقه، ويعطيه الطاعة كل فاضل، فما يعوقه عن التقديم على غيره ولا يعقّه، مع ما في فضله من فضولٍ في بعض الفصول، وزيادات بيان لا تعلق لها بالفروع ولا الأصول. وعلق على منهاج النووي جزءاً لطيفاً فيه نتف، وكلامه فيه أطرب من حمام الأيك إذا هتف. وكان صادق اللهجة فيما ينقله، حاذق المهجة فيما يتروى فيه أو يتعلقه، طويل الروح على الدرس والإشغال، كثير التوغل في الإيضاح والإيغال، حريصاً على تفهيم الطالب، يودّ لو بذلك كنوز العلم وما فيه من المطالب، لا يعجبه من يورد عليه تشكيكاً، ولا من يطلب منه تنزيل ألفاظ ولا تفكيكاً، لأنه هو فيما بعد ذلك يتبرع، فما يحب من غيره أن يسابقه ولا يتسرع، وذلك ليبسٍ في مزاجه، وحدّة تلحقه عند انزعاجه، وحاجة إلى استعمال خيار الشمبر لعلاجه، فقد كان ذلك نقله على الدوام، ولا يُخل باستعماله في يوم من الأيام، وكان رقيق البشرة، ظاهرة الوضاءة، كأن وجهه حبره، وله حظّ وافرٌ من صدقة وصيام وتهجّد في الليل وقيام، قل أن يخرج الشهر وما يعمل فيه لأهل مدرسته طعاماً، ويدخلهم إلى منزله فراداً وتُوأماً، ويقف لهم عند الباب ويدعو لهم ويشكرهم، ويعرفه بالميعاد الثاني وينذرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وفتاويه كلها مسددة، واحترازاته وقيوده فيها مشددة. قد كفّ لسانه وسمعه عن الغيبة ومنعها من مجلسه دفعه، منجمعاً عن الناس يجد في الوحشة منهم غاية الإيناس، وتنجز من السلطان مرسوماً أن لا يحضر مجلساً إذا عقد، ولا يُطلب لذلك إذا فقط. وطلب للقضاء بعد ابن صصرى فاستعفى لذلك وصمم، وألح عليه الأمر سيف الدين تنكز فخصص الامتناع وعمم، وحج غيرة مرة، وتجرع من التكلف لذلك كل مرة. وحدث بالصحيحين، وفاز من الرواية والدراية بالقدحين الربيحين. وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي مشيخة قرئت عليه، وسردها الناس لديه. وولي الخطابة بالجامع الأموي بعد عمه الشيخ شرف الدين، ثم عزل نفسه، وقلع منها ضرسه. ولم يزل على تلك الطريقة التي أخذها عن السلف، وتفرد بارتكابها في الخلف، إلى أن جاء المحاق لبدره، وانطبقت على درّته الثمينة صدفتا قبره، ففجع الناس فيه، وعدموا اللؤلؤ الذي كان يقذفه بحر علمه من فيه، وراح إلى الله على أتم سداد، وأكمل اعتداد ليوم المعاد. وكانت جنازته مشهودة، وآلاف من حضرها غير معدودة، فرحم الله روحه، ونور بالمغفرة ضريحه. مولده في شهر ربيع الأول سنة ستين وست مئة، ووفاته في يوم الجمعة سابع جمادى الأولى في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وله نظمٌ ونثرٌ متع، لا ينحطّ في ذلك ولا يرتفع، ومنه قوله، وقد ترك الخطابة: وإني لأستحيي من الله كُلما ... وقفتُ خطيباً واعظاً فوق منبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولست بريئاً بينهم فأفيدهم ... ألا إنما تشفي مواعظُ من بري قلت: كذا أنشدنيهما الشيخ أمين الدين محمد بن علي الأنفي عن مصنفهما، وكذا رأيتهما في البدر السافر للفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي رحمه الله تعالى، ولو قال رحمه الله تعالى: ألا إنما تشفي المواعظ من بري لكان ذلك أحسن وأمتن وأتم في الجناس. ورأيتهما بعد هذا في ديوان الخطيب يحيى بن سلامة الحصفكي، وهو بهما أحق. إبراهيم بن عبد الرحمن بن نوح بن محمد الشيخ الأمين العدل بهاء الدين أبو إسحاق ابن الإمام العالم مفتي المسلمين شمس الدين أبي محمد المقدسي الشافعي. سمع الحديث من ابن مسلمة، وابن علان، وشرف الدين المرسي، والمجد الإسفراييني، وإسماعيل العراقي، واليلداني، والكفرطابي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وابن طلحة، والشريف بهاء الدين النقيب، وخطيب مردا، وابن عبد الدائم، وغيرهم، وخرجتُ له مشيخة سنة حجّ، وحدث بها بالمدينة في سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، قرأها عليه الشيخ علي الختني، ثم رواها بدمشق غير مرة. أجاز له ابن الجميزي، والشاوي، وأحمد بن الحباب، وجماعة في سنة سبعٍ وأربعين وست مئة. وأجاز له من بغداد محمد بن المني، والأعز بن العليق، والمؤتمن بن قميرة، وجماعة في سنة ثمان وأربعين. وتفرد في دمشق برواية كتاب الآداب للبيهقي عن المرسي سماعاً، وتفرد بغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وكان من المباشرات مشكوراً، وبالأمانة والعفة مذكوراً، وفيه خيرٌ وبر، وتعهدٌ للأصحاب في العلن والسر، وعنده كفاية ونهضة، ومروة يؤدي بها في الإحسان فرضه، ووقفَ على جهات البرّ أوقافاً، جعلت له في أغوار الذكر الجميل أحقافاً، ولم يزل على حاله إلى أن برز للرحيل نوقه، وأقام الموتُ سوقه. وتوفي رحمه الله تعالى في سلخ جمادى الآخرة سنة عشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة بالشامية الجوانية بدمشق، وكان ناظر المدرسة الرواحية بعد أخيه أكثر من ثلاثين سنة، وباشر وقف الحرمين ووقف جامع العقيبة، وغير ذلك. إبراهيم بن عرفات بن صالح القاضي زين الدين بن أبي المنى القنائي الشافعي. تولى الحكم بقنا، والتقى الإعدام بالبيض والقنا، لأنه كان يتصدق في كل يومِ عاشوراء بألف دينار على من هو محتاج ويلحقُ الفقير المسكين من جوده بربّ التاج، مع حسن وجهٍ ساعة البذل، لا كما يتكلف الخير وفعله الساقطُ النذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قالت امرأة: جئت إليه يوم عاشوراء فأعطاني، وعدت إلى منزلي وأعطاني، ثم صرت إليه ثانياً فأنالني وخولني، ثم رددت إليه ثالثاً فحباني وما حولني، ثم فعلتُ ذلك مراتٍ وهو يجودُ علي ببره، ولا يطوي عني حسن بشره، إلى أن تكمل لي منه ذلك اليوم ست مئة درهم، فاشتريت بذلك مسكناً، وأراحني من الهم. وكانت له عقيدةً حسنة في أهل الصلاح، ويأخذ من أدعيتهم ما هو أوقى له من السلاح. ولم يزل على خيرٍ إلى أن فات وعد من الرفات. ووفاته، رحمه الله تعالى، في بلده سنة أربع وأربعين وسبع مئة. إبراهيم بن علي الأجل أبي هاشم ابن الصدر الأديب المعمر أبي طالب محمد بن محمد بن محمد بن التامغار، مجد الدين أبو الفتح بن الخيمي الحلي. سمع من والده بسماعه من بنت سعد الخير، وسمع من الرشيد العطار مجلس البطاقة، ومن ابن البرهان صحيح مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأجاز له الحافظ المنذري، ولاحق الأرتاحي، والبهاءُ زهير، وأبو علي البكري. وخرج له التقي عبيد مشيخة، وحدث قديماً، وسلك طريقاً قويماً. وأخذ عنه المصريون وسمعوه، وارتضوه وما دفعوه، وزان بالرواية زمانه، ورصع دره في تاجها وجمانه، إلى أن أدركته الوفاة، وختم الموتُ نطقه وفاه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة. وولد سنة تسعٍ وأربعين وست مئة. إبراهيم بن علي بن خليل الحراني المعروف بعين بصل. كان على ما اشتهر من أمره عامياً حائكاً أمياً، وله الشعر المقبول، والطبعُ الذي هو على القريض مجبول. أناف على الثمانين من عمره، ولم يخمد توقد جمره. نظر يوماً بعض أصحابه إلى امرأة برزت بصفحة بدر في حندس، وغرست فوق خدها زهرة نرجس، فسأله أن ينظم في ذلك شعراً، وينفسَ به كرب قلبه المغرى، فقال بديهاً، وأنشد الحاضرين فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 غرست في الخد نرجسة ... فحكت في أحسن الصور كوكباً في الجو متقداً ... قد بدا في جانب القمر وذكر لي غير واحدٍ أن القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى قصده واستنشده شيئاً من شعره، فقال: أما القديم فلا يليق، وأما الوقتُ الحاضر فنعم، وأنشده: وما كل وقتٍ يسمح خاطري ... بنظم قريضٍ فائقٍ اللفظ والمعنى وهل يقتضي الشرعُ الشريف تيمماً ... بتربٍ وهذا البحر يا صاحبي معنا وبعض الناس يحكي أن ذلك اتفق له مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى. قلت: وليس ذلك بصحيح، فقد ذكر المؤرخون أن شميماً الحلي لما قدم إسعرد، قصده شعراؤها وأنشدوه أشعارهم، وكان فيهم من أنشده شعراً استكثره عليه وقال: انظم الآن لي شيئاً فأنشده ذلك الرجل في الحال، وهذا هو الصحيح، لأن شميماً الحلي توفي بالموصل سنة إحدى وست مئة، ولم يكن عين بصل قد خلق. وكان عين بصل فقيراً يهبه الناسُ قماشاً، وما يكلفونه معاشاً، وكان يلبس القطعة مدة، وإذا أفلس باعها، ومد إليها كف نفقته وباعها، فلامه بعضُ الناس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 هذا الاعتماد، وقال: هذا موجب لأن يسوء منهم فيك الاعتقاد، فأنشده ارتجالاً وقال له لا تمتلي مني ملالاً: وقائل قال إبراهيمُ عينُ بصل ... أضحى يبيعُ قباً للناس بعد قبا فقلت مه يا عذولي كم تعنفني ... لو جعت قدتُ ولو أفلست بعت قبا ومما ينسب إليه قوله في الشبكة والسّمك: كم كبسنا بيتاً كي نمسك السكانَ منه في سائر الأوقاتِ فمسكنا السكانَ وانهزم البيتُ لدينا خوفاً من الطاقات قلت: وقد رأيتهما أيضاً لغيره. ولم يزل في اكتسابه، وتعاطيه للشعر وانتسابه، وتوكله على بر الناس له واحتسابه، يخبط بين الحكياة والحكاية، وينقلب من الشكر إلى الشكاية، إلى أن رقد فما انتبه، وعتب صاحبه الموتَ فيه فما أعتبه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة. ومن شعره الذي نسب إليه قوله: جسمي بسقمِ جُفونه قد أسقما ... ريم بسهم لحاظه قلبي رمى كالرمح معتدلُ القوام مهفهفٌ ... مر الجفا الكنّه حلو اللمى رشأ أحل دمي الحرامَ وقد رأى ... في شرعهِ الوصل الحلالَ محرما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 رب الجمال بوصله وبهجره ... ألقى وأصلى جنةً وجهنما عن ورد وجنته بآس عذاره ... وبسيف نرجسِ طرفه الساجي حمى عاتبته فقسا، وفيتُ فخانني ... قربُته فنأى، بكيت تبسماً حكمته في مهجتي وحشاشتي ... فجنى وجار علي حين تحكما يا ذا الذي فاق الغصون بقده ... وسما بطلعته على قمر السما رفقاً بمن لولا جمالك لم يكن ... حلفُ الصبابة والغرامِ متيماً أنسيت أياماً مضت وليالياً ... سلفت وعيشاً بالصريم تصرما إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف ... صرف الزمان ولا نخاف اللوما والعيش غض والحواسدُ نومٌ ... عنا وعينُ البين قد كحلت عما في روضةٍ أبدت ثغور زهورها ... لما بكى وبها الغمامُ تبسّما مدّ الربيعُ على الخمائل نوره ... فيها فأصبح كالخيام مخيما تبدو الأقاحي مثل ثغر مهفهف ... أضحى المحبُّ به كئيباً مغرما وعيونُ نرجسها كأعيان غادةٍ ... ترنو فترمي باللواحظ أسهما وكذلك المنثورُ منثورّ بها ... لما رأى ورد الغصون منظما والطيرُ تصدح في فروع غصونها ... سحراً فتوقظ بالهديل النوما والراح في راح الحبيب يديرها ... في فتية نظروا المسرة مغنما فسقاتُنا تحكي البدور، وراحنا ... تحكي الشموسَ، ونحن نحكي الأنجُما قلت: وشعره كله من هذه النسبة - كما تراه - غيرُ متلاحم النسج، ولا مستقيمُ النهج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إبراهيم بن علي القاضي جمال الدين بن شمس الدين ابن شيخ السلامية الكاتب . تصرف في المباشرات الديوانية، والوظائف السلطانية، تارة بجبل صيدا ناظرا وتارة ببرّ دمشق، وإن في المدينة حاضراً، وتارة بحمص في نظر ديوانها، والتقدم على أعيانها. ثم انتقل إلى الخزانة العالية بالقلعة، ونفق فيها من العمر سلعه، إلى أن سكن فما تحرك، واطمأن في قبره وتورّك. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة. إبراهيم بن علي بن أحمد بن حمزة بن علي الشيخ المسند جمال الدين ابن الجنوبي - نسبة إلى الجنوب - التغلبي الدمشقي. كان من بيت عدالة ورواية، وكلف بالحديث وعني به، وكان مع ذلك فراشاً معتبراً في هذه الحرفة، والصناعة الصرفة، وسكن مصر وروى بها، ومشى في طرق الرواية وروى بها، وأسمع بدمشق أيضاً، فسمع منه الذهبي ومن عداه، ولبوا نداءه وأجابوا صداه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وكان يروي عن ابن اللتي، وبالإجازة عن محمود بن منده ومحمد بن عبد الواحد المديني. ولم يزل على حاله إلى أن ضربت خيمة كفنه، ولم يغن عنه صحة رأيه ولا أفنه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. إبراهيم بن علي بن أحمد بن يوسف بن علي بن إبراهيم قاضي القضاة الحنفي، برهان الدين ابن القاضي كمال الدين بن القاضي شهاب الدين الدمشقي، وهو سبط الشيخ ضياء الدين أبي المحاسن عبد الحق بن خلف بن عبد الحق الواسطي. قرأ على والده القرآن وتفقه على الشيخ ظهير الدين الرومي، والشيخ شرف الدين الفزاري والشيخ زين الدين بن المنجا. وقرأ العربية على الشيخ مجد الدين التونسي والشيخ نجم الدين بن ملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقرأ الأصول على الشيخ صفي الدين الهندي. ونشأ بدمشق، ودرس بها، وأذن بالإفتاء في رحلة رحلها إلى مصر سنة ست وتسعين الشيخُ تقي الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة شمس الدين السروجي، وكان قد اشتهر بمعرفة كتاب الهداية وإتقانه، وتحلى منه بقلائده عقيانه، وعُرف بقيام أدلته وبرهانه. طلب إلى مصر فولاه الملك الناصر محمد بن قلاوون قضاء القضاة الحنفية بعد شمس الدين بن الحريري سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فأقام بمصر حاكماً عشر سنين متوالية، ونجوم سعوده في أفق الكمال متلالية، تنفذ أحكامه في كل أمير ومأمور، وتسري أوامره في العاطل والمعمور. وكان يكلم السلطان في دسته كلاماً خشناً، وهو يُظهر له احتمالاً حسناً، وصمم عليهم أول ما دخل في الجلوس وما تم له ما أراد، ولم يكن المالكي ممن يعد معه في طراد، ثم إنه خرج هو وقاضي القضاة جلال الدين القزويني إلى الشام معاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وأصابتهما عين الحسود فانصرعا، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وأقام هو بدمشق على حاله من غير حكم، ولا مداناة لفصحاء، ولا بكم إلى أن نزل إلى حفرته، وانهال التراب على وفرته. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء تاسع عشري ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبع مئة. مولده سنة ثمان وستين وست مئة. إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحد قاضي القضاة، نجم الدين أبو إسحاق ابن قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن بن محيي الدين أبي العباس الطرسوسي الحنفي قاضي القضاة بدمشق، وسيأتي ذكر والده رحمه الله تعالى في مكانه من حرف العين. مولده في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ووفاته رحمه الله تعالى يوم السبت بعد الظهر، وصلي عليه بالجامع الأموي بعد العصر، ودفن آخر النهار المذكور رابع شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة بالمزة. وكانت جنازة حافلة، بها الحكام والعلماء والأمراء، وصلى عليه ملك الأمراء الأمير علاء الدين أمير علي المارديني إماماً برّا باب النصر، وعاده في يوم سبت، وهو بالمزة ضعيف في هذه المرضة. وكان قاضي القضاة نجم الدين رحمه الله تعالى ملء منصبه، بالغاً بحسن سعيه نهاية أمله وغاية مطلبه، نافذ الأحكام والقضايا، عارفاً باستخراج النكت في الوقائع من خبايا الحنايا، عليه تؤدة وحسن سمت، وله مهابة وطول صمت، ولم تعد له في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مدة ولايته هفوة تتعلق بأحكامه، أو زلة يؤاخذ بها في نقضه وإبرامه وكان النواب يعظمونه، ويجلّونه ويحترمونه لسعادة نطقه في المحافل، وترفّعه في ذرا المعالي عن الأسافل. تلفّت فوقَ القائمين فطالهم ... تشوف بسّام إلى المجد قاعد ولم أرَ أمثالَ الرجال تفاوتوا ... إلى الفضلِ حتى عد ألفٌ بواحد وكان قد ناب لوالده قاضي القضاة عماد الدين قريباً من سنتين، ثم إنه في ذي الحجة سنة ستَّ وأربعين وسبع مئة نزل له والده عن منصب القضاء، وسأل له في ذلك الأمير سيف الدين يلبغا، فكتب له إلى السلطان، وحضر تقليده الشريف بذلك. وكان قد كتب له قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي رحمه الله تعالى بأهليته لذلك وصلاحيته، وجهّز خطه بذلك وباشر المنصب والتداريس على أتم ما يكون من العفة والأمانة، ونازعه قاضي القضاة شرف الدين المالكي في الجلوس، فأجلس المالكي فوقه لكبر سنّه، وقدمِ هجرته، ولما توفي المالكي جلس قاضي القضاة نجم الدين إلى جانب قاضي القضاة الشافعي، ولم يزل على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى. وكان قد حج في صغره، ثم إنه حج في سنة خمس وخمسين، وعزم على المجاورة، فلم يتفق له ذلك، ثم إنه حج في سنة ست وخمسين وسبع مئة، ثم إنه عزم في سنة ثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وخمسين وسبع مئة على الحج مع الركب الذي يتوجه في شهر رجب، فحصل له هذا الضعف الذي مات فيه، رحمه الله تعالى. وكان رئيساً نبيلاً فيه مكارمُ وحشمة ورياسة وقعدد وتؤدة، ولازم الاشتغال وطالع واجتهد، ودأب وتعب، ونظم أبياتاً ذكر فيها الخلاف الذي وقع بين الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبين الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، وقرأتها عليه، فسمعها ولدي أبو عبد الله محمد وفتاي طغاي بن عبد الله في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة بمنزلة في باب البريد قبالة المدرسة المسرورية، وهي: الحمد لله الولي المنعم ... الملكِ الحق الجواد المكرمِ جل عن الشبيه والأضداد ... والأهل والأنداد والأولاد سبحانه من ملكٍ قدير ... أتقن ما أبدع بالتدبير ثم الصلاة بالدوام السرمدي ... على النبي المصطفى محمد وأله ما غردت قمرية ... على غصونِ الأيك في البرية وبعد قد قال الإمام الأعظمُ ... أبو حنيفة الرضى المُقدّم في هذه المسائل المهمه ... قولاً به جلا وجوه الغمة والأشعري خالفهُ فيها وقد ... أساء في خلافه فيما اعتقد والحق ما قال أبو حنيفه ... أعطاه ربي الرتبة المُنيفة أولها معرفة الإلهِ ... واجبةٌ حقاً بلا اشتباهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بالعقل لا بعد الخطاب فاعرف ... وعذرهُ عند الإمام منتفِ معرفة الله على الكمالِ ... تحصل بالعقل مع استدلالِ ثالثها قال بأن العصمه ... ثابتة لأنبياء الأمه عن الكبير وعن الصغير ... والأشعري خالفَ في الأخير ويمكن السعيدُ أن يُنظم في ... أهل الشقاء والضلال فاعرف ولا يرى الشكوك في الإيمان ... ويقطع القول بلا نكران وكل ما قد كتبوا في المصحف ... فهو كلام الله حقا فاكتف وأثبت الرسالة المُكرمه ... من بعد ما مات النبي فاعلمه وهو إلى الآن رسولٌ مثلما ... قد كان في الحياة حقاً فافهما والله يجزي العبد في الأعمالِ ... من خير ما يرجوه في المآل والله عادل فلا يُعذبُ ... من لم يكن أذنب وهو المذهبُ ولا يجوزُ القولُ بالتكليفِ ... في حكمةِ الله بال توقيفِ والله لا يختار للعبادِ ... إتيانهم بالكفر والفسادِ ونعمة الله على الكفارِ ... كسمعهم ونظرِ الأبصار وتمت المسائل المهمه ... وتم ما قال سراجُ الأمه إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الشيخ الإمام، العلامة، ذو الفنون، شيخ القراء برهان الدين الرَّبَعي الجعبري الشافعي، ابن مؤذن جعبر، شيخ حرم سيدنا الخليل صلوات الله عليه وسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 سمع في صباه ابن خليل، وتلا بالسبع على أبي الحسن الوجوهي صاحب الفخر الموصلي ببغداد، وتلا بالعشر على المنتخب صاحب ابن كدي. وأسند القراءات بالإجازة عن الشريف أبي البرد الداعي، وقرأ التعجيز حفظاً على مؤلفه تاج الدين بن يونس، وسمع من جماعة، وقدم دمشق بفضائل، ونزل بالسميساطية، وأعاد بالغزالية، وباحث وناظر، ثم إنه ولي مشيخة حرم الخليل عليه السلام، فأقام به بضعاً وأربعين سنة. ومن تصانيفه كتاب نزهة البررة في القراءات العشرة، وشرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الشاطبية كبير، وشرح الرائية، ونظم في الرسم روضة اللطائف، وكمل شرح المصنف للتعجيز، كتاب الإفهام والإصابة في مصطلح الكتابة نظم، وكتاب يواقيت المواقيت نظم، والسبيل الأحمد إلى علم الخليل بن أحمد، وتذكرة الحفاظ في مشتبه الألفاظ، ورسم التحديث في علم الحديث، وموعد الكرام لمولد النبي عليه الصلاة والسلام، وكتاب المناسك، ومناقب الشافعي، والشرعة في القراءات السبعة، وعقود الجمان في تجويد القرآن، والترصيع في علم البديع، وحدود الإتقان في تجويد القرآن، وكتاب الاهتدا في الوقف والابتدا، والإيجاز في الألغاز، واختصار مختصر ابن الحاجب، واختصر مقدمته في النحو. وتصانيفه تقارب المئة مصنف، وكلها جيد محرر. رأيته غير مرة، وفاتني من الإجازة عنه ألف ذرة، كان جالسته وسمعت كلامه، ورأيته في منزلةٍ يكون الهلال عندها قلامه. وكان ذا وجهٍ نير، وخلق خير، وشيبة نورها الإسلام، وحبرها خدمة العلم الشريف بالأقلام. ولعبارته رونق وحلاوة، وعلى إشارته وحركاته طلاوة. حكى لي عن شيخ كان قبله بالحرم حكاية تضحك الثاكلة، وتصيب من التعجب الشاكلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولم يزل على حاله حتى صوح روضه، وهُدم من الحياة حوضُه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده في حدود الأربعين وست مئة، فعاش تسعين سنة. ومن شعره: لما أعان الله جل بلطفه ... لم تسبني بجمالها البيضاء ووقعت في شرك الردى متحبلاً ... وتحكمت في مهجتي السوداء ومنه لما بدا يوسف الحسنِ الذي تلفت ... في حبه مهجتي استحيت لواحيه فقلت للنسوة اللاتي شغفن به ... فذ لكن، الذي لمتنني فيه ومنه: أضاء لها دُجى الليل البهيمِ ... وجدد وجدها مرّ النسيم فراحت تقطع الفلواتِ شوقاً ... مكلفة بكل فتى كريم فقارٌ لا ترى فيها أنيساً ... سوى نجم وغصنِ نقي وريمِ نياقٌ كالحنايا ضامراتٌ ... يُحاكي ليلُها ليلَ السليم كأن لها قوائم من حديد ... وأكباداً من الصلد الصميم لها بقبا وسفح منى غرامٌ ... يلازمها ملازمة الغريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 إبراهيم بن عيسى الأمير ناصر الدين ابن الملك المعظم ابن المالك الزاهر داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شادي. كان جندياً من مقدمي الحلقة بدمشق. توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون، وقد جاوز الخمسين. إبراهيم بن أبي الغيث الشيخ جمال الدين ابن الحسام البخاري الفقيه الشيعي كان المذكور مقيماً بنواحي الشقيف من بلاد صفد بقربة مجدل سليم. أخذ عن ابن العواد، وابن مقبل الحمصي. ورحل إلى العراق، وأخذ عن ابن المطهر. وكان قد اتخذ في القرية المذكورة مجلسين، أحدهما للوفود، والأضياف، والآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 للطلبة وأهل العلم. رأيته أنا في قريته في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، ودار بيني وبينه بحثّ في الرؤية وعدمها. وطال الوقوف على جبلها، والطواف بحرمها، وهو في ناحية الاعتزال واقف، وأنا عن السنة مجادل أثاقف، وهو للحنظل ناقف، وأنا للعسل مشتارٌ ولاقف. وطال النزاع وامتد، واحتدم كل منا الوغى واحتد. وكان شكلاً حسناً، وذا منطق لسناً، قد أدمن مباحث المعتزلة والشيعة. وجعل التأويل له في حلة البحث وشيعة، وكان يزور الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويحمله في مباحثه على ما عنده من الحمية، ويطير بينهما شررُ تلك النيران، وتمل من وخدهما في قفار الجدل الأزمة والكيران، ولم يزل في تلك الناحية قائماً بنصرة مذاهب الشيعة والاعتزال، دائماً على جذب من يستضعفه من أهل السنة بالاقتطاع والاختزال، إلى أن سكت فما نبس، وبطل من حركاته واحتبس. قال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: عهدي به في سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومن شعره: هل عاينت عيناك أعجوبة ... كمثل ما قد عاينت عيني مصباح ليل مشرقٌ نورُه ... والشمس منه قابَ قوسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومنه: قامت تودعني فقلت لها امهلي ... حتى أودع قبل ذاك حياتي فإذا عزمت على الرحيل تركتني ... رهن البلى ومجاور الأمواتِ وقال، وقد عمل مصيدة من رحى عملها لنمسٍ كان قد أفسد عليه خلايا نحل: ومقشعر الجلد مزورَ الحدق ... لا يرهب الليل إذا الليلُ غسق مستتر حتى إذا النجم بسق ... عدا على النحل فأذى وفسق وفتح الأبواب منها وخرق ... وكسر الأصنام فيها ومحق سقطتهُ بمستديرِ كالطبق ... كضغطةِ القبر إذا القبرُ انطبق فما استقرت فوقه حتى اختنق ... من صخر حوران شديدِ المتسق من لج في البحر تغشاه الغرق ... أو سارع الدهرَ إلى الحتف التحق وقال وقد كبس بيته، وأخذت كتبه: لئن كان حمل الفقه ذنباً فإنني ... سأقع خوفَ الحبس عن ذلك الذنبِ وإلا فما ذنبُ الفقيه إليكم ... فيرمى بأنواعِ المذمةِ والسبّ وإذا كنتُ في بيتي فريداً عن الورى ... فما ضر أهل الأرض رفضي ولا نصبي أوالي رسول الله حقاً وصنوه ... وسبطيه والزهراء سيدة العرب على أنهُ قد يعلمُ الله أنني ... على حب أصحاب النبي انطوى قلبي أليس عتيق مؤنس الطهر إذا غدا ... إلى الغار لم يصحب سواهُ من الصحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وهاجر قبلَ الناس لا ينكرونها ... بها جاءت الآيات بالنصّ في الكتب وبالثاني الفاروق أظهر دينه ... بمكة لما قام بالمرهف العضب وأجهر من أمر الصلاة ولم تكن ... لتجهر في فرضٍ هناكَ ولا ندب وقد فتح الأمصار مارد جيشه ... وجالت خيول الله في الشرق والغرب وجهز جيش العسرة الثالث الذي ... تسمى بذي النورين في طاعة الرب وإن شئت قدم حيدراً وجهاده ... وإطفاؤه نارَ الشرك بالطعن والضرب أخو المصطفى يوم المؤاخاة والذي ... بصارمه جلى العظيم من الكرب كذاك بقايا آله وصحابه ... وأكرم بهم من خير ألٍ ومن صحب أولئك ساداتي من الناس كلهم ... فسلمهم سلمي وحربهم حربي وفي بيعة الرضوان عندي كفاية ... فحسبي بها من رتبة لهم حسبي إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم الشيخ الإمام العالم المقرئ الزاهد الورع برهان الدين أبو إسحاق. روى عن ابن عبد الدايم، وسمع من فرج الحبشي مولى ابن القرطبي، وعماد الدين بن الحرستاني، وابن أبي اليسر، وجماعة من أصحاب الخشوعي وابن طبرزد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 كان حسن الهيئة، متواضعاً، عديم الشر وادعاً، كثير التودد لأصحابه، غزير التقرب بالإحسان لمن يتعلق بأهدابه، متين الديانة، مبين الصيانة، خطيباً أديباً، فصيحاً أريباً، يهتف على المنبر كأنه حمامه، ويسجع فيشبه السحر كلامه، إذا درس أحيا أطلال العلوم الدوارس، وجدل بجداله أطبال المناظر والفوارس، ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن فلاح بالفلا وظفرُ المنية للمته قد فلا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شوال سنة اثنتين وسبع مئة. وكان شيخاً مباركاً معروفاً بالعلم والصلاح، وأقرأ القراءات السبع، وله تلاميذ وأصحاب. وباشر نيابة الخطابة عن جماعة مدة طويلة، واستنابه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة لما توجه إلى مصر للقضاء والخطابة. وكان مدرساً ومعيداً. ودفن بمقابر الباب الصغير، وعمل عزاؤه تحت النسر بالجامع الأموي. إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن محمد، الإمام المحدث، رضي الدين، أبو إسحاق الطبري الأصل، المكي الشافعي، إمام مقام إبراهيم عليه السلام بمكة. سمع من ابن الجميزي كثيراً، ومع شعيب الزعفراني، وعبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أبي حرمي، وفاطمة بنت نعمة، والشرف المرسي وجماعة. وقرأ كتباً كثيرة، وأتقن المذهب. حدث بالبخاري عن عمر أبيه يعقوب بن أبي بكر، والعماد، وعبد الرحيم بن عبد الرحيم العجمي، ومحمد بن أبي البركات بن أبي الخير الراوي بالإجازة العامة عن أبي الوقت، وروى صحيح مسلم عن أبي اليمن بن عساكر. كان يقول: عمري ما رأيت يهودياً ولا نصرانياً، لأنه لم يخرج من الحجاز. ونسخ مسموعاته، وخرج لنفسه سباعيات. وكان متواضعاً وقوراً، محباً للرواية صبوراً، متألهاً ذا دين متين، وعزم ثابت. تأيد باليقين. لم يكن بين عينيه وبين الكعبة حاجب، يقوم للصلاة مندوباً وقلبه من الخشوع واجب، قل أن ترى العينُ مثله، أو تمل النظر إذا رأت شكله، لازم إمامة ذلك المقام، وأمن بذلك الحرم الشريف حلول الانتقام، تزدحم الصفوف خلفه إذا أم، وتحسب أنه القمرُ في الدجا إذا تم، ولم يزل على ذلك إلى أن نزل إلى البرزخ، وأعماله ترقى عليين وتشمخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة. إبراهيم بن قروينة بالقاف والراء والواو والياء آخر الحروف، وبعدها نون وهاء. القاضي الكبير، مكين الدين. أول ما عرفت من حاله أنه كان مستوفي الصحبة مع الجمالي، وكان عنده مكيناً إلى الغاية، لا ينفرد بأمر دونه، وأظنه توجه معه لكشف البلاد الحلبية، ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بالديار المصرية لما أمسك القاضي شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وتوجه معه إلى الحجاز، ولم يزل في نظر الجيش إلى أن تولى نظر الخاص القاضي جمال الدين الكفاة فجمع له له بين نظر الجيش ونظر الخاص وبقي القاضي مكين الدين بطالاً فيما أظن إلى أن حضر إلى دمشق ناظر النظار في زمن الأمير سيف الدين طقز تمر، فأقام بها يسيراً، ولم تطب له وحضر عوضه القاضي بهاء الدين بن سكرة، وتوجه مكين الدين إلى مصر عائداً في أوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وأقام بمصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وكان خيراً لا شر فيه. كثير الاحتمال، وهو من رؤساء الكتاب. إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمود الشيخ جلال الدين بن القلانسي. ورد الديار المصرية، فقال له العلامة شيخنا أبو الثناء محمود، والشيخ تقي الدين بن تمام: أقعد أنت في هذه الزاوية، ونحن نذكرك للناس، فاتخذ زاوية على بركة الفيل في حكر الخازن مجاورةً لدار الأمير بدر الدين جنكلي. وكان قد نشأ في صناعة الكتابة أولاً، ثم إنه ترك ذلك، وتزهد بدمشق مدة قبل غازان بقليل، ولما انجفل الناس توجه إلى مصر، وقامت له في الصلاح سوق، وحملت إليه الصلات في وسوق، وتردد إليه الناس، وزاد اشتهاره حتى خرج عن الحد، وتعدى القياس، واعتقد فيه أمراء الدولة، وأمسك هو ناموس الصول والصولة، ومال إليه جماعة خواص السلطان وأحبوه محبة من أدرك الأوطار في الأوطان، وكلن في أثناء ذلك البخت، ومدة ذلك الدست والرخت، رمي عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الملك الناصر بحجر خدش منه غرضاً، وجعل سماءه أرضاً، فأخرجه إلى القدس خروجاً جميلاً، ووجد لفراق ما ألفه في مصر عذاباً وبيلاً، ولم يتغير لمماليك السلطان فيه عقيدة، وجزموا بأن ذلك من أعاديه مكيدة، وكانوا يمدونه بالذهب، ويلزمونه أخذ ذلك وقبوله بالرغب والرهب، وكانت نفسه كريمة، وهمته عند الثريا مقيمة، ولم يزل على تلك الحال إلى أن خلا في القبر بعمله، وانقطعت من الحياة مواد أمله. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وكان قد قدم إلى دمشق في شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة من القدس، ونزل بمغارة العزيز بالجبل، وقصده الناس بالزيارة من الأمراء والقضاة والعلماء والصدور، وحدث بجزء ابن عرفة، ثم عاد إلى القدس، وتوفي ثالث القعدة من السنة المذكورة. ومن شعره، من قصيدة: قد كنتُ تبتُ عن الهوى ... لكن حُبك لم يدعني ولما مات الشيخ جلال الدين رحمه الله تعالى، رثاه شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى بقصيدة أولها: أيا مقلتي جُودي بدمعك لي جودي ... فما مثلُ من قدر بان عنك بموجودِ وإن غاض ماء الدمع فابكِ دماً فما ... يعد البكا إلا لأكرمِ مفقودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فما أنتِ إن قصرتِ مني ولا أنا ... إذا لم تسل روحي دموعاً بمحمودِ بروحي أحبابٌ مضوا وجلالهم ... يلوحُ لعيني منه أكملُ مشهودِ تولوا وما عوضتُ من قربهم سوى ... تذكر عيشٍ مر لي غير مردودِ هم وردوا قبلي من الموت منهلاً ... وها أنا صادِ وهو أقربُ مورودِ أعددهم حزناً وأبكي معدداً ... عليهم فحالي بين عد وتعديد أولئك إخواني الذين فقدتهم ... كما يفقد الظامي المناهلَ في البيدِ كأن رداهم واحداً بعد واحدٍ ... على نسق الأحزان أسماءُ توكيد أقول لأيام تقضت وشملنا ... كعقدٍ على جيد المسرة معقودِ أأيامنا عودي بهم وضلالةٌ ... معالي لصم غير سامعةٍ عودي ولكنها زورٌ المنى وخداعها ... تخيل أمراً في الورى غير معهود كفى حزناً أن الأسى مبعث الأسى ... فآتيه في ماضيه علهُ تجديد أسميهم حُزنا ليعلم أنه ... رثاءٌ أتى موجع القلب معمود فيا أدمعي سحي ويا صبري انتقص ... ويالوعتي دومي ويا حرمتي زيدي تولى ابن تمامٍ أخي ومصاحبي ... وأكرمُ محبوب إلي ومودود وقد كان أحلى في فؤادي من المنى ... وأشهى لعيني من كرى بعد تسهيد وقد كان لي في مصر أنسٌ مواصل ... فولى وقد وافى نعي ابن عبودِ كريمٌ نمته دوحة الدين والتقى ... فطابَ وسر الأصل يظهر في العودِ وأنكار ما راعَ الفوادَ رزيّةٌ ... أتت عن جلال الدين أكرمِ ملحود تقي نقي طالما طرق الدجا ... بكف قنوتٍ كف من هدبه السودِ ومن كان يحيى الليل لا مد دمعه ... براق وليس الجنب منه بممدود ويشرق بالأسرار أهل قلبه ... فيصبح بالعرفان موطن توحيد وأكرمٌ من غيثٍ وليه ... وأرأفُ من أم بأضعفِ مولود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عزوف عن الأسباب جذ حبالها ... فجذت بسيف من تقى غير مغمود تخلى عن الدنيا وفارق أنسها ... وما طرفه يوماً إليها بمردود ومثرٍ من التقوى فقير بدانة ... إلى الله مجذوب بأكمل تجريد أخي وحبيبي مؤنسي ومصاحبي ... ومن كان عندي يومُ رؤيته عيدي ومن كنت أتيه فيفرجُ أنسه ... إسارَ فؤادٍ في يد الحظ مصفودِ بكيت وما يُجدي البكاءُ وخطبُه ... أشد ولكن ذاك غايةُ مجهودي وذاك لأجلي لا له إذ مدامعي ... شفاءٌ لما في أضلعي من جوى مودي وإلا فما أغنى عن الدمع إذ سرى ... عن المنزل الغاني إلى دار تخليد وإني لأرجو اللطف بي في لحاقة ... فلم يبق إلا أن أنادي كما نودي أمن بعد قربي من ثمانين حجةً ... يخادعني إخلاء نفسي وتفنيدي وقد سار قبلي من تقدمتُ عصره ... ونمتُ كأني بالردى غيرُ مقصود سقى جَدثاً قد حله صوبُ رحمةٍ ... يسح بتكريرٍ عليه وترديد ولو لم أسل القلبَ عنه برؤيتي ... أخاه لأودى بي بكائي وتسهيدي ولكن لي في أنسه بعد وحشةٍ، ... لها حرقٌ في مهجتي أي تبريد وقد كانت الأيام تبسط لي المنى ... بصحبته قدماً فأنجزت موعودي ولي في ابنه ظن جميل وإنه ... سيخلفه في الزهد والنسك والجود فأحسن رب الناس فيه عزاءهُ ... وأجره فالأجرُ أفضلُ موجود وجاد ثرى ذا نوء عفوٍ ورحمة ... وزان ذرى ذا نوءُ عز وتأييد إبراهيم بن محمد بن سعيد الصدر جمال الدين الطيبي السفار، رئيس العراق، والمعروف بابن السواملي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كان في أول أمره له مالٌ يسير، وسافر وأبعد في الصين، وفتح الله عليه، فاكتسب أموالاً جمةً، وبلغ الغاية، وتعدى في المال مدى النهاية، واستقبلَ من حاكم العراق بلاداً كباراً، وأماكن لا تلحق الريح لها غباراً. وكان يؤدي المقرر، ويخصه باللؤلؤ المدور مع رفقة بالرعية، وتخفيف الوطأة عنهم في كل بلية، حتى أحبه الناس طراً، وصار غالبُ أهل تلك البلاد بإحسانه، عبداً، وإن كان حراً وصار بنوه ملوكاً مطاعين، ومطاعيم في النادي وفي الهيجا مطاعين. ولي ابنه سراج الدين عمر نيابة الملك بالمعبر، وابنه محمد مالك شيراز، وابنه عز الدين كافل جميع الممالك التي لفارس. وكان جمال الدين المذكور يعتقد في أهل الصلاح والخير، ويمدهم بالمؤونة والمير، يبعث في كل عام إلى الشيخ عز الدين الفاروثي ألف مثقال، ثم إن التتار مالوا عليه بالأخذ لماله حتى ضعضعُوه، وأكلوه بعدما احتلبوه وارتضعوه. وقلت أمواله، فانتقل إلى واسط لما دبرت الطيب، ولم يكن العيش يصفو بها ولا يطيب. قال ابن منتاب: قال لي السواملي: ما بقي لي سوى هذا الحب، وفيه ثمانون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ألف دينار، وبعث به إلى الصين، فكسب الدرهم تسعة، ولم يزل إلى أن نزل الضريح، وعلم أنه ما يوجد عليها مستريح. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة في ثاني عشري جمادى الأولى بشيراز. والسواميل: هي الطاسات عند أهل السواد بواسط. إبراهيم بن محمد بن قلاوون هو الأمير جمال الدين، ابن السلطان الملك الناصر، محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي. زوجهُ والده بابنة الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا. كان أكبر من أخيه الملك المنصور سيف الدين أبي بكر كان والدهما قد جهزهما إلى الكرك، لّما كان أخوهما أحمد في الكرك، فأقاما هناك مدة إلى أن ترعرعا، وأقدمهما القاهرة، فأمر كلاً منهما طبلخانة، ولم يلقب أحداً منهما بملك ولا غيره، بل كان الأمراء ومن دونهم يقولون: سيدي إبراهيم، سيدي أبو بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكان إبراهيم هذا قد انتشا، وقارب أن يكون ليثاً بعد أن كان رشاً، طر شاربه، وبقل عارضه، وكاد يفترس من يدانيه أو يعارضه، لكنه جدر، وجاءه الأجل الذي قدر، فما رآه والده في ضعفه الذي اعتراه، ولا مكن أحداً من إخوانه أن يراه. ولما تكامل جدريه نجوماً، وصار ذلك لشياطين ناظريه رجوماً، قصف غصنه، وخسف حصنه، فأمر السلطان القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص بأن يدفنه عند عمه الأشرف خليل، وألا يعلم ذلك حقير ولا جليل، وذلك سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. إبراهيم بن محمد الإمام الفاضل برهان الدين السفاقسي المالكي كان هو وأخوه شمس الدين محمد من كبار المالكية، كان هذا برهانُ الدين قائماً بالعربية، شائماً بروق غوامضها اللامعة بما عنده من الألمعية. أعرب القرآن العظيم في أربعة أسفار كبار، أعاد بها لهذا الفن ما كان قد خمُل وبار، تكلم فيها على كل غامض، وحسده عليها غيره ممن لم يصل إلى ذلك وقال: عنقودها حامض، وشرح كتاب ابن الحاجب في الفروع، وأتى فيه بفوائد من حسنها تروق، ومن جزالتها تروع، إلا أنه لم يكمله، فنقص يسيراً، وجعل طرف التطلع لتمامه حسيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ولم يزل يشتغل ويدأب، ويشعبُ صدعَ العلم ويرأب: إلى أن وافاه حينه، وقضي من الأجل دينه. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثٍ وأربعين وسبع مئة، أو في أواخر سنة اثنتين وأربعين. إبراهيم بن محمد الإمام الزاهد المحدث شيخ خراسان، صدر الدين أبو المجامع ابن الشيخ سعد الدين بن المؤيد بن حمويه الجويني الشافعي الصوفي. سمع من الموفق الأركاني صاحب المؤيد الطوسي، ومن جماعة بالشام والعراق والحجاز، وعني بهذا الشأن جداً، وكتب وحصل. قدم الشام سنة خمس وتسعين وست مئة، وحج سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ولقيه الشيخ صلاح الدين العلائي، وخرجَ لنفسه سباعيات بإجازات. وسمع مسلماً من عثمان بن موفق وسمع ببغداد من الشيخ عبد الصمد، ومن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أبي الدينة، وبان الساغوجي، وابن بلدجي، ويوسف بن محمد بن سرور الوكيل. وكانت له صورة إلى تلك البلاد الكبيرة، ومنازلهُ في صدور التتار أثيرة، تتضاءل النجوم لعلو قدره، وتنكشف الشموسُ الضاحية لطلوع بدره، لا يصل أحد إلى لمس كمه، ولا يطمع القان الأعظم في اعتناقه وضمه. ومما يؤيد هذه الدعوة، ويحقق هذه الرجوى أن القان غازان أسلم يده، وبترك بملاقاة جسده. وأخبرني الشيخ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى، قال: أنبأني الظهير ابن الكازروني، قال في سنة إحدى وسبعين وست مئة: اتصلت ابنة علاء الدين صاحب الديوان بالشيخ صدر الدين أبي المجامع، إبراهيم بن الجويني، وكان الصداق خمسة آلاف دينار ذهباً أحمر. وللشيخ صدرُ الدين مجاميعُ وتواليفُ، وله إجازة من نجم الدين عبد الغفار صاحب الحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ولم يزل في تيار عظمته الطافح، وسيل وجاهته السافح، إلى أن سكن في الرّمس، وذهب كأمس. وتوفي رحمه الله تعالى خامس سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنةُ بضعٍ وأربعين وست مئة. إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الشيخ برهان الدين، أبو إسحاق الواني. بواو بعدا ألف ونون، رئيس المؤذنين بجامع بني أمية. سمع من إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطي، وأيوب بن أبي بكر بن الفقاعي، وابن عبد الدائم. كان شيخاً حسن الشيبة، ظاهر الوقار، والهيبة، مطاعاً في قومه، مراعى في التقديم عليهم في ليله ويومه. أضر قبل موته بسنوات، وفقد لفقد نظره من المرئيات الشهوات، وكان يطلع المئذنة ويؤذن بعد الجماعة وحده، ويؤدي الأذان بصوتٍ لا تذكر نغمةُ الأوتار عنده، والناس يقولون: هو يودع الأذان، ويودع الدر صدف الأذان. ولم يزل على هذه الحال إلى أن رأى الواني من الموت ألوناً، وجاءه بعدما توانى. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس سادس صفر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وصلي عليه ظهر الخميس بالجامع الأموي، ودفن بمقبرة باب الصغير، وأجاز لي سنة ثلاثين وسبع مئة. إبراهيم بن محمد بن أبي بكر الخزرجي البناني الدمشقي الشيخ الصالح العالم برهان الدين. روى الحديث عن ابن عبد الدايم، وسمع من ابن النشبي، وابن أبي اليسر وجماعة، وكان من طلبة الشيخ يحيى المنبجي المقرئ. انتقل إلى القدس، وكان إمام قبة الصخرة بالمسجد الأقصى. وتقدم له اشتغال كثير في الفقه. وكان يبحث ويناظر الفقهاء، ثم إنه تزهد، وصحب ابن هود مدة، وسافر معه إلى اليمن، وحج وعاد وأقام بدمشق مدة، ثم إنه عاد إلى القدس، وأقام به سنين إلى أن مات، رحمه الله تعالى، في يوم الأحد خامس شعبان سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. إبراهيم بن محمد الفقيه الفاضل برهان الدين المصري كان شاباً، لم يكمل الثلاثين. توفي في نصف شهر رمضان سنة خمس عشرة وسبع مئة، ودفن بمقابر الباب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وذكر أنه حفظ الوسيط، وعرض منه نحو النصف، وحفظ أربعين الإمام فخر الدين الرازي. أقام بالمدرسة الظاهرية مدة، وكان يلازم النسخ والاستنساخ. إبراهيم بن محمد بن عيسى الأمير شمس الدين بن الأمير الكبير بدر الدين بن التركماني. سمع الحديث، وحج وتوفي بالقاهرة بداره جوا باب البحر في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان فيه مروءة ومكارم أخلاق، وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب. إبراهيم بن محمد بن يوسف القاضي جمال الدين الحسباني يضم الحاء المهملة، وسكون السين المهملة، وباء ثانية الحروف، وألف ونون. نائب الحكم العزيز بدمشق لقاضي القضاة تقي الدين السبكي. لما توفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة عن نيف وثمانين سنة، صلى نائبُ الشام الأمير علاء الدين المارداني عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كان شديداً في أحكامه، سديداً في نقضه وإبرامه، ولا يراعي ولا يداهن مخلوقاً، ولا يعرف من كان مرموقاً بالأبصار أو موموقاً، قد تلبس بالصلابة، وتأنس بالتصميم دون اللين، فلا يجيب من دعا به إلى دعابة، وكان قاضي القضاة يعتمد في الأحكام المعضلة على حكمه المسدد، وتحقق أنه تفرد في عصره بهذا الخلق، وتفرد، إلى أن جاء الحسباني، ما لم يكن في حسابه، وانفرد بعمله تحت الأرض وخلا به ولم يخلف مثله، ولا من استظل بأنه وأثله، رحمه الله تعالى. إبراهيم بن محمد بن ناهض الشيخ الإمام الأديب تقي الدين أبو إسحاق المعروف بابن الضرير - تصغير ضرير - الحلبي. كان إمام الفردوس بحلب، ومعه أيضاً وظيفة في البيمارستان الذي أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي بحلب. وهذا تقي الدين كان أديبَ حلب، وأحد من امترى أخلاف الأدب وحلب. وأهدى إلى بني الزمان نفائس القريض وجلب، وسلب الذهن بعبارته الفصحى وخلب. وجد في جمع الدواوين وكتبها، وذهبها بخطه وهذبها. كتب ما لا يحصى، ونقب عن مصنفات أهل عصره واستقصى. ولم يزل يكتب ويجمع، ويسمو بهمته إلى تحصيل ما يسمع، إلى أن فتح الموت لابن الضرير عينيه، وخر صريعاً لليد والفم بين يديه. وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة. ومولده أول سنة 695هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 كان هذا تقي الدين أديب حلب، ومأوى من يرد إليها من الشعراء والأدباء الغرباء. كبت بخطه شيئاً كثيراً من كتب الأدب ومصنفات أهل عصره، وكان له ذوق في الأدب، ويحفظ شعراً كثيراً للمقدمين والمتأخرين. ولم أسمع له نظماً. ولما وردتُ إلى حلب في سنة ست وخمسين وسبع مئة كتب بخطه من تصانيف توشيع التوشيح، وكتاب نصرة الثائر على المثل السائر، وغير ذلك، وسمع كتابي الروض الباسم وغيره. وعلى الجملة كان فريد زمانه في بابه. ورثاه علي بن الحسين الموصلي بقوله: يا ابن الضرير كم عينٍ أضر بها ... مرآك فوق سرير الموت محمولا قضيتَ عمرك في الفردوس مشتغلاً ... ومذ قضيت إليه كنت منقولا إبراهيم بن محمود بن سلمان بن فهد الحلبي القاضي الرئيس الكاتب البليغ جمال الدين أبو إسحاق كاتب السر الشريف بحلب، أحد من كتب المنسوب الفائق، وأبرزه وهو أتقى من الأحداق، وأنقُ من الحدائق، كأنه طروسه خمائل، وسطوره أعطافُ غيد موائل، لا يشبع الناظر من تأملها، ولا تشكو القلوب من تحملها وتجملها، وإلى أخلاقٍ يتعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 منها نسيم الصبا، وتثني عليها النفحاتُ من زهر الربا، ومفاكهةٍ ألذ من مسامرةً الحبيبِ، وأشهى من التشفي بأذى الحسود والرقيب. وكان يستحضر كثيراً من شعر المتأخرين، وتراجم أهل الآداب والصلاح من المعاصرين، وله نظم يروق ونثر يفوق. ولم يزل يتولى ويعزل من كتابة السر، ويفعل ما تصل إليه مقدرته من البر، إلى أن حل به الحين، واتخذ له من باطن الأرض أين. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم عرفة سنة ستين وسبع مئة. ومولده سنة ست وسبعين وست مئة في شعبان. وكان قد توجه مع والده إلى الديار المصرية، وباشر هناك كتابة الإنشاء، وسمع من الأبرقوهي وغيره في ذلك العصر، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يألف به ويأنس ويركن إليه، ولما عزل القاضي عمادُ الدين بن القيسراني من كتابة سر حلب: جهز القاضي جمال الدين إليها، فأقام بحلبَ قريباً من ست عشرة سنة، وعزله الملك الناصر محمد بن قلاوون بتاج الدين ابن زين. حضر في واقعة لؤلؤ مع الحلبيين سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وطلب إلى القاهرة، ورسم عليه في دار الوزارة مُدة مديدة، ثم أفرج عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ولما توجه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى إلى مصر في بعض سفراته، طلبه من السلطان، فرتب في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، وصاحب الديوان إذ ذاك ابن أخيه القاضي شرف الدين أبو بكر، فأقام بها إلى أن عزل ابن أخيه، وعزل هو بعزله، فأقام في بيته بطالاً إلى أن طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، فتوجه إليها، فأقام هناك بطالاً في سنة ثمان وثلاثين وما بعدها إلى أن توفي صلاح الدين يوسف بن عبيد الله فرتب عوضه في كتاب الإنشاء بمصر، وسلم إليه القاضي علاء الدين بن فضل الله ديوان الإنشاء بمصر، فكان ينوبه في ذلك، ثم إنه رتب في توقيع الدستِ قُدام السلطان، وقدام النائب. ولما تلوى القاضي ناصر الدين بن يعقوب كتابة السر بدمشق في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، رسم للقاضي جمال الدين بعوده إلى كتابة سر حلب، فتوجه إليها مرة ثانية، ولم يزل بها إلى أن عزل بالقاضي زين الدين عمر بن أبي السفاح في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ورتبَ له ما يكفيه، ثم عزل ابن السفاح بالقاضي شهاب الدين الشريف، فأقام قليلاً، وعزل في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأعيد القاضي جمال الدين إلى كتابة سر حلب ثالث مرة، ولم يزل بها وابنه القاضي كمال الدين محمد يسد الوظيفة إلى أن عزل القاضي بدر الدين محمد ناظرُ الجيش بحلب، وهو ابن القاضي جمال الدين. وطلب هو ابنه وابن أخيه إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فرسم بعزله عن كتابة السر، ورتب له في كل شهر مبلغ خمس مئة درهم، ورسم لي أنا بالتوجه إلى كتابة سر حلب مكانه، وأقام هو في بيته على راتبه إلى أن توفي رحمه الله تعالى فكتبت أنا إلى ولده القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 كمال الدين محمد إعزيه فيه: مضى من كان للدنيا جمالاً ... فعزوا في مصيبته الكمالا كمال الدين لا تجزع وسلم ... لأمر شاءهُ الباري تعالى أبوكَ مضى ولم نعرف نظيراً ... لهُ فيما حواهُ ولا مثالا تعالى في مناصبه ولكن ... تواضع عند ذاك وما تعالى وكان له إلى الفقراء ميلٌ ... أنا لهم به جاهاً ومالاً فما عرفوا سؤالاً منه إذ لم ... يكن من غيره لهمُ سوى لا فما يوماً نوى لا في نداهم ... وبرهم وأولاهم نوالا وما مالاً على أحد رآه ... عليه الدهرُ قد أخنى ومالا وكم والى أخا ضعف وفقر ... وأولاه المبرة ثم والى بود ما تغير قط يوماً ... على من يصطفيه ولا استحالا ولطفٍ كالنسيم أتى رياضاً ... فهب على أزاهرها شمالاً وعمر مدة يروي حديث ال ... رسول وكأن ذاك له اشتغالا وكم من سيرة للمصطفى قد ... تأنق في كتابتها وطالا أبرزها كخودٍ في حلي ... تهاوت في تثنيها دلالا وما بالي بصربٍ أو بعزل ... ولم يشغل له في ذاك بالاً توكل في الأمورِ على إله ... يدبر شأنه حالاً فحالا تولى السر في حلبٍ زماناً ... فما احتاجت جلاداً أو جدالاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وأغني الجيش عن حركات غزو ... لما ركبوا السهولة والجبالا ووفرهم فما هزوا رماحاً ... ورفعهم فما سلوا نصالا وكم قد ساس في سيس أموراً ... رأى تكفورها فيها الخبالا فينظر يقظة خيلاً ورجلاً ... وتغروه مهابتهم خيالاً برأي كالحسام الغضب ماض ... أفادته تجاربه صقالاً وخط لو رآه الزهر غضاً ... لجود تحت أحرفه مثالا ونثر تكرعُ الأسماع فيه ... على ظمأ فترشفه زلالا وكم نظم ترقرق في انسجام ... فلولا الطرس يمسكه لسالا فل نر مثل هاتيك السجايا ... ولا أزهى ولا أزكى خلالا أفاض الله من كرم عليه ... مدى الأيام رحمه سجالاً وكتبتُ مع هذه الأبيات نثراً ذكرته في الجزء السادس والأربعين من التذكرة لي. وكتب هو إلي لغزاً، وأنا وهو في القاهرة سنة خمس وأربعين وسبع مئة: إن اسم من أهواه تصحيفه ... وصفٌ لقلب المدنف العاني وشطره من قبل تصحيفه ... يقاد فيه المذنب الجاني وإن أزلت الربع منه غدا ... مصحفاً لي منه ثلثانِ وهو إذا صحفته ثانياً ... اسم المحبوب لنا ثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو في غلبك: لعزك يا من رؤيتي وجهه ... تكحل بالأنوار أجفاني هذي ضميري لحمي حله ... وأيد القول ببرهاني إن زال منه الربع مع قلبه ... فإنه للمذنب الجاني عليك تصحيفُ الذي رمته ... فالقلب في تصحيفه الثاني ويبني وبينه محاورات ومكاتبات ذكرتها في كتابي ألحان السواجع إبراهيم بن هبة الله بن علي القاضي نور الدين الحميري الإسنائي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً أصولياً ذكي الفطرة. أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله القفطي، والأصول عن الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، والنحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس وصنف في الفقه والأصول والنحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ولي القضاء بأقاليم منها قوص، وأسيوط، وإخميم، وولي منية زفتا ومنية ابن خصيب في أوائل عمره. وابتداء أمره. وكان حسن السيرة في حكمه، مرضي السيرة في طيشه وحلمه. طلب منه كريم الدين الكبير مالاً من زكاة حاصل الأيتام، ودفع شيء من ذلك ليستعين به على تلك المهام، فلم يعطه شيئاً، وقال: العادة جرت بأن نصرف ذلك إلى الفقراء دون غيرهم، ومتى عدلنا به عنهم قصصنا جناح طيرهم. ولما عاد كريم الدين إلى القاهرة بالغ في أمره مع قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وبذل في صرفه جهد الاستطاعة، فما وافق على عزله، ولا نقض برم غزله، إلا أنه صُرف بعد ذلك بمدة وحضره إلى القاهرة، وأقام بها لأمرٍ ما أطاق رده. وكان قد قرأ على الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الجبر والمقابلة، ومن هذا النوع وما عادله، وقرأ الطب على شهاب الدين أحمد المغربي، واختصر الوسيط للغزالي، وصحح ما صححه الرافعي على التوالي، وشرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المنتخب في الأصول، وقرب المدخل إليه والوصول. ونثر ألفية ابن مالك وشرحها، وجعل فيها إطلاق الأذهان ومرحها. ولم يزل بالقاهرة مقيماً بعد صرفه، وصبر قلبه على الأذى وغض طرفه، إلى أن حدث بعنقه طلوع، عدم معه الهجوعَ، ففارق أترابه، واستجن ترابه، ووصى للفقراء بشيء من ماله، وختم بذلك صالح أعماله، ووقف وقفاً على جهة البّر، وتقرب بذلك إلى عالم السر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. إبراهيم بن أبي الوحش ابن أبي حليقة، علم الدين بن الرشيد. رئيس الأطباء بمصر والشام. عين، وهو نصراني قبل أن يُسلم، أن يكون بطريكاً للنصارى بمصر، فما وافق على ذلك، وأسلم. كان المذكورُ يشارك في فنون الأدب، وينسل مع من نسل إليه من كل حدب. وهو الذي عمل شراب الورد الطري بالشام، ولم يعهد ذلك قبله على مرور الأيام. ولما مرض الظاهر بيبرس بالخوانيق لازمه علم الدين في مرضه، وأتى إليه بما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فوق غرضه، فاتفق نضج الألم الناتئ في حلقه، ولم يجسر أحدّ يمدّ يده غليه لشراسة خُلقه، فمدّ علم الدين يده إلى فيه، وأدخلها، وقرص الورم، فانفجر لوقته، وخرجت المواد التي حار اللبيب في وصف ألمها ونعته، فعوفي السلطان من ألمه المبرح، ووهبه الأمراء شيئاً يطول في ذكره الشرح، فما سمحت نفس السلطان له بمجموع ما وهب، وخصه ببعض ذاك الذي حصل ونهب، وشال الباقي إلى الخزانة، وقال: خروج هذا خفة وعدم رزانة. ولم يزل علم الدين على حالته إلى أن نزلت به مصيبة ما لها علاج ولا رقى، ونزل حفرة لا يجد له منها مرتقى. وقيل: إن تركته بلغت ثلاث مئة ألف دينار، وهذا أمر تجاوز الحد والمقدار. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. إبراهيم بن لاجين بن عبد الله الشيخ الإمام العالم الفاضل البليغ برهان الدين الأغري، بفتح الغين المعجمة، الرشيدي الشافعي، خطيب الجامع الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر بك بحكر جوهر النوبي بالقاهرة. أخذ القراءات عن الشيخ تقي الدين - الصائغ، والفقه عن الشيخ علم الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 العراقي، والأصول عن الشيخ تاج الدين الباربناري، والفرائض عن الشيخ شمس الدين الرواندي، والنحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس، العلم العراقي، وأثير الدين أبي حيان، والمنطق عن سيف الدين البغدادي. وحفظ الحاوي والجزولية والشاطبية، وأقرأ الناس في أصول ابن الحاجب وتصريفه وفي التسهيل. وكان يعرف الطب والحساب وغير ذلك. ولخطبته في النفوس تأثير، وللدموع لها على الخدود جري وتعثير، ترق له القلوب القاسية، وتتذكر النفوس الناسية. وعلى قراءته في المحراب مهابة وفصاحة، ولها إلى الجوانح جنوح وفي الجوارح جراحة. لم أرَ في عمري مثل اتضاعه على علو قدره، ولا رأيت ولا غيري مثل سلامة صدره. مطرح التكلف، راضٍ بالقعود عن الدنيا والتخلف، يحمل حاجته بنفسه، ولا يحتفل بمأكله ولبسه. تخرج به جماعة وانتفعوا، ورد بمواعظة أهل الجرائم عن طريقهم واندفعوا. وعرض عليه سنة خمس وأربعين وسبع مئة قضاءُ المدينة الشريفة وخطابتها فامتنع، وانخزل عن قبول ذلك وانجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وله نظم إلا أنه ما أظهره، ولا كلف خاطره أن يؤلف جوهره، إما عدم رضى بما يأتيه منه، أو تورعاً عن قبوله ونفوراً عنه. ولم يزل على حاله في أشغاله الطلبة، والإمامة والعمل على ما فيه خلاصه يوم القيامة، إلى أن سار إلى الآخرة، وصار بالساهره. وكانت وفاته بالقاهرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. وقلت أرثيه: ملتُ بعدَ البرهان للتقليد ... في انسكاب الدموع فوق الخدود ما أنا واثقاً بتسفاح دمعي ... خان صبري الأمينُ بعد الرشيد كيف لا تسفح الدموعُ على من ... كان للطالبين خير مفيد قال لما احتواه طاعونُ مصر ... كم قتيل كما قتلتُ شهيدِ فهو في قبره مع الحُور يلهو ... ببياض الطلى وورد الخدود ما تملت جفونهُ ببدور ... قبلها في براقع وعقود يا عذولي على تعذر صبري ... في مُصاب عدمتُه في الوجود كان إن قام في الأنام خطيباً ... علم الناس كيف نثر الفريد ثم أجرى الدموع خوفاً ولو ... أن قلوب العُصاةِ من جلمود بكلام مثل السهام مصيبا ... تٍ تشقّ القلوبَ قبل الجلود حزنَ مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ما على زهده وفضل تقاه ... علومس قد حازها من مزيد أيها الذاهبُ الذي نحن فيه ... في لظى وهو في جنان الخلود لا ترع في المعاد حيث وجوه ... الناس فيه ما بين بيض وسود لك في موقف القيامة وجهّ ... يخجل البدر في ليالي السعود وثناءً كأنما ضُربَ العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود قنتعت أنفسُ البرية إذ غبت بع ... يش مُعجل التنكيد فسقى الله تربة أنت فيها ... كل يوم مضي سحائب جُود إبراهيم بن يونس ابن موسى بن يونس بن علي الغانمي البعلبكي. رحل وسمع وعلق وكان جيد القراءة فصيحاً، حسن الود صحيحاً. سمع بالبلاد أشياخ عصره، وعلق الفوائد وغيرها من أهل مصره، وارتحل إلى الحجاز، وسمع هناك وفاز، وجاور بمكة، وكتب بها من الفوائد شكه. ولم يزل على حاله إلى أن حل به غريم أجله، وقابل مهله بعجله. توفي، رحمه الله تعالى، في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. نقلت من خطه له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قال لي العاذلُ يوماً: ... أنت بدري حنيني قلت: لا، قال: فمصري، ... قلت: لا، إني حُسيني إبراهيم بن يحيى ابن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الشيخ الفقيه الإمام المحدث عمادُ الدين أبو إسحاق البصروي، ثم الدمشقي الحنفي. قرأ القرآن وسمع الحديث في سنة ثلاث وسبعين وست مئة وبعدها. وقرأ على الشيوخ كثيراً من الكتب والأجزاء، وكان مشهوراً بحسن القراءة. ومن شيوخه: ابن عبد الدايم، وابن أبي اليُسر، وأيوب الحمامي، ومظفر بن الحنبلي، وابن النشبي، ابن عبد. قال شيخنا علم الدين: وجمعت له مشيخة عن نحو ثمانين شيخاً. ثم إنه بعد ملازمته الطلبة والاشتغال بالعلم، ودخل في الجهات الديوانية، وخدم بديوان الحشر، ومهر في ذلك، وحصل أموالاً، ثم إنه رأى رؤيا أوجبت له التوبة والإقلاع، فحج وترك الديوان، ولازم المسجد والتلاوة، وبقي على ذلك نحو عشرين سنة، وحصل له صمم، وقوي به، فكان لا يسمح إلا بمشقة، وكان يحدث من لفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ومما قرأه صحيحُ مسلم والترغيب والترهيب على ابن عبد الدايم وغير ذلك. ومما انفرد به أنه قرأ الكافية الشافية على ابن مالك. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده في شهر رجب سنة خمس وأربعين وست مئة. إبراهيم بن يوسف القاضي الرئيس المؤتمن أمين الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية. كان متصفاً بالأمانة المفرطة، ملتحفاً بالعفة التي من لم يطلع على أمره يعتقد أنها مغلطة. حاول السلطان الملك الناصر محمد أن يأخذه من أستاذه مرات، وتحيل عليه بأنواع من وعود الإحسان والمبرات، فما وافق مخدومه، ولا هو على ذاك، وتحيد جهده، وتحيل، ولم يقع في تلك الأشراك. وكان كاتباً خبيراً، عارفاً بأمور الديوان بصيراً، وعنده مشاركة في علوم، وممارسة لما يتصف به أهل العلوم والفهوم، وفيه سكون مفرط وعدم رهج، وانجماع سلك به في الدهر فرد نهج، وله عبارة إذا ترسل، ومقاصدُ بليغة بها يتوصل إلى مراده ويتوسل، ما خدم عند أحد إلا وسلم إليه قياده، ورأى أن بيده صلاحه وفساده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولي نظر الجيوش بالديار المصرية في أيام الملك الصالح إسماعيل، فباشره بقعدد وسكون، وتقرر في ذهن أولياء الأمر أنه مهما رآه هو الذي يكون. وكان محظوظاً في خدمه، والسلام والأمانة، نعم العونُ لأرباب السيوف والأقلام. ولم يزل إلى أن بلغ نهاية أمده، وتفرد في قبر بمعتقده. وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة. وكان في أول أمره يكتب عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب بدمشق، ولما توجه إلى مصر أخذه معه، وهناك أسلم، وكان أولاً سامرياً، وكان يميل إلى عقله، ويعتمد إلى تصريفه، ولما أمسك الحاجب أخذه الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار الناصري، فمال إليه، واعتمد عليه، ولما مات أرسلان أخذه الأمير سيف الدين طشتمر حمصّ أخضر عنده، فدخل إليه وعلى الأمير جملة من الديوان فما كان عن قليل حتى وفى ديونه وجعل في خزانته جملة من الحاصل، فأحبه وزاد في تعظيمه وإكرامه، ولما عاد الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى الديار المصرية بعد نيابة وإكرامه، ولما عاد الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى الديار المصرية بعد نيابة صفد أراد عوده إليه، فتعذر ذلك، ودخل طشتمر إلى السلطان، وسأله في إبقاءه عنده، فرسم له بذلك، ولكن بقي أمين الدين. يتردد إلى باب الحاجب كل قليل، وما جسر على مقاطعته، وأراد السلطان الملك الناصر مراتٍ أن يأخذه ويستخدمه في نظر الدولة أو غير ذلك من الوظائف، فيدخل طشتمر على الخاصكية المقربين في ذلك، فيسألون له السلطان في ذلك، وكان طشتمر ما يفارقه، ولما أخرج لنيابة صفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أخذه معه. ولما توجه إلى حلب أخذه معه. ولما دخل البلاد الرومية أخذه معه إلى الروم. ولما عاد منها عاد معه إلى مصر، ولما مات طشتمر رحمه الله طلبه الأمير سيف الدين قماري أخو بكتمر الساقي، وكان في الأيام الصالحية أستاذ الدار فأقبل عليه إقبالاً زائداً، وعظمه، ولما مات جمال الكفاة ، ولاه الصالح إسماعيل نظر الجيش، فأقام فيه إلى آخر أيام الصالح. ثم إنه حضر إلى القدس وأقام به، وأوقف عليه قرية تعمل في السنة بمبلغ، وحضر في أثناء ذلك إلى دمشق، ثم توجه إلى القدس. وأقام به، ولما أفرج عن الأمير سيف الدين شيخو، وأعيد إلى مكانه، طلبه إلى مصر، وجعله ناظر ديوانه، وكان عنده في الذروة من الوجاهة، واستمر عنده إلى أن مات رحمه الله في التاريخ، والله أعلم بسريرته، فإنّ الناس كانوا يتهمونه في دينه. وكتبت إليه وأنا بالقاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة أتقاضاه نجاز منشور بإقطاع لابن أختي: عجب الناس إذ جعلتُك قصدي ... دُون قومٍ ما فضلهم بمبين قلت رأي الرشيد للخير هادٍ ... إذ غدا واثقاً بخير أمين إبراهيم القاضي جمال الدين جمال الكفاة ناظر الدولة والجيوش والخاص، وهو ابن خالة القاضي شرف الدين النشو، والنشو هو الذي استسلمه واستخدمه مستوفياً في الدولة، ثم إنه استخدمه عند الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 سيف الدين بشتاك الناصري، فلبث عنده مدة، ثم إن الناس رموا بينه وبني ابن خالته النشو، فوقعت بينهم المعاداة الصعبة على سوء ظن من النشو وزيادة توهم، ولم يزل الأمير بينهما إلى أن أمسك النشو، ومات هو وجماعته تحت العقوبة على ما سيأتي في ترجمته. وتولى جمال الكفاة نظر الخاص ونظر الجيش، ولم يتفق ذلك قبله لغيره، ولم يزل في عز وجاهٍ وتمشيةِ حالِ مخدومه بشتاك إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وولي الملك ولده أبو بكر، وخلع وولي الأشرف كجك، وخلع وهو على حاله، وأحبه قوصون، وبالغ في إكرامه، ثم حضر الناصر أحمد من الكرك، واستمر به على حاله، وأخذه معه إلى الكرك، وأقام عنده، فلما تولى الملك الصالح إسماعيل وهو في الكرك بقي مدة ووظيفتاه ليس بهما أحد، فتولى مكين بن قروينه الجيش، وبقي أخو جمال الدين - الكفاة - في الخاص يسده إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 حين حضور أخيه، فلما حضر جمال الكفاه من الكرك تسلم وظيفتيه في الجيش والخاص، وبقي كذلك مدة وأضيف إليه نظر الدولة أيضاً، وصار هو عبارةً عن الدولة، ثم إنه أمسك وحمل شيئاً من الذهب تحت الليل وأفرج عنه، وخُلع عليه، وأعيد إلى وظائفه، ثم إنه أمسك، وفعل كالمرة الأولى، ثم أخرج عنه، وأعيد، وتمكن من السلطان الملك الصالح إسماعيل، وعظم عنده، وكتب له الجناب العالي، ولم يكتب ذلك إلا للوزير، ثم رسم له بإمرة مئة، وتقدمة ألف، وأن يلبس الكلوته، ويلعب الكرة مع السلطان في الميدان، فما كان إلا وهو في هذا الشأن، هل يقبل ذلك أو لا حتى عمل عليه، وأمسك هو وجماعة من مباشري الدولة، فتوهمها كالواقعة التي قبلها، فقتل هو بالمقارع وولده إلى أن مات هو تحت العقوبة، ورموه بأمورٍ الله أعلم بصحتها من فسادها. وكان في أول أمره عند الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي كاتباً، ومدة مباشرته الخاص وما معه ست سنين. وكان في أول أمره عند الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي كاتباً، ومدة مباشرته الخاص وما معه ست سنين. وكان رحمه الله تعال حسن الشكل، مليح القامة، حلو الوجه ظريف العمامة، يتحدث بالتركي جيداً، ونم في ذلك اللسان عن فصاحته متحيداً، وما كتب أحدٌ أقوى من علامته ولا أكبر ولا أحسن، ولا أقعد من حروفها ولا أمدّ ولا أمتن، بزته مليحة، وعبارته فصيحة، وفكرته متسرعة، وخبرته عن صحة ذهنه متفرعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وشجاعته بالإقدام متدرعة، وهمته عن الرذائل متورعة، مع لطف عشرة، وظرف تنديب يرقص إذا أبدى بشره، يحب الفضلاء ويدنيهم، ويعينهم بالجود ويغنيهم، يقضي أشغالهم، ويحمل أثقالهم، وكان يولعُ بفن التصحيف، ويأتي فيه بالرائق الظريف، قال يوماً ونحن جلوس في دار ابن خالته، وهو ما هو في عظمته وجلالته، وقد جرى تصحيف عجيب، بين مبتدي ومجيب، فقال لي: هو بحبل يشنق، فما مرت بأذن أحد إلا وأطرق، وغاص في بحرها واستغرق، وقمت أنا إلى الطهارة لقضاء ما لا بد منه، ولا غنى لكل أحد عنه، وخاطري بما قاله متعلق، وبرقُ فهمها غير متألق، وفي ذهابي ملتُ إلى قلبها وتصحيفها فظهرت لي فائدة تأليفها، فعدت إليه قبل ذهابي ملتُ إلى قلبها وتصحيفها فظهرت لي فائدة تأليفها، فعدت إليه قبل ذهابي، وأسرعت إيابي، وقلت له ما ظهر لي في حلها، وسقيته من وبلها وطلها. فقال: يا مولانا! كنت صبرت إلى أن قضيت شغلك، وأتيت بما وسع فضاك وفضلك. فقلت: حلاوة الفهم، أذهلتني عن رشق هذا السهم. وكان جمال الكفاة رحمه الله تعالى في آخر أمره، ونفاسة قدره، قد سلك مسلك كريم الدين الكبير في اقتناء المماليك الأتراك، وأكثر من جباتها في العقود والأسلاك، قد تأنق في ملابسهم الفاخرة وتجديدها، وتحلية مناطقهم التي علائقها يطرب تغريدُها، ولما هلك تحت العقاب، وحمل فوق الجنوية على الرقاب، حزن لذلك أوداؤه وشمت بمصابه أعداؤه، وذلك في أوائل صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وقلت أنا فيه: عجبتُ من أمر جمال الكفاه ... وكونه راحَ ثمال العفاه في ليلة زالة سعادته ... عنه إلى أن رحمته عداه تكلمت أجنابه وهو ما ... يقول في آلامه غير آه وكيف لا يصرخ من جنبه ... فتحه ضربُ الغواني شفاه إبراهيم الحايك وقيل: المعمار. وقيل الحجار، غلام النوري، عامي ظريف، وشاعر عري من حلل النحو والتصريف، لكنّ قريحته نظامة، وطباعه لبرود الشعر رقامة، له ذوق قد شب عمرهُ فيه عن الطوق، وتوريات تسير الثريا من تحتها وهي من فوق، واستخدام له إلى تحريك الأعطاف وهزها شوق، ونكتّ أدبيه ما يبلّ الفاضل منها غلة الشوق، ومقاصدُ غريبة أحسنُ من روق الشباب وما أحسنه من روق إلا أن اللحنّ الخفي يخونه في بعض الأماكن وهو قليل، وتصريف الأفعال يعرض عنه بلا دليل، أما إذا ترك وعامّيته في الأزجال والبلاليق، ونفض يده من القريض لم يكن له فيه تعاليق، فإنه أتي بالعجائب، ويركب في طريق الإعجاب، والإعجاز متون الصبا والجنائب، فما يلحقه في ذلك مجار، ولا يرهقه مُبار، ولا يطمع لاحق له في شق غبار، ولا أعلم له في ذلك نظيراً، ولا استجليت في سماء فنه مثله قمراً منيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وكان فقيراً متخلياً، وأميراً في نفسه بالخمول متحلياً، يعرض عن الأكابر، ويعد أهل الدنيا عنده في أهل المقابر، قد لزم القناعة، وأرخى على وجه الصبر قناعة، فهو في باب اللوق سابق غير مسبوق، وفي ساحات المناشر سلطان من ينادم أو يعاشر، قد هذبه زمانُه، وأطلق في الراحة عنانُه، يكتفي بالبلاغ، ويجتزئ بما له في الحلق مساغ. ولم يزل على عالم إطلاقه ووميض برقة وابتلاقه، إلى أن خرب من المعمار ربع الحياة، وعفر التراب محيّاه. وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبعمئة، بعدما نظم في الطاعون قبل موته، وأنشد قبل فوته: يا من تمنى الموتَ قم اغتنم ... هذا أوانُ الموت ما فاتا يا من تمنى الموت قم واغتنم ... هذا أوان الموت ما فاتا قد رخُص الموتث على أهله ... ومات من لا عمرهُ ماتا وكان قد كتب إلي لما وردت القاهرة في خمس وأربعين وسبع مئة في زمن الملك الصالح إسماعيل قدس الله روحه: وافى صلاح الدين مصراً فيا ... نعم خليل حلها بالفلاح فليهنها الإقبالُ إذ أصبحت ... بالملك الصالح دارَ الصلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فكتبت أنا الجواب إليه: خليلٌ في الشام هلال بدا ... وبدرُ إبراهيم في مصر لاح ذا كامل من حيث ذا ناقص ... وذاك بُرهان وهذا صلاح ومن شعره، وفيه لحن يسير: وصاحب أنزلَ بي صفعةً ... فاغتظت إذ ضيع لي حرمتي وقال في ظهرك جاءت يدي ... فقلت لا والعهد في رقبتي ومنه: ومُفنن يهوى الصفاعَِ ... ولم يكن إذا ذاك فني ملكته عنقي الدقيق ... فراح ينخله بغبن ما كان مني بالرضى ... لكنه من خلف أذني لولا يد سبقت ... له لأمرته بالكفّ عني ومنه: أيري إذا ندبته ... في حاجة تنزل بي قام لها بنفسه ... ما هو إلا عصبي ومنه: عاتبتُ أيري إذ جاء ملتثماً ... بالخزي من علقه فما اكترثا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بل قال لي حين لمته قسماً ... ما جزت حمام قعره عبثا كيف وفيها طهارتي وبها ... أقلب ماء وأرفع الحدثا وفيه: لما جلوا لي عروساً لست أطلبها ... قالوا ليهنك هذا العرسُ والزينه فقلت لما رأيت النهد منتفشاً ... رمانة كتبت يا ليتها تينه ومنه: قال لي العاذلون أنحلك الح ... ب وأصبحت في السقام فريدا أإذا صرت من جفاهم عظاما ... أبوصلٍ تعود خلقاً جديدا ما رأينا ولا سمعنا بهذا ... قلت كونوا حجارة أو حديداً ومنه: قسماً بما أوليتُ من إحسانه ... وجميله ما عشتُ طول زماني ورأيت من يثني على عليائه ... بالجود إلا كنتُ أو ثان ومنه، وفيه لحن وتحريف: كلفي بطباخٍ تنوع حسنه ... ومزاجُه للعاشقين يوافق لكن مخافي من جفاه وكم غدت ... منه قلوبٌ في الصدور خوافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ومنه وفيه لحن ظاهر: في خد من أحببته ... وردّ جني أجنه وشامةٌ ذقت لها ... حلاوة في صحنه ومنه: لجّ العذول ولامني ... فيمن أحبُّ وعنفا فهممت ألطمُ رأسه ... مما مُلئت تأسفا لكنها زلقت يدي ... نزلت على أصل القفا ومنه، وفيه عيب التضمين: هويتُ طباخاً سلاني وقد ... قلا فُؤادي بعد مارده محترقاً ولم يزل بالجفا ... يغرف لي أحمضَ ما عنده ومنه: قالوا تسبب في الجنائز واكتسب ... رزقاً تعيش به أجل حياة فأجبتهم رداً على أقوالهم ... أرأيتم حياً من الأموات ومنه: شكوت للحب منتهى حرقي ... وما ألاقيه من ضنى جسدي قال تداوي بريقتي سحراً ... فقلت يا بردها على كبدي ومنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقزاز يغازلني ... بحاشية لها رقه أبيتُ مُسهداً منه ... أنير من جوى الحرقه أسدي تحت طاقته ... كأني حارسُ الشقه ومنه: يا أغنياء الزمان هل لي ... جرائُم عندكم عظام فضتكم لا تزال غضبي ... فلا سلامٌ ولا كلام والذهب العينُ لا أراه ... عيني من عينه حرام ومنه: يا قلبُ صبراً على الفراق ولو ... روعتَ ممن بالبين وأنت يا دمعُ إن ظهرت بما ... يخفيه قلبي سقطت من عيني ومنه: متى أرى المحبوبَ وافى بالهنا ... ونحن في دار ولا واش لنا أي ثلاثُ ما لهن رابع ... مثاله الدار وزيدٌ وأنا ومنه مواليا: يقل لها زوجها لا تختشي من لوم ... ولا ققي كل من في الأرض وأنا الكوم وأتسيبي وأطعميني أبقَ من ذا اليوم ... أنعس وأرقد ومثلي ما ترى في النوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الألقاب والنعوت الإبراهيمي: الأمير سيف الدين بلبان الإبراهيمي. توفي بحماة. الأمير حسام الدين لاجين أمير: خازندار. توفي بالقاهرة. الأمير علاء الدين طيبغا الإبراهيمي: توفي بصفد. الأبلوج: الواعظ محمد بن عمر. الأبرقوهي: الشيخ شهاب الدين المسند أحمد بن إسحاق. ابن الأثير: عماد الدين إسماعيل بن أحمد، وشمس الدين سعيد بن محمد، وحفيده شمس الدين سعيد بن محمد، والقاضي علاء الدين علي بن أحمد، وكمال الدين محمد بن إسماعيل، وتقي الدين يحيى بن عبد الرحيم، وابن الأثير الواعظ، شمس الدين الحسين بن أسد. وابن الأثير الأرمنتي، علي بن عبد الرحيم. أحمد بن إبراهيم ابن عبد الضيف بن مصعب الصدر نور الدين أبو العباس الخزرجي الدمشقي. قرأ القرآن على السخاوي، وروى الحديث عن التقي اليلداني، وكان نحوياً لغوياً أديباً، له فضائل وعمل اشتغال، وكان من أرباب الأموال. كان فيه رئاسة وحشمة، وله في المكارم عزمة وهمة، وعنده قوة نفس وزعارة، وشمم سرى فيه من نفس الوزارة، وله أدب وقريض، وفضل عريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لم يزل في حاله، على صحته وانتحاله، إلى أن هانت من بان مصعب حياته، وتسلطت عليه من ثمرة الموت جناته. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة اثنتين وعشرين وست مئة. ومن شعره ما كتبه في كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال: وكنا عهدنا أرض جلق روضة ... بها الحسن يجري مطلقاً في عنانه خشينا بها عين الكمال تصيبها ... فما زال حتى ساءها بلسانه أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الشيخ القدوة عماد الدين بن العارف الواسطي الشافعي الصوفي نزيل دمشق. لقي المشايخ وتعبد، ترك الرئاسة وتزهد، وقطع العلائق وتجرد، وكتب المنسوب حتى أخمل الحدائق، وأتى في طرسه بكل سطر على العقد فائق. وكان يرتزق بنسخه، ويتبلغ منه بصيد فخه، ولا يحب الخوانق، ولا الاحتجاز ولو في دانق. وتفقه للشافعي، ونظر في الروضة والرافعي، وكان عنده أدب يتحلى بقلائده وتتجلى محاسنه في فرائده، واختصر دلائل النبوة، والسيرة لابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إسحاق مع القدرة والقوة، وتسلك به جماعة، ألف الضراعة من الرضاعة، ونابذ الاتحادية وأرباب المعقول، وقال فيهم ما أحبّ أن يقول. عاش بضعاً وسبعين سنة، وعينه من الانقطاع عن الدنيا وسنة، ولم يزل على حاله إلى أن التقمته الأرض، وأودعته بطنها إلى يوم العرض. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى عشرة وسبع مئة بالبيمارستان الصغير. ومولده في سنة سبع وخمسين وست مئة بواسط، ومن شعره.. أحمد بن إبراهيم ابن الزبير بن محمد بن إبراهيم بن عاصم. الإمام العلامة المقرئ المحدّث النحوي الحافظ المنشئ، عالم الأندلس. طلب العلم في صغره، وتلا بالسبع على الشيخ علي بن محمد الشاري، صاحب ابن عبيد الله الحجري، وعلى إسماعيل بن يحيى الأزدي العطار صاحب ابن حسنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وسمع من سعد بن محمد الحفار، ويحيى بن أبي الغصن، وإسحاق بن إبراهيم بن عامر الطوسي - فتح الطاء -، ومحمد بن عبد الرحمن بن جوير البلنسي، وإبراهيم بن محمد الكماد، والوزير عبد الرحيم بن عبد المنعم بن الغرس، وأحمد بن محمد السراج، المؤرخ أحمد بن يوسف بن فرتون، ومحمد بن أحمد بن خليل السكوني الكاتب، والقاضي محمد بن عبد الله الأزدي، والقاضي يحيى بن أحمد بن عبد الرحمن بن المُرابط، والحافظ أبي يعقوب المحساي، وطائفة سواهم. قال لي العلامة شيخنا أثير الدين رحمه الله: كان يحرر اللغة، ويعلمني المنطق، يعني النطق بها. وكان أفصح عالم رأيته، وأشفعه على خلق الله تعالى. وقال الشيخ شمس الدين الذهبي فيما أخبرني به: من مسموعاته السنن الكبير للنسائي سمعه من أبي الحسن الشاري بسماعه من أبي محمد بن عبد الله الحجري عن أبي جعفر البطروجي سماعاً متصلاً بينه وبين المصنف ستة، وعني بالحديث عناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تامة، ونظر في الرجال، وفهم وأتقن، وجمع وألف. أخذ عنه أبو حيان وأبو القاسم محمد بن سهل الوزير، وأبو عبد الله محمد بن القاسم بن رمان، والزاهد أبو عمرو ابن المرابط وأبو القاسم بن عمران السبتي انتهى. قلت: كان المذكور علامة عصره، وفريد دهره، ووحيد قطره. هو في القراءات عالمها الدرب، وبحرها الذي يبعث درة للمغترب. وفي الحديث حافظه، وجامعه إذا رأى غيره وهو لافظه. وفي أسماء الرجال جهبذها الناقد والساهر في شأنها وطرف النجم راقد. والتاريخ قيم هذا الفن، وقانص ما سنح منه وما عنّ. وجمع تاريخاً ذيل به على ابن بشكوال في الصلة، وجعل النسخة بذلك إلى زمانه متصلة. وفي النحو فريد فنونه المتشعبة، أفانينه المتلعبة، نظر فيه ودقق، وبحث وحقق، وحذف كثيراً من الفضول ومزق، وغاظ قلوب مناظريه وحرق. وله مشاركة في أصولي الفقه والدين، وقوة نظرية فتت في عضد الملحدين. وكان صباراً على محنه، واقفاً على أطلال الجلد ودمنه، يضحك تبسماً، ويشارك أصحابه في الخير مقسما، وعنده ورع زائد، وله عقل إلى الصواب قائد. ارتحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الناس إليه لاتساعه في العلوم، ومدّ باعه في المعارف التي من شبههُ فيها بالبحر فهو غير ملوم. ولم يزل على هذه الطريق المثلى، وحقيقته الفضلى، إلى أن راحِ ل كان خبراً، وشارك قوماً على البلى صبراً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. وقيل: في شهر رمضان سنة سبع وسبع مئة. ومولده سنة سبع وعشرين وست مئة. أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا أبو حيان رحمه الله تعالى من قصيدة يشير إليه فيها: جزى الله عنا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا البحر الذي عم فائده لقد أطلعت جيان أوحد عصره ... فللغرب فخر أعجز الشرق خالده مؤرخه، نحويه، وإمامه، ... محدثه جلت وصحت مسانده إذا جاهلٌ يغشاه فهوُ مفيده ... وإن آمل يعشو إليه فرافده أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن راجح الإمام نجم الدين ابن الشيخ عماد الدين ابن القاضي نجم الدين بن الشهاب المقدسي الحنبلي، سبط الشيخ شمس الدين بن أبي عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 تفقه واشتغل، ودأب ولكن ما أتم العلم، وحصل له جنون، وانخراط بلا عقل في فنون، وكان يقف في الطرق، وينشد أشياء مفيدة، ويحكي أشياء قديمة وجديدة ويخالط الجد بالهزل، ويساوي بانحرافه بين الولاية والعزل، وينبسط على المرد الذين ما تدبجت خدودهم، لا تسيجت بآس العذار ورودهم، ويشحذ في كفه ويحط في فكه، ويجوز زغل ديناره على من يجهله من غير حكه. وكان له تلاميذه وربون، وحربه زبون، ثم إنه يثوب إليه عقله، ويجلو شيفه من صدإ به صقله، فعل ذلك مرات، واعتمده كرات. ولم يزل على ذلك على أن خنقته يد منونه، في وسط جنونه، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة عشر وسبع مئة. ومولده في نحو سنتين وست مئة. وهو أخو المفتي شمس الدين الحنبلي نزيل مصر. قال الشيخ شمس الدين: كان يأكل الحشيشة. أحمد بن إبراهيم بن صارو شهاب الدين أبو العباس البعلبكي، نزيل حماة. طلب الحديث في الكبر، وسمع من المزي، وزينب، وأبي العباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الجزري، وعدة. وتلا بالسبع على الجعبري. كان له ذوق في العلم، وطوق تحلى به من الحلم، وله شعر يظن أنه سحر. نزل بحماة. وجعلها بعد بعلبك حماه. ولم يزل يتقلب مع دهره، ويتبرض بحلوه وبمره، إلى أن حل به الموت، ونزل به الفوت. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وأربعين وسبع مئة بحماة. ومولده سنة عشر وسبع مئة. ومن شعره: ... أحمد بن إبراهيم ابن عبد الغني شمس الدين قاضي القضاة الحنفي بالديار المصرية، المعروف بالسروجي. كان فاضلاً في المذهب، يغير ذهنه على المعضلات وينهب، والعدول يلتفعون به، ويتمسكون بسببه، عدل جماعة، وأغناهم عن المجاعة. ولم يُسمع أنه ارتشى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ولا راقب جاها ولا اختشى، ذا همة وافرة، وكلمة على الحق متضافرة، له مشاركة جيدة في النحو والتصريف، يطرز بها دروسه، ويجلي بها في المحافل عروسه. شرح الهداية في مذهبه شرحاً كبيراً، وحشاها من الفوائد لؤلؤاً نثيراً، ولكن ما كمله، ولا غشاه بالتتمة ولا زمله، وكان فيه سماحة، وميل إلى الجود ورجاحة. درس بالصالحية، والناصرية، والسيوفية، والأركسية، والجامع الطولوني، وعزل غير مرة بالقاضي حسام الدين وأعيد، وزان بذلك صناعة الترديد، ولم يزل حاكماً إلى أن عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، فعزله لما في نفسه من القضاة، وأظهر لذلك عذراً، وإنما كان قد أسر أمراً في نفسه وقضاه، فتألم السروجي، وبات بليل من الهم دجوجي، وأظهر القناعة بتدريس الصالحية والإقامة فيها، ومنى النفس بالعودة، وتلا آيات تلافيها، فأخرجه ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الحريري منها بالنقباء، وأشمت به قلوب الحسدة والرقباء، فزاد به الألم، ومرض فجف من حياته ريق القلم. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر بيع الآخر سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. أحمد بن إبراهيم الخطيب شهاب الدين السنجاري خطب بكفر مديرا. سمع بمصر وبالثغر من أصحاب السبط، وحصل من ذلك درر السمط، وسمع بدمشق أشياء، وأدرك بذلك منزلة علياء، وله نظم جوده، وفضل تعوده. لم يزل على حاله إلى أن ذوى عوده، وتقلصت من الحياة بروده. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في سن الكهولة ومن شعره ... أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الإمام المقرئ النحوي، المفيد البارع، الخطيب شرف الدين أبو العباس الفزاري الصعيدي الدمشقي الشافعي خطيب الجامع الأموي بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 تلا القرآن بثلاث روايات على السخاوي، وسمع منه كثيراً، وتلا بالسبع على غير واحد. وأحكم العربية على مجد الدين الإربلي، قرأ عليه المفصل. وسمع من عتيق السلماني، والتاج القرطبي، ونجم الأمناء عبد الرحمن، وابن الصلاح، وطائفة. ثم طلب الحديث بعد سنة ستين وست مئة، وأكثر عن ابن عبد الدايم والكرماني وابن أبي اليسر، وقرأ الكتب الكبار، وقرأ المسند على شيخ الشيوخ، وحدث بالصحيح بإجازته من ابن الزبيدي. وولي مشيخة الرباط الناصري، ومشيخة التربة العادلية مدة. وولي خطابة الجامع بالشاغور، ثم نقل إلى خطابة الأموي، وكان قرأ على الكراسي، وحدث بالسنن الكبير للبيهقي، وسمع شرح الشاطبية من السخاوي. وقرأ عليه العربية الشيخ برهان الدين ابن أخيه، والشيخ كمال الدين ابن شهبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والشيخ نجم الدين القحفازي، وتلا عليه الشيخ بدر الدين بن بصخان والشيخ محمد بدر الدين البالسي. وكان مليح القراءة، ظاهر الوضاءة، عذب العبارة، لطيف الإشارة، حسن النغمة، يعد الناس سماعه نغمة، سريع السرد، يشهد له الذوق أنه في فنه فرد، محرر الألفاظ مجودها، معلى قدر الخطابة مسودها، عديم اللحن والتحريف، بصيراً بالنحو والتصريف، تخرج به جماعة صاروا بعده أشياخاً، وكانوا وهو في فريضته فراخاً، وله في التواضع أخبار، وفي الأسماع منه أسمار، ومع التودد المفرد، والكيس والدعابة، والخشوع والزهد والإنابة، وصدق اللهجة والمروءة التي يسمح فيها ببذل المهجة، ولم يزل على هذه السبيل المرضية إلى أن انجزم فعله، وانصرم فضله. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة خمس وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة. وكان قد باشر مشيخة دار الحديث الظاهرية في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبع مئة عوضاً عن الشيخ شرف الدين الناسخ. أحمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد العزيز، الفقيه الفاضل شهاب الدين بن محمد الجزري الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حصل تحصيلاً جيداً، ولم يكمل الثلاثين سنة. وأكثر من المحفوظات في الفقه والأصلين والنحو وغير ذلك. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمع بقراءتي كثيراً من الحديث، وكان يحفظ أسماء مسموعاته وشيوخه، ويذاكرني بها. توفي رحمه الله تعالى في شهر المحرم سنة سبع مئة. ومولده في شهر ربيع الآخر سنة سبعين وست مئة. أحمد بن إبراهيم بن معضاد بن شداد الشيخ شهاب الدين الجعبري. توفي ليلة الجمعة خامس جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبع مئة. وصلي عليه بجامع الحاكم بالقاهرة، ودفن عند قبر والده ظاهر باب النصر. أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن شرف القاضي الإمام العالم الفاضل جمال الدين أبو العباس العثماني الديباجي الملوي المعروف بالمنفلوطي. كان رجلاً مباركاً صالحاً خيراً. اشتغل وحصل، ولازم الطريقة الحميدة، وحج وجاور، ولما قدم الشيخ علاء الدين القونوي إلى دمشق قاضي القضاة، قدم معه، فولاه قضاء بعلبك، فأحسن السيرة في أهلها، فأحبوه ورأوا من عفافه وأمانته وديانته وصيانته ما لم يروه من حكم قبله، ثم إنه نقله إلى نيابة الحكم بدمشق، فباشرها إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 توفي، واستمر به قاضي القضاة علم الدين الإخنائي، فباشر ذلك أياماً يسيرة ومات. وباشر أيضاً إعادة الشامية البرانية، وجلس بالجامع الأموي للإشغال وسمع صحيح البخاري على الحجاز. وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الأولى سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة، ودفن بالصوفية. أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم بن شداد الشيخ الفقيه الإمام المقرئ ضياء الدين أبو الفضل ابن الشيخ الإمام الزاهد الورع شيخ القراء برهان الدين الإسكندري الشافعي إمام مشهد أبي بكر بجامع دمشق. سمع من ابن عبد الدايم جميع صحيح مسلم حضوراً في الرابعة، سنة ست وستين وست مئة، ورواه عنه، وسمع من ابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والقاضي ابن عطاء، وابن النشبي، وابن البن، والكمال ابن فارس، وطاهر الكحال، والشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، وابن البخاري، وجماعة، وله ثبت وإجازات. كان يجلس مع الشهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قال شيخنا علم الدين البرزالي: ورافقته في الحج، وقرأ عليه بعدة أماكن. وتوفي رحمه الله تعالى تاسع عشري شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة. مولده سنة ثلاث وستين وست مئة. أحمد بن أحمد بن محمد بن عثمان الشيخ موفق الدين بن تاج الدين السعدي الشارعي. سمع من جد والده جمال الدين أبي عمرو عثمان، وهو آخر من حدث عن جد أبيه بالسماع. أخذ عنه الواني وابنه، وأقضى القضاة أبو الفتح السبكي، وشمس الدين السروجي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وشهابُ الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، وسعد الدين الدهلي. لحقه بآخر رمق. وله سماع من ابن البرهان أيضاً، لم يزل يسمع الطلبة عليه، ويجلس في دست المشيخة، وهو بين يديه. إلى أن وافاه أجله، وما أمهله أمله، وقد أجاز لي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. أحمد بن أحمد بن عطاء القاضي شهاب الدين الأذرعي الحنفي وزير الشام. حضر والده الحاج أحمد إلى دمشق، وأقام بجبل قاسيون، ونشأ ولده هذا بدمشق، وكتب للأمير بدر الدين بيلبك الجاشنكير الحلبي في دولة الظاهر. وحنا الأمير المذكور عليه، لأنه ماهر. ثم إن الأمير قطع خبزه، لأنه ظهر عجزه، ورمي بالبرص. وقل إن العبد منه يُفترص، فلازم شهاب الدين المذكور باب الأمير بدر الدين المسعودي نائب الأمير حسام الدين طرنطاي، فرتبه لمهمات الأمير زين الدين كتبغا. فخدمه، ونال بخدمته ما أمل وابتغى، فضمن له وابتاع، وارتاع بعض الناس منه ولتاع، ولما تولى كتبغا النيابة بمصر كان شهاب الدين ناظر ديوان النيابة بالشام، وأضيفت إليه الحسبة مع ذلك النظام، فشرع في المشترى والعمائر، وأدار على الناس بذلك الدوائر، وفي ضمن ذلك اشترى كثيراً لنفسه، وتعدى بذلك طور أبناء جنسه، فلما تملك كتبغا، وحضر إلى دمشق سنة خمس وتسعين وست مئة، والصاحب فخر الدين ابن الخليلي معه، رتب شهاب الدين المذكور في الشام وزيراً، وقدم على من كان كبيراً وصغيراً، فاقترح أن يكون المشد معه فتح الدين ابن صبرة، ولم يرض بشمس الدين الأعسر رفيقاً، وقال: هذا ثبتت خيانته فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 يسلك معي طريقاً، فباشر الوزارة أياماً قلائل، وظهرت لخموله دلائل. ولما خُلع كتبغا وهرب إلى دمشق وأقام بالقلعة وانفصل الحال، وجهز إلى صرخد، ولم يكن له إلى غيرها في ذلك الوقت منفد، تولى الأعسر الشد، وصار الأمر له في الإعطاء والمنع، والقبول والردّ، فلم يقابل شهاب الدين إلا بالخير، ولم يلحقه منه ضيم ولا ضير، مع زيادة الإحسان الفضل باليد واللسان. ولما نقل كتبغا إلى حماة توجه شهاب الدين إليها، ونزل بجملته عليها. ولما مات كتبغا التحق بالأمير جمال الدين الأفرم، وأحرق نفسه في خدمته وأراه أنه من غيره أقدرُ وأصرم، وأشار عليه بعمارة الجامع الذي بالجبل، وتولى من عمارته ما لا له به قبل. ثم إنه مرض بالفالج، وغلب في أمره الطبيب والمعالج، إلى أن خطفته عقاب المنايا، وطأطأ في القبر لتلك الحنايا، وفرق ما حصله، ولم يلتئم شمل ما أجملهُ وفضله. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة. أحمد بن أحمد بن الحسين ابن موسى بن موسك بن جكو، الشيخ المحدث شهاب الدين الهكاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 كان شيخ الإقراء بمدرسة المنصور بالقاهرة، ونال بذلك النجوم الزاهرة، ونزل له قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي عن مشيخة الحديث بالمنصورية فباشرها، وحاش الفوائد للطلبة وحاشرها. أخبرني الشيخ تقي الدين بن رافع أنه كتب الكتب الستة، وطبقات ابن سعد. وكثيراً من أجزاء الحديث، وعلق منها ما هو قديم، وما هو حديث. ولم يزل على حاله إلى أن علق به مخلب الحمام، ونقل شهابه إلى الكسوف بعد التمام. وتوفي رحمته الله تعالى ثاني عشر جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة بالقاهرة. وتوفي عن ست وسبعين سنة. أحمد بن إدريس بن محمد بن مفرج بن مزيز الشيخ الإمام الفاضل الرئيس المعمر تاج الدين أبو العباس بن تقي الدين الحموي الشافعي الكاتب. سمعه أبوه حضوراً سنة ست وأربعين وست مئة من صفية بنت عبد الوهاب القرشية. ارتحل به وسمعه من مكي بن علان، ومحمد بن عبد الهادي، واليلداني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والشرف الإربلي، والبكري، واليونيني. وسمع ببلده من شيخ الشيوخ، وبمصر من أصحاب البوصيري. وأجاز له من بغداد إبراهيم بن الخير، وابن العليق، ويحيى بن قميرة، وأخوه أحمد. وقرأ عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية وعلى أبيه جزءاً في سنة ثمانين، وحدث بأشياء تفرد بها. ورحل إليه الناس بسببها. وكان ديناً، ورئيساً وقوراً صيناً. ذكر مرة لوزارة حماة، ولو أراد لبلغ من المنصب منتهاه، وكتب أبوه الخط الفائق، وطريقه في أحسن الطرائق. مليح الوضع والترتيب، جيد الضبط للمشكل والغريب، وقد رأيت بخطه أشياء كباراً، مثل صحاح الجوهري، والروض الأنف، وربما كتبهما مراراً. ولم يزل على حاله إلى أن ذاق مزيز من الموت طعم العلقم، وجرعه الردى سم الأرقم. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد الشيخ الإمام المقرئ الصالح المحدث مسند العصر شهاب الدين أبو المعالي بن القاضي رفيع الدين قاضي أبرقوه الهمداني المصري القرافي الشافعي الصوفي. حضر سنة سبع عشرة على عبد السلام السرقولي. وسمع في الخامسة سنة تسع عشرة من أبي بكر بن سابور بشيراز. وسمع ببغداد من أبي الفتح بن عبد السلام وابن صرما، ومحمد بن البيع، وأكمل بن أبي أزهر، والمبارك بن أبي الجود، وصالح بن كور، وأبي علي بن الجواليقي، وعدة. وبالموصل، من الحسين بن باز، وبحران من خطيبها فخر الدين بن تيمية، وبدمشق من ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن صصرى، وبالقدس من الأوهي، وبمصر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أبي البركات بن الجباب، وسمع منه السيرة، وله معجم كبير، بتخريج القاضي سعد الدين الحنبلي. حدث عنه أبو العلاء الفرضي، والمزي، والبرزالي، وابن سيد الناس، وأبو الفتح، والقاضيان القونوي والأخنائي، وخلق، أكثر عنه شمس الدين الذهبي، وخلق كثيرون. عمر فتفرد، وتضرج خدّ الزمان به وتورّد، ألحق الأحفادَ بالأجداد، ورحل الناس إليه من أقاصي البلاد. وكان مباركاً خيراً ديناً، وصبره على الطلبة كثير وإن لم يكن ذلك هيناً، كان يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليهم وسلم في النوم، وأخبره أنه يموت بمكة، وكذا كان، فإنه حج، وفيها فض الله خاتم عمره وفكه، وبها فتح الموت له فاه وفكه. وتوفي رحمه الله تعالى في عشري الحجة سنة إحدى وسبع مئة. ومولده بأبرقوه سنة خمس عشرة وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أحمد بن إسماعيل بن منصور نجم الدين الحلبي المعروف بابن التبلي وبابن الجلال. سمع من ابن رواحة، وابن خليل، وجماعة. ولازم السماع مع الدمياطي فأكثر، وقرأ بنفسه، وتميز بذاك على أبناء جنسه، وكتب الطباق، وبرز في حلبة السباق. قرأ عليه علم الدين البرزالي جزء ابن حرب رواية العباداني، وأجاز الذهبي مروياته. ولم يزل إلى أن قضى، وترك دنياه ومضى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده بحلب سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، الفقيه العدل شهاب الدين بن عماد الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كن أديباً فاضلاً له نظم ونثر، وله وظائف وشهادة، وكان خبيراً بالشروط، مليح الكتابة، وحج مرات، وكان مؤذناً بالجامع الأموي. وسمع من ابن الواسطي، وحدث عنه بطريق الحجاز. وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشري شهر الله المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. أحمد بن أوحد شهاب الدين ابن الأمير شرف الدين. كان شهاب الدين من أمراء العشرات بدمشق. لما حضر الأمير علاء الدين إلى دمشق نائباً كان منحرفاً عنه لأجل والده، ثم إنه سعى وتدخل إلى أن رضي عليه، وأقبل بوجهه إليه، وولاه مدينة دمشق، فأقام في الولاية مدة، قاسى الناس منه بعض شدة، ثم إنه عزله وولاه شد غزة والساحل، فتوجه إليها وجسمه من فراق دمشق ناحل، فأقام هناك إلى أن قدم الفخري وحكم بدمشق فأحضره، وعزم على إهلاكه، ولكن الله أخره، لميله إلى المصريين على ما سيأتي فيما بعد، فسعى في إزالة ما في خاطره منه، واجتهد في رضاه عنه. فتم له ما أراد، ونال المنى والمراد، فقربه وأدناه، وولاه نيابة بعلبكَ وأقام بها قليلاً، وعاد إلى دمشق ولم يجد إلى غيرها سبيلاً، فأقام بها إلى أن أجاب الداعي، وقام به الناعي، وكان في عينيه فتل شديد، وله أمل في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مديد، وكان يخبر بأشياء قبل وقوعها، فتقع وفق ما قاله أو مقارباً، ولم أدرِ من أين له علم ذلك مستقيماً موارباً. وكان القاضي شهاب الدين بن فضل الله يتعجب من تلك الأخبار، ويقول: هذا علم النجوم عنده قد بار. وتوفي رحمه الله تعلى شاباً في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. أحمد بن أيبك ابن عبد الله الحسامي المصري الدمياطي شهاب الدين بن عز الدين الشافعي الجندي، وعرف بابن الدمياطي نسبة إلى جده لأمه. سمع من الحجار، وأحمد بن عبد الرحمن بن دراده، وأبي علي الحسن بن عمر الكردي، ومحمد بن أحمد بن الدماغ ومحمد بن الحسين بن رشيق وشهدة بنت أبي الحسن بن عبد العظيم الحصيني، ووزيرة بنت عمر بن أسعد بن المنجا في آخرين. وسمع بالإسكندرية من إبراهيم بن أحمد بن الغرافي وغيره، وبدمياط من جماعة. وكتب غني وسمع بقراءتي بالقاهرة على الشيخ أثير الدين وفتح الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وحدث وهو شاب، وكتب بخطه، وقرأ بنفسه، وحصل الأصول والفروع، وانتقى على الشيوخ، وجمع مجاميع، وأرخ الوفيات ذيلاً على الشريف عز الدين، وقرأ الفقه، وحفظ ألفية ابن مالك، وجمع مشيخة للقاضي ضياء الدين بن الخطيب، فيها أربعون حديثاً، وتكلم على كل حديث وما يتعلق به، وقرأها عليه، وسمعناها منه في سنة خمس وأربعين. ولم يزل يسمع وينتقي، ويرتفع في الانتخاب ويرتقي، يمتاح من قليب الدواة ويستقي، إلى أن تحدث الناس بوفاته، وذهبت ذاته بصفاته، وذلك طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وكنت قد كتبت له على الأربعين حديثاً التي خرجها للقاضي ضياء الدين أبي بكر بن الخطيب تقريظاً، وهو، وقفت على هذا التخريج الذي لا يرده ناظر، ولا يدفع أدلته مناظر، ولا يستغني عنه مذاكر ولا محاضر، ولا يشبه حُسنه إلا الرياض النواضر، وعلى أنه لمعةٌ من شهاب، وهمةٌ من سحاب، وجرعةٌ من شراب، ودفعةٌ من عباب، لأن مخرجه شهاب زين ليل العلم الداج، وبحرُ ألفاظه دررٌ، وفوائده أمواج، فلو عاصره ابن عساكر لم يذاكر، أو الخطيبُ لما كان يطيب، أو ابن الجوزي لانكسر قلبه، وذهب لبه، أو ابن نقطة لغرق في بحره، وبله بقطره، أو الحاكم لقضى له بالتفضيل، ولم ينظر في جرح ولا تعديل، وخرجه لمولى جمل البلدين، ورئيس يوضع تاجَ سيادته على فرق الفرقدين: كريمٌ سادَ بالأفضال حتى ... غدا في مجده بادي السناءِ له ذكر يطبق كل أرضٍ ... فيملأ جوها طيبُ الثناء فما يخفى علاه على بصيرٍ ... وإن يخف فذو حسد يرائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وهبني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ... أيعمى العالمون عن الضياء فلا أعلم تخريجاً أحسن منه، ولا جزءاً غيره كل الفوائد تؤخذُ عنه، جمع فيه بين الرواية والدّراية، وبلغ فيه إلى غاية تدل على أنه آية، فالله يشكر سعيه، ويتولى بعينه رعيه، وبمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.. أحمد بن بدليك الأمير شهاب الدين الساقي المرعوف بمشد الشرابخاناه. ورد هو وأخوته الأمير سيفُ الدين شادي، وسيف الدين حاجي، وركنُ الدين عمر إلى مصر من البلاد الشرقية، وخدم الأمير شهاب الدين أحمد عند الأمير سيف الدين بكتمر الساقي فجعله ساقياً، ولبث عنده مدة، ورآه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فأعجبه، فأخذه منه، والظاهر أنه أخذه بعد موت بكتمر، وجعله مشد الشرابخاناه، ولم يزل عند السلطان في أعداد الخاصكية، ولما توفي السلطان أخرج إلى صفد، إمّا في أيام قوصون أو بعده، أو أخرج إلى حلب، ثم أعيد إلى مصر لما انقلبت الدولة، ولما جهز الحاج أرقطاي إلى نيابة حلب الأولى خرج هو معه، أقره في النيابة على العادة ويعود، فورد المرسوم وهو في حلب أن يتوجه إلى صفد، ليقيم بها أميراً، فأقام بها إلى أن قتل الكامل، فتوجه إلى مصر، ولما خلع المظفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كان هو من جملة من قام بخلعه، وقتله، وكانوا ستة تكتب المطالعة إلى السلطان، ويطيرها إليهم، وكان أحمد منهم، وكانوا إذ ذاك: بيبغاروس، والأمير منجك، والأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طشتمر طلليه، وسيف الدين الجييغا، والأمير شهاب الدين أحمد المذكور، ووقع بين هؤلاء المذكورين خلفٌ، فقال الأمير شهاب الدين: أيش بنا هذه المرة ما فيها أحد من أولاد السلطان إلا نجرا بالسيف، ومن صح منا جلس على التخت، فأذعن الجماعة له الطاعة، وتركوه مدة أيام، وأخرجوه إلى صفد نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين قطز، فوصل إليها في ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير، فحضر إليه الأمير قماري الحموي السلحدار في الظاهر بسبب الحوطة على موجود الوزير وحواصله، وفي الباطن بإمساكه، وكأنه فهم القضية، فجهز إليه من تلقاه من الطريق، ولم يكن أحداً من الاجتماع به، ولا بمن معه، ولما أراد قماري يتوجه، قال له يا خُوند: السلطان يطلبك، فقال: لأي شيء؟ ما قلت هذا في الأول ولا في الكتاب الذي على يدك، أن معك مشافهة ولكن اطلبوا الأمراء، فحضروا ومعهم نائب قلعة صفد، وقال يا أمراء، السلطان قد طلبني وأنا أتوجه، فقالوا له: خير، فطلب مباشري ديوانه، وقال: كم لنا في القلعة من القمح، قالوا: مئة غرارة، ففرقها جميعها على مماليكه، وقال: اطلعوا اقبضوها، فلما طلعوا، وصاروا فيها أنزلوا كل من فيها من المستخدمين، وتملك القلعة مماليكه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقال لقماري: أنا أكتب إلى السلطان. وأسير معك شخصاً من جهتي بمطالعة مني، وجهزها. وبلغ السلطان ذلك، فكتب في الظاهر إلى سائر نواب الشام أن أحمد الساقي قد شق العصا، فاربطوا له الطرقات، وأمسكوه، وإن حارب حاربوه، وكتب إلى جميع عربان الطاعة بذلك، وكتب إلى الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام أن يتوجه إليه بنفسه في العسكر الشامي، فلما بلغ ذلك أحمد كتب هو نائب الشام يتشفع به، ويسأله أن يكون في جملة أمراء دمشق، فكتب له إلى السلطان، فأجيب إلى ذلك، وكتب له أمان شريف، فجهز ذلك إليه، فلم يذعن، وقال: لو علمت أن ذلك صحيح حضرت، وأصر على حاله. فحضر المرسوم بأن يجهز له أربعة آلاف فارس من دمشق، ونائب غزة الأمير فارس الدين البكي بعسكر غزة، والأمير سيف الدين بكلمش ناظر طرابلس بعسكرها. فتوجه الجميع إليه في أوائل المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ولما وصل نائب غزة وهو والنائب الذي عيّن مكانه بصفد وهو الأمير علاء الدين الطنبغا برناق إلى قرية المجدل جهز إليهما أحمد الساقي يقول: أنا ما أنا عاص، ولكن هذه القلعة لا بد لها من نائب، وأريد أن أكون بها نائباً، فقالا له: إن كنت تريد ذلك، فأطلق الأمير عز الدين أيدمر الشمسي، والأمير عز الدين دقماق وكاتب السر وأخاه ناظر الجيش، وكان قد اعتقلهم بالقلعة، فقال هو: لا اعتقلهم أيام حكمي، والآن ما يخرجون إلى بمرسوم شريف، فطلع المذكوران بمن معهما إلى صفد، فرمي عليهم بالنشاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والبندق والرصاص والزيارات والنفط، وجرح بعض الخيل، وطلع القلعة وأغلقها، وشال الجسر. ولما كان يوم الجمعة ثامن عشر المحرم اتفق العسكر على الزحف على القلعة وإحراق الجسر، وجهزوا إليه يعلمونه أنهم في غداة السبت يفعلون ذلك، فاتق الله واحقن دماء المسلمين. فأطلق من كان عنده في الاعتقال، وقال للعسكر: احلفوا أن لا تؤذوني وأنا أتوجه إلى باب السلطان، فحلفوا له، وأخذوا سيفه، وجهزوه صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الكركي وجهز مملوكه الطنبغا إلى نائب الشام يطلب منه شفاعة، فكتب له ذلك، وجهزوا معه أميراً من الشام وأميراً من طرابلس، وأميراً من صفد، وأميراً من غزة، وساروا به إلى باب السلطان في ثالث عشري المحرم، ورجعت العساكر إلى أماكنها. ولما وصلوا به إلى قطيا، تلقاه الأمير سيف الدين قماري، فأخذه في زنجير مقرم اليدين - على ما قيل - وتوجه به إلى ثغر الإسكندرية، ولم يزل بها معتقلاً، إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فأطلقت المعتقلين الذين في سجن الإسكندرية جميعهم، وولاه نيابة حماة، فوصل إلى دمشق في حادي عشري شعبان سنة اثنتين خمسين وسبع مئة، وصحبته الأمير سيف الدين جركتمر عبد الغني، ليقره في النيابة، ولم يزل في حماة نائباً حاكماً، إلى أن اتفق هو والأمير سيف الدين بيبغاروس نائب حلب، والأمير سيف الدين بكلمش نائب طرابلس، على الخروج على الملك الصالح، وراسلوا الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام على ذلك فما وافقهم. ولما تم أمرهم وهموا بالخروج حلف نائب الشام عسكر دمشق للملك الصالح في العشر الأولى من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وجرى ما يأتي ذكره أن شاء الله تعلى في ترجمة أرغون الكاملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ولما وصل بيبغاروس ومن معه إلى دمشق نزل على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وتوجه أحمد الساقي ومعه ألف فارس، وأقام على المزيريب مدة أربعة وعشرين يوماً ولما وصل الأمير سيف الدينين طاز إلى لد هرب ابن دلغادر من دمشق، وجاء بيبغاروس إلى المزيريب، واجتمع وباتا ليلةً، ثم إنهما هربا بمن معهما من العساكر إلى حلب. ووصل السلطان الملك الصالح إلى دمشق، وجهز الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز، والأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى حلب، فهرب بيبغاروس ومن معه، واجتمعوا بابن دلغارين، وأقاموا هناك يعيثون في الأرض، إلى أن أمسك ابن دلغادر أحمد وبكلمش، وجهزها إلى حلب، فوصلا إليها، والأمير سيف الدين أرغون الكاملي بها نائب في ثاني عشر ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، فاعتقلا بقلعة حلب، وطلع بأمرهما، فعاد الجواب على يد سيف الدين طيدمر أخي طاز بأن يجهز رأسيهما، فحزّ رأس أحمد وبكلمش في حلب في العشر الأوسط من شهر الله المحرّم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وتوجّه بهما المذكور إلى مصر، وكان ذلك آخر أمر الساقي، والله الباقي. وكان هذا أمير أحمد شاباً طويلاً رقيقاً، تراه بالإقدام والشجاعة حقيقياً، حلو الوجه خفيف اللحية، يعلوه رونق، وعليه قبول وحظّ ما فرح به السدير في أيامه ولا الخورنق، يميل إلى الصورة المليحة، ويتعبد بهواها كل بكرة وصبيحة، لا يملك نفسه إذا رأى وجهاً حسناً، ولا يرجع إلى عذل من يرده عن ذلك ولو كان لسناً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وكانت له في ذلك تراجم معروفة في أيام الشهيد، وأخباره فيها سار بها الركبان والبريد، إلا أنه كانت نفسه أبية، وعنده من ميعة الشباب نشوة السبيّة. وكان يحدث نفسه بأمور عظيمة، وفتن لا تزال تصنع للشرور وليمة، وكان لذلك لا يقنع بغاية، ولا يرى إلا ما هو عنده نهاية، ولقد ثبت في واقعة صفد ثبوتاً دونه البال الرواسخ، وأسكن جماعة ممن خالفه البرازخ. ويحكى عنه أنه لما نزل من القلعة ودّع صغار أولاده، وثمرات فؤاده، فقطع القلوب أسفاً، ورأى موته بعينه وهو في الحياة سلفاً، فقلت فيه: عجبتُ من أحمد الساقي وقد برزت ... له العساكرُ في موضونةِ الزردِ ساقٍ سقتهُ الليالي كاس حادثها ... وراحَ من صفدٍ للحتفِ في صفد يعينُهُ ربه فيما ابتلاهُ بهِ ... فما على مثل ما لاقاه من جلد وجاءت الأخبار بأن الأمير سيف الدين قماري لما التقاه في قطيا عامله بأنواع من الإهانة ساعة اللقيا، وأضاف زنجيراً إلى قيده، وقرم يده بشدة وأيده. وقيل: إنه توجه به ماشياً، وكاد لذلك يصبح جسده متلاشياً، ولم يحسب له أحد في هذه المرة حساب السلامة، لأنه فعل ما يوجب العذل والملامة، ولكن " لكل أجل كتاب "، وإذا قدر أمرٌ على المرء ما يفيده زجرٌ ولا عتاب، فأقام في سجنه تلك المدة، وفرّج الله عنه من تلك الشدة، ورسم له بنيابة حماه، فتوجه إليها، وقدم بعد الذل في عز دائم عليها، فسبحان اللطيف الخبير، ومن يرسل رياح الفرج فينشق المحزون منها نشر العبير. وقلت أنا فيه أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تلق حوادث الدنيا بصبرٍ ... ففي صرف الزمان ترى العجائب فهذا أحمدُ الساقي توالى ... عليه من القضا مطر المصائب وما أعطى له أحدٌ حياةً ... وها هو في حماةَ اليومَ نائب وكان فيها نائباً قد تمكن لا ترد له إشارة، ولا يعطل السلطان مما يرومه عشاره كل ما يكتب به يجاب فيه بالقبول، وكل ما يأباه يتلاشى غصنه إلى الذبول، ولكن نفسه تريد بلوغ ما فيها، وإدراك أمانيها، وعقله من الصواب نفور، ودمه - كما يقال - يفور، إلى أن دبر ما دبر، وأثار من الفتنة ما عاد على وجهه وغبر، وكان هو الذي حرك ذاك الساكن، وعمل على خراب ما دخله من المنازل والأماكن، إلى أن خرب بيده بيوته، وطار خلف الشر إلى الروم خوفاً من أن يفوته، ولم يزل بتلك الخنزوانه، إلى أن غدر به ابن دلغادر وخانه، وما زال عليه إلى أن أماته ونسي أمانه، وأراه الله عقبى جناية الخيانة، وجز في حلب رأسه، وخرق من الحياة قرطاسه، ولم ينفعه ياقوته ولا ماسه وتبرأ من فعله القبيح وسواسه، ولم يرض له بالخنا خناسه، فسبحان من بيده الحياة والنشور، وإليه ترجع الأمور، لا إله إلا هو. وقلت لما جز رأسه، وجهز إلى مصر: إياك والبغي فشهبُ الردى ... في أفق البغي غدت ثاقبه ما أحمدُ الساقي الذي مذ بغى ... ما أحمد الله لهُ عاقبه أحمد بن بكتمر أمير أحمد بن الأمير سيف الدين بكتمر الساقي. كان وجهه عليه لمحة من البدر، ومهابته تملأ الجوانح والصدر، مليحاً إلى غاية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 جملاً في نهاية، وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في محبته متغالياً، ولم يره الناس في وقت منه خالياً، كان يوماً نائماً على فخذ السلطان وقد عزم على الركوب، وأحضرت الخيل والعساكر تنتظر قيامه والوثوب، وأبوه بكتمر واقفاً خجلاً، وقلبه يخفق وجلاً، وكلما هم بأخذه يمنعه، ويكابده في أمره ويخدعه، فقال: يا خوند، الناس في خدمتك وإلا في خدمته؟ فقال: ما أركب حتى ينتبه أحمد من نومته، وكان الناس يظنون أنه ابن السلطان يقيناً، ويقولن: ما رأينا مثله عنده مكيناً، وأمره مئة، جعل مقدم ألفٍ مع صغر سنه، وجعل بعد ذلك شخصه في قلبه في كنه، وكان هو صغير ضعيف القائمة، لا يستطيع النهوض لعلةٍ له ملازمة، فلم يزل السلطان عليه بالأدوية والعقاقير، والمعالجة بأنواع من التداوي والتدابير، إلى أن نهض غصنه قويماً، وانعطف قدّه من الميل سليماً، وزاد حسنهُ وبهاؤه، وذهب عنه داؤه واقبل دواؤه، وصح من خمر الشباب انتشاؤه، وثبت إلى القمرين انتماؤه. وزوجه السلطان بابنة الأمير المرحوم تنكز نائب الشام، وجرى ذلك العقد على أحسن ما يكون من النظام، حسبك بهذه الدرة الثمينة، وما جُمع من هذا القرين وهذه القرينة، وكان عرسها عرساً ما فرحت به بوران، ولا كان للفك له دوران، ووقف السلطان بنفسه وفي يده العصار، ورتب السماط ترتيباً خالف فيه العادة وعصى، اختلف بذلك زايداً، وجعل هواه لنفسه قائداً، له العذر فيما توهمه في ذلك من الحسن والزين، لأنهما ولدا مملوكيه العزيزين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وكان أمير أحمد المذكور يقضي عند السلطان أشغالاً لا يقضيها غيره، ولا يحوم في جوها إلا طيره، ولم يزل بدره في مطلع سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن توجه مع السلطان إلى الحجاز، وقضى فرضه وفاز من الأجر بما فاز، وعاد راجعاً، وبدره يُرى في سماء الملك طالعاً، فمرض مرضاً حداً، وزاد به جداً فأذوى ريحان شبابه، ونغص بموته حياة أترابه. وتوفي رحمه الله تعالى في طريق الحجاز عائداً في المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وعمره يقارب العشرين. وقلت ذلك الوقت: ورقيبٍ بليتي ... في الهوى منه ما تمر ذاك قد طال عمره ... ويموتُ ابنه بكتمر وكتب إلى أبيه تهنئة لما أعطي تقدمة الألف عن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى من جملة كتاب: وأما ما شملت به الصدقات الشريفة للمقر العالي المولوي الأميري الولدي الشهابي من تقدمة الألف، وخصه به من هذا الإنعام الذي صح قياسه ولم يكن قياسَ الخلف، فإنه بحمد الله واحد كالألف إن أمر عنا، وفردٌ يبلغ به مولانا - أعز الله أنصاره به - الأمان من الزمان والمنى، وبه يُحقق المملوك قول الأول الذي لم يحجده جاحد: والناسُ ألفٌ منهم كواحدِ. ولم أرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتوا ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والله تعالى يديم هذه الأيام الشريفة التي أرت مولانا فيه ما سره، وبلغت به رتبةً ذبالها النجوم وطريقُها المجرة، وتقر به عين مولانا الكريمة، فمثل هذا الولد من يكون للقلب قراراً، وللعيون قرة، وكان المملوك يودّ لو كان حاضراً في ذلك اليوم الذي هو تاريخ الهناء، وموسم الفرح المؤبد على مر الآناء، وإن كان المملوك قد غاب بقالبه، فقد حضره بقلبه وعرف قيمة إيجابه وسلبه، والله تعالى يديم لمولانا وله وللمملوك حياة مولانا السلطان خلد الله ملكه، وجعل أقطار الأرض ملكه بمنه وكرمه. أحمد بن أبي بكر بن عرام بهاء الدين، الأسواني المحتد الإسكندراني المولد قرأ القراءات على الدلاصي، والفقه للشافعي على الشيخ أبي بكر بن مبادر، وعلى علم الدين العراقي وقرأ عليه الأصولين على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، والنحو على محيي الدين حافي رأسه، وعلى الشيخ بهاء الدين بن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وسمع على أبي عبد الله محمد بن طرخان، وأبي الحسن الخزرجي، وعلى تقي الدين بن دقيق العيد، وعلى الدمياطي وغيرهم. وتولى نظر الأحباس بالإسكندرية، وصحب أبا العباس المرسي، وأخذ التصوف عنه، وعن والده، أمه بنت الشيخ الشاذلي. وكان المذكور ينظم وينثر، ويجري في ميدان الأدب ولا يعثر، وكان مقداماً متديناً، سالكاً نهج الخير صيّناً. صنف في الفقه والعربية، وعلق على المنهاج للنووي تلعيقة أنوارها مضية، وله مناسك ما أشبه ذلك. ولم يزل في شوطه إلى أن عثر فما قام، واتخذ بطن الأرض دار مقام. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة عشرين وسبع مئة، ومولده سنة أربع وستين وست مئة، ومن شعره: وحقك يا مي الذي تعرفينه ... من الوجدِ والتبريح عندي باق فبالله لا تخشي رقيباً وواصلي ... وجودي ومني وانعمي بتلاق ومنه: أيا طرسُ إن جئت الثغور فقبلن ... أنامل ما مدت لغير صنيع وإياك من رشح الندى وسط كفه ... فتمحى سطور سطرت لرفيع قتل: شعر نازل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أحمد بن أبي بكر ابن محمد بن محمود بن سلمان بن فهد، شهاب الدين، ابن القاضي شرف الدين، لبن القاضي شمس الدين، ابن القاضي شهاب الدين محمود. كان القاضي شهابُ الدين المذكور من جملةِ موقعي الدست، وكان أولاً من جملة كتاب الإنشاء، فلما توفي والده القاضي شرف الدين بالقدس - على ما سيأتي - أعطي مكانَ والده. فباشره، فكان هشاً بشاً بمن يراه، مكرماً لمن أمه أو قصد ذراه. نفسه متسعة للجود، قائمةٌ بما يجبُ من حلق الوفود. لا يتكلم إلا وهو يضحك، ولا يفارقُ لجود طباعه نُصحك. يقضي حوائج الناس في قصصهم، ويزيحُ عنهم ما تجرعوه من غصصهم، فأحّبه الناسُ، وردّ عليهم ما كان حصل لهم في والده من الياس. ولم يزل على حاله، إلى أن عاجله حتفه، وصرف إليه من الموت صرفه. توفي رحمه الله تعالى - يوم عاشوراء، سنة أربع وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة سبع عشرة وسبع مئة. واحتفل الناس لجنازته، ودفن في تربة جده بالصالحية. وعهدي به، وهو كما احتلم، يجري وراء الحية، ويحملها بذنبها، ويرفعها إلى فوق، ويقصعها إلى أسفل، ويرميها من يده، وقد انقطع وسطها، وأنخلعت فقرأتُ ظهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وستأتي - إن شاء الله تعالى - ترجمة كل واحد من أبيه وجده في مواضعها اللائقة بها. وقتل أرثيه من أبيات، التزمتُ فيها الفاء: شهابُ بني محود أصبحَ أفلا ... وكان به صدرُ المجالس حافلاً تيقظ طرفُ الدهر نحو جنابه ... وقد كان في إغفائه عنهُ غافلا يحن إليه الجودُ من حيثُ ينتحى ... كما أنه من عزه راح جافلا لقد كانَ في بردِ الشبيبةِ والعلا ... وبذل الندى ما زال يختالُ رافلا سما بأصولٍ باسقاتٍ إلى العلا ... بحيث رأينا النجمَ عن ذاك سافلا فيا ضيعةَ اللهقانِ بعد مصابه ... لقد كان في دفع الأذى عنهُ كافلا أحمد بن أبي بكر ابن محمد بن سلمان بن حمايل، القاضي شهاب الدين، ابن القاضي بهاء الدين، ابن القاضي شمس الدين بن غانم، كاتب الإنشاء بدمشق. كان والده القاضي بهاء الدين صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، وسيأتي ذكره في مكانه من حرف الباء - إن شاء الله تعالى - ولما توفي والده بطرابلس، تركه صغيراً، فحضر إلى عند أقاربه بدمشق، ثم توجه إلى مصر، فرسم له بأن يكون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 جملة كتاب الإنشاء بطرابلس، ثم إنه سعى وانتقل بمعلومه إلى دمشق، ورتب في جملة كتاب الإنشاء في سنة خمس وأربعين أو ما بعدها في غالب الظن، وأقام بدمشق إلى أن توجه في سنة ست وخمسين وسبع مئة إلى الديار المصرية، وسعى هناك إلى أن رتب في جملة كتاب الإنشاء في باب السلطان على معلومه الذي بدمشق، بزيادةِ في مصر. ولم يزل هناك مريضاً متوعكاً، يقومُ ويقع، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكان مولده بصفد تقريباً في سنة أربع وعشرين وسبع مئة أو في سنة ثلاث وعشرين. وكان فيه سعي وحسنُ توسل ولطفُ توصل، وعلى أنفه في مارنه شامةٌ كبيرة حسناء خضراء. وكانت كتابته قوية، ولم يكن له نظم ولا نثر. أحمد بن أبي بكر شهاب الدين أبو جلنك - بالجيم واللام والنون والكاف - الحلبي الشاعر المشهور. بالعشرة والخلطة التي تركته بروة، وجردت قشره. كان فيه همةٌ وعنده شجاعة، ولديه من الإقدام في المعارك أجزلُ بضاعة، نزل من قلعة حلب للإغارة، والتتار يتوقدُ من شرهم كل شرارة، فوقع في فرسه سهمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عقره، وفتق جنبه وبقره، فبقي على ضخامته راجلاً، وأمسك به عاجلاً، وجاؤوا به مقدم التتار، فسأله عن عسكر المسلمين فرفع شأنهم، وأعلى في الفروسية مكانهم. فغاظه ذلك منه وضرب عُنقه في الحال، وشتمر للارتحال. وأصل منادمته لصاحب ماردين أو الموصل تنديبة، بدت منه بغير قصد، وهي عجيبة. لأنه قصد الطهارة وعلى بابها خادمٌ، يناول كيلاً من الماء لكل قادم، فدخل على عادة البلاد، وما هي عليه من الأمر المعتاد، فصاح به الخادم قف خذ هذا الكيل. قال: لا، أنا أخرى جزافاً من الويل. فبلغت السلطان، فقال: هذا ظريف يصلح لأن ننادمه، ونزيد خوافي جناحه وقوادمه. وأخبرني عنه الصاحب جمال الدين سليمان بن ريان، قال: لزمنا أبو جلنك مدة، ونام عندنا ليالي عدة، وكانت ينتبهُ نصفاً من الليل، ويكررُ علي محافيظه، ومنها مختصرُ ابن الحاجب، ثم يشببُ بشبابه يزمزم، وإذا أصبح توضأ وأتى بالواجب. وما زال على حاله إلى أن ضربت عنقه، وخلا من كوكبه أفقه، وذلك سنة سبع مئة. وأنشدني القاضي جمال الدين بن ريان قال: أنشدني من لفظه أو جلنك لنفسه لغزاً: اسم الذي أهواه في حروفه ... مسألةٌ في طيها مسائل خمساه فعل وهو في تصحيفه ... مبينٌ والعكسُ سمِّ قاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 تضيء بعد العصر إن جئت به ... مكرراً من عكسك المنازلُ وهو إذا صحفته مكرراً ... فاكهةٌ يلتذ منها الآكل وهو إذا صحفته جميعه ... وصفُ امرئٍ يعجبُ منه العاقل وفيه طيبُ مطربٌ جميعه ... هاجت على أمثاله البلابلُ قتل: هذا لغز في مسعود وهو لغز جيد، ومقاصده جيدة، إلا أن قوله وصف امرئ يعجب منه العاقل فيه تسامح، فإنه لا يُقال: مشعوذ وإنما يقال مشعبذ بالباء مكان الواو. وأنشدني شيخنا العلامة أثيرُ الدين، قال: أنشدنا علاءُ الدين علي بن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن الحلبي، قال: أنشدنا أبو جلنك لنفسه، وكان قد مدح قاضي القضاة شمس الدين بان خلكان، فوقع له بثلثي رطل خبزاً، فكتب أو جلنك على بستانه: عجنا ببستانٍ حللنا دوحه ... في جنةٍ قد فتحت أبوابها والبانُ تحسبُها سنانير رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها قلت: بلغني أن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك وضع على هذين البيتين كراسة في البديع، وأنشدني بالسند المذكور أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أتى العذارُ بماذا أنت معتذرُ ... وأنت كالوجد لا تُبقي ولا تذرُ لا عذر يقبل إن تم العذار ولا ... ينجيك من خوفه بأسٌ ولا حذرُ كأنني بوحوشِ الشعرِ قد أنست ... بوجنتيك وبالعشاقِ قد نفروا ومن شعر أبو جلنك أيضاً: جعلتك المقصد الأسنى وموطنك ال ... بيتُ المقدس من روحي وجثماني وقلبك الصخرة الصماءُ حين قست ... قامت قيامة أشواقي وأحزاني أما إذا كنت ترضى أن تقاطعني ... وأن يزورك، ذو زورٍ وبُهتان فلا يغرنك نارٌ في حشاي فمن ... وادي جهنم تجري عينُ سلوان قلت: ألطفُ من هذا وأحضرُ وأجمع، قول القال: يا قدسُ حسنٍ قلبهُ الصخرة التي ... قست فهي لا ترثي لصب متيم ويا سؤلي الأقصى عسى بابُ رحمة ... ففي كبد المشتاق وادي جهنمِ وأنشدني العلامة أبو حيان، قال: أنشدنا علاء الدين علي بن سيف الدين تنكز، قال: أنشدنا أبو جلنك لنفسه: ماذا على الغصن الميال لو عطفا ... ومال عن طريق الهجرانِ وانحرفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وعاد لي عائدٌ منه إلى صلةٍ ... حسبي من الشوقِ ما لاقيته وكفى صفا له القلبُ حتى لا يمازجُه ... شيء سواه وأما قلبُه فصفا وزارني طيفه وهناً ليؤنسني ... فاستصحبَ النومَ من جفني وانصرفا ورمتُ من خصره بُرءاً فزدتُ ضنى ... وطالبُ البرء والمطلوبُ قد ضعفا حكى الدجا شعره طولاً فحاكمه ... فضاع بينهما عمري وما انتصفا قلت: شعر متوسط. أحمد بن أبي بكر بن منصور القاضي الإمام العالم شمس الدين، قاضي طرابلس. كان فاضلاً في أنواع من العلوم. قال شيخنا البرزالي: اجتمع به أصحابنا المحدّثون لما توجهوا إلى هناك في صفر قبل وفاته، وأثنوا عليه. وعاش ثلاثاً وسبعين سنة. وكان ذا مال وتجارة، وفيه شجاعة، وعنده عدة للقتال، ويقاتل الفرنج، وله محاسن كثيرة، ومرض مرضة طويلة. وحصل له عقيب المرض برسام، وتولى غيره القضاء. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أول ربيع الأول، سنة سبع وسبع مئة. وكان يعرف بالإسكندري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أحمد بن أبي بكر بن حرز الله القاضي الفقيه، الإمام العالم شهاب الدين أبو العباس السلمي المغربي المعروف بالأزندي. كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل على الشيخ محيي الدين النووي، ولازمه وصحبه مدة، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه، وزكاه في شهادة شهدها عند بعض القضاة وشفع له عند الشيخ برهان الدين المراغي لينزله في مدرسة. وقرأ الأصول على القاضي عز الدين بن الصايغ، والقاضي بدر الدين بن جماعة. وقرأ النحو على ابن عبد القوي. وولي القضاء ببلد الخيل - عليه السلام - وصرخد وبصرى وغيرها. وعاد إلى دمشق، وحضر المدارس، وجلس مع الشهود، وولي تدريس الحلقة القوصية بالجامع. وكان يخطب أيضاً تارة نائباً وتارة مستقلاً. وسمع الحديث من الشريف يحيى الحنبلي، والنجيب المقداد، وعمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 عصرون، وأبي حامد بن الصابوني، والأمين الإربلي راوي صحيح مسلم، والرشيد العامري، وأبي بكر المزي، والشيخ نصر بن عبيد المؤذن وجماعة، وسمع بعض الكتب الحديث الكبار وكتب في الإجازات. وكان كريم النفس لا يدخر شيئاً، وفيه تواضع، وأخلاقه حسنة، وكان يحب الفقراء، وصحب منهم جماعة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده في شوال سنة اثنتين وخمسين وست مئة. أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن برق الأمير شهاب الدين متولي مدينة دمشق. كان المذكور إنساناً حسن الأخلاق، يخدم الناس على حالتي الجدة والإملاق، ويحب الفضلاء ويبرهم ويلاطفهم في وقائعهم تحت يده ولا يضرهم. ساس الناس بدمشق سياسة جيدة، هرب مرات من الشر إذا وقع، وتحيده. وعلى ذهنه حكايات ووقائع، ونوادر إذا حكاها، قلت: جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأول ما عرف من أمره أنه أقام في ولاية صيدا زماناً، وأخذ به من ذلك الساحل في تلك المدة أماناً، ثم إن الأمير تنكز سيف الدين - رحمه الله تعالى - نقله إلى ولاية مدينة دمشق، فأقام بها مدة مديدة، وحركاتُه فيها مدة الولاية سديدة. ولم يزل على حاله إلى أن انطوى برق ابن برق، فكأنه لم يلمع في غرب ولا شرق وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وتولى دمشق في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان الأمير سيف الدين - رحمه الله تعالى - قد جعله حكم البندقِ عوضاً عن الأمير صارم الدين صاروجا، فكتبت له بذلك توقيعاً، وهو: الحمد لله الذي لم يزل حمده واجباً، وفدهُ لكل خير واهباً، وشكره للنعم جالباً، وللنقم حاجباً، وذكره للبؤس سالباً، وللنعيم كاسباً. نحمده على نعمه التي نصرعُ بالحمد أصناف أطيارها، ونقص بالشكر أجنحتها فلا قدرة لها على مطارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يكون لنا بها عن الفوز بالجنة عذرُ، ولا نجد بها نفوسنا يوم البعث إلا في حواصل طيورٍ خضر. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله. أفضلُ من قدم ذوي الرتب، وأشرفُ من حكم بالعدل العاري من الشبه والريب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا في الحروب عُقبانها الكواسر، وفرسانها الذي أشبعوا من لحوم العدا ذوات المخالبِ والمناسر، ما أحمد الرامي في المرام عزمه، وسعت له في الرتب قدمُ قدمه، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فلما كان الرمي بالندق فناً تعاطاه الخلفاءُ والملوك. وسلك الأمراء والعظماء طريقة لطيفة المأخذ ظريفة السلوك، يرتاضون به عند الملل لا سترواح نفوسهم، ويجنون ثمران المنى في التنزه من غروس عروشهم، ويبرزون إلى ما يروق الطرف ويروعُ الطير من برزاتهم، وينالون ببنادق الطين من الطير ما لا ينالهُ سواهم بجوارح صقورهم ولا بزاتهم. وقد نبذوا في تحصيل المراتب العلية شواغل العُلق، وتدرعوا شعار الصدق بينهم وهم أصحابُ الملق، ومنعوا جفونهم من ورود حياض النوم إلا تحله، وظهروا بوجوهٍ هي البدورُ وقسي هي الأهله، وتنقلوا في صيد النسور تنقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الرخ، وصادوا الطيور في الجو لما نثروا حبات الطين من كل قوس هي كالفخ، وصرخوا على الأوتار فكانت ندامى الأطيار على سلاف المياه من جملة صرعاها، واقتطفوا زهرات كل روضة أخرجت ماءها ومرعاها، احتاجت هذه الطريقة إلى ضوابط تُراعى في شروطها، وتحسبُ على الجادة أذيال مُروطها، ليقف كل رامٍ عند طورِ طيره، ويسبر بتقدمه غور غيره، ليؤمن التنازعُ في المراتب، ويسلم أهل هذه الطريقة من العائب والعاتب. وكان المجلسُ السامي الأميري الشهابي أحمد بن برق هو الذي جر فيها على المجرة مطرفة، وأصبح ابن بجدتها علماً ومعرفة، تطرب الأسماعُ من نغمات أوتاره، وتنشق مرائرُ الطير من لون غُباره، وتودّ المجرةُ لو كانت له طريقاً، والشمس جواده، والسماء ملقه، تتمنى قوسُ السماء الملوّنة، لو كانت قوسه والنسرُ طائره والنجوم بندقه. كم جعل حُلل الروض المرقومةِ بما صرعه مصائره، وكم خرج في زمرٍ والطير فوقهم صافات، فصاد بدر تم حين بادره، وكم ضرج في معركِ الجو من قتيلٍ ريشُه كالزرد الموضون، وكم أرسل البندق فكان سهماً ماضياً لأنه " من حمئ مسنون ". فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال طائره ميموناً، ودر أمره في أدراجِ الامتثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مكنوناً، أن يفوضَ إليه حكم البندقِ بالشام المحروس على عادة من تقدمه في ذلك من القاعدة المستمرة بين الرماة. فليتول ذلك ولاية يعتمد الحق في طريقها الواجب، ويظهر من سياسته التي شخصت لها لعيون وكأنما عقدت أعالي كل جفن بحاجب، وليرعَ حق هذه الطريقة في حفظ موثقه، وليجر على السنن المألوف من هذه الطائفة " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه "، بحيث إنه ينزلُ كل مستحق في منزلته التي لا يعدوها ويقبل من الرامي دعوى صيده، ويرد ما لا يعتدُ بها الرماة ولا يعدوها، ومتثبتاً فيما يحمل إليه من الرمي للحكم ولا يرخ على غيه ذيلاً، محرراً أمر المصروع الذي أصبح راميه من كلفه به مجنون ليلى، جرياً في ذلك على العادة المألوفة والقاعدة التي هي بالمنهج الواضح موصوفة، وليتلقَ هذه النعمة بشكر يستحق به كل خير، ويتلُ آيات الحمد لهذا الأمر السليماني الذي حكمه حتى في الطير. والله يتولى تدبيره، ويُصلح ظاهر حكمه والسريرة، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه، الله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى. أحمد بن أبي بكر بن ظافر الخطيب الأمير الصدرُ الرئيس مجد الدين بن القاضي مُعين الدين الهمداني المالكي، خطيبُ الفيوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 كان أديباً لبيباً فطناً أريباً، عنده حشمة ورياسة، وصدارةً ونفاسة، وكان خطيبَ الفيوم، خاضعاً للحي القيوم، يبكي العيونَ إذا خطب، ويحذرهم البوائق والعطب، وكانت له فضائل، وفيه من الكلمة شمائل، قال شيخنا أثير الدين: كان أحد رجالات الكمال صورةً وكرماً، وعلماً وأدباً. قلت: ولم يزل على حاله إلى أن ظفر على ابن ظافر من الموت ظافر، وأنشب فيه مخالبه والأظافر. توفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. وكان صاهر الصاحب تاج الدين بن حنا، وهو ابن بنت الشيخ مجد الدين الإخميمي، وهو أخو قاضي القضاة شرف الدين المالكي الحاكم بالشام، وسوفي يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ومن شعره: ....... أحمد بن بلبان الشيخ الإمام العالم الفاضل المفتن شهابُ الدين أبو العباس. ابن النقيب البعلبكي الشافعي، مفتي دار العدل وشيخ الإقراء بالشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فاضل زاد على الأفاضل، ومفتن قصر عنه من يناظرُ أو يناضل، أقرأ الجماعة للسبع، واحتفوا كأنهم أشبالٌ اجتمعوا على السبع، وكان نحوه يعذبُ في الأسماع منطقهُ، ويروقُ إلى القلوب رونقهُ، لو رآه ابن مالك كان له عبداً، أو ابن الحاجب لفداه بعينه نقداً، ولفقهه على درس منهاجه فيه روضة، وفتواه تمرعُ أرض السامع وتملأ حوضه. وأصوله باسقة، وسهامُه إلى الأغراض بالصواب راشقة، ينظم وينثر جيداً، لكنه مقل ولو شاء لم يكن عن الإكثار متحيداً. هذا كله إلى تواضُع زانه، وتضاؤلٍ رفع شأنه وما شأنه، وعلا به أقرانه، وحشا به فضله فما أسعد قرانه: تلوح بين الدنيا فضائله ... كما تبرجت الأقمارُ في السدفِ بادي التواضُع للأقوامِ من كرمٍ ... إن التواضع أقصى غايةِ الشرفِ ولم يزل على حاله إلى أن نُقب القبرُ لابن النقيب، وأصابت كمالهُ عينُ الرقيب. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة. ومولده في سنة أربع وتسعين وست مئة بقلعة بلعبك. وكان والده بها نقيباً، واجتمعتُ به بالديار المصرية بالشام غير مرة، وكان يتفضلُ ويجلسُ عندي بالحائط الشمالي من الجامع الأموي بدمشق وآخذُ من فوائده وألتقط من فرائده. قرأ على الشيخ مجد الدين التونسي، وعلى الشيخ شهاب الدين الكفري بالسبع، وحفظ الشاطبية والمنهاج للنووي - رحمه الله تعالى -، وقرأ على الشيخ كمال الدين الزملكاني، وعلى الخابوري، وعلى قاضي حماة وأذن له بالإفتاء بعد العشرين وسبع مئة وأذن له بذلك، وقاضي القضاة جلال الدين القزويني بالقاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وحفظ مختصر ابن الحاجب والطوالع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وبحثهما على الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وقرأ التقريب والتيسير في علوم الحديث، والعمدة على ابن العطار، وحفظ الحاجبية وألفية ابن مالك وبحثهما على قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي، وعلى ابن المجد البعلبكي. وناب في القضاء بدمشق لقاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد، وتردد إلى القاهرة مرّات على فرس بريدٍ تارة، وتارة على خيله لزيارة القاضي علاء الدين ابن فضل الله، وأخذ له في بعض سفراته تدريس العادلية الصغيرة لما شغرت من فخر الدين المصري مضافاً لما بيده من تدريس القليجية الشافعية برحيبة خالد، وأخذ حلقة الاشتغال بالجامع الأموي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بعد الشيخ برهان الدين الفزاري، وكان بيده الإقراء بالأشرفية جوار الكلاسة، ومشيخة الإقراء بتربة أم الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وكان أولاً يقرئ أولاد القاضي محيي الدين بن فضل الله، فحصل بذلك هذه الجهات، وأخذ له القاضي بدر الدين ابن فضل الله وظيفة الإفتاء بدار العدل في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر. وكان له ذوقٌ جيد في الأدب وينظم وينثر في الأدب جيداً، ولكنه يتخيل في نفسه لما كان عنده من الانجماع لغلبة السوداء عليه، فما يعمل شيئاً. وبيني وبينه مكاتبات مذكورة في الجزء الخامس من التذكرة التي لي، وكتبت إنا إليه وإنا بالرحبة وهو مقيم بالقاهرة أسأله عن أخبار الأصحاب: رحلتُ وفي مصر لي سادةٌ ... يطولُ غرامي بهم واكتئابي جفوني وضنوا بأخبارهم ... فأصبحتُ أطلبها من صحابي عسى خبرٌ عنهم صادقٌ ... أطالعُه من كتابِ الشهاب وكتبت له توقيعاً فإفتاء دار العدل بدمشق ارتجالاً، وهو: رسمَ بالأمر العالي المولوي السلطاني الصالحي العمادي، لا زال شهابه لامعاً، وسحابه بالنوال هامعاً، وجنابه لأرباب العلم جامعاً، أن يرتب في كذا ركوناً إلى ما أتقنه من العلوم، وسهر له والناسُ نيام بشهادة النجوم، وسكوناً إلى ما حصله في مذهبه وحرره، وأوضح دليله بالمباحث وقرره، لأنه المقرئ الذي قتل السبع بدربته خبراً، ونزل به أضيافُ التلاميذ وكان لهم من السخاوي أقرأً، والنحوي الذي لو رآه الفارسي ترجل له إعظاماً، ولو شاهده ابنُ مالك كان له غلاماً، والفقيه الذي لو عاينه صاحبُ التنبيه غدق به هذا الأمر ونام، ولو نظر الغزالي لما كان حاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 برود تصانيفه ولا رقمها بالأقلام، والأصولي الذي لو تصدى له السيفُ قطعة بالقول المصيب، ولو تقدم عصره قليلاً قال الناس: ما ابن الحاجب في العين كابن النقيب، والحبرُ الذي تتفيأ الأقلامُ إلى ظل فتأويه، وتبدو وجوهُ المذهب وقد نضرها كأنها البدرُ في دياجيه. فليباشر ذلك على العادة المألوفة، والقاعدة المعروفة، مباشرةً تكون لدار العدل طرازاً، ولذلك الحفل إذا أرشدهم قوله إلى النجاة مجازاً، بدياً من فتاويه ما يقطعُ الحجج، ويقذفُ بحره الزاخرُ درها من اللجج، ويمضي السيف قوله فيقول له الحق: لا إثم عليك ولا حرج، فرب قضايا لا يكشف قناع إشكالها غير فتواه، وأمورٍ ينجلي فيها الحق ببيانه وينظرُ جدواه، وتقوى الله أفضلُ حليةٍ زانت أفاضل الناس، وخيرُ غنيمة تعجلها أو لو الحلم والبأس، فلتجعلها قائده حلمه، وفائدة علمه، فقد أصبح نجي الملوك، وقوله عندهما نفسُ من الدر المنظم في السلوك، وألفاظه عندهم حجةُ في الأوامر والنواهي، وفتاويه عندها المال وإليها التناهي، والله يسدد أقواله، ويوطدُ ركنَ أقواله بالتقوى فإنها أقوى له. والخط الكريم أعلاه حُجةٌ في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى. أحمد بن بيلبك شهابُ الدين ابن الأمير بدر الدين المحسني. كان والده نائباً بثغر الإسكندرية، كتب طبقةً عليا، ونسخ بخطه أشياء، وعانى النظم والنثر، وأتى منها بحدائق الزهر، وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بكلامه وشنف وراح عند الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - في آخر أمره، وكان يسمر عنده في الليل لتفريج هم صدره، ويقرأ بين يديه في مجلدات كان يحضرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ويريه أوائلها فينظرها، ونظم بعض مسائل التنبيه أتى بذلك على غالبها، وبرز في نظمها ولطف ما قال به في قالبها، وكان يعرضها أولاً فأولاً على العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى أن كملها، وختم عليه مُفصلها ومُجملها، وتوجه بعد تنكز رحمه الله تعالى - مرات إلى مصر وعاد، وألفت دمشقُ منه التداني والبعاد، وآخر ما فارقها، ونبذ عهدها وسارقها، وأنه توجه إلى مصر، وسعى في نيابة دمياط، وعمر هناك عمارة وقع منها في ألسنة العوام بين هياط ومياط. ولم يزل بها نائباً إلى أن أساء الدهر إلى ابن المحسني، وذهب من حياته بالرائق السني، وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وتسعين وست مئة. وهو أخو الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني، وذهب من حياته بالرائق السني، وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وتسعين وست مئة. وهو أخو الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني. وأنشدني من لفظه لنفسه: لله ساقٍ رشيقُ القد أهيفه ... كأنما صيغَ من در ومن ذهب يسقي معتقةً تحكي شمائلهُ ... أنوارُها تزدري بالسبعة الشهب حبابها ثغرُه والطعمُ ريقُته ... ولونُها لونُ ذاك الخد في اللهبِ قلت: شعر متوسط. وكتبت أنا إليه وقد وقفت له على قصيدة في هذا الوزن بهذا الروي يمدح بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أيا قاصداً في مدحه أشرف الورى ... وخير نبي في البرية أرسلا جلوت علينا فيه وجه قصيدةٍ ... أجل من البدرِ المنير وأجملا إذا نحن شبهنا به نظم شاهرٍ ... وكل قوافيها الحسانِ تقولُ: لا أحمد بن أبي بكر الأمير شهاب الدين ابنُ الأمير الكبير سيف الدين نائب الشام، وأحدُ الولدين الذكرين اللذين خلفهما الأميرُ سيفُ الدين تنكز، كانا بمصر من جملة الأمراء، وكان هذا أحمد هو الصغير، والأمير ناصر الدين محمد هو الكبير، وكان أسمر طويلاً، وقد اثر الجدري في وجه. توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. أحمد بن حامد بن عُصبة القاضي، جمال الدين الحنبلي، قاضي بغداد. تولى قضاء بغداد، وكان فيها بمنزلة الأستاذ إلا أن خربندا تغير عليه خاطرهُ، وتنكبَ عنه من نسيم إقباله عاطرهُ، فيقال إنه أخرق به وعزره، وكاد لولا قليلٌ أن يُرى وقد نقبَ جبنه وفزره. ما زال في حاله إلى أن عاملته الحياة بالجفاء، وأعوزته الوقوف على ربوع الشفاء. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن علي الإمام الحاكم بأمر الله، أبو العباس بن الأمير أبي علي القبي - بالقاف والباء الموحدة - وعلي المذكور ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر الهاشمي العباسي البغدادي، قدم مصر، ونهض ببيعته الملكُ الظاهر، وبويع سنة إحدى وستين وست مئة، وخطب بالناس، وعقد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس. وكان ملازماً لداره، وكان شجاعاً له إقدام، وعنده ثباتُ جنان في الحرب وإقدام، لا يفر من الحين المجتاح، ولا يرى في وسط المعركة إلا هو إلى الموت يرتاح. هذا إلى ديانة متينة وصيانة مبينة. له راتب يكفيه من غير سرف، ويُقيم أوده إذا ماد أو انخرف. امتدت أيامه قريباً من أربعين سنة، ثم إنه عهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، وكان الحاكم قد نجا في كائنة بغداد، واختفى، ثم إنه سار مع الزين صالح بن البنا والنجم بن المشا، وقصدوا أميرَ خفاجة حسين بن فلاح، وأقاموا مدّة، ثم توصلوا إلى دمشق، وأقام بالبر عند عيسى بن مهنا، فعرف به الناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 صاحب حلب، فطلبه، وجاء هولاكو، ولما جرى ما جرى، ودخل المظفر دمشق بعد واقعة عين جالوت، بعث أميراً يطلب الحاكم، فاجتمع به وبايعه، وتسامع به عربُ الشام، فساروا معه، وآل فضل خلق، فافتتح بهم عانة وهيت والأنبار، وحارب القراؤول في سنة ثمان وخمسين وست مئة، فهزمهم، وقتل منهم ثمانية مقدمين، وأزيد من ألف، وما قُتل من عسكره سوى ستة، فأقبل التتار مع قرابغا، فتحيز الحاكم، وأقام عند ابن مهنا، ثم كاتبه طيبرس نائب دمشق، فقدمها، فبعث به إلى مصر، وصحبه الثلاثة الذين رافعوه من بغداد، فاتفق وصول المستنصر قبله إلى مصر بثلاثة أيام، فخاف الحاكم منه وتنكر، ورجع ماشياً وصحبته الزين الصالحي إلى دمشق، فاختفى بالعقيبة، ثم قصدا سلمية وصحبتهما جماعة أتراك، فقاتلهم قوم، ونجا الحاكم، وقصد الأمير البرلي، فقبل البرلي، فقبل البرلي يده وبايعه هو وأهل حلب، وساروا إلى حران فبايعه بنو تيمية بها، وصار معه نحو ألف من التركمان وغيرهم، وقصدوا عانة فصادفوا المستنصر الأسود، فعمل عليه، واستمال التركمان فخضع الحاكم وبايعه، والتقوا التتار، فانكسر المسلمون، وعدم المستنصر ونجا الحاكم، فأتى الرحبة ونزل على ابن مهنا، فكتب إلى السلطان، فطلبه، فسار إلى القاهرة، وبويع بإمرة المؤمنين، وسكن في برج القلعة ليس له في الأمر شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 سوى الدعاء في الخطبة، وطلب له إلى مصر الإمام شرف الدين بن المقدسي، فأقام معه نحو سنة يفقهه ويعلمه ويُكتّبه، وأجاز له ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر، ولم يحدّث. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وخرج له ابن الخباز بخطه الوحش وانتخابه العفش أربعين جزءاً بالإجازة، فبعث بذلك إلى الوراقة. وكانت وفاته سنة إحدى وسبع مئة، في ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، ودفن بمشهد السيدة نفيسة. وتقدم ذكر حفيده أحمد بن سليمان، وسيأتي ذكر ولده سليمان - إن شاء الله تعالى - في حرف السين مكانه. أحمد بن الحسن ابن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي. قاضي القضاة، شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ شرف الدين ابن الحافظ جمال الدين. كان من أعيان الحنابلة وفرسانها المُقاتلة، جيداً في ذاته، خيراً في صفاته، درّس بالصالحية وبحلقة الحنابلة، وولي الإمامة بمحرابها، وولي القضاء بالشام نحواً من ثلاثة أشهر عوضاً عن قاضي القضاة تقي الدين سليمان في سنة تسع وسبع مئة في مستهل جمادى الآخرة، ولما جاء الملك الناصر من الكرك إلى دمشق عزله، وأعاد قاضي القضاة تقي الدين سليمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وكان فاضلاً، فقيهاً، مناضلاً نبيهاً، حسن العبارة، إذا جرى في ميدان علمه لا يشق أحدّ غباره. وقرا الحديث، وروى عن ابن عبد الدائم. ولم يزل على حاله إلى أن قضى إلى سبيل ربه، وعجز المداوي عن رقاه وطبه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع عشري شهر ربيع الأولى سنة عشر وسبع مئة. ومولده ثاني عشر صفر سنة ست وخمسين مئة بسفح قاسيون. أحمد بن الحسن بن محمد مجير الدين الخياط الدمشقي. كان المذكور شيخاً خياطاً، وناظماً في ليل جهالته خباطاً، وربما ندر له البيت والبيتان، ورمى بالدرة فلقفها من أقلامه الحيتان، مع ثقل في ألفاظه، ما تنوء به أذهان حُفاظه. وكان كثير الداوى في هذا الفن، غزير الإدلال على من يسمع الحمام، وينشد قصدية قد عارضها في وزنها، ويقول: هكذا تكون الدرر في خزنها. والبارحة ضربت المتنبي بألف بابوج، وجعلت طرطوره مثل السراقوج، وينشد قصيدة يعتقد أنها نظيرُ شعر ذاك، ويقول: هكذا تكون الجواهر في الأسلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وشعره في عدة مجلدات، وليس لها نظير في بابها ولا لدات. قال لبنته المسكينة قبل موته: لا تبيعي كل مجلد من هذه بأقل من مئتي دينار، وإياك أن يغرك أحد، فيأخذها بدون هذا المقدار. فكانت بعد موته تبيع كل مجلد منها بدرهمين أو ثلاث، وتتعجب من الناس كونهم ما لهم عليها إقبال ولا انبعاث. ولم يزل على ذلك الحال إلى أن لم يجد لمجير من الموت مجيراً، وبطل ما كان له من العادة والهجيرى. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وقد قارب السبعين أو تجاوزها. ومن شعره، ومن خطه نقلت: إلى كم أيها الدهر الخؤون ... أهونُ وأنت صعبٌ لا تهونُ ثكلتك لا خليل لديك يرجى ... صفاء الود منه ولا خدينُ ولا سكن إليه من الليالي ... إذا اضطربت حوادثها سُكونُ لا قرنٌ من الإخوانِ دمر ... به يحمى الذمار ولا قرين ولا تربٌ يُصابُ ولا صديقٌ ... كما لم يجتمع ضب ونونُ فدحضا ثم تعساً ثم عثراً ... لخطوكَ أيها الصعبُ الخؤون فيا شر الدهور إلام ظمئي ... لديك ولا معينُ ولا معينُ أكذبُ في لئام بنيك ظني ... فتصدقني المآربُ والظنونُ وأسمح أهلِ هذا العصرِ نفساً ... بنائلِ خيره كزضنينُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولست فتى على وعك الليالي ... إلى غير المهيمن أستكينُ وإن جار الزمان فلي قناةٌ ... على غمر الحوادث لا تلينُ لأني من بني بيتٍ رفيعٍ ... عليه تنزلُ الروحُ الأمينُ يغر ذوي الجهالةِ في حلمّ ... إذا طاشت حلومُهم رزينُ وما علموا بأن جبال حلمي ... لهم من خلفها مقتي كمينُ وألفاظّ أحدُّ من المواضي ... إذا شحذت مضاربها العيونُ ومنها: وفي متشاعري عصري أناسٌ ... أقل صفاتِ شعرهُم الجنون يظنون القريضَ قوامَ وزنٍ ... وقافية وما شاءت تكون وما علموا بأنّ الشعر مرقى ... دوينَ صعوده يندى الجبينُ وعبء لو تحمله ثبير ... لأطاله ومنه بدا الأنينُ وبحر نهى له غورٌ بعيد ... عزيزُ فيه لؤلوه الثمين ومضمارُ فحولُ الشعر فيه ... لهم من وعر شقتهِ صفونُ وقافيةٌ هي الذهبُ المصفى ... إذا امُتحن بل السحُر المبينُ معانيها الثواقبُ والقوافي ... إذا يُفزعن أبكارٌ وعين أحمد بن حسن الأمير شهاب الدين بن المرواني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 كان أول متولي البر بالكرك، وأخوه علاء الدين بن المرواني متولي البر بدمشق، فأعرف في وقت أنه طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، وكتب الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - على يده مطالعةً، وكتبا إلى الأمير سيف الدين بكتُمر الساقي وغيره بالشكر منه والوصية به، فأخذ الكتبَ وتوجّه بها، ولم يفتقدها إلا وهو بين يدي السلطان، فمدّ يده ليخرجَ المُطالعة، فمل يجد لها أثراً، فسقط في يده ودهش، فتلافى أمره سيف الدين بكتمر الساقي، وكتب إلى تنكز في معناه، فاستأنف المكاتبة له ثانياً، وجهزها في البريد إليه، فاقبل السلطان عليه بعد ذلك وعاد مكرماً. وتولى نيابة بعلبك، ولم يزل فيها إلى أن طلب أخوه الأمير علاء الدين إلى مصر، وولاه السلطان الوجه القبلي، فطلبه الأمير سيف الدين تنكز من بعلبك وولاه مكانه في ولاية البر، فأقام به إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبع مئة، وكان قد توجه إلى مصر، فحضر وهو مريض. وكان فيه دين، يتلو القرآن ويتنفل وفيه خير وعبادة. أحمد بن زكريا بن أبي العشائر الشيخ شهاب الدين أبو العباس المارديني. روى الجزء الثاني من مشيخة ابن سلمة عنه. وكان مقيماً بدمشق يصحب القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 محيي الدين بن الزكي وأولاده، وينتمي إلى ابن العربي. ثم إنه سافر في الجفل إلى القاهرة واستوطنها. قال شيخنا البرزالي: وأجاز لنا بدمشق، وتوفي - رحمه الله تعالى - بالفيوم في شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة بماردين. أنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدنا المذكور، قال: أنشدنا الزين الجوبان لنفسه: انظر إلى الشمس وقد عممت ... رؤس الهضاب الصلعِ بالأصفر كأنها في الجو قلاعةٌ ... وجاء فلاحٌ عليها خري أحمد بن خليل شهاب الدين البزاعي التاجر الشاعر، له ديوان شعر، حدث بشيء منه، سمع منه الطوفي الحنبلي، وسراج الدين عبد اللطيف بن الكويك، والسديد بن كاتب المرج، وناصر الدين محمد بن الثقة الأسنائي. كان المذكور سفاراً، يحمل من الفضل أسفاراً، له عناية بديوان أبي الطيب، وميل إليه كما يتحدر قطر الصيب، يراجعه ويكرر على أبياته، ويعتني بإظهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عجائبه ومخبآته، ولم يزل على حاله إلى أن مرغت بالموت صفاته، وشرعت وفاته. توفي - رحمه الله تعالى - يوم عاشوراء سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقد قارب المئة سنة. ومن شعره: .... أحمد بن سعد بن محمد أبو العباس العسكري الأندرشي الصوفي. شيخ العربية في زمانه بالشام، وبارقها الذي ينتجعُ قطره من شام، برع في النحو ودرسه، واقتطف أثمار ما علقه من الفوائد وغرسه. أقرأ التسهيل بدمشق لجماعة تخرجوا به وانتفعوا، وخرجوا من الجهالة واندفعوا. وشرح التسهيل، وجعل غامضة كثيباً هيل. نسخ بخطه تهذيب الكمال واختصره، وشرع في تفسيرٍ كبيرٍ وفر وقته عليه وقصره، وكان ديناً، ورعاً صيناً، منقبضاً عن الناس إلى الغاية، ومنجمعاً عنهم ليس له بأمرهم عناية، لم أر في عمري ولا رأى غيري مثل انجماعه، ولا مثل اطراحه أمور الناس ودفاعه. حضرت يوماً عند العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وهو عنده بعدما أمسك الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بخمس سنين، فذكر إمساك تنكز، فقال: وتنكز أمسك؟ قلنا: نعم، وجاء بعده أربعة نواب، الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 علاء الدين ألطنبغا، الفخري، وأيدغمش، هذا الأمير سيف الدين طقزتمر! فقال: ما علمت بشيء من هذا، وما في ذهني أن تنكز أمسك! فتعجبنا منه ومن تخليه عن أ؛ وال الناس والاشتغال بهم، ويقع في دمشق مثل واقعة تنكز، والفخري، وألطنبغا، وهو في دمشق ما يعلم بشيء من ذلك! هذا من أعجب ما يكون. وكان له بيت في الجامع تحت المأذنة الشرقية ولم يزل مكباً على التسهيل حتى محقه الإسهال، وذكره الموت بعد الإمهال والإهمال. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة خمسين وسبع مئة، ومولده بعد التسعين والست مئة، ووقف كتبه على أهل العلم، وجعل أمره لقاضي القضاة. أحمد بن سليمان بن محمد بن هلال الصاحب تقي الدين، ابن القاضي جمال الدين، ابن القاضي أمين الدين، ابن هلال. خرجت له شفاعة من دور السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ونحن معه بالقاهرة في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بأن يكون في جملة كتاب بدمشق، فوعدهن بذلك إذا عاد إلى دمشق، ثم إنه ذكر لأمره فما وافق، ثم إنه سعى بعد موت جمال الدين عبد الله بن غانم في زمن طقزتمر أن يكون عوه فما اتفق له ذلك، فتوجه إلى مصر، وسعى في أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الملك الكامل، وبذل مبلغاً كثيراً في وكالة بيت المال والحسبة، وتوقيع الدست وبالشام، فرسم له بذلك، وبلغ مبلغاً كبيراً، ثم توقفت القضية، فلما تولى الملك المظفر، قام معه الأمير سيف الدين بن فضل والصواف تاجر الخاص فرسم له بنظر الشام عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، لأنه كان قد تصور من الوظيفة، وحضر إلى دمشق في زمن الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي بعد عيد رمضان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وباشر الوظيفة مدة تقارب نصف سنة إلى أن عُزل بالصاحب شمس الدين موسى ابن التاج إسحاق، وحضر إلى دمشق في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكان شاباً طويلاً حسن الصورة، مليح الشكل، حركاته على الظرف واللطف مقصورة، قد خط عذاره بقلم الريحان، وبسم عن ثغر كأنه الحُباب على بنت الحان، بعمة أنيقة اللف، دقيقة الصف، وقلُمه سريع الحركة، وحروفه أحسن في دُجى الحبر من النجوم المشتبكة، واستخف الناس به، وقالوا: هذا صغيرٌ على هذه الوظيفة، قليل الدربة بتنفيذ أمور الدولة العالية المنيفة، فلطف الله به، وجاءت الجهات من عيونها، وماتت نفوس حساده بغبونها، وكان قلمه رطباً لا يرد سائله، ولا يخيبُ من أمله وسائله، رأد معاليم جماعة، وأجرى قلمه بصلةِ الرزق ومد باعه، إلا أن الناس عبرت عيونُهم عليه، ولعبوا في التصريف بين يديه، وقلت حرمته، وحلت بذاك جرمته، ونهب المال وتمحق، ووقع في الضياع وتوهق، فكتب الأمير سيف الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يلبغا، وطلب الصاحب شمس الدين موسى، فحضر كما ذكر أولاً، ولم يجد الصاحب تقي الدين عن دمشق متحولاً، فلازم داره، وأقام مكانه كالقمر في الدارة. وكان قد استدان من الصواف مبلغ ثمانين ألف، واتفق في تلك المدة أن حضر الأمير سيف الدين صرغتمش إلى دمشق متوجهاً بالأمير فخر الدين إياس إلى نيابة حلب، فطالب تقي الدين المذكور مطالبةً فيها غلظة، وأراه مع مهابته أخلاقاً فظة، وجدّ له واكفهر، وجدّ له وازبأر، فشفع فيها غلظة، وأراه مع مهابته أخلاقاً فظة، وجد له عوده من حلب، وأنه ما يحوجه بعد هذا المجلس إلى طلب. فلما كان قبل وصول الأمير سيف الدين صرغتمش إلى دمشق بليلة واحدة، ثارت على تقي الدين حمى بالهلاك معترفة وللحياة جاحدة، وتبيع مع الحمى دمٌ كثير، وهيج كربٌ للتلاف مثير، أعجز الأطباء عن خلاصة أو فكاكه، وتركوا ابن هلال في دائره هلاكه. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الجمعة سادس شهر رجب الفرد، سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان عمره خمساً وعشرين سنة. أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة ما كتبه إلى المذكور هنيتَ ما أوتيته من دولةٍ ... حملتكَ في العينين من إجلالها في مقلةِ الأجفان أنت فقل لنا ... أنت ابن مقلتها أو ابنُ هلالها وانتقد الأفاضل عليه هذا المعنى، لأنه ما يستقيم له المعنى الذي أراده، فأنشدني بعد ذلك الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الخياط من لفظه لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إن الوزارة والكتابة لم تجد ... أحداً سواك يزيدُ في إجلالها جعلتك في العينين منها يا ترى ... أنت ابنُ مقلتها أو ابن هلالها أحمد بن سليمان بن أحمد بن الحسن القبي بضم القاف وتشديد الباء - ابن أبي بكر بن علي، ابن الفضل بن أحمد بن عبد الله ابن إسحاق ابن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الإمام العباسي المصري، أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، أبو القاسم ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم، وجده الفضل هو المسترشد بن المستظهر بن المقتدي بن القائم بن القادر بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور. لما توفي والده المستكفي بالله بقُوص - كما سيأتي في ترجمته في حرف السين - عهد بالأمر إلى ولده هذا أحمد، فلم يوافق الملك الناصر محمد بن قلاوون على ذلك كراهية في والده، وبويع أبو إسحاق إبراهيم ابن المستكفي بيعة خفيّة لم تظهر، ولم تبد كواكبها في أفق الخلافة ولم تُزهر، واستمر الأمر على ذلك إلى أن تولى الأشرف كجك في أيام قوصون، فطلب أبا القاسم هذا وبايعه بيعة ظاهرة، سارية في الآفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 سائرة، وكان قد لقب أولاً بالمستنصر، فلقب الآن بالحاكم، وكني أبا العباس، واشتدت أواخي خلافته والأمراس. ولم يزل خليفة بمصر من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن خمدت أنفاسه، ونقضت من الحياة أحلاسه، وتوفي - تغمده الله برحمته في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن إبراهيم بن المسلم. بضم القاف وتشديد الباء - ابن أب بكر بن علي، ابن الفضل بن أحمد ابن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الإمام العباسي المصري، أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، أبو القاسم ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم، وجده الفضل هو المسترشد بن المستظهر بن المقتدي بن القائم بن القادر بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور. لما توفي والده المستكفي بالله بقوص - كما سيأتي في ترجمته في حرف السين - عهد بالأمر إلى ولده هذا أحمد، فلم يوافق الملك الناصر محمد بن قلاوون على ذلك كراهية في والده، وبويع أبو إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي بيعة خفيّة لم تظهر، ولم تبد كواكبها في أفق الخلافة ولم تزهر، واستمر الأمر على ذلك إلى أن تولى الأشرف كجك في أيام قوصون، فطلب أبا القاسم هذا وبايعه بيعة ظاهرة، وسارية في الآفاق سائرة، وكان قد لقب أولاً بالمستنصر، فلقب الآن بالحاكم، وكني أبا العباس، واشتدت أواخي خلافته والأمراس. ولم يزل خليفة بمصر من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن خمدت أنفاسه، ونقضت من الحياة أحلاسه، وتوفي - تغمده الله برحمته في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن إبراهيم بن المسلم. القاضي النبيل الماجد، شهاب الدين ابن البارزي، ناظر الأوقاف بدمشق، حدث بالغيلانيات عن غازي الحلاوي. ورد إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة من حماة، فأكرمه ورتبه في نظر الأوقاف، وكان في حماة في زمن الملك المؤيد عماد الدين صاحباً، وكان يحبه ويكرمه، وكان كثير البشر طلق الوجه، لا يعرف الرد ولا النجة، كثير التودد والتقرب إلى القلوب، ولا يعرف إلا إيجاب الحقوق على نفسه دون السلوب، يأخذ نفسه بالسيادة التي اعتادها، وأكرم الله له ولادها، وألف رضاعها فما أضاعها بختانة ولادها، يتحيل على أن يخدم الناس بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عنده، ويودّ أن كل أحد يستظل بأنه وزنده، ويختار أن المحتاج والمحتال لا يقتدي غلا به ولا يقتدحُ إلا زنده، ورد على أهل دمشق غريباً، فكان إلى كل القلوب قريباً، وإذا عاداه غر به، رده بالإحسان إليه حبيباً، بأخلاقٍ من أين للنسيمات لطفها، أو للغصون ميلها وعطفها. ومناقبٌ بيضُ الوجوه مضيئةً ... أبداً تكاثرُ السنَ المدّاحِ من قاس ذا شرف به فكأنما ... وزن الجبال الجبالَ القودَ بالأشباحِ ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن برز إلى لحده، وخلف السؤدد ينوحُ عليه من بعده. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي يعظمه ويحترمه ويبره. أحمد بن سليمان ابن مروان بن علي بن سحاب. الشيخ العدل الفاضل، الأديب الصدر شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ نجم الدين البعلبكي. كان تاجراً بالخواصين مدة، ثم ترك ذلك، وشهد على الحكام، ودخل في شهادة القيمة، وكان تقدم له اشتغال في العربية والأدب ونظم الشعر، وله قصائد. وقرأ القرآن على علم الدين السخاوي، وعرض عليه الشاطبية قال شيخنا البرزالي: رواها لنا عنه مرات، وروى لنا أيضاً جزء سفيان، وجزء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الصفار، والأربعين السلفية، وتاريخ هاشم بن مرثد، وروى لنا نسخة أبي مسهر عن المشايخ الأربعة: التاج الشيرازي، وابن علان، وابن ريش، وإبراهيم بن خليل، وغير ذلك. وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سنة سبع وعشرين وست مئة. أحمد ابن سلامة ابن أحمد بن سلامة. الإمام العلامة، قاضي القضاة بدمشق المالكي، القاضي فخر الدين أبو العباس ابن القاضي تاج الدين أبي الخير بن القاضي زين الدين أبي العباس الإسكندري. كان جبلاً في علمه، وشعلةً في فهمه، بحراً يتموج فروعاً، وحبراً لا يرى في معرك الجدال مروعاً، هذا إلى تفسير وحديث، ومعرفة تواريخ من قديم وحديث، وأصول برز في معرفة مسائلها، وعرف مأخذ قربها من الحق ووسائلها، جلس ببلده مدة للإفادة، وكان للطلبة عليه في كل وقت قدومٌ ووفادة، وانتفع الناس بعلومه المتقنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وفوائده المفتنة. وناب هناك في الحكم، وشرف نفسه عن قبول الهدية والشكم، فشكرت سيرته، وطهرت سريرتُه، وظهر بالوجاهة، فنقل إلى قضاء القضاة بدمشق فوردها بل وردها، وعراها من السوء إذ عراها وجردها، وأقام بها سنة ونصفاً، ثم دعاه خالقه، وقذف به في حفرة القبر حالقه. وتوفي رحمه الله تعالى - بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة سنة ثمان عشرة وسبع مئة. وكان قدومه إلى دمشق في سابع عشري جمادى الأولى سبعة عشرة وسبع مئة. وكان محمود الطريقة، وجمع في قضائه بني العلم المتين والنزاهة والصرامة، وهو من بيتٍ كبير بالإسكندرية. أحمد بن طيبغا الأمير شهاب الدين المعروف بابن أخي الفخري، أحد أمراء الطبلخانات بالشام، توجه لنيابة الرحبة، ثم إنه طلب الإقالة منها، وحضر إلى دمشق في سنة سبع وخمسين وسبع مئة وأقام بها قليلاً، ثم توجه لنيابة حمص، فأقام بها، فلم توافقه، وماتت زوجته وجماعةٌ من ألزامه وأهله ومماليكه، وطال مرضهُ فيها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الثلاثاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وكانت نيابته بحمص قريباً من عشرة أشهر، وكان شكلاً حسناً فيه حشمةٌ ورئاسة، وحُمِدَت سيرتُه في النيابتين، وكان قد وليها بعد موت نائب حمص الأمير علاء الدين علي بن الملك الزاهر. أحمد بن عباس ابن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الماكسيني الأصل ثم الدمشقي، ناصر الدين أبو العباس بن ناصر الدين الماكسيني أبي الفضل. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن الأمير شرف الدين يعقوب بن محمد بن الحسن الهذباني، وحدّث والدُه عن حَنبَل، وهو من شيوخ الدمياطي. وروى جدّه عن الحافظ ابن عساكر. روى لنا عنه ابن الصابوني. وهذا الشيخ كان جندياً في دولة الملك الصالح أيوب، وكان رجلاً جيداً ملازماً للصلوات في الجامع. توفي " رحمه الله تعالى " في أوائل سنة إحدى وسبع مائة. مولده سنة خمس عشرة وست مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أحمد بن العباس بن جَعوان الإمام الزاهد شهاب الدين الأنصاري الدمشقي الشافعي، أخو الحافظ شمس الدين محمد، وسيأتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى. روى أحمد هذا " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم، وسمع مع أخيه كثيراً، وأقبل على الفقه فبرع فيه، ولم يكن من يوفيه قدره لما يوافيه، وأفتى الناس زماناً، وانقطع عنهم ينثر من العلم جماناً، وهو من تلامذة الشيخ محيي الدين النووي. وتوفي رحمه تعالى سنة تسع وتسعين وست مائة أحمد بن عبد الله القاضي تاج الدين أبو الفضائل، ابن الصاحب أمين الدين. كان قيماً بصنعة الحساب، إليه الانتماء والانتساب، يخدم جريدته بنفسه، ويتميز بذلك على أبناء جنسه، فلا يحتاج إلى كشف عامل، ولا يريد مع نفسه مشقة سيف ولا هِزّة عامل، يكاد يعمل محاسبة كلِّ أحد من ذهنه، ولا يحتاج إلى مساعد في ذلك، ذكاءً من فطنته وإتقاناً لفنّه، هذا إلى عفّة زانته، وأمانةٍ لا يعلم أحد أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 حابته ولا خانته. تنقّل في المباشرات العالية، وانفصل عنها وثناؤه فيها يرفض نفحات الغالية، إلا أن الأقدار لم تُصافه، ولم تعامله بما يحبُّ من إنصافه، وآخر ما مات تحت العقاب، ورأى الذل الزائد بعدما خضعت له الرقاب. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وسبع مائة أو في أواخر شوّال. كان أولاً قد دخل هو وأخوه القاضي كريم الدين ديوان الإنشاء في وزارة أبيهم، واستمرا في جُملة كتاب الإنشاء مدة، ولما عرض السلطان ديوان الإنشاء في سنة تسع وعشرين وسبع مائة، أخرجهما، ثم أنه ولى القاضي تاج الدين استيفاء الصُّحبة وخرج القلاع الحلبية كاشفاً هو والأمير سيف الدين جَرَكْتُمر وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة، وبقي في استيفاء الصحبة على أكمل ما يكون، وترامى إلى النّشّو وأحبّه، فلما كان في سنة تسع وثلاثين وتولى نظر الدولة، وولي أخوه كريم الدين استيفاء الصحبة، فلم يزل فيه إلى أن أمسك هو ووالده الصاحب أمين الدين والقاضي شرف الدين النشّو، وعوقبوا. ومات والده تحت العقوبة والنشو، وصودر تاج الدين وأقام إلى أن أفرج عنه، فحضر إلى القدس وأقام فيه مجاوراً مدة، وعمل مجلداً في مساحته، أعني المسجد الأقصى والحرم وما فيه من المعابد والقباب والأبواب، وتعب عليه، وأجازني روايته عنه في سنة خمس وأربعين وسبع مائة فطلب من القدس وتولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 نظر البيوت بالقاهرة، فاتفق له مع أرغون شاه لما كان يعمل الأستاذ داريّة ما أوجب أنه طلب الإعفاء، وأظنه بعد ذلك دخل إلى ديوان الإنشاء. ثم إنه تولى نظر النظار بالشام، فحضر في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر، وثّمر وعّمر وأرضى الناس، ووصلت إليهم حقوقهم، وكان لا يحابي أحداً ولا يحاسنه، لكنه طلب الإقالة، فأُعفي من نظر الشام، وتوجه إلى مصر وأقام مدة، ودخل ديوان الإنشاء، وأقام به إلى أن أمسك الوزير علم الدين بن زنبور، فتولى نظر الجيش بالديار المصرية فحقّق ودقّق وما أرعى أحداً. ولما عُزل القاضي بدر الدين من نظر الخاص وقال: معلوم نظر الجيش يكفيني، وباشر ذلك وهو على قِدم العدالة فيه والأمانة وعدم الخيانة إلى أن تولى السلطان الناصر حسن ثانياً، فغيّروا خواطره عليه فأمسكه، وصودر وعوقب، وتنوّعوا في عقابه، ومن ذلك أنهم حلقوا رأسه وجرحوه بالموس، ثم جعلوا في قُبعِه نبات وردان وألبسوه فوجد لذلك ألماً مُبرّحاً، نسأل الله العفو والعافية. وكان ذلك من حقد الأمراء والخاصكيّة عليه، لأنه ما راعاهم بل راعَهَم، ولم يحفظ جانبهم وأضاعهم. وكنت قد كتبت له رحمه الله وأنا بالقاهرة توقيعاً شريفاً باستيفاء المارستان المنصوري عوضاً عن أخيه شمس الدين، وهو: " أما بعد حمد الله الذي زان أيامنا الشريفة بتاجها، ومنحَة من السيادة طريقةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 لا تنكبُ السعود عن منهاجها، وخصّه بمناقب فرائدها اتساق اللآلي المنظمة في ازدواجها، وأحله من المعالي رُتبةً تحسدها الكواكب المشرقة في شرف أبراجها، وصلاته على سيدنا محمد الذي حضّ على المعروف وحث، وأذاع الجميل للناس كافةً وبث، ونشر لواء الثناء على المُحسنين ونثّ، وتّمم مكارم الأخلاق، فجدّد منها ما كان قد بلي ورمَّ مارث، وعلى آله وصحبه الّذين ما منهم إلا من له الفضلُ المستوفى، والجود الأوفى، صلاة يكون الرضوان لها حِلفاً، وتبوّئهم عند الله منازل الزُّلفى، وسلامه ". فإنه لّما كان البيمارستان المنصوري وقف والدنا الشهيد الملك المنصور قد الله روحه ونور بالرضوان ضريحه، أجلِّ القُرُباتِ نفعاً، وأخصبَ المثُوبات مرعى، يجري نفعُ أوقافه على الخاص والعام، وينفقُ من حواصله في اليوم ما يُنفقُ من غيرها في العام. وتخفق راياتُ الآيات الكريمة في أرجائه، وتُنشرُ أعلامُ العلومِ في أثنائه، ويزول به الإعدامُ والإيلام، فكان حاتماً في حيّه، والمسيح في إحيائه، إلى غير ذلك من وجوه المعروف وأنواع البر المصروف، وكان استيفاؤه يحتاج إلى من جُرّبَ سدادُه وعُلِم رشادُه، وعُرف اعتمادُه، وكان الحساب ميداناً وهو سابقهُ وجواده. والمجلس السامي القضائي التاجي ممن زانت أيامنا خدمة، ورسخت في ولائنا قدمُه، حتى أصبح بالمحامد مُتحلياً، ولأقسام المحاسن مستوفياً، يصحبه ركابُنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الشريف في الحضر والسفر، ويتصف بسيادةٍ أخجلت الأفق، فالشفق المحمرُّ فيه علامة الخفر، وقد رأينا أن لا تنبت في الروض إلا قبضه المرموقة، ولا تطلعُ في الأفقِ إلا شبُه المشرقة، ولهذا رجع إليه حقُ الشُّفة وانتهى، وأحسن ما خلقت الدرة في السلك أختها، فلذلك رُسم بالأمر الشريف أن يُرتب في اسيفاء البيمارستان المبرور وأوقافه عوضاً عن أخيه فلان، فليباشر ذلك مباشرة تجمع شتات الحزم، وتلزم ثبات العزم، حتى لا تفوت أوراقه ثمرةً تُجنى، ولا يغيب شيء من أموره عن نصره في الصورة ولا عن بصيرته في المعنى، متطلباً كل عامل بما يلزمه في وضع الكتابة، مُنكراً عليه إذا طاش سهمُ قلمه عن الإصابة، لتمشي الأحوال فيه على النهج القوي القويم، وتُصرف أمواله على الوجه الذي قصد به العلي العظيم، والوصايا كثيرة، ومع كفايته لا بُد لّه منها علة وصاه، ولا ننبهه عليها بطرق حصاه، وتقوى الله " عز وجل " في هذا وغيره أوثقُ العُرى، وأعزُّ حصن يُتسنم منه الذرى. فالزم شعارها واقتف أثارها، والله يتولى عونك، ويُديم ثونك. والحظُّ الشريف أعلاه الله وشرفه أعلاه، حجة بثبوته في الذي اقتضاه، والله الموفق بمنّه وكرمه، " إن شاء الله تعالى ". وكنت قد كتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى كتاباً هنّأته فيه بنظر الدولة، وهو التذكرة التي لي.؟ ؟ أحمد بن عبد الله بن الزكي المعروف بالقاضي شُقير، تصغير شقر، القاضي شرف الدين الدمشقي الجزري. تجرد للفقر خمسةً وستين عاماً، واجتلى الزهد في الدنيا قمراً تاماً، وأعرض عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الحطام الفاني، وتحقق أن الفراق من الدنيا داني، ثم إنه جاور بمسجد الكهف الذي هو أسفل جبل قاسيون، إلى أن أنفق جمامُه، وانمحق تمامهُ. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مائة في تاسع جمادى الآخرة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مائة. أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهاجر شهاب الدين الأندلسي الوادي آشي الحنفي. هو فاضل مشهور، وعدل مذكور، يعرف مع الفقه النحو والعروض، وجوادهُ في النظم الفائق مروض. سكن طرابلس الشام مدة، واجتمع فيها مع الأكابر بعدّه، ثم إنه انتقل إلى حلب، وبها نفق من البضائع ما جلب، وكان ابن العديم قاضيها يواليه، ويطرب لأماليه، ويحثه على معاليه. رأيته بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة، وكتب إليّ نظماً يبل كبد من يظما، وأحببته عن ذلك، وذهبا مني في ليل الضياع الحالك، ثم إنه بعد ذلك ساد وثنى الوساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولم يزل إلى أن وصل ابن مهاجر حينُه، وأغمضت بالممات عينُه وتوفي رحمه الله تعالى. أنشدني من لفظه لنفسه بحلب في التاريخ: ما لاح في دِرُعٍ يصولُ بسيفه ... والوجُه منه يُضيءُ تحت المغفرِ إلا حسبتُ البحرَ بجدولٍ ... والشَّمس تحت سحائب من عنبرِ قلت: جمع في هذا بين مقطوعين، أحدهما قول أبي بكر الرصافي: لو كنت شاهده وقد حمي الوغى ... يختالُ في دَرْعِ الحديد المُسبلِ والثاني قول المعتمد: ولما اقتحمت الوغى ذارِعاً ... وقنعتَ وجهكَ بالمغفرِ حَسبنا مُحيَّاك شِمس الضُّحى ... عليها سحائبٌ من العنبر ومن شعره: تُسعِّرُ في الوغى نيرانَ حربٍ ... بأيديهم مُهنَّدةٌ ذُكورُ ومن عجبِ لظىً قد سهّرتها ... جداولُ قد أقلَّتها بُدورُ ومنه لغز في قالب اللَّبن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ما آكلّ في فمين ... يغُوط من مخرجين مُغرى بقبضٍ وبسطٍ ... ومالهُ من يَدين ويقطع الأرض سهياً ... من غير ما قدمين قلت: نظم رائق، ولفظ يُخجلُ الحدائق، ولكن ليست مقاصده في هذا اللغز مليحة، ولا معانيه صحيحة. وأحسن منه قول محمَّد بن شرف القيرواني وما بالغٌ في يومه ألفَ لُقمةٍ ... ولُقمتُه أضعافُ أضعافِ وزنه إذا ملأ المأكول جنبيه لم يُقم ... سوى لحظةٍ أو لحظتين ببطنه أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم. الشيخ الأمام العلامة المفسر المحدّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر، فريد الدهر، تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين بن الأمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية. سمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين والقاسم الإربلي، وابن علاّن، وخلقٍ كثير. وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله، ثم أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه. تحول به أبوه من حران إلى دمشق سنة سبع وستين وست مائة. و" تيمية " لقبٌ لجده الأعلى. تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل. وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجدّل خصومهُ في وسط ميانه، وفرّج مضائق البحث بأداةٍ قاطعة، ونصر أقوالهُ في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة، كأن السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل جنابه، وأقوال العلماء مجلوةٌ نُصب عيانه. لم أر أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطةُ مداره. وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً فكان عجباً لمن يسمعه، ومُعجزاً لمن يُعد ما يأتي به أو يجمعه. يُنزل الفروع منازِلها من أصولها، ويرد القياسات إلى مآخذها من محصولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البدع الأُول، ومعرفةُ أرباب المذاهب، وما خصوا به من الفتوحات والمواهب، فكان بحراً يتموج، وسهماً ينفذ على السواء لا يتعوج. وأما المذاهب الأربعة فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السَّلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مجنُّه، قل أن قطعة خصُمه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظرهُ إلا وهو يشكو من الأين والنَّصب. وأما التفسير فيدُه فيه طولى، وسردُه فيه يجعل العيون إليه حُولاً. إلا أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهورُ معيبة. كاد منها يقع في هُوَّة، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجوة، والله يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عند وما دمر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدبا، ولا درج منها إلا إلى البقعة الحدبا، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير. وكان ذا قلم يسابقُ البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرَّاسين والثلاثة في قعدة، وجدُّ ذهنه ما كل ولا انثلم، قد تحلى بالمُحلى، وتولّى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثَّلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وضيع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عائد الدين أو ناقضه؛ ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم. وكان من صغره حريصاً على الطلب، مجدّاً على التحصيل والدأب، لا يؤثرُ على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظةٌ منه في البطالة فذّة، يذهلُ عن نفسه ويغيب في لذّة العلم عن حسه، لا يطلب أكلاً إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديه. قيل: إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وتركه لاتباعهم وما انفرده من تكلُّفه، فقال: أنتم ما نزيد لكم شيئاً ولا تجدد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب " جنة الناظر وجنّة المناظر "، وهو مجلد صغير، وأمره شهير. لا جرم أنه كان في أرض العلوم حارثاً وهو همام، وعلومُه كما يقول الناس تدخل معه الحّمام. هذا إلى كرم يضحك البرقُ منه على غمائمه، وجودٍ ما يصلحُ حاتمٌ أن يكون في فضِّ خاتمه، وشجاعة يفرّ منها قشورة، وإقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلمه كلاماً غيظاً بقوه، وأسمعه مقالاً لا تحملّه الأبوةُ من البنوّة. وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مائة، قد قام عليه جماعة من الشافعية، وأنكروا عليه كلاماً في الصفات، وأخذوا فُتياه الحموية، وردوا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فيها، وعملوا له مجلساً، فدافع الأفرم عنه ولم يُبلّغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشدّ، وكان قد مُنع من الكلام، ثم إنه جلس على عادته يوم الجمعة، وتكلم ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم، ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئاً عزّرناه. ثم إنه كُلب إلى مصر، هو والقاضي نجم الدين صَصرَى، وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة، فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلساً انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثم نقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبع مائة، ولم يمكن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرج عنه وأقام بالقاهرة مُدة. ثم اعتقل أيضاً، ثم أُفرج عنه في ثامن شوال سنة تسع وسبع مائة، أخرجه الناصر لمّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق، فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكز، وقرأ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلق بالشيخ تقي الدين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعُوتب على فُتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على توكيد المنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مائة عُقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق وحاققوه عليها، وعاتبوه لأجلها. ثم إنه حُبس بقلعة دمشق، فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبع مائة، فأخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجه إلى منزله. وكانت مدة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً. ولما كان في يوم الاثنين بعد العصر، سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسومُ السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوساً. ومولده بحرّان سنة إحدى وستين وست مائة. وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثماني عشرة، وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلةً في التفسير في الإعراب، ومسألة مشكلة في الممكن والواجب، وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرّات، وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البرّ والبحر، ونوعاً فرداً وشكلاً غريباً وكان كثيراً ما ينشد قول ابن صردر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تموتُ النفوسُ بأوصابها ... ولم تشكُ عُوّادها ما بها وما أنصفت مُهجةٌ تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها وينشد أيضاً: من لم يُقد ويُدسٌ في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميساً رأيته في المنام بعد موته رحمه الله تعالى كأنه في جامع بني أمية، وأنا في يدي صورةُ عقيدة ابن حزم الظاهري التي ذكرها في أول كتاب المُحلَّى، وقد كتبها بخطي، وكتبت في آخرها: وهذا نصُّ ديني واعتقادي ... وغيري ما يرى هذا يجوزُ وقد أوقفته على ذلك، فتأملها ورآها وما تكلم بشيء. ذكر شيء من تصانيفه كتب التفسير قاعدة في الاستعاذة، قاعدة في البسملة، قاعدة في قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين "، قطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " نحو ثلاثة كراريس، وفي قوله تعالى: " مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " نحو كراسين، وفي قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " سبع كراريس، وفي قوله تعالى: " إلا من سفه نفسه " كراس، آية الكرسي كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 منه آيات محكمات " إلى آخرها نحو مجلد، " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ستة كراريس، " ما أصابك من حَسَنة " عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. تفسير المائدة مجلد كبير، " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ثلاث كراريس، " وإذا أخذ ربُّك من بني آدم " سبع كراريس، قواعد سورة يوسف، مجلد كبير، سورة النور، مجلد لطيف، سورة تبت والمعوذتين، سورة الكافرين، سورة الإخلاص، مجلد، سورة القلم، وأنها أول سورة أنزلت، تضمنت أصول الدين مجلد، سورة " لم يكن " وغير ذلك من آيات مُفّرقة. كتب الأصول " الاعتراضات المصرية على الفُتيا الحموية " أربع مجلدات، أملاه في الجب، " بياتُ تَلبيس الجَهميّة في تأسيس بدَعن الكلامية "، وربما سمّاه " تلخيص التلبيس من تأسيس التقديس "، " شرح أول المحصّل " للرازي، بلغ ثلاث مجلدات، شرح بضعةِ عشر مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، " تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات، " جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي " مجلد، " الجواب الصحيح لِمّن بدّل دين المسيح "، ثلاث مجلدات، " منهاج الاستقامة " " شرح عقيدة الأصبهاني " مجلد، " نقض الاعتراض " عليها لبعض المشارقة أربع كراريس، " شرح أول كتاب الغَزْنَوي "، مجلد، " الرد على المنطق " مجلد، ردّ آخر لطيف، " الرد على الفلاسفة " مجلدات، " قاعدة في القضايا الوهمية "، " قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى "، " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 جواب الرسالة الصفدية "، " جواب في نقص قول الفلاسفة: إن معجزات الأنبياء قوى نفساني "، " إثبات المعاد والرد على ابن سينا "، " شرح رسالة ابن عبدوس " في كلام الإمام أحمد في الأصول، " ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً "، و" المعجزات والكرامات "، " قاعدة في الكليات "، مجلد لطيف، " الرسالة القبرسية "، " رسالة أهل طبرستان وجَيْلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم "، " مسألة ما بين اللوحين كلامُ الله "، " تحقيق كلام الله لموسى "، " هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ "، " الرسالة البعلبكية "، " الرسالة الأزهرية "، " القادرية "، " البغدادية "، " أجوبة الشكل والنقط "، " إبطال الكلام النفساني ": أبطله من نحو ثمانين وجهاً، " جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث " أن القرآن حرف وصوت. وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات، " المراكشيّة "، " صفات الكمال والضابط فيها "، " أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه "، " جواب في الاستواء، وإبطال تأويله بالاستيلاء "، " جوابُ من قال لا يمكن الجمعُ بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه "، " أجوبة كونِ العرش والسموات كُرَويّة " وسبب قصد القلوب جهةَ العلو، " جواب كون الشيء في جهة العلوّ مع أنه ليس بجوهر ولا عرض معقول أو مستحيل "، " جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب "، شمَّاه " الأربلية "، " مسألة النزول " واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع، مجلد لطيف، " شرح حديث النزول " في أكثر من مجلد، " بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث "، " قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه "، مجلد، " الكلام على نقض المرشدة "، " المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحاد والحلولية "، ما تضمنه فصوص الحكم من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول، " جواب في لقاء الله "، " جواب رؤية النساء رَبّهُنّ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الجنة "، " الرسالة المدنية في الصفات النقلية "، " الهلاوونية " جواب ورد على لسان ملك التتار، مجلد، " قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية "، مجلد " رد على الروافض في الإمامة " لابن مُطهّر، " جواب في حُسن إدارة الله بخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلّة أم لغير علّة "، " شرح حديث: فخجَّ أدم موسى "، " تنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل "، " تناهي الشدائد في اختلاف العقائد "، " كتاب الإيمان "، " شرح حديث جبريل في الإسلام، والإيمان في عصمة الأنبياء فيما يبلغون "، " مسألة في العقل والروح "، " في المقرّبين: هل يسألهم منكر ونكير "، " هل تعذيب الروح مع الجسد في القبر، وهل تفارق البدن بالموت أو لا "، " الرد على أهل كسروان "، " في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما "، " قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أن لا يُسب "، " في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس " " في كفر النُّصَيريّة " " في جواز الرافضة "، " في بقاء الجنة والنار وفنائهما "، وهو آخر ما صنّفه في القلعة. وقد رد عليه العلاّمة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. كتب أصول الفقه " قاعدة غالبُها أقوال الفقهاء "، مجلدان، " قاعدة كل حمد وذم من المقالات لا يكون إلا من الكتاب والسنة " " شمول النصوص للأحكام "، " قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام "، " جواب في الإجماع وخبر التواتر "، " قاعدة في أن خبر الواحد اليقين "، " قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجْمَاع "، " في الرد على من قال إن الأدلة اللَّفظيّة لا تفيد اليقين "، " قاعدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فيما يُظنُ مِن تعارض النص والإجماع "، " مؤاخذة لابن حزم في الأجماع "، " قاعدة في تقرير القياس "، " قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام "، " رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، " قاعدة في الاستحسان "، " وصف العموم والإطلاق "، " قواعد في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم "، " هل العاميّ يجب عليه تقليد مذهب مُعَيّن "، " جواب في ترك التقليد فيمن يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة "، " جواب من تَفَقَّه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً، هل يعمل به أو لا "، " جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر "، " الفتح على الإمام في الصلاة " " تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة "، " تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم "، " قاعدة في تفضيل الإمام أحمد "، " جواب: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الرسالة نبياً "، " جواب: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متعبداً بشرع من قبله "، " قواعد أن النهي يقتضي الفساد ". كتاب الفقه " شرح المحرر في مذهب أحمد " ولم يُبيّض، " شرح العمدة لموفق "، أربع مجلدات، " جواب مسائل وردت من أصبهان "، " جواب مسائل وردت من الأندلس "، " جواب مسائل وردت من الصلت "، " جواب مسائل وردت من بغداد "، " مسائل وردت من زُرع "، " أربعون مسألة لُقّبت الدرّة المضيئة، " الماردانية " " الطرابلسية "، " قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها "، " المائعات وملاقاتها النجاسة "، " طهارة بول ما يؤكل لحمه "، " قاعدة في حديث القُلّتين وعدم رفعه "، " قواعد في الاستجمار، وتطهير الأرض بالشمس والريح "، " جواز الاستجمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مع وجود الماء "، " نواقض الوضوء "، " قواعد في عدم نقض الوضوء بلمس النساء "، " التسمية على الوضوء "، " خطأ القول بجواز مسح الرجلين "، " جواز المسح الخفين المتخرّقين والجوربين واللفائف "، " فيمن لا يعطي أجرة الحَمّام "، " تحريم دخول الحمّام بلا مُبرر "، " في الحمّام والاغتسال "، " ذم الوسواس "، " جواز طواف الحائض "، " تيسير العبادات لأرباب الضروريات بالتيمم، والجمع بين الصلاتين للعُذر "، " كراهية التلفّظ بالنّيّة وتحريم الجَهْر بها "، " في البسملة هل هي من السورة "، " فيما يعرض من الوسواس في الصلاة "، " الكلم الطيب في الأذكار " " كراهية بسط سجادة المصلي قبل مجيئه "، " في الركعتين اللتين تُصلّيان قبل الجمعة "، " في الصلاة بعد أذان الجمعة "، " القنوت في الصبح والوتر " " قتل تارك أحد المباني وكُفره "، " الجمع بين الصلاتين في السفر "، " فيما يختلف حكمه في السفر والحضر "، " أهل البِدَع هل يُصلّى خلفهم "، " صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض "، " الثلوات المبتدعة "، " تحريم السماع " " تحريم الشبابة "، " تحريم الشطرنج "، " تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها "، " النّهيُ عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء "، " مقدار الكَفّارة في اليمين "، " في أنّ المطلقة ثلاثاً، لا تحل إلا بنكاح زوج ثان "، " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بيان الطلاق المُباح والحرام "، " في الحلف بالطلاق متى تجيزه ثلاثاً "، " جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة "، " الفرق المبين بين الطلاق واليمين "، " لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف "، " الطلاق البِدَعي لا يقع "، " مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع نحو ذلك "، تقدير خمسة عشر مجلداً، " مناسك الحج عِدة "، " في حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، " في العمرة المكية "، " في شهر السلاح بتبوك وشرب السَّويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحرم، وزيارة الخليل عُقيب الحج، وزيارة القدس مطلقاً "، " جبل لبنان كأمثاله من الجبال، ليس فيه رجال غُيّب ولا أبدال "، " جميع أيمان المسلمين مُكفّرة ". كتب في أنواع شتى جمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مُدَّة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة، " الكلام على بُطلان الفتّوة المُصطلح عليها بين العوام "، وليس لها أصل يتصل بعلي عليه السلام. " كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية "، " بطلان ما يقوله أهلُ بيت الشيخ عديّ "، " النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة والخسوف والكسوف "، " هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلّة "، " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 تحريم أقسام المُعزّمين بالعزائم المُعجَمة وصرع الصحيح وصفة الخواتم ". " إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت "، " كشف حال المرازقة "، " قاعدة العُبيديين ". ومن نظم الشيخ تقي الدين على لسان الفقراء المُجردين وغيرهم: والله ما فَقرُنا اختْيارُ ... وإنما فَقْرُنا اضْطْرارُ جماعةٌ كلُّنا كَسالى ... وأكلُنا كله عيارُ تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلُّها فُشَارُ وله قصائد مطوّلة، أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظماً، مثل مسألة اليهودي، وجوابه عن اللغز الذي نظمه الشيخ رشيد الدين الفارقي، وغير ذلك. ومدحه جماعة من أهل مصر، منهم شهاب الدين أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن الأبرادي، والشيخ شمس الدين بن الصائغ، وسعد الدين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحرّاني، وأكثر من ذلك، ومنه قوله: لئن نافَقَوه وه في السّجنِ وابتغَوا ... رِضاه وأبدوا رِقّةً وتودُّدا فلا غَرْوَ إنْ ذلَ الخُصومُ لِنَأسِه ... ولا عَجَبٌ أن خاف سطوتَه العِدا فمن شِيَمةِ العَضبِ المُهنَّدِ أنه ... يُخافُ ويُرجُى مُغمداً ومُجرّدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وممن مدحه بمصر أيضاً شيخنا العلاّمة أبو حيان، لكنه انحرف عنه فيما بعد ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب؛ منها أنه قال له يوماً: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، وقد كان أولاً جاء إليه والمجلس عنده غاصٌّ بالناس، فقال يمدحه ارتجالاً: لّما أتينا تقيَّ الدِّين لاحً لنا ... داعٍ إلى الله فَردٌ ماله وِزَرُ على مُحيّاه من سِيما الأُولى صَحِبوا ... خَيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القمرُ خَبرٌ تَسربَلَ منه دَهرُه حِبَراً ... تَقاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قام ابنُ تَيْميَّةٍ في نَر شِرعَتِنا ... مُقَما سَيِّدِ تيمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرً الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرّ إذ طارت له الشرر كُنّا نُحدَّث عن خبرٍ يجيءُ فها ... أنت الإمامُ الذي قد كان يُنتظرُ وكتب الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني رحمه الله تعالى على بعض تصانيفه: ماذا يقولُ الواصفون له ... وصفاتُه جلّتْ عن الحَصرِ هو حُجّةٌ اللهِ قاهرِرَةٌ ... هو بيننا أُعجوبةُ العَصرِ هو آيةٌ في الخَلقِ ظاهِرَةٌ ... أنوارُها أربَت على الفَجرِ والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدين في حياة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والله أعلم. ولما توفي رحمه الله تعالى رثاه جماعة منهم الشيخ قاسم بن عبد الرحمن المقرئ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وبرهان الدين إبراهيم بن الشيخه شهاب الدين العجمي، ومحمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، ومجير الدين الخياط الدمشقي، وشهاب الدين أحمد بن الكرشت، وزين الدين عمر بن الحسام، ومحمد عبد الحق البغدادي الحنبلي، وجمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرومي الحريري. المعروف بالمُنيّم، وتقي الدين محمد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري، وجمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، وغيرهم. أنشدني إجازة لنفسه الشيخ علاء الدين علي بن غانم: أيُّ خَبرٍ مضى وأيُّ إمامِ ... فُجعتُ فيه مِلَّةُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ التَّقيُّ وحيدُ الد ... هْرِ من كان شامةً في الشَّامِ بَحرُ علمٍ قد غاضَ من بعدما ف ... ضَ نداهُ وعم بالنعامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 زاهدٌ عابدٌ تنّزه في دُن ... ياه عن كل ما بها من حُطامِ كان كَنزاً لكلِّ كالبِ علمِ ... ولِمَنُ خافَ أن يُرى في حَرَامِ ولعافٍ قد جاء يشكو من الفق ... ر لديه فنال كُلَّ مَرَامِ حاز عِلماً فماله من مساوٍ ... فيه من عالمٍ ولا من مُسامٍ لم يَكُنْ في الدنى له مِن نظيرٍ ... في جميعِ العُلومِ والأحكامِ كان في علمِه وَحيداً فريداً ... لم ينالوا ما نالَ في الأحْلامِ كل من في دمشق ناح عليه ... ببُكاءٍ من شدّة الآلامِ فُجِعَ الناسُ في الشَّرقِ والغَر ... بِ وأضحَوا بالحُزنِ كالأيتامِ لو يُفيدُ الفِداءُ بالرُّوحِ كُنّا ... قد فديناه من هُجومِ الحِمامِ أوحدٌ فيه قد أصيبَ البَرايا ... فيُعزى فيه جميعُ الأنامِ وعزيزٌ عليهم أن يَرَوْه ... غابَ بالرَّغمِ في الثّرى والرُّغامِ ما يُرى مِثلُ يومهِ عندما سا ... رَ على النَّعشِ نحوَ دار السلامِ حملوه على الرِّقابِ إلى القَب ... رِ وكادوا أن يَهلكوا بالزّحامِ فهو الآن جارُ رَبِّ السماوا ... ت الرحيمِ المُهيمنِ العلاّمِ قدّسَ الله روحَه وسقى قب ... راً حواه بَها طِلاتِ الغَمامِ فلقد كان نادراً في بني الده ... ر وحُسناً في أوجَهِ الأيّامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وأنشدني أيضاً: إجازة لنفسه الشيخ زين الدين عمر بن الوردي: قلوبُ النّاس قاسيةٌ سِلاطُ ... وليس إلى العَليا نَشاطُ أتنشطُ قَطُّ بعدَ وفاةِ خبرٍ جَوهَره التقاطُ تقيُّ الدين ذو وَرَعٍ وعِلمٍ ... خُروقُ المُعضِلات به تُحاطُ تُوفي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إلى الدّنيا انبساطُ ولو حَضروه حين قضى لألفَوا ... مَلائِكةَ النَّعيمِ به أحاطوا قضى نَحباً وليس له قرينٌ ... وليس يلفُّ مُشبِههُ القِماطُ قتىً في علمه أضحى فريداً ... وحَلُّ المُشكلاتِ به يُناطُ وكان يخافُ إبليسُ سطاه ... لوَعظِ للقلوبِ هو السِّياطُ فيا الله ما قد ضم لَحدٌ ... ويا لله ما غطى البَلاطُ وحَبسُ الدُّرِّ في الأصدافِ فَخرٌ ... وعِندَ الشَّيخِ بالسِّجنِ اغتباطُ بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ ولكن يا نَدَامتَنا عليه ... فشكُّ المُلحدين به يُماطَ إمامٌ لا ولايةٌ قطُّ عانى ... ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ ولا جارى الورى في كسبِ مالِ ... ولم يَشغلهُ بالناس اختلاطُ ولولا جارى الورى في كسبِ مالٍ ... لكان به لقدرهم انحطاطُ لقد خفيت عليّ هنا أمورٌ ... وليس يليقُ لي فيها انخراطُ وعند الله تجتمعُ البرايا ... جميعاً وانطوى هذا البِساطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقلت أنا أيضاً أرثيه: إنّ ابنَ تيميّةَ لمّا قضى ... ضاق بأهلِ العِلمِ رَحبُ الفضا فأيُّ بدرِ قد محاه الرَّدى ... وأيُّ بحرٍ في الثرى غُيضا وأيّ شرِّ فتحت عينهُ ... وأيُّ خيرٍ طرفُه غُمّضا يا وَخشَةَ السُّنَّةِ من بَعدِه ... فرَبعُها المعمورُ قد قُوِّضا كم مَجلسٍ كان هشيماً من ال ... علم فلمّا جاءه رُوّضا وكلُّ حَفلٍ أفقُهُ مُظَّلِمٌ ... تَراه إن وافى إليه أضا ومُشكِلٌ لمّا دَجى ليلُه ... أعادَه يومَ هُدى أبيضا تراه إن برهن أقواله ... فقلَّ أن تُدحَرَ أو تُدحَضا وبحُه في مَددٍ طافحٍ ... وخصمُه في وقتِه انقضا يودُّ لو أبلعَهُ ريقه ... وهنو بالحقِّ قد أجرضا أغصَّه حتى غدا مُطرقاً ... مِن ندمٍ كفّيه قد عضّضا ما كان إلا أسداً حادِراً ... أضحى له غابُ النُّهى مَربَضا وهو يرى العِلمَ في بُردِه ... وخَصمُه قد ضمّ جَمرَ الغضا سُبحان من سخَّر قَلبَ الورى ... لقوله طوعاً وقد قيضا قد أجمعَ النّاسُ على حُبِّه ... ولا اعتبارَ بالذي أبغضا كان سليمَ الصَّدرِ قد سلّم ال ... أمرَ لباريه وقد فوّضا كم حثّ للخير وكم ذي كرى ... أيقظ من نومٍ وكم حرّضا وأمرض الإلحادَ لمّا جلى ال ... حقّ وقلبُ الزِّيغِ قد أرمضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وغادر الباطلَ في ظُلمَةٍ ... لمّا رأى بارقَةٌ أومضا وهو عن الدنيا زوى نفسَه ... والله بالجنَّةِ قد عوّضا فماله في منصبٍ رغبَةٌ ... وعزمُه في ذاك ما استنهضا كان إذا الدّنيا له عرضت ... بزُخرفِ من نفسها أعرضا ولو رأى ذلك ما فاته ... مناصبُ من بَعضهنَّ القضا وبعد هذا حكُمه نافذذٌ ... في كلِّ ما قد شاءه وارتضى بنفسه جاهدَ جهراً وكم ... سَلَّ حّساماً في الوغى وانتضى ويوم غازان غدا عندما ... شدّدَ في القولِ ومت خفَّضا شقَّ سواد المُغلِ زاهي الطُلا ... كالماء لما مَزقَ العَرمَضا جاذل بل جالد مُستمسِكا ... بالحق حتى إنّه أجهَضا ولم يكن فيه سوى أنه ... خالف أشياءَ كمن قد مضى متبعاً فيه الدّليل الذي ... بدا ولله فيه القضا وبعد ذا راحَ إلى ربه ... ما ادّان مِن لهوٍ ولا استقرضا ثناؤه ما انقضَّ منه البنا ... وذِكرُه بين الورى ما انقضى فجادَت الرَّحمةُ أرضاً ثوى ... فيها وسقَّتْها غُيوثُ الرِضى وعلى الجملة، فكان الشيخ تقي الدين بن تيمية أحد الثلاثة الذين عاصرتهم، ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مئة سنة، وهم الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية، والشيخ تقيُّ الدين بنُ دقيق العيد، وشيخنا العلاّمة تقيُّ السبكي. وقلت في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ثلاثةٌ ليس لهم رابعُ ... فلا تكنْ من ذاك في شكِّ وكُّلهم مُنتسبٌ للتُّقى ... يقصًر عنهم وصفٌ من يحكي فإن تَشَا قلت ابن تيمية ... وابن دقيق العيد والسبكي أحمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قُدامة، الشيخ المُسنِد المبارك عز الدين أبو العباس بن العماد المقدسي الصالحي. سمع من الموفق، وموسى بن عبد القادر، وابن راجخ، وابن أبي لقمة، والبهاء، وأبي القاسم بن صَصرى، وشمس الدين أحمد البخاري، وابن عسّان، وابن الزَّبيدي. خُرّجت له مشيخةٌ في ثلاث مجلدات، وسمعها جماعة، وظهر، له أيام التتار سماعُ مُسند أبي داود الطيالسي من الموفق. تفرد المذكور بأشياء أسمعها، وبرواية أجزاء في سماء السماع أطلعها، وصار من أعيان أهل الإسناد، وأشياخِ الرحلة إليه من البلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ولم يزل على حاله إلى أن مال من ابن العماد عموده، وحان خموده من اشتعال الشيب وجموده. توفي - رحمة الله تعالى - سنة سبع مئة. ومولده سنة اثنتي عشرة وست مئة بالجبل. أحمد بن عبد الدائم ابن يوسف بن قاسم بن عبد الله بن عبد الخالق بن ساهل أمره شهاب الدين الكناني الشارمساحي، أبو يوسف. كان هجاماً هجا، وجاماً للأعراض رجا، أبى إلى دمشق في أيام القاضي الخوئي فيما أظن، ودفع إليه ورقة فيها هجوه، فلما رآها دفعها إليه وأعادها عليه، فردها إليه ثانياً، فقال: يا مولانا كأنك ذاهل؟ فقال: بل عالم غير جاهل، فقال: ما الذي حملك على هذا؟ قال: رأيت الناس قد أجمعوا على كرهك، ووفود الشعراء على حرمك، ولست مجيداً في النظم فأعرف، واسمي أحمد فما أصرف، ولو مدحتك أعطيتني قليلاً ولم يعلم بي أحد، ولم يكن لي في الشهرة مُلتَحَد، فإذا هجوتك عَزرتني، وطوّفت بي وشهرتني، فيقال: هذا الذي هجا قاضي القضاة، وقابله بما لا ارتضاه، فأحس القاضي رحمه الله تعالى صِلَتَه وأسناها، وعلم أن هذا له طِباعٌ لا ينتهي عن الشر ولا يتناهى. ولمّا عُزل القاضي شمس الدين محمد بن عدلان عن القضاء عند ورد الملك الناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 من الكرك، صنع قصيدة، فتح فيها من الخجو القبيح وصيدَه، فاجتمع به وقال له: يا سيّدنا. والله ما سرَّني عزلُ ابنِ عدلان. فقال له الشيخ شمس الدين: حاشاكم يا مولانا جزاكم الله خيراً، فقال: من غير صَفعٍ ولا والله أرضاني. فقال: قبَحك الله يا نَجِس. وله تلك القصيدة التي أولها: متى يسمعُ السلطانُ شكوى المدارس ... وأوقافُها ما بين عافٍ ودارس وكان الشيخ العلاّمة أثير الدين قد توجَّه إلى الإسكندرية، فوقع الشَّناعُ أنه غرق في النيل، ودفن بقربه " بولة " وهي قرية على شاطئ النيل، فقال أبياتاً منها: وقَد دَفنوا ذلك الخراء ببولةٍ ... وحُقً لذاك المَيتِ تلك المقابرُ أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا العلاّمة أبو حّيان، قال: أنشدني المذكور لنفسه بدمياط سنة أربع وتسعين من قصيدة: فُحَجّبةً بين التَّرائب والحَشا ... فدمعي لها طلقٌ وقلبي بها رَهنُ وحالُ الهوى ما ليس يُدرَك كُنههُ ... وهل هو وهمٌ يعتري القلب أو وهن ومسلكُه بالطَّرفِ سَهلٌ وإنما ... له مَنهَج أعيا القُلوبَ به حُزنُ لديه الأماني بالمنايا مَشُوَبةٌ ... وفيه الرّجا والخوفُ واليأسُ والأمنُ وكم مَهلَكٍ فيه يقينٌ لعاشقٍ ... ومَطلبُه من دونهِ في الورى ظنٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وبالسند المذكور أيضاً قوله: تَخشى الظُّبى والظَّبا من فتكِ ناظره ... وإن تثنى فلا تسأل عن الأسلِ ولا وَاخذَ الله عينيه فقه نشطت ... إلى تلاقي وفيها غايَةُ الكَسَلِ ترمي القلوبَ فما تدري أقامَها ... هاروتُ أم ذاك رامٍ من بني ثُعَلِ هذا الغزالُ الذي راقت محاسنُه ... فلا عجيبٌ عليه رقَّةُ الغَزَلِ لما تواليتُ مِن وَجدٍ ومِن شغفٍ ... تَحقَّقَ النّاسُ أني مُغرَمٌ بعَلي وبالسند المذكور أيضاً قوله: لا تعجبوا للمجانيقِ التي رَشقت ... عكّا بنارٍ وهدَّتها بأحجَارِ بل اعجبوا للسانِ النار قائلة ... هدي منازلُ أهلِ النَّارِ في النَّارِ قلت: أحسنُ منه ما أنشدنيه لنفسه شخنا العلاّمة أبو الثناء محمود: مررتُ بعكا عِند تَعليقِ سُورها ... وزندُ أوارِ النَّارِ مِن تحتها وارِ فعاينتها بعد التنصُّرِ قد غَدَت ... مَجوسيّة الأحجارِ تَسجُدُ للنَّارِ قلت: وعلى الجملة فكان الشارمساحي شاعراً جيداً. ولم يزل يمدح ويهجو ويسنح ويرجو إلى أن سكنت شقاشقُه، وركنت إلى الخَرَسِ رواشقُه، توفي رحمه الله تعالى في حدود العشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة. أحمد بن عبد الرحمن ابن عبد المؤمن بن أبي الفتح المقدسي، الشيخ الصالح المسند المقرئ تقي الدين أبو العباس الصُّوري ثم الصالحي الحنبلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 سمع حضوراً من الموفق، وهو خاتمة أصحابه، ومن ابن أبي لقمة، وابن صصرى، والقزويني، والبهاء عبد الرحمن، وابن الزُبيدي، وخرَّج أبو عمُرو المقاتلي له مشيخةُ. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: سمعناها منه خاصّة. وحدّث عنه ابن الخبّاز في حياة ابن عبد الدائم والبرزالي والوافي والمقاتلي وابن المحب وآخرون. وقد روى المذكور فأكثر، وأسند عن جماعة، فأثّل في السند وأثّر. ولم يزل على ذلك النهج، والإضاءة والرَّهج، إلى أن أصبح هامداً، ونقله حامِله إلى ضريحه عامداً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة، وعاش أربعاً وثمانين سنة من العمر. أحمد بن عبد الرحمن بن ابراهيم الهكَاري الصَرخدي ثم الصالحي القواس المُسند المعمر، شهاب الدين سمع من خطيب مرادا وغيره. وسمع الناسُ منه لمّا تحققوا من خيره. كان فيه دين، ولم يُر منه ما يَشين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولم يزل يسمع، ويلين جانبه للطلبة ويطمع إلى أن أصاب القواس سهم الموت وصرخ بالصرخدي داعي الفوت. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة وعاش تسعين سنة. أحمد بن عبد الرحمن ابن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور: الشيخ الإمام العابر الأعجوبة في هذا الفن شهابُ الدين المقدسي النابلسي الحنبلي مُفسَّر المنامات. سمع من عّمه التقي يوسف سنة ست وثلاثين، ومن الصاحب محيي الدين بن الجوزي، وسمع بمصر من ابن زواج، والساوي، وابن الخمّيري وبالإسكندرية من السَّبط، وروى الكثير بالقاهرة. قال الشيخ شمس الدين الذهبي سمعنا منه أجزاء، وكان عارفاً بالمذهب، وذكر التدريس بالجوزيّة لما قدمَ علينا ونزل بها. وقال: حدثني الشيخ تقي الدين بن تيمية أن الشهاب العابر كان له رئيِّ من الجن يخبره عن المغيّبات. ورجل كان صاحب أوراد وصلاة ومقامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قلت: وكان وافر الحُرقة لا تعرف له جرمة، للناس فيه عقائد، وهو إلى الخير قائد، وله عمر الطِّبرس المجنونة التي بجانب الفيل ظاهر القاهرة، وهي في مكانها ظاهرة. أنشدني بعضهم قال: أنشدنا ابن الصَّاحب الماجن الذي كان بالقاهرة لما عمر الطِّبرسُ المجنونة: ولقد عجبت من الطِّبرس وصحبه ... وعقولهم بعقود مفتونه عقدوا عقوداً لا تصح لأنهم ... عقدوا لمجنونٍ على مَجنونه وعزم الأمير الذكور عليها جُملةً، وحباه من الدراهم حملةً، وجعله بها مقيماً، وأظهر هو من فضله في كهفها رقيماً، وكان في تعبير الرؤيا آية، وفي الكلام عليها غاية، لم أسمع بمثل كلامه على المنام إذا فسَّره، ولا أدري ما الذي أدّاه إلى تلك العجائب وجسِّره، وكان غالب الناس يعدّ ذلك من باب الكرامات، لا من باب تأويل المنامات، وبعضهم يقول: نجامة أو كهانة، وبعضهم يقول: قوةٌ في النفس لا مهانة، لأنه ربما قال لصاحب الرؤيا أخباراً ماضية ومستقبله، وأحوالاً كان صاحب الرؤيا منها في غفلة أوبله، حتى يتعجب السامع ويهوله هذا الفيض الهامع، وقام له بدمشق سوق، وأما القاهرة فيكاد يركب فيها بالعَلم والبُوق، إلى أن رُسم بتحويله منها وإبعاده عنها، فأقام بدمشق على حاله مفخَّمة، ورتبةٍ في النفوس مُعظمة، إلى أن أصبح العابر غابراً، والمكاثر في تعظيمه لمصابه مكابراً. أخبرني الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كنت عنده يوماً. فجاءه إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقال: رأيت كأني قد صرت أترُجَّة. فقال. فقال: أترّجه، أت ر ج هـ، وعدها على أصابعه خمسة أحرف، وقال لصاحب الرؤيا: أنت تموت بعد خمسة أيام، قال فقال لي بعض من حضر، ذكره هو وأنسيته أنا: القاعدةُ عند أرباب التعبير أنه من رأى أنه صار ثمرة تؤكل فإنه يموت، وهذه زيادة من عنده، يعني عَدّ حروف الأترجَّة. وأخبرني الشيخ الحافظ علاءُ الدّين مغلطاي شيخ الحديث بالظاهرية بين القصرين قال: جاء إليه إنسان فقال: رأيت في منامي قائلاً يقول: إشرب شراب الهكاري، ففكر ساعة وقال: أنت فؤادك يؤلمك، قال: نعم: قال اشرب لك عسلاً تبرأ، قال: فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: فكرت في أنهم يقولون: شراب ديناري كذا، شراب كذا؛ شراب كذا، فلم أجد لهم شراباً يوصف بالهكاري، فرجعت إلى الحروف فوجدتها شراب الهك أري، والأري هو العسل وذكرت الحديث " كذب عليك العسل " أو كما قال وهذا ذكاءٌ مفرط وذهن يشوب التعجب بالتحيّر ويخلط. وحكى لي عنه القاضي بهاء الدين أبو بكر ابن غانم موقع صفد وطرابلس قال: كنا عنده بدمشق وجاء إليه اثنان، فقال أحدهما: رأيت رؤيا، وقصّها، فقال: ما رأيت شيئاً وإنما تريد الامتحان، فخرجا بعدما اعترفا، فقلنا له: من أين لك هذا؟ قال لما تكلم رأيت في ذيل أحدهما نقطة دم فذكرت الآية: " وجاؤوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قميصه بمٍ كذبٍ ". فاتفق أن رأيت أحدهما فيما بعد فسألته عن القضية، فقال: لما اجتزنا عليه ذكرنا أمره الغريب، وقلنا: نمتحنه وصنعنا رؤيا للوقت، فكان ما سمعت فقلت له: إنه قال: كذا وكذا فقال: صدق ونحن داخاون إليكم كان إنسان في الطريق يذبح فروجاً، فرمي به فلوثنا الدم. وحكى لي عنه أيضاً قال: جاء إليه إنسان وقال: رأيت كأن في داري شجرة يقطين قد نبتت، فقال له: أعندك جارية غير الزوجة؟ قال: نعم، قال: يعني إياها، فقال: ما هذا؟ قال: الذي تسمعه، قال: إنها ملك زوجتي، قال: فقل لها تبيعني إياها، فراح وعاد يقول: إنها لم تبعها، فقال: تكسب مئتي درهم، فعاد وقال: لم تبعها، فألح عليها فقال: إنها لم تبعها، فقال: أما الآن فقد آن تعبير رؤياك، امض إلى هذه الجارية واعتبرها، فتوجه وعاد وقال: إنه كان عبداً وزوجتي تكتمني أمره وتلبسه لباس النساء. وأخبرني غير واحد عنه أنه جاء إليه إنسان وقال له: رأيت كأني قد وضعت رجلي على رأسي، فقال له: أفسر لك هذه الرؤيا بيني وبينك أو في الظاهر؟ فقال بل في الظاهر، فقال له: أنت من ليالٍ شربت الخمر وسكرت ووطئت أمك فاستحيا ومضى. وعندي عنه من هذا جملة وافرة، وأخبار على التعجب من أمره متضافرة، يضيق عنه الوقت ويؤدي سرده بعد المقة إلى المقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأما خروجه من مصر، فأخبرني الشيخ الإمام الفاضل شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري عن علم الدين بن أبي خليفة رئيس الأطباء بمصر حكاية أخبره بها شخص من الهند، هي أغرب من سائر أمور شهاب الدين العابر وأعجب، ذِكرُها يهوّل العقل وأمرها ما يصدّقه أهل النقل. وتوفي شهاب الدين رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة تاسع عشري ذي القعدة، وحضر جنازته ملك الأمراء وغيره من القضاة والأكابر. وكانت واقعته في مصر وخروجه منها في ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وست مئة. أحمد بن عبد الرحمن بن رواحة نُور الدين الأنصاري الحموي الكاتب، كتب الإنشاء بطرابلس والفتوحات لما تولّى الأمير سيف الدين أسنَدْمَرُ نيابة طرابلس عزل نور الدين هذا وجعل أمره في طرابلس جُذَاذاً، وولّى مكانه تور الدين بن المغيزل، فتوفي بعد شهور، وأعيد النور بعد النور، واستمر في مكانه إلى بعض سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فرُتِّبَ عِوَضه ابن مقبل الحمصي، وعاد ابن رواحة إلى حماة، واستقر في أصل مخرجه ومنتماه، ولم يزل بها حتى طفِئ نوره، وبُهت لأمره حضوره. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة سادس عشر شعبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أحمد بن عبد الرحمن الشيخ الإمام الخطيب ابن العَجَمي خطيب جامع حلب. اجتمعت به في حلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وأراني إجازة العلامة شيخنا شهاب الدين أبي الثناء لأخيه عبد المؤمن وهي بخطّه نظمّ ونثر، وقد أثنى عليه وعلى فضائله، وبرهن على شاهده، بنظم دلائله، وساقه في عداد الأدباء السّادة، والقالة القادة، وخطُّه يزري بوشي صَنْعَا، وحروفه تفوق النجوم جَمعَا، وطروسُه غادةٌ بالسطور فرعاً. وهو أخو الشيخ عز الدين بن عبد المؤمن، وسيأتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى. لم يزل شمسُ الدين المذكور في دَرَج منبره، ويلتقط الناس درَّه من معبره، إلى أن كسف شمسه وضمه رمسه، وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الشيخ الإمام المفتي القاضي شهاب الدين فارس الظاهري الشافعي، أحَد المفتين والمدّرسين بدمشق. أخذ العلم عن الشيخ برهان الدين الفزاري وغيره. ولي قضاء الركب الحجازي مرات، وبرَّد شوقه برمي الجمرات، وكان حَسَن المحاضرة، لَسِنَ المذاكرة، قديم الهجرة في العلم، رأى أولئك السادة القدماء أهل الحلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وله ثروة ومعه مال جم، وليس له غير التحصيل هَم، وملكه يدخل منه في اليوم جًمْله، ولا يؤدوده عند استخراج أجر أملاكه ما يروم حَمْله، وكان مع ذلك يجلس في حانوت الشهود بالمسمارية ويقاسم، ويُعملُ في تحصيل ذلك الأنيق الرواسم. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الظاهري في باطن الأرض مقبوراً، وترك ولده بماله الموروث مجبوراً. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد حادي عشر شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة خمس وسبعين وست مئة. أنشدني من لفظه لنفسه سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة: رأت شيبتي قالت: عجبتُ مع الصبَا ... مشيبك هذا صِفهُ لي بحياتي فقلت لها: ما ذاك شيبٌ وإنما ... سناكِ بقلبي لاح في وجناتي وأنشدني من لفظه لنفسه: عجبوا اخالِك كيف منك مُقَبِّلاً ... شفةً رَقَتْ عن لؤلؤ وجمان فأجبتهم لا تعجبوا مازال ذا ... مستلزماً كشقائق النعمان وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: رَعَفَ الحبيبُ فقيل هل قبلتَه؟ ... شوقاً إليه ودمع عينك يَسجُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فأجبتُ: لا، لكنه أخفى دمي ... في سفكه وعليه قد ظهر الدمُ وكان يقول بعد ذلك: الشعر مزبلة الفقيه، فأقول: كذا هو. أحمد بن عبد الرزاق الخالدي كان المذكور وزير الممالك القازانيّة والبلاد القانيّة، ظالماً غاشماً، سفاكاً للدماء هاشماً، استصفى أموال الرعايا، وحاجَّهم في أخذها منهم بالباطل وعايا. ولم يزل في ظلمهِ ظُلمِهِ خابطاً، وعمله بذاك عند الله حابطاً، إلى أع عضَه السيف بريقه، واختطفَ بَصَره من بريقه. وقُتِلَ هو وأخوه القطبُ وأخوهما زين الدين وذلك في سنة سبع وتسعين وست مئة. أحمد بن عبد القادر ابن أحمد بن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم القيسي، الشيخ الإمام العالم الفريد تاج الدين المعروف بابن مكتوم النحوي. اشتغل بالحديث وفنونه، وأخذ الحديث عن أصحاب النجيب وابن علاّق، وهذه الطبقة. كان فاضلاً في النحو قيماً بغرائبه، متيّماً ما تشعَّب من مذاهبه، جمع فيه وعلّق وفاض وغَلّق، وكَسر سدَّه وخلّق، وطار فيه إلى غايات النجوم وحلّق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وخطه كما يقال طريقه بذاتها، متفردة بلذاتها. وله نظم لا بأس به ولا لَومَ كاسبه. ولم يزل على حاله إلى أن باح الموت بسرّ ابن مكتوم، وحل به الأجل المحتوم، وفُضَّ له قبرُه المختوم. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين مئة في طاعونِ مصر. ومولده في أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وست مئة. كنت قد سمعت بأخباره وطربت لأشعاره، فازددت له شوقاً، ولم أجد لقلبي على الصبر طوقاً، فقدر الله بالاجتماع، وزادت بُرُوق فضله في الالتمام، ورأيته غير مرة. ثم إني اجتمعت به في القاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة وسألته الإجازة بكل ما يجوز أن يرويه فأجازني مُتَلَفّظاً بذلك. وعمل تاريخاً للنحاة ولم أقف عليه إلى الآن، وملكت بخطه " الدر اللقيط من البحر المحيط " وهو في مجلدين، التقطه من تفسير شيخنا أثير الدين، وتكلم هو في بعض الأماكن وليس بكثر بعض شيء، فجاء كتاباً جيداً. ومن شعره، ومن خطه نقلتُ: ما على الفاضل المهذب عارٌ ... إن غدا خاملاً وذو الجهل سامِ فاللَّباب الشهي بالقشر خافٍ ... ومَصُون الثمار تحت الكِمامِ والمقادير لا تلام بحالٍ ... والأماني حقيقةً بالَملاَمِ وأخو الفهم من تزوّد للم ... ت وخلَّى الدني لنهب الطغامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ونقلت من حطّه له: عَرَتني هُمومٌ برَّحت وشواغل ... وأصبح دهري وهو بي متشاغِلُ وبعّد عن قلبي المسرَّة أنني ... على فضلِ ما عندي من العلم خامِلُ يمر بيَ الطلابُ لا يعرفونني ... ويأتون ذا الحظِ الذي هو جاهلُ ويُقرئ عِلمَ النحو دونيَ معشرٌ ... منازلهم في المشكلات نوازلُ إذا سُئِلوا أعياهم أن يجاوبوا ... كما عَيَّ لما سِيْلَ من قَبلُ باقلُ قُصَارى عُلاَهم أن يقال: مشايخٌ ... وأقصى مناهم أن يُقال: أمَثشلُ رَأوا صُحُفاً فاستقرؤوها وحاولوا ... بها مَعلماً فاستقبلتهم مجاهلُ وأضحوا شيوخاً بالصحائف وَحدَها ... لهم رُتبٌ عند الورى ومَنَازلُ وما لازموا شيخاً ولا حاولوا به ... وُصُولاً إلى علمِ له الشيخ واصلُ ولم يُعَلّمه الشيوخ فرأيه ... على كثرة الأوراق والكتبِ قائلُ وإني وإن أصبحتُ لارَبَّ رتبة ... لديهم ومنهم بي البرُّ نازلُ ليَعرفُ حققي كلُّ ذي ألمعيَّة ... ويقدُرُ لي القَدرَ الجليلَ إلا فاضلُ ويشهدُ لي بالفضل نظمٌ مٌهَذَبٌ ... ونَثرٌ يُحاكي الدُرَّ مِنهُ الفواصلُ وأبكارُ أفكارٍ كَشَفتُ قناعَها ... وحَلَّيتُ منها ما غدا وهو عاطلُ وأبرزتها في صُورة الدهر غُرَّةً ... كما حُلَّ عن وجهِ المليحةِ حائلُ ولي في أفانين العلوم مَجَامعٌ ... بعا كل ما يهوى الحدَّقُ حاصلُ سهرت عليها إذ أخو الجهل راقدٌ ... وفكرّت في تهذيبها وهو غافلٌ ومن كان مثلي لم يكن هَمُّه الغِنى ... فيشغَلَهُ فيه عن العلم شاغلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ونقلت من خطه له: ومُعَذِّرِ قال العذولُ عليه لي ... شَبِّههُ واحذر من قصورٍ يَعتَري فأجبته هو بَانةً من فوقها ... بدرٌ يُحَفُّ بهالةِ مِن عَنبَرِ ونقلت من خطه له: نفضتُ يَدي من الدنيا ... ولم أضرع لمخلوقِ لعِلمِي أن رزقي لا ... يجاوزني لمرزوقِ ومَن عَظُمن جَهَالتُه ... يَرَى فِعلِي من المُرقِ أحمد بن عبد القوي بن عبد الرحمن ضياء الدين بن الخطيب الأسنائي. اشتغل بأينا، ثم بالقاهرة، وأتى إلى دمشق وقرأ بها على النووي، وسمع الحديث، وصحب الشيخ إبراهيم بن مِعضَاد الجعبري، ثم اعتزل وأقام ببلده سنين، انقطع عن الناس، وأنف من ملاقاة الأدناس، يتعبد في مكانه، ويعتمد على الله في تحريكه وإسكانه، إلى أن انطفأ ضياؤه وخمد من الأسنائي سناؤه. وتوفي رحمه الله سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم ابن عبد العزيز بن جامع، شهاب الدين العزَّازي التاجر بقيساريةِ جَهاركس بالقاهرة. كان شاعراً جيد المقاصد، لطيف الاقتناص للمعاني خفيَّ المراصد، لتراكيبه حلاوة، وعلى ألفاظه طلاوة، وله شيء كثير من الموشحات، وكلها بالصناعة البديعية مُوشَّعات، وكان قد أتقن فنّي القريض والتوشيح، وغني اشتهاره في ذلك عن التلويح بالتصريح. وكان تاجراً فهو ينشر البَّزين من نظمه وقماشه، ويجعل النظم لأدبه والمتجرَ لمعاشه. ولم يزل على حاله إلى أن طُوِيت من الحياة شُقَّتُه، وعُدِمَ ما بين معاشريه لطفه ورقته. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد تاسع عشري شهر الله المحرم سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. وحدَّث بشيء من نظمه، أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين أبو الفتح قال: أنشدني من لفظه شهاب الدين العزَّازي يمدح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 دمي بأطلالِ ذاتِ الخال مطلولُ ... وجَيشُ صَبريَ مَهزُومٌ ومفلولُ ومن يُلاقِ العيون الفاتكاتِ بلا ... صَبرٍ يدافعُ عنه فهو مخذولُ قُتلتُ في الحب حُبَّ الغانيات وما ... فارقت ذنباً وكم في الحب مقتولُ لم يدرِ من سَلَبَ العشاقَ أنفسهم ... بأنه من دم العشاق مؤولُ وبي أغنُّ غضيضُ الطرف مُعتدلُ ال ... قوامِ لَدْنُ مَهَرِّ العطف مَجدُولُ كأنّه في تثنّيه وخَطرتِهِ ... غُصنٌ من البانِ مطلولٌ ومشمولُ سُلافةٌ منه تسبيني وسالفهٌ ... وعاسِلٌ منه يُصبيني ومعسُولُ وكل ما تدّعي أجفان مقلته ... يصحُ إلاَّ غرامي فهو منحولُ منها: يا برق كيف الثنايا الغرُّ من إضَمٍ ... يابَرقُ أم كيف لي مُنهنَّ تقبيلُ ويا نسيم الصّبا كرِّر على أذُني ... حَدِيثهنَّ فما التكرارُ مملولُ ويا حُداةَ المطايا دُون ذي سَلَمٍ ... عوجوا وشرقيَّ بانات اللِّوى مِيلُوا منها: منازلٌ لأكفِّ الغيثِ توشيَةٌ ... بها وللنَور توشيع وتكليلُ كأنما طِيبُ ريَّاها ونَفحتُها ... بطيبِ تُربِ رسول الله مجبولُ أوفَى النبيين بُرهَاناً ومُعجزةً ... وخيرُ من جاءهُ بالوحي جبريلُ لهُ يدٌ وله باعٌ يَزِيِنُهاما ... في السِّلم طِولٌ وفي يوم الوغى طُولٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 منها: سَلَ الإلهُ به سيفاً لملته ... وذلك السيفُ حتى الحشرِ مسلولُ وشاد ركناً أثيلاً من نبوَّتهِ ... والكفرُ واهٍ وعرشُ الشرك مثلولُ ويل لمن جحدوا برهانه وثنى ... عِنان رشدهم غيٌّ وتضليلُ أولئك الخاسئون الخاسرون ومن ... لهم من الله تعذيبٌ وتنكيلُ نَمَتهُ من هاشم أسدٌ ضَرَاغِمة ... لها السيوفُ نُيُوبٌ والقنا غيلُ إذا تفاخر أربابُ العلا فهم ال ... غرُّ المغاويرُ والصَّيدُ البهاليلُ لهم على العَرَبِ العَرباء قاطبةً ... به افتخارٌ وترجيحٌ وتفضيلُ قومٌ عَمَائمهم ذلت لعزتها ال ... قعساءِ تيجانُ كسرى والأكاليلُ وهي قصيدة جيّدة غراء. وبالسند المذكور له: منذ عشقت الشارعيَّ الذي ... بالحسن يغتال ويختالُ لم يبق في ظهري ولا راحتي ... تالله لا ماءٌ ولا مالُ وأنشدني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين العزّازي: ما عُذرُ مثلك والركاب تُساقُ ... ألاّ تفيض بدمعك الآماقُ فأذِل مثوناتِ الدموع فإنما ... هي سُنَّة قد سنَّها العشاقُ ولرُبَّ دمعٍ خانَ بعد وفائهِ ... مُذ حانَ من ذاك الفريق فراقُ ووراء ذياك العُذيبِ مُنيزلٌ ... لَعِيت بقلبك نحوه الأشواق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 خُذْ أيمن الوادي فكم من عاشقٍ ... فتكت به من سِربِهِ الأحداقُ واحفظ فؤادك إن هفا بُرق الحِمى ... أوهَبَّ منه نسيمه الخفّاقُ وكتب شهاب الدين العزّازي إلى ناصر الدين حسن بن النقي ملغزاً في " شبّابة ": وما صفراءُ شاحبةٌ ولكن ... تُزَيَّنها لُّنضارة والشبابُ مُكتبةٌ وليس لها بنانٌ ... مُنقَبةٌ وليس لها نِقابُ تُصيخُ لها إذا قبَّلتَ فاهَا ... أحاديثاً تلذُّ وتُستَكابُ ويحلو المدح والتشبيب فيها ... وما هي لا سعادُ ولا الربابُ قلت: ما أحسن ما جاءت " الباب " هنا. وأجاب ابن النقيب عن ذلك: أتت عجميَّةٌ أعربتَ عنها ... لسلمانٍ يكون لها انتسابُ ويُفهم ما تقولُ ولا سؤالٌ ... إذا حققت ذاك ولا جوابُ يكاد لها الجماد يهوزّ عِطفاً ... ويرقص في زُجَاجته الحُبِابُ قلت: الأول أجود وأحسن. وقال العزّازي ملغزاً في القوس والنُشَّاب: ما عجوز كبيرةٌ بلغت عُم ... راً طويلاً وتَتَّقيها الرجالُ قد علا جسمَها صفارٌ ولم تَشْ ... كُ سَقَاماً ولا عراها هُزالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وأراها لم يُشبهوها، ففي الأ ... مِ اعوجاج وفي البنين اعتدالُ قلت: ما أصنع البيت الثالث وأحسنه. ومن شعر العزَّازي: قال لي من أحبه عند لثمي ... وجناتٍ يُحدِّثُ الورد عنها خلَ عني أما شبعت؟ فنادي ... ت: رأيتَ الحياة يُشبَع منها؟ ومنه: جَعَلت يوم قارةٍ كلَّ وجهٍ ... شِدّةُ البرد وهو للقار يحكي وأسالت منا الدموعَ وما زل ... نا بها في منازلِ النبك نبكي ومن موشحات العَزّازي: ما على من هام وجداً بذواتِ الحلى ... مبتلى بالحِدَقِ السود وبيض الطُّلَى باللوى مُليُّ حُسنٍ لديوني لوى كم نوى قتلي وكم عذبني بالنوى قد هوى في حبه قلبي بحكم الهوى واصطلى نارَ تجنّيه ونار القِلى ... كيف لا يذُوبُ من هامَ بريم الفَلاَ هل ترى يجمعنا الدهر ولو في الكرى أم ترى عيني محيّا من لجسمي برى بالسُّرى يا حاديي ركبٍ بليل سرى عَلِلاً قلبي بتَذكار اللُّقا علِّلا ... وانزلا دون الحِمَا حُيَّ الحمى منزلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بي رشا دمعي بِسِرِّي في هواه فشا لو يشا بَرَّد مني جمرات الحشا ما مشى إلا انثنى من سكره وانتشى عطلا من الحميّا يا مُدير الطلا ... ما حلا إذا أدار الناظرَ الأكحلا هل يلام من غَلَبَ الحبُّ عليه فهَام مستهام بفاترِ اللحظ رشيق القوام ذي ابتسام أحسن نظماً من حباب المام لو مَلا من ريقه كأساً لأحيا الملا ... أوجَلاَ وجهاً رأيتَ القمر المجتلى لو عَفَا قلبك عَّمن زلَّ أو من هفا أو صفا ... ما كان كالجلمد أو كالصفا بالوفا سَل فتىً عذَّبتَه بالجفا هل خلا فؤاده من خطرات الولا ... أو سَلا أو خان ذاك الموثق الأوَّلا وكنت أنا في وقت قد نظمت موشحاً في هذه المادة وهو: لي إلى ظبي الحِمى شوق وقد أنحلا ... إن حلا فإنه جرَّعني الحنظلا بي قمر سبي الحشا مني وعقلي قَمَرْ لو خَطر أمسى به أهل الهوى في خطر مُذ سَحَر بطرفه اعتل نسيم السَّحر واصطلى محبة تذكار عصر خلا ... وابتلا بالوجد حتى أتعب العُذَّلا كم ألم من طيفه لما بَجَفنيَّ ألم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 في الظُلم أنصف لكن عين وُلّي ظلَم أو نَسَمْ مبسَمُه أحيا جميع النسَم أوجلا طلعتهُ في دامس أليلا ... لا اعتلى على بُدُور التم بين الملا إن قضى بقتلي طرفُ غزالي انقضى إذ مضى في كبدي جفناه فيما مضى لو أضا برق الرضى لي ذات الإضى لا نجلى عني العَنَا أو قلّ عني العُلا ... وانسلا قلب عدوّ قال عني سَلاَ إن صفا لي قلبه من هجره انصفا إن تفاءلت لقلبي برضاه انتفا أو طغا دمعي على جفن له أو طفا أخجَلا قطر غوادٍ قد غدت حُفَّلا ... كيف لا وهو حَيا دمعي وقد أسبلا بئس ما عاملني الحب الذي بي سَمَا عندما أجرى دموعي بالجفا عندنا لأجرَما غفرتُ للواشي الذي أجرما فاختلى به وخَلى البال رهن البلا ... أمَّ لا دون نعم في كل ما أمّلا أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائم ابن أحمد بن محمد القزويني الطاوُسي. الشيخ الكبير المقرئ المعمَّر الصوفي بالخانقاه السميساطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 روى عن ابن الخازن، وعن ابن خليل، والسخاوي، وغيرهم، وحدَّث بالإجازة العامة عن الصيدلاني وغيره. وكان من أعيان الصوفية، حَسَنَ الأخلاق قاضياً للحقوق، من أهل القرآن. قال شيخنا البرزالي: ذكر أنه قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وست مئة وسافر إلى بغداد سنة أربع وثلاثين مع ابن مرزق، كان يصلّي به، أرسله معه الشيخ علم الدين السخاوي ووصّاه به. وذكر أنه سمع بقزوين " صحيح مسلم " على يد أبي بكر الشحاذي، وأنه اجتمع بالرافعي صاحب " الشرح الكبير "، وأنه رأى السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه سنة خمس عشرة وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بمقابر الصوفية. أحمد بن عبد المحسن بن الحسن بن معالي القاضي الإمام نجم الدين أبو العباس الدمشقي الشافعي. تفقَّه على الشيخ تاج الدين عبد الرحمن ولازمه، وأعاد بحلقته وولي إعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الظاهرية والقيمريَّة وغيرهما. وولي قضاء القدس في أيام القاضي بهاء الدين ابن الزكي وناب في الحكم سنين عن ابن صَصَرى، ودرس بالنجيبيّة وغيرها. وسمع من ابن عبد الدائم، وروى عنه، وسمع من ابن أبي الخير، وابن علان، وجماعة. وحج غيره مرة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. أحمد بن عبد المحسن بن الرفعة ابن أبي المجد الشيخ الصالح المسند شرف الدين أبو العباس. سمع من النجيب الحرَّاني، وابن عَزّون، والمعين أحمد بن القاضي زين الدين الدمشقي، وابن ملكويه المشرف البروجردي، وتاج الدين القسطلاني، وسمع مشيخة الرازي، والجمعة للنسائي على الشيخين المقدم ذكرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وتوفي في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة، ودفن بالقرافة. ونقلتُ من خطّ السَّراج الورّاق، ما كتبه إلى الشيخ، لما قدم من الحجاز: لم لا أراك من الحِجَا ... ز وقد وصلتَ ولا أراكَا طيِّب سواك فمي فلم ... يُعجِبهُ ذكرُ فتىً سواكا أحمد بن عبد الواحد ا بن عبد الكريم بن خلف، الشيخ الأمين الفقيه العَدل الفاضل فتح الدين أبو العباس ابن الشيخ الأمام العلامة كمال الدين الأنصاري الزملكاني. حدَّث عن خطيب مردا، والبكري، وابن عبد الدائم الزملكاني. توفي رحمه الله تعالى ظهر يوم الاثنين ثالث عشر صفر سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده وأخيه الشيخ علاء الدين. وفَتحُ الدين هذا هو عم الشيخ العلامة كمال الدين ابن الزملكاني قاضي حلب. وكان مولد فتح الدين في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وست مئة. قال شيخنا البرزالي: سمعت عليه خمسة عشر جزءاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أحمد بن عبد الوهاب ابن خلف بن محمود بن بدر القاضي علاء الدين المعروف بابن بنت الأعز الشافعي. حج ودخل اليمن، وعاد وقدم دمشق، وولي تدريس الظاهرية والقَيمَريَّة، وكان يركب البغلة ويتحنَّك على عادة المصريين، وهو أخو الأخوين قاضي القضاة محمد صدر الدين وقاضي القضاة عبد الرحمن تقي الدين. وعاد من دمشق إلى مصر ودَرَّس بالكُهاريّه والقطبية، وتولى الحسبة باخرَة. وكان مليح الشارة، فصيح العبارة، مليح النضارة، فيه كرم وإحسان وجود، ومحاسنٌ يتضوع من نشرها الوجود، مع لطف مزاج، واعتدالٍ لا يُؤديّه إلى انزعاج، كثيرَ التبسم، شديد الاسترواح إلى المكارم والتَنَسُّم، وكان فيه شهامة، وعنده بالأمور العظام كفالة وزعامة. ولم يزل بمصر على حاله إلى أن أجاب الداعي، وقام به الناعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. أخبرني من لفظه شيخُنا العلامة أثيرُ الدين، قال: حَضَرنَا مع المذكور في الروضة فكتب إليّ، وَوَجَّهَهُ مع بعض غلمانه: حَيَّيتُ أثيرَ الدين شيخ الأدبا ... أفضي حقاً له كما قد وَجَبَا حَيَّيتُ فتىً بطاقِ آسٍ نَضِر ... كالقدِّ بدا مُلِئتُ منه طَرَبَا قال: فأنشدته: أهدى لنا غُصُناً من ناضر الآسِ ... أقضى القضاةِ حليفُ الجود والباسِ لمّا رأى سقمي أهداه مع رشأٍ ... حُلوِ التثني فكان الشافي الآسي وأنشدني قال: أنشدني من لفظه لنفسه: تعطلتُ فابيضّت دَوَاتي لحُزنها ... ومُذقلَّ مالي قلَّ منها مِدادها وللناس مُسوَدُّ اللباس حدادهم ... ولكنَّ مُبيضَ الدواةِ حِدادها وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: في السُمر معانٍ لا تُرى في البيضِ ... تالله لقد نصحتُ في تعريضي ما الشهد إذا طعمته كاللبنِ ... يكفي فَطِنا محاسنُ التعريضِ وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: قالوا بالعذارِ تسلَّ عنه ... وما أنا عن غزال الحسن سالِ وإن أبدَت لنا خدّاه مسكاً ... فإن المسك بَعضُ دم الغزالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الكريم شهابُ الدّين، النويريّ المحْتد، القُوصيّ المولد. سمع على الشريف موسى بن علي بن أبي طالب، وعلى يعقوب بن أحمد، وأحمد الحجّار، وزينب بنت مُنجّا، وقاضي القضاة ابن جماعة، وغيرهم. وكتب كثيراً، كتب البخاري مرَّات، كتبه ثماني مرات، وكان يكتب النسخة ويقابلها، وينقل الطباق عليها ويجلّدها ويبيعها بسبع مئة درهم وبألف، وباعَ تاريخه مرة للقاضي جمال الكفاة بألفي درهم، وكان يكتب في النهار الطويل ثلاث كراريس، وحَصل له قربٌ من الدولة في وقت، وجمع تاريخاً كبيراً في ثلاثين مجلدة رأيته بخطّه. كان المذكور قد تقدَّم عند السلطان الملك الناصر، وعُقِدت عليه الخناصر، ووكَّلهُ في بعض أموره، وجعله في موضع سرَّه، وعمل عليه ولعب بعقله حتى رافَع ابن عُبادة، وهو الذي قربه إليه ورفع عندَه عِمَادَه، غضُربَ بالمقارع نكالاً وتخلّى السلطان عنه وأضحك منه الثكالى، ولكنَّ ابن عبادة عَفَا عنهُ وما انتقم منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وتقلَّب في خِدم الديوان، وباشر نظرَ الجيش بطرابلس في وقت، ونظر الديوان بالدقهلية والمرتاحيّة. وكان حسن الشكل فيه مكارم وأريحيّة، يتودَّدُ لأصحابه، ويتردد لمن يتمسَّكُ بأسبابه، مع ذكاءٍ في فطرته واحتشام في عشرته. صام شهر رمضان وهو في كل يوم بعد العصر يستفتح قراءة القرآن إلى قريب المغرب، ثم حصل له وجع في أطراف يديه زار منه منازل البلى وترك الدمع عليه مُسبَلاً. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومن شعره: .... أحمد بن عبد الله بن جبريل كاتب الإنشاء من الأيام المُعِزيّة إلى آخر وقت القاضي شهاب الدين. كان كاتباً مأموناً، مباركاً على الدولة ميموناً، تردد إلى الديوان زماناً، وأخذ من السعد فيه أماناً، إلى أن أضرَّ ولزم الجلوس في داره وأصرَّ. ولم يزل على ذلك إلى أن ودع أهله بالحزن بعد مسرَّة وهنا، وأصبح بعمله في القبر مرتهناً. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة. وهو والد القاضي صلاح الدين بن عبد الله، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ودارهم بالقاهرة في حارة وزيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أحمد بن عثمان بن قايماز ابن أبي محمد عبد الله الفارقي التركماني الدمشقي شهاب الدين، والد شيخنا الشيخ شمس الدين الذهبي. سمع صحيح البخاري سنة ست وستين على المقداد القيسي، عن سعيد بن الرزاز، عن أبي الوقت. وأجاز له تقي الدين بن أبي اليُسر، وجمال الدين بن مالك، وجماعة. وسمع مع والده ببعلبك من التاج عبد الخالق وزينب بنت كِندي، وجماعة. كان فيه دين وخبير ودفع الضرر عن غيره والضير، افتكَّ من عكا أسيرين، وأعتق جارية وغلامين، وبرع في صناعة الذهب، وكان في يده مثل اللهب. ولم يزل على حاله إلى أن انتهى شوطه، وفرغ من سَوْق الحياة سَوْطه، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. أحمد بن عثمان بن أبي الرجاء شهاب الدين بن السَّلعُوس التنوخي الدمشقي، أخو الصاحب شمس الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 سمع من ابن عبد الدائم، وسمع بالإسكندرية في تجارته من عثمان بن عوف. وسمع منه البرزالي. كان في سمعه ثِقل، وهو لأجل التجارة لا يزال في نُقَل، وفيه برّ وصدقة، وله تطلُّع إلى الإحسان لا يُطرق معه حدقَه، ونال الجاهَ العريض أيام وزارة أخيه، وولي نظر الجامع الأموي، إلا أنه ثبتت أواخيه، ولما قُتل أخوه عاد إلى حاله الأولى وانكفَّت يده الطولى. ولم يزل كذلك إلى أن وقع ما لابُدَّ منه، ونفرت أوانس الحياة عنه، وتوفّي رحمه الله تعالى كهلاً سنة سبع وتسعين وست مئة. أحمد بن عثمان بن إبراهيم ابن مصطفى بن سليمان، الشيخ الإمام الفقيه تاج الدين أبو العباس المارديني الحنفي، المعروف بابن التركماني، وسيأتي ذكره والده وأخيه في مكانهما إن شاء الله تعالى. كان فقيهاً مُجيداً، وأدبياً مفيداً، ومُبدياً للفوائد في الفنون ومُعيداً، صنف في غير ما فن وأظهر ما بطنَ من الغوامض وما استَجَنَّ. له تعليقه على المُحَصَّل للإمام فخر الدين وشرحٌ على منتخب الباخي في أصول الفقه للحنيفة، وثلاث تعاليق على خلاصة الدلائل في تفتيح المسائل للحنيفة؛ الأولى: في حل المشكلات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وتبين المعضلات، وشرح الألفاظ وتفسير المعاني للحُفَّاظ. والثاني: في ذكر ما أهمله من مسائل الهداية. الثالثة: في ذكر أحاديثه والكلام عليها وعلى متونها وعلى تصحيحها وتخريجها. شرحُ الجامع الكبير لمحمد بن الحسن، وشرح الهداية، أظنه لم يكمل، وكتابان في علم الفرائض مبسوط ومتوسط، وتعليق على مقدمتيَّ ابن الحاجب، وشرح المثّرب لابن عصفور أظنه لم يكمل، وشرح عرُوض ابن الحاجب، كتاب في أحكام الرماية والسبق والمحلل، وكتاب الأبحاث الحليّة على مسألة ابن تيميّة، وشرح الشمسية في المنطق، أظنه لم يكمل، وشرح التبصرة للخرقي، في الهيئة أظنه لم يكمل. وله نظم جيّدُ المقَاصد ونثر يُعَدُّ في الفرائد، وخطّه أبهى من الحلل الموشاة والرياض التي بالأزهار مُغشاة. لم يزل في خدمة العلم إلى أن سكن التراب، وفارق لداته والأتراب، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة في أول جُمَادى الأولى. ومولده بالقاهرة سنة إحدى وثمانين وست مئة. نقلتُ من خطه له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 غرامي بكم بين البريَّة قد فشا ... فلستُ أبالي بالرقيب ومن وشى ولا غَروَ أن غرّت صفاتك من حكى ... فما قدر ما حالكَ الربيع وما وشى وإن قستُها بالدُرِّقال بي السُها ... أفق إن ذاك الدُر في بحره انتشا فقُمت بها أشدو على كل مَشهدٍ ... فكلٌّ به عُجباً تواجَدَ وانتشى مغارسُه طابت وطاب أبَّوةً ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا وما أنبت الخَطيَّ إلاّ وشيجُه ... ولا بات إلا في مُطهَّره الحشا فجاء فريد الدهر أوحَدَ عصره ... وكم بين ذي نورٍ ومن كان ذا غِشا ونقلت منه أيضاً: ملكتَ عذَارى الجامحات وعُونَها ... وفجَّرتَ مِن عُقم المعاني عيُونها رددت وجوه الشاردات أوتنساً ... وذلَّلت باللفظ البليغ متونها فلا غَروَ أن هزَّ الصَّبا ... وقبَّل من بان العُذيب غُصُونَها وأسكر صبّاً مُغرماً بحديثكم ... وفرَّعَ من حُسن الحديث شجونها أحمد بن عثمان بن مفرّج بن حامد الشيخ الصالح أبو العباس البعلبكي القيّم بلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، وكان شيخاً صالحاً، خدم المشايخ وسافر إلى العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قال شيخنا البرزالي: وروى لنا عن ابن المقير الأربعين للحاكم قرأتها ببعلبك، وسمع أيضاً من ابن رواحة في أول سنة إحدى وعشرين وست مئة وسمع من الشرف المرسي، وغيرهم، ولزم المسجد في آخر عمره والعبادة. وكان حسن السمت كثير المروءة، ديِّناً عفيفاً. توفي رحمه الله تعالى في ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. أحمد بن عثمان الأديب النظّام شهاب الدين الأمشاطي. كان ينظم الشعر القريض، وهو فيه ذو طرفٍ غضيض، ولكنه في الأزجال والموشحات وما يحتاج الأدباء فيه إلى رأي العوام من الزيلجات قيّم في وقته بالشام، يعظمه أرباب هذا الفن بشهادة الحكام، أخذ على ذلك دراهم، واستعمل بها لحراجاتهم مراهم، لعب مراتٍ وغَلَب، ونُودي له بقيّم الشام من دمشق إلى حلب، وكان له قدره لنظمه الشعر، فإنه به غَلالة الشعر. ولم يزل على حاله إلى أن سُرحَ الأمشاطي إلى البرزخ، وأقام به إلى يوم القيامة مرسىً ومرشح. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ومات في عشر الستين. وكتب عنه ابن طغريل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ومن شعره: وفتَّاكِ اللواحظ بعد هَجرٍ ... حنا كرماً وأنعم بالمزار وظل نهاره يرمي بقلبي ... سهاماً من جفونٍ كالشفار وعند النوم قلت لمقلتيه ... وحكم النوم في الأجفان جار تعالى من توفاكم بليلٍ ... ويعلم ما جرحتم بالنَهارِ وكان الأمشاكي قد نظم هو وابن مقاتل زجلين، فقطع أرباب فنّهما للأمشاطي بأنه الغالب، وابن مقاتل يدعي أنه سافر إلى مصر وأخذ خطَّ الشيخ صدر الدين بن الوكيل وخط شخنا أثير الدين وغيرهما من المصريين بأنه هو الغالب والأمشاطي رحمه الله تعالى. لك خَدْيا أح مذ حاز مُلح ... روضو اصطبح فيه واغتبق خال من سبح أسبى المهج ... زهرٌ خرج وأظهرُ فَرج من هام بيه ليسَ يُلاَمْ مُعَيشِقي النادر ... ليس في الملاح ندُّو وجهو المضي الزاهر ... يدر الكمال عبدو ولو قوام ناضر ... في اللين أخذ حَدُّو قام في الرياض خاطر ... رأى الغُصِين قدّو عليه رَجَح مات وانطرح ... لما افتضح وفي الورق صار مندرج ومُندمج ... وراح همج من العِوَج حين قام ذاك القوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 جيت في الملامح نَدرة ... مطبوع حلو سُكّر لك جفن بالكسرَة ... على الملاح يُنصَر والريق لنا سَكرّة ... آه لو نطيق نسكرِ وخد فيه خُضرَة ... أبيض شريق أحمر نُورو اتضح لِمن لُمح ... كِنّو قَدَح رَاقَ للحدَق صَفَا نتج لمّا ابتهج ... نار دون وهج أو امتزج والتام ماء والمدَام صادفت من عزَّر ... هجري في وَحد اليوم دَنَا رقيق أصفر بحال هلال الصوم شكيت لو كم نسهر ... قال لي: اكتحل بالنوم فناديت وقد أبحر ... دمعي ولي فيه عوم يا من قداح رق وجرح ... وما صفح ولي شُقَق سُقمي نسج من صار نهج ... وَك مُتَّهج وفي لُجَج قد عام كيف لو مُنام ظهرَ وكان يخفي ... عني وصال حُبّي وارتدَّ عن خُلفي ... ومال إلى قُربي نحمد ونشكر ونشكر في ... كل الأمور ربّي فقرَّ يا طرفي ... والتَذّ يا قلبي وابدي الفرح واخفي الترح ... أمرك نجح كم بالقلق تعمل حجج وتنزعج ... جاد بالفرج بعد الحرج قسَّام رزق الأنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 معك قوَّام أرشق ... من الغصن وأنضرُ بليل شعرو أورق ... وبالقمر أثمر وخذ رُزضُوا عبق ... جنّانُو خال عبر وكل من حقق ... في طلعتك يبصَر لك خديا أح مذ حاز مُلح ... روضوا اصطبح فيه واغتبق خال من سَبَح أسبى المهج ... زهرُ وخرج وأظهر فَرج من هام بيه ليس يلام والذي نظمه علاء الدين بن مقاتل: طرفي لمح بدر اتضح ... لي فيه مُلَح ماعو حَدق إذا اختلج فيها الدعج ... يسبي المهج ولو نسج رَقام عذارو لام جل الإله منشيه ... من بعض اياتُو خَدّو المضرج فيه ... نارُو وجَنَّاتُو والورد كاد يبديه ... في غير أوقاتو ومن جنا عينيه ... لمى في وجناتو وردُو اتّفح نشرُو انفضح ... وفيه نضح طلَّ العرق وامتزج ذاك الوهج ... من الضَرَج فاح لو أرَج نّمام على الخزام واعظ هويت وعظوُ ... والخطبة والإنشاد والختمة من حفظو ... والدرس والإسناد ومزدوج لفظو ... قد أفرد العُبّاد شبّهو من حَظوّ ... في ليلة الميعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 حين قال صح في ما شرح ... وقد فَضَح لما نطق بالمزدوج وابتهج ... وقد عَرَج على الدرج وانقام بدر التمام محبوبو لما احرَف ... عنُّو لشومِ قسمُو سَقمو عليه أسرف ... حتّي محا رسمُو وما بقي يُعرف ... مِنّو سوى إسمو وعلى الممات أشرف ... ومن نحول جِسمُو قد صار سَبَح ولا برح ... ولا انتزح عَّمن عشق ولا انحرج ولا انزعج ... لو اندرج واندمج لا لام ولا يُلام سمع بأوصافي ... وما رويت عنّو عمل على إنصافي ... ووصلي صار فنُّو وعيشنا الصافي ... زال الكدَر عنّو مع حظي الوافي ... وما احلا ما إنّو معي مَزَح ولي فتح ... باب الفرح وقد غلق باب الحرج وللفرج ... معي درج وجا الفر والتام حفظ الذمام ما ذي الملاّح إلا ... فتنة لمن يعشق الله لهم حلَّى ... بالبهجة والرونق بحالهم أصلاً ... في الجنة ليس يخلق فكيف نطيق نسلا ... عنهم وفي جلَّق طرفي لمح بَدرَ اتضح ... في فيه مُلح ما عُو حَدَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 إذا اختلج فيها الدعج ... يسبي المهج ولو نَسجَ رقّام عذارو لاَم قلت: أنا أحاشي الشيخ صدر الدين والشيخ أثير الدين رحمهما الله تعالى أن يكونا حكماً لابن مقاتل على الأمشاطي، وابن مقاتل قد جاء معه عدة عيوب منها قوله " جنا عينيه " مع قوله " منشية ومبدية "، وهذا لا يجوز قريضاً ولا زجلاً، ومنها قطع همزة الوصل وهو غير جائز عند الزجّالة، ويسمون مثل هذا: " ركبة "، ومنها أنه ذكر الواعظ وما لذكره هنا بمعنى، لأنهما ما تفقا على أن ينظما في واعظ، هذا إلى غير هذه الأشياء من العيوب. أحمد بن عسكر بن شدّاد الفقيه الفاضل كمال الدين. كان رجلاً صالحاً فقيهاً نبيهاً متقشفاً مقلاً من الدنيا. سمع كثيراً مع شيخه ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، وغيرهما. وحدَّث وحجَّ غير مرة، وكان يسافر إلى القدس ماشياً كلَّ سنة. توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة اثنتين وسبع مئة. وحضر جنازته القضاةُ والعلماء. أحمد بن علي بن عبد الوهاب ابن يوسف بن منجا، شهاب الدين الأدفوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كان من الأذكياء العقلا، والدَّينةِ النبلا، صدوق اللهجة، ظاهرَ الوضاءة من الخير والبهجة، تفقه للشافعي، وقرأ النحو، وكان فهماً ذكياً ذا همة، وقريحة تخلو له الليالي المدلهمة، وفيه صدقه وبِرّ، وإخلاصُ باطنٍ وسِرّ، وإكرامٌ للفقراء والصالحين والضيوف الواردين. حضر إلى القاهرة، وشرع في حفظ التسهيل، فقرأ منه القليل، ونزل به حادث المنايا، ووارث الرزايا. وتوفي بالمدرسة الصالحية في صفر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. أحمد بن علي بن عبد الله ابن أبي البدر. المحدث جمال الدين أبو بكر البغدادي القلانسي. كان مفيد بغداد، عُني بالرواية وهو ابن عشرين سنة، وسمع الكثير من عبد الصمد، ومحمد بن أبي الدينَّة وابن بلدخي وعدَّه. وخرّج وأفاد، وكتب وروى قليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وحدّث عنه التقي محمد بن محمود الكرخي وابنه أحمد، وأحمد بن عبد الغني الوفاياتي، وعبد الله بن سليمان الغراد، ومحمد بن يوسف بن منكلي. وكان صدوقاً فما يدَّعيه وما يقوله ويعيه. لم يزل يفيد ويطلب، ويزيد ويكتب عن المشايخ في الإجازات، ويكتب ما في الجزازات، إلى أن باخ جمره، وأناخ عليه بكلكله دهره. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبع مئة. ومولده في جمادى الآخرة سنة أربعين وست مئة أحمد بن علي بن هبة الله شمس الدين بن السّديد الإسنائي الشافعي. قرأ الفقه على الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وتولى الخطابو بإسنا، وناب بها في الحكم وبأدفُو بقوص، ودرس بها، وبنى بها مدرسة، ووقف عليها أملاكاً جيَّدة، ووقف على الفقراء. وكان قويَّ النّفس يبذل الألوف ليقهر أعداءه ويذيقهم الحتوف، محافظاً على الرياسة ملازماً لطريق الخدمة للأكابر والسياسة، واقفاً مع هواه لا يحذر من مَهوَاه، مُمدَّحاً معطاءً مَهيباً، واجداً بالتقدم في الدنيا وجد المتيَّم إذا رأى حبيباً، انصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 منه عل نيابة الحكم بقوص ثمانون ألف درهم، وما دخل منه القلب ولا الصدر همّ وصادره الأمير سيف الدين كراي المنصوري في آخر عمره وأخذ منه مئة وستين ألف درهم. وتوجه إلى القاهرة وتمارض فمرض، ونزل به الأمرُ المحتوم وأصبح وهو تحت الأرض في حرز مختوم. وكانت وفاته في شهر رجب الفرد سنة أربع وسبع مئة. أحمد بن علي ابن الشيخ الزاهد يوسف بن علي بن إبراهيم سبط الشيخ ضياء الدين أبي المحاسن عبد الحق الواسط الحنفي، القاضي شهاب الدين أخو قاضي القضاة برهان الدين ابن عبد الحق بن خلف بن عبد الحق، تقدم ذكره في الأباره. توفي رحمه الله تعالى في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. أحمد بن علي بن أحمد الشيخ فخر الدين أبو طالب الهمداني الكوفي الحنفي المعروف بابن الفصيح، والفصيح جده لأمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 نظم " الفرائض السراجية " و" كنز الدقائق " و" المنازل في أصول الفقه " و" نظم شاطبيةً " أظهر رموزها وجاءت أصغر من الشاطبية. وسمع على الصغاني وروى عنه. وكان له في البلاد العراقية ذكر وسمعة، وهناك له ضوء ونور يتوقد في شمعه. حضر إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين الطّنبغا نائب الشام، وحصل له منه إقبال تام، وكان مدّرس المدرسة التي بالقصّاعين يُظهر فيها فوائده، وينظم في أجياد الدروس فرائده، وعاد بالريحانية إلى أن مات بها، وعمَّر بالإفادة زوايا جوانبها. وكان مشكورَ الوداد، حَسَن الاعتقاد، أكبَّ على الاشتغال ليلاً ونهاراً، لا يردّ طالباً، ولا يَصُدّ مغالباً، إلى أن خرس ابن الفصيح وتبوأ بطن الضريح. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس عشري شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة ثمانين وست مئة. أنشدني من لفظه الإمام شمس الدين محمد بن سند اللخميَّ قال: أنشدني الشيخ فخر الدين لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لا تجزعنَّ فليسَ ذاك بنافعٍ ... وَقَعَ الذي قد كنتَ منه تحذرُ فتلقَّهُ بالصبر أو متبصراً ... والصبرُ بالنفسِ الكريمةِ أجدرُ أحمد بن علي بن عُبَادة القاضي الرئيس شهابُ الدين الأنصاري الحلبيّ. نش بالدّيار المصرية، وكتب واشتغل، وولي شهادة الخِزانة، واتصل بخدمة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وحظي عنده، وأورى السعدُ زندهُ، واشتهر في مصر بالوجاهة، وعاملهُ مخدومه بالدعابة والفكاهة، وكان معه في وقعة التتار سنة تسع وتسعين وست مئة، وتأخر بَعدَهُ بدمشق، وولي أمر التربة المنصورية بالقاهرة، والأوقاف والأملاك السلطانية، ولازمه، واتحد به، وشدَّ للموت حيازمه. وتوجه معه إلى الكرك وأقام بالقدس شهوراً، وجانب جدّاً كان في ذلك الوقت عثوراً، ولمّا عاد السلطان إلى مصر عاد معه إليها، وقدم بالسعد والإقبال عليها. وعرض عليه الوزارة فما وافق، والظاهر أنه خادع في ذلك ونافق، وأطلق له في حلب ضيعَة، وجل مَغُلَها له وريعَة، وضيعةً أخرى بالسواد من دمشق. وكان جيّد الطباع سهل الانقياد إلى الانتفاع، تعرَّف به أقوام فأفلحوا، وعاملوه بالوفاء فربحوا. ولما كان في خدمة السلطان لم يكن ذكرٌ لغيره، ولا لأحد قدره على سَيره. ولم يزل على حاله إلى أن فقدته أوطانه، ولم ينفعه فيما نزل به سلطانه. توفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة في سادس عشر جمادى الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أحمد بن علي بن وهب العدل المعمِّر الدين أبو العباس بن محمد بن دقيق العيد، أخو الشيخ الآتي ذكره في المحمّدين إن شاء الله تعالى، القشيري، المنفلوطي. سمع " الثقفيّات العشرة " وثاني " المَحَامِلِيّات "، وثاني سعدان، وأربعين السلفي من ابن الجُميّزي، وسمع " جزء " الصولي من ابن رواج، وسمع من الزكي المنذري وغير واحد، وحدّث قديماً. سمع منه البرزالي، وقطب الدين عبد الكريم وجماعة. واشتغل بمذهبي الشافعي ومالك على أبيه، ودرّس بالنجيبية بقُوص مكان والده، وكان يُلقي الدروس في المذهبين، وتولى الحكم بغرب قمولا وبقوص عن قاضي القضاة الحنفي، ولكنه اختلط بآخرة، وكان يتساهل في الشهادة وما يجري في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 على العادة، إلا أنه كان كثير العبادة، يسرد الصوم إرادَه، مع أورّادَهُ، ويكفل الأيتام ويزين خنصر البر بخَيتَام، وطال عمره، وتفرد برواية أشياء، وألحق بالأموات الأحُيَاء. ولم يزل على حاله إلى أن " أخنى عليه الذي أخنى على لُبَد " وعَدم الرواة عنده من الزّبَد. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده في أحد الربيعين ست وثلاثين وست مئة. أحمد بن علي بن الزبير ابن سليمان بن مظفر: القاضي الفقيه شمس الدين أبو العباس الجيلي أبُوه، الدمشقي الشافعي الشاهد من صوفة الطواويس. سمع مجلدين من " سنن البيهقي " من ابن الصلاح. وروى عنه سائر من طلب ورحل الناس إليه حتى من حلب. وكان ديّناً منطبعاً، نازلاً بأكناف التلاوة متربعاً، حسن المنادمة حتى حص الإقلاق خوافيه وقوادمه، ولم يزل على ذلك إلى أن غُصَّ بالحِمام وما وفي له الأمل بالذمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وتوفي رحمه تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. أحمد بن علي بن نصر بن عمر فخر الدين السوسي المصري الشافعي، نزيل القاهرة. كان فقيهاً بارعاً في الأدب، حَسَن الخلق، مليح المحاضرة، محبوباً إلى الناس، له النظم والنثر. توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة ودفن بالقاهرة وله ثلاثون سنة. ومن شعره: شكت دارها فعل الهوى بقطينها ... وما استبدلته العَينُ من بعد عينِها وكثرة أنصار النوى وانفرادها ... فأنجدتُها مِن غبرتي بكمينها وما ادّخرت عيني مياهَ شؤونها ... لشيء سوى إنفاقه في شؤونها جزاءً وفاقاً لو قنعت بنظرةٍ ... من الشمس لم يُرمِدكَ ضوءُ جبينها أعد نظراً فالحسن في الكون كله ... مُعَارٌ له من كاف ليلى ونونها يعانِقُك الغصن الرطيب بقدّها ... وتَسبيك غزلان النقا بعيونها وقد حاق فيك السحر من ظبَياتها ... وقد ملت سكراً عند مَيل غصونها فهل غيرُ ليلى فاعلٌ فيك فِعلَها ... إذن لست في دعوى الهوى بأمينها وما شهد العشاق غيرَ جمالها ... ولا دانَ من دين الهوى غير دينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ولا خَرِسُوا إلاّ لهيبة حسنها ... ولا نطقوا إلا بفضل فنونها ولا دارَ في أفهامهم وعقولهم ... من السحر شيء غير سحر جفونها ومن شرطها أن لا ينال محبُّها ... مُنى وصلها ما عاف طعم منُونها ولا تكتفي من نُدَّعٍ فرط حُبّها ... بدعوى ولا أن أكِّدت بيمينها لها شاهد منها تميَّزَ عندها ... صدوقُ الدعاوى في الهوى من ظَنينُها فقم صادقاً أو نم فللحب أهله ... وبه زلفاً بيضَ الليالي بجونها وها كلمات في النصيحة من فتىً ... فصيح بألفاظ العِظات مُبينها خذ العفو ممن تصطفيه ولا تسل ... عن الغيب واعرف خلة بقرينها وأخرى أضاء الحق في جنباتها ... وخرَّقَ ليلَ الشك صبحُ جبينها إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... على حاله إلا رضيت بدونها أحمد بن علي بن محمد بن سلمان بن حمائل القاضي الفاضل الكاتب البليغ الناظم الناثر، نجم الدين أبو العباس ابن الشيخ علاء الدين بن غانم. أحد كتاب الإنشاء بدمشق، وسيأتي ذكر جماعة من أهل بيته كل منهم في مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 كان القاضي نجم الدين هذا أكبر من أخيه القاضي جمال الدين عبد الله الآتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى، ولكنه لم يتفق له الدخول إلى ديوان الإنشاء إلا بعد أخيه جمال الدين عبد الله بمدة، وكان نجم الدين ينظم القريض غيدَّعي سامعُهُ أنه أنقُ من الروض الأريض، وأنه للطافته يأسو به القلب المريض، وتنظر الزهر الثواقب إلى زهرة الغض بطرفٍ غضيض، ويكتب فيوشِّي برود المهارق بقلمه ويرصع تيجان الطروس بجواهر كلمه، كأنما طروسُه وجتات طرّز وردها أسُ العذرار أو قطعٌ من الليل الداجي جرت فيها أنهارٌ من النهار: زهراء أحلى في النفوس من المنى ... وألذّ من ريق الأحبّة في الفمِ وكان دخوله في الديوان بعد موت والده رحمهما الله تعالى في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة. جاء إلى مصر وتوصّل بالأمير بدر الدين بن الخطير وتنجَّز له توقيعاً من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأقام إلى أن حضر القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء بدمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فجرت له معه كائنة خرج بسببها من الديوان، ثم إنه توجه إلى مصر وعاد بتوقيع ثان في زمن الملك الصالح إسماعيل. وقد خرج القاضي شهاب الدين بن فضل الله وعزل، ولم يزل نجم الدين المذكور يكتب في ديوان الإنشاء إلى أن توجه في شهر رمضان سنة ثمانٍ وخمسين وسبع مئة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثغر بيروت لضبط متحصل الموقَّعين من الميناء. فأقام بها تارة يمرض إلى أن مات بعِلَّة الذَّربِ في أوائل ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، ولم يخلف ابناً غير ابنةٍ صغيرة عمرها تقدير سبعة أشهر. وكنت قد كتبتُ إليه وأنا بمرج الغسُّوبلة: مولاي نجم الدين يا من فضله ... قد عمَّني بخصائص الإحسانِ أوحشتني في سفرة قضَّيتُها ... بالمرجِ منفرداً عن الخلان فبكيتُ لما أن ذكرتك بالدِّمَا ... حتى مَلأتُ المَرجَ بالمرجان فكتب هو الجواب إليَّ عن ذلك: شوقي صلاحَ الدين نحوك لم يزل ... مع فرط وجدي آخذاً بعناني أوحشت عيني منذ سِرت ولم تزل ... والله يا مولاي نصب عياني راسلتني بلطائف يا حُسنها ... هي في الضمير رسائلُ الإخوانِ لا كان هذا المرجُ أجرى عبرتي ... في الخد كالبحرين يلتقيان لما بكيتُ الخلّ صار الدمع في ... عنق المحب " قلائد العقيان " وكتبتُ أنا إليه وقد انقطع من الديوان: أمولاي نجم الدين أوحشت خاطراً ... لبعدك بعد القرب والأنسُ دائبُ فنار الجوى لم يطفِها من مدامعي ... لفقدك لما غبت عني السحائبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقد أظلم الديوان بعدك وحشةً ... وما حال أفقٍ نجمُه عنه غائبُ فكتب هو الجواب إليَّ عن ذلك: أيا مالكاً لي من علاه رغائب ... وفي كل وقت من نداه غرائبُ أتتني أبيات حسانٌ لطائفٌ ... فقلبي عليها دائم الوجد ذائبُ وأنت الذي مازلت كالبحر للورى ... لنا من أياديكِ الكرامِ عجائبُ وكتبت أنا إليه وقد وعدني أن يربط لي بغله على حشيشٍ عنده: بغلتي هذه تريد حشيشاً ... ما أنا وزنه بعقلي المعيشي فكتب هو الجواب عن ذلك: يا إماماً قد حاز كل المعاني ... طول دهري إليه كُلّ هشيشي إنّ ذاك الحشيش صار يبيساً ... فرغاه يا مالكي إكديشي وكتبت أنا إليه ملغزاً في " تميم ": مولاي نجم الدين يا من له ... خليلُ ودِّ وهو أزكى حميمٍ ما اسمٌ رباعيٌّ له أوّلٌ ... إن زال عنه لم نجد غير ميم فكتب هو الجواب عن ذلك: مولاي قد قلدت جيدي حُليً ... من جوهر اللفظ بعقد نظيمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أدَيته من مجر علم له ... ذخائر والقلب منها يهيم موَّهتَ معناه فتم العنا ... والبدر يسبي منه تاء وميم وكتب إليَّ وقد انقطعتُ عن الديوان، وهو ضعيفُ: أصبحتُ في الديوان وحدي في عنا ... وأذى أراه بخاطري وبعيني كُنَّا به مستأمنين ولفظنا ... من لطفه يدعى بذي السجعين وبه صلاح لم يزل مع علمه ... تروى معاليه على السمعين فنأى فصراُ على البلى مستوقفاً ... أبكي على ما فات بالدمعين وبلوت أقواماً لبستُ لأجل ما ... أخشاه من تنكيدهم درعين فكتبتُ أنا الجواب إليه: حاشاك تصبح في عنىً أو في ضنىً ... نفسي فداؤك في الردى من ذين والقصد أن تمسي وتصبح دائماً ... في صحةٍ ثبتت قرير العين فإذا سلمت ودُمت لي ما ضرني ... من رحت أفقدُه من الحيين أدري محبتك التي صحت وما ... رُمينُ بشيء في الوفا من شين من صدق ودِّك تشتهي وتودُّ لو ... أصلحتَ ما بين الزمان وبيني ما هذه الفتن التي إن أُخمِدت ... نار أجدَّت بعدها نارين فكأنها الفتنُ التي يُحكى لنا فيما مضى من فتنة الحكمين ألقى العدى وحدي وما درعي سوى ... صبرٍ تتناهَبَه ظُبى الجمعين يا دهر كفّ فقد كفيتُ فما أنا ... كابن الزبير ولا أبي السبطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومن الذي لم يهتضمه زمانه ... أر ما رماه عدوه بالمين دع ذا فإقبالي على شأني غدا ... أولى لتبرأ ساحتي من دَيْني ما بعد هذا الشيب والسنّ الذي ... أربت على الستين غير الحَيْن والله أعدل حاكمٍ بين الورى ... وقضاؤه فَضْلٌ على الخَصْمين أحمد بن عمر بن زهير ابن عمر بن زهير بن حسين بن زهير بن عقبة الزرعي، الشيخ الأصيل الفاضل شهاب الدين أبو العباس الزُّرْعي الحنبلي. كان جيّداً في قومه، معروفاً بالعدالة والأمانة، وله معرفة بالقسمة والمساحة، وفيه تودُّدٌ وكرم. سمع من جده. وروى عنه بدمشق وزُرّع وبصرى. وكتب عنه شيخنا البرزالي من نظمه، كان بينهما مودّة قديمة، وكان التتار قد أسَرُوا له ولداً نوبة " غازان "، فتوجه إليهم في طلبه، وله قصائد في التشوق إلى زُرع، وله مراثٍ في ولده عمر، كان كثير التلاوة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. أحمد بن عمر بن عبد الله ابن عمر بن يوسف بن يحيى بن عامر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قابس، الشيخ الصالح أبو العباس بن الخطيب نجيب الدين ابن خطيب بيت الآبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 كان رجلاً جيداً فقيراً مقيماً بالجامع ينوب عن أخيه في الأذان، ويذكّر يوم الجمعة. سمع من جده لأمه الخطيب عماد الدين داود بن عمر، وهو عم والده، ومن إخوته الضياء يوسف، والموفق محمد، وغيرهم. كان صائماً يوم الاثنين، وصلى المغرب في الجماعة وصعد إلى الجامع بالقرية فزلت رجله، فوقع فمات في رابع عشري ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. أحمد بن عُمر بن داود الصفدي شهاب الدين كاتب الإنشاء بالديار المصرية. توجّه مع والده زين الدين إلى القاهرة في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولما توفي والده رحمه الله تعالى أقام هناك فقرّبه القاضي علاء الدين كاتب السر للعقل الذي كان رآه منه والسكون الذي كان فيه، وكان قد حفظ التسهيل لابن مالك وكتب المنسوب، ومرض مدة طويلة. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة إحدى وستين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وكان مولده بدمشق في سنة ثلاثين وسبع مئة. وكنت أنا إذ ذاك بالرحبة، فكتبت إلى والده أهنيه بذلك، وأجابني والده عن ذلك، والابتداء والجواب سقتهما في كتابي ألحان السواجع وسيأتيان في ترجمة والده إن شاء الله تعالى، وبلغني أنه تَرَكَ موجوداً مبلغه مئة ألف درهم وأزْيَد. أحمد بن عمر بن عبد الله قاضي القضاة تقي الدين ابن قاضي القضاة بالديار المصرية، وكان وجهه جميلاً ومجده أثيلاً، بياض شيبه على خدّه كأنه الياسمين على ورده، له مُرَوَّةٌ زائدة، وكفٍّ بالنوال جائدة، وكان معه أيضاً نظر الخزانة الكبرى، وهو بالطلوع إلى القلعة مُغْزى. وما زال قاضياً إلى أن عَزَل السلطان محمد بن قلاوون القضاة الثلاثة دون المالكي. فلزم بيته إلى أن تعذّرت وقاية التقي من الممات ودخل في باب مضى وقضى وفاتْ، وتوفي رحمه الله تعالى سنة .......... وأجاز لي بخطه سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة بمصر. أحمد بن عيسى صدر الدين بن الشيخ مجد الدين بن الخشّاب، وكيل بيت المال بالديار المصرية، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 نال الوجاهة والصدارة وأصبح والناملُ تُومي إليه بالإشارة. لم يزل على حاله إلى أن نزلت به الداهية الصمّا وأنزلته من عزته الشمّا، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة. أحمد بن فَرْح بالحاء المهملة، ابن أحمد بن محمد: الإمام الحافظ الزاهد، بقية السلف، شهاب الدين أبو العباس اللخمي الإشبيلي الشافعي. أسره الفرنج سنة ست وأربعين وست مئة، وخُلّص وقَدِمَ مصر سنة بضع وخمسين. وتفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي، والمعين أحمد بن زين الدين، وإسماعيل بن عزون والنجيب بن الصقيل، وابن عِلاّن، بدمشق عن ابن عبد الدائم وخَلْق. وعُني بالحديث وأتقن ألفاظه وعرف رواته وحفاظه، وفهم معانيه، وانتقد لآليه، وكان من كبار أئمة هذا الشأن وممن يجري فيه وهو طلق اللسان، هذا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ما فيه من ديانة، وورع وصيانة، وكانت له حلقة أشغال بُكرةً بالجامع الأموي يلازمها ويحوم عليه من الطلبة حوائمها. سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي واستفاد منه، وروى منه في تصانيفه عنه، وعُرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فأباها ولم يقبل حبَاها، وكان بزيّ الصوفية، ومعه فقاهة بالشامية. ولم يزل على حاله حتى أحزن الناسَ ابنُ فرح، وتقدم إلى الله وسَرَح، وشيّع الخلق جنازته، وتولّوا وضْعَه في القبر وحيازته. وتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. وله قصيدة غزلية في صفات الحديث، سمعها منه الدمياطي واليونيني، وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد بن الوليد. ومات بتربة أم الصالح بالإسهال. والقصيدة المذكورة: غرامي صحيحٌ والرَّجا فيك مُعْضَلُ ... وحُزني ودَمعي مُطْلَق ومسَلسَلُ وصَبري عنكم يشهَد العقلُ أنه ... ضعيفٌ ومتروك وذُلّي أجملُ ولا حَسَنٌ إلا سَماعُ حديثكم ... مُشافهةً تُملى عليّ فأنقُلُ وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحدٍ إلاّ عليك المُعوَّلُ ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي ... على رغم عُذّالي ترق وتُعذَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وعَذْل عَذولي منكرٌ لا أسيغه ... وزُورٌ وتدليسٌ يُرَدُّ ويُهمَلُ أقضّي زماني فيك متّصل الأسى ... ومنقطعاً عمّا به أتوصّلُ وها أنا في أكفان هَجرك مُدرج ... تكلّفني ما لا أطيق فأحملُ وأجريتَ دمعي بالدماء مدبَّجاً ... وما هو إلا مُهْجَتي تتحلَّلُ فمتفقٌ جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترَقٌ صَبْري وقلبي المبلبل ومؤتلِفٌ شجوي ووجدي ولوعتي ... ومختلفٌ حظي وما منك آمُلُ خذ الوجد عني مسنداً ومعنعَنا ... فغيري موضوع الهوى يتحيّل وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر ... وغامضه إن رمت شرحاً أحول عزيزٌ بكم صبّ ذليلٌ لغيركم ... ومشهور أوصاف المحب التذلّل غريبٌ يُقاسي البُعد عنكِ وما له ... وحقِّ الهوى عن داره متحوَّلُ فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له ... إليك سبيلٌ لا ولا عنك نعدلُ فلا زلت في عز منيع ورفعةٍ ... وما ولت تعلو بالتجني فأنزل أُورّي بسُعدى والرباب وزينبٍ ... وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمَّل فخذ أوّلاً من آخرٍ ثم أولاً ... من النصف منه فهو فيه مكمّلُ أبرّ إذا أقسمت أني بحبّه ... أهيم وقلبي بالصبابة يُشغَل وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أحمد بن محسِّن بتشديد السين، ابن مَلِيّ بن حسن بن عتق أو عتيق بن مليّ: العالم الفاضل نجم الدين المعروف بابن ملّي الأنصاري البعلبكي الشافعي المتكلّم. سمع من البهاء عبد الرحمن، وأبي المجد ابن القزويني، وابن الزبيدي، وابن رواحة، واشتغل بدمشق، وأخذ عن ابن الحاجب العربية، وعن ابن عبد السلام الفقه، وعن الزكي المنذري الحديث، والأصول عن جماعة، الفلسفة والرفض عن جماعة. ودرّس وأفتى زماناً وناظَرَ وأورد بياناً، وكان متبحّراً في العلوم لا يعبأ بمن يشكر أو يلوم، كثير الفضائل قادراً على أجوبة المسائل، أسداً إذا ناظر، بحراً إذا حاضر، حاضِر الحجّة، خائض اللُّجّة، حادّ القريحة، رادَّ السهام التي تصيب مقاتَلَه وهي غير صحيحة. دخل إلى مصر غير مرة، وتوجه إلى قوص وأسوان، وامتزج فيهما بالأحباب والإخوان، وولي بأسوان تدريس مدرستها مدة، وكابد من الرَّمضاء والحر شدّة، وكان من تمكنه في العلوم يقول عند الدروس: عيّنوا آية حتى نتكلم عليها، فإذا عينوا ما أرادوا تكلم حتى يذعنوا لما يقوله وينقادوا كأنما يقرأ من كتاب أو يستسقي من بر زاخر العباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وسمع منه الطلبة، وقرأ عليه البرزالي موطأ القعنبي، وكان عديم المبالاة بالناس، يَشتَلق على الأنواع والأجناس، مستهتراً بمن يراه، مشتهراً بترك أدب الكبار والسراة. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن مَلِيّ بالعجر ملياً، وأمسى وعذره عن الكلام حلياً، وتوفي رحمه الله تعالى بقرية بَخْعون من جبل الظنّية سنة تسع وتسعين وست مئة في جمادى الآخرة. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة ببعلبك. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه الموطأ رواية القعنبي، وعدة أجزاء بسماعه من الشيخ بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وجزء أبي الجهم بسماعه من ابن الزبيدي. أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن عبد الواحد بن علي بن سرور: المسند عماد الدين أبو العباس بن قاضي القضاة شمس الدين ابن الشيخ القدوة عماد الدين المقدسي البغدادي ثم المصري الحنبلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 سمع سنة اثنتين وأربعين من الكاشغري وابن الخازن، وسمع بمصر من عبد الوهاب بن رواح، وطائفة. أخذ عنه الشيخ شمس الدين الذهبي، وكان يؤم بمسجد ولع مدارس، ولديه في التفرد بالرواية مغارس، وفاز بالعوالي وحاز من سندها اللآلي. ولم يزل على حاله إلى أن مال عُمُدُهُ، واتصل بغيره سنده. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، كذا قاله شيخنا البرزالي، وقال غيره: سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. وكانت وفاته بالقاهرة. أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن محمد يوسف: الفقيه الأديب المحدّث أبو العباس المرادي القرطبي المعروف بالعَشّاب. روى " مسلسل الراحمون " عن أبي محمد بن بُرْطُلُه، وكان صاحباً للبَطْرَني، يسمعان معاً، وسمع الموطأ عن ابن هارون، وروى عن أبي القاسم بن البراء التنوخي، وأبي محمد بن السفر، وسمع الشفا من أبي إسحاق بن عياش التُّجيبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 بسماعه من السَّقوري عن مؤلفه إجازة، وسمع من عثمان بن سفيان التميمي سنة خمس وست وفيها مات. وَوَزَرَ الجَيّاني صاحب تونس، وقرأ النحو. وسمع منه يسير من عرّام، والشيخ حسن البغدادي بقراءته وتلاوته به على أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الأعلى الشُّبارقي عن أبي جعفر الحصّار تلاوة وسماعاً بسنده. ولم يزل في شأنه مشتغلاً بإخوانه وأخدانه إلى أن نول تحت الثرى وأمّ ربّه وترك الورى وَرَا. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. أحمد بن محمد بن إبراهيم الفقيه المسند، صفيّ الدين أبو العباس الطبري المكي، أخو الشيخ زين الدين. سمع صحيح البخاري من عبد الرحمن ابن أخي حَرَميّ العَطّار صاحب ابن عمار، وسمع شعيباً الزعفراني، وأبا الحسن بن الجمَّيزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 كان ديّناً خيّراً، وذا بصر بالصلاح لا يزال نيّراً، وحدّث مدة، وسمع منه عدّه، وأضرّ دهراً، وبقي إلى أن وقع من مكان جَهْراً، فانقدحت بذلك عيناه وأبصر، وغنم النظر من الحياة واستقصر. ولم يزل إلى أن تكدّر لصفي الدين زمانه، وأتاه من الموت حَدَثانه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. أحمد بن محمد بن إبراهيم الشيخ الإمام الفقيه المقرئ المراغي الرومي الحنفي، إمام الحنفية، بجامع دمشق، ومدرس المدرسة العتيقة، وشيخ الخانقاه الخاتونية ظاهر دمشق وغير ذلك. كان ذا نغمةٍ يقف لها، ويتلبّث بها البرق المتسرع في السير، من يسمعه لا يعود يُعرّج على نغمات العود، ويظنّ أنه أوتي مزماراً من مزامير داود، إذا أمّ في محرابٍ صلّت وراءه سوابق الألحان وسلم إليه الفضل ابن سُريج وقال: ما أنا من خيل هذا الميدان. كان يَؤم بالأفرم، فكان يدنيه ويقربه ويكرمه كأنه والده، يرشّحه لكل خير ويدرّبه، وكان قد عمّر زاوية على الشرف الأعلى يأوي إليها الناس ويقضي المحتشمون فيها بعد صلاة الجمعة أوقات أنس وسماع، لم يخلفها الزمان، وكان ذا مروءة وحميّة وقيام مع الضعيف وعصبيّة، ونفع أناساً كثيرين بجاهة عند الأفرم، وقُربه منه الذي كان لأجله يُبجّل ويُكرَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ولم يزل على حاله إلى أن بطلت ألحانه وعطَل من الأنس حانهُ. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة في شهر ربيع الأول. وكان قد نزل عن وظائفه لولديه عماد الدين وشرف الدين إلاّ أن تلك السوق الأمرفيّة ذهبت، وأفلَت نجوم سعودها وغَربت، ودفن في مقابر الصوفيّة. أحمد بن محمد بن أحمد الشيخ الإمام العالم الرئيس كمال الدين أبو العباس البكري الشافعي، وكيل بيت المال بدمشق، وشيخ دار الحديث الأشرفية، ومدرّس الناصرية. سمع جزء ابن عرفة على النجيب، وحدّث به مرات، وسمع من جماعة من أصحاب ابن طَبَرْزَد وغيرهم بالقاهرة والقدس، وقرأ بنفسه الكتب البكار، وطلب مدة، ورحل إلى الديار المصرية والإسكندرية، وناب عن القاضي بدر الدين بن جماعة مدة، وترك النيابة بالشامية ودرّس بالشامية البَرّانية والناصرية، وولي وكالة بيت المال أكثر من اثنتي عشرة سنة، وولي دار الحديث الأشرفية ومشيخة تربة أم الصالح، وولي الرباط الناصري، وحج سنة ثلاث وسبع مئة. كان حَسَنَ الشكل مهيباً، غزير الفضل لا يرى له فيه ضريباً، من بين علمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكرم وحلم، لاقَ بقلب الأفرم، وكان لا يرى أنه في مُدّة معرفته خَرَجَ ولا أخْرم، هذا مع تشدّدٍ في دينه ومهابة كأنما استعارها من الليث في عرينه، أشعريّ الاعتقاد، جوهريّ الفَحص عن أمور مباشرته والانتقاد، وشعره عند الشعرى، صرّ منه دُرّاً، وغيره صرّ بَعْرا. لم يزل على حاله إلى أن نقص كماله، وفارقه أهله وولده وماله، وتوفي رحمه الله تعالى بالكرك، وقيل: بمنزلة الحسا سنة ثماني عشرة وسبع مئة لأنه كان قد توجه إلى الحجاز. ومولده بسنجار سنة ثلاث وخمسين وست مئة. ومن شعره ما اشتهر عنه أن كتب به إلى بدر الدين بن الدقاق، وقال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: إنما بدر الدين بن العطّار: مولاي بدر الدين صِلْ مُدنَفاً ... صيّره حُبُّك مثل الخِلال لا تخشَ من عيبٍ إذا زرته ... فما يُعاب البدرُ عند الكمالِ فلما بلغ صَدر الدين بن الوكيل ذلك قال: يا بدرُ لا تسمع كلام الكمال ... فكلّ ما نمّق وزرٌ محالُ فالنقض يَعزو البدرَ في تمّه ... وربما يُخسَف عند الكمال وكتب الشيخ كمال الدين إلى ابن الرقاقي ناظر النظار بدمشق يستعفيه من بيت المال وقد بلغه أنه سعى له فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 إلى بابك الميمون وجهت آمالي ... وفي فضلك المعهود قَصْدي وإقبالي وأنت الذي في الشام ما زال محسِناً ... إليّ وفي مصرٍ على كل أحوالي أتتني أيادٍ منك في طيّ بعضها ... تملّك رقّ الحُرّ بالثمن الغالي وقمت بحق المكرُمات وإنما ... هو الرزق لا يأتي بحيلة محتال عليّ لكم أن أعْمُر العُمُر بالثنا ... وبالمدح مهما عشتُ من غير إخلال وأُهدي إليكم ما حييت مدائحاً ... يغنّي بها الحادي ويصبو بها السالي وقد بقيتْ لي بعد ذلك حاجةٌ ... لها أنت مسؤول فلا تلغِ تَسْآلي أرِحْني من واو الوكالة عاطفاً ... عليَّ بإحسانٍ بدأتَ وإفضالي وصُنْ ماء وجهي عن مشاققة الورى ... فهذا على أرض وهذا على مالِ ولا تتأوّلْ في سؤالي تركها ... فوالله ما لي نحوها وَجْهَ إقبال ورزقي يأتيني وإني لقانعٌ ... لراحة قلبي من زماني بإقلالي وحاليَ حالٍ بافتقارٍ يصونني ... ولبسي أسمالي مع العزّ أسمى لي وتجبرُ وقتي كسرةُ الخبز وحدها ... وأرضى ببالي الثوب مع راحة البالِ فهذي إليكم قصّتي قد رفعتُها ... لتغتنموا أجري ورأيُكم العالي فقطّع الأبيات كلها من الورقة وأبقى البيت الأخير وكتب تحته: رأيُنا العالي أن تعود إلى شغلك وعملك. وقال في القاضي حسام الدين لما عزل: يا أحمد الرازي قم صاغراً ... عُزِلْتَ عن أحكامك المسرفة ما فيك إلا الوزن والوزن وما ... يمنعك الصرف بلا معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أحمد بن محمد بن أحمد ابن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري البخاري القنائي، محيي الدين بن كمال الدين بن ضياء الدين القرطبي. كان شيخاً ثَبتاً، يلزم عدالة وصمتاً، وله في بلده رياسة ظاهرة وأخلاق طاهرة. سمع الحديث عن شرف الدين محمد بن عبد الله المرسي وغيره، وحدّث بقوص. ولم يزل على حاله إلى أن غَمزت قناة القنائي يد الموت، وقام بنعيه إلى أصحابه الصوت، وتوفي رحمه الله تعالى ببلده قنا سنة تسع وسبع مئة. أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد علاء الدين البيابانكي - بباء موحّدة، وياء آخر الحروا، وألف وباء موحدة، وبعدها ألف ونون وكاف - العلاّمة ركن الدين السمناني. تفقّه وشارك في الفضائل، وبرع في العلم وأجوبة المسائل. سمع من عز الدين الفاروثي، والرشيد بن أبي القاسم، ولبس منه عن السهروردي. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: أخذ عنه شيخنا صدر الدين إبراهيم بن حَمُّويَه، ونور الدين وطائفة. وروى عنه سراج الدين القزويني المحدّث، وإمام علي بن مبارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 البكري، وحدّث بصحيح مسلم وشرح السُّنة للبغوي وبعدّة كتب ألفها وهي كثيرة، قال البكري: لعلها ابلغ ثلاث مئة مصنف، منها كتاب الفلاح ثلاث مجلدات ومصابيح الجنان ومدارج المعارج. كان من بيت وزارة، وعلى وجهه من النسك والورع إنارة، مليح الشكل خاشعاً، ساكن الشر وادعاً، كثير التلاوة، ظاهر الطلاوة، يحط على ابن عربي ويكفره، وعلى من تابعه، ويعفره، ويحط على مصنفاته وينبه على محرفاته. وكان كثير البر والإيثار، هامي الجود على ذوي الإعسار، يدخله من أملاكه نحو تسعين ألف درهم ينفقها في وجوه البر ويتصدق بها إما في الجهر وإما في السر. زاره القان أبو سعيد واعتد بذلك أنه يوم عيد، وبنى خانقاه للصوفية، ووقف عليها وقوفاً مختلفة، وكان قد داخل التتار أولاً، واتصل بالقان أرغونبن أبغا، ونال من دنياه ما أمل وبغا، ثم إنه أقبل وأناب، ورجع وبات، ومرض بتبريز زماناً طويلاً، وامتد مرضه إلى أن كاد يأخذه أخذاً وبيلاً، ولما عوفي تعبد وتأله واختلى بعدما تجرد، وقدم بغداد، وصحت الشيخ عبد الرحمن وحج ثلاث مرات، ورد إلى الوطن، وخرج عن بعض ماله لنفقة المبرات، تردد كثيراً إلى بغداد. ولم يزل إلى أن دنا من قبره وتدلى، وأعرض عن هذا العرض الفاني وولى، وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد أن أوتر في شهر رجب الفرد سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بقربة بيابانك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أحمد بن محمد بن أحمد شهاب الدين الفار الشطرنجي، ويعرف بالجُرَّافة. كان المذكور صغير الحبة لطيفها، كبير النفس شريفها، عليه من لقبه إشارة لا يكاد يخطئ شكل الفارة، وكان في أكله آفة، فلذلك لقب بالجرّافة. وكان في الشطرنج عالية، والناس في عشرته متغالية، اجتمعت به غير مرة، ولقيت بمحادثه كلّ مسرّة، وكان يحفظ من المواليا شيئاً كثيراً إلى الغاية، وينظم هو أيضاً ما هو في بابه نهاية، آخر عهدي به سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، ثم توجّهت إلى الديار المصرية سنة مس وأربعين وسبع مئة، ولم أره ولا سمعت خبره، والظاهر أن الفارَ وثب عليه من الموت سنَّوْرُه، وجاء من خمر المنيّة دَوْرُه. وكان يوماً قد اقترح عليّ نظم بيتين مواليا يكون أول نصف كل بيت قلب القافية التي قبله، وكان في المجلس أكابر ورؤساء من أهل الأقلام والمحابر، وقال: إن هذا لا يقدر على نظمه ولا يعرف ناظم الوقوف على رسمه، فقلت له: إلى أن تفرغ من دستك هذا تسمع وتطمح بطَرفك إلى ما لا تطمع، وكان الأمر كما ذكرت، ولَطَفَ الله بما أشرتُ، وقلت والقافية على ما أراده: عَمه عذولي علي قلبي لنار ولذَع ... عَذَلَ لبَرقة بآفاق التسلي لَمَعْ عمل على نفه قلبي لو حصل لو نفع ... عُفْنَ الحبايب وصالي كم لدمعي همعْ وأنشدني هو من نظمه لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 حبّي الذي ما حوت مثلو دمن سنجار ... ولا ثبت لِقَوامُو غصن في الأشجار لو خَدّ أحمر وخال أخضر حكى الزنجار ... يَجبْ عليّ احتمل جورو فديتو جار وأنشدني له أيضاً: حبّي الذي في مديحو يعجز المحار ... أخفى الكواكب بحسنو حق في الأسحار لو لحظ تركي فديتو بابلي سحار ... وجفن فاتر فؤادي في غرامو حار وأنشدني له أيضاً: جواد صبري لبعد الحبّ مني خار ... وبحر دمعي جَرى في عشقتو زخّار ظبي يخير الجواهر وهو من فخار ... قد ادّخرته لأيام الوغى ادّخار وأنشدني له أيضاً: وهبت للحِبّ مركوبي وهو غدّار ... غضب وولى بوجهو صرت في أكدار ناديت يا منيتي يا عالي المقدار ... خدلك بِدالو ودر وجهك فديتو دار وأنشدني له أيضاً: حبّيت عطّار لحظو في المهج جَزّار ... يغلب بحسنو ملاح الترك في البازار صادق إذا قال هو في الوعد لا نزّار ... قصدي رضا انقطه عني الرجا أوزار وأنشدني له أيضاً: سلطان حسنو قد أرسل للمُهج أفكار ... يجرد البيض من لحظو بلا إنكار نكّسْ بقدّو عصايب ساير الأبكار ... وطُلْبْ جيش عذارو دار بالبيكار وأنشدني له أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 غنّت فأغنت عن المسموع في الأقطار ... ودقّت الدف أجرت أدمعي أمطار وصِرتُ في حبّها لا أختشي أخطار ... لما استمع لُبّ قلبي من يديها طار وأنشدني له أيضاً: ترجّلوا من على نجبٍ غدت أطوار ... وحَولها من خدمها والحشم أدوار فخلتُ تلك المعاطف في ضيا الأكوار ... قضبان فضه من انقضّت من الأكوار وأنشدني له أيضاً: بسالفو خِمْل ينمو مثل خضرة غار ... في ورد جُوري على قلبي بجُورو غار رشا وفا لي على كيد العِدا في غار ... واكمد حسودي وضدي في الثرى قد غار وأنشدني له أيضاً: جاني بشير أتى مقبل وأطفا نار ... وبت مسرور مفلج والدجا قد نار وارتجي إقبال ساعة نصر من خُنّار ... مختص بالحسن كم أرسلت لو دينار وأنشدني له أيضاً: من أُمها في القيادة أصبحت آفة ... وأختها في ربوع الحيّ وقافة فكيف يمكن تجي في القصف خوّافه ... وستّها الأصل شامية وطوّافة أحمد بن محمد بن الرفعة الشيخ الإمام العلاّمة نجم الدين بن الرِّفعَةِ الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 شيخ المذهب، ونسيج وحده في طرازه المُذهَّب، لو عاصره المُزَنيّ لعُدَّ قَطْرةً من بحره، أو ابن سُريج لما عَلا في الذكر صهوة ظهره. ولي حسبة مصر والوجه القبلي مُدّة، وناب في الحكم وعَزَل نفسه لِما عالجَهُ من الشدة. وكان حَسَنَ الشكل بهيّاً فصيح الألفاظ ذكياً، كثير الإحسان إلى الطلبة، قائماً في قضاء حوائجهم بالتلطّف والغلبة، يجود لهم بعلمه، ومالِه ولا يبخل عليهم بجاهه وإضفاء ظِلاله. شرح التنبيه في خمسة عشر مجلداً، وشرح الوسيط ولن يكمله، وهما شرحان يشهدان له بالرفعة في هذا الشأن وعلوّ الرتبة التي يسفل عن مكانها كيونا. ورأيت شيخنا شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي يكثر الثناء عليه ويصفه بمعرفة فروع المذهب وإتقانها وإجرائها على قواعدها الأصلية في مكانها. ويكفيك أنه في زماننا لا يُطلق اسم الفقيه إلا عليه، ولا يشيرون بذلك في الدروس إلاّ إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أخذ الفقه عن الظهير التَّزْمَنْتي، والضياء جعفر بن الشيخ عبد الرحيم القنائي وغيرهما. وسمع من محيي الدين الدَّميري ودرّس بالمُعزيّة، وحدّث بشيء من تصانيفه، وله مصنف سماه النفائس في هدم الكنائس. ولم يزل في اشتغال وتصنيف إلى أن عَطَلَ من كفه قلمه وفقد الناس ذلك الدر الذي يخرجه فمه، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة عشر وسبع مئة، وقد شاخ. ؟ أحمد بن محمد بن سعد ابن عبد الله بن سعد بن نفلج الشيخ الصالح الفاضل المسند عماد الدين بن الأديب العالم شمس الدين المقدسي الصالحي الجنبلي. روى عن المجد القزويني، وابن الزبيدي، والإربلي، وابن اللَّتي، وابن المقيّر، وأجاز له الموفق وفتح الدين بن عبد السلام، ومسمار بن العويس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وحدّث قبل الستين، وحجّ مرات، وحدّث بالحجاز وحماة ودمشق إلى أن ناحت به النوائح، وقامت في ناديه الصوائح. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في المحرّم. أحمد بن محمد بن سالم بن أبي المواهب الحافظ الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس بن صَصْرى الرَّبَعيّ التغلبيّ الدمشقي الشافعي. حضر على الرشيد العطار سنة تسع، والنجيب عبد اللطيف. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجدّه لأمه المسلم بن علان. وتفقّه على الشيخ تاج الدين. ودخل ديوان الإنشاء في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين وست مئة هو وشهاب الدين أحمد بن غانم، ونظَمَ ونَثَر، وكتب المنسوب وبهر فيه لمّا مَهَر، وكان قلمه أسرع من رجع الطرْف، ومن الذين يعبدون الله في الشِّرعة على حَرْف. قيل: إنه كتب خمس كراريس في يوم، وهذا أمر قلّ أن يُعهَدَ من قوم. شارك الناس في فنون، وكان عنده من المسائل عيون، له عبارة فُصحى، وحافظة لا تقبل ردّ السرد نصحاً. يحفظ أربعة دروس لمدارسه، ويلقيها من فمه ويطلع في آفاقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 بدور سطور كأنما يكتبها بقلمه، ولا يكاد أحد يسبقه بسلام، ولا يسمع في العفو وبالصفح عمّن يؤذيه كبير عذل أو صغير مَلام. اشتهر بذلك وعُرف، وسار ذكره بذاك واسمه أحمد وصُرف. وله أموال ضخمة ومماليك وخدم وحشم وحشمة، وينطوي على تعبّد وديانة وعِفّة في الأحكام وأمانة، وكان بصيراً بالأحكام مسعوداً فيها، قل أنْ أتى إليه زور إلا وعرفه بديهاً، وعرفه بذلك فلم يسلك معه أحد هذه المسالك، وكان يخدم القادمين ويزورهم ويتردد إليهم وغيرهم، وهداياه في أقطار الأرض إلى أعيان الدولة ومن دونهم من أرباب الصون أو الصولة، ولذلك طالت مُدّته وعلى كنفه كِبار المذهب وأشياخه، ومحذلقوه وأشراره وفراخه، وعصره ملآن الجوانح بالأنداد والأضراب، وفي وقته من يقول: لو أنصف لرآه وهو على بابه بوّاب، ومع ذلك فلم يتكدر عليه شرب ولا تنفر له بما لا تشتهيه سِرْب، وله أصحاب وأتراب منحدون، وعشراء وخلطاء لبلاغه أخبار الناس مُتَصدّون، يواصلونه في كل يوم ولا يصدّون، ويجتمع الناس عنده في بستانه اجتماعاً عاماً، ويمد لهم خواناً قد نوّع فيه طعاماً يرون فضله تامّاً، إلى غير ذلك من أنواع الحلوى، والمأكل التي لا منَّ فيها ولا سَلْوى. يقصده الشعراء في المواسم، ويرون ثغور جوده وهي بواسم، لا يخشون مع ذلك بَوّابه ولا عَيْنه ولا حُجّابه، ويعتدّ هو أن تلك الجائزة واجبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وكان قد اشتغل بمصر على الأصبهاني في أصول الفقه، ودرّس بالعادليّة الصغرى، وبالأمينية، ثم بالغزاليّة، مع قضاء العسكر ومشيخة الشيوخ، وولي القضاء سنة اثنتين وسبع مئة، وأذن لجماعة في الإفتاء، وخرَّج له الشيخ صلاح الدين العَلائي مشيخة فأجاره عليها بجملة. ولم يول على القضاء إلى أن نزل به القضا، وقضى نحبه، فأدّى حق العدم وقضى. وتوفي رحمه الله تعالى فجاءة في نصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان مولده سنة خمس وخمسين وستمئة. ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود وغيره. ولشعراء زمانه فيه أمداح كثيرة. وكان العلامة شهاب الدين محمود قد كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري يهنّيه بفتح طرابلس، ويصف جراحة أصابته بقصيدة أولها: ما الحربُ إلا الذي تَدْمى بد اللمَمُ ... والفخر إلاّ إذا زان الوجوهَ دمُ ولا ثبات لمن لو تلقَ جبهته ... حدّ السيوف ولا تُثنّى له قدمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فكتب الجواب عن ذلك قاضي القضاة نجم الدين ابن صَصْرى: وافَى كتابك فيه الفضل والكرمُ ... فجَلّ قدراً وجَلّت عنديَ النعَمُ وجاء من بحرٍ قد سَما وطَمى ... دُرُّ المعاني في الألفاظ تنتظمُ وصفتَ حالي حتى خلتُ أنك قَدْ ... شاهدتها ولهيبُ الحَرَب تضطرم وما جرى في سبيل الله محتسَبٌ ... فهو الذي لم يزل تسمو له الهِمَمُ وجاءنا النصر والفتح المبين فلو ... شاهدت نورَ الظُّبى تُجلى به الظلمُ غدا العَدُوُّ ذليلاً بعد عِزّته ... حُليُّ أجيادهم بَعْدَ العُقود دمُ قد فرّق الجَمعَ منهم عَزْمُ طائفة ... لم يثنِ همتها يوم الوغى سَأمُ تُرْكٌ إذا ما انتضوا عزماً لهم تركوا ... أمامهم كُلّ جمع وهو منْهَزمُ لَمّا بقَتْل العِدى خاضت سيوفُهم ... صَلَّت فقبّلها يوم الوغى القمَمُ حازوا الثوابَ الذي راموا وبعضُهم ... فازوا بما كسَبُوا منها وما غنُموا وكنت مشتغلاً في يوم كسبهم ... عنه بما كَسْبُه عندي هو النِّعَمُ فكيف يُطلَبُ مني الأرفغان وقد ... شَهِدْتَ لي ولهذا بيننا حكم ألستَ أنت الذي قد قال مبتدئاً ... وذاك قولٌ بحكم الحق مُلتزم هَجَمْتَه وسيوفُ الهند مُصْلَتةٌ ... وعُدْتَ والسَّبْيُ والأموال تقتسم وكان همُّك في الأرواح تكسبُها ... وهمُّ غيرك فيها المالُ والنَّعَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم العلامة شيخنا أبو الثناء، أنشدنيها إجازة وهي قصيدة عُظمى يَرْوَى بها مَنْ يظما: أترى دَرَى داعي المنيّة مَنْ دَعا ... أم أيّ ركن للشريعة ضُعضعا أم أيّ طودِ حجىً ترفَع في العُلا ... عصفت به ريح الصبا فتصدّعا أم أي نجمِ هدى هوى من بعدما ... ردّ الكواكب عن مداه طُلَّعا أم هل درى ناعيه أن الدين وال ... تقوى ونَشْر العدل أوّلُ ما نعى أصمى فؤادَ الحكم سهمُ فجيعةٍ ... لم يبقِ في قوس النكاية منزعا وأعاد شرح الشرع أضيع سائم ... لمّا رماه بقصد أفضل من رعى لله أي زريّةٍ أضحى بها ... قلب الهدي حين السكون مروّعا طرقت جناباً بالفضائل آهلاً ... فثَنَتْه مِنْ ربّ الفضائل بَلْقَعا وردتْ مَعين ندى ففاض وقد طمى ... ورنتْ إلى نَوْء النوال فأتلعا ما خصَّ ما طرقت به خلصاءه ... بل عمّ فادُحها البريَّة أجمعا قاضي القضاة ومَنْ حوى رتباً سَمَتْ ... عَنْ أن تُسامَ وبزّت مَنْ سعى شيخ الشيوخ العارفين ومَن رقا ... رتب السلوك تعبّداً وتورُّعا يأتمّ منه السالكون بعارفٍ ... بلغ العناء به المقام الأرفعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وجرت له عين اليقين ففجّرت ... في حالتيه لكلّ ظام منبعا حاوي العلوم فما تفرّق في الورى ... إلاّ الذي منها لديه تَجَمّعا بَهَرت خلال كماله فسيادةٌ ... لا تُرْتَقى ومكارمٌ لا تُدّعى وخلائق كالروض دبّجه الحيا ... أُصُلاً فوشّى حُلَّتَيْه ووشّعا تواضعٌ أمسى سناه كَنَعْته ... يَدنو وقد سكن السماء تَرَفُّعا ورياسة مُذ كان لم نعرف لها ... إلاّ إلى رتب الكمال تَطَلُّعا ووفور حلن إن يضق عن مذنب ... عذرٌ أقام العذر عنه ووسّعا وكتابة يكسو السجلّ جلالها ... تاجاً يزين النيّرات مُرَصَّعا وبلاغة لا قلب إلاّ ودّ أن ... تُمْلَى وتنشَر لو تحوَّل مسمعا وفصاحة في القول أتقن عِلْمَها ... نظماً ونثراً حين حازهما معا وتثبّت في حكمه ومضاؤه ... تعنو له البيض القواضب خُضَّعا وعبارة كالنيل نِيل بَيَانها ... مع أنها أروى وأعذب مشرعا وعبادة في الليل يجزيه بها ... في الحشر مَنْ يجزي السعودَ الركّعا مَنْ للأيامى واليتامى فارقوا ... بالرغم ذاك الكافلَ المتبرِّعا مَنْ للجدال تضايقت طرق الهوى ... فيه يَبين به الطريق المَهْيعا مَنْ للقضايا العقم أصبح وجهها ... إلاّ عن الذهن السليم مبرقعا ولَكَمْ له مِن قَبْلُ غُرُّ رسائلٍ ... أبدى بها دُرَرَ البيان فأبدعا من كل شاردةٍ ترفّعَ قَدرْها ... أن يُرتقى وسبيلها أن يُتْبَعا الدهر أبخلُ حين جادَ بمِثله ... مِنْ أن يُديم به الوجود ممتَّعا فأعاد وَجْهَ الأرضِ منه مُجْدِباً ... كَلْحاً وبَطنَ الأرض منه مُمْرَعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يا مَنْ يَقِلّ له البكاء ولو غدا ... ذوبَ القلوب أسىً يَمُدّ الأدمُعا لو سالم الدهرُ امرءاً لكماله ... لغدا لنا في خُلْد مثلك مَطعما لكنّه الدهرُ الذي ساوى الردى ... فيه الأنامَ عصيّهم والطيِّعا فَلأبكيّنك ما حييتُ وما البكى ... في فَقْدِ مثلكَ يا خليليَ مُقْنِعا ولألبسنّ عليك ثوبَ كآبةٍ ... مهما تمادت مُدّتي لن يُنزعا ولأبعثنّ من الرثاء قوافياً ... محزونةً تُبكي الحَمام السُّجعا ولأمنَعَنْ عَيْنيَّ بعدك إن جفا ... طيفُ الخيال جُفونها أن تهجعا ويَقِلّ ذام فإنها جهد الأخ ال ... محزون أن يُبكيك أو يتفجّعا قلت: هذا القدر منها كافٍ، وقد بقي منها خمسة وعشرون بيتاً. أحمد بن محمد بن سلمان بن حمايل القاضي الكاتب الأديب شهاب الدين أبو العبّاس بن غانم، هو ابن بنت الشيخ القُدوة غانم، وكان يَذكُرُ نَسبَه إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أملاه من فمه على الشيخ أثير الدين أبي حيّان. سمع من ابن عبد الدائم، وقرأ على ابن مالك جمال الدين، وخرَّج له البِرزالي مشيخةً، منهم ابن أبي اليُسر وأيّوب الحمّامي، والزين خالد، وعبد الله بن يحيى البانياسي، ومحمد بن النُّشَّبي، ويحيى بن الناصح، وعرض على الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 جمال الدين بن مالك كتابه العُمْد، وبعده على ولده بدر الدين. وقرأ الأدب على مجد الدين بن الظهير. وفارق أباه وهو صغير وتوجّه إلى السماوة، ونزل على الأمير حسين من خفاجة، وأقام عنده مدّة يصلّي بقي شيء من العلوم، وكان الوقت قريب العهد بخراب بغداد، وتشتَّت أهل بغداد في البلاد، فظُنَّ به أنه ابن المُستعصم الخليفة ببغداد، واشتهر ذلك عنه، واتّصل خبره بالظاهر بيبرس، فلم يزل في اجتهاد إلى أن أقدمه عليه لِما أهمّه من أمره، فلمّا بين يَدَيه قال له: ابن مَنْ أنت؟ فوفّق ذلك الوقت لمصلحته وقال: ابن شمس الدين بن غانم، فطلب والده من دمشق إلى القاهرة، وحضرا بين يديّ الظاهر فاعترف والده به، فقال له: خذه، فأخذه وتوجّه به إلى دمشق. وكان قد كتب الإنشاء بدمشق وبمصر وبصفد وبغزة وبقلعة الروم، ثم توجّه إلى اليمن، وخرج منه هارباً، وقاسى شدائد من العُرْبان وتخطّفهم له حتى وصل إلى مكة، وكان سبب خروجه إلى اليمن أنه كان يكتب الدُّرْجَ بين يدي الصاحب شمس الدين غبْريال فاتّفق أنْ هربَ مملوكٌ للأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، فكتب بسببه إلى الصاحب، فوَقَعَ عليه، فظفر به وجهّزه إلى مخدومه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وقال لشهاب الدين: اكتب على يده كتاباً إلى مخدومه واشفع فيه، فكتب شهاب الدين الكتاب وتأنّق فيه، وجاء من جملة ذلك: وإذا خَشُن المقرّ حَسُن المفرّ، وتوهّم شهاب الدين أن ذلك يُعجب الصاحب، فلمّا وقف عليها أنكرها دون ما في الكتاب، وقال: يا شهاب الدين غيِّر هذه فإنها وحشة، فطار عقل شهاب الدين، وضرب بالدواة الأرض، وقال: ما أنا ملزوم بالغُلْف القُلف، وخَرَجَ من عنده وتوجّه إلى الحجاز، ودَخَل من مكّة إلى اليمن، وتلقاه الملك المؤيَّد، وأحسن إليه إحساناً زائداً، وجعله كاتبَ سرّه، فلم يَطِبْ له المقام، وهربَ بعد خمسة أو ستة أشهر، وقلّما خرج من مدينة إلاّ وهو مختفٍ. وكان كاتباً مترسِّلاً، عارفاً بمقاصد الكتابة متوسِّلاً، يَستحضر من اللغة جانباً وافراً، ويُبدي في المنادمة وجهاً بالمحاسن سافراً، ويُورِدُ من كلام المعرّي قطعة كبيرة قد حفظها غائباً، ويرمي منها سهماً في البلاغة صائباً، خصوصاً من اللُّزوميات، وما له من العِظات والزهديّات. وإذا تكلّم تَفَيْهَق، وتنطَّع في كلامه وتمنطق، ويأتي في ترسُّله بالغريب، والحوشيّ العجيب، وإذا فكّر بشيء فَكَّر، وغاص في المعاني وتذكّر، ووضع شَعْر ذقنه في فيه وقَرَضَه، وقال الشعر وقَرَضَه، ويحوم بكلامه على المعنى المقصود زماناً، وما يكسوه مع ذلك بياناً، وكان مَتِع الكلام، بريئاً من النَّقْض والملام، لا يعبأ بملبس ولا مأكل، ولا يتكلّف لشيء سِوى أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يعقلها ويتوكّل، يلبس الجمجم القَطن الصوفي، والمُقَدَّرة الصوف، والطول المقفّص المعروف بأهل إسكندرية الموصوف، وخاتَمهُ كان سِواراً، وفصّه يعمل منه شواراً، وكان يتحدّث بالتركيّ والعجميّ والكردي، وإذا سافر خلع حُلّة الكُتّاب ولبس حلّة البدَوي أو الجندي، مع تندير وتنديب وتطاريب وتطريب. وكان قد أحبه صاحب حَماة المنصور، وجعل ظِلّه ممدوداً غير مقصور، حضر يوماً سِماطَه وكان أكثرُهُ مَرَقاً، وقد أضرم منه الجوع حُرَقاً، فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم " نَويت رَفْعَ الحدثِ واستباحةَ الصلاة، الله أكبر. وكان المظفّر بن المنصور يكره ابن غانم، فاغتنم الوقيعة فيه وقال لأبيه: اسمع ما يقول ابنُ غانم يَعيب طعامك ويُشبّهه بالماء، فعاتبه المنصور على ذلك، فقال: هذا ما قَصَدْتُه! ولكنّ البسمَلة في كل أمر مستحبّة، والحدثُ الذي نويت رَفْعَه حَدَثُ الجوع واستباحة الصلاة في الأكل، فقال: فما معنى الله أكبر؟ قال: على كل ثقيل، فاستحسن المنصور منه ذلك. وخلع عليه. وخرج مرّةً مع المنصور إلى شَجريّات المعرّة، وقد ضُربت الخيام وامتلأ الفضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وما رأى الدخول إلى الخربشت، فصعِد إلى شجرة ليتحلّى والمنصور يراه، فأرسل إليه شخصاً ليرى ما يفعل، فلمّا صار تحت الشجرة وقد تهيّأ لقضاء شغله فقال له: أطْعِمني من هذه التِّينة، فقال له: خُذْ، وسلَحَ عليه سلحاً ملأت وجهه، وتركته عبرةً، فقال: ما هذا؟ قال: أطعمتك من التينة، فلمّا اطّلع المنصور على القضية خَرَّ مغشيّاً عليه من الضحك. وكان ليلةً في سماعٍ، فرقصوا ثم جَلَسوا، فقام من بينهم شخص وطال الحال في استماعه وزاد الأمر، فظلّ شهاب الدين مُطْرقاً ساكناً، فقال له شخص آخر: ما بك مُطرِقاً كأنّما يوحى إليك؟ فقال نعم " قُلْ أُوحيَ إلَيَّ أنّه استمعَ نَفَرٌ من الجِنّ ". واجتمع ليلة عند القاضي كريم الدين الكبير في موضع بعلاء الدين بن عبد الظاهر يتحدّث معه، فجاء إليه شخصٌ وقال له: معاوية الخادم يريد الاجتماع بك، فقال: وَاْلَك! مَنْ يفارق عليّاً ويروح إلى معاوية؟! وكتب إلى قاضي القضاة جمال الدين بن واصل، وقد أقْعَدَه بحماة في مَكتبٍ عاقداً، وفيه السيف علي بن مُغِيْزل: مولاي قاضي القضاة يا مَنْ ... له على العَبْد ألفُ مِنَّهْ إليكَ أشكو قَرينَ سوءٍ ... بُليتُ منه بألف مِحنهْ شَهرْتَه بيننا اعتداءً ... أغمِدْهُ فالسيف سيفُ فِتنَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وكتب إلى قلعة الروم وقد جاءه ولد سمّاه أنساً واسمُ أبيه مبارك: تَهَنَّ يا مباركاً ... بالوَلَد المبارك بمن سَمَوه أنساً ... لأنه ابن مالكي ومن نظمه: تعجّبَ الناس للبطيخ حيت أتى ... بحيْن حَيْن وإذْ وافى بطاعُونِ وكيف لا يقطعُ الأعمار مَقْدَمُهُ ... وليس يُؤكَلُ إلاّ بالسكاكين ومنه: ما اعتكافُ الفقيه أخْذاً بأجْرٍ ... بَلْ بحكمٍ قضى به رمضان هو شهر تُغَلُّ فيه الشياط ... ينُ ولا شَكَّ أنه شيطان ومنه: طَرفْكَ هذا به فُتورٌ ... أضحى لقلبي به فُتُون قد كنتُ لولاه في أمانٍ ... لله ما تفعلُ العيون ومنه: يا نازحاً عنّي بغير بعادٍ ... لولاك ما علقَ الهوى بفؤادي أنت الذي أفردتني مني فلي ... بكَ شاغلٌ عن مَقْصَدي ومُرادي سَهِرَتْ بحُبّكَ مُقلتي فَحَلا لها ... فيك السُّهَادُ فلا وجَدْتُ رُقادي ورضيتُ ما تَرْضى فلو أقصيْتَني ... أيّامَ عُمري ما نَقَضْتُ وِدادي أنت العزيز عليّ أن أشكو لك ال ... وجد الذي أهدَيته لفؤادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وأنشدني من لفظه لنفسه: واللهِ ما أدعو على هاجري ... إلاّ بأنْ يُمحَنَ بالعشقِ حتّى يَرى مقدارَ ما قد جرى ... منه وما قد تمَّ في حقّي وأنشدني له أيضاً: يا حُسْنَها مِن رِياضٍ ... مثلِ النضَار نَضارَهْ كالزُّهر زَهْراً وعنها ... ريح العبير عِبارَهْ وأنشدني له أيضاً: بأبي صائغٌ مليحُ التَّتنِّي ... بقَوامٍ يُزري بخُوطِ البان أمسكَ الكَلْبتين يا صاحِ فاعجب ... لغزالٍ بكفّه كلبتان ومن شعره: أيّها اللائمي لأكلي كُروشاً ... أتقَنُوها في غاية الإتقان لا تلُمني على الكروش فحبّي ... وَطَني من علائمِ الإيمان قلت أخذ هذا من قول النصير الحمّامي: رأيت شخصاً آكلاً كِرشةً ... وعنده ذوق وفيه فِطَنْ وقال ما زلتُ محبّاً بها ... قلتُ من الإيمان حُبُّ الوَطَنْ ومن شعره في مقصوص الشَّعَرْ: قالوا ذوائبه مَقصوصه حَسَداً ... فقلت قاطعُها للحسنِ صوّاغُ صُدغان كان فؤادي هائماً بهما ... فكيف أسلو وكلّ الشَّعر أصداغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش يؤثر قُربه ويحب كلامه، فاستخدمه في مصر في جملة كُتّاب الإنشاء، فأقام هناك، ولمّا توفي فخر الدين خرج ابن غانم وحضر إليه مع القاضي محيي الدين بن فضل الله سنة اثنين وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل بدمشق في جملة كتّاب الإنشاء إلى أن سكنت منه تلك الشقائق، وقُرطسَت تلك السهام الرواشق. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، وكان أكبر من أخيه الشيخ علاء الدين بأشهر، وكذلك توفي بعده بأشهر، وكان دائماً يقول: زاحمني أخي عليّ في كل شيء حتى في لَبَن أُمّي، واختلط شهاب الدين قبل وفاته بسنتين، وكان فيه تشبّعٌ من التشيُّع. أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ القُدوة الزاهد جمال الدين أبو العباس ابن الشيخ القدوة محمد الظاهري الحلبي مولى الظاهر صاحب حلب. سمع سنة إحدى وثلاثين وبعدها من الفخر الإربلي، وابن اللَّتي، والموفق يعيش، وابن رَوَاحة، وابن خليل، وابن قُمَّيرة، وخلقٍ بحلب. وكريمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 والضياء، وابن مَسْلَمة، وخلق بدمشق. وصفيّة القرشيّة، وجماعة بحماة، وعبد الخالق بن أنجب النِّشْتَيري بماردين، وعبد الرزاق بن أحمد بن سَلامة الزّيات، وأحمد بن سَلامة النجّار بحرّان، وسمع من شُعيب الزعفراني، وابن الجُميّزي، والمُرْسي، وجماعة بمكّة. ويوسف الساوي، وأحمد بن الجَباب بمصر، وهبة الله بن روين الإسكندري. وسمع بحمص وبعلبك والقدس وغير ذلك، وعني بهذا الشأن أتمّ عناية، وتعب وحصّل وكتبَ ما لا يوصف كثرةً. وكانت له إجازات عالية من أبي الحسين القطيعي وزكريا العلبي وابن روزَبة وأبي حفص السَّهْرَوَرْدي والحسين بن الزبيدي، وإسماعيل بن فاتكين والأنجب الحمّامي، وطبقتهم. وخرّج لنفسه أربعين حديثاً في أربعين بلداً، وانتقى على شيوخ مصر والشام، وخرّج لأصحاب ابن كليب ثم لأصحاب ابن طبرزد والكندي، ثم لأصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ابن البنّ وابن الزبيدي حتى إنه خرّج لتلميذه ومريده الشيخ شعبان، وكان في حسن التخريج عَجَباً، وغي جَوْدَة الانتخاب آيةً لا يزال الطرف لها مرتقباً. سمع على نحو سبع مئة شيخ أو ما يقارب ذاك، وأثنى عليه في هذا الفن حتى الحَمام الساجع على فروع الأراك، وتفقّه لأبي حنيفة، وحوى كل صفة في الخير مُنيفة. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: " وبه افتتحت السمَاع في الديار المصرية، وبه اختتمت، وعنده نزلت، وعلى أجزائه اتّكلت ". وسمع منه علم الدين البِرزالي أكثر من مئة جزء. وقرأ هو القراءات على الشيخ أبي عبد الله الفاسيّ بحلب. ولم يزل بالديار المصرية على حاله إلى أن عُطّل تسميعه وبَطَل تأصيله وتفريعه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة ستٍّ وعشرين وست مئة. وكانت وفاته بزاويته الجمّالية في المقس بمصر. أحمد بن محمد بن جبارة. ابن عبد المولى المرداويّ الصالحيّ الحنبلي الإمام العلاّمة المقرئ النحوي شهاب الدين أبو العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 سمع على ابن عبد الدائم وطبقته، وقرأ القراءات على النبيه الراشدي، وأخذ عنه النحو وربّما حضر دروس الشيخ بهاء الدين بن النحّاس، وأجاد في النحو والقراءات، وسكن حلب مدة، وارتحل منها وأقام بالقُدس إلى أن مات به، وسمع السيرة حضوراً في الرابعة من خطيب مَرْدا، وسمع من الكَرماني وابن أبي عمر، وأخذ الأصول عن القَرافي، وجاور بمكّة. وكان ذا زُهْد وقناعة وبلاغة ونصاعة، واشتهر بالقراءات، وهاجر الناس إليه، ووقع الاختيار من الطلبة عليه، وشرح الشاطبيّة شرحاً مطوّلاً، والرائيّة ونونيّة السخاوي في التجويد، وله تعاليق، وعنده من الفضائل جَمْلٌ وتفاريق، إلا أنه كان يتجارف، وينتقل بعد سَعادة علمه لأجل ذاك ويتحارف. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: في شرحه للشاطبية احتمالات واهية، قرأت بخطّه يقول في قول الشاطبي: وفي الهَمْز أنحاءُ وعند نُحَاتِه ... يُضيء سناه كلّما اسودَّ ألْيَلا يحتمل خمس مئة ألف وجه وثمانين ألف وجه. وقال: وسمعت منه. ولم يزل على حاله إلى أن كُسِر ابن جُبَاره، وبطلت منه تلك الأمور والإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة تقريباً. أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الشيخ الجليل المسند شمس الدين أبو بكر بن العجميّ الحلبي الشافعي. سمع من جدّه لأمّه، وأبي القاسم بن رواحة وابن خليل، وحضر الموفّق بن يعيش، وروى الكثير. وروى عنه المُقاتلي، وابن الواني، وابن الفخر، والمزيّ، والذهبيّ. كان فيه غفلة، ولعقله عنه جَفْلة، إلا أنه ليس بقادحٍ فيه، ولا مُبْطل لما يسنده ويرويه. وقاسى من هولاكو عذاباً شديداً، وأخذ منه أموالاً كان أمره بها عنيداً. ولم يزل على حاله إلى أن فرغ أجله، وأرهقه من الموت عَجَلُه. وتوفي بحلب رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن محمد الإمام الحافظ الشريف عزّ الدين أبو القاسم ابن الإمام أبي عبد الله العَلَوي الحُسيني المصري، ويعرف بابن الحلبي، نقيب الأشراف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 سمع من فخر القضاة ابن الجَبّاب، وسمع من الزكي المذنري فأكثر، ومن الرشيد العطّار، وعبد الغني بن بنين، والكمال الضرير وطبقتهم. وأجاز له ابن رَوَاج، وابن الجُمَّيزيّ، وصالح المدلجي، وخَلْقٌ كثير. وطلب الحديث على الوجه، وكان ذا فهم وحفظ وإتقان وتخريج وكشفٍ للمعضلات وتفريج، وله ذَيْلٌ على وفيات المنذري إلى سنة أربع وستين. ولم يزل على حاله إلى أن سكن دار العمل، وبطل منه العمل، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة ستٍّ وثلاثين وست مئة. أحمد بن محمد بن عطاء الله الشيخ العارف تاج الدين أبو الفضل الإسكندري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 كان رجلاً صالحاً له ذوق، وفي كلامه ترويح للنفس وسَوْق إلى الشوق، يتكلّم على كرسيّ في الجوامع، ويقيّد المارقين بأغلالٍ وجوامع، وله إلمام بآثار السلف الصالح، وكلام الصوفية، إذا هبّ نسيمه العاطر الفائح شوّق كثيراً من القلوب، ومحا بالدموع غزيراً من الذنوب، وله مشاركة في الفضائل، وعليه للصَّلاح سيماء ودلائل، وهو تلميذ الشيخ أبي العباس المُرْسي صاحب الشاذلي، وكان من كبار القائمين على الشيخ تقي الدين بن تيميّة، وله جلالة يف النفوس بنفسه القويّة. ولم يزل على حاله إلى أن ركدت تلك العبارة، وانكدرت نجوم تلك الإشارة. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في المنصورية في حادي عشر جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة. ومن شعره: مُرادي منك نسيانُ المراد ... إذا رُمْتَ السبيلَ إلى الرَّشادِ وأنْ تَدَعَ الوجود فلا تَراهُ ... وتُصبح مالكاً حَبْلَ اعتمادِ إلى كم غفلةٍ عنّي وإني ... على حِفظِ الرعاية والودادِ وَوُدّي فيك لو تدري قديمٌ ... ويومُ السبت يشهد بانفرادي وهل ربُّ سواي فتَرْتَجيه ... غداً يُنجيك من كَرْبٍ شداد فوصف العَجز عمّ الكون طُرّاً ... فمفتقرٍ يُنادي وبي قد قامت الأكوانُ طُرّاً ... وأظهرتُ المظاهرَ مِنْ مُرداي أفي داري وفي ملكي وفُلْكي ... تُوجّه للسِّوى وَجْهَ اعتماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وها خِلَعي عليكَ فلا تُذِلْها ... ومن وجه الرجاء عن العباد ووصفَك فالزَمَنْهُ وكن ذليلاً ... ترى منّي المنى طَوْع القياد وكن عبداً لنا والعبد يرضى ... بما تَقْصي الموالي من مُراد قلت: شعرٌ نازلٌ، هو يجدُّ وكأنه هازل. أحمد بن محمد بن علي بن جعفر الصدر الأديب الرئيس سيف الدين السامَري، نسبة إلى سُرَّ من رأى، نزيل دمشق. صادره الصاحب بهاء الدين بن حَنّا وأخذ منه نحواً من ثلاثين ألف دينار لَمّا قدم أخوه الدولة السامريّ من اليمن، وتنكب في دولة المنصور، وطَلَبه الشجاعي إلى مصر وأخذ منه قرية حَزْرَما وغيرها وتمام مئتي ألف درهم، وكان يسكن داره المليحة التي وقفها رباطاً ومسجداً ووقف عليها باقي أملاكه. وروى عنه الدّمياطيّ في معجمه وذكر أنه يُعرف بالمقرئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وكان قد سافر مرّة مع وجيه الدين بن سُويد إلى الموصل فحضر المكّاسة وعفُّوا هم جشمال الوجيه ومكّسوا جِمال السامري، وأجحفوا به، فقال: صحِبتُ وجيه الدين في الدهر مرّةٌ ... ليحمل أثقالي ويَخْفرَ أجمالي فَوَزَّتني عن كل حقّ وباطلٍ ... وعن فرسي والبغل والجَمَل الخالي فبلغ ذلك صاحبَ الموصِل فأطلق القَفْل بمجموعه. وقال يشكر الأمير سيف الدين طوغان وأسندمرُ والي بدمشق ويشكو نائبيهما الشجاع هَمّام سَنْجر: اسمُ الوزارة وما له ... فيها سوى الوزار والآثامُ وجناية القتلى وكلُّ جنايةٍ ... تُجنى بأجمعها إلى همّامِ سيفان قد وَلِيا فكلٌّ منهما ... في حفظ ما وُلّيه كالضرغامِ وإذا غَرا خطبٌ فكلٌّ منهما ... أسدٌ يَصول ببأسه ويحامي وبباب كلٍّ منهما عَلَمٌ غدا ... في ظُلْمه عَلاّمةَ الأعلام فمتى أرى الدنيا بغير سَناجرٍ ... والكسرَ والتنكيسَ للأعلامِ ومن شعره: من سُرَّ مَنْ راءٍ ومَنْ أهلها ... عند اللطيف الراحم الباري وأيُّ شيءٍ أنا حتى إذا ... أذْنَبتُ لا تُغفَر أوزاري يا ربِّ ما لي غيرُ سَبِّ الورى ... أرجو به الفوز من النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ولمّا طلبه الشجاعي إلى مصر اعتقله وقام له بِما طلبَ منه وطلب الإفراج عنه وثقّلوا عليه فقال: والله ما أُفرِجُ عنه حتى يمدحني بقصيدة، فإن هذا هجّاء، فلمّا مدحه أفرج عنه. وكان الشيخ سيف الدين ظريفاً مزّاحاً، كثير التغرُّب نزّاحاً، وهو من سَرَوات بغداد ومحاضرته يَغْنى النديم بها عن حانةِ النبّاذ. قدم إلى الشام بأمواله وحظي عند الناصر بأقواله، ولمّا نظم تلك الأرجوزة السامرية التي أولها: يا سائقَ العيس إلى الشآم ... مُدرَّعاً مَطارفَ الظَّلامِ حطّ فيها على مباشري حلب وأغرى الناصر بمصادرتهم، وقد اشتهر أمرها، وأسكر الأسماع خَمْرُها. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن رُمي لسَنُه بالبكم، وقاده رسنة إلى ما قضاه الموت عليه وحكم. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة وهو في عشر الثمانين، ودفن في داره. أحمد بن محمد بن علي بن يوسف ابن نيسّر، الصاحب عز الدين المصري، ولي النظر على النظّار بمصر والشام وغيرهما، وتولّى نظر الأوقاف بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ولم يزل في سؤدده وتعاظمه وتمرُّده إلى أن تعسّر العيش على ابن ميسّر، وقلّ جمعه وكسّر. وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده حادي عشري شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وست مئة. تولّى نظر الدواوين بمصر، ونظر الإسكندرية، ونظر دمشق، ونظر طرابلس، ونظر الأوقاف بدمشق والحسبة، ومات وهو في نظر الأوقاف. وكان فيه محبّة لأهل الخير. أحمد بن محمد بن أبي القاسم ابن بَدْران، الشيخ الفاضل شهاب الدين أبو بكر الكردي الدَّشْتي - بالدال المهملة، والشين المعجمة الساكنة، وبعدها تاء ثالثة الحروف - الحنبلي المؤدّب. حضر في الثانية على جعفر الهَمدذاني، وسمع من ابن رواحة وابن يعيش، وابن خليل، والنفيسي بن رواحة، وصفيّة القرشية، وابن الصلاح، والضياء. وتفرّد وروى الكثير، حدّث بمصر بمسند الطيالسي، ورُتّب مسمِعاً بالدار الأشرفية، ومعلِّماً بمكتب الطواشي ظهير الدين، وأكثر الطلبة عنه، وخَرَّجَ له علم الدين البِرزالي مشيخةً، وكان في الرِّواية يتعزز، ويتحلّى بالطلب وتمزّز، ويطلب نسخَ عدة أجزاء لنفسه من السامع، ويرى أن ذلك له كالقامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ولم يزل إلى أن انقلب دست الدَّشْتي، وحار فيما نزل به الطبيب والمفتي. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده بحلب سنة أربع وثلاثين وست مئة. أحمد بن محمد بن قُرْصة شهاب الدين بن شمس الدين الأنصاري. هو من بيت مشهور بالصعيد، منهم جماعة فضلاء رؤساء، تفرّد هذا شهاب الدين من بينهم بنظم القَرْقيّات وجوّدها، وأجراها على قواعد العذوبة وعوُدها، يأتي بها باكورة زَهْر أو كأسُ زُلال جُلي على الظمآن من نَهْر، خفيفةٌ على القلب لذيذة على السمع لِما لها في العقل من السَّلب، ونظم الشعر جيّداً، ودخل به في جملة الشعراء، ولم يكن متحيِّداً، وذاق منه كؤوس العلاقم، وجَرّعهم من هَجوه سُموم الأراقم، جاب الأقطار، وجلب الأوطار، ودخل الأمصار، واجتدى بالمدح والهجو أفات طَلبه أم صار، وكان شيخاً كاد الدهر يحني صَعْدَته ويُري العيون هزَته ورَعْدَته. وكتب إليّ أشعاراً غلت عندي أسعاراً، ومنها: ما لي أرى الشعراء تكسبُ عاراً ... بهجاتهم وتحمّلوا أوزارا فلذاك طُفْتُ بباب كلِّ مهذَّبٍ ... وجعلتُ شعري في الكرام شعارا مدحوا الأخساء اللئام فضيّعوا ال ... أشعار لَمّا أرخصوا الأسعارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وجعلت في حلب الشمال إقامتي ... يا حبذا دار الكرام جِوارا ولكم دعا مدحي نوالَ معظمٌ ... فأبَتْ عُتُوّاً عنه واستكبارا حتى وجدت لها إماماً عالماً ... أوصافه تستغرق الأشعارا لولا صلاح الدين لم أرَ جُلّقاً ... ولكنتُ مِمّن جانبَ الأسفارا أسدى المكارم من أكفٍّ لم يزل ... معروفها يستعبدُ الأحرارا وصنائعاً غرّاً أفَدْنَ منائحاً ... عُوْناً ولَدْن مدائحاً أبكارا فوجدْتُ في إجماله وجَماله ... ما يملأ الأسماع والأبصارا مولىً غدت يمناه يُمناً لامرئ ... يبغي نوالاً واليسار يسارا حلّى الزمان وكان قِدْماً عاطلاً ... وأعاد ليل الآملين نهارا وحوى معاليَ في دمشق قديمةً ... وحديثُها بين الورى قد سارا بَلَغَتْ به رُتَباً فرُعن محلّه ... أمْسَتْ نجوم سمائها أقمارا زانت فضائله بدائعَ نظمها ... كم مِعصَمٍ يَزين سوارا ومظفّر الأقلام كم أردى بها ... ملكاً وخوّف جحفلاً جرّارا عجباً لها تجري بأسودَ فاحمٍ ... يكسي الطروسَ ظلامُه أنوارا تمضي بحيث ترى السيوف كليلةً ... وتطول حيث ترى الرِّماحَ قِصارا تجري بواحدها ثلاثُ سحائب ... تحوي الصواعق والحيا المدرارا وتمدّه بالفضل حين تمدّه ... ببديهةٍ لا تُتعب الأفكارا غم رامَ نائله العفاةُ أمدّها ... كرماً وإن رام الخميسُ مُغارا ملأ الكتاب تهدّداً فكأنما ... ملأ المتاب أسنّة وشفارا تجني النواظرُ من محاسنِ خطّه ... رَوْضاً ومن ألفاظه أزهارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 خطٌّ رماحُ الخطّ من خُدّامه ... إن رام ذِمراً أو أعزَّ ذِمارا وبلاغةٌ تَضحى بأدنى فقرةٍ ... تغني فقيراً أو تقُدُّ فَقارا ويشيم روّاد الندى من بِشره ... بَرقاً ومن إحسانه أمطارا بِشرٌ يبشّر بالجميل وعادة ال ... أزهار أن تتقدّم الأثمارا وندىً يعمّ ولا يخصّ كأنّه ... هامي قِطار طبَّق الأقطارا يستصغر الأمر العظيم إذا عَرا ... بعزيمةٍ تستهلُ الأوعارا ويردّ غَرب الحادثات مغلَّلاً ... بسعادةٍ تستخدم الأقدارا كم ذلّلت صعباً وردّتْ ذاهباً ... وحمَت أذلّ وذلّلت جبّارا ولقد عرفت الناس من أزطارهم ... سبحان من خلق الورى أطوارا يا من عرفتُ بجوده الغنى ... حقاً وكنتُ جهلته إنكارا أغنيتني بمواهبٍ موصولةٍ ... لم تُبقِ لي عند الحوادث ثارا لا زلتَ في عزٍّ يدوم ونعمةٍ ... ترقى على شُمّ الجبال وقارا فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك ارتجالاً: يا شاعراً ملأ الطروس نهاراً ... وأسال فيه من الدجى أنهارا لم تُهْدِ لي نظماً بديعاً إنما ... أهديتَ لي فلَكاً أراه مُدارا في كل سطرٍ بُرج سعدٍ ثابتٌ ... تبدو معانيه به أقمارا لا أرتضي بالروض تشبيهاً له ... إن الزواهر تفضُل الأزهارا قلّدتني منه قلادة مِنّةٍ ... تستوقف الأسماع والأبصارا يغنى النديم به فإن قوافياً ... فيه تُدير لمسمعيه عقارا وترى اللبيب إذا تعاطى فهْمَه ... لم يذكر الأوطان والأوطارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فكأن ذلك الطرسَ وجْنة أغيدٍ ... والسطرَ فيه قد أسال عذارا فاعذر شهاب الدين من تقصيره ... أضحى يُلفّق عندك الأعذارا أنا لا أطيق جوابَ منْ أشعاره ... تنهلّ حين تَرومها أمطارا وإذا جرى في حَلبةٍ قصّرتُ عن ... غاياته بل لا أشقّ غُبارا إن الغدير وإنْ تعاظمَ قاصرٌ ... عن أن يقاوم بحْرَك الزَّخارا وكذا أخو النظم المزلزل ركنه ... لا يستكنّ مع الجبال قرارا فخذ القليل إجابة وإجازةً ... واعذر فمثلك من أقال عثارا واعتدَّ إنك لم تزر في جلّق ... أحداً وإنك جئت تقْبس نارا فلأنت تعلم أنني لم أرضها ... لو أن درهمها غدا دينارا ما قَدرُها مئة لو أني سقتها ... إبلاً يكون حمولهنّ بهارا وكتب إليّ قصيدة الميزاب أوّلها: كم سيفُ النظم أجرّده ... كم أُشهره كم أغمده كم أنظم عِقد جواهره ... في مدح كريمٍ أقصده كم أجمع من معنىً حسنٍ ... وبيان الشرح يقيّده وقد سقتها بمجموعها في كتابي ألحان السواجع. ولم يزل على حاله إلى أن أتى مرة من مصر ونزل بالتعديل ظاهر مدينة دمشق في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 بيت التحفَه جدرانه، وتأنس به جردانه، فنزل به ذباب السيف، وعمل من دمه وليمة لذباب الصيف، وأصبح ورأسه قد بان عن جسده وطاح، ودقيق ابن قُرصة تذروه الرياح، وكان مسكيناً يتحلّب أفاويق الندى، ويحتلب ببلاغته أهل زمانٍ لا يجدون على نار المكارم هدىً، إلا من يرتاح للامتياز في عدة الامتياح أو تهزّه نغمة العافين أو مدام المدّاح، وقليلٌ ما هم، وقد بعد حماهم، وكان المسكين يرمق عيشه على بَرَص، ويمسي كالفأرة في قَرض الأعراض بالقَرَض. وكانت قتلته يوم الجمعة رابع عشر شهر الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وأنشدني من لفظه لنفسه بدر الدين حسن بن علي الغزّي: مات ابنُ قُرْصةَ بعد طول تعرُّضٍ ... للموت مِيْتةَ شرِّ كَلْب نابحِ ما زال يشحذ مُديةَ الهَجو التي ... طلعت عليه طلوع سعد الذابحِ حتى فَرى وَدْجَيه عبدٌ صالح ... عَقَرَ النطيحة عَقْرَ ناقةٍ صالحِ فليحْيَ قاتله ولا شلّتْ يدٌ ... كفَتِ المؤونة كفَّ كلّ جرائحي وقلت أنا فيه: دع الهجو واقنع بما نلته ... من الرزق لو كان دون الطفيفِ فقَرْضُ ابن قُرصة عمّ الورى ... وراعَ الدنيّ بهجْو الشريفِ ومات ابنُ قَرُصة من جوعه ... وشهوته عضّة في رغيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 أحمد بن محمد فتح الدين بن البَقَقيّ - بباء موحّدة وقافين مفتوحات -. كان مقيماً بالديار المصرية يبحث ويناظر ويذاكر بالفوائد المنتقاة ويحاضر، قلّما ناظر أحداً إلا قطعه وأتى به إلى مضيق التسليم ودفعه، إلا أنه مع ذكائه وحرصه في البحث وإعيائه كان يبدو منه من الاستخفاف ما لا يليق، ويظهرُ منه في الظاهر ما لا يحسُن أن يكون في السرّ من الجاثليق، حتى ظهر أنه زنديق، ونبيّن أنه مرتدّ عن الإسلام عن تحقيق؛ لأنه كان يستخفّ بالشرع الذي شهدَت العقول بحسن وصفه، ويستهتر بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلْفه. ولم يزل في جنونه ودَوَران مَنْجنونه، إلى أن أطاح سيفُ الشرع رأسه، وأطفأ ريح القتل نبراسه، وأصبح الفتح قُبحاً، وأورده الذبّ عن الدين القيِّم ذبْحاً، ضرب القاضي المالكي عُنقه بين القصرين سنة إحدى وسبع مئة في شهر ربيع الأول وطيْف برأسه، وكان قد تكهّل، ولما ضرب رأسه بالسيف لم يمضِ قطع رقبته، فتمّم حزّ رقبته بالسكين. وأخبرني جماعة بالقاهرة عن ابن المحفّدار أنه قال له يوماً: كأني بك وقد ضربت رقبتك بين القصرين، وقد بقي رأسك معلقاً بجلدة، فكان الأمر كما قال. ومن شعره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 جُبلتُ على حُبّي لها وألفتُه ... ولا بدّ أن ألقى به الله معلِنا ولم يخلُ من قلبي بقدْر ما ... أقول وقلبي خالياً فتمكّنا قلت: يشير إلى قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... وصادف قلباً خالياً فتمكّنا ومنه: لحى الله الحَشيشَ وآكليها ... لقدْ خبُثتْ كما طاب السُّلاف كما يصبي كذا تضني، وتُشقي ... كما يَشفي وغايتها الحُرّاف وأصغر دائها والداء جمّ ... بغاء أو جنون أو نُشتف ومنه: يا منْ يخادعني بأسهم مكْره ... بسَلاسة نعُمت كلمس الأرقم اعتدّ لي زَرَداً تضايق نسْجُه ... وعليَّ عُيونها بالأسهم ومنه، وقد جلس عند بعض الأطباء ساعة فلم يُطعمه شيئاً، فلما قال: لا تحسبوا أنّ الحكيم لبخله ... حمانا الغِدا ما ذاك عندي من البخل ولكنه لمّا تيقّن أننا ... مرضنا برؤياه حَمانا من الأكل ومنه: أين المراتب في الدنيا ورِفعتها ... من الذي حاز عِلماً ليس عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لا شكّ أن لنا قَدراً رأوه وما ... لمثلهم عندنا قَدرٌ ولا لهم هم الوحوش ونحن الإنس حِكمتُنا ... تقودهم حيثما شِينا وهم نَعمُ وليش شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وِجْدانهم عدم لنا المريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهلُ والحشمُ قلت: كأنه نظم هذه الأبيات لما سمع أبيات الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وهي مما أنشدنيه الحافظ أبو الفتح، قال: أنشدني لنفسه: أهل المراتب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مَرْذولون بينهم فما لهم من تَوَقّي ضرّنا نظرٌ ... ولا لهم في ترقّي قَدْرينا هِممُ قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم فليتنا لو قَدِرنا أن نعرفهم ... مِقدارهم عندنا أَوْلَو دَرَوهُ هم لهم مريحان من جاه وفضل غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعَدَم ومن شعر ابن البَققيّ: الكُسّ للجُحر غدا ... مُعانداً في القِدم فانظره يبكي حَسَداً ... في كل شهر بدمِ وما أحسن قول الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال: لا تلُم البَقِّيّ في فعله ... إن زاغ تضليلاً عن الحقّ لو هذّب الناموس أخلاقه ... ما كان منسوباً إلى البقّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وقوله فيه لمّا سجن ليقتل: يظنّ فتى البققي أنه ... سيخلص من قبضة المالكيْ نعم سوف يُسلمه المالكيُّ ... قريباً ولكن إلى مالِكِ وقيل: إنه استغاث يوم قتله بالشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد، وقال: أنا تردّدت إليك أربعة أشهر لازمتك فيها، هل رأيت مني شيئاً مما ذكر هؤلاء؟ فقال: ما رأيت منك إلا الفضيلة. أحمد بن محمد بن محمد بن هبة الله الشيخ الإمام العالم الكاتب المفتي، كمال الدين أبو القاسم بن الصدر الكبير عماد الدين ابن القاضي الكبير شمس الدين أبي نصر بن الشيرازي الدمشقي الشافعي. تفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زيْن الدين الفارقي، وقرأ الأصول على الشيخ صفيّ الدين الهنديّ، وسمع من الفخر عليّ ووالده وغيرهما، وحفظ كتاب المزنيّ. وتميّز وبرع، وأخذ في طلب التدريس وشرع، ودرّس بالباذرائية في بعض الأوقات، بالشامية الكبرى مرات، ثم استمر بتدريس الناصرية مدةً، وذُكر لقضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الشام في عِدّه، وكان خيّراً متواضعاً، ديّناً لأفاويق الرفاق راضعاً، حَميد النشأة، جميل البدأة، خبيراً بالأمور، ذَرِباً بأحوال الجمهور، أثنى علي قاضي القضاة بدر اليد محمد بن جماعة، وقاضي القضاة ابن الحريري، وقالا للسلطان: يصلح للقضاء. وكان فيه حياءٌ وسكون وميل إلى التخلّي ورُكون، حاقَقه مرّة ابن جَملة بحضرة الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وأراد مناظرته فتألّم، وأضرب عنه وتحلّم، وترك السعي في الشامية لذاك. وكان بديع الكتابة، جميع سهام أقلامه فيها للإصابة، كتب الريحان والمحقق، وزاد في ذلك على ابن البوّاب ودقّق، وكان خطّه قيد النواظر، ونزهة من يرتع في الرياض النواضر، كل سطر كأنه سُبحةَ جوهرٍ راق نظمها، وفاق على الكواكب وَسْمُها. ولم يول على حاله إلى أن نزل بكمال الدين مُحاقه وفات إدراكه وإلحاقه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة في ثالث عشر صفر، ودُفن بتربتهم. وموله سنة تسعين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أحمد بن محمد بن محمد بن نصر الله القاضي الرئيس جمال الدين التميميّ القلانسي الدمشقي، وكيل بيت المال، وقاضي العسكر ومدرّس الأمينية والظاهرية وموقّع الدّست. روى عن ابن البخاري وبنت مكّي، وأذِن لجماعةٍ في الإفتاء. كان جميل الشكل مليح العِمّة، بهيّ المنظر متّسع الهمة، وكتابته مثل الروض الذي عَرْفُه باسم، أو العقود التي تفترّ عنها المباسم، يخاله الناظر سُطور ريحان أو حباباً قد كلّل لؤلؤه ياقوت خدٍّ من بنت الْحان. ولم يزل راقياً في بروج سُعوده، باقياً في اقتبال صعوده، إلى أن هتف به داعي حتفه، وفرّق بينه وبين أُلاّفه وإلفه. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عُشْريّ ذي القَعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وعاش نيّفاً وستين سنة. وبلغتنا وفاتُه ونحن مع الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - على حمص، فكتبتُ إلى ولده القاضي أمين الدين نظماً ونثراً: أيُّ خطب أصمى الحشا بنَباله ... حين راعَ الوُجودَ فقدُ جِمالهْ يا لَدمعِ الغَمام ينهلّ حُوناً ... ولنَوْح الحِمام من فوق ضاله أسعِداني فإنّ خَطْبيْ جليلٌ ... وأعينا مَنْ لم تكونا بحاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 منها: كيف لا يُظلِم الوجود بمن كا ... ن الثريّا معدودةً في نِعالهْ وإذا ما النسيمُ أهدى عبيراً ... فتِّش الطيبَ تلْقَه من خلالهْ وإذا ما احتبى بمجلسٍ حفلٍ ... أطرق القوم هيبةً من جَلالهْ يا جمالاً مضى فأورث وجه ال ... دهر قُبحاً لما ارتضى بزَوالهْ ولعمري ما غاب ليثٌ تقضّى ... وحَمى غابهُ بقا أشبالهْ أيّ شبل أبقيت إذْ غِبْت عنّا ... صَبرُهُ للخطوب من أحمالهْ وهو عند الملوك خيرُ أمينٍ ... قد سَما في الورى بفقْد مِثالهْ وإذا أتحف الأعادي بدَرْج ... كان قطْعُ الأعمار في أوصالهْ أيها الفاضل المهذّب لا تج ... زع لذاك الجليل عند انتقالهْ كلّنا في المُصاب رهْنَ التأسّي ... بالنبيِّ والغُرّ آلِهْ أحمد بن محمد بن محمد الشيخ زين الدين بن المغَيْزِل الحموي الخطيب، أبو عبد الله بن الشيخ تاج الدين خطيب الجامع الأسفل. سمع من شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز. لم يزل في مَرقى درج منبره، وإلقاء العقود النفيسة من جوهره، إلى أن سكت فما نَبَسْ، ونزل من مِنبره إلى الأرض وارْتَمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسعٍ وتسعين وست مئة. قال شيخنا علم الدين البِرزاليّ: أجاز لنا من حماة، وكان قد سمع من شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز جزء ابن عَرَفة. أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكّي القاضي نجم الدين القَمولي - بالقاف وضم الميم وبعدها واو ساكنة ولام -. من الفقهاء الفضلاء والقضاة النبلاء، وافر العقل، جيّد النقل، حسَنُ التصرُّف، دائم البِشر والتعرّف، له دين وتعبُّد، وانجماع عن الباطل وتفرّد. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: قال لي يوماً: لي قريبٌ من أربعين سنة أحكم ما وقع لي حكم خطأ، ولا أثْبَتُّ مكتوباً تُكُلِّم فيه أو ظهر فيه خلل. سمع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وغيره. وقرأ الفقه بقوص وبالقاهرة، وقرأ الأصول والنحو وشرح الوسيط في مجلدات كثيرة، وفيه نُقولٌ غزيرة، ومباحث مفيدة سمّاه البحر المحيط، ثم جرّد تُقوله في مجلّدات وسمّاه جواهر البحر، وشرح مقدمة ابن الحاجب في مجلدتين، وشرح الأسماء الحسنى في مجلد، وكمّل تفسير الإمام فخر الدين. وكان ثقة صدوقاً. تولّى قضاء قَمولاً عن قاضي قوص شرف الدين إبراهيم بن عتيق، ثم تولّى الوجه القبلي من عمل قوص في ولاية قاضي القضاة عبد الرحمن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بنت الأغرّ، وكان قد قسَم العمل بينه وبين الوجيه عبد الله السُّمرباوي، ثم تولّى إخميم مرتين، وولي أسيوط والمنية والشرقية والغربية، ثم ناب بالقاهرة ومصر، وتولّى الحِسبة بمصر، واستمرّ في النيابة بمصر والجيزة والحسبة إلى أن توفي. ودرّس بالفخرية بالقاهرة، وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل يقول: ما في مصر أفقه منه، يقال: إن أصله من أرْمَنت. ولم يزل يفتي ويحْكم ويدرّس ويُصنّف وهو مبجَّلٌ معظَّم إلى أن غرب نجمه ومُحيَ من الحياة رَسمه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وولي نيابة الحكم بعده الشيخ نجم الدين بن عقيل البالسيّ، وولي حُسبة مصر ناصر الدين فار السقوف. أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن عماد الدين أبي الحرم مكّي بن مسلّم بن أبي الخوف المعروف بعكوك شهاب الدين. كانت له مطالعات، وعنده منها ابتداءات ومراجعات، ويحفظ للمتأخرين شيئاً عظيماً، ويُورِد لهم من جواهرهم عِقداً نظيماً، وكان لا اشتغال له ولا عِلم عنده من غير المطالعة وتصفُّح الدواوين الناصعة، وهو جيّد النقد في القريض، عارفٌ بما هو صحيح منه أو مريض. وجمع من شعر المتأخرين مجاميع، وقصَرها دوت القصائد على المقاطيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وكان له وَقفٌ يُحصّل منه في الصيف ما يكون له مؤونة في الشتاء، وكان في غالب السنين يصيّف في الشام ويُشتّي في مصر، إلا أنه كان متمزّقاً إلى الغاية، متخرّقاً في نهاية، يكابد شدائد الفقر، ويصبر من القلة على ما لها في حاله من العَقر، قد زَوَته الحشيشة في حُشّ، وروَتْه من الطيش في طشٍّ. ولم يزل على حاله إلى أن جاء الطاعون فغسله في جملة ذلك الماعون، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بدمشق في مستهل شهر رجب، وكان له من العمر تقريباً أربعون سنة. أنشدني من لفظه لنفسه: ناظرُ الجامع الكب ... ير ظَلومٌ إذا قَدَرْ ابْلُهُ ربِّ بالعمى ... وأرِحْه من النظرْ وأنشدني من لفظه لنفسه: قلتُ له إذْ بَدا وطلعتُه ... قد أشرقَت فوق قامةٍ تامّهْ هبْ لي مناماً فقال كيف وقد ... رأيت شمس الضحى على قامهْ قلت: هو مأخوذ من قول شمس الدين التلمساني: بدا وجهه من فوق أسمر قَدّه ... وقد لاح من سود الذوائبِ في جُنحِ فقلتُ عجيبٌ كيف لا يذهب الدُّجا ... وقد طلعت شمسُ النهار على رُمْحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وأنشدني من لفظه في العايق الطبّاخ: قد غلب العايق في قوله ... لمّا أتى الطاعون بالحادثِ قمحيَّتي تقتل من يومها ... وأنت في يومين والثالث وكتب إليّ ونحن بالقاهرة: أيا فاضلاً ساد الورى بفضائل ... تناهت فما أضحى لهنّ بديلُ تقمّصتَ ثوبَ العلم والحلم والندى ... فأنت صلاحٌ للورى وخليلُ ولستَ خليلاً بل خليجاً لواردٍ ... غلِظتُ فسامحني فنيْلُك نيلُ فكتبتُ أنا الجواب إليه: أيا ابن أبي الخوف الذي أمنتْ به ... طرائق نَظْمٍ واستبان دليلُ لقد فُتَّ غايات الأولى سبقوا إلى ... نهايات فضلٍ ما إليه سبيلُ فأنت على هذا الزمان كُثيِّرٌ ... ورأيُك في النظم البديع جميلُ أحمد بن محمد شهاب الدين المعروف بالحاجبي - بحاء مهملة، وبعد الألف جيمٌ وباءٌ موحّدة -. شابٌّ جنديّ، ذهنه أمضى من الهندي، يتخيّل المعنى الغامض، ويورد اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الحُلو لا الحامض، مقاطيعه رائقة، ومعانيه بالقلوب لائقة. اجتمعت به في شوق الكتب بالقاهرة في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة. وأنشدني من لفظه لنفسه: أقول شبه لما جيْد الرشا ترفاً ... يا معمِلَ الفكر في نظْمٍ وإنشاءِ فظلّ يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه الماء بعد الجهد بالماءِ فقلت له: أطلقت الرشا ههنا، ولو قلت الرشا الذي سباني، أو جيد معذّبي لكان أقعد في التوطئة، ثم أنشدته فيما بعد لنفسي: أقول شبّه لنا كأساً إذا مزج ال ... ساقي طلاها اهتدى في ليله الساري فظل يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه النار بعد الجهد بالنارِ فقال: إلا أنني أنا أتيت بالمثل السائر، فأنشدته فيما بعد لنفسي: أتى الحبيب بوجهٍ جلَّ خالقه ... لما براه بلطف فتنة الرائي فلاح شخصً عذولي وَسْط وَجْنته ... فقلت شبّهه لي في فرط لألاء فراح يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه الماء بهد الجهد بالماء قلت: وأصل هذا المثل أن الوجيه ابن الذروي دخل يوماً إلى الحمّام ومعه ابن وزير الشاعر، فقال ابن وزير: لله يومي بحمّامٍ نعمتُ بها ... والماء ما بيننا من حولها جارِ كأنه فوق شفّاف الرخام ضحىً ... ماءٌ يسيل على أثواب قصّارٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فقال ابن الذَّروي: وشاعرٍ أوقدَ الطبع الذكيُّ له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء أقام يُعمل أياماً قريحته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء وكان هذا شهاب الدين الحاجبي كثيراً ما يتّبع كلامي، ويقصد إصابة مراميْ ولما سمع قولي قديماً: قالتْ لأيْري وهو فيها ضائع ... كالحبل وسط البير إذ تلقيته قد عشت في كسّ كبير قلت ما ... كذَبتْ لأنّ الكاف للتشبيه قال هو واختصر وأجاد: ربّ صغيرٍ حين ولّفتُه ... أيقنتُ لا يدخل إلا اليسيرْ ألفيته كالبير في وُسعه ... حتى عجبنا من صغيرٍ كبير وكذا لمّا سمع قولي: يا طيب نشر هبّ لي من نحوكم ... فأثار كامنَ لَوعتي وتهتُّكي أدّى تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إنّ ذا نشر ذكي نظمه أيضاً فقال: لا تبعثوا غير الصَّبا بتحيّة ... ما طاب في سمعي حديثُ سواها حفظتْ أحاديث الهوى وتضوّعتْ ... نشْراَ فيالله ما أذكاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ولما أنشدنيهما قلت له: إلا أنك نقصتها صفة عما وصفتها به، فاعترف. ولم يزل الحاجبي على حاله إلى أن ذهبتْ عينُهُ وأثرُهُ، وأقام في لحده إلى أن يشقّه الله يوم القيامة ويبعثره. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وأنشدني الشيخ ناصر الدين محمد بن يعقوب المكتِّب المصري من لفظه، قال: أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين الحاجبي، رحمه الله تعالى: قيل لي إذ لثمت وَرْداً على الخ ... د جنيّاً من دونه الجلّنارُ هل لورد الخدود يا صاح شوكٌ ... مثل وِرد الرياض قلت العذار وبه قال: أنشدني: عودوا لصبٍّ بكى عليكم ... يا جيرةً ودّعوا وساروا فدمْعُ عينيه عاد بَخْراً ... وقلبه ما له قَرارُ وبه قال: أنشدني: ودّعتهم ودموعي ... على الخدود غِرارُ فاستكثروا دمعَ عيني ... لما استقلّوا وساروا وبه قال: أنشدني: إلى الله أشكو من عليَّ فإنني ... شرحتُ له شَوقي وفَرْطَ تألّمي وأحوجني للغير بيني وبينه ... ويحتاج مَنْ يَهوى عليّاً لسُلَّمِ وبه قال: أنشدني: قلتُ هل لي من دواءٍ ... قد غدا جِسمي عليلاً قال تسْلو عن عليَّ ... قلتُ أمّا عنْ عليْ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أحمد بن محمد بن قلاوون السلطان الملك الناصر ابن الملك الناصر ابن الملك المنصور. كان أحسن الأخوة شكلاً، وأرجحهم ثباتاً في أول أمره وعقلاً، شديد البأس، مفرط القوة من غير التباس، ولم ير أحدٌ ما اتفق له من السعد، ولا سمع أحدٌ بما قُدّر له من التعاسة فيما بعد، ذهبت أموال الناس وأديانهم وأرواحهم بسببه، وأجلسوه على كرسي المُلك، فما طلع في صُعد شأنه حتى انحطّ في صببة، ولم يزل في خمول وخمود، وجدود عُفّرت منه الخدود، وأنزلته بعد الثريّا إلى أخدود، إلى أن فرّق الحسام بين جسده ورأسه، ونقله بعد عزّ غابه إلى ذلّ كُناسه، وما برح في محبّة الكرك، إلى أن وقع منها في وسط المعترك، وكان في عالم الإطلاق فأوقع نفسه منها في الشَّرَك، وحطّه الناس في دَرَج الملك فما أراد إلا أن يكون في دَرَك؛ وذلك لأنّ والده أخرجه في أوّل صباه إلى الكرك، والنائب هناك الأمير سيف الدين ملكتمر - رحمه الله تعالى - السرجواني فأقام بها قليلاً، وجهّز إليه أخويه إبراهيم وأبا بكر المنصور، فأقاموا بها إلى أن ترعرعوا، وطلبهم والدهم فأقام إبراهيم وأبو بكر بالقاهرة، وعاد أحمد إلى الكرك، ثم إنه طلبه إلى القاهرة، وزوّجه بابنة الأمير سيف الدين طاير بغا خال السلطان، وأقام قليلاً، وأعاده بأهله إلى الكرك، فوقع بينه وبين الأمير سيف الدين ملكتمر السرجواني، فأحضرهما السلطان، وغضب عليه والده، وتركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مقيماً بالقاهرة مُدَيدة. ثم إنه جهّزه إلى الكرك وحده بلا نائب، فأقام بها إلى أن توفي والده، ولم يسند الأمر بعده إليه، بل أوصى بالمُلك للمنصور أبي بكر، فقام بشتاك في ناصره، وقام قوصون في ناصر أبي بكر، وغلب قوصون على إقامة أبي بكر فأقام المنصور المُلك مدة شهرين، وخلعه قوصون، وأقام الأشرف كُجك وسيّر قوصون يطلب الناصر أحمد إلى القاهرة، فلم يوافق، وكتب في الباطن إلى نواب الشام ومقدّمي الألوف يستجير ويستعفي من الرواح إلى مصر، وأظهر الذلّة والمسكنة الزائدة، فرّقوا له في الباطن وحملوا الكتب إلى قوصون خلا الأمير سيف الدين طشتمر حمّص أخضر، فإنه رقّ في الباطن والظاهر، فخرج على قوصون وتعصّب لأحمد، وكتب إلى نوّاب الشام وقام قياماً عظيماً علة ما سيأتي في ترجمته، وأمّا قوصون فإنه لما وقف على كُتُبه إلى النوّاب طلب الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وجهّزه لحصار الكرك، وجهّز معه ألفي فارس، فتوجّه إلى الكرك وحصرها أياماً، ثم إنه رقّ لأحمد، وبلغه أن ألطنبغا نائب الشام قد توجّه بعسكر دمشق إلى حلب خلف طشتمر، فترك حصار الكرك وجاء إلى دمشق وتسلّمها، ودعا الناس إلى بَيعة أحمد، وسمّاه الناصر، وجرى له ما جرى على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة قطلوبغا الفخري، ولما عاد ألطنبغا من حلب والتقاه الفخري وانهزم ألطنبغا إلى مصر وخامر عسكره عليه ودخلوا في ركاب الفخري إلى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وحلّف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الناس جميعاً لأحمد الفخري جهّز الأمير سيف الدين قماري وسليمان بن مهنّا وغيرهما من الأمراء إلى الكرك، وقصد منه الحضور إلى دمشق، فلم يحضر وتعلّل بحضور طشتمر، وكان قد تسحّب إلى الروم، وكتب الناصر أحمد إلى الأمير سيف طقزتمر نائب حماة وإلى الأمير بهاء الدين أصلم نائب صفد وإلى صفد وإلى مُقدّمي الألوف بدمشق يقول لهم: إن الفخريّ هو نائبي، وهو يولّي النيابات من يراه. ولما وصل طشتمر من بلاد الروم إلى دمشق، وكان أمراء مصر قد خرجوا على قوصون واعتقلوه في سجن الإسكندرية، بعث الفخري وطشتمر إلى الناصر أحمد وسألاه الحضور إلى دمشق ليتوّجها في خدمته بالعساكر إلى الديار المصرية، فدافعهما إلى بعد مضيّ شهر رمضان، وتوجّه إليه أكابر مقدّمي الألوف من مصر مثل الأمير بدر الدين جنكلي وأمثاله، وسألوه التوجُّه معهم إلى مصر، فلم يوافق وعادوا خائبين، وترك أهل الشام ومصر في حَيرة بعدما حلف الجميع له، ثم إنه بعد ذلك توجّه وحده إلى القاهرة، ولم يشعر المصريون إلاّ وقد جاء خبرُه بوصوله، وصعد إلى القصر الأبلق بقلعة الجبل، ولما وصل الخبر إلى دمشق توجّه الفخري وطشتمر بعساكر الشام وقضاته إلى مصر، وكانت سنة الأوحال كثيرة الثلوج والأمطار، وجُبيت الأموال من كبار الناس وصغارهم لنفقات العساكر ولعمل شعار المُلك وأبّهة السلطنة، فهلك الناس. ولما وصلوا إلى مصر جلس الناصر أحمد على كرسيّ المُلك وإلى جانبه أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو القاسم أحمد - وقد مضى ذكره - وحضر قضاة مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والشام الثمانية، واجتمعت عساكر مصر والشام، وعهِد الخليفة إليه بحضور العالمين، وحلف المصريون والشاميون، ولم تتفق مثل هذه البيعة لأحد من ملوك الأتراك، لاجتماع أهل الإقليمين في يوم واحد بحضور الخليفة، وكان يوماً مشهوداً عظيماً. ثم إنه ولّى طشتمر نيابة مصر، وقطلوبغا الفخري نيابة دمشق، وإيدغمش أمير آخور نيابة حلب، والأحمدي بيبرس نيابة صفد، والحاج آل ملك نيابة حَماة، والأمير شمس الدين آقسنقر نيابة غزّة، ولما فعل ذلك بهؤلاء الأكابر خافه الناس وهابوه وأعظموا أمره، وبعد أربعين يوماً من ملكه أمسك طشتمر وأخذه معه إلى الكرك، وبعض إلى إيدغمش بأم يُمسك الفخري، فأمسكه وجهّزه إليه مع ابنه، فلما وصل به إلى الرمل جاء من عند الناصر أحمد مَنْ أخذه منه وتوجّه به إلى الكرك، وأخذ الناصر أحمد معه من مصر سائر الخيول الثمينة الجيّدة التي في إصطبل السلطنة، وجميع البقر والغنم التي بالقلعة، وأخذ الذهب والدراهم وسائر الجواهر وما في الخزائن، وتوجّه بجميع ذلك إلى الكرك، وجعل الأمير آقسنقر السلاري نائباً بمصر، وأخذ معه القاضي علاء الدين بن فضل الله كاتب السر والقاضي جمال الدين جمال الكفاة ناظر الجيش والخاص وجعلهما عنده في قلعة الكرك، واستغرق هو في لهوه ولعبه وما سوّله له الشيطان، واحتجب عن الناس مطلقاً، وسيّر من يمسك الأحمدي بصفد، فلما أحسّ بذلك هرب من صفد وجاء إلى دمشق، وجرى ما سيأتي ذكره في ترجمة الأحمدي، ثم إنه أحضر الفخري وطشتمر يوماً وضرب عنقيهما صَبراً، وأخذ حريمهما وسباهُنّ وسلّط عليهنّ نصارى الكرك، ففعلوا بهنّ كلّ قبيح، فحينئذ نفرت منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 القلوب، واستوحش الناس منه، ولم يعد يحضر من الكرك كتاب ولا توقيع بخطّ موقَّع، إنما يرد ذلك بخط نصراني يُعرف بالرضي، وإذا توجّه أحد إلى الكرك لا يرى وجه السلطان، وإنما الذي يدبّر الأمور واحدٌ من أهل الكرك يعرف بابن البصّارة، فماج الناس لأجل ذلك في الشام ومصر، وجهّز المصريون إليه الأمير سيف ملكتمر الحجازي ليرى وجه السلطان، فلما بلغه وصوله جعله مقيماً بالصافية أياماً، ولم يستحضره ولا اجتمع به، فرُدّ على حاله إلى مصر، فأجمع المصريون رأيهم على خلعه وإقامة أخيه إسماعيل مكانه، فخلعوه، وحلفوا للصالح إسماعيل، وحضر الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي للبشارة إلى دمشق، وحلّف عساكر الشام، وكان يوم خلعه يوم الخميس ثاني عشر شهر الله المحرَّم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وكان مدّة ملكه بالقاهرة والكرك دون الأربعة أشهر. ولما استقرّت الأحوال وثبت ملك الصالح أمر بتجهيز العساكر من مصر والشام لحصار الكرك، فتوجّه الناس، وكلما حضرت فرقة توجّهت فرقة من مضر والشام، فيُجرح من هؤلاء ومن هؤلاء ويقتل منهم جماعة، وهلك الناس أجمعون بسببه من التجاريد، وسُخّر الناس لحمل الأتيان والشعير والمؤن للعساكر، وجرّ المجانيق والأثقال والسلاح وآلات الحصار من الدبّابات وغيرها، وطال الأمر ولم يبق أمير في مصر والشام حتى تجرّد إليه مرة ومرتين. قال لي الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا رحمه الله تعالى الذي خصني على الناصر في كلفة قدومه من التقدمة له ومن النفقة على التجاريد والتوجّه إليه ألف ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وأربع مئة ألف، وأمسك بسببه جماعة من أمراء مصر، ثم أمسك نائب مصر السلاري، ووُسِّط الأمير سيف الدين بكا الخضري ومعه جماعة من المماليك السّلطانية، وأمسك أخوه رمضان وأخوه يوسف، وقضى الله أمره فيهما، وأخذ أمرُ الناصر أحمد في التلاشي، وهلك مَنْ عنده من الجوع، وذبح تلك الخيول الثمينة والأبقار والأغنام وقدّدها، وضرب الذهب دنانير وخلط فيها الفضة والنحاس، وكان يباع الدينار بخمسة دراهم، وهرب الناس من عنده. ثم إن الأمير هام الدين سنجر الجاولي جدّ في حِصاره لأنه وقف يوماً من القلعة وسبّه ولعنه وشيخه، فقال له: الساعة أفرّجك كيف يكون الحصار، ونقل المنجنيق إلى مكان يعرفه، ورمى القلعة فوصل الحُجر إليها وأنكى فيها وخرّب السور، وطلع الناس إليها وأمسكوه في يوم الاثنين ثاني عشر صفر سنة خمس وأربعين وشبع مئة وجزّوا رأسه، وجهّزوه مع الأمير سيف الدين منجك إلى القاهرة. وقلت أنا فيه: أعوذ بالله مما راح يعكسه ال ... باري تعالى وما يُجري به الفلكا كأحمد الناصر بن الناصر انعكست ... سعوده عنه حتى راح ما ملكا فما تمتع بالملك المعظم في ... مصر وزال وما أبقى له الكركا أحمد بن محمد بن عثمان القاضي صفيّ الدين بن قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحَنَفي، وسيأتي ذِكر والده في المحمدين إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 كان هذا القاضي صفيّ الدين شكِلاً ضخماً مفرطاً يخطئ العاقل إذا جاء في الاستفهام عنه ب مَنْ، له نوادر مُضحكة ما قَرِحَ بمثلها جُحا، ومتى سُمعتْ كان الثاني على الأول مرجَّحاً، أعجوبة من الأعاجيب، وأحدوثة لم يُسمع بمثلها إلا وظنّ أنها من الأكاذيب، يتداول الناس أخبارها، ويتشوَّفون إلى أن يَسمعوا علماءَها بذلك وأحْبارها، إلا أنه كان يَنطوي على ديانة، ويجعل الخوف من ربّه عِيانه. ولم يزل على حاله إلى أن حلّت به الدُّرخمين، وصدق في عدمه الحَدْس والتخمين. وتوفي رحمه الله تعالى في نهار السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة. كان مدرّساً بالمدرسة الصادرية بباب البريد بدمشق، وبيده، على غالب ظنّي، إمامة الظاهرية داخل دمشق الحنفية. طلبة السلطان إلى مصر وولاّه التدريس فقال والده: هذا ابني ما يصلح، فقال السلطان: لهذا الملاك أنا أولّيه، وألبسه تشريفاً، وأعاده إلى دمشق. وله غرائب تُحكى عنه؛ منها: انه تأذّى من بغلةٍ كانت عنده يركبها، فقال للغلام: لا تعلّق عليها شيئاً هذه الثلاثة أيام، فجاء إليه وقال: هذه البغلة إذا لم تأكل عليقها تحمَرُ، فقال له: علّق عليها ولا تقل إنك قلت شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ولامه بعض الناس في كبرها وأن يستبدل بها، فقال: لا والله هذه أشمّ فيها روائح الوالد، يعني أنها من خَيْله. ومناه أنه كان في يوم طينٍ راكب البغلة وهو مارّ في الطريق، فرأى قاضي القضاة نجم الدين بن صَصْرى متوجّهاً إلى الجامع الأموي ماشياً، فرجع بين يديه بالبغلة يحجُبه وهو يقول له: يا مولانا ارجع حسبنا الله، فيقول: الله الله يا مولانا قاضي القضاة، ولم يزل حتى وقع حافر البغلة في طين وفَقَس عليه، فطلع من ذلك ما جعل ثياب قاضي القضاة شهرة، فقال له: ارجع يا مولانا فقد حصل المقصود. ومنها أن والده أحضر له شيخاً يقرئه النحو، فلازمه مُدّة، فأراد والده امتحانه يوماً، فقال له: " قنديل " اسم أو فعل أو حرف؟ فقال: فعل، فقال: لمَ قلت إنه فعل؟ قال: لأنه يحسن دخول قد عليه. فقال له: كيف يكون ذلك؟ فقال: لأنك تقول قِد قنديل يعني بكسر القاف مِنْ قِد يُريد فعل أمر من الوقيد. ومنها أنه أراد أن يُشغّله في الحساب، فأحضر إليه من يقرئه ذلك فقال له الشيخ: أحد في أحد أحد، فقال هو: لا نُسلّم، أحدٌ في أحد اثنين. فقال الشيخ: يا سيّدي أحد مرّة واحدة، فقال: نعم، ظهر، فقال الشيخ: اثنان في أحد اثنان، فقال: نُسلّم. اثنان في أحد ثلاثة، فقال الشيخ: لا نسلم، أحد في ثلاثة أربعة، فقال الشيخ: يا سيّدي المراد أحد ثلاث مرّات، فقال: نعم ظهر، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يزل الشيخ إلى أن قال: اثنان في اثنين أربعة، فقال: هذا مسلَّمٌ، فقال له الشيخ: اثنان في ثلاثة سنة، فقال: لا نُسلّم، اثنان في ثلاثة خمسة، فقال الشيخ: يا سيدي المراد اثنان ثلاث مرات، فقال: نعم ظهر، فقال الشيخ: اثنان في أربعة ثمانية، فقال: لا نسلّم، اثنان في أربعة ستة، فنفر الشيخ وقال: إنْ سلّمت وإلا، الله لا يُقدّر لم تسلّم، ومضى وتركه. ومناه أنه دخل يوماً إلى المدرسة الصادرية، فرأى الشيخ نجم الدين القحفازي خارجاً من بيت الطهارة، فقال له: يا مولانا آنستم محلّكم، فقال الشيخ نجم الدين: قبحك الله. ومنها أنه شكا لطبيب يوماً سمنه، وما يجده من البلغم، فقال له: يا مولانا تعانَ الرياضة كل يوم بُكرةً إما أن تعالج بشيء ثقيل، فقال: ما أقدر فقال: خذ قوس كُبّاد ومُدّه كل يوم بكرة عشرين ثلاثين مرّة، فقال: هذه نعم، ومضى إلى القوّاسين وطلب قوس كبّاد، فأحضر إليه ذلك، فذاقه بلسانه وردّه، وقال: هذا ما هو الغرض، قيل له: لأي شيء، قال: ما هو حامض مثل الكبّاد. وحكاياته كثيرة، وهذا القَدْر منها كافٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 أحمد بن محمد بن أحمد بن سليمان الواسطي الأصل الأُشْمُومي المولد والدار، الشيخ الإمام الفقيه جمال الدين أبو العباس المعروف بالوَجيزي لحفظه كتاب الوجيز واعتنائه به. كان من الفقهاء القدماء والأئمة الذين هم للعلم في الليل والنهار من الندماء. تولّى قليوب والجيزية، ثم ضعُف عن الحركة لبرد الحرارة الغريزية، فلزم بيته حتى فَنيَ ذبولاً، ولقي من الله تعالى قُبولاً. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر رجب الفرد سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكان يَذكُر أنه أسنّ من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بسنةٍ أو سنتين، ودفن بالقرافة. أحمد بن عباس بن جَعْوان الشيخ الإمام الزاهد الورع شهاب الدين بن كمال الدين الأنصاري الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً متقشّفاً منقطعاً عن الناس، سمع الكثير بإفادة أخيه شمس الدين وحدّث ب جزء ابن عرفة عن ابن عبد الدائم، وكان يكتب في الفتوى، ويُعتمد عليه في نقل المذهب. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة بالمدرسة الناصرية، ودفن برّا الباب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أحمد بن محمد بن قطّينة الشيخ الجليل العَدْل شهاب الدين الزَّرعي التاجر. كان تاجراً مشهوراً بدمشق، ذا أموال ومتاجر وسعادة وبضائع في كل صنف. ذكر أنه في سنة قازان بلغت زكاة ماله خمسة وعشرين ألفاً، والله أعلم يما تجدّد له بعد ذلك. توفي رحمه الله تعالى في بستانه المعروف بالمدفع في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان في شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبع مئة قد أُمسك هو وعبد الكريم الحريري لمرافعة وقعت في حقهما وأنهما يكاتبان قراسنقر، وأن لهما تجارة في السلاح إلى البلاد الشرقية، ثم ظهر كذبُ المرافع، فقطع لسانه وعُزّرَ، ثم ضرب ضرباً كثيراً ومات وأُفرج عنهما. وفي سابع عشري ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة خُلع على الصاحب عزّ الدين بن القلانسي باستمراره على نظر الخاص، وعلى الصاحب شمس الدين غبريال بتولية الأوقاف المنصورية، وعلى شهاب الدين بن قطّينة بوكالة الخواص السلطانية. أحمد بن محمد بن محمد بن علي ابن محمد بن سليم الصدر الرئيس الفاضل شهاب الدين بن قُطب الدين بن الصاحب تاج الدين بن فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنّا الشافعي العَدْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 كان فاضلاً رئيساً كبير الهِمّة نفيساً، مليح المحيّا من بيتٍ يتضوّع في السيادة ريّاً، حسن العبارة جميل الشارة لطيف الإشارة. لم يزل إلى أن حنّ الموتُ إلى ابن حنّا، وجعل جَسده في البلى شنّاً. وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ودفن عند أهله بالقرافة، وكان في عُشر الأربعين. أحمد بن محمد بن إسماعيل الإربلي الشيخ شهاب الدين المعروف بالتعجيزي، لأنه كان يحفظ التعجيز، وحفظ شيئاً من الحديث وعلومه، ومعه خطوط الأشياخ بذلك. كان نوعاً غريباً وشخصاً عجيباً، وعقله أعجبُ من كل عجب، وشعره كما قيل في المثل: " ترى العجَبَ في رجَب "، ألفاظ لا يقدر الفاضل الذكيّ على أن يأتي لها بنظير، ولا يتكلّف البارع النحرير على أن يجيء بمثلها إلاّ إن كان في باشة وزنجير، شعرٌ في غير الوزن، وألفاظٌ ما تحدّث بها أهل سَهلٍ ولا حَزن، فإذا أنصف العاقل وفكّر فيه جدّ الفكرة علم أن هذا في الوجود فذّ، وهو مما ندر وجوده في العالم وشذّ، وهذا لو لم يكن طباعاً منه بلا تكلّف وسجيّة يوردها على رسله من غير تخلّف، لقدر الفضلاء على محاكاته وتكلّفوا المشابهة له في بعض حركاته، هذا مع صورة جَلّ مَنْ خلقَها، ولحيةٍ ما ظلم مَنْ أخذ الموسى وحلقها، رأيتُه مرات عديدة، ولقيته في مظاهر جديدة، فما كنت أقضي العجب من كلامه، وأتطفّل على سلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ولم يزل على حاله إلى أن مرض مرضاً طويلاً وبقي مدة يُرى عليلاً، وهو مع ذلك يتحامل وينعكس ويتخامل، فأصبح وما أمسى، وبطل من كلامه ما كان جَهْراً وهَمْساً. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عُشريْ شعبان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. أنشدني من لفظه الشيخ الإمام العالم العلاّمة صلاح الدين العلائي قال: أنشدنا التعجيزي لنفسه: سُنّ يا شيعَ إني بينكم وسطٌ ... مذبذبٌ لا إلى هَوُلا ولا ثَمَةِ وفي القيامة في الأعراف منقعدٌ ... وانتظرْ منكم مَنْ يدخل الجنةِ فإنْ دخلتم فإني داخل معكم ... وإن صُفعتم فإني قاعد سَكِتِ ومعنى هذه الأبيات أنه قال: يا أهل السنّة ويا شيعة أنا في أمري بينكم متوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وفي القيامة أكون على الأعراف قاعداً، فمن دخل الجنة دخلتُ معه، ومن صُفع منكم كنت في مكاني قاعداً ساكتاً. فأنت ترى هذه الألفاظ كيف أخذها وبتَر تراكيبها وغيّر أبنيتها وجعلها من المهملات التي لا معنى تحتها " ويخلق ما لا تعلمون " النحل:16 8. وكان يحب شخصاً فعمل فيه أبياتاً وأوقف عليا الشيخ نجم الدين القحفازي، وأول الأبيات: أيها المعرضُ لا عَنْ سببا ... أصلحكَ الله وصالي الأربا فكتب له الشيخ نجم الدين، ونقلت ذلك من خطّه: يا شهاباً أهدى إليّ قريضاً ... خالياً من تعسُّف الألغاز جاءني مؤذِناً برقّة طبعٍ ... حين رشحته بباب المجاز إن تكن رُمتَ عنه منّي جزاءً ... فأقلْني فلست ممن يجازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد شهاب الدين ابن الشيخ الإمام أبي عمرو بن سيد الناس، أخو شيخنا الحافظ فتح الدين. توفي رحمه الله تعالى بالمنكوتمريّة بالقاهرة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن عند والده بالقرافة. ومولده منتصف شعبان سنة ثمانين وست مئة. أحمد بن محمد بن إبراهيم بن علي الرقي الشافعي الفقيه محيي الدين ابن الشيخ شمس الدين. كان شابّاً فاضلاً، حفظ عدة كتب، وكتب جيّداً ونظم الشعر، وجلس بين الشهود ولم يُكمِل ثلاثين سنة. وتوفي رحمه الله تعالى بالعذراويّة في رابع عشر شهر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. أحمد بن محمدالزقاق بن أحمد بن محمود بن الزقاق المقرئ القاضي بدر الدين بن الجوخي العارض بديوان الجيش، مسند الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أحمد بن محمد بن يوسف ابن محمد بن عبد الله الإمام شهاب الدين بن ناصر الدين ابن الإمام المحدّث مجد الدين بن المهتار الدمشقي. سمع من شمس الدين بن أبي عمرو، وفخر الدين بن البخاري، وابن الزين، وابن الواسطي، ومن جماعة. وكان يكتب كتابة حسنة، وجوّد عليه الخطّ جماعة، وكان يشهد تحت الساعات، ويؤمّ بالمجاهدية المجاورة لباب الفراديس، ويحضر دار الحديث مع الجماعة، وعنده وسكون ومداراة واحتمال. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر المحرّم سخن خمس وثلاثين وسبع مئة، وبلغ من العمر سبعين سنة. أحمد بن مسلم بن أحمد ابن بعيثان البصروي، الشيخ الإمام الفقيه العدل شهاب الدين أبو العباس الحنفي. كان موصوفاً بالعدالة والفضل الذي ما انثنى عن ربوعه ولا بداله، حجّ مرات وفاز بالخيرات والمبرّات، وكل يواظب على الشهادة، وله إلى القضاة بالتردّد عادَهْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ودرّس بالدماغية في وقت، وحصَل له بها المِقَة لا المقت، وكان كثير الاشتغال والمطالعة والمبادرة إلى الأجوية والمسارعة. ولم يزل على حاله إلى أن حان حَينه، وآن أن يكون تحت الأرض أيْنُه. وتوفي رحمه الله تعالى سادس عشري ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده بالكفر من أعمال بُصرى سنة أربع وأربعين وست مئة. وحدّث عن القاضي شمس الدين بن عطا بأحاديث من المسند والغيلانيات. قرأ عليه شيخنا البِرزالي في طريق الحجاز لابنه محمد بالزرقاء، وبوادي القُرى. أحمد بن محمود الإمام الأديب، الكاتب البليغ، الناظم الناثر كمال الدين أبو العباس بن أبي الفتح الشيباني الدمشقي، المعروف بابن العطار. أجاز له ابن رُوزبة، وسمع من ابن المقيّر، وأبي نصر بن الشيرازي، والسَّخاوي، وخُرِّجَت له مشيخة، وسمعها الشيخ شمس الدين الذهبي، وحدّث ب، صحيح البخاري بالكرك بالإجازة سنة سبع مئة. وكان ديّناً وقوراً، عارفاً بفنّ الترسُّل خبيراً، هو والقاضي محيي الدين بن فضل الله يكتبان الأسرار ويحفظانها من استراق الشياطين الأشرار، يقرأان البريد، ويُدبّران الأمر في دمشق بالرأي السديد. ولم يزل كذلك إلى أن تفرّد القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 محيي الدين بصحابة ديوان الإنشاء، وهو كبير الديوان يجلس فيه كأنّه كِسرى في الإيوان، وخطّه يُزري بالحدائق، والمطالعة تروح إلى باب السلطان بخطه كالريحان فوق الشقائق، وكان قد أتقن كتابة المطالعة، وعرف البداءة في ذاك والمراجعة، وكتب النسخ من أحسن ما يُرى، وأبرز سطوره كأنما قد رصّعه جوهراً. له ردّ على المعاني المبتدعة لابن الأثير، وله رسالة سمّاها رصف الفريد في وصف البريد، نظماً ونثراً. ولم يزل على حاله إلى أن ورد النقض على كماله، ورُدّ بدره إلى أسرار هلاله. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده سنة ست وعشرين وست مئة. وكانت وفاته في ذي القعدة ثالث عشري الشهر المذكور من السنة المذكورة. ومن شعره: ولما بدا مُرخى الذوائب وانثنى ... ضحوك الثنايا مسبل الصدغ في الخدّ بدا البدر في الظلماء والغصن في النَّقا ... وزهر الربا في الروض والآس في الوردِ أنشده يوماً القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر: لا تنكرنّ على الأقلام إنْ قصُرتْ ... لها مساعٍ إذا أبصرتَها وخُطَا فعارض الطَّرْس في خد الطروس بدا ... من أبيض الرمل شيبٌ منه قدْ وخطا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فقال كمال الدين بن العطّار: أقلام فضلك ما شابتْ ولا قصُرتْ ... لها مساعٍ إذا أنصفتها وخُطا بل عارض الطَّرْس لما شاب عنبره ... بعشبه قيل شيبٌ فيه قدّ وخَطا وكتب هو إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: سقى وحيّا الله طيفاً أتى ... فقمت إجلالاً وقبّلتُه لشدّة الشوق الذي بيننا ... قد زارني حقاً وقدْ زرتُهُ فكتب الجواب عن ذلك: في النوم واليقظة لي راتبٌ ... عليك في الحالين قرّرْتُه تفضّل المولى إذا زاره ... طيفي خيالي منه أنْ زُرتُه أحمد بن محمود بن عبد السيد القاضي نظام الدين بن الإمام العلاّمة الشيخ جمال الدين الحَصيري الحنفي. كان يدرّس بالنورية إلى حين وفاته. قال شيخنا علم الدين البِرزالي: لا أعرف له رواية. وتاب مدة في الحكم بدمشق، وكان يكتب في الفتاوى، وله ذهنٌ جيّد وعبارةٌ طَلْقة. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر المحرّم سنة ثمان وتسعين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أحمد بن محمد بن مري الشيخ الإمام الفاضل شهاب الدين البعلبكي. كان في مبدأ حاله منحرفاً عن الشيخ تقي الدين بن تيمية، وممن يحطّ عليه، فلم يزل من أصحابه إلى أن اجتمع به فمال إليه، وأحبّه ولازمه وترك كل ما هو فيه، وتلمذ له ولازمه مدة، وتوجّه إلى الديار المصرية، واجتمع بالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، فأذن له في الجلوس والكلام على الناس بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي، لأن الأمير بدر الدين كان الناظر في أمر الجامع المذكور، فجلس وتكلم مدة، إلى أن تكلم في مسألة الاستغاثة والوسيلة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنعه قاضي القضاة المالكي من الجلوس في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ثم إنه أُحضر بيد يديّ السلطان، وأُحضر بعد ذلك عند النائب في خامس شهر ربيع الآخر وحبسه القاضي المالكي، ثم غلَّظ عليه، وقيّده، ثم إنه ضربه نحو خمسين سَوطاً في تاسع عشري جمادى الأولى، وتسلّمه والي القاهرة وأقام عنده يومين، وسفّره هو وأهله إلى بلد الخليل عليه السلام، ثم إنه حضر وحده إلى دمشق في شهر رمضان من السنة المذكورة. وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة قد أثنى عليه هو والأمير بدر الدين جنكلي وغيره من الأمراء قدّام السلطان. أحمد بن مسعود بن أحمد ابن ممدود بن برشق، شهاب الدين أبو العباس الضرير السنهوري - بالسين المهملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 والنون والهاء والواو والراء، على وزن منصور - المعروف بالمادح، لأنه كان يكثر من أمداح سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اجتمعت به غير مرة عند الصاحب أمين الدين في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالديار المصرية، وكان قد أضرّت عيناه، وجعلت قلبه الذكي ميناه، حفَظة لُفَظة، يتأثّر بكلامه كلّ من وعظَه، له قدرة زائدة على النظم، والنفَس الذي يذوب له اللحم، وينخر العظم من الالتزام الذي يأتي به، ويبدع في أسلوبه، فينظم قصيدة في كل بيت منها حروف المعجم، أو في كل بيت في كل كلمة منه ضاد أو حرف ظاء، أو غير ذلك من الحروف التي ما لها في دور الكلام اعتضاد. ولم يزل على حاله إلى أن سكن جلده التراب، وفارق من يعزّ عليه من الأتراب. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. أنشدني من لفظه لنفسه: إن أنكرتْ مقلتاكَ سفكَ دمي ... فوردُ خدّيك لي به تشهدْ يُجرّحه ناظري ويشهد لي ... أليس ظلماً تجريحي الشاهدْ أطاعك الخافقان تِهْ بهما ... قلبي المعنّى وقُرطك المائد قلت: هو من قول ابن سناء الملك: ملكتِ الخافقين فتُهتِ عُجباً ... وليس هما سوى قلبي وقرطك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وأنشدني له: يا من له عندنا أيادٍ ... تعجز عن وصفها الأيادي فيك رجاءٌ وفيك يأسٌ ... كالحرّ والبرد في الزِّناد أحمد بن المسلم بن محمد ابن المسلّم، الأجلّ عز الدين ابن الشيخ شمس الدين بن علاّن القيسي الدمشقي. سمع من أبي نصر بن الشيرازي، وشيخ الشيوخ ابن حَمّوُيَه والسخاوي، وإبراهيم الخشوعي، ولم يُرَ له سماع من ابن اللتي، ولا من ابن الزبيدي. وحفظ كتاب التنبيه، وخدم في الجهات السلطانية، وولّي نظر بعلبك مرات. ولم يزل على حاله إلى أن هبط ابن علاّن إلى حضيض قبره، ولحق بمن يعامله بلطفه وجَبره. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وعشرين وست مئة. أحمد بن مظفر بن مزهر القاضي فخر الدين النابلسي، الكاتب المشهور أخو الصاحب شرف الدين بن مُزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 رُتب أول الدولة المظفر قُطر مقابل الاستيفاء بدمشق، ولما ولي الأمير علاء الدين طَيبُرس النيابة في أول الدولة الظاهرية عزله وجعله ناظر بَعْلبك. قال ابن الصُّقاعي: فحصل له من جهة الأمير ناصر الدين بن التبنيني النائب بها صداع وإخراق لأمر تعرّض إليه بسبب الحريم، وأرسله مُقرَّما إلى النائب بدمشق، وكان طَيبُرس يكره بني مزهر من أجل نجم الدين أخيه لملازمة علاء الدين البندقدار، وكان طيبرس راكباً فلما أقبل من الركوب ورآه أمر برمْيه في البركة وأن يدوسه المماليك بأرجلهم وأن يحمل عشرة آلاف درهم، ثم إنه عاد بعد ذلك إلى مقابلة الاستيفاء ورتّبه الأفرم صاحب الديوان بدمشق. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن مزهر وقد ذوى، وأمسى فخره المُشمخر وقد هوى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة. أحمد بن مظفر بن أبي محمد ابن مظفّر بن بدر بن الحسن، الشيخ الإمام الحافظ الثبت المسند الحجة شهاب الدين أبو العباس النابلسي الأشعري. كان ثبتاً، حافظاً متقناً تخاله بالدر لافظاً، متحرّياً لا متجرّياً، متحلياً بالقناعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 عن الدنيا متخلياً، لا يزاحم الناس في دنياهم، ولا يسعى مسعاهم، قد قنع من العيش بالبَرْص، وتخيّل أنه قد ملك الأرض، وكان لا يحدث إلا من أصوله، ولا يتكل إلا على محصوره في محصوله، وكان جَلْداً في أشعريته، مبالغاً في الانتصار لعقيدته، قيل: إنه لم يحدّث حنبلياً، ويرى أنه لو فعل ذلك كان بالدم مليّاً، وبه تخرّج شيخنا الحافظ الذهبي، ومنه أصبح في علْم الرواية وهو غير غبي، على أن ابن مظفر ما سلم من جَرْح الذهبي ولا طعنه، وساقه في ركب مَنْ جَرّحه وظَعَنَه، وروماه بما الله به عليم، وتحمّل من إثمه ما يثقله " يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنونَ إلاّ مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ ". ولم يزل ابن مظفّر إلى أن علقت به أظفار شُعوب، وآذن شهابه بعد الطلوع بالغروب. وتوفي في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة أربع، وقيل: سنة خمس وسبعين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى ولم يكن عنده في بيته أحد، ففُقد بعد ثلاثة أيام وأربعة، ففُتح عليه الباب ودخلوا إليه، فوجدوه ساجداً وهو ميّت. أخبرني نور الدين أبو بكر أحمد بن علي بن المقصوص الحنفي، وكان به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 خَصيصاً، قال: كان دائماً يقول: أشتهي أن أموت وأنا ساجد، فرزقه الله ذلك، وصُلّي عليه بالجامع الأموي في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول. وهو سِبط الزين خالد الأشعري، وكان قد سمع من خلْق كأبي الفضْل بن عساكر، وزينت بنت مكّي، وعبد الخالق القاضي، وسمعتُ عليه أنا وولدي محمد أبو عبد الله جزء ابن عرفة والمائة حديث انتزاع ابن عساكر من ثُلاثيات أحمد بن حنبل بقراءة مولانا قاضي القضاة تاج الدين بن نصر عبد الوهاب السبكي الشافعي، وأجازنا رواية ما يجوز له روايته. وكان منجمعاً عن الناس، مجموع ماله في الشهر ما يزيد على العشرين درهماً، رحمه الله تعالى. أحمد بن مكي قبجق الأمير شهاب الدين ابن الأمير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. كان من فرسان الخيل، ومن أبطال يزدحمون على المعارك ازدحام السيل، لم يُر على ظهر الفرس أخفّ من حركاته ولا أسرع من انتقالاته، كأنما رُكّب من زئبق، أو وُجد ليباري البرق، وهو على كل حال يفوته ويَسبق، وله أعمال عجيبة على ظهر الفرس إذا جرى وانتقالات إذا رآها المحبّ تذكّر بها قول القائل: ماذا على برق المُصلّى لو سرى وكان أعجوبة زمانه ونادرة أوانه إلى أن عمّ السكون حركاته، وجاء الأمر الذي لا نجاء من دركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة. كان شهاب الدين هذا على ما ذكر غير واحد أنه يُصفّ له ثلاثة أجمال أحمالها تبن، وأنه يقف من هذا الجانب ويثبُ في الهواء فيتعدّاها إلى ذلك الجانب الآخر، وأنه كان يسوف الفرس فإذا كان في وسط جَرْيه وثب قائماً على السرج ثم يسلّ سيفه ويضرب به في الهواء يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً، ثم يمسكه بين أصبعيه، ويأخذ القوس ويوتره على ما قيل، ويرمي به عدة سهام، وهذا لم أره بعيني، ولكنه حكاه لي غير واحد، وهذا أمرٌ خارق باهر، سيأتي ذكر أخيه ناصر الدين محمد بن مكي قبجق في المحمدين. أحمد بن منصور بن أسطوْراس بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، وضمّ الطاء المهملة، وسكون الواو، وراء بعدما ألف وسين مهملة، شهاب الدين المعروف بابن الجبّاس. اجتمعت به في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل بالديار المصرية سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وكان به صمم، وأنشدني من لفظه لنفسه: إنْ قلّ سمعي إنّ لي ... فهْماً توفّر منه قِسمُ يدني إليّ مقاصدي ... ويروقك الرَّمح الأصمّ ولربّ ذي سمع بع ... يد الفهم عييّ النطق فَدْمُ زادوا على عيب التصا ... مُم أنهم صُمٌّ وبُكمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قلت: في البيت الثالث نظر. وكان مقيماً بدمياط، وهو خفيف الحركة، جمُّ النشاط لأنه كان خطيب الورّادة، يجيء إليها كل جمعة، ويخطب بها على العادة، ثم يعود إلى دمياط. ولم يزل على حاله إلى أن صار ابن الجبّاس في الجبّان، وانتقل إلى رحمة الملك الديّان. وتوفي رحمه الله تعالى .... وسألته عن مولده فقال: في سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وأجاز لي بخطه ما يجوز لي تسميعه، وأنشدني من لفظه لنفسه يصف المور: كأنما الموز في عراجنه ... وقد بدا يانعاً على شجرهْ فروع شعرٍ برأس غانيةٍ ... عُقصن من بعد ضمّ منتشره وفي اعتدال الخريف أحسن ما ... تراه في وَردِه وفي صدره كأنّ مَنْ ضمّه وعقّصه ... أرسل شُرّابةً على أثره كأن أشجاره وقد نُشرتْ ... ظلال أوراقه على ثمره حاملةٌ طفلها على يدها ... تظلّه بالخِمار من شَعره كأنما ساقُه الصقيل وقد ... بدت عليه نقوش معتبره ساقُ عروسٍ أُميط ميزرُها ... فبان وشيُ الخضاب في حبره يصاغ من جدولٍ خِلاخلها ... فتنجلي والنشار من زهره حدائقٌ خفقت سناجقُها ... كأنها الجيش أمّ في زُمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 زُهي فَراق العيون منظره ... فما تملُّ العيونُ من نظره وكل آياته فباهرةٌ ... تَبين في وِرده وفي صدره كأنما عمره الحقير حكى ... زمان وصل الحبيب في قصره كأن عرجونه المشيب أتى ... يخبر أنْ خانه انقضى عمره كأنه البدر في الكمال وقد ... أصيب بالخُسف في سنا قمره كأنه بعد قطعه وقد اص ... فرّ لما نال من أذى حِجره متيّمٌ قد أذابه كَمدٌ ... يبيت من وَجْده على خَطَره معلّقٌ بالرجاء ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ من خَبره يطيب ريحاً ويُستلذّ جنىً ... على أذىً زاد فوق مُصطَبره كأنه الحُرّ حالَ محنته ... يزيد صبراً على أذى ضرره قلت: قد تكرر معه لفظ في وِرده وفي صدره في موضعين وهو عيب جائز، وفي بقية الأبيات لا يجوز من حيث العربية، ولكن لهذه الأبيات ديباجة لحلاوة هذه القافية. وأنشدني من لفظه لنفسه في رمّانة: كتمتْ هوىً قد لجَّ في أشجانها ... وحشَتْ حشاها من لظى نيرانها فتشقّقتْ من حبّها عن حبها ... وجداً وقد أبدى خَفا كِتمانها رُمّانةٌ ترمي لها أيدي النوى ... من بعدما رُمّا على أغصانها فاعجبْ وقد بكت الدموع عَقائقاً ... لا مِنْ محاجرها ولا أجفانها ومن نظمه أيضاً، والتزم الهاء الأولى. أفنيتُ ماء الوجه من طول ما ... أسأل مَن لا ماء في وجهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أُنهي إليه شرحَ حالي الذي ... يا ليتني متُّ ولم أُنهه فلم يُنلني كرماً رَفْدُه ... ولم أكد أسلم من جبهه الموت من دهرٍ جهابيذه ... ممتدّة الأيدي إلى بُلْهه ومن نظمه أيضاً وقد اشتهر: وقائلةٍ ما بالُ دمعك أسوداً ... وقد كان محمرّاً وأنتَ نحيلُ فقلت دمي والدمع أفناهما البكا ... وهذا سوادُ المقلتين يَسيل وأنشدني من لفظه قطعةً خمَّس بها قصيدة شيخنا العلاّمة أبي الثناء في مدح سيّدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي أولها: هذا اللقاء وما شِفيتُ غليلاً ... كيف احتيالي إن عزَمتُ رحيلا وكتب بخطّه على كتابي جنان الجناس: أتطنّ قلباً منك يوماً قد خلا ... وهواك ما بين الضلوع تخلّلا وكتابك البحر المحيط بفضل ما ... عَقَد الجمان معقداً ومفصّلا بهر العقول جِناسه فجنانه ... تُدني جَناه يانعاً ومذلَّلا روض تفتّق زهره وتكهّلا ... أفقٌ تألّق بدره فتكمّلا يهدي المعاني من مغانيها التي ... غَنيت فأغنت كلّ فهْم أمحلا إن قال غرٌّ مثله فيما مضى ... فلقد تأوّل باطلاً وتقوّلا فليهني العلياء ما تجري به ... أقلامك الغرُّ الميامنة العُلا وليهنئ القرطاس ما قلدته ... يا ابن الكرام من المآثر والحُلا كتبتْ عليه من الأفاضل سادةٌ ... مدْحاً يروق مدبَّجاً ومسلسلا ورأيتُ أني عن مداهم قاصرٌ ... فقعدتُ ثم أتيتهم متطفّلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أين الثريّا والثرى أين السهى ... ممن سها أن التداني والقلا دُم في سعودك يا خليل فلا خلا ... منك المكان ولا سلا عنكَ الملا أحمد بن مهنا بن عيسى الأمير شهاب الدين أمير آل فضل، يأتي ذكر أبيه وإخوته في مكانهم. لم يكن في أولاد الأمير حسام الدين مهنّا أدين منه، ولا أكثر رجوعاً إلى الحق فيما استفاض عنه، وهو شقيق موسى وسليمان، وكان يرجع في المعاملة إلى أمان وإيمان، ويستدين على ذمته بلا حجة ولا رهن ولا أيمان، ويفي لمن عاهده، ويعجب في أحواله من شاهده، وكان يُباري الغمائم بكرمه، ويجير الخائف في حَرَمه، حُمل إليه يوماً من أنعامه وهو في مشهد عثمان بالجامع الأموي بدمشق مبلغ سبعين ألف درهم، ففرّقها جميعها بعصىً في يده، ولم يلمس منها درهماً في منتقاه ولا منتقده. حكى لي نائبه على سَلَمية قال: لما جئنا في أيام الصالح إسماعيل إلى دمشق جاءه رجل ونصحه، وقال له: إن كتاب السلطان جاء إلى طُقُرتُمر وفيه أنه يمسك كل من حضر من أولاد مهنّا، ومتى دخلت أمسكك، قال: فقلت له: يا أحمد لا تعبر دمشق، وعُد من ههنا إلى بيوتك، فقال: ما أروح، والسلطان حبسه ثلاث ليال، والباقي بعد ذلك حبسُ الله، ولا أعصي الله، ولا أعصي السلطان، وإنْ أخذ خبزي أكلتُ من أملاكي، وإن أخذ أملاكي بعت أباعري وخيلي وأكلت منها إلى أن أموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قال لي أيضاً: وهو لا يتداوى من مرض يكون به، ولا يأكل من أحد شيئاً فيتّهمه، ولو قيل له: هذا طعام مسموم تناوله منه، وقال: " بسم الله " وأكله، ولمّا ورد في آخر أيام الصالح سنة خمس وأربعين وسبع مئة في أحد شهري جُمادى أمسكه الأمير سيف الدين طُقزتمر واعتقله بقلعة دمشق، فبقي فيها مدّة، ثم إنه نُقل إلى قلعة صَفد وأقام بها مُعتقلاً إلى أن توفي الملك الصالح إسماعيل، وتولّى أخوه الكامل، وطلب أحمد بن مهنّا إلى مصر، وأعطاه الكامل إمرة آل فضل، ولم يزل فيها إلى أن تولّى الإمرة سيف بن فضل ابن عمّه في أيام المظفّر حاجي، ولما كان في آخر أيام المظفّر أعيدت الإمرة إلى أحمد بن مهنّا، فتولاّها بعدما طُلب إلى مصر، ولم تزل الإمرة بيده إلى أن نزل به القضاء، وضاق به الفضاء. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وكان ذكر لي أن مولده سنة أربع وثمانين وست مئة. ووفاته بمنزلة كواتل، ونقل منها إلى مشهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند رحبة مالك بن طوق، ودفن هناك. أحمد بن موسى بن عيسى بن أبي الفتح أبو العباس البَطَرْني المالكي الأنصاري، شيخ القراءات والحديث بتونس. أخذ القراءات عن أبي محمد عبد الله بن عبد الأعلى الشُّبارتي صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بن عون الله، وعن أبي بكر بن مَشلْيون وطائفة. وروى عن صالح بن محمد بن وليد، ومحمد بن أحمد بن ماجه، وعلي بن محمد الكِناني. وكان صالحاً مباركاً فاضلاً مشاركاً، له صيت وسُمعة ولخشوعه تنفس ودمعه. ولم يزل على حاله إلى أن أتاه اليقين ودرج إلى المتّقين. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة، وتبرك الخلق بجنازته، وتوهموا أنهم في كنفه وحيازته. أحمد بن موسى بن محمد بن أحمد عز الدين بن قُرصة الفيّومي المولد القوصيّ الدار. تولّى نظر قوص والإسكندرية، وكان من تلاميذ الشيخ ابن عبد السلام، وكان قليل الكلام، بريئاً من الملام، لا يتكلم إلا بإعراب، ولا يأنس إلا بمن هو عامر الباطن غير خراب. أمسكه الأمير علم الدين الشُّجاعي واستحضره، فقال له: المال، قال: مبتَدأ بلا خبر، فقال له: تعال إلى هنا، قال: أخاف أن تضربني بهذه العصا التي في يدك، فتبسّم منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وله كتاب سمّاه نتف المحاضرة، وله مسائل فقهية ونحوية ولغوية وأدبية، ودرّس بالمدرسة الأفْرميّة ظاهر قوص. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح تحت جندل وصفائح، وأقام فيه إلى أن تبعثر الضرائح. وتوفي رحمه الله إحدى وسبع مئة. ومن شعره: إذا تزوج شيخ الدار غانيةً ... مليحة القدّ تزْهى ساعة النظر فقد ترافع في أحواله وأتتْ ... قاف القيادة تستقصي عن الخبر ومنه: لا تحقرنّ من الأعداء من قصُرتْ ... يداه عنك وإن كان ابن يومينِ فإن في قَرصة معتبراً ... فيها أذى الجسم والتسهيد للعين ومنه: الشيب عيبٌ ولكن عينه قُلعت ... بالشين من شدّة فيه وتعذيب والشيب شينٌ ولكنْ نونُه حذفت ... بباءٍ بُعدٍ عن اللذّات والطيب ومنه: يا من يعذّب قلبه في صورة ... سوداء مظلمةٍ مفحم النار أتعبتَ نفسك في سوادٍ مظلمٍ ... إن السواد يُضرّ بالأبصار وإذا عدلتَ عن البياض وحُسنه ... ماذا تؤمِّل في سواد القار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ومنه: نحن نسعى والسعيُ غيرُ مفيدٍ ... إنْ أراد الإلهُ منعَ المغانم وإذا ما الإله قدّر شيئاً ... جاء سعياً إلى الفتى وهو نائم قلت: شعر جيّد. أحمد بن نصر الله بن باتكين محيي الدين القاهري. سمع حرز الأماني على سديد الدين عيسى بن أبي الرحم إمام جامع الحاكم. كان شاعراً قادراً، ناظماً في فن الأدب ماهراً، كتب إلى أدباء عصره، وراجعه شعراء دهره، وكانت تدور بينهم كؤوس الأدب، لا كؤوس الجَنَب. وأنشدني من لفظه العلاّمة أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه: أقسمتُ بالله وآياته ... يمينَ برٍّ صادق لا يمينْ لو زِدْتَ قلبي فوق ذا من أذىً ... ما كنت عندي غير عيني اليمين وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: يا حفنَ مقلته سكرتَ فعربد ... كيف اشتهيتَ على فؤادي الكمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ورميتَ عن قوس الفتور فأصبحت ... غَرَضاً لأسهمكَ القلوب فسدّدِ لم تغضضِ الجفْن الكحيل تغاضياً ... إلاّ لتقتلنا بسهم مغمَدِ من لم يَبتْ بعذاب حُبّك قلبه ... متنعّماً لا فاز منك بموعدِ للصبّ أسوةُ خالٍ خدّك إنه ... متنعّمٌ في جَمره المتوقّد قلت: هذا يشبه قول عفيف الدين التلمساني: قلبي المنعّم في هواك بناره ... إنْ كان غيري في الهوى متألّم للصبّ أسوةُ خالٍ خدّك إنه ... في جمره متوقّداً متنعِّم وكتب أبو الحسين الجزار إليه مُلغزاً: وما شيءٌ له نقشٌ ونفسٌ ... ويؤكل عَظْمه ويحكّ جلده يؤدّبه الفتى إدراك سُؤْلٍ ... وقد يلقى به ما لا يؤدّه ويأخذ منه أكثره بحقٍّ ... ولكن عند آخره يردّه فكتب الجواب إليه محيي الدين المذكور: أمولاي الأديب دعاء عبد ... ودود لا يحول الدهرَ ودّه يرى محض الثناء عليك فَرضاً ... ولا يثني عِنان الشكر بُعده لقد أهديتَ لي لغزاً بديعاً ... يضلّ عن اللبيب لديه رُشده وقد أحكمتَه دُرّاً نَضيداً ... يُشنِّف مسمعي بالدُّرّ عقده فشطرُ اللغز أخماسٌ ثلاث ... للغزكَ إنْ تُردْ يوماً أحدُّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وباقيه مع التصحيف كسْبٌ ... إذا ما زدته حرفاً تعُدّه هما ضدان يقتتلان وهْناً ... ويضطجعان في فرْش تمدُّه هما جيشان من زنجٍ ورومٍ ... يُقابل كل قرنٍ منه ضدُّه تقوم الحرب فيه كل حينٍ ... ولا تَدْمى من الوقعات جُندُه ويشتدّ القتال به طويلاً ... ويحكم بالأصاغر فيه عقدُه ويقتل ملكه في كل حينٍ ... ويبعثه النشاط فيستردُّه وما يُنجي الهمامَ به حُسام ... وقد ينجي من الإتلاف بنده ونصر الله في الهَيجا سجالٌ ... فمن شاء الإله به يمدُّه وهذا كلُّه حَسْبَ اجتهادي ... وغاية فكرة الإنسان جُهْدُه ونقلت من خطِّ الحافظ اليغموري قال: أنشدني محيي الدين أبو العبّاس الكاتب المصري لنفسه: يا ناظراً في البيوت أعمى ... عن كل خيرٍ وكل برِّ أسود كالفحم فهو مأوى ... كل شرار وكل شرِّ ونفخ هذا الوزير فيه ... أحرقَ كل الورى بجمرِ ولم يزل محيي الدين المذكور على حاله إلى أن فرّق الموت بينه وبين ذويه، وتصرّف الوارث فيما كان يحتويه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة. وكان المذكور قد تناثرت أطرافه وحاق به تبذيره وإسرافه، فأصبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 لأعدائه رحمة، وأنار الحزنُ عليه كل قلب قد قسا وصار كالفحمة. وهذا محيي الدين هو الذي نظم ذينك البيتين في ابن بنت الأعز، يكتب في الكتب اسمه وحده، وقد ذكرتهما في ترجمة قاضي القضاة تاج الدين بن بنت العز. أحمد بن نعمة بن حسن البقاعي الديرمقري الدمشقي الصالحي الحجّار الخياط الرحالة المعمَّر، شهاب الدين أبو العباس المعروف بابن الشِّحْنة. خدم حجّاراً بقلعة دمشق سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وكان لما حاصرها جند هولاكو، ولم يظهر أمره للمحدّثين إلى أثناء سنة ست وسبع مئة، فسألوه، فقال: كنا سمعنا، فوجدنا سماعه في أجزاء على أبي المنجا ابن اللتي. وسمع منه جماعة جزء ابن مَخلد، ومسند عمر النجّاد، ثم ظهر اسمه في كراس أسماء السامعين بالجَبَل صحيح البخاري على ابن الزبيدي سنة ثلاثين، فحدّث بالجامع بضعاً وسبعين مرة بالبلد، وبالصالحية وبالقاهرة وبحماة وبعلبك وكفر بطنا وحمص. وطلبه الأمير سيف الدين أرغعون الناصري نائب مصر، وسمع منه. وسمع منه القاضي كريم الدين الكبير، والأمير سيف الدين رحمه الله تعالى، والقضاة والأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وروى بإجازة ابن رُوزبة وابن بهروز وابن القطيعي والأنجب الحمامي وياسمين بنت البيطار، وجعفر الهَمْداني، وخلق كثير. وكان صحيح التركيب، دمويّ اللون أزهر، له همّة، وفيه عقل، يطيل الإصغاء بلا ضجر، ويصبر كأنّ قلبه مما لازمه حَجَر. ألحق الأحفاد بالأجداد، وساوى بالسماع عليه بين الآباء والأولاد، رحل إليه الناس من الأطراف، وأخذهم بالسماع عليه الأشراف في الإسراف، وحصّل الذهب والدراهم والخلع، ورُتّب له معلوم فانجبر به وانتفع. وكان فيه دينٌ وملازمة للصلوات الخمس، ومحافظةٌ في اليوم على ما كان فيه أمس، لا يمل من الإسماع وطوله ولا ينعس، وهو مشغول بإقباله على القارئ وقبوله، ويحفظ ما يصلّي به من القرآن، وربما أخّر الصلاة في السفر على رأي العوام لاستيلاء الشيطان، وصام وهو ابن مئة عام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال عملاً بسنة الإيمان. قال الشيخ شمس الدين: حُدّثتُ أنه في هذا السنّ اغتسل بالماء البارد. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه قاطع الأعمار، والموت الذي ساوى بين أولي التجارب والأغمار، ونزل الناس بموته درجة في الرواية، وحصل للطلبة عليه من الأسف النهاية. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين خامس عشري صفر سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة نيف وعشرين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ولعله حصل له بركة رواية الحديث ما يقارب المئة ألف درهم. وسمع هو وأخوته الثلاثة في سنة ثلاثين وست مئة. وأجاز لي بخط شيخنا علم الدين البرزالي سنة ثلاثين وسع مئة، ولم أسمع منه فخُرِمتُه، وعنَّفتُ حظي لذلك ولمتُه. وقلت عند موته: عِلْم الراوية حِصنٌ للحديث وبال ... إسناد قدْ سدّ أشياخُ الورى فُرَجَهْ وكان شاد لنا الحجّارُ منزلةً ... وحين مات تزلنا بعده دَرَجَهْ ابن هبد الله بن أحمد بن عساكر بن نح بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الشيخ الجليل المسند شرف الدين أبو الفضل. كان شيخاً مسنداً. سمع من زَين الأمناء ابن عساكر، والحسين ابن صصْرى، وأبي المجد القُزويني، وعز الدين بن الأثير، ومكْرم بن الصقر، وابن صبّاح، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وفخر الدين بن الشيرجي، وأبي نصر بن الشيرازي. وأجاز له أبو رَوح اللتي، وفخر الدين بن الشيرجي، وأبي نصر بن الشيرازي. وأجاز له أبو رَوْح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 عبد المعزّ الهروي والمؤيّد الطوسي، وزينب الشَّغْرية، وقاسم بن الصفّار، وعبد الرحيم بن السمعاني، وجماعة. قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه صحيح مسلم، والزهد للبيهقي، ومسند أبي يعلى الموصلي، وموطأ أبي مصعب، ومسند السراج أربعة عشر جزءاً، ومشيخة ابن السمعاني سبعة عشر جزءاً أو أكثر من مئة وعشرين جزءاً، وسمعت عليه أكثر تفسير البغوي من قوله تعالى في سورة النساء: " لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول " إلى آخر التفسير. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. قال: وجنازته أول جنازة خرجت على العادة من دمشق. قلت: يعني أنه بعد رحيل التتار عن دمشق في أيام قبجق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أحمد بن ياسين الربّاحي قاضي القضاة المالكي بحلب شهاب الدين قاضٍ فاضَ جوده وما غاض، وغاظ النفوس بشره لمّا استراب وما استراض. أقدم على تفسيق العدول. ولك يكن له عن ذلك خروج ولا عُدول، ثم تجرّأ بعد الإسقاط، إلى الضرب بالسياط، وحكم بفسق رفاقه الحكام، وعدل عن العَدْل إلى التعدّي في الأحكام، وكفَّر جماعة، ووفّر على الشرّ ومدّ باعه، فضاقت به أرجاء حلب، ولم يلق الناس به زبدةً لما مخضَ مَحْضَ ما حلب، فعُزل عن القضاء، وانتصف الناس منه بالقدَر والقضاء، ثم إنه توجّه إلى مصر، وسعى فأعيد قاضياً مرة ثانية، وعاد إلى ما كان من الإكباب على جمع حطام هذه الدنيا الفائتة الفانية، ولم يرجع عن عادةٍ ألفها، ومادّة استمد منها وعَرَفها، ففسّق وكفّر، وفرّق شمْل العَدْل ونفّر، إلى أن استفتى نائب السلطنة بحلب عليه، ووجّه وجه اللوم والذم إليه، وجهّز الفتاوي بذلك إلى دمشق، وتوجّهت سنّة الطعن عليه والمشَقْ، فحكم بخطابه الواضح، وتبيّن أنه من أهل الفضائح، في القبائل والقبائح، هذا مع ضيق عطن وعَيْن، وملاءة من الشين وبراءة من الدين، ولثغة قبيحة إذا بدّل راء الورد بالغَيْن، وما كان أحقه بقول سلامة الزرّاد السنجاري: ضاق بحفظ العلوم ذَرْعاً ... ضيقة كفَيْه بالأيادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 قاضٍ ولكن على المعالي ... والدين والعقل والسَّداد يعدل في حكمه ولكن ... إلى الرُشا أو عن الرشاد فعُزل مرة ثانية، وتوجّه إلى القاهرة، وأقام يسعى بالعين إلى أن أصبح بالساهرة، فأكلت الأرض منه خبثاً، ورأى بالموت أن جدّه كان عبثاً. وتوفي رحمه الله تعالى وعفى عنه في شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة، توفي هو وولداه في يوم واحد في طاعون مصر. كان في أول أمره تاجراً بسوق الرمّاحين في دمشق، ثم إنه سعى في قضاء حلب، وأظنه أول مَنْ وليها من القضاة المالكية، فأساء السيرة، وظهر أنه خبيث السريرة، ففسّق العدول وأسقطهم، وضرب بعضهم بالسياط وحكم بفسق رفاقه الحكام، وحضرتْ كُتبهم إلى شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وحضَر كتاب النائب بحلب إلى الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام، فقال قاضي القضاة للنائب: الرأي أن تجهّز واحداً له دُرْبة يتوجه إلى حلب ويُصلح بينهم، وعيّنني قاضي القضاة لذلك، ثم لم يتم ذلك، وبطّله مَنْ بطّله، فكتب النائب إلى حلب بمطالعة السلطان، فكتب، فورد المرسوم بعزله، وتولى القاضي زين الدين أبو حفص بها إلى أن مات. ثم إنّ الرباحي سعى في العَود إلى حلب فأعيد، ولم يرجع عن غيّه، وأقام في قضية الدنَيْسري وكفّره، وهمّ بقتله، وحضرت الفتاوي عليه إلى الأمير سيف الدين بَيْدَمُر الخوارزمي نائب دمشق من الأمير شهاب الدين القشتمري نائب حلب، فأحضر القضاة إلى دار العدل بدمشق، ووقفوا على ما كتب في حقّه فوجوده مُبْطلاً، وكتبوا إليه بالإنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 عليه، وتوجه غرماؤه إلى مصر، فسعى، ولم ينجح مسعاه إلى أن طُعن هو وولداه وماتوا في يوم واحد، عفى الله عنه وسامحه. ولقد كنا يوماً في دار العدل بحلب في أوائل قودم الأمير بكتمر المومني، فقال النائب يوماً كلاماً فيه بعضُ إنكار على القضاة، فخرج هو دون رفاقه، وقال لنفرة وزعارَة: أيش بالقضاة يا أمير؟ فنفر فيه النائب، وقال له: ما تتكلم بأدب!؟ ووضع يده على السيف، وتوعّد، فشغلتُه أنا بقراءة القصص عليه، فاشتغل بذلك لحظة، وقال لنقيب النقباء: ناد في الناس، مَن له على هذا القاضي شكوى، بحضر. فحضر في الوقت الحاضر ثلاثة عشر نفراً، وشكوا عليه، فقال له: يا قاضي، مّن يكون هذه سيرته ما يكون هذا نَفَسه. ثم عقد له ولهم مجلساً، ووزّنه لهم مبلغ أربعة عشر ألف درهم. ولما زاد شرّه في المرة الأولى بحلب، صنع فيه القاضي زين الدين عمر بن الوردي رسالة، سمّاها الحُرقة للخْرِقة، ووصّى ابنه، قال: إن رجع القاضي عن فعله، اكتمها، واستمر، فأظهرها. فلم يرجع عن غيّه، فأظهرها. وهي نظم ونثر، أبدع فيها، وأتى فيها بكل معنى بديع. منها قوله رحمه الله تعالى: حاكمٌ يصدُر منه ... خلْفَ كل الناس حَفْرُ يتمنّى كُفْرَ شخص ... والرضا بالكفر كُفْرُ وقوله: امتلأت من ذهب أكياسه ... وقلبه ممتلئٌ من دَغَلْ ما هو إلا حيّةٌ بَزْقُها ... بالسمّ، هذا المغربي الزَّغَلْ وقوله: قاض عن الناش غير راضٍ ... مباهتٌ غالظٌ مخالط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 يكذب عن مالك كثيراً ... ويُسقط الناس وهو ساقط وقوله: تلِفَت مكاتيب الأنام بفعله ... وأبان عن عكس وكَثرة مَخْرَقهْ ورمى الأكابر والأصاغر كاذباً ... بالكفر أو بالفسق أو الزندقه وقوله: لا واخذ الرحمنُ مصراً ولا ... أزال عنها حُسنَ ديباجه ولّوا علينا قاضياً ثالثاً ... ما كان للناس به حاجه وقوله: كثير الجنون مسيء الظنون ... عدوّ الفنون لظىً محرقُ فيصبغُ أصبغ من بهته ... وأشهبُ في عينه أبلق وقوله: إن الرياحيْ على جَهْله ... وجَوْره في حلب يحكُم إنْ لم يكن في حلب مُسْلم ... فمصر ما كان بها مسلم وقوله: يحبّ مِنْ كل علم ... السين والقاف والطا حاشى الرسالة منه ... ما خُلقُه بالمَوطّا وقوله: بالله يا أولياء مصر ... خذوه من عندنا بستر متى رأيتم وهل سمعتم ... بأنّ قاضي القضاة جَمْري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وقوله: يحبس في الردّة مَن ... شاء بغير شاهد لا كان من قاض حكى ... الفقاع حَدّ بارد وقوله: في حلب قاضٍ على مالك ... قد اجترا ما فيه توفيق ومن تلكّا معه قال نعم ... قد قيل لي إنك زنديق وقوله: قاضٍ من السوق أتى ... معتادُ بيع الأكسيهْ ذا الموصّى يا مايعي ... كيف يعي للأقضيه وقوله: يا ساكني مصر ما عهدنا ... منكم سوى رحمة وأُلفه فكيف ولّيتم علينا ... من لا تصح الصلاة خلفه وقوله: الألثغ الطاغي تولّى القضا ... عدمت هذا الألثغ الطاغي إن سبّح الباري حكى سبّه ... فقال: سبحانك يا باغي وقوله: ولّيتم جاهلاً جريئاً ... ألثغ بالمسلمين ضار مقلقلاً من بني رُبَاح ... نحن له من بني خُسار وقوله: كم أسقط شاهداً وعدْلاً ضابِطْ ... فالعالم كلهم عليه ساخط من كثرة ما يُسقط خافت حلب ... أن يكتب ظاء حظها بالساقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أحمد بن يحيى السُّهْرَوَرْدي الكاتب المشهور ببغداد، حفظ القرآن، وتفقّه للشافعي، وقرأ العربية، ونظر في اللغة والمعقول، وحفظ المقامات الحريرية. وسمع من رشيد الدين أبي عبد الله المعرّي، وأبي البركات بن الطبّال. وأجاز له جماعة. وكان علماً مشهوراً في الكتابة وعِلم الموسيقا، فكتب على الشيخ زكي الدين عبد الله، وفاق شيخه في الكتابة. وأخذ علم الموسيقا عن الشيخ صفي الدين عبد المؤمن، وأجمع جماعة من أرباب هذا الفن أنه ما أتى بعده مثله. وكان الشيخ شمس الدين المذكور حسن الأخلاق، كريم النفس في حالتي الغنى والإملاق، كثير الحيا، غزير الحُبَا. شريف النفس كثير الاتضاع، ذا مروءة يخاف مدى الدهر ألاّ تُضاع، كثير البشاشة سديد المقال، شديد الحرص على الأشغال والاشتغال، صاحب رأي وعزم، ونأيٍ عن الدناءة وحَزْم، بليغاً فصيحاً، مليَّ المحيّا بالقبول مليحاً، لطيفاً في حركاته وسكناته، كثير الرحمة لا يزعج الطير في وَكُناته، إماماً في الكتابة، رأساً لهذه العصابة. كتب المصاحف في القطع الكبير والصغير، وأتى بها كأنها قطع الروض النضير. رأيت منها أنا جملة وافية، ودلّتني على محاسنها العينُ الصافية، فشاهدت منها ما يودّ فم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الثريا لو كان له لاثماً، وشهد عندي أن كاتبه يكون فوق الكواكب جاثماً، لا يُطلَق اسم الكاتب إلا عليه إجماعاً نصاً، ولا يرضى أن يكون ياقوت في خاتمه فَصّاً، فقد زعم كثير أنه كتب أحسن من ياقوت، وأنه لو كان في زمانه لعذُر عليه القوت. وقالوا إنه كتب بخطه ثمانية وسبعين مصحفاً وخَمْس ربعات، كل ربعة وَقْر بعير. وكتب بخطه أيضاً إحياء العلوم للغزالي، كتب كتاب المصابيح ثلاث نسخ، وعوارف المعارف لجد أبيه ثلاث نسخ، ومشارق الأنوار للصغاني ثلاث نسخ، كتاب الشفا لابن سينا في مجلد، والمقامات ثلاث نسخ، ومفصل الزمخشري نسختين، ونهج البلاغة أربع نسخ، وكتب من الأحاديث والأدعية والدواوين والدروج شيئاً كثيراً. وكتب عليه جماعة، منهم القان أبو سعيد، والسلطان أتابك والوزير غياث الدين بن الرشيد، ونظام الدين بن يحيى بن الحكيم، وجماعة من أولاد الأئمة والقضاة والوزراء والفضلاء. وقُصد من البلاد لحُسن خطّه، ولعلم الموسيقا. وطبقت مصنفاته الأرض في هذا العلم تطبيقاً. لأنه كان فيها لا يُبارى، ولا يُباده ولا يجارى. إذا وقّع أغرب، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 تنحنح، قيل إنه من الأوتار أطرب. قد ألطف لجسّه إبْريسَمُه، وطُبع على هذه الصناعة مِيسَمُه، إلا أنه أخيراً أنِف من نسبة هذا الفن إليه، ونفض منه يدَيْه. وكان حظيّ الذِّكر عند الملوك، تكاد أنباؤه تنخرط مع الدرّ في السلوك. كاتبه سلطان الهند وصاحب اليمن وجماعة ليمضي إليهم فما وافق ولا رافق، ولا نافى في الظاهر ولا نافق. ولم يزل على حاله إلى أن نزل الكسوف بشمسه، وجعل الموت قُربه أبعد من أمسه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وصُلّي عليه بجامع الخليفة، ودفن عند جدّه. ومولده ببغداد سنة أربع وخمسين وست مئة. ومات وما في لحيته من الشيب إلا شعرات يسيرة. ومن شعره: بدا نجم السعادة في الصعود ... وبَشَّر بالميامن والسعود وحقق فيك آمالَ البرايا ... بما أولاك من كرمٍ وجود فلاح لنا الفلاحُ وحلّ فينا ... محلَّ الروح من جسم العميد وأبقينا النفوسَ بظلّ أمن ... يعمّ الخلق في مُدُن وبيد بعدلٍ شامل في كل أرضٍ ... لسلطان الزمان أبي سعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قد قنعنا بخمولٍ عن غنى ... وبعزّ اليأس عن ذلّ التمني فكريم القوم لا أسأله ... فلماذا يُعرض الباخل عنّي قلت: إلا أن هذا شعر نازل، وهو اقرب إلى التوسّط. أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلّي بن دعجان ينتهي إلى عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي محيي الدين القرشي العدويّ العمري الدمشقي. الإمام الفاضل البليغ المفوّه حجة الكتّاب، غمام أهل الآداب، الناظم الناثر، أحد رجالات الزمان كتابة وترسُّلاً، وتوصلاً إلى غايات المعالي وتوسّلاً، وإقداماً على الأسود في غابها، وإرغاماً لأعاديه بمنع رغابها، يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهّب، ويتحدّر سَيْله ذاكرةً وحفظاً ويتصبّب، ويتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألّق إنشاؤه بالبوارق المتسرعة نظاماً، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عبارته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى عيب المعنى من سترٍ رقيق، ويغوص في لجّو البيان فيظفر بكبار الدُّرّ من البحر العميق، استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيّته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديهاً ما يعجز تروّي القاضي الفاضل أنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جَوْهراً، ما يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، جبل كتابة وأخبار، وبحر إصابة في المعاني التي لا يشق له فيها غبار. وأما نثره فقلْ من يُجازيه، أو يقارب خطو قلمه في تنسيق دراريه. وأما نظمه ففي الثريّا، وأبياته تطول في المحاسن ريّاً، وتضَوّع ريّاً. قرأ العربية على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مُسلّم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وعلى الشيخ برهان الدين قليلاً، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين بن تيمية، والعروض على شمس الدين الصايغ، وتأدّب على علاء الدين الوداعي. وقرأ جملة من المعاني والبيان على شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه تصانيفه، وجملة من الدواوين وكُتب الدب، وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني. وقرأ بمصر على الشيخ أثير، وسمع منه. وسمع بدمشق والقاهرة والحجاز والإسكندرية وبلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الشام، ونظم كثيراً من القصائد والأراجيز والمقطعات ودو بيت وأنشأ كثيراً من التقاليد والمناشير والتواقيع والأصدقة. كتب الإنشاء بدمشق أيام بني محمود، ثم ولي والده كتابة السرّ بدمشق، ثم طُلب إلى مصر هو ووالده في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وباشر والده كتابة السر بمصر، ثم خرج مع أبيه إلى دمشق، ثم عاد إليها معه في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وأقام إلى بعض سنة ست وثلاثين، وهو في المرة الأولى والثانية يدخل يقرأ البريد على السلطان، وفي الثانية جلس في دار العدل ووالده القاضي محيي الدين كاتب السر. وجرى له ما جرى مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولزم بيته. ثم حجّ وحضر، وغضب عليه السلطان واعتقله بقلعة الجبل، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولما أُمسك الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ولاّه السلطان كتابة السرّ بدمشق، فحضر إليها يوم عاشوراء، فيما أظن، سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وباشر ذلك إلى آخر أيام أَيْدَغْمشُ نائب الشام، وتوجّه إلى حماة ليتلّقى الأمير سيف الدين طُقْز تَمُر من حلب، فجاءه الخبر في حماة أنه قد عزل بأخيه القاضي بدر الدين محمد، فجاء إلى دمشق، وذلك سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وبقي في الترسيم بالفلكية قريباً من أربعة أشهر، وطلب إلى مصر فما وصل إلى مصر حتى شفع فيه أخوه علاء الدين كاتب السر بمصر وردّه من الطريق، فقال: لا بد من أن أرى وجه أخي، فدخل مصر، وأقام أياماً، وعاد إلى دمشق بطّالاً، ولم يزل بها مقيماً في بيته إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أن حدث الطاعون بدمشق فقله منه، وتطاير به، وعزم على الحج، ثم أبطله، وتوجّه بأهله إلى القدس، فتوفيت هناك زوجته ابنه عمه، فدفنها هناك، وما به قلَبَة غير أنه مروع من الطاعون، فحصل له يوم وصوله حتى ربع، ودامت به إلى أن حصل له صَرْع، فمات منه، وسكن ذلك الهدير، ونضب ذلك الغدير، وكان يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ودفن بتربتهم بالصالحية وكانت جنازته حافلة. ومولده بدمشق ثالث شوال سنة سبع مئة. وصنّف فواضل السمر في فضائل آل عُمر أربع مجلدات، وكتاب مسالك الأبصار في أكثر من عشرين مجلداً، ما أعلم لأحد مثله، تراجمه مسجوعة جميعها، ولي فيه عمل كثير في اختيار شعره، والدعوة المستجابة، وصبابة المشتاق، مجلد في مدائح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسفرة السفر، ودمعه الباكي ويقظة الساهر، وقرأتهما عليه بمصر، ونفخة الروض، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 كتب إليّ ملغزاً: أيها الفاضل الذي حاز فضلاً ... ما عليه لمثله من مزيد قد تدانى عبد الرحيم إليه ... وتنادى إليه عبد الحميد أي شيء سمّي به ذات خدر ... تائه بالإمام أو بالعبيد هو وصف لذات سرٍ مصون ... وهي لم تخف في جميع الوجود مذ مضى حينها بها ليس يأتي ... وهو يأتي مع الربيع الجديد وهو مما يبشر الناس طراً ... منه مأتى وكثرة في العديد وحليم إرادة لا لذات ... بل بشيء سواه في المقصود ذاك شيء مَنْ ارتجاه سفيةٌ ... وهو شيء مخصّص بالرشيد فكتبت أنا الجواب إليه وهو في " زبيدة ": يا فريداً ألفاظه كالفريد ... ومجيداً قد فاق عبد المجيد وإمام الأنام في كل علم ... وشريكاً في الفضل للتوحيد علم العالمون فضلك بالعل ... م وقال الجهّال بالتقليد من تمنى بأن يرى لك شبهاً ... رام نقضاً بالجهل حكم الوجود طال قدري على المساكين لمّا ... جاءني منك عقد درّ نضيد شابه الدر في النظام ولمّا ... شابه السحر شاب رأسُ الوليد هو لغز في ذات خِدْر منيع ... نَزَلَتْ في العلى بقصر مشيد هي أمّ الأمين ذاتُ المعالي ... من بني هاشم ذوي التأييد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أنت كنت الهادي لمعناه حقاً ... حين لوّحْتَ لي بذكر الرشيد دمت تُهدي إليّ كل عجيب ... ما عليه في حسنه من فريد وكتبت أنا إليه ملغزاً في " نجم ": يا سيّداً أقلامُه لم تزل ... تُهدي لآلي النظم والنثر قل لي ما اسمٌ قلبه لم يزل ... معذَّباً بالبيض والسُّمر وكلّه في الأرض أو في السما ... وثلثه يَسبح في البحر فكتب هو الجواب عن ذلك: دمتَ خليلي سائر الذكر ... مثلَ الذي ألغزتَ في القَدْر بعثتها نجميّة قد حلَتْ ... لكنها مِنْ سُكّر الشكر تطلع بالنجم فأما الذي ... في مطمح الُّهر أو الزَّهر عجبتُ منه كيف شقّ الدجا ... وما أتى إلا مع الفجر من صنعة البَرِّ ولكنه ... قد جاءني في راحة البَحْر أقسمت منه قسَماً بالغاً ... بالفجر والليل إذا يسر لقد أغرتَ الغيد إذ لم تجدْ ... شبهه في الجيد والثغر بعقد دُرّ ما له قيمةٌ ... يا حُسنه للكوكب الدرّي مُسهّد تذكى له مقلةٌ ... مقلوبة كالنظر الشَّزْر وهو إذا ما حقّقت تعريفه ... عَرَفْتَ منه منزل البدر بواحد عَدُّوا له سبعةً ... تقيسُ ذيلَ الليل بالشَّبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فاعر أخيَّ اليوم إن قصرت ... بديهتي واقبل لها عذري فليس بالألغاز لي قدرة ... ولا غزا في جيشها فكري وكتبت أنا إليه مع ضحايا أهديتها: يا سيداً أرجو دوام ظلاله ... علينا وأن يمسي بخيرٍ كما يُضحي وحقك ما هذي ضحايا بعثتها ... ولكنني سقت الأعادي للذبح فكتب هو الجواب إليّ عن لك: أتتني ضحاياك التي قد بعثتها ... لتصبح كالأعداء في بكرة الأضحى وحقك أعدانا كلابٌ جميعهم ... وحاشاك لا تُجزي الكلاب لمن ضحّى وكتبت إليه أتقاضاه إنجاز ما وعد به من قلع شجرة ليمون مختم وتجهزها، والتزمت الياء قبل النون: يا سيداً فيه لي ولاء ... عند جميع الورى تَعَيّنْ لله ليمونه أراها ... لي مونةً غُصْنُها تزيّنْ كأعين الحاسدين بغياً ... لأجل ذا قلعها تعيّنْ فكتب الجواب، والتزم نوناً قبل النون: يا فاضلاً ما له عديل ... لأنه في الورى تفنّنْ وكل شيء عاناه فينا ... على طريق الهدى تفنّنْ أمرك حكم في كل عقلٍ ... ما عاق إلا من قد تجنّنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وكان قد أهدى إليّ - رحمه الله تعالى - عندما عمرت الدويرة التي لي بدمشق عشرة أحمال رخاماً، فكتبتُ إليه أشكره على ذلك، وطلبت ذلك فلم أجده وقد عرفته الآن عند تعليقي هذه الترجمة وهو: لَعَمري لقد أهدى سماحُك والندى ... حُمول رُخام مثل روض تنمنما فأمسيتُ منها في رخاء وفي غنى ... فيا من رأى قبلي رخاماً مرخّما وكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنني لم أجده تلآن. وأنشدني لنفسه ونحن على العاصي بحماة: لقد نَزَلْنا على العاصي بمنزلة ... زانت محاسنَ شطّيه حدائقُها تبكي نواعيرها العَبرى بأدمعها ... لكونه بعد لقياها يفارقها فأنشدته أنا أيضاً لنفسي: وناعورة في جانب النهر قد غَدَتْ ... تعبّر عن شوق الشجي وتُعرب ترقص عطف الغصن تيهاً لأنها ... تُغَنّي له طول الومان ويشرب وأنشدني هو أيضاً لنفسه: إنّا نقيم على حماة حجّة ... في حسنها ولها جمال يبهت من النواعير الفصاح خصومنا ... ولها لسان ناطق لا يسكت فأنشدته أنا أيضاً لنفسي: ناعورة أنّت وحنّت فقد ... شوّقت الداني والقاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قد نبهتني للهدى والتقى ... لمّا غدت تبكي على العاصي وأنشدته أنا لنفسي، وقد طال علينا المركز من شمسين إلى حمص: محبوب فلبي مثل بدر السما ... أدنيه عمري وهو لي يقصي بيني وبين الصبر في حبّه ... ما بين شمسين إلى حمص فأنشدني هو أيضاً لنفسه: لقد تماديت مدىً يا رستن ... كأنما قربك ما لا يمكنُ لما جعلناك ضمير قصدنا ... غدوت ممّا لا تراك الأعين وكتب إليّ من دمشق وأنا بالقاهرة سنة 741: رحلتم فلا والله ما بَعْدَكم قلبي ... بقلبي ولا والله عقلي ولا لُبّي هجرتم زماناً ثم شطّ مزاركم ... فأهاً على بُعدي وآهاً على قربي وبدّلتم غيري ووالله ما رأت ... سوى حسنكم عيني ولا غيركم قلبي لئن كان ذنبي أن قلبي بحبّكم ... فيا ربّ زدني منه ذنباً على ذنبي ولا تحسبوا أني تغيّرتُ مثلكم ... فما قلبكم قلبي ولا خبّكم حبي رحلتم وما كنتم سوى روح مغرم ... قضى بكم وجداً وما غاب في الترب نأيتم فلا والله ما هبّت الصبا ... فنمتُ مع النّوام جنباً على جَنْبي لئن عُدْتُم عاد السرور جميعُه ... وإلاّ فما لي بالرسائل والكتب دَعوا عنكم التعليل باليوم أو غد ... فلست بمن يبقى إلى البعد والقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ولا تعجبوا إنّ متّ حين فراقكم ... إذا بان حبّي كيف لا ينقضي نحبي أأحبابنا كيف استقلت ركابكم ... وما علقتها العين في شرك الهُدب وطرتم سراعاً كالطيور مشقة ... فهلاّ وقعتم في القلوب على الحَبّ ووالله ما حدّثت نفسي بمجلس ... سوى ما أفاض الدمع فيه من الجبّ ولا كان شرق الدمع من طبع مقلتي ... إلى أن تغربتم ففاض من الغَرْب ونغّصتم طِيبَ الحياة ببعدكم ... وهيهات أن ترجى حَيَاةُ فتىً صَبِّ أأبغي سواكم في الهوى أو أريده ... وهجركم سقمي ووصلكم طبّي دعوني وأطلال الديار أُنحْ بها ... وأندبها إن كان ينفعها ندبي فكتبت أنا الجواب إليه: دعوتم علة بعد فلبّاكم لبّي ... وناجاكم قلبي على البعد والقرب وما لي وذكر الدار يا ساكني الحشا ... وداركم عيني وداركم قلبي وأقسم أنّ الجفن فيكم جفا الكرى ... وأحرق قلب الصب من دَمعه الصَّبِّ إذا قلتُ هُبّي يا نُسيمةَ دارِهم ... يقول الجوى يا نارَ أشواقه شبّي أيا جيرة بالقلب لا الشام خيّموا ... محاسنكم تصبي القلوب فلم تسبي لأنتم وإن أضرمتم النار في الشحا ... ألذّ إلى قلبي من البارد العذب رفعتكم جَرّاً إلى نصب ناظري ... فيا حبّذا رفعٌ يجر إلى نَصْب أحاشيكم أن يألفَ القلبُ غيركم ... فقلبي لا يرضى بهذا ولا ربّي وحقكم ما راقني غيرُ حُسنكم ... وإحسانكم حسبي بما راقني حسبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 رحلت ولي قلب مقيم على الوفا ... لعهدكم حنى أوسّد في التُّرْب أحاول عَودي نحوكم ويصدّني ... خيانة دهر راح حربي لا حزبي أليس من الأنكاد أن لا مخبّر ... يبلغكم عني سلامي ولا كتبي ولولا المنى أن يجمع الله شملنا ... قريباً لما فارقت نَوحي ولا نَدْبي سأجهد في عَوْدي لمطلع حبكم ... ولو أن لي قي مصر مملكة الغرب بُعثتم على بخل الزمان لأنكم ... كرام بنظم فاق منسجم السُّحب غدا خارجاً في النظم عن قدرة الورى ... ولكنّه في حُسنه داخل الضرب فقلت لدهري زِد عليّ قساوة ... فقد ظفرت كفاي باللؤلؤ الرطب وكتب هو إليّ وقد تواترت الثلوج والأمطار سنة 744: كيف أصبح مولاي في هذا الشتاء الذي أقبل يُرعب مَقْدَمُه، ويُرهب تقدّمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسّمه، وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وشرر لياليه التي لا نبيت منها بليلة صالحة، وسحابه وأمواجه، وجليده والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الأنيث، وتطاول ليل فرعه الأثيث، ومواقده الممقوته، وذوائب جمره، وأهون به لو أنّ كلّ حمراء ياقوته، وتحدّر نوئه المتصبب، وتحيّر نجمه المتصيّب، وكيف هو مع جيشه الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ما أطلّ حتى مدّ مضارب غمامه، وظلّل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه، هذا على أنه حلّ عُرى الأبنية، وحلل ما تلف في ذمّة سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رضَّ العظام وأنخرها ودقّ فخّارات الأجسام وفخّرها، وجمّد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه لسان المنطيق، ويبَّس الأصابع حتى كادت أغصانها تُوقد حطباً، وقيّد الأرجل فلا تمشي إلاّ تتوقع عَطَباً، وأتى الزمهرير بجنودٍ ما للقويّ بها قَبَل، وحمّل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصم منه مَنْ " قال سآوي إلى جبلٍ " ومدّ من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأوّل ما بدا الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيّدي في هذه الأحوال؟، وكيف أنت في مقاساة هذه الأحوال؟، وكيف رأيت منها ما شيّب بثلجه نواصي الجبال، وجاء بالبحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصيّ، وخيوط السحب من حبال؟. أمّا نجن فبين أمواجٍ من السحب تزدحم، وفي رأس جبلٍ لا يُعصم فيه من الماءُ إلاّ من رُحِم، وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهمِّ ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلوّن ردّ الله عليه صوائب سهامه، وبدّل منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظّ مولانا من لوافحه ما يذكيه ذهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من توأمه، وعوّضنا وإياه بالصيف، والله يتقّل، وأراحنا من هذا الشتاء ومَشْي غَمامه المتبختر بكمّه المسبل، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فكتب أنا الجواب: يقبّل الأرض، وينهي وُرُود هذه الرقعة التي هي طرازٌ في حلّة الدهر، وحديقة ذكّرت بزمن الربيع، وما تهديه أيامه من الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدّلت فروعُ غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كلّ كواكبه شموسٌ وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا يفعله نغمة الشبآبة، وأرشفته سُلافاً كؤوسها الحروف وكل نقطة حبابَه، وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم المتصلة الظلام، فلا أوحش الله من طلعة الشمس وحاجب الهلال وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحابة، والغمائم السكّابة، والرعود الصخّابة، والبروق اللهابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصابة، والبرد الذي أمست إبَرُه لغصون الجلود قَطّابة، والزُّميتا التي لا تروي عن أبي ذرّ إلاّ وتروي الغيث عن أبي قلابة، كلّما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق شرار جمرتها، وكلّما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت مرهاء لما أسبلته من عبرتها، فما هذا شهر طوبة إنْ هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون إنْ هذا إلا تنّور الطوفان، وإلى متى قُطْنُ هذه الثلوج يُطرَح على جباب الجبال، وإلى متى نُقاضُ دلاص الأمطار، ويرشقها قوس قزح بالنبال؟!، وإلى متى تشقق السحاب وما لها من الحلل والحبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجوّ وفي أطرافها على الغدران إبر، وإلى متى تجمد عيون الغمام وتكحّلها البروق بالنار، وإلى متى نثار هذه الفضّة وما يُرى من النجوم دينار؟، وإلى متى نحن نَحْنو على النار " حُنُوَّ المرضعات على الفطيم "، وإلى متى تبكي الميازيب: بكاء الأولياء بغير حزنٍ ... إذا استولوا على مال اليتيم وإلى متى هذا البرق تتلوّى بطون حياته وتقلب حماليق العيون المحمرّة من أسود غاباته؟، وإلى متى يزمجر غيث هذه الرياح العاصفة، وإلى متى يرسل الزمهرير أعواناً تصبح حلاوة الوجوه بها تالفة، أترى هذه الأمطار تقلب بالأذيار أم هذه المواليد التي تنتهي فيها الأعمار، كم جليد يذوب به قلب الجليد، ويرى زجاجهُ الشفّاف أصلب من الحديد، ووحل لا تمشي فيه هريرة الوحى، وبردٍ لا تنتطق به نؤوم الضحى، " اللهم حوالينا ولا علينا "، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كلٍّ عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتحلّل الضباب زوايا البيوت، فالأطفال ضباب الضباب، كل ضَبّ منهم قد ألِف باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حُسد على النار مَنْ أمسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 مذنباً وأمسى عاصياً وتمنّى أن يرى من فواكه الجنات عنّاباً من النار وقراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر مكارم مولانا فيا طول ما تسْفح، وإن كانت العواصف تتشبّه ببأسه فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرّع فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلوّن خجلاً من طروسه فيا طول ما تتألق، وإن كانت الرعود تحاكي جوانح أعدائه فيا طول ما تشهق وتفهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده فإنها تجري على طول المدى وما تلحق، والأوْلى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفضل أن لا يتعرّض، فرحم الله مَنْ عرف قدْره، وتحقّق أنّ مولانا في الجود نّدْرَه، أنهي ذلك. فكتب هو الجواب إليّ عن ذلك، وكتبت جوابه نظماً، وكتب هو الجواب عن ذلك نظماً. وكتب إليّ وأنا بالقاهرة وهو يومئذٍ في دمشق رسالة في الثلج، وكتبت جوابه، وكتب هو إليّ رسالة يصف كثرة المطر نظماً ونثراً، وكتبت جوابه أيضاً كذلك. وبيني وبينه مكاتباتٌ كثيرة، وقد أوردت ذلك في كتابي " ألحان السواجع ". ولمّا توفي رحمه الله تعالى كتبت إلى أخيه القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء أعزيه، ونسخته: يقبّل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي برّح، والسقم الذي جرّ ذيول الدمع على الخدود وجرّح، لما قدّره الله تعالى من وفاة القاضي شهاب الدين: سَقَتْه بألطف أندائها ... وأغزرها ساريات الغمام فإنا لله وإنا إليه راجعون، قَولَ من غاب شهابه، وآب التهابه، وذاب قلبه فصار للدمع قليباً، وشهاب فوده لمّا شبّ جمر فؤاده، ولا غروَ فيومه جعل الولدان شيباً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فيا أسفي على ذلك الوجه الملّي بالملاحة، واللسان الذي طالما سحر العقول ببيانه، فصاحت: يا ملك الفصاحة، واليد كم روّضت الطروس أقلامها، وأنشأت أسجاعاً لم تذكر معها بانات الحمى ولا حمامها، وكأنّ أبا الطيّب ما عنى سواه بقوله: تعثرت بك في الأفواه ألسنها ... والبُرْد في الطُّرق والأقلام في الكتب فرحم الله ذلك الوجه، وبلّغه ما يرجوه، وضوّاه بالمغفرة يوم تبيضّ وجوهُ وتسودّ وجوه. لقد فقد المجد المؤثل منه ركناً تتكثر به الجبال فما تقلّه ولا تستقلّه، وعدمت الآداب منه بارعاً لو عاصره الجاحظ ما كان له جاحداً، أو البديع علم أن ما فُضّ له فضله، وغاب من الإنشاء منه كاتب ليس بينه وبين الفاضل لولا أخوه مثله، أتُرى ابن المعتزّ عناه بقوله: هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال وما يقول المملوك في البيت الكريم، ألاّ إنْ كان قد غاب بدره وأفل شهابه، أو غاص قطره وتقشّع سحابه فإنّ نيّره الأعظم باقٍ في أَوْجه، وبحره الزاخر متلاطمٌ في موجه، وفي بقاء مولانا خَلَفٌ عمّن سلف، وعِوَضٌ عما انهدم ركنه وانقضّ، وجبرٌ لمن عدك الجلد والصبر، والله يمتع المسلمين بحياته، ويجمع لديه بين ثوابه وثباته، لأنه قد عاش الدرّ المفدّى بالذهب وأضاءت شمس المعالي إن كان قد خمد اللهب: علَم الله كيف أنت فأعطا ... ك المحلّ الجليل من سلطانه جعل الدين في ضمانك والدن ... يا فعش سالماً لنا في ضمانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وقد نظم المملوك قصيدة في رثاء المشار إليه، وجعلَ قوافيها تبكيه، وألفاظها تنوح عليه، وهي: الله أكبرُ يا بن فَضْل الله ... شغلَتْ وفاتُك كلّ قلبٍ لاه كلٌّ يقول وقد عرته كآبة ... واهاً لفقدك إنّ صبري واه فقدتْ بك الأملاكُ بحرَ ترسلٍ ... متلاطمَ الأمواج بالأمواه يا وحشة الإنشاء منكَ لكاتبٍ ... ألفاظه زهرَ النجوم تباهي وتوجّع الأشعار فيك لناظمٍ ... من لطفه لشذى النسيم يضاهي كم أمسكتْ يمناكَ طِرْساً أبيضاً ... فأعدْنه في الحال طرزاً باهي كم قد أدَرْتَ من القريض قوافياً ... هي شهوة الناشي وزهو الزاهي ورسالة أنشأتها هي حان ... هـ النبّاذ حازتْ حضرة الفَكّاه ووضعتَ في الآداب كلّ مصنّف ... قالتْ له البُلَغاء زاهٍ زاهِ كم قد خطرْت على المجرّة رافلاً ... يوم الفخار بمعطفٍ تيّاهِ شَخَصت لعَلْياكَ النجومُ تعجباً ... ولك السَّهى يرنو بطرفٍ ساهِ ما كنتَ إلا واحدَ الدهر الذي ... يسمو على الأنظار والأشباهِ من بعدك الكتّاب قد كتبوا فما ... يجدون منجاةً لهم من جاهِ أقلامهم قد أملقت ورمى الردى ... أدواتهم ودواتهم بدواهِ وطروسُهم لبست حداد مدادها ... أسفاً عليك مؤكداً بسفاهِ أمّا القلوب فإنها رهنُ الأسى ... تردُ القامة وهي فيك كما هي أبداً يخيّل لي بأنك حاضر ... تُملي الفوائد لي وأنت تجاهي فتعزَّ فيه واصطبر لمُصابه ... يا خير مولى آمرٍ أو ناهِ فدوام ظلك في البرية نعمةٌ ... ولشكرها حتمٌ على الأفواهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 لا زال جدّك في المعالي صاعداً ... رتباً سعادتها بغير تناهِ أحمد بن يعقوب بن أحمد بن يعقوب الإمام جمال الدين أبو العباس بن شرف الدين بن الصابوني. هو من ذريّة عبد المحسن بن حمّود الأديب، وقد ذكرته في تاريخي الكبير. كان جمال هذا نزيلَ القاهرة، وبها رأيتُه. وكان بالحديث قد عني، وحصّل الأصول المليحة فغني، ودأب واجتهد، وبلغ الذروة واقتعد. وأسمعه والده من ابن البخاري وطبقته، وطلب هو بنفسه مع لِداته ورفقته، ومهر وتميّز، ومال إلى فئة الأشياخ وتحيّز. ولم يزل على حاله إلى أن غُسل ابن الصابوني بماء الحِمام لا الحمّام، ورثاه حتى الساجعات على القضب من الحَمَام. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهلّ شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. أجاز لي بخطّه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. وكان مولده بدار الحديث النورية بدمشق، ومنها كانت على وجهه أنوار، وفي روض الطروس في خطّه أنوار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أحمد بن يوسف بن هلال بن أبي البركات الشيخ الطبيب شهاب الدين أبو العباس الصفدي. مولده بالشُّغر وبَكاس، ثم إنه انتقل إلى صفد، وبها سمّي. ثم إنه انتقل إلى مصر، وخدم في جملة أطباء السلطان والبيمارستان المنصوري. رأيته بالقاهرة غير مرّة، واجتمعت به، وأنشدني من لفظه لنفسه أشعاراً كثيرة. وكان شيخاً طوالاً، أبيض اللحية والحاجب، لا يُرى له عن الفضل حاجب، قادراً على النظم المحكم السّرد، قد أثبت على لغم النُّظّام الجوهر الفرد، وله قدرة على وضع المشجّرات فيما ينظمه، ويؤسس بنيانه ويُحكمه، ويُبرز أمداح الناس في أشكال أطيار، وعمائر وأشجار، ومآذن وعقد وأخياط، وصورة مُقاتلٌ ونَفّاط، بحيث إنه له في ذلك اليد الطولى، والقدرة على إظهار الأعاجيب التي تترك النواظر إليها حُولا. ولم يزل على حاله إلى أن نزل بالطبيب الداءُ الذي أعجزه طِبّه، وفارقه بالرُّغم خليله وحِبُّه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن. ومولده سنة إحدى وأربعين وست مئة. أنشدني من لفظه فيما يكتب على سيف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أنا أبيضٌ كم جئتُ يوماً أسوداً ... فأعدتُه بالنصر يوماً أبيضا ذَكَرٌ إذا ما استلّ يوم كريهة ... جعل الذكور من الأعادي حُيّضا أختال ما بين المنايا والمنى ... وأجولٌ في وسط القضايا والقضا ومن شعره: حُجيتُ وقد وافيت أول قادم ... بأول شهر حلّ أول عامه وكان خليل القلب في نار شوقه ... وكنت المنى في بَرُده وسلامه ومنه: وما زلتَ أنت المشتهى متولعاً ... بكثرة تردادٍ إلى الروضة الصغرى إلى أن بلغتَ القصد في كل مشتهى ... من المصطفى المختار في الروضة وكتب إليّ وقد وقف على شيء كتبته وزمّكته: ومزمّكٍ باللازورد كتابةً ... ذهباً فقلت وقد أتتْ بوفاق أأخذتَ أجزاء السماء حَلَلْتَها ... أم قدْ أذبْتَ الشمس في الأوراق أكتبتَ بالوجنات حُمْرتها كما ... مخضَّرها بمرائر العُشّاقِ وكتب هو إليّ أيضاً: معانيك والألفاظُ قد سَحَر الورى ... لكلّ من الألباب قد أعطيا حظّا فهبّك سَبَكْتَ التبرَ معنىً وصغته ... فكيف أذبْتَ الدّرَّ صيَّرته لفظا فكتبتُ أنا إليه: وحقِّك لم أكتبْ بتبرٍ كما ترى ... سطوراً غدا في وضْعها منية النفسِ ولكنما هذي أشعّةُ وجهك ال ... كريم غدتْ على صفحة الطّرسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 أحمد بن يوسف بن يعقوب القاضي الكاتب الفاضل الناظم الناثر شمس الدين الطِيبيّ - بكسر الطاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها باء موحدة -. كان فاضلاً أديباً، عالماً لبيباً، سامعاً على البديهة مجيباً، ينظم الدُرَر، ويطلع في طِرسه الزُّهر، وإن تنازلنا قلنا الزَّهَر، قادر على النظم، نتزل سكين فيه إلى العظم، ويأتي منه بما يشرف الأسماع ويشنفها، ويحكم على المعاني فيتنزل على مُراده ويصرّفها، يترسّل فلا يعثر له جواد قلم في ميدان إنشائه، ويستقي المعاني الغويصة من قَليب الفكر على قِصَر رشائه، رأيت بخطّه الحاجبية، وقد علق في آذان حواشيها أقراطاً، وأتى فيها بفوائد تدلّ على أنه من أئمة هذا الفن فيما تعاطى. أخبرني القاضي شهاب الدين فضل الله قال: أخبرني جمال الدين بن رزق الله قال: كان عندنا ليلة في مجلس أُنس، وقد أخذت السُّلاف منه مأخذها إلى أن صار في غيبةٍ عن وجوده، وذكرنا له واقعة المسلمين على شَقْحب، ونصرتهم على التتار، وقلنا له: لو نظمت في هذا شيئاً، فأخذ الدواة، ونظم قصيدة تتجاوز التسعين بيتاً فائية، ومدح فيها السلطان. قال: فأعجبتنا وقمنا آخر الليل ورحنا إلى الحمّام، فلما أفاق وصحا وأجرَيْنا له ذكر القصيدة، فأنكر وقوعها، وحلف أن هذا أمر لم يبدُ منه، فقلنا له: هذه قصيدة فائية أوّلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 برق الصوارم للأبصار يختطف فقال: أروني إيّاها. فأوقفناه عليها، فأعجبته، وزاد إعجابنا بها. قال ابن رزق الله: وقمت وأخذتها وأتيت بها إلى والدك القاضي محيي الدين، فلما وقف عليها أعجبته، وأوقف عليها أخاه عمّك القاضي شرف الدين بن فضل الله فأعجبته، وكانت سبباً لأن استخدمه كاتب إنشاء بطرابلس، انتهى. قلتُ: وهذه قصيدة بديعة في بابها، وسوف أوردها إن شار الله تعالى في ترجمة السلطان الملك الأعظم الناصر محمد بن قلاوون. ولم يزل الطيبي في طرابلس على حاله إلى أن صار الطيبي في قبره جيفة، ولم يجد الحمام من حدّ لسانه خيفة. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس في شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة. ومولده في عشري الحجة سنة تسع وأربعين وست مئة. ومن شعره: لست أنسى الأحباب ما دمتُ حيّاً ... إذا نَوَرا للنوى مكاناً قصيّاً وتلَوا آيةَ الدموع فخرّوا ... خِيفة البينِ سُجّداً وبُكيّا فبذكراهم تسحّ دموعي ... كلما اشتقت بُكرةً وعشيّا وأناجي الإله من فرط حزني ... كمناجاة عَبْدِه زكريّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 واختفى نورُهم فناديت ربي ... في ظلام الدجى نداءً خفيّا وَهَنَ العظم بالبِعاد فهَبْ لي ... ربَّ بالقرب من لِدنك وليّا واستجب في الهوى دعائي فإني ... لم أكن بالدعاء رَبِّ شقيّا قد فرى قلبي الفراقُ وحقاً ... كان يومُ الفراق شيئاً فرّيا ليتني متّ قبل هذا وأني ... كنتُ نِسياً يوم النوى منسيّا لم يك الهجر باختياري ولكن ... كان أمراً مقدّراً مقضيّا يا خليليَّ خلّياني وعشقي ... أنا أولى بنار وَجْدي صلّيا إن لي في الفراق دمعاً مُطيعاً ... وفؤاداً صبّاً وصبراً عَصيّا أنا في هجرهم وَصَلْتُ سُهادي ... فصِلاني أو اهجُراني مليّا أنا في عاذلي وقلبي وحبّي ... حائرٌ أيّهم أشد عِتيّا أنا شيخ الغرام مَنْ يتّبعني ... أهدِهِ في الهوى صراطاً سويّا أنا مَيْتُ الهوى ويومَ أراهم ... ذلك اليومُ يومَ أُبعث حيّا أنا لو لم أعش بمقْدَمِ مولى ... هو مولى الوجود لم أك شيّا الفتى الباسطُ الجميلَ جمال ال ... دين من زار من نداه النديّا سيّد مرتضى الخلائق أضحى ... راضياً عندّ ربّه مرضيّا صادق الوعد بالوفاء ضمين ... كالذي كان وَعْدُه مأتيّا أوحدٌ في الصفات لم يجعل الله ل ... هـ قطّ في السموّ سَميّا لا يُرى في الصدور أرحبَ صدراً ... منه إذ تحضر الصدور جثيّا ما جد أولياؤه في رشادٍ ... وعِداه فسوِف يَلقَون غَيّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وفتى بالسّماح صبّ رشيد ... أوتي العلَم حين صبيّا بلَبَان الكمال غُذّيَ طفلاً ... ونشا يافعاً غلاماً زكيّا لم يزل منذ كان برأ تقياً ... وافياً كافياً وكان تقيّا جعل الله في ادّخار المعالي ... لعلاه لسانَ صدْق عليّا كم عديم الثراء أثنى عليه ... وانثنى واجداً أثاثاً وريّا وأولو الفضل حينَ أمّوا قِراهُ ... أكلوا روقَه هنيّاً مريّا قلت: قد اقتبس شمس الدين الطِّيبي هذه من سورة مريم، كما اقتبسَ ابن النبيه قوله: قمت ليل الصدود إلاّ قليلاً ... ثم رتّلتُ ذكركم ترتيلا من سورة المزمّل. وكما اقتبس سيف الدين بن قزل المشد قوله: شِمتُ في الكأس لؤلؤاً منثوراً ... حين أضحى مزاجها كافورا من سورة الإنسان. والاقتباس إذا كان من آية من آيتين لا بأس به. وأما سورة بكمالها ففي هذا من إساءة الأدب ما فيه. ومن شعر الطيبي رحمه الله تعالى: النهر وافى شاهراً سيفَه ... ولَمْعُه يحتبس الأعينا فماجت البركة من خوفه ... وارتعدت وادّرعت جَوشنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ومنه يصف ثوبَهُ: لو أنّ عيني على غيري تُعانيه ... بكيته أحمراً أو متّ بالضحك ومن رآني فيه قال واعجباً ... أرى على البَرِّ شيخَ البحر في الشبك ومنه في العود: اشربْ على العودِ من صهباء جاريةٍ ... في المُنتَشي جريان الماء في العود ترنّم العودُ مسروراً ومن عجبٍ ... سرورُه وهْوَ في ضربٍ وتقييد من أينَ للعودِ هذا الصوتُ تُطربنا ... ألحانُهُ بأطاريفِ الأناشيد أظنُّ حين نشا في الدوح علّمهُ ... سجعُ الحمائمِ ترجيعَ الأغاريد ومنه لما أُلبس الذمّة العمائم الملوّنة: لا تعجبوا للنصارى واليهودِ معاً ... والسامريين لمّا عُمّموا الخِرقا كأنما باتَ بالأصباغ مُنسَهلاً ... نسرُ السماء فأضحى فوقهم ذَرِقا ومنه: وأصفرٍ أرزق العينين لحيتُه ... حمراءُ قد سقطت من كفّ دبّاغ ألوانه اختلفت لا تعجبوا فعسى ... قد كان في اسْت أُمّه دكانُ صباغ أحمد بن يوسف بن عبد الدايم الشيخ الإمام العلاّمة شهاب الدين الحلبي المعروف بابن السمين. سمع بآخرة من يونس الدبّوسي. وقرأ على ابن الصائغ، وصنع تفسيراً للقرآن في عشرين سفراً والإعراب. وله شروح على كتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وتوفي بالقاهرة في سنة ست وخمسين وسبع مئة كهلاً، رحمه الله تعالى. أحمد شهاب الدين الفاضل المغربي رئيس الأطباء بالديار المصرية، وهو والد الرئيس جمال الدين رئيس الأطباء بالديار المصرية. أسلم سنة تسعين وست مئة، وكان اسمه في اليهودية سليمان. قال الشيخ علم الدين البِرزالي: ضَبطَ ذلك عز الدين الإربلي، ونقلته من خطّه. كان رجلاً فاضلاً، إلى الجدّ مائداً، عن اللهو مائلاً، يَعرِفُ الطب وبه رأس، وجنى به من ثمر الجاه ما غرسْ. وله يد طُولى في المنطف والهندسة، وعنده في ذلك فوائد تجلو بذورها من ظلمة الليل حُندُسه. وأما النجوم فكان في علمها إماماً، ويده تصرف من أحكامها زماماً. ولم يزل على حاله إلى أن أعيا داؤه، وفقده أصحابه وأودّاؤه. وقيل: إنه خلّف من الذهب العين ما قيمته مئة ألف درهم. ووفاته في أواخر صفر سنة ثمان عشرة وسبع مئة. أحمد هو الشيخ أحمد القَبّاري الإسكندراني زعم أنه ابن أخت الشيخ الكبير أبي القاسم. قدم دمشق، وتمشيخ فيها، وأظهر الصلاح، ومشّت له الأيام تمويهاً، واعتقد الناس ولايته، واغتنموا رعايته، وجمع عليه الزَّبون، ولفّ الناس له المحبون. ثم إنه ظهر بَهْرَجُه، وانفتح مَدْرجْه، فساءت عقباه الخاسرة، وضيّع دنياه قبل الآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فوُسّطَ في سوق الخيل، وجُعل دَلْوين، وكان جَسَداً واحداً فأصبح شِلْوَيْن، وذلك في سنة اثنتين وسبع مئة. وكان قد صادقه الشيخ محمد اليعفوري فقير مشهور، فاتفقا على مكرٍ حاقَ بهما، ووقع بيد الأفرم ورقة فيها نصيحة على لسان قطز مملوك قبجق لما كان بالشوبك فيها: أن ابن تيميّة وابن الحريري يكاتبان أميرنا قبجق في نيابة دمشق، ويعملان عليك، وأن ابن الزملكاني وابن العطار يطالعان أميرنا بأخبارك، وأن جماعة من الأمراء معهم، فتنمرّ الأفرم لذلك، وأسرّ إلى بعض خواصّه، وبحث عمّن اختلق ذلك، فوقع الحدس على الفقيرين، وأمسك اليعفوري، فوجدوا في حجرته مسودّة النصيحة، فضُرب بالمقارع، فأقرّ على القباري، فضرب الأخر، فاعترف، فأفتى الشيخ زين الدين الفارقي بجواز قتلهما، فطيف بهما، ثم وُسّطا بسوق وقطعت يد التاج ابن المناديلي الناسخ، لأن المسودّة كانت بخطّه، وسيأتي ذكره في موضعه من حرف العين، وهو عبد الرحمن بن موسى. إدريس بن علي بن عبد الله الأمير عماد الدين الحَسَني الحَمْزيّ اليمني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 كان أحد أمراء اليمن في دولة الملك المؤيد بصنعاء، وكان فاضلاً، فارساً مناضلاً، أتقن علوماً، وأنشأ منثوراً ومنظوراً، وكان زيديّ المَذهب، ناشر العلم المُذهب، همّ أهلُ مذهبه بتلك الناحية أن يقلدوه الزعامة، ويرشّحوه للإمامة، لأنه جمع بين الشجاعة والكرم، ونفخ من السيادة في ضَرَم، ونزع يده، فعظّمه لذلك الملك المؤيد وأيّده. ولم يزل على حاله إلى أن حُمّ من الحمزي أمرُه، وضُمّ عليه قبره. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومن شعره: عوجا على الرسم من سلمى بذي قار ... واستوقفا العيسَ لي في ساحة الدار وسائلاها عسى تُنبيكما خبراً ... يشفي فؤادي فيقضي بعض أوطاري منها: يا راكباً بَلِّغَنْ عني بني حَسَن ... وخصّ حمزة قومي عصمة الجار إن المؤيّد أسماني وقرّبني ... واختارني وَهْوَ حقاً خيرُ مختار أعطى وأمطى وأسدى كل عارفة ... يقصّر الشكر عنها أيّ إقصار وخصّني بولاءٍ فزَتُ منه به ... فأصبح الزندُ مني أيّما وار قلت: شعر متوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الألقاب والأنساب الأحمدي الأمير ركن الدين بيبرس. الأحمرملك الأندلس محمد بن محمد. وابن الأحمر نصر بن محمد بن القاضي. أخوين محمد بن عمر. الأدفوي شهاب الدين أحمد بن علي بن عبد الوهاب. الأدفوي كمال الدين جعفر بن تغلب الدفوي شمس الدين الحسين بن هبة الله، وعبد القادر بن مُهذّب. أذينة شحنة بغداد، أقام بها من جهة المغل مدة، كان مشكور السيرة مسلماً يتوجّه إلى صلاة الجمعة ماشياً. توفي بالكوفة في أوائل سنة تسع وسبع مئة. النسب والألقاب الأذْرعي الصاحب شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا. وضياء الدين علي بن سليم. وقاضي القضاة شمس الدين الأذرعي الحنفي محمد بن إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أراي الأمير سيف نائب الكرك. هو في الأصل مملوك الأمير سيف الدين أرغون الدَّوادار نائب حلب، ثم إنه تنقّل بالديار المصرية إلى أن حصل له إمرة الطبلخانة، وهو الذي ورد على الأمير سيف الدين يَلبغا، وهو بالقصر الأبلق. وقد خرج بدمشق في المرة الثانية على الملك المظفر حاجي، والأمراء قد التفوا عليه، فلما جاء قال له: السلطان رسم بطلبك لتتوجه إلى مصر، والتفتَ إلى الأمراء وقال لهم: يا أمراء! نائبكم الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب حلب، فلما سمع الأمراء ذلك تفلَلت عزائمهم عن يلبغا، وتحللت عُقد ضمائرهم عنه، وعاد إلى مصر. ثم إنه جُهّز لنيابة الكرك في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى أن طُلب إلى مصر في شهر رجب الفرد سنة ست وخمسين وسبع مئة، فتوجّه إليها وأقام بها، وما لبث أن جاء الخبر إلى دمشق بوفاته في صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة، رحمه الله تعالى. وأظنه كان قد باشر أولاً بالديار المصرية آخوريه الصغرى، وكان عاقلاً ساكناً ديّناً، يحب العلماء، وله رغبة في العلم واقتناء المجلدات. ولما طلب من الكرك إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 مصر باشر أمير آخور كبيراً، وتوجّه عوضه نائباً بالكرك الأمير سيف الدين قشتمر الحاجب. أَرْبَكَوون بفتح الهمزة وسكون الراء، وفتح الباء الموحّدة والكاف وبعدها واوان ونون، سلطان العراق وأذْرَبيجان والروم، من ذريّة جنكزخان. نشأ في غمار الناس، وكان أبوه قد قتل أولاً. ولما توفي القان بوسعيد رحمه الله تعالى شاور الوزير غياث الدين محمد مُقَدّمي التتار، وقال: هذا الرجل من العظم، فبايعوه وأجلسوه على التخت. يقال: إنه كان نصرانيّ الاعتقاد، لا يثبت إيمانه على محكّ الانتقاد، ألبس التتار السراقوجات الأولى، وجال في الفتك عرضاً وطولاً، وأنكر على كبار المغل مهادنة أهل الإسلام، ومليء قلبه من الظلم والإظلام، وقتل الخوندة بغداد رحمها الله تعالى، وجَبى الموال، وخبط الأحوال، وقاسى الناس منه أمرّ الأهوال. وكان قد قصد دخول الشام، وانتجع برق خرابه وشام، فكفى الله أمره، وأخمد جمره. وجرت أمور يطول شرحها، ويعظم سرحها، إلى أن قتله النوين علي باشا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وحاز من الثناء النافح ما شاء، وأعصّه السيفُ بريقه، وذلك في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت مدة ملكه شُهيرات. أرَتْنى بفتح الهمزة وسكون التاء ثالثة الحروف، وبعدها نون وألف مقصورة. الحاكم بالبلاد الرومية من جهة القان بوسعيد، كاتَبَ السلطان الملك الناصر بعد وفاة بوسعيد، وطلب منه أن يكون نائبه، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه الخلع السنيّة، وكتب له تقليداً بنيابة السلطنة بالبلاد الرومية، ولم تزل رسله تتردد إلى آخر وقت، ووقع بينه وبين أولاد تمرتاش، فجمعوا العساكر وجاؤوا إليه، ومعهم القان سليمان، فكسرهم بصحراء أكرنبوك - بكافين، وبينهما راء ونون وباء ثانية الحروف وواو، قبل الكاف الأولى همزة - وأسر جماعة من أمرائهم، وغنم أموالهم وهزمهم أقبح هزيمة، ومنها خمل القان سليمان، وعظُم بذلك أرتنى في النفوس. وكانت هذه الواقعة في إحدى الجُمَادين سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وكان خيّراً فيه ديانة، وله ميل إلى المسلمين في الظاهر والباطن من غير جناية ولا خيانة، ولا يزال أهل العلم عنده، وبهم يُوري زَنْده، وخاتونه تجلس وراءه تسمع كلامهم، وترى جدالهم، وتشاهدهم إذا راموا سهامهم، ولم يجد المسلمون منه إلاّ خيراً، ولا عَدِمَ قاصدهم منه كرماً وميراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ولم يزل على حاله إلى أن بَرَق منه البصر، وجزم الموتُ حياته واختصر، فعدم الإسلام منه مؤازراً، ورأوا من بَعده من العدوّ طرفاً متخازراً، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. وقلت أنا فيه: بمملكة الروم حلّ الردى ... أجل النَّويْن الذي قد فَقَدْنا فتبّاً لصرف الليالي التي ... أرَتْنا أَرَتْنى كما لا أردنا أرسلان الأمير بهاء الدين الدَّوادار. كان أولاً عند الأمير سيف الدين سلاّر أيام النيابة خصيصاً به، خطيّاً لديه. ولما جاء السلطان الملك الناصر من الكرك بعساكر الشام، ونزل بالرَّيْدانية ظاهر القاهرة، أطلع بهاء الدين أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان، ويفتكوا به يوم العيد أوّل شوّال، فجاء إليه وعرّفه الصورة، وقال له: اخرج الساعة، واطلع القلعة واملكها، ففتحوا له شرج الدهليز، وخرج من غير الباب، وصعد القلعة ونجا من أولئك القوم، وجلس على تخت الملك، فرعى له السلطان تلك المناصحة. ولما خرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من الوظيفة رُتّب بهاء الدين أرسلان فيها. وكان حسن الشكل ظريفاً، حُلْو الوجه، لا يزال به الإقبال من القلوب مُطيفاً، خطّه أبهجُ من الرياض اليانعة، وآنقُ من النجوم الساطعة، يكتب سريعاً، ويخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الطِّرس من تحت قلمه روضاً مَريعاً، بعبارة سادّة، وإشارة في تنفيذ المهمات حادّة. رأيت له أوراقاً بخطه، قد كتبها إلى كتّاب السرّ بما يرسم به السلطان، ويفتقر إلى كتابتها تدبير المُلك لبلوغ الأوطار في الأوطان، وهي عبارة مسدّدة، وافية بالمقاصد المؤكّدة، لا يفوته فيها فخرٌّ مخِلّ، ولا يأتي فيها بقول مملّ. وكان القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر قد درّبه، وخرّجه وهذّبه، ويقال: إن الرسالة التي وسمها ب مراتع الغزلان أنشأها فيه. وكان قد استولى على السلطان في أيامه وغلب عليه في يقظته ومنامه، ولم يكن لغيره في أيامه ذِكْر، ولا يُسمع في تلك المدة ثناء على غيره ولا شكر، ولم يكن لفخر الدين وكريم الدين عظمة إلاّ بعده، واجْتهدا فما نالا طَردَه ولا بُعده. وكان قد أنشأ خانقاه في المنشأة المنسوبة للمهراني. وكان كلّ ليلة ثلاثاء ينزل من القلعة يبيت فبها، ويحتفل الناس للحضور إليها، والمقام بنواحيها. وترسّل عن السلطان إلى مهنّا، وتعيّن لتلك الرسالة وتعنّى، ونفع الناس نفعاً عظيماً، وقلّدهم من مِننه عقداً نظيماً. ولما مات وُجد في تركته ألف ثوب أطلس، ونفائس منى رآها غيره أفرد حيرة وأبلس، وتواقيع جملة، ومناشير حملة، مُعَلّم عليها، فأنكر السلطان معرفتها وعلمها، ونسب إليه اختلاسها وظلمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ولم يزل على حاله إلى أن أطفأ الموت شرارته، وأبطل من التواقيع والمراسيم رسالته وإشارته. ونوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع عشرة وسبع مئة. وتوفي هو والقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق في شهر واحد. ووفاة أرسلان المذكور في ثالث عشري شهر رمضان من السنة المذكورة. كتب إليه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود ما أنشدنيه إجازة لنفسه: بك ماسَ عطفُ الدهر في حُلل البها ... وسما مكان الفضل منه إلى السُّها ولديك أدركَ كلُّ راجٍ مارَجا ... كرماً وأحرز كلّ عافٍ ما اشتهى بَشَرٌ يُبشِّر آمليه بسؤلهم ... منه ويبدأ هم إذا قيل انتهى وكما أوصاف تُعلّم من رأى ... تلك المهابة كيف تُكتسب النهى يحمى حمى الملك الشريف برأيه ال ... عالي فيغدو للسيوف مرفّها ويصون أطراف الثغور يراعُه ... فيشَيدها ويسدّ منها وما وهى متيقّظ للبر والإحسان لا ... يحتاج في كَسْب الثناء منبّها ضَلَّ الذي لنواله ولباسه ... بالليث أو بالغيث ظلَّ مشبّها فالليث ما يُردي الجيوشَ زئيره ... والغيثُ ما يروي الممالك كلّها يا سيّد الأمراء دعوة مخلصٍ ... أضحى بشكرك والثناء مفوّها أنت المؤمَّلُ للمطالب حين لا ... يُدعى سوى إحسانك الوافي لها وإذا تعقّدت الأمور فما سوى ... معروفك المعروف يُحسِنُ حلّها لا زلتَ تَقْني الأجر في البر الذي ... تولي وترجو الله في بذل اللهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أرسلان الأمير بهاء الدين ابن الأمير علاء الدين مَغْلطاي أمير مجلس، سيأتي ذكر والده مغلطاي في حرف الميم. كان بهاء الدين هذا أمير عَشَرة بدمشق، كان بها إلى أن توجّه إلى إقطاعه بنواحي نابلس. وتوفي رحمه الله تعالى هناك في ثامن شعبان سنة ست وأربعين وسع مئة. أرغون الأمير سيف الدين الدوادار الناصري كافل الممالك الإسلامية. اشتراه الملك المنصور قلاوون وهو صغير لولده الملك الناصر، فربي معه، وألِفَ به، وكان معه في الكرك، ولم يفارقه، وولاه السلطان نيابة مصر بعد الأمير ركن الدين الدوادار في جمادى الأولى سنة اثنتي عشر وسبع مئة. كان بيبرس تولاها بعد الأمير سيف الدين بكْتُمر الحاجب أمير خازن دار. سمع البخاري من الحجار بقراءة الشيخ أثير الدين، وكتبه بخطه في مجلد في الليل على ضوء القنديل. ولم يزل في بيت أستاذه كبيراً، موقراً أثيراً، هو رأس الحزب، وكبش ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الرحب، والذين يقولون بقوله، ويبطشون بقوته وحَوْله، هم أكابر الخاصكية وأعيانهم، وأمراؤهم المذكورون وشجعانهم مثل: قجليس والجمّالي ومنكلي بغا وطُرحي وطشتمر والفخري. وكان فقيهاً حنفياً، فاضلاً في مذهبه مُفْتياً، يعرف دقائق مذهبه ويناظره، ويذاكر بغرائبه ويحاضر. لما توجه إلى حلب نائباً، ونزل بجامع تنكز وصلى العصر خلف الشيخ نجم الدين القحفازي جذبَهُ وأخرجه من المحراب، وقال: ما هو مذهبك يا فقيه؟ يعني بذلك صلاة الطاق، وهي مسألة معروفة في مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. وكانت عنايته بالكتب إليها النتهى، وبلغ من جَمْعها ما أراد واشتهى. لمّا مات قجليس بمصر، وهو بحلب، أرسل ألفي دينار ليُشترى له بهما كتب من تركته، وجهّز إلى بغداد، واستنسخ فتاوى ابن قاضي خان، وعلم الناس رغبته في ذلك، فحملوا إليه حملاً من أطراف الممالك. وكان له معرفة بعلم الميقات، وعنده من ذلك بناكيم وآلات. ولم يُرَ في الترك مثله سكوناً ووقاراً، وهيبة وشعاراً، ومَلَكَةً لنفسه عن الغضب واقتداراً، قلّ أن عاقب، وطالما خاف إلهه وراقب، لم يسفك دماً في حلب مدة إقامته، ولا ظلم أحداً من الرعايا في نيابته، واجتهد في حلب على سياقة نهر الساجور، وبذل فيه أموالاً يتحقق بها أنه عند الله مأجور، وما زال إلى أن أدخله حلب، وساق به إليها كل خير وجَلَب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وكان يؤثر أهل العلم ويدنيهم ويخصهم بالذكر ويعنيهم، له حنو زائد على الشيخ أثير الدين، وعلى الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، ولم يمكن أستاذه مدة مقامه بمصر من خروجٍ عن الواجب، وأمراء الدولة والخواصّ كلهم يهابونه ويخافونه، وللملك به جمال، ولبدر الدولة بنيابته كمال، وعلى الوجود إضاءة، وللنيابة قعدد وأناءة، ولما تولاها أجراها على السداد، وقررّ قواعدها ووطد مجدها وساد، وذلك من أواخر سنة إحدى عشرة فيما أظن إلى سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 سبع وعشرين وسبع مئة، وهي تدجري بريح طيبّة الهبوب، سالمة من شرر الشر والألهوب. وكان قد توجه إلى الحجاز في سنة ست وعشرين، وفي قلب القاضي فخر الدين ناظر الجيش منه قلوب، هو يؤدّ أن يرمي أسده في أقلوب، فاغتنم غيبته، وجدد في كل وقت غيبته، مع ما كان في نفس السلطان منه، لأمر ندبه إليه في الباطن لم يُر اعتماده، وخاف فيه حشره إلى الله ومعاوده، ولما عاد من الحجاز لم يدعه بكتمر الساقي يدخل إلى السلطان، ولم يساعد في أمره على ما سوله الشيطان، وبقي عنده في بيته ثلاثة أيام بلياليها، والفكرة في أمره تشتبك عواليها، إلى أن جهز السلطان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار إلى حلب لإحضار نائبها علاء الدين ألطنبغا، وأكد عليه في سرعة التوجه والعود لما أراده في ذلك وابتغى، ثم إنه رسم لأرغون بنيابة حلب، أخرجه مع الأمير سيف الدين أيتمش إليها، وأرسل منه سحائب الرحمة عليها، فاجتمع تنكز وألطنبغا وألجاي وأرغون في دمشق في المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فغرّب ذلك وشرق هذا، ونفذ سهم القدر بما أراده الله تعالى من ذلك نفاذاً، فوصل حلب وأقام بها نائباً إلى سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وطلب الحضور إلى مصر في أواخر هذه السنة، فأذن له في ذلك، ولما رآه بكيا طويلاً، وأبدي كل منهما تأسفاً وعويلاً، وأقام أياماً، ثم أعاده إلى نيابة حلب على حاله، فعاد عود الغيث إلى الروض الذي صوح، أو البدر الذي ابتدر نُوره إلى الساري ولوّح. فلم يزل بها على حاله إلى أن أرغم الموتُ من أرغون أنفه، وعدم السمع من ذكر حياته شنفه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكان عمره تقديراً بضعاً وأربعين سنة، ودفن بتربة اشتريت له بحلب، وكان قد طول في مرضه، وحدس الناس على سهم أصاب مرمى غرضه، وجهز السلطان إليه صلاح الدين محمد بن البرهان الطبيب من مصر، فما وصل إلى دمشق حتى مات، نزل به من عدوه الشمات. وهو الذي كمل سياقة نهر الساجور إلى حلب بعد ما كان في ساقه الأمير سيف الدين سودي، ولم يتفق وصوله على ما سيأتي في ترجمته، ويوم دخوله خرج لتلقيه هو والأمراء وأهل البلد مشاة، وشعارهم التكبير والتهليل حمداً لله تعالى، ولم يمكن أحداً من المغاني والمطربين الخروج معهم، وكان يوماً مشهوداً، وخرج الناس بوصوله، وأحكم عمله وسياقه في الجبال والسهول واتفق في طريقه واديان وجبلان، فبنى على كل واحد من الواديين جسراً يعبر الماء عليه، وأما الجبلان فكان الأول منهما سهلاً نقب في مدة يسيرة، والآخر كان صخراً أصم، وطول الحفر في هذا الجبل ثلاث مئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ذراع وستون ذراعاً، وأغمق موضع فيه من الجباب طوله ستة عشر ذراعاً، وبعضه محفور على هيئة الخندق، وبعضه جباب مفقرة، وكان من هذا القدر نحو عشرين ذراعاً لا يمكن حفره إلا بعد حرقه بالنار مدة أيام، وانتهى عمل هذا الجبل في ثمانية أشهر، وكان بعد هذا الجبل سهل، فظهر بالحفر فيه حجارة سود مدوّرة، لا يمكن كسرها إلى بالمشقة، ولما رجع الأمير سيف الدين أرغون إلى المدينة حصل له تشويش ومرض، ومات رحمه الله تعالى. وقيل: إنه قيل له يا خوند! بالله لا تتعرض إلى هذا النهر فإنه ما تعرض له أحد إلا ومات، فقال: أنا أكون فداء المسلمين فيه، وجعل مشده شخصاً من ممالكه اسمه أرغون فاتفق ما جرى. ؟ أرغون الأمير سيف الدين العلائي. رأس نوبة الجمدارية من أيام أستاذه. أخرجه الأمير سيف الدين قوصون إلى صفد، فورد إليها جندياً - فيما أظن - وعاد من الفخري إلى مصر. وهو زوج والدة الصالح إسماعيل والكامل شعبان. فأقام بمصر إلى أن خُلع الناصر أحمد كما تقدم، وجلس الصالح إسماعيل على كرسي المُلك، فكان هو مدبّر تلك الدولة، وحوله ذاك الجو مدار الجوله. ولما قتل أحمد زاد تمكنه، وعظم تعيّنه، وظهر تبينه، وزهر تزيّنه، وكثرت إقطاعاته وأمواله. وضماناته وأملاكه وأثقاله، وأنعامه وأنفاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فكان أكبر من النواب، وأعظم من المقيم والجوال والجواب، ودبر الأمر بسعد قد اطمأن، وركن حظه واستكن. وتوفي الملك الصالح إسماعيل، وولي الملك أخوه الكامل شعبان، وأرغون في سعادته ريّان شبعان، إلى أن خرج أمراء مصر على الكامل وخلعوه، وضُرب أرغون العلائي في وجهه ضربة مهولة بطبر، إلا أنه ثبت لها وتجلد، واحتمل وصبر، وكانت جراحةً نجلاء واسعة، رأى الأرض منها خافضة رافعة، قيل: إن الذي جرحه أرغون شاه. وقيل: على ما ذكره النقلة والوشاة. ثم إنه اعتقل في إسكندرية أول دولة المظفر حاجي، فأقام في الاعتقال مدة إلى أن قتل الحجازي واقسنقر، فطلب من إسكندرية، وخرج إليه الأمير سيف الدين منجك، فقيل: أنزله العلائي بطن الأرض، واستعاد العدمُ ماله عند وجوده من القرض، وكانت قتلته في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكانت سعادته قريباً من خمس سنين. ؟ أرغون شاه الأمير سيف الدين الناصري كان رأس نوبة الجمدارية أيام أستاذه الناصر، وكان هو وأرغون العلائي شريكين في هذه الوظيفة، لكنه هو المقدم، وكان في أول أمره قد جلبه الكمال الخطائي إلى القان بوسعيد من بلاد الصين وهو وسبعة من المماليك وثمان مئة ثوب وبر خطائي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 أملاك بوسعيد الموروثة عن أبيه وجده من جدهم جنكز خان بتلك البلاد، فنم على الكمال الخطائي لبوسعيد فصادره، وأخذ منه مئة ألف دينار، ثم إن بوسعيد كرهه لذلك، فأخذه منه دمشق خواجا بن جوبان، فكأن ذلك لم يهن عليه، فنم إلى بوسعيد أيضاً بأمر دمشق خواجا مع الخاتون طقطاي، وجرى من أمرهما ما جرى من حزّ رأسيهما وخراب بيت جوبان، ودكه. ثم إن بوسعيد ارتجع أرغون شاه، ثم إنه بعثه إلى الملك الناصر هو والأمير سيف الدين ملكتمر السعيدي، فحظي الأمير سيف الدين أرغون شاه عند الناصر، وأمره وجعله رأس نوبة، وزوجه بابنة الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، ولم يزل بمصر إلى أن خرج مع الفخري لحصار الكرك، ثم توجه مع العساكر الشامية إلى القاهرة، وجرى منه في نيابة طشتمر ما أوجب أن ضربه وأراد إخراجه إلى طرابلس، ثم إنه شفع فيه. ولما تولى الملك الكامل حظي عنده، وجعله أستادار السلطان. ثم تولى الملك المظفر، فزادت حظوته عنده، فما كان بعد ثلاثة أشهر حتى خرج مع النائب الحاج أرقطاي من عند السلطان، وأخرج له تشريف، فلبسه، وطلب الاجتماع بالسلطان، فمنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وأخرج لنيابة صفد، فوصل إليها على البريد في خمسة أرؤس في أوائل شوال سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فدبرّها جيداً، وأقام الحرمة والمهابة، وآمن السبل. لم يزل بها إلى أن طُلب إلى مصر في العشر الأواخر من صفر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ورسم له بنيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين بيدمر البدري، ودخل دمشق في سادس شهر ربيع الأول من السنة دخولاً عظيماً، جاء على البريد، وأقام على القصير المعيني إلى أن جاءه طلبه من صفد، ودخل برخت وأبهة زائدة بسروج معرقة مرصعة، وكنابيش زركش، وغير ذلك من البرك المليح الظريف، والجميع باسمه ورنكه. وتوجه إلى حلب، وأقام بها نائباً. ولما جرى للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي ما جرى - على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته - رسم بنيابة الشام، فحضر إليه الأمير سيف الدين أقسنقر أمي رجاندار، فدخل إلى دمشق بكرة الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولما عاد أقسنقر المذكور أعطاه خمسة عشر فرساً، منها خمسة عربية بسُرجها ولجمها وكنابيشها، وعشرة أكاديش، وجارية بخمسة آلاف درهم، وأربعين ألف درهم ومئة قطعة قماش، والتشريف الذي لبسه للنيابة بالكلوتة والطراز والحياصة، والسيف المُحلى، وألف إردب من مصر، وكان قد أعطاه ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وخمس مئة دينار، وغير ذلك، وشرطه له كل شفاعة يشفعها من حلب، وفي الطريق، ومدة مقامه بدمشق، واقام بها قريباً من ثلاثة اشهر ولم يسأله من عزلٍ وولاية إلا أجابه إلى ذلك. وقدم إليه يوماً وهو في سوق الخيل بدمشق نصراني من الزبداني رمى مسلماً بسهم، فمات، فأمر بقتله وتفصيله على أعضائه، قطعت يداه من كتفه، ورجلاه من فخذيه، وخر رأسه، وحملت أعضاؤه على أعواد، وطيف به، فارتعب الناس لذلك، فقلت له أنا: لله أرغون شاه ... كم للمهابة حصل وكم بسيف سُطاهُ ... من ذي ضلال تنصل ومجملُ الرغب خلى ... بعضَ النصارى مفصّل واختطف الحرافيشُ يوماً في الغلاء الخبز من الجوع، فأمسك جماعة من الحرافيش وقطع أيدي ثمانية عشر رجلاً، وأرجلهم، وسمر على الجمال سبعة عشر وهو واقف بسوق الخيل، وذلك في تاسع عشر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فقلت أنا في ذلك: كان الغلا يغلو فأما إذا ... أصبح ناراً قلت ذا يغلي وأصبح الحرفوش ذا كسرة ... عن طلب الكسرة في شعل من يطلب الخبز ومن يشتهي ... وهو بقطع اليد والرجل ولم ينل أحدٌ من السعادة ما ناله، ولا حصل ما حصله في المد القريبة من المماليك والجواري، والخيل والجوهر والأمتعة والقماش، ولا تمكن أحد بعد الأمير سيف الدين تنكز تمكنه، يكتب إلى مصر بكل ما يريده في حلب وطرابلس وغيرها، وحماة وصفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وسائر ممالك الشام من نقل وإضافة وإمساك، ونق لإقطاعات وغيرها، فلا يرد في شيء يكتبه، ولا يخالفُ في جليل ولا حقير إلى أن زاد الأمر، وأفرط هو في معارضة القضاة الأربع، وعاكسهم، وثقلت وطأته على الناس إلى أن حضر الأمير سيف الدين الجيبغا من طرابلس في ليلةٍ يسفر صباحها عن يوم الخميس ثلاث عشري شهر ربيع الأول سنة خمسين وسبع مئة، اتفق في الليل هو والأمير فخر الدين أياز السلحدار، وجاء إليه إلى باب القصر الأبلق، وهو به مقيم نائم في فراشه، فدقا الباب عليه الثلث الأخير من الليلة المذكور وأزعجاه، فكانا كلما خرج طواشٍ أمسكاه، وسمع هو الغلبة، فخرج وبيده سيف، فلما رآها سلم نفسه، فأخذاه على الحالة التي خرج عليها، وتوجّها به إلى دار الأمير فخر الدين أياز، وقيداه بقيد ثقيل إلى الغاية، ونقلاه إلى زاوية المنيبغ، ورسم عليه الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي، فأقام هناك يوم الخميس إلى العشاء الآخرة، ودخل مملوكه الذي يخدمه فوجده مذبوحاً والسكين في يده، والدم قد سال ملئ مرقده، فوقف عليه في الليل بالقاضي جمال الدين الحسباني، والشهود، وكتب بذلك محضر شرعي، وجهز إلى الديار المصرية صُحبة الأمير سيف الدين تلك أمير علم، ودفن بمقابر الصوفية. وكان شخصاً لطيف الجثة. مختصر الحبة أسمر الوجه أحمر اللثة، أبيض اللبة، ظريفاً حسن العمة، شديد العزمة عالية الهمة، ذهنه يتوقد، ونفسه تزاحم الفرقد، يقترح في الملابس أشكالاً غريبة، ويعمل بيده منها صنائع عجيبة، إلا أنه جبار سفاك، طالب لثأره دراك، يده والسيف يمتشقه، وغيظه يوديه إلى العطب وخلقه. لا يشرب الماء إلى من قليب دم، ولا يتنسمُ الهواء إلى بشم سم، ومع ذلك إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ظهر له الحق رجع في الحال، وندم على ما فرط منه واستحال، لكنه تروح في ذلك الغضب أرواح، وتُجبّ مذاكير وتقطع أحراج. وكان في دمشق زمن الطاعون فما طُعن على عادة الملوك، وإنما طعن بالسيف الذي يذر الدم، وهو مسفوك. وقلت أنا فيه: تعجبتُ من أرغون وطيشه ال ... ذي كان فيه لا يفيق ولا يعي وما زال في سكر النيابة طافحاً ... إلى حين غاضت نفسه في المنيبع ؟ أرغون السلحدار الأمير سيف الدين توجه أمير الركب الشامي في سنة ست عشرة وسبع مئة، وداره عند دار الطراز داخل مدينة دمشق. لم أعرف من حاله شيئاً فأذكره، ولا اتصل بي ما يتعلق به فأعرفه به أو أنكره، خلا أنه رحمه الله تعالى توفي في مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة وسبع مئة. أرغون الأمير سيف الدين مشد الزكاة، ومشد الدواوين بدمشق، ونائب بعلبك. مملوك الأمير سيف الدين سمز، وسيأتي ذكره أستاذه في مكانه. كانت فيه سياسية، وعنده حشمة ورياسة، تقرّب إلى الأمير سيف الدين تنكز بالكفاية والنهضة، وساعده القدر لما أحكم إبرامه ونقضه، فولاه بعد شدّ الزكاة شدّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الدواوين، قام فيه مدّة لينقذ الهاوين، ويصدّ الغاوين، ثم إنه بعد مدة ولاه نيابة بعلبك فسدّها، وعرف رسمها وحدها. ثم إنه بعد ذلك توجه إلى طرابلس أميراً، وأقام بها. ولم يجد لعيشه في دمشق نظيراً إلى أن نزل في رمسه، واستوحش أحبابه من أنسه، وتوفي رحمه الله تعالى في ... كان قد باشر الشدّ على الزكاة مدة، وخلا شد الدواوين في دمشق مدة زمانية، فولاه الأمير سيف الدين تنكز شد الدوواوين في آخر المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة هو وعماد الدين بن صصرى، ثم إنه ولاه نيابة بعلبك في سادس عشر صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكتبت له مرسوماً بنياب بعلبك، ونسخته: أما بعد حمد الله الذي نصر هذا الدين بالسيف، ورفع بولاة الأمور عن ضعيف الرعية ثقل الخيف والحيف، وأمر الحق في أهله بحسن نظرهم الذي ينتقي الزين وينتقد الزيف، وعرم البلاد بعدلهم الذي إذا طلعت شموسه النيرة، وكان الظلم معها سحائب صيف. وقمع المفسد بمهابتهم التي منعت جفونه أن تجد رجعة هجعة أو ضيف طيف، وجمع حكمة الإيمان ببأسهم الذي إذا دعاهُ مُهمّ لم يقل له متى ولا كيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وصلاته على سيدنا محمد خير من أطعنا نهيه وأمره، وأشرف من كحل سواد أمته طرفُ الزمان وكان أمره، وأفضل من ساد بشرفه زيد الخلق وعمره، وأكرم من كان له من الناس على العدل أفضل قوة، وعلى الإحسان إليهم تمام قدره، وعلى آله وصحبه الذين أمضوا فضله وأعزوا نصره، وأطاعوا من جعلوا له عليهم الأمر والإمرة، وجبلوا على محبته فما نهى أحدهم عن شيء فكره أن لا يكون فيه فكره، وهجروا الأهل والوطن في طاعته فكم صبروا على هجير هجره، صلاةً يرسلُ غيثها في كل قطر من الأرض قطره، وينبت روضها الأنف في السماء بين الأنجم الزهر زهره، وسلم ومجد وكرم. فإنه لما كانت مدينة بعلبك والبقاعان أنموذج الجنة، وغاية إذا جرت جياد الأفكار في ارتياد نزهة ثنت إليه الأعنة، وبقعة إذا تمنت النفوس نفائس شيء كانت لتلك الأماني مظنة، فهي أصح البلاد لأولي الذوق والظرف، وأحسنُ مكان سرح في مدى ميدانه طرف الطرف، قد ركبت على الصحة فما خطبت بخطب، وعلى قول النحاة فقد منعت من الصرف. أهلها أطع رعية، وأكثر خيراً وألمعية، ينقادون لأميرهم، وينادون لمشيرهم، ويتأدب صغيرهم بأدب كبيرهم، وقد خلت هذه المدة من نائبٍ يستقر بها أو يستقل، ويستمد من محاسن هذه الدولة الشريفة أو يشتمل، وكان المجلس السامي الأميري السيفي أرغون الناصري هو السيف الذي حُمدت مضاربه، وشكرت على اختلاف أحواله تجاربه، وأرضت، وأين من ترضى عزائمه؟، وجرد وجرب فلا المجدُ مخفيه، ولا الربُ ثالبه، واصبح وما كل سيف على عاتق الملك الأغر نجاده، وفي يد جبار السموات قائمه، هذا إلى ما اتصف به من كرم الخلال التي قد فغم الخافقين رياها، والتحق به من علو الهمم التي ملء فؤاد الزمان إحداها، وظهر عنه من عز عزم ببعضه يجر طولى القنا وقصراها، واشتهر به من سجايا لو كفر العالمون أكثرها لما عدت نفسه سجاياها، فلذلك وقع الاختيار عليه، ورسم بالأمر العالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 المولوي السلطاني الملكي الناصري لا زالت أوامره بالسيف ماضية، ويجد حجته قاضية، أن يفوض إليه نيابة بعلبك المحروسة والبقاعين على عادة من تقدمه في ذلك وقاعدته، فليتول ما فوض غليه ولاية تحمد منها العواقب، ويشخص لها طرف الشهاب الثاقب، ويتساوى في أمنها منها أهل المراقد والمراقب، وينهض بهمته في أمور الدولة المهمه، ويشمر عن ساعد كفايته في الأوقات التي حراسته في جيدها تميمة، وسياسته لحسنها تتمة، وليقم منار الشرع الشريف، ويعضد حكمه، ويعمل في تنفيذ أمره المطاع فكرهُ وعزمه، فإنه الطريقة المثلى، والحجة التي من نكب عنها لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، حتى يكون هو الذي أقام الحق، وكان على الذي أحسن تماماً، وجلا بشمس العدل الشريف من أفق الظلم ظلاماً، وأعلى المحق على المبطل، لأنّ له مقالاً ومقاماً، وليردع المفسد بنكاله، ويقمع المعتدي بجلاده، ولا يقال بجداله، وليجتنب أخذ البريء بصاحب الذنب، ويحذر الميل على الضيعف، الذي لا جنب له، ويترك صاحب الجنب، وعمارة البلاد، فهي المقدم من هذا المهمّ، والمقصود بكل لفظ تم له المعنى أو لم يتم، فليتوخ العدل فإنه أنفع للبلاد من السحب الماطرة، والذ لأهل القرى من ولوج الكرى في الأعين الساهرة، فإنه لا غيث مع العيث، ولا حلم مع الظلم، وليصل باعَ من لا له إلى الحق وصول، وليتذكر قوله عليه السالم والسلام: " كلكم راع وكل راع مسؤول "، فإنه إذا اتصف بهذه المزايا، والتحف بهذه السجايا تحقق الملك الأمجد لو عاصره أنّ المجد للسيف، وقال تعجباً من سيرته: من أين اتفقت هذه المحاسن وكيف، وملاك هذه الوصايا تقوى الله عز وجل، فليكن ركنه الشديد، وذخره العتيد وكنزه الذي ينمى على الإنفاق ولا يبيد، والله تعالى يوفق مسعاه، ويحرس سرحه ويرعاه والاعتماد على الخط الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أرغون الأمير سيف الدين الكاملي نائب حلب، ونائب دمشق، ذو وجه طبعَ البدرُ على سكته، وقد لا شك أن قلب المحبّ يذوب من شكته، وعيونٍ سبحان من أبدعها، عروة ليس لها زر سوى السحر، وثغر يتمنى لو كان مثله ما يرضع في التاج أو يتحلى به النحر، ويفتن من يراه، ويعترف بالبوبية لمن براه، وحفظ لإيمانه، وخاف ربه فما نكث عهده ولا خانه، ورعى من ورعه سلطانه، وقمع بالمروءة شيطانه، لأن بيبغاروس لما خرج على السلطان وبغى، وطف ماءُ تمرده، طغى، راسله في الباطن بالباطل مراراً، وقتل في ذروته والغارب نهاراً جهاراً، ووعده بأنه لا يغير عليه في دمشق أمراً من النيابة، وأن يكون شريكه في المهانة والمهابة، وطالت الرسائل بينهما، ولم ير فيه مغمزاً يلين، وتحقق بيبغا أنه من الصابرين عليه والصائلين، فأعياه انقياداً لمرامه، وعلم أنّ بازيه لا يحوم حول حماه ولا يسف على حمامه، فنكص عنه خائباً، وكر نجمه عنه كاسفاً غائباً. وكان كثير السكون، وراجح الميل إلى العدول والركو، ولا يدخله في أحكامه غيظ ولا حرج، ولا يبالي أدخل الحق على نفسه أو خرج، يعرف القضية من أول ما ينهى إليه أمرها، ويستشف الحقّ في فضلها إذا أشبّ الباطل جمرها، لا يغيب عن ذهنه واقعة جرت، ولا يسير عن ذهنه قضية انقضت أو سدت: يُحدث عما بين عادٍ وبينه ... وصُدغاه في خدي علامس مراهق وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً هل ... إذا لم يكن في فعلهِ والخلائقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ولم يزل أرغون الكاملي في محاق وكمال، وزيادة وزوال إلى أن: قصدت نحوهُ المنية حتى ... وهبت حسنَ وجههِ للتراب أول ما أنشأه الملك الصالح إسماعيل، وزوجه أخته من أمه بنت الأمير سيف الدين أرغون العلائي، وذلك في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وجهزه عقيب زواجه إلى الأمير بدر الدين جنكلي، وقال: انزل إلى الأمير بدر الدين، وقبل يده، فحضر إليه وكنت جالساً عنده، فلما دخل إليه أعظمه وبجله وبش له وهش، وأجلسه، وأحضر له قبا بطرز زركش وألبسه إياه ولم يكن الأمير بدر الدين ممن يهوى المرد، ولا يميل إليه، فلما خرج من عنده، قال لي: أرأيت ما أحسن وجه هذا وعيونه، فقلت له: نعم، رأيت، ونعم ما رأيت. وكان يعرف في حياة الصالح إسماعيل بأرغون الصغير، فلما مات الصالح رحمه الله تعالى، وتولى الملك أخوه الملك الكامل شعبان أعطاه إمرة مئة وتقدمة ألف، ونهى أن يدعى أرغون الصغير، وسمي أرغون الكاملي. ولما مات الأمير سيف الدين قطليجا الحموي في نيابة حلب، رسم الملك الناصر حسن له بنيابة حلب، فوصل إليها يوم الثلاثاء خامس عشر شهر رجب الفرد سنة خمسين وسبع مئة، وعمل النيابة بها على أحسن ما يكون من الحرمة والمهابة، وخافه التركمان والعرب، ومشت الأحوال بها، ولم يزل بها إلى أن جاءه الأمير سيف الدين كجُك الدوادار الناصري، بأن يخرج ويربط الطرقات على أحمد الساقي نائب صفد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فبرز إلى قرنبيا، فأرجف بإمساكه، فهرب منه الأمير شرف الدين موسى الحاجب بحلب وغيره، ثم إنّ جماعة من الأمراء لحقوا بالحاجب، وأوقدوا النيران بقلعة حلب، ودقوا الكوسات، ونادوا في الناس لينهبوا طلبه، وما معه، فتوجه إلى المعرة، وكتب إلى الأمير سيف الدين طاز يرق نائب حماه، فلم يجد عنده فرجاً، فرد طلبه، ونقله إلى حلب، وتوجّه على البرّية إلى حمص في عشرة مماليك، وقاصى من التركمان شدة. ثم إنه ركب من حمص هو ونائبها الأمير ناصر الدين محمد بن بهادر آص في ثلاثة مماليك، ودخل دمشق يوم الجمعة سابع عشري الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فجهز نائب الشام الأمير سيف الدين أيتمش الحاجب إليه، وابن أخته الأمير سيف الدين قرابغا بقباء أبيض فوقاني بطرز زركش ومركوب مليح، ودخل غليه، وأقام عنده بدار السعادة إلى بكرة السبت ثاني يوم، وجهزه إلى باب السلطان على يدهما مطالعة بالشفاعة فيه، ولما وصل إلى لد تلقاه الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار، ومعه له أمان شريف مضمونه أنه ما كتبنا في حقك لأحد، ولا لنا نية في أذاك، فغن اشتهيت تستمر في نيابة حلب، وإن اشتهيت نيابة غيرها، وإن أردت أن تحضر إلينا كيفما أردت عملنا معك، فعاد معه طشبغا الدوادار إلى مصر، وأقبل السلطان عليه، وأنعم عليه، وأعاده إلى حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فوصل إلى دمشق ومعه طشبغا الدوادار، واصبح يوم الاثنين جلس في دارس العدل إلى جانب قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وظهر نائب حلب إلى قاضي القضاة الحنفي وغيره، وقام من الخدمة، وتوجّه إلى الجامع الأموي، وصلى فيه ركعتين، ودخل إلى خانقاه السميساطي. ولما كان عصر الخدمة خلع نائب دمشق عليه قباء بطرز زركش، وفرساً حسناً بسرجه ولجامه، وكنفوشة الذهب. وتوجّه بكرة الثلاثاء إلى حلب وصحبته ابن ازدمر مقيداً لأنه كان طُلب من حلب لما شكاه للسلطان، فرد معه من الطريق، ولما وصل إلى حلب تلقاه الناس بالشموع إلى قنسرين وأكثر، ودخلها دخولاً عظيماً، ووقف في سوق الخيل، وعرى زكري البريدي، وأراد توسيطه، ونادى عليه هذا جزاء من يدخل بني الملوك بما لا يعنيه، فنزل طشبغا وشفع فيه، فأطلقه، وأحضر ابن أزدمر النوري، وقال: قد رسم لي السلطان أن أسمرك وأقطع لسانك، ولكن ما أواخذك، وأطلعه إلى قلعة حلب، وأقام على ذلك إلى أن عزل الأمير سيف الدين أيتمش من نيابة دمشق في أول دولة الملك الصالح صالح، فرسم للأمير سيف الدين أرغون بنيابة الشام، فدخل الشام بطلبه في نهار الاثنين حادي عشر شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وكان قد قدم من مصر لإحضاره الأميرُ سيف الدين ملكتمر المحمدي، فأقام في نيابة دمشق، وهو منكد الخاطر، ولم يصفُ له بها عيش، وجهز دواداره الأمير سيف الدين ططق يستعفي من النيابة، وأن يكون في باب السلطان من جملة الأمراء، فما أجيب إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ولم يزل بدمشق مقيماً إلى أن خرج بيبغاروس وأحمد الساقي نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس على السلطان الملك الصالح، واجتمعوا وجروا العساكر وجاؤوا إلى دمشق، فلما بلغه حركة المذكورين حلف عسكر دمشق للسلطان الملك الصالح ولنفسه في العشر الأولى من شهر رجب، وهو مقيم في القصر الأبلق، وكتم أمر نفسه وما يفعله، وأظهر أنه يتوجه بعسكر دمشق، ويقيم بهم على خان لاجين، فوصل إليه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار ومعه ملطفات إلى أمراء دمشق وحلب وطرابلس وحماه بعزل نوابها، وأنهم إن حضروا إلى دمشق مخفين يجهزهم نائب الشام إلى باب السلطان، وإلا فليمسكوا ويقيدوا، وكان وصول الدوادار في سادس عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. وفي حادي عشر شهر رجب نادى في العسكر بالخروج إلى خان لاجين، وأنهم في بكرة النهار يجتمعون في سوق الخيل، وليتوجهوا أمامه، وكان هذا رأياً صالحاً حميداً، ولم يعلم أحد بما في ضميره، فلما اجتمع الناس خرج لهم الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب، وقال: بسم الله، توجهوا إلى مصر، فسُقط في أيدي الناس، وتوجهوا أمامه إلى جهة الكسوة، هو ساقه لهم، ولم يزل بهم سائراً ليلاً ونهاراً إلى أن وصل بهم إلى لُد، فخيم بها وأقام. وقتل أنا وقد خرجت معه بغتة: خرجنا على أنا نلاقي عسكرا ... أتى بيبغا فيها على خان لاجين فلم ندر من تعتيرنا وقطوعنا ... فأنفسنا إلا بأرض فلسطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وقلت أيضاً أتشوق إلى ولدي: أيا ولدي وافاني البينُ بغتةً ... وبدد شملاً قد تنظم كالعقدِ فسرتُ وما أعددتُ عنك تجلداً ... لقلبي ولا حدثتُ نفسي بالبعدِ وفي رابع عشري شهر رجب نزل بيبغا بمن معه على خان لاجين، ودخل دمشق مُطلباً، ونزل على قبة يلبغا بمن معه بأحمد الساقي نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، وألطنبغا برناق نائب صفد، وقراجا بن دلغادر ومن معه من التركما، وحيار بن مهنا. وبعد ثالثة أيام توجه أحمد الساقي بألف وخمس مئة فارس، وأقام على المزيرب، وجرى في دمشق ما لا جرى في أيام غازان، نُهب المرج والغوطة وبلادهما، ونهبت بلاد حوران، ونهبت البقاع، وسبيت الحريم، وافتضت الأبكار، وقطعت الآذان بحلقها، وأخذت الأموال. ولم يزل الأمير سيف الدين مقيماً على لد بعساكر دمشق إلى أن وصل الأمير سيف الدين طاز في خمسة آلاف من عسرك مصرن وأقام على ظاهر لد، وكثرت الأراجيب بما يفعله من مع بيبغا من التركمان من الأذى في دمشق، فقلت أنا أذكر أولادي: أخرجني المقدور من جلق ... عن طيب جنات جنيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فإن أعد يوماً لها سالماً ... فهو بنيّات بُنياتي وقلت وقد زاد الإرجاف بأن بيبغا تقدم بمن معه من العساكر إلى الكتيبة: قد ضجرنا من المقامِ بلدٍ ... بلدٍ ما طباعه مثل طبعي كلما قيل لي كتيبةُ جيش ... قد أتت للكتيبة اصطكَ سمعي فتراني مغيراً من سقامي ... ونحولي وفي المزيريب دمعس وقلت، وقد زاد الذباب علينا بلدّ من طول مقامِ العساكر في منزلتها: لقد أتانا ذباب لُد ... بكل حتفٍ ولك حيف وقل: هذا ذبابُ صيف ... فقلت: لا بل ذبابُ سيف وفي يوم الجمعة ثاني عشري شعبان وصل السلطان الملك الصالح صالح بالعساكر المصرية إلى منزلة بدعرش، وتلقاه الأمير سيف الدين أرغون بالعساكر إلى قرية يُبنى. وفي يوم السبت توجهت العساكر الشامية إلى دمشق في ركاب أرغون الكاملي، وخرج الأميران سيف الدين شيخو، وسيف الدين طاز على أثرهم، ودخل النائب إلى دمشق يوم الثلاثاء. وفي يوم الخميس مستهل شهر رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وكان بيبغا ومن معه لما تحققوا خروج السلطان من مصر انقلبوا على عقبهم ناكصين - على ما تقدم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ترجمة أحمد، وعلى ما سيأتي في ترجمة بيبغا - ثم إن شيخو وطاز وأرغون الكاملي توجهوا بالعساكر إلى حلب. وورد بعد ذلك كتاب ابن دلغادر يقول فيه: إن بيبغا وأحمد وبكلمش جاؤوا عندي على فرس فرس، ولم يكن معي مرسوم بإمساكهم، وباتوا عندي ليلة، وتوجهوا إلى البلاد الرومية، ثم إنّ العساكر أقامت على حلب، واتفق الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز على إقامة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي في حلب نائباً لسدّ هذا الثغر في هذا المهم، وكتباً إلى السلطان بذلك، فكتبت له تقليده بذلك من دمشق، وجهز إلى حلب، وأمّروا جماعة من مماليكه طبلخاناه، وجماعة عشرة، وذلك في خامس عشري شهر رمضان، وعادت العساكر إلى دمشق، ودخل شيخو وطاز إلى دمشق يوم الجمعة سلخ شهر رمضان، وأصبح العيد يوم السبت. وفي سابع شوال توجّه السلطان بالعساكر المصرية إلى مصر، ولم يزل الأمير سيف الدين أرغون بحلب نائباً إلى أن حضر أحمد وبكلمش إلى حلب مقيدين، وحزت رؤوسهما، وجُهزت إلى باب السلطان - على ما تقدّم في ترجمة أحمد، وسيأتي في ترجمة بكلمش - ثم إنه بعد ذلك حضر بيبغاروس مقيداً إلى حلب، وخز رأسه، وجهز إلى باب السلطان على ما سيأتي في ترجمته - ثم إن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي توجه بعسكر حلب، ومعه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار خلف ابن دلغادر، ووصل إلى الأبلستين وحرقها، وحرق قراها، ودخل إلى قيصرية، وهرب ابن دلغادر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 واتصل بمحمد بك بن أرتنا، وعاد الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى حلب، ودخلها يوم الثلاثاء خامس شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وقاسى هو والعساكر شدائد وكابدوا أهوالاً، ومشى هو بنفسه في تلك المضائق، ثم إن ابن دلغادر وصل إلى حلب، وجهز منها إلى مصر مقيداً، وجرى له ما جرى، على ما يأتي ذكره في ترجمته. ولم يزل الأمير سيف الدين أرغون على حاله نائباً بحلب إلى أن خلع الملك الصالح صالح، وأعيد الملك الناصر حسن في بكرة الاثنين ثاني عيد الفطر سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وطلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى باب السلطان، وحضر الأمير سيف الدين طاز عوضه نائباً بحلب، وذلك في أواخر شوال. وأقام أرغون الكاملي بالديار المصرية أمير مئة، مقدم ألف تاسع صفر سنة ست وخمسين وسبع مئة فأمسك بالقلعة، وجُهز إلى الإسكندرية، واعتقل هناك. ولم يزل هناك معتقلاً وعنده زوجُه إلى أن أفرجَ عنه، ورُسم له بالحضور إلى القدس الشريف ليكون به مقيماً، وحصل له ضعف، وأثقل في المرض، وعوفي بعد مدة. وبنى بالقدس تربة حسنة. وكان قد عز على الحج في سنة ثمان وخمسين، فمرض أيضاً، وأفطر شهر رمضان، فبطل الحج، ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس خامس عشري شوال، ودفن في تربته، ولم يكمل عمارتها، وخسف الموت من أرغون الكاملي بدره الكامل، وبت شمل سعده الشامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وأظن مولده في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكنت قد كتبت إليه قصيدة، وهو بحلب أذكر فيها انتصاره على بيبغا وأحمد وبكلمش، وهي: قد توالى النصر الذي قد تغالى ... في مليكٍ أرضى الإله تعالى وحمى الملك والممالك والدي ... ن وقاد الجيوش والأبطالا الأمير المهيب أرغون ذو البا ... س الذي عزمه يدك الجبالا سار منجلق إلى لدّ لما ... أن بغى بيبغا ورام القتالا لم يسر خيفةً وكيف يخاف الل ... يثُ يوماً إذا تراءى الغزالا خاف سفكَ الدماء في رجب الفر ... د، وسفكُ الدماء كان ضلالاً وتأتي في لدّ يرجو لقاهم ... بثبات لا يعرف الترحال فهو فيها ليثٌ بغاب سلاحٍ ... كان بيضاً بُترا ومسرا طوالاً وهم عاجزون لم يتنحوا ... عن مكانه فيه أقاموا كُسالى فتخلى الشيطان عن كل غاوٍ ... وانثنى خائباً وولى القذالا من يخون الإيمان كيف يلقى ... بدرهُ في دجى النفاق كمالاً نكث العهد مائلاً لفجور ... هو عندي لو استحى ما استحالا أضعفَ الرعبُ قلبهم فتولوا ... خوراً ثم زلزلوا زلزلا ثم باتوا ما أصبحوا مثل ظلٍ ... نسختهُ أيدي الضياء فزالا قطعوا البيد لا يُديرون وجهاً ... ليردّوا الغضنفر الرئبالا تركوا المال مائلاً لسواهم ... وأضاعوا الحريم والأموالا أمطرتهم قسيهُ وبل نبل ... ملأت سائر الوهاد وبالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ما استقروا في منزل قطّ إلا ... وبهم قد نبا وضاق مجالا شبعوا غربة وفقراً وذلا ... وهواناً وروعة وسؤالا وأتوا خاضعين ذلاً وعجزاً ... يحملون القيود والأغلالا بوجوه قد سودتها المعاصي ... نحو وجهٍ من نوره يتلالا ثم حُزت رؤوسهم بسيوف ... ليس يدري المضاءُ منها كلالا فاشتفي المسلمون منهم وقرت ... أعينٌ ما رأت زماناً خيالا إن رباً أعطاك نصراً عزيزاً ... وكسا وجهكَ الجميل جمالاً هو يُوليك ما تحاول منه ... في المعالي وتبلغ الآمالا أوحشت منك جلق فهي تشكو ... فيك شوقاً تراه داء عُضالا أنت باهيت حسنها بمحيّا ... جعل البدرَ من حياء هلالا ثم كاثرت شهبها بالأيادي ... فلما جُودك الأكف نوالا وكستها أخلاقُك الغر لطفاً ... منه مادَ القضيب لطفاً ومالا وهي ذاقت من حكمك الفصل عدلاً ... صار في قامة الرماح اعتدالا فلك الله حافظ حيثما كن ... ت لتُفني من العدا الآجالا أرقطاي الأمير سيف الدين المعروف بالحاج أرقطاي. من مماليك الأشرف. جعله الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الناصر جمداراً، وكان هو والأمير سيف الدين أيتمش نائب الكرك بينهما أخوة. وكانا في لسان الترك القبجاقي فصيحين، وكانا يرجع إليهما في الياسة التي هي بين الأتراك. ولما خرج الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - خرج معه الحاج أرقطاي والأمير حسام الدين البشمقدار، فحضر الثلاثة على البريد، ولما كان بعد قليل بلغ تنكز أن الأمراء بدمشق يتوجهون بعد الخدمة إلى دار الحاج أرقطاي ويأكلون على سماطه، فما حمل ذلك تنكز، وكبت إلى السلطان فأخرجه إلى حمص نائباً في يوم الأحد سابع شهر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة، وأعطي خبز بيبرس العلائي ومماليكه وحاشيته، فأخذهم عنده، وأقام بحمص مدة، ثم إنه رسُم له بنيابة صفد، فحضر إليها في ثمان عشرة وسبع مئة في جمادى الأولى بعد إمساك طغاي الكبير بها فيما أظن، فأقام بها، وعمر بها دوراً وأملاكاً، وتوفيت زوجته ابنةُ الأمير شمس الدين سنقرشاه المنصوري. بنى لها تربة شمالي الجامع الظاهري، وهي تربة حسناء بالنسبة إلى عمائر صفد، وصار بها للجامع رونق لم يكن له أولاً. وأعطي ولده أمير علي طبلخاناه، وولده إبراهيم أمير عشرة بعد ما طلبهما، السلطان بسفارة الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - أمرهما عنده بدمشق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وأقاما عنده مدة، ثم إنه جهزهما إلى صفد، وكان في الآخر قد حنا عليه حنواً كثيراً. ولما كان في سنة ست وثلاثين وسبع مئة طلب الأمير سيف الدين أرقطاي إلى مصر، وجهز الأمير سيف الدين أيتمش أخوه مكانه نائباً بصفد، وأقام الحاج أرقطاي بمصر مقدم ألف. ولما توجه العسكر إلى أياس جهز إليها في جملة الأمراء، وحضر من هناك، وأقام بالقاهرة يعمل نيابة الغيبة إذا غاب السلطان في الصيد، فلما قدر واقعة تنكز وإمساكه، حضر مع من حضر من الأمراء صحبة الأمير سيف الدين بشتاك، ثم إنه رسم بنيابة طرابلس عوض الأمير سيف الدين طينال، فتوجه إليها، ولم يزل بها مقيماً إلى أن توجه ألطنبغا إلى طشتمر نائب حلب، وكان الحاج أرقطاي بعسكر طرابلس مع ألطنبغا، وتوجهوا إلى حلب، وعادوا، وجرى ما جرى من هروب ألطنبغا إلى مصر، وكان الحاج أرقطاي معه، فأمسكا واعتُقلا بالإسكندرية. ثم أفرج عن الحاج أرقطاي في أول دولة الصالح إسماعيل بوساطة الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، وجُعل كما كان أولاً بالقاهرة من جملة الأمراء المشايخ المقدّمين، واقام على ذلك إلى أن توفي الملك الصالح، وتولى الملك الكامل شعبان، فرسم له بنيابة حلب عوض الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فحضر إليها في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة، فأقام بها تقدير خمسة أشهر، ثم طلب إلى مصر، وجهز إلى حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الأمير سيف الدين طقتمر طاسه نائب حماة. فتوجه الحاج أرقطاي إلى مصر، واقام بها قليلاً إلى أن خلع الكاملي، وتولى الملك المظفر حاجي، فرسم له بنيابة مصر. ولمن يزل في نيابة مصر إلى أن خلع المظفر، وتولى الملك الناصر حسن، فطلب الإعفاء من مصر، وأن يعود نائباً، فرسم له بذلك، فوصل إلى دمشق في رابع عشر شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن قتل أرغون شاه، فرسم للحاج أرقطاي بنيابة دمشق، ففرح أهل دمشق به، وتوجهوا إليه إلى حلب وما دونها، فاستعد لذلك، وخرج في طلبه وحاشيته، وكان قبل ذلك قد حصل له حمى، ثم إنه حصل له إسهال، فنزل إلى منزلة عين المباركة ظاهر حلب، مرة يركب الفرس، وإذا أثقل في المرض ركب في المحفة، إلى أن حم له الأجل، وتلون له وجه الحياة تارة بالوجل وتارة بالخجل. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - عصر الأربعاء خامس جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة بعين المباركة. فعاد الناس خائبين، وعاجوا بعد الفرح بالترح آيبين. وكان - رحمه الله تعالى - ذكياً فطناً، محجباً لسناً، مع عجمة في لسانه، وعقدة في بيانه. وله التنديب المطبوع، والتندير الذي فيه الظرف مجموع، مع ميل شديد إلى الصور الجملية، والقامة المديدة مع الوجنة الأسيلة، لا يكاد يملك نفسه إذا رأى العين النفاثة، والجفون الخوّانة النكاثة، والمباسم الفلج، والحواجب البلج. ونفسه زائدة الكرم في المأكول، وسماطه دائماً ممدود لمن أمره إليه موكول. وأظنه عدى السبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وأنشدني بحماة من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين محمد بن علي الغزي بحماة تاسع جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة: قالوا: أرقطاي مات، قلت: هل ... في الموت بعد الحياة من عجب ما مات من فرحةٍ بنقلته ... بل مات من حزنه على حلب اللقب والنسب الأرمنتي الحسين بن الحسين. وكمال الدين عبد الباري وكمال الدين عبد الرحمن بن عمر وتقي الدين عبد الملك بن أحمد وجمال الدين محمد بن الحسين وشرف الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي محمد بن إبراهيم. وصدر الدين محمد بن الحسن. وصفي الدين محمود بن أبي بكر. آروم بغا الأمير سيف الدين الناصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 لما توفي الملك الناصر، ووفر الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي من وظيفة أمير جاندار، أقيم الأمير سيف الدين أروم بغا مكانه أمير جاندار، ولم يزل كذلك إلى أن ملك الصالح إسماعيل، فرسم له بنيابة طرابلس، فحضر إليها عوضاً عن الأحمدي المذكور، وأقام بطرابلس قليلاً، تقدير أربعة أشهر، إلى أن بات في الثرى موسداً وأصبح على رحمة ربه محسداً. وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وجاء بعده الأمير سيف الدين طوغاي الجاشنكير، الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في حرف الطاء مكانه. وكان الأمير سيف الدين أروم بغا شكلا كاملاً، إلى الخير مائلاً، محسناً إلى من يعرفه، مجتهداً على مالٍ ينفقه ويصرفه. محبوب الملتقي، قريب المستقى، باراً بأصحابه، فأراً من الأذى اقترابه. وأحمد الناسُ أمره في وظيفته بمصر لما باشرها، وخالطها بالحسنى وعاشرها، إلى أن توجه لنيابة طرابلس على ما تقدم. أزبك بن طقطاي القان بن القان، صاحب بلاد أزبك، مملكته شمالينا بشرق، وهي من بحر قسطنطينية إلى نهر أربس مسافة ثمان فرسخ، وعرضها من باب الأبواب إلى مدينة بلغار وذلك نحو ست مئة فرسخ، ولكن أكثر ذلك مراعي وقرى. ولها في أيديهم ما ينيف على المئة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 كان ذا بأس وإقدام، وعبادة في الليل في المحراب، وصف أقدام. لما أسلم أسلم بعض رعيته، وعاملهم بحُسن ألمعيته. لم يلبس سراقوجا ولا شيئاً من شعارهم، ولا رغب في درهم ولا دينارهم. يلبس حياصة فولاذ متغير ذهب، ويقول: الذهب حرام على الرجال وقد وجب. وكان يؤثر الفقراء يوحبهم، ويجانب من يُعرض عنهم ويسبهم، يتردد إلى بعض الصوفية ويقول له: أشتهي لو قُتلت، فيقول له ذلك الصوفي: لأي شيء؟ قال: لأنكم تقولون: إن جميع من في ملكي أذاه متعلق بعنقي. كان السلطان الملك الناصر قد خطب ابنته، وقيل: أخته، وأجاب إلى ذلك، وجهزها في البحر إلى إسكندرية، وتوجه القاضي كريم الدين لملتقاها إلى الإسكندرية، وعمل لها ضيافة في الميدان تحت القلعة، وبعد ذلك طلعت إلى القلعة، وجرى في أمرها ما جرى، وتوهم السلطان أنها ليست من بنات أزبك فهجرها وزوجها بالأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، فتوفي عنها، فزوجها بالأمير سيف الدين صوصون أخي قوصون، فتوفي عنها، فزوجها ابن الأمير سيف الدين أرغون النائب. ولم يزل القان أزبك على حاله إلى أن خانته أم دفر، وامتلأ فمه وعينه بالعفر. وكانت وفاته سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أزدمر الأمير عز الدين العلائي. كان أميراً كبيراً، أثيلاً في المكانة أثيراً، عديم المعرفة والفهم، فارس الخيل ما مثله شهر، شرس الأخلاق، صعب المراس على الإطلاق. لم يزل بدمشق على حاله إلى أن ظفرت به اليد الغالبة، والداهية التي هي للنعم سالبة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة. وصلي عليه بجامع بني أمية. وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن داخل دمشق عند مسجد ابن فريدون من نواحي مئذنة فيروز. وهو أخر الحاج علاء الدين طيبرُس. اللقب والنسب الأزرق مملوك العادل كتبغا، اسمه بكتوت. ابن الأزكشي الأمير بدر الدين موسى بن أبي بكر. إسحاق بن ألمي التركي المصري الشاعر قال الشيخ شمس الدين الذهبي - رحمه الله تعالى -: طلب قليلاً، وارتحل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الغرافي وغلى سنقر الزيني والأبرقوهي، وأخذت عنه: وهو من أقراني، ودخل العراق وبلاد العجم، وأضمرته البلاد بعد العشرين وسبع مئة. إسحاق بن إسماعيل ابن أبي القاسم بن الحسن بن أبي القاسم المقدادي الكندي، الفقيه الفاضل نجم الدين أبو الفداء بن القاضي مجد الدين بن الرحبي. كان رجلاً فاضلاً صالحاً، ولي قضاء الرحبة سبعةً وثلاثين سنة، ووليها والده وجده. قدم إلى دمشق، ولازم الشيخ تاج الدين الفزاري، وسمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وغيرهما، وكان مشكور السيرة، يحبه أهل بلده من تقدم إلى الرحبة من الأجناد والفقراء. وقدم إلى دمشق قبل موته بسنة وأشره، وولي بها نيابة الخطابة، وخطب في العيدين، وسر الناس به لصلاحه وانقطاعه وعفته، وروى بدمشق وبالرحبة. وتوفي بدمشق في ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن طارق الشيخ الفقيه الفاضل المسند المكثر كمال الدين أبو الفضل الأزدي الحلبي الحنفي النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 سمع الكثير من الموفق يعيش، والعزّ بن رواحة، والمؤتمن بن قميرة، وابن خليل، وأخيه الضياء صقر الكلبي وابن أخيه شمس الدين الخضر بن قاضي الباب وأبي الفتح البارودي وهدية بنت خميس ومحمد بن أبي القاسم القزويني والكمال بن طلحة والنظام محمد بن محمد البلخي، وعدة. وخرج له جزءاً عنهم المحدّث أمين الدين الواني، وعنده عن ابن خليل نحو من ست مئة جزء. وقد أكثر عنه المزني والبرزالي وقاضي القضاة العلامة تقي الدين السبكي والمحب والواني وشمس الدين الذهبي. وكان له حانوت وبطله، وشغله بمعاشه وعطله. وله مدارس كان يحضرها وأوقاف يحصرها، وفيه تعسر على الطلبة وشُح، وعنده بخل بمسك الإفادة على الطلبة ولا يسمح. وكان قد تنبه شارك، وقالب الأشياخ وعارك، ونسخ بخطه أجزاء كثيرة تركها بعده، وأولاها بعد الموت بعده. ولم يزل على حاله إلى أن انطبق جفناه على قذى الحين، وصبر على أذى البين. وتوفي - رحمه الله تعالى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة. ومولده سن ثلاثين وست مئة. وكان له دكان بسوق النحاسين، ثم إنه تركها أخيراً. إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم الشيخ العالم الفاضل المسند المعمر عفيف الدين أبو محمد الآمدي ثم الدمشق الحنفي، شيخ دار الحديث الظاهرية بدمشق. سمع من عيسى بن سلامة، ومجد الدين بن تيمية بحرّان، ومن ابن خليل بحلب، وأكثر من الضياء صقر وجماعة بحلب، وسمع بدمشق والمعرة، وحصل أصول وأجزاء، وحضر المدارس، وحج غير مرة، وشهد على القضاة. وخرج له ابن المهندس عوالي سمعها الشيخ شمس الدين الذهبي والجماعة منه سنة ثمان وتسعين وست مئة. وأخذ عنه القاضي عز الدين بن الزبير، وابنه، وعدة. وكان طيب الأخلاق ينطبع، ويتلطب البشاشة ويتبع. سهل القياد، واري الزناد، متسماً بالعدالة، محتشماً عن الإزالة. تفرد بأشياء عالية، وأحيا أسانيد بالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ولم يزل على حاله إلى أن تعفى أثر العفيف، وضمه الموت في ذلك اللفيف. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. إسحاق القاضي الكبير الرئيس تاج الدين عبد الوهاب ناظر الخاص كان من جملة نظار الدولة، ولما أمسك السلطان القاضي كريم الدين الكبر سير إليه يقول له: من يصلح لنظر الخاص؟ فنص على القاضي تاج الدين إسحاق، فأحضره السلطان، وألبسه تشريفة، وباشر الخاص من يومئذ إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - بسكون زائد، وانجماع عن أهل الفتن الذين يرمون الناس من المصابين في مصائد. وساس السلطان بعقله الراجح، وسد الوظيفة بحُسن مقصده الناجح، ولم يختل عليه نظام، وقام في تلك المدة بمهمّات عظام. وجاء بعد كريم الدين ورهجه، واتساع طريقه ونهجه، فكان لا يدير به، ولا يعدم العافي قطر سحابه، وهو على أنموذج واحد وطريق واحدة، وسنة من السكون جارية على أكمل قاعدة. ولم يزل على حاله إلى أن نزل به من الموت داؤه العضال، والأمر الذي لا يرده طعان ولا نضال. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة. وكان قد ولي نظر الخاص سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو والد القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 علم الدين إبراهيم ناظر الدولة. والصاحب شمس الدين موسى ناظر الشام. والقاضي سعد الدين ماجد. وتولى ولده الصاحب شمس الدين موسى نظر الخاص بعده أشهراً، ثم نُقل إلى نظر الجيش لما توفي القاضي فخر الدين. إسحاق الأمير علم الدين الحاجب كان بحلب حاجباً، فترامى إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - فولاه نيابة حمص، وأحضر تقليده من مصر، وألبسه تشريفة بدمشق في ثالث جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وتوجه إليها فلم تطل مدته في هذه النيابة. وتوفي - رحمه الله تعالى - وكان قد تولى نيابة حمص بعد الأمير علاء الدين طيبغا قوين باشي، الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في مكانه. أسدالحكيم اليهودي المعروف بالسيدة، تصغير أسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 كان ذكياً، له مشاركات في المعقول، وخير ما يعرفه الإلهي والطبيعي، ولم يكن يعرف رياضياً ولا منطقياً، وحرفته التي يتكسب بها لجراح مع مشاركة في الطب والكحل وغير ذلك من الطبيعي. ولم يُر أقدم منه على الجراحة في جبر ما يكسر من العظم ويُهاض. باشر الجراحات العظيمة للأمراء الكبار مثل الأمير بدر الدين بيدرا ناظر الأشرف على عكا، ومثل الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وفيه يقول علاء الدين الوداعي، وقد عالج سنجر الدواداري، ونقلته من خطه: يا قوم إن الدواداري مبتع ... في فضله أنبياءَ الله مجتهد كأنه دانيال في كرامته ... ذلت له الأسد حتى طبّه أسدُ وكان الملك المؤيد صاحبكم حماة يحبه ويقربه. وبلغني أنه - رحمه الله تعالى - أوصى له بشيء من كتبه، وكان يتردد إلى العلامة تقي الدين بن تيمية، ويجتمع بالشيخ صدر الدين بن الوكيل، ويبحث معهما. وكان السلطان الملك الناصر قد طلبه إلى القاهرة ليعالج ما بالأمير عز الدين أيدمر الخطيري من الفالج. ورأيته هناك في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وهو آخر عهدي به، ولم أرّ من يعرف علم الفراسة أحسن منه بعد الشيخ شمس الدين محمد بن أبي طالب الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في المحمدين. وقال لي: جبرت رجلاً وداويتها بقدوم ومنشار ومثقب. ولم يزل على حاله إلى أن هلك، وذاق مرارة الموت وعلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وكأنه هلك بعد الثلاثين وسبع مئة، واجتمعت به مرات بصفد ودمشق وحلب والقاهرة. أسعد بن حمزة أسعد الصدر الرئيس مؤيد الدين، ابن الصاحب عز الدين بن القلانسي. وسيأتي ذكر والده في حرف الحاء مكانه. سمع في صغره من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، منهم الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، وغيرهما. ولم يحدث. وكان رئيساً، وكفه على الإحسان حبيساً. له جماعة من أصحابه وندمائه، وعدةٌ ممن يفتخر بارتمائه إليه وانتمائه، وقطف عيشه غضاً، وتناول نقده من لذة الشبيبة نضاً. ولم يزل إلى أن غص بكأس حتفه، وذهب من يد والده على رغم أنفه، وجرعه حسرة أكوى لقلبه من الجمرة، وتدلى بعد ظهور الأسرة إلى بطن الحفرة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سابع شهر صفر سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. وحصلت له قبل موته إنابة وإخبات، نفه ذلك بعد الممات. وكان ناظر ديوان الزكاة بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الألقاب والأنساب الأسعردي زين الدين محتسب القاهرة أبو بكر بن نصر. ونبيه الدين حسن بن نصر المحتسب والموقت عبد الله بن يوسف. أسماء بنت محمد بن الحسن ابن هبة الله بن محفوظ بن الحسن، الشيخة الصالحة أم بنت الشيخ عماد الدين بن صصرى، أخت قاضي نجم الدين. سمعت من السيد ميك بن علان، وهو عم جدها للأم، خمسة أجزاء، وهي الأول والثاني من بغية المستفيد لابن عساكر، ومجلس في فضل رمضان من أماليه، وحديث إسحاق بن راهوية، ونسخته أبي مسهر. وحدثت بها مرات، وتفردت بثلاث منها، وهي الثاني من البغية والمجلس وحديث إسحاق بن راهويه. قال شيخنا البرزالي: ولم يقع لنا من روايتها سوى الأجزاء الخمسة المذكورة. قال: قرأت عليها مجلس شهر رمضان في رمضان سنة ثلاث وثمانين، وقرأت عليها قبل موتها بأربعة أيام. فبين التاريخين أكثر من خمسين سنة. وكان امرأة مباركة متيقظة، كثيرة البر والصدقة والمعروف، وأصيبت بأولادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وأولاد أولادها وأقاربها. وحجت مرات، وأنفقت كثيراً من مالها في الطاعات، ووقفت وقوفاً، ولم يكن بقي من أعيان البلد ورواة الحديث أسنّ منها. وكانت تقرأ القرآن في المصحف. ولها أوراد وسُبح، تذكر الله عليها. وتوفيت - رحمها الله تعالى - يوم الاثنين حادي عشر الحجة، سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولدها في آخر سنة ثمان وثلاثين وست مئة. ودفنت بجبل قاسيون. إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن بركات الأنصاري الشيخ الإمام الفاضل المحدث نجم الدين أبو الفداء الدمشق، الصالحي الحنبلي المؤدب المعروف بابن الخباز. سمع سنة سبع وثلاثين وست مئة وبعدها من عبد الحق بن خلف والحفاظ الضياء، وعبد الله بن أبي عمر. وسمع من المرس، والبكري، وإبراهيم بن خليل، وابن أبي الجن، وابن عبد الدائم، وأصحاب الخشوعي، وأصحاب الكندي، وابن ملاعب، وابن الزبيدي، وابن اللتي، ثم أصحاب الكريمة، والسخاوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وسمع من المزي، والبرزالي، وعلاء الدين الخراط، والقاضي شمس الدين بن النقيب، والمقاتلي، وابن المظفر، وابن المحب، وابن حبيب. وكان يؤدب بمكتب ابن عبد داخل باب توما. وعلى الجملة فقد كتب عمن دب ودرج وما ترك أحداً يفوز منه بالفرج، وخرج وحصل الأجزاء وتعب، ومع عمله الكثير ما أنجب، وساوى من لعب، ولا أتقن شيئاً من العلوم، ولا شارك أهل الفهوم. ولا له إلمام بنحوٍ ولا لغت، ولا له مادة إلى جهة علم مفزعة، بل درب ولم يكن بين أهل هذا الشأن في غربة، مع الخطأ الكثير فيما خرجه وجمعه، وحدث به أسمعه. وكان يؤدب في مكتب، ولم يكتب خطاً غير خطا، ولا كان له في صورة الكتابة ما يرى وسطاً، وخرج لابن عبد الدائم وغيره، وعلم سيرة لشيخنا شمس الدين الذهبي، وطولها. ولم يزل على حاله إلى أن درج إلى البلى، وأدبر إلى مسكن الأرض مقبلاً. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر صفر سنة ثلاث وسبع مئة. إسماعيل بن إبراهيم مجد الدين الشارعي المصري المحدث. كان شاباً فاضلاً، سمعت بقراءته على الدبابيسي وغيره من أشياخ القاهرة، وسمع هو أيضاً بقراءتي كثيراً. وكانت له عناية بتحصيل الكتب النظيفة، وإكبابُ على ذلك، فهي له وظيفة. وعنده ذكاء ونباهة، وله تقدم بني أهل هذا الشأن ووجاهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ولم يزل على حاله إلى أن قصف، وضع المدر عليه ورصف. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة يوم عيد الفطر عشاء. ورثاه الشيخ تاج الدين بن مكتوم بقصيدة. وكان سمع بمكة من رضي الدين الطبري، وبالقاهرة في الواني والختني، ورحل مع قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. وسمع من ابن الشحنة، ورحل إلى الإسكندرية، وسمع من وجية، وقرأ على تقي الدين الصائغ. إسماعيل بن إبراهيم بن سليمان المقدسي ابن الحراني، الإمام الفاضل الطبيب عماد الدين أبو الطاهر المقدسي المصري. سمع من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وابن الأنماطي، وقاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وقاضي القضاة مجد الدين بن العديم، والشيخ قطب الدين بن القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ولم يحد. وقرأ الطب على العماد النابلسي. وكان طبيباً فاضلاً يعالج علاجاً حسناً. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب النصر بالقاهرة. إسماعيل بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة عماد الدين أخو قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. كان رجلاً جيداً. سمع من ابن البرهان بالقاهرة، وجلس مدة مع الشهود بدمشق. وتوفي بحماة في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة. إسماعيل بن إبراهيم القاضي عماد الدين الحلبي المعروف بابن الفرفور. وأول ما علمت من أمره أنه كان في ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار بالشام، ولما مات أرغون في حلب انتقل هو إلى مصر، وخدم أولاده بها - فيما أظن - ثم إنه توفي سنة سبع أو أول سنة ست وثلاثين وسبع مئة، حضر إلى دمشق، وخدم في ديوان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - عاملاً، ولما أمسك تنكز، خدم هو في ديوان الأمير علاء الدين الطنبغا نائب الشام، ثم عند الأمير علاء الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أيدغمش نائب الشام، ثم من بعده عند الأمير سيف الدين طقزتمر، ثم من بعده عند الأمير سيف الدين يلبغا، وهو عند هؤلاء الأربعة، ناظر ديوان النيابة. وحصل وثمر وعمر واقتنى الأملاك بدمشق وبحلب. ثم إنه توجه إلى القاهرة، وعاد مع الأمير سيف الدين ايتمش نائب الشام، وهو على توقيع الدست، وعلى أن يكون ناظر ديوان النيابة، فما اتفق ذلك. ثم إنه باشر الحسبة بدمشق ونظر الخاص المرتجع وغير ذلك. ثم طلب إلى مصر هو وفخر الدين بن عصفور، وغرما جملة، ثم عاد وتوسع في المباشرات. ولما مات علاء الدين بن الفويرة، رُسم له من مصر هو وفخر الدين بن عصفور، وغرما جملة، ثم عاد وتوسع في المباشرات. ولما مات علاء الدين بن الفويرة، رُسم له من مصر بتوقيع الدست بدمشق مكانه، فأقام فيه إلى أن توجه إلى حماة، وعاد منها مريضاً، وطالت به العلة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى إلى حماة، وعاد منها مريضاً، وطالت به العلة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الخميس حادي عشر صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة. ودفن بتربة له أنشأها في مقابر الصوفية. وكان كاتباً جيداً في الحساب، حسن العمة، فيه خير وصدقة وملازمة للجامع الأموي إذا كان بمدينة دمشق، وهو أكبر الأخوة. إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل ابن بُرتق بن بزغش بن هارون بن شجاع، الشيخ جلال الدين أبو الطاهر القوصي الحنفي. أخبرني العلامة شيخنا أبو حيان من لفظه، وقال: كان المذكور رفيقنا في المدرسة الكاملية. اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وأقرأ النحو والقراءات بجامع بان طولوهن. أنشدنا من لفظه لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 أقولُ له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل حرمت الطيفَ منك بفيض دمعي ... فطرفي فيك محرمٌ وسائل وأنشدنا لنفسه: أقولُ ومدمعي قد حالَ بيني ... وبينَ أحبتي يومَ العتابِ رددتم سائل الأجفانِ نهراً ... تعثر وهو يجري الثيابِ وأنشدنا لنفسه: تخطر في القباء مع القبائل ... فقام بدله عندي دلائل غزالٌ كم غزا قلبي بعضبٍ ... يُجردهُ وليسَ له حمائل وأبلى جدتي والبدرُ يبلي ... ومال مع الهوى والغصن مائل وحال لم أحل عنه ولوني ... بما ألقى من الزفراتِ حائل فيرتع ناظري برياض حسنٍ ... وأسكر بالشمول من الشمائل وكم سمع الخيالُ له بليل ... ألم به بأصبح كالأصائل وضاع تمسكي بالنسك فيه ... وضاع المسك من تلك الغلائل قلت: شعر جيدٌ صنع. وكان متصدراً بالجامع الطولوني لإقراء القراءات. وكان له حظ من العربية وإفادات، ومشاركة في الأدب الغض، وما ينفقه فيه بين أهله نض. وجمع كراسة في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ولم يزل على حاله إلى أن تبدد شمله من الجامع، وفقد شخصه الناظر ولم يفقد ذكره السامع. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير الحلبي الكاتب هو القاضي الرئيس عماد الدين. ولي كتابة الدّرج بعد والده تاج الدين بالديار المصرية مدة، ثم تركها تديناً وتورعاً وإقبالاً على الآخرة وتسرعاً، وهو الذي علق الشرح من الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد على العمدة، وهو الذي أبرز إلى الوجود عقده. وشرح قصيدة ابن عبدون الرائية التي رثى بها بني الأفطس - فيما أظن -. وكانت له رياسة، وعنده سيادة ونفاسة، وترك كتابة السر تورعاً، ورفضها وخلاها تبرعاً، واشتغل بما هو الأولى، والتزم بالتقصير ولم يستطع طولى. وله ديوان خُطب. ولم يزل على حالته إلى أن عُدم في الوقعة، وقتل شاه مات في وسط الرقعة. وتوفي في شهر ربيع الأول تسع وتسعين وست مئة. وكتب إليه سراج الدين عمر الوراق، نقلته من خطه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 مخيلة إسماعيل صادقة الوعد ... وفت بشروط المجد مذ كان في المهد وكان لأملاك الزمان ذخيرةً ... كما ادخر السيف المهند في الغمد فعز بزند الأشرف الملك الذي ... يُرى سيفُه يوم الوغى واري الزند فهذا صلاح الدين كاتب دسته ال ... شريف عماد الدين وقفاً على سعد فلا زال يوليه الخليل محّبة ... ولا زال إسماعيل يُفدى ولا يفدي إسماعيل بن سعيد الكردي المصري تظاهر بالزندقة، وتجاهر بالمعاصي وصلابة الحدقة. وسمعت منه كلمات سيئة في حق الأنبياء والبررة الأصفياء، ورمي بأمور عظام، يذوب منها اللحم والجلد وتفتتُ العظام. ولا جرم له أطاح السيف رأسه، وجرعة من الموت الأحمر كأسه. وكان المذكور عارفاً بالقراءات، قرأ على الشطنوفي، والصائغ. واشتغل بالفقه والنحو والتصريف، وكان يحفظ قطعة من التوراة والإنجيل، وكان طلق العبارة، سريع الجواب، حسن التلاوة. وكان لا يزال الحاوي في الفقه والعمدة في الحديث والحاجبية في كمه. ولكن الله - تعالى - مكر به، فاجتمع له القضاة الأربعة يوم الاثنين سادس عشري صفر سنة عشرين وسبع مئة، وضربوا رقبته بين القصرين، والذي حكم بقتله قاضي القضاء تقي الدين المالكي، وكان يوماً مشهوداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 إسماعيل بن عبد القوي ابن الحسن بن حيدة الحميري، فخر الدين الأسنائي المعروف بالإمام. اشتغل بالفقه على الشيخ النجيب بن مفلح، ثم على الشيخ بهاء الدين القفطي. كان إمام المدرسة العّزية بأسنا، وناب في الحكم بمنشية إخميم وطوخ والمراغة. واتفق له بالمراغة أن بعض أولاد الشيخ أبي القاسم المراغي وقع بينه وبين أولاد الفقراء، كان شديد البأس، فطلبه الفقير إلى القاضي، فأعطاه القاضي قلمه، فقال الفقير ما يحضرُ بهذا، فتوجه إليه، فحضر، فادعى عليه الفقير أنه ضربه ستين جمجماً بهذا الجمجم، فأخذ القاضي الجمجم، وقال للفقير: حرر دعواك من ثلاثة بهذا، ما تعرفُ كم ضُربت؟ فتبسم الفقير غريمه، واطلحا، وانفصلا على خير. ونزل مرة في مركب بصحبة الشيخ بهاء الدين والشيخ النجيب، فزمر بها زامر، فقال الشيخ بهاء الدين: اسكت، فقال الإمام: الشيخ إمام في هذا وأنت استقبلت خارجاً، فرجع وزمر ثانياً، فقال له الشيخ بهاء الدين: اسكت، فأعاد عليه الإمام الكلام، فأخذ الزامر المزمار وقدمه للشيخ، وقال: ما يُسحن المملوك غير هذا، فعرف الشيخ أنها من الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وكان قد عمل بنو السديد عليه، فانتقل إلى قوص، وأقام بها سنين. وكان ضريفاً له نوادر، وحكايات عجيبة أجوبة بوادر، وكف بصره أخيراً، وأظلم نهاره عليه، وقد كان منيراً. ولم يزل على حاله إلى أن صلى الإمام على الإمام، ودعاه البلى إلى مأدبة الحمام. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشرين وسبع مئة. إسماعيل الأمير عماد الدين بن الملك المغيث شهاب الدين أبي الفتح عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب. كان جندياً بجما، وسمع من خطيب مردا، وحدّث. وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي في سنة ثمان وسبع مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري شهر ربيع الآخر سنة أربع عشر وسبع مئة. إسماعيل بن عثمان بن محمد الإمام رشيد الدين أبو الفضل بن المعلم التيمائي الحنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 سمع من ابن الزبيدي ثلاثيات البخاري، وقرأ بالروايات على السخاوي، وسمع منه، ومن العز النسابة وابن الصلاح وابن أبي جعفر. وكان بصيراً بالعربية، إماماً في مذهب الحنفية. حدث بدمشق والقاهرة. وفيه زاهد وعفة وإباء، وعنده جودٌ وحياء، دينه متين، وفضله مبين، يقتصد في لباسه، ويتقيه خصمه في الجدال لباسه. ساء خلقه قبل موته، وتوحش من أنس الناس قبل فوته. انهزم وتكر تدريس البلخية لابنه تقي الدين. وكان قد انجفل من التتار، واستوطن القاهرة. وكان قد عُرض عليه القضاء، فامتنع، وانكمش عن الولاية وانجمع، إلى أن افترش التراب أربع عشرة وسبع مئة. إسماعيل بن علي بن أحمد بن إسماعيل المسند عماد الدين أبو الفضل الأزجي الحنبلي، شيخ الحديث بالمستنصرية من بعداد، المعروف بابن الطبّال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 سمع حضوراً من أبي منصور بن عفيجة سنة أربع، وسمع جامع الترمزي من عُمر بن كرم بإجازته من الكروخي، وسمع ابن أبي الحسن القطيعي وابن روزبه وجماعة. وأخذ عنه الفرضي، وابن الفوطي، وابن سامة، وسراج الدين القزويني، ابن خلف، وأجاز لشمس الدين الذهبي، وسمع البخاري من ابن القطيعي، ولم يزل يُسمع ويُفيد، وينيل فوائده القريب والبعيد، إلى أن أسمعه داعيه بالرحيل، وأقام ناعيه بالبكاء والعويل. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة في سابع عشر شعبان. إسماعيل بن علي السلطان الإمام والعالم الفاضل الفريد المفنّن الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء بن الأفضل بن الملك المظفر بن الملك المنصور صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وكان أولاً أميراً بدمشق، وخدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما كان في الكرك آخر مرة، وبالغ في ذلك، فوعده بحماة، ووفى له بذلك، وأعطاه حماة لما أمر لأسندمر بنيابة حلب بعد موت نائبها قبجق، وجماله صاحبها سلطاناً يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره، ليس لأحد معه كلام فيها، ولا يرد عليه مرسوم من مصر بأمر ولا نهي لأحد من نائب أو وزير اللهم إلاّ إن جرد عسكر من مصر والشام جرد منها. وتوجه من دمشق إليها في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، وأركبه في القاهرة بشعار الملك، وأبهة السلطنة، ومشى الأمراء والناس في خدمته حتى الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقام له كريم الدين بكلّ ما يحتاج إليه في ذلك المهمّ من التشاريف والإنعامات على وجوه الدولة وغيرهم، ولقبه بالملك الصالح، ثم إنه بعد قليل لقبه بالملك المؤيد، وذلك لما حج معه في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعاد معه إلى القاهرة، وأذن له أن يُخطب له بحماة وأعمالها على ما كان عليه عّمه المنصور، وكان في كل سنة يتوجه إلى مصر ومعه أنواع من الرقيق والجواهر والخيول المسوّمة وسائر الأصناف الغريبة، هذا إلى ما هو مستمر في طول السنة مما يهديه من التحف والطرف. وتقدم السلطان إلى نّوابه بالشام بان يكتبوا: يقبل الأرض، وكان الأمير سيف الدين تنكر رحمه الله تعالى يكتب إليه: يقبل الأرضَ بالمقام الشريف العالي المولي السطلاني الملكي المؤيد العمادي، وفي العنوان صاحب حماة، ويكتب السلطان إليه أخوه محمد بن قلاوون أعز الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 السلطاني الملكي المؤيدي العمادي، بلا مولوي. وكان الملك المؤيد يقول: ما أظن أني أكمل من العمر ستين سنة فما في أهل بيتي، يعني بيت تقي الدين من كملها. وكان الملك المؤيد رحمه الله تعالى قد نزل في مكان المكارم، وعمر في الشجاعة بيتاً في اقنا والصوارم، يتصبَّب جوداً سماحه، ويتضببُ بالبأس ذبله وصفاحُه، له حنوّ زائد على أهل الفضائل، وتطلع إلى إنشاء الفوائد وإثارة ذُبله وصفاحُه، له حنو زائد على أهل الفضائل، وتطلع إلى إنشاء الفوائد وإثارة المسائل، آوى إليه أمين الدين الأبهري فبهره جوده، وغمره نائله وعمته وفوده، وتصدر في مجلسه قاعداً، ووقفت لديه جنوده، ولوى الحظ المدبر جيده إليه، ونشرت بُروده، ومدحه شعراء عصر، وحملوا أبكار أفكارهم إلى قصره، ففازوا بالمهور الغالية، وحازوا الأجور العالية، ورتب لجماعة منهم في كل سنة شيئاً قرره، وبذلاً رتبه في ديوانه وحرره، منهم شاعره الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة، وكان رابته في السنة عيه مبلغ ست مئة درهم لا بد من وصوله ودخوله في حوزته وحصوله، غير ما يهديه إليه في أثناء السنة، وتتضاعف فيه الحسنة، ورتب لأسد اليهودي الذي تقدم ذكره راتباً كفاه، وملأ كف رجائه وسدَّ فاه. وكان قد امتزج من العلوم بفنونها، وأخذ منها نخبة فوائدها وحاسن عيونها، فنظم الحاوي في الفقه، ولو لم يعرفه جيداً ما تصرف معه في نظمه، ولا اقتدر على تسيير نجمة. وله تاريخٌ جوده، وبيض به وجه الزمان لما سوده. وكتاب الكناش مجلدات، وفوائد العلم فيه مخلدات، وكتاب تقومي البلدان، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الإحسان بقوله فيه ودان، وجدوله وهذبه، وجد له فأتقنه لما وضعه ورتبه، وقد أجاد فيه ما شاء، ونزل تجويده في الأفاضل في صميم الأحشاء. وله كتاب الموازين وهو صغير، وصوب إفادته غزير، وله غير ذلك. ونظم القريض والموشح، واستخدم المعاني وأهلها ورشح. وكان يعرف علوماً جمة، وفضائل يستعير البدر منها كماله وتمه، وأجود ما يعرفه الهيئة، فإذا اشتبك الجدال عليه فره إليها وفيئه. وكانت عنده كتب نفيسة ملوكية قد حوتها خزانته، وأمده على اقتنائها انتقاؤه وفطانته، فملك منها الجواهر اليتيمة، والزواهر التي هي في أفقه مقيمة، وعلى كل حال فكان لسوق الفضل عنده نفاق، وللعلم عنده تحقيق وصدق دون نفاق، وللزمان به جملة جمال انساقت باقيا، وبدُرٍ لا يزال في مطالع السعود راقياً، وسلف سُلافه من الجود يطوب بها إحسانه على العفاة ساقياً، وفضلات فضل طالما أنشدها مؤملوه: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنانّ كل الظن أن لا تلاقيا ولم يزل في ملكه ومسير فلكه إلى أن أصبح المؤيد وقد تخذل، ورئي في معرك المنايا، وقد تجدل. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة، سحر يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، ودفن ضحوة النهار عند تربة والده ظاهر البلد، في الكهولة، ولم يكمل الستين. ولما مات رحمه الله تعالى فرق كتبه على أصحابه، ووقف منها، ورثاه الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن نباتة: ما للندى لا يلبي صوت داعيه ... أظن أن ابن شادٍ قامَ ناعيه ما للرجاء قد اشتدت مذاهبه ... ما للزمان قد اسودت نواحيه نعى المؤيد ناعيه فيا أسفا ... للغيث كيفَ غدت عنّا غواديه ومن شعره، وقد غنى الناس به مدة: اقرأ على طيب الحيا ... ة سلامَ ذابَ حزنا واعلم بذاكَ أحبةً ... بخلَ الزمانُ بهم وضنّا لو كان يُشرى قربهم ... بالمال والأرواح جُدنا متجرّع كاسَ الفرا ... قِ يبيتُ للأشجانِ رهنا صب قضى وجداً ولم ... يُقضى لهُ ما قد تمنى ومنه أيضاً: كم من دمٍ حللت وما ندمت ... تفلُ ما تشتهي وما عُدمت لو أمكنَ الشمس عند رؤيتها ... لثم مواطي أقدامها لثمت ومنه: سرى مسرى الصبا فعجبتُ منه ... من الهجرانِ كيف صبا إليا وكيفَ ألم بي من غيرِ وعدٍ ... وفارقني ولم يعطف عليا وأنشدني من لفظه جمال الدين محمد بن نباتة، قال: أنشدني معزا لدين محمود بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 حماد الحوي كاتب السر بحماة لمخدومه السلطان الملك المؤيد، ونحن بني يديه، وهو مليح غاية: أحسن به طرفاً أفوتُ به القضا ... إن رمته في مطلبٍ أو مهرب مثل الغزالةِ ما بدت في مشرقٍ ... إلا بدت أنوارُها في المغرب قال: وأنشدني له هذا الموشح أيضاً له: أوقعني العُمرُ في لعل وهل ... يا ويحَ من قد مضى بهل ولعل والشيبُ وافى وعنده نزلا ... وفر منهُ الشباب وارتحلا ما أوقح الشيبَ الآتي ... إذا حل لا عن رمضاتي قد أضعفتني الستونَ لا زمني ... وخانني نقصُ قوةِ الزمن لكن هوى القلبِ ليس ينتقصُ ... وفيه مع ذا من حرصهِ غصصُ يهوى جميعَ اللذاتِ ... كماله من عاداتِ يا عاذلي لا تطل ملامكَ ... لي فإن سمعي ناءٍ عن العذل وليس يُجدي الملام والفندُ ... فيمن صبابات عشقه عددُ دعني أنا في صبواتي ... أنتَ البري من زلاتي كم سرني الدهرُ غير مقتصر ... بالكاسِ والغانياتِ والوترِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 يًمزج في طيبِ عيشنا الرغد ... طرفي وروحي وسائر الجسد وكم صفت لي خطراتي ... وطاوعتني أوقاتي مضى رسولي إلى معذبتي ... وعادَ في بهجة مجدّدة وقال: قالت: تعالَ في عجلِ ... بمنزلي قبل أن يجي رجُلي واصعد وجز من طاقاتي ... ولاتخف من جاراتي قلتُ: وهذه الموشحة جيدة في بابها، ومتحيّدة عن طلاّبها، وقد عارض بوزنها موشحة لابن سناء الملك رحمه الله تعالى وأولها: عسى ويا قلما تفيدُ عسى ... أرى لنفسي من الهوى نفسا مذ بانَ عني من قد كُلفتُ بهِ ... قلبي قد ذاب في تقلبه وبي أذى شوقِ عاتي ... ومدمعي يومٌ شات لا أترك اللهو والهوى أبداً ... وإن أطلتُ الملامَ والفندا إن شئت فاعذل فلستُ أستمعُ ... أنا الذي في الغرامِ أتبعُ وتُحذى صباباتي ... وبدعي وعاداتي بي ملك في الجمال لا بشرُ ... يُظلمُ إن قيل: إنه قمرُ يحسنُ فيه الولوع والوالهُ ... وعز قلبي في أن أذل لهُ خدي حذا لمن يأتي ... ويرتعي حشاشاتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 لست أذم الزمان معتديا ... كم قد قطعتُ الأيامَ ملتهيا وظلتُ في نعمةٍ وفي نعمِ ... يلتذ سمعي وناظري وفمي ولا قذى في كاساتي ... ومرتعي في الجناتِ وغادةِ ديُنها مخالفتي ... ولا ترى في الهوى محالفتي وتستبيني ولستُ أسمعُها ... فقلتُ قولاً عساهُ يخدعُها ما هو كذا يا مولاتي ... اجري معي في مأواتي وموشحة السلطان رحمه الله نقصت عن الموشحة ابن سناء الملك قافيتين، وهي الذال في كذا، والعين في معي، وخرجة ابن سناء الملك أحر من خرجة السلطان وأحلى. وشيخا العلامة شهاب الدين محمود فيه أمداح طنانة، فمنها ما أنشدنيه إجازة: ميعادًُ صبري وسلوي المعاد ... فالحُ امرأ يُسليه طولُ البعاد ولا تلم من دمع أجفانه ... إن ظن صرفَ الدهر بالقربِ جاد فبينَ جفني والكرى نفرة ... وبنيَ قلبي والغرامِ اتحاد فلا تعد بالنومِ جفني فما ... يرجعُ يوماً برقاك الرُقاد إن ترد علم بديع الهوى ... فأتِ لي عندي فعندي المراد جانس رعي النجم مُستيقظاً ... لي في الدجا بين السها والسُّهاد وطابقَ الشوقُ لهيبي فما ... دمعي فظلاً بينَ خافٍ وباد وقسم الوجدُ غرامي كما شادَ أعضائي على ما أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فمقلتي للدمعِ والجسمِ للأس ... قامِ والقلبِ لحفظِ الوداد وفرغ الحب الضنى في الحشا ... عن مقلس فيها منايا العباد فما ظبى أرهفها فينُها ... ليومِ حربٍ من سوفٍ حداد وقلتُ بأمضى من جفونس بدت ... من كحلٍ خالطها في حداد فهو كما قالوا ولكنه ... يعرف ممن ودّه في ازدياد يا راكباً يفري جوادَ الفلا ... على أمُون جسرةٍ أو جواد يسري فتبديه ظهورُ الربا ... طوراً وتخفيه بطوف الوهاد مدرعاً فوق الربا بالدجا ... مثلَ خطيبٍ في شعار السواد معتسفاً ليسَ له إن خبت ... أشعةُ النجم سوى الشوق هاد بلى ونشرٌ عاطرٌ مر من ... حماة في المسرى إلى خير ناد قبل ثراها إذ تراها وكرّ ... ره فأحلى اللَّم لثمٌ مُعَاد حيثُ الندا والفضل بادي السنا ... والعدل والمعروف واري الزناد أضحت وقد شيد أرجاءها الم ... ولى عماد الدين ذات العماد حمى حماها بأسه والندى ... فأهلها من عدله في مهاد وإن يطل عهدُ الرّبا والحيا ... جدد بالجودِ عهودَ العُهاد من حاتم يوم القرى والندا ... من عامرٌ يومَ الوغى والجلاد من أحنفٌ في الحلمِ دع ذكره ... ولا تقس قساً به في إياد عالي المدا داني الندى باسلٌ ... أروع بسامٌ طويلُ النجاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 كأنما أسيافه إن سطا ... على العدا في وقعها ريحُ عاد رؤوسهم توقنُ إن عاينت ... سمر قناهُ بعصودِ الصّعاد من أسرةٍ أعلوا منارَ الهدى ... وذللوا أعناقَ أهلِ العناد واسترجعت أسيافهم عنوة ... ما استودعت أعداؤهُم من بلاد وشيدوا دينَ الهدى فاعتلى ... بين جهادٍ منهمُ واجتهاد وحكمت أيديهمُ وفدهم ... فيما رجوا من طارفٍ أو تلاد قد أنشرَ اللهُ به ذكرهم ... فقيلَ عاشَ الفضلُ والعدلُ عاد وازن أيامهُم فضله ... وجودُته الهامي فأربى وزاد يسري على البُعد مديحي له ... فيلتقيه الفضل من كل واد ما بين فضل وندى سائغ ... مع كرم يؤمنُه الانتِقاد يا ملكاً أفحمني فضله ... فمال بي العجز إلى الاقتصاد عذراً فلو أستطيعُ سطرتُها ... في أبيضِ الطرفِ بنقشِ السّواد تهنّ عيدُ النحرِ واسعد بهِ ... وصل وانحر بالسطا كل عاد دم ثمالاً لعفاةٍ كفوا ... ببحر نعمانَ ورودَ الثماد مهما أتوا بابك ألفوا بهِ ... عين ندى يُروى بها كل صاد واجتلِ غيداً من ثناً زفها ... في حلتي إنشادها كل شاد ما مال عطف الغصن أو غردت ... لهُ قيان الورقِ زهواً ومات إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصرالسلطان أبو الوليد الغالب بالله الأرجوني صاحب الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 استولى على الأندلس ثلاث عشرة سنة، فأبعد الملكَ أبا الجيوش خاله، وقرر له وادي آش. وكان أبوه الفرج متوالياً لمالقة مدة، فشب إسماعيل، وعزم على الخروج، فلامه أبوه فقبض على أبيه مكرماً، وعاش الأب في سلطنة ولده عزيزاً إلى شهر ربيع الأول سن عشرين وسبع مئة، وقد شاخ. والذي نهض بتمليك إسماعيل أبو سعيد بن أبي العلاء المريني وابن أخيه أبو يحيى. وكان الغالب للناس غالباً، شجاعاً محارباً، ناهضاً بأعباء ملكه، رافضاً لمن لا ينخرط في سلكه، عديم النظير، عظيم النكير، مؤيداً على عدو الدين، مشيداً لدين الغسلام بإهلاك الملحدين، هزم الله جيوشَ الكفر على يده، وأبادَ ملوك الصليب، وأحرقهم من توقده، وكانت وقعة عظيمة، فتح الله بها، وأذل الفرنج للمسلمين بسببها. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الغالب القدر مغلوباً، وراح ظفره مقلوباً، وصبغ شقيقُ دمه سوسنَ الحسام، وصالت على وحدته المنايا الجسام، لأن ابن عمه، وثبت عليه وقتله، ورده عن الحياة وفتله، ثم إن أعوانه وخدمه أخذوا بثأره في يومه، ونبهوا لذاك الدهرَ من نومه، وملكوا ولده محمداً، فكان شهماً مُمجداً، وذلك في ذي القعدة سنة عشرين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 إسماعيل بن عمرو بن المسلم بن الحسن بن نصرالشيخ الصدر الكبير العدل الراضي العابد ضياء الدين أبو الفداء ابن الصدر عزّ الدين ابن الشيخ رضي الدين أبو الفضل الدمشقي المعروف بابن الحموي. سمع من عثمان بن علي بن خطيب القرافة كتاب المصافحة للبرقاني، والمجالس السلماسيّة، وأخبار النحويين لابن أبي هاشم، وهو جزء لطيف، وتفرد برواية ذلك عنه. وسمع جزء ابن عرفة من شيخ الشيوخ الأنصاري، وسمع على جماعة من المتأخرين. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن ثلاثين شيخاً. وكان شيخاً مباركاً كثر التلاوة، يصوم الاثنين ويفطر هو وجماعة من الفقراء وغيرهم. وحج أربع مرات، وجاور بمكة سنة، واقام بالقدس مدة. وكانت له كتب جيدة يطالع فيها. وقال: لم أرَ حماة لا أنا ولا والدي. وكان مستوفي الخزانة. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. ومتعه الله بجميع حواسه إلى أن مات رحمه الله، وقد جاوز التسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد ابن إسماعيل بن علي بن صدقة، العدل الرئيس نفيس الدين الحرّاني ثم الدمشقي، ناظر الأيتام. سمع الموطأ من مكرم. وحدث. وسمع بنفسه من ابن مسلمة وغيره. كانت له دار مليحة بدمشق، فوقفها مدرسة، وجعل الوقف على أهل الحديث وحبسه، وهي بدمشق في الرصيف من سوق الكفت مشهورة، وحسنات واقفها في صُحُفه مسطورة، ولي مشيختها تاج الدين الجعبري، وقرأ بها الشيخ علم الدين البرزالي، ونزل بها الشيخ أبو الحسن الختني وجماعة. ولم يزل نفيس الدين على حاله إلى أن فاضت نفسه، وضمه رمسُه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الشيخ الصالح مجد الدين الحرّاني الحنبلي. قدم دمشق شاباً، واشتغل وبرع في المذهب. وأخذ عن ابن أبي عمر، وابن عبد الوهاب، والفخر البعلبكي، وابن المنجّا. وسمع من ابن الصرفي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وكان في الفقه رأساً. تخرج به جماعة، وكان العلم به في إذاعة من غير إضاعة. وكان يهضم قدره، ولا يعرف الناس أمهر، فإنه كان في مدارس تلاميذه معيداً، وقد جعل الله بينهم وبينه بوناً بعيداً. وعنده إخلاص وورع، وما ترك هضبة من الخشوع حتى اعتلاها وفرع. ولم يزل على حاله إلى أن فرغ الأجل، وجل به أمر الله عز وجل. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة، وشيعه خلق كثير، وجمعٌ غزير. إسماعيل بن محمد بن عبد الله القاضي الكبير الرئيس، أبو الفداء، ابن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح الدين بن القيسراني. كان موقع الدست بالقاهرة، ثم إن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أخرجه إلى حلب كاتب سرّ في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. وصل إليها في أوائل شوال سنة أربع عشرة وسبع مئة، فباشر الوظيفة على القالب الجائر، وأجرى الله بسعده فيها الفلك الدائر، وضاق بالنائب عطنُه، وصار فيها الغريب معه وهي وطنه، وكثر له الحسدة، وجاءه كيد أعاديه وحشده، وأوهموا الأكابر الذين في مصر منه، وبلعُوهم ما اختلقوه عنه، فساعدوا الحلبيين على عزله، ونقض غزله. وحضر هو وأولاده إلى دمشق، ورُتب فيها موقع الدست كبيراً، وجُعل ولداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 في كتاب الإنشاء سراجاً وقمراً مُنيراً، ومال إليه آخر الأمر تنكز وأحبه، وملكه خاطره ولبه. وكان يدناً خيراً صيناً، يعصب لمن يقصده، ويراقب عونه ويرصده، يُؤثر الفقراء ويودّهم، ويقوم معهم إلى أن يُقبل حظهم وجدهم. وكان حسن المحاضرة، متعَ المذاكرة، يستحضر من حكايات الصالحين جُمله، ويتولى من أمرها حمله، لو جلست معه ثلاثة أيام بلياليها لأورد عليك جملة من أماليها. وكان وهو بالديار المصرية يحضر السماع، مع ما عنده من العزلة والانجماع، وعليه فيه أنس وحركة، ويرى الناس منه في ذلك خيراً وبركة. وروى عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وغيره. وحدث بدمشق. ولم يزل بدمشق إلى أن نزل الموت بابن القيسراني قسراً، وجعل العيون بالحزن عليه حسرى. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حفلة، ودفن بمقابر الصوفية. اجتمعت به - رحمه الله تعالى - بدمشق غير مرّة، والتقطتُ من إنشاده غير درّة، وأولاني من خيره وجبره الإحسان والمبرة. ولما توفي - رحمه الله تعالى - كنت بالديار المصرية، فكتبت إلى ولده القاضي شهاب الدين يحيى - رحمه الله تعالى - أعزيه فيه، يأتي ذكر ذلك فيما بعد. وكان قد كتب إلي وأنا بالقاهرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 إليك صلاح الدين شوق امرئ غدا ... وقد صح دونَ الجسمِ فيكَ ودادُهُ ترحلتَ عن مغنى دمشق فشوقُنا ... إليك طوالَا لدهرِ تجري جيادُهُ إن كنتَ في أرضٍ يحل صلاحُها ... وإن كنتَ في مغنىً يزولُ فسادُهُ فكتبت أنا الجواب إليه: أتاني مثالٌ منك يُفدى سواده ... بعيني بل يعلو عليها مدادُهُ أمنتُ به دهري وصُلتُ بوصلهِ ... على الخطب حتى خافَ مني عتادثهُ وصرفتُ في صرفِ الزمانِ أناملي ... إلى أن غدا في حُكم أمري قيادُه وأطفأ جمراً في الجوانحِ كلما ... تذكركم قلبي يزيدُ اتقادُهُ ولو لم يرد هذا المثال لما بقي ... من الخاطر المشتاقِ إلا رمادُهُ لقد أصبحَ المملوكُ عبداً مكاتباً ... وتم لهُ مما يرومُ مرادُهُ فلا غرو أن يبنى على الأفق مجدُه ... لأنك من دُون الأنامِ عمادُهُ وإن صلاحاً نالك عطفك في الورى ... عيه بعيد أن يراه فسادُه أيا من له سبقُ المعالي إذا جرت ... لينلِ العلا يوم الفخارِ جيادُهُ ومن يتحلى الدهرُ منهُ بماجدٍ ... تكمل فيه حلُمه وسدادُهُ ومن لاق في غينِ الكمالِ انتقاؤهُ ... وصح على زيفِ الأنامِ انتقادُهُ ومن فرعته دوحةٌ خالديةٌ ... فطارفُه مجدٌ علا وتلادُهُ ليهني بني مخزومَ فخرٌ غدا إلى ... عمادُهم دون الأنام معادُهُ وفاحت خُزامى مجدِ مخزومَ في الورى ... فطالت روابيهِ وطابت وهادُهُ ولم لا وسيفُ الله خالدُ منهمُ ... على عاتقِ الملكِ الأغر نجادُهُ فكم طالَ منهُ للعدى صدرُ أبترٍ ... وما قصرت في الدراعين صعادهُ بقيتَ عماد الدين ذخر أمرىء صفت ... وما قصرت في الدارعين صعادُهُ وأخلصَ فيكم حُبه وولاءه ... وصحَّ على طولِ البعادِ ودادُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 ونسخة الكتاب الذي كتبته إلى ولده القاضي شهاب الدين يحيى أعزيه في والده من القاهرة: أي خطبٍ به تلظّى فؤادي ... وأسال الدموعَ مثل الغوادي وأعادَ الحمامَ يندُبُ شجواً ... فوقَ فرعِ الأراكة الميّاد وكسا الأنجم الزواهر طرأ ... في ظلامِ الدجى ثيابَ الحداد وأباحَ الأسى حملَ كل صبرٍ ... من رُبا كل بلدةٍ أو وهادِ قد أصمَّ الأسماعَ نعيُ عماد الدي ... ن فالناسُ بعده في جهادِ آه كيفَ القرارُ فوقَ فراشٍ ... ملأتهُ الأحزانُ خرط القتادِ كيف تلتذ بالمنامِ جفونٌ ... قد محاها البكا وطولُ السهاد أين ذاكَ الجلالُ في الحفلِ لما ... يكتسيه من أنفس الأبرادِ والوقارُ الذي يقر رسوخاً ... حين تهفو الرياحُ بالأطوادِ كم حمى باليراعِ مُلكاً في يحت ... ج لبيض الظّبا وسمر الصعادِ ولكم قد أتى بصدعةِ حقٍّ ... خيفَ من بأسها على الأكبادِ هكذا من يكونُ عند ملو ... كِ العصر يهديهم سبيلَ الرشادِ حملوهُ فوقَ الرقابِ ولكن ... بعدما أثقل الورى بالأيادي من كرامٍ راقت معاني عُلاهم ... وتغنّي بمدحهم كل شادِ نسبٌ باهرُ السنا خالدي ... قد تساوت غاياتُهُ والمبادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 يا دموعي باللهِ روي ثراهُ ... إن تخن قبرهُ عهودُ العهادِ آه واوحشتا لذاك المحيّا ... افتقاري لنورهِ وافتقادي لم يعب من نأى وأبقى شهاباً ... لم يزل دائم السنا وسؤددٍ وسدادِ يتراءى في الدست بني جمال ... جلالٍ وسؤددٍ وسدادِ فتواقيعُه تراها طرازاً ... رمي الروضُ عندها بالكسادِ وبألقالمه يُسر الموالي ... أن براها كما يسوء الأعادي قد تلقيتُ راغماً يا شهابَ ال ... دين خطباً يفض صم الصلادِ لستُ في هذه المصيبة فرداً ... وهي قد أنكأت قلوبَ العبادِ فاصطبر واحتسب على الله أجراً ... تلقهُ عدةً ليومِ المعادِ لم يخفف وجدي به غيرُ ظني ... أنهُ في المعادِ خيرُ مُعاد ملئت صُحفُه من البر والتق ... وى فولى منها بأفضل زادِ فهو عندَ الإلهِ جل مقيمٌ ... في نعيمِ ما إن لهُ من نفادِ فالبكا في الورى على مثل هذا ... غير مجدٍ في ملتي واعتقادي يقبلُ الأرض، وينهي ما بلغه من النبأ الذي سق قلبه، وزاد كربه، وأذهل لبه، وأضعف جلده، وقوّى من الحزن حزبه، وأغارَ على الصبر فلم يدع عند حبة القلب حبه، وشن على الفؤاد حربه لما أغمد فيه حربة. لم يبقَ من بدني جزءٌ علمت بهِ ... إلا وقد حله جزؤٌ من الحزن كان اللحاقُ به أولى وأحسن لي ... من أعيش سقيم الروحِ والبدنِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 فإنا لله وإنا إليه راجعونَ " قولهُ من وهى عمادُه، وفقد من كان على الله تعالى وعليه توكله واعتمادُه، وذهب من كان يفديه من القلب سويداؤه، ومن الطرف سوادُهُ، وعدم من أحزن الوجود فقده حتى نُشر من الليل حدادُه، وذر من الصباح رمادُه: مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقى بقعةٌ ... غداةَ ثوي إلا اشتهت أنها قبرُ فرحم الله تلك الروحَ الطاهرة وكاها، وشكر لها برها المتنوع وتقواها، ورفع أعمالها إلى درجات الأبرار ورقاها، وأجزل لها موادَ الغفران وأنماها، ونوّلها من الرضوان ما لا ينقطع أمده ولا يتناهى، وجعل دار المقامة مقامها، وفي جنة المأوى مأواها، فإنه كان زكاها وهذبها في طول مدته بالعلم والعلم، وما بقي لمولانا - أعظم الله أجره - غير الأخذ بسنة الصبر، والتأسي بكل فرعٍ تثنى على الأرض، وأصله قد ذوى على القبر، وهذا أمر لا بد لنا من شرب كأسه وبلوغ أنفاسه، ونفوذ سهم المنية في قرطاسه، وهو - أحسن الله عزاءه - أعلمُ بما يقال وأخبر وأجل من أن ينبه لمثل هذا وأكبر: أنت يا فوق أن تُعزى عن الأحباب فوقَ الذي يعزيكَ عقلاً ومن كان مولانا خلفه فما غاب شخصه عن غابه، ولا ظعن سؤدده عن جنان جنابه، فيا هنا دستٍ أنت صدرهُ، وأفق منصب أنت بدره، ويا انتصافات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ظلامات أقلامك الحاكمة بفضلها، ويا بشارة دار عدلٍ تواقيعك أربابُ عقدها وحلّها، فإنا معشر الأولياء لنضع الجباهَ شكراً على الثرى: إنا لنتلو الحمدَ فيكَ مكرّرا ... وإنّا لنرجو فوقَ ذلك مظهراً والله يهب مولانا عمراً مديداً، وعزاً أكيداً، ويجعله كجده خالداً يرى كل يوم وليداً، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. إسماعيل بن محمد بن عبد الكريم ابن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، الشيخ الجليل العدل الفقيه الأصيل، الصدر شرف الدين أبو الفداء الأنصاري الحرستاني الدمشقي. روى عن السخاوي، والقرطبي، والعزّ بن عساكر، وعتيق حضوراً. وسمع من جده، وعبد الله بن الخشوعي، وإسماعيل العراقي، وعثمان خطيب القرافة، وجماعة. وكان جيداً حسن الخلق يخدم في الدواوين، ويحضر درس الأمينية، وله ملك. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع المحرم سنة تسع وسبع مئة. ومولده في شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وست مئة بالجويرة بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 إسماعيل بن محمد بن ياقوت الصدر الخواجة مجد الدين السلامي. كان من تجار الخاصَ في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، يدخل إلى بلاد التتار، ويتجر ويتبضع، ويعود بالرقيق وغيره من أنواع المتاجر وغرائب البلاد. واجتهد في النوين جوبان - رحمه الله تعالى - إلى أن اتفق الصلح بني السلطان الملك الناصر وبني القان بوسعيد، فانتظم ذلك بسفارته وحسن سعيه، وازدادت وجاهته عند الملكين، وكان يسفره الملك الأنصار، ويقرر معه أموراً يريدها، فيتوجه ويقضيها على وفق مراده بزياداتس فأحبه وقربه، ورتب له الرواتب الوافرة في كل يوم من الدراهم واللحم والعليق والسكر والحلوى والكّماج والرقاق مما لعله يبلغ في اليوم مئة وخمسين درهماً، وأعطاه قرية أرّاق ببعلبك، وأعطى مماليكه إقطاعات في الحلقة، وكان يتوجه إلى الأرد ويقيم فيه الثلاث سنين والأربعة، والبريد لا ينقطع عنه، وتُجهز التحف والأقمشة وغيرها إليه لفرقها هو على من يراه من أعيان الأردو وخواص بوسعيد ثقة بمعرفته ودربته. وكان النشو ناظر الخاص لا يفارقه ولا يصبر عنه، ومن أملاكه ببلاد الشرق السلامية والماحوزة والمراوزة والمناصف. ولما توفي الناصر تغير عليه الأمير سيف الدين قوصون وأخذ منه مبلغاً يسيراً. وكان ذا عقل وافر، وفكر على الإصابة متضافر، خبيراً بأخلاق الملوك وما يليق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 بخواطرها، درباً بما يتحفه بها من ريقها وجواهرها، نطقه سعيد، وخلقه من الانحراف بعيد، حسن الكشالة، بهي الطلعة، تضيء كالذبالة. ولم يزل بمصر في آخر الأمر إلى أن افترش الرغام، وتشعث صفوُ سمائه بالموت وغام. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة. ودفن بتربته بَرا باب النصر بالقاهرة. إسماعيل بن محمد بن قلاوون الملك الصالح بن الملك الناصر بن الملك المنصور عماد الدين، أبو الفداء. اختلف الناس من أربابح العقد والحل عندما توجه الناصر أحمد أخوه إلى الكرك، وأقام به وأعرض عن مصر - على ما تقدم في ترجمته - وأرادوا إقامة ملكٍ غيره، فاجتمع المشايخ من مقدمة الألوف والأمراء الخاصكية وأصهار السلطان، فقال الأمير جنكلي بن البابا: يا أمراء! أنتم أصهار السلطان، وأنتم أخبر بأولاده، فمن علمتموه صالحاً ساكناً عاقلاً ديناً وله الملك. فقالوا: هذا سيدي إسماعيل. فأقامه الأمير بدر الدين وأجلسه على التخت، وبايعه، وحلف له، وحلف بعده الأمراء على مراتبهم العساكر. وجُهز الأمير سيف الدين طقتمُر الصلاحي إلى دمشق في البشارة، وكان ذلك يوم الخميس ثاني عشري شهر المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 وكان شكلاً حسناً، وله رونق وسنا، حلو الوجه أبيض بصفرة يسيرة، تعلوه هيبة الملك المنيرة، له في خده شامة، تزيده حُسناً في طلعته السافرة، كأنها في ذلك الخد نقطة من ند، أو يوم وصال جاءت فيه ساعة من صد. وكانت أيامه بالسعادة آلهة، وبصلة الأرزاق كافلة، وكلنه لما تولى استولى النساء عليه، ومال إليهنّ، وتزوج ابنة الأمير شهاب الدين أحمد بن بكتمر الساقي التي من ابنة تنكز، ثم تزوج ابنة الأمير سيف الدين طقزتمر الناصري نائب الشام، وحضر الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي إلى دمشق خاطباً لها من أبيها، وكان يميل إلى السودان من النساء ويؤثرهن، والمدبر لدولته الأمير سيف الدين أرغون العلائي المقدم ذكره. ولما تولى الملكَ أقر الأمير شمس الدين أقسنقر السلاري في النيابة بمصر، ثم أمسكه وولى النيابة الأمير سيف الدين الحاج آل ملك. وكانت أيامه سعيدة. ولم يزل على حاله إلى أن ذوى غصن شبابه وقُصف، ونضد الجندل فوقه ورصف. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. وقتل أنا مضناً: مضى الصالحُ المرجو للباسِ والندى ... ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح فيما ملكَ مصرَ كيف حالك بعده ... إذا نحنُ أثنينا عليك بصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعد الله، الحموي الشيخ الفقيه المقرئ النحوي جمال الدين أبو الفداء الحنفي، المعروف بابن الفقاعي. كان شيخاً فاضلاً، مناظراً مناضلاً، مفتياً مفّنناً، محرراً مقنناً، عارفاً بالقراءات والتجويد، وحسن الأداء والترتيل والترديد، مع المعرفة بالفقه والنحو والأدب، وإليه ينسلون من كل حدب. ولم يزل بحماة إلى أن طرق الموت حماه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. وكان مدرساً بمدرسة الطواشي بحماة، وليها بعده قاضي القضاة ناصر الدين بن العديم، ومن شعره: ... إسماعيل بن محّمد بن إسماعيل بن علي الأمير عماد الدين بن الملك الأفضل بن الملك المؤيد. أحد أمراء الطبلخانات بحماة، تقدم ذكر جده الملك المؤيد صاحب حماة. وسيأتي ذكر والده الأفضل في المحمدّين في مكانه. كان شكلاً حسناً، وذا صورة تخجل الأقمار منها سناء وسنا، أشقر يتلألأ وجهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 كالبدر، ويحكي نبت عذاره زعفران الشعر، عليه خفر أولاد الملوك، وسلوكه في طريق التجمل والحشمة أحسن السلوك. ولم يزل على إمرته بحماة حتى اعتبط، وانحل من نظام حياته ما كان قد ربط. وتوفي - رحمه الله تعالى - شاباً، ولم يكمل الخمس والعشرين، والعشر الأواخر من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكان قد حج في سنة خمس وخمسين وسبع مئة. إسماعيل بن نصر الله ابن أحمد بن محمد بن الحسن بن عساكر الشيخ فخر الدين أبو محمد بن تاج الأمناء. روى عن ابن اللتي، ومكرم، وعم والده عبد الرحيم بن عساكر، وإبراهيم الخشوعي، وإسماعيل بن ظفر، وسالم بن صصرى، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، وعبد العزيز الصالحي، والمخلص بن هلال، والعز ابن عساكر النسابة وهو عمه، وعتيق السلماني، وابن المقير، والسخاوي، وعمر بن البراذعي، والقاضي أبي نصر بن الشيرازي، ومكي ابن علان، والقاضي شمس الدين بن سني الدولة، وكريمة القرشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وكانت له إجازة من الحسن بن الأمير السّيد، وإسماعيل بن باتكين، والشهر وردي وابن القطيعي، وابن روزبة، وزكريا العُلبي، ويا سيمن بنت البيطار، وأبي بكر بن كمال الحرب، وعلي بن الجوزي، وابن بهروز وجماعة. قال شيخنا البرزالي: قرأت لابني محمد عليه الصحيحين، وسنن ابن ماجة، ومسند الدرامي، ومسند عبد بن حميد، وكتاب العوارف للسهر وردي، وأكثر من سبعين جزءاً. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين عاشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة بمنزله بباب الناطفيين، وحضر جنازته الأعيان والوزير والخطيب. ومولده في صفر سنة تسع وعشرين وست مئة بدمشق. إسماعيل بن هارون نفيس الدين العبسي الدشناوي الصوفي المعروف بابن خيطية. كان صوفياً بالجامع الناصري بمصر، وكانت له بالقراءات معرفة، ومشاركة في النحو والأدب يعرف بها مقدمه ومصرفه. لم يزل على حاله إلى أن نُزعت نفسُه، وكسفت بعدما بزغت شمسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وتوفي رحمه الله تعالى في حدود الثلاثين وسبع مئة. ومن شعره: قل لظباء الكثبِ ... رفقاً على المكتئب رفقاً بمن بُلي بكم ... شيخاً وكهلاً وصبي دموعُهُ جاريةٌ ... كالوابل المنسكبِ على زمانٍ مر في ... لذةِ عيشٍ خصبِ لذةُ أيام الصبا ... يا ليتها لم تغب قضيت فيها وطراً ... ونلت منها أربي بين حسان خُرد ... مُنعمات عُربِ وشادن مبتسم ... عن دُرّ ثغرٍ شنبٍ ألفاظهُ تفعلُ ما ... تفعلُ بنتُ العنبِ قلت: شعرٌ مقبول غير مردود. إسماعيل بن هبة الله بن علي بن الصنيعة القاضي عز الدين الإسنائي، أخو نور الدين، وهو الأكبر. سمع الحديث من قطب الدين بن القسطلاني، واشتغل ببلده على الشيخ بهاء الدين القفطي، ثم إنه جرى بينه وبين شمس الدين أحمد بن السديد ما فارق إسنا بسببه. ودخل القاهرة، وقرأ الأصول والخلاف والمنطق والجدل على الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني، ولازمه سنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وولي الحكم من جهة ابن نبت الأعز، ثم ولي من جهة ابن دقيق العيد، وعمل عليه، وحصل منه كلام، فجره ذلك إلى أن انتقل إلى حلب، ناظرَ الأوقاف، ودرس بها، وظن الشيعة بحلب أن يكون شيعياً كلونه من إسنا، فصنف كتاباً في فضل أبي بكر رضي الله عنه. وأقام بحلب مدة يستدل على فضل أبي بكر وصحة إمامته، والشيخ نجم الدين بن ملي إلى جانبه معيد لا يتكلم. وصنف كتاباً ضخماً في شرح تهذيب النكت. وكان في ذهنه وقفة، إلاّ أنه كان كثير الاشتغال. وكان بحلب إلى أن وصل قازان إلى البلاد، فعاد إلى القاهرة، وأظنه جاء إلى صفد قاضي القضاة أيام نائبها الأمير سيف الدين كراي، فما مكنه من الإقامة بها. وكان كريماً جواداً خيراً، كم بلغ آمليه مراداً، محسناً إلى أهل بلاده، ومن ورد من تلك الناحية، واستظل من أقلامه بصعاده. اشتهر بالكرم، وآوى من الفضل إلى حرم. ولم يزل بالقاهرة مقيماً إلى أن نزل به الأمر المكتوب على الرقاب، وأفضى إلى محل الثواب والعقاب. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة. إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن جهبل القاضي محيي الدين الحلبي، ثم الدمشقي الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 ربي هو وأخوه الإمام شهاب الدين أحمد المقدم ذكره يتميين فقيرين، فاشتغلا وتفقها وتميزا. وسمع محيي الدين من القاضي شمس الدين بن عطا، وجمال الدين بن الصيرفي، وجماعة. وخرج له عنهم علم الدين البرزالي، وتفقه بابن المقدسي، وبالشيخ صدر الدين بن الوكيل. ودرس وأفتى، وناب في القضاء بدمشق، وولي تدريس الأتابكية، وندب لقضاء طرابلس فباشرها. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: ولم يُحمد. قلت: إلا أنه كانت له معرفة بالمكاتيب والأحكام، ودُربة بفصل القضايا المعضلة بين الأنام. نقي بياضِ الشيب، ممسكّ لما في يده والجيب، مليح البزة، مليح الشكل، عليه وقار، وله في النفوس عزة، حصل أملاكاً، وملك دنياً حاولها دراكاً. ولم يزل على حاله إلى أن قرع الموت صفاته، وخانه أملُه وفاته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة. ومولده سنة ست وستين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 إسماعيل بن يوسف بن نجم ابن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم، الشيخ المقرئ الفقيه المُسند المعّمر، صدر الدين أبو الفداء السويدي الدمشقي الشافعي. سمع من ابن اللتي كثيراً، ومن مكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وإسماعيل بن ظفر، والسخاوي، وعدة. تفرد بأشياء. تكاثر عليه الطلبة، وتلا على علم الدين السخاوي بحرف أبي عمرو، وابن كثير، وعاصم. ونزل في المدارس، وكان آخر من قرأ على السخاوي. حج سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وحدث بالحرم الشريف. وسمع منه إبنا شمس الدين الذهبي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وخلق كثير. وكان حسن الأخلاق، مائلاً إلى الانقياد والاتفاق، وله عقار يرتزق منه، وملك إذاً عرض له الملك استغنى به عنه. ولم يزل على حاله إلى أن اشتهرت وفاة ابن مكتوم، وصح أنه نزل به الأمر المحتوم. وتوفي رحمه الله تعال ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة. إسماعيل بن يوسف بن نجم ابن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم، الشيخ المقرئ الفقيه المسند المعمّر، صدر الدين أبو الفداء السويدي الدمشقي الشافعي. سمع من ابن اللتي كثيراً، ومن مكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وإسماعيل بن ظفر، والسخاوي، وعدة. وتفرد بأشياء. تكاثر عليه الطلبة، وتلا على علم الدين السخاوي بحرف أبي عمرو، وابن كثير، وعاصم. ونزل في المدارس، وكان آخر من قرأ على السخاوي. حج سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وحدث بالحرم الشريف. وسمع منه اثنا شمس الدين الذهبي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وخلق كثير. وكان حسن الأخلاق، مائلاً إلى الانقياد والاتفاق، وله عقار يرتزق منه، وملكٌ إذا عرض له الملك استغنى به عنه. ولم يزل على حاله إلى أن اشتهرت وفاة ابن مكتوم، وصح أنه نزل به الأمر المحتوم. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مسند الدرامي، والمنتخب من مسند عبد بن حُميد، وجزء أبي الجهم، والثاني من حديث المخلص، والمئة السريجيّة بسماعه لذلك من ابن اللتي، وطأ مالك رواية يحيى ابن بكير بسماعه له من مكرم بن أبي الصقر، وكان قد تفرد به بدمشق. وروى لنا أيضاً عن السخاوي. أسنبغا الأمير سيف الدين المحمودي نائب طرابلس. هو الذي جاء بجلوس الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد على تخت الملك بعد أن قُتل المظفر حاجي، ووصل إلى دمشق في رابع عشري شهر رمضان المعظم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحلف الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام والعساكر، ورسم له الناصر حسن بنيابة طرابلس عوضاً عن الأمير سيف الدين أقتمُر فيما أظن، وذلك في صفر سنة وسبع مئة. ولم يزل بها نائباً إلى أن عزل بالأمير زين الدين أغلبك الجاشنكير أمير حاجب حلب. ثم إن الأمير سيف الدين أسنبغا أمسك وجُهز إلى الإسكندرية معتقلاً، ولما أفرج عنه بعد خلع الناصر حسن، ووصل الملك المنصور محمد إلى دمشق في واقعة الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 سيف الدين بيدمر الخوارزمي إلى دمشق رسم للأمير سيف الدين أسنبغا بطلبلخاناه في حلب، فتوجه إليها في شوال سنة اثنتين وستني وسبع مئة، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبع مئة. أسندمر الأمير سيف الدين نائب طرابلس. كان أولاً فيما أظن والي البر بدمشق، ولما جاء العادل كتبُغا إلى دمشق في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وست مئة عزله من ولاية البر بدمشق، وولى مكانه علاء الدين بن الجاكي، وكان قد وليها في سنة اثنتين وتسعين وست مئة عوضاً عن طوغان لما جُهز إلى قلعة الروم نائباً، وفي المحرّم سنة ست وتسعين أمسكه، وقيده واعتقله بقلعة دمشق، ونقل إلى طرابلس نائباً في أيام الأفرم عوضاً عن الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير في سنة إحدى وسبع مئة، فمهد طرابلس، وأقام الحرمة، وسفك الدماء بأنواع من الإزهاق، ولما جاء السلطان من الكرك حضر إليه وتوجه معه إلى مصر فولاه نيابة حماة. ولما توفي الأمير سيف الدين قبجق نائب حلب نقله السلطان إلى نيابة حلب، فأقام فيها مديدة، وجهز السلطان الأمير سيف الدين كراي المنصوري في عساكر الشام مجرداً، فأقام على حمص مدّة، ولما كان عصر نهار آخر شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة - فيما أظنّ - ساق كراي بالعسكر جريدة من حمص إلى حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 في ليلة واحدة، وما خرج أسندمر من داره لصلاة العيد إلا وقد أحاطت العساكر بدار النيابة، ووعروا الباب عليه بالأخشاب وغيرها، وأمسكه كراي بكرةً نهار عيد رمضان، وجهز إلى باب السلطان على البريد مقيداً، وكان ذلك آخر العهد به رحمه الله تعالى. وقيل: إنه جهزه إلى الكرك هو والجوكندار وبتخاص وغيرهم. وجاء الخبر إلى دمشق بوفاة بتخاص وأسندمر في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وكان جباراً يسفك الدماء جهاراً، ويُجري منها على الأرض أنهاراً، نوع الإزهاق، وعاجل تلاف النفوس بالإرهاق. سلخ وسلق، ووسط وشنق، وكحل وقطع الأطراف، وبالغ في هلاك الأجساد، وتعدى حد الإسراف. وكان منهوماً في الأكل الذريع، وكأنّ ما يأكله نوع من الضريع. قيل: إنه كان يُعمل له بعد العشا خروف مطجن، سمين موجن، فيأكله جميعه، ولا يؤثر به ضجيعه، ثم إنه بعد ذلك يعمل له بيده من الحلاوة السكب صحناً، ويأكله سخناً. وكان يحبّ الفضلاء، ويؤثر النبلاء، ويسأل عن غوامض، ويعترض ويناقض، حضرت من عنده مرةً فتيا إلى دمشق يسأل فيها: أيما أفضل الولي أو الشهيد، والملك أو النبي؟ فصنف له الشيخ صدر الدين بن الوكيل في ذلك مجلداً، وصنف له الشيخ برهان الدين الفزاري في ذلك جواباً فيما أظن، وصنف كمال الدين بن الزملكاني في ذلك مجلداً مصنفين. وصنف له الشيخ تقي الدين بن تيمية مجلداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ولما كان بحلب طلب الشيخ صدر الدين بن الوكيل - وكان ذلك قبل صلاة الجمعة - وسأله عن تفسير قوله تعالى: " والنجمِ إذا هوى " فقال: هذا الوقت يضيق عن الكلام على هذه المسألة. ووهبه أسد الغاب لابن الأثير في نسخة مليحة، وقال له: لازمني. وكان بعد ذلك لا يفارقه إلى أن جرى ما ذكرت من إمساكه، وما قدره الله تعالى من هلاكه، ورحمه الله تعالى. وكان قد عمر بطرابلس جماماً جعل الكواكب في سمائه جاماً، وأحكمه نظاماً حتى طار في البلاد ذكره، وضاع في الرياض شكره. وفيه يقول الشيخ شمس الدين أحمد بن يوسف الطيبي: زر منزلَ الأفراح واللذات ... دار النعيم ومرتعَ اللذات دار النعيم وفي الجحيم أساسُها ... تجري بها الأنهارُ في الجناتِ فلكٌ ومن بيض القبابِ بُروجه ... ونجومه من زاهر الجامات معنى لهُ معنى يمازج ماؤه ... للنهار فهو مؤلف الأشتات كالخلد مرتفع البناء فضاؤه ... رحبٌ يُسافر فيه باللحظات يحيك بخور العود طيبُ بخارها ... والمسك والكافور ممتزجات وتضيء في غسق الدجا أكنافها ... كإضاءةِ المصباحِ في المشكاة فرشت بأنواع الفصوص ورصعت ... بجواهرٍ من فاخر الآلات برك كأفوا الملاح رضابُها ... عذب شهي الرشف في الخلوات ومنابع قد فجرت بحدائق ... ترخيمها يغني عن الزهرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وجرت أنابيب الحياض بفضةٍ ... محلولة تنصبُ في مرآة تلقى الربيعَ من اعتدالِ هوائها ... ومياهها في سائر الأوقات ويشم منها من يمر ببابها ... ريا نسيمِ الروض في الغدوات حمامنا يشفي السقام وماؤه ... عينُ الحياة تُزيل كل شكاة بيت تُزان به البيوت كأنّه ... بيتُ القصيد لسائر الأبيات وبرسمِ مولانا الأمير وأمره ... بنيت على اسم الله والبركات المالك المخدوم سيف الدين وال ... دنيا أسندمر الكريم الذات قد ساد بانيها فشاد بناءها ... بأوامرِ سيفيةِ العزمات في دولة الملك الرحيم محمدٍ ... الناصرِ المنصورِ في الغزوات تمت لخمسٍ قد غدت من هجرة الم ... ختار مع سبع كملن مئات أسندمر الأمير سيف الدين العمري، نائب السلطنة بحماة والطرابلس. كان شكلا كاملاً مهيباً هائلاً، حسن الوجه، يشبه البدر، ويملأ برؤياه العين والصدر. باشر نيابة حماة مرات، ووجد فيها المسرات. وناب في طرابلس مرة، وكان في وجه الملك غرة. ولم يزل إلى أن دخل إلى العدم بعد الوجود، وقُبض وهو بعد الإطلاق في القيود. وكانت وفاته في أوائل سنة إحدى وستين وسبع مئة، بمحبسه في الإسكندرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 كان من مماليك السلطان محمد بن قلاوون. وتزوج ابنة الأمير سيف الدين الحاج بهادُر المعزي. ولما توجه الأمير الدين طقتمر الأحمدي إلى نيابة حلب خلت عنه حماة فجهز إليها أسندمر العمري، فكان بها نائباً إلى أن برز يلبغا بظاهر دمشق في دولة الكامل، فحضر العمري إليه دمشق، وأقام عنده، ولما ملك المظفر حاجي نُقل أسند مر من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس بوساطة يلبغا له، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن حضر إلى طرابلس الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، ومع ما سيأتي في ترجمته. وتوجه أنسد مر إلى مصر في أواخر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها إلى ذبح أرغو شاه بدمشق، ورسم بنيابة دمشق للأمير سيف الدين الحاج أرقطاي، ورسم للأمير سيف الدين قطليجبا نائب حماة بنيابة حلب، فرسم لأسندمر العمري بالعود إلى حماة نائباً، فحضر إليها في العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة. وتوجه بالعساكر الإسلامية إلى سنجار في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وكان هو المقدم عليها، وأقام بحماة إلى أن عزل عنها بالأمير سيف الدين طان يرق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وعاد أسندمر إلى مصر على عادته مقيماً إلى أن خُلع السلطان الملك الصالح صالح في ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب، وعزل طان يرق من حماة، ورُسم لأسندمر العمري بنيابة حماة، فعاد إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 ثلاث مرة نائباً، فحضر إليها في العشر الأولى من ذي الحجة سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وصحبه الأمير سيف الدين طيبغا المارجاري ليقرّه في النيابة بحماة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن رسم بعزله، وتولى النيابة الأمير ركن الدين عمر شاه فوصل العمري إلى دمشق بكرة الأحد سابع عشري جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فوجد طلب الأمير ركن الدين عمر شاه خارجاً من دمشق أميراً إلى أن أمسك هو والإسماعيلي وابن صُبح، وجهز إلى الإسكندرية سنة ستين وسبع مئة، فأقام بالحبس إلى أن توفي به في التاريخ. أسندمر الأمير سيف الدين العمري. كان أمير خمسين فارساً بالقاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ورثه ابنته وبيت المال، وكان نصيب بيت المال من تركته خمسة وعشرين ألف دينار. الألقاب والأنساب الإسنائي القاضي نور الدين إبراهيم بن هبة الله. وضياء الدين أحمد عبد القوي. وفخر الدين إسماعيل بن عبد القوي. وعز الدين إسماعيل بن هبة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وعبد الرحيم بن علي. وتقي الدين عبد الملك بن الأعز. نور الدين ابن الشهاب الإسنائي علي بن هبة الله. الأصفوني: علاء الدين علي بن أحمد. أصلم الأمير بهاء الدين لسلاح دار. كان من جملة المشايخ مقدمي الألوف في أواخر الدولة الناصرية وإلى أواخر دولة الصالح إسماعيل. كان قد جرد إلى اليمن، فلما توجه وعاد ونقل عنه كلامّ إلى السلطان، فاعتقله، وبقي في الحبس مدة تقارب الحسم سنين، ثم أخرجه وأعاده إلى منزلته. ثم إنه في آخر أيام الناصر جهزه إلى صفد نائباً. وتوفي الملك الناصر وهو بها نائب. ثم إن الأمير قوصون جرده مع ألطنبغا نائب الشام إلى حلب لإمساك طشتمر، فلما كان في أثناء الطريق رد من قارا، وانضم إلى الفخري، واقام عنده على خان لاجين،، وتوجه معه صحبة عسكر الشام إلى مصر، فرسم له الناصر أحمد بالإقامة في مصر على عادته أمير مئة مقدم ألف، وعمر في البرقية عند إصطبله مدرسة مليحة إلى الغاية، وتربة وربعاً وحوضاً للسبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وكان من الأشكال الحسنة، قد ألقى إلى سلامة الصدر سنه، ذا شيبة تقية، وهمة فيها من الشبيبة بقية، بوجه مشرب الحمرة، كأنما أريق عليها كأس خمرة. ولم يزل على حاله إلى أن لبس أكفانه، وغمض الموت أجفانه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وأربعين وسبع مئة. أصلم الأمير بهاء الدين بن دمرتاش كان من أمراء دمشق، يسكن العقيبة. توفي رحمه الله تعالى في رابع ذي القعدة سنة سبع وسبع مئة. وحضر جنازته نائب الشام، ودفن بالصالحية. أصيل الدين الصدر الكبير بان الشيخ ابن الشيخ الإمام نصر الدين محمد بن محمد الطوسي. كان الكبير ابن الشيخ الإمام نصر الدين محمد بن محمد الطوسي. كان ناظر الأوقاف، ومنجماً عند ملوك التتار، وله جامكية كبيرة. وحرمة وافرة. توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة ببغداد، دفن عند والده بمشهد موسى الجواد رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 آصوج الأمير سيف الدين الواقدي. أحد أمراء الخميس بالقاهرة. توفي رحمه الله تعالى فجاءة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. الأنساب والألقاب ابن بنت الأعز: القاضي علاء الدين أحمد بن عبد الوهاب. الأعسر: الأمير شمس الدين سُنقر. أغرلو الأمير شجاع الدين ملك الأمراء. عمل نيابة دمشق لأستاذه السلطان الملك العادل كتبغا، تولاها عوضاً عن الحموي في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وست مئة. ولما خُلع من الملك بقي أغرلو بدمشق أميراً كبيراً. وكان فارساً بطلاً شجاعاً، أبلى في الحروب تقدماً ودفاعاً، له في الوقائع صولات، وحملات وجولات. وكانت الدول تعظمه لشجاعته المذكورة وفروسيته المشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ولم يزل على حاله إلى أن اختطفته عُقابُ الموت الكاسر، ونزل النساء يندبنه حواسر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن في تربته المليحمة شمالي الجامع المظفري بجبل الصالحية. أغرلو الأمير شجاع الدين السيفي. كان مملوكَ الأمير الدين بهادُر المعزي، والآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الباء، ولما حبُس أستاذه أخذهُ الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وجعله أمير آخور. ولم يزل عنده إلى أن توفي بكتمر رحمه الله تعالى، فانتقل إلى عند الأمير سيف الدين بشتاك على الوظيفة المذكورة. ثم إنه بعد بشتاك تولى ناحية أشموم، وسفك بها، ثم إنه جهز نائباً إلى قلعة الشوبك، ثم نقل منها، وعمل ولاية القاهرة مدةً في أيام الصالح إسماعيل، ثم إنه ولاه شد الدواوين، وتظاهر بعفةٍ زائدة، وأمانة عظمى. ولما توفي الملك الصالح رحمه الله تعالى كان له في ولاية أخيه الكامل شعبان عنايةٌ تامّة، فقدمه، وحظي عنده، وفتح له باب الأخذ على الإقطاعات والوظائف، وعمل لذلك ديواناً قائم الذات وسمي ديوان البذل، ولما تولى الصاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 تقي الدين بن مراجل شاجحه في الجلوس والعلامة والتقدم، ودخلا إلى السلطان الملك الكامل، فترجح الصاحب تقي الدين، عُزل أغرلو. ولما كان في واقعة الملك المظفر حاجي كان أغرلو ممن قام في أمره، وضرب الأمير سيف الدين أرغون العلائي في وجهه وسكن أمره بعد ذلك وخمد. ثم إنه حضر في أيام المظفر حاجي صحبة الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري ليوصله إلى طرابلس نائباً، وعاد إلى مصر، وأمرُهُ ساكن إلى أن قام في واقعة الأمراء سيف الدين ملكتمر الحجازي، وشمس الدين أقسنقر، وسيف الدين قرابغا، وسيف الدين بزلار، وسيف الدين صمغار، وسيف الدين إتمش، فكان الذي تولى كبره، وأمسك جماعة من أولاد الأمراء، فعظم شأنه، وعلا مكانه، تفخم أمرُه، وأسمعَ زمره، وخافه أمراء مصر والشام، ونام في سكرةِ باطله وغروره وعينُ الدهر ما تنام. وأقام على ذلك مدة أربعين يوماً، وأمره يزداد في التعاظم والجبروت سوماً، إلى أن أتي من مأمنه، وثار إليه الحين من معدنه. وقيل: إن الحرافيش أخرجوه من قبره، وأقاموه في زي عظمته وكبره، وجعلوا يشاورونه كما كان يفعل، ويترددون بينه وبين السلطان، وقد أضرم غيظه على الأمراء وأشعل، ويمسكون الأمراء كما كان يمسكهم ويقيدهم، ويميل لهم إلى مصارعهم ويحيدهم. ونوعوا به النكال والمثلة، ونصبوه بعد ذلك على أثلة، فغضب السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 لذلك، وأمر الأوشاقية فنالوا من الحرافيش منالاً عظيماً، وأذاقوهم من القتل والقطع والضرب عذاباً أليماً، أخذاً بذلك ترات تراته، وكان مشؤوماً في حياته ومماته. وقيل: إن السبب في قتله حضور رأس يلبغا إلى القاهرة، فإن الخواص من المماليك السلطانية دخلوا إلى السلطان وقالوا: لا بد من قتله، وجاء الخبر إلى الشام بقتله في مستهل شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحسب الناسُ من قتله من الأمراء في مدة أربعين يوماً، فكان ذلك أحداً وثلاثين أميراً، وكان في أيامه يخرج من القصر، ويقعد على باب خزانة الخاص، ويتحدث في الدولة وفي الخزانة والإطلاق والإنعام، ويجلس والموقعون عنده، ويكتبون عنه إلى الولاة، ولكنه مات هذه الميتة القبيحة، وفُعلت به هذه الأحدوثة الفضيحة. فقلت أنا مستطرداً: وعاذل قال: عمري ... أعسى لعلك تسلو أموت منك بغبني ... فقلت مروت أغرلو أغلبك الأمير سيف الدين بن رمتاش - بضم الراء وسكون الميم، وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف بعدها شين معجمة - الرومي. كان أولاً مقيماً بصفد على إمرة عشرة، فوقع منه كلام في حق نائب صفد الأمير شمس الدين سنقرشاه المنصوري، فضربه قدامه واعتقله، ثم أفرج عنه، ونقل إلى دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 ولما توجه السلطان إلى مصر سنة تسع وسبع مئة بالعساكر الشامية، كان هو من جملة الأمراء السلاح دارية. ولم يزل بدمشق على حاله في الأمرة إلى أن جاء أغلبك الأمر الذي لا يغالب، والغريم الذي لا يطالع ولا يطالب. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان لطيف النفس، شديد الأنس، تفعل الجفون المريضة فيه ما لا تفعله السيوف الماضية، وتسكره الريقة الرايقة بخلاف سُكر بنت العنقود الصافية، ويلعب بالقبق ويجيد ضربة وتره، ويتبع أرباب الملاهي، فما منهم إلا من يعود تابع أثره، إلا أنه كان بطلاً مقدماً، لا تزلزل له الحروب أقداماً، صياداً لا يخرج الصيد عن أوامر سهامه، ولا يفوته من يمينه أو شماله، أو من خلفه أو من أمامه، مع الرشاقة الحلوة، والخفة على ظهر مراكيبه التي هي من العيوب خلوة، وهو أخو صلاح الدين خليل بن رمتاش. أغلبك الأمير زين الدين العادلي مملوك العادل كتبغا. كان من جملة أمراء دمشق المشهورين، وأعيانهم المذكوري، وكان ينظر في أوقاف العادل، ويجالد عنها ويناظر ويجادل، فنقل إلى طرابلس أميراً، وفارق دمشق حسيراً، فمرض هناك، ووقع من العلة في شراك واشتراك، فحضر إلى دمشق ليتداوى، فما أقام بها ولا آوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وكان قد ولي البر بدمشق في المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة عوضاً عن طرنطاي الحموي. أفريدون بن محمد بن محمد بن علي التاجر الأصبهاني. ورد إلى دمشق، وأعجبه المقام بها، وشرع في عمارة المدرسة المليحة الظريفة التي برّا باب الجابية بدمشق سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وأنفق على عمارتها إلى أن جاءه الأمر الذي لا يرد، والخطبُ الذي لا يصد، وما أغنى عنه ماله، ولا نفعه إلا أعماله. وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. الألقاب والأنساب الأفرم: نائب دمشق، اسمه أقوش. الأفضل: صاحب حماة محمد بن إسماعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 أقبغا الأمير سيف الدين الناصري المعروف بأقبغا عبد الواحد. تنقلت به الأحوال من الجمدارية إلى أن صار أمير مئة مقدّم ألف، أستاذ دار السلطان، مشد العمائر، مقدّم المماليك، أمير منزل خمس وظائف. وتأمر ولداه ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد، وكان أخا الخوندة طغاي، امرأة أستاذه الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى من حرف الطاء في مكانه. كان في أيام أستاذه في غاية التمكن والقدرة والتسلط والبأس والجبروت، لو ذكر اسمه للماء جمد، أو مر ذكره على الجمر خمد، ليس لأحد عنده مكانة، ولا يجد له خضوعاً ولا استكانة. ولما توفي الملك الناصر، وتولى ولده الملك المنصور أبو بكر صادره وسلمه إلى الأمير علاء الدين طيبغا المجدي، وأخذ منه كل ما يملكه، وأمر برد كل ما اغتصبه، وأخذه بالي العادية على الناس، ولم يبق له تصرف في ماله، إلى أن طلب مئة درهم فأعطاه إياها الأمير علاء الدين طبيغا المجدي. ولما تولى الملك الأشرف كجك أخرجه الأمير سيف الدين قوصون إلى دمشق، فأقام بها قليلاً، وتوجه مع الفخري إلى مصر، فرسم له الناصر أحمد بنيابة حمص، فحضر إليها، وأقام بها إلى جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ورسم بإحضاره إلى دمشق، فأتى إليها، وأقام بها من جملة أمراء المقدمين، فلما كان في شوال من السنة المذكورة حضر مرسوم الملك الصالح إسماعيل بإمساكه فأمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 هو والأمراء الذين اتهموا بالميل مع الناصر أحمد وأودع معتقلاً بقلعة دمشق، ثم إنه طُلب بعد قليل إلى مصر، فتوجه به الأمير بدر الدين بكتاش المنكورسي، وكان ذلك آخر العهد به. آقبغا الأمير سيف الدين الحسني الناصري. كان رفيعَ المنزلة والمكانة، مؤثل المرتبة من خاطر أستاذه، ثابت الركانة، إلا أنه زاد في دلاله، وأفرط في اعتدائه، قوامه بالغ في اعتداله، فمال أفاده سحر أجفانه، ولا نفعه تبسم ثغره عن أقحوانه، وهون اللطان على قلبه أمُره، وأخرجه إلى دمشق، ولكن على إمرة، فأقام بها على غير استقامة، وأصر على غيه، ولم يقبل نصحاً، ولم يصغ إلى ملامه، ولازم الشراب وعاقره، ونسي أمر تنكز عواقبه وعواقره، فكتب إلى السلطان في معناه، وجعل القلعة مغناه، ولبث معتقلاً في قلعة دمشق زماناً، ولم يجد من حادث الدهر أماناً، ثم إنه فك صفدُه، وجهز إلى صفد، فأقام بها، وفداءُ سعده ما وفد، إلى أن أذوى الحمام زهرته، وأسكنه حفرته. وتوفي بصفد رحمه الله تعالى. وكان قد اعتقل بقلعة دمشق زماناً، إلى أن قدم السلطان من الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأفرج عنه في المحرم، وجهز إلى صفد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 أقجبا الأمير سيف الدين المنصوري. كان أحد الأمراء بدمشق. ولي شد الدواوين بدمشق بعد الأمير جمال الدين أقوش الرستمي، وعين لتقدمة الركب الشريف في سنة تسع وسبع مئة، ودار بالمحمل في أول الثلاثة أشهر على العادة، ثم إنه بطل الركب وتوجهه بسبب ما بلغ الناس من تحرك السلطان الملك الناصر من الكرك، وكانت فيه ديانة، وعفّة في المباشرات وأمانة، وحفظ للأموال وصيانة، تنقل في النيابات، وخرج سالماً مما فيها من الغيابات، وعمل الشد وما حلّ ولم يتعرض إلى حرم ولا ما حل، وعمل النيابة بغزة، وشرف نفسه عن أموال الرعايا ونزه، ثم إنه أقام على إمرته، وما أخمد الله ضوء جمرته. ولم يزل على حاله إلى أن نزلت به أم دفر، ورحل إلى الآخرة مع ذك السفر. ووفاته رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة. ودفن بتربته خارج باب الجابية. وكان قد باشر نيابة بعلبك، ومنها نقل إلى الشد بدمشق، وبقي مدة، ثم تولى نيابة غزة مدة عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي، ثم عزل وأقام على إمرته إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وكان قد ولي الشد أولاً في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 أقجبا الأمير فخر الدين الظاهري. حج بالركب الشامي في سنة ثلاث وسبع مئة. وكان من أمراء دمشق والأعيان، وممن قدمت هجرتهم في خدمة السلطان، وثابت العدالة على الحكام، وملازم الصلاة في الجامع على مرّ الليالي والأيام، شرب كؤوس الصبا، فحده الدهر ثمانين، وتشعب به سعدُ الإمرة في أفانين. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الظاهري في باطن الأرض، وأقام فيها إلى يوم العرض، وحضر جنازته ملك الأمراء وجماعة من الأمراء، ودفن بسفح قاسيون قبالة زاوية ابن قوام، ووفاته تاسع عشري ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبع مئة. أقجبا الأمير فخر الدين الحموي. نقل من حماة إلى القاهرة، وأعطي شد الشراب خاناه بالقاهرة في أيام الملك الصالح إسماعيل، وعلت عنده رتبتُه، وغلت من قلبه محبته، وسمت مكانته وتأثلت، ووقفت السعود في خدمته وتمثلت، ولم يكن في دولة الصالح له نظير غير الوزير، ولا ضاهاه أحدٌ في حسن السياسة والتدبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وكان يقضي غالب الليل عند السلطان، وإذا قرر عنده أمراً لا تسمعه آذان الحيطان، ويساهره ويسامره، ويأخذ بمجامع قلبه بود يخامره، ثم إنه أخرج من مصر بعد الصالح، وعاد إليها كراتٍ عودَ الطليح، بل الطالح. ثم إنه ولي الحجبة آخراً في أيام الملك الناصر حسن، واختص بالأمير شيخو فانقاد له بالرسن. ولم يزل على حاله إلى أن أدناه الجديدان إلى البلى، وولى سعدُه مدبراً بعد أن كان مقبلاً. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة. وكان الأمير فخر الدين متصفاً بالمروءة في حق من يصحبه، كثير الود، نفع جماعة بصحبته. ولما توفي الملك الصالح إسماعيل أخرجه الملك المظفر إلى حماة، وبقي فيها إلى أن أمسك يلبغا أبوه طابطا، وجهزا إلى مصر من حماة، فتوجه الأمير فخر الدين بهما، ولما وصلوا إلى قاقون أتاهم الأمير سيف الدين منجك، وجرى ما يأتي ذكره في ترجمة يلبغا، ثم إن فخر الدين توجه إلى مصر فرسم له المظفر بالإقامة في القاهرة، فأقام، وكان قد خدم يلبغا في الطريق، ولاطفه وصبره وسلاه وثبته، ولم يزل مقيماً بالقاهرة إلى أن تولى الملك الصالح صالح، فأخرجه إلى حماة، فأقام بها، ولما عاد الأمير شيخو وطاز من حلب في واقعة بيبغاروس عاد معهما، ودخل الديار المصرية، وأقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 بها، واختص بالأمير سيف الدين شيخو، وولاه الحجبة بالقاهرة، ولما جرح شيخو انتصب الأمير فخر الدين لخدمته، وكان يباشر عمل المصلومة له بنفسه، وقل: إنه ربما أفطر في شهر رمضان لذلك. أقسنطر الأمير شمس الدين السلاري. سيرهُ السلطان الناصر محمد إلى صفد نائباً، فحضر إليها، ورأى أهلها منه من العفة والعدل ما لا رأوه من غيره، ثم نقله إلى نيابة غزة، فتوجه إليها. ومات السلطان، وتولى الملك المنصور أبو بكر، وخلع، وتولى الأشرف كجك، وجاء الفخري لحصار الكرك، فقام الأمير شمس الدين بنصرة أحمد في الباطن كثيراً، وتوجه الفخري إلى دمشق لما توجه الطنبغا إلى حلب، ليطرد طشتمر نائب حلب، فاجتمع به، وتوقى عزمه، وقال له: توجه أنت إلى دمشق واملكها، وأنا أحفظ لك غزة. وقام في هذه الواقعة قياماً عظيماً، وأمسك الدروب، فما جاء أحد من دمشق ولا من مصر بريداً كان أو غير ذلك إلا وحمله إلى الكرك، وحلف النسا للناصر أحمد، وقام ببيعته باطناً وظاهراً، ثم جاء إلى الفخري وهو على خان لاجين، وقوّى عزمه وعضده. ولم يزل عنده بدمشق إلى أن جاء ألطنبغا من حلب، والتقوا، وهرب ألطنبغا، فاتبعه الأمير شمس الدين إلى غزة، وأقام بها، ودخلت العساكر الشامية إلى مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ولما أمسك الناصر أحمد طشتمر النائب وتوجه به إلى الكرك أعطى نيابة مصر للأمير شمس الدين أقسنقر، وبقي نائباً وأحمد في الكرك إلى أن تملك الملك الصالح إسماعيل، فأقره عليها، فسار فيها سيرة مشكورة، وأقام فيها مدة أحاديثها إلى الآن مذكورة، لا يمنع أحداً شيئاً يطالبه كائناً من كان، ولا يرد سائلاً يسأله، ولو لم يكن ذلك في الإمكان، وارتزق الناس في أيامه، وغرق الضعفاء في بحر أنعامه، وتقدم من كان مؤخراً، وجرى رخاءُ الرخاء بأمره مسخراً، حتى كان الناس يطلبون منه مالا لهم به حاجة، ولا لهم به ضرورة، وهو يقضي ما قابله جده أو واجه. ثم إن السلطان الملك الصالح إسماعيل أمسكه، وأمسك الأمير سيف الدين بيغرا أمير جاندار والأمير سيف الدين أولاجا الحاجب الآتي ذكرهما في موضعيه، والأمير زين الدين قراجا الحاجب، لأنهم نسبوا إلى الممالأة والمداجاة مع الناصر أحمد، وذلك في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وكان ذلك آخر العهد بأمره، والله تعالى يتولى الباطن من سره، وأخرج فيما بعد عن بيغرا وأولاجا وقراجا في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة. أقسنقر الأمير شمس الدين الناصري. كان في حياة أستاذه أمير شكار وزوجه ابنته، وجعله أمير مئة مقدم ألف. ولما جاء الناصر أحمد من الكرك جعله أمير آخور، فلم يرضَ فأخرجه إلى غزة نائباً، وأقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 بها إلى أن أمسك الفخري، وتسلطن الملك الصالح إسماعيل فطلبه من غزة، وجعله أمير آخور، وعظمت مكانته عنده، وجّهزه مقدّم العساكر المصرية والشامية لحاصرة الكرك، ثم أبطل ذلك، وخرج عوضه في التقدمة الأمير سيف الدين بيغرا. ثم إنه جهز إلى الكرك فأبلى بلاءً حسناً، وأنكى في ذلك، وجُرح جراحة مؤلمة، وعاد إلى مصر، وأراد التوجه إلى الحجاز بأهله، فمنع من ذلك، ولأن والدة الملك الأشرف كجك عنده زوجة، فخيف منه، وأخرج إلى طرابلس نائباً، فورد إلى دمشق على البريد، وعمل النيابة بطرابلس جيداً، وظهرت عنه مهابة وبطش وقمع للمفسدين، وعف عن أموال الرعايا، وأقدم نائباً من أوائل شوال سنة أربع وأربعين وسبع مئة إلى بعض شهر ربيع الآخر، سنة وأربعين وسبع مئة إلى بعض شهر ربيع الآخر، سنة ست وأربعين وسبع مئة، وفي أول سلطنة الكامل شعبان، فطلبه إلى مصر، وتوجه إليها، وعظم أمره وأمر الحجازي إلى الغاية، فيقال: إنهما أحسّا في الباطن بالغدر من الكامل، فجهّزا في السر إلى الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، وقالا له: برّز أنت في ظاهر دمشق، فإننا قد عزمنا على أمر. وكان يلبغا إذ ذاك نائب دمشق، فبرز إلى ظاهر دمشق - على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وراحت الأخبار إلى الكامل بخروج يلبغا واتفاق نواب الشام معه، فلم يرَ الكامل بُدّاً من تجهيز عسكر إليه، فجرد جملة من عسكر مصر، وقدم عليها أحد الأميرين، وإمّا الحجازي أو أقسنقر، فخرجا من القاهرة، وعاد مصر، وقدم عليها أحد الأميرين، إمّا الحجازية أو أقسنقر، فخرجا من القاهرة، وعاد من بعض الطريق، واجتمع الناس عليهما في قبّة النصر، وخرج الكامل، فجُرح الأمير سيف الدين أرغون العلائي، وانهزم السلطان، ودخل القلعة، وطلع الأميران المذكوران إلى القلعة، وأخذ أمير حاج، وأجلساه على كرسي الملك وحلفا له وحلفا له العساكر، ولقباه المظفر، وزادت عظمة الحجازي وأقسنقر في أيام المظفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فلما كان في يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة جاء إلى السلطان من كان معهما في الباطن، وقال: إنهم قد أجمعوا على الركوب غداً إلى قبة النصر، وأن يفعلوا بك ما فعلوه بأخيك، فأحضرهم العصر إلى القصر، وأمسكهم، وهم الأمير شمس الدين أقسنقر، والأمير سيف الدين ملكتمُر الحجازي، والأمير سيف الدين قرابغا الساقي صهر اليحيوي، والأمير سيف الدين إتمش، والأمير سيف الدين صمغار، والأمير سيف الدين بزلار، فأما الحجازي وآقسنقر فإنهما قتلا في الوقت الحاضر بالقصر، والبقية جهزوا إلى الإسكندرية، وقيل: إن السلطان ضرب قرابغا على كتفه بالنمجا، ثم إنه أمسك الأمير سيف الدين طقبغا الغمري، وأولاد الأمير علاء الدين أيدغمش وابن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وذلك كلّه بتدبير الأمير شجاع الدين أغرلو. وكان الأمير شمس الدين المذكور رحمه الله تعالى شكلاً مليحاً، ووجهاً مع صباه صبيحاً. طويلاً فيه هيف، لو رآه الحمام لسجع عليه وغرد وهتف، يكرم من يودّه، ويُسلفه الإحسان ولا يستردُه، نفسه نفس الملوك في العطاء، وجوده لأصحابه بارز الشخص ما عليه غطاء. وكان يكتب خطأ قوياً، متمكن الحروف سورياً، وكان إذا كتب لمن يكرمه ويصل حبل وداده ولا يصرمه، كتب: المملوك أقسنقر سلام عليك. أقطاي الأمير سيف الدين الجمدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 كان يسكن قبالة المدرسة التقوية داخل باب الفراديس، ثم إنه انتقل بعد ذلك إلى العقيبة، وكان أمير سبعين فارساً. وكان الأمير سيف الدين تنكز يعظمه. وهو والد الأمير سيف الدين سلامش. وكانت بينه وبين الشيخ علاء الدين بن غانم صحبة ومودة. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. أقطاي الأمير سيف الدين العمري كان من جملة أمراء الطبلخانات بحلب. توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة. ورسم بإمرته للأمير شرف الدين موسى بن الأمير ناصر الدين محمد بن شهري. أقطوان الأمير علاء الدين الكمالي الحاجب بصفد. حضر إليها أول أمره مشدّ الدواوين، ووالي الولاة لما كان الجوكندار نائبها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 إنه أعطي طبلخاناه، واقام على ذلك مدة، ثم رسم له بالحجوبية، وبقي فيها مدة طويلة، ثم إنه نقل إلى نيابة القلعة بصفد، وأقام بها مدة، ثم أعيد إلى الحجوبية. وكان أميراً ذا بركٍ وعدة، يركب وينزل من مماليكه في عدّة، زائد التجمل في السلاح وآلات الحرب والكفاح، وهو رجل طوال، لا يُرد عنده من أحد سؤال، ذو طلعة بهيّة، وشيبة سنية، عرف الناسَ وأحبوه، ولبوه إلى ما يريده وأجابوه. وهو والد الأمير سيف الدين قرمشي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف القاف مكانه. ولم يزل بصفد على حاله إلى أن خرب الموت ربع حياته، وقرر عنده أمر نزله وبياته. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكتبت أنا إلى ولده الأمير سيف الدين قرمشي أعزيه: تعز يا مولاي في الذاهبِ ... وأرضَ بأمر الطالبِ الغالبِ واصبر تنل أجركَ في فقده ... فليس من يصبرُ بالخائبِ قدر ركبَ الأعناقَ لمّا مضى ... لرَبِّه أفديهِ من راكبِ وباتَ مندوباً لأنَّ العلا ... أمست بقلبٍ بعده واجبِ وفاز لما حازَ طيبَ الثنا ... والذكر في الحاضرِ والغائبِ بكاهُ حتى مستهل الحيا ... بدمعهِ المنحدرِ الساكبِ لم ترمَ دونَ الناسِ من فقدهِ ... فيهِ بسهمٍ للردى صائبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 بل الورى عمهُم رزؤه ... وكم فؤادٍ بعدهُ ذائبِ وما ترى في النّاس غير امرئ ... وعينهُ تبكي على الحاجبِ أقطوان الأمير علاء الدين الظاهري الساقي. كان صالحاً يقوم الليل، ويجاهد في المحراب وعلى ظهور الخيل، ويلازم صلاة الجماعة، وما لحقوق الله تعالى عنده إضاعة. وكان يحفظ أشياء في الزهد يوردها، ويأتي بها من حفظه ويسردها. ناب السلطنة بقلعة الجبل في أيام السعيد بن الظاهر لما توجه إلى الشام، ثم إنه نقل إلى الشام، وأقام به إلى أن صُرع الساقي، وظفر من عمله بالكنز الباقي. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة ثمان عشرة وسبع مئة. وكان من أبناء الثمانين أو تجاوزها، ودفن بالقبيبات. أقوش الأمير جمال الدين الشريفي. كان والي الولاة بالصفقة القبلية بالشام، تولاها وهي كثيرة الهرج، مباحة الدم والفرج، قد غلب فيها العشير على حكام الدولة، وكادت قراها تحكي أطلال خولة، فأطلق فيها سيفه الماضي، ورفض التغافل والتغاضي، إلى أن هذب تلك الناحية، وميز الفرقة الناجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ولم يزل على حاله إلى أن بغته حمامه، وانقصف رمحه، وصدى حسامه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة. آقوش حسام الدين أبو الحمد الافتخاري الشبلي. سمع بالقاهرة من ابن رواج، والساوي، وجماعة. وسمع بدمياط الناسخ والمنسوخ للحازمي من الجلال الدمياطي. وسمع بدمشق من ابن قُميرة، وابن مسلمة، وسمع منه الطلبة. وكان متميزاً في الأجناد، موصوفاً بالسداد، وسمع بدمشق من ابن قميرة، وابن مسلمة، وسمع منه الطلبة. وكان متميزاً في الأجناد، موصوفاً بالسداد، يكتب خطاً فائقاً، راقياً في درجة الحسن رائقاً، له عناية بالخطوط المنسوبة وتحصيلها، وعنده بذل للجمل في تفصيلها. وحدث قديماً مع أستاذه شبل الدولة كافور خزندار قلعة دمشق. ولم يزل على حاله إلى أن وقع الشبلي في شبكة الموت، وغرق في بحر الفوت. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. آقوش الأمير جمال الدين المطروحي الحاجب بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 أباعه الكسروانيون للفرنج في واقعة غازان، ثم شراه ابن سعيد الدولة منهم، وأعطي طبلخاناه بعد الوقعة. وكان شيخاً مليح الشيبة، ظاهر الهيبة، حاجباً جليلاً، لا يراه أحد إلا اتخذه خليلاً، لا يراه أحد إلا اتخذه خيلاً، ناهضاً بالأعباء عاقلاً، لا تجده الدولة عن مصلحتها غافلاً. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن المطروحي على نعشه مطرحاً، وطحنته من المنية تلك الرحى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. باشر الطبلخاناه قليلاً، ومات رحمه الله تعالى. آقوش الأمير جمال الدين الأفرم، نائب دمشق. كان من مماليك الملك المنصور قلاوون القدُم الجراكسة، وهو من أكابر البرجية السلاح دارية. وكان في البرج مُغرى بالنشاب والعلاج والصراع واللكام والثقاف وتأمّر وهو على هذا. ولما كان في أيام أستاذه تحدث مع بعض الخاصكية أن يخرج إلى الشام، فعرضوا به للمنصور، فقال: آقوش الأفرام يريد الرواح إلى دمشق، لا بد له من نيابة دمشق إلا ما هو في أيامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: حدثني جلال الدين محمد بن سلميان بن البيع الموقع عن الشهاب الرومي أن الأفرم حدثه أنه قال: كان يتردد إلي وأنا بمصر فقير مغربي، كان في القرافة الكبرى، فقال لي يوماً: يا آقوش إذا صرت نائب الشام أيش تعطيني؟ فقلت له: يا سيدي ما أنا قدرُ هذا. فقال: لا بد لك من هذا. أيش تعطيني؟ فقلت: يا سيدي الذي تقول. فقال: تتصدق بألفي درهم عند السيدة نفيسة، وبألف درهم عند الشافعي. فقلت: يا سيدي بسم الله. فضحك، وقال: ما أظنك إلا تنساها، وما تعود تذكرها إلا إذا جئت هارباً إلى مصر. قال: فوالله لقد جعلتُ كلام المغربي ممثلاً بين عيني حتى وُليت النيابة، فأنسانيه الله، ثم ما ذكرته حتى دخلتُ نوبة غازان مصر هارباً، فبينما أنا أسير هارباً إذ مررت بمكان الفقير، فذكرت قوله، فأحضرت على الفور الدراهم، وتصدقت بها. وكان قد نقل الأفرم إلى الشام قبل النيابة، وأقام بها مدة طويلة في مجالس أنس ولهو وطرب، يغشى الناس ويغشونه. ولما كانت أيام العادل كتبغا، وتقدم حسام الدين لاجين، وصار نائب مصر، اشتد عضد الأفرم به، لأنهما كانا ابني خالة، فلما تسلطن لاجين كان الأفرم بدمشق فطلبه، وجعله حاجباً، وبقي بمصر مدة على ذلك، يبيت ويصبح بقلعة الجبل. ولما كان يوم الخميس وهو اليوم الذي قُتل فيه لاجين عشيةً، نزل الأفرمُ تلك الليلة، وبات في القاهرة في داره، وهي دار الشريف ابن ثعلب، وبات بها هو والأمير شرف الدين حسين بن جندر بك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 أخبرني من لفظه الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك. قال: بينا نحن تلك الليلة وإذا بالباب يُطرق وقائل يقول: خلوا الأمير يكلم السلطان. وآخر في آخر في الحث في طلبه. فهم الأفرام بفتح الباب، فقلت له: تأنّ على نفسك، فخاطري قد حدثني بأمر، وأخشى على السلطان من أمرٍ حدث، فانتبه لنفسه، وقال: ما العمل؟ قلت: تحيل على من يخرج إلى السوق، ويكشف الخبر. فدلينا مملوكاً من السطح، فما لبث أن عاد إلينا بالخبر، فخرجنا على حمية، وركبنا وطلعنا إلى خيل الأفرم، وكانت خراج البلد، فأخذنا الخيل وانعزلنا إلى القلوبية، واجتمع عليه مماليكه وأصحابه واللآجينية، ونشر أعلامه، ودقً طلبلخاناته، وبقي يتنقل حول بركة الحجّاج إلى عكرشة إلى المرش إلى ما دون بلبيس وهو على غاية الحذر، إلى أن ترددت الرسل بينه وبن أمراء القلعة، وتأكدت الأيمان بينهم، فهم بالطلوع إلى القلعة، ثم إنه رد من الثغرة، وفل أكثر من كان معه، وكاد يؤخذ، فأتى الله بالأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمراء المجردين بحلب، فانضم إليه الأفرم، وكان معه إلى أن قتل كرجي وطغجي، وتقرر الأمر على طلب السلطان الملك الناصر من الكرك بإجماع رأي سبعة من الأمراء، وكان الأفرام سادسهم، فتصدر الكتب بخطوط السبعة والأفرم السادس، ولما حضر السلطان واستقرت دولته بعثه إلى دمشق كالحافظ لها، فوصل إليها على البريد في ثاني عشري جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وست مئة، وحكم فها بغير تقليده مدة. انتهى، أو كما قال. ثم إن الأفرم سعى لها سعيها، فجاء تقليده بنيابة دمشق، وكان هو والجاشنكير متظاهرين لما يجمعهما من البرجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال حدثني والدي، قال: دخلت يوماً على الأفرم وهو في بقية حديث يتشكى فيه من افتئات سلار والجاشنكير وما هما فيه، ثم التفت إلي وقال: يا فلان! والله هذا بيبرس، لما كنا في البرج كان يخدمني ويحكّ رجلي في الحمام، ويصبّ الماء علي، وإذا رآني والله ما يقعد إلاّ إذا قلت له: اقعد. وأمّا سلار فما هو منا ولا له قدر، أيش أعمل في دمشق؟ والله لولا هذا القصر الأبلق والميدان الأخضر، وهذا النهر المليح ما خلّيتهم يفرحون بملك بمصر. وكان الأفرم يقول: لما توجه الناصر إلى الكرك: والله عملوا نحساً، كان ابن أستاذنا وهم حوله أصلح. ولم يزل على هذا حتى تحتم الأمر، وخاف القتل، وانصرف إلى الجاشنكير. ولما كانت كسرة المسلمين، وجرى من أهل كسروان ما جرى على العساكر أثر ذلك في قلبه، ولما عاد واستقرت الأمور توجه إليهم بنفسه، ونازلهم ولم يحصل على طائل، ووصلت الأراجيف بأحاديث التتار، فعاد عنهم، ولما قضى الله تعالى بالنصر في واقعة شقحب جعل كسروان دأبه، وكتب إلى نائب طرابلس ونائب صفد، وجمعوا الرجال وأحاطوا بالجبل من كل ناحية، فأظهره الله عليهم وظفره الله بهم، وكبتَ كتبَ البشائر بذلك، وأحسنُ ما وقع فيها الشيخ كمال الدين محمود بن الزملكاني لأنه افتتحه بقوله تعالى: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 ومدح الأفرم في هذه الواقعة بعدة مدائح جمعها شمس الدين الطيبي هي وكثيراً مما كتب في هذه الواقعة، وسماها واقعة كسروان، وزاد تمكن الأفرم في نيابة دمشق إلى أن كان يكتب تواقيع بوظائف كبيرة، ويبعثها إلى مصر، ليعلم السلطان عليها. وكتبت في دمشق على السلطان بالإشارة العالية الأميرية الكافلية الجمالية كافل الشام أعزها الله تعالى. وشكا إليه ضوء بن صباح أحد قصاد الخدمة أن جاميكته نقصت فقال: من فعل ذلك؟ فقال: ابن سعيد الدولة. وكان بان سعيد الدولة إذ ذاك مشير الدولة وجليس السلطان، ومكان ثقته، ولا يعلم الملك المظفر على شيء حتى يكتبَ عليه ابن سعيد الدولة: يحتاج إلى الخط الشريف، فكتب الأفرم إلى ابن سعيد الدولة هكذا ابتداء: وَالك يا بن سعيد الدولة! ما أنت إلا ابنُ تعيس الدولة، وصلتَ أنك تقطع جوامك القصّاد الذين هم عينُ الإسلام، ومن هذا وشبهه، والله إن عدت تعرضت إلى أحد من الشام بعثت إلى من يقطع رأسك، ويجيء به في مخلاة، وجهز به مملوكاً من مماليك على البريد قصداً، وأمره أن يعطيه الكتاب في وسط المحفل، ويقول له من نسبة ما في الكتاب، ففعل ذلك، فدخل إلى السلطان، وأراه الكتاب فقرأه، ثم أطرق زماناً، وقال له: أرضِ الأفرم، وإلا أنا والله بالبراءة منك، والله إن عمل معك شيئاً ما نقدر ننفعك! ولم يزل على حاله إلى أن حضر السلطان الملك الناصر من الكرك، وقفز الأمراء إليه، وبقي الأفرم في دمشق وحده، فهرب هو والأمير علاء الدين بن صبح إلى شقيف بيروت، ثم إن السلطان آمنه فحضر إلى دمشق فأكرمه وأقره على نيابة الشام في الركوب والوقوف والخدمة، وقراءة القصص، وسافر معه إلى مصر على حاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ولما استقر جلس السلطان على كرسي الملك أعطى الأفرم صرخد على عادة العادل كتبغا، وأخرج سلار إلى الشوبك. ونقل إلى السلطان أن الأفرم وسلار يتراسلان فولى الأفرم نيابة طرابلس، وقال له: لا تدخل دمشق، خشية أن تنشب أظافره فيها، ويقول أهلها معه محبة فيه، فتوجه إلى طرابلس وهو على وجل، ويخرج كل ليلة بعد العشاء هو ومن يثق إليه من دار السلطنة إلى مكان ينامون فيه بالنوبة وخيلهم معهم، وربما هوموا على ظهور الخيل. ثم إنه أتاه مملوك كان له في مصر، وقال له: السلطان رسم لك بنيابة حلب، ورسم لك أن تروح إلى مصر لتلبس تشريفك وتأخذ تقليدك وتعود، فطار خوفاً، وكان في مرج، فأتاه في الحال مملوك صهره أدمر الزردكاش يعرفه أنه مأخوذ، ويحرضه على الخروج، فخرج في الحال. أخبرني القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله، وحكى لي عماد الدين إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين الرومي أن الأفرم ما خرج إلى مرج لاجين، إلا بنية الهروب. قال: وكنت عنده قبل خروجه إلى المرج المذكور يوماً، فبينما نحن قعود نأكل إذ جاء إليه مملوك من مماليك قرا سنقر، فسلم عليه، ثم قعد يأكل معه حتى فرغنا، وخرجت المماليك، ولم يبق عنده أحد إلا جمدارية النوبة، وأنا لا غير، فقدم إليه المملوك، وقال له: أخوك يسلم عليك، وقد بعث لك معي هدية، فقال: وأين الكتاب؟ قال: ما معي كتاب، قال: فالمشافهة؟ قال: ما معي مشافهة، ولكن هدية لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 فقال: هاتها، فأخرج خرقة وحلها، وناوله تفاحة، ثم ناوله بعدها مئزراً أسود، ثم ناوله بعدها نصفيّة هكذا على الترتيب، ثم خرج، فقال له: أقعد، فقال: ما معي دستور أن أقعد بعد إيصال الهدية، فوجم الأفرم، وساره في أذنه، وأعطاه نفقة، وسفرهُ لوقته. فلما خرج قال لي: أتعرف أيش هي الهدية؟ فقال له: لا والله يا خوند، لا يكثر الله له خيراً، قال: اسكت، وَالك، بعث يقول: إن كنت تريد تشم هواء الدنيا مثل ما تشم هذه التفاحة فأته في الليل الذي هو مثل هذا المئزر، وإلا فهذه النصفيّة مثل كفنك. قال: فعجبت لسرعة فطنة الأفرم لقصده وما رمز عليه. وخرج الأفرم ولاقاه الزردكاش، وسارا معاً، وعبر الأفرام على مرج الأسل وبه العسكر المصري مجرداً لمنعه من اللحاق بقرا سنقر، فلما أشرف على المرج رأى العسكر قال: شدوا لي حماماً، وكان حصاناً له يعتمد عليه، فركبه وعليه كبرّ أطلس أحمر وكوفية ورمحه بيده، ثم قال للثقل يكاسرون ويعبرون، فلما عبروا لم يتعرض إليهم أحد، ثم أمر الطلب أن يدخل مفرقاً، وقال: لأن هؤلاء إذا دخلوا عليهم وما أنا فيهم ظنوا أنني في الصيد، وما القصد إلا أنا، فما يعارضونهم إليهم، ولما تعدوهم أقبل هو وحده، وشق العساكر، ولم يفطن له أحد، ولا عُرف أنه الأفرم. ولما خرجوا من المضيق اجتمعوا، ورفع العصابة فوق رأسه وسار ولم يتبعه أحد، ولما قرب من قراسنقر ما اجتمعا إلا بعد مُراسلات عديدة أيمان ومواثيق، لان الأفرم تخيل في نفسه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قراسنقر عمل هذه الفعلة مكيدة عليه، وكان حزماً منه. ولما اجتمعا سارا في البرية وقصدا مهنا بن عيسى، وكان قرا سنقر قد ترامى إلى مهنا، وترامى الأفرم إلى أخيه محمد. وحكى لي القاضي شهاب الدين، قال: حكى لي سنجر البيروتي، وكان أكبر مماليك الأفرم، قال: لما فارقنا البلاد التفتَ الأفرم إلى بلاد الشام، وأنشد: سيذكرني قومي إذا وجد جدهم ... وفي الليلةِ الظلماءُ يُفتقدُ البدرُ وبكى فقال هل قراسنقر: روح بلا فُشار، تبكي عليهم ولا يبكون علنيا. فقال والله ما بي إلا فراق مسوى ولدي، فقال له: أيّ بغاية بصقتَ في رحمها جاء منه موسى وعلي وخليل، وعدّة أمساء. وقال: ولم ندخل ميافارقين إلا وقد أملق ونفذ ما كان يقوم به إلا قرانقر، وألجأتنا الضرورة إلى أني كنت أحطب، والأفرم ينفخ النار، والمماليك تنام هنا وهنا، وما فيهم من يرحمه، ولا من ينفخ النار عنه فيقول لي: وَالك يا سنجر تبصر؟! فأقول له: أبصرت، فيتنهد وتتغرغر عيناه بالدموع، وفلما وصلنا إلى بيوت سوتاي أضافنا ضايفة عظيمة، ونصب لنا خيمة كبيرة كان كسبها من المسلمين أيام غازان وعيها ألقاب السلطان الملك الناصر. فلما قام الأفرم ليتوضأ قال لي: والك يا سنجدر، كيف نعاند القدرة، ونحن في هذا النكان، وقد خرجنا من بلاده، وهو فوق رؤوسنا، وإذا كان الله قد رفعه، وكيف نقدر نحن نضعه. قال سنجر: ومن حين دخلنا إلى بيوت سوتاي عاد إليه ناموس الإمرة، ومشت المماليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 معه على العادة، وأجري علينا من الرواتب ما لم نحتج معه إلى شيء آخر، ولم يزل كذلك حتى وصلنا الأردو فازداد إكرامنا وتوالى الإنعام علينا. وركب خربندا يوماً ودار حتى انتهى إلينا، فوقف، وخرج له الأفرم وضرب له جوكا وقدم له خيلاً بسروجها ولجمها وأشياء أخر، فقبلها، واستدعى بشراب فشرب منه، وأمسك له أياق، فضرب الأفرم له جوكا وشربه، فأمر له بخمسين ثوباً، فقبضناها من خواجا علي شاه، ثم أعطاه همذان، فتوجهنا إليها وأقام بها، وقصدته الفداوية مرات، ولم يظفروا به، وقفز عليه واحد منهم مرة، والأفرم قاعد وقدّامه بيطار ينعل له فرساً، فأمسكه بيده وضمه إلى إبطه، ولم يزل كذلك حتى أخذناه وقرره ثم قلته. قال: وأحضر الأطباء فملؤوا فمي زيتاً وأعطوني محاجم، وبقيت أمص الجرح، ثم إنهم عالجوه وبرئ ولم يمت إلى حتف أنفه بهمذان. وحصل له في سنة أربع عشرة وسبع مئة فالج وهو بهمذان. قلت: وكان الأفرام ذا قوة ونجدة، يقاوم في الحروب بعدة، وما تمتع أحد بالقصر الأبلق كما تمتع، ولا ثبت له للهو كما ثبت له وما تتعتع، وكان مغرى بحب الصيد لا يكاد يمله، يطلع الهلال فيه ويبدر ويستهله، وكانت له خيول تشد للكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وخيول تشد للقنص، وهو من هذا السرج إلى هذا السرج يعد ذلك من الفرص، وكانت أيامه ممتزقة في الصيود، والقنص بالجوارح والكلاب والفهود، ومع هذا لا يخل بالجلوس للأحكام، والتصدي لمصالح الإسلام، وقضاء حوائج الناس، وإغاثة ذوي اللفهافت والعدم والياس، وتحصين الحصون، وملء كل ثغر بما يحتاج إليه من الحاصل المصون، وترتيب رجاله، وتفقد أحواله، وإدرار النفقات عليهم، ووصول الإنعامات إليهم، وادخار السلاح، وما يحتاج إليه من زرديات وقسي وجروخ ورماح. ولا يزال يتفقد هذا بنفسه، ويتوكل بأمره في يومه كما كان في أمسه. وقصّاده لا تزلا في بلاد العدو، فرقة داخلين وفرقة خارجين، وبريد يخفق إلى باب السلطان بحركات العدوّ إن كانوا متحركين أو ساكنين. إلا أنه كان يسمع كلام كل قائل، ويميل إلى من لم يكن بطائل، ويبقى أثر ذلك في قلبه كامناً، إلا أنه كان يسمع كلام كل قائل، ويميل إلى من لم يكن بطائل، ويبقى أثر ذلك في قلبه كامناً إلا أنه لا يرتب تحريك أذى يكون ساكناً. وكان واسع السماط، كثير الانشراح علي والانبساط، ويتخرق ريحه كرماً، ويضيء جوده للسائرين ضرماً، ولكنه قليل العطاء، ليس لبخل عنده، ولا لإمساك يوري زنده، ولكن لضيق ذات يدهِ، وعدمِ حاصل يضطرب جوده في إنفاق مدده. قال لي من اطلع على أمره: إنه أكثر ما ملك سبعة آلاف دينار، وكان خيراً عديم الشر والأذى، لا يحب أن يرى في عين أحد قذى، لا يؤثر الظلم، ولا يفارق حمى الأناة والحلم، ما سفك دماً إلى بالشرع، ولا غلّب أصل مأثمة على فرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ونادم في دمشق الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وبدر الدين بن العطار، والملك الكامل، وغيرهم من المطابيع الأفاضل والرؤساء الأماثل، وأحبه أهل دمشق، ونقشوا ركنه على أطرزتهم وآلاتهم، واستعملوه في جميع حالاتهم. ونظم فيه الشعراء، ومن أحسن ما جاء فيه قول الشيخ نجم الدين هاشم البعلبكي الشافعي: سيوفٌ سقاها من دماءٍ عُداته ... وأقمس عن ورد الردى لا يردها وأبرزها في أبيضٍ مثل كفه ... على أخضرٍ مثل المسن يحدها وكان زنكه غاية في الظرف، وهو دائرة بيضاء، يشقها شطب أخضر، عليه سيف أحمر، يمر من البياض الذي فوق إلى البياض الذي تحت على الشطب الأخضر. وقيل: إن النساء الخواطي وغيرهن كن ينقشنه حتى على معاصمهنّ وفروجهنّ. ولم يزل على حاله في همذان داخل البلاد إلى أن جاءه الأمر الذي لا يرد قدومه، والخطب الذي لا يصد عن القطع قدومه. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بهمدان بعد العشرين وسبع مئة، ودفن بها. وعمر الجامع الذي بالصالحية قبالة الناصرية، والتربة التي إلى جانبه. وجدد جامع التوبة الذي بالعقيبة. ولما كان بصرخد، وكتب إليه الشيخ صدر الدين بن الوكيل قرين فاكهة جهزها وحلوى: أيا جيرةً بالقصر كان لهم مغنى ... رحلتم فعادَ القصرُ لفظاً بلا معنى وأظلم لما غابَ نورُ جماله ... وقد كانَ من شمس الضحى نورهُ أسنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 فلا تحسبوا أن الديار وحُسنها ... زمانكم لا والذي أذهب الحسنى لقد كانت الدنيا بكم في غضارةٍ ... ونعمى فأعمى الله عيناً أصابتنا ولا رقت الأصالُ إلا صبابةً ... ولا حركت ريحُ الصبا طرباً غُصنا يعز عليهم بعد داري عنهم ... وقد كنتُ منها قاب قوسين أو أدنى وأني ألاقي ما لقيتُ من الذي ... لقلبي قد أصمى وجسمي قد أضنى لقد كنتُم يا جيرةَ الحي رحمةً ... أياديكُم تمحو الإساءة بالحسنى فجاءته الأبيات والهدية صحبة قاصدة، وقد خرج إلى الصيد، فقال للخزندار: كم معك؟ قال: ألف درهم، فقال: هذا القدر ما يكفي الشيخ صدر الدين، يا صبيان أقرضوني حوائصكم، فأخذ من مماليكه عشرين حياصة وجهّزها قرينَ الدراهم، وقال لقاصده: سلِّم على الشيخ وقُل له: على قدرِ الكسا مديتُ رجلي ... وإن طالَ الكسا مديت زاده ولم ينتفع بعده أحدٌ بالقصر الأبلق، لأنه وسكنه مدة نيابته وهي تقارب الأربع عشرة سنة، وبعد سكنه قراسنقر أربعة أشهر، وخرج منه أقبح خروج، وسكنه كراي مدّة يسيرة وأمسك منه، وسكنه نائب الكرك دون السنة وعُزل. وأمّا تنكز - رحمه الله تعالى - فما سكنه ولا بات فيه. وأمّا الفخري فنزل فيه، فجرى له ما جرى. وأمّا طقزتمر فخرج منه في ليلة خرج إلى قبته في المرّة الثانية، ومنها هرب، وجرى له ما جرى، وأمّا أرغون شاه فمنه أخرج وذبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 آقوش الأمير جمال الدين المنصوري، المعروف بقتال السبع. بقي إلى أن عاد السلطان الملك الناصر من الكرك، وهو أمير كبير، وعظيم بالبأس والنجدة شهير، أملاكه موفورة، ومماليكه تضاهي شموس الأفق وبدوره، وله الحّمام التي عند حوض ابن هنّس في الشارع، وانتقلت إلى ملك الأمير سيف الدين قوصون أخيراً. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه الحمام فما أطاق رده قتال السبع، وبطش به غرب المنيّة وهو نبع. وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة، في تاسع عشري رجب الفرد، وكان أمير علم. أقوش جمال الدين البيسري، أحد الأجناد بطرابلس، كان له شعر ومُلح، ونوادر وفق المقترح، رأى الأكابر وقاسى أهوال الزمان وهو صابر وقارب المئة وهو برمح واحد، وصحب الدهر فما خانه في المدة إلى أن لحدهُ اللاحد. وتوفي رحمه الله تعالى.. وسبعمئة. قال رأيت في النوم من أنشدني: لما بدا كقضيبِ البانِ مُنعطفاً ... وكان يشتم ريحُ المسك من فيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 فقلتُ يا لائماتي انظرنَ واحدةً ... فذلكن الذي لمتني فيه قال فحفظتهما، ونظمت: لامت نساءُ زرودٍ في هو قمر ... كل الملاحة جزءٌ من معانيه وقلنَ لما تبدى ليس ذا بشراً ... فقلتُ: هذا الذي لمتنني فيه وقال ما كتبَ على قبقاب: كنت غُصناً بين الرياض رطيباً ... مائسَ العطفِ من غناء الحمام صرتُ أحكي رؤوسَ أعداك في ال ... ذل أبرغمي أداسُ بالأقدامِ وقال: خودٌ من التّرك ذاتُ وجهٍ ... كالبدِ في هالة الكمال جاءت بكيسٍ بغيرِ ياء ... تطلبُ زبداً بغير دالِ آقوش الأمير جمال الدين الرسمتي. كان خبيراً كافياً، عارفاً بالسياسات وافياً، له بأس ونجدة، وفي أخلاقه زعارةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وحدة، وولي شد الدواووين بدمشق، فضاق منه عطن الكتاب، وبطل منهم جماعة وانفصل غير واحد منهم وتاب، وحصل أموالاً واستفاد أحوالاً، ثم إنه عُزل وولي والي الولاة بالصفقة القبلية، فمهد البلاد، وأخذ بثأر الطارف والتلاد، وقمع أهل العدوان والفساد، وأصلح الرعايا فساد. وكانت ولايته بعد الشريفي، فخمل به ذكره، وبطل بذلك حمدُه وشكره. ولم يزل إلى أن قش الفناء آقوش، وطفئ نور وجهه بعدما كان كالدينار المنقوش. ووفاته رحمه الله تعالى في يوم الأحد ثامن عشري جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ودفن بتربة الشيخ رسلان. آقوش الأمير جمال الدين نائب البيرة، نُقل إليها بعد موت الأمير شرف الدين موسى أمير حاجب. وكان الأمير جمال الدين أمير حاجب بحلب، فلما توفي موسى المذكور في نيابة البيرة جُهز الأمير جمال الدين إليها، وجُعل الأمير ناصر الدين محمد بن شهري أمير حاجب مكانه، أظنه توجه إلى البيرة في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ست وخمسين وسبع مئة. وكان المذكور من مماليك الأمير سيف الدين سودي نائب حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 آقوش الأمير جمال الدين الرحبي - بالراء والحاء المهملة والباء الموحدة - المنصوري. تولى مدينة دمشق أكثر من إحدى عشرة سنة، كان مشكور السيرة، خير السريرة، سهل الانقياد، لا يزال من الخير في ازدياد، طالت مدته في ولاية دمشق وكل يحبّه، وإذا رأى عليه سوءاً يدفعه بجهده ويجبه، قل أن هتك ستراً، أو رأى شدة تطول إلا جعلها بسياسته بتراً. ولم يزل على حاله إلى أن نُقل الرحبي إلى رحبة القبور، ودعا أهله بالويل والثبور. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة. وكان قد عزله السلطان الملك الناصر لما توجه من دمشق إلى مصر سنة تسع وسبع مئة، لأنه خرج هو والأمير سيف الدين أقجبا المُشد اليودعا السلطان، فغابا ليلة، ولما عاد الرحبي أدركه شرف الدين قيران بن الرستمي متولياً دمشق مكانه فعاد الرحبي، ولحق السلطان، وغاب أياماً، وعاد إلى مكانه واليَ المدينة وذلك دون العشرة أيام، وفرح به أهل دمشق، وتلقوه بالشموع. وأمسكه تنكز في ذي الحجة سنة أربع عشر وسبع مئة. وصادر ولم يعزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ثم إنه في صفر سنة تسع عشرة، رتّبه تنكز في شد الدواوين عوضاً عن فخر الدين أياس الشمسي، فأقام إلى الحادي من جمادى الآخرة من السنة المذكورة. وتوفي في التاريخ، وكان عمره خمساً وخمسين سنة. وهو من قرية من قرى إربل، وسبي منها وبيع، فأقام بالرحبة مدة، وانتقل إلى بيت المنصور. أقوش الأمير جمال الدين الكنْجي، بالكاف والنون الساكنة وبعدها جيم. كان من الأمراء أولي الدربة، والعارفين بما يجلّي الكربة، قد ألف سياسة الباطنية، ويعلم ما لهم في أمورهم من ظاهر ونيّة، يعيّن لكل مهمّ رجلاً يعرفه، ويُنفذه في ذلك الشغل ويصرفه، وحصّل من الأموال ما يكاثر الأمواه، وأذهل العقول حتى سدّ الأفواه. ولم يزل على حاله حتى قفز الفداويّ الذي يُخْطِه، وخرج إليه كما يقال من تحت إبطه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وكان في هذه النيابة بمصياف من الأيام الظاهرية، وعزل منها مرات، ويعود إليها، ولعله بلغ من العمر تسعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 آقوش بن عبد الله جمال الدين الشبلي الشافعي. سمع من ابن عبد الدايم، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. آقوش الأمير جمال الدين الأشرفي نائب الكرك. ولاّه الملك الناصر بعد مجيئه من الكرك نيابة دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين كراي المنصوري في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فأقام قليلاً دون السنة، وعزله بالأمير سيف الدين تنكز، وتوجّه إلى مصر، وأمسكه الملك الناصر، وبقي في الاعتقال إلى أن أفرج عنه في شهر رجب سنة خمس عشرة وسبع مئة. كان معظماً إلى الغاية، يجلس رأس الميمنة، ويقوم له السلطان ميزة له عن غيره. وكان لا يلبس مفَرَّكاً، ولا مصقولاً، ويتوجه إلى الحمّام بنفسه وهو حامل الطاسة والمئزر، ويقلب عليه الماء، ويخرج وحده من غير بابا ولا مملوك. فاتفق أن رآه بعضُ من يعرفه، فأخذ الحجر، وحكّ رجليه وغسَّله بالسِّدر، ولم يكلّمه كلمة واحدة، ولما خرج وتوجّه إلى داره طلبه وقتله، وقال: أنا ما لي مملوك، وما عندي غلام، ما لي بابيّة، حتى تتجرّأ أنت عليّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وعمّر جامعاً ظاهر الحسينية، وكان إذا توجّه إليه عرف الناس خُلُقه، فلا يدخل معه أحد من مماليكه، ويخرج قَوَمةُ الجامع، ولم يبق معه أحد، ويدوّر هو الجامع وحده، ويتفقده، ويبصر إن كان تحت الحُصُر تراب، أو في القناديل تراب، فأيّ خلل رآه أحضر القيّم وضربه. فلما كان في بعض الأيام وهو بمفرده في الجامع المذكور، لم يشعر إلا وجندي من أكراد الحُسينية قد بسط سُفْرة وقصعة لبن ورقاق في وسطها، وقال: " بسم الله ". فالتفت إليه وقال: من أعلمك بمكاني أو دلّك علي؟ فقال: والله لا أحد. فطلب مماليكه، وأكل ذلك وأمر له بمبلغ ست مئة درهم. فاتفق أن أتاه كرديّ آخر في الجامع بعد ذلك الوقت بمثل ذلك، فرماه، وضربه ست مئة عصاً، وكان قد اتخذ له صورة معبدٍ في الجبل الأحمر يتوجّه إليه وينفرد فيه وحده يومين وأكثر، وأقل، ورُبّما واعَدَ الغلام أن يأتي إليه بالمركوب في وقت، ثم إنه يبدو له فيأخذ ذيله على كتفه، ويدخل القاهرة إلى بيته ماشياً. وولاّه السلطان الملك الناصر نظر البيمارستان المنصوري، فكان يدخل بعض الأوقات إلى المجانين، ويُدخلهم الحمّام، ويكسوهم قماشاً جديداً، وأحضر لهم يوماً جماعة من الجوالقية، فغنوا لهم بالكف، ورقص المجانين. وكان يبرّ المباشرين الذين هم به بالذهب من عنده، ويطلع في الليل قبل التسبيح المأذنة، ويتفقد المؤذنين، وكان للبيمارستان به صورة عظيمة، وأملاكه محترمة لا يُرمى على سكانها شيء من جهة الدولة ولا يتعرض لهم أحد بأذيّة. أخرجه السلطان في أول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في شهر ربيع الآخر وصل إلى دمشق متوجّهاً إلى نيابة طرابلس، فحضر إليها، وأقام بها مدة، وبالغ في طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 الإقالة، وأن يكون مقيماً بالقدس، فرُسم له بالحضور إلى دمشق، وخرج الأمير سيف الدين تنكز، وتلقاه، وعمل له سماطاً في دار السعادة، ودخل ليأكل، وحضر الأمراء فأمسكه على السماط، وأودع في قلعة دمشق معتقلاً، فأقام بها يسيراً. ثم إنه جهز إلى صفد، وحبس بها في برج، فدخل إليه بعض أهلها، وقال: يا خوند! ما تلبث إلا يسيراً، وتخرُج منه، لأنك دخلت في برج منقلب، فلما كان بعد أيام أخرجوه منه إلى غزة، فقال: لأي شيء؟ فقالوا: يا خوند! البرج قد انشق، ونخاف أن يقع عليك، فقال: صدق القائل، كان البرج ينقلب عليّ. وكانت له أشياء غريبة، فيما يوقّع على القصص بقلمه؛ كتب إليه إنسان وهو بدمشق: المملوك يسأل الحضور بين يدي مولانا ملك الأمراء لينهي ضرورته، فوقّع على جانبها: الاجتماع مقدَّر. وكتب إليه بعض من كان بها مليحاً يطلب إقطاعاً، فكتب له عليها: مَنْ كان يومه بخمسين وليلته بمائة ما له حاجة بالجندية. وكتب إليه إنسان وهو بالكرك: إن هؤلاء الصبيان قد كثرت أذيتهم للمملوك؟ فوقّع له: إن لم تصبر على أذى أولادهم، وإلا فاخرج من بلاهم. ووقّع لآخر، وكان قد جرت له كائنة في الليل: قد أحصيناك، وإن عدت إلى مثلها أخصيناك. وقال للأمير سيف الدين تنكز لمّا أمسكه: أما أنا فقد أُمسكت، ولكن خذ أنت حذرك منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وأقام في قلعة صفد يسيراً، ثم إنه رُسم بتجهيزه إلى الإسكندرية، فأقام بها قليلاً. وكان في رأسه سِلعة، فطالب قطعها، وشاوروا السلطان على قطعها، فرسم له بذلك، فقطعوها، فمات رحمه الله تعالى في الاعتقال بالإسكندرية سنة ست وثلاثين وسبع مئة فيما أظن. وكان يضرب الألْفَ عصا وأكثر، مات، ضَربِه جماعة منهم باردار من باردارية السلطان رآه وهو يسير برّاً باب اللوق، وقد شتم كان عنده وشتم أستاذه، فأمسكه وأحضره إلى البيت وضرب أكثر من ألف عصا، وقال: والك أنت والسقاء تخاصمتما، أنا أيش كنت في الوسط؟! وكانت هذه الواقعة إحدى الذنوب التي عدّها السلطان عليه. ومنها أنه قتل جارية السلطان امرأة بكتمر الحاجب بسبب الميراث، لأن ابنته كانت زوجة بكتمر أيضاً، فضربها ست مئة عصا. وأشياء غير ذلك. إلا أنه كان زائد الكرم والسماح، تُقصر عن مباراته في ذلك هُوج الرياح. كان السماط الذي يمده في بيته في العيد نظيرَ سماط السلطان، وربما يكون أصلف وألذ وأطيب وأظرف. وإذا جُرد في مهمّ من الريدانية لا يعرف جنديه يشتري طعاماً ولا عَليقاً، ولا يدري كل يوم إلاّ وقد صُرف له ما يكفيه من ذلك إلى أن يعود إلى الريدانية تعليقاً، وإذا كان لجنديه فرس حمل كفله إلى مطبخه، فيصرف له من ديوانه ست مئة درهم، وقد صار عادة لا يشاور عليها، ولا يشار إليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 حتى إن بعضهم تكون فرسه بمئتي درهم، فيذبحه، ويأخذ ذلك المبلغ، وكان في نيابة الكرك من سنة تسعين وست مئة إلى سنة تسع وسبع مئة وله بها آثار حسنة. أكرم القاضي كريم الدين الصغير ناظِر الدولة بالديار المصرية. كان في الجيش أولاً، ولما بقي خاله القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخاص تولّى هو نظر الدولة، وكان يحبّ الكاتب الأمين، ويزيد معلومه وينقله إلى وظيفة أكبر من التي يباشرها، وكان يحضر مجلس خاله كريم الدين الكبير فيكون واقفاً يرفع رجلاً ويضع أخرى، وقد يكون في ذلك المجلس جالساً من لا يمكنه الجلوس في دسته، وإذا كان في مجلسه هابه الناس وعظّموه. وحكى لي غير واحد أن أمراء العشرات وغيرهم من الأمراء يزدحمون في المشي قدّامه، ويقعون زحاماً، ويقال: إن الملك الناصر لمّا كان في الكرك قال: أنا أعود إلى مكان يكون فيه أكرم الصغير يضرب الجند بالعصي وأشفع فيهم ما يقبل شفاعتي؟! وكان يضرب الناش ضرباً سمّوه المقترح، وهو أن تؤخذ يد الإنسان ويضرب من ورائه على أكتافه، فإذا قعص ضربه آخر من قدّامه على صدره. ولكنّ عفّته عن مال السلطان مفرطة إلى الغاية، وتشدّد على من يخون عن خارج الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 حكى لي أنه جاء إليه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وهو في الوجاهة والعظمة عند السلطان ما هو، فقام لتلقّيه، وجلس بين يديه، وقال: ارسم يا خوند! قال: هذا الكاتب صاحبي، فشفّعني فيه، واستخدِمْه في الوظيفة الفلانية، فقال: السمع والطاعة، كم في هذه الوظيفة في كل شهر؟ قال ذلك الكاتب: مئة وخمسون درهماً، وثلاثة أرداب قمحاً، فقال لصيرفي عنده: اصرف لهذا في كل شهر مئة وخمسين درهماً، ويجيء إلى الشونة في كل شهر، ويأخذ هذه الأرداب. فقال الكاتب: ما أريد إلا هذه الوظيفة، فقال كريم الدين: حتى تعلم يا خوند أنه لصّ، وما يريد المعلوم ما يريد إلاّ السرقة، فاستحيا الأمير ومضى. ولمّا أُمسك كريم الدين أُمسك كريم الدين الصغير، وكاد العوام والناس يقتلونه، وأثبت القضاة فيه محاضر، منها ما هو بالكفر، ومنها ما هو بقتل النفوس، فرأى السلطان أنه ذاهب لا محالة، فقال: إذا قتل هذا ممن آخذ أنا مالي؟ اصبروا إلى أن نأخذ مالنا منه، وتسلّموه انتم. ثم إن السلطان سلّمه إلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، وبقي عنده مُدَيده، ثم إنه أخرجه إلى صفد ناظراً، فجاء إليها في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وضبطها، وحصّل أموالها، ثم إنه ورد المرسوم بإمساكه فأُمسك، وضُربت الحوطة على موجوده، ثم طلب إلى مصر وذلك في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم إنه جُهز إلى دمشق ناظراً عوضاً عن الصاحب شمس الدين، فوصل إليها في ثالث عشري شوال من السنة، فكرهه الأمير سيف الدين تنكز أول حضوره لِمَا كان يبلغه عنه، ولما باشر عنده، ورأى عفّته وتنفيذه وحُسن مباشرته أحبّه ومال إليه ميلاً كلّياً. ثم إنه طُلب فخافه أعداؤه، وعملوا عليه، وبطّلوا ما كان تقرّر في أمره، ورموه بكل داهية، فأقام في بيته بطّالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وخرج عليه ليلة وهو خارج من الحمام جماعةٌ بسيوف ليقتلوه، فداسهم بفرسه، وضرب بدبّوسه إلى أن خلص منهم بكتفه وهو بمفرده، ثم عملوا عليه، فرُسم له بالتوجّه إلى أُسوان، وجُهز في البحر، فأغرق فِرْعَونه في اليم، وخسف عُمْرُ بدره في التم، وكان ذلك في أواخر سنة ست وعشرين وسبع مئة. وكان مدبّراً مصرّفاً مجمّلاً للمناصب مشرفاً، كاتباً ضابطاً، مقسطاً لا قاسطاً، ذا مهابة وسطوة، ورفعة عند الملوك وحظوة، شديد الانتقام، تصحّ بمباشرته الأسقام، وتتوفر السهام والأقسام، ويريح قلب السلطان بمرض الأقلام والأجسام، لا يحابي أحداً ولا يحاشيه، ولا يراعي مَنْ هو من ألزامه أو حواشيه، يود الكاتب الخائن أن يرى ملك الموت ولا يراه، ويود أن يموت جوعاً ولا يُعمل إليه سَيْرُه ولا سُراه، إذا هزّ عاملاً قلت: هذا كمّي هزّ عاملاً، وإذا طلب ناظراً أنكرتْه علائمه، أو مستوفياً لم تحمله من الحساب قوائمه. وفيه قلت من قصيدة: فأكرِم بديوانٍ بهِ قد تثمّرَت ... بأوراقه غلاّته ودراهمه وأكرِم به يوماً إذا هزّ عاملاً ... تخور لهُ عند الحساب قوائمه وكان طعامه نظيفاً فاخراً شهياً، ومرأى أوانيه في كل أوان بهياً، إلا أنه لم يكن في بذخ خاله، ولا تمييز حاله، فإن ذلك في عداد الملوك، ولبس كل ما يلبس من الوشي المحوك. وكنت قد كتبت إليه وهو بصفد: عساكَ ترقُّ يا ظبيَ الصَّريم ... على صبٍّ من البَلوة سقيم وجدتُ هدى على نارٍ تبدّت ... بطور حشايَ من قلبي الكَليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 فإنْ أشكُ الغرامَ نفرتَ عُجباً ... فكيف تميلُ معَ مَرِّ النسيم وخطَّ عذارك المسكيُّ لاماً ... بكهف الخدِّ يبدو كالرَّقيم فذاك اخضرَّ لما احمرَّ هذا ... فأبصرنا نعيماً في جحيم وأعجبُ كيف يبسُم فيك ثغرٌ ... ثَناياه منَ الدُّرِّ اليتيم وهَبْ أنّ القضيب حكاك قدّاً ... فهل للغُصن مثلك جيدُ ريمِ ولكن مثل ما حَكتِ الغوادي ... كريمَ الدين في الفضل العميم فتى فاق الوَرى قَدْراً وفَضلاً ... وأين الليث من ظبي الصريم ودبّر مُلْك مصرٍ فازدهارها ... وأسفرَها عن الوجه الوسيم وحاطَ يراعُه شاماً ومِصراً ... فكان على صراطٍ مستقيم تُصرِّف كفُّه رِزقَ البرايا ... بأمر الخالق الرَّبِّ الرحيم إذا رسمتْ أناملُه سُطوراً ... تحارُ لذلك الدُّرّ النَّظيم فأين ابنُ العميد إذا رآه ... يخطّ بنانه وابن العديم وأين كفاءة الوزراء منهُ ... إذا ما قام في الأمر العظيم له بأسٌ تخافُ الأُسْدُ منه ... ولُطفٌ ليسَ يُعهَدُ من حليم أيا مَن سادَ أهلَ الأرض طُرّاً ... وأحيا ميّتَ الجود الرَّميم لقد وحشْتَ مصر وساكنيها ... فما تفترُّ عن ثغرٍ بسيم ستدخلها وأنتَ قرير عينٍ ... فتلفيها على العهْد القديم أتيتُكَ إذْ سَبَرتُ الناسَ طُرّاً ... فلمْ أرَ غيرَ ذي نظرٍ سَقيمِ وليس لما أروم سواك كُفوٌ ... لأنّ الدهر قد أضحى غريمي وقلتُ لمقصدي أبشِر بنُحجٍ ... إذا كان القُدومُ على كريم وحَسبي المَدح فيكَ عُلوَّ شانٍ ... وفخراً بين غادٍ أو مُقيمِ فلا بَرِحَتْ بك الأيام تُزهى ... ونحن ببرد ظلِّك في نعيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ابن الأكفاني: شمس الدين الطبيب، محمد بن إبراهيم. الأكُز بضم الكاف وإشباعها لتُنشئ واواً، ثم زاي، الأمير سيف الدين الناصري. كان أولاً جَمْداراً، وأمَّره أستاذه، وكان يتحقق أمانته، فجعله مُشدّ الدواوين، فعملُ الشَّد أعظمُ من الوزارة، وتنوّع في عذاب المصادَرين وغيرهم، وضربهم بالمقارع، وأحمى لهم الطاسات وألبسهم إياها، وأحمى الدسوت، وأجلسهم عليها، وضرب الأوتاد في آذانهم، ودقّ القصب تحت أظافرهم، وبالغ وشدّد. وجاء لولو فَنْدش الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في حرف اللام، وأقامه السلطان معه مُشدّ الجهات، واتفقا على عقاب الناس، وجمع الله منهما بين الحجّاج والطاعون، واستخرجا الأموال، وأزهقا النفوس، وتضاعف البلاء، وعمَّ الأذى، وزاد الشقاء في أيامهما، وسكنت روعة الأكُز في القلوب، وكان الكاتب يدخل إليه ميتاً، ويخرج ميتاً. ولم يزل كذلك إلى أن لطف الله بالناس، وقدّر أنه غضب على لولو المذكور، فأخذ العصا بيده، وضربه إلى أن هرب قدّامه، وهو خلفه إلى أن وصل إلى باب القلعة، ونزل شاشُه في رقبته، فراح لولو إلى القاضي شرف الدين النشّو ناظر الخاص، ودخل عليه وعلى قوصون، وبذل المال، واتفق أن كان الغلاء في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، فقال السلطان: يا الأكُز لا تدع أحداً يبيع الأردبّ بأكثر من ثلاثين درهماً، وانزل إلى شُوَن الأمراء وألزمهم بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 فأول ما نزل إلى شونة الأمير سيف الدين قوصون، وأمسك السمسار الذي له، وضربه بالمقارع، وأخرق بالأستادار، فطلع إلى قوصون، وشكا حاله إليه، فطلبه، وأنكر عليه ذلك، فأساء علي الردّ، فدخل إلى السلطان، فأخرق السلطان بقوصون، فأكمنها قوصون للأكُز، وعمل عليه باتفاق النشّو، ولم يَزالا عليه إلى أن غضب عليه السلطان ورماه قدّامه، وضربه بالعِصيّ، ورسم عليه أياماً، ثم إنه أخرجه إلى دمشق في شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة. حكى لي القاضي ضياء الدين يوسف بن الخطيب محتسب القاهرة قبل إمساك الأكُز بأربعة أشهر أو ما يقاربها أنّ بعض المشايخ حدّثه أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم وهو جالس في صدر الإيوان والسلطان واقفاً أمامه على رأس الدرج وهو ينكر عليه، ويقول له: ما هؤلاء الظَّلَمة الذين أقمتهم، فقال: يا رسول الله من هم؟ ثم توجّه وغاب قليلاً، وأتى بالأكُز، فقال: اذبحه، فاتكاه وذبحه، فقال له: خلِّه الآن. فما كان بعد أربعة أشهر حتى جرى له ما جرى. وكانت أيامه أيام سَخَط ومحنة ما أسعد من أبعد منزله عن مصر وشحط، قد تنوع في الظلم والجور، وتطوّر في القساوة والجبروت طوراً بعد طور، وبسط العذاب على الكتّاب، وأخذ الصالح بالطالح والبريء بالمرتاب. وقطع جماعةٌ أشجار غيطانهم، وخربوا ما عُمِّر من حيطانهم هرباً من الخراج الذي قُرِّر في تلك الأيام على الثمار، وجباه الظَّلَمة من باعة الأزهار، ولكن الله لطف، وما جرى الظلم شوطاً حتى قَطَف، ولا لوى العدل جيده، وأعرض حتى عطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 ولما وصل الأكُز إلى دمشق أقام بها دون السنة، وكَزَ الموت الأكُز ولكز، ونكره العيش لمّا ساوره أفعوان الحَيْن ونكز، وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة فيما أظنّ. وكانت مدة مباشرته في القاهرة أكثر من سنتين. أَلْبكّي الأمير فارس، أحد مقدّمي الألوف بالديار المصرية، أظنه ابن أخي الأمير الكبير سيف الدين المِلك الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى. أظنه ورد إلى غزة نائباً بعد الأمير سيف الدين دِلَنْجي في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وتوجّه بعسكر غزّة إلى صفد لما كانت العساكر الشامية بصفد في حصار نائبها أحمد الساقي. ولما أُمسك المذكور عاد هو إلى غزة، وأقام بها إلى أن عُزل بالأمير سيف الدين أرغون الإسماعيلي في العشر الأوسط سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وتوجّه إلى مصر، وأقام بها أمير مئة مقدّم ألف، وحضر صحبة الأمير سيف الدين طاز إلى حلب في واقعة بيبغاروس، وهو الذي حضر معه ألطنبغا برناق نائب صفد، والأمير علاء الدين ألطنبغا مشدّ الشرابخاتاه، والأمير سيف الدين شادي أخو أحمد الساقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 والأمير سيف الدين أسنبغا الرسولي، وسيف الدين أسن بك بن خليل الطرقي ومهدي مشد حلب، لأنهم جُهّزوا معه من حلب إلى دمشق، واعتقلوا في القلعة إلى أن وُسِّطوا بسوق الخيل في دمشق. وعاد الأمير سيف الدين ألبكي صحبة السلطان الملك الصالح إلى الديار المصرية، وأقام بها على الإمرة والتقدمة إلى أن وصل الخبر بوفاته في مصر إلى دمشق في أواخر شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة. أَلْبكي بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف وياء أخر الحروف. الأمير فارس الدين الظاهري، من كبار الأمراء وشجعانهم. كان في السجن، ويطلبه الملك المنصور، ويتحدث معه، ويعيده إلى السجن، ثم أخرجه وولاّه نيابة صفد، فأقام نحواً من عشرة أعوام. وكان كلّما ركب ونزل الجمدار شاشه، وفتحه وتركه، فإذا أراد الركوب لفَّ هو شاشه بيده مرة واحدة. وكان مليحَ الشكل، ليس في وجهه شعر، وكان الأمير سيف الدين يلبان الساقي من أمراء صفد يهيم فيه عشقاً، ويكوت صبابة ووجداً، وكان كثير الآداب. حكى لي عنه شيخنا الإمام الخطيب نجم الدين حسن بن الكمال الصفدي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الحاء رئاسة كثيرة وحشمة زائدة. وكان يحادثه ويسامره إلى نصف الليل. قال: ولم أره بلا خفّ قطّ، ولم يُبد رجله ولا مدّها ولا كشفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ولمّا غضب الأشرف بن قلاوون على حسام الدين لاجين وهو على عكا جهزه إلى صفد ليُعتقَل بالقلعة، فأخذ المقرعة الأمير فارس الدين وضربه عل كتفه وقال له: ما تمشي إلاّ خواتيني، وأخذ خوجة كانت معه وطرطوراً ضمن بقجة، وضرب الدهر ضرباته، وجلس حسام الدين لاجين على كرسي المُلك، ولما ثمّ له الأمر سيّر إلى الأمير فارس الدين يقول له: احتفظ بالبقجة والجوخة والطرطور، ففرّ من حمص وهرب مع الأمير سيف الدين قَبْجَق - على ما يأتي في ترجمته هناك - ومعهما بَكْتَمُر السلاح دار، وتوجهوا إلى قازان لنا بلغهم إسلامه فتلقاهم بالإكرام، وبالغ في الإحسان إليهم وزوج الأمير فاس بأخته، وكان يحكي عنهما لما حضر إلى الشام: هي مثل هذه الشمس، ولما عاد قازان تأخروا عنه، وأعطي الأمير فارس الدين نيابة حمص. وكان وَجْهُه من الشَّعر خالياً، وبالمحاسن حالياً، كأنه طلعة القمر إذا سفر الظلام، ولبس حلة الكمال والتمام، خيِّراً وادِعاً، ساكناً بالحق رادعاً، لطيف الحركات يتجنب مواقع الهلكات، قريباً من الناس للخير رقيباً نجيباً في أفعاله الغريبة، ينقاد إليها مع الإخلاص جنيباً، معروفاً بالشجاعة والثبات، موصوفاً بالفروسية في الكرّ والفرّ والالتفات، أعظمه القان قازان، وبهره عقله الذي زان، وقيامه بآداب المغول، وسياستهم التي يغتال العقول منها غول، فقرّبه لمّا جرّبه، وردّ به الخطب حين درّبه، وزوّجه بالخاتون أخته، وزاد فيما خصّه به من محاسن رخته، وأفرط في دنّوه حتى كاد يجلسه على تخته. ولم يزل بحمص عل نيابته حتى نزل به ما لا يُسمع معه مُشتكى، وقرّح الجفون على ألبكي بالبُكا. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة اثنتين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 ألجاي الأمير سيف الدين الأبو بكري. كان أحد الأمراء بدمشق، يسكن بدار الأعسر. فيه خير وصلاح، وجهاد في رضى الله تعالى: إلا أنه لا يحتاج فيه إلى سلاح، يتردد إلى الجامع ماشياً بفَرْد مملوك، ويلازم الصلاة فيه بكرة وعشيّاً ووقت الدلوك، هذا مع تواضع يزينه، ويحسّنه ولا يشينه. ولم يزل على هذه الطريقة، والسبيل التي هي مجاز إلى الحقيقة إلى أن ألجي ألجاي إلى الدخول في مَنْ غبر، فأصبح وقد طاب مبتدا ذكره والخبر. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتوفي قبله ولده بقليل. وكان شاباً حسناً، فذاق فقده، ورأى الموت بعينه بعده. ألجاي الأمير سيف الدين الدوادار الناصري. كان دواقاراً صغيراً مع أرسلان المقدم ذكره. ولما توفي استقلّ ألجاي بالدوادارية. وكان شاباً طويلاً، ظريف الحركة هزيلاً تعلوه شقرة، ولونه يضرب إلى حُمرة، وكان طويل الروح لا يغضب، وإن غضب فعلى نفسه، ولا يواجه إلاّ بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 أحبّ، مع عفّة وديانة، وخبرة تامة وصيانة، وكان عارفاً بأخلاق أستاذه الناصر، تُعْقَد على دُربَته وآدابه الخناصر. وثق إليه السلطان كثيراً، وأحلّه من قلبه مكاناً أثيراً، ويكتب خطّاً من أين للروض طلاوته، أو للوشي رقمه وإجادته، وله فضائل، وعنده من العلم مسائل. لازمه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي كثيراً، وكان يُلزمه بالمبيت عنده في القلعة؛ ليكون له سميراً. وبقي زماناً لا يؤثر الطبلخاناه مدة تزيد على العشرة أعوام خوفاً من إخراجه من بيت السلطان. ولما كان قبل موته بسنتين أو ثلاث أعطي طبلخاناه، واقتنى كتباً نفيسة إلى الغاية، عمَّر له داراً في الشارع، تأنق في بوّابتها ولم يكمل عمارة الدار. ولما مرض بالقلعة طلب النزول إلى داره ليُمرَّض فيها، فلامه أصحابه وأخصّاؤه، فقال: أنا أعْرَفُ بخُلُق أستاذي قد يريد أن يولي الدوادارية غيري، فنزل إليها، وأقام بها مدة يسيرة، وفرغ عمره، ونم نهيه في الدولة وأمره. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رجب الفرد سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حافلة. ووقع خلاف في وفاته بين الأمير صلاح الدين الدوادار والقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود كاتب السر، فقلت أنا: تُقرأ نصيبة قبره، فقال القاضي شرف الدين: هذا نقش في حجر، فنظمت أنا ذلك وقلت: أخالف قوماً جادَلوني بباطلٍ ... متى مات أُلجاي الدّوادار أو غَبَرْ وصَدَّقني فيه نصيبةُ قبره ... وكان الذي قد قُلتُه النَّقشُ في الحجرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ألتَمُر الأمير سيف الدين الأبو بكري. أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. كان شكله تامّاً وخَيْرُه عاماً، فيه سكون كثير، وركون إلى الدعة مثير. وكان له ولدان، كأنهما فرقدان، ففرّق الموت منهم الشَّمل، وفاضت الجفون عليهم بالهَمْل. وتوفي رحمه الله تعالى في أربع وأربعين وسبع مئة. ومات هو وولده الأكبر في دون الشهر. ألْدَمِر بالهمزة واللام الساكنة والدال المهملة المفتوحة والميم المكسورة وبعدها راء. الأمير سيف الدين أحد أمراء القاهرة. أظنه كان مُقدَّماً. توجّه إلى الحجاز، فجرت تلك الفتنة في مكة، وقتل هو وولده وغيره. وحصل للسلطان لما بلغه الخبر أذى عظيم، وقام له وقعد، وبطل السماط، وجرد من مصر ألفي فارس كل واحد بخوذة وجوشن ومئة فردة نشاب وفأس برأسين أحدهما للقطع، والآخر للهَدّ، ومع كل فارس جملان وفرسان وهجين، ورسم لمقدم الجيش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 متى وصل إلى الينبع وعدّاه لا يرفع رأسه إلى السماء بل إلى الأرض، ويسفك الدماء من كل مَنْ يلقاه من العربان، إلا مَنْ عَلِم أنه أمير عرب، يقيده ويسجنه معه. وجرّد من دمشق ست مئة فارس على هذا الحكم. ومن أعجب ما مرَّ بي أن الناس تحدّثوا وهم في صلاة العيد بالقاهرة بقتلة هذا ألدمر، ولم يقتل هو ومن معه إلاّ بَعْد صلاة العصر يوم العيد سنة ثلاثين وسبع مئة. وكان أمير جاندار، وأظنه زوّج ابنه بابنة قاضي القضاة جلال الدين القزويي، وسيأتي ذكر ولده أمير علي في مكانه من حرف العين. ألْدَمِر الأمير سيف الدين المعروف بألدمر عبد الله أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. وكان قد توجّه أمير الركب في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وتسخَّط بذلك كثيراً. ولم أعاد أقام بدمشق. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، وأعطي خبزه للأمير ناصر الدين محمد بن الخطير. أُلْجِيبُغا الأمير سيف الدين المظفَّري الخاصكيّ. تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد. لم يكن عنده أحد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 رتبته، ولم يزل أثيلاً عنده أثيراً، إلى أن جرى للمظفر ما جرى، على ما سيأتي في ترجمته. وتولى السلطان الملك الناصر حسن، فاستمر معظّماً. وكان أحد أمراء المشْوَر الذين تصدر عنهم الأوامر والنواهي إلى أن وقه الاختلاف بين هؤلاء الأمراء، فأُخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير حسام الدين لاجين أمير أخور، وطُلب أمير آخور إلى مصر، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. يقال: إنهم اختلفوا بعد إخراج أحمد الساقي إلى صفد، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: تخرجُ نائباً إلى طرابلس. فقال: إذا كان لا بد من خروجي فأكون في حماة. فقالوا له: نعم. وألبسوه تشريفاً، وخرج. ولمّا كان في أثناء الطريق ألحقوه بمن قال له: تَروح إلى دمشق أميراً. فجاء إليها. ولم يزل بها على إمرته إلى أن حضر الأمير سيف الدين قُجا السلاح دار في أثناء شعبان سنة تسع وأربعين فأخذه وتوجّه به إلى طرابلس نائباً عوضاً عن الأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير، فأقام بها نائباً إلى أوائل شهر ربيع الأول سنة خمسين وسبع مئة، وورد كتابه على أرغون شاه نائب الشام، ويقول فيه: أشتهي أن أتوجّه إلى الناعم أتصيّد به، وما يمكنني ذلك إلاّ بمرسومك. فقال له: " بسم الله ". المكان مكانك. فحضر إلى الناعم، وأقام على بحرة حمص أياماً يتظاهر بالصيد، ثم إنه ركب ذات ليلة بمن معه من العساكر، وساق إلى خان لاجين، ونزل به، وأقام من الثانية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 النهار إلى أن اصفرَّت الشمس، وركب بمن معه وجاء إلى أرغون شاه وهو مقيم في القصر الأبلق، وجرى له ما جرى على ما تقدّم في ترجمة أرغون شاه. ويقال: إنه ما وصل إلى سوق الخيل حتى قضى له الشغل الأمير فخر الدين أياز السلاح دار. ثم إنه لما انفجر الصبح نزل بالميدان الأخضر، وطلب أمراء الشام، وأخرج لهم كتاب السلطان، وقال: هذا مرسوم السلطان بإمساك أرغون شاه، فما شك أحد في ذلك، واحتاط على أموال أرغون شاه وجواهره وجميع موجوده، وذلك في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول. ولما كان في يوم الجمعة بكرةً ظهر الخبر أن أرغون شاه ذَبح روحه. وكان قد جهز بريداً إلى باب السلطان بإمساكه، ومعه سيفه، وأقام والأمراء في خدمته إلى يوم الثلاثاء، فتحدث الأمراء فيما بينهم؛ لأنه أراد أن ينفق فيهم ويحلفهم، فأنكروا ذلك، ولبسوا السلاح، ووقفوا بسوق الخيل، ولبس هو وجماعة من الجراكسة وفخر الدين أياز ومماليكه، وخرجوا إلى العسكر، وكانت النصرة لألجيبغا، وقتل جماعة من أمراء الشاميين، ورموا الأمير بدر الدين أمير مسعود والأمير سيف الدين طَيْدمر أمير حاجب عن الفرس إلى الأرض، وقطعت يد الأمير سيف الدين ألجيبغا العادليّ، على ما سيأتي، وأخذ ألجيبغا الأموال والجواهر، وخرج العصر من دمشق على المِزّة، وتوجّه على البقاع إلى طرابلس، وأقام بها، فما كان بعد أيام إلا وقد جاءت الملطّفات إلى أمراء الشام من باب السلطان بإنكار هذه القضية، وأن هذا أمر لم نرسم به ولا لنا به علم فتجتهدوا في إمساك ألجيبغا وأستاذ داره تَمِربغا وتجهيزهما والكتاب الذي ادّعى أنه منا، وكتب بذلك إلى سائر نواب الشام، فجردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 العساكر إليه، وربطوا الطرقات عليه، وسدّوا عليه المنافس. فبلغه الخبر، فخرج من طرابلس، وخرج عسكر طرابلس خلفه إلى أن جاء إلى نهر الكلب عند بيروت، فوجده موعّراً، والعساكر عنده، فوقف من الثانية في النهار إلى العصر، وكرّ راجعاً، فوجد العسكر الطرابلسي خلفه، فواقفوه. ولم يزل إلى أن كلَّ وملَّ وسلّم نفسه، فجاؤوا به إلى عسكر الشام. وكان أياز قد تركه وانفرد عنه، وقدم العسكر الشامي بالجيبغا ومعه أياز مقيدين، واعتقلا بقلعة دمشق، ثم إنهم جهزوا ألجيبغا مقيداً إلى باب السلطان صحبة الأمير سيف الدين باينجار الحاجب، فوصل من مصر يوم الأربعاء سيف الدين قُجا السلاح دار، وعلى يده مرسوم السلطان بأن يُوسَّط ألجيبغا وأياز في سوق الخيل بحضور العساكر، ويُعلّقا على الخشب حتى يقعا من نتنهما. فلما كان يوم الخميس ركب العسكر الشامي جميعه والأمير شهاب الدين أحمد الساقي نائب صفد، وأنزلوا ألجيبغا وأياز، وعُلِّقت أشلاؤهما على الخشب بالحبال والبَكَر على وادي بردى بسوق الخيل، وذلك في حادي عشري شهر ربيع الأخر سنة خمسين وسبع مئة، وتألم بعض الناس على ألْجَيْبُغا وتحقّقوا أن أياز غَرّه وحسّن له ذلك الفعل، والله يعلم حقيقة الحال. وكان ألْجَيْبغا شاباً عضّاً، طريّاً في شبيبته بَضّاً، يميس قدّه قضيباً، ويميل من الصَّبا غصناً رطيباً، ممشوق القوام، مرموق الحسن على الدوام، لَمّا بقل عذاره، وطرّ شاربه، بدا في سماء الحسن كالبدر إذا حفَّت به كواكبه. وكان عمره يوم وُسّط تسع عشرة سنة. فيا أسفاً له كيف ما تورّع عما فيه تورُّط، ويا عجباً له في أول شبابه كيف توسّط، قدّ السيف أضلاعه قدّاً، وألبس كافور جسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 برداً من عقيق دمه به تردّى، وعُفّر جسده في الثرى، وغسَّل بدموع جماعة من الورى، وظهر له ثبات عند الممات، وقوة جنان أصمت قلوب عداه بالصُّمات بخلاف أياز فإنه أظهر جزعاً شديداً، وأعلن بالبكاء صوتاً مديداً. وقلت أنا في ألجيبغا: لما بغى ألجيبغا واعتلى ... إلى السهى في ذبح أرغون شاه قبل انسلاخ الشهر في جلّق ... عُلّق من عُرقوبه مثل شاه ألجيبغا الأمير سيف الدين العادلي مملوك العادل كتبغا، من جملة مقدَّمي الألوف والكبار بدمشق. كان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - قد أحبّه في آخر الأمر، ومال إليه، واختص به، فلما أُمسك وحضر بُشتاك إلى دمشق أمسك ألجيبغا العادلي وطيبغا حاجي، واعتقلهما بقلعة دمشق، وأقاما في الاعتقال إلى أن مرض السلطان المرضة التي مات فيها فأفرج عنهما، وأعيدت إليه الإمرة والتقدمة، وبقي على حاله كبيراً مشيراً. ولما كانت واقعة أرغون شاه وركوب العسكر لألجيبغا وقع الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي إلى الأرض عن فرسه، وتعلّق بالسرج ليركب، فضربه بعض مماليك ألجيبغا بالطبر أطار يده من نصف زنده. ولما توجّه العسكر إلى سنجار كان هو المقدم عليه. ولمّا توجهت العساكر إلى صفد لمحاصرة أحمد كان هو المقدم عليها. ولمّا توجه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 إلى جهة مصر في واقعة بيبغاروس جعله في دمشق نائب الغيبة، وأقام على حاله والملك الصالح في دمشق. ولم يزل على حاله إلى أن مرض مرضة طوّل فيها، وزاره الضيف الذي لا يُرد، والقادم الذي إذا نزل بالملوك لا يُصدّ. وكانت وفاته في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبع مئة. وكان كبير الوجه ألحى، يرى الناظر في محيّاه حُسناً وملحاً، طويل القامة، عظيم الهامة، له رغبة في اقتناء الخيول الثمينة، والمغالاة في أثمانها التي هي في الكثرة مكينة. وله أرب في المتاجر، ودأب في تحصيل المكاسب التي تبلغ فيها القلوب الحناجر. يقال: إنه لمّا توفي رحمه الله تعالى خلّف من جملة متاجره سُكراً قيمته ثمان مئة ألف درهم، إلى غير ذلك من الأصناف. أُلطُقُصْبا الناصري الأمير علم الدين من قدماء أمراء دمشق. أظنه من مماليك الناصر صاحب الشام. روى عن سبط السِّلفيّ. كان شيخاً عاقلاً، لا يُرى في القيام إلى الخير متثاقلاً، ساكناً مهيباً، عارفاً لبيباً، أصابه زيار في ركبته، وهو في حصار قلاع الأرمن سكّن حركاته، وأزاره هلكاته، فحمل إلى حلب، ففارق فيها الحياة، وبكاه حتى الغمام بدموع المياه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 ألطنبغا الأمير علاء الدين الحاجب الناصري. ولاّه أستاذه الملك الناصر محمد نيابة حلب بعد سَوْدي، وصل إليها في أوائل شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة، فعمل بها النيابة على أتمّ ما يكون من الدُّرْبة، وأحسن ما يكون من المعرفة التي يغنى بها عن الصمصامة والحَرْبة، وعَمَّر بها جامعاً حَسَناً، متفرداً بالطلاوة والسَّنا. ولم يزل بها إلى أن أتى إليه الأمير سيف الدين أُلجاي الدوادار الناصري في المحرَّم سنة سبع وعشرين، وتوجّه به إلى مصر، وورد إلى حلب الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، على ما مرَّ في ترجمته، وأقام بمصر في جملة الأمراء الكبار إلى أن مات أرغون، فأعاده السلطان إلى حلب ثانياً نائباً، وفرح به أهل حلب، وصل إليها في أوائل جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل بها إلى أن وقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، فطلبه السلطان إلى مصر، فتوجّه إليها، وما أقبل السلطان عليه، وبقي على باب الإصطبل والسلطان يُطعِم الجوارح بالميدان، ولم يستحضره حتى فرغ، وبقي بعد ذلك مقيماً بالقلعة إلى أن حضر تنكز، وخرج السلطان وتلقاه إلى سرياقوس وبير البيضاء، على ما يأتي ذكره في ترجمة تنكز، إن شاء الله تعالى. ولما استقرّ تنكز بباب السلطان أُخرج الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى غزة نائباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وبعد شهر ونصف خرج تنكز من مصر إلى الشام عائداً، فلما قارب غزة تلقاه ألطنبغا، وضرب له خاماً كبيراً، وأنزله عنده، وعمل له طعاماً، فأكل منه، وأحضر بناته له فتوجع له، وأقبل عليه بذلك، وخلع عليه، وتوجّه إلى دمشق. ولم يزل بغزة نائباً إلى أن أمسك السلطان تنكز، فرسم لألطنبغا بنيابة الشام، فحضر إليها يوم الاثنين سادس المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ودخلها والأمير سيف الدين بُشتاك والحاج أرقطاي وبَرْسْبُغا وبقية الأمراء الذين كانوا قد حضروا عقيب إمساك تنكز. ولم يزل بدمشق نائباً إلى أن أُمسك السلطان المنصور أبو بكر، وتولّى المُلْك الأشرف كجك، وتنفس الأمير سيف الدين طشتمر بسبب خلع المنصور ومحاصرة الناصر أحمد في الكرك، فخافه قوصون، وكان هو القائم بتلك الدولة، فاستوحى الأمير ألطنبغا عليه، وكان في نفس ألطنبغا من طشتمر، فجرت بينهما مكاتبات ومراجعات، وحمل ألطنبغا حظ نفسه عليه زائداً، فتجهّز إليه بالعساكر، وخرج بعد صلاة الجمعة من الجامع في مطر عظيم إلى الغاية، والناس يدعون عليه بعدم السلامة؛ لأن عوام دمشق كرهوه كراهة زائدة، وكانوا يسبونه في وجهه، ويَدْعُون عليه، ونشب سنان شَطْفَتِه من خلفه في بعض السقائف، فانكسر، فتفاءل له الناس بالشؤم. ولم يزل سائراً إلى سلميّة، فورد عليه الخبر بأن طشتمر هرب من حلب، فساق وراءه إلى حلب، ونهب أمواله وحواصله وذخائره، وفرقها على الأمراء والجند نفقةً، وعند خروجه من دمشق حضر إليها الأمير سيف الدين قُطلوبغا الفخري، وملكها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 وبرز إلى خان لاجين، وقعد هناك بمن معه من العسكر المصري، وتردّدت الرُّسل بينه وبين ألطنبغا مال الفخري على قوصون، ومال ألطنبغا إليه. ولم يزل إلى أن حضر ألطنبغا بعسكر الشام وحلب وطرابلس في عُدّة تزيد على خمسة عشر ألف فارس. وتردّد القضاة الأربع بينهما، ووقف الصفان، وطال الأمر، وكره العسكر الذين معه مُنابذة الفخري، وهلكوا جوعاً، وألحّ ألطنبغا، وأصرّ على عدم الخروج عن قوصون، وأقاموا كذلك يومين. ولما كان بكرة النهار الثالث خامر جميعُ العساكر على ألطنبغا، وتحيزوا إلى الفخري، وبقي ألطنبغا والحاج أرقطاي والأمير عز الدين المرقبي والأمير علاء الدين طَيْبغا القاسمي والأمير سيف الدين أسَنْبُغا بن الأبو بكري، فعند ذلك أدار ألطنبغا رأس فرسه إلى مصر، وتوجّه هو والمذكورون على حميّة إلى مصر. ولما قاربوها جهّز دواداره قراتمر إلى قوصون يخبره بوصولهم، فجهّز إليهم تشاريف وخيولاً، وبات على أنه يصبح فيركب لملتقاهم، فأمسكه أمراء مصر، وقيّدوه، وجهّزوه إلى إسكندرية، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته، وسيّروا تلقُّوا ألطنبغا ومن معه، وأطلعوهم القلعة وأخذوا سيوفهم وحبسوهم. ثم بعد يومين أو أكثر جهزوهم إلى إسكندرية، ولم يزالوا هناك إلى مجيء الناصر أحمد من الكرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 وجاءت عساكر الشام، واستقرّ أمر الناصر أحمد، فجهّز الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى إسكندرية، فتولّى خنق قوصون وبَرْسْبُغا وألطنبغا وغيرهم في الحبس في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، أو في شهر شوال. ويُحكى أنه ما جزع عند الموت بل توضّأ، وصلّة ركعتين، وقعد ولفَّ ذقنه بيده، ووضعها في فيه، واستسلم لوضع الوَتر في حلقه، وصبر لأمر الله تعالى وقضائه في خلقه، وبشَّ للذي أتاه، وخَنَق، وتلقاه بالرضى من غير حَنَق. وكان رحمه الله تعالى خبيراً بالأحكام، طويل الروح على المنازعات والخصام، قد دَرِب الأمور وجرّبها، عمّر الوقائع وخرّبها، وباشر الحصارات، ودخل إلى بلاد سيس في الإغارات، ورتّب الجيوش وصفّها، وقدّمها وقت الفرصة وعند الخطر كفَّها، ودخلها مرات يجتلب ما تحويه ويحتلب، ويجعل علِيَها سافلها، والناس قالوا: سيس ما تنقلب. وكان ألطنبغا رمّاحاً طُبْجيّاً، يرمي النشاب، ويلعب بالرمح، ويضرب الكرة، وتقاد له الفروسية في بُرَة، ولم يرمِ أحد في بيت السلطان جَنْبَه إلى الأرض، ولا جعل طوله إذا صرعه وهو عَرْض. وكان لا يدَّخر شيئاً، ولا يستظل من الجمع فَيئاً، ولا يعمر له ملكاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 ولا يُجرى له في المتاجر حيواناً ولا فلكاً، وانفصلت في أيامه بدور العدل قضايا مرت السنون عليها لظلام أمرها، وغموض سرّها، وخفاء الحقّ فيها لدقته، وغلبة الباطل وعموم مشقته، وموت الخصوم في تمادي الحال وعدم الناصر، ورؤية المالك ثمار منافعها وباعه عنها قاصر. وعلى الجملة كان فريداً في أثناء جنسه، مالكاً بالصبر أمر نفسه؛ إلاّ أن سفك الدماء عنده أمر هيِّن، وإزهاق الروح لا يعبأ به بأمر بيِّن أو غير بيِّن، فلذلك ما رزق سعادة في نيابة دمشق ومنها تعكس، وتنكد عيشه وتنكَّس، ولو قدر الله تعالى له أن يوافق الفخري ويدخل معه، وينزله القصر ويجلس هو موضعه لكان الفخري عنده ضيفاً. وما سلَّ أحد في وجهه سيفاً، ولا وجد له من أحد جَنفاً ولا حَيْفاً، ولكن هكذا قدَّر، وهذه العقبى جزاء ما صُدّر، فلا قوة إلاّ بالله. ألطُنْبُغا الأمير علاء الدين المارِدانيّ الساقي الناصري. أمَّره السلطان مئةً، وقدّمه على ألف، وزوّجه إحدى بناته، وهو الذي عمّر الجامع الذي برّا باب زُويلة عند المرحّليين، وأنفق على ذلك أموالاً كثيرة؛ لأنه مرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 مرضة شديدة، طوَّل فيها، وأعيا الأطباء شفاؤه، وأنزله السلطان من القلعة إلى الميدان على البحر، ومُرّّض هناك قريباً من أربعين يوماً. وكان ابن المرواني متولّي القاهرة يقف في خدمته، ويُحضر له كل ما في برّا باب اللوق من المساخر وأرباب الملاهي وأصحاب الحَلَق، وهو يُنعم عليهم بالدراهم والخلع والقماش. ونزل السلطان إليه مرات، وكان الخاصكية ينتابونه جماعة بعد جماعة، وبيبتون عنده، وتصدّق في تلك الأيام بمائة ألف درهم، وشرع في عمارة الجامع المذكور. وهو أحد الخاصكية المقرَّبين. ولم يزل على حاله إلى أن توفي السلطان، وتولّى الملك المنصور أبو بكر. فيقال: إنه الذي وشى بأمره إلى قوصون، وقال له: قد عزم على إمساكك، وجرى ما جرى على ما يذكر في موضعه في ترجمة المنصور أبي بكر. وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا المذكور عند المنصور أعظمَ مما كان عند والده؛ لأنه جعله مُوْدَع سرِّه. ولما تولّى الأشرف، وماج الناس، وحضر الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري من الشام، وجرى ما جرى على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا نائب الشام، وشغَّب المصريين على قوصون، فيقال: إن ألطنبغا المارداني كان أصل ذلك كله، ونزل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 الأمير علاء الدين أيْدُعْمِص أمير آخور، واتفق معه على القبض على قوصون، وطلع إلى قوصون، وجعل يشاغله، ويكسّر مجاذيفه عن الحركة إلى بكرة الغد، وأحضر الأمراء الكبار المشايخ عنده، وساهره إلى أن نام، وهو الذي حطَّ يده في سيف ألطنبغا نائب الشام لما دخل القاهرة قبل الناس كلّهم. ولم يجسر أحد أن يمدَّ يده إليه. وكان الأمير سيف الدين بهادُر التمرُتاشيَ، الآتي بذكره إن شاء الله تعالى في حرف الباء في الأول، هو آغا ألطنبغا المذكور وهو الذي خرَّجه وربّاه، ولما بَدَت منه هذه الحركات والإقدامات قويت نفسه عليه، فوقف فوق التمرتاشي فما حملها منه، وبقيت في نفسه. ولما ملك الملك الصالح إسماعيل صار الدست كلّه للتمرتاشي، فعمل على ألطنبغا المذكور، ولم يدر بنفسه إلا وقد أخرج على خمسة أرؤس من خيل البريد إلى حماة نائباً في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة فتوجّه إليها، وبقي بها نائباً مدة شهرين وأكثر إلى أن توفي أيدغمش نائب الشام، ونقل الأمير سيف الدين طُقُزْتمر من نيابة حلب إلى نيابة الشام، ورُسم للأمير علاء الدين ألطنبغا بنيابة حلب، فتوجّه إليها في أول شهر رجب من السنة المذكورة. وجاء إلى حماة نائباً الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فأقام ألطنبغا في نيابة حلب مدة يسيرة، وتمرّض وقاسى شدة، وحضر له طبيب من القاهرة. ولم يزل إلى أن كان القبر لجوهرته صدفاً، وراح شخصه لسهام المنايا هدفاً. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل صفر سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وكان شاباً طويلاً رقيقاً، يُدير من أجفانه رحيقاً، بوجه قد حلا، ومن العيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 قد خلا، وللبدر قد جلا، ألطف من مرّ النسيم، وألذّ ذوقاً من التسنيم، معشَّق الخطرة إذا خطا، متأنق الفترة إذا سطا، كريم الكفّ، حكيم الشروع واللف، حَدْسُه صائب، ونفسه بالصبر تردّ ناب النوائب، عقله أكبر من سنّه، وأمره يأتي إليه على ما يغلب في ظنه. وكان أستاذ له يتذلل، وهو يجفو عليه ويتدلل، وبجناحه طار طاجار، وأصبح وهو دوادار، ولكن خانه الزمان، ولم يؤخذ له من الحوادث أمان: وقلت أنا لما بلغتني وفاته: خُذ من العيش ما أتاك بتقوى ... واغتنمُه من قَبل صَرف الزمان وتأمّل بعين فِكركَ لمّا ... مارَ داني الفنا إلى المارداني ألطنبغا الأمير علاء الدين بُرناق - بالباء الموحدة والراء والنون والألف والقاف - الجاشنكير نائب صفد. لما خرج أحمد الساقي وهو بصفد على الملك الناصر حسن وعصي بقلعتها رُسم لهذا الأمير علاء الدين بنيابة صفد، فوصل إليها وهو نائب عزّة - على ما تقدم في ترجمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 أحمد - واستقل بالنيابة من أوائل المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن ورد عليه المرسوم بأن يحضر إلى دمشق، ويكون مع نائبها الأمير سيف الدين أرغون الكاملي في واقعة بيبغاروس، فوصل إلى سعسع بالعسكر الصفدي، وكان نائب دمشق قد خرج منها ونزل على الكسوة، وجهز إليه طلبه، فوعده بالوصول إليه، لكنه استحوذ عليه جماعة ثنوا عزمه عن ذلك، سوَّلوا له التوجّه إلى بيبغاروس، فدخل دمشق، وشقَّها، وتوجّه إليه، واجتمع على خان لاجين، وجاء معه، ونزلوا على قبة يلبغا، وأقاموا هناك مدة أربعة وعشرين يوماً، ولما هرب بييُغا هرب ألطنبغا المذكور معه في جملة من هرب، ووصلوا إلى حلب، وحاصروا أهلها، فأسر الحلبيون منهم جماعة وفيهم ألطنبغا بُرناق وعلاء الدين ألطنبغا مُشدّ الشراب خاناه والأمير سيف الدين حاجي أخو أحمد الساقي والأمير سيف الدين أسنبغا الرسولي نائب جعبر وعز الدين مهدي مشدّ حلب، وأسن بك بن خليل الطُّرقي وبهادر الجاموس فيما أظن، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وتسلّمهم الأمير فارس الدين ألبكي أحد مقدَّمي الألوف المصريين، وأحضرهم إلى دمشق، واعتقلوا بقلعتها. ولما كان ثالث شوال طلع السلطان الملك الصالح من القصر إلى قلعة دمشق وجلس في الطارمة، واستقبل سوق الخيل، وأحضر ألطنبغا بُرناق، وعُصر، وقرر على أمور، ثم إن الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز وسائر أمراء مصر والشام ونزلوا ووقفوا على باب خان الملك الظاهر، واستقبلوا السلطان، وقُدِّم هؤلاء السبعة المذكورون وفيهم برناق، ووسَّط الجميع، وعلّقوا على نهر بردى في ثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وكان ذلك في يوم الاثنين، فسبحان الدائم الباقي بلا زوال، مقدّر الآجال. وكان الأمير علاء الدين برناق رجلاً عاقلاً، ساكناً لا يرى قدمه إلى الشرّ ناقلاً، بعيداً من الظلم، مفيداً للأناة والحلم، لم يشكُ منه أحد من رعايا صفد. وكان يتخوَّل بعضهم بالعطاء والصفد، وعمّر بصفد عمارة، تطل على بحر طبرية كان يستروح فيها ويصعد بمن يؤثره، ويحبُّ قُرْبَه إلى أعاليها. وكانت له ابنة يحبها حباً زاد حَدّه، ويودّ أن يفرش لها إذا خطت دون الأرض خدّه، لا يزال قلبه بها معلَّقاً، وخدّه إذا غاب عنها بالدموع مخلّقاً، يجلس وهي في صدره، ويُعيذها من الزمان وغدره، ويجمع لها الذين يعملون الحلق تحت القلعة، ويصرف لهم لأجلها الخلعة بعد الخلعة. ولما خرج من صفد ضمّها إلى صدره وودّعها، وكاد من الرِّقة عليها أن يخرج كبده ويقطّعها، وأذرى الدموع دماء وأجراها من الحرقة عندما فارقها عَنْدَما، وكان ذلك أخر عهدها به، ولم تشاهده والسيف قد جدَّ في تمزيق إهابه. وقلت أنا فيه: لا تقرَبِ الشَّرَّ إذا ما بَدا ... فهُوَ لنارِ الموتِ حَرّاقُ فالسيف قد فرَّق ألطنبغا ... ولد يفِدْ بُرناق تِرياقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 ألطُنْبُغا علاء الدين الجاوُلي. هو مملوك ابن باخِل. كان عند الأمير علم الدين سَنْجَر الجاوْلي دواداراً لما كان في غزة أولاً نائباً، وكان يحبّه ويدنيه ويقرِّبه، ويبالغ في الإنعام عليه، والإحسان إليه. وكان إقطاعه عنده يعمل عشرين ألف درهم خارجاً عمّا يبرّه، ويعطيه ويأخذه هو من منفوع الدوادارية. قال لي: امتدحت الأمين الأمير مرة بقصيدة كانت ستين بيتاً، فأمر لي لكل بيت بدينار. وقال لي: لو كانت مئة ألف كانت مئة. أخبرني من أثق بقوله: أنه كان في إصطبله تسعة سَرْجاً زرجونيّاً. ولما شُنِّع على الجاولي أن إقطاعات مماليكه ثلاثون ألفاً وعشرون ألفاً راكَ الأخباز، وأعطى ألطنبغا المذكور إقطاعاً دون ما كان بيده أولاً، فتركه ومضى إلى مصر بغير رضى الأمير علم الدين، فراعى الناس خاطر مخدومه ولم يجسر أحد على أن يستخدمه، فأقام في مصر مدة زمانية ينفق من حاصله، ثم حضر إلى صفد، فأقبل عليه الحاج أرقطاي نائبها إقبالاً كثيراً، وكتب له مُرَبَّعة بإقطاع، وتوجّه بها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 مصر، فخرج عنه، فعاد وجاء إلى دمشق وامتدح الأمير سيف الدين تنكز، ومدح ناصر الدين الدوادار وناصر الدين الخزندار بقصيدة أولها: قد أيّد الرحمنُ ملَّةَ أحمد ... بالناصريْن محمدٍ ومحمدِ فتوسَّطا له عند مخدومهما فأعطاه إقطاعاً في حلقة دمشق، وكان أمره أحد الأسباب التي أوقعت بين تنكز والجاوليّ، وبقي ألطنبغا بدمشق مقيماً، وأُمسك الجاوْليّ، وأقام في الاعتقال مدة، ولمّا أُفرِج عنه توجّه إليه ألطنبغا وخدمه مدة، ثم إنه أخرجه إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وجعله من جهته مشداً على الوقف المنصوري. واجتمعتُ به كثيراً والقاهرة ودمشق، وبيني وبينه مكاتبات ومجاراة ومطارحات ومباراة؛ لأنه كان ينظم الدُّرّ شعراً، ويُباهي به النَّثْرة والشعْرى، قد جوَّد المقاطيع، وأبرزها كأزهار الربيع، ولكن قصائده دوَّنها في الطبقة، وبروقها ليست في سماء الإجادة مؤتلقة. وكان يتمذهب للشافعي، وله اجتماع بالشيخ صدر الدين محمد بن الوكيل وغيره من فضلاء العصر، ويبحث جيّداً، ولم يكن عن طرائق الفضل متحيداً. وعقيدته للأشعري منسوبة وفي عداد أصحابه محسوبة. ولما توجه معي إلى الشيخ تقي الدين بن تيميه سال ذهنه إليه، وأقبل بجملته عليه، ومال إلى قوله، ودار من حوله. ثم إنه بعد فراقه تراجع عنه إلا بقايا، وادكر غدوات قربه والعشايا. وكان وجهاً في حسنه بديعاً، ومحيا يذر قلب ناظره صريعاً، مديد القامة، يرهي على بدر وجهه من شعره ظلامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وكان بالكيمياء مغرى، قد أنفق فيها مالاً ودهراً. وخرج من الدنيا رحمة الله تعالى وهو يرى كفه صفراً. وكان صحيحاً وده، منحك إخلاصه لا يرده، قل من صحبته فأنصفني مثله في الحضور والغيبة، لا أسمع منه كلمة جفاء، ولا يبلغني عنه غيبة. ولم يزل شملي به مجموعاً، وقولي عنده، كنا أمره عندي مسموعاً. إلى أن استقى على غير ظما. وصافحه في قبره الحور وملائكة السَّما. وتوفي رحمه الله تعالى بعلة الاستسقاء في شهر ربيع الأول، ثامنه، سنة أربع وأربعين وسبع مئة. كتب إلي وقد وردت القاهرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة: إليكَ صلاح الدين أُهدي تحيّةً ... كنشرِ عبيرٍ في الجُيوب إذا فُضَّا ومِن عَجَبي أنّ الديارَ قريبةٌ ... وما فُزتُ منكمْ بالوِداد الذي أرضى فمِنْ بعدكم قلبي تألَّف بالأسى ... ومِنْ بَعْدكم لم أدْرِ نوماً ولا غَمْضا وإني على العهد الذي تعهدونه ... مقيماً أرى حفظ الوِداد لكَم فَرْضا وأقسمَ قلبي لا يقرُّ قرارهُ ... ولا يرعوي حتى يرى بعضنّا بعضا فكتبتُ أنا الجواب إليه ارتجالاً: أيا جيرةً قد عُوّدوا والإغْضَا ... وحبُّهُمُ قدْ مازَجَ الروحَ والأعْضَا وحقّكم ما أهملَ العبدُ خِدمةً ... لكُمْ وَجَبتْ لكنّها بَعْد ذا تُقْضى أأنسى جَميلاً منكُم قَدْ ألِفتَهُ ... وحُسْنَ وِدادٍ يُشبّه الزَّهرَ الغَضّا ولُطفاً يحاكي نَسْمَةَ الروضِ سُحْرةً ... فإنّ لها في العاشقِ البَسْطَ والقَبْضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 وأيام لهوٍ قَدْ تقضَّتْ بقُربكم ... نُداوي بها من دَهْرنا أنفُساً مَرْضى ألا خفّفوا مِنْ عتبكم عن محبِّكم ... فذاكَ ضعيفٌ لا يُطيق به نَهْضا فلا بُدَّ أنْ يأتي ويذكُرَ عُذْرَهُ ... فإنْ تقبلوه رحمةً قبَّل الأرضا وأنشدني يوماً لنفسه: انهلّ أدمعها دُرّاً وفي فمها ... دُرٌّ وبينهما فَرْقٌ وتمثالُ لأنّ ذا جامدٌ في الثغر منتظَم ... وذاك منتثِرٌ في الخدّ سيّالُ فأنشدته أنا لنفسي: غانيةً في فمها جَوهرٌ ... بمثله تبكي هوىً هائلا فراح ذا في نظمه واقفاً ... ولاحَ ذا مع نثره سائلا وأنشدني لنفسه أيضاً: وسُودٍ صَيَّرتْها السودُ بيضاً ... فلا تطلُبْ من الأيام بيْضا فبعد السود ترجو البيضَ ظلماً ... وقد سلّتْ عليها السود بيْضَا وأنشدته أنا لنفسي: عجبتُ لدهرٍ سرّني زمنَ الصِّبا ... وكدَّرَ عَيْشي بالمشيب انتفاضُهُ فبيَّض عُمْري من شبابي سواده ... وسَوَّد دهري من مشيبي بياضُهُ وكتبتُ أنا إليه من صفد وهو بدمشق أتشوّق إليه في سنة ثماني عشرة وسبع مئة من جُملة قصيدة: بالله يا بارقاً من قاسيون بَدَت ... أعلامُه خافقاتٍ في دَياجيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 قِفْ لي بتلك الربا إن شئت تُسعفني ... وأنْشُد فؤادَ شَجٍ قَدْ عَزَّ فاديه ونبّه الوُرْقَ والظلماءُ عاكِفةٌ ... ليلاً لتحكي نُواحي في نواحيه وخُذ أحاديث ما ترويه من خبرٍ ... وحالُ جسمي ضنىً إن كنت تحكيه وقُلْ قضى نحبَه العاني أسىً وجوىً ... وما قضى ما ترجّى من أمانيه كأنما مرَّ عَيشٌ كان غانية ... تُجلى بكم ولآليها لياليه أحبابَنا إن تمادى البُعد واتّصلت ... أيّامه واستقلّت في تراخيه فلا تضُّنوا على المُضْنى بطيفكم ... ففيه للوَالِه المشتاقِ ما فيه يكفيه أنْ زارهُ طيفُ الخيال ولا ... يكفيه منكم بلى والله يكفيه فالصَّبُّ إن عاقت الأيام مطلَبهُ ... يَرضى بدون المنى أو ما يدانيه ألطنبغا الأمير علاء الدين الخازن الشريفي، أحد الأمراء الأقدمين بالقاهرة. لمّا كان الأمير سيف الدين أرغون الكاملي على لُدّ في واقعة بيبغاروس ورسم السُّلطان الملك الصالح صالح للأمير شهاب الدين بن صبح، نائب غزّة بنيابة صفد رسم للأمير علاء الدين ألطنبغا هذا بنيابة غزة، فحضر إليها في شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبه مئة، وأقام بها نائباً إلى أن تُوُفِّيَ يومَ الأربعاء رابع شهر رجب الفرد سنة ست وخمسين وسبع مئة. وكان ساكناً عاقلاً وادِعاً، لا شرَّ فيه، طلب لبناته راتباً في السنَة على ميناء يافا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 بخمسة آلاف درهم تميزت في ضَمانها، فأُنعِم عليهنّ بذلك وما لحق التوقيع يجيء إلى دمشق ويُعلِّم عليه نائب الشام ويجهّزه إلى أن مات رحمه الله تعالى. ألطنقش الأمير سيف الدين الجَمالي أستاذ الدار. كان من مماليك الأفرم، ولما توجّه أستاذه إلى بلاد التتار وحضر هو إلى مصر حبسَه السُّلطان الملك الناصر، ثم إنه أخرجه وأمَّره فيما بعد طبلخاناه، ثم جعله أستاذ دار صغيراً وأضاف إليه فيما بعد أستاذ داريّة ابنه آنوك، وأقاك كذلك إلى أن توفي آنوك وتوفي السلطان. ثم توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في سادس عشري شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكان جيداً مشكوراً، وهو خال الأمير صلاح الدين أيدُغْدِي الحاجب بالشام وأخَويه. أَلِلْمِش بفتح الهمزة، وكسر اللام الأولى، وسكون اللام الثانية، وكسر الميم وبعدها شين معجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 الأمير سيف الدين الحاجب، كان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - قد جهّزه إلى جَعْبَر نائباً، ثم إنه كتب فيه وجعله أمير حاجب، فكان حاجباً كبيراً في آخر أيام تنكز، وأمسِك وهو أمير حاجب. كان حسن الشكل ذا مَهابة، سديد الرأي كثير الإصابة، مُدَوَّر الوجه حُلْواً، مملوءاً من العقل، ومن الكِبْر خِلْواً، فيه سُكون ووقار، وحشمة يشكو الناس منها الافتقار. ولم يزل على حاله في وظيفته إلى أن حَصَلَ له استسقاء أظمأه إلى الحياه، وأماته بحسرة نظر المياه. وقد كان توجّه إلى حولة بانياس فمات رحمه الله تعالى هناك وحُمِل إلى دمشق وصُلّي عليه في يوم الأربعاء عُشْري ذي القعدة سنة ست وأربعين وسبع مئة. أَلْماس بفتح الهمزة، وسكون اللام، وبَعْدَ الميم ألف وسين مهملة، الأمير سيف الدين أمير حاجب الناصري. كان من أكبر مماليك أستاذه، ولمّا أُخرج الأمير سيف الدين أرغون الدوادار إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 نيابة حلب - على ما تقدم في ترجمته - وبقي منصب النيابة فارغاً منه عظمت منزلة ألماس، وصار هو في منزلة النيابة، خلا أنه ما يسمّى نائباً، يركب الأمراء كبار والصغار، وينزلون في خدمته، ويجلس في باب القلّة في منزلة النائب، والحُجّابُ وقوفٌ بين يديه. ولم يزل مقدّماً معظماً إلى أن توجه السلطان إلى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، فتركه في القَلْعة هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، والأمير سيف الدين أقْبُغا عبد الواحد والأمير سيف الدين طَشْتُمُر حِمّص آخْضَر، هؤلاء الأربعة لا غير، وبقية الأمراء إما معه في الحجاز وإما أنهم في إقطاعاتهم، وأمرَهم أن لا يدخلوا القاهرة حتى يحضر من الحجاز. ولمّا حضر من الحجاز نقم عليه أمَراً ما صبر عليه، فأمسَكه إمّا في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وإما في أواخر سنة ثلاث وثلاثين، الصحيح أنه في عشر ذي الحجة سنة ثلاث وسبع مئة وأودعه في الاعتقال في بيت أقبغا عبد الواحد، وبقي ثلاثة أيام، ودخل في العَدم، وتخضّب السيفُ منه بدَم. وأما أخوه الأمير سيف الدين قَرا فإنه قُتل بالسيف لوقته صَبْرَا، فأُخذت أموالُ ألْماس وجميع مَوجوده وموجود أقاربه، وأُخرج أقاربه إلى الشام وفُرِّقوا. يقال إن السلطان لما مات بَكْتُمر في طريق الحجاز - على ما يأتي ذِكرُهُ إن شاء الله تعالى - احتاط على موجوده، وكان في جُمله ذلك حَرَمْدان، فأخذه السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وأوْدَعَه لبعض الجمدارية، ثم لمّا وصل قلعة الجبل واطمأنّ ذكره السلطان فأحضره فوجد مما فيه جَواب الأمير سيف الدين ألماس إلى الأمير سيف الدين بَكْتُمُر الساقي، وفيه: إنني حافظ القلعة إلى أن يَرِدَ عليَّ مِنك ما أعتمده، فكان ذلك سَببَ قَتله، والله أعلم. وكان ألماس آسْمَرَ طُوالاً من الرجال، فيه ثبات الشيوخ وخِفّة الشباب العِجال غُتْميّاً لا يفهم شيئاً بالعربي، ساذَجاً يجلس في بيته فوق لُبّاد على ما اعتاد ورَبي. وكان أوّلاً يباري السحاب بكرمه، ويؤوي الناس إلى حَرَمه، ولكنه فهم عن السلطان أن ذلك ما يعجبه ولا يراه، فيقول به ويوجبه، فتظاهر بعد ذلك بالخِسّة، وكابَرَ فيه حِسَّه، إلى أن شاع ذاك وذاع، وملأ به المُدُن والبقاع. إلا أنه كان يَعْمِر المِلْك بخمسة عشر ألف درهم وأكثر، ويهبْه لبعض مماليكه، وهو الذي عمّر الجامع المليح الذي بظاهر القاهرة في الشارع عند حَدَرة البقر، وفيه رخام مليح فائق، وعمّر إلى جانبه هناك قاعة تأنّق فيها، وكان الرخام يُحمل إليه من جزائر البحر وبلاد الروم ومن الشام، ومن كل مكان، ولمّا أُمسِك وجدوا له أموالاً تُكاثر النجوم في الليلة الداجنة البهيمة. أَلْمِلِك بفتح الهمزة، وسكون اللام، وفتح الميم، وكَسْر اللام الثانية وبعدها كاف. الأمير سيف الدين الحاج من كبار الأمراء المشايخ رُؤوس مشايخ المشور في أيام السلطان الملك الناصر، تردّد في الرُّسْلِيّة بين الملك المظفر وبين الملك الناصر وهو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 الكرك، فأعجبه عقله وتأتّيه، وسيّر إليهم يقول: لا يعود يجيء إليّ رسولاً غَيْرُ هذا، فلما قدم مصر عظَّمه. ولم يزل مُوقراً مُبجَّلاً، عمّر بالحُسينية جامعاً مليحاً إلى الغاية، وله دار عظمى مليحة عند مشهد الحُسين - رضي الله عنه - داخل القاهرة، ومسجدٌ حَسَنٌ إلى جانبها. خرّج له شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي مَشْيَخة، وقرئت عليه مرّاتٍ وهو جالس في شبّاك النيابة بقلعة الجبل. ولما تولى الملك الناصر أحمد أخْرَجه إلى نيابة حماة، فحضر إليها وأقام بها إلى أن تولّى الملك الصالح إسماعيل، فأقدمه إلى مصر وأقام بها على حاله الأولى. ولما أُمسك آقسُنقر السَّلاّري - نائب مصر المقدَّم ذِكره - ولاّه النيابة مكانه، فشدّدَ في الخمر إلى الغاية، وحدّ الناس عليها وجنّاهم، وهَدَم خزانة البُنود، وأراق خُمورها وبناها مَسْجِداً وحَكرها للناس فعمّروها دوراً، وأَمْسَك الزمام زَماناً، وكان يجلسُ للحكم في الشبّاك طولَ نهاره لا يَمَلّ من ذلك ولا يسأم، ويَروح أصحابُ الوظائف ولا يبقى عنده إلا النقباء البطّالة. وكان له في قلوب الناس مهابةٌ وحُرْمَةٌ، إلى أن تولّى السلطان الملك الكامل شعبان فأخرجه أوّل سلطنته إلى دمشق نائباً عِوَضاً عن الأمير سيف الدين طُقُزْتُمر، فلما كان في أول الطريق حَضَر إليه مَنْ قال له: الشام بلا نائب، فسُق لتلحقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 فخفَّف من جماعته وساق في جماعة قليلة، فحضر إليه مَنْ أخذه وتوجّه به إلى صفد نائباً، فدخلها في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. ثم إنه باطن الأمير سيف الدين تماري نائب طرابلس على الهروب أو الخروج على السلطان أُرْجَف الناسُ على السلطان، فحضر مِنْ مصر مَنْ كَشَف الأمر، وسأل هو التوجُّه إلى مصر فرُسِم له بذلك، فتوجّه. فلما وصل غزة أمسكه نائبها الأمير سيف الدين أراق، وجُهّز إلى الإسكندرية في أواخر سنة ست وأربعين وسبع مئة، وكان ذلك آخر العهد به. وكان خيّراً فيه دينٌ، وعبادة نورها على الجبين، يميل إلى أهل الخير والصلاح، ويتخذ من أدعيتهم السلاح، وكان بَرْكُه مَنْ أحسن ما يكون، وخَيْله تكاد إذا جَرَت ترمي الرياح بالسُّكون، وكان يقول: كل أميرٍ لا يقيمُ رُمحه ويسكب الذهب إلى أن يُساوي السّنان ما هو أمير. وقلت أنا فيه: ألَمْلكُ الحاجُّ غدا سعدُهُ ... يملأ ظَهْرَ الأرض مهما سَلكْ فالأُمرا مِن دونه سوقة ... والملك الظاهر لي اَلْمَلكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 ألْناق الأمير سيف الدين الناصري، كان أميراً من جملة أمراء دمشق يسكن بقرب مسجد الصفيّ بالعُقيْبة. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد منتصف صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. أميران الأمير الشيخ عزّ الدين، مِنْ بيت الشيخ عَدِيّ بن مُسافر. ورد إلى بلاد الشام فأكْرمت الدولة الناصريّة نُزُلَهُ وعظَّمَتْ مثواه، وأُعطى بدمشق، إمْرةً، فأقام بها مُدّة، ثم أقام بصفد مدة، ثم عاد إلى دمشق وتَرَك الإمرة وآثر الانقطاع، وأقام بالمِزّة، وكانت الأكراد، تأتيه من كل قُطْر، وتَفِدُ عليه مِنْ كلّ فَجٍّ بصفايا أموالها ونفائس ما عِندها تقرُّباً إليه. ثم إن الأكراد المشارقة أرادوا الخروجَ على السلطان، وباعوا أموالهم بالهوان، واشتَرَوا بها أسلحة وخَيْلاً، ووعدوا رجالاً ممن تَبِعَهُم بالنيابات الكبار، وكان هو قد نول بأرض اللَّجُون مِنْ مَرْج بني عامر بصفد، وبلغ السلطان الملك الناصر أنهم لو يُؤْذوا أحداً في نفسٍ ولا مالٍ، فكتب إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بكشف أحوالهم، وأَمسَك السلطان مَنْ كان بالزاوية العَدويّة بالقَرافة منهم، ودَرَّك على أمير طبر، واختلفت الأخبار عنهم، فقيل: إنهم يُريدون سَلطنة مصر، وقيل: بل يريدون مُلْك اليمن. وقلق السلطان من أمرهم وأهمّه ذلك، فتقدم الأمير سيف الدين تنكز بإحضار الأمير عز الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 أميرَان المذكور، فأُمسِك وأُحضر إليه، فقال له: أيْش هذا الذي يفعله هؤلاء الأكراد؟ فقال: يا خوند هذا شيء تخيّلوه في نفوسهم، فقال له: لأي شيء ما تمْنَعُهم من هذا؟ فقال: يا خوند، هؤلاء يسجدون لي ولغيري من أهل بيتنا، لو قلتُ لهم ما عسى أن أقوله ما يسمعونه، ولكن يا خوند حُطني في هذه القلعة وقد تفلَّل جَمعهم، فعلم تنكز أن الذي يقوله حق، فطلع بع إلى القلعة، وطالع السلطان بأمره فانفلّ أمرهم وتفرقوا شَذَر مذَر، وتمزّقوا أيدي سَبَأ، وكان الأكراد يجيؤون بعد ذلك إلى البُرج الذي فيه الأمير عز الدين ويسجدون له. ولم يكن لهم بلاغٌ ولا معاش، إلا أنهم يَجلبون المُحمّضات من الأُتُرجّ والليمون والكَبّاد، وغير ذلك من بانياس والأغوار، وأقصاب السكر على ظهورهم، ويَبيعون ذلك بدمشق، فرخُصَ هذا كلّه بدمشق في تلك المدة. وكان طلبه وحبسُه في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وكان الأمير عز الدين المذكور من أحسن الأشكال وأتمِّها، وأصبحِ الوجوه وأحلاها. أمير كاتب ابن أمير عُمَر العميد بن العميد أمير غازي، الشيخ الإمام العلاّمة قوام الدين أبو حنيفة الفارابي الأتْقاني - بهمزة مفتوحة وتاءٍ ثالثة الحروف ساكنة وقافٍ بعدها ألفٌ ونون - الحنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 كان قيّماً بمذهب أبي حنيفة شديد التعصّب على الشافعية، متظاهراً بالغَضّ منهم وبالطعن عليهم، يوَدُّ لو حكم فيهم أو حُكّم في تَلافِهم دون تلافيهم، لا تأخذه فيهم لومة لائم، ويتمنى لو ناحت على مدارسهم الحمائم، واجتهد في ذلك بالشام وما أفاد ودخل مِصْر وهو مصرٌّ على ما عنده من العناد، وعمل على قَذْفهم وقَلْعهم بالقَلْع والمِقذاف وطاف عليهم بكؤوس خمرٍ خَمَرها بالسُّم وداف، فكفاهم الله محذوره، وجهل الله واقعتهم معه على مرّ الأيام مأثوره، وبدّل بغيظه فيهم سُروره، وعكس ما دبّره فيهم، " والله متمٌّ نورَه ". وكان شديد الإعجاب بنفسه، يجيء بالتعظيم من حَسّه وبَسّه، يظن أن إمامه رضي الله عنه لو رآه لجعله أمامه، وأنّ أبا يوسف كان يتأسف إذا سمع كلامه، وأنّ زفر له زفرات على لُقِيّه وأن محمد بن الحسن ما يُحسن الوصول إلى رُقيِّه، إلا أنه شرح الأخْسِيكَثي وعُمْرُه دون الثلاثين شرحاً جيداً يُثني عليه فقهاء مذهبه ويُعظّمونه، وكان عارفاً بالعربية واللغة، قال في آخر شرح الأخسِيكثي إنه فرغ منه بتُسْتَر سنة ست عشرة وسبع مئة، وقال قبل هذا: فلو كان الأسلاف في حياةٍ لقال أبو حنيفة: اجتهدتَ، ولقال أبو يوسف: نارَ البيان أوقدت، ولقال محمد: أحسنت، ولقال زفر: أتقنّت، ولقال الحسن: أمعَنْت، ولقال أبو حفص: أنعمت فيما نظرت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 ولقال أبو منصور: حققت، ولقال الطحاوي: صدقت، ولقال الكرخيّ: بورك فيما نطقت، ولقال الجصّاص: أحكمت. ولقال القاضي أبو زيد: أصبت. ولقال شمس الأئمة: وجَدت ما طَلَبْت، ولقال فخر الإسلام: مهرت، ولقال نجم الدين النَّسفيّ: بهرت. ولقال صاحب الهداية: يا غوّاصُّ، البحر عَبَرتْ، ولقال صاحبُ المحيط: فقت فيما أعلنت وأسررت: إلى غير ذلك من كبرائنا الذين لا يحصى عددهم. ولقال المتنبي: أنتَ من فصحاء عبارتهم: مسكيّة النفحات إلاّ أنها ... وحشيّة بسواهم لا تَعبَقُ ثم ما قاله. ولم يزل القوام إلى أنْ مال عليه الحَيْن بكَلكِله، وأصبح الأتقاني وقد تهدّم من الحفر منزله. وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى يوم السبت حادي عُشري شوّال سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكان لمّا قَدِم دمشق اجتمع بنائبها الأمير سيف الدين يَلبُغا - رحمه الله تعالى - وداخَله واختصَّ به وذكر له مَسْألة رفع اليدين في الصلاة، وادّعى بظلام الصلاة، فقام في دفاعه قاضي القضاة تقي الدين السبكي - رحمه الله تعالى - وهّى ما قاله وأفسده، واستدل على بطلان دعواه، فرجع الأمير سيف الدين يلبُغا بعد ما كان قد شُرِّبت أعضاؤه ذلك، ثم إنه طُلب إلى مصر وراح، فراج عند الأمير سيف الدين صرغتمش وعظّمه، وبنى له مدرسته بالقاهرة، وولاّه تدريسها، وكان قد قام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 أيام الملك الصالح على الشافعية، وسعى في إبطال المذهب من رأس، وكاد ذلك يتم، إلا أن الله تعالى أعان بلطفه، ومَنّ بإخماد ناره. وأخبرني من أثق أنه كان يأكل في كل يوم أوقيّة فُوم، وكان يأكل من الزنجبيل شيئاً كثيراً إلى الغاية. ونقلتُ من خطّه ما صورتُه: تاريخ قدومنا دمشق في الكرّة الثانية في العاشر من شهر رجب سبع وأربعين وسبع مئة، ثم لبثنا ثمّة إلى أن خرجنا منها في ثامن صفر يوم السبت من سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وقدمنا مصر يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، قال العبد الفقير إلى الله تعالى أمير كاتب بن أمير عمر المدعوّ بقوام الفارابي الأتقاني: كان تاريخ ولادتي بَأَتْقان ليلة السبت التاسع عشر من شوال سنة خمس وثمانين وستّ مئة، وفاراب مدينة عظيمة من مدائن الترك تسمى بلسان العوام: أوتراد، وأتقان اسمٌ لقصبة من قصَباتها، هذا ما أنشأ في أيام دولة السلطان مالك رقاب الأمم مولى مُلوك العرب والعجم قاهر الكفرة والمشركين، ناصر الإسلام والمسلمين، سلطان ابن السلطان ابن السلطان الملك الناصر بن الناصر ابن الملك المنصور حسن بن محمد بن قلاوون، خلّد الله ملكه ونوّر مرقد آبائه السلاطين في مدح المقَرّ العالي المجاهد المؤيّد المظفّر ذي اليُمن والبركات، والخير والمبرّات، فريد الدهر وحيد العصر سيف الدين سُيرغتمش أدامه الله في عافيةٍ وافية حين تمّ بناء مدرسته المخصوصة بالحنفية بالقاهرة المعزيّة في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وسبع مئة، وكان ابتداء العِمارة في خامس رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، الضعيف أبو حنيفة قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الفارابي الأَتقاني يوم أُجلِسَ فيها مدرِّساً بحضور القضاة الأربعة وجميع أمراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 الدولة مثل المقرّ العالي شيخو، وحاجب الحجاب طشتمر القاسِمي. وتوقاي الدوادار وغيرهم في الساعة الثالثة من يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الأولى من السنة المذكورة، والقمر في السُّنبلة، والزهرة في الأوج، وكان تثليث المشتري والقمر: أرأيتم مَنْ دَرَأ النُّوَبَا ... وأتى قُرَباً ونفى رِيَبا فبدا عَلَماً وسَما كَرَماً ... ونَما قدَماً ولقد غَلَبا بتُقى وهُدى ونَدى وَجَدا ... فغدا وشَدا وجَبى وحَبا أبدى سَنَناً أحيا سُنناً ... حلّى زمناً عند الأُرَبَا هذاك سُيرغتْمشْ سَكَبت ... أيامُ أماراته السُّحُبا وأزال الجَدْبَ إلى خَصْبٍ ... والضَّنْكَ إلى رَغَدٍ قَلَبا بإعانةِ جبّارٍ بَرٍّ ... ذي العرش وقد بذل النَّشَبا ملك فَطنٌ ركن لسنٌ ... حَسَن بَسَنٌ ربّى الأدبا ملكُ الكبرا ملكُ الأمرا ... ملكُ العُلما ملكُ الأُدبا بحرٌ طامٍ طَوْدٌ سامٍ ... غَيثٌ هامٍ حامي الغُرَبا بسياسته وحَماستِهِ ... وسَماحته جَلّى الكُرَبَا وصيانته وديانته ... وأمانته حاز الرُّتبا أبهى أصلاً أسنى نَسْلاً ... أحظى خَصْلاً بذّ العربا نِعمَ المأوى مصرٌ لمّا ... شَملت قَوْماً قيلاً نُجُبا فنَمت نَوْراً وسَمت نُوراً ... وعَلَت دوراً وأرت طَرَبا نسقَت دوراً زسقت درراً ... ووعَت غُرَراً وحَوت أرَبا وخْطَاء به افتخرت ونَمَت ... وسَمَت وزَرَت وحوت أدبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 خّذْ دُرّ ثنا ثم اجْنِ جنى ... منها ومُنىً فتعي طلبا من كان عَنَى نَسبي علناً ... فارابُ لنا نِعْمتَ نَسَبا كنوُّنِ أباً لحنيفة ثُمْ ... مَ قوام الدين بَدا لَقَبا عِش في رجبٍ تَرَ مِنْ عجبٍ ... من منتجب عجباً عَجَبا وأعطاني المقرّ العالي سُيرغتمش أيّده الله جائزة هذه القصيدة يوم أنشدتها عشرة آلاف درهم، ومَلأ يوم الدرس بِرْكة المدرسة بالسُّكّر وماءٍ وماء الليمون فسقى بذلك الناسَ أجمعين، وخلَع عليّ بعد الدرس خلعتين إحداهما فروُ السنجاب، ظَهارته صًوف أبيض وكفْتُه قندز، والأخرى فرجيّ من صُوف زيتي، وخلع على ابني هُمَام الدين أيضاً، ثم لمّا خرجتُ من المدرسة حملني على بغلةٍ شهباء مشتراها ثلاثة آلاف درهم من السَّرج المُفَصَّص واللجام، كان اليوم يوماً يؤرخ، فيا لها قصّةً في شرجها طُول. تمّ ما نقلتُه من خطه رحمه الله تعالى، وتوفي في التاريخ المذكور، وما أفاده الطالع الذي تخيَّره لجلوس الدرس شيئاً، بل كانت المدّة ستة عشر شهراً. الألقاب والأنساب أمين الملك الصاحب أمين الدين: عبد الله ابن تاج الرئاسة. الصاحب تاج الدين بن أمين الدين، المقدم ذكره: أحمد بن عبد الله. أمين الدين ناظر الجيش كاتب طشتمر: إبراهيم بن يوسف. إما المقام: إبراهيم بن محمد بن إمام المشهد المحتسب محمد بن علي. الأمِلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 عبد الكريم. ابن الأميوطي قاضي الكرك: محمد بن أحمد أمير سلاح بكتاش. الأمشاطي الأديب: أحمد بن عثمان. أنَّاق الأمير سيف الدين الناصري، أحد الأمراء بالديار المصرية، تزوج ابنة الأمير سيف الدين أرغون النائب. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت زوجته قد توفيت قَبلهُ بشهر واحد. الألقاب والأنساب ابن الأنباري شيخ المُستنصرية ببغداد: عبد الله بن أبي السعادات. الأنْدَرَشي أبو العباس: أحمد بن سَعدٍ النحوي. أنَسُ بن كتبغا الملك المجاهد ابن السلطان الملك العادل كتبغا المنصوري. كان مليح الشكْل شجاعاً، بطلاً في الحروب نَفّاعاً، عليه مهابة ووقار، وله جلالة الملك مع بعض افتقار. كان السلطان الملك الناصر يحبّه ويعظّمه ويُجلّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 ويُقدّمه، وإذا حضر إليه قام له ورحّب به، والبِشْر قابله وآخذ بيده وأجلسه إلى جانبه، وربما قدّم له بعض مراكبه، إلا أنه كان قد عَمِيَ، وبرد حظه بعدما حَمي. ولم يزل على حاله إلى أن ابتلعه الجَدَث، وأخذه ما قَدُمَ وما حَدَث. ونوفي رحمه الله تعالى في شهر المحرّم سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وقد تجاوز الخمسين، وكانت جنازته مشهودة، ودفن بالقرافة في تربتهم. أَنَص بفتح الهمزة والنون وبعدها صاد مهملة. الأمير سيف الدين النائب بثغر بَهَسْنى. لمّا توجّه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير إلى نيابة طرابلس في نوبة الأمير سيف الدين يلبُغا اليَحيَوي رُسم للأمير سيف الدين أنَص بنيابة غزة مكانه، وحضر إليه مَنْ أخَذَه من بَهَسنى وتوجّه به إلى غزة، ثم إنه طُلب عُقيب ذلك إلى مصر في جمادى الأولى والآخرة وشهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فأقام قليلاً وجلس في جُملة أمراء المَشْوَر، ثم عاد إلى غزة مَقُدَّم عسكر، على عادة نوّابها. ثم إنه رُسم له بالتوجّه إلى قلعة الروم نائباً في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين، فتوجّه إليها وأقام بها إلى أن سكنت حركته وذهبت من عمره بركتُه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء ثاني ذي الحجة سنة خمسين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وكان شيخاً طُوّالاً، وجْهه بحُمرته وبياض شيبه يتلالا، عظيم الحرمة، كأنه هِمٌّ وهو شهاب الهِمّة، فسبحان من خَرّب جِسمه وأذْهب رَسْمَه. آنُوْك بألف ممدودة مفتوحة، ونون مضمومة، وواو ساكنة، وكاف: ابن محمد بن قلاوون هو سيف الدين ابن السلطان الملك الناصر ابن الملك المنصور من الخوندة طُغَاي الآتي ذكرها في مكانه إن شاء الله تعالى. لم يكن عند أبيه أعزُّ منه على كَثرة أولاده، وهو أحسنُ الإخوة، كان أخوه الناصر أحمد والمنصور أبو بكر وإبراهيم أكبر سناً منه، وهو وحده أمير مئة مقدَّم ألف، والباقون أمراء أربعين، وكان يحمل رَنْك جَدِّه المنصور. وزوّجه السلطان وهو ابن عَشر سنين أو دونها بنت الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي، وكان له عُرس عظيمٌ ليلة الجمعة حادي عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة حَضَرَهُ الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، والأمير سيف الدين طَيْنال نائب طرابلس فيما أظن، ونصبَ الأمير سيف الدين قوصون صاريَيْن في الرحَبة قدّام الإيوان، عليهما أنواعٌ من الصور والبارود والنفط غَرِمَ عليهما ثلاثين ألف درهم، واجتمع الشمع بالنهار في الإيوان من قبل الظهر، وعُرض على السلطان وهو جالسٌ على باب القصر على المصطبة الواحدة، وآنوك على المصطبة الأخرى، وإذا عَرَض الأمير الشمع المختصّ به باس الأرض وباس يدَ السلطان ثم يبوس يد آنوك فُعِل ذلك أربع خَمْسَ مِرار، ثم مَنَعَ السلطان من بوس يد آنوك، ولم يزل الشمع يُعرَض إلى بعد المغرب، ولم يكمل عَرضُه، وكان مهمّاً عظيماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 ورأيتُ أنا أبا العَروس وهو الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي وقد شدَّ وسْطَه وفي يده عصا، لا لأنه أبو العروس، بل لأنه عرسُ ابن أستاذه، ورأيت الجَهاز لمّا حُمل من دار أبي العُروس التي على بِرْكة الفيل ممدوداً على رُؤوس الحمّالين، وكان ثماني مئة حَمّال وستة وثلاثين قطاراً، غير الحُليّ والمصاغ والجواهر، وسيأتي ذكر ذلك في ترجمة بَكْتُمر في حرف الباء. ولمّا صمدوا الشُّوار المذكور دخل السلطان ورآه فما أعجبه، وقال: أنا رأيت شُوار بنت سُلاّر وهو أكثر من هذا وأحسَنُ، على أن هذا يا أمير ما يقابل بن آنوك، والتفت إلى الأمير سيف الدين طُقُزْتُمر والأمير سيف الدين أقْبُغا وقال: جهّزا بنتيكما، ولا تتخاسّا مثل الأمير. قلت: أخبرني المهذّب كاتب بكتمر أن الذهب الذي دخل في الزَّركش والمصاغ ثمانون قنطاراً، يعني بالمصري، وكان القاضي شرف الدين ناظر الخاص كاتب آنوك، والأمير سيف الدولة ألطُنْقُش أُستادار السلطان أستاذ داره. وأخبرني من لفظه شرف الدين النشّو ناظر الخاص قال: الذي تحت يدي لسيدي آنوك، ويد خزنداره ست مئة ألف دينار غير ماله تحت يدي من المتاجر في جميع الأصناف. وكان إخوته الكبار يركبون وينزلون في خدمته ويخلع عليهم ويعطيهم. وُصِفَ له ابن قيران الأعمى وهو من أهل القاهرة يلعب الشطرنج عاليَة، فعجب منه وأحضره ولعب قدامه فأعجبه وأثنى عليه، فقال له يا خوند: لأي شيء ما تلعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 الشطرنج؟ فقال: الملوك ما يصلح لهم الشطرنج حسام الدين لاجين ما قُتل إلاّ وهو يلعب الشطرنج. وكان كثير الميل إلى اقتناء الأبقار والأغنام والإوز والبط، وما أشبه ذلك. سمعته وهو يقول لمجد الدين رزق الله أخي النشّو: والله يا رزق الله أنا أحبّ البقر أكثر من الخيل. وكان كثيرَ الحركة سريعَ التنقُّل ما له قرارٌ على الأرض ولا لبْثٌ، وجُدّر فتغيّرت محاسنُه. وتوفي قبل والده بما يقارب نصف سنة، ووَجِد عليه وَجْداً كثيراً وذلك في سنة أربعين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى ذا صورة تروي الأقمارُ المحاسن عنها، ويستمد النهارُ ضياءَه منها، لم ترَ عيني مثلَ حلاوة عينه المجذّبة ولا مثلَ امتداد حواجبه المقوسة - واحتجت لأجل السجع أن أقول: المحدَّبة - ولا وقع ناظري على مثله في أولاد الأتراك، ولا دارت في عصره على مثله الأفلاك، كأنّ محاجره أثَرُ ظُفر في تفاحة، ونَكْهَتَه شَذا زهرات نفّاحة، يَبْسم عن دُرٍّ صَدفُه مَرْجان، ويسيل سالفه مسكاً ضمّه من كافور خديه مَرْجان. إذا خطا قلت: هذا غصنُ بان، يميس من أردافه على كثبان، تعلوه مهابة الملك وبهاؤه، وتلوحُ عليه عظمته - على صغر سنه - وسناؤه، هذا إلى شكل قد أتم الله خَلْقَه، وزيّنه لمّا لطّف خَلقهْ. كان جسمه من الزَّبد مجمَّد، وكمال جماله مَنْ رآه صلى على محمد، رأيته ليلةً وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 أمر السلطان للنشّو أن يَعمَل له مولداً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجمعَ له الفقراء بعد الختم في جامع القلعة فصنع له ذلك وجاءت مشايخ الصوفية، وعملوا سماعاً على باب دور السلطان، والنشّو واقف، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ووقف أقبغا عبد الواحد وألطنقش الأُستاذ دار في خدمته طول تلك الليلة، ودخل هو ورقَص، وحكاه البدرُ فزاد والبَدر نَقَص، ما خطر إلا وبانت خَجْلَةُ الأغصان، ولا تَثَنّى إلاّ وقُلتُ: هذا قضيب النقا وأوراقه القُمصان، ورقص إخوته جُملةً معه. ونظرهم الناس فقالوا: هذه كواكب السماء مجتمعة، ولم يَنَم تلك الليلة فرحاً بما رآه، ولا استقر على الأرض لِمَا فارقه من الحجر علي ونآه. وخلَع في تلك الليلة على جماعة المغاني والذين قرؤوا القرآن والسبع المثاني، ونقّط بجمل من الذهب، وفاق الريح لما جاء ووَهَبْ، وكانت ليلة ما عهد الناس مثلها في عصرهم ولا رأوه لك الوقت في مصرهم. ولكنه تجدّر قبل موته بقليل، وتحدّر ذاك الحبّ اللؤلؤي على خدّه الأسيل. فأطلع الله النجوم على صفحة البدر، وضمّ ذاك الجوهر على وجهه وكأنه حليّ نثر في صدر، فغَيَّرتْ من محاسنه شيئاً، ونسخت من ظلها فيئاً، ولكن معالم جماله كما هِيْ، وتخاطيط وجهه للشموس والأقمار تضاهي. ولمّا توفي رحمه الله تعالى وَجد أبوه عليه وَجْداً عظيماً، وكتم حزنه وأسفه عليه حتى راح كظيماً، ونثر عليه عِقدَ دموعٍ كان في عينيه نظيماً. وقلت أنا فيه: مضيتَ وكنتَ للدنيا جَمالاً ... وجَرّعْتَ الكواكبَ فيك فَقْدَكْ ومنْ عَجَب الليالي فيك أن لا ... يموت أبوك يا آنوك بَعْدَكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وكان ذلك منّي كِهانة في حقه، ولم يكمل من السنة نصفها حتى لحقَه، وصَرَفه صَرف الزمان فيما احتاج إليه من النفقة. أوتامِش الأمير سيف الدين الأشرفي. كان مملوك الأشرف خليل، ولاّه الملك الناصر نيابة الكرك، وكان يَرْكَن إلى عقله ويسمّيه الحاج، وأرسله غير مرّة إلى القان بوسعيد، وتوجّه مرّة بطُلبِه وطبلخانية إلى تلك البلاد، وكان أولئك القوم يعظّمونه أيضاً ويَرْكَنون إلى عقله لأنه كان يعرف بالمغلي لساناً وكتابة، ويدْرِب آداب المُغْل ويحكم في بيت السلطان بين الخاصكية بالياسة واليسق الذي قرره جنكزخان ويعرف سترة جنكزخان ويطالعها ويراجعها، ويعرف بيوت المغل وأنسابهم وأصولهم، ويستحضر تواريخهم ووقائعهم، وكان إذا جاء من تلك البلاد كتابٌ إلى السلطان بالمغلي يكتب هو الجوابَ عنه، وإذا لم يكن حاضراً كتبه الأمير سيف الدين طاير بُغا خال السلطان. أخبرني من أثق إليه عن الأمير سيف الدين الحاج أرقطاي - وكان يدّعي أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 أخوه - قال: كنت ليلة أنا وهو نائمين في الفراش وإذا به قال: أرقطاي لا تتحرك، معنا عَقْرب، ولم يزل يُهِمهم بشفتيه، وقال: فقُمْنا فوجدنا العقرب قد ماتت، وكان يعرف رُقىً كثيرة منها ما يقوله على العقرب وهي سارحة فتموت، ومنها رُقيّة لوجع الرأس. وكان مُغرىً بلعب النَّرد. أخرجه السلطان إلى صفد نائباً عن الحاج أرقطاي في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، فتوجّه إليها وأحسن إلى أهلها، ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام. ولم يزل فيها على حاله إلى أن عُطلت حواسُّه، وبَطلت أنفاسُه. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة سبع وثلاثين وسبع مئة - فيما أظن - ودفن في تربة الحاج أرقطاي، جوار الجامع الظاهري بصفد. وكان مشهوراً بالخير، والسكون الذي لا يرتاع معه الطير، صاحباً لصاحبه في السرّاء والضرّاء، مالكاً قلْب مَنْ يعرفه بخلائقه الزَّهراء، ولكنه كان يُنكَّد عيشُه ويثارُ طيشُه بوَجَعٍ المفاصل الذي يعتريه، وتَطول مدته حتى يقول: آلا موتٌ يباع فأشتريه .................... وهو الذي توجّه إلى دمرتاش وأحضره من البلاد الروميّة، على ما سيأتي في ترجمته. الأوحَد بن الزاهر: شادي، وولده الأمير صلاح الدين يوسف، وولده علي بن يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 أَوْران بفتح الهمزة، وسكون الواو، وبعدها راء وألفٌ ونون، سيف الدين الحاجب بدمشق. أنشَأه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم إن الأمير سيف الدين تَنْكز أحبّه وقَرَّبه وأعطاه وإمرَةَ طبلخاناه، وجعله حاجباً بدمشق. ولم يزل عنده مكيناً إلى أن جَرى له مع قَطْلُوبغا الفخري - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة الفخري - فانحرف عنه وأبغضه وأبعده. ولم يزل على ذلك إلى أن أطفأ الله مصباحه، ولم يطلع للحياة صباحه. وتوفي رحمه الله تعالى - فيما أظنّ - سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وكان قد لبس للإمرة في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وتوجّه إلى ولاية الولاة بالقبليّة. أَوْران الأمير سيف الدين السلاح دار، أحد مقدّمي الأُلوف بدمشق. ولم يزل على حاله إلى أن ضمّت أورمُ الأرض أَوْران، ولم يعد لمائه في الحياة فَوَران. وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون دمشق، في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 أُوْلاجا بضمّ الهمزة، وسكون الواو، وبعدها لام ألف وجيم وبعدها ألف: الأمير سيف الدين. كان هو وأخوه الأمير زين الدين قَراجا في أيام الملك الصالح إسماعيل حاجبَيْن بمصر، والنائب شمس الدين آقْسُنقر السَّلاّري المقدم ذكره، والأمير سيف الدين بَيْغَرا الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الباء، فوُشي بهم إلى السلطان، ونُسبوا إلى أنهم في الباطن مع الناصر أحمد، وربما أنهم يكاتبونه، فأُمْسِكوا جميعاً في أول سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وقضى الله أمره في النائب، وبقي البقيّة، فشفع فيهم الأمير طُقُزتمر نائب الشام، فأُفرِج عنهم في شهر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتُرك الأمير سيف الدين، وجُهّز أُوْلاجا وأخوه إلى دمشق، فأقاما بها بطّالين إلى أن توفي الملك الصالح رحمه الله تعالى، وتولى المُلك الكامل شعبان، فأُعطي أولاجا طبلخاناه، وجُهّز إلى حمص نائباً، فأقام بها مدة، ثم نُقِل إلى نيابة غَزّة، وفي تلك الأيام بَرَّز يَلْبُغا اليحيوي نائبُ الشام إلى الجسُورة، وخرج على الكامل وحضر إليه نائبُ حمص ونائب حماه، ونائب طرابلس ونائب صفد، والأمير سيف الدين أولاجا طَلَبَهُ فلم يحضر إليه، وأقام في غزة إلى أن خُلع الكامل ووُلّي المظفر حاجّي فرُسم لأولاجا بالعَوْد إلى حمص نائباً، فأقام بها. ولمّا خرج يلبغا ثانياً على المظفر سيّر إليه فدافعه وماطله، ولم يحضر إلى أن انفصلت القضيّة وأُمسك الأمير سيف الدين يلبغا، ورُسم للأمير سيف الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 أرغون شاه بنيابة الشام، ورسم لأولاجا بنيابة صفد، فتوجّه إليها في أوائل شهر رجب الفرد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان قد تعلق به وَخَم عظيم من حمص فزاد ضَعفُه بصفد، وطلب طبيباً من دمشق، فجُهّز إليه وعالجه وتماثل من الضعف، ثم إنه نقض عليه الوَخَم الحمصي، فتعلّل، ولم يزل إلى أن أُوِلج أُوْلاجا في الأرض، وسكنها إلى يوم العَرْض. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وأوصى إلى ثلاثة: دوا داره، وأستاذ داره، وآخر من مماليكه، وجعل الناظرَ عليهم الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام، وباشر هذه النيابات الثلاث مباشرة حَسُنَ فيها الثناءُ عليه، وأُهديت أنواع الشكر من الأنام إليه، عفافٌ وأمانة وخِبْرة تامة وديانة، وعَدْلٌ في قضاياه وصِيانة، لم يتعرض إلى أموال الرَّعايا ولم يَتَعرَّض أحداً فيُصْميه في الرمايا، وتأسف عليه أهل البلاد وودوا لو دام لهم بقاؤه ولو كانوا معه في جدالٍ وجلاد. وقَدِم على ربّه وترك أوِدَّاءه، وعَدِم شخصُه وأبقى ثناءه. أولاق الأمير سيف الدين، كان من جملة أمراء دمشق يسكن فوق المدرسة الشامية البرانية، وكان قد تزوج ابنة الأمير سيف الدين كوكنجار ولم يدخل بها. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. أَيَاز بفتح الهمزة، وبعدها ياء آخر الحروف، وبعد الألف الثانية زاي: الأمير فخر الدين السلاح دار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 أظنه كان في مصر قبل خروجه إلى الشام من بعض مُشِدَّي العمائر السلطانية، ثم إنه خرج في حياة السلطان إلى طرابلس أميرَ عشرة، ثم نُقل إلى دمشق على عشرة في أواخر أيام الأمير سيف الدين تَنكز، فأقام بها إلى أن توجّه صُحبة العساكر إلى مصر مع الفخري، فرُسم له هناك بإمرة طبلخاناه، وحضر عليها إلى دمشق. ثم إنه وَلي شدّ الدواوين بالشام عوضاً عن الأمير سيف الدين ينجي السلاح دار، وباشره جيداً بحُرمَةٍ ومهابة. ثم إنه عُزل في أيام الأمير سيف الدين طُقُزتمر وصار حاجباً، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي الأمير سيف الدين ألِلْمِش أمير حاجب المقدّم ذكره في أيام الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فولي الحجوبيّة الكبرى وأحبّه يلبغا، وصار حظيّاً عنده لا يفارقه سَفَراً وحضراً. ولم يزل على ذلك إلى أن طلبه الملك المظفر حاجّي إلى مصر، فتوجه إليها، ونزل عند الأمير سيف الدين أُلجيبغا الخاصكيّ المقدم ذكره، ورُسم له بنيابة صفد، فوصل إليها وأقام بها، وبعد حضوره إليها بقليل خرج يَلْبُغا على المظفر، وجرى له ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته، وهرب، فرُسم للأمير فخر الدين بأن يركب خلفه، بعسكر صفد إلى دمشق وتوجّه بهم وبعسكر دمشق إلى حمص، وأقام عليها. ولمّا أُمسك في حماة عاد بالعسكر وتوجّه إلى صفد، ورُسم له بنيابة حلب في شهر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة توجه إليها وأقام بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 ولمّا كانت أول دولة الملك الناصر حسن حضر إليه الأمير ركن الدين عمر شاه يطلبه إلى مصر على البريد مُخِفّاً، فقابل ذلك بالطاعة، فلما كان في الليل بلغ عمر شاه أنه ربما قد عَزَم على العصيان، فأركَبَ الأمراء والعسكر الحلبي وأحاطوا بدار النيابة، فلمّا أحسّ بهم خَرَجَ إليهم وسلّم سيفه بيده إلى عمر شاه وقال: أنا مملوك السلطان وتحت طاعته الشريفة، فأمسكوه وقيّدوه واعتقلوه بقلعة حلب، وطولع السلطان بأمره، وكان ذلك في العشر الأوسط من شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأحضره الأمير سيف الدين بِلْجِك إلى قلعة دمشق مكبّلاً بالحديد، فأقام بها معتقلاً في القلعة أياماً يسيرة، ثم إنه طُلب إلى مصر ولمّا وصلها جُهز إلى الإسكندرية. وحكى لي من أثق به انه لمّا وصل إلى دمشق أدخله الأمير سيف الدين أرغون شاه إليه في الليل فقال له: والله يا خوند رأيت في الطريق فلاحاً يسوق حماراً أعرجَ معقوراً وهو في أنحس حاله فتمنّيت لو كنت مثله فَرقَّ له. ولم يزل معتقلاً بالإسكندرية إلى أن أُفرِج عنه وجُهّز إلى دمشق ليتوجّه إلى طرابلس ويقيم بها بطّالاً، فوصل في خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وفي أوائل جمادى الأولى أعطي طَبْلَخاناه سُنقر الجمّالي بها، ثم إنه نُقل إلى دمشق فأقام بها، وأخذت المراسلات تدور بينه وبين الأمير سيف الدين أُلجيبغا نائب طرابلس إلى أن جرى ما جرى منه ومن أُلجيبغا، على ما تقدم في ترجمة الجيبغا. وهرب من دمشق مع الجيبغا، ولمّا امسك الجيبغا فارقه أياز وانفرد عنه في ثلاثة أنفار من مماليكه، فأمسكه ناصر الدين ابن المعين وبعضَ أجناد بعلبك في قرية العاقورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 وقد لبس لبسَ الرهبان، وأحضره إلى بعلبكّ فقيّدوه ودخلوا به القلعة، ولمّا بلغ الخبر العسكر الشامي أخذوه من بعلبك وجاؤوا به إلى دمشق هو الجيبغا مكبّلين في الحديد وجرى لهما ما جرى، ووسّطوه في سوق الخيل بدمشق هو وألجيبغا على ما تقدّم في ترجمة ألجيبغا، وجزع جزعاً عظيماً وهلع وذل وخضع، وأخذ سكيناً من واحدٍ كان واقفاً إلى جانبه وأراد يذبحُ بها نفسه أو يجرح غيره فأعجلوه وضربوه بالسيف، ووسّط فخاض السيف في أحشائه واستقى نفسه من قليب قلبه برشائه، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة. وقلت فيه: لما أنار أيَازُ في أفْق العُلاَ ... خَمَدت سريعاً لامعات علوّه بالأمس أصبح نعمة لصديقه ... واليوم أمسى رحمة لعدوّه وكان رحمه الله تعالى جيداً في حق أصحابه، مثابراً على تقدمهم فَرِحاً بهم في رحابه يبذل مهجته دونهم قبل ماله، ويجتهد في حق كل منهم حتى يصل إلى بلوغ آماله. وأحبّه أهل حلب كثيراً ووجدوا به فرشَ أيامه وثيراً، لأنه عاملهم بلطفٍ زائد ولين جانب وخضوع قرنه بجودٍ لم يُردّ أحد منهم وهو خائب، إلا أنه تحامل على أرغون شاه وزاد، وغدر به وكاد، وبعض من اطّلع على باطن أمره بَسَط عُذره، والله تعالى يتولّى ظاهر أمره وسرّه. أياس الأمير فخر الدين الشمسي مملوك الأمير شمس الدين سُنفر الأعسر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه. كانت له معرفة ودُرْبَه، وقوة نفسٍ يعدّ بها أن الناس من رجُلٍ والأرضَ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 تربه، وحزم يؤدّيه إلى أن الإنسان كيفما كان فهو في دار غربه، فلهذا عمل شدّ الدواوين وما حَل، وفعل فيه ما حَرُم وما حَلّ. ثم إنه عُزل وتوجه إلى طرابلس، وكان فيها مَصرعه، وترك من دمشق مَرْبعه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وكان نائباً بقلعة الروم، ثم نقل منها إلى حَماة، ثم إنه رُسم له بشدّ الدواوين بدمشق، فوصل إليها وباشر ذلك عوضاً عن الأمير زين الدين كَتْبغا في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة، وصلى الجمعة بالخلعة مع نائب دمشق في المقصورة، ولم يزل به إلى أن عُزل الأمير سيف الدين طوغان. جاء من القاهرة في ثالث عشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وفي ذي الحجة توجه الأمير فخر الدين أياس المذكور من دمشق إلى طرابلس ليكون مقيماً في جملة الأمراء، وعزل من شدّ الدواوين بدمشق. أَيان بفتح الهمزة، والياء آخر الحرف، وبعد الألف نون: الأمير سيف الدين الساقي الناصري. كان أميراً بمصر يَسكن حِكْرَ جَوْهَر النوبي، اشترى دار الأمير شرف الدين حسين بن جُنْدُربك، ولمّا عاد أمير حسين إلى القاهرة أراد ارتجاعها، فدخل أيان على الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي فمنعه منها، وكان السلطان قد رسم بإعادتها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 إنه أُخرج إلى دمشق أميراً، فمكث بها مدة. ثم إن قوصون طلبه إلى مصر بعد خلع المنصور، فتوجه إليها، ولمّا جرى لقوصون ما جرى عاد إلى دمشق حاجباً صغيراً، وعَظُم إلى أن توجّه إلى حمص نائباً، وأقام بها قريباً من تسعة أشهر، ثم عُزل بالأمير سيف الدين قُطْلُقْتُمر الخليلي، وتوجّه أيان الساقي إلى غزة نائباً، فتوجه إليها مكرهاً، وأقام بها مدة شهر أو أكثر، ومرض مدة اثني عشر يوماً فكان بها أيّانُ وفاة أيَان، وأصبح بعد خبراً العَيان، وحُمل إلى القدس ودفن به. وكانت وفاته في ثالث شهر رجب سنة ست وأربعين وسبع مئة. وكان شديد الوطأة والعَبْسة، طويل النفس في الجَلْسة، لا يراعي خليلاً، ولا يحترم مَنْ كان جليلاً. أيبك الأمير عز الدين التركي الحمويّ نائب السلطنة بدمشق، تولاّها بعد الأمير علم الدين الشجاعي في شوال سنة إحدى وتسعين وست مئة، ثم إنه عُزل عنها في سنة خمس وتسعين وست مئة، وولّى العادلُ مكانه مملوكه أغرْلو، وأُمسك بالقاهرة في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وست مئة وجُهّز إلى قلعة صرخد. ثم إنه وُلي نيابة حمص، فوصل إليها وأقام بها شهراً واحداً إلى أن حُمّ أمر الحموي، فقضى نحبه ولحق من الأموات صَحبه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة في عشري شهر ربيع الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 وكان معروفاً بالشهامة، موصوفاً بالحزم في الظعن والإقامة، عنده اتضاع، وسكونٌ يألفه من الرضاع، ولما توفي في حمص نقل إلى تربته التي هي شرقي عَقَبة دُمّر. أًيْبَك الأمير عز الدين الموصلي المنصوري نائب طرابلس. كان مهيباً ذا وقار، كأنّ مَشيبه خليط ثلج وَقار، مجاهداً في الفرنج والتتار، مباعداً ما يُكسِب الآثام والأوزار. سيرته جميلة، وثناؤه يحكي نفسُه زهْر خميلة. من خير أمراء دهره وأشرف أبناء عصره، ولم يزل إلى أن أُبعد الموصلي عن أحبابه، وانفرد عن لِدَاته وأترابه. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس سنة ثمان وتسعين وست مئة. أًيْبَك الأمير عز الدين الطويل المنصوري الخزندار. كان أميراً ديِّناً، مؤهّلاً للصلاح معيِّناً، يواظب على التبكير إلى الجمعة، ويواصل التكبير بالتهليل مع إرسال الدمعة، تأمّر على الحج غَير مرّة، ولم يظلم أحداً بعصمة الله مِثقال ذرّة، طعَنَ في سنّه، وكم طَعَن في قِرنه، ولم يزل على حاله بدمشق إلى أن مضى لربّه حميداً، وترك " مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 ووفاته رحمه الله تعالى يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول سنة ست وسبع مئة. أيبك الأشكري الأمير عز الدين، أحد الحجاب بدمشق. كان من جملة أمراء الطبلخانات بها. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. أيبك الأمير عز الدين الزويزاني الحاجب. تجاوز السبعين، وتوفي بقرية من قُرى الساحل في مستهل شعبان سنة تسع وتسعين أو سنة سبع مئة. أيبك الأمير عز الدين الرحّالي، بالحاء المهملة المشددة. كان بنابلس أظنه والياً. توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع وسبع مئة، وكان له أولاد ملاح فضلاء. أيْبك النجيبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 الأمير عز الدين الدوادار. كان أحد الأمراء، وفرداً في الكبراء، ولي البَرَّ فصدق في أقواله وبَرّ، فشكِرَتْ سيرته ما سَكِرَت بل صَحَتْ، وصحّت سَريرته، ولم تطل مدة الولاية، ولا امتدت به إلى غاية، إلى أن خَمَدت جمرته، وانجلت من خمار الحياة غمرته. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبع مئة. أيبك الأمير عز الدين الجمالي. تولّى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بلبان البدري في ثامن عشر جُمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ثم ورد المرسوم بأن يكون الأمير سيف الدين بُهادر الشمسي أحدَ الأمراء بدمشق نائباً بقلعة دمشق، ويكون الأمير عز الدين أيبك نائباً بالقلعة، وذلك في شهر رمضان من السنة المذكورة. ثم إنه ورد المرسوم بأن يتوجه إلى نيابة الكرك في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وسبع مئة، فتوجه إليها وعُوّض عنه في نيابة دمشق بالأمير سيف الدين بهادر الشمسي. أيبك الأمير عز الدين المعروف بكرحبي من كبار الأمراء دمشق ومقدّميهم، كان شجاعاً فارساً مقدّماً مجاهداً يحفظ أحاديث الجهاد. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 أيْبَك الأمير عز الدين المعروف بالبُدَيوي الظاهري، الجَمْدار المُشد على الأملاك الظاهرية. كان له فهمٌ ومعرفة. توفي بدار الحديث الظاهرية في ثاني عُشري المحرم سنة تسع وسبع مئة. أَيْتَمُش الأمير سيف الدين المحمدي. كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، وكان سكنه بظاهر دمشق بناحية مسجد القصب، وهو والد خليل الذي يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. كان الأمير سيف الدين تنكز يكرُمه وله عنده منزلة يرعاها. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت سابع عشر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. أَيْتمش الأمير سيف الدين الأبو بكري الناصري. كان أحد الأمراء العشرات بدمشق. توفي رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 أيتمش بفتح الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وتاء ثالثة الحروف، وميم بعدها شين معجمة: الأمير سيف الدين الجَمْدار الناصري. كان من مماليك الملك الناصر، أمّره طبلخاناه وهو وستة أمراء في يوم واحد، وكان هو الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب وبَيْدمر البدري، وذلك فيما يقارب سنة أربع عشرة وسبع مئة. كان كثير السكون والأَناة، بعيداً من الشر والرداة، وافر الحشمة والأدب، حازم الرأي لا يقع في أمر يسوؤه فيه من عَتَبْ، ليس فيه شرٌّ ألبتّه، إذا رأى دنَسَ عيبٍ قرصه وحتّه، يجود في موضع الجود، ويحفظ ما هو في يده موجود. ولي الوزارة في أيام الصالح إسماعيل، ثم عُزل منها، ووليَ الحجوبيّة بالديار المصرية، وتزوّج ابنته الأمير علاء الدين مُغُلْطاي أمير آخور - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الميم موضعه - ولمّا قُتل أرغون شاه نائب الشام - على ما تقدم في ترجمته ألزَمَه الأمراء أرباب الحلّ والعقد بالديار المصرية أن يتوجّه إلى دمشق نائباً، فامتنع، فما فارقوه حتى وافق، ودخل إلى دمشق على خَيْله في نفرٍ قليل من جماعته في حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة، وأقام بها لا يَرُدُّ مرسوماً، ولا يَعزل ولا يُوَلّي طَلَباً للسلامة، ولم يزل بها إلى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فحضر إليه الأمير سيف الدين بُزْلار، وحلّفه وحلّف جميع العسكر، ثم إنه طُلب إلى مصر، فخرج من دمشق يوم الخميس ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وخرج العسكر معه إلى الجَسورة، وودّعوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 ولما وصل مصر دخل إلى السلطان وسلّم وقبّل الأرض، وسلم على الأمراء، وتوجّه إلى الأمير سيف الدين قُبْلاي - الآتي ذكره - نائب مصر، فأمسكه وجُهّز إلى الإسكندرية، ولم يزل بها إلى أن ورَدَ المرسوم على نوّاب الشام ومضمونه أنّ الأمراء ببابنا الشريف، وقفوا لنا وشَفعوا في الأمير أيتمش، وسألوا الإفراج عنه لأن ذنبه كان خفيفاً، فتُعَّرِفونا مال عندكم في هذا الأمر، فأجاب الجميع بأن هذا مصلحة، فأُفرج عنه وجُهّز إلى صفد ليكون بها مقيماً بطّالاً إن اشتهى يركب وينزل، وإن اشتهى يحضر الخدمة، ووصل إليها في أوائل العشر الأواخر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، فأقام بها إلى أن طَلَبه بِيْبْغَاروس لمّا ورد دمشقَ خارجاً على السلطان، فاعتذر بأنه ضعيف، فأخذوه في محفّه وأقام عنده على قبّة يلبغا، ونفع أهل دمشق وشفع فيهم مرات. ولمّا هرب بيبغا توجّه هو إلى السلطان الملك الصالح وحضر معه إلى دمشق، وأقام إلى أن توجّه السلطان إلى مصر في سابع شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة بعد أن خَلَعَ عليه، وولاّه نيابة طرابلس فتوجّه إليها. ولم يزل بها مقيماً في نيابتها إلى أن جاء إلى دمشق من ينعاه، وتألّم له من كان يودّه ويرعاه. وتُوفي رحمه الله تعالى في سلخ شهر رمضان بطرابلس، وذلك في سنة خمس وخمسين وسبع مئة. ولد بدمشق داران: دار الأمير سيف الدين ينجي التي بَرّا باب السلامة ودار طيبغا حاجي التي في الشرف الأعلى الشمالي. وكانت ابنتاه إحداهما مع الأمير علاء الدين مُغُلْطاي القائم في تلك الدولة بإمساك النائب بيبغاروس والوزير منجك وغيرهما، والأخرى مع الأمير سيف الدين طشُبغا الدودار، وهو نائب الشام، فكان هو وصهراه عبارة عن تلك الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 أَيْدغْدي الأمير علاء الدين شُقَير. لمّا كان أميراً بدمشق كان عند الأفرم حَظيّاً، مُلازَمه بُكرة وعشيّاً، وكان ينادمه ويخلو معه على شرابه، ويَشْركهُ في لذّاته ونَيْل آدابه، ولمّا حضر الملك الناصر محمد من الكرك استحال على الأفرم، واختص بالناصر، وكان يحرق عليه الأُرَّم، وربما أنه الذي أوقد جَمْرَ الغضب عليه وأضرم، وصار عند الناصر من الخواصّ المقربين وأمراء اَلْمَشْوَر المدرّبين، وربما أفضى إليه بأسرار وتسلط به على إطفاء شَرار جماعة من الأشرار، ولكنه بعد قليل مجّه، وجادله فجدّله لما حجّه، قبض عليه وعلى غيره وقصّ جناحَ النجاح من طَيْره، وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان آيدُغدي شقير وبكتمر الحاجب وشرف الدين أمير حسين بن جندر هؤلاء الثلاثة أمراء عند الناصر محمد ثلاثة الأثافي والأصحاب الذين لا يخفى من السلطان عنهم خافي، وهم مَوْضع سرّه، وجعل الثلاثة أمراءَ مئين ومقَدَّمي ألوف، وكان أكبرهم رُتبةً أيدغدي. حكى لي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر قال: قال لي السلطان مرة: يا أمير شرف الدين قطّ ما أستشيرك في أمر أحد وإمساكه فتقول لي: أمسكه، بخلاف الأمير علاء الدين أيدغدي. قال: قلت له: يا خوند أيش هو أنا وأيش هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 أيدغدي حتى تُشاورنا أنت، ما تقلق في الليل؟ فقال: بلى والله، قلت: ذاك الوقت أطلبْ من الله، ومهما حسّنه الله تعالى في عقلك افعل به واعمل عليه، قال: ولم يكن إلا بعد أيام قلائل حتى أمسكه، وما أثنى عليه بخير. وداره بدمشق معروفة تحت مئذنة فيروز، وهي دار حَجّاج بن مَسلَمة بن عبد الملك بن مروان، وكثيرٌ من الناس يظنها دار الحجّاج بن يوسف الثقفي، وإنما هي كانت أولاً للحَجّاج، ولما ولد حجاج بن عبد الملك سماه والده حجاجاً باسمه وقال: سمّيته الحَجّاج بالحَجّاج ... بالناصح المُعاون الدمّاجِ نُصحاً لعمري غير ذي مداجي فوهب الحجاج بن يوسف داره هذه التي بدمشق له، وهذا الدار كانت للأمير علاء الدين أيدغدي شقير، ثم إنها اتصلت للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم للأمير سيف الدين بَلْبان طُرْنا، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، ثم للأمير نور الدين بن الأفضل. أيُدُغدي الأمير علاء الدين الظَّهري. كان أمير عشرة، وكان نقيب النقباء بدمشق، كان شيخاً قد أسنّ، وسلك كلًّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 طريق عَنّ، قد مخض التجارب، وعرض للتصالُح والتحارُب ثَوّر نعمة طائلة وسَوّر أملاكاً هائلة. وكان يحفظ كفاية المتحفّظ ويسردها، ويعرف حُلَى الأنبياء عليهم السلام ويوردها. ولما أُمسك تنكز أُخرج من نقابة النقباء وجُهّز إلى نيابة قلعة صَرْخد، فأقام فيها مُدة، وحضر إلى دمشق. ولم يزل على حاله إلى أن لم يجد له الظهيري ظهيراً، وخَمل ذكره بعد أن كان شهيراً. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. أَيْدُغدي الأمير الكبير علاء الدين الخوارزمي، أمير حاجب بدمشق. توفي رحمه الله تعالى ليلة الأحد ثاني عشر شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكان توجه رسولاً إلى الغرب، وكان شيخاً طُوالاً تامّ الهيئة، عنده فهمٌ ومعرفة، وله كتبٌ يطالع فيها، وعلى ذهنه أشياء حسنة من تاريخ وغيره. أَيْدُغْمش بفتح الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وضمّ الدال المهملة، وسكون الغين المعجمة، وبعد الميم شين معجمة: الأمير علاء الدين أمير أخور الناصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 كان أولاً من مماليك الأمير سيف الدين بلبان الطبّاخي الآتي ذكره، ولما جاء الناصري من الكرك ولاّه أمير آخور عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وأقام على ذلك إلى أن توفي الملك الناصر. وكان ممّن قام مع قوصون في أمر المنصور أبي بكر، ثم إنه وافَقَه على خَلْعه، ولولا اتفاقه معه لم يتم لقوصون أمرٌ. ثم إنه لمّا هرب من الفخري - على ما تقدّم في ترجمة ألطنبُغا - وقارب بُلْبِيس اتفق الأمراء مع أَيْدُغْمش على قوصون وحِزبه، فوافقهم على ذلك، وقبض على قوصون وجماعته، وجهّزهم إلى الإسكندرية، وجهّز من تلقّى ألطنبغا ومَنْ معه وأمسكهم، وجهّزهم إلى الإسكندرية أيضاً، وكان أيدغمش في هذه المرّة هو المشار إليه، وجهّز ولده ومعه جماعة من الأمراء المشايخ إلى الناصر أحمد إلى الكرك، ولمّا استقرّ أمرُ الناصر أحمد في مصر أُخرج أيدغمش إلى حلب نائباً، فلما وصل إلى عين جالوت لحق به الفخريّ مستجيراً به، فأكرم نُزُله وأضافه ونوَّمه في خيمة عنده، واطمأن الفخري وخلع آلة سلاحه ومماليكه، ولمّا كان بكرة أمسكه وجهّزه إلى الناصر. ثم إن أيدغمش توجّه إلى حلب ولم يزل بها مقيماً إلى أن تولى الصالح فرُسم له بنيابة الشام، وحضر إليه الأمير سيف الدين ملكتمر السرجَواني وأخذه من حلب وأتى به إلى دمشق، فدخلها بُكْرةَ الخميس عشرين صفر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى يوم الثلاثاء بُكرة ثالث جمادى الآخرة من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 المذكورة، وعاد بعد ما أطعم طيوره، ونزل وجلس في دار السعادة وقرئت عليه قصصٌ يسيرة، وأكل الطعام وعلّم فوطة العلائم، وعرض طُلْبَه ومُضَا فيه، وقدّم جماعةَ وأخّر جماعة، ودخل ديوانه وقرؤوا عليه مخازيم، فقال لهم: هؤلاء الذين تزوّجوا من جماعتي، اقطعوا مرتبهم، وأكل بعد ذلك الطاري، وجلس هو والأمير رملة بن جمّاز يتحادثان، فسمع حسَّ جماعةٍ من جَواريه يتخاصَمْنَ، فأخذ العصا ودخل إليهن وضرب واحدة منهنّ ضربتين وأراد أن يضربها الثالثة فسقط ميّتاً، فَجَأة الموت فَجْأة وما سُمع له نَبْأه. فأمهلوه إلى يوم الأربعاء بكرة، وغُسِّل ودفن خارج ميدان الحَصا في تربةٍ عُمِّرت له هناك. وكان زائد الجود بالغ الإكرام للوفود، قلّ من سَلّم عليه إلاّ وساق وفد الخلعة إليه. وكان الملك الناصر محمد قد أمرّ أولاده الثلاثة: أمير علي، وأمير حاج، وأمير أحمد لعلوّ مكانته عنده وما يراه منه إذا أورى زنده، وكان قد بلغ الملك الصالح أنه ربما يباطن الناصر أحمد، ويلاحظ دولتك بطَرْف أرْمَد، فأمر من يحضرُ للقبض عليه، فتلقاه الأمير أيان الساقي قي قَطْيَا، وقد توجه للقبض عليه فأعلمه بموته وردّه. ولم أعهد أنا في عمري إلى حين تسطيرها في سنة ست وخمسين وسبع مئة أحداً من نُوّاب الشام توفي بدمشق غير هذا الأمير علاء الدين أيدغمش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 أيدكين الأمير علاء الدين الأركشي. كان أوّلاً برُمح يسوق في البريد من جملة بريدية مصر، وكان محَذلقاً، توجه إلى البلاد الشرقية وعاد في مهم، فراج عند السلطان الملك الناصر محمد، وحكى له أنه مرت به أهوالٌ عظيمة في سفرته وتحيّل بحيل كثيرة حتى نجا، وذكر للسلطان شيئاً يُسْتَحْيا من ذكره، فضحك السلطان من ذلك وأمّره وولاّه القاهرة، فظلم وجار وأشبهت أيامه الظلم، وتاه في الولاية وزاد، ولم يعبأ بأحد من الخاصكية، فاتفقوا عليه وشَكِوه إلى السلطان، فعزله. وما أظنّه أقام أكثر من سنة، وعاد إلى دمشق وكان السلطان قد ولاّه بعدما عزل الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكانت من غرائب السلطان عزل مثل هذا وولاية هذا، وكان قد عُزل من ولاية القاهرة في حادي عُشري جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وتولاها بعده سيف الدين بلبان الحُسامي البَريدي. أَيْدَمُر الجناحي، الأمير عز الدين. كان نائباً بغزّة، له أموالٌ كثيرة، وفُرش سعادته وثيرة، وفِكرتُه في تحصيل المال للاكتساب مثيرة، حصّل من الذهب ما لو فرّقه على العفاة لمَا ذهب، وملك من العَين جُمله، تعجز المطايا عن النهوض به وما تطيق حَمله، إلا أنّه درب السياسة، واتّصف بالرياسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 ولم يزل بغزة إلى أن قصّ الموت من الجناحيّ جَناحه، وأراه في قَبْره إمّا خيبتُه وإما نجاحه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة، وخلّف تركة هائلة من جملتها ما لا ورد به في وصية، ولا علم به أحد، بل تبرّع بإحضاره فخر الدين العزازي وكانت هذه الجملة، ذهباً وغيره، ما قُوّم بستين ألف دينار. أَيْدُمُر الزرْدَكاش الأمير عز الدين. قَفَّز مع الأفرم لأنه كان صِهره ولاقَيَا قرا سُنقر، ودخلا بلاد التتار إلى خَربندا، كما تقدم في ترجمة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، وطلب ابنه وابن الأفرم إلى الديار المصرية فتوجها. أيدمُر الأمير عز الدين الظاهري. كان نائب الشام في الأيام الظاهرية. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع مئة برباطِهِ بالجبل، ودُفن هناك بالتربة على نهر ثُورا قبالةَ المدرسة الماردانية الحنفيّة. وكان السلطان قد ولاّه نيابة الكرك، فأقام هناك إلى أن حضر السلطان الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الظاهر إلى الكرك في المحرم سنة سبعين وست مئة وعاد منها وأخذ الأمير عز الدين معه إلى دمشق فولاّه نيابتها عوضاً عن الأمير جمال الدين النجيبي فأقام بها. أيدمُر الأمير عز الدين دُقْماق نقيب العساكر المصرية. كان محبوباً إلى الناس، فيه خيرٌ ورحمة. توفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. أيدمُر الأمير عز الدين المَرْقبي. كان من خواصّ الأشرف، وأقام أميراً بدمشق مدة، ثم إنه نُقل إلى طرابلس على إقطاع إمرة، فأقام بها إلى أن توفي هناك في سنة أربع وأربعين وسبع مئة رحمه الله تعالى. وكان شكلاً مليحاً. أيدمُر ابن عبد الله عز الدين السَّنَائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 كان جندياً، كم اعتقل للغزاة رمحاً وتقلّد هندياً، وله معرفة بالتعبير، وكلامه في ذلك ألطفُ من نسمة عبير، وله معارف أدبية، وصَوارف إلى النكت العربية، ولم يزل يصوغ شعره إلى أن أظلم الوجود في عين السَّنائي، وقَرّب إليه من الحتف ما هو نائي. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في أول جمادى الأولى سنة سبع مئة، على ما ذكره الأُدْفُوي في تاريخه البدر السافر. وكان عتيقَ أَقْطُوان الحاجبي والي قَلْيوب، ووَرِثه ابنه إبراهيم بالولاء. ومن شعره: تَخِذَ النسيمَ إلى الحبيبِ رسولاً ... دنفٌ حَكاه رقّةً ونُحولا يُجري العيون من العيون صبابة ... فَتَسيل في أثر الغريق سُيولا ويقول من حَسد له: يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا ومنه: بعلبكُ دارٌ ولكنها ... دارٌ بلا أهل وجيران كأنها ليلةُ وَصْلٍ مضت ... وأهلها ليلة هجران وأنشدني من لفظه العلامة أبو حيان قال: أنشدنا المذكور لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 سَفَرت فخلتُ الصبحَ حين تَبَلَّجا ... في جنح فَوْدٍ كالظلام إذا سجا فتانةٌ فتّاكة من طرفها ... كم حاول القلبُ النجاة فما نجا نَحَلتْ نضيرَ قامَةَ قدِّها ... وحَبَتْ مهاة الجزع طرفاً أدُعَجا تفترُّ عن بَرَدٍ تقيٍّ بَرْدُه ... بالرَّشف حَرَّ حُشاشتي قد أثْلَجا ما إن دخلتُ رياض جنّةِ وجهها ... فرأيت عنها الدهر يوماً مَخْرَجا ولَمَا رشفت رحيق فيها ظامياً ... فازددت إلا حُرقَة وتوهجا تعطو برخص طَرَّفته بعَنْدم ... وتُريك ثغراً كالأقاح مُفَلّجا أنّى نظرتَ إلى رياض جمالها ... عاينت ثَمَّ مُفَوَّفاً ومُدَبَّجا زارت وعُمر الليل في غُلَوائه ... فغدا من الشمس البهيّة أبهجا وسرى نسيم الروض ينكر إثرها ... فتعرَّفَت آثاره وتأرَّجا وأنشدني أيضاً قال: أنشدني المذكور لنفسه: وَرَدَ الوَرْدُ فأوْرِدْنا المداما ... وأرِحْ بالراح أرواحاً هُيامى واجْلُها بِكْراً على خُطّابها ... بنت كَرْم قد أبَت ألاّ كراما ذات ثغرٍ لؤلؤي وَصْفُه ... في رحيقٍ رَشْفُه يَشْفي الأُواما بُرقِعت باللؤلؤ الرطب على ... وَجْنَةٍ كالنار لا تألو ضِراما أقبلت تسعى بها شمس الضحى ... تُخجل البدرَ إذا يبدو تَماما بجفون بابليّ سِحرُها ... سُقمُها أبدى إلى جسمي السَّقاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 ونضيرُ الورد في وجنتها ... نَبْتُه أنْبَت في قلبي الغراما ودّت الأغصانُ لمّا خَطَرت ... لو حكت منها التثني والقَواما قال لي خالٌ على وجنتها ... حين نادَيْتُ: أمَا تخشى الضِّراما منذ ألقيتُ بنفسي في لَظى ... خدِّها ألفيتُ بَرْداً وسَلاما قلت: شعر متوسط. أيْدمُر الأمير عز الدين الخطيري. حَبَسه السلطان بعد مجيئه من الكرك، فسعى له مملوكه بدر الدين بيلبك أستاذ داره مع الأمير سيف الدين طغاي الكبير - الآتي ذكره في حرف الطاء مكانه - ولما خرج طلب حسابه من مملوكه المذكور، فقال له: سعيتُ لم به إلى أن خُلِّصْت. ثم إنه عظم شأنه عند السلطان، وكان يجلس رأس الميسرة، وأعطاه إقطاع مئة وعشرين فارساً، وكان لا يمكنه السلطان من المبيت في داره بالقاهرة، ولد دار مليحة في رُحَيبة العيد فينزل أيها بكرة، ويطلع إلى القلعة بعد العصر، كذا أبدا، وكانوا يرون ذلك تعظيماً له. وكان في الأصل مملوك شرف الدين أوحد بن الخطير والد الأمير بدر الدين مسعود الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - مكانه، وكان لا يلبس قِباءً مطرّزاً، ولا يدع أحداً عنده يلبس ذلك. وكان يُخرج الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 وكنت يوماً عند أستاذ داره هذا بدر الدين بيلبك وقد زوّج السلطان ابنته بالأمير سيف الدين قوصون وقد ضربوا لدور الأمير عز الدين الخطيري دينارين وزْنُهما أربع مئة دينار وعشرة آلاف درهم برسم النقوط خارجاً عن عشرة تفاصيل قماش حرير ملونة، وقالوا له: يا خوند هذا السكّر الذي يعمل في الطعام ما يضر أن نعمله غير مكرر؟ فقال: لا، فإنه يبقى في نفسي أنه غير مكرر. وعمّر الجامع المشهور في رَمْلَة بولاق على البحر وإلى جانبه الربع المشهور، يُقال إنه غرم عليهما نحواً من أربع مئة ألف درهم، وأكله البحر في حياته، ثم إنه رمَّه وأصْلحه بجملة من المال. ولم يزل على حاله إلى أن وقع الخطيري من الموت في خَطَر، وراح كأنه لم يفز بأمنية ولا وطر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن. وخلّف ولدين أميرين: علياً ومحمداً. وكان ذا شيبة مبيّضة، كأنها في النقاء تجسّدت من دموع مرفضّة، أو تكوّنت من أزاهر روضةٍ غضّة، بوجه يُقطَفُ الورد من وَجَناته، والجلّنار من خمائله وجَنّاته، كريم الكف إذا نوّل، كبير النفس إذا أعطى أحداً أو خَوَّل، فيه تجمّل وحِشمة، وله همة وعزمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 أَيْدمُر الأمير عز الدين أحد الأمراء بالديار المصرية. ولاّه الملك الصالح نيابة غَزّة، فتوجّه إليها وأقام بها مُدّة، ثم إنه استعفى بعد موت الصالح وعاد إلى القاهرة. ولمّا كانت الكائنة على يلبُغا اليحيوي في الأيام المظفريّة رُسم له أن يتوجّه إلى دمشق للحَوْطة على موجود يلبغا والأمراء الذين كانوا معه من إخوته وغيرهم، فحضر إليها ومعه الأمير نجم الدين بن الزيبق في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأقام بدمشق مدة تزيد على الثلاثة أشهر إلى أن أباع موجودهم، وتوجّه بالأموال جميعها إلى مصر هو والأمير شمس الدين آقسنقر أمير جاندار الذي أحضر أرغون شاه إلى نيابة دمشق، ولمّا وصلا بالمال إلى المظفر لم يلبثا إلا قليلاً، قريباً من الشهر، وخرجوا على المظفر، ولم يكن معه أحد من الأمراء إلا الأمير عز الدين الزرّاق وآقسنقر وأيدمر الشمسي، فنقم الخاصكية عليهم ذلك، وأخرجوهم إلى الشام، فوصلوا إلى دمشق نهار العيد أول شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. ورُسم للزرّاق بالمقام في دمشق، ثم ورد مرسوم الملك الناصر حَسَن بتوجهه إلى حلب، فتوجّه إليها في العشر الأوسط من شوال وَرَدَ منشوره إليه فيما بعد بإقطاع الأمير سيف الدين أَسَنْدَمُر الحسني. وكان ديّناً، وطيء الجانب ليّناً، فيه خير وبرّ، وحِفظٌ لما عنده وسِرّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 ولم يزل على حاله إلى أن فرغ أجل الزَّرَّاق ورِزقه، واتّسع عليه من الموت خَرْقُهُ، وتوفي رحمه الله تعالى. وكنت أنا بالقاهرة - في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وكتبتُ تقليده بنيابة غزة ارتجالاً من رأس القلم وهو: الحمد لله الذي زاد أولياء دولتنا القاهرة عزّاً، وجعل أصفياء أيامنا الزاهرة كُفاة تعود الممالك بهم حِرزاً، وجرّد مِنْ أنصارنا كلّ نَصْل راعَ حَداً وراق هزّاً، ووفّق آراءنا الشريفة لأن يكون مَنْ نعتمد عليه يُسنَد إليه العز ويُعزى. نحمده على نَعَمه التي عَمَّت، ومِننه التي طَلَعت أقمارها وتمّت، وأياديه التي قادت الألطاف إلى حَرَمنا وزَمَّت. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مهدّ الإيمان قَصْدها، وجدّد الإيقان عَهْدَها، وشيّد الإدمان مَجْدَها، وأيّد البرهانُ رُشدها. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى به الأمة، وبدا به الأمور المهمّة، وجلا بأنوار بعْثَته من الكفر الدياجي المُدْلهمّة، ونفى بإبلاغ رسالاته ثبوت كلّ ثبور، وألَم كلّ ملمّه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تلألأت أنوارهم، وتوضحت في آفاق المعالي أقمارهم وتوشّحت بلآلي السيادة أزهارهم، وتفتحت للسعادة بصائرهم وأبصارهم، صلاةً ظلالُ رُضوانها مديدة، وخِلالُ غفرانها عَديدة، ما افترّ ثغْرُ صْبح في لَعَس ظلام، واهتز في الحرب قَدُّ رمحٍ، وتورد بالدم خَدّ حسام، وسلم، وبعد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 فإن ممالكنا الشريفة منها ما هو عالي المكانة، داني المكان مُوَفّر الاستكانة، موفَّى النعمة بالسكان، مُوَطَّأ الأكناف، مُوَطَّد الأركان، موسَّع الأفنية، موشَّع الأفنان، وقد جاوز الأرض المقدّسة، وبَرَزَ رافلاً من خمائله في حلله المقدسة، ونوّه الذكر مَحاسنه لما نوّع الاعتدال خيره وجنّسه. كم فيه من كثيب رمل أوعَسْ، وحديقة إذا بكى الغمام عليها تبسم ثغر زهرها الألعس، وروضٍ حكى القدّ الأملدَ قضيبه الأملس، قد اكْتنفه البَرّ والبحر، وأحاطت به المحاسن إحاطة القلائد بالنحر، وبرز بين مصر والشام برزخاً، وكثرت خيراته فهو لا يزال مَهَبّ رُخاء الرَّخا، وإلى غزة ترجع هذه الضمائر، وعلى سرها تدل هذه الأمائر، كاد النجم ينزل إلى أرضها ليتنزه، وقصّر وصف الواصف عنها ولو أنه كُثَيّر وهي عَزّه، وكانت غُرّة في وجه الشام فنقّطها سواد العين بإنسانه فصارت غَزّه، وكفاها فخراً بما يُروى عنها أن الإمام الشافعي رضي الله عنه منها. ولما كان المجلس العالي الأميري وألقابه ونُعوته من أعيان هذه الدولة، وأعوان هذه الأيام التي زانها الصَّون والصّولة، قد اتصف بالحلم والباس، والأناة والإيناس، والمهابة التي طَوْدُها راسخ راس، والشجاعة التي مرامها صَعْبُ المِراس، طالما جُرّد منه حسام حُمِدت مضاربه، وجُهّز في جيشٍ نَصَره الله على مَنْ يحاربه، وأطلع في أفق مهمٍّ شريف أحدقت به كواكبه اقتضت آراؤنا الشريفة إعلاء رتبته وإدامة بهجته وسرور مهجته وتوفير حركته، وأنْ نُفَوّض إليه تقدمة العسكر المنصور بغزّة المحروسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 فلذلك رُسم بالأمر العالي. المولوي السلطاني الملكي الصالحي العمادي أن يستقر فيما أشرنا إليه من ذلك، اعتماداً على ما قلناه من همّته، واستناداً إلى ما جرّبناه من شيمته، واجتهاداً في وقوع اختيارنا الشريف لِمَا أحمدَنا في الإخلاص من ثبوت قدمه، واعتقاداً في نهوضه بهذا الأمر الذي ألبسناه حُلَلَ نِعَمه، وارتياداً لاحتفاله بهذا المهم الذي لا يزال طائعاً طائفاً بحَرَمه، فليستقر فيما فوّضناه إليه مجتهداً في رضى الله تعالى، فإن ذلك أَوْلى ما نطق به اللسان، ورضى خواطرنا الشريفة، وهو مغدوق برضى الله الذي أمر بالعدل والإحسان، معتمداً على طلب الحق الجلي، والإقبال على المُستغيث به بوجه وَضِيّ، خُلُق رضيّ وعزم مَلِيّ، حتى يُنصف المظلوم من ظالمه ويُرشد الضالّ عن الصواب إلى معالمه، ويَبْسُطُ العدل في رعايانا، ويُجريهم على ما ألِفوه من الأمن والمَنّ من سجايانا؛ لأن العدل يُعمِّر البلاد، والجَوْر يُدمِّر العباد، والحاكم العادل من المطر الوابل، والأسَد إذا حَطَم خير من الوالي إذا ظَلَم، وهو يعلم أمر هذه الدنيا وما إليه تَؤول، ويتحقق أنه راعٍ وكل راع مسؤول. والشرع الشريف فليتقدم برفع مَناره، وتعظيم شِعاره، فإنه المحجّة السَّويّة والحجة القَويّة، فما شددنا السيف إلاّ لنُصرة الشرع، ولا نعتقد إلاّ أنه الأصل وبقية السياسات فَرْع. والعَسكر المنصور، فهم منا بمرأى ومسمع، وعنايتُنا بهم تامّة تمنحهم الخير وللشرّ تدفع، فليُراع حالهم ويَرْعَها، ويتّبعْ أصول أمورهم وفَرْعَها: إقطاع من مات منهم إلى رحمة الله تعالى لولده أو لقريبه، وكبيرهم وصغيرهم معامل بتوقيره وتوفير نصيبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 وليُلزمُهُم بعمل الأيزاك المهمّة، والركوب في كل موكبٍ، والنزول في كل خدمة، حتى يكونوا على أهُبّة لورود المهمّات الشريفة والحركات التي هي بهم في كل وقت مُطيفة، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك الأمور، وفِكاك الأعناق من الأوزار وشِباك الأجور، فلا يبرح مِنْ حَرَمها المنيع ولا يسرح في سوى روضها المَريع، فإنّ مَن لازمها سَعِدَ دنيا وأخرى، وحاز في الدارين مَنْقَبة وفخراً، والله يزيده ممّا أولاه، ويُفيده الإعانة على ما ولاّه. والخطّ الشريف - أعلاه الله تعالى - أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى. إيْرَنْجي بكسر الهمزة وسكون الياء آخر الحروف، وراء بعدها نون ساكنة وجيمٌ وياء آخر الحروف: النُّوَيْن التتري خال القان بوسعيد. لمّا تبرّم من نائبة جوبان واستيلائه على الأمور واحتجاره عليه، تنفس إلى مقدمين يكرهون جوبان منهم أيْرنجي هذا وقُرْمُشي ودقماق، فقالوا له: إن أردت قتلناه. واتفقوا على أن يبيّتوه، وذلك في جمادى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ووافقهم على ذلك أخو دقماق ومحمد هريرة ويوسف ويعقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 المسخر، فهيّأ قُرمشي دَعوةً، ودعا جوبان إليها فأجاب ونفّذ له تَقْدمة سنيّة فقبلها، فنصحه تتريّ، فتحفّظ في الهروب، وترك خيامه، وأقبل قُرمشي في عشرة آلاف، وسأل عن جوبان، فقيل: في مخيّمه، فهجم عليه، وثار أجناد جوبان في السلاح، والتحم القتال، فقُتل نحو ثلاث مئة، ونَهبَ قُرمشي حَواصل جوبان، وساق في طلبه، وهرب إلى مَرَنْد معه ولدُه حسن وابنان، فأكرمه صاحب مَرَنْد، وأمَدّه بخيل ورجال، وأتى تبريز، فتلقاه علي شاه وزيّن البلد له، وجاء في خدمته إلى بوسعيد، وأثنى على جوبان وعلى شفقته وأنه والد، ثم دخل جوبان وبيجه كَفَنٌ وهو باكٍ وقال: يا خوند قُتلَتْ رجالي ونُهبَت أموالي، فإن كنت تريد قتلي فها أنا قد حضرت، وقد صرت في تصرفك، فتنصّل القان وتبرّى مما جرى، وقال له: حاربهم فهؤلاء أعداؤنا قال: فيساعدني القان، فجهز له جيشاً مع طاز بن النوين كتبغا ومع قراسنقر، وركب القان مع خواصه مع العسكر، وأما إيرنجي فإنه قصد تبريز في طلب جوبان، فأُغلق البلد في وجهه، وخرج الوالي إليهم، فأهانوه وعلقوه منكوساً حتى وزن أربع مئة ألف درهم، ثم ساروا إلى رَنكان، فالتقى الجمعان، فلما رأى إيرنجي القان وراياته سُقط في يده وقال لأصحابه: السلطان علينا فما الحيلة؟ فقال قرمشي: لا بد من الحرب، فالسلطان معنا، وسيّر قُرمشي إلى جوبان وقال: أنا معك، والتحم القتال وانكسر أيرنجي، وتحوّلت غالب عسكره إلى تحت رايات السلطان، ثم أُسِرَ أيرنجي وقرمشي ودُقماق، وعقد لهم مجلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 بالسلطانية فقالوا: ما تحركنا إلاّ بأمر القان، فأنكر وكذّبهم وأمر بقتلهم، فقال إيرنجي: هذا خَطُّكَ معي أنا، فأنكر وجحد، فضرب إيرنجي بسيخ في فمه فهلك، وطيف برأسه في خراسان والعراق، وذلك في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وقُتل قُرمشي ودُقماق مسلماً يُحبّ العرب ويكثر الصدقة، فحلقوا ذَقْنه وطِيف به، ثم رموه بالنُّشَّاب، وباد من المُغْل خَلْقٌ كثير في تلك الواقعة. وكان إيرنجي هذا في حشمته فريداً، وفي عَظَمته وحيداً، وفي أصله مجيداً، وفي إحسانه مُجيداً، وله مهابة في السياسة، وقُدْرَه على اتّباع الياسه، ولكن البغي على جوبان صَرَعَه، وضَرَب بابَ هلاكِه وقَرعَه، ودخل السيخ فَمَه قال له البغي: قد زدتَ فَمه. الأيكي: الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر. أيمن بن محمد البُزولي بالباء الموحدة والزاي والواو واللام: الأندلسي الأصل، التونسي أبو البركات. أخبرني العلامة أثير الدين قال: هو جندي، أنشدنا له بعضُ أصحابنا يهجو أبا سلامة ناجي بن الطوّاح التونسي أحد الطلبة الأدباء بتونس، وكان طويلاً رقيقاً، فيه انحناء: ناجٍ من النَّجْو مُشْتَقّ وما العَذِرَهْ ... يوماً بأنْجَسَ مِنْ أرهاطه القَذِرَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 جِنْس الخراء طويلٌ رقّ منحنياً ... كبائلٍ قائمٍ والأرض منحَدرَهْ غَذَتْهُ ألبان فِسق أمُّه وأبى ... أبوه إلاّ الخنا والفَرْعُ للشجرهْ قلت: أظن أيمن هذا أبا البركات المعروف بعاشق النبي، وهو أيمن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد، أربعة عشرة محمداً، أتى إلى المدينة الشريفة، وأقام بها. وأخبرني غير واحد أنه كان أوّلاً كثير الهجو والوقيعة في الناس، لكنه تاب إلى الله تعالى بعد ذلك وأقلعَ وأناب، وألزم نفسه أنه ينظم كل يوم قصيدةً يمدح بها سيّدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه قي وقتِ عَزَم على العود لزيارة أهله بالمغرب؛ فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم وقال له: يا أبا البركات كيف ترضى بفراقنا؟ أو ما هذا معناه، فعاد وبطّل المُضِيّ إلى أهله، وسمى نفسه عاشق النبي. أنشدني من لفظه الشيخ الإمام الفاضل بهاء الدين محمد بن علي المعروف بابن إمام المشهد، قال: أنشدني أبو البركات أيمن لنفسه: فَرَرْتُ من الدنيا إلى ساكنِ الحمى ... فرارَ محبٍّ عائذٍ بحبيب لجأتُ إلى هذا الجنَاب وإنما ... لجأت إلى سامي العمادِ رَحيب وناديتُ مولايَ الذي عنده الشِّفا ... لداءٍ عَليلٍ في الديار غريب أمولاي دائي في الذُّنوب وليس لي ... سواك طبيبٌ يا أجلّ طبيب تناومتُ في إظلام ليلِ شبيبتي ... فأيقظني إشراق صبحِ مشيبي وجئتك لمّا ضاق ذَرْعي بزلّتي ... وأشفقت من جُرْمي مَجيء سليب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 وما أرتجي إلا شفاعتك التي ... بها يبلُغ الراجي ثواب مُثيب فقال: لك البشرى ظفرت من المنى ... بأسعد حظّ وافرٍ ونصيب فدامت مسرّاتي وزادَت بشائري ... وطاب حُضوري عنده ومَغيبي أنا اليوم جارٌ للنبيّ بطيبةٍ ... فلا طِيبَ في الدنيا يقاس بطيبي ومن شعره أيضاً: حللتُ بدارٍ حلّها أشرفُ الخلقِ ... محمدٌ المحمودُ بالخَلْق والخُلْق وخلّفتُ خلفي كل شيء يعوقُني ... عن القصد إلا ما لديّ مَنْ العشق وما بيْ نُهوضٌ غيرَ أنيَ طائر ... بشوقي وحسنُ العَوْن من واهب الرزق محمد يا أوفى النبيين ذمّةً ... ظمئتُ وقدْ وافيتُ بابك أستسقي تعاظَمَ إجرامي وجلّت خطيئتي ... وأشفقتُ من فِعلي القبيح من نُطقي وأنت شفيعٌ في الذنوب مشفَّعٌ ... فخذ لي أماناً في القيامة بالعتق صلاةٌ وتسليمٌ عليك ورحمةٌ ... على الآل والصَّحْب الكرام أولي الصدق وجدت ما هو منسوب إليه من تثمين الأبيات المشهورة: للعاشقين انكسارُ ... وذلّة وافتقارُ وللمِلاح افتخارُ ... وعزّةٌ واقتدارُ وأهل بَدري أشاروا ... وودّعوني وساروا يا بدرُ أهلُك جاروا ... وعَلّموك التجرّي كتبت والوجدُ يُملي ... جدَّ الهوى بعد هَزْلي وحار ذهني وعقلي ... ما بين بدر وأهل يا بدرُ فاحْكُمْ بعَدْل ... إذا أتَوك بعَذْلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وحرّموا لك وَصْلي ... وحَلّلوا لك هَجري لولا هواك المرادُ ... ما كنتُ ممّنْ يُصاد ولا شَجاني البِعادُ ... يا بدر أهلك جاروا غلطتُ جاروا وزادوا ... لكنهم بك سادوا دع يفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر وقد سبقه إلى مثل ذلك أبو عبد الله محمد بن جابر، فقال: لم يبقَ فيّ اصطبارُ ... مذ خلّفوني وساروا وللحبيب أشاروا ... جارَ الكرامُ فجاروا لله ذاك الأُوارُ ... بانوا فما الدارُ دارُ يا بدرُ أهلك جاروا ... وعلموك التجرّي كانوا من الودّ أهلي ... ما عاملوني بعذلي أَصْموا فؤادي بنبل ... يا بين بيّنت نكلي يا روح قلبيَ قل لي ... أهُمْ دعوك لقتلي وحرّموا لك وصلي ... وحللوا لك هجري حسبي وماذا عناد ... هُمُ المنى والمراد وإن عن الحق حادوا ... أو جاملوني وجادوا يا من به الكلُّ سادوا ... والكلُّ عندي سداد فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهلُ بدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 قلت: الأول أحسن وأكثر مناسبة بالأصل. قلت: وأقام في المدينة الشريفة ينظم كل يوم قصيدة، ويؤم الضريح الشريف ووصيده، فيفوز بالصلات العتيدة، والهبات التي رياح هباتها مديدة، فواصل لله له الرضى من عاشق، وجعل تربته رَوْضاً لناظر ومِسكاً لناشق. ولم يزل على حاله إلى أن دنا من قبره فتدلّى، وأعرض عن الحياة وولّى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. إيوان الأمير سيف الدين الناصري، أخو الأمير الدين بُشتاك. لمّا أُمسكَ أخوه وقُتل أُخرج هو إلى حلب فأقام بها أميراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر صفر في طاعون حلب سنة تسع وأربعين وسبع مئة. أيوب ابن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن إبراهيم بن طارق بن سالم، الإمام بهاء الدين أبو صابر بن النحاس الأسدي الحلبي الحنفي، مدرس القليجيّة، وشيخ الحديث بها. قد سمع من مُكَرَّم، والموفّق يعيش، وابن رواحة، وابن خليل، وجماعة بحلب، وقال إنه سمع الصحيح من ابن رُوْزبة، وسمع ببغداد من الكاشْغَري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 لم يزل بمدرسته في الإفادة، وألِف هو هذه العادة، ورآها كما يرى المحبُّ محبوبته الغادَه، إلى أن نَحا النحاس حَيْنَه وتولع به بينه. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة. أيوب بن سليمان بن مظفر الشيخ المقرئُ المعمّر نجم الدين، مؤذن النجيبي. كبير المؤذنين، كان يخرج بالسَّواد أمام خطباء الجامع الأموي بدمشق، كان صوتُه عالياً، إلاّ أنه في الطرب غالياً، وله أخلاق مرتاضة وحركاتٌ تُداوي من الصاحب أمراضَه، وله عدة أولاد يَجمع شَملهم ويلتزم حَملَهم. ولم يزل على حاله إلا أن تعيّن النجيب على النجيبي ووجَبْ، وقضى الناس من أمره العَجَبْ. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وعاش تسعاً وثمانين سنة. أيّوب: بن أحمد بن النجم، المعروف بنجم الحطّيني، يأتي ذكره في حرف النون مكانه. أيوب بن نعمة ابن محمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر، المُعمَّر المسند زين الدين النابلسي المَقْدِسي الكحّال. اشتغل على طاهر الكَحّال، وبَرَع في الصنعة وتميّز وتكسب بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 سمع من المُرْسي، والرشيد العراقي، وعثمان بن خطيب القرافة، وعبد الله بن الخُشوعي، وجماعة، وروى الكثير. وسمع منه الكبير والصغير. وتفرّد في مصر والشام بما رواه، وساد بما عنده مما ضمّه من الرواية وحواه، وانجفل إلى مصر وأقام بها اثنتين وعشرين سنة يعالج الناس بالكحل ويخصّب أنوار العيون بعد المحل، ثم إنه رجع إلى دمشق وعجز وشاخ، وطفئ جَمْر شبابه وباخ. ولم يزل على حاله إلى أن أغمض الكَحّال عَينَه فما فُتحت، وقيّد العُدْمُ حواسّه فما سَرحت. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة. وخُرّجت له مشيخة، وأجاز لي بخطّه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أيوب الملك الصالح ابن الكامل بن الموحَّد بن المعظَّم توران شاه بن الصالح بن الكامل بن العادل صاحب حصن كيفا. وصل إلى دمشق في شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة قاصداً الحج، وتوجّه إلى خدمة السلطان الملك الناصر، وحجّ وعاد مسرعاً خوفاً على بلده، وجاء الخبر في ذي القعدة أنه حالَ وصوله إلى الحصن تلقّاه أخوه وهيّأ له مَنْ قتله وقَتَل ولده، واستقل أخوه بمُلك حصن كيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 أيّوب السعُودي الشيخ المبارك بزاوية الشيخ أبي السعود بباب القنطرة بالقاهرة. كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود، وأنه سَلك ورآه في طريق الصعود. وضَعُف في آخر عمره، وذاق من العجز والكبر وبالَ أمرِه، فكان يُحمَلُ لحضور الجماعة، ويجد لذلك ألَماً أودعه صُحُفَه وما أضاعه. ولم يزل على حاله إلى أن استوفى أجلَه، وظن أن الموت جاء على عَجَلة. وتوفي رحمه الله تعالى في أول صفر سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة في زاوية الشيخ أبي السعود. وقال جماعة: إنهم ما رأوا مِثلَ جنازته، وكان قد قارب المئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 حرف الباء اللقبُ والنسبُ باشقَرْد بباء موحّدة، وبعد الألف شين معجمة وقاف مفتوحة وراءٌ ساكنة ودال مهملة: الأمير ناصر الدين بن عبد الله الناصري. سُجِن بالديار المصرية عقيب كسرة حمص، وبقي في الاعتقال إلى أن أُفرج عنه، وحضر إلى دمشق فبقي بها نحواً من عشرة أيام. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثالث عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة. قرأ عليه الشيخ علم الدين البْرزَالي مجلس البطاقة بسماعه من عبد الله بن علاّق، عن البوصيري. وكان من أكابر الأمراء وأفاضل النبلاء، عقله غزير، وفَضْله مُثْلُ أدبه كبير، له حُرمَة زائده، ووجاهة لم تكن عن القبول حائلة ولا حائده، وله نظم يَرُوق، وقريض يعلو إلى الأثير إن لم يصل إلى العَيُّوق. أخبرني شيخنا نجم الدين الصفدي عمن أخبره عنه أنه قال: بقيت عشرين سنة لا أتلفظ باللغة التركية حرصاً مني على إتقان العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 البابي محمد بن عمر البابري سيف الدين أبو بكر البابصيري عبد العزيز بن أبي القاسم ابن باتكين مُحيي الدين أحمد بن نصر الله. البانياسي الكاتب تقي الدين أبو بكر بن محمد. الباردي صدر الدين سليمان بن عبد الحليم. الباجريقي جمال الدين عبد الرحيم بن عبد المولى، وولده الشيخ محمد. البارنباري تاج الدين محمد بن محمد، وجمال الدين عبد المحسن بن حسن. البارشاه الحنفيّ ركن الدين عبيد الله. ابن البارزي فخر الدين عثمان بن محمد. والبارزي محمد بن عبد الرحيم، وقاضي القُضاة شرف الدين هبة الله بن عبد لرحيم، وقاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم. الباجي الشيخ علاء الدين الأصولي علي بن محمد. البالي علي بن محمد. البالسي محمد بن عثيل، ومحمد بن علي. الباذراي محمد بن محمد بن حيدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 بُتْخاص بضم الباء الموحّدة، وسكون التاء ثالثة الحروف، وبعدها خاء معجمة وألف وصاد مهملة: الأمير سيف الدين. كان بدمشق من جملة أمرائها، ثم حضر إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين كراي المنصور، وأقام بها ست سنين، وعزل وتوجّه إلى مصر، وهو من جُملة الأمراء البُرجية. ولما كان بصفد أظهر المهابة، ومزّق من المؤذي إهابه، وتنوّع في إتلاف النفوس، وفَصْل الأجساد عن الرؤوس، ومهّد جبلَ عامِلَه، وروّى سيفه منهم وعامِله، أمسك سابق شَيْحَيْن وأذاقه الحَيْن في الحِيْن، وسمّر أولاده تحت القلعة على الخشب، وأراهم أباهم وقد طار من المنجنيق في الهواء وانقلب، ووسَّط جماعةً كثيرة وشَنَق، وخنق آخرين من غيظه والحَنَق، وسمّر جماعة إلى الجِمال وطاف بهم البلد، وأنزل بهم أنواعاً من النكال والنكد، قد تقمّص القساوة والتجبُّر، وزاد في التعاظم والتكبّر. ولم يزل بمصر مقيماً من جملة الأمراء إلى أن حضر الملك الناصر من الكرك فعَزم على إمساكه، وكان في القلعة ساكناً في برجٍ من أبراجها، فلما أحسّ بذلك عَصى في داره، وأغلق الأبواب، ورمى الناس بالنشّاب من أعلى داره من شبّاك، وكان ذلك بعد مغيب الشمس، فرسم السلطان بإحراق داره، وأن يُرمى فيها قوارير النفط. أخبرني من لفظه الأمير شرف الدين أمير حسن بن جندر قال: جئت إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 ووقفتُ تحت الشباك وناديته: يا بُتْخَاص، أنا فلان، والك، أيش هذا الذي تعمل؟ تعال بلا فُشار، وانزل كلّم أستاذك، فإنه يطلبك ليتحدّث معك في أمرٍ يريده، ترمي بالنشاب! تعال انزل، ونفرتُ في مماليكه، ونفرت في الذين جاؤوا إليه من عند السلطان. قال: فانفعل لِما قلته، ونزل، فأخذناه وأتينا به السلطان، فأمر باعتقاله، وكان ذلك آخر العهد به، وذلك سنة عشر أو سنة إحدى عشرة وسبع مئة - فيما أظن - فباد وما أغنى عنه تجبُّره، ولا دافع عنه تكبُّره. وجاءت الأخبار أنه توفي في حَبْس الكرك وهو وأسندَمر نائب طرابلس في القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ولم يَبْلغنا عن أحد من غيره من المراء الذين أمسكهم السلطان الملك الناصر من بعد الكرك وإلى أن مات أنه مانَعَ عن نفسه أو دافع. بُتْخاص الأمير سيف الدين العادلي مملوك السلطان الملك العادل كتبغا، قتله حسام الدين لاجين، وقتل خوشداشه الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق في يوم الاثنين ثامن عُشري المحرّم سنة ست وتسعين وست مئة، على ما سيأتي في ترجمة بكتوت. البجدي: محمد بن أحمد. ابن بحيح الحنبلي: زين الدين عمر بن سعد الله. ابن البخاري: محمد بن علي، وشمس الدين محمود بن أبي بكر الحنفي. ابن التخاص: ناصر الدين محمد بن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 بدر الأمير بدر الدين أبو المحاسن الطَّواشي الحبشي الصوابي، وهو منسوب إلى الطواشي صواب العادلي. كان إقطاعه مئة فارس، حج بالناس غير مرة، وأقام أميراً مقدّماً أكثر من عشرين سنة، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي جزءاً سمعه من ابن عبد الدايم، وكان بالشجاعة موصوفاً، وبالفروسية معروفاً، قد مارس الحروب، وعرف الفَرَّ والكَرَّ على الكروب، يطرق ويتعقل، ويدور على مَظانّ الصواب بفكره ويتنقّل، مع التثبت والرزانة، وملازمة الخير والديانة، ومواصلة البِرّ، وإسداء المعروف في الجَهْر والسر، يَعِمّ غلمانه وأصحابه بنواله، ويغنيهم بجوده عن سؤاله. ولم يزل على حاله إلى أن انمحق بدره وانطبق عليه قبره. وكانت وفاته فجأة بقرية الخيارة ظاهر دمشق، ونقل ودفن بتربته التي بناها بلحف الجبل شمالي الناصرية، وذلك سنة ثمان وتسعين وست مئة في جمادى الأولى، وقد نيّف على الثمانين. اللقب والنسَبُ البَدري نائب صفد وحمص وغيرهما، الأمير سيف الدين بلبان، وأولاده: الأمير سيف الدين محمد الحاجب، والأمير علاء الدين عليّ. البدري نائب حلب، الأمير سيف الدين بيدَمُر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 بُرَاق الشيخ الفقيه كبير الطائفة المنسوبين إليه. وَرَدَ إلى دمشق سنة خمس وسبع مئة، وقيل: سنة ست في جمادى الأولى في زمن الأفْرَم، ومعه جماعة كبيرة من أتباعه بعُدّة وافرة، كانوا مئة، وكان من جملة مريدي شيخٍ كان في بلاد الروم، ولما ورَد خرج القاضي قطب الدين ناظر الجيش إلى القابون وعَرضهم واستمساهم وحَلاّهم وعَدّهم، وجُهّزت بذلك ورَقة طيّ المطالعة إلى أبواب السلطان، وكان شعاره حَلْق الذقن كلها، وتَرْكُ الشارب فقط، وحَمْل الجوكان على الكتف، ولكل منعم قَرناً لُبّادٍ يُشبهان قَرنَي الجاموس، وهو مقلَّد بحبل كعاب بقر قد صبغت بالحنّاء، وعليهم الأجراس، وكلّ منهم مكسور التثنيّة العليا، إلا أنه كان يلازم العبادة والصلاة، وكان معه محتسبٌ يؤدّب أصحابه، كل من ترك منهم سُنةً من السنن ضربه عشرين عَصا تحت رجليه، ومعه طبلخاناه، وقيل له: يا شيخ لأي شيء ظهرت بهذا الشعار؟ قال: أردت أن أكون مسخَرةً للفقراء. وأول ما ظهر بتلك البلاد ذُكر للقان غازان، فأحضره وسلّط عليه سَبُعاً ضارياً، فركب على ظهره، ولم ينل منه شيئاً، فأعظَمَ ذلك غازان، ونَثَر عليه عشرة آلاف دينار رائج، فلم يتعرض لشيء منها. ولما أراد الدخول على الأفرم إلى الميدان أرسلوا عليه نعامة كان قد عَظُمَ أمرُها وتفاقم شرُّها، فلا يكاد أحدٌ يقاومها، فلمّا عرضوه لها قصدته، فتوجه إليها وركب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 عليها فطارت به في الميدان تقدير خمسين ذراعاً، إلى أن قرُبَ من الأفرم، فقال له: أطير لها إلى فوق شيء آخر؟ فقال: لا. ثم إن الأفرم أحسن تلقّيه وأكرمَ نُزُله، وطلب التوجُه إلى القدس، فرتّب له رواتب في الطرقات، فما قبلها، وأعطاه الأفرم من خزانته ألفي درهم، فما قبضها، وأخذها جماعته، وزار القدس، وأظنّه طلب الدخول إلى مصر فما مُكِّن، وعاد ودخل البلاد وتوجّه صحبة قطليجا نائب غازان إلى جبال كيلان لمّا حاربهم غازان بسبب ما طلبه منهم من فتح الطريق إلى بلاده وقالوا له: لا سبيل إليه لأنه يضرّنا، فأمسكوه وقالوا: أنت تقول إنك مسلمٌ وشيخ من الفقراء، وتحضر مع هؤلاء أعداء الدين، وسَلَقوه في دَسْت، وألقوه بعد ذلك في طَسْت، وذلك في سنة سبع وسبعُ مئة. وكانوا أشكالاً غريبة، ولهم أحوال عجيبة. تفِرّ العقولُ إذا أقبلوا، وتتعجب منهم إذا نقَّروا وطبّلوا. تتحرك عليهم تلك الكعاب، ويهول مرآهُمُ العجوز والكَعَاب، قرونٌ من اللبّاد معقّفَه، وشوارب فوق شفاههم موقّفه، وعلى أكتافهم تلك الجواكين، وهيأتهم كما يقال: ما تنقطع بالسكاكين، إذا خطروا صوّتت تلك الأجراس وجعلوا ربوع العقول في عداد الأدراس، قصَّهمُ الناس في الخيال ورقّصوهم، وبخسوهم ما قصدوا به ونقصوهم، واشتغل الناس بهم زماناً بعد ذهابهم، ونظموا فيهم أشعاراً لم تكن داخلة في حسابهم. أنشدني من لفظه الشيخ يحيى الخبّاز الحموي قال: أنشدني من لفظه لنفسه سراج الدين المحّار: جَتْنَا عجم من جُوّا الروم ... صُوَر تحير فيها الأفكار لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح منهم زنهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 كل واحد لُو شارب ... طويل ودقنو محلوقهْ كِنُّو على فمه غرّه ... بلا خياطة ملزوقهْ أقوام خوارج غيريّه ... مثل البهائم مَرْزوقهْ شيء ما نظرناه في الدنيا ... ولا سمعناه في الأخبار ما أنزل الله بو من سلطان ... ولا رضي عنُّو المختار الشيخ براقَ الّي اغواهم ... واختار لهم هذا الحُلاّس أكسى المريد منهم قرنين ... وأعطاه قلاده من أجراس وأمّا الكعاب المصبوغة ... قال هي سُبَح هذي الأجناس وأيا مكان حَلّوا فيه ... يسبّحوا تسبيح الغار وإن زَفَروا تَسْمع أصوات ... مقارع أهل النار في النار أعزّ من تبصر فيهم ... قبض الدكاكين في الأسواق خَذْ من صغرهم عوّدهم ... لحس الزبادي والأمراق ما يعرفوا آداب الناس ... ولا إيش يكون حُسن الأخلاق ومحتسبهم قال لي إنسان ... كان يربّيه واحد خمّار تعِبْ عليه حتى انُّوجا ... مثلو محارف قُودِ بشْلار جازوا القرم وراموا فيها ... غارة في سوق الجزارينْ على اللوايا المعلوفه ... وأكثرها مع ذا السلاّخينْ وراح يجردهم ماعُو ... دائم في سوق الطباخين ويطلب البنجك منهم ... المخبوز الخاص والخُشكار وهو يدور بين البلدان ... دائم ويعمل ذا البيكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 يا شيخ براق والله إنك ... قد جيت في الدنيا بدعهْ وما رأيناك في جامع ... صَلّيت سوا إن كان جمعهْ وكان مرادك أن تُشهر ... لك في بلاد الشام سُمْعَهْ وجئت إليهم في حاله ... ظهر عليك فيها إنكار وما رأينا من قبلك ... فقير بسبعين جوكندار يا من لا يتحقّق شكلو ... أقِف تقل لك كيف وصفُو إنسان قرونو فوق راسو ... وجوكانو من فوق كتفُو وسيف خشب مغمود ماعو ... والطبلخانه من خلفو يُصَنّجُو بالصّينيّة ... والطبل مُكَّه والمزمار شيء تضحك الناس من فعلو ... وقط ما يُرضي الحُضّار يا شيخ براق إن كان تعمل ... شغل الفقيري من حَقّا تقوّ من زاد التقوى ... واركب طريق أهل الخرقا ولا تغرّك ذي الدنيا ... والآخرة خير لك وأبقى ونْ كان في عزمك تبقى ... حليق وما تخشى من عار الواجب إنك تتبّع ... طريق حميد المَحّار إِنت الغريب جيت في فنك ... وَنَا الوحيد جيت في فني نظمت أحسن ما يُنقَل ... عنك وما يُرْوى عني قطعة ما يسمعها إنسان ... إلا ويطلبها منّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 تبقى على مرّ الأزمان ... تدور على روس الأدوار وكنيتي ما احلا ماجت ... مخفيّة بين هذي الأسطار قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان من قرية من قرى دوقات، وكان أبوه صاحب إمرة وولاية، وكان عمّه كاتباً مجيداً معروفاً، وسافر هو - يعني بُرَاق - وخدم الشيخ شريق القرمي وتتلمذ له، وهو الذي سمّاه بهذا الاسم فإنه أكل من قَيْئه فقال له: أنت برقي، وهي بالقبجاقية: " كَلْبٌ ". قال: وممّا يثنى به عليه أنه هو وجماعته يلازمون الصلاة، ومَنْ فاتته صلاة في وقتها ضُرب أربعين سوطاً، ولهم ذكر بين العِشائَيْن، وكَرَمُهُ زائد. بُراق الأمير سيف الدين أمير آخور الإسطبل بدمشق المحروسة. أصله من مماليك الأفْرَم - فيما أظن - وولي هذه الوظيفة بعد شهاب الدين الصوابي لمّا مات في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأقام فيها إلى أن مرض بعلة الاستسقاء. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ثامن عشري شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين. وكان جيّداً خيّراً يتغالى في محبّة الشيخ تقي الدين بن تيميّة وأصحابه، ويحفظ كثيراً من الأحاديث. وكان كثيرَ الشفقة على خيل البريد إلى الغاية، لا يسمح بخروج الفرس من عنده إلاّ بَعْد شدة شديدة ومدة مديدة. ولمّا وَرَد السلطان الملك الصالح صّالح إلى دمشق في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة رسم له بعشرة، وكان من جملة أمراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 العشرات بدمشق، وهو الذي وقف المحيّا في جامع الأمير سيف الدين تنكز بدمشق، ووقف عليه حوانيت بحمص. البِرزالي: الشيخ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف، وبهاء الدين محمد بن يوسف بن محمد. بَرَسْبُغا الأمير سيف الدين الحاجب الناصري. ولاّه أستاذه الملك الناصر الحجوبيّة، فكان دون الأمير بدر الدين أمير مسعود، بن الخطير، ثم إنه بعد قليل عظم عند السلطان، وكان يجهّزه كاشفاً. ثم إنه لمّا أُمسك النشّو ناظر الخاص وأقاربُه وجماعته سلّمهم إليه، فعاقبهم وصادَرَهم، ولم يكن له غرض في إتلافهم، ولكن أمسكه يوماً الأمير سيف الدين بُشْتاك وتوعّده على عدم إتلافهم، فهلكوا عنده في العُقوبة. ثم إنه حضر مع الأمير بُشتاك إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، وسُلّم إليه أهلُ البلد المصادرون وجماعة تنكز، فعاقبهم واستخرج الأموال منهم، وكان مقيماً بالنجيبيّة على الميدان، وكان يعاقب الناس في النهار والليل، ولم يكن في نفسه ظالماً ولا شريراً، لأنني أنا كتبتُ عنه إلى الأمير سيف الدين قوصون عدة مطالعات وهو يقول فيها: يا خوند أدركْ أهل دمشق، وادخُل فيهم الجنة، فإنني بَسَطتُ عليهم العقاب، وأخذت جميع ما يملكونه، ولم يبق معهم شيء، وهؤلاء ما هم مثل أهل مصر بل هم أناس محتشمون ما يحملون إهانة، ويكتب إلى السلطان أيضاً ببعض ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 ولمّا حضر أولاً من مصر حضر معه مقدّم يَضرب بالمقارع، فلما رآه بعد يومين وهو نَحس في حق المصادرين نفاه، وقال: متى بِتَّ في دمشق قتلتك. ولم يَزَل يتلطَّف إلى أن رُسم بالعَود إلى مصر، وكان قد أقام بعد بشتاك مُدَيْدة، فتوجّه، ولم يزل على ذلك والسلطان يسلّم إليه المصادَرين. وهو الذي ضرب الصاحب أمين الدين إلى أن مات. ومات السلطان وتولّى ولده الملك المنصور أبو بكر، فانتحس عنده وعند قوصون، وأريد إخراجه إلى الشام، ثم إنه تدارك أمرَه عند قوصون فرضي عليه. ولما ملك الأشرف كجك بعد المنصور وجاء الفخري إلى دمشق أُخرج بَرَسْبُغا في جماعة من العسكر المصري إلى غزة فَوَصل إليها، وأقام بغزة مدة إلى أن وصل إليه الأمير علاء الدين ألطنبغا مهزوماً، فتوجه معه، فلمّا قاربوا مصر أُمسك الأمير سيف الدين قوصون وجُهّز إليهم من أمسكهم، فهرب بَرسْبُغا إلى جهة الصعيد فجُهز وراءه من أمسكه، وأحضره ولمّا وصل إلى القاهرة جُهّز إلى الإسكندرية واعتُقل بها، وبقي هناك إلى أن حضر الناصر أحمد من الكرك، وجاء الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، والأمير سيف الدين طشتمر حمّص آخضر، فجُهز الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندرية، فتولى قَتْلَ ألطنبغا وقوصون وبُرُسبغا، وذلك في شوال سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكان بَرسبغا - كما تقدم - ليّنَ الجانب سليم الباطن، يُرى وهو للظلم مجانب، تغلبه الرقة والرحمة، وتستولي عليه الشفقة على من تنزل به النقمة، إلاّ أنه كان يلجأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 إلى التظاهر بالشر،. والوثوب على أهل الأموال بالكر دون الفَرّ، وما أفاده خَيْر الباطن شيئاً مع شر الظاهر، ولا أعاده الدخول في الظلم لا إلى نجاسة الهلاك دون ما للنجاة من الطاهر. وقابل شخص المنيّة واعتنق، وخانه الزمان فأودعه السجن إلى أن اختنق. بُرْناق الأمير سيف الدين المحمدي. كان قد ورد إلى دمشق، ولمّا أُمسك الأمير سيف الدين جَرَكتمر المارداني في دمشق عند قدومه من الحجاز في سنة اثنتين وستين وسبع مئة جَهّز الأمير سيف الدين بُرناق معه إلى مصر، ولما عاد من ذلك رُسم له بنيابة قلعة دمشق، فلبس تشريفه بدار السعادة وتوجه إلى القلعة، وذلك في يوم الاثنين سادس عشري صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأربعاء حادي عشر شعبان سنة اثنتين وستين وسبع مئة. الألقاب والأنساب ابن برق: والي دمشق شهاب الدين أحمد بن أبي بكر، والده أبو بكر بن أحمد. ابن البُرْطاسي: شرف الدين عيسى بن عمر. البرلّسي: برهان الدين إبراهيم بن أحمد ناظر بيت المال. ابن البرهان: الطبيب محمد بن إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 البَرَواني: الأمير علم الدين سنجر، وابنه بهاء الدين محمد بن القاسم. البزاغي: التاجر الشاعر أحمد بن خليل. بُزْلار بضم الميم الموحّدة وبعدها زاي ساكنة ولام وألف وراء: الأمير سيف الدين أمير سلاح الناصري أحد أمراء المئات ومُقَدّمي الألوف بالقاهرة. كان قد وَرَدَ إلى دمشق في البريد نهار الجمعة عاشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة ليُحلِّف الأمير سيف الدين أيْتِمش نائب دمشق والعساكر بها للسلطان الملك الصالح صالح ابن السلطان الملك الناصر محمد، ونول بالقصر الأبلق، وحلّف الناس، واحتفلوا بأمره، وقدّموا له أشياء مليحة، كل أحدٍ من المراء والمتعممين، وعاد ومعه شيء كثير من الخيل والقِماش وغير ذلك. ولم يزل بمصر على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وورد خبره إلى دمشق في أوائل ذي القعدة سنة ستّ وخمسين وسبع مئة. وهو الذي ساعد الأمير سيف الدين طاز على إمساك بيبغاروس في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة لمّا كانوا في طريق الحجاز، وكان يُحدّث نَفْسَه بنيابة دمشق، فسبقه الأجل وأخذه على عَجَل. بَزُوجبي بالباء الموحدة والزاي المفتوحة والواو الساكنة والجيم والياء: الأمير سيف الدين أحد أمراء العشرات بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 كان قد تقدّم في أيام قوصون وأعطاه طبلخاناه، فلمّا زالت دولة قوصون أُخرج إلى دمشق بطّالاً، ورُتّب له على سوق الغنم، في كل عشرون درهماً، وأقام إلى أن حَضَر الملك الصالح صالح إلى دمشق فأعطي عشرة، فأقام عليها إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة بدمشق، وتوفي ابنه بعده بجمعة واحدة. بَشْتَاك بفتح الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وتاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وكاف: الأمير سيف الدين الناصري. قرّبه السلطان وأدناه وأعلى محلّه، وكان يسمّيه بعد موت بكتمر الساقي بالأمير في غيبته، وكان زائد التيه والصلف، لا يُكلّم أستاذ داره وكاتبه إلا بترجمان. وكانَ يَعرف بالعربي ولا يتكلّم به، وكان إقطاعه سبع عشرة طبلخاناه، اكبر من إقطاع قوصون، وما يعلم قوصون بذلك. ولما مات الأمير سيف الدين بكتمر الساقي ورثه في جميع أحواله، في داره وإصطبله الذي على بركة الفيل، وفي امرأته أم أمير أحمد، واشترى جاريته خُوبي بستة آلاف دينار، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، واخذ ابن بكتمر عنده. وكانت الشرقية تُحمى له بعد بكتمر الساقي. وزاد أمرُه وعظُمَ وثقل على السلطان، وأراد الفتك به فما تمكّن، توجّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 إلى الحجاز، وأنفق في الأمراء وأهل الركب والفقراء والمجاورين بمكة والمدينة شيئاً كثيراً إلى الغابة، وأعطى من الألف دينار إلى الدينار على مراتب الناس وطبقاتهم. ولمّا عاد من الحجاز لم يَدْرِ به السلطان إلا وقد حضر إليه في نفر قليل من مماليكه، وقال: إنْ أردت إمساكي فها أنا قد جئت إليك برقبتي. فكَابَره السلطان وطيّب خاطرَهُ، ورُمي بأوابد ودواهي من أولاد الزنا، وكان السبب في تقدّمه أن قال السلطان يوماً لمجد الدين السلامي: يا مجد الدين، أريد أن تُحضر من البلاد مملوكاً يشبه بوسعيد - يعني ملك التتار -. فقال: هذا مملوكك بشتاك يشبهه، وكان ذلك سبباً لتقدمه. وجرّده السلطان لإمساك الأمير سيف الدين تَنْكز، فحضر إلى دمشق بعد إمساكه هو وعشرة أمراء، ونزلوا القصر الأبلق، وفي خدمته الأمير سيف الدين أرقطاي وبَرسْبُغا وطاجار الدوادار وغيره. وحال نَزوله حلّف الأمراء كلهم للسلطان ولذريته، واستخرج ودائع تنكز وعرض حواصله ومماليكه وجواريه وخيله وكل ما يتعلق به، ووسّط طَغاي وجُنْغاي ملوكَيْ تنكز في سوق الخيل، ووسّط أوران أيضاً بحضوره يوم المواكب، وأقام بدمشق خمسة عشر يوماً أو حولها، وعاد إلى مصر، وبقي في نفسه من دمشق وما يجسر يفاتح في ذلك السلطان، فلمّا مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس الأمير سيف الدين قوصون مماليكه، فدخل بشتاك وعرّف السلطان ذلك، فقال له: افعل أنت مثله، ثم إنه جمع بينهما وتصالحا قُدّامه، ونصّ السلطان على أنّ المُلك بعده لولده المنصور أبي بكر، فلم يوافق بشتاك، وقال: ما أريد إلاّ سيدي أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 ولمّا مات السلطان وسُجّي، قام قوصون إلى الشُّبّاك، وطلب بشتاك، وقال: يا أمير تعالَ، أنا ما يجيء مني سلطان، لأني كنتُ أبيعُ الطسما والبُرغالي والكشاتوين. وأنت اشتريت مني، وأهل بلاد يعرفون ذلك مني، وأنتَ ما يجيء منك سُلطان لأنك كنت تبيع البوزا وأنا اشتريت منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك منّا، ولا يكون سلطاناً من بيع الطسما والبُرغالي ولا مَن عُرف ببيع البوزا، وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبرُ به من أولاده، وهذا هو في ذمته وما يسعنا إلاّ امتثال أمره حيّاً وميتاً، وأنا فما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت تعمل كل يوم سلطاناً ما خالفتك. فقال بشتاك: كل هذا صحيح والأمر أمرك. وأحضر المصحف وحلفا عليه بعضاً لبعض، وتعانقا وتباوسا، ثم قاما إلى رِجلَيّ السلطان فقبلاهما ووضعا أبا بكر ابن السلطان على الكرسي، وباسا له الأرض، وحلفا له وسمّياه المنصور. ثم إن بشتاك طلب من السلطان الملك المنصور نيابة دمشق، فرسم له بذلك وكتب تقليده، وبرّز إلى ظاهر القاهرة، وبقي هناك يومين ثلاثة، ثم إنه طلع إلى السلطان ليودّعه، فوثب عليه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، وأمسك سيفه، وتكاثروا عليه فأمسكوه وجهّزوه إلى الإسكندرية واعتقلوه بها، ثم إنه قُتل في الحبس في أول سلطنة الأشرف كُجُك في شهر ربيع الآخر تقريباً سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى شاباً أبيض اللون ظريفاً، مديد القامة نحيفاً، خفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 اللحية كأنها عِذار، أوليقة عنبر دار بها البركار، على حركاته رشاقة، وفي سكناته لباقة، حَسَنَ العمّة يتعمّم الناسُ أنموذجها، وكأنهم يتناولون منها حلوى فالوذجها، إلا أنه - رحمه الله كان غيرَ عفيف الفرج، زائد الهرج والمرج، لم يعفّ عن مليحة ولا قبيحة، ولم يدعْ أحداً يفوته ولو كانت بفرد عينٍ صحيحة، يمسك حتى نساء الفلاّحين، ومن هي من زوجات الملاّحين، واشتهر بذلك ورُمي فيه بأوابد، وأثار الناس عليه من ذلك لبؤاتٍ لوابد. وكان زائد البذخ، منهمكاً على ما يقتضيه عنفوان الشبيبة والشرخ، كثير الصلف والتيه، لا يُظهر الرحمة ولا الرأفة في تأتّيه. ولمّا توجه بأولاد السلطان ليفرجهم في دمياط رأيته في كل يوم يذبح لسَماطه خمسين رأس غنم، وفرساً لا بد منه، خارجاً عن الإوز والدجاج. وأخبرني سيف الدين طغاي مملوك الأمير شرف الدين حسين بن جندر، وكان أمير مجلس عنده قال: لنا راتبٌ في كل يوم من الفحم برسم المشوي مبلغ عشرين درهماً خارجاً عن الطوارئ، وأطلق له السلطان في كل بقجة قماش من اللفافة إلى الخف إلى القميص واللباس والملوطة والبغلَطاق والقباء، والقباء الفوقاني بوجه إسكندري على سنجاب طري بطرز زركش رقيق وكلوتة وشاش، ولم يزل يأخذها إلى أن مات السلطان، وأطلق له في يوم واحد ثمن قرية " يبنى " بساحل الرملة مبلغ ألف درهم، وهو أول أمير أمسك بعد وفاة الملك الناصر، وما أغنى المسكين عنه مالُه، وأوبقته في السجن أعماله. وقلتُ أنا فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 قالَ الزمانُ وما سمِعنا قولَه ... والناسُ فيه رهائنُ الأشراك من ينصر المنصور من كيدي وقد ... صاد الردى بشتاك لي بشباكِ اللقبُ والنسب البَطَرني المقرئ أحمد بن موسى. البَصْروي الأمير نجم الدين الوزير محمد بن عثمان، وأخوه فخر الدين المحتسب سليمان بن عثمان. ابن البصّال محمد بن محمود. ابن البُصَيص موسى بن علي. ابن بُصاقة جمال الدين الحَيسوب عبد الكافي بن عثمان. ابن بُصحان محمد بن أحمد. ابن البعلبكي فخر الدين عبد الرحمن بن محمد. ابن البُشْطَاري: عثمان بن محمد، ومحمد بن عثمان. بُغَا الدوادار الناصري. كان مع الأمير سيف الدين أُلْجاي دواداراً صغيراً، ولما مات أُلْجاي ظنّ بُغا أن السلطان ما يَعدِل عنه، لأنّ بُغا كان أقدم من ألجاي وأكبر في بيت السلطان، فولّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 السلطان الدُّوادريّة صلاح الدين يوسُف بن أسعد الآتي ذكره إنْ شاء الله تعالى في حرف الياء مكانه، فيَئس بعد ذلك بُغا من هذه الوظيفة. ولما عَزَل السلطان صلاح الدين المذكور من الدواداريّة وأخرجه إلى صفد، استقل بُغا بالدوادارية، واتفق له في دواداريته قدّم قصّة إلى السلطان على لسان ابن الدجيجاتي التاجر، وكان النشو ناظر الخاص قد رَمَى عليه شيئاً من متجر الخاص، فلمّا علم النشو بذلك عمل له عند السلطان، وساعده غيره على ذلك ممن يكرهه، وكان على ذهن السلطان منه أنه فيه لعبٌ، فعزله السلطان وأخرجه إلى صفد، فأقام بها مدة يسيرة. وتوفي بُغا، ولم ينل من الدنيا ما بَغى، وذلك في سنة سبع مئة فيما أظن. وكان رحمه الله تعالى يغلب عليه الخير والرأفة، وعنده من الرحمة التي لا يميل معها على ضعيف ولا يستأصل شأفه، ساكناً قليل الكلام، لا يسمع في أحد ما يؤلمه من الملام، إلا أنه كان يميل إلى الشباب، ويروقه الثنايا العِذاب. وكانت به قرحة تلازمه، وتُشَدّ لها من الألم حيازمه، فربما انقطع لأجلها عن الخدمة، ووجَدَ الطاعنُ عليه مكان الصدمة، ويظهر أن الانقطاع لضعفه المعلوم من القرحة، ويخلو بأولئك الشباب على الشراب لاقتطاف ثمرات المسرّة والفرحة، فما أثّر ذلك خيراً عليه، وذاق ثمرة ما جناه وجلبه إليه، فسُلّ من تلك الوظيفة كالشعرة من العجين، وتمكن منه من كانوا بإخراجه لَهِجِين، ولم يكن له إمرة طبلخاناه، إنما كان أمير عشرة إلى أخر وقت. بَغداد بنت النُّوين جوبان زوج بوسعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 كان بوسعيد يحبها ويميل إليها ميلاً عظيماً، وكان أبوها يفهم ذلك فلا يدعها تقرب الأردو، ولكن تكون غائبة مع زوجها الشيخ حسن هُنا وهنا، فما كان إلا أن قتل بوسعيد أخاها خواجا، وهرب أبوها جوبان، ثم قُتل، ودخَل أخوها تمرتاش إلى مصر وحصل لبوسعيد الذي كان يرومه من قربها، فأخذها من زوجها، وأخذها عنده، وصارت عنده في مكانة عليا، وأثرها على مملكة الدنيا، وكان لا يصبر عنها، ولا يَرى أن الشمس تدنو منها، لِما حازته من الحسن البارع، والجمال الذي لم يقرع السمعَ بمثله قارع، تثنّى ولا غصن بانةٍ وَريق، وتبسَّم ولا قلادة جوهر في سَفَط عقيق، وترنو بعين ما نُفثَ السحرُ إلا من جفونها المكحّلة، ولا فتكت القواضب إلاّ من فَترتها المفحّلة، وجهها يشبه البدر لولا كَلَفه، ورائيها يحيا بنظرها إلا أنه يؤدّيه إلى ما فيه تَلفَه. أخبرنا الخواجا مجد الدين السَّلاّمي قال: لم يكن في الأردو لها نظير، وإذا خطت قلتَ: هذا غُضنٌ والقلوب عليه تطير، وكان لها في الممالك القانيّة الأحكام النافذة، والمراسيم التي إذا برزت كانت على الأرواح آتية، وبالأنفاس أخذة، ولها هي من النساء وزيرة أيضاً تحكم حكم الوزير، وتتحدث فيما تشاء من الجليل والحقير، وتركب بغداد في مَوكب حفل من الخواتين، وتشدّ في وسطها السيف، ولكل نُوَين إليها رحلة الشتاء والصيف. ونفذت أحكامها وجالت، ومضت أوامرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 وصالت، وهرب منها علي باشا خال بوسعيد، ولم يقرب الأردو خوفاً منها، فهو بقرابته لذلك بعيد، ولم تزل على ما هي فيه من الحكم وخَدّ الأردو بها مورِّد قانٍ، والناس تحت أوامرها وكيف لا وهي تحكم على نفس القان، لا يأخذه فيها لومة لائم، ولا يَسمع فيها عَذْلاً ولو كان من أسجاع الحمائم، إلى أن مات القان بوسعيد، وتولى القان أربكوون المقدّم ذكره، فأغصّها بريق حُسامه، وجعل فمها بالدم وَردةً بعد ما كان كالأقحوان في ابتسامه، وذلك في سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وكانت كثيرة التنقيب على أخبار أخيها تمرتاش. أخبرني من لفظه الخواجا مجد الدين السَّلاّمي، قال: لما كنت بالأردو وعزمت على الحضور إلى خدمة السلطان، دخلت عليها أخدمها وأودّعها، فقالت: يا خواجا، سلّم على السلطان وقل له أنا ابنته وجاريته، وأشتهي لا يخباني عن حاجة، فأنت تصرّفي وأمري في الأردو والممالك، فلا يكن يطلب حاجةً من غيري، قال: فضربت لها جوكاً ودعوت لها، فقالت: يا خواجا؛ أريدك تطلب أخي من السلطان حتى أراه. قال: فضربت لها جوكا، وبهتُّ حَيْرةً لا أدري ما أقوله، ثم ألهمني الله أن قلت: والله يا خوندَكار ما أنا قدر هذا الكلام، هذا ما يتحدث فيه إلاّ قان كبير مثله، فقالت: صدقت إلا يا خواجا ما يجيء أحد من عندكم وأسأله عن أخي فيقول إنه رآه، فقلت: يا خوندكار، لما خرج أخوك إلى المسلمين قال له السلطان: أي البلاد تريد حتى أعطيك، فخاف أن يطلب دمشق أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 حلب أو غيرهما من هذه البلاد التي هي قريبة إلى هذه البلاد فيتهمه أنه يريد العود، فطلب منه إسكندرية، وهي خلف مصر من ذلك جانب فالذي يروح من عندكم إلى مصر ما يعبر إلى إسكندرية ولا يصل إليها، فلهذا ما يراه، فهزّت رأسها، وقالت: يكون.. اللقب والنسب ابن البَقَقي فتح الدين أحمد بن محمد. البِقْراطُ محمد بن عبد الرحمن. بُكَا الأمير سيف الدين الناصري المعروف ببُكا الخضري كان من جملة الأمراء بالديار المصرية، وكان ممّن حضر مع بشتاك إلى دمشق بعد إمساك تنكز وعاد معه، ولم يزل بالديار المصرية على حاله إلى أن خاض السيف في أحشائه وجعله دَلْوين، إلاّ أن كلاً منهما غَنِّي عن رشائه، لأنه نُسب إلى الميل مع الناصر أحمد والخروج مع رمضان على الملك الصالح إسماعيل، فوُسّط في سوق الخيل هو وثلاثة من مماليك السلطان، وعُلّقوا على باب زُوَيله ثلاثة أيام، ولك في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 بكّار ابن الشيخ عبد الرحمن بن أبي بكر بن الواني، سيف الدين البَريدي أخو الأمير علاء الدين بن الفَرّا، وسيأتي ذكر أخيه في حرف العين إن شاء الله تعالى. توفي في رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة وعمره نحو الستين. بكتاش الأمير بدر الدين نقيب النقباء بالديار المصريّة، أظنه تولاّها بعد الأمير صارم الدين صاروجا. ولم يزل بدر الدين رجلاً جيداً محسناً إلى الناس. توفي رحمه الله تعالى في آخر جمادى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. بكتاش الأمير يدر الدين المنكورسي أحد المنصورية. كان من قدماء الأمراء، ولي نيابة بعلبك مرات، وفي آخر مرّة طلب الإقالة منها في سنة أربع وخمسين، ورسم لابنه بالتوجه في مقدمة الركب، فاحتاج أن يكون هو معه، فتوجه أمير الركب وعمل الأمرة على ما يجب من الرحمة وعلوّ الهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 ومتعه الله بحواسّه وعقله إلى أن توفي رحمه الله تعالى، في أوائل شعبان سنة سبع وخمسين وسبع مئة، عن مئة وسبع سنين، أخبرني بذلك ولده الأمير زين الدين عبد الرحمن. وكان قد باشر شدّ الأوقاف بدمشق في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وعملها على القالب الجائز بجاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وفي آخر أمَرْه اتّحد بالأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولما أمسك كان المنكورسي أيضاً في جُملة من أُمسك بسببه، وصودر، وأخذ منه مئتا ألف درهم، في غالب ظني، وكان يبالغ في اقتناء المصاحف العالية الغالية الأثمان وغيرها من الكتب، ونَزَل وهو في نيابة بعلبك أخيراً عن إقطاع الإمرة لولده. بكتاش الأمير بدر الدين أمير سلاح الفَخْري. كان من مماليك الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وعاد من أكابر الأمراء الصالحية، يتردّد في الغزوات، ويجوب إليها الفلوات. وكان بالخير مشهوراً، وبالصدقات وهو أمير مأموراً، وافر الحُرمة في كل دولة، فارسَ الجوّ في كل جَوْلَه. لا يعارض مَنْ يُقدّمُهُ سعده، ولا يقارب من أخّره حظّه وبُعده. أقام أميراً دهراً طويلاً، ورأى من الإقبال حظاً جزيلاً. ولما كان في سنة ست وسبع مئة طلب النزول عن الإمرة، ولزم داره إلى أن نزل به الأمر المحتوم، وأصبح وطينُ الأرض عليه مختوم، وذلك في شهر ربيع الآخر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 هذه السنة المذكورة. وكان رحمه الله تعالى لمّا قُتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين في سنة ثمان وتسعين وست مئة قد جُرّد إلى سيس هو وجماعة من أمراء مصر، ولمّا عادوا منها وقَربُوا من مصر أُخبر بما جرى من طُغْجي وكُرْجي في حقّ لاجين، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة لاجين في مكانه من حرف اللام. ولما عزم على الدخول إلى القاهرة طلب الأمراء الذين معه، ومَشَوا في خدمته، وركب طُغْجي لتلقيه، فلمّا رآه قال: كان لنا عادة من السلطان أنّا إذا قدمنا يتلقّانا، وما أعلمُ ما أوجب تأخيره، فقال طُغْجي: ما علم الأمير بما جرى، وأنّ السلطان قُتل؟ فقال: ومن قتله، فقال كرد الحاجب: قتله طغجي وكرجي، فأنكر عليهما، وقال: كلما قام للمسلمين سلطان تقتلونه؟ تقدّم عني لا تلتصق إليّ، وساق أمير سلاح، وتركه، فتيقّن طُغْجي أنه مقتول، فأراد الهروب، فانقضّ عليه بعض الأمراء وأمسكه بدبّوقته وضربه بالسيف، وتكاثروا عليه فقتلوه ومعه ثلاثة أخر، وركب كرجي في جماعة لنصرته فركب الجيش معه في خدمة أمير سلاح، وقتلوا كرجي والكَرموني، ودخل أمير سلاح وقعد والأمراء معه، ورتّبوا حضور السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، وإعادته إلى السلطنة، وهذه المرة الثانية من حضُوره من الكرك. بكتَمُر الأمير سيف الدين الأبو بَكري المنصوري. كان من كبار الأمراء مقدَّمي الألوف، وممّن هو للشجاعة حليف، وللفروسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 ألوف، له الوجاهة الكاملة، والنباهة التي لم تكن في ذكرها خامله، يُعظّمه وجوه الدولة والسلطان، وَصَيتُه قد ملأ الأوطان. لم يزل في معارج سُعوده، ومراقي عُلُوّه وصعوده، إلى أن أصابته عين الكمال فهبط، وجَرّد الخطب له سيفُه واخترط، وذاك أن السلطان الملك الناصر محمد رسم بأن يتوجّه إلى صفد هو وأولاده وجماعته وحاشته، فقال: أريد أن أعرف ذنبي ما هو. فتأذّى السلطان منه، وأمسكه وحَبَسه في القلعة، وذلك في ثالث شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ولم يزل في الاعتقال إلى أن توفي بقلعة الجبل في الاعتقال في نصف شعبان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وأُخرج ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى. بكتَمُر الأمير سيف الدين السلاح دار الظاهري المنصوري. كان من أمراء المشاهير، وممّن تتشرف بألقابه التقاليد وتتجمّل المناشير، أحد مقَدّمي الألوف، ومن هو بالإقدام موصوف، وبالشجاعة معروف، خاف من السلطان حسام الدين لاجين، فنجا برأس طِمِرَّة ولجام، وسكر غَمّاً ولم يطفْ عليه للموت جام، وفرّ هو والأمير سيف الدين قَبْجق والأمير فارس الدين ألبكي ودخلوا إلى عند القان غازان، وجرى ما يأتي ذكره في ترجمة قبجق، وكان قد وصل من الديار المصرية إلى دمشق مجرداً في ثلاثة آلاف فارس هو مقدّمها في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة، وتوجه بالعسكر وأقام على حمص، وحضر إليه الأمير سيف الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 لاجين قبجق وبلغهم ما اعتمده الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، فتحققوا أنه ما يبقي عليهم، فتوجّهوا إلى بلاد التتار في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة، وتألم الناس لذلك، ووصل الخبر إلى الشام بعد رحيلهم بقتل السلطان ومنكوتمر، وفي جمادى الأولى وصل الأمير سيف الدين بَلْغَاق وذكر أن قبجق وبكتمر وألبكي وصلوا إلى رأس العين، واحتاط عليهم جمع من التتار، وأنه قد يُئس من رجوعهم إلى بلاد الإسلام. بكتَمُر الأمير سيف الدين الحاجب. كان أولاً أمير آخور، ثم قَدِم دمشق وتولّى بها شد الدواوين في أيّام الأفرم، ولم يكن لأحد معه كلام في صَرف ولا في عزل. ثم وُلّي الحجوبيّة، وتوجّه إلى صفد كاشفاً على الأمير ناهض الدين عمر بن أبي الخير والي الولاة. ومُشد الدواوين بصفد، ونزل بالميدان، وكان معه القاضي معين الدين بن حشيش وحَرّر الكشف ودقّقه، حتى قال فيه القاضي زين الدين عُمَر بن حلاوات موقّع صفد: يا قاصداً صَفَداً فًعُد عن بلدةٍ ... مِنْ جَوْر بكْتُمر الأمير خرابُ لا شافعٌ تُغني شفاعته ولا ... جانٍ له ممّا جناه متابُ حَشْرٌ ومِيْزان ونَشْرُ صحائفٍ ... وجرائدٌ معروضةٌ وحسابُ وبها زبانية تحثّ على الوَرى ... وسلاسلٌ ومقامعٌ وعقاب ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحمٌ وهّابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 قلتُ: وهذه أبيات لسبط التعاويذي معرفة في ديوانه وأولها: يا قاصداً بغداد جز عن بلدةٍ ... للجور فيها زخرةٌ وعباب وهي سبعة عشر بيتاً قالها في الوزير ابن البلدي، فأتى ابن حلاوات بالبيت الأول وليس للفاء في فعد محل. وكان الأمير سيف الدين خبيراً بالأمور، بصيراً بحوادث الدهور، طويل الروح في الأحكام لا يمل من تطويلها، ولا يهابُ ما يأتي به الخصوم في تهويلها، لو قعد في الحكم الواحد بين اليهودي والأمير ثلاثة أيام، لم يلحقه سأمّ ولا يصدّه احتشام، مع معرفة تامة، وخبرة بالسياسة عامة، لم ير مثله في حقّ أصحابه، ولا أذكر منه لهم في حالتي بعده واقترابه، يفكر في مصالحهم وهم غُيب، ويتفقدهم أبداً، ومن جفاه عتب عليه وعيب، نفع بجاهه جماعةً كثيره، ووفّر عليهم أموالاً أثيره، إلا أنه كان مبخلاً، ساقط الهمة في ذلك وإن كان مبجلاً، له متاجر وأملاك، وسعادة لا تدور على مثلها الأفلاك، وله أموال كالبحر العجاج، أو التراب الذي تثير الريح منه العجاج، ومع ذلك فله قدور تكرى للحمص والفول، وغير ذلك من العدد والآلات التي يعتري الشمس منها أفول. ولم يزل على حالهِ إلى أن ملأ التراب عينه، واقتضى الأجل منه دينه، وذلك في سنة سبع وعشرين وسبع مئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 ولما قدم السلطان من الكرك إلى دمشق ولاه الحجوبية ودخل مصر وهو حاجبٌ، ثم أخرجه نائباً إلى غزة، فأقام بها قليلاً في سنة عشر وسبع مئة، ثم إنه طلبه إلى القاهرة وولاّه الوزارة بالديار المصرية عوضاً عن الصّاحب فخر الدين بن الخليلي في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة، ثم إنه قبض عليه في سنة خمس عشرة وسبع مئة مستهل شهر ربيع الأول لما قبض على أيدغدي شقير، وبقي في الاعتقال مدة سنة ونصف، وأخذ لهُ من ماله شيئاً كثيراً، ثم إنه أفرج عنه وجهزه نائباً إلى صفد في سنة ست عشرة وسبع مئة وأنعم عليه بمئة ألف درهم، فأقام بها عشرة أشهر، ثم طلبه إلى مصر وكان من جملة أمراء المشور، وإذا تكلم السلطان في المشور لا يرثد عليه غيره لما عنده من المعرفة والخبرة. أخبرني الأمير شرف الدين حُسين قال: إذا جلسنا للمشور ما فينا أحد يعترض على السلطان ويرد عليه ويقول: جيد، أو ما هو جيدّ إلا بكتمر الحاجب. قلتُ له: فأنتم ما تقولون؟ قال: مهما قاله قلنا: هذا هو الرأي المبارك. وكان قد تزوج ابنة الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وعمرَ له بمصر داراً ظاهر باب النصر على القاهرة، وعمّر هناك مدرسة إلى جانبها، وفي آخر أمره سُرق له مال كثير من خزانته ادّعى في الظاهر أنه مبلغ مئتي ألف درهم، وكان في الباطن على ما قيل سبعُ مئة ألف أو أكثر، فما جسر يتفوّه خوفاً من السلطان، وكان الأمير سيف الدين قدودار والي القاهرة، فرسم السلطان له بتتبع هذه العملة، فيقال إن بكتمر الساقي والوزير مغلطاي الجمالي والقاضي فخر الدين ناظر الجيش عاملوا في الباطن عليه، فشرعوا يُحجفون عن المتهمين، فإذا قال السلطان للوالي: أيش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 عملت في عملة الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب؟ يقول القاضي فخر الدين: يا خوند لعن الله ساعة هذه العملة، كل يوم يموت الناس تحت المقارع، وإلى متى يُقتل المتهم الذي لا ذنب لهُ، ثم إنه في آخر الحال وقف الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في دار العدل وشكا وتضور، فأحضر السلطان الوالي وسبهُ، وأظهر غضباً عظيماً، فقال: يا خوند، اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من ألزمه الذين في بابه، فقال السلطان للجمالي الوزير: أحضر هؤلاء المذكورين، عاقبهم. فأحضرهم وعاقبهم وعصر هذا بخشي: وكان عزيزاًعنده قد زوجه ابنته وهو واثق بعقله ودينه وأمانته فقال بخشي: يا خوند أنا والله الذي تحت يدي لأستاذي ما يدري ما هو فما أخلي غيري يأخذ معي ما أردت أن أسرقه. ولما بلغ الأمير سيف الدين بكتمر عصر بخشي وجماعته علم أن ماله قد راح، فحصل له غيظٌ وغم وغبن، فمات فجأة من الظهر إلى العصر. وكان حريصاً على اقتناء الأملاك وإنشاء العمائر في كل مدينةٍ بالقاهرة والشام بحيث إنه له في كل مدينة ديوان له مباشرون. وقلتُ أنا أشير إلى كثرة أمواله: وصاحب أشأم من قاشر ... من شؤمه يفتقر الصاحبُ يذهب ما قد حازَ من عينه ... لو أنه بكتمُر الحاجبُ بكتمر الأمير سيف الدين المنصوري أمير جاندار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 وكان أولاً جوكنداراً، ويدعوه السلطان الملك الناصر يا عمي، وكان من أولاده أكبرهم يُدعى ناصر الدين محمد، لم يكن في مصر من يلعب الكرة مثله، ويدعوه السلطان: أخي، وكان لا يفارقه. وكان بكتمر في أيّام سلاّر والجاشنكير أحد أرباب الحلّ والعقد، ثم إنهما عملا عليه وأخرجاه إلى الصُبيبة نائباً، فوصل إليها في شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبع مئة، فأقامَ بها مُدةً. ولما توفي سُنقر شاه نائب صفد رسم له بنيابة صفد في شعبان سنة سبع وسبع مئة، فحضر إليها ومعه ثماني مئة مملوك، فإذا ركبَ فيهم كانوا قريباً من عسكر صفد، فأقام بها قريباً من سنتين، ولما خرج السلطان من الكرك لاقاه الأمير سيف الدين بكتمر إلى دمشق، وتوجه معه إلى مصر، وأقرّه في النيابة بمصر. ولم يزل في النيابة إلى أن أمسكه واعتقله، فأخذه إلى الأموات ونقله. وكان بكتمر الجوكندار خيراً ساكناً، مائلاً إلى المسالمة راكنا، لا يرى سفك الدم، ولا يعتني بالقصاص ولا النقم، وإذا جاؤوه بقاتل ضربه ضرباً مبرحاً. وقال مصرحاً لا ملوحا: الحي خيرٌ من الميت، فليقم هذا من السجن في بيت، إلا أنه يضر به ما يقارب السبع مئة عصا، إلى أن يلوك من الألم الحصى، فكثر بذلك العبث والفساد في بلاد صفد، وزاد المتحرَّم وحشد. وحجّ حجة وأنفق فيها أموالاً عظيمة، وأعطى الفقراء والمجاورين بالحرمين ما جلّى به لياليهم البهيمة، وحمل إلى مكتة القمح، وفرقه فيها بكفه السمح، وأنشأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 بصفد مكاناً يعرف بالمغارة والصهريج، وعمره بنفسه وبمماليكه من غير ترويج، ودفن به إحدى زوجاته أم بنيه، ورتب له على الديوان ما يكفيه. ولما كان بمصر وهو نائب نزلَ السلطان إلى المطعم، خرج من السرج ومال إليه وقال: يا عم ما بقي في قلبي من أحد من هؤلاء الأمراء أن أمسكه إلا فلان وفلان، وذكر له أميرين، فقال له: ما تطلع من المطعم إلا وتجدني قد أمسكتهما، وكان لك يوم الثلاثاء، فقال السلطان: لا يا عم ألاَ دَعْهُما إلى يوم الخميس أو يوم الجمعة نمسكهما بعد الصلاة، فقال: السمعُ والطاعة. ثم إنه جهز له تشريفاً كاملاً ومركوباً هائلاً وإنعاماً من الذهب. فلما كان يوم الخميس قال له: غداً نمسكهما، فلما كان يوم الجمعة، قال له في الصلاة: أين هما؟ قال: حاضران، فقال بعد الصلاة تقدم بما قلتُ لك. فلّما انقضت الصلاة، قال: والله يا عم ما لي وجه أراهما وأستحيي منهما، ولكن إذا دخلتُ أنا في الدور أمسكهما أنت وتوجه بهما إلى المكان الفلاني، تجد منكلي، وقَجْليس سلمهما إليها وروح. فلما أمسكهما أنت وتوجه بهما إلى المكان الفلاني، تجد منكلي، وقجليس سلمهُما إليهما وروح. فلما أمسكهُما وتوجه بهما إلى ذلك المكان وجد الأميرين منكلي بغا وقجليس هناك. فقاما إليه وقالا له: عليك سمع وطاعة لمولانا السلطان، وأخذ سيفه، فقال يا خوش داش، ما هو هكذا الساعة كما فارقته، وقال: أمسك هذين وتوجه بهما إلى فلان وفلان فأطلقاهما وأمسكاه. وكان ذلك آخر العهد به، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة فيما أظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 ولما كان في صفد كانت كتبُ السلطان ترد من الكرك إلى ابنه الأمير ناصر الدين مّحمد يقول له: يا أخي تقول لعمي كذا وكذا وطل روحك إلى أن يقدّر الله الخير. بكتمُر الأمير سيف الدين الساقي الناصري. كان أولاً من مماليك المظفر بيبرس الجاشنكير، ولّما استقر السلطان بعد مجيئه من الكرك أخذه ودخل في مماليكه، ولهذا كان غريباً في بيت مالهُ خوش داش، جميعُ الخاصكيّة مع أرغون الدوادار، ولما أمسك السلطان الأمير سيف الدين طغاي الكبير، وكان تنكز في دمشق يترامى إليه ويتعلق عليه، جهز السلطان يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلاً من طغاي، واكتب إليه بما تريد من حوائجك، وعظُم بكتمر وعلا محله وطار ذكرهُ، وكان السلطان لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً إلا أن كان في الدور، وهو إمّا أن يكون في بيت بكتمر أو بكتمر عنده، وزوجهُ أم أحمد ابنه وهي جارية السلطان وحظيّته، ولا يأكل السلطان إلاّ في بيت بكتمر مما تطبخه له أم أحمد في قدر فضّة وينام عندهم ويقوم، وكان الناس ما يعتقدون إلا أن أحمد ولد السلطان مما يطيل حمله وتقبيله، وقد تقدم ذكر أحمد المذكور في الأحمدين. ولما شاع ذكر بكتمر وقُربه من السلطان، وتسامعَ الناس به قدّموا له غرائب كل شيء، وأهدوا إليه كل شيء نفيس، ومهما حُمل إلى السلطان من نوّاب الشام وغيرهم كان له مثله أو قريباً منه، والذي يجيءُ للسلطان غالبُه يصل إليه، إلى أن عظمت أمواله وظهرت أعماله. وكان من أحسن الأشكال وأظرف الأشخاص التي تزول برؤيتها الأنكاد والأنكال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 طلق المحيا بساما، حلو الكلام كأن ألفاظه الدر نظاماً، كأنما جسمه بُلاّر، وخداهُ ذوبُ عقيق أو جلّنار، أشقر بحواجب سود وعيون مثلها، وجفون قلما يرى في الناس مثلها، مستعذباً لطيفاً بمن يقصده، رؤوفاً بمن يلتجئ إليه ويرصده، لا تُرد له إشارة، ولا يعطّل السعدُ عشاره، فهو عبارة عن الدولة وسلطانها، وهو المتمتع بنيل أوطارها في أوطانها، وإذا ركب كان بين يديه ظمئتا عصا نقيبٍ، وإذا نزل إلى إصطبله فهي زورة حبيب غفل عنها الرقيب، عمر لهُ السلطانُ إصطبلاً على بِرْكةِ الفيل على الجسر الأعظم، وفيه دار قل أن رأت مثلها العيون، أو اقتضتها من الأماني ديون. أخبرني نور الدين الفيومي، وكان شاهداً على هذه العمارة وهو صاحبي، أن نفقة هذه العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمس مئة درهم مع جاه العمل. لا، العجل من عند السلطان، والحجارين والفعول من المحابيس، فقلت له: فكم مقدار ذلك لو لم يكن جاه، فقال لي: على القليل في كل يوم ثلاثة آلاف درهم، وأقاموا يعمّرون فيها مدة أشهر. وخرجت أنا من القاهرة وهم يعملون في الجل ولم يصلوا إلى الرخام والمنجور وعرق اللؤلؤ والسقوف المدهونة بالازورد والذهب. ولما توفي في طريق الحجاز عائداً في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، خلّف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزرد خاناه ما يزيد على الحد ويستحي العاقل من ذكره. أخبرني المهذب كاتُبه قال: أخذ السلطان من خيله أربعين فرساً، قال هذه لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 ما وهبته إياها، وأبعنا الباقي من الخيل، على ما نهبه الخاصكّية وأخذوه بثمن بخس بما مبلغه ألف ألف درهم ومئتا ألف وثمانون ألف درهم، خارجاً عما في الجشارات، وأنعم السلطانُ بالزرد خاناه والسلاح خاناه التي له على قوصون بعد ما أخذ منها سرجاً وسيفاً. قال لي المهذب كاتبه: القيمةُ عن ذلك ست مئة ألف دينار، وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهراً مثمناً لا يُعلم قيمة ذلك، وأبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات والحمايليه ونُسخ البخاري المختلفة ومن الأدوية الفولاذ والمطعمة البصم بسفط الذهب وغير ذلك، ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندري والبغدادي وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة، ودامَ البيعُ لذلك مُدة شهور، امتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور بيع موجود بكتمر واستعفى، قلت له: لأي شيء فعلتَ ذلك؟ قالَ: ما أقدر أصبر على غبن ذلك لأنه المئة درهم تباع بدرهم. ولما خرج السلطان خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة، كتب في سريا قوس فرأيت ما هالني وخرج ساقه للناس كلهم، وكان ثقله. وحاله نظير ما للسلطان، ولكن يزيد على ذلك بالزركش وآلات الذهب. ووجدوا في خزانته في طريق الحجاز بعد موته خمسَ مئة تشريف منها ما هو أطلس بطرز زركش وحوايص ذهب وكلوتات زركش، وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب الأقلام، ووجدوا على ما قيل قُيوداً وزناجير، والله أعلم بحقيقة الباطن في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 وتنكر السلطانُ له في طريق الحجاز واستوحش كل منهما من صاحبه، فاتفق أنهم في العود مرض ولده أحمد، ومرض بكتمر والده بعده، ومات ابنه قبله بثلاثة أيام. وعمل السلطان لأحمد تابوتاً وغشاهُ بجلدِ جمل وحمله معه. ولما مات بكتمر أمرَ السلطان للأمير سيف الدين بهادُر المعزي أن يدفنهما في الطريق عند نخل، وحث السير بعد ذلك. وكان السلطان بعد ذلك في تلك السفرة كلها لا ينام إلا في برج خشب وبكتمر عنده، وقوصون على الباب، والأمراء والمشايخ كلهم حولّ البرج ينامون بسيوفهم، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك، فعلم الناسُ أن ذلك الاحتراز كان خوفاً من بكتمر، وقيل: إنه دخل إليه السلطان وهو مريض في الحجاز فقال: بيني وبينك الله، فقال: كل من عمل شيئاً يلتقيه. ولما مات صرخت أم أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بكلام قبيح في حق السلطان من جملته: أنت تقتل مملوكك أنا ابني إيش كان؟ فقال لها: بس تفشرين، هاتي مفاتيح صناديقه أنا كل شيء أعطيته من الجوهر أعرفه واحداً واحداً، فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها. ولما حضر السلطان أظهر الندمَ عليه والخزن والكآبة، وأعطى أخاه قُماري إمرة مئة وتقدمة ألف، وكان يقول: ما بقي يجينا مثل بكتمر، ثم إنه أمر بحمل رمّته ورمةِ ولده من طريق الحجاز ودفنهما في تربته بالقرافة. وكان للزمان به جمال وعلى الملك به رونق. جاء أحمد بن مهنّا بعد قدوم السلطان من الحجاز ودخل يوماً إلى قاعدة الإنشاد وقال لنا سراً: بيت السلطان الآن يعوز شيئاً، وذلك الشيء كان بكتمر الساقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 وقيل: إن السلطان كان يسير في طريق الحجاز وراء محفّة بكتمر وهو فيها مريض قدر رمية نشّاب، فإذا وقفوا به وقف وإذا مشوا به مشى، ويُجهز إليه بُغا الدوادار لكشف خبره، فلما جاء إليه وقال: يا خوند، مات ساق في مماليكه الخواص، وقال للحاج بهادر المعزي: يا أمير قف وغسله وادفنه، خلاه وسار يحثث السير، فعند ذلك نزل الأمير سيف الدين قوصون عن هجينه بعد ما عرّج عن الطريق، يُظهر أنه بُريق الماء واستند إلى الهجين وجعل يبكي والمنديل على عينيه، فقال له المملوك الذي معه: يا خوند ليش تبكي، ما كان بكتمر عدوّك؟ فقال: والك أنا أنا ما أبكي إلى على نفسي هكذا يُفعل ببكتمر؟! ومن فينا مثل بكتمر؟! ومن بقي بعد بكتمر؟! ما بقي إلا أنا. وكان قصر بكتمر في سريا قوس بخلاف قصور بقية الأمراء لأنه قبالة قصر السلطان بحيث إنهما يتحادثان من داخل القصر، وعمر له بالقرافة خانقاه وتربةً مليحتين، وكان في إصطبله على البركة مائة سطل نحاس لمئة سائس، كل سائس على ستة أرؤس غير ماله في الجشارات والقرايا، ومع هذه العظمة والتقدم التمكن لم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر، ومن المغرب يغلق باب إصطبله وما لأحدٍ به حس، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة، وما يخالفه السلطان في شيء، وكان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة ظهرت من السلطان بعد موت بكتمر رحمه الله تعالى. ولما تزوج آنوك ابنُ السلطان - على ما تقدّم في ترجمته - كنت أنا بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ورأيت الشوار الذي حُمل من داره التي على بكرة الفيل إلى القلعة. وكان عدة الحًمالين ثمان مئة حّمال، المساند الزركش عشرة على أربعين حّمالاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 المدورات ستة عشر حمالاً، الكراسي اثني عشر حمالاً. كراسي لطاف أربعة حّمالين، فضّيات تسعة وعشرين حّمالاً سُلم الدكك أربعة حمالين، الدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مئة واثنين وستين حمالاً، النحاس الكُفت ثلاثة وأربعين حّمالاً، الصيني ثلاث وثلاثين حمالاً، الزجاج المذهب اثني عشر حّمالاً، النحاس الشامي اثنين وعشرين حّمالاً، البعلبكي المدهون اثني عشر حّمالاً، الخونجات والمخافي والزبادي النحاسي تسعة وعشرين حمالاً، صناديق الحوائج خاناه ستة حّمالين، وغير ذلك تتمة العدّ، والبغال المحمّلة الفرش واللحف والبسط والصناديق التي فيها المُصاغ تسعة وتسعين بغلاً. وقال لي المهذب الكاتب: الزركش والمُصاغ ثمانون قنطار ذهب بالمصري. وكان مما لبكتمر على السلطان من المرتّب في كل يوم مخفيتان يأخذ عنهما من بيت المال في كل يوم سبع مئة درهم، كل مخفية ثلاثة مئة وخمسون درهماً. وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولاه وظيفة حتى يبوس الأرض ويبوس يده، يقول له: روح إلى الأمير وبوس يده. وعلى الجملة فكان أمره غريباً، ولقد كان رحمه الله تعالى أهلاً لتلك النعم الجمةِ لأنه كان جيّد الطباع حسنّ الأخلاق ليّن الجانب سهلّ الانقياد، رحمه الله تعالى. وكنت قد قلتُ: بذلتُ موجودي إذ زارني ... حبي وأدنت على الباقي فقال لي دُم هكذا قلتُ هل ... تحسبني بكتمُر الساقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 بكتمر الأمير سيف الدين الحسامي. كان بدمشق حاجباً، ثم إنه ولي الشد، ثم ولي مكانه في الشد الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، وأعيد سيف الدين بكتمر إلى الحجوبيّة بدمشق، وفرح بإقالته من الشد، وكان عزله من الشد في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة. ثم إنّه توجّه لولاي الولاية بالقبليّة ورُسمَ بطلبه إلى مصر، فتوجّه في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إلى القاهرة ولاّه السلطان ثغر الإسكندرية، فأقام بها إلى ورد البريد إلى دمشق وأخبرَ بوفاته في ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وقال: وفاته في خامس شهر رمضان، وتولّى عوضه صلاح الدين دوادار قبجق. بكتوت بدر الدين بن عبد الله المحمّدي. أخبرني من لفظه العلاّمة أثير الدين قال: اشتغل علي بيسير من النحو، وأنشدني لنفسه: بجلقٍ لي حبيبٌ ... بوصله لا يجُودُ فقلبُه قاسيونٌ ... ودمع عيني يزيدُ وأنشدني لنفسه أيضاً: من لي بظبي غريرٍ ... باللحظِ يسبي الممالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 إذا تبدى بليل ... جلا سناهُ الحوالك من حُور رضوانَ أنهى ... لكنه نجل مالك قلتُ: شعر متوسط فارغ. بكتوت الأمير سيف الدين شكار، نائب السلطنة بثغر الإسكندرية. كان قد عُزل من النيابة، وبقي مدةً إلى أن توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في أواخر شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبع مئة. بكتوت الأمير بدر الدين الأزرق مملوك السلطان الملك العادل كتبغا. أمسكه حسام الدين لاجين وقتله، وقتل خواشداشه بُتخاص. وكان الخلفُ قد وقع على اللجون في مرج بني عامر، ولّما بلغ ذلك الملكَ العادل خرج من الدهليز ولم يفطن به، وتوجه إلى جهة دمشق وساق حسام الدين لاجين للخزانة، والعساكر بين يديه، وذلك يوم الاثنين، ثامن عشري المحرم، سنة ست وتسعين وست مئة. بكتوت الأمير بدر الدين القرماني. كان عنده معرفة، والتفاتة إلى حُب الدنيا مسرفه، وتهور يقدم به على الخطر قبل أن يعرف مصرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 عالج صناعة الكيمياء حتى في الاعتقال، وكان الأولى به الفكر في الخلاص من تلك الضائقة والانتقال، وتنفس على تنكز فما نفسّ له خناقا، وضرب عليه في القلعةِ من البرجِ رواقا. وكان قد باشر شد الدواوين بدمشق سنة إحدى عشرة وسبع مئة في شهر رمضان عوضاً عن الأمير سيف الدين طوغان، ثم إنه عُزل بفخر الدين أيّاس الشمسي، وجُهّز إلى الرحبة ثانياً في أول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وتوجّه إلى نيابة حمص عوضاً عن الحاج أرقطاي في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين البدري عوضاً عنه في صفر سنة تسع عشرة وسبع مئة. وحضر إلى دمشق ثم جرد إلى سيس صحبة العسكر في سنة عشرين وسبع مئة، وعاد، ولم يزل بدمشق إلى أن وقع له ما وقع مع الأمير سيف الدين تنكز، فأمرَ باعتقاله في قلعة دمشق في آخر يوم من جمادى الأولى سنة ست وعشرين وسبع مئة، ولم يزل في الاعتقال إلى أن ورد المرسوم بتجهيزه إلى مصر مقيداً في حادي عشر شوال سنة سبع وعشين وسبع مئة، وفي مستهل المحرّم سنة أربع وثلاثين أفرجَ عنه وعن الأمير بهاء الدين أصلم وأخيه قرمشي. بكتوت الأمير سيف الدين الغرزي العزيزي الناصري. كان حاجباً بالشام مشكور السيرة، له همة مع كبر سنّه، مواظباً على المشي إلى الجامع في أوقات الصلوات وحده ويحمل نعله بيده، وسمع من النجيب عبد اللطيف الحراني هو وأولاده، وما روى شيئاً، وكان من أعيان الأمراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 توفي رحمه الله تعالى خامس شهر بيع الأول تسع وتسعين وست مئة، دفن بسفح قاسيون. الكنى أبو بكر بن إسماعيل ابن عبد العزيز، الشيخ الإمام العالم الفقيه البارع المفتي مجد الدين السنكلوني: بالسين المهملة وبالنون الساكنة والكاف وبعدها لام وواو وميم، وسنكلونة قرية من أعمال بُلبيس، والناس يقولون: الزنكلوني. تفقه على جماعة، وسمع من الأبرقوهي، ومحمد بن عبد المنعم، علي بن الصواف، ويحيى بن أحمد الصوّاف، وعدّة. لازم الحافظ سعد الدين وسمع منه في المسند، وصنف التصانيف منها: شرح التنبيه في خمس مجلدات، وشرح التعجيز في ثمانية، وشرح المنهاج ولم يطوله، واختصر الكفاية لابن الرفعة. وخرّج له الشيخ تقي الدين بن رافع مشيخة، وحدّث بها، وأخذ عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 شمس الدين السروجي وابن القطب وأبو الخير الدهلي. ومم تفقّه عليه أقضى القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي الشافعي وغيره. ودرس بجامع الحاكم وبالبيبرسيه، وأعاد بأماكن، وعرض عليه قضاء قوص فامتنع. وكان قد برع في المذهب وحمل علمه المُذهب، وشارك في العربيّةِ والأصول، وجادل لا بل جالدَ بالنُصُول، مع تصون ووقار، وعبادةِ ورفض للدنيا واحتقار. ولم يزل على حاله إلى أن هُدم من المجد ركُنه المشيد، وأصبح بعد ما كان فوق الأرض وهو تحت الصّعيد. ووفاته في سابع شهر ربيع الأول سنة أربعين وسبع مئة. ومولده سنة بضع وسبعين وست مئة. أبو بكر بن عبد الله ابن أحمد بن منصور بن أحمد بن شهاب، الصاحب ضياء الدين النشائي بالنون والشين المعجمة وألف ممدودة بعدها ياء النسبة. وزر أيام الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وكان قد وليها في سنة ست وسبع مئة بعد عزل الصاحب سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا في شهر المحرّم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 وولي أيضاً تدريس قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه ومشيخة الميعاد بجامع ابن طولون. ونظر الأحباس في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان بان سعيد الدولة معه مشيراً، وكان الأمر كله لابن سعيد الدول والاسم لضياء الدين. وولي نظر النظار بالقاهرة، ثم تولى نظر الخزانة قبل موته. وكان الصاحب ضياء الدين مشكور السيرة، طاهر السريرة، فقيهاً فاضلاً، حبراً مناظراً مناضلاً، يعرف الفرائض جيداً، وغالبُ أقرانه يكون فيها عنه متحيّدا، وهو معروف بصحبة الشيخ شرف الدين الدمياطي، وله أخذ في الحديث وتعاطي. ولم يزل على نظر الخزانة إلى أن فُك من النشائي ختمُ عمره، ومُحي من الوجود رسمُ سطره. ووفاته رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة. وفيه قال: إن بكى الناسُ بالمدامع حُمراً ... فهو شيءٌ يُقال من حناءِ فاختم الدست بالنشائي فإني ... لأرى الختم دائماً النشاءِ أبو بكر بن محمد بن قلاوون السلطان الملك المنصور سيف الدين ابن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 وصى أبوه الناصُر له بالملك بعده، وقام في صفّه قوصون، وقام بشتاك في صفّ أخيه أحمد، وجرى ما ذكرته في ترجمة بشتاك. وجلس على كرسي الملك في يوم الخميس عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، ثاني يوم وفاة والده، واشتمل المنصور على طاجار الدوادار، فيُقال إنَّه حَسّن له القبض على قوصون، وقال له: ما يتم لك أمرّ وقوصون هكذا، فتحدّثوا في إمساكه وعنده جماعة من خواصّ والده، فنقلوا ذلك لقوصون، فاتفق قوصون مع أيد غمش أمير آخور وغيره من الأمراء وخَلّعوه، وأراد الركوب فخذله أيدغمش، ولو قدر الله بالركوب لنجا. ولم يمضِ لقوصون أمر، لأن الناس إذا ركبوا طلبوا السلطان وانضّموا عليه. ثم إن قوصون أجل الملك الأشرف كجك على كرسي المُلك وحلفوا له العساكر، وكان صغيراً تقدير عمره ست سنين وما حولها، وجلس قوصون في النيابة، وجهّز المنصور إلى قوص ومعه الأمير سيف الدين بهادر بن جركتمر مثل الترسيم عليه، ومعه أخويه يوسُف ورمضان وغَرّقُوا طاجار الدوادار، وقتلوا بشتاك في السجن، واعتقلوا جماعة من الأمراء الذين حوله. ثم إن قوصون كتب إلى عبد المؤمن متولي قوص، فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سراً في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، وكتموا ذلك، فلّما أمسك قوصون تحققَ الناسُ ذلك، وجاء من حاقق بهادر، وطلبوا عبد المؤمن واعترف بذلك، وسمره الملك الناصر أحمد بالقاهرة، وكان لّما استقر أمرُ المنصور ألبس الأمير سيف الدين طقزتمر تشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 النيابة بمصر وهو حموه، وألبس الأمير نجم الدين محمود بن شروين تشريف الوزارة، ومشت الأحوال على أحسن ما يكون، وانتظمت الأمور، وحُلف نُواب الشام وعساكره، ولم ينتطح فيها عنزان، ولا جرى خلاف ولا سُل سيف، ولا سُفك دم، ولو ترك القطا ليلاً لنام ولكن لّما أرادوا خلعه رموه بأوابد ودواهي، وادعوا أنه يركب في الليل في المراكب على ظهر النيل، وقالوا أشياء الله أعلم بأمرها. وكان رحمه الله تعالى شابّاً حُلو الصورةِ أسمر اللون مليح الكون، في قوامه هيف ولين، وحركةٌ داخلة تنتهي إلى تسكين، وهو أفحلُ إخوته أشجعهم، وأقربهم إلى دواء الملك وأنجعه، وكرمه زائد التخرّق في العطاء، والتوسع في كشف الغطاء، حُمل إليه مال بشتاك ومال آقبغا عبد الواحد ومال برسبغا، مّما يقارب أربعة آلاف ألف درهم، ففرقهُ على خواصّ أبيه مثل الحجازي ويلبغا وألطنبغا المارداني وطاجار الدوادار. وكان والده رحمه الله قد زوّجه ابنة الأمير سيف الدين طقزتمر، ولّما جاء أخوه الناصر أحمد عمل الناس عزاءه ودار في الليل جواريه بالدرادك في شوارع القاهرة، وأبكين الناس ورحمه وتأسفوا على شبابه لأنه خذل وأخذ بغتة وقُتل غضاً طريّاً، ولو تُرك لكان ملكاً سَؤوساً. كان في عزمه أن يُحيي رسوم جدّه الملك المنصور قلاوون، ويجري الأمور في سياسة الملك على قواعده ويُبطل ما أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم. وكانت مُدة ملكه شهرين وأياماً. وقلت أنا في عزائه مُضمناً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 أقول وقد دارت جواري الدرادك ... لقبر ثوى بين اللوى فالدّكادك أبتكين عجزاً كونها ما تهللت ... نواجذُ أفواه المنايا الضواحك لقد خُذلك المنصور ظالماً ومادجا ... نهارُ وغاهُ من غبار السنابك فصبراً على ريبِ الزمان وغدرهِ ... فما الناسُ إلاّ هالك وابن هالك أبو بكر بن محمد ابن الرضي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي الجَمَّاعيلي الصالحي القطّان. الشيخ الصالح المقرئ، مسند وقته، أجاز له عيسى الخياط، وسبط السلفي، سبط الجوزي، ومجد الدين بن تيميّة، وخلق، وحضر خطيب مردا، والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي، ثم سمع منه في سنة سبع، ومن إبراهيم بن خليل، وبعد الله بن الخشوعي، ومن ابن عبد الدايم والرضية بن البُرهان صحيح مسلم، سوى فوت مجهول يسير. وحضر أيضاً محمد بن عبد الهادي، وتفرد بأجزاء وعوَال، وروى الكثير. وكان فيه غزير النوال. وكان شيخاً مباركاً، مكباً على التسميع لا تاركاً، حسن الصحبة، صادق المحبة، حميد الطريقه، يُجملُ بمحاسنة فريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 حدث بأماكن، أكثر عنه ابن المُحبّ، وأولاده، وأخوه، والسّروجي، والدهلي، ابنا السفاقسي، وخلق. ولم يزل على حاله إلى أن انطبقت عليه الغبرا، وحُجبت عنه الخضرا. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. أجاز لي بخطه في دمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أبو بكر بن يوسف ابن أبي بكر بن محمود بن عثمان بن عبدة، الإمام المدرس بقية المشايخ، زين الدين المزي الدمشقي الشافعي، يُعرف بالحريري، لأنّ أمه تزوجت بالشمس الحريري نقيب ابن خلكان، فربّاه. تلا بالسبع على الزواوي وغيره، وسمع من الصدر البكري، وخطيب مردا، وجماعة، ودرس التنبيه وغيره، ودرس بالقليجية الصغرى وغيرها، وولى مشيخة القراءات والنحو بالعادلية مدة، وسمع ابنه وابن ابنه شرف الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 وسَمَع منه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة وابنه والطلَبة. وكان ودُّه صحيحاً، وانحرافه عن أصحابه شَحيحاً، يصحب الناس، ويجانب الأدناس، بادي الخير لمن يعرفه، يَقْدر على الشر فيصرفه. ولم يزل على حاله إلى أن نعي لمعارفه، وأنفقه الموتُ في مَصارفه. ووفاته، رحمه الله تعالى، في نصف شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وأربعين وست مئة. أبو بكر بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن أبي بكر، الشيخ صالح العالم العامل الزاهد العابد، صفيّ الدين السّلامي. كان رجلاً صالحاً سعيداً، سافر إلى البلاد في التجارة، وكان موصوفاً بالأمانة والديانة، ثم إنه ترك ذلك وانقطع بالقدس مدّة، ثم انتقل إلى المدينة النبوية في سنة عشر وسبع مئة واستوطنها، ويحج في كل سنة ويعود إلى المدينة، وربّما أقام بعض السنين في مكة، وحدّث بالحجاز بجزء الأنصاري بسَماعه من ابن البخاري. وتوفي في سادس عشري ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة. أبو بكر بن أيبك الأمير حسام الدين بن النجيبي. كان آخر أمْره أمير عشرين فارساً بدمشق، كان من بقايا الناس وممن تأخر فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 رَمَق الإكرام والإيناس، يصحب أهل العلم ويودّهم ويكرمهم ولا يصدّهم، ويأنس بالفقراء والصلحاء، ويحنو على المساكين والضعفاء، وكان يعمل المولد النبوي في كل سنة ويدعو لمأدبته لجَفَلَى، ويحشر إليها الناس من أهل الحضارة والفلا، ويتنوّع في الأطعمة والمشروب والفواكه، ويحتفل بذلك فما يُرى له فيه مُشارِك ولا مشاكِه. وولي عدّة ولا يأت وباشر في عدة جهات، إلى أن سرى الفساد إلى كونه. وطُرِد الحِفاظ عن صونه. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة. وكان الأمير سيف الدين تنكر رحمه الله تعالى بحبه ويكرمه، وولاّه شدّ الأوقاف بدمشق في يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، عوضاً عن ناصر الدين بن بكتاش. أبو بكر بن أحمد بن عبد الدايم ابن نِعمة المقدسي الصالحي، الشيخ الصالح المُعَمّر اليقظ، مسند الوقت يعرف بالمحتال. سمع سنة ثلاثين وست مئة على الفخر الإربلي، وسمع الصحيح كلّه على ابن الزَّبيدي، وسمع من الناصح بن الحنبلي، وسالم بن صَصْرى، وجعفر الهمداني، والشيخ الضياء وجماعة، وأجاز له ابن روزبة وأقرانه من بغداد. وحجّ ثلاث مرات، وأضرّ قبل موته بأعوام، وثقل سمعه، ولكن كان ذا همةٍ وجلادة وفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وحدّث في زمان والده، وروى عنه ابن الخبّاز، وابن نفيس، والقدماء، وعاش كأبيه ثلاثاً وتسعين سنة. انتهى إليه عُلُوّ الأسناد، وأصبحت الرواية به وارية الزناد، وراج كوالده في الإسناد، كالرمح أنبوباً على أنبوب، وكل مُحدّث إليه يقرع الظنبوب، وله أذكار وعبادة، وفيه رغبة عن الدنيا وزهَاده، وحدّث ب الصحيح غير مرة، وصار ذلك له عادةً مُستمَرّه. ولم يزل على حاله إلى أن أتى الفناء إلى ابن عبد الدائم، واتصل بمن هو على كل نفس قائم. ووفاته تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس أو ست وعشرين وست مئة. أبو بكر بن عمر ابن أبي بكر الشقراوي، بالشين المعجمة والقاف والراء، نسبة إلى وادي الشقراء بدمشق. سمع من ابن عبد الدائم، وغيره. وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أبو بكر بن شرف. ابن مُحسِن بن معن بن عمّار، الشيخ الإمام تقي الدين الصالحي الحنبلي. أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى، قال: هو رفيق الشيخ تقي الدين بن تيميّة في الاشتغال، وله تصانيف. توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده في شوال سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وسَمِع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وعبد الوهاب بن الناصح، وجمال الدين بن الصيرفي، والنجم عبد الرحمن بن الشيرازي، والشيخ شمس الدين الحنبلي، وابن البخاري وغيرهم. وله إجازات من جماعة، وسمع بالقاهرة وحلب، وكان فقيراً، وله أولاد، وكان فاضلاً، وله كلامٌ وعبارة فصيحة، ومعرفة بأنواع من الفضائل، وكان يجلس بجامع حمص ويتكلم وله قدرة على التفهيم وينفع السامعين. أبو بكر بن أحمد بن برق السنبسي الدمشقي الأمير سيف الدين. كان أمير عشرة، سمع من أبي اليسر ولم يُحدّث بشيء، ووقف سُبْغا بجامع الأموي، وكان من أبناء الثمانين. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وهو والد شهاب الدين بن أحمد بن برق متولي دمشق، وقد تقدّم ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 أبو بكر بن عمر بن الجزري الشيخ الإمام الزاهد الورع تقيّ الدين المعروف بالمقصَّاتي. كان رجلاً صالحاً، لا يزال ميزان حَسَناته راجحاً، عارفاً بالقراءات السبع، يرمي فيها عن قوس هي من النبع، واظب على إقراء القرآن بالعراق والشام أكثر من خمسين سنة، وجاهد على القراءة بها بمقلة وَسِنَه. وكان عنده وَرَعٌ واجتهاد، وصَبرٌ على الطلبة ومتابعة الأوراد، وكان ينقل من الشواذ كثيراً، ويروي منها محاسن، وجوهها في العربية ناضرة ولم تجد لها نظيراً. ولم يزل على حاله إلى أن قُصّ جناح المقصّاتي بجَلَم الموت، ودخل مع من دخل في نسخة الوجود بالفوت. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت حادي عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده بالجزيرة، وتجاوز الثمانين، ونشأ بالموصل وأقام ببغداد ودمشق ولازمها إلى أن مات. وكان يعرف القراءات العشرة وغيرها، وعندها طرف من العربية، وروى القراءة والتيسير من الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش البغدادي، ووليَ إمامة الرباط الناصري والمدرسة الظاهرية ودار الحديث الأشرفية. وناب في الإمامة والخطابة بالجامع الأموي أكثر من عشر سنين، وبه انتفع جماعة كثيرة. وتوفي بمنزله في باب البريد رحمه الله تعالى. أبو بكر بن عبد العظيم القاضي الصدر أمين الدين بن وجيه الدين المعروف بابن الرقاقي - براءٍ وقافين بينهما ألف - المصري الكاتب. كانت له مباشرات، وخلطة بالأكابر ومعاشرات، وعند رئاسة، ولديه في الإحسان نفاسه، باشر عدة وظائف بمصر والشام، وشكره في ذلك جميع الأنام، وتولّى بمصر نظر بيت المال ونظر البيوت ونظر الدواوين، وباشر نظر الدواوين بالشام مدة، ثم إنه انتقل إلى القاهرة. ولم يول إلى أن خانت أمين الدين حياته، وأتاه بالرَّغْم مماتُه. ووفاتُه رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة بالقاهرة. وعزل من نظر الدواوين بدمشق في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة. وكان قد وصل إلى دمشق على وظيفة النظر في مستهل جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. أبو بكر بن محمد القاضي الزاهد الوَرع العابد قطب الدين بن المكرَّم. أحد كُتّاب الإنشاء بالديار المصرية، رافقته مُدّة بديوان الإنشاء بقلعة الجَبَل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 وكان يَسْرد الصوم، ويتعبّد في الليلة واليوم، ويَكثر المجاورة بمكة والمدينة والقدس، ويخلو بنفسه في هذه الأماكن الشريفة فيجد البركة والأُنس. وكان ذا شَيْبة بيّضتها الليالي، ونوّرتها المعالي. وتَنَجَّز توقيعاً من السلطان الملك الناصر بأن يقيم حيث شاء من المساجد الثلاثة ويكون معلومه راتباً من بعده لأولاده ولأولاد أولاده أبداً، ولم أره يكتب شيئاً؛ لأنّ صاحب الديوان كان يُجلّه لتجلّيه، وجاور بمكة وأقام بها أخيراً، ثم إنه أتى إلى القدس الشريف وأقام به مُدّة إلى أن كَرّم الله لقاء ابن المكرّم، وخلّصه ممن تَجَرّأ أو تجرّم. ووفاته بالقدس في أواخر شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، عن اثنتين وثمانين سنة وأشهر، رحمه الله وعفى عنه. أبو بكر بن عمر بن السلاّر بتشديد اللام بعد السين المهملة، وبعد الألف راء، الفاضل ناصر الدين. رَوَى عن ابن عبد الدائم. وكتب عنه الشيخ علم الدين البِرزالي وغيره. وكان ذا جَلَدٍ على الجِدال، وقُدرةٍ على المناظرة والاستدلال، جيّد العبارة، بديع الكناية والاستعارة، تفنّن في الفضائل، وتوسّع في إيراد الدلائل، ونَظم شعراً كثيراً، وعلا به مَحَلاًّ أثيراً، وهو من بيت حشمة وإمارة، وللرياسة عليه دليلٌ وأَمَاره، مع عِزّة في نفسه، وإعراضٍ عمّا في أبناء جنسه، وهِمّةٍ تبلغ الثريّا، وعَزْمةٍ يتضوّع بها المجدرَيّا. ولم يزل على حاله إلى أن استجنّه الضريح، وعَدَل الفناء إليه دون الكناية بالصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 ووفاته رحمه الله تعالى في شهر الله المحرّم سنة ست عشرة وسبع مئة. أخبرني شيخنا نجم الدين بن الكمال قال: جرت بيني وبينه مباحث كثيرة في أصول الدين. وأثنى عليه شيئاً كثيراً. ومن شعره ما كتبه إلى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم مع زنبيل أهداه وفيه تين: يا سيِّدي وأجلَّ الناس منزلةً ... عندي وأرعاهم للعهد والذّممِ لا تستقلّنّ شيئاً قد أتاك وقد ... علمْتَ أن الهدايا نبلغُ الهمم وقد بعثْتَ بشيء فيه واحدةٌ ... تكفي الخلائق من عرب ومن عجم له الورى لازموا إلا القليل تُقىً ... وضيّعوا كل ذي قربى وذي رحمِ وغيرُ بدعٍ إذا سرنا مسيرهم ... والناس أشبه بالأزمان في الشيم ولو قدرْتُ على ما أرتضيه لكم ... سَيَّرت شمس الضحى والبدر في الظِّلم وقد أشرت بزَنْبيلي إلى صفتي ... من كُدْيَتي لذوي الأيسار والعَدَمِ فكتب الجواب إليه في غير الوزن، وهو تقصير: يا خير مَنْ أمسكت أنامله الق ... رطاس للرقم فيه بالقلم وخيرَ مَنْ خَصّه الإله وإن ... عمَّ البرايا بالعِلمِ والعلمِ ومَنْ له منطقٌ بلاغتُه ... قد بلّغته جَوامعَ الكَلِمِ مَنْ ذا يطيق الجواب عن أدبٍ ... منثّرٍ جوهراً ومنتظِمِ موجّهاً أتعبت غوامضُهُ ... مقاصداً كل مِدْرَهٍ فَهِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 ألغزَ فيه محبّباً وكنى ... عمّا تلاه الزيتون في القسمِ لفظٌ له معنيان مشترك ... دلّ على مفعم ومهتضمِ حقّق فكري بالحدس مقدصه ... وليس فكري عندي بمتّهم للغير ما قد أتى مغايرةً ... إلى فقيرٍ أشقى من العدمِ فتينُ حوران ما مآكله ... لا أحورٌ بالجمال متِّسمِ أنزله الله بالأثير إذا ... ما دار مثل الكثبان والأكم مركزه والمحيط منه به ... لربّه نعمةٌ من النعم من اصطكاك الأجرام فيه لها ... بمٌّ وزيرٌ يا طيّب النغم وربّما عاد ربّه ولَه ... مدارع كالمداد للقلم لكنّ ذا أصفرٌ وذاك غدا ... كالقار في حُلكةٍ وكالفحم مضمّخاً من لطيمةٍ خلق الخَ ... لوق منها للمعَسر اللطمِ لا زال تينُ الوتين ملتقطاً ... له وتين الأشجار من قسمي وقد اعتصّ الزنبيل من ذل ... ك التين زبيباً تراه كالعَنَمِ وهو كثير من يابس صفرت ... وَطاته من نوائب حُطمِ من ابن هاني شيخ القريض ومن ... ميمون قيس وأشجع السلمي وهم ملوك القريض قادته ... ومُنْشِؤوه من سالف القدمِ فما عسى أن يقوله رجُلٌ ... جُمَيز بستان رأسه بَلمي ومنه: إن عتبا فعُذرنا قد نحققْ ... حين فارقتم الرفاق وجلق كنتم روحَهم فصاروا جسُوماً ... مُزّقت بالغرام كل ممزّق وكذا الروح إذ تفارق جسماً ... بعد وصل أوصاله تتفرّق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 ومنه، دو بيت: يا حُسنَ ذؤابةٍ بدت للناس ... في أسمر رمحٍ قدّه المياس ما واصل إلا قلت إنّي مَلكٌ ... أولوه لواءً من بني العبّاس ومنه: وشادن زارني ليلاً فقلت له: ... في حسن وجهك ما يغني عن القمر فخلّنا بك نخلو لا سمير لنا ... ففي حديثك ما يغني عن السمر وأنشدني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، قال: أنشدني من لفظه لنفسه ابن السَّلاّر: لعمرك ما مصرٌ بمصر وإنما ... هي الجنّة العُليَا لمن يتفكَّر وأولادها الوِلدان من نسل آدم ... وروضتها الفردوس والنيل كوثرُ ومن نظمه القصيدة الميميّة التي سمّاها القصيدة المُشِيعة لعقيدة الشِّيْعة، أولها: سلام على أهل الهدى والتعلّم ... لطُرقْ الهدى من آخر ومقدّمِ أبو بكر بن أحمد بن محمد ابن النجيب بن سعيد، الشيخ الأمين المقريء، شرف الدين الخلاطي الدمشقي سبط الشيخ أحمد إمام الكَلاّسة. سمع من ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وابن أبي اليسر، وعلي بن الأوحد، ومحمد بن النشبي، والمجد محمد بن عساكر، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 وكان رجلاً جيداً، ولي إمامة الكلاسَة، وتركها ووليَ إمامة مشهد ابن عروة، وله إثبات وإجازات. قال شيخنا علم الدين البرزالي: رافقته في الحج سنة عشر وسبع مئة، وقرأت عليه ببطن مَرٍّ، وبمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. وكان ابتداء مرضه في العشر الأواخر من شهر رمضان، صلى ودعا، وحضر إلى بيته وهو لا يتكلم، ثم إنه مرض وتغيّر ذهنه، واستمر على ذلك إلى أن مات، وحرص أهله على أن يجيبهم أو يتكلم معهم فلو يسمَعُوا منه شيئاً، وكان يظهر عليه أنه يفهم كلامهم، ويبكي رحمه الله تعالى. أبو بكر بن محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خِلطان: الشيخ القاضي نجم الدين بن القاضي بهاء الدين. سمع المقامات من ابن أبي اليسر، وكتب عنه من شعره، وحدّث بالإجازة عن سبط السِّلفيّ. كان فقيهاً يعرف الفرائض، ويُجيد ما في مسائلها من الغوامض، وتولّى ببعض البلاد الشامية والنواحي التي يغلبُ على أهلها العاميّة، إلا أنه كان في عقله اضطراب، بل في عقيدته الباطلة، ورُمي بأشياء ما نجا معها من السيف إلا لما لأجله من المدافعة والمماطلة. وكان يعتقد أنه يكون له دوله، وأن تسل السيوف إذا مشى حَولَه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 ولم يزل على ذلك إلى أن مات بغصّته، ولم يحصل له من الملك بعض حصّته. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وقد قارب الثمانين، وكان بالمدرسة الناصرية بالقاهرة. / الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم بقية الكنى أبو بكر بن محمد بن سلمان ابن حمايل: القاضي الفاضل الكاتب بهاء الدين بن القاضي شمس الدين بن غانم أحد الإخوة، تقدم ذكر أخيه شهاب الدين أحمد في الأحمد في الأحمدين، وسيأتي ذكر أخيه القاضي علاء الدين بن غانم في مكانه من حرف العين. كان كاتباً بليغاً، لا يبيت من العي لديغا، إلا أن حظه لم يكن قويا، ولا هو في طريق المنسوب يرى سويا. وكان له ميل إلى الصور الجميله، والجفون الكحيله، والوجنات الأسيله، إذا رآها هام فيها صبابه، وذهبت نفسه إلا صبابه، على ما عنده من العفه، وثقل المسكة التي لا توازنها الشهوة بالخفه، وعليه روح في السماع، وحركات لا يخرج بها عن الضرب والإيقاع. يدور ودموعه سائله، ونفسه من الوجد زائله، فيجد الناس به أنسا، ويرون منه ما يسمعونه عن كآبة الخنسا. كان كاتب إنشاء بطرابلس في أيام الأمير سيف الدين أسندمر، ثم إنه حضر إلى دمشق وكتب الإنشاء عند الصاحب شمس الدين بدمشق، ثم لما جرى للقاضي زين الدين عمر بن حلاوات ما جرى على - ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة عمر - جهز القاضي بهاء الدين بن غانم عوضه إلى صفد موقعاً، فأقام بها بين يدي نائبها الحاج أرقطاي تقدير تسع سنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ولما توفي زين الدين بن حلاوات موقع طرابلس نقل إليها القاضي بهاء الدين بن غانم، فتوجه إليها وأقام بها إلى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فقضى بها نحبه، وفارق من ألفه وأحبه في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر من السنة، وكان قد حفظ التنبيه، ومن مسموعاته مسند الإمام أحمد على ابن علان. وكان في صفد قد حصل له ميل إلى مغن يدعى طقصبا، وصار يعمل به السماع في كل ليلة، وقرر ذلك كل ليلة عند واحد من أكابر الناس. وأنشدني من لفظه لنفسه: لا ترجّى مودةٌ من مغنّ ... فمعنّى الفواد من يرتجيها أبداّ لا تنال منه وداداً ... ولك الساعة التي أنت فيها وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه: كدت أبلى ببليّه ... من جفونٍ بابليّه فتكت في القلب لكن ... كانت التقوى تقيّه وأنشدني من لفظه لنفسه: يا من غدا مشتغلاً ... عمن به يشتغل بيتك قلبي وهو من ... هجرك لي يشتعل وأنشدني من لفظه لنفسه في بدر الدين بن الخشاب مشد صفد وشرف الدين بن كسيرات الناظر وكانت له عذبة: يا ماعرا صفداً مذ حلّ منصبها ... وحلّ بالشدّ عقداً من مآثرها دقّت بدرّة نحسٍ لا خلاق له ... أما تراها علت أكتاف ناظرها وأنشدني من لفظه لنفسه: يا سيّداً حسنت مناقب فضله ... فعلت بما فعلت على الآفاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 حاشاك تكسر قلب عبدٍ لم يزل ... توليه حسن صنائع الإشفاق هب أنه أخطا وأذنب مرّةً ... مولاي أين مكارم الأخلاق كتب هو إلي من طرابلس وأنا مقيم بدمشق، وقد تأخرت مكاتباتي عنه، ثلاثة أوصال ورق أبيض وفي ذيلها مكتوب، ولم يك فيها غير ذلك: سبحان من غيرّ أخلاق من ... أحسن في حسن الوفا مذهبا كان خليلاً فغدا بعد ذا ... لمّا انقضى ما بيننا طقصبا أشار بذلك إلى أمر طقصبا المذكور، وكان له عم أسود زوج أمه يدعى خليلاً، وكان ينغص علينا الاجتماع بحضوره، ولما كتب هذه كان طقصبا المذكور رحمه الله تعالى قد توفي بصفد من مدة، فحسن لذلك إبراز هذين البيتين في هذه الصورة، فكتبت أنا الجواب: يا باعث العتب إلى عبده ... وما كفاه العتب أو ندّبا ومذكري عهداً لبسنا له ... ثوب سرور بالبها مذهبا مرّ فلم يحل لنا بعده ... عيش ولم نلق الهوى طيّبا ما كلّ ذي ودّ خليلٌ ولا ... كلّ مليح في الورى طقصبا فحبّذا تلك الليالي التي ... كم يسّر الله بها مطلبا ما أحدٌ في مثلها طامعٌ ... هيهات فاتت في المنى أشعبا وينهي بعد دعاء يرفعه في كل بكرة وأصيل، وولاء حصل منه على النعيم المقيم، ولا يقول: وقع في العريض الطويل، وثناء إذا مر في الرياض النافحة صح أن نسيم السحر عليل، وحفاظ ود يتمنى كل من جالسه لو أن له مثل المملوك خليل، ورود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المثال الكريم، فقابل منه اليد البيضاء بل الديمة الوطفاء، بل الكاعب الحسناء، وتلقى منه طرة صبح ليس للدجا عليها أذيال، وغرة نحج ما كدر صفاها خيبة الآمال، فلو كان كل وارد مثله لفضل المشيب على الشباب، ونزع المتصابي عن التستر بالخضاب، ورفض السواد ولو كان خالاً على الوجنه، وعد المسك إذا ذر على الكافور هجنه، وأين سواد الدجا إذا سجى من بياض النهار إذا انهار، وأين وجنات الكواعب النقية من الأصداغ المسودة بدخان العذار، وأين نور الحق من ظلمة الباطل، وأين العقد الذي كله در من العقد الذي فيه السبج فواصل، يا له من وارد تنزه عن وطء الأقلام المسوده، وعلا قدره عن السطور التي لا تزال وجوهها بالمداد مربده حتى جاء يتلألأ ضياء ويتقد، وأتى يتهادى في النور بالذي تعتقد فيه المجوسية ما تعتقد، ولكن توهم المملوك أن تكون صحف الود أمست مثله عفاء، وظن بأبيات العود السالفة أن تكون كهذه المراسلة من الرقوم خلاء: لو أنها يوم المعاد صحيفتي ... ما سرّ قلبي كونها بيضاء فلقد سودت حال المملوك ببياضها، وعدم من عدم الفوائد البهائية ما كان يغازله من صحيحات الجفون ومراضها، وما أحق تلك الأوصال الوافدة بلا إفاده، الجائدة بزيارتها التي خلت من الجود بالسلام وإن لم تخل زورتها من الإجاده، أن ينشدها المملوك قول البحتري. أبي عبادة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء وقطعتني بالوصل حتى إنني ... متخوّفٌّ أن لا يكون لقاء يا عجباً كيف اتخذ مولانا هذا الصامت رسولاً بعد هذه الفترة، وكيف ركن إليه في إبلاغ ما في ضميره ولم يحمله من در الكلام ذره، وكيف أهدى عروس تحيته ولم يقلدها من كلامه بشذره، ما نطق هذا الوارد إلا بالعتاب مع ما ندر وندب، ولا أبدى غير ما قرر من الإهمال وقرب. و: على كلّ حالٍ أمّ عمرو جميلةٌ ... وإن لبست خلقانها وجديدها وبالجملة فقد مر ذكر المملوك بالخاطر الكريم، وطاف من حنوه طائف على المودة التي أصبحت كالصريم، وإذا كان الشاعر قد قال: ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم فكيف بمن دخل ذكره الضمير وخرج، وذكر على ما فيه من عوج، وما استخف بي من أمرني ومن ذكرني ما حقرني، والله تعالى يديم حياته التي هي الأمان والأماني، ويمتع بألفاظه الفريدة التي هي أطرب من المثالث والمثاني بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. فكتب هو إلي الجواب عن ذلك: يا هاجراً من لم يزل قلبه ... إليه من دون الورى قد صبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أرسلت من بعد الجفا أسطراً ... أرقص منها السمع ما أطربا شفت فؤاداً شفّه وجده ... من بعدما قد كاد أن يذهبا قال لها العبد وقد أقبلت ... أهلاً وسهلاً بك يا مرحبا أحلّها قلباً صحيح الولا ... ما كان في صحبته قلّبا ولا نسي عهد خليل له ... قديم عهد كان مع طقصبا وقبل مواقع تلك الأنامل التي يحق لها التقبيل، وقابل بالإقبال تلك الفضائل المخصوصة بالتفضيل، وقابلها بالثناء الذي إذا مر بالمندل الرطب جر عليه من كمائم اللطف وكمه فضل المنديل، وتأملها بطرف ما خلا من تصور محاسن صديق ولا أخل بما يجب من التلفت إلى خليل، وشاهد منه الروضة الغناء، بل الدوحة الفيحاء، بل الطلعة الغراء، فوجدها قد تسربلت من المحاسن البديعة بأحسن سربال، وتحلت من المعاني البديهة بما هو أحلى في عين المحب المهجور وقلبه من طيف الخيال. لكن مولانا غاب عن مملوكه غيبةً ما كانت في الحساب، وهجره وهو من خاطره بالمحل الذي يظنه إذا ناداه بالأشواق أجاب، واتخذ بدعة الإعراض عن القائم بفرض الولاء سنه، واشتغل عمن له عين رضىً عن نسيان ما مضى من كليلة ودمنه، فخشي المملوك من تطاول المده، وخامر قلبه تقلبات الأيام، فخاف أن تبقى أسباب المقاطعة ممتده، ووثق بما يتيقن من حسن الموافاة ويعتقد، فاقتضى حكم التذكار لطف الاقتصار، توصلا إلى تفقد التودد، ومن عادات السادات أن تفتقد بذكر أيام خلت مسرة وهناء، وليال أحلى من سواد الشباب، أولت بوصال الأحباب اليد البيضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 لو أنّ ليلات الوصال يعدن لي ... كانت لها روح المحبّ فداء فيالها من مليحة أقبلت بعد إعراضها، ولطيفة رمقت بإيماء جفن مواصلتها وإيماضها، وبديعة استخرج غواص معانيها من بحار معانيها كل دره، وصنيعة أبدى نظام لآليها من غرر أياديها أجمل غره، ورفيعة جددت السرور وشرحت الصدور فعلت بما فعلت إكليل المجره، ومتطولة رغبت المقصر فيما يختصر وحببت، ومتفضلة قضت بحق تفضيلها على ما سبق وأوجبت: مودّتها في مهجتي لا يزيلها ... بعاد ولا يبلي الزمان جديدها والله يشكر ما خوله من فضل هذه المعالي والمعاني، ويمتع بفضائله التي تغني أغانيها عن المثالث والمثاني. وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات غير هذه، وقد أوردت شيئاً من ذلك في كتابي ألحان السواجع. وأخبرني يوماً أنه زار قبر طقصبا المذكور فوجد قبره قد نبت به أنواع من الزهر، وطلب مني نظم شيء في ذلك فأنشدته أنا لنفسي: بنفسي حبيب قبره راح روضةً ... خمائلها مسروقةً من مخايله درى أنّه لا صبر للناس بعده ... فأهدى لهم أنفاسه في شمايله وأنشدته أيضاً لنفسي: لا تنكروا زهراً من حول تربته ... أضحى نسيم الصّبا من نشرها عطرا هذه محاسن ذاك الوجه غيّرها ... بطن الثرى فاستحالت فوقه زهرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وأنشدته أيضاً لنفسي: أفدي حبيباً غدا في الترب مضجعه ... وفي لذّ لجفني الدمع والسهر تحكي نجوم السما أزهار تربته ... لأنّ طلعته تحت الثرى قمر وأنشدني هو لنفسه في ذلك.. أبو بكر بن محمد بن محمود ابن سلمان بن فهد، القاضي الكاتب الرئيس البليغ شرف الدين بن القاضي شمس الدين بن القاضي شهاب الدين، كاتب السر بالشام ومصر وابن كاتب السر بالشام وابن كاتب السر بالشام، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر والده وجده في مكانيهما من حرف الميم. كتب الخط الذي فاق، وسارت بأنباء محاسنه الرفاق، وتسرع ليتعلم لطفه النسيم الخفاق، وأبرزه مثل النجوم الزهر، فما تطلع منه كوكب إلا فاق في الآفاق، أتقن الرقاع ومزجه بالنسخ فجاء بديع المنظر، رائق المرأى قد سمج ورد الخد الأحمر لما تسيج بآس العذار الأخضر، وجود النسخ والثلث فما داناه فيهما كاتب في زمانه، وأبرزهما من القوة والصفاء في قالب يود لو نقطه الطرف بإنسانه، لو عاصره ابن البواب لكان مثل أبيه على بابه، أو ابن مقلة لعلم أنه ما يرضى به أن يكون من أضرابه، أو ابن العديم لعدم رقة حاشيته، وتطفل مع الوزارة لأن يكون من جملة حاشيته، هذا إلى نظم يترقرق زلاله، ونثر يفيء على نهر الطروس ظلاله، قد درب كتابة المطالعة ومهر، وزاد على إتقان أبيه وجده فيهما وظهر، هذا إلى شكل قل أن ترى مثله العيون، أو تقتضى من غير محاسنه ديون، وكرم نفس يخجل الغمائم، ولطف شمائل تفرد بالثناء عليها خطباء الحمائم، وحفاظ ود، ووثوق عهد وسلامة باطن، وبراءة من الخبث الذي تراه وهو في كثير من الناس مباطن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ولي كتابة السر بدمشق بعد القاضي محيي الدين بن فضل الله، لأن القاضي علاء الدين بن الأثير لما انقطع بالفالج في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، طلب السلطان القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين والقاضي شرف الدين وولاه كتابة السر بدمشق، وأجلسه قدامه بدار العدل بقلعة الجبل، وقرأ قدامة القصص ووقع عليها في الدست، ورسم له أن يحضر دار العدل في دمشق، وأن يوقع على القصص بين يدي الأمير سيف الدين تنكز، فهو أول كاتب سر جلس في دار العدل، ولم يكن كتاب السر يجلسون قبل ذلك في الخدمة، فباشر ذلك. وكان إذا توجه مع نائب الشام إلى مصر يحضره السلطان قدامه ويخلع عليه وينعم عليه، وكان يعجبه شكله كثيراً ويقول لألجاي الدوادار: يا ألجاي، هذا شرف الدين كأنه ولد موقعاً. ويروق له شكله وسمته، ويعجبه لباسه. فلما توجه مع الأمير سيف الدين تنكز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ولاه السلطان كتابة سر مصر، وجهز القاضي محيي الدين وأولاده إلى دمشق، وتوجه القاضي شرف الدين مع السلطان إلى الحجاز، ووقع بينه وبين الأمير صلاح الدين الدوادار، وطال النزاع بينهما وكثرت المخاصمات، ودخل الأمير سيف الدين بكتمر الساقي رحمه الله تعالى بينهما وغيره، فما أفاد، فقلق القاضي شرف الدين وطلب العود إلى دمشق ولم يقر له قرار، فأعاده السلطان إلى دمشق، وطلب القاضي محيي الدين وأولاده إلى مصر وأقرهم على ما كانوا عليه. وكانت ولايته كتابة السر بمصر تقدير ثمانية أشهر، ولما عاد فرح به تنكز وقام له وعاتقه وقال له: مرحباً بمن نحبه ويحبنا وأقام بينه وبين حمزة التركماني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الحاء مكانه، فأوحى إلى تنكز ما أوحاه من المكر الخديعة والافتراء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 فكتب تنكز إلى السلطان، فعزله بالقاضي جمال الدين عبد الله بن كمال الدين بن الأثير، وبقي في بيته بطالاً مدة، فكتب السلطان إلى تنكز يقول له: إما أن تدعه يوقع قدامك وإما أن تجهزه إلينا، وإما أن ترتب له ما يكفيه، فرتب له ثلاث مئة درهم وثلاث غرائر، ولما أمسك تنكز رسم السلطان أن يكون موقعاً في الدست بدمشق وولده شهاب الدين المقدم ذكره كاتب درج، فاستمر على ذلك إلى أن تولى الملك الصالح إسماعيل، فولاه وكالة بيت المال بالشام مضافاً إلى ما بيده، فأقام في الوكالة سنة أو قريباً منها، ثم إنه توجه إلى القدس للوقوف على قرية يشتريها الأمير سيف الدين الملك ليوقفها على جامعه بالقاهرة، فتوفي رحمه الله تعالى فجأة، لأنه دخل إلى بيت الخلا، فما خرج منه إلا إلى سرير البلى. ووفاته رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وكان رحمه الله تعالى عنده تجمل كثير زائد في أكله وملبسه ومركوبه، وكرم نفس، وفيه تصميم وبسط إذا خلا بمن يثق إليه، وكان فيه خواص، منها أنه يحلق رأسه بالموسى بيده، ويلف شاشة على طاقية من غير قبع فرد مرة ويصلحها بيده، وهي على رأسه ولا ينظر إليها وهي من أحسن ما يكون، وكان شديد القوى ذا همة وبطش. أنشدني من لفظه لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 والله قد حرت في حالي وفي عملي ... وضاق عمّا أرجّي منكم أملي أبيت والشوق يذكي في الفؤاد لظى ... نارٍ تؤجج في الأحشاء ذي شعل ويصبح القلب لا يلهو بغيركم ... وأنتم عنه في لهوٍ وفي شغل الله في مهجةٍ قد حثّها أجلٌ ... إن لم يكن صدّكم عنّي إلى أجل وأنشدني من لفظه لنفسه: على خدّه الورديّ خالٌ منمّقٌ ... عليه به للحسن معنىً ورونق وفي ثغره الدرّ النظيم منضّدٌ ... يجول به ماء الحياة المروّق وما كنت أدري قبل حبّه ما الهوى ... إلى أن تبدّى منه خصرٌ ممنطق عليه من الحسن البديع دلائلٌ ... تعلّم ساليه الغرام فيعشق وأنشدني من لفظه لنفسه: رأت مقلتي من وجهه منظراً أسنى ... يفوق على البدر المنير به حسنا غزالٌ من الأتراك أصل بلّيتي ... معاطفه النشوى وألحاظه الوسنى رنا نحونا عجباً وماس تدلّلاً ... فما أرخص الجرحى وما أكثر الطعنا له مبسم كالدر والشّهد ريقه ... وليس به لكنّه قارب المعنى وأنشدني يوماً من لفظه لنفسه ملغزاً في ليل: أيّما اسمٍ يغشى الأنام جميعا ... وإذا فكّرت لي ثلثاه أن تزل في هجائه منه حرفاً ... لك منه مصحّفاً طرفاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فأنشدته أنا لنفسي ملغزاً في فيل: أيّما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربعٍ تعالى الإله حيوانٌ والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه فكيف تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون لي ثلثاه وأنشدني يوماً لنفسه: بعثت رسولاً للحبيب لعلّه ... يبرهن عن وجدي له ويترجم فلمّا رآه حار من فرط حسنه ... وما عاد إلاّ وهو فيه متيّم فأنشدته أنا لنفسي: بي غزالٌ لمّا أطعت هواه ... أخذ القلب والتصبّر غصبا ما أفاق العذول من سكرة العذ ... ل عليه حتى غدا فيه صبّا وكتب هو إلي وأنا بالقاهرة يطلب مني الحضور إلى دمشق ليجهزني إلى الرحبة موقعاً: يا فاضلاً فخر الورى بخلاله ... وعلا على أفق العلا بجلاله فقلوبنا من شوقها جمراتها ... لم يطفها بالدمع فيض سجاله فاجعل لنا من تبر فضلك فضلةً ... يغنى بها المضرور عند سؤاله فكتبت أنا الجواب إليه: شرّف دمشق أن ارتضيت بزورةٍ ... واشف الجوى من كلّ قلب واله فلقد ملأت ديار مصر فضائلاً ... كم فاض منها النيل عند نواله إن الكريم هو الجواد على الذي ... قد راح يسأل ما له في ماله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قم في الدّجى حتى الصباح وواله ... بدعا يقوه ببعض حقّ نواله وأمل بما تمليه أعطاف الورى ... واحمد أبا بكرٍ على أفضاله واسجع فإنّك ما برحت مطوّقاً ... إمّا بضافي جاهه أو ماله مولىً غفلت ونمت عن ليل المنى ... فأبى وصيّرها شواغل باله واستاقها غرّاً إليك وأنت لم ... تحتج إلى تحريكه بسؤاله والبرّ أفضل ما أتى عفواً ولم ... تقبض يد الراجي حبال نواله هذا هو الفضل الذي فضح الحيا ... وسما بجدواه على هطّاله تلهو بنو الآمال عن مطلوبها ... علماً بأن لهم كريم خلاله كرمٌ يفيض على العفاة سحابه ... ويسحّ وابله على استرساله لله سعيك في المعالي إنّه ... جعل الثريّا في عداد نعاله وغدا يجرّ على المجرّة ساحباً ... يوم الفخار الفضل من أذياله وسعى فأدرك غايةً من أمّها ... قامت ذراريها مقام ذباله ما عاق نائله عن العافي مدى ... وعدٍ ولا شان العطا بمطاله يا آل محمودٍ ليهنىء مجدكم ... شرفٌ أناف على الورى بجلاله أقسمت ما لشبا السيوف إذا مضت ... في يوم معركةٍ جلاد جداله كلاّ ولم ير قطّ بحراً مدّ من ... أمواهه ما بثّ من أمواله خطٌّ أظنّ الروض جوّد عندما ... شقّت كمام الزهر تحت مثاله وتلفّظٌ إن قلت سحرٌ لم يسع ... ني أن يكون حرام ذا كحلاله وخلائق كالروّض أهدى نشره ... مرّ النسيم على ذوائب ضاله وسياسةٌ طاش العدوّ لها وقد ... سكن الوليّ وقرّ من زلزاله فالله يحرس للزمان بقاءه ... ويمتّع الدنيا بفضل كماله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وكتب هو إلي ونحن على الأهرام صحبة الركاب الشريف ملغزاً في القرط: ما اسم ثلاثيّ ترى ... حلّته مفوّفه اعمد إلى تركيبه ... فيه وصحف أحرفه تجد جنىً يبطىء في ال ... عود به من قطفه واعكسه إن تركته ... من بعد أن تحرّفه تجد به ذا طرق ... بين الورى مختلفه أبنه يا من فضله ... يعز من قد وصفه فكتبت أنا إليه الجواب عن ذلك: يا سيّداً قد زانه ... ربّ العلا وشرّفه وقدّر الصّواب في ... أقلامه المحرّفه وأوضح الفضل لمن ... يطلبه وعرّفه أبدعت لغزاً حسناً ... صفاته مستطرفة مثلّث الحروف كم ... ربّع ربّ معرفه خضرته يانعة ... بهيئةٍ مشرّفه كم زان أرضاً أقفرت ... ووجنةً مزخرفه فالثلث منه سورة ... آياتها مشرّفه بل جبلٌ أحاط بال ... أرض وذاك مغرفه وانظر لثلثيه تجد ... كليهما في طرفه بقيت ما جرّ النسي ... م في الرياض مطرفه في ظلّ سعدٍ يرتقي ... من النعيم غرفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وكتب هو إليّ أيضاً ملغزاً في حلفا: يا ماجداً نجهد في وصفه ... وفضله من بعد ذا أوفى ما اسمٌ إذا ما رمت إيضاحه ... عزّ وعن فكرك لا يخفى وهو رباعيّ وفي لفظه ... تراه حقاً ناقصاً حرفا صحّفه واحذف ربعه تلفه ... مدينةً كم قد حوت لطفا وهذه البلدة تصحيفها ... خلقٌ يفوت الحدّ والوصفا وإن تصحّف بعضها فهي ما ... زالت ترى في أذنٍ شنفا وذلك الاسم على حاله ... حرّفه يرجع للصّبي جلفا لم ير ذا حرب وكم شبّ من ... نارٍ لغير الرّوع ما تطفا وإن تشأ صحّفه وانظر تجد ... خلقا سويا قطّ ما أغفى أبنه يا من فكره لم يزل ... يرفع عن بكر النهى سجفا لا زلت تبدي للورى كلّ ما ... يستوقف الأسماع والطّرفا فكتبت أنا إليه الجواب عن ذلك: يا سيّداً ألسن أقلامه ... كم صرفت عن عبده صرفا ومحسنا ما زال طيب الثنا ... عيه حتى زيّن الصّحفا ألغزت شيئاً لم يلن مسّه ... فراح إن صحّفته جلفا ومفردٍ إن ألفٌ عوّضت ... أولاه يرجع بعد ذا ألفا ونصفه حلّ وإن تحذف ال ... أوّل من أحرفه لفّا وليس بالبدر على أنّه ... بالليل كم قد نزل الطّرفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أمامنا في برّ مصر وإن ... صحّفت يصبح بعد ذا خلفا إن زاحم الشاعر يذكر به ... كشاجماً في الحال والرّفّا لا زلت ترقى في العلا صاعداً ... ما نظم الشاعر أوقفّا في ظلّ عيش قد صفا ورده ... وراح بالإقبال قد حفّا وكتب هو إلي ملغزاً في الهواء: أيا ماجداً ما دهى فضله ... ونجم مكارمه ما هوى أبن أيّما اسم خفى منظراً ... وخفّ ويلفى شديد القوى ولا وزن فيه وفي وزنه ... إذا أنت حقّقت عمداً سوى فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: أيا من تقصّر أمداحنا ... وأوصافنا فيه عمّا حوى كأنك ألغزت لي في الذي ... غدا وله النشر فيما انطوى إذا مرّ في الروض خرّت له ... غصون الأراك وبان اللوى يمدّ ويقصر في لفظه ... فللجوّ هذا وذا للجوى وكتبت أنا إليه وهو بدمشق، وكنت يومئذ بصفد وقد جهز إلي نقدة ذهب: يا نسمةً لأحاديث الحمى نقلت ... أملت قضب اللّوى من بعدما اعتدلت خطرت ما بينها فاعتادها طربٌ ... فرنّحت عطفها بالسكر وانفتلت فإن تكن فهمت معنى ظفرت به ... فعذرها واضح في كلّ ما فعلت قد كان للمسك أنفاسٌ تضوع شذاً ... فمذ أتيت بأخبار الحمى خملت بالله كيف أحبّائي الذين نأت ... بي المنازل عن أقمارهم وخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 قد كنت أبديت أعذاراً لقلبي فال ... بقاء من بعدهم بالله هل قبلت وهل عفا الله عنهم حال عهدهم ... فمهجتي ما انثنت عنهم ولا انتقلت آهاً من البعد آهاً إنّ لي كبداً ... تضرّمت بلغى الأشواق واشتعلت وأدمعاً إن جرى ذكر الوصال جرت ... شؤونها فتخال السّحب قد هطلت ومهجةً سئلت لو كان ينفعها ... بأيّ ذنب على التحقيق قد قتلت وعزمةً عاقها حظّ به ابتليت ... لولاه كانت على المطلوب قد حصلت أشكو الليالي ومالي في الورى حكمٌ ... يكفّ عنّي عواديها التي اتّصلت يا دهر هل نهضت منك الجبال بما ... نهضت فيك من البلوى أو احتملت يا دهر إن عادت الأيام تجمعنا ... غفرت ما علمت مني وما جهلت وإن ظفرت بلثم الترب بين يدي ... من أرتجي زالت البأساء وارتحلت ذاك الذي إن علت زهر الكواكب في ... محلّها تلقها عن تربه نزلت ذاك الذي لا أرى إلاّ سجيّته ... على الهدى والتقى والبر قد جبلت ذاك الذي خلقت للجود راحته ... ففاقت الغيث إذا يهمى وما احتفلت أقول إذ عمّني بالتّبر نائله ... هذا إلى السّحب إن جادت وإن بخلت مكارمٌ فهمت ما أشتكي فهمت ... وهمّة فعلت ما لم يطق فعلت كم نلت خمس مىءٍ من بعد خمس مىءٍ ... كذا أعدّدّها يوماً وما انفصلت ماذا ترى في أيادٍ ما أقابلها ... بالشكر إلا أراها وهي قد فضلت لولا علا شرف الدين التي بهرت ... كانت شموس الندى والفضل قد أفلت أقلامه الحمر من صون الممالك لو ... تكون سطوتها للبيض ما نكلت تهتزّ في كفّه من فوق مهرقها ... لأنّها من معاني لفظه ثملت وكان فيما مضى للسحر ترجمة ... حتى تكلّم أضحت وهي قد بطلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 عبارة هي أندى من نسيم صبا ... مرّت على زاهرات الروض وانصقلت وأسطر إن أقل مثل العقود فما ... أرى العقود إلى تلك العلا وصلت واوحشتا لمحيّاه الذي نقصت ... لحسنه طلعة الأقمار إذ كملت فلست أحسد إلا من تكون له ... عين بمرآه دوني في الورى كحلت هل الليالي تريني نور طلعته ... فربما غلطت وربما عدلت يا آل محمود لا ثلّت عروشكم ... ولا ذوت زهرة منكم ولا ذبلت ولا تزل منكم الأعناق حاليةً ... فإنها إن خلت من فضلكم عطلت فكتب هو إلي الجواب عن ذلك: يا فاضلاً منه أقمار العلا كملت ... وعنه آثار أرباب النهى اتّصلت ومن محاسنه للناس قد بهرت ... ومن مكارمه كلّ الورى شملت لله درّ قوافٍ قد بعثت بها ... طالت وعنها نجوم الأفق قد نزلت لقد أطاعتك أنواع البلاغة في ... ما قد أشرت من الترتيب وامتثلت وما أظنك إلاّ قد بعثت لنا ... خميلةً عندها زهر الدجى خملت فالله يشكر إحساناً حبوت به ... فمن أياديك أنواء الحيا خجلت ما إن وعت أذنٌ معنى بلاغتها ... إلاّ وأمست بها الأعطاف قد ثملت فالزهر قد أطلعت والدرّ قد نظمت ... والزهر قد فتّحت والسحر عنك تلت شوقي إيك صلاح الدين ما علمت ... بشرحه ألسن الأقلام بل جهلت وهل يحسّ جمادٌ بالذي فعلت ... بي النوى وعليه أضلعي اشتملت وما أظنّ النوى أمست تزيد على ... هذا وقد فعلت فينا الذي فعلت كأنّني بك قد أقبلت منتصراً ... يوماً على فئة بالحق قد خذلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وقد تراجع فيك الدهر وانقطعت ... عصابة الجور عمّا فيك وانخزلت فاصبر فما الصبر إلاّ شيمة كرمت ... وما التجلّد إلا رتبة نبلت والله يبقيك في خيرٍ وفي دعةٍ ... ما حركّ الغصن أعطافاً قد انفتلت وكتبت إليه: وفى لها الحسن طوعاً بالذي اقترحت ... فلو رأتها بدور التمّ لافتضحت كأنما البدر في ليل الذوائب قد ... تقلّدت بالنجوم الزهر واتّشحت صحّت على سقمٍ أجفانها وكذا ... أعطافها وهي سكرى بالشباب صحت تفري حشاي وتغنيها لواحظها ... ما ضرّ تلك الصفاح البيض لو صفحت مهاة حسنٍ أداريها إذا نفرت ... عنّي وأعطفها بالعتب إن جمحت قد حار في وصف أغزالي العذول بها ... وقال كيف حلت في غادة ملحت بذلت في وصلها روحي فقد خسرت ... تجارة الحب في روحي وما ربحت زارت لتمنحني من وصلها منناً ... أهلاً بها وبما منّت وما منحت أقسمت ما سجعت ورق الحمائم في ... روضٍ على مثل عطفيها ولا صدحت وكلّما اعتدلت بالميل قامتها ... رأيتها فوق حسن الغصن قد رجحت وما اكتسى خدّها من لؤلؤٍ عرقاً ... لكنّها وردةٌ بالطلّ قد رشحت ولي أمانيّ نفسٍ طالما كذبت ... فيها ولو جنحت نحو الوفا نجحت وربّ ليلٍ خفيف الغيم أنجمه ... أزاهرٌ قد طغت في لجةٍ طفحت يتلو الهلال الثريّا في مطالعها ... كأنّه شفة للكاس قد فتحت وللنسيم رسالاتٌ مردّدة ... وجمرة البرق في فحم الدجى قدحت والزهر قد أوقدت منه مجامره ... فكلما لفحت ريح الصبا نفحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 تحكي نداك الشذا الفياح طيب ثناً ... على علا شرف الدين التي مدحت سهل الخلائق لا والله ما اغتبقت ... بمثلها عصبةٌ سكرى ولا اصطحبت مسدّد الرأي لم تقصر إصابته ... عن الهدى إن دنت قصواه أو نزحت رقى إلى غايةٍ ما نالها أحدٌ ... ولا سمت نحوها عينٌ ولا طمحت بهمّة لجميع الناس عاليةٍ ... ونيّةٍ لمليك العصر قد نصحت يدبّر الملك من مصر إلى حلب ... بعزم كاف به الأيام قد فرحت يستعمل الحزم في كل الأمور فكم ... قد جدّ لمّا رأى بيض الظّبا مزحت خصّته عاطفة السلطان فهو بها ... يأسو جوانح دهر طالما جرحت حتى لقد نسخت أيات سؤدده ... آيات من قد مضى من قبله ومحت يهذي عداه وليس البدر ينكر مع ... محلّه في كلاب الأرض إن نبحت أضحت على الجود تبني راحتاه وما ... زالت كذاك وما انفكت وما برحت كانت معاني الهدى والجود قد خفيت ... عنّا وعن مجده الوضّاح قد شرحت وكان للجود أخبار فمذ رويت ... أنباؤه نسيت هاتيك واطّرحت لولا الولوع بأن نلقى له شبها ... لما رنت مقلة للشمس إذ وضحت دعني من الوزراء الذاهين فما ... رأت لواحظهم هذا ولا لمحت هذا الذي إن تكن آراؤهم فسدت ... فإنها منه بالتأييد قد صلحت لا زال يرقى ويلقى السّعد مقتبلاً ... ما انهلّت السحب بالأنواء وانسفحت وما تألق برقٌ ليس يشبهه ... إلاّ دماء أعاديه التي ذبحت فكتب هو الجواب إلي: حمائم الأيك في الأفنان قد صدحت ... أم نسمة الزهر في الإصباح قد نفحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 أم روضةٌ دبّجتها كفّ ذي أدبٍ ... غضٍّ لغير صلاح الدين ما صلحت يا فاضلاً فاق في الآفاق كلّ سنا ... بنور طلعته الغرّاء مذ لمحت أوحشتنا شهد الله العظيم فكم ... جوارحٌ بسيوف السّقم قد جرحت فلا رعى الله أياماً حوادثها ... على تفرّقنا قدماً قد اصطلحت أهلاً بغادتك الحسناء إنّ لها ... محاسناً في بدور التم قد قدحت أقسمت ما ظفرت يوماً بمشبهها ... قريحةٌ من أخي نظم ولا فرحت خريدةٌ ولّدتها فكرةٌ قذفت ... بالدر من لجّةٍ بالفضل قد طفحت فلا برحت ترينا كلّ آونةٍ ... قصيدةً لو رأتها الشمس لافتضحت وبيني وبينه مراجعات ومكاتبات غير هذه، وقد ذكرت ذلك في كتابي ألحان السواجع. أبو بكر المدّعي في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة ظهر بقرية حطين - وهي من عمل صفد، بها قبر ينسب لشعيب عليه السلام - شخص ادعى أنه السلطان أبو بكر المنصور بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه جماعة تقدير عشرة أنفار فلاحين، فبلغ ذلك الأمي علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، فجهز إليه دواداره شهاب الدين أحمد وناصر الدين بن البتخاصي فأحضراه، فجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 له النائب المذكور الناس والحاكم، فادعى أنه كان في قوص وأن مؤمن لم يقتله، وأن أطلقه فركب البحر ووصل إلى قطيا، وبقي مختفياً في بلاد غزة إلى الآن، وأن له دادةً مقيمة في غزة عندها النمجا والقبة والطير. فقال النائب: وأنا كنت في تلك الأيام جاشنكيراً أولاً، وكنت أمد السماط بكرةً وعشياً وما أعرفك؟! فأقام مصراً على حاله، وانفسدت له عقول من جماعة وما شكوا في ذلك، فطالع النائب بأمره السلطان، فعاد الجواب بتجهيزه محترزاً عليه في عشرة نفر إلى غزة، فخشبه نائب صفد وجهزه، وحضر من تسلمه إلى مصر، ثم حضر بعد ذلك كتاب السلطان يتضمن أن المذكور ظهر كذبه ووجد مقتولاً بالمقارع، وأنه سمر وقطع لسانه، وكان في هذه الحالة إذا شرب الماء يقول وهو على الخشب: أشرب ششني، وإذا رأى أميراً يقول: هذا مملوكي ومملوك أبي، ويقول: لي أسوة بأخي الناصر أحمد وأخي الكامل وأخي المظفر الكل قتلتموهم. وظهر أخيراً أنه أبو بكر بن الرماح، وأنه كان يعمل وكيلاً في بلاد صفد، وأن شحنة بعض القرى قتله يوماً فآلمه الضرب فادعى ما ادعى. قلت: هذا الذي اتفق جرى مثله في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وتسع وثلاثين وسبع مئة، وتسع وثلاثين وما بعدها، وهو ظهور الذي ادعى أنه دمرتاش بن جوبان، وجاء إلى أولاد دمرتاش ونسائه وأهله ووافقوه على ذلك، والتف عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 جماعة، وصارت له شوكة، وخيف على الشام ومصر منه إلى أن كفى الله أمره وقتل. وكان ظهوره بعد موت دمرتاش بتسع سنين أو ما حولها، والتبس الحال في أمره حتى على السلطان الملك الناصر حتى إنه نبش قبره وأخرجت عظامه من مكانها برا باب القرافة بقلعة الجبل. وكان المذكور قد خنق وقطع رأسه وجهز إلى القان بوسعيد، وكان يدعي أنه حصل الاتفاق في أمره وهرب من الاعتقال من سجن القلعة، ووصل إلى البحر وركب فيه مركباً وتغيب إلى أن ظهر، وأن الذي قتل كان غيره. وليس لذلك صحة أصلاً، بل الذي قتل وقطع رأسه بحضور أمناء السلطان ومماليكه الأمناء الخواص الذين لا يتجاسرون مع مهابة أستاذهم على وقوع شيء من ذلك، وهذا أمر اتفق وقوعه إلى حين تعليق هذه الأوراق، وهو شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وسبع مئة مرتين، الأولى هذه والثانية واقعة أبي بكر بن الرماح المذكور آنفاً، فلا ينكر على عاقل وقوع مثل هذه الأمور. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه نقط العروس: أخلوقة لم يسمع بمثلها، أتى رجل يقال له خلف الخضري بعد اثنين وعشرين سنة من موت المؤيد بالله هشام بن الحكم، ادعى أنه هشام، فبويع وخطب له على المنابر بالأندلس، وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وأقام نيفاً وعشرين سنةً. وقال أيضاً: فضيحة لم يقع في العالم مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها تسمى كل منهم بأمير المؤمنين، وهم خلف الخضري بإشبيلية على أنه هشام بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجريزة، ومحمد بن إدريس بن حمود بمالقة، وإدريس بن علي بن حمود. وقال أيضاً في كتاب الملل والنحل: أنذرنا الجفلى لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشاً وفيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله رجلان شيخان حكمان من حكام المسلمين من عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله تعالى وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا عليه في ألوف من الناس، ثم لم نلبث إلا شهوراً نحو التسعة حتى ظهر حياً وبويع بالخلافة، ودخلت إليه أنا وغيري وجلست بين يديه، وبقي كذلك ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام، حتى لقد أدى ذلك إلى توسوس جماعة لهم عقول في ظاهر الأمر، إلى أن ادعوا حياته حتى الآن، وزاد الأمر حتى أظهروا بعد ثلاث وعشرين سنة من موته على الحقيقة إنساناً قالوا هو هذا، وسفكت بذلك الدماء وهتكت الأستار وأخليت الديار وأثيرت الفتن. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله تعالى. وقلت أنا في ذلك: قد قتل المنصور في قوص ... واقتصّ من القتال في القاهره وبعد اثني عشر عاماً مضت ... من صفد في عصبة فاجره يطلب ملكاً في يدي غيره ... وهذه أعجوبة ظاهره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 أبو بكر ابن القاضي بهاء الدين بن سكره ناظر النظار بدمشق. كان رجلاً طوالاً إلى الغايه. دقيقاً لا إلى النهايه، كاتباً متصرفاً، مائلاً إلى الخير متعرفا، متطلعاً في الغدوات والروحات، إلى تحصيل الحسان من الزوجات، قد جعل ذلك دابه، ولو قدر ما ترك على ظهرها من دابه. أول ما علمته من حاله أنه كان مباشراً في القلاع الحلبية وبعض الثغور، ثم إنه حضر مع المباشرين في نوبة لولو غلام قندس سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وسلمهم الملك الناصر محمد إليه، فتولى عقابهم وصب على هذا بهاء الدين سوط عذاب، انحل به جسده وأذاب، ثم أخذهم وتوجه بهم إلى حلب، ثم إنني بعد ذلك رأيته في حماة وهو بها ناظر، وكنا قد توجهنا لتلقي الأمير سيف الدين طقزتمر من حلب لما رسم له بنيابة دمشق، فبالغ في إحسانه، وتفضل من يده ولسانه. ثم إنه صرف منها وتوجه إلى مصر. ورسم له بنظر النظار بدمشق، فحضر إليها في أوائل شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة عوضاً عن القاضي مكين الدين بن قروينة، ولم يستقم له بدمشق حال مع النائب الأمير سيف الدين طقزتمر بواسطة أستاذ داره. ثم إنه توفي في عاشر شعبان سنة ست وأربعين وسبع مئة - رحمه الله تعالى - ودفن بمقابر الشيخ أرسلان. وكان قد اعتكف في شهر رمضان بالجامع الأموي، فأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شهاب الدين بن فضل الله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 بمدشق عجائب ... في الأحاديث منكره العليم الذي روى ... واعتكاف ابن سكّره أبو بكر بن محمد بن علي الشيخ الفاضل تقي الدين البانياسي الكاتب المجود. كان كاتباً جيداً فاضلاً، له نظم ونثر. انتفع الناس به وكتبوا عليه، وله أخلاق حسنة، وكان مقيماً بالمدرسة الجاروخية. توفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة ستين وست مئة. أبو بكر بن بلبان الأمير صلاح الدين ابن الأمير سيف الدين البدري. كان أمير عشرة بدمشق، وهو أحد الإخوة. توفي رحمه الله تعالى في ثالث شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. أبو بكر بن محمد بن عمر ابن أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام بن منصور بن معلى البالسي: الشيخ الإمام العالم الزاهد العابد الورع نجم الدين بن قوام الشافعي. كان من بيت علم وصلاح، وخير وزهد وفلاح، صاحب زاوية وحال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وكرامات وكرم ونوال، يتلقى الواردين بإحسانه، ويوليهم الجود من يده ولسانه، يقرئهم ويقريهم، ويميرهم على ما بدته ويمريهم، يعتقد الناس بركاته، ويتوسمون الخير في سكناته وحركاته. اجتمعت به غير مره، ورصع في جيدي من فضله كل دره. ولم يزل على حاله إلى أن استسقى وما به ظما، وخر النجم إلى الأرض من السما. وتوفي رحمه الله تعالى بهذه العلة في أوائل شهر رجب الفرد سنة ست وأربعين وسبع مئة، وكانت جنازته حفلة، وصلى نائب الشام عليه وجماعة من الأمراء. وحدث عن ابن القواس وغيره. وكنت قد كتبت له توقيعاً في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى بنظر الشبلية، ونسخته: رسم بالأمر العالي المولولي السلطاني الملكي الناصري، لا زال نجم الدين به بازغا، ومنهل جوده لوارديه عذباً سائغا. وثمر كرمه لجناة رفده حلواً بالغا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي النجمي أبو بكر في كذا، ثقةً بورعه الذي اشتهر، وفضله الذي بهر، وأصله الذي طاب فرعه فالتقوى له ثمر، والعلم زهر، فما خطب لمباشرة هذه الوظيفة إلا وثوقاً بصفاته الحميدة، وتمسكاً بما عرف من طريقته السديدة، واتكالاً على ما حازه من صفات جواهرها على جيد الأيام نضيده، وركوناً إلى بيته الذي له من سلفه أركان مشيده، ورغبةً في شمول هذه المدرسة ببركته التي هي بيت القصيدة. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً سدادها في كفالة كفايته مضمون، ويغتبط بما يفوز به من هذا البر فإن له فيه أجراً غير ممنون، مجتهداً في تنمية ريع هذا الوقف المبرور، مقتصداً في تثمير ما يجره إليه من المنافع حتى يدل على أن فعله تعلق من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 بركته بجار ومجرور، معتمداً في إحياء ميته على من هو عدل في حكمه لا يحيف، مستنداً في استخراج حقوقه إلى الجلد حتى لا يقال إن أبا بكر رجل أسيف، مساوقاً مباشرته في جليله وحقيره، وقليله وكثيره، وغائبه وحاضره، ومعروفه ونادره، فلا يدع مستحقيه من صرف ما لهم في أوار ولا أوام، ولا يمكن أحداً منهم يسلك طريقاً معوجة فإنه ابن قوام، فلو لم يكن الظن به جميلاً ما عذق به هذا الأمر دون البريه، ولو لم يكن أسداً في الحق ما أسند إليه نظر الشبليه، وليتبع شروط الواقف حيث سارات مقاصده لأنه ناظر، وليصرف ما أمر به على ما أراده فإنه إن كان غائباً فله إله حاضر، والوصايا كثيرة ومنه تؤخذ فوائدها، وعلى جيد الزمن تنضد منه فرائدها، وهو بحمد الله تعالى ابن بجدتها علماً ومعرفه، وأدرى الناس بما يتحرك فيها من لسان أو شفه، ولكن التقوى زمام كل أمر، وعمدة الدين وعماده من زيد وعمرو، فلا ينزع منها حلة ارتداها، ولا يترك طريقاً سلكها عمره واقتفاها، والله تعالى يعينه في سكونه وحركته، وينفع الناس بعلمه وبركته. والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. أبو بكر بن محمد بن قاسم الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون شيخ الإقراء والعربية بالشام، مجد الدين المرسي ثم التونسي الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 قدم القاهرة مع أبيه، وأخذ النحو والقراءات عن الشيخ حسن الراشدي، وحضر حلقة الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وسمع من الفخر علي والشهاب بن مزهر. كان الشيخ مجد الدين آية في ذكائه، غاية في إكبابه على العلوم واعتنائه، تفرد في وقته بمعرفة العربية وغوامضها الأدبية، فلو رآه ابن السراج لما راج، والزجاجي لسود مصنافته بالعفص والزاج، أو السيرافي لقال لصاحبيه سيرا في المهامه، أو قفا بنا نسمع بعضاً أو كلاً من كلامه، أو الفارسي لترجل قدامه، وحمل لواء الفخر له ومعه قدامه. وفيه قلت أنا: تملّك النحو حتى ما لذي أدبفي الناس نون وواو بعدها حاء هذا مليك لهذا العلم فاصغ لما ... أقوله لاكسائيٌّ وفرّاء وكان مجيداً في غير ذلك من الفنون، معيداً مبدياً لما في سواه من النكت والعيون، تخرج به الأئمة، وملكهم ما أرادوا من المقادات والأزمه، ونالته محنة من كراي نائب الشام، وانتجع لها بارق الصبر وشام، وعلى يده ظهر غش الباجربقي، وبهرجة نقده، ولولاه لدام مدة وبقي. ولم يزل على حاله أن أصبح مظهره في القبر ضميرا، وسكن المجد في الأرض حفيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس عشري ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة ست وخمسين وست مئة بتونس. أقام بالقاهرة مدةً ودخل دمشق في ولاية قاضي القضاة عز الدين في الولاية الثانية، وحضر عند زين الدين الزواوي، ورتب صوفياً بالخانقاه الشهابية، وجلس للإقراء، ثم سكن العقيبة، وناب في الإمامة بجامعها ثم اشتهر أمره وشاعت فضائله، وحضر الدروس، وولي مشيخة الإقراء بالتربة الصالحية والتربة الأشرفيه، وولي تدريس النحو بالناصرية ودرس بالأصبهانيه، وصار شيخ البلد في الإقراء والعربيه، مع المشاركة في الفقه والأصول وغير ذلك. حدثني غير واحد ممن أثق به أن الناس سألوا الشيخ شمس الدين الأيكي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وعن الشيخ صدر الدين بن الوكيل أيهما أذكى؟ فقال: ابن الزملكاني، ولكن هنا شاب مغربي هو أذكى منهما يعني به الشيخ مجد الدين. وامتحن على يد الأمير سيف الدين كراي فضربه بباب القصر ضرباً كثيراً لما ألقى المصحف - على ما سيأتي في ترجمة كراي - ولما سب الأمير الخطيب جلال الدين، قال له الشيخ مجد الدين: اسكت اسكت، وقوى نفسه ونفسه عليه فرماه وقتله، وكان في وقت قد انفعل للشهاب الباجربقي ودخل عليه أمره، ثم إنه أناب وأفاق وجاء إلى القاضي المالكي واعترف وجدد إسلامه - على ما سيأتي في ترجمة الباجربقي. وكانت طريقته مرضية، وعنده دين وصلاح، وفيه مودة ومحبة للخلوة والانقطاع، وتلا عليه شيخنا الذهبي بالسبع، وانتقى له جزءاً من مشيخة ابن البخاري وحدث به. ومن الناس من يقول فيه: محمد بن قاسم، وشيخانا البرزالي والذهبي قالا فيه: أبو بكر بن محمد، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أبو بكر بن إبراهيم بن حيدرة ابن علي بن عقيل: الإمام العالم الفاضل جمال الدين القرشي المعروف بابن القماح. اشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وعرض التنبيه عليه، ثم اشتغل على السديد الترمنتني وغيره، وقرأ الفرائض. وجاور بمكة سنةً، وولي عدة ولايات من جهة الكتابة بالقاهرة وأعمالها، وقدم في المحرم دمشق متوجهاً إلى حلب متولياً وكالة بيت المال. وقرأ عليه الشيخ علم الدين البرزالي الأربعين الصغرى للبيهقي بسماعه من الشيخ شمس الدين أبي الفضل المرسي عن أبي روح، وهو عم القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن القماح نائب الحكم بالقاهرة، ثم إنه عاد إلى القاهرة، وتوفي بها إلى رحمة الله تعالى في ذي الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ودفن بالقرافة الصغرى. ومولده في شهر ربيع الآخرة سنة سبع وثلاثين وست مئة. أبو بكر بن عبد الله ابن عبد الله: الشيخ الإمام الفاضل سيف الدين الحريري الشافعي. توفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وتولى تدريس الظاهرية الجوانية الشيخ جمال الدين محمود بن جمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أبو بكر الأمير سيف الدين البابيري بالباء الموحدة وبعدها ألف وبعدها ياء أخرى وياء آخر الحروف ساكنة وراء. كان كردي الأصل، شيخاً قديم الهجرة تنقل في الولايات والمباشرات بحلب وطرابلس ودمشق، وكان قد طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، وولاه كاشفاً بالشرقية، فلم تطب له الديار المصرية، فتشفع بالأمير سيف الدين تنكز، فطلبه إلى دمشق وولاه الصفقة القبلية، وأمسك تنكز وهو بها. ثم إنه انتقل إلى حلب ثم إلى دمشق، وولي شد الدواوين بدمشق مرات، وولي نيابة جعبر مرات، وآخر إمرة وليها لما كان الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز. بحلب في واقعة بيبغاروس، فتوجه إليها في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن جاء الخبر في شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة بوفاته رحمه الله تعالى. وكان خبيراً درباً مثقفاً فيه ود وأنس، وعلى ذهنه تواريخ ووقائع وشعر وكان قد عدى السبعين. أبو بكر بن عباس القاضي جمال الدين الخابوري، كان قاضي بعلبك. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. أبو بكر بن محمد بن عنتر السلمي أجازه سبط السلفي، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أبو بكر بن محمد بن عبد الغني الشيخ نجم الدين. أجاز لي بالقاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم عيد الفطر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. أبو بكر بن علي بن محمد الكلوتاتي سمع من ابن النحاس والنجيب، وأجاز لي بمصر بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. أبو بكر بن نصر القاضي زين الدين الإسعردي المحتسب بالديار المصرية، ووكيل بيت المال. توفي رحمه الله في سادس عشر شهر رمضان سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وصلى عليه قاضي القضارة بدر الدين بن جماعة. وولي مكانه في الحسبة قريبه القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن علي الإسعردي كاتب الحكم بالقاهرة، وفي الوكالة القاضي قطب الدين محمد بن عبد الصمد السنباطي. أبو بكر بن يوسف بن شاذي يأتي تمام ترجمة نسبه في ترجمة والده في حرف الياء إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الأمير أسد الدين ابن الأمير صلاح الدين ابن الملك الأوحد: أحد أمراء الطبلخاناه بصفد المضافين إلى دمشق. كان شاباً حسناً عاقلاً ساكناً، فيه حشمةً وأدب. توجه أمير الركب سنة خمس وخمسين، وسبع مئة فلطف الله به وبالركب، وكنت أنا معهم في تلك السنة، فما رأينا إلا الخير في الذهاب والإياب. لم نجد في الطريق ولا في المدينة، ولا في مكة، من شوش على الركب بشيء مما يحكيه الحجاج من المتحرمة والنهابة. ولم يزل الأمير أسد الدين بدمشق إلى أن ورد المرسوم بتوجه كل من له إقطاع في صفد إلى صفد والإقامة بها، فتوجه إليها مع من توجه، وأقام بها مدة فضاق عطنه وشاقه وطنه، فضعف هناك وورد إلى دمشق فأقام يومين أو ثلاثة. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع وخمسين وسبعمئة. وسيأتي ذكر أخي أمير علي وذكر والدهما في مكانيهما رحمهم الله أجمعين. أبو بكر بن سليمان بن أحمد أمير المؤمنين المعتضد ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم العباسي، أبو الفتح. كان شكلاً مليحاً تاماً، أسمر ذا لحية سوداء، صبيح الوجه، عليه خفر ومهابة، تقدم نسبه كاملاً في ترجمة أخيه أمير المؤمنين الحاكم بالله بن سليمان في الأحمدين. قدم إلى دمشق في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة صحبة الملك الصالح صالح في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 واقعة بيبغاروس، ثم إنه قدمها ثانياً في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر صحبة الملك المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي، وعاد إلى مصر صحبة السلطان. ولم يزل على حاله إلى أن توفي في غالب الظن في جمادى الأولى أو الأخرى سنة ثلاث وستين وسبع مئة. وتولى الأمر بعده أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن المتوكل على الله. اللقب والنسب الأبوبكري الأمير سيف الدين بكتمر ابنه الأمير علاء الدين علي. أخوه الأمير شهاب الدين أحمد. البكري نور الدين علي بن يعقوب. بكلمش بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح اللام وكسر الميم وبعدها شين معجمة: الأمير سيف الدين أمير شكار الناصري. كان الملك الناصر حسن قد جعله أمير شكار، ولما كان في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة أخرجه من مصر إلى طرابلس نائباً عوضاً عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير، ووصل بكلمش إلى دمشق في يوم الجمعة ثالث عشري شهر رمضان المعظم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وتوجه إلى طرابلس، ولم ير أهل طرابلس منه شيئاً من الخير، سوى أنه كان يجيد اللعب بالطير. وكان حسن الشباب، وضيء الإهاب، بسط جوره على أهل طرابلس وظلمه، وأعاد أيامهم كأنها ليالي ظلمه، وربما تعرض إلى الحريم، ونزل بروضة فأصبحت كالصريم، ورحل منها جماعة لم يصبروا على هذا المضض، ولا صبروا على هذا المرض، ولم يزل بها وهو يطلب حريمه من القاهرة فما يجاب، ولا يرد جوابه على يد بريدي ولا نجاب. وتوجه إلى صفد في واقعة أحمد الساقي وحصره في القلعة - على ما تقدم في ترجمة أحمد - وعاد إلى طرابلس، ولم يزل بها إلى أن خرج مع بيبغاروس وأحمد، ووصلوا إلى دمشق في نهار الأربعاء خامس عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقاموا بها أربعةً وعشرين يوماً على ما تقدم في ترجمة أحمد، وعاث الأمير سيف الدين بكلمش في مرج دمشق وأفسد، ولما هرب بيبغاروس، وعاد إلى حلب عاد بكلمش معه ودخلوا الأبلستين إلى عند ابن دلغادر، وأقاموا عنده، ثم إن أحمد وبكلمش حضرا إلى نواحي مرعش وناوشهما أهل القلاع القتال، ثم لحق بهما ابن دلغادر، ولم يزالا عنده إلى أن أمسكهما ابن دلغادر وجهزهما إلى حلب، فاعتقلهما نائبها الأمير سيف الدين أرغون الكاملي وطالع السلطان الملك الصالح صالحاً بأمرهما، فعاد الجواب على يد الأمير سيف الدين طيدمر أخي الأمير سيف الدين طاز بأن يجهز رأسيهما إلى مصر فحز رأساهما، وجهزا مع المذكور في العشر الأوسط من المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، فسبحان الدائم الباقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 بلاط الأمير سيف الدين كان معروفاً بالدين، موصوفاً بالعقل المتين، حسن الود لأصحابه، أفاق الدهر من سكرته وصحا به، كان مقدماً عند المظفر، ذا جانب على التقديم موفر، إلا أنه لحسن نيته، وسلامة طويته، سلمه الله من الناصر فما آذاه، ولاحظه السعد وحاذاه. ولم يزل إلى أن جعل اسمه فوقه، ونزل به من الموت ما أعجز صبره وطوقه. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وكان قد أخرج من مصر إلى دمشق فأقام بها قليلاً، ثم نقل إلى طرابلس وبها مات رحمه الله تعالى. بلاط قبجق الأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخانات. حضر إلى دمشق في أوائل خمسين وسبع مئة، وأقام بها أميراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة ست وخمسين وسبع مئة. بلاط قيى بكسر القاف، وبعدها ياء وآخر الحروف، وألف مقصورة: الأمير سيف الدين. توجه من القاهرة إلى نيابة بهسنى، وأقام بها مدة، ثم حضر إلى دمشق وأقام بها أميراً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، كان يلعب الشطرنج بعد العشاء الآخرة وأصبح ميتاً من غير علة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 بلال الطواشي الأمير حسام الدين أبو المناقب المغيثي الحبشي الجمدار الصالحي. كان لالا الملك الصالح علي بن المنصور قلاوون، ثم إن العادل كتبغا جعله يتحدث في أمر السلطان الملك الناصر محمد، وهو كبير الخدام المقيمين بالحرم النبوي. حدث بمصر ودمشق، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين عدة أجزاء يرويها عن ابن رواج. كان حالك السواد، تام الشكل، يهيم من المعروف في كل واد، له بر وصدقات، وبذل في الخير ونفقات، وله أموال عظيمة، وغلمان على أوامره ونواهيه مقيمه، وله في الدول الحرمة الوافرة والوجاهة السافرة. حضر المصاف ورد، فأدركه أجله في سنة تسع وتسعين وست مئة فحمل إلى قطيا. بلبان الأمير سيف الدين المنصوري، ملك الأمراء الطباخي، نائب حلب. كان أميراً جليلا، وللشجاعة خليلا، أبلى في نوبة غازان بلاءً حسناً وروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 التتار، ورقص الخطية من غناء سيوفه، ومن روس المغل النثار، لأنه كان ذا بأس ونجده، وشهامة للقاء الأبطال مستعده، خيوله مسومه، وسهامه إلى نحور الأعداء مقومه، ولولا وجوده ذهب عسكر الإسلام في تلك المرة المره، وجرى الأمر على خلاف القاعدة المستمره، لكنه التقى ذلك البحر الزخار بصدره، وخاض في ذلك العسكر الجرار بنحره، فصرع الفرسان، وجد لهم فجدلهم، وبسط لهم بساط الحتف وبدلهم، وكان كثير الحشم، وافر المماليك والخدم، تولى نيابة طرابلس، وحصن الأكراد وحلب، وأقدم الخيرات بعدله إليها وجلب. ولم يزل على حاله إلى أن نزل به الأمر الذي لا يدفع، والحتف الذي لا يرفع. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الأول بالساحل سنة سبع مئة. وغالب مماليكه تأمروا في أيام الملك الناصر محمد، وكانوا كبار الدولة، منهم الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور المقدم ذكره نائب الشام وحلب، والأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب حلب وطرابلس، والأمير سيف الدين منكوتمر الطباخي، وغيرهم. بلبان الأمير سيف الدين الجوكندار. كان نائب القلعة بصفد في نوبة غازان، فلما كسر المسلمون، وهرب الأمراء جاء الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أو الأمير سيف الدين سلار على وادي التيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وحضروا إلى صفد، وطلبوا منه مركوبا ليحملهم عليه، فلم يعطهم شيئاً، فلما وصلوا إلى مصر عزلوه من نيابة قلعة صفد، وجهزوه أميراً إلى دمشق. وكان ابنه الأمير علاء الدين قطليجا شاباً جميلاً حسن الوجه، فولاه الأفرم الحجوبية بالشام، ثم إنه في شهر ربيع الآخر سنة سبع مئة ولاه الأفرم شد الدواوين بدمشق، وفوض الأمر إليه، واشتغل بالشد، وانفرد الأفرم بقطليجا المذكور، لأنه كان طبجياً، وأقام على ذلك مدة. ولما توفي الأمير علم الدين أرجواش نائب قلعة دمشق تولى هو نيابة القلعة في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، ثم إنه في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبع مئة توجه لنيابة حمص، وأعيد السنجري إلى قلعة دمشق، تولى نيابة حمص فورد إليها. ولم يزل بها مقيماً إلى أن فاءت إليه الوفاة، وفغر الموت له فكه وفاه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة، وكان مبخلا، ولصاحبه مبجلا، أحسن في شد دمشق إلى من عرفه، وما جاءه أحد من صفد إلا وصرفه في أشغال الديوان، وما صرفه، وله بصفد حمام مليح بعين الزيتون، كنت أعهده نادراً في تلك البقعة، وهو كان في تلك الأيام طراز هاتيك الرقعة. بلبان الأمير سيف الدين طرنا، بضم الطاء المهملة وسكون الراء وبعدها نون وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 كان أمير جاندار بالديار المصرية، فجهزه السلطان إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين بهادر آص، فحضر إليها ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، فعزله السلطان، ورسم له بأن يتوجه إلى دمشق أميراً، فتوجه إليها بطلبه، فدخل إليه ليقبل يده ويسلم عليه، فأمسكه في حادي عشري القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وبقي في الاعتقال عشر سنين فما حولها، ثم إنه شفع فيه فأخرج من الاعتقال وأعطي إقطاع الأمير شرف الدين حسين، وجعل أمير مئة مقدم ألف، ثم إن تنكز أقبل عليه واختص به، وكان يشرب معه القمز. ولم يزل على حاله إلى أن قالت عقبان المنية قد طرنا إلى طُرنا، وحمنا عليه وحومنا ودرنا. وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشري ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربته جوار داره دار الأمير علاء الدين أيدغدي شقير تحت مئذنة فيروز. وكان رحمه الله تعالى ضخماً أبيض، جسيماً كأن وجهه جمر أومض، ولما كان يدور مع الزفة حول الدهليز يوقع بالعصا، ويضرب ذلك الرمل والحصى، وإذا خرج أولئك الرهجية وعدلوا عن النغمة الجهرية التفت إليهم، ووقع بالعصا على الأرض، ومشى أمامهم ذات الطول والعرض، ولذلك كانت عليه في السماع طلاوة، ولضخامته إذا دار حلاوة. بلبان الأمير سيف الدين السناني. أحد أمراء الدولة الناصرية، له دار في رأس الصليبة تحت قلعة الجبل عند جامع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الأمير سيف الدين شيخو، وأخرجه الملك الصالح إسماعيل إلى نيابة ثغر ألبيرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، فحضر إليها، ولم يزل بها إلى أن أمسك الملك الناصر حسن الوزير منجك، فطلب السناني إلى القاهرة، فتوجه إليها وجعله أستاذ دار، وأقام على ذلك إلى أن توجه إلى منفلوط لقبض مغلها، فتوفي هناك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة. وأخبرني الشيخ بهاء الدين السبكي أن المذكور توفي سنة اثنتين وستين أواخر سنة إحدى وستين وسبع مئة بمنفلوط، كذا جاء الخبر بذلك إلى دمشق ثم ظهر بعد ذلك أنه لم يمت، وإنما أخذت التقدمة والإقطاع منه للأمير عز الدين طقطاي الدوادار وأعطي السناني طبلخاناه ضعيفة، وأقام بالديار المصرية. بلبان الأمير سيف الدين الغلمشي، بضم الغين المعجمة وسكون اللام وبعد الميم شين معجمة. حدث بدمشق عن ابن خليل وعن المرسي وغيرهما، وكان قد سمع في صغره من جماعة مع القاضي عز الدين بن الصائغ لأنه كان مملوكه، وانتقل عنه، وانتقل إلى أن صار أميراً بالقاهرة، وتولى الشرقية مرة وكان شهماً كافياً، فيه سياسة. توفي في جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 بلبان الأمير سيف الدين البدري أحد مقدمي الألوف بدمشق. كان شيخاً عاقلاً مهيبا، قد وفر الله له من سلامة الباطن نصيبا، خلف ذهباً جما، أكله وراثه أكلاً لما، قيل: إن العين من الذهب وحده ثلاثون ألف دينار، خارجاً عن البرك والعدة والخيل وما مع ذلك من عقار، وخلف أولاداً أنجب منهم اثنان، وكان لهما في المباشرات شان زانهما وما شان. ولم يزل إلى أن حلت به المثلاث، ونحت الموت منه الأثلاث. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس يوم عيد الفطر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان قد توجه أمير الركب الشامي في سنة سبع وسبع مئة، وقد تولى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن بهادر السنجري في شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وعزل منها وتوجه إلى نيابة صفد عن الأمير سيف الدين بلبان طرنا في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وتوجه إلى حمص نائباً عوضاً عن القرماني في شهر صفر سنة تسع عشرة وسبع مئة، ولما توفي في حمص نقل إلى دمشق وصلي عليه بسوق الخيل، ودفن في جبل قاسيون. بلبان الأمير سيف الدين التتري. كان رجلاً سليما، مأموناً حليما، لا يعرف ما الناس فيه، ويظن أن الناس ليس فيهم سفيه، وله أموال غزيرة وحواصل كثيرة، وأولاده الذكور والإناث نهاية في الجمال وغاية في الحسن والكمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ولم يزل إلى أن جاءه الأمر الذي لا يخدع، ولا يرد بحيلة ولا يردع. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وكان توجه أمير الركب في سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وهو من كبار المنصورية. بلبان الأمير سيف الدين القشتمري. أحد الأمراء بدمشق كان يسكن بدرب الريحان بدمشق. توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة تسع وتسعين وست مئة. بلبان الجمقدار الأمير سيف الدين المعروف بالكركند. كان من كبار الأمراء. أقام بدمشق مدة بدار فلوس، ثم نقل إلى الديار المصرية، ثم أعيد إلى دمشق، فأقام بها في دار بمحلة مسجد القصب ظاهر دمشق. وفي سابع شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وسبع مئة توفي إلى رحمه الله تعالى ودفن بتربته بجبل قاسيون، وكان يوماً مطيراً. وأظنه كان أولاً بصفد أمير عشرة في أيام الأمير سيف الدين بتخاص، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 بلبان الأمير سيف الدين المهمندار الدواداري عتيق، الأمير جمال الدين موسى بن الأمير علم الدين الدواداري. كان أمير عشرة. وتوفي رحمه الله تعالى في نصف جمادى الأولى سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة أستاذه بسفح قاسيون. بلبان الأمير سيف الدين الصرخدي الطاهري. أحد أمراء الطبلخاناه بالقاهرة، كان قد تجاوز الثمانين وكان فيه خير، مواظب على الصلوات. توفي رحمه الله تعالى في عشري جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة. بلبان الأمير سيف الدين العنقاوي، بعد العين المهملة نون وقاف وألف بعدها واو، الزراق المنصوري. كان في الحبس وأفرج عنه، وكان قد جاوز السبعين سنة، وكان من أمراء الطبلخاناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 توفي فجأة بعدما توضأ وتهيأ للتوجه لصلاة الجمعة في سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ودفن بجبل قاسيون. بلبان الأمير سيف الدين المحسني. أظنه كان أولاً من جملة البريدية بمصر، ثم إن السلطان جهزه لإحضار مباشري قطيا في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه ولاه القاهرة بعد علاء الدين أيدكين، فيما أظن، فأقام فيها إلى أن ولاها علاء الدين بن المرواني، وجهز الأمير سيف الدين بلبان لنيابة دمياط، فأقام بها قليلاً، وانفصل في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، أظنه توفي معتقلاً. وكان رجلاً جيداً خيراً مشكوراً. بلبان الأمير سيف الدين الإبراهيمي. كان أحد أمراء الطبلخاناه بحماة. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبع مئة، وكتب بإقطاعه لأسنبغا مملوك الأمير سيف الدين أسندمر العمري نائب حماه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 بلرغي بباء موحدة ولام وراء وغين معجمة بعدها ياء آخر الحروف، ومنهم من يقدم الراء والغين على اللام: الأمير سيف الدين الأشرفي. كان أميراً وجيها، لا يجد له في المضاهاة شبيها، مشهوراً بالتعظيم، والحفدة التي هي كحبات العقد في التنظيم، وثق إليه المظفر فجهزه إلى الناصر ليكون يزكا، ولم يدر أنه زرع الغدر فأثمر معه وزكا، وخامر عليه من الرمل وجمع به من الملك الشمل، ووصل إليه إلى غزه، فوجد بقربه ما كان يجده كثير من قرب غزه، إلا أنه لما دخل إلى مصر أمسكه، وأماته في السجن جوعاً وأهلكه. ووفاته بقلعة الجبل سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالحسينية. بلغاق الأمير سيف الدين: كان ناظر الحرمين: القدس وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، وهو بلغاق ابن الحاج جغابن يارتمش الخوارزمي. روى الحديث عن ابن عبد الدائم بالقدس ودمشق، وولي الحرمين آخر عمره، ورأيته بصفد مرتين أيام الجوكندار الكبير، وكان شيخاً قد أنقى، وعمل على ما هو في الآخرة خير وأبقى، مع سيرة مشكوره، ومعاملة مع الفقراء ما هي من مثله منكوره، معروفاً بالخير والبركه، موصوفاً بالصلاح في سكونه والحركه، كثير الاتضاع، غزير الجودة على ما ألفه من الرضاع. ولم يزل على نظر الحرمين إلى أن أمسى ولم يحفظه من الموت حرم وراح إلى الله بعد ما كاد يصل إلى الهرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وتوفي بقرية الغازية من بلد صيدا أو بلد بيروت في جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ونقل إلى دمشق ودفن بسفح قاسيون. ومولده بالقاهرة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وست مئة، وكان حكم البندق بالشام. البلفيائي: القاضي زين الدين محمد بن عمر. وشمس الدين محمد بن يعقوب. بلك الأمير سيف الدين الجمدار الناصري. حضر مع الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق في واقعة تنكز مع جملة أمراء الطبلخانات الذين حضروا في ذلك المهم، وتوجه معه إلى مصر، وأقام بها إلى أن رسم للأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي بنيابة حماة، وكان في صفد نائباً، فحينئذ رسم للأمير سيف الدين بلك هذا بنيابة صفد، وذلك في أيام الملك الصالح إسماعيل، فحضر إليها، وأقام بها مدة الأيام الصالحية، ولما توفي الصالح رحمه الله تعالى وولي الكامل شعبان أخرج الأمير سيف الملك إلى صفد نائباً عوضاً عن بلك، وعاد بلك إلى مصر وأقام بها أميراً على مئة في تقدمة ألف، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. ولم يزل بها مقيماً إلى أن فرق الموت بين بلك وما ملك، ولم يدر ذووه أيةً سلك. توفي رحمه الله بعد عيد رمضان في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 بلك الأمير سيف الدين أمير علم. أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، لما عزل الأمير ناصر الدين محمد بن بهادر آص من نيابة حمص في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وسبع مئة رسم للأمير سيف الدين بلك بنيابة حمص، فتوجه إليها بمرسوم السلطان الملك الصالح صالح، فأقام بها نائباً إلى أن ورد عليه الأمر الذي لا يرد إذا دعا، ولا يصد منه مانع إذا ما نعى. ووفاته في ثالث عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة. البندنيجي: المسند علي بن محمد بن ممدود. بهادر الشمسي الأمير سيف الدين. كان من أهل الصلاح والسلاح، وممن يتبع الصلاة بالصلات والسماح، ترك الإمرة مره، ونزل عما فيها من الدرة إلى الدره، ولبس زي الفقراء ورفض رياش الأمراء، ثم إنه أعيد، ورغب بالوعد وهدد بالوعيد، ورسم له بإعادته إلى الإمره، فعاد إليها ولم تعلم عوانه الخمره، وولي نيابة قلعة دمشق في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة عوضاً عن القرماتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ولم يزل على حاله بقلعة دمشق إلى أن أنزله الموت منها على حكمه، ودخل به في عداد همه وبكمه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ثمان عشرة وسبع مئة، وكانت نيابته ما يقارب السبعة أشهر، وكان موته فجأة. وولي النيابة بعده الأمير علم الدين سنجر الدميثري. بهادر الجوكندار الأمير سيف الدين. كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق وسكنه جوا باب الصغير، وكان يركب وينزل، ويرى أنه عن الدولة بمعزل، لكنه أمير خمسين فارسا. وعلمه لا يرى يوم الحاجة ناكسا. ولم يزل على حاله إلى أن مر الأمير وما عاد، وبدل بالتعس على النعش بعد الإسعاد. وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو زوج بنت الأمير سيف الدين الجوكندار. بهادر الأمير سيف الدين المنصوري المعروف بالحاج بهادر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 كان من أكابر الأمراء بالديار المصرية متعيناً فيهم، فأخرج إلى حلب على إمرة، ثم نقل إلى دمشق، ثم أعطى بها تقدمة ألف، وأقام بها مدة، وداخل الأفرم، وصار من أخصائه، وكان معروفاً بالتجري، وعدم التحرز والتحري، محباً للفتن، يصدح فيها على فنن، لا يحظى بالسرور، إلا إذا أجرى قناة الشرور، وكان يؤلب على الجراكسه، ويعد المهادنة لهم من المماكسه، لا يكاد يصبر على تعاطي السلاف، ولا يرى الدهر يده فارغة من كاس، كأنها تلافيه من التلاف، قيل: إنه كان يمر بين القصرين، وهو يتناول الخمر، ويقدح في أقداحه الجمر، وربما فعل ذلك بدمشق إذا دخل من الصيد، ولا يبالي بما يقوله عمرو وزيد. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: أخبرني والدي أنه كان أشبه الناس بالملك الظاهر بيبرس، وأقام في طرابلس نائباً بعد أسندمر إلى أن هجم عليه هادم اللذات، وفرق بينه وبين الأتراب واللدات. وتوفي رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة وسبع مئة. ولما ولي الملك بيبرس الجاشنكير وفرح به الأفرم تغير الحاج بهادر على الأفرم بعد مداخلته مجالس أنسه، ومواطن إطرابه ولذاته، وأخذ في تغيير الأمراء عليه، ويقول لمن يخلو به: هؤلاء الجراكسة متى تمكنوا منا أهلكونا وراحت أرواحنا معهم، فقوموا بنا نعمل شيئاً قبل أن يعملوا بنا، وتحالف هو وقطلوبك الكبير على الفتك بالأفرم إن قدرا عليه، فأحس الأفرم بذلك، فلم يزل بالحاج بهادر إلى أن استصلحه على ظنه، وقال: بعد أن سلمت من هذه الحية ما بقيت أفكر في تلك العقرب، يعني بالحية الحاج بهادر، وبالعقرب قطلوبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 ولما تحرك الملك الناصر من الكرك أرسل الأفرم الحاج بهادر وقطلوبك الكبير يزكاً قدامه، فنزلا على الفوار، وأظهرا للأفرم، وأبطناله الغدر، ثم إنهما راسلا السلطان الملك الناصر في الباطن وحلفا له، ثم سارا إلى لقائه، ودخلا معه إلى دمشق، وكان الحاج بهادر حامل الجتر على رأس السلطان يوم وصوله دمشق، ولما جلس على كرسي الملك بقلعة الجبل ولى الحاج بهادر نيابة طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى. بهادر آص الأمير سيف الدين المنصوري. كان شكلاً طوالاً من الرجال، يباهي الغمام في فيض السجال، له صدقات ومعروف، وبشره للعفاة معروف، ذا رخت كثير، وتجمل في الإمرة غزير، وعنده خدام ومماليك، ودسته ترى الملوك فيه صعاليك، جهز السلطان الملك الناصر بعد موته، أخذ جماعة من مماليكه، عملهم سلاح دارية لأشكالهم الهائله، ومحاسنهم الطائله. ولم يزل على إمرته في تقدمة الألف إلى أن برق ناظره، وهيأ له القبر حافره. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر سنة ثلاثين وسبع مئة. وكان هو القائم بأمر الملك الناصر لما كان بالكرك تجيء رسله إليه في الباطن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وتنزل عنده، وهو الذي يفرق الكتب ويأخذ أجوبتها، ويحلف الناس في الباطن إلى أن استتب له الأمر، وكان آخر من يبوس الأرض بين يدي السلطان في الشام، وجهزه السلطان إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير في شهر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فأقام به مدة تقارب سنة ونصفاً، ثم أعيد إلى حاله بدمشق، فوصل إليها ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ولما كان مع الأمير سيف الدين تنكز في واقعة ملطية أشار بشيء فيه خلافه، فقال بهادرآص: كما نحن في الصبينة فلم يحملها منه، وحقدها عليه، فكتب إلى السلطان فقبض عليه وأقام في الاعتقال مدة سنة ونصف أو أكثر، ثم أفرج عنه وأعيد إلى مكانه وإقطاعه. ولما توفي رحمه الله تعالى دفن في تربته برا باب الجابية، وخلف خمسة أولاد ذكور: الأمير ناصر الدين محمد، والأمير علي، والأمير عمر، والأمير أبو بكر، والأمير أحمد. فلحقه الأمير عمر، وكان أحسنهم وجهاً وقامةً، ثم أمير أحمد، ثم أمير علي. وكان أمير عشرة، وكان أولاً وكيل السلطان وبيده إقطاع هائل إلى الغاية، وقفت أنا على ورقة فيها أسماء أماكن إقطاعه قبل الروك وهي: من دمشق: نهر قلوط. من حمص: النهر بكماله، وأرض المرزات. من الجولان: قرية سمكين، وقرية جلين بكمالها. من البقاع: ثلث كفر رند، ثلث عين، دير الغزال بكمالها، ربع الرمادة، محمسة بكمالها، ربع الدلهمية، قرقما بكمالها، تعناييل بكمالها، حقل حمزة بكمالها، ربع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 علين، مزرعة الساروقية بكمالها، سدس عين حليا، القناطر بكمالها، علاق بكمالها، ربع يونين. من بيروت: سبعل بكمالها. من أذرعات: سدس كفرتا، نصف بيت الراس، ربع كفر الماء، ربع حديجة، ربع شطنا، ربع مهربا، ربع كفر عصم، نصف عونا من بصرى. من صرخد: المحوسه، ربع نجيح، قيما بكمالها، نصف السعف، ربع قارا من زرع. من جبل عوف: الغرية بكمالها، صوفة بكمالها، حنيك بكمالها، أم الخشب بكمالها، نصف دلاعا. من البلقا: نصف ماجد، بيرين بكمالها، ثلاث مزارع بكمالها، ربع بقعة. من نابلس: الكفر بكماله، صانور بكمالها، كفر كوس بكمالها. من لد: خرنوبة بكمالها، أخصاص العوجاء بكمالها. من عكا: عشرة أرماح بكمالها. من صفد: المنيسة بكمالها، المناوات بكمالها، المعشوقة بكمالها، كفر كنة، وعوض عن ذلك جميعه بعد الروك: نمرين: من غور زعر بكمالها، الكفرين بكمالها، مردا. من نابلس ثلثا رويسون دير بجالا بكمالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 بهادر بن عبد الله المنصوري المعروف بالعجمي. كان من جملة أمراء دمشق، وسكنه بالديماس، وكان في سنة خمس وتسعين وست مئة قد حج بالناس، وحمدت في المسير سيرته، وشكرت في الطريق طريقته. وكان شاباً حسن الطلعه، جميل الذهاب والرجعه، له دين متين، ومحبة لأهل العلم العاملين. ولم يزل إلى أن ذوى غصنه الرطب، وفرغ عمره ما عنده في الوطب. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون. بهادر الأمير سيف الدين المعزي. كان أميراً كبيراً، قبض عليه السلطان الملك الناصر، وبقي في الاعتقال مدة زمانية، ثم إنه أخرجه في سنة ثلاثين وسبع مئة، فيما أظن، وأقبل عليه إقبالاً زائداً، وجعله أمير مئة مقدم ألف، وكان يجلس في دار العدل مع الأمراء المشايخ، وكان يسميه: وينعم عليه كثيراً. وكان خيراً ساكناً وادعا، إلى المهادنة راكنا، يفتنه الناظر الفاتر، ويخلب لبه الجفن الساحر، يبالغ في إكرام مماليكه ويبرهم، ويسرهم بما فيه إطابة سرهم، لا يزال يغدق عليهم إنعامه ويفيء عليهم جوده وإكرامه، واقتنى منهم جملة جميله، وأخمل بهم زهرات الخميله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ولم يزل على حاله إلى أن أصبح المعزي معزىً فيه، وعجز الطبيب في تلافه عن تلافيه. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة أربعين وسبع مئة، أو آواخر سنة تسع وثلاثين. وكان قد أمسك هو وبكتمر الحاجب، وأيدغدي شقير والخازن في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. بهادر سمز بالسين المهملة والميم المكسورة وبعدها زاي، الأمير سيف الدين المنصوري. كان من أمراء دمشق، معروفاً بالإقدام، مشهوراً في الحروب بثبوت الأقدام، لا يرد وجهه عن قلة ولا كثره، ولا يخشى من حسامه وجواده نبوةً ولا عثره. كان مع الأفرم وهم يتصيدون بمرج دمشق على قرية بضيع، فدهمهم في الليل طائفة من عرب غزية، فقاتلوهم وقتل من العرب نحو نصفهم، ودخل هذا الأمير فيهم ولم يرجع عنهم، وأطال الغزو فيهم والمجاهدة لهم احتقاراً بهم، فطعنه من العرب فارس برمح في صدغه فصرعه، وعرض عليه صرف المنية فكرعه، وذلك في ثالث ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة، ودفن بقبر الست ظاهر دمشق، وسمر من العرب واحد وطيف به إلى أن مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 بهادر بن عبد الله الأمير سيف الدين السنجري. كان رجلاً سعيدا، ولم يكن من الخير بعيدا، تنقل في النيابات بالحصون وغيرها، وباشرها فغاضت بشرها، وفاضت بخيرها. ولم يزل إلى أن دعاه ربه فأجابه، وأعظم الناس مصابه. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وهو بحمص نائب. ولما كان في نيابة قلعة دمشق جاءه المرسوم بأن يكون نائب الغيبة بدمشق، لخلوها من نائب، وذلك في المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فحضر الموقعون والوزير، ونفذ وحكم، وولى عدة ولايات منها نظر البيمارستان لشرف الدين بن صصرى عوضاً عن بدر الدين بن الحداد، ولم تتم الولاية، وولى نظر الأسرى لعماد الدين بن الشيرازي، وولى نظر البيوت لشمس الدين بن الخطيري، وولى صحابة الديوان بالجامع الأموي لمحيي الدين بن القلانسي. وطلب في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة على البريد إلى مصر فتوجه إليها، ودخل عوضه الأمير سيف الدين بلبان البدري، وعاد السنجري بعد فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 رمضان متوجهاً لنيابة ثغر البيرة، وتوجه إلى غزة نائباً عوضاً عن الأمير علاء الدين طيبغا قوين باشي بحكم وفاته في شهر رمضان سنة اثنين وثلاثين وسبع مئة. بهادر الأمير سيف الدين الناصري الدمرتاشي. كان قد ورد إلى البلاد صحبة تمرتاش، فرآه السلطان فأحبه، ولما قتل تمرتاش أخذه السلطان وقربه وبالغ في تقديمه، فلامه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وقال: ياخوند، كل واحد من مماليكك يقعد في خدمتك ما شاء الله حتى تقدمه لإمرة عشرة، ثم تنقله لإمرة أربعين، وبعد مدة حتى يكون أمير مئة، فخالفه وأعطاه إمرة مئة، وقدمه على ألف، وزوجه إحدى بناته، وصار أحد الأربعة الذين يبيتون ليلة بعد ليلة عند السلطان، وهم: قوصون وبشتاك وطغاي تمر وبهادر الناصري، ولم يزل عنده إلى أن مرض، وطالت به علته وابتلي برمد أزمن، وقرحة طولت، ولازمه إنسان مغربي غريب البلاد، وعالجه بأشياء لم يوافقه الأطباء عليها، فلزم بيته وامتنع من الطلوع إلى القلعة إلا في الأحيان. وكان شكلاً ظريفا، محبوباً إلى القلوب طريفا، ولم تكن عيناه متركه، ولا أفعالها للقلوب محركه، وله قامة مديده، ومحاسن هيفها عديده، إلا أن رمد عينيه أصدأ سيوف جفونها، وغير فتكات ظباها التي أغمدتها في جفونها، وكواه المغربي على جنبه فأنكاه، وكان سنه يضحك في السعادة فأبكاه، ولم يزل على ذلك إلى أن تولى السلطان الملك الصالح إسماعيل فاستحوذ على الملك لكونه زوج أخت السلطان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وسكن في الأشرفية دار قوصون، وصار الأمر والنهي والحل والعقد له، وأخرج الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني إلى نيابة حماة. ولما نقل الأمير سيف الدين طقزتمر من نيابة حلب إلى نيابة دمشق نقل الأمير علاء الدين الطنبغا إلى نيابة حلب، وأخرج الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى نيابة حماة. ولم يزل على حاله إلى أن أخذ في ليله، وعدم حوله وحيله، فبات وما أصبح، وخسر ما كان ظنه يربح، وذلك في أوائل شوال سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، رحمه الله تعالى. بهادر الأمير سيف الدين بن الكركري. كان مشد الدواوين بحمص أيام تنكز، فأقام بها مدة، ثم إنه نقله إلى شد الدواوين بصفد، وولاية الولاة بها على إمرة طبلخاناه. لم يكن عنده رقه، ولا يرعى في الحق لصاحب حقه، بطشه أسرع من رد طرفه، وهيج عضبه أشد من خطب الزمان وصرفه، لا يقوم لغضبه الجبل الراسي، ولا يداني الحديد البارد قلبه القاسي، ومات في عقوبته جماعه، ولم يخن سوء الذكر ولا سماعه، إلا أنه كان فيه مع ذلك خدمة ورياسه، ومخادعة لأرباب الجاه وسياسه. يقال إنه قتل ولده بالمقارع وألقاه على القوارع لشراب أخذ منه نشوته، وكشف بها الستر حشوته. ولما جاء الأمير سيف الدين طشتمر إلى صفد نائباً وقع بينه وبينه، وصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 لا يسمع منه ولا يخضع له ويترفع عليه، وإذا شفع في أحد عنده لا يقبل منه، وإذا علم أن الفلاح من جهته أو من جهة مماليكه قتله بالمقارع إلى أن يموت، فضاق عطن طشتمر منه وكظم غيظه، وصبر له إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، فما ظن أن ابن الكركري ولا غيره إلا أنه يشنقه في أول وهلة، فلم يظهر له منه بعد تنكر تنكز، وتوجه طشتمر عقيب ذلك إلى باب السلطان، فأعطاه نيابة حلب، فباس الأرض، وطلب ابن الكركري من السلطان ليكون عنده في حلب مشدا، فوافقه السلطان على ذلك، لأنه كان يتحقق منه الأمانة والعفة عن مال الرعايا، ولم يزل بحلب إلى أن هرب طشتمر منها، على ما سيأتي في ترجمته، فما وفى له ابن الكركري ومال عليه، ولما عاد طشتمر من البلاد الرومية اعتقله، وتوجه إلى دمشق وتوجه منها إلى مصر، وجرى ما جرى من قتلة طشتمر، ثم إن ابن الكركري خلص بعد موت طشتمر من الاعتقال وبقي بطالاً، فحضر إلى دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر، ورتب له راتباً على الأموال الديوانية، ثم إنه رتب في شد الدواوين بدمشق وهو بلا إمرة، فأقام على ذلك قليلاً، وجهز إلى حمص مشداً، ثم إلى صفد مراراً كثيرة. وباشر ولاية مدينة دمشق مدة بعد إقطاع، ثم طلبه الأمير شهاب الدين أحمد نائب صفد لشد صفد، فجهز إليها فأقام قليلاً، وكان ذلك في سنة تسع وأربعين في الطاعون، فتوهم الناس أنه يموت بها، فطلبه الأمير بدر الدين مسعود من السلطان أن يكون مشداً عنده بطرابلس على عشرة قد انحلت عنده، فرسم له بالتوجه إليها، فأقام بها قريباً من شهر، وجاءه القضاء الذي لا تحمى منه الحصون ولا يرى در حي دونه وهو مصون. ووفاته رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في جمادى الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 بهادر الأمير سيف الدين الأوشاقي الناصري المعروف بحلاوة. كان إذا ساق في البريد وجاء إلى مركز قال للسواق أو لأحد من غلمان البريد: تأكل حلاوة؟ فإذا قال: نعم ضربه بالسوط الذي معه، فسموه بهادر حلاوة. وكان أشقر، أزرق العين بنظر أخف على القلوب منه رؤية الحين، الظلم ملء إهابه، والقسوة لا تخرج عما تحت ثيابه. ساق في البريد زماناً وهو بالكوفية البيضاء، وشوته المهامة وما سوته بالرمضاء. وكان السلطان يندبه في مهماته، ويأمنه على أسراره في ملماته. وكان الأمير سيف الدين تنكز يدعوه ابني تارة بالعربي، وتارة بالتركي، وكلما جاء في البريد أعطاه فروة قرظية بغشا كمخا على الدوام، ولما طال ترداده، وقضى الأشغال ألبسه السلطان الكلوتة، ولما أراد السلطان أمساك تنكز جهز بهادر حلاوة في البريد إلى طشتمر بصفد، وحضر معه إلى دمشق، ولما أحاطوا بباب النصر، وجرى ما جرى، وخرج إليهم تنكز ومشى ومشوا جميعاً، ولم يجسر أحد على كلامه، فقال بهادر هذا بالتركي: يا أمراء عجلوا بالمشي، فقال له تنكز: أنت الآخر يا روسي، وضربه بالمقرعة على أكتافه. ولما قبض عليه وقيد أخذ سيفه وتوجه به إلى السلطان، فوعده بطبلخاناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ولما حضر الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى دمشق تأمر بهادر حلاوة طبلخانه، ورسم له السلطان أن يكون مقدم البريدية بالشام، فأقام على ذلك مدة، ثم إن ألطنبغا ولاه بر دمشق، فأقام به مدة، وخدم الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري أتم خدمة لما كان على خان لاجين، ولم يزل على ذلك إلى أن توجه الناصر أحمد إلى القاهرة، فقطع خبزه ثم أعيد إليه. ولما حضر الأمير علاء الدين أيدغمش إلى دمشق نائباً خرج إقطاعاً بهادر حلاوة لأحد أولاد أيدغمش، ثم أعيد له إقطاع آخر بالإمرة، وأقام على ولاية البر إلى أن حضر الأمير سيف الدين طقزتمر إلى دمشق نائباً، فورد المرسوم من مصر بنقلة حلاوة إلى أمراء حلب، فتوجه إليها وأقام بها مدة تقارب الأربعة أشهر أو أكثر، إلى أن ذاق حلاوة علاقم الموت، وحصل لوجوه العدم والفوت، وذلك في ثلاث عشر صفر سنة أربع وأربعين وسبع مئة. قيل بين الأسما وبين المسمّى ... نسبةٌ تكتسي بذاك طلاوه قلت هذا ما صحّ عندي لأنّا ... كم رأينا مرارةً من حلاوه بهادر الأمير سيف الدين بهادر الدواداري. أول ما عرفت من أمره أنه كان في ولاية صيدا وكان يخدم الناس كلهم، ويحسن إليهم، خصوصاً العسكر الصفدي الذي يحضر لليزك بصيدا في كل شهر، ولما مات تنكز عزل من صيدا بعد ما أقام بها مدة زمانية، وتولى نابلس وهو على ذلك المنوال، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 تولى كرك نوح بالبقاع، ثم عزل وولي أستاذ دارية السلطنة بدمشق، وهو بطال بلا إقطاع، ثم أنعم عليه بعشرة أرماح في أيام أرغون شاه. ولم يزل عليها في الوظيفة المذكورة إلى أن دار الموت بالدواداري، وأصبح زند المنية فيه وهو واري، وذلك في يوم عرفة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وكان شيخاً طويلاً تام الخلق حسن الشكل والخلق، كأن الورد في وجهه تفتح والياسمين من شيبه بعارضيه مجنح. بهادر الأمير سيف الدين التقوي الساكن بدرب السوسي. كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، وأظنه كان أولاً بالقاهرة، وله دار على بركة الفيل في أول الجبانية، وكان قد جرد من دمشق إلى الرحبة، فأحسن إلى العسكر الذي كان معه، وأثنوا عليه ثناءً كثيراً. توفي رحمه الله تعالى وهو عائد من الرحبة بالقريتين في نصف شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة، وحمل إلى دمشق في محفة، ودفن بالقبيبات. بهادر بن أولياء بن قرمان الأمير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، سكنه بالقبيبات بدمشق. توفي رحمه الله تعالى في أوائل صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وأعطي إقطاعه للأمير زين الدين زبالة الفارقاني نائب قلعة دمشق، وأعطيت العشرة التي كانت معه لغرس الدين خليل بن قرمان. بوسعيد ملك التتار، القان بن القان محمد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغلي، صاحب العراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان والروم، والناس يقولون فيه أبو سعيد، على أنه كنية، والصحيح أنه علم، هكذا رأيت كتبه التي كانت ترد على السلطان الملك الناصر محمد، يكتب على ألقابه الذهبية بوسعيد باللازورد الفائق، ويزمك بالذهب. لما وقعت المهادنة والصلح بينه وبين صاحب مصر أراد السلطان أن يبتدئه بالمكاتبة، فبقي السلطان يطلب كاتب السر القاضي علاء الدين بن الأثير بالمكاتبة، وهو يقول له: يا خوند إن كتبنا له المملوك قد لا يكتب المملوك وإن كتبنا له والده أو أخوه فهو قبيح. ثم قال له بعد شهر: ياخوند رأيت أنا نكتب موضع الاسم ألقاب مولانا الشيخ السلطان بالطومار ذهباً، ونكتب على الكل محمد بالذهب أيضاً نسبة طغرة المناشير، فقال: هذا جيد، وجهز الكتاب على هذا الحكم، وعاد الجواب كذلك خلا بوسعيد، فإنها كانت باللازورد المليح المعدني، فقال السلطان: ونحن نكتب كذلك، فقال القاضي علاء الدين بن الأثير: ياخوند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 لأنا نكون قد قلدناهم، فاستمرت المكاتبة بينهما كذلك إلى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى. وكان شاباً مليحاً، لا يرى في المكارم طليحا، مسلماً، إلى الخير مسلما، معلماً بالجود وللسكون معلما، كتب الخط المنسوب، ودخل في ذلك العدد المحسوب، ورأيت خطه على ديوان أبي الطيب كأنه باكورة زهر غب القطر الطيب، وأجاد الضرب بالعود ولعب به، فكانت يمينه سحابة تقهقه منها الرعود، وصنف مذاهب في النغم ونقلت عنه، ورواها أولو النغم وتداولوها، وأصلها منه، وأبطل كثيراً من المكوس وأطلق جماعة من الحبوس، وأراق الخمور، وصمم في من شربها على أمور، وهدم ما في بغداد من الكنائس، وتتبع من له في دين الإسلام دسائس، وخلع على من أسلم من الذمه، وجعل الترغيب في الدخول للإسلام من الأمور المهمه، وأسقط ما في ممالكه من مكوس الثمار، ولم يدع فيها أحداً يتعرض لهذا السبب إلى أخذ درهم ولا دينار، وورث ذوي الأرحام، ولم يأخذ منهم لبيت المال نصيبا، وأصبح في هذه المسألة لأبي حنيفة رضي الله عنه نسيبا، إلا أنه كانت به عنة، لا يجد له منها سوى بغداد جنة، وهو كان آخر بيت هولاكو وبانقراضه انقرضوا، ونكثوا حبل الملك ونقضوا. ولم يزل في سعة ملكه والفرح بما في فلكه إلى أن زعزع الموت أركانه، وحرك كل قلب لما رأت العين إسكانه. وكانت وفاته رحمه الله تعالى في الأردو بأذربيجان في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وقد أناف على الثلاثين سنة. وكانت دولته عشرين سنة، ولم تقم بعده لملوك المغل قائمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وكان جلوسه على التخت في مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وسبع مئة بمدينة السلطانية، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة والله أعلم. وكان قبل موته بسنة قد حج الركب العراقي، وكان المقدم عليه، بطلاً شجاعاً، ولم يمكن أحداً من العربان يأخذون من الركب شيئاً، فلما كانت السنة الآتية خرجت العربان على الركب ونهبوه، وأخذوا منه شيئاً كثيراً، فلما عادوا شكوا إليه، فقال: هؤلاء في مملكتنا أو في مملكة الناصر؟ فقالوا: لا في مملكة الناصر ولا مملكتك إنما هؤلاء في البرية، لا يحكم عليهم أحد، يعيشون بقائم سيفهم ممن يمر عليهم، فقال: هؤلاء فقراء، كم مقدار ما يأخذون من الركب نحن نكون نحمله إليهم من بيت المال من عندنا كل سنة، ولا ندعهم يأخذون من الرعايا شيئاً، فقالوا له: يأخذون منهم ثلاثين ألف دينار، ليراها كبيرة فيبطلها، فقال: هذا القدر ما يكفهم ولا يكفيهم، اجعلوها كل سنة ستين ألف دينار، وتكون تحمل صحبة مسفر من بيت المال من عندنا مع الركب، فمات من سنته، رحمه الله تعالى، وجرت بعده أمور يطول شرحها، ولما بلغت وفاته السلطان الملك الناصر قال: رحمه الله تعالى، والله ما بقي يجينا مثل بوسعيد. بولاي النوين التتري أحد مقدهي التتار الذين حضروا مع غازان، اسمه على الصحيح مولاي وإنما الناس يحرفونه تهكماً به وبأمثاله كما يقولون في خداي بندا: خربندا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 لما أراد غازان العود من دمشق بعد ما ملكها إلى بلاده، ورتب الأمير سيف الدين قبجق نائب دمشق وجعل الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار نائب حلب والأمير فارس الدين البكي نائب السواحل كلها وزكريا بن الجلال وزيراً يستخرج الأموال من دمشق، وحلب وطرابلس، جعل بولاي هذا مقيماً بجماعة من عسكر التتار ردءاً لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جنداً، فنبت ببولاي الدار، وضاق عطنه من المقام بأرض الشام، وتذكر هو وقومه بلادهم وجنى له من دمشق جناية لما قدم من الغور في العشر الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. الألقاب والأنساب البيابانكي أحمد بن محمد ابن البياعة: شمس الدين محمد بن عثمان. وجلال الدين محمد بن سليمان. بيبرس الملك المظفر ركن الدين البرجي الجاشنكير المنصوري، وكان يعرف بالعثماني. كان أبيض أشقر مستدير اللحية أزهر، فيه عقل موفر الأقسام، ودين لا يدعه يقع في محظور ولا حرام. يتجنب الفواحش ويحاذيها، ويقول: إنّ السلامة من ليلى وجارتها ... أن لا تمرّ بوادٍ من بواديها شاع عنه ترك المحرمات وذاع، وملأ الأقطار والأسماع، خلا أنه لم يرزق في ملكه سعداً ولا أنجز الله له من طول المدة وعدا، وخانه سفرآؤه وخبث عليه أمراؤه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وأسلموه وقفزوا، وتركوه فرداً وتميزوا، فولى مدبراً ولم يعقب، وخرج من مصر نحو الصعيد خائفاً وهو مترقب، إلى أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واصفرت شمس سعوده وشحبت، فعاد وقد استسلم للطاعه، وبذل في رضى الله جهد الاستطاعه، وكانت أمواله لا تحصى، وأوامره لا تعصى، وله قبل السلطنة إقطاع كبيرة فيه عدة طبلخانات. وكان أستاذ الدار للملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان سلار النائب، فحكما في البلاد وتصرفا في العباد، والسلطان له الاسم لا غير، وكانوا نواب الشام خوشداشيته، وحزبه من البرجية. ولما توجه السلطان الملك الناصر محمد إلى الحجاز ورد من الطريق إلى الكرك وأقام بها وأظهر لهم أنه ترك الملك، لعب الأمير سيف الدين سلار بالجاشنكير وسلطنه، وتسمى بالمظفر وفوض الخليفة إليه ذلك، وأفتاه جماعة من الفقهاء بذلك منهم الشيخ صدر الدين بن الوكيل، والشيخ شمس الدين بن عدلان، حتى قيل في ذلك: ومن يكن ابن عدلانٍ مدبّرة ... وابن المرّحل قل لي كيف ينتصر وكتب عهده عن الخليفة، وركب بخلعة الخلافة السوداء والعمامة المدورة، والتقليد على رأس الوزير ضياء الدين النشائي، وناب له سلار، واستوسق له الأمر، وأطاعه أهل الشام ومصر، وحلفوا له في شوال سنة ثمان وسبع مئة، ولم يزل إلى وسط سنة تسع، حصل للأمير سيف الدين نغاي وجماعة من الخواص نحو المئة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وخامروا عليه إلى الكرك، فخرج الناصر من الكرك وحضر إلى دمشق وسار في عسكر الشام إلى غزة فجهز المظفر يزكا قدم عليهم الأمير سيف الدين بلرغي فخامر إلى الناصر، فذل المظفر، وهرب في مماليكه نحو الغرب، ثم إنه رجع بعد ما استقر الملك الناصر في قلعة الجبل، فذكر أن قراسنقر ضرب حلقة بالقرب من غزة لما خرج من مصر نائباً في دمشق، فوقع في الحلقة الجاشنكير المذكور ومعه نحو ثلاث مئة فارس، فتفرق الجماعة عنه في ثامن ذي القعدة سنة تسع وسبع مئة، رجع بنفسه معه على الهجن إلى مصر والأمير بهادرآص، فوصلا به إلى الخطارة، وتسلمه منهما الأمير سيف الدين أسندمر، وردهما لأن السلطان كان قد جهز يقول للجاشنكير: تروح إلى صهيون فهي لك، فتوجه في البرية، فوقع به قراسنقر، وكتب إليه فيما بلغني ممن له اطلاع: الذي أعرفك به أنني قد رجعت إليك لأقلدك بغيك، فإن حبستني عددت ذلك خلوة، وإن نفيتني عددت ذلك سياحة، وإن قتلني كان ذلك شهادة. ومات رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وقيل: سقاه سما فهلك من وقته. وعلى كل حال فما جاشت نفس الجاشنكير ولا جشأت ولا عبأت بوارد الموت ولا خسأت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 عمر الجامع الحاكمي بعد الزلزلة، ووقف عليه الأوقاف والكتب النفسية الكبيرة، وكتب له ابن الوحيد ختمة في سبع أجزاء بقلم الأشعار ذهباً، أخذ لها ليقةً ألف وست مئة دينار، وزمكها وذهبها صندل المشهور، وغرم عليها جملةً من الأجر، وما أظن أنه بقي يتهيأ لأحد أن ينشىء مثلها، ولا من تسمو همته إلى أن يغرم عليها مثل ذلك. وكانت سلطنته عصر يوم السبت ثالث عشري شوال سنة ثمان وسبع مئة بالقاهرة، وجعل الأمير سيف الدين بلرغي مكان الجاشنكير ومكان بلرغي الأمير سيف الدين بتخاص، ومكان بتخاص الأمير جمال الدين بن آقوش نائب الكرك. وعمر الخانقاه الركنية التي في رحيبة العيد مجاورة لخانقاه سعيد السعداء، ورتب لها فيما قيل أربع مئة صوفي، وصنع داخلها للفقراء بيمارستانا. ولما حضر السلطان الملك الناصر من الكرك لم يستمر لها إلا بمئة صوفي لا غير، وكان في كل قليل يؤخذ من حاصلها السبعون ألفاً والخمسون ألفاً والأقل والأكثر. وكنت قد قلت فيه رحمه الله تعالى: تثنّى عطف مصرٍ من قدوم ال ... مليك النّاصر الندب الخبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فذلّ الجاشنكير بلا لقاءٍ ... وأمسى وهو ذو جاشٍ نكيرٍ إذا لم تعضد الأقدار شخصاً ... فأوّل ما يراع من النصير بيبرس الشيخ المسند الكبير الجليل علاء الدين أبو سعيد بن عبد الله التركي العديمي مولى الصاحب مجد الدين بن العديم. ارتحل مع أستاذه، وسمع ببغداد جزء البانياسي من الكاشغري، وجزء العيسوي من ابن الخازن وأسباب النزول من ابن أبي السهل، وتفرد بأشياء، وسمع من ابن قميره. وحدث بدمشق وحلب. وسمع منه علم الدين البرزالي، وابن حبيب، وأولاده، والواني، وابن خلف، وابن خليل المكي، وغده. وكان مليح الشكل أمياً، غير فصيح، أعجميا، لم يزل يسمع إلى أن عدم العديمي وفقد، وزيف الموت صرفه وما انتقد. ووفاته بحلب سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده في حدود العشرين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 بيبرس الأمير ركن الدين الشرفي المنصوري المعروف بالمجنون. توجه بالناس إلى الحج في سنة ست وسبع مئة، ولما أمسك الأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب دمشق توجه بالأمير ركن الدين والأمير سيف الدين أغرلو العادلي إلى الكرك في شهر ربيعة الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شهر ربيعة الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان سكنه بالزلاقة داخل الباب الصغير، وكانت وفاته بحمص. بيبرس الأمير ركن الدين التلاوي، بكسر التاء ثالثة الحروف وبعدها لام ألف وواو بعدها ياء النسب. كان أميراً لا مهابه، وشدة بأس تروع أعداءه وتروق صحابه، ولي شد دمشق بصرامة وحرمة أوقدت ضرامه، فخافه المباشرون وغيرهم، وطار من خوفه طيرهم. ولم يزل على حاله إلى أن بردت أنفاسه، ونفضت من الحياة أحلاسه. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبع مئة. وكان فيه ظلم وعسف، وفرح الناس بموته، وباشر السد بعده الأمير شرف الدين قيران عقيب وصوله من طرابلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 بيبرس الأمير ركن الدين الموفقي المنصوري، كان من عتقاء الملك الأشرف. كان قد ولي النيابة بغزه، وجعل لها بإمرته فيها طرباً في عطفها وهزه، وكان كبير القدر معظما، ومعاليه ترى على جيد الزمان عقداً منظما، ثم عزل من غزة وأقام بدمشق إلى أن بانت حياته، وقطف ثم عمره جناته. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة، وحضر الأمراء جنازته وتولى غزة بعده أقجبا المنصوري. بيبرس الأمير ركن الدين العلائي. كان من جملة أمراء دمشق، توجه منها يوم السبت سابع عشري شوال إلى غزة نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا المنصوري، وذلك في سنة سبع وسبع مئة، فأقام بها إلى أن عزل منها في صفر سنة تسع وسبع مئة بالأمير سيف الدين بلبان البدري، فأقام بدمشق على إمرته مدةً، ثم وصل إليه تقليده بنيابة حمص في سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن قبض السلطان عليه بحمص في بكرة الأحد تاسع شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وورد إلى دمشق فأمسكه الأمير سيف الدين قجليس، وأمسك الأمير بدر الدين القرماني والأمير سيف الدين طوغان والأمير ركن الدين بيبرس المجنون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 والأمير علم الدين سنجر البرواني والأمير ركن الدين بيبرس التاجي والأمير سيف الدين كشلي، وتوجهوا بهم إلى الكرك، وكان قد باشر الحجوبية في سنة أربع وسبع مئة. بيبرس الأمير ركن الدين الجالق الصالحي المعروف بالعجمي. كان أميراً كبيراً من الجمدارية في أيام الصالح، وأمره الظاهر، وكان كثير الأموال، ودفن بظاهر القدس. وكان قد توفي رحمه الله تعالى بظاهر الرملة في نصف جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة. بيبرس الأمير ركن الدين الحاجب. كان أولاً أمير آخور، فلما حضر السلطان من الكرك عزله بالأمير أيدغمش المذكور في حرف الهمزة، ثم إنه ولاه الحجبة، فكان حاجباً إلى أن جرد إلى اليمن هو وجماعة من العسكر المصري، فغاب مدة باليمن، ولما حضر نقم السلطان عليه أموراً نقلت عنه، فاعتقله في حادي عشر ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وكان قبل تجريده إلى اليمن قد حضر إلى دمشق نائباً مدة غيبة الأمير سيف الدين تنكز بالحجاز، ولما حضر الأمير سيف الدين تنكز عاد إلى مصر قبل وروده بيوم أو يومين ولم يعلم أحد بخروجه، ثم إن السلطان أفرح عنه. وكان الإفراج عنه في شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة من الإسكندرية، وجهزه إلى حلب أميراً، فبقي هناك مدة. ولما توجه الأمير سيف الدين تنكز إلى مصر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة طلبه من السلطان، فرسم له بالحضور إلى دمشق، فحضر إليها ونزل بدار أيدغدي شقير وملكها، ولم يزل بدمشق مقيماً إلى أن توجه الفخري هو وطشتمر إلى مصر، فأقره على نيابة الغيبة بدمشق هو والأمير سيف الدين اللمش الحاجب، وكان الملك الناصر أحمد يكتب إليه وكان قد أسن، وحصل له في وجهه ماشرى، فما علم بعدها ما باع من الحياة ولا ماشرى. وتوفي بعدها بجمعة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وله دار مليحة بالقاهرة داخل باب الزهومة في رأس حارة زويلة مشهورة، وهو والد الأمير علاء الدين أمير على الحاجب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. بيبرس الأمير ركن الدين الدوادار المنصوري الخطائي. كان رأس الميسرة، وكبير الدولة. عمل نيابة السلطنة، ثم إنه سجن مدة، وأفرج عنه وأعيد إلى منزلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وكان فاضلاً في أبناء جنسه، عاقلاً لا يستشير في أمره غير نفسه، وافر الهيبة، واضح الشيبة له منزلته مكنية عند السلطان، ومحلة لا يشركه فيها غيره في النزوح والاستيطان، يقوم له إذا أقبل، ويقول له: اجلس فإنك أكبر من هؤلاء وأنبل. ولم يزل على حاله إلى أن أمسكه الحين فما أفلته، وسل عليه حسامه وأصلته. ومات وهو في عشر الثمانين بمصر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وعمل تاريخاً كبيراً بإعانة كاتبه ابن كبر النصراني وغيره، خمسةً وعشرين مجلداً. وتولى نيابة مصر في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة بعد بكتمر الجوكندار، ودفن بمدرسته التي أنشأها تحت قلعة الجبل، وحضر جنازته نائب السلطان والأمراء وأعتق مماليكه وجواريه، وفرق خيله. وكان يجلس رأس الميسرة وكان قد أمسك هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، والأمير سيف الدين سنقر الكمالي، وحبسوا في برج بالقلعة ومعهم خمسة أمراء غيرهم. بيبرس الأمير ركن الدين حاجب صفد، كان منسوباً إلى سلار. أخرجه السلطان الملك الناصر محمد إلى صفد بعد سنة سبع وعشرين وسبع مئة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فأقام بها أميراً إلى أن توفي حاجبها الأمي علاء الدين أقطوان الكمالي، فرسم له بالحجبة مكانة. ولما رسم السلطان الملك الناصر للأمير بهاء الدين أصلم بنيابة صفد رسم لبيبرس أن يكون في دمشق أميراً حتى لا يجتمعا، لأن أصلم كان سلاريا. ثم إنه بعد موت الناصر محمد طلب العود إلى صفد، وعاد إليها حاجباً، وكان عاقلاً خبيرا، يصلح أن يكون مدبراً ومشيرا، عديم الشر وادعا، قائلاً بالحق صادعا، له نعمة وسعاده، وفيه الحسنى وزياده. ولم يزل بصفد إلى أن هيل عليه ترابه، وفقده ذووه وأصحابه. وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. بيبرس الأمير ركن الدين الأحمدي أمير جاندار. كان من أعيان الدولة في أيام السلطان الملك الناصر، وهو أمير جاندار مقدم ألف، وكان أحد الأبطال، يعجز من مقاومته أبو محمد البطال عنده قوة نفس وعزم، وسوء ظن بالدهر وحزم، قد حلب الدهل أشطره، وقرأ من ريبه أسطره، مع ما فيه من محبة الفقراء، وإيثار الصلحاء. وعنده من مماليكه رجال يملأ بهم في الحروب سجال، ويقدمون على الأسود في غابها ويجيلون بين نفوس الأعادي وبين رغابها، قد كثر منهم العدد، وقواهم بالخيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 والسلاح والعدد، فإذا ركبوا زلزلوا الأرض، وجابوا طول البسيطة والعرض، لو صد بهم جبلاً صدعه أو رد بهم على سيل حافر كفه عن شأوه وردعه، لا جرم أنه بهم نجا، ووجد له من ضيق الناصر أحمد مخرجا. وهو أحد من يشار إليه في الحل والعقد، بعد الملك الناصر محمد، وهو الذي قوى عزم قوصون على إقامة المنصور أبي بكر، وخالف بشتاك، وقال: هذا الذي ولاه أستاذكم وهو أبوه، وما اختار الذي تختاره أنت، وأبوهما أخبر بهما. ولما نسب إلى المنصور ما نسب من اللهو واللعب، واستعمال الشراب حضر إلى باب القصر وبيده دمرتاش، وقال: أيش هذا اللعب؟ فانفل الجماعة الذين كانوا عند السلطان أبي بكر. ولما توفي الناصر محمد فرغ عن الوظيفة وولى مكانه أروم بغا، ثم إن الناصر أحمد لما جلس على كرسي الملك ولاه نيابة صفد، فخرج إليها وأقام بها مديدة، ولما انهزم الفخري من رمل مصر، ووصل إلى جينين قاصداً الأحمدي هذا، وأشار مماليكه عليه بذلك، ونزل هو من صفد، ولو اجتمعا ما نال أحمد منهما غرضاً، ثم إن الفخري قال: لا، هذا أيدغمش على عين جالوت هنا وهو أقرب، فجاء إليه فأمسكه، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة الفخري، ثم إن الناصر أحمد حقد على الأحمدي ذلك وهم بإمساكه، فأحسن بذلك، فخرج من صفد هو ومماليكه ملبسين عدة السلاح، واتبعهم عسكر صفد فخرج منهم واحد وقتل ركن الدين عمر البتخاصي الحاجب الصغير. ثم إن الأحمدي قصد دمشق وليس لها يومئذ نائب، فخرج الأمراء ليلاً لإمساكه فقال: أنا قد جئت إليكم غير محارب، فإن جاء أمر السلطان بإمسكاي أمسكوني وأنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ضيف عندكم، فأخرجوا له الإقامة، تلك الليلة، وأصبح والأمراء معه، وجاء البريد من الكرك بإمساكه فكتب الأمراء إلى السلطان يسألونه فيه وأن هذا مملوكك ومملوك والدك، وهو ركن من أركان الدولة، وماله ذنب، واليوم يعيش وغداً يموت، ونسأل صدقات السلطان العفو عنه، وأن يكون أميراً بدمشق. فرد الجواب بإمساكه، فردوا الجواب بالسؤال فيه، فأبى ذلك وقال: أمسكوه وانهبوه، وخذوا أمواله لكم وابعثوا إلي برأسه، فأبوا ذلك، وخلعوا طاعته وشقوا العصا عليه. وبعد أيام قليلة ورد الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي من مصر مخبراً بأن المصريين خلعوا أحمد وولوا الملك الصالح إسماعيل. وبقي الأحمدي مقيماً بقصر تنكز بالمزة إلى أن ورد المرسوم له بنيابة طرابلس، فتوجه إليها، وأقام بها قريباً من شهرين، ثم طلب إلى مصر، فتوجه إليها وحضر عوضه الأمير سيف الدين أروم بغا نائباً، ثم إن الأحمدي جهز إلى الكرك يحاصر الناصر أحمد فحصره مدة، وبالغ، فلم ينل منه غرضاً، وتوجه إلى مصر، وأقام بها إلى أن أتاه الأمر الذي لا يرده بواب، ولا يحول دونه حجاب. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة ست وأربعين وسبع مئة، ومات وهو في عشر الثمانين. ولما كان في تلك المدة مقيماً بدمشق جاء حريم طشتمر من الكرك بعد ما نهبن بالكرك وسلبن موجودهن، فدفع الأحمدي إليهن مبلغ خمسة آلاف درهم. بيبرس الأمير الصالح الخير ركن الدين أبو أحمد بن عبد الله التركي القيمري ثم الظاهري السلاح دار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 روى عن ابن المقير، والمكرم بن عثمان، وغيرهما. ولما كان بمصر لازم الشيخ شرف الدين الدمياطي، واستنسخ بعض مصنفاته وسمع الغيلانيات على غازي الحلاوي، وحصل بها نسخة. وكان يحفظ كثيراً من الأحاديث والآثار والأدعية المأثورة. وحدث بالقاهرة وبدمشق والحجاز. قرأ عليه الشيخ علم الدين البرزالي بعرفة الأربعين لابن المقير، ثم إنه ورد دمشق، ثم إنه حبس وقطع خبره، ثم أفرج عنه وانقطع في بيته، وأقبل على شانه، وعمل على ما يرجح كفة ميزانه، وأقام على ذلك مدة سنين لا يجتمع بالدولة، ولا بأحد من أرباب الصولة، ولا يتردد إلى أحمد من نواب السلطنة، ولا يدانيه ولا يتوجه إليه ولا يراه ولا يرائيه، إلى أن أتاه الأمر الذي يرد فلا يرد، ويصد فلا يصد. وكانت وفاته رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة. بيبرس الأمير ركن الدين الفارقاني نائب قلعة دمشق. كان شيخاً طويلا، قديم الهجرة جليلا، فيه خير وديانه، وبر وصيانه، أحسن نيابة القلعه، وخبر ما وجد فيها من سلعه، ولم يزل بها على حاله إلى أن أنزله الموت من حصنه، وما أمكنه الفرار ولو علا على ظهور حصنه. ووفاته في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ولما كان بالديار المصرية جهزه السلطان إلى القاضي كريم الدين الكبير، فتولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ما أمره به، وكان يحكى عنه ما عامله به من المكارم وكيف تلقى ذلك برضىً وتسليم لأمر الله تعالى. بيبغا الأمير سيف الدين الأشرفي. كان في وقت نائب الكرك فيما بعد العشرين وسبع مئة فيما أظن، ثم إنه عزل منها، وحضر إلى دمشق وجهز إلى قلعة صرخد، فيما أظن أيضاً، وكان قد أضر بأخرة فعدم قمريه المنيرين، وفقد نقديه البصيرين. ولم يزل على حاله إلى أن دعاه باريه فلباه، وقال نادبه. وارباه. ووفاته رحمه الله تعالى في ... بيبغا الأمير سيف الدين مملوك الملك المؤيد صاحب حماه رحمه الله تعالى. كان من جملة أمراء الطبلخاناه بحماة. ولم يزل بها على إمرته، وصحبة من ارتضاه وعشرته، إلى أن فقده ودوده وعاث في لحمه حشرات الأرض ودوده. ووفاته رحمه الله تعالى سنة ست وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 بيبغا روس الأمير سيف الدين نائب السلطنة بالديار المصرية. أول ما ظهر وشاع ذكره في الأيام الصالحية إسماعيل، وهو الذي جاء في أول دولة الكامل يطلب طقزتمر نائب الشام إلى مصر، ثم لما قتل المظفر حاجبي ظهر واشتهر، وباشر النيابة بمصر على أحسن ما يكون وأجمل ما باشره غيره لأنه أحسن إلى الناس وبسط لهم إلإيناس، ولم يظلم أحداً ولم يتخذ على من تهتك رصدا، وكان إذا مات أحد أعطى ولده إقطاعه، وكل من طلب منه شيئاً قال: سمعاً وطاعه، فأحبه الناس ودعوا، وحفظوا عهده ورعوا، ومشوا في ركابه وسعوا، وتباركوا بطلعته، وتقرب كل أحد إليه بنفاق سلعته، وكان الطاعون في أيامه، وذلك الوباء داخلاً في أقسامه، فيقال: إنه كفن مئة ألف أو يزيدون، وأعطى الإقطاعات للأولاد، أراد الأمراء ذلك أو لا يريدون. قيل: إنه جاءت إليه امرأة وقالت: مات زوجي وليس له إلا إقطاعه وترك لي هاتين الابنتين، فرق لها، فقال لناظر الجيش: اكشف عبرته. فقال: خمسة عشر ألف، فقال: من يعطي في هذا عشرين ألف درهم فقال واحد: أنا أعطي اثني عشر ألف درهم فقال: هاتها، فوزنها، فقال للمرأة: خذي هذه الدراهم وجهزي بنتيك، وأعطى الإقطاع لذلك الذي سلم الدراهم. وكان في النيابة فيه خير كثير، وإحسان إلى الناس غزير إلا أنه كان يعكف على حسو السلافه، ويرى أنه بتعاطي كؤوسها قد نال الخلافه، ماله رغبة في غير اجتلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 شوسها وتناول كؤوسها، واجتلاء أنوارها من يدي سقاتها الأقمار وتذهيب أشعتها لما عليهم من الأطمار، لا يقابل من قابله بها برده، فهي تغرب في فمه وتطلع في خده، ومع ذلك فما يخل بالجلوس في الخدمة أوقات الخدم، وثبات مالها في الدول المعروفة من قدم القدم. وكان قد ولى أخاه الأمير سيف الدين منجك الوزارة، فاختلف في أمره فيما بين الخاصكية، فأرضاهم بعزله أياماً قلائل، ثم إنه أخرج أمير أحمد الساقي إلى صفد نائباً، ثم أخرج بعده الأمير سيف الدين الجيبغا إلى دمشق، ثم أخرج حسام الدين لاجين العلائي زوج أم المظفر إلى حماه، وأقام على حاله إلى أن عزم على الحج، فقال له أخوه منجك: لا تحج، والله يتم لنا ما تم للفخري وطشتمر، فلم يسمع منه، وتوجه إلى الحجاز في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، ومعه فاضل ومامور، وحج معه الأمير سيف الدين طاز، والأمير سيف الدين بزلار وغيرهم من الأمراء، فأمسك بعد توجهه الأمير سيف الدين منجك بأيام قلائل، وقبض عليه الأمير سيف الدين طاز في الينبع في سادس عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. فقال لطاز: أنا ميت لا محاله، فبالله دعني أحج، فقيده وأخذه معه وحج وطاف وسعى، وهو مقيد على إكديش، ولم يسمع بمثل ذلك، ولما عاد من الحجاز تلقاه الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، وأخذه وحضر به إلى الكرك، وسلمه إلى نائبها، وتوجهوا بأخيه فاضل إلى القاهرة مقيداً، فدخلها، أعني النائب بيبغا إلى الكرك في سابع المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وقلت أنا فيه رحمة له: تعجّب لصرف الدّهر في أمر بيبغا ... ولا عجبٌ فالشمس في الأفق تكسف لقد ساس أمر الملك خير سياسةٍ ... ولم يك في بذل الندى يتوقّف وأمسك في درب الحجاز ولم يكن ... له عن رضى السلطان في ذاك مصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وسلّم للأقدار طوعاً وما عتا ... ولو شاء خلّى السيف بالدم يرعف وسار إلى البيت العتيق مقيّداً ... وريح الصبا تعتلّ والورق تهتف فيا عجباً ما كان في الدهر مثله ... يطوف ويسعى وهو في القيد يرسف وعاجوا به من بعد للكرك التي ... على ملكها في نفس الملوك تأسّف وأودع في حصن بها شامخ الذرّى ... تراه بأقراط النجوم يشنّف سيؤويه من آوى المسيح ابن مريم ... وينجو كما نجّي من الجبّ يوسف ولم يزل في الكرك معتقلاً إلى أن ولي الملك السلطان الملك الصالح صالح، فأفرج عنه وعن الأمير سيف الدين شيخو وبقية الأمراء المعتقلين بالإسكندرية، ووصل إلى القاهرة، فوصله وأنعم عليه وخلع عليه، ورسم له بنيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي. فوصل إلى دمشق نهار السبت ثالث عشري شعبان سنة اثنين وخمسين وسبع مئة ومعه الأمير عز الدين طقطاي ليقره في النيابة ويعود، ولما وصل إلى غزة عمل له الأمير سيف الدين بيبغاتتر النائب بغزة سماطاً فأكله، ولما فرغ منه أمسكه وجهزه مقيداً إلى الكرك، وتوجه هو إلى حلب وباشر النيابة، ومن حين دخلها تغيرت نيته وفسدت على الأمير طاز وعلى الدولة، ووسوس له الشيطان، نعوذ بالله منه، وحسن له كل قبيح، وسول له كل فساد بعد ذلك الخير والصلاح، واتفق مع أحمد الساقي نائب حماة، ومع بكلمش نائب طرابلس على الركوب والحضور إلى دمشق، فإن وافقهم أرغون الكاملي نائبها على ما يريدون وإلا ضربوا معه مضافاً، وأخذوا عسكر الشام وتوجهوا به إلى مصر، واتفق معه الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر نائب الإبلستين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 على ذلك. وترددت الرسل بينهم، وجعلوا يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، إلى أن بلغ الأمير سيف الدين أرغون الكاملي قوة عزمهم على الحضور إلى دمشق، فخلف عسكر الشام للسلطان الملك الصالح، وتوجه بالعسكر إلى لد، وأقام عليها، ودخل بيبغاروس وأحمد وبكلمش بعساكر حلب وحماة وطرابلس وتركمان بن دلغادر إلى دمشق نهار الاثنين ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة مطلبين، ولاقاهم الأمير علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، على ما تقدم في ترجمته، ونزل بيبغا على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وأقام عنده أحمد يومين ثلاثة، ثم إنه توجه بألف فارس وأقام على المزيريب، وتسيب تركمان بن دلغادر وغيرهم من المفسدين على بلاد حوران وبلاد البقاع وبعلبك والمرج والغوطة يعبثون ويفسدون وينهبون الأموال والغلال والدواب ويستحلون الفروج، ويرتكبون المحارم مدة أربعة وعشرين يوماً، إلى أن بلغهم وصول الأمير سيف الدين طاز إلى لد في خمسة آلاف فارس من العسكر المصري، وتحققوا أن السلطان الملك الصالح عقيب ذلك يصل، فتفللت العزائم وهرب دلغادر، وتوجه إلى بلاده على وادي التيم، فقدم بيبغاروس إلى المزيريب، واجتمع بأحمد الساقي وبات عنده ليلةً، ثم إنهم انهزموا إلى بلاد حلب، وأرادوا الدخول إلى حلب فمنعوا، وأمسك أهل حلب منهم جماعةً، على ما تقدم في ترجمة الطنبغا برناق، وقتل حينئذ الأمير فاضل أخو بيبغاروس، وكان من الفرسان، ووصل الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، والأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز بعساكرهم إلى دمشق في خامس عشري شعبان، ووصل السلطان يوم الخميس مستهل شهر رمضان، وجهز الأمير أرغون الكاملي والأمير شيخو والأمير طاز وعساكر الشام إلى حلب خلف بيبغا، فوصلوا إلى حلب، وأقاموا بها وببيغا وجماعته مفرقون في بلاد مرعش وما حولها، وأقام بيبغا في الأبلستين، وضرب أحمد وبكلمش مع عساكر الحصون رأساً، ووقعت الأمطار والثلوج وعاد الأمير شيخو والأمير طاز وعسكر الشام بعدما تقرر الأمير سيف الدين الكاملي بحلب نائباً على عادته، فوصلوا إلى دمشق في تاسع عشري شهر رمضان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ثم إن السلطان الملك الصالح توجه بالعساكر المصرية بعد ما صلى الجمعة في الجامع الأموي، وخرج منها سائراً إلى مصر في سابع شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ولما طال الأمر على ابن دلغادر أمسك أحمد وبكلمش وقيدهما وجهزهما إلى حلب فاعتقلا بالقلعة، وكان من أمرهما ما ذكرته في ترجمة أحمد الساقي، ثم إن الأمير عز الدين طقطاي قعد في حلب ينتظر رسل بيبغاروس، وكان ابن دلغادر قد جهز إمساكه في الأبلستين، فوصل بيبغا مقيداً إلى حلب ثالث عشر شهر الله المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وخرج طقطاي الدوادار وجماعة من العسكر وتلقوه، فلما رأى الأمير عز الدين طقطاي بكى وقال: والله أنا أعرف ذنبي، والذي أشار علي بذلك فقد لقاه الله فعله، والله ما كان ذلك برضاي، وأنا فقد وقعت في فعلي. وسير إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي يطلب منه لحم ثم مشوياً ومأمونية، فجهز ذلك إليه وأطلعوه بالقلعة، ثم إنهم حزو راسه، بعدما قطع الوتر أمراسه، وتوجه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار برأسه إلى الديار المصرية. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن الشيطان الرجيم. وقلت أنا في ذلك: لا تعجبوا من حلب إن غدا ... أرغون فيها جبلاً راسي من أجل هذا لم تطر فرحةً ... وبيبغاروس بلا راس وكتب إلي المولى القاضي شرف الدين حسين بن ريان كتاباً نظماً ونثراً، فأما نظمه فأذكره، وهو: بنيل الأماني هلّ شهر المحرم ... وحلت به البلوى على كل مجرم أتوا فيه بالأعداء أسرى أذلّةً ... إلى حلب الشهباء يا خير مقدم فبكلمشٍ وافوابه وبأحمد ... ومن بيبغا قد أدركوا كل مغنم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ومن رام ظلم الناس يقتل بسيفه ... ولو نال أسباب السماء بسلّم مضوا وقضوا لا خفّف الله عنهم ... إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم ففي رمضان كان يوم انكسارهم ... وآخره في عشر شهر المحرّم فأكرم به شهراً كريماً مباركاً ... حراماً أتى من بعد شهر محرّم بدأنا به العام الجديد فأسفرت ... لياليه عن شهرٍ شريفٍ معظّم به يوم عاشوراء يومٌ مبارك ... أتت فيه أخبارٌ البخاري ومسلم تعيّن شكر الله فيه على الذي ... سعى بيبغا فيه على كل مسلم أرانا هلالاً كالسّوار وحوله ... عقود نجومٍ كالجمان المنظّم وحيث وجدنا النصر فيه على العدى ... تعيّن أن يبقى كأعظم موسم فصنه عن الآثام فيه ولا تمل ... إلى اللهو في شهر المحرّم تسلم وفي صفرٍ فاصرف من الصفر كلّما ... ملكت على صرف المدامة تغنم مدام إذا لاح الحباب حسبتها ... بكاساتها شمسا تحفّ بأنجم بدورٌ بها ساقٍ من الترك أهيفٌ ... يريك عقود الدرّ عند التبسّم له طلعةٌ كالبدر يشرق نورها ... على قامةٍ مثل القضيب المنعّم ويبدي هلالاً من ضياء جبينه ... ويخفيه في داجٍ من الشّعر مظلم تترجم عيناه عن السّحر في الهوى ... فيعجز فكري حلّ ذاك المترجم يسلّ على عشّاقه سيف لحظه ... ويرشقهم من ناظريه بأسهم تقدّمت إذ أقدمت ليلة وصله ... على قبلةٍ والفضل للمتقّدم فما ردّني عمّا أردت ونلت ما ... قصدت من التقبيل في ذلك الفم وعانقت منه غصن بانٍ على نقاً ... ووسّدته في الليل زندي ومعصمي وزاد سروري بعد ذلك إذ أتى ... إليّ جوابٌ عن كتابي المقدّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 بعثت به منّي إلى صاحب له ... فضائل شتّى أمرها غير مبهم فأهدى جواباً عن كتابٍ رفلت في ... معانيه في ثوبٍ من الفخر معلم به أتحلّى حليةً وحلاوة ... تحول بأفواه العدى طعم علقم خليلي صديقي صاحبي ثقتي أخي ... إمامي وشيخي في العلوم معلّمي تسيل دموعي عندماً لبعاده ... ولو زارني ما سال دمعي عن دمي أودّ مقامي في دمشق لأجله ... وطرف زماني عن بلوغ المنى عم فإن جاد لي دهري بقصدي حمدته ... وإن لم يجد يستغن عنه ويذمم أينكر قصدي قرب خلّ صحبته ... قديماً إلى عليائه الفضل ينتمي فلو قيل لي أهل التكرم من هم ... لقلت صلاح الدين أهل التكرم إذا جال في فكري تذكّر أنسه ... بكيت على بعدي وزاد تندّمي أعيش ومالي في دمشق كفايتي ... وغيري له في يومه ألف درهم هو الحظّ والرزق الذي شمل الورى ... على مقتضى التقسيم لا بالتقدم أرجّي اجتماع الشّمل بالشام فاجتهد ... وساعد على نقلي إلى الشام واسلم فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: بعثت بشعرٍ مثل برد مسهّمٍ ... وهيهات بل عقدٍ بدرّ منظّم وإلا كأفق بالنجوم موشعٍ ... وإلاّ كوجهٍ بالجمال ملثّم فكم همزةٍ فيه كمثل حمامة ... على ألفٍ فيه كغصن مقوّم وكم فيه من عين كعين كحيلةٍ ... وكم فيه من ميم كدائرة الفم وكم فيه من جيم كخالٍ مدبّج ... ونقطتها خالٌ يلوح لمغرم أشاهد منه زهر روض ومنظراً ... أنيقاً لعين النّاظر المتوسمّ فنفس كرباً كم تنفس عن لظى ... عذاب وداء في القلوب مخيمّ وأجرى دموعي من جفوني ومن يرد ... مواطر من غير السحائب يظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وأذكرني عهد الشباب ولم أكن ... لأنسى ليالي عصره المتصرّم نظام فتىً عار من الغار يرتدي ... بثوبٍ بفضل العلم والحلم معلم مناي من الأيام رؤية وجهه ... وأحسن وجهٍ في الورى وجه منعم وما كلّ هاوٍ للجميل بفاعلٍ ... ولا كلّ فعّال له بمتمّم غدا شرفي منه على كلّ حالة ... ولكن إذا كاتبته كان مفحمي إذا ساق نحوي العرف غير مكدّر ... أسّوق إليه الحمد غير مذمم أيا شرف الدين الذي سار ذكره ... وما هو عنه بالحديث المرجّم لقد سقت أخبار البغاة وبيبغا ... سياق بليغٍ لم يكن بمجمجم وما كان هذا بيبغا قدر ما ابتغى ... ولو نال أسباب السماء بسلّم لقد كان في أمن وعزّ ونعمة ... ولكنّه عن علم ما في غد عمي فأضمر عدواناً وبغياً ولم يكن ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم وبات ونار الحقد تضرم صدره ... ولم يطفها غير الخميس العرمرم وراح يناجي من وساوس قلبه ... ضعيف المساعي أو قليل التكرّم وما ظنّ خيراً بالذي كان محسناً ... إليه ومن يفعل كذلك يندم إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهم وعادى محبّيه لقول عداته ... وأصبح في ليل من الشكّ مظلم وجاء دمشقاً في عساكر كلّهم ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم إلا إنّ هذا الأمر عقبى الذي جرى ... وآخره يفضي لنار جهنم وقدم هو قبل قصيدته نثراً يتعلق بأمر بيبغا وجماعته، وأردفت أنا قصيدتي بنثر أيضاً يتعلق بالمذكورين وكلاهما أثبته في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي، ونظمت أنا عدة مقاطيع لما خرجا من دمشق فارين من بيبغا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فمن ذلك، وقد خرجنا مع الأمير سيف الدين أرغون الكاملي على أنه متوجه إلى خان لاجين فأخذ العساكر من تحت قلعة دمشق وتوجه بها إلى لد، فقلت أنا في ذلك: خرجنا على أنّا نلاقي عسكراً ... أتى بيبغا فيها على خان لاجين فلم ندر من تعتيرنا وقطوعنا ... بأنفسنا إلاّ بأرض فلسطين وقلت أيضاً: أيا ولدي وافاني البين فجأةً ... وبدّد شملاً قد تنظّم كالعقد فسرت وما أعددت عنك تجلّدا ... لقلبي ولا حدّثت نفسي بالبعد وقلت، وقد كثرت الأراجيف: أخرجني المقدور من جلّق ... عن طيب جنّاتٍ جنيّات فإن أعد يوماً لها سالماً ... فهو بنيّات بنيّاتي وقلت، وقد جاءت الأخبار بأن القوم قد تقدموا الكتيبة: قد ضجرنا من المقام بلدّ ... بلدٍ ما طباعه، مثل طبعي كلّما قيل لي كتيبة جيشٍ ... قد أتت للكتيبة اصطكّ سمعي فتراني مغيّراً من نحولي ... وسقامي، وفي المزيريب دمعي وقلت، وقد زاد الذباب بالمنزلة: لقد أتانا ذباب لدّ ... بكلّ حتفٍ وكل حيف وقيل هذا ذباب صيفٍ ... فقلت لا بل ذباب سيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وقلت أيضاً: إن الذباب بلدّ ... لشرّ خصم ألدّ بليت منه بعكسي ... وما يبالي بطرد وقلت، لما كثرت الأراجيف بأن بيبغا رحل من دمشق وانهزم: قد كثر الإرجاف عن بيبغا ... وأنّه قد سار عن بقعته إذا أتانا خبرٌ سرّنا ... ما تغرب الشمس على صحّته بيبغا الأمير سيف الدين تتر المعروف بحارس الطير. توفى نيابة غزة بعد وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم إنه عزل وأقام بمصر إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير وأمسك أخوه بيبغاروس في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فولاه السلطان الملك الناصر حسن نيابة مصر عوضاً عن بيبغاروس، فأقام على ذلك إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح. ولما خرج الأمير علاء الدين مغلطاي والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري على الملك الصالح وأخذ مغلطاي هرب منكلي بغا الفخري، ودخل على الأمير سيف الدين بيبغا الفخري في بيته مستجيراً به فأجاره، وأخذ سيفه وسلمه إليهم، فعزله السلطان بعد ذلك وولى النيابة الأمير سيف الدين قبلاي، وجهز الأمير سيف الدين بيبغاتتر إلى نيابة غزة، فأقام بها شهراً أو أكثر، إلى أن ورد بيبغاروس إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 غزة متوجهاً لنيابة حلب، فمد له سماطا، فأكل منه وقبض عليه وقيده وجهزه إلى الإسكندرية، وذلك في شعبان سنة اثنين وخمسين وسبع مئة، ثم إنه أفرج عنه وحضر إلى القدس وأقام به بطالاً مدة، ثم طلب إلى مصر وأقام هناك بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه في مصر. ولما توفي الأمير علاء الدين ألطبنغا الشريفي نائب غزة رسم له بنيابة غزة، فوصل إليها في سابع عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ولم يزل بها نائباً إلى أن عزل بالأمير سيف الدين سودون في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة. ولما عزل الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة في شهر رجب الفرد اثنتين وستين وسبع مئة رسم السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي للأمير سيف الدين بيبغاتتر بنيابة غزة، وهذه النيابة بغزة رابع مرة، وجرى ما جرى من الأمير بيدمر نائب الشام، وحضر السلطان الملك المنصور إلى دمشق في واقعة بيدمر، ولما عاد السلطان إلى مصر كأنه رمي الأمير سيف الدين بيبغاتتر بشيء من موافقة بيدمر، فلما كان السلطان على غزة رسم بتسمير ولده، فسمر تسمير سلامة، وطيف به، ثم إنه رسم للأمير سيف الدين بيبغاتتر بالتوجه إلى طرابلس صحبة الأمير علاء الدين علي بن طشتمر البريدي المصري، وجهز ولده موسى إلى مصياف، وولده الاخر إلى الدر بساك صحبة تغيبين، ثم إنه طلب إلى مصر على لسان مملوكه ألطنبغا، فتوجه إليه، ووصل إلى دمشق في محفة في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 بيدرا بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف ودال مهملة وبعدها راء وألف مقصورة: الأمير سيف الدين العادلي. كان من أمراء الأربعين بدمشق، وتزوج ابنة أستاذه الملك العادل كتبغا، وكان يسكن بدار طوغان. توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. بيدمر بعد الياء الموحدة ياء آخر الحروف ودال مهملة وميم بعدها راء: الأمير سيف الدين الناصري. أخرجه الملك الناصر محمد إلى صفد، فأقام بها، وكان نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي يعظمه ويلازمه ويسمر عنده وهو بلا إمرة، ثم نقل إلى دمشق على إمرة عشرة في أيام تنكز، ولما حضر الفخري، وجرى له ما جرى، جهز هذا بيدمر المذكور إلى البلاد الرومية لإحضار طشتمر نائب حلب، ثم إن الناصر أحمد أعطاه طبلخاناه. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن جاءه أمر لا مرد لحكمه، ولا دفاع لخصمه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وكان ذا محيا جميل، ورونق لا يستحيل، مليح العين، لا يمل الناظر إليها مطالبتها بما له عندها من الدين، وتوفي كهلا، وكان للخير والسكون أهلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 بيدمر الأمير سيف الدين البدري. كان بالقاهرة أميراً، وله بالقاهرة تربة حسنة عمرها، وأقام بدمشق مدة إلى أن طلبه الملك الكامل شعبان إلى القاهرة وولاه نيابة طرابلس، فحضر إليها وأقام بها قليلاً بعد نيابة الأمير شمس الدين آقسنقر الناصري، ولما خرج الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي بدمشق على الكامل كان الأمير سيف الدين بيدمر ممن حضر إليه من نواب الشام، وأقام بدمشق معه إلى أن خلع الكامل وتولى المظفر حاجي، فطلب البدري إلى مصر وولاه المظفر نيابة حلب، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن طلبه المظفر حاجي إلى القاهرة، وتولى مكانه الأمير سيف الدين أرغون شاه. وكان البدري قد تولى نيابة حلب بعد الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي، وأقام البدري بالقاهرة قريباً من شهرين، ثم إنه أخرج هو والأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير والأمير سيف الدين طغاي تمر الدوادار إلى الشام على الهجن، فلما وصلوا إلى غزة لحقهم الأمير سيف الدين منجك، وقضى الله فيهم أمره، وأصبح طرف من ولاهم وهو بالبكاء أمره. وكان خنقهم في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكان هذا البدري كثير الرحمه، على فكره للمبرات زحمه، له ورد من الليل يقومه متنفلا، ويجلس على موائد التعبد، وهو ملك، متطفلا، وكان يكتب الربعات بخط يده، ويبالغ في تذهيبها وتجليدها، ولا تقبل من صاحب فنده، ولقد حاول أخذ ختمةً مني وهو بدمشق، وبذل الرغائب لي فأبيت، وزخرفت الأعذار في عدم الخروج عنها ورأيت وراءيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وأخبرني كاتبه القاضي زين الدين بن الفرفور أنه كان يخرج من كل سنة أول كل شهر مبلغ خمسة ألاف درهم للصدقة، ويعتقد أن ذلك خير ماله من النفقة، ولم يبد منه في حلب مدة نيابته غير واقعة الامرأة التي قطع شعرها وأذنيها وجعلها بذلك تحكي النعامة لمن نظر إليها، وما أقام بعدها في حلب إلا قليلاً، ومضى إلى حلب يجر من الشقاء ذيولاً. بيسري الأمير الكبير بدر الدين الشمسي الصالحي. كان من أعيان الدولة، وممن له في الحروب ثبات وحولة، وبين الأكابر صون وصوله، وإذا قالوا لم يسمع، وإذا قال سمعوا قوله، وكان ممن ذكر للملك، وانخرط في ذلك السلك، وجرت له فصول، ورد جملةً من النصوص الواضحة وعارضها بالنصول، وقبض المنصور قلاوون عليه وأهدى الإهانة إليه، وبقي في السجن سنين، عدد الرهط الذين يفسدون في الأرض، وخالف في أمره السنة والفرض. ثم إن الأشرف خليل أخرجه من سجنه وأبدله الفرح من حزنه، وأعاد إليه رتبته، وأجلسه إلى ركبته. ثم إن المنصور لاجين قبض عليه ثانيا. وكان الأجل في هذه المرة له مدانيا، فتوفي في الجب، ولم تفده المطهمات القب، وعمل عزاؤه تحت قبة النسر بالجامع الأموي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 بدمشق، وحضره القضاة وملك الأمراء والدولة، وذلك في سنة ثمان وتسعين وست مئة في أيام الملك الناصر محمد. وداره بين القصرين معروفة، وانتقلت إلى أحد الأميرين إما قوصون أو بشتاك، وكان الناس أولاً قد خرج لهم قماش ثمين وسموه شقف البيسرى لما تأنق فيه الصناع وزخرفوه. البيسري الجندي الشاعر اسمه آقوش. بيغرا بالياء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها غين معجمة وراء وألف: الأمير سيف الدين الناصري. كان بعد السلطان الملك الناصر محمد بن أكابر المقدمين، وحضر إلى دمشق لتحليف العسكر للملك الأشرف كجك، وحضر أيضاً لتحليف الأمراء للملك الكامل، والله أعلم، وكان أخيراً أمير جاندار وحاجبا. ولم يزل معظما، ولدر السيادة منظما، ينفع من يخدمه ويؤهله لعلو المنزلة ويقدمه، ولم يزل إلى أن تولى الملك الصالح صالح، فأخرجه إلى حلب أميراً، فوصل إليها في شهر رجب الفرد سنة اثنين وخمسين وسبع مئة. وبقي فيها على حاله إلى أن حان حينه، وحل عليه من الأجل دينه، في شهر شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 بينجار الأمير سيف الدين الحموي، أحد الأمراء بدمشق. كان بدمشق حاجباً صغيراً إلى أن توجه الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي أمير حاجب بدمشق إلى نيابة قلعة الروم، فوصل المرسوم بعد ذلك بأن يكون الأمير سيف الدين بينجار الحموي عوضه أمير حاجب بدمشق في المحرم سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فلم يزل على هذه الوظيفة إلى أن توجه مع الأمير سيف الدين أرغون الكاملي والعسكر الشامي إلى الرملة في واقعة بيبغاروس. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة بالمعسكر على لد. وكان جيداً خيراً ديناً، عنده كتب يطالع فيها، ويحب أهل العلم ويعظمهم ويحترمهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 حرف التاء التاج أحمد سعيد الدولة كان ذا مكانة مكينة ومنزلة عظيمة عند الملك المظفر الجاشنكير، ولما ولي الملك أمر له بالوزارة فامتنع من ذلك، فرتب الصاحب ضياء الدين بن النشائي وزيراً، وجعل ابن سعيد الدولة مشيراً، فكانت فوط العلائم تحمل إليه ويعتبرها علامةً علامةً، فالذي يراه ويرتضيه كتب على يمين العلامة عرضاً: تحتاج إلى الخط الشريف، فإذا رأى السلطان ذلك علم، وإلا فلا، وكانت كتب البريد وغيرها كذلك، إلى أن تعب الأفرم من دمشق، وتهدده بقطع رأسه حتى امتنع من ذلك. وكان مشهوراً بالأمانة والعفة، ولم يحصل منه تفريط، وضبط الدواوين والأموال، وكان إذا كان في ديوانه قضى الأشغال ونفذ الأمور، وأما إذا اعترضه أحد في الطريق وسأله حاجةً أمر بقتله بالمقارع، فهابه الناس. وكانت له حرمة وافرة ومهابة شديدة، وكان لا يجتمع بغريب، ولا يخالط أحداً ولا يقبل هدية، ولما طلب للوزارة التجأ إلى زاوية الشيخ نصر، فلذلك كانت حرمته أوفر من حرمة الوزير وأعظم. وتوفي في أوائل شهر رجب الفرد سنة تسع وسبع مئة، وولي مكانه ابن أخته كريم الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 أخبرني حفيده الصاحب تاج الدين موسى بن علم الدين أبي بكر أن اسم جده كان أحمد، فهو تاج الدين أحمد بن سعيد الدولة. ابن تاج: الخطباء: جلال الدين محمد بن محمد. التاج بن المناديلي: عبد الرحمن بن موسى. والتاج المغسل: اسمه عبد الرحمن بن أيوب. التادفي: المقرىء، محمد بن أيوب. التاج الطويل القاضي تاج الدين ناظر الدولة بالديار المصرية. كان كاتباً كافيا، قائماً بصناعة الكتابة وافيا، فيه مروءة ومكارم، ولطف عشرة، ولو كان بين القنا والصوارم. تكرر منه مباشرة هذه الوظيفة مرات، ونال فيها سعادات زائدةً ومسرات، وكان رئيس طائفته، وزعيم هذه العصابة الذين هم تحت طواعيته. ولم يزل على حاله إلى أن قصرت مدة الطويل وقطعت، وأخرجت روحه من جسده، ونزعت. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثاني عشري القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وأنشدني القاضي زين الدين الخضر بن تاج الدين بن الزين خضر كاتب الإنشاء له في دواة أبياتاً، وأنا في ريبة من نسبتها إليه لأنها في الذروة وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 دواتنا سعيدة ... ليس لها من متربه عروس حسنٍ جليت ... منقوشةٌ مكتّبه قد انطلت حليتها ... على الكرام الكتبة وفي التاج الطويل يقول ابن دانيال: أصبحت في الكاتبين فرداً ... وأنت كنزٌ لكل راج لا كشف الله منك راسي ... ودمت عزّي ودمت تاجي مولاي قد ساءني افتقاري ... وسرّ حسادي احتياجي فاصلح بحقّ الوفاء شاني ... فغير علياك لا أناجي فالزيت قد قلّ من فتيلي ... وكاد أن ينطفي سراجي وبات فوق التراب أهلي ... تلتقط الحب كالدجاج عساك بالله يا هلالي ... تكتب رزقي على الخراج التبريزي: القاضي جمال الدين عبد القادر بن محمد. والشيخ تاج الدين علي بن عبد الله. ابن تبع: محمد بن أحمد. ترمشين بالتاء ثالثة الحروف، وراء بعدها ميم، وشين معجمة، وياء آخر الحروف، ونون: ابن دوا المغلي، صاحب بلخ وسمرقند وبخارى ومرو. كان ذا إسلام، وممن يعد في أولي الأحلام، أكرم الأمراء المسلمين وقربهم، وسرحهم في صحاري الإحسان، وسر بهم لما سربهم، وجفا الكفرة وأبعدهم، وهددهم وتوعدهم، ولازم الصلوات الخمس في الجماعه، وأصغى إلى الخير وأحب سماعه، وترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الياسات، وقال: هي من أرذل السياسات، وأمر بأحكام الشريعة، وسدد ما دونها الذريعة، وأبطل من مملكته المكوس وجبايتها، وأمر بالمعدلة وتلا آيتها، وألزم جنده بالكف عن الأذى، ودفع عن عيون رعاياه القذى، وألزم التتار بالزرع، وقالوا: لا طاقة لنا، فقال: هذا هو الشرع. واستعمل أخاه على مدينة فقتل رجلاً ظالماً، فجاء أهله إلى ترمشين وشكوا، فبذل لهم أموالاً ليعفوا، فأبوا وقالوا: نريد حكم الله، فسلمه إليهم فقتلوه، ودعا الناس له. ثم إنه زاد في التأله والتدين فعزم على ترك الملك والتبتل برأس جبل، وسافر معرضاً عن السلطنة، فظفر به أمير كان يبغضه، فأسره، وكاتب بزان الذي ملك بعده، فقتله صبرا، وهبره بالسيف هبرا، وذلك في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، قدس الله سره. تلك الأمير سيف الدين الحسني ورد إلى دمشق أميراً في تاسع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة وبقي فيها مدة، ثم إنه لما نقل الأمير سيف الدين باينجار من الحجوبية الصغرى؛ إلى أن يكون بدمشق أمير حاجب عوضاً عن الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي لما توجه لنيابة قلعة الروم رسم للأمير سيف الدين تلك أن يكون حاجباً عوضاً عن باينجار، وذلك في المحرم سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فأقام كذلك مدة، ثم إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 تحدث للأمير سيف الدين شيخو رأس نوبة في ديوانه، فاجتهد فيه وثمر، فطلبه إلى مصر، فتوجه في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وورد مكانه في الحجوبية الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب من حلب. وما أقام الأمير سيف الدين تلك الحسني في القاهرة، حتى توفي رحمه الله في غزة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، لأنه كان قد توجه صحبة ثقل السلطان وطلبه لما حضر الصالح في واقعة بيبغا. التعجيزي: الفقيه شهاب الدين أحمد بن محمد. تلك الأمير سيف الدين الشحنة كان أحد مقدمي الألوف بالشام. حضر إلى دمشق على إقطاع الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير في سنة خمس وسبع مئة، وكان في دمشق أكبر مقدميها، يحضر إليه قباء الشتاء من مصر من باب السلطان. وتوجه في واقعة سنجار. ولم يزل في دمشق مقيماً إلى أن ورد المرسوم من مصر يطلبه صحبة منكلي بغا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 السلحدار، وحضر الأمير سيف الدين قردم على إقطاعه في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ولم يزل في مصر مقيماً إلى أن ورد الخبر بوفاته في أوائل صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة. ابن تمام الشيخ تقي الدين عبد الله بن أحمد، وأخوه الشيخ محمد بن أحمد. تمر الساقي الأمير سيف الدين ولاه السلطان الملك الناصر محمد حمص بعد موت بلبان الجوكندار في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة، ثم ولاه نيابة طرابلس، بعد ما قفر الأفرم منها وتوجه مع قراسنقر، وذلك لما قدم مع العسكر من مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً على حاله، إلى أن حضر الأمير سيف الدين قجليس الناصري إلى دمشق؛ وتوجه منها إلى طرابلس؛ فعاد منها ومعه الأمير سيف الدين تمر الساقي نائبها، وجاء عوضه لنيابة طرابلس الأمير سيف الدين كستاي الناصري في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 ولما وصل به إلى دمشق أمسكه، وأمسك الأمير سيف الدين بهادر آص وقيدهما، وتوجه بهما من دمشق وجهز بهادر آص إلى الكرك، وتوجه تمر الساقي إلى مصر، فأقام في الاعتقال بالإسكندرية أكثر من عشرين سنة، وأفرج عنه في شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وحضر إلى دمشق وأقام بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه، وكان السلطان الملك الناصر قد أفرج عنه وعن جماعة من الأمراء الذين كانوا بالإسكندرية، وهم: تمر الساقي، وبيبرس الحاجب، وبلرغي الصغير، وطغلق وأمير غانم بن أطلس خان، ولاجين العمري الحاجب، وبلاط الجوكندار، وأيدمر اليونسي، وطشتمر أخو بتخاص المنصوري، وقطلوبك الأوشاقي، وبيبرس العلمي وكشلي، والشيخ علي مملوك سلار. وتوجه الأمير سيف الدين كستاي الناصري عوض تمر الساقي إلى طرابلس نائباً، ولما دخل الأمير سيف الدين تنكز من القصر إلى دار السعادة يوم أمسك وأراد العصيان دخل الأمير سيف الدين تمر الساقي إليه، وقال له: المصلحة أنك تروح لأستاذك، وأنا قعدت في الحبس أكثر من عشرين سنة، وها أنا واقف قدامك، فانفعل له وخرج إليهم، فأمسكوه، على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى. وتوفي بمصر، والله أعلم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. تمر الموسوي الأمير سيف الدين الناصري. كان خفة إذا تحرك، وعليه خفر إذا تثنى على جواده أو تورك، وكان إذا رأى وجهاً حسناً هام، وقطع علائق الأوهام. وكان في نفس السلطان منه لذلك، إلا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الأمير سيف الدين بكتمر الساقي كان يصده عن أذاه، ولا يصوب فيه رأياً يراه، فلما مات بكتمر الساقي أخرجه إلى دمشق فأقام فيها إلى أن تحرك طشتمر نائب حلب في واقعة الناصر، وكاد يمشي في الباطن ويحلف الأمراء له، فأمسك وأودع في قلعة دمشق سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في أيام الطنبغا، ثم أفرج عنه لما صار الأمر للناصر أحمد. تمرالمهمندار الأمير سيف الدين المهمندار بالشام. كان من مماليك الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب المقدم ذكره. وقيل إنه كان من مماليك الطباخي نائب حلب. وكان تمر المذكور مع أستاذه بكتمر الحاجب لما كان بصفد نائباً، وهو من أول حاله لم يزل بخير، له ثروة، ومعه مال له صورة. ولما كان بدمشق ولاه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله شد الزكاة في يوم الإثنين خامس جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة عن الأمير نجم الدين داود الزيبق، فأقام على ذلك مدة، ثم إنه أضاف إليه المهمندارية، وجعله بطبلخاناه، ولما حضر الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق في واقعة تنكز عزله من المهمندارية وجعله والياً على مدينة دمشق، فأقام بها تقدير جمعة، وعاد إلى المهمندارية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وكان ساكناً وادعاً عاقلاً قليل الكلام جداً، وكنت يوماً عند الصاحب أمين الدين أمين الملك، فجرى ذكره، فأثنيت عليه، وقلت: ما يكون مثله في سكونه وعدم شره، فقال: إلا أنني مع هذا كله ما أقدر أعمل إلا ما يريده، ولم يزل على ذلك، في أتم حال، ثابت القدم مع تقلب الملوك والنواب، لا يختل عليه نظام، إلى أن كانت واقعة الأمير علاء الدين أمير علي نائب دمشق، في سنة ستين وسبع مئة، وتوجهه إلى باب السلطان وتجهيزه من الطريق إلى نيابة صفد، وكان القائم بذلك الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي أمير حاجب، فنقل الأمير سيف الدين تمر المهمندار، وجعل أمير مئة مقدم ألف، ولم يؤثر ذلك. ولم يزل على حاله إلى أن رسم له بنيابة غزة فتوجه إليها، وأقام بها نائباً قريباً من نصف سنة، ثم رسم له بنيابة بإمرة الحجبة فحضر إليها، ولبس تشريفه في يوم الاثنين خامس عشري شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وخدم، وسلمت العصا إليه. ولم يزل كذلك حتى أخرجه الأمير بيدمر نائب الشام إلى غزة صحبة من خرج من عسكر دمشق في واقعة بيدمر وخروجه، فتوجه وهرب الأمير منجك، وجرى ما جرى وحضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي، فأنكر على المهمندار موافقته لبيدمر على ذلك وطواعيته له، وأمسك من أمسك من الأمراء، وقطع خبز المهمندار، وخرجت وظيفته للأمير سيف الدين قماري الحموي. وكان المهمندار ضعيفاً فاستمر مريضاً، إلى أن توفي يوم السبت ثامن عشر شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة ولعله قارب الثمانين رحمه الله تعالى، وبالجملة ما رأى خيراً منه مذ فارق المهمندار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 تمر بغا العقيلي الأمير سيف الدين نائب السلطنة بالكرك، أحد مماليك الملك الناصر محمد. كان خيراً كله، وبشراً لا يعدل عنه الصلاح ولا يمله. عاش به أهل الكرك ونجوا بنيابته من النوائب والدرك. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني بعض مماليكه قال: هذا أستاذي، عمره ما نكح، وعنده الزوجة المليحة والجواري الملاح. قلت: لعله كان عنيناً، وإلا فليس في ترك النكاح المشروع معنى يقصد به وجه الله طلب الثواب أو الهرب من العقاب. ولم يزل على حاله بالكرك إلى أن اجتحفه سيل الحيف حتفا، ودعا به داعي المنون هتفا. ووفاته رحمه الله في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة. تمربغا الأمير سيف الدين الحسني. كان أحد أمراء الطبلخاناه بطرابلس. ولم يزل بها إلى أن توفي في شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. تمرتاش بتاء ثالثة الحروف، وميم بعدها راء، وتاء ثالثة الحروف أيضاً وبعدها ألف وشين معجمة: ابن النوين جوبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 كان معدوداً من الفرسان والأبطال الذين ليسوا من نوع الإنسان. إذا التقى الصفان وسل السيفان نزل عن ظهر جواده وجلس على بساط، واستعمل ما يبعث النفس على الانبساط، وتناول سقرقا صرفا، وركب للحملة على عدوه طرفا. وكان قد قرر في عسكره أنه من مات في المعترك، فإقطاعه لولده من غير مشترك، ومن هرب فأنا وراءه بالرهب، وإذا وقع في يدي فالسيف، وما أرى في ذلك سلوك جنف ولا حيف. فلهذا ما ثبت له أحد، ولا وجد من دونه ملتحد. وهزم جيوشاً عديده، وفتح بلاداً مساحتها مديده. وكان قد خطر له أنه هو المهدي الذي يجيء آخر الزمان ويمهد الأرض، ولما بلغ أباه ذلك ركب وجاء إليه ورده عن العقيدة، واستصحبه معه إلى الأردو إلى خدمة القان بوسعيد. ولما حضر معه رأى الناس في الأردو ينزلون قريباً من خام الملك، فقطع الأطناب بالسيف، ووقف على باب خان القان ورمى بالطومار، وقال: أينما وقع ينزل الناس على دائرته. فأعجب ذلك بوسعيد. وعاد إلى بلاد الروم حاكما. وكان واسع الكرم، تحسده الغمائم فتتوقد من البوارق بالضرم، لا يبالي بما أنفق، ولا ينام وجفنه على فائت مؤرق. وكان كرمه وجوده المفرط من أسباب هلاكه وإيقاعه في حبائل الموت وأشراكه، لأنه لما وصل إلى القاهرة لحقه من أمواله بالروم مئة ألف راس غنم فيما أظن، أو ثمانون ألف رأس، فلما وصلت إلى قطيا أطلق منها لبكتمر الساقي عشرين ألف رأس، ولقوصون كذا، ولفلان كذا ولفلان كذا، ففرق الجميع، فلم يهن هذا الأمر على الملك الناصر محمد. ودخل يوماً حمام قتال السبع التي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الشارع تحت القلعة، ولما خرج أعطى الحمامي ألف درهم والحارس ثلاث مئة درهم، فزاد ذلك في حنق السلطان عليه. وكان حسناً شكله، كأن قوامه غصن بان وشعره ظله، إذا خطا تخطر، وظن بقوامه أنه رمح يتأطر، تعطفه نشوة الشباب ويظن من تثنيه أنه ارتشف بنت الحباب، شكا السلطان منه ذلك إلى بعض خواصه وقال: أرأيت هذا تمرتاش كيف يمشي قدامي، هذا إنما هو إعجاب منه بشكله وقده، واستخفافا. فقال: والله يا خوند هكذا يدخل إلى الطهارة، وهذه عادته أبداً. وكان السبب في دخوله إلى هذه البلاد أنه لما مات أخوه دمشق خواجا، وهرب أبوه جوبان، اجتمع هو بالأمير سيف الدين أيتمش، وطلب الحضور إلى مصر، وحلف له أيتمش أيماناً معظمة عن السلطان، فحضر في جمع كبير، وخرج الأمير سيف الدين تنكز نائب دمشق، وتلقاه في يوم الأحد خامس عشري صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وتوجه إلى السلطان، وظن أن السلطان يخرج له، فلم يخرج لتلقيه وأمر برد من حضر معه إلا القليل، وأعطى لكل واحد مبلغ خمس مئة درهم وخلعة، فعاد الجميع إلا اليسير، وأراد السلطان أن يقطعه شيئاً من أخباز الأمراء، فقال له الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب: يا خوند، أيش قال عنك؟ أنه وفد عليك وافد من الروم ما كان في بلادك ما تعطيه إقطاعا حتى تأخذ من إقطاع أمرائك، فرسم ل كل يوم من دخل قطيا بألف درهم، إلى أن ينحل له إقطاع يناسبه، ورسم له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 السلطان على لسان الأمير سيف الدين قجليس أن يطلق من الخزانة ومن الإصطبل ما يريده، وأن يأخذ منهما ما يختاره، فما فعل شيئاً من ذلك. وكان الناس في كل يوم موكب يوقدون الشموع بين القصرين، ويجلس النساء والرجال على الطرق والأسطحة ينتظرون أن تمرتاش يلبس للإمرة، ثم إنه عبرت عينه أيضاً على مماليك السلطان الأمراء الخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان في البلاد كذا، وهذا ألماس كان جمالاً، فما حمل السلطان هذا منه. وألبس يوماً قباء من أقبية الشتاء على يد بعض الحجاب، فرماه عن كتفه، وقال: ما ألبسه إلا من يد ألماس أمير حاجب. ولما وصل القاهرة أقاموا الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر من الميمنة، ونقلوه إلى الميسرة، وأجلسوه مكانه. ولم يزل على حاله بالقاهرة، إلى أن قتل جوبان أبوه في تلك البلاد، فأمسك السلطان تمرتاش، واعتقله فوجد لذلك ألماً عظيماً. وقعد أياماً لا يأكل فيها شيئاً، إنما يشرب ماء ويأكل بطيخاً، لما يجده في باطنه من النار، وكان قجليس يدخل إليه ويخرج ويطيب خاطره، ويقول له: إنما فعل السلطان هذا لأن رسل القان بوسعيد على وصول، وما يهون على بوسعيد أن يبلغه عن السلطان أنه أكرمك. وقد حلف كل منهما للآخر، فقال له يوماً: أنا ضامن عندكم انكسر لكم علي مال، حبستموني حتى أقوم به؟، إن كان شيء فالسيف، وإلا فما في حبسي فائدة، والله ما جزائي إلا أن أسمر على جمل، ويطاف في بلادكم، هذا جزاء وأقل جزاء من يأمن إلى الملوك، ويسمع من كلامهم وأيمانهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 ثم إن الرسل حضروا يطلبون تمرتاش من السلطان، فقال: ما أسيره حياً، ولكن خذوا رأسه، فقالوا: ما معنا أمر أن نأخذه إلا حيا، وأما غير ذلك فلا، فقال: فقفوا على قتله. وأخرج المسكين من سجنه ومعه قجليس الحاج وأيتمش وغيرهما. فخنق جوا باب القرافة بقلعة الجبل، وكان يستغيث، ويقول: أين أيتمش؟ يعني الذي حلف لي، وأيتمش يختبىء بين الناس حتى لا يراه، وقال: ما معكم سيف، لأي شيء هذا الخنق؟ وكان ذلك في شهر رمضان المعظم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ثم حز رأسه بحضرة الرسل، وجهز في البريد قبل توجه الرسل، وكتب السلطان إلى بوسعيد يقول له: قد جهزت إليك رأس غريمك، فجهز لي رأس غريمي، يعني قراسنقر، فما وصل الرأس إلى بورسعيد حتى مات قراسنقر حتف أنفه، فقيل لبوسعيد. ألا تجهز رأس قراسنقر إليه، فقال: لا إن الله أماته بأجله ولم أقتله أنا. ودفنت جثة تمرتاش برا باب القرافة عند تربة الفارس أقطاي. واستشار السلطان تنكز في قتلته، فما أشار بها، وقال: المصلحة استبقاؤه، وكان استشاره أولاً في إمساكه، فما أشار به. وخلف تمرتاش من الأولاد: الشيخ حسن ومصر ملك، وجمد غان، وبير حسن، وتودان، رشيدون، وملك أشرف، والأشتر، ثم إنه ظهر بعد مدة من ادعى أنه تمرتاش وصدقه أولاده ونساؤه. وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبو بكر الدعي، وكنت قد قلت: احذر من الدنيا وإقبالها ... فربحها يفضي لخسران ربّ غنىً فيها انتهى للعنا ... مثل تمرتاش بن جوبان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 تنكز الأمير الكبير المهيب العادل الفريد سيف الدين أبو سعيد الأشرفي الناصري، نائب السلطنة بدمشق. جلب إلى مصر وهو حدث فنشأ بها. وكان أبيض إلى السمره، كأن وجهه عليه حسن القمر وسعد الزهره، رشيق القامه، متوسط الهامه، مليح الشعر، لا يحسن وصفه من شعر، خفيف اللحية والشارب، يهتز إذا خطا من وسطه إلى السنام والغارب، قليل الشيب، بعيد من الخنا والفاحشة والريب، يملك نفسه عند المحارم، ويعد مغانم الفاحشة من المغارم، يذوب وجداً في هواه ويفنى غراما، ولا يرتكب - مع القدرة - حراما. يعظم الشرع الشريف ولا يخرج عن حكمه، ويوقر من يراه من الفضلاء لعلمه، ماله لذة في غير أمن رعاياه، ومن انضوى إلى ظله أو انزوى إلى زواياه، وكانت بذلك أيامه أعيادا، ولياليه أعراسا، وأموال الناس موفرة عليهم لا تفارق منهم أكياسا، كم أخذ الناس من إمره، وما نالهم غرامة خيط في إبره. وكم باشروا ولايات، وكم وصلوا إلى عدة نيابات، وكم وصل من إقطاع، وكم حكم حاكماً فقضى وهو بأمره يطاع، وما أحد تنوبه غرامه، ولا يعرف أسد خبت من غزلان رامه. هذا، مع معرفة ودربه، وأحكام قد سددها الله، فما نفع منه في مواطن غربه، يقرأ الموقع عليه القصة ويسكت، ويطرق بعد ذلك في الأرض ينكت، فيأخذها ويعطيها لمشد الأوقاف إن كانت تتعلق بأحكام القضاه، أو للحاجب إن كانت تتعلق بأمر يأباه ولا يرضاه، أو للصاحب إن كانت تتعلق بجامكية أو مرتب، أو لناظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الجيش إن كانت تتعلق بحدود أرض، أو من قد ظلم جنديه وتغلب، أو لوالي المدينة إن كان بعملة سرقت، أو حادثة نزلت بأحد أو طرقت. ومع هذا يقول لكل واحد منهم ما يعتمده، ويكون في حجته ومستنده، وجميع ذلك مسدد، موثق بالشرع وبالسياسة مشدد. ولم ير الناس أعف من يده ولا من فرجه، ولا شاهدوا شمس عدل نزلت أحسن من برجه، وأطار الله طائر حرمته ومهابته في سائر البلاد، وأثار سائر معرفته بين أهل الجدال والجلاد، ولذلك كانت الأسعار رخيصه، والضعيف لا ترعد له من القوي فريصه، وسائر الأصناف موجوده، وأثمانها واقفة عند حدود محدوده. ولهذا كتبت أنا من الديار المصرية إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني: ألا هل لييلاتٌ تقضّت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجّز ليالٍ إذا رام المبالغ وصفها ... يشبّهها حسناً بأيّام تنكز وكان الأمير سيف تنكز - رحمه الله تعالى - قد جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، وبعض الناس يقول: إنه مملوك السلطان حسام الدين لاجين، والصحيح ما أخبرني به القاضي شهاب الدين بن القيسراني قال: قال لي يوماً: أنا والأمير سيف الدين طينال من مماليك الأشرف. سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 للطحاوي، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى المطعم وأبي بكر بن عبد الدائم، وحدث بثلاثيات البخاري، قرأها عليه المقريزي بالمدينة النبوية. أمره السلطان الملك الناصر محمد إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك، وكان معه في الكرك، وترسل عنه منها للأفرم، فاتهمه أن معه كتباً إلى أمراء الشام، ففتشه وعرض عليه العقوبة، فحصل له منه مخافة شديدة. ولما عاد عرف السلطان ذلك، فقال له: إن عدت إلى الملك فأنت نائب دمشق. فلما عاد وجرى ما جرى، وجعل الأمير سيف الدين أرغون نائب مصر قال لتنكز ولسودي: لازما أرغون وأبصرا أحكامه، فلازماه سنة. ثم إنه جهز سودي لنيابة حلب، وبعد ذلك جهز تنكز إلى دمشق على البريد، ومعه الحاج أرقطاي وحسام الدين البشمقدار، فوصل إلى دمشق يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وباشر النيابة، وتمكن منها، وسار بالعساكر إلى ملطية وافتتحها في شهر الله المحرم سنة خمس عشرة وسبع مئة. وعظم شأنه وهابه الأمراء بدمشق، والنواب بممالك الشام، وأمن الرعايا في مواطنهم، وتحفزت السبل، وترددت القفول من سائر الأقطار، ولم يكن أحد من الأمراء ولا من أرباب الجاه يظلم أحداً ذمياً أو غيره خوفاً منه لبطشه وشدة إيقاعه. ولم يزل في علو وارتقاء منزلة يتضاعف إقطاعه في كل وقت، وتزيد عوائد أنعامه وخيوله وما يصل إليه من باب السلطان من القماش والجوارح والتشاريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وكان السلطان لا يفعل شيئاً في مصر في ملكه غالباً حتى يستشيره ويكتب إليه فيه، وقلما كتب هو إلى السلطان وسأله في شيء فرده في جميع ما يقرره من عزل وولاية في نيابة أو قضاء قضاة أو غير ذلك من إقطاع الإمرة والحلقة، ولا يعطي لأحد إمرةً صغيرة كانت أو كبيرة أو نيابةً أو قضاء قضاة أو منصباً، صغيراً كان أو كبيراً فأخذ عليه رشاً أو طلب عليه مجازاةً أو مكافأة، هذا لم نسمعه عنه في وقت من الأوقات، بل يدفع إليه المبلغ الكبير أو الملك أو غير ذلك مما هو بجمل معدودة فيردها، ويعطي ذلك المطلوب لمن يسخره الله له بلا شيء. ثم إن السلطان أذن له في الحضور إلى القاهرة، فتوجه إليها وعاد مكرماً محترماً زائد الإنعام، وصار بعد ذلك يتوجه في غالب الأوقات في كل سنة، وفي كل مرة يزيد إكرامه وإنعامه. أخبرني القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص أن الذي خص الأمير سيف الدين تنكز من الإنعام في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بلغ ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم. خارجاً عما أنعم عليه من الخيل والسروج، وماله على الشام من العين والغلة والأغنام. ثم إنني رأيت أوراقاً بيده فيها كلفته، وهي ثلاث وعشرون قائمة، من جملة ذلك طبلا باز ذهباً صرفاً، زنتهما ألف مثقال. والقباء العفير الذي يلبسه آخراً، قال لي القاضي شرف الدين: إنه يتقوم على السلطان بألفي دينار مصرية فيه ألف وخمس مئة دينار حريراً، وأجر خمس مئة دينار. ثم إنه توجه بعد ذلك فيما أظن أربع مرات، وكل مرة يضاعف إنعامه وتمكينه، وتزيد هيبته، إلى أن كان أمراء مصر الخاصكية يخافونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أخبرني الأمير سيف الدين قرمشي الحاجب قال: قال لي السلطان: يا قرمشي لي ثلاثين سنة وأنا أحاول من الناس أمراً وما يفهمونه عني، وناموس الملك يمنعني أن أقوله بلساني، وهو أني لا أقضي لأحد حاجةً إلا على لسانه أو بشفاعته، ودعا له بطول العمر. قال: فبلغت ذلك للأمير، فقال: بل أموت أنا في حياة مولانا السلطان. قال: فلما أنهيت ذلك السلطان قال: يا قرمشي، قل له: لا أنت إذا عشت بعدي نفعتني في أولادي وحريمي وأهلي، وأنت إذا مت قبلي إيش أعمل أنا مع أولادك، أكثر ما يكونون أمراء، وها هم الآن أمراء في حياتك، أو كما قال. وآخر ما كتب له عن السلطان في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الأميري. وفي جملة الألقاب: الأتابكي الزاهدي العابدي. وفي النعوت: معز الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، وهذا لم نعهده يكتب لنائب عن السلطان ولا لغير نائب، على اختلاف الوظائف والمناصب. وزادت أملاكه، وعمر جامعه المعروف به بحكر السماق بدمشق، وأنشأ إلى جانبه تربة وداراً وحماماً، شرع في عمارة ذلك في شهر صفر سنة سبع عشرة وسبع مئة وعمر تربة لزوجته أم أمير علي، ومسجداً ومكتب أيتام بجور الخواصين، وعمر داراً للقرآن عند داره بجوار القليجية، وأنشأ بصفد بيمارستاناً، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين، وساق الماء إلى الحرم، وصار يجري على باب المسجد الأقصى، وعمر بالقدس قيسارية مليحة، وجدد القنوات بدمشق، فانصلحت مياهها بعد أن كانت فسدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 طعومها، وتغيرت روائحها، وجدد عمائر المدارس والزوايا والربط والخوانق، ووسع الطرقات، وأصلح الرصفات. كان يدور بنفسه في الليل مختفياً ويشير بما يراه فما يصبح ذلك المكان إلا وقد هدم والصناع تعمل فيه. وله في سائر الشام أملاك وعمائر وأوقاف. وفي الديار المصرية أيضاً داره المعروفة به، والحمام بالكافوري. وكان الناس في أيامه آمنين على أنفسهم وحريمهم وأولادهم وأموالهم ووظائفهم، من في يده وظيفة لا يجسر أحد يطلبها لا من مصر ولا من الشام. وكان يتوجه في كل سنة إلى الصعيد بمن يختاره من عسكر الشام إلى نواحي الفرات، وعدى الفرات في بعض سفراته وأقام يتصيد في ذلك البر خمسة أيام. وكان أهل تلك البلاد ينجفلون قدامه إلى بلاد توريز وسلطانية، وكذلك بلاد ماردين وبلاد سيس، وكان يصل أجرة الدابة خمسة عشر درهما في مسيرة نصف يوم. ولم يكن له غرض غير الحق والعمل به ونصرة الشرع، خلا أنه كان به سوداء يتخيل بها الأمر فاسداً، ويحتد خلقه ويتغير ويزيد غضبه، فهلك بذلك أناس، لا يقدر أحد من مهابته يوضح له الصواب. وكان إذا غضب لا سبيل إلى رضاه ولا أن يحصل منه عفو. وإذا بطش بطش بطش الجبارين، ويكون الذنب عنده صغيراً حقيراً نزراً يسيراً، فلا يزال يكبره ويعظمه ويزيده ويوسعه، إلى أن يخرج فيه عن الحد. ورأيت من سعادته أشياء منها أنه كان إذا غضب على أحد، في الغالب لا يزال ذلك المغضوب عليه في خمول وخمود وتعس ونكس إلى أن يموت. قال القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود كاتب سره قال: والله ما زلت في هم وخوف وتوقع مثل هذا إلى أمسك. وغضب على أحد ورضي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أخبرني قوام الدين أحمد بن أبي الفوارس البغدادي قال: قلت له يوماً: والله يا خوند، أنا رأيت أكبر منك وأكثر أموالاً منك، فلما سمع ذلك تنمر، وقال بغيظ: من رأيت أكبر مني؟ فقلت: خربندا وبوسعيد وجوبان، فلما سمع ذلك سكن غيظه. ثم قلت له: إلا أنهم لم تكن رعاياهم تحبهم هكذا، ولا يدعون لهم كما يدعو رعاياك لك، ولا كانت رعاياهم في هذا الأمن وهذا العدل. فقال لي: يا فلان: أي لذة للحاكم إذا لم تكن رعاياه آمنين مطمئنين. ومن إيثاره للعدل أنه كان يوماً يأكل معه بعض خواصه، أنسيت اسمه، فنظر إصبعه مربوطة، فسأله عن السبب فأنكره، فلم يزل به حتى قال: يا خوند: واحد قواس عمل قوساً ثلاث مرات، فأغاظني فلكمته، فلما سمع كلامه التفت عن الطعام، وقال: أقيموه، ورماه وضربه، على ما قيل: أربع مئة عصا، وقطع إقطاعه وبقي غضبان عليه سنين إلى أن شفع فيه حتى رضي عنه. وأخبرني ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره بعد موت تنكز بسنين، قال: والله ما رأيته في وقت من الأوقات مدة ما كنت في خدمته غافلاً عن نفسه، ولا أراه إلا كأنه واقف بين يدي الله تعالى، وما كان يخلو ليله من قيام. وقال لي أيضاً: لم يصل الأمير صلاة قط إلا بوضوء جديد. وقال لي أيضاً: من حشمة الأمير أنه ما أمسك ميزاناً بيده قط منذ كان في الطباق إلى آخر وقت. انتهى. قلت: ولم يكن عنده دهاء ولا له باطن، ولا عنده خديعة ولا مكر، ولا يصبر على أذى، ولا يحتمل ضيماً، ولا فيه مداراة ولا مداهنة لأحد من الأمراء، ولا يرفع بهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 رأساً. وكان الشيخ حسن بن تمرتاش قد أهمه أمره وخافه، فيقال: إنه تمم عليه عند السلطان، وقال له: إنه قد قصد الحضور إلى عندي والمخامرة عليك، فتنكر السلطان له، وكان السلطان في عزم تجهيز الأمير سيف الدين بشتاك ويلبغا اليحيوي وعشرين أميراً من الخاصكية ومعهم بنتا السلطان إلى دمشق ليزوجوهما بابني الأمير سيف الدين تنكز، فبعث هو يقول: يا خوند، أيش الفائدة في حضور هؤلاء الأمراء الكبار إلى دمشق، والبلاد الساحلية في هذه السنة ممحلة وتحتاج العسكر إلى كلفة عظيمة وأنا أحضر بولدي إلى الأبواب الشريفة ويكون الدخول هناك، فجهز إليه السلطان طاجار الدوادار، يقول له: السلطان يسلم عليك ويقول لك إنه ما بقي يطلبك إلى مصر، ولا يجهز إليك أميراً كبيراً حتى لا تتوهم. فقال: أنا أتوجه معك بأولادي. فقال له: لو وصلت إلى بلبيس ردك، وأنا أكفيك هذا المهم، وبعد ثمانية أيام أكون معك بتقليد جديد وإنعام جديد، فلبثه بهذا الكلام، ولو كان توجه إلى السلطان ورأى وجهه لكان خيراً " ولكنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أمْراً كانَ مَفعولاً ". وكان أهل دمشق في تلك المدة قد أرجفوا بأنه قد عزم على التوجه إلى بلاد التتار، فوقع ذلك الكلام في سمع طاجار الدوادار، وكان تنكز في هذه المدة قد عامله معاملة لا تليق به، فتوجه من عنده مغضباً، وكأنه حرف بعض الكلام والله أعلم، فتغير السلطان تغيراً عظيماً، وجرد خمسة آلاف فارس أو عشرة ومقدمهم بشتاك، وحلف عسكر مصر أجمع له ولأولاده، وجهز على البريد الأمير سيف الدين طشتمر النائب بصفد يأمره بالتوجه إلى دمشق والقبض على تنكز، وكتب إلى الحاجب وإلى قطلوبغا الفخري وإلى الأمراء بدمشق بالقبض عليه، وقال: إن قدرتم عليه، وإلا فعوقوه إلى أن يصل العسكر المصري، فوصل الأمير سيف الدين طشتمر الظهر إلى المزة، وجهز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 إلى الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، وكان دوادار طشتمر قد وصل قبله بكرة النهار، واجتمع بالأمراء، واتفقوا، وتوجه الأمير سيف الدين أللمش الحاجب إلى جهة القابون. ووعر الطريق، ورمى الأخشاب فيها، وبرك الجمال، وقال للناس: إن غريم السلطان يعبر الساعة عليكم، فلا تمكنوه. وركب الأمراء واجتمعوا على باب النصر. هذا كله وهو بسلامة الباطن في غفلة عما يراد به، ينتظر قدوم طاجار عليه بالتقليد الجديد، وكان قد خرج في ذلك النهار إلى قصره الذي بناه في القطائع عند حريمه، فتوجه إليد قرمشي الحاجب، وعرفه بوصول طشتمر، فبهت لذلك وسقط في يده، فقال له: ما العمل فقال: تدخل إلى دار السعادة، وغلقت أبواب المدينة، وأراد اللبس والمحاربة، ثم إنه علم أن الناس ينهبون، ويلعب السيف في دمشق، فآثر إخماد الفتنة، وأن لا يشهر سلاح. وأشاروا عليه بالخروج، فجهز إلى الأمير سيف الدين طشتمر وقال له: في أي شيء جئت؟ قال: أنا جئتك من عند أستاذك، فإن خرجت إلي قلت لك ما قال لي، وإن رحت إلى مطلع الشمس تبعتك. ولا أرجع إلا إن مات أحدنا، والمدينة ما أدخل إليها. فخرج إليهم وقد عاين الهلاك، فاستسلم وأخذ سيفه، وقيد خلف مسجد القدم، وجهز السيف إلى السلطان، وجهز تنكز إلى باب السلطان، ومعه الأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، وكان ذلك العصر ثالث عشري ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة. وتأسف أهل دمشق عليه ويا طول أسفهم وامتداد حزنهم وتلهفهم، فسبحان مزيل النعم الذي لا يزول ملكه، ولا يتغير عزه، ولا تطرأ عليه الحوادث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 ولقد رأيته بعيني في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكنا في ركابه، وقد خرج السلطان في أولاده وأمرائه إلى البئر البيضاء يتلقاه، فلما قاربه ترجل له، وقبل رأسه، وضمه إليه، وبالغ في إكرامه، بعد ما كان يجيء إليه أمير بعد أمير يسلم عليه ويبوس يده وركبته وهو راجل، والأمير سيف الدين قوصون جاء إليه وتلقاه إلى منزله بالصالحية. وأما الإنعامات التي كانت يفيضها عليه في تلك السنة من الرمل في كل يوم، إلى أن خرج في مدة تقارب الخمسين يوماً فشيء خارج على الحد. ولقد رأيته وهو في الصيد في تلك السنة بالصعيد، وقد جاء إليه السلطان وقدامه الخاصكية: الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، ويلبغا اليحيوي، وألطنبغا المارداني، وآقسنقر، وآخر أنسيته الآن، وعلى يد كل واحد من هؤلاء الخمسة طير من الجوارح، وقال له: يا أمير أنا شكارك، وهؤلاء بازداريتك وهذه طيورك، فأراد النزول لبوس الأرض فمنعه. ثم إنني رأيته بعيني يوم أمسك وقيد، والحداد يقيمه ويقعده أربع مرات، والعالم واقفون أمامه، وكان ذلك عندي عبرةً عظيمة. واحتيط على حواصله، وأودع مملوكاه طغاي وجنغاي في القلعة، وبعد مدة يسيرة وصل الأمير سيف الدين بشتاك وطاجار الدوادار والحاج أرقطاي وتتمة عشرة أمراء، ونزلوا القصر الأبلق، وحال وصولهم، حلفوا الأمراء، وشرعوا في عرض حواصله، وأخرجوا ذخائره وودائعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وتوجه بشتاك إلى مصر ومعه من ماله ما يذكر، وهو ذهب عين ثلاث مئة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ودراهم ألف ألف وخمس مئة ألف درهم، وجواهر بلخش أحجار مثمنة، وقطع غريبة، ولؤلؤ غريب الحب، وزركش طرز وكلوتات وحوائص ذهب بحامات مرصعة، وأطلس وغيره من القماش ما كان جملته ثمان مئة حمل. وأقام بعد الأمير سيف الدين برسبغا، وتوجه بعدما استخلص من الناس ومن بقايا أموال تنكز وحواصله وبيوته أربعون ألف دينار وألف ألف درهم ومئة ألف درهم، وأخذ مماليكه وجواريه وخيله الثمينة إلى مصر. وأما هو رحمه الله تعالى فإنه لما وصل إلى القاهرة أمر السلطان جميع الأمراء والمماليك أن يقعدوا له في الطرقات من جوا باب القلعة، وأن لا يقوم له أحد تقع عينه عليه، ولم يستحضره بل كان الأمير سيف الدين قوصون يتردد إليه في الرسلية، وهو بنفس قوية ونفس عظيم، لا يخضع ولا يخشع، وقال له مع قوصون: قال لك السلطان أبصر من تختاره يكون وصيك، فقال: قل له: والله خدمتك ونصحك ما تركت لي صاحباً أثق به ولا أتحول عليه، فمالي أحد أوصي له، فاستشار الأمراء في أمره، فقال له الأمير قوصون: يا خوند، هذا دعه أميراً هنا يركب وينزل في الخدمة. وقال الجاولي: يا خوند، هذا لا تفرط فيه تندم، وما يفوتك منه أمر ترومه. فأمر بتجهيزه إلى إسكندرية ومعه المقدم إبراهيم بن صابر، فأقام بها معتقلاً دون الشهر، وقضى الله فيه أمره، وصلي عليه بالإسكندرية. يقال إن ابن صابر توجه إليه إلى الإسكندرية وكان ذلك آخر العهد به، وأظلم الوجود، وزال أنسه بسببه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وكأنه برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع ثم إنه ورد مرسوم السلطان إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام يقول فيه: إن تنكز كنا سألناه عن ماله فأنكر وقال: الذي هو تحت يد خزنداريتي، وهو مضبوط عند كتابي، فلما بلغه أنا استخرجنا ودائعه، وحصلنا جميع ماله، حصل له بذلك غيظ شديد وغبن عظيم، فحم لذلك حمى مطبقة ومات منها. وورد مرسوم السلطان بأن تقوم أملاكه، فعمل ذلك بالعدول وأرباب الخبرة، وشهود القيمة وحضرت بذلك محاضر شرعية. إلى ديوان الإنشاء لتجهز إلى السلطان، فنقلت منها ما صورته: دار الذهب بمجموعها وإصطبلاتها: ست مئة ألف درهم. دار الزمرد: مئتا ألف وسبعون ألف درهم. دار الزردكاش وما معها: مئتا ألف وعشرون ألف درهم. الدار التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم. الحمام التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم. خان العرصة: مئة ألف وخمسون ألف درهم. إصطبل حكر السماق: عشرون ألف درهم. الطبقة التي بجوار حمام ابن يمن: أربعة آلاف وخمس مئة درهم. قيسارية المرحلتين: مئتا ألف وخمسون ألف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الفرن والحوش بالقنوات من غير أرض: عشرة آلاف درهم. حوانيت التعديل: ثمانية آلاف درهم. الأهراء من إصطبل بهادر آص: عشرون ألف درهم. خان البيض وحوانيته: مئة ألف وعشرة آلاف درهم. حوانيت باب الفرج: خمسة وأربعون ألف درهم. حمام القابون: عشرون ألف درهم. حمام القصير العمري: ستة آلاف درهم. الدهشة والحمام: مئتا ألف وخمسون ألف درهم. بستان العادل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم. بستان النجيبي والحمام والفرن، مئة ألف ثلاثون ألف درهم. بستان الجبلي بحرستا: أربعون ألف درهم. بستان الدردور بزبدين: خمسون ألف درهم. الحدائق بحرستا: مئة ألف وخمسة وستون ألف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 بستان القوصي بها: ستون ألف درهم. الجنينة المعروفة بالحمام بزبدين: سبعة آلاف درهم. بستان الرزاز: خمسة وثلاثون ألف درهم. الجنينة وبستان غيث بها: ثمانون ألف درهم. المزرعة المعروفة بتهامة بها: ستون ألف درهم. مزرعة الركن البوقي والعنبري: مئة ألف درهم. الحصة بالدفوف القبلية بكفر بطنا، ثلثاها: ثلاثون ألف درهم. بستان السقلاطوني بالمنيحة: خمسة وسبعون ألف درهم. حقل البيطارية بها: خمسة عشر ألف درهم. الفاتكيات والرشيدي والكروم من زملكا: مئة ألف وثمانون ألف درهم. مزرعة المرفع بالقابون: مئة ألف درهم. الحصة من غراس غيطة الأعجام: عشرون ألف درهم. نصف الغيطة المعروفة برزنية: خمسة آلاف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 غراس قائم في جوار دار الجالق: ألفا درهم. النصف من غراس الهامة: ثلاثون ألف درهم. الحوانيت التي قباله جامعه: مئة ألف درهم. الإصطبلات التي عند الجامع: ثلاثون ألف درهم. بيدر زبدين: ثلاثة وأربعون ألف درهم. أرض خارج باب الفرج: ستة عشر ألف درهم. القصر وما معه خمس مئة ألف وخمسون ألف درهم. ربع القصرين ضيعة: مئة ألف وعشرون ألف درهم. نصف البيطارية: مئة ألف وثمانون ألف درهم. حصة من البويضا: مئة ألف وسبعة وثمانون ألف درهم. نصف بوابة: مئة ألف وثمانون ألف درهم. العلانية بعيون الفاسرتا ثمانون ألف درهم. حصة دير ابن عصرون: خمسة وسبعون ألف درهم. حصة دوير اللبن: ألف وخمس مئة درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الدير الأبيض: خمسون ألف درهم. التنورية: اثنان وعشرون ألف درهم. العديل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم. حوانيت داخل باب الفرج: أربعون ألف درهم. الأملاك التي بمدينة حمص الحمام بحمص: خمسة وعشرون ألف درهم. الحوانيت: سبعة آلاف درهم. الربع: ستون ألف درهم. الطاحون الراكبة على العاصي: ثلاثون ألف درهم. زور قبجق: خمسة وعشرون ألف درهم. الخان: مئة ألف درهم. الحمام الملاصقة للخان: ستون ألف درهم. الحوش الملاصق له: ألف وخمس مئة درهم. المتاخ: ثلاثة آلاف درهم. الحوش المجاور للخندق: ثلاثة آلاف درهم. حوانيت العريضة: ثلاثة آلاف درهم. الأراضي المحتكرة: سبعة آلاف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 الأملاك التي ببيروت الخان: مئة وخمسة وثلاثون ألف درهم. الحوانيت والفرن: مئة وعشرون ألف درهم. المصبنة بآلاتها: عشرة آلاف درهم. الحمام: عشرون ألف درهم. المسلخ: عشرة آلاف درهم. الطاحون: خمسة آلاف درهم. قرية زلايا: خمسة وأربعون ألف درهم. القرى التي بالبقاع مرج الصفا: سبع مئة ألف درهم. التل الأخضر: مئة ألف وثمانون ألف درهم. المباركة: خمسة وسبعون ألف درهم. المسعودية: مئة ألف وعشرون ألف درهم. الضياع الثلاثة المعروفة بالجوهري: مئة ألف وسبعون ألف درهم. العادة: أربع مئة ألف درهم. أبروطيا: ستون ألف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 غير ذلك نصف يبرود والصالحية، والحوانيت: أربع مئة ألف درهم. المباركة والناصرية: مئة ألف درهم. رأس الماء بيم الروس: سبعة وخمسون ألف وخمس مئة درهم. حصة من خربة روق: اثنان وعشرون ألف درهم. رأس الماء والدلي بمزارعها: خمس مئة ألف درهم. حمام صرخد: خمسون ألف درهم. طاحون الفوار: ثلاثون ألف درهم. السالمية: سبعة آلاف وخمس مئة درهم. طاحون المغار: عشرة آلاف درهم. قيسارية أذرعات: اثني عشر ألف درهم. قيسارية عجلون: مئة ألف وعشرون ألف درهم. الأملاك بقارا الحمام: خمسة وعشرون ألف درهم. الهري: ست مئة ألف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الصالحية والطاحون والأراضي: مئة ألف وخمسة وعشرون ألف درهم. راسليتا ومزارعها: مئة وخمسة وعشرون ألف درهم. القصيبة: أربعون ألف درهم. القريتين المعروفة إحداهما بالمزرعة والأخرى بالبينسية: تسعون ألف درهم. هذا كله خارج عن الأملاك ووجوه البر بصفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة وجلجولية والديار المصرية، لأنه عمر بيمارستاناً بصفد مليحاً، وبعض أوقافه بها، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين وقيسارية، وله بجلجولية خان مليح إلى الغاية أظنه سبيلاً، وله بالرملة، وله بالقاهرة في الكافوري دار عظيمة وإصطبل وحمام وحوانيت. وكان رحمه الله قد اعتمد في حياته شيئاً ما سمعنا به عن غيره، وهو أنه استخدم كاتباً بمعلوم يأخذه في كل شهر من عين وغلة، ليس له شغل ولا عمل غير ما يدخل خزانته من الأموال ويستقر له، فإذا حال الحول على ذلك الواصل، عمل أوراقاً بما يجب عليه صرفه من الزكاة، وتعرض الأوراق عليه، فيأمر بإخراجه وصرفه إلى ذوي الاستحقاق. وكان إذا جلس في الخدمة يقعد ويرفع يديه، ويدعو سراً بما يحب، ويمسح وجهه، ثم بعد ذلك يفتح الدواة، ويأخذ القلم، ويضعه على ظفر إبهامه اليسار، ويفتح شقته، ويقبل على كاتب السر ويقرأ القصص عليه، وإذا أراد فراغ الخدمة طبق الدواة، فيقول الحاجب: بسم الله استريحوا. وإذا علم في كل يوم فهو الدستور للناس أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 إذا خرج كاتب السر لا يبقى بدار السعادة أحد من أرباب الخدم، وكان أخيراً لا يدخل عليه العلامة إلا أربعين علامة بالعديد من غير زيادة، وكان أخيراً إذا توجه إلى الصيد لا يعود يمسك قلماً ولا يعلم علامة، بل قبل السفر يكتب جميع ما يحتاج إليه من الأجوبة، والكتب المطلقة والتسامير وأوراق الطريق والمطالعات إلى باب السلطان، ويدخل بها في يومين ثلاثة وهي مسطرات، يتعلم على الجميع إلى أن يتكامل ما يريده كاتب السر. وكان يعظم أهل العلم، وإذا كانوا عنده واجتمع بهم لا يسند ظهره إلى الحائط، بل ينفتل ويقبل وجهه، ويوادهم ويؤنسهم، أعني غير القضاة، ويقول: حلت علينا البركة. فالله يكرمه في جواره، ويجيره في يوم الموقف من دار بواره بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وقلت أرثيه، رحمه الله تعالى: كذا تسري الخطوب إلى الكرام ... وتسعى تحت أذيال الظلام وتغتال الحوادث كلّ ليثٍ ... هزبرٍ عن فريسته محام وتبذل بعد عزٍّ وامتناعٍ ... وجوهٌ لم تعرّض للّطام فكم ملكٍ غدا في الأرض دهراً ... وآل إلى انتقالٍ وانتقام إذا ما أبرم المقدور أمراً ... رأيت الصّقر من صيدا الحمام وهل يرجى من الدنيا رفاءٌ ... ولم تطبع على رعي الذمام إذا ضاقت جوانحنا بهمٍّ ... توسّعه بأنواع السّ؟ قام أقال الله عثرتنا فإنّا ... رمانا الدّهر في شرّ المرامي وردّ الله عقبانا لخيرٍ ... فقد أمسى الزمان بلا زمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 تنكّر يوم تنكز كّل عرف ... وسام الذلّ فينا كلّ سام ومال إلى المدينة كلّ مولى ... وحام على الرزية كلّ حام وأذهل يومه الألباب حتّى ... كأنّا فيهب صرعى بالمدام بكيت دمشق لمّا غاب عنها ... وأوحش أفقها بدر التّمام فيا تمزيق شمل العدل فينا ... ويا تفريق ذاك الإنتظام ويا لمصيبةٍ بدمشق حلّت ... شدائدها بأحداث عظام فكم من مقلة للحزن تجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام رعاه الله من راعٍ أمينٍ ... أنام بعدله عين الأنام وكفّ حوادث الأيّام عنهم ... فلم تطرق حماهم بانتقام وكيف ينوبهم خطبٌ ملمٌّ ... وناب الدّهر فيهم غير نام حنوٌّ زاد في إفراط برٍّ ... يسكّن برده لهب الضّرام وتدبيرٌ خلا عن حظّ نفسٍ ... وناب الرّعب فيه عن الحسام ودستٌ حكمه في دار عدلٍ ... تأيّد بالملائكة الكرام وكم جبّار قومٍ ذي عتوٍّ ... تهيّب أن يراه في المنام يساوي عنده في العدل بين ال ... كرام الغرّ والسّود اللئام وهيبته سرت شرقاً وغرباً ... وشاعت عنه في مصرٍ وشام يراع المغل في توريز منه ... ويطرق أرضهم في كلّ عام وكم قطع الفرات وصاد حتّى ... توغّل في فضا تلك المرامي إذا ما قيل هذا اللّيث وافى ... مضوا هرباً كأمثال النّعام فرائسه فرائصها تراها ... دوامي لا تزال على الدّوام ولم نر قبله ليثاً أتته ... أفاعي القيد تنذر بالحمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وقد رقت لنا فتئنّ حزناً ... عليه في القعود وفي القيام ألا فاذهب سقيت أبا سعيدٍ ... فقد روّى زمانك كلّ ظام فأنت وديعة الرّحمن منّا ... تحوطك في الرّحيل وفي المقام وليت فلم تخن لله عهدا ... ولم تجذبك فيه عرى الملام وحاشى أن يراك الله يوماً ... تعدّيت الحلال إلى الحرام ونلت من السّعادة والمعالي ... منالاً حاز غايات المرام وكنت إذا دجا ليل القضايا ... وكانت من مهمّاتٍ جسام تفرجّها بقولٍ منك فصلٍ ... لأنّ القول ما قالت حذام وكنت تحبّ نور الدّين طبعاً ... لأنّكما سواءٌ في التزام رعيت كما رعى وحميت ما قد ... حمى نفديك من راع وحام بقيت ممتّعاً بالخلد حتّى ... يقوم النّاس من تحت الرّجام ولما كان في أوائل شهر رجب الفرد سنة أربع وأربعين وسبع مئة، حضر تابوته من الإسكندرية إلى دمشق، ودفن - يرحمه الله تعالى - في تربته التي تجاور جامعه بدمشق فقلت: إلى دمشق نقلوا تنكزا ... فيالها من آية ظاهرة في جنّة الدنيا له جثّة ... ونفسه في جنة الآخرة وقلت أيضاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 في نقل تنكز سرٌّ ... أراده الله ربّه أتى به نحو أرضٍ ... يحبّها وتحبّه وقلت أيضاً كأني أخاطبه: أعاد الله شخصك بعد دهر ... إلى بلدٍ وليت فلم تخنها أقمت بها تدبّرها زمانا ... وتأمر في رعاياها وتنهى فلا هذا الدخول دخلت فيها ... ولا ذاك الخروج خرجت منها تنكز بغا الأمير سيف الدين المارداني، أمير مجلس الناصري. كان حظيا عند الملك الناصر حسن، والسعد في يده يصرفه بزمام ورسن. بالغ في تقريبه، واعتمد على عقله وتجريبه، فنوله ما شاء من وجاهه، وخوله فيما أراد من فضل ونباهه. إلا أنه في آخر أيامه اعتل، ورماه السقم بدائه وانسل. فلم يزل يقوم ويبرك، ويسكن ويحرك، إلى أن اختطفه كاسر المنيه، واجتحفه سيل المنيه. وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وخمسين وسبع مئة. كان في أيام الملك الناصر حسن الأولى مشد الشرابخاناه، ولما أمسك الوزير منجك وجرى ما جرى، أعطي إمرة مئة، وتقدمة ألف، واختص بالملك الناصر، وصارت له المنزلة العلية عنده، فخرج الأمير علاء الدين مغلطاي، وطاز على السلطان وركبا إلى قبة النصر، وجهز إليه: أن جهز إلينا النمجا وتنكز بغا، فجهز إليهما ما طلباه وخلعاه، وجرى ما جرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ثم لما ملك الملك الصالح صالح، أفرج عنه، وحضر معه إلى الشام في واقعة بيبغاروس، ولما عاد إلى مصر رسم له بإمرة مئة فارس وتقدمة ألف، وعظم شأنه، وارتفع قدره في الدولة الناصرية الثانية، وعين لنيابة الشام مرات، فما اختار ذلك. ثم إنه تعلل وطال مرضه قريباً من سنة إلى أن ورد الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وخمسين وسبع مئة. توبة ابن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة: الصاحب تقي الدين أبو البقاء الربعي التكريتي. المعروف بالبيع. كان أولاً تاجراً، حضر إلى البلاد وتعرف بالسلطان الملك المنصور وهو أمير قبل الملك، فلما آل الأمر إليه ولاه وزارة الشام مدة، ثم إنه عزله، ثم تولى وصودر غير مرة، ثم يسلمه الله تعالى. وعمر لنفسه تربة مليحة تصلح للملك، وكان يظلم الناس ويعسف، ويهيل كثبان الأموال وينسف، إلا أنه مع ظلمه فيه مروءه، وعنده من الإسلام بقايا رحمة مخبوءه، وتقريب لأهل الصلاح، وادخار من دعاء الفقراء، فإنه أوقى جنة وأمضى سلاح. ولم يكن له باطن ينطوي على غش، ولا يسكن الخبث معه في عش، وفيه سماح ومزاح غير مزاح، وكرم يباري به الرياح، وحسن خلق يصفو به كدر الماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 ويتلعب بالقلوب تلعب الأفعال بالأسماء، يقتني الخيول المسومه، والمماليك الملاح الذين وجوههم أقمار على رماح مقومه. ولم يزل على حاله إلى أن جاءت نوبة توبه، وسقاه غمام الحمام صوبه. ووفاته رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده يوم عرفة سنة عشرين وست مئة ودفن بتربته. يقال إنه كان عنده مملوك مليح اسمه أقطوان، فخرج يوماً آخر النهار يسير إلى وادي الربوة، ومملوكه أقطوان خلفه، فمر بمسطول وهو نائم، فلما أحس بركض الخيل فتح عينيه، وقال: يا الله توبة!، فقال: والك يا أبلم إيش تعمل بتوبة؟، واحد شيخ نحس، اطلب منه أقطوان أحب إليك. وأظنه باشر الوزارة بعد عزل الصاحب فتح الدين بن القيسراني، فلبس التقي توبة خلعة الوزارة في تاسع القعدة سنة ثمان وسبعين وست مئة، ثم قبض عليه في خامس عشري الحجة من السنة المذكورة، وأوقعت الحوطة عليه، وتولى الوزارة مجد الدين إسماعيل بن كسيرات. ثم أفرج عنه في أول أيام حسام الدين لاجين، لما كان نائب دمشق، ثم قبض عليه أيضاً في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وست مئة، ثم أطلق، ثم قبض عليه مرة أخرى في شهر واحد وأفرج عنه، تولى الوزارة، ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ثمانين وست مئة، وتولى عوضه تاج الدين بن السنهوري. ثم إنه تولى الوزارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ولم يزل بها إلى أن عزل بالصاحب يحيى بن النحاس في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وست مئة. وتوجه إلى مصر في شهر رجب، وأوقعت الحوطة على أمواله وأملاكه، ثم عاد إلى دمشق فتولى الوزارة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وست مئة. ثم إنه طلب إلى مصر هو وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي وشمس الدين بن غانم سنة سبع وثمانين وست مئة، وعادوا في جمادى الأولى. وفي شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وست مئة صادره الشجاعي بدمشق بعد حضور السلطان من فتح طرابلس فآذاه وأخرق به. ثم إنه توجه إلى مصر وعاد وزيراً في المحرم سنة تسعين وست مئة. ولما عاد الأشرف من فتوح عكا إلى دمشق قبض عليه وعلى طوغان المشد، وجماعة من الكتاب. وأفرج عنه في شهر رجب سنة تسعين وست مئة، وصرف عن الوزارة بالصاحب شهاب الدين أحمد الحنفي يوم العيد الأضحى سنة خمس وتسعين وست مئة. وفي شهر ربيع الأول تولى الوزارة التقي توبة عوضاً عن شهاب الدين الحنفي في سنة ست وتسعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ونقلت من خط الوداعي له: إني حلفت يمينا ... لم آت فيها بحوبه مذ أقعدتني الليالي ... لا قمت إلاّ بتوبه ونقلت منه، وقد وقع من أعلى حصانه: فديناك لا تخش من وقعة ... فإن وقوعك للأرض فخر سقوط الغمام بفصل الربيع ... ففي البرّ برٌّ وفي البحر درّ ونقلت منه أيضاً: لا تخف أيها الصا ... حب من وقع الحصان أنت غيث ووقوع ال ... غي من خصب الزّمان توما ن تمر الأمير سيف الدين الناصري مملوك الملك الناصر حسن. كان عند أستاذه عزيزا، وخلاصة حسنه البسيط لا يراه الناس وجيزا، له مكانة من قلبه قد ترفعت، ومنزلة من خارطه تردت بالمحبة وتلفعت، عمل عليه الأمير سيف الدين صرغتمش وأنزله من القلعه، ومنع طلعته لأنن يكون لها إلى القصر طلعه، فصبر لهذه النازله، وقال: ما تقابل بالجد هذه الهازله. وكان قد بغي عليه فانتصر، وعاد لما كان عليه بل زاد وما اقتصر. وكان شاباً طوالا، إذا خطر كان غصنا، وإذا التفت كان غزالا، له ديانه، ولأهل العلم عنده مكانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 باشر النيابات، ودخل في الأحكام فما أظلم عليه منها الغيابات، بإطراق وسكون، وميل إلى التعدد وركون: لقد غدت الممالك خالياتٍ ... بعدلك يا أخا الشّيم الرضايا وحسن الذكر في الدنيا غراس ... تنال ثمارها الأيدي السخايا ولم يزل على حاله إلى أن أناطر، وذوى منه غصن ما كأنه ماء ولا خطر. وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة سنة أربع وستين وسبع مئة، في أوائل شهر رمضان المعظم. كان هذا الأمير سيف الدين من أكبر خاصكية الملك الناصر حسن، فعمل عليه الأمير سيف الدين صرغتمش، ولم يقدر على أكثر من أنه أنزله من القلعة، وبقي في القاهرة إلى أن أمسك صرغتمش، فعاد إلى ما كان عليه أولاً، وجهزه الملك الناصر حسن إلى فياض بن مهنا ليأخذه ويتوجه به إلى مصر، فوصل إلى حلب، وركب منها الهجن وأخذه، وراح به إلى السلطان، ولم يزل عند أستاذه في أعز مكانة وأرفع منزلة، إلى أن خلع الملك الناصر، فأخرج إلى طرابلس نائبا عوضاً عن الأمير زين الدين أغلبك الجاشنكير، وأقام بطرابلس نائباً إلى أن تحرك الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في دمشق، فجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فامتنع أولاً، ثم وافق، ثم جاء إليه ونزل بالقصر الأبلق، وتوجه معه وعاد معه من غباغب، ونزل القصر الأبلق، ولم يصح أنه توجه منه ليلاً إلى تلقي السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي. ولما وصل السلطان إلى دمشق وتقرر الأمر، جهز الأمير سيف الدين توما ن تمر إلى حمص نائباً، فتوجه إليها وأقام بها نائبا إلى أن عزل منها. وحضر إلى دمشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وأقام بها أمير مئة مقدم ألف في الميمنة، فأقام أشهراً قليلة، ورسم له في أوائل شهر رمضان سنة ثلاث وستين وسبع مئة بنيابة غزة. وكان قد عزل من حمص بالأمير سيف الدين يلبغا البجاسي في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبع مئة. وكان قد حضر من حمص إلى دمشق على إقطاعه الذي كان بيده وهو في حمص، ثم رسم له بإقطاع الأمير سيف الدين سلامش، وأجلسوه في الميمنة دون المقدمين وفوق أمراء الطبلخانات. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن عزل الأمير سيف الدين كجكن نائب غزة. وجهز الأمير سيف الدين تومان تمر إلى غزة نائباً في رابع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وستين وسبع مئة، فأقام بغزة إلى أن توفي بها في التاريخ المذكور. وكان في هذه النيابات الثلاث مشكور السيرة، محمود الأحكام، رحمه الله تعالى. توما ابن إبراهيم الطبيب الفاضل علم الدين الشوبكي. كان بالطب عارفا، وبالعلاج للأسقام صارفا، اشتهر بالإنجاب علاجه، وصح على تدبيره من كل مرض مزاجه، وكان يدرس الطب بجامع ابن طولون، ويرى أنه بذاك في رتبة ما وصل إليها سولون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ولم يزل على حاله إلى أن فسد تركيبه، وجاءه سهم من الموت يصيبه منه نصيبه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وكان من أطباء السلطان وتجاوز السبعين. واختصر مسائل حنين، وتولى القاضي جمال الدين بن المغربي مكانه في الجامع، ودفن بالقرافة. ابن التركماني الأمير شمس الدين إبراهيم ابن الأمير بدر الدين محمد بن عيسى. الشيخ تاج الدين: أحمد. ابن عثمان ووالدهما عثمان بن إبراهيم. وقاضي حماة الحنفي علم الدين سليمان. التونسي مجد الدين النحوي أبو بكر بن محمد بن قاسم الثوري. عثمان بن محمد. التلاوي الأمير ركن الدين بيبرس. ابن تيمية العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، وشرف الدين أخوه عبد الله بن عبد الحليم. وشرف الدين التاجر: عبد الواحد. ومجد الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. وعلاء ذلدين علي بن عبد الغني. ابن التيتي: محمد بن إسماعيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 حرف الثاء ثامر ابن دراج البدوي، من عرب خفاجة. أنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله، قال: أنشدني من لفظه ثامر بن دراج لنفسه بقلعة الجبل، سنة خمس وثلاثين وسبع مئة: رأت البرق لامعاً فاستطارت ... وبكت بالدموع سمّاً رذاذا قلت ماذا؟ فقالت: البرق، قلنا: ... ألبرقٍ على الحمى كلّ هذا ابن الثّردة علي بن إبراهيم. ابن ثروان شيخ البيانية عيسى بن ثروان. ثعلب ابن الحسن بن ثعلب، شرف الدين القاهري العطار. أنشدني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال أنشدني المذكور لنفسه: تمتّعت بالتوفيق والعزّ والبقا ... وحوشيت من كسف ألمّ ومن كشف ولا زلت في عزّ ولين ورفعة ... مقيماً بصدر الآي من سورة الكهف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 حرف الجيم ابن جابي الأحباس: ركن الدين عمر بن محمد. جاريك عبد الله الأمير سيف الدين. كان أحد أمراء الخمسين بدمشق، يسكن عند الشامية بظاهر دمشق. توفي رحمه الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات. جاريك تمر الأمير سيف الدين المارداني. كان من مماليك السلطان الملك الناصر محمد. أخذه الأمير سيف الدين تنكز من السلطان في بعض سفراته إلى القاهرة، وأقام عنده في دار السعادة. ولما كان في آخر سفرة، توجها إلى مصر أخذ له طبلخاناه من السلطان فيما أظن. ولما أمسك تنكز توجه إلى القاهرة وأقام هناك، وجماعة تنكز يقولون إنه ممن عمل على إمساك تنكز باتفاق مع طاجار الدوادار، والله يعلم ما كان من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ثم إن جاريك تمر خرج صحبة الفخري إلى الكرك، ووصل معه إلى دمشق. وفي أواخر الأمر كان بمصر حاجباً صغيراً. ثم إنه جهز إلى الكرك نائباً ولم يزل بها إلى أن أمسك الوزير منجك في أيام الناصر حسن في المرة الأولى، ورسم له بالتوجه إلى ألبيرة نائباً، وحضر إلى الكرك الأمير سيف الدين أراي عوضاً عنه فأقام جاريك تمر بالبيرة نائباً إلى أن خلع الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فرسم له بالعود إلى القاهرة، وكان من جملة الحجاب. ولما عاد الناصر حسن إلى الملك جرده، ومعه الأمير سيف الدين علم دار الداودار إلى الحجاز في سنة ستين وسبع مئة. وأقام بمكة مجرداً سنتين، فوطنها ووطدها، وساس العرب أحسن سياسة، إلى أن توجه الأمير ناصر الدين محمد بن قراسنقر من دمشق إلى الحجاز في سنة إحدى وستين وسبع مئة، ورسم له بالمقام في مكة، وأن يعود الأمير جاريك تمر إلى دمشق مقدم الركب الحجازي. ولما وصل إلى دمشق طلع الأمير سيف الدين بيدمر نائب الشام وتلقاه وحضر معه، ودخلا دار السعادة، ولما صار فيها قيده وأودعه في المدرسة العذراوية. ثم إنه جهزه صحبة الأمير سيف الدين برناق إلى باب السلطان، فرسم الناصر حسن باعتقاله في ثغر الإسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ولم يزل بها إلى أن خلع الناصر حسن، وأفرج عن الأمراء المعتقلين، فحضر جاريك تمر إلى دمشق على إقطاع الأمير حسام الدين لاجين العلائي، ووصل إلى دمشق يوم الأحد حادي عشر شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وجهز الأمير سيف الدين أرغون الأشعري الدوادار، وخطب ابنته فأجابه وجهزها إليه. ثم إنه طلب إلى مصر فتوجه إليها في شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة فيما أظن وأقام بها إلى أن توفي بالقاهرة في سادس عشري ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة رحمه الله تعالى. جركس الأمير سيف الدين. تولة نيابة قلعة الروم، وأقام بها زمانا، وأخذ من الدهر في طول المدة أمانا، فحصل أموالا، وكنز جملة لا يبالي معها أعادى الأيام أم والى، وثور نعمة طائله وأملاكاً هائله، وشاع أمر سعادته واشتهر، وبرز ذكره إلى الديار المصرية وظهر، وتحدث الناس بأمره، وعلموا بمكنون سره. ولم يزل على حاله في القلعة المذكورة، إلى أن حالت حاله الحاليه، وقال " ما أَغْنَى عَنّي ماليه ". وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ورسم الملك الصالح إسماعيل أن يتوجه الأمير سيف الدين منجك للحوطة على موجوده، فساق على البريد من مصر إلى قلعة الروم لأجل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 جاغان الأمير سيف الدين الحسامي المنصوري. كان مملوك السلطان حسام الدين لاجين المنصور. كان فيه دين، وعقله في السياسة مكين، وفضله في التدبير مبين، ونيله في السياسة متين. أقامه أستاذه في شد الدواوين بدمشق لما كان قبجق بها نائباً، فوقع بينهما، واستوحش قبجق من السلطان وقفز ودخل بلاد التتار. ولم يزل إلى أن دعي إلى البلى، وأصبح غيث الدمع عليه مسبلا. وتوفي في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. وكان قد وصل إلى دمشق مشدا في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة من قبل أستاذه، ومعه تقليد الصاحب تقي الدين توبة، وكان قد ولى الشد أولاً عوضاً عن فتح الدين بن صبرة، ولما قتل السلطان لاجين أمسك جاغان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة، وأفرج عنه في جمادى الأولى من السنة. اللقب والنسب ابن جبارة شهاب الدين أحمد بن محمد. وتقي الدين عبد الله ابن عبد الولي. ابن الجباب محمد بن عبد الوهاب. ابن الجباس أحمد بن منصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الجالق الأمير ركن الدين بيبرس. الجاولي الأمير علم الدين سنجر. ججكتو الأمير سيف الدين التركماني. أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. بجيمين مكسورتين وكاف ساكنة، وبعدها تاء ثالثة الحروف وواو: كان أولاً مقيماً بطرابلس، ولما جرى لألجيبغا نائبها ما جرى، ثم جرى لبكلمش نائبها أيضاً ما جرى، كره الإقامة بدمشق، فأجيب إلى ما سأله. ولم يطل مقامه بدمشق حتى توفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وخمسين وسبع مئة. وكان له أولاد وأقارب، وهو كبير قومه بطرابلس رحمه الله تعالى. جركتمر الأمير سيف الدين الإسعردي. أخرجه الناصر حسن إلى نيابة حماة بعد إمساك الأمير ركن الدين عمرشاه، فما أقام بها إلا قليلاً، دون الشهرين، وعزله منها بالأمير علاء الدين بن تقي الدين. وحضر الأمير جركتمر إلى حلب أميراً من بعض الأمراء بها، ثم جهزه إلى بعض قلاع حلب بطالاً، ثم أمسكه واعتقله بالإسكندرية، فأقام بها معتقلاً إلى أن خلع الناصر حسن، وحضر بعد ذلك إلى دمشق أميراً مقدماً على ألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة خامس شهر الله المحرم سنة ثلاث وستين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى شكلاً تاماً حسن الوجه. اللقب والنسب ابن الجرايدي محمد بن يعقوب الجزري محمد بن يوسف الجعبري الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر. وتاج الدين صالح بن ثامر. وتقي الدين محمد بن سليمان. جعفرابن ثعلب بن علي الإمام الأديب الفاضل كمال الدين أبو الفضل الأدفوي، بضم الهمزة وسكون الدال وضم الفاء وبعدها واو مشددة، الشافعي. كان فقيها ذكيا، فاضلاً زكيا، يعرف النحو، وتشرق شمسه فيه في يوم صحو، يغلب على ابن ثعلب الأدب، ولا يفتر عما له فيه من الطلب، وحظه من التاريخ موفر، وجيشه إذا غزا فيه مظفر، ضحوك السن دائم البشر، لا يلقاه أحد إلا عاطر النشر، حلو الملق عند الملقى، يروق من يحادثه خلقا وخلقا، لطيف الذات، متوسع النفس في اللذات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 لم يزل على حاله إلى أن جاءه ساقي المنايا، واستخرج الدمع عليه من الخبايا. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده في بضع وثمانين وست مئة. كان عنده خبرة بالموسيقى، وله نظم ونثر، ولازم شيخنا العلامة أثير الدين كثيراً. ورأيته مرات بسوق الكتب في القاهرة، وأنشدني من شعره. وكان كثيراً ما يقيم ببلده أدفو في بستان له هناك في أيام بطالة الدروس، وصنف أشياء: الإمتاع في أحكام السباع وجوده، والطالع السعيد في تاريخ الصعيد وجوده، والبدر السافر في تحفة المسافر، تأريخ، وجوده. ومن شعره ما نقلته من خطه: لروضة مصر حسنٌ لا يسامى ... يطيب لمن أقام بها المقام لها وجهان ممدوحان حسناً ... وذو الوجهين مذمومٌ يلام قلت: هو يشبه قول نور الدين علي بن عبد الله القصري في الروضة: ذات وجهين فيهما خيّم الحس ... ن فأضحت بها القلوب تهيم ذا يلي مصر فهو مصرٌّ وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ومن شعره: وقد كنت في عصر الصّبا ذا صبابةٍ ... وما راق من لهوٍ إليّ حبيب زماني صفوٌ كلّه ومسرّةٌ ... ولي من وصال الغانيات نصيب فلما رأيت الشيب لاح تكدّرت ... حياتي فحلو العيش ليس يطيب إذا ابيضّ مسودّ الشباب فإنّه ... دليلٌ على أنّ الحصاد قريب ومذ حلّ هذا الشيب سارت مسرّتي ... وصار عليها للهموم رقيب فلا تعجبوا ممّا بدا من كآبتي ... سروري وقد وافى المشيب عجيب ومن شعر كمال الدين الأدفوي، رحمه الله تعالى: إنّ الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغطٍ وفرط عياط ومباحثٍ لا تنتهي لنهايةٍ ... جدلاً ونقلٍ ظاهر الأغلاط ومدرّسٍ يبدي مباحث كلّها ... نشأت عن التخليط والأخلاط ومحدّثٍ قد صار غاية علمه ... أجزاء يرويها عن الدّمياطي وفلانة تروي حديثاً عالياً ... وفلان يروي ذاك عن أسماط والفرق بين عزيرهم وعزيزهم ... وافصح عن الخيّاط والحنّاط والفاضل النحرير فيهم دأبه ... قول أرسطا طاليس أو بقراط وعلوم دين الله نادت جهرةً ... هذا زمان فيه طيّ بساطي ولّى زماني وانقضت أربابه ... وذهابهم من جملة الأشراط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ومنه: أذكرتني الورقا حديثاً بليلى ... قد تقضّى فبتّ أجري الدموعا ووصلت السهاد شوقاً إليها ... وغراماً، وقد هجرت الهجوعا كيف يخلو قلبي من الحبّ يوماً ... وعلى حبّها حنيت الضلوعا كلّما أولع العذول بعذلي ... في هواها يزداد قلبي ولوعا ومنه: وهيفاء غار الغصن من لين قدّها ... بقلبي هوى منها وليس يزول يروم عذولي صاح منّي سلوّهاوذلك أمرّ ما إليه سبيل وقد عابها عندي فقال طويلةٌ ... ألم ترها عند النسيم تميل فقلت له: هذي حياتي وإنني ... ليعجبني أن الحياة تطول جعفرابن علي بن جعفر بن الرشيد الشيخ المعمر شرف الدين الموصلي. ذكر أنه سمع من السهروردي كتاب العوارف بالموصل، ومن ابن الزبيدي بدمشق، ومن ابن الجميزي بمصر، ومن ابن رواج بالثغر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وروى عنه الدمياطي في معجمه، وقال فيه: المعروف بالحسن البصري. توفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده بالموصل سنة أربع وست مئة. كان من الأشياخ الفضلاء، والرواة النبلاء، حفظةً للأخبار، نقلةً للأشعار عمر فروى، وطال عمره في الخير وما غوى. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح خبراً بعد عين، ونعب بشت شمله غراب البين. جعفرابن محمد بن عبد الكريم بن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة: الإمام المفتي ضياء الدين أبو الفضل الصعيدي الشافعي الحسيني. درس بمشهد الحسين، وبمدرسة زين التجار. وسمع وهو شاب من ابن الجميزي وأبي القاسم السبط. وكان قد برع في المذهب، وأفتى أربعين سنة من عمره، فأفنى مدتها في ذلك وأذهب، وخدم العلم زمانا، وكان على استخراج معانيه معانا. ولم يزل الضياء على حاله إلى أن محي، ودفع إلى حفرته ودحي. ووفاته رحمه الله تعالى على سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة ثمان عشرة وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 جعفرابن محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم بن عمر بن سليمان بن إدريس المتأبد بن يحيى المعتلي، ووصل الشيخ أثير الدين نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وأنشدني من لفظه شيخنا المذكور، قال أنشدني المذكور لنفسه: لا تلمنا إن رقصنا طرباً ... لنسيمٍ هبّ من ذاك الخبا طبّق الأرض بنشرٍ عاطرٍ ... فيه للعشاق سرٌ ونبا يا أهيل الحيّ من كاظمةٍ ... قد لقينا من هواكم نصبا قلتم جز لترانا بالحمى ... وملأتم حيّكم بالرّقبا لست أخشى الموت في حبّكم ... ليس قتلي في هواكم عجبا إنما أخشى على عرضكم ... أن يقول الناس قولاً كذبا: استحلّوا دمه في حبّهم ... فاجعلوا وصلي لقتلي سببا قلت: شعر عذاب متوسط. توفي المذكور بالقاهرة سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده بها سنة إحدى عشرة وست مئة. جعفر بن محمد بن عدنان القاضي الرئيس أمين الدين بن الرئيس الفاضل محيي الدين بن أبي الجن الحسيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 كان حسن الهيئه، لطيف الذهاب والفيأه، حسن الخلق، يقبل على من أمه بوجهه الطلق، لين الكلمة في خطابه، سمح الكف يبذل ما في وطابه، عارفا بصناعة الكتابه، عالماً بالمسألة فيها والإجابه، تنقل في الولايات الكبار، وباشر الوظائف التي ما لجرحها جبار، ولي النقابة والنظر على الأشراف، والنظر على الدواوين بدمشق ومالها من الأطراف، وغير ذلك. ولم يزل على حاله إلى أن غمس شخصه في التراب، وقمس من ماء الرزية في سراب. وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، في ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة أربع عشر وسبع مئة. ومولده في مستهل شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وست مئة. وكان قد لبس لنقابة الأشراف في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة عوضاً عن والده الشيخ محيي الدين، وقدم على غيره مع صغر سنه لفضله وفهمه وعقله. ولبس خلعة نظر الدواوين بدمشق في يوم الأربعاء، سابع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ابن جعوان: شهاب الدين أحمد بن العباس. جقطاي الأمير سيف الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كان خفيف الحركه، سريع الخطره، لا يبالي بشيء فاته أأدركه أم تركه. ورد إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، لما ترك على خان لاجين، وكان قد تزوج بامرأة الجمالي الوزير، وهي في الحسن والعظمة ما هي، ورمي من أمرها بدواهي، وتنقل به الحال إلى أن صار حاجباً صغيراً بدمشق، ولم يزل بها إلى أن أمسك وهو والأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد والأمير سيف الدين بلو قبجق، وذلك في شوال سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة لأنهم رموا بالمباطنة للناصر أحمد، وهذا آخر عهدي به. الألقاب والأنساب جلال الدين قاضي القضاة القزويني محمد بن عبد الرحمن أبو جلنك الشاعر أحمد بن أبي بكر. جماز بن شيحة الأمير عز الدين أبو سند الحسيني، صاحب المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 كان أميراً في تلك البقعة الشريفه، وكبيراً في تلك الرقعة المنيفه، يحكم ولا يرد، ويحاول ما يختار فلا يصد. كبر وطعن في السن، وصار بعد تلك الغضارة في الصبا وهو شن، فأضر وهو على الإمرة قد أصر، وأسر من أمرها إلى ولده ناصر الدين أبي عامر منصور ما أسر وما أشر. ولم يزل جماز المذكور على حاله إلى أن ابتلعه حفرة القبر، وفقد قومه معه الصبر. وتوفي رحمه الله تعالى، في شهر ربيع الأول سنة أربع وسبع مئة. وكان شيخاً كبيراً أضر في آخر عمره، وقام عنه بالأمر في حياته ولده الأمير ناصر الدين أبو عامر أبو منصور. ابن جماعة قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم. عماد الدين إسماعيل بن إبراهيم، أخوه. جمال الكفاة: جمال الدين إبراهيم ناظر الخاص والجيش. الجناحي نائب غزة ، اسمه أيدمر. أولاد ابن أبي الجن: جماعة، منهم: الشريف أمين الدين جعفر بن محمد، وزين الدين الحسين بن محمد، ووالدهما محمد بن عدنان، وعدنان بن جعفر، وعلاء الدين علي بن الحسين النقيب، وناصر الدين يونس بن أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 جنغاي بضم الجيم وسكون النون وبعدها غين معجمة وألف ممدودة وبعدها ياء آخر الحروف: سيف الدين مملوك الأمير سيف الدين تنكز. كان رقيقاً أهيف، حلو الوجه أوطف، نحيلاً مصفرا، ضئيلاً بالسعادة مظفرا، لا يزال به قرحه، تنغص عليه من العيش كل فرحه، وتبدل كل مسرة بترحه، لأنه كان ينفث منها الدم والقيح، ويجد الألم مما لها من الفيح، ولأجل ذلك أفسح له أستاذه في استعمال القليل من الراح، والمداواة منها بما يصلح مزاجه لا بما يرتاض به ويرتاح، ولم نره كان عند أستاذه أعز منه ولا أقرب، وما كان يدعه في الخلوة يقف قدامه. أخبرني القاضي علم الدين ناظر الجيوش، وكان مستوفي ديوان تنكز أولاً، قال: كان الأمير قد رسم لنا بأنه يطلق من الخزانة العشرة آلاف فما دونها، ويمضي أمره فيها ولا يشاور عليه. قال: ولم نعلم أنه مضى يوم من الأيام ولم ينعم عليه بشيء إلا فيما ندر. انتهى. وكنا نراه في الصيد إذا خرج، يركب أستاذه ناحية، ويركب هو ناحية في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 طلب آخر بازدارية، وكلابزيه، وأناس في خدمته، ويكون معه في الصيد مئتا عليقة، ويكون على السيباله خمس ست حويص ذهباً. وعلى الجملة فما نعلم أن أحداً رزق حظوته عنده، كان يقال: إنه ذو قرابته، والظاهر أن ها هو الصحيح، لأن هذا جنغاي ما كان في مقام من يعشق، لأنه لم يكن أمرد ولا مليح الوجه. والله أعلم. ولم يكن له عنده وظيفة ليتوسط فيها بينه وبين الناس، بل أظنه كان ساقياً. وفي آخ الأمر أرجف بأنه هو وطغاي أمير آخور تنكز، قد حسنا لأستاذهما التوجه إلى بلاد التتار، فطلبهما السلطان منه، فلم يجهزهما، ولما أمسك تنكز قبض عليهما، وأودعا في قلعة دمشق، فلما حضر بشتاك إلى دمشق أحضرهما قدامه، وسلمهما إلى برسبغا، فضربهما بالمقارع ضرباً عظيماً إلى الغاية في الليل والنهار، واستخرج ودائعهما، وقررهما على مال أستاذهما، ثم بعد جمعة ركب بشتاك، ووقف في الموكب بسوق الخيل وأحضرهما، ووسطهما بحضور أمراء مصر والشام، وذلك في العشر الأول من شهر الله المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، ووسط معهما أوزان تنكز. جنقار الأمير سيف الدين. أمسك هو والأمير بدر الدين بكتوت الشجاعي في شهر رجب الفرد سنة إحدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 عشرة وسبع مئة، واعتقلا في قلعة دمشق في أيام نائب الكرك، ثم إنه ورد المرسوم في شهر رمضان بنقلهما إلى الكرك. جنكلي بفتح الجيم، وسكون النون، وفتح الكاف، وبعدها لام وياء آخر الحروف: ابن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله العجلي، الأمير الكبير المعظم الرئيس بدر الدين كبير الدولة الناصرية محمد، ورأس الميمنة بعد الأمير جمال الدين نائب الكرك. كان شكلاً هائلا، ووجهاً يحاكي القمر كاملا، يتوقد وجهه وضاءه، ويتفقد حلمه الذين أساؤوا إناءه، يعرف حق من قصده، ويقبل بوجه حنوه على من رصده، ويزرع من المعروف ما يسره في غد إذا حصده، قد صارت المكارم له جبله، والمواهب تتحدر من غمائم أنامله المستهله، يحفظ فرجه، ويسد بالعفة ما يفتحه له السلطان من فرجه، لا يقرب من مماليكه من كان أمرد، ولا يجعله على باله أأقبل عليه بوجهه أم رد، وليس له من الجواري حظيه، ولا امرأة يدنو إليها بحسنة أو خطيه، اللهم إلا ما كان من أم أولاده التي حضرت معه من البلاد، ولم تر عليها له طارفاً يستجده على مالها من التلاد، يصلي العشاء الآخرة، ويدخل إلى فرشها، ويخرج لصلاة الصبح وكأنها بلقيس في عرشها. وكان يحب أهل العلم ويجالسهم، ويطارحهم المسائل ويدارسهم، ويبسط لهم الود الأكيد ويؤانسهم. وكان يعرف ربع العبادات ويجيده، ويتكلم على الخلاف فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ويفيده. وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية ويترشف كلامه، وينتشي بذكره، لو كنت أعلم أنه يتناول المدامه، وينفر عمن ينحرف عنه ويوليه الملامه، ويوفر العطاء لمن قلده، ويسني الهبات لمن قيد كلامه وجلده إذا كتبه وجلده. هذا مع الإحسان المطلق مع الناس أجمع، والبر الذي إذا فاض أخجل الغيوث الهمع، تارة بجاهه الذي لا ترد إشارته الملوك، وتارة بماله الذي تنخرط جواهره في السلوك. وكان آخر وقته كبير الدولة في السلم وإثارة غبار السنابك، وإذا حضر دار عدل قال: يا أتابك، سبحان من أتى بك. ولم يزل على حاله في سؤدده إلى أن غاب بدره وأفل، ونزل شخصه إلى حضيض القبر واستفل. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وأربعين وسبع مئة، يوم الاثنين العصر سابع عشر ذي الحجة. وكان ينتسب إلى إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وسيأتي ذكر ولده الأمير ناصر الدين محمد. خطبه الملك الأشرف خليل وهو في تلك البلاد، ورغبه في الحضور، فلم يوافق حتى يرى منشوره بالإقطاع، فكتب له منشوراً بإقطاع جيد وجهزه إليه، فلم يتفق حضوره. ثم إنه وفد على السلطان الملك الناصر محمد، وذلك في أوائل سنة أربع وسبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 مئة. وكان وصوله إلى دمشق يوم الثلاثاء حادي عشر القعدة سنة ثلاث وسبع مئة، وكان مقامه بالقرب من آمد، فأكرمه وأمره، ولم يزل عنده معظماً مبجلاً. وكان في آخر وقت، بعد خروج الأمير سيف الدين أرغون من الديار المصرية، يجهز إليه الذهب مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي ومع غيره، ويقول له: لا تبوس الأرض على هذا ولا تنزله في ديوانك، كأنه يريد إخفاء ذلك. وكان يجلس أولاً في الميمنة ثاني نائب الكرك، فلما توجه نائب الكرك لنيابة طرابلس، جلس الأمير بدر الدين رأس الميمنة. وكان السلطان الملك الناصر محمد قد زوج ابنه إبراهيم بابنة الأمير بدر الدين، وما زال معظماً في كل دولة. وكتب له في ألقابه عن السلطان الملك الصالح إسماعيل: الأتابكي الوالدي البدري. وكانت له في الدولة الصالحية وجاهة زائدة لم تكن لغيره. لأنه هو الذي أخذ السلطان وأجلسه على الكرسي، وحلف له، وحلف الناس له. وكان ينفع العلماء والصلحاء والفقراء وأهل الخير وغيرهم. وكنت أتردد إليه وآخذ منه إحساناً كثيراً رحمه الله تعالى. وقلت محبةً فيه، ولم أكتب بها إليه: محيّا حبيبي إذا ما بدا ... يقول له البدر يا مخجلي بلغت الكمال ولي مدّة ... أدور عليه وما تمّ لي فبالله قل لي ولا تخفني ... سرقت المحاسن من جنكلي؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وقلت أيضاً، ولم أكتب بها إليه: لا تنس لي يا قاتلي في الهوى ... حشاشةً من حرق تنسلي لا ترس لي ألقى به في الهوى ... سهام عينيك متى ترسل لا تخت لي يشرف قدري به ... إلاّ إذا ما كنت بي تختلي لا جنك لي تطرب أوتاره ... إلا ثنا يملى على جنكلي نقلت من خط علاء الدين بن مظفر الكندي الوادعي قال: تواترت الأخبار بأنه قد جرد من الأردو مقدم يسمى قبرتو يكون مقيماً بديار بكر عوض جنكلي بن البابا المهاجر إلى الإسلام، فلما وصل كتبت في مطالعة سلطانية: أتى من بلاد المشركين مقدّمٌ ... تفاءلت لمّا أن دعوه قبرتو وإنّي لأرجو أن يجيء عقيبها ... بشيري بأنّي للّعين قبرت الألقاب والأنساب ابن جهبل شهاب الدين أحمد بن يحيى. محيي الدين إسماعيل بن يحيى. ابن جوامرد: علاء الدين علي بن محمود. جواد ابن سليمان بن غالب بن معن بن مغيث بن أبي المكارم بن الحسين بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى النعمان بن المنذر. هو عز الدين بن أمير الغرب، رجل يده صناع وإن كانت في الجود خرقا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أكتب من في عصره تحت أديم الزرقا، أتقن الأقلام السبعة وكان فيها واحدا، واشتغل بشيء من البيان فلو عاصره ما كان له جاحدا. وأما الصياغة فكان فيها ممن تصاغ له العليا، وتفرد بإتقان ما يعمل منها في هذه الدنيا. وأما النشاب فكان سهمه فيه وافرا، وسعده في عمله وإفراده متضافرا. وأما القص فهو فيه غريب القصة، لم ينس له فيه حصة، بحيث إنه كان في هذا وغيره ممن اقتعد الذروه، وتسلم الصهوه، وأكل العجوه، ورمى للناس البخوه، وجعل صحيحات العيون إليه حولاً من السهوه، لما عنده من الشهوه. ولم يزل جواده يجري في حلبة عمره إلى أن كبا، واتخذ النعش بعد الجياد مركبا. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. ومولده في خامس المحرم سنة خمس وسبع مئة. أما الكتابة فكان فيها غاية، يكتب من الطومار إلى قلم الغبار، ويكتب المصاحف والهياكل المدورة، ويأتي في كل ذلك بالأوضاع الغريبة من العقد والإخباط وغير ذلك. وكان يعمل النشاب بالكرك من أحسن ما يكون، ويعمل الكستوان ويتقنه ويزركشه، ويعمل النجارة الدق والتطعيم والتطريز والخياطة والبيطرة والحدادة ونقش الفولاذ والزركش والخردفوشية ومد قوساً بين يدي الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مئةً وثلاثين رطلاً بالدمشقي، وكبت مصحفاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 منقوطا مضبوطاً يقرأ في الليل، وزن ورقه سبعة دراهم وربع، وجلده خمسة دراهم، وكتب آية الكرسي على أرزة، وعمل زرقبع لابن الأمير سيف الدين تنكز اثنتي عشرة قطعة، وزنه ثلاثة دراهم، يفك ويركب بغير مفتاح، وكتب عليه حفراً مجرىً بسواد سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة وآية الكرسي وغير ذلك، يقرأ عليه وهو مركب، ومن داخله أسماء الله الحسنى لا يبين منها حرف واحد إلى حين يفك، وجعل لمن يفكه ويركبه مئة درهم فلم يوجد من يحسن ذلك. وكتب لتنكز قصة قصاً في قص في قص، وقص لامية المعجم. وأما عمل الخواتيم ونقشها وتحريرها وإجراء المينا عليها فلم أر أحداً أتقن ذلك مثله ولا قاربه، وما رأيت مثل أعماله في جميع ما يعمل، ولا مثل إتقانه. وحفظ القرآن وشد طرفاً من الفقه والعربية، ولعب بالرمح، ورمى النشاب وجوده، وأراد تنكز أن يتخذه زردكاشا عنده في وقت، وقربه وأعطاه إقطاعاً. وعلى الجملة فما رأيت مجموعه في أحد غيره. ولم يزل على حاله إلى أن حصل له وجع المفاصل، فاستعمل دواء فيه شحم الحنظل فما أجابه، وبقي بعده أياماً. وتوفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وكان مقامه في بلاد بيروت، وكان قد أهدى إلي في وقت طرفاً من هدايا بيروت، فكتبت أنا إليه: يا سيّداً جاءت هداياه لي ... على المنى منّي ووفق المراد أنت جوادٌ سابقٌ بالندى ... من ذا الذي ينكر سبق الجواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: وافى مثالك مطوّياً على نزهٍ ... يحار مسمعه فيها وناظره فالعين ترتع فيما خطّ كاتبه ... والسمع ينعم فيما قال شاعره وإن وقفت أمام الحيّ أنشده ... ودّ الخرائد لو تقنى جواهره جوبان النوين الكبير، النوين المعظم، نائب الممالك القانية. كان بطلاً شجاعا، آمراً مطاعا، ذا إقدام وثبات، وله في الحروب إذا حميت وثبات، عظيماً ذا مهابه، كبيراً بين المغول، تقبس النار منه شهابه، شديد الوطأه، يخاف كل من في الأردو خطأه، عالي الشأن، كثير الفخار، بعيد المنال، رفيع المنار، همته عاليه، وعزمته بالحزم حاليه، صحيح الإسلام، مليح الانقياد في الدين والاستسلام، حظه من الصلاة موفور الأقسام، وعقيدته في النصح للإسلام، تعرف من ثغره البسام. بذل الذهب الكثير حتى أوصل الماء إلى مكة، وجرى بها، ولم يبق للماء ثمن يباع به، وإنما الثمن لأجرة نقله، ووصل الماء إلى مكة، وجرى فيها بالصفا وبباب إبراهيم وبالأبطح في أوائل جمادى الأولى سنة ست وعشرين وسبع مئة. وأنشأ مدرسةً مليحة بالمدينة النبوية في جوار الحرم الشريف وتربةً ليدفن بها، وكان له ميل كثير إلى المسلمين. وهو أحد الأسباب المتوفرة في تقرير الصلح بين بوسعيد مخدومه وبين السلطان الملك الناصر محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 أخبرني جماعة من أهل الرحبة أنه لما نزل خربندا عليها، ونصب المجانيق رمى منجنيق قراسنقر حجراً تعتع القلعة، وشق منها برجاً، ولو رمى غيره هدمها إلى الأرض. وكان جوبان يطوف على العساكر، ويرتب المحاصرين، فلما رأى ذلك أحضر المنجنيقي، وقال له: أتريدني أقطع يدك الساعة، وذمه وسبه بانزعاج وحنق، وقال: والك، في شهر رمضان نحاصر المسلمين ونرميهم بحجارة المنجنيق؟ لو أراد القان أن يقول لهؤلاء المغول الذين معه: ارموا على هذه القلعة مخلاة تراب كل واحد كان طموها، وإنما هو يريد أخذها بالأمان من غير سفك دم، والله متى عدت رميت حجراً آخر سمرتك على سهم المنجنيق. وحكى لي منهم غير واحد أنه كان ينزع النصل من النشاب ويكتب عليه: إياكم أن تذعنوا أو تسلموا وطولوا أرواحكم فهؤلاء ما لهم ما يأكلونه، وكان يحذرنا هكذا بعدة سهام يرميها إلى القلعة، واجتمع الوزير، وقال له: هذا القان ما يبالي ولا يقع عليه عتب، وفي غد وبعده إذا تحدث الناس أيش يقولون! نزل خربندا على الرحبة، وقاتل أهلها، وسفك دماءهم، وهدمها في شهر رمضان. فيقول الناس: أفما كان له نائب مسلم ولا وزير مسلم، وقرر معه أن يحدثا القان خربندا في ذلك، ويحسنا له الرحيل عن الرحبة. فدخلا إليه، وقالا: المصلحة أن نطلب كبار هؤلاء وقاضيهم، ويطلبوا منك الأمان، ونخلع عليهم ونرحل عنهم بحرمتنا، فإن الطابق قد وقع في خيلنا، وما للمغل ما تأكل خيولهم، وإنما هم يأخذون قشور الشجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ينحتونها ويطعمونها خيلهم، وهؤلاء مسلمون، وهذا شهر رمضان، وأنت مسلم وتسمع قراءتهم القرآن، وضجيج الأطفال والنساء في الليل، فوافقهم على ذلك. فطلبوا القاضي وأربعةً من كبار البحرية، وحضروا قدام خربندا، وخلعوا عليه، وباتوا فما أصبح للمغل أثر، وتركوا المجانيق وأثقالها رصاصاً، والطعام والعجين وغيره، ولم يصبح له أثر. وهذه الحركة وحدها تكفيه عند الله تعالى، ويرى الله له أقل من ذلك، حقن دماء المسلمين ودفع الأذى عنهم، لكنه أباد عدداً كثيراً من المغل وجرى له ما تقدم في ترجمة أيرنجي، وأخذ من الوزير الرشيد ألف ألف دينار. وقد مر ذكر ابنه تمرتاش وابنته بغداد، وكان ابنه دمشق خواجا قائد عشرة آلاف فارس. وزالت فيما بعد سعادتهم، وتنمر لهم بوسعيد، وتنكر، وقتل دمشق خواجا ولده، وهرب جوبان إلى والي هراة لائذاً به فآواه، وأطلعه إلى القلعة ثم قتله، ونقل تابوت جوبان - رحمه الله تعالى - إلى المدينة الشريفة ليدفن في تربته، لأن ابنته الخاتون بغداد جهزته مع الركب العراقي، فما قدر الله له ذلك، وبلغ السلطان الملك الناصر ذلك فجهز الهجن إلى المدينة، وأمرهم أن لا يمكن من الدفن في تربته فدفن في البقيع. وكانت قتلته - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين لأنه لما قدم دمشق مع غازان كان من أكبر قواده، وكان له من الأولاد تمرتاش ودمشق خواجا وصرغان شيرا وبغبصطي وسلجوك شاه بغداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 جوبان الأمير سيف الدين المنصوري. أحد أمراء الشام وكباره، ومن إذا جرى في ميدان الشجاعة لا يطمع ملاعب الأسنة في شق غباره. قوي النفس لا يصبر على ذله، شديد البطش، لا يعبأ بما يترتب على الأهوار المضله، وكانت له عظمة في النفوس، وجلالة تجعل موضعه على الرؤوس، ولم يزل على ذلك إلى أن جرى بينه وبين تنكز مقاوله، كادت تصل إلى مصاوله، فأودعه في القلعة معتقلاً ليلة والثانيه، وقال حساده: " يا ليتها كانتِ القاضية " ثم إنه حمل إلى مصل ورسم له بالإقامة هناك، وقال له محبه: أبشر ظفرت بالسلامة هناك. وكانت واقعته مع تنكز في جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وأقام بمصر على إقطاع، وفي العشرين من شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة عاد من مصر أميراً على ما كان عليه، وتوجه أمير الركب سنة ست وعشرين وسبع مئة، وأقام بدمشق على إمرته، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في عشري صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وكان من مماليك الأشرف، أمره الأشرف، وخلف تركة كبيرة من الذهب والفضة والات والأمتعة، وكان قد جاوز السبعين، وأعطي إقطاعه للأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 جوبان الأمير سيف الدين، أحد الأمراء أصحاب الطبلخاناة. كان حسن الصورة، مديد القامة، فهي على الهيف مقصوره، له طلعة إذا فاخرها البدر في تمامه، كانت له منصوره، بمعاطف كالغصون لا تزال بيد النسيم مهصوره، وشمائل راقت لمتأملها فمحاسنها غير محصوره. تضرّم خدّاه حتى عجب ... ت لعارضيه كيف لا يضطرم إلا أن الأيام عبثت بمحاسنه، وأثارت له البلى من مكامنه، فحولت حالاته، وعادته وعادت عن موالاته، وجعلت وجهه للأنام عبره، وأجرت عليه من العيون كل عبره، ولزم منزله لا يدخل ولا يخرج، ولا يرقى في منازل الحركة ولا يعرج، كالبدر إذا كسف، والغصن إذا قصف، ولم يزل على حاله إلى أن تلاشى واضمحل، وجوز اللحد أكل لحمه واستحل. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم السبت رابع عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وسبع مئة. أول ما عرفت من أمره أنه حضر مع الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي من حلب إلى دمشق، وأظنه كان أمير عشرة، ولم يزل معه مدة نيابته في دمشق، إلى أن جرى له ما جرى على ما سيأتي في ترجمة يلبغا، فاعتقل في جملة من اعتقل من جماعته لأنه كان من ألزامه، على ما في ظني، ثم إنه أفرج عنه، وحضر إلى دمشق وكان بها أمير طبلخاناه، وتحدث في جامع يلبغا، وعمر إلى جانبه عمارة، ونوزع فيها، فأوقفها على الجامع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ثم إن الملك الناصر حسن قطع إقطاعه، وبقي في دمشق بطالاً إلى أن أحضر الأمير سيف الدين اسندمر أخو يلبغا نائب دمشق فصار عنده من خواصه المقربين، ولارمه ثم إنه جهز إلى حماة أمير عشرة في أيام الأمير سيف الدين أسندمر، ثم إنه وقعت في وجهه آكلة - نعوذ بالله منها - فحضر إلى دمشق ولازم بيته لا يدخل ولا يخرج منه لأنها شوهت وجهه، إلى أن مات في التاريخ المذكور. الجوهري: القاضي علاء الدين محمد بن نصر الله. جوكو الهندي الشيخ عبد الله. كان ساكناً بالتقوية بدمشق. كان كثير الحج، ملازم الصلاة في الليل إذا دج، يحافظ على الصف الأول في المقصوره، ويخاطب الناس بكلمات محصوره، وكان أولاً فقيراً من القلندريه، وتلك الفرقة المفتريه. صحب محمود سابقان، واقتدى به وقتاً من الزمان، ثم ترك تلك الطريقه، وأعرض عن المجاز وسلك الحقيقه. ولم يزل على حاله إلى أن مضى لسبيله، ودرج على أثر أهله وقبيله. وتوفي - رحمه الله تعالى - سابع عشر ربيع الآخر، سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وكان اشتهر بين الناس بجاكير، والصحيح الأول بجيم بعدها واو، وكاف وواو، معنى جوكو بالهندي: الزاهد العابد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 جولجين بضم الجيم وبعدها واو ساكنة، ولام وجيم ثانية وياء آخر الحروف ساكنة ونون. كان من مماليك السلطان الملك الناصر، أظنه كان جمداراً. لما قدم السلطان من الكرك إلى دمشق في سنة تسع وسبع مئة داخله إنسان إلا أنه شيطان يعرف بالنجيم الحطيني، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون مكانه، ولعب بعقله وعمل له صورة ملحمة وعتقها، وكان قد تحمل حتى اطلع على آثار في جسمه وخيلان، وذكره في تلك الملحمة ووصفه، وساق الملك إليه بعد الناصر محمد، فدخل هذا في ذهنه وصدقه عقله، وغره من ذاك المسطور نقله وما خامره في ملكه شك، ولا احتاج دينار هذا القول عنده إلى حك، فصار ذلك في خاطره، ولم يزل خياله عن ناظره، وأسر ذلك إلى جماعة من خوشداشيته وممن بطنهم من حاشيته، وتوجهوا إلى مصر وأقاموا زمانا، ولم يعطهم الدهر بذلك أمانا، إلى أن أطلع الله السلطان على هذه الواقعة، فما كذب أن أحضره وجماعة معه وعرض عليهم العذاب فاعترفوا له بذلك، فوسطه لوقته، ونقله من مقته إلى مقته. وطلب النجيم من صفد، وجرى له ما يجيء ذكره إن شاء الله في ترجمته. وكان ذلك في سنة خمس عشرة وسبع مئة، ورأيت أنا ابن جولجين هذا في القاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة غير مرة، وكان صورةً جميلة. الألقاب والأنساب الحاجبي شهاب الدين أحمد بن محمد. ابن حاتم البعلبكي الشيخ إبراهيم بن أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 حرف الحاء حاجي محمد بن قلاوون السلطان الملك المظفر سيف الدين، ابن السلطان الملك الناصر، ابن السلطان الملك المنصور. ولد وأبوه في الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان ذا منظر وشكاله، ووجه كأن البدر سأله الحسن وشكا له. قد غرته الشبيبه، وضرته بإقبالها الدنيا الحبيبة، فأقبل على من قابله بمراءاة غشه، وسلم قياده لمن شركه في عشه، فأفنى أمراء الدولة، واستنفد حيله في القبض عليهم وحوله، وزاد في سفك الدماء، وأثار بالفتن عجاج الأرض إلى السماء. لا جرم، إن الدهر قلب له ظهر المجن في المحن، وملأ القلوب عليه بالأحقاد والإحن، ولم تطل مع ذلك المده، ولم ينفعه من ادخره عدةً من الغده، حتى ركبوا بالسلاح إلى قبة النصر، وسلبوا ثما أغصانه بالهصر، ورموه بالحصر والحصر، ونقلوا ألف ألفه بالملك من المد إلى القصر، وأنزلوا كوكبه إلى حضيض الأرض وبعد أوج القصر فخر على الألاءة لم يوسد وراح أقل من ظبي تحبل، وكان كأنه نمر تأسد. وضرجوا خد الأرض بدمه، وصبغوا كافوره بعندمه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وأبقوه رجمةً لعدوه، وألقوه في مهد تعرى من هدوه، وتركوه تسفي الريح عليه الرمل، وتبكي الغمائم على من انصدع له من الشمل؛ وكان أخوه الملك الكامل قد حسبه وأراد هلاكه، وقيل: إنه أمر أن يبنى عليه حائطان. وكان الأمراء قد كتبوا إلى يلبغا اليحيوي نائب دمشق بأن يبرز إلى ظاهر دمشق، فبرز - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته - فاحتاج الكامل إلى أن يجرد عسكر الشام، فخرجوا إلى السعيدية أو الخطارة، ورجعوا إليه، فركب ونزل إليهم، فنصرهم الله تعالى عليه، وجرحوا أرغون العلائي، كما تقدم، وخلعوا الكامل وصعدوا إلى القلعة وأخرجوا حاجي من سجنه وأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له؛ وكان القائم بذلك الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، والأمير شمس الدين آقسنقر، وأرغون شاه. وكان جلوسه على الكرسي مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وخلعوه في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان ملكه سنةً وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً. وورد له الأمير سيف الدين بيغرا إلى دمشق، وحلف عسكر الشام، وانتظمت الأمور، وصفا له الملك، ولم يزل كذلك إلى أن أمسك الحجازي وآقسنقر وقرابغا وأيتمش وصمغار وبزلار وطقبغا وجماعة من أولاد الأمراء، فنفرت القلوب منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 واستوحشت، وتوحش يلبغا نائب الشام، وجرى له ما جرى، يأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى. وكان الذي فعل ذلك كله ودبره وأشار به وفعله شجاع الدين أغرلو مشد الدواوين، على ما تقدم في ترجمته، فأمسكه وفتك به بعد أربعين يوماً بمواطأة مع الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي المقدم ذكره، ومع غيره. وكان قد فرق مماليك السلطان وأخرجهم إلى الشام وإلى الوجه البحري والقبلي بعدما قتل بيدمر البدري، والوزير نجم الدين طغاي تمر الدوادار، قبل الفتك بأغرلو، وهؤلاء الأمراء الذين قتلهم كانوا بقية الدولة الناصرية وكبارها ولهم المعروف، فزاد توحش الناس منه، وركب الأمير سيف الدين أرقطاي النائب بمصر وغالب الأمراء والخاصكية إلى قبة النصر. فجاءه الخبر فركب في من بقي عنده بالقلعة، وهم معه في الظاهر دون الباطن، فلما تراءى الجمعان ساق بنفسه إليهم، فجاء إليه الأمير سيف الدين بيبغاروس أمير مجلس وطعنه فقلبه إلى الأرض، وضربه الأمير سيف الدين طان يرق بالطبر من خلفه، فجرح وجهه وأصابعه، وكتفوه وأحضروه إلى الأمير سيف الدين أرقطاي ليقتله، فلما رآه نزل وترجل ورمى عليه قباءه، وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان، ما أقتله، فأخذوه ودخلوا به إلى تربة كانت هناك وقضى الله أمره فيه في التاريخ المذكور. ثم إن الأمراء بالقاهرة اجتمعوا وكتبوا إلى نائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه يعرفونه القضية ويطلبون منه ومن أمراء الشام من يصلح للسلطنة، وجهزوا الكتاب على يد الأمير سيف الدين أسنبغا المحمودي السلاح دار. وكان ذلك ثاني عشر شهر رمضان بكرة الأحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ولما كان يوم الثلاثاء رابع عشر الشهر المذكور، عقدوا أمرهم على أن يولوا أخاه ناصر الدين حسن ابن الملك الناصر محمد، فأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له، وسموه بالملك الناصر، وجهزوا إلى الشام، وحلفوا له العساكر؛ فسبحان من لا يحول ولا يزول. وقلت أنا في ذلك، وفيه لزوم الفاء المشددة: خان الرّدى للمظفّر ... وفي الثرى قد تعفّر كم قد أباد أميراً ... على المعالي توفّر وقاتل النفس ظلماً ... ذنوبه ما تكفّر وقيل: إن أحد الأسباب في قتلته أن الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي، أتى إليه يوماً، فوجده فوق سطح يلعب بالحمام، فلما أحس به نزل فقال: من هذا؟ قالوا له: ألجيبغا؛ فطلبه فصعد إليه، وكانت الوحشة قد ثارت، فقال له: ما يقول الناس؟! قال: خير، فألح عليه، فقال له: يا خوند. أنت تدبر الملك برأي الخدام والنساء، وتلعب بهذا الحمام، فاغتاظ منه وقال: ما بقيت ألعبها، ثم إنه أخذ منها طائرين، وذبحهما، ولما رآهما مذبوحين، طار عقله، وقال: والله لا بد ما أحز رأسك هكذا، فتركه ومضى، فنزل المظفر وقال لخواصه: يا صبيان، متى دخل إلي هذا بضعوه بالسيوف، فسمع ذلك بعض الجمدارية، فخرج إلى الجيبغا، وقال له: لا تعد تدخل إليه، وعرفه الصورة، فخرج وعمل على مقتضى ذلك، وضاع ملكه وروحه منه لأجل الحمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وقلت أنا في ذلك: أيّها العاقل اللبيب تفكّر ... في المليك المظفّر الضّرغام كم تمادى في الغي والبغي حتى ... كان لعب الحمام جدّ الحمام اللقب والنسب الحارثي: شمس الدين عبد الرحمن بن مسعود. الحافي: الشيخ محمود بن طي. الحاكم: أمير المؤمنين أحمد بن الحسن. الحاكم بن المستكفي: أمير المؤمنين أحمد بن سليمان. ابن الحبال: محمد بن أحمد. ابن الحبوبي: إبراهيم بن علي. ابن حباسة: إبراهيم بن حباسة. ابن الحافظ: محمد بن داود، وصلاح الدين يوسف بن محمد. الحاضري: محمد بن منصور. حبيبة بنت عبد الرحمن زين الدين بن الإمام جمال الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الشيخة الصالحة المسندة أم عبد الرحمن، حضرت على الشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني، وخطيب مردا، وسمعت من إبراهيم بن خليل، وأجاز لها سبط السلفي، ومن بغداد إبراهيم بن أبي بكر الزعبي، وفضل الله بن عبد الرزاق وغيرهما. توفيت رحمها الله تعالى في خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وأجازت لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب عنا بإذنها عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي. حجاب شيخة رباط البغدادية. بضم الحاء المهملة، وتشديد الجيم وبعدها ألف وباء موحدة: الشيخة الصالحة الزاهدة، شيخة رباط البغدادية. كانت مشهورة بالصلاح والخير، وعندها لمن يزورها من النساء المروءة والمير، ملازمة هذا الرباط، قانعة بما هي فيه دائمة الاغتباط. لم تزل على حالها إلى أن حل رباط أجلها في الرباط، فلم يكن لها حركه، وعدم من ذلك المكان بفقدها الأنس والبركه. وتوفيت رحمها الله تعالى في المحرم سنة خمس وعشرين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 الألقاب والأنساب الحجار المسند أحمد بن نعمة بن حسن. حجازي بن أحمد بن حجازي صفي الدين الديرقطاني. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي في تاريخ الصعيد: كان كريماً كاتباً أديباً ناظماً لطيفاً. توفي ببلده رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة. وأورد له: قل للمطايا قد بلغت النّقا ... فهنّها يا صاح بالملتقى وخلّها ترعى عرار الحمى ... إن عرار الحيّ يجلو الشقا وقد تملّى باللقا عاشقٌ ... كان لطيف الملتقى شيّقا وقد محا الوصل حديث الجفا ... حتى كأنّ الهجر لن يخلقا قال: وكان يعجبه غناء البصيصة، وكانت تغني من شعره، فحضرت يوماً، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 ادخلي تدخلي علينا سروراً ... أنت والله نزهة العشاق لا تميلي إلى الخروج سريعاً ... تخرجي عن مكارم الأخلاق قلت: البيتان، فائقان رائقان، راقيان في درجة، إلا أنه يخاطب امرأة بقوله من أول ما يطرق سمعها: ادخل تدخلي هذا فيه ما فيه من العيب. اللقب والنسب ابن الحداد بدر الدين محمد بن عثمان. الحجازي الأمير سيف الدين ملكتمر. ابن حرز الله شهاب الدين أحمد بن أبي بكر. الحراني جماعة نفيس الدين إسماعيل بن محمد، ومجد الدين الحنبلي اسماعيل بن محمد. وابن الحراني ناظر الأوقاف محمد بن يحيى. الحربوني الطبيب عبد الله بن محمد. حرمي بن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي. القاضي مجد الدين وكيل بيت المال بالديار المصرية، ونائب قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ونائب قاضي القضاة جلال الدين القزويني. أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، قال: قرأ حرمي على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الشيخ علاء الدين الباجي الأصولي الأصولين، وقرأ على السيف البغدادي الموجز والإرشاد، وسمع من قاضي القضاة عبد الرحمن بن بنت الأعز قصيدة من نظمه، وحدث بها، وكان يدرس بقبة الشافعي. وحفظ الحاوي الصغير على كبر. وكان وكيل بيت الظاهر بيبرس، وبيت أيبك الخزندار، وبيت بكتمر الخزندار، وكان الناس يقولون: هو آدم أبو البشر. وكان شيخاً طويلاً رقيقا، صغير الذقن بالمكرمات خليقا. ذو مروة غزيره، وسجايا بالمحاسن شهيره، يمشي مع الناس لقضاء أشغالهم ويشفع بوجاهته لهم عند من فيه بلوغ آمالهم، حسن التوصل، لطيف التوسل، مع سكون زائد وإطراق إلى الخير قائد. ولم يزل على حاله إلى أن طرق حرم حرمي الموت، وحرم الفوز بالعيش من الفوت. ووفاته رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في يوم الأربعاء ثاني ذي الحجة. وكان يلقي الدروس من حفظه من التوسيط على كبر سنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الألقاب والأنساب الحرستاني: شرف الدين إسماعيل بن محمد. وبدر الدين عثمان بن عبد الصمد. ابن حريث: محمد بن محمد بن علي. الحريري: سيف الدين الفاضل أبو بكر. والحريري: قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عثمان. وابن الحريري: الشيخ حسن بن علي، وأخوه علي بن علي، وابن ابنه أحد الأخوين الحن والبن: علي بن محمد. وابن الحريري: فخر الدين محمد بن ناصر، وصفي الدين أحمد بن محمد بن عثمان. حسام بن عز بن ضرغام بن محمود بن درع مكين الدين القرشي المصري. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: كان المذكور غزولياً، جيد الأدب، أنشدنا لنفسه من قصيدة: حاز الجمال بصورة قمريةٍ ... تجلو عليك مشارق الأنوار وحوى الكمال بسيرة عمريةٍ ... تتلو عليك مناقب الأبرار وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 مسافرٌ سافرٌ عن بدر داجيةٍ ... تضيء من وجهه الظلماء والأفق قريب عهدٍ من البيت الحرام غدت ... تطوى بأيدي المطايا تحته الطرق لما زمزم رشحٌ من معاطفه ... وطيب طيبة من أردانه عبق قلت: مولده أظن سنة ثلاث وعشرين وست مئة. وهو شعر جيد. الألقاب والأنساب ابن الحسام: الشاعر عمر بن آقوس. وجمال الدين إبراهيم بن أبي الغيث. حسب الله الشيخ جمال الدين الحنبلي، مدرس المنكوتمرية. كان رجلاً فاضلاً صالحاً. توفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشر شهر ربيع الآخر، سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة. الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل ابن قاضي تاج الدين أبي المفاخر الرازي ثم الرومي الحنفي. كان مجموع الفضائل، عرياً من الرذائل، كثير المكارم، عفيفاً عن المحارم، ظاهر الرئاسة حرياً بالسياسه، ملياً بالنفاسه، يتقرب إلى الناس بالود، ويتجنب الخصماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 اللد، فيه مروءة وحشمه، وبينه وبين المفاخر قرابة ولحمه. وله نظم وعنده أدب، ورغبة في إذاعة الخير واجتهاد وطلب. ولد بأقصرا سنة إحدى وثلاثين وست مئة. وولي قضاء ملطية أكثر من عشرين سنة، ثم نزح إلى الشام سنة خمس وسبعين وست مئة خوفاً من التتار، وأقام بدمشق وولي قضاءها سنة سبع وتسعين وست مئة بعد القاضي صدر الدين سليمان؛ وامتدت أيامه إلى أن تسلطن حسام الدين لاجين، وولى ابنه جلال الدين مكانه بدمشق؛ وبقي معظماً وافر الحرمة إلى أن قتل لاجين وهو عنده، فلما ضربوا السلطان بالسيف استغاث، وقال: ما يحل. فأشاروا إليه بالسيوف، فاختبأ هناك، واشتغلوا عنه بالسلطان. ولما زالت دولة لاجين، قدم إلى دمشق على مناصبه وقضائه، وعزل ولده، ولم يزل على حاله إلى أن خرج إلى الغزاة، وشهد المصاف بوادي الخزندار في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة، وكان ذلك آخر العهد به. فأصابت الرزية الرازي وكان في غنية عن مرآه الملاحم والمغازي. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: والأصح أنه لم يقتل بالغزاة، وصح مروره مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 المنهزمين بناحية جبل الجرديين، وأنه أسر وبيع للفرنج، وأدخل إلى قبرس هو وجمال الدين المطروحي. وقيل: إنه تعاطى الطب والعلاج، وإنه جلس يطبب بقبرس، وهو في الأسر، لكن ذلك لم يثبت، والله أعلم. قلت: ولما كنت بدمشق سنة خمس وثلاثين وسبع مئة؛ جاء الخبر إلى ولده القاضي جلال الدين على ما شاع بدمشق أن والده القاضي حسام الدين حي يرزق بقبرس، وأنه يريد الحضور إلى الشام، ويطلب ما يفك به من الأسر، ثم إن القضية سكنت، وهذا بعيد لأنه يكون عمره إلى ذلك الوقت مئة وأربع سنين؛ وقلت بناءً على صحة هذه الدعوى: إنّ حال الرازي بين الرزايا ... حالةٌ لم نجد عليها مثالا كان قاضي القضاة مصراً وشاماً ... ثم في قبرسٍ غدا كحّالا الله أكرم وأرحم من أن يمشي أحد من أهل العلم الشريف إلى ورا، أو أن يرد في آخر عمره القهقرى. الحسن بن أحمد بن زفر الحكيم عز الدين الإربلي. سمع ابن الخلال والموازيني وخلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قال الشيخ شمس الدين الذهبي: كان مظلماً في دينه ونحلته، متفلسفاً، صادقاً في نقله، حصل إثبات سماعاته، وألف كتباً وتواريخ، منها السيرة في مجلدين، وسمع معنا كثيراً. قلت: وخطه معروف بين الفضلاء، ومجاميعه غالبها تراجم شعراء وتواريخ ووفيات؛ ويعرف بالعز الإربلي الطبيب، وعبث في مجاميعه برئيس الطب أمين الدين سليمان؛ كما عبث ركن الدين الوهراني بالمهذب النقاش في صورة المنام الذي صنعه، ورماه بأشياء من الخسة والبخل، وبأشياء من الزغل، وعمل الكيمياء، وبأشياء من المطالب؛ وأنه انتقى منها جملة. إلا أن في تعاليقه فوائد أدبية وغيرها وتراجم غريبة وغير ذلك يدل على أنه كان فاضلاً. ولم يزل على حاله إلى أن بلي الإربلي، وفرغ جراب عمره الممتلي. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة. الحسن بن أحمد بن المظفر الشيخ الفاضل الكبير المعمر شرف الدين أبو علي بن الشيخ كمال الدين بن الخطيري الصوفي، بخانقاه خاتون ظاهر دمشق. كان شيخاً حسناً عنده فضل وله نظر، وكتب المنسوب، ونسخ بخطه كتباً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وسمع صحيح مسلم من الرضي بن البرهان الواسطي بدمشق سنة خمس وخمسين وست مئة، وسمع من ابن عبد الدائم، وحدث وأخذ الطلبة عنه. وتوفي في سابع عشر شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة بمدينة كنبايت بالهند. حسن بن أرتنا الأمير بدر الدين الشيخ حسن بن النوين الحاكم بالروم، تقدم ذكر والده في مكانه. كان هذا الشيخ حسن المذكور ذا حسن باهر، وجمال ظاهر، يفتن من يراه، ويسبح من خلقه وبراه، لأنه كان حسنه بديعا، ومن يشاهده صديعا، بوجه كأنه القمر إذا بزغ، وجفن بسحره نفث الشيطان ونزغ، وشكله تام القامه، كامل الهامه. مرض في سيواس فانكسفت شمسه وأودع جوهر شخصه رمسه. سمع به الأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب، وأنه وصل إلى بهسنى، لأنه كان قد أرسله أبوه إلى الشيخ حسن الكبير ببغداد، فكتب إلى نائب بهسنى بطلبه، فحضر إليه إلى حلب، فأعجبه شكله وبهت لحسنه، فخلع عليه خلعة سنية، وأعاده إلى والده؛ وكان والده قد خطب له ابنة صاحب ماردين الملك الصالح شمس الدين، فأجابه إلى ذلك وجهزها إليه، وما أظنه دخل بها، بل مرض في سيواس، وكان والده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 في قيصرية، فتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكتب أبوه إلى صاحب ماردين؛ يقول له: إن لي ابناً آخر يصلح لزواجها، وأعطاها مدينة خرتبرت. حسن بن أقبغا بن إيلكان بعد الهمزة ياء، آخر الحروف ساكنة ولام وكاف وألف بعدها نون: النوين الكبير الشيخ حسن بك الكبير الحاكم ببغداد والعراق، أبعد في أيام بوسعيد، وكان الناس في داخل حرمه، وهو بالوصيد، وجرت له حروب، وخطبته من الأيام خطوب، وكربت له منه كروب، ومرت به من المحن أنواع وضروب، ووجد بعد بوسعيد شدائد، وتلقى ضربات النكبات حدائد؛ وكافح طغاي بن سوتاي، وإبراهيم شاه وأولاد تمرتاش وغيرهم؛ وأقر له النصرة عليهم، وأطار طيرهم، وناصح المسلمين وما داجى، وصرح بالمحبة وما حاجى. ولم تزل كتب ملوك مصر تفد إليه بالمبرات، وترد عليه بالمسرات، وتجهز له التشاريف، ويعظم في العنوانات والتعاريف، ورسله هو ما تنقطع ولا قصاده، وزراع وده المنجب وحصاده. ولم يزل على حاله إلى أن ورد الخبر بوفاته في شعبان سنة سبع وخمسين وسبع مئة. وجلس ولده الشيخ سيف الدين أويس مكانه في الحكم على بغداد. وهذا الشيخ حسن الكبير إنما عرف بهذا فرقاً بينه وبين الشيخ حسن بن تمرتاش، وسيأتي ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وكان الشيخ حسن الكبير أولاً زوج الخاتون بغداد بنت جوبان، فلم يزل به بوسعيد القان إلى أن أخذها منه بعدما أتت من الشيخ حسن بابنه الأمير إيلكان، ولم يزل الشيخ حسن مبعداً إلى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى، فملك بغداد ونزل بها، وأقام فيها، وجرت له مع المذكورين حروب كثيرة ونصره الله عليهم، ولم يزل مروعاً من أولاد تمرتاش وهو المنصور، ثم إنه تزوج الخاتون دلشاذ بنت دمشق خواجا بن جوبان الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه. وجرى في أيامه ببغداد الغلاء العظيم، حتى أبيع الخبز على ما قيل بصنج الدراهم، ونزح الناس عن بغداد؛ وعدم منها حتى الورق، وكان يجلب منها إلى الشام ومصر وغيرهما، ولما أظهر العدل وأمن الناس تراجع الناس إليها وذلك سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وفي أوائل سنة تسع وأربعين وسبع مئة توجه إلى ششتر ليأخذ من أهلها قطيعة كان قد قررها عليهم، فلما أخذها وعاد وجد نوابه في بغداد قد وجدوا في رواق العزيز ببغداد ثلاث جباب نحاساً مثل جباب الهريسة، طول كل جب ما يقارب الذراعين والنصف، وهي مملوءة ذهباً مصرياً وصورياً ويوسفياً، وفي بعضه سكة الإمام الناصر، وكان زنة ذلك أربعة آلاف رطل بالبغدادي، يكون ذلك مثاقيل خمس مئة ألف مثقال. الحسن بن تمرتاش بن جوبان المعروف بالشيخ حسن، تقدم ذكر والده وجده في مكانهما. كان هذا الشيخ حسن داهية ولم يكن ذاهبه، بعيد الغوص في الفكر والغور، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 مخادعاً، لا جرم أن أمست أيامه ذاهبه، ويشتغل بحيل ما تحكى عن البطال، ويفكر ذب خدع سحابه منه هطال، وكان يدخل إلى الحمام ويخلو بنفسه فيها اليوم واليومين والثلاث، وهو يفكر فيما يرتبه من المكر والاجتهاد والاكتراث، وقيل إنه مرة شرب دماً وقاءه، ليرتب على ذلك حيلا، وينال بها ممن يريد مقصوداً وأملا، وزاد بطشه، وصح في الحيل نقشه، وأفنى جماعة من كبار المغول، واغتالهم من فتكه غول، وشوش على المسلمين، قتل أهل تلك البلاد، وأضجر قومه من الإغارات والجلاد. ولم يزل على حاله إلى أن قيل: إنه تهدد زوجته مرة فخبأت عندها خمسة من المغل فأصبح مخنوقا، وأظهر أنه وجد مشنوقا، فوضع في تابوت ودفن بتربته التي أنشأها بتوريز، وراح كما راح أمس الدابر، ودخل في زمرة من دخل في الزمن الغابر، ولم ينتطح في أمره عنزان ولا اختلفت فيها مقادير ولا أوزان، وكفى الله المسلمين منه شراً كبيراً، " وكان الله على كلِّ شيء قديراً ". وجاء الخبر بوفاته في شهر رجب سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وكان يقول أولاً: ما يمنعني من دخول الشام ودوسه إلا هذا تنكز، وقد حصلت له إحدى عشرة حيلة إن لم يرح بهذه وإلا راح بهذه! فما كان إلا أن جاء رسوله القاضي تاج الدين قاضي شيراز، وتوجه إلى السلطان الملك الناصر محمد، وكان مما قاله: إن تنكز طلب الحضور إلى عندي، فاستوحش السلطان من تنكز رحمه الله تعالى وتغير عليه، وكان السبب في ذلك هذا الكلام، والله أعلم، ولما أمسك تنكز، قال: والله أنا كنت أعتقد أن قلع هذا تنكز صعب، وقد راح الآن بأهون حيلة، وعند الله تجتمع الخصوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الحسن بن رمضان الإمام العالم الفاضل القاضي حسام الدين القرمي الشافعي، أبو محمد قاضي القضاة بصفد وطرابلس، ابن الشيخ الإمام العالم الخطيب معين الدين أبي الحسن. كان فاضلاً ذكيا، واضح المحيا بهيا، حسن الوجه مديد القامه، ترف الجسم عليه وسامه، بسام الثغر ضحوكا، جميل المنظر كأنما ألبس وشياً محوكا، جيد البحث والنظر، شديد الإصابة إذا فكر وادكر. يعرف العربية وغوامض مسائلها، والأصول ومآخذ وجوهها وتقرب وسائلها. ولم يزل إلى أن حسم الحسام، ووقع في أشراك المنية وحبائلها الجسام. وتوفي رحمه الله تعالى في طرابلس في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبع مئة. وكان قد قدم إلى صفد على قضاء القضاة بها إلى أيام الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، وأقام بها مدة وهو فقير لا يملك شيئاً، ثم إنه ثور نعمة موفورة واقتنى أملاكاً، ونقل إلى قضاء القضاة بطرابلس في ذي القعدة سنة ست عشرة وسبع مئة، فأقام بها مدة، وبنى حماماً عجيباً في طرابلس، وهو بها مشهور، وغير ذلك من الأملاك. وكان قد طلب إلى مصر على البريد في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، فأقبل السلطان عليه وزاده وأعاده، ثم إنه عزل ووصل إلى دمشق وأقام بها وأقبل على شأنه، وولي تدريس الرباط الناصري بالجبل، وعكف على الاشتغال وسماع الحديث وعلومه، ولم يزل على خير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 اجتمعت به غير مرة، وجرت بيني وبينه مباحث في العربية وغيرها، وكان ذهنه في غاية الجودة والصحة. ولما كان في صفد وقع بينه وبين شيخنا نجم الدين بن الكمال خطيب صفد منازعة في مسألة إعراب، وأخذه بها في خطبته، وأصر الشيخ نجم الدين على مخالفته، وكتب إليه رسالة نظماً ونثراً افتتحها بقول بعض المغاربة: نحنح زيدٌ وسعل ... لمّا رأى وقع الأسل وكان الشيخ نجم الدين يقول في الخطبة الثانية عند الترضي على الخلفاء الراشدين: المكنى بأبي بكر الصديق وأبي حفص وأبي عمرو، ولا ينون بكراً ولا حفصاً ولا عمراً، وهو وجه في أبي بكر حسن وفيما بعده ضعيف. الحسن بن عبد الرحمن القاضي الصدر سعد الدين بن الأقفهسي، بهمزة وقاف ساكنة، وفاء مفتوحة، وهاء بعدها سين مهملة، والناس يقولون: الأقفاصي. كان ناظر الخزانة بالديار المصرية؛ وله مكانة عند السلطان والدولة؛ وقدم دمشق، وسمع الحديث بقراءة الشيخ علم الدين البرزالي، وعاد إلى القاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى في آواخر ذي الحجة، سنة خمس عشرة وسبع مئة، وتولى عوضه الصاحب ضياء الدين النشائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الحسن بن شرفشاه هو الإمام العلامة السيد ركن الدين أبو محمد العلوي الحسيني الأستراباذي، عالم الموصل، ومدرس الشافعية، وهو من كبار تلاميذ نصير الدين الطوسي. وكان السيد ركن الدين معظماً عند التتار، مبجلاً في تلك الديار، وافر الجلاله، وافي البساله، له على التتار إدرارات، وفي معاملاتهم وجهاتهم قرارات، بحيث إنها تبلغ في الشهر ألفاً وخمس مئة درهم، هذا مع الوجاهه، والتلقي بالرضا لا بالكراهه. وكان فاضلاً مصنفا، كاملاً في علومه للأسماع مشنفا، يبحث ويدقق، ويغوص على المعاني ويحقق، يواخد الحدود والرسوم، ويشامخ في الألفاظ وموضوعاتها بين أهل الفهوم، ويمزج المنقولات بالمعقولات، ويرد المطلقات إلى المعقولات، فلذلك جاءت تصانيفه فجادت، وعاجت عن طريق الخمول وحادت، واشتهرت بين الفضلاء الأكابر، وشركتها ألسن الأقلام في أفواه المحابر. ولم يزل على حاله إلى أن هدم الموت ركنه، ورماه بعد الفصاحة باللكنه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مئة؛ وله سبعون سنة. وكان يوصف بحلم زائد وتواضع كثير بحيث إنه كان يقوم للسقاء إذا دخل داره. وتخرج به جماعة من الأفاضل، إلا أنه كان لا يحفظ القرآن على ما قيل، وصنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح مقدمتي ابن الحاجب، وشرح الحاوي في المذهب شرحين. الحسن بن عبد الرحمن بن عمر بن الحسن ابن علي بن إبراهيم بن محمد بن مرام التيمي الأرمنتي الشافعي وأرمنت، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الميم وسكون النون وبعدها تاء ثالثة الحروف. كان حسن الأخلاق، يجود في السعد والإملاق، خير كريم، لا يرحل عن مغنى الجود ولا يريم، تولى قضاء أرمنت، فما أتى قضيةً إلا وقيل له: أحسنت. ولم يزل على حاله إلى أن تجرع كأس فقده، وانحل نظام عقده. وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة ست وثلاثين وسبع مئة؛ وحمل إلى أرمنت، ودفن بها. ومولده سنة سبع وثمانين وست مئة بأرمنت. قال كمال الدين جعفر الأدفوي: ولما مررت بأرمنت زرت قبره بظاهرها، ولم أدخل البلد، وقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أتينا إلى أرمنت فانهلّ وابلٌ ... من الدّمع أجراه الكآبة والحزن وجاوزتها كرهاً وأيّ إقامة ... بمغنىً رعاه الله ليس به حسن فتىً كان يلقاها ببشرٍ وراحةٍ ... ولم نخش منه لا ملالاً ولا منن ومن شعر قاضي أرمنت المذكور: بكفّك الثقتان الخُبر والخَبر ... بأنّك البغيتان السول والوطر وفيك أثبتت الدعوى بيّيّنةٍ ... أقامها الشاهدان العين والأثر يمنك يمنٌ فكم ذا قد حوت ملحا ... يحار في وصفها الألباب والفكر ندىً وليناً وتقبيلاً فواعجباً ... أمزنةٌ أم حريرٌ أم هي الحجر قلت: شعر قاض. أبو الحسن بن عبد الله ابن الشيخ غانم بن علي بن إبراهيم النابلسي: الشيخ الفاضل السيد القدوة. كان رجلاً صالحاً فاضلا، عاملاً بما يعلمه من أمر دينه عاقلا، غافلاً عما عنده غيره راحلا، راجلاً في أمر آخرته، فارساً في تحصيل ما ينفعه في ساهرته، كثير السكون، والميل إلى أهل الصلاك والركون، بادي التقشف، ظاهر الحال، زائد التكشف، حسن المحاضره لطيف المذاكره، كثير الاتضاع غزير الانطباع، له شعر لطيف، وكلام في الطريقة ظريف، وفكر لا يجيد به عن الصواب ولا يحيف، وله تطلع وافر إلى علم الفروع ومسائل الفقه التي تروق ولا تروع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ولم يزل على حاله إلى أن انفرد عن ذويه قهرا، وأودع بالرغم منهم قبرا. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة سبع وسبع مئة. ومولده بنابلس سنة أربع وأربعين وست مئة. ودفن بالصالحية في التربة المعروفة بالشيخ عبد الله الأرموي، وكان قد سمع من ابن عبد الدائم وعمر الكرماني. الحسن بن عبد الكريم بن عبد السلام ابن فتح الغماري المغربي ثم المصري الشيخ الإمام العالم المقرىء المجود الصالح المعمر، بقية المسندين أبو محمد المالكي الملقن المؤدب سبط زيادة بن عمران. كان تلا بالروايات على أصحاب أبي الجود؛ وسمع من أبي القاسم بن عيسى جملةً صالحة، وكان آخر من حدث عنه. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: بل ما روى لنا عنه سواه. وكان عنده التيسير والتذكرة والعنوان في القراءات وكتاب المحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الفاصل للرامهرمزي، وكتاب الناسخ والمنسوخ لأبي داود، وعده أجزاء وسمع الشاطبيتين من أبي عبد الله القرطبي تلميذ الشاطبي، وتفرد بمروياته. وروى عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والعلامة أبو حيان، والحافظ فتح الدين بن سيد الناس والوافي وابن الفخر. وكان شيخاً متواضعا، مزجياً لأوقاته مدافعا، طيب الأخلاق، يمرح فيما ارتداه من الجديد والأخلاق. ولم يزل على حاله إلى أن نقص سبط زياده، وعدم الناس من الرواية والإفاده. وتوفي رحمه الله تعالى بمصر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة. الحسن بن علي الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين، أبو علي بن عضد الدولة الحسن أخي المتوكل على الله ملك الأندلس أبي عبد الله محمد ابني يوسف بن هود. كان الشيخ فاصلاً قد تفنن، وزاهداً قد تسنن، وعاقلاً استغرق فراح غافلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 تجنن، عنده من علوم الأوائل فنون، وله طلبة وتلاميذ وأصحاب وزبون، فيه انجماع عن الناس وانقباض، وانفراد وإعراض عما في هذه من الأعراض. وكان لفكرته غائباً عن وجوده، ذاهلاً عن بخله وجوده، لا يبالي بما ملك، ولا يدري أيةً سلك، قد اطرح الحشمه، وذهل عما ينعم جسمه، ونسي ما كان فيه من النعمه، يلبس قبع لباد ينزل على عينيه، ويغطي به حاجبيه، ويواري جسده بما يقيه، ولا يحذر برداً ولا حراً، ولا يتقيه. وكان يمشي في الجامع الأموي وسبابته قد رفعها، وينظر في وجوه الناس كأنهم ذروة ما فرعها. ولم يزل على حاله إلى أن برق بصره، وألجمه عيه وحصره. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة، وصلى عليه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده بمرسية سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. وكانت وفاته في شعبان. أخبرني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: رأيته بمكة وجالسته، وكان يظهر منه الحضور مع من يكلمه، ثم تظهر الغيبة منه، وكان يلبس نوعاً من الثياب، مما لم يعهد لبس مثله بهذه البلاد، وكان يذكر أنه يعرف شيئاً من علوم الأوائل. وكان له شعر أنشدنا له أبو الحكم بن هاني صاحبنا، قال: أنشدنا أبو علي الحسن بن عضد الدولة لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 خضت الدّجنّة حتى لاح لي قبسٌ ... وبان بان الحمى من ذلك القبس فقلت للقوم: هذا الربع ربعهم ... وقلت للسمع: لا تخلو من الحرس وقلت للعين: غضيّ عن محاسنهم ... وقلت للنطق: هذا موضع الخرس وقال الشيخ شمس الدين الذهبي: هو الشيخ الزاهد الكبير أبو علي بن هود المرسي أحد الكبار في التصوف على طريقة الوحدة، وكان أبوه نائب السلطنة بها عن الخليفة الملقب بالمتوكل؛ حصل له زهد مفرط وفراغ عن الدنيا، وسكرة عن ذاته وغفلة عن نفسه، فسافر وترك الحشمة، وصحب ابن سبعين، واشتغل بالطب والحكمة، وزهديات الصوفة، وخلط هذا بهذا وحج ودخل اليمن، وقدم الشام. وكان غارقاً في الفكر عديم اللذة، مواصل الأحزان، فيه انقباض عن الناس، حمل مرة إلى والي البلد وهو سكران، أخذوه من حارة اليهود فأحسن الوالي به الظن وسرحه، سقاه اليهود خبثاً منهم ليغضوا منه. قلت: لأن اليهود نالهم منه أذى، وأسلم على يده منهم جماعة، منهم سعيد وبركات. وكان الشيخ يحب الكوارع المغمومة فدعوه إلى بيت واحد منهم وقدموا له ذلك فأكل منه، ثم غاب ذهولاً، على عادته، فأحضروا الخمر فلم ينكر حضورها وأداروها، ثم ناولوه منها قدحاً فاستعمله تشبهاً بهم، فلما سكر أخرجوه على تلك الحالة، وبلغ الخبر إلى الوالي، فركب وحضر إليه وأردفه خلفه، وبقي الناس خلفه يتعجبون من أمره، وهو يقول لهم بعد كر فترة: أي وأيش قد جرى، ابن هود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 شرب العقار، يعقد القاف كاملاً في كلامه، وفي ذاك يقول علاء الدين علي الوادعي ونقلت ذلك من خطه: قالوا ابن هودٍ قد غدا ... سكران من خمر المعازف وأعيذه لكنّه ... سكران من خمر المعارف وكان اليهود يشتغلون عليه في كتاب الدلالة، وهو مصنف في أصول دينهم للرئيس موسى. قال الشيخ شمس الدين الذهبي، قال شيخنا عماد الدين الواسطي: أتيته وقلت له: أريد أن تسلكني، فقال: من أي الطرق: الموسوية أو العيسوية أو المحمدية؟ وكان إذا طلعت الشمس ويصلب على وجهه، وصحبه الشيخ العفيف عمران الطبيب وسعيد المغربي وغير واحد من هؤلاء. قلت: الذي بلغني عنه ما أخبرني به شيخنا نجم الدين الخطيب الصفدي. قال: كان بعض الأيام يقول لتلميذه سعيد: يا سعيد أرني فاعل النهار، فيأخذ بيده ويطلع به إلى سطح، فيقف باهتاً إلى الشمس نصف نهار. وكان يوضع في يده الجمر فيقبض عليه ذهولاً عنه فإذا أحرقه رجع إليه حسه، فألقاه من يده، وكان تحفر له الحفر في طريقه فيقع فيها ذهولاً عنها وغيبة. ومن شعره: فؤادي من محبوب قلبي لا يخلو ... وسرّي على فكري محاسنه تجلو ألا يا حبيب القلب يا من بذكره ... على ظاهري من باطني شاهدٌ عدل تجلّيت لي منّي عليّ فأصبحت ... صفاتي تنادي: ما لمحبوبنا مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 أورّي بذكر الجزع عنه وبانه ... ولا البان مطلوبي ولا قصدي الرمل وأذكر سعدى في حديثي مغالطاً ... بليلى ولا ليلى مرادي ولا جمل سوى معشرٍ حلّو النظام وفرّقوا الث ... ياب فلا فرضٌ عليهم ولا نفل مجانين إلاّ أنّ ذلّ جنونهم ... عزيز على أعتابهم العقل ومن شعره أيضاً: سلامٌ عليكم صدّق الخبر الخبر ... فلم يبق قال القسّ أو حدّث الحبر خذوا خبري عنّي بقيت مشاهدا ... ذروا ما يقول الغرّ أو يفهم الغمر خذوا عن غريب الدار كلّ غريبةٍ ... وحقّكم من دونها حُجر الحِجر عليك سلام الله يا خير قادم ... على خير مقدوم عليه لك البِشر عليك سلام اسلم وقيت الرّدى فدم ... على غابر الأيام لا خانك الدهر أتيتكم مستقضياً دين وعدكم ... فمن قولهم عند القضا يعرف الحرّ اذكّركم عهداً لنا طال عهده ... وقولكم صبراً وقد فني الصبر فلا تحسبوا أني نسيت عهودكم ... فإني وحقّ الله عبدكم الحرّ أأنسى عهوداً بالحمى طاب ذكرها ... ومثلي وفيٌّ لا يليق به العذر تحييّك عنّا الشمس ما أشرقت ضحا ... يحيّيك عنا ما تبدّى لك البدر تحيّيك عنا كلّما ذرّ شارق ... يحيّيك عنّا من غمائمه القطر تحيّيك عنا الريح بالروح قد بدت ... يحيّيك عنا من منابته الزّهر ألا فاعجبوا من أمرنا إنه امروٌ ... ألا فاعجبوا للقلّ من بعضه الكثر ومنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 علم قومي بي جهل ... إنّ شأني لأجلّ أنا عبد أنا ربّ ... أنا عزٌّ أنا ذلّ أنا دنيا أنا أخرى ... أنا بعضٌ أنا كلّ أنا معشوق لذاتي ... لست عني الدهر أسلو فوق عشرٍ دون تسع ... بين خمسٍ لي محلّ حسن بن علي بن محمد الأمير عماد الدين بن النشابي، والي دمشق. كان ناهضاً كافيا، خبيراً بأدواء الولايات شافيا، له معرفة بسياسات البلد، وعنده على مكابدة أهوالها صبر وجلد. كان أولاً صائغا، وتجرع الذل سائغا؛ ثم إنه خدم جندياً وتولى في البر، وصبر على ما في ذلك من الخير والشر، وتقلب به الدهر، وقفز إلى البحر من النهر، ثم تولى بر دمشق مده، وقام لها بما تحتاج إليه من عدة وعده، ثم تولى المدينه، وجعل موعده يوم الزينه، ثم أعطي طبلخاناه، وصارت مباعدة السعادة منه مداناه. ولم يزل على حاله إلى أن غص بها الحلقوم، وفرغ أجل الكتاب المرقوم. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة بالبقاع، وحمل إلى دمشق، ودفن بتربته بقاسيون وكان من أبناء الخمسين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وكان قد تولى مدينة دمشق في أول دولة الناصر محمد في صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة عوضاً عن الأمير عز الدين بن أبي الهيجاء. حسن بن علي الصدر الرئيس الأصيل عزيز الدين أو محمد بن العدل شرف الدين ابن القاضي عزيز الدين محمد ابن القاضي العلامة عماد الدين محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله القرشي الأصبهاني المعروف جد والده بالعماد الكاتب. أوصى أن يفرق على الجماعة الذين يحضرون دفنه حلوى صابونية على برزق، ففعل ذلك، وأكل منه الأغنياء والفقراء. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وكان جيداً مشكور السيرة، عارفاً بصناعة الكتابة مبرزاً فيها، خدم في عدة جهات منها عمالة الخزانة، ثم نقل منها إلى استيفاء الخزانة. وكان يتلو القرآن دائماً، وحج وجاور سنة، وسمع من ابن عبد الدائم، والخطيب عماد الدين بن الحرستاني والزين خالد النابلسي الحافظ، وابن أبي اليسر، ويوسف بن مكتوم وغيرهم، وشيوخه أكثر من خمسين. وله إجازة من الصدر البكري، وإبراهيم بن خليل وابن السروري، وجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قال شيخنا علم الدين البرزالي: خرجت له جزءاً عوال شيوخه، وجزأين آخرين بالسماع والإجازة. حسن بن علي بن عيسى بن الحسن الإمام المحدث شرف الدين اللخمي المصري المعروف بابن الصيرفي، شيخ الحديث بالفارقانية. كان فقيهاً معيدا، محدثاً مفيدا، خيراً صدوقا، مكباً على الرواية صبوحاً وغبوقا، حسن الأخلاق متواضعا، ساكناً خالياً من الشر وادعا، مليح الشيبه، ظاهر الهيبه. سمع من عبد الوهاب بن رواج، وأبي الحسن بن الجميزي، ويوسف الساوي، وفخر القضاة ابن الحباب، والمؤتمن بن قميرة والزكي عبد العظيم، والرشيد العطار، وسمع بالإسكندرية من سبط السلفي وجماعة. قال الشيخ شمس الدين: سمعت منه. ولم يزل على حاله إلى أن رئي ابن الصيرفي وقد تبهرج، ودخل في قبره وتدحرج. وتوفي رحمه الله تعالى: سنة تسع وتسعين وست مئة، وهو من أبناء الثمانين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 حسن بن علي بن أبي بكر بن يونس بدر الدين أبو علي الأمين الأنصاري الدمشقي القلانسي بن الخلال، بالخاء المعجمة وتشديد اللام. كان أحد المكثرين، اعتنى بأمره خال أمه المحدث ابن الجوهري. روى شيئاً كثيراً بدمشق وحلب ومصر، وكان يخرج أميناً على القرى، وله فهم وعنده فضل ما. سمع من ابن اللتي، وابن المقير، ومكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وجعفر الهمداني، وكريمة الزبيرية، وسالم بن صصرى، وخلق كثير. وحضر ابن غسان والإربلي. وأجاز له ابن روزبة، والسهروردي وأبو الوفاء بن منده. وله إثبات في ستة أجزاء. وروى عنه المزي وابن تيمية، وابن البرزالي، وغيرهم. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة، ومولده في صفر سنة تسع وعشرين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الحسن بن علي بن أبي الحسن بن منصورالشيخ الصالح الزاهد، بقية المشايخ ابن الشيخ علي الحريري. كان شيخ الطائفة وزعيمهم وساقيهم ونديمهم، مليح الشيبة نقيها، يعرف الأحوال ورقيها، حسن الخلق، محبوباً إلى الخلق، له مكانة عند الأكابر، وحرمة عند أولي السيوف والمحابر، وربما يأتي بكرامات، ويظهر بأحوال للعقل فيها غرامات. قدم إلى دمشق مرات، ورأى فيها أوقات مسرات، وكان مقامه في قريته بسر، ويكابد فيها العسر بعد اليسر. ولم يزل على حاله إلى أن أدرج الحريري في قطن أكفانه، وأصبح والتراب ملء أجفانه. ووفاته رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة. الحسن بن علي الشيخ الإمام الفقيه الصالح الناسك الأسواني أخو الشيخ الإمام نجم الدين الحسين. كان يؤم بالمدينة الشريفه، ويشاهد أنوارها المنيفه، حج فرضه وجاء إليها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وأقبل بجمعه عليها، فأقام بها ثماني عشرة سنة ملتزماً أن لا يخرج من بابها ولا يشتغل بشيء من أسبابها. وكان يشغل بالحرم الشريف في الفقه، إلى أن حلت أسواء الموت بالأسواني، وانتقل إلى السعد الباقي بعد الذل الفاني. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. الحسن بن علي بن محمود الأمير الكبير بدر الدين أخو الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماة. كان له إقطاع كبير بحماه، ونعمة جليلة قد تغشت حماه، وأموال كاثرت النجوم، وكابرت أنواء الغيوم، مع ما عنده من النظر في العلوم، والمشاركة في الفضل لذوي الألباب والفهوم، وهو كان أكبر من أخيه، وإنما تقدم لأنه خدم الناصر لما كان في الكرك ولم يلو الأمير بدر الدين عليه، فقدمه وجعله صاحب حماة. وصلي عليه غائباً بدمشق، في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة. الحسن بن علي بن محمد بن عدنان بن شجاع الشيخ الإمام بدر الدين الحراني المعروف بابن المحدث المجود الكاتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 كان قد كتب على الشيخ نجم الدين بن البصيص، فيقال: إنه ما ظهر من تلاميذه في حسن الكتابة مثل بدر الدين المذكور، ومثل الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني. كان أديباً فاضلاً في فنه عجيباً، ينظم وينثر، ويجري في جلبة البلاغة ولا يعثر، كتب عليه من أهل دمشق جماعة كثيرون، يحركون نوافج الثناء عليه ويثيرون، وكان قد أخمل نفسه بالتعليم، ورضي من الدهر بالتسليم، فعز بالقناعه، وشرف نفسه عن التجشم والرقاعه، ولم يذل نفسه على أحد بالترداد، ولا دخل مع أبناء الدنيا في جملة الأعداد، على أنه له ملك يدخله منه كفايته، ويصل إليه من التجويد ما هو نهايته، وكان إذا كتب كبت، وعثرت الرياح من خلفه وكبت، وأراك بأقلامه الروض، إذا نبت، والسيوف إذا كلت عن مضارب مداه ونبت. ولم يزل على حاله إلى أن رمي ابن المحدث من الحين بحادثه، وحكم في تركته أيدي وارثه. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة رابع ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. كان الملك الأوحد يصحبه، فتحدث له مع الأفرم أن يدخل ديوان الإنشاء فرسم له بذلك، فأبى الشيخ بدر الدين ذلك، فلامه الأوحد على ترك ذلك. فقال: أنا إذا دخلت بين الموقعين ما يرتب لي أكثر من خمسة دراهم كل يوم، وما يجلسونني فوق أحد من بني فضل الله، ولا فوق بني القلانسي، ولا فوق بني غانم، فما أكون إلا دون هؤلاء، ولو تكلمت قالوا: أبصر المصفعة، واحد كان فقيه كتاب، قال يريد يقعد فوق السادة الموقعين، وإذا جاء سفر ما يخرجون غيري، فإن تكلمت قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 أبصر المصفعة، يحتشم عن السفر في خدمة ركاب مولانا أمير الأمراء، وهذا أنا كل يوم يحصل لي من التكتيب الثلاثون درهماً والأكثر والأقل، وأنا كبير هذه الصناعة، وأتحكم في أولاد الرؤساء والأكابر ونظم في ذلك: لائمي في صناعتي مستخّفاً ... بي إذا كنت للعلى مستحقّاً ما غزالٌ يقبّل الكفّ منّي ... بعد برّي ولم يضع لي حقّا مثل تيسٍ أبوس منه يداً قد ... صفرت من ندى لأسأل رزقا فيولّي عني ويلوي عن ردّ ... سلامي ويزدريني حقّا فاقتصد واقتصر عليها فما عن ... د إله السماء خيرٌ وأبقى وقال أيضاً: غدوت بتعليم الصغار مؤمّراً ... وحولي من الغلمان ذو الأصل والفصل يقبّل كفي منهم كلّ ساعة ... ويعطونني شيئاً أعمّ به أهلي وذاك بأن أسعى إلى باب جاهلٍ ... أقبّل كفّيه أحبّ إلى مثلي أميرٌ إذا ميّزت لكن بلا حجىً ... وكم قد رأينا من أمير بلا عقل قلت: نظم عجيب التركيب، والأول جيد وفيه لحنة، لكنها خفية. وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن بادي الطيبي، قال: أنشدنا من لفظه لنفسه بدر الدين بن المحدث: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 كن عاذراً شاتم المؤدب إذ ... يأخذ من عرضه ويشتمه لأنه ناكه على صغرٍ ... ومن ينيك الصغير يظلمه وكلّ فلسٍ حواه يأخذه ... وكلّ وقت بالضّرب يؤلمه نيكٌ وأخذٌ والضرب بعدهما ... والحقد إحدى الثلاث يضرمه قلت: ما جزم الشرط، ولا جوابه في الثاني، ويمكن توجيه إعرابه. ومن شعره أيضاً: بقل هو الله أحد ... أُعيذ خدّاً قد وقد وناظراً وسنانه ... عليه طرفي ما رقد أقول لما زارني ... أنجز حرٌّ ما وعد من كاسه وخدّه ... تخال ورداً قد ورد من حمل ثقل ردفه ... ما قام إلاّ وقعد ولا انثنى من لينه ... إلاّ وقد قلت انعقد كالظبي إلاّ أنّه ... يفعل أفعال الأسد في جيد من عنّفني ... عليه حبلٌ من مسد ومن شعر: وقد عنّفوني في هواه بقولهم ... ستطلع منه الذّقن فاقصر عن الحزن فقلت لهم: كفّوا فإنّي واقعٌ ... وحقّكم بالوجد فيه إلى الذّقن ومن شعره فيمن يحبها، واسمها فرحة: ما فرحتي إلاّ إذا وصلت ... فرحة بين الكسّ والكاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لا أن أراها وهي في مجلسٍ ... ما بين طبّاخي وعدّاس وشعره كثير، سقت منه جانباً جيداً في ترجمته في تاريخي الكبير، وخمس لامية العجم. واجتمعت به غير مرة وأخذت من فوائده، وكان له مكتب برا باب الجابيه، ويكتب أولاد الرؤساء في المدرسة الأمينية بجوار الجامع الأموي، وكان كتب إلي قصيدة في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة لامية ملزومة وأجبته عنها بمثلها، والتزمت فيها الميم قبل اللام، وقد ذكرتها في ألحان السواجع. ؟ الحسن بن علي بن حمد بن حميد بن إبراهيم بن شنار بفتح الشين والنون، وبعد الألف راء. البليغ الناظم الناثر بدر الدين الغزي. شاعر إذ قلت شاعر، طاف بكعبة البلاغة وعظم تلك المشاعر، يغوص على المعنى، ويجزل الألفاظ ويحكم المبنى، وينشدك القطعة، فتحسب أنه ضرب المثلث أو جس المثنى، متين التركيب بليغ المعاني، فصيح الألفاظ، إلا أنه يستعمل الغريب فيما يعاني، فيثقل على السمع بذاك وروده، وما تروق رياحينه ولا وروده. وكتب المنسوب مع السرعه، وراعى الأصل في وضع الحرف وفرعه، إلا أنه كان ذا خلق فيه زعاره، وبادرة ليس وراءها حقد فهي في السر معاره، فنفرت عنه بعض النفوس، ولو خلا منها وضع على الرؤوس. ودخل ديوان الإنشاء، فكان فيه بالشام شامه، وصدق هذه الدعوى أنه كان يحكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 بلونه مداده وأقلامه، ولكن كان حر النفس أبيها، سليم الطوية غبيها، لا يكذب لسانه، ولا يطوي الغل جنانه. ولم يزل على حاله إلى أن صادته مخالب المنيه، وعدم الناس فواكه نظمه الجنيه. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس حادي عشر شهر رجب الفرد، سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة ست وسبع مئة. ودخل الديوان في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان قد وضع رسالة أنشأها نظماً ونثراً وسمها ب قريض القرين، عارض بها ابن شهيد في رسالة التوابع والزوابع. وغالب نظمه أنشدني إياه بصفد ودمشق والقاهرة، كتب إلي بالقاهرة: ليل التجنّب من أجفاننا شهبه ... ومجدب الدمع ما كانت دما سحبه ما لننوى أطلعت في غارب قمراً ... يقلّه البان يوم البين لا غربه تنظّمت عبراتي في ترائبه ... عقداً كما انتثرت في وجنتي سحبه يا من وفى الدمع إذ خان الوداد له ... غدر الحبيب وفاء الدمع أو سببه قد كنت أحسب صبري لا يذمّ وقد ... مضى وفي ذمّة الأشواق أحنسبه يا نازحاً سكن القلب الخفق ومن ... إحدى العجائب نائي الوصل مقتربه ما لاح برق ولا ناحت مطوّقةٌ ... ولا تناوح من باب الحمى عذبه إلاّ تساعد قلبي والدموع وأحنا ... ء الضلوع على شوقٍ علا لهبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 حكيت يا برق قلبي في الخفوق ولم ... يفتك إلا لهيب الوجد لا شنبه من لي بأغيد بدر التم حين بدا ... قد ساء إذ رام تشبيهاً به أدبه ممنّع بالذي ضمّت غلائله ... من القنا أو بما أصمت به هدبه بين الأسنّة محجوبٌ ولو قدروا ... ما قوس حاجبه أغنتهم حجبه سلبني بالضّنى لحمي لواحظه ... وهمّ أُسد الشرى المسلوب لا سلبه لو لم يكن ريقه خمراً ومرشفه ... كأساً لما بات يحكي ثغره حببه كذا ابن أيبك لولا ما حواه لما ... عن الكتائب أغنت في الورى كتبه ذاد الأولى عن طريق المجد ثم نحا ... آثاره فقلت أجبالهم كثبه وآب يقطف من أغصانه ثمراً ... إذا أتى غيره بالشوك يحتطبه أقلامه فرحاً بالفضل أنملها ... كلّ يخلّق ثوب المجد مختضبه تكاد ألسنها تمتدّ من شغفٍ ... إلى أجلّ معاني القول تقتضبه يراعه روّعت لا مات أحرفها ... حشاء منحرفٍ لا ماته يلبه أضحت مسبّبة الأرزاق حين حكت ... سبّابةً لعدوّ وقد وهى سببه يا من يجيل قداح الميسر ارم بها ... وارم الفجاج ليسرٍ نجحه طلبه واقصد جناب صلاح الدين تلق فتىً ... يهزّه حين يتلى مدحه طربه بنت على عنق العيّوق همّته ... بيتاً تمدّ على هام السها طنبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قد أتعبت راحتاه الكاتبين ولم ... يدركه حين جرى نحو العلى طربه فاعجب لها راحةً تسقي اليراع ندىً ... إذا لم تكن أورقت في ظلها قضبه تناسب الدرّ من ألفاظها وإلى ... بحر النّدا لا إلى بحر الدنا نسبه يرضى ويغضب في حالي ندىً وردىً ... وبين هذين منهول الحمى نشبه رضاه للطّالي جدواه ثمّ على ... ما تحتوي يده من ماله غضبه فكتبت أنا إليه أشكره: أغصن قدٍّ أقلّت بانه كثبه ... أم درّ ثغر حبيبٍ زانه شنبه أم روض حزنٍ جديد النبت قد نسمت ... فيه أقاحيه لما أن بكت سحبه أم جانب الأفق قد دجّت حنادسه ... للعين لمّا ازدهت في لمعها شهبه أم نبت فكرٍ جلاها لي أخو أدبٍ ... خطابه زان جيد الدّهر أو خطبه قريضه تعرفّ الأسماع جوهره ... فتنتقي حليها منه وتنتخبه فلو همى الشعر قطراً قبله لغدا ... يروي الربا منه هامي الغيث منسكبه ونثره لم يداخل مسمعي أحدٍ ... إلاّ ورنّح منه عطفه طربه وخطّه مثل صدغ زرّقته يد ال ... حسن البديع وقاني الخدّ ملتهبه لوصفه شهدة بالحسن قد شهدت ... وقد تبّرأ من ياقوته نسبه ولابن مقلة عين ما رأت حسناً ... هذا ولو عاينته ما انقضى عجبه هذا هو البدر لا النجم البصيص فقد ... مدّت على ابن هلالٍ في العلا طنبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 جزاك ربّك بدر الدين خير جزاً ... عن امرىء لم يطل نحو العلا سببه بالغت في مدحه فالله يجعله ... كما تقول لتعلو في الورى رتبه وكتبت أنا إليه ملغزاً في ضبع: أيّها الفاضل الذي من يجاريه ... تقوّى في ما ادعى وتقوّل والّذي من أراد يبصر قسّاً ... فعليه دون البريّة عوّل هات، قل لي بالله ما حيوانٌ ... ثابت الخلق قطّ لا يتحوّل عينه إن قلعتها يتبدّى ... حيواناً غير الذي كان أوّل فكتب هو إلي الجواب عن ذلك: يا إماماً طال الورى بمعانٍ ... في المعالي يغوث من قد تطوّل وإذا أعضل السؤال فما زا ... ل عليه في المعضلات المعوّل إنّ زهراً أهديته غضّ عنه ... طرفه واستحال زهر المحوّل حين ألغزت في معمّىً هداني ... نحوه الفكر حين سوّى وسوّل حيوانٌ إن صيّروا رأسه العين ... رأوه إلى الجماد تحوّل فابق واسلم تفيد علماً وجوداً ... فيهما ليس لامرىء متأوّل وكتبت أنا إليه وقد جاءته بنت: تهنّ بها وإن جاءتك أنثى ... لأنّ الشمس بازغة الجمال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال ولو كان النساء كمن أتانا ... لفضلت النساء على الرجال فكتب هو الجواب إلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أتاني من هنائك يا رئيساً ... تتيه به المعاني والمعالي ومن آثار جودك ما أراني ... حياً أهدته لي ريح الشمال وكم أقرأتني وقريت فضلاً ... يفوت الحصر من أدبٍ ومال وكتبت أنا إليه، وقد أهديت إليه أبلوجة سكر وكنت قبلها قد أهديت إليه قليل قطر: أبلوجة بعثتها ... محبةً لك عندي في اللون والكون أضحت ... تخالها نهد هند فكتب الجواب إلي عن ذلك: يقبل الأرض وينهي وصول صدقته الجاريه، وهديته التي جاءت بين الحسن والإحسان متهاديه، وهنديته التي قام نهدها مقام ثغر الغانيه، وأشرقت الأرض بنور وجهها من كل ناحيه، نهد أبرزه الصدر، وشهد ما تجرعت دون اجتناء حلاوته من إبر النحل مرارة الصبر، وهرم أكسب رونق الشباب وجه الدهر، ووجه طبع على دائرته ليلة تمامه البدر، فقابل الملوك تلك المنحة بدعائه وشكره المفرط وثنائه، ومدحه الذي تتدرج شواهد وده الصادق في أثنائه وتذكر بها ما مضى، شكر يد الكريم الذي استأنف إحسانه السابق وما انقضى، فذكر بنضار القطر السائل ولجين هذا الماء القائم، قول القائل: وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء وكتب هو إلي: يا ماجداً لم يزل نداه ... أولى بتقريظ كلّ متن ومن غدا بالصفاء يكنى ... وودّنا عنه ليس نكني نحن افتراقاً بنات نعش ... في ظلمة الهمّ والتمنّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فسر إلينا نكن ثرّيا ... وادخل إلينا بغير إذن ولا تدعنا نئنّ شوقاً ... ولا تقل للرسول إنّي فكتبت أنا الجواب عن ذلك: أبياتك الغرّ قد أتتني ... فشرّفتني وشنفّتني شعرك فيها ظريف لفظٍ ... لطيف معنىً خفيف وزن قد أثقلت كاهلي بشكرٍ ... فكلّ متني إذ كلّمتني فإن أفز بالمثول فيكم ... فإنه غاية التمنّي وإن تخلّفت عن حماكم ... يا طول دقّي في الجرن حزني وكتب هو إلي وقد توالت الأمطار والثلوج في العشر الآواخر من رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة: كيف مولانا ألحف الله ظله، وأرشف طله ووبله، وحمل على أعناق الأيام كله، وجعل مثله السحاب الجود ولا أعرف مثله، وضاهى برزقه هذا الغيث الواقع على خلاف القياس كله، فإن هذا اليوم قد عزز الصّنى والصنبر وعجز الصبر وعزى سكان الأجداث بالأحياء فكل بيت قبر: يومٌ كأن سماءه ... حجبت بأجنحة الفواخت جاء الطوفان والبحر المحيط، وجاب الصخر بوادي الربوة دم سيله العبيط، وجال في وجه البسيطة حياؤه فما انبسطت الخواطر بجوهره البسيط، أخفت النجوم في ليله، واطلع الحي القيوم على زنته الراجحة وكيله، وتراكمت سحبه الساترة فضاء الأفق بفضل ذيله، وأجلب على الوهاد والربا برجله الطامة وخيله، فكأنما وهت عرى ذلك الزمهرير فهبط، أو هيض جناح السحاب الجون فسقط، أو حل سلك النحوم الزاهر ففرط جوهر ذلك القطر لما انفرط، فالجدران لهيبته مطرقة، والعمران قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 تداعت ولا يقيل البناء جموعها المتفرقه، والطرق قد شرقت بالسيول فلا تنطق آثارها المغربة ولا المشرقه، وقد قص جناح الارتكاض، وحصت قوادمه، فما تنهض وعظمه مهتاض، والسيل قد بلغ الزبا، وسوى بين الوهاد المتطامنة والربا، وبكت السقوف بعيون الدلف، وحملها المطر بيده العادية على خطه خسف، واستدل لها بمنطق الرعد على أن قدامها الخير، فقالت: هذا خلف، وشهر الصوم قد بلغ غايته، وعيد الفطر قد نصب رايته، وتلا آيته، وطلب من الموسر والمعسر كفايته، فأعاذ الله مولانا من الطلب فيه، ولا ألجأه إلى السعي لابتغاء فضل الله إلا بفيه، بمنه وكرمه. فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: العجب من سؤال مولانا عن المملوك كيف حاله، وعنده علم هذا العناء الذي نصب على الأين والنصب تمييزه وحاله، وهي حال أبي الطيب، وما علم ابن منصور بها، ولو علم استعمل التباله. أما ترى هذا النوء الذي ذم نواله وحمد نواه، وأذهل الصائم عن صومه، فما بيت أمره ولا نواه وشغله من حسه فما يدري أفطر على تمرة أم نواه؟، قد هال الجبال أمره، فشابت من الفرق إلى القدم، وغمرت سيوله الأباطح والربا، ولكن من الزيادة بدم، كيف يهنأ العيش وبروق الجو سيوف تخترط، ونفس هذه الرعود يخرج بعدما حبس في حشا السحاب وانضغط، وإلحاح سائل هذا المطر، فلو كان قطره دراً لما مدّ الفقير إليه يداً ولا التقط، وتوالي هذه الغيوث التي لو عاينها ابن هانىء لما قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 ألؤلؤٌ دمع هذا الغيث أم نقط كأن الأيام قواف اندمجت في الليل، أو النجوم أقاح ولكن غطاها تراكم السحاب بالذيل، أو كأن الله جعل الزمان سرمداً، فما يتعاقب فيه شمس ولا قمر، ولا تصفو لجة الأفق بضوء ولا ترميها الدياجي بكدر؛ قد تزاحمت الغياهب على المواقيت بالمناكب وجهلت المدد فيا وحشتا لحاجب الشمس ومحيا القمر وعيون الكواكب، أكل هذا تشريع تشرين، وشره شره الذي نتجرع من أمره الأمرين، وشهرة شهره، فيا أيام كانون إذا جئت ماذا تبيعين وتشرين، أما المساكن فأهلها مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين، قد انتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعض في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هرباً من توقيع أكف الوكف، وخوفاً من ركوع الجدار وسجود السقف، وما يعتقد المملوك أن في كانون هذه الجمرات، ولا أن ساباط سباط وأذى آذار يرمي القلوب بهذه الحسرات، وتمام التعثير في الركوب إلى دار السعادة، والكتابة التي صارت في هذا الزمان زيادةً في نقص السيادة، واتساع هذه الأهوال، وضيق ذات اليد مضاف إلى ضيق النفوس، وبصاق هذا الثلج في وجه الضاحك منا والعبوس، وسكر هذه الميازيب التي لا تبوك إلا على الرؤوس، وأشغال الديوان التي تكاثر المطر، ولا تبلغ الغاية من الوطر، فنحن من الديوان في جامعة لا جامع، وباب البريد على عدد الساعات ودقه هامع وبرقه لامع، لا يفتر وروده، ولا يزال يصل حديده، وتصل وفوده، وكل كتاب يصل معه يتفرع منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 إشغال عدد حروفه، وتطلب في الوقت الحاضر، فلو كانت بالطابع لانهارت جوانب حروفه، وصاحب الديوان في تنفيذ أسرع من هذه البروق، وأنفذ من السهم في القضاء الذي ليس فيه ما يصد ولا ما يعوق، فهو إذا دبر المهمات نجز، ودمر العداة، وجنز، وهذا العيد أقبل، وما لنا بتكاليفه قبل، وكل من يختص بشيء منها يلحظك بطرف متخازر كأنهما به قبل، والاستعانة بالله على هذه الشرور التي اتصلت نقط خطها، والفرار إليه من هذه الخطوب التي نعجز عن شيل سيلها وحد حطها، والله يرزق مولانا وإيانا حلاوة الصبر، ويجعل العدو بين جانحتي قبر، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وكتبت له توقيعاً لما دخل ديوان الإنشاء، لوحت فيه في غير موضع بلقب كان يلقب به، ونسخته في الجزء السادس والعشرين من التذكرة التي لي، وكتبت له أيضاً توقيعاً بنظر قمامة. وبيني وبينه مكاتبات وبداءات ومراجعات نظماً ونثراً، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع. وأنشدني من لفظه لنفسه: ثغر من قد هويته يهدي ... في ظلام الدجنّة الحالك بالثريّا شبّهته ظلماً ... والثريا أقلّ من ذلك وأنشدني من لفظه لنفسه: أنا القليل العقل في صرف الذي ... أملكه في كلف المشارب ما نلت من تضييع موجودي سوى ... تصفية الكاسات في شواربي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وأنشدني من لفظه لنفسه: أعجب ما في مجلس اللهو جرى ... من أدمع الرّاووق لمّا انسكبت لم تزل البطّة في قهقهةٍ ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت وأنشدني من لفظه لنفسه: يا من يلوم في التصابي خلنّي ... فأذني عن الملام قد نبت تصفية الكاسات في شواربي ... أضحكت البطّة حتى انقلبت وأنشدني من لفظه لنفسه: وصفراء حال المرج يصبغ ضوءها ... أكفّ الندامى وهو في الحال ناصل وتهفو بألباب الرجال لأنها ... دويهيةٌ تصفرّ منها الأنامل وأنشدني من لفظه لنفسه: شممت نسيم زهر الّلوز لمّا ... خرجنا بكرةً ننفي السجونا فتحت الدوح شاهدنا بدوراً ... وفي أعلاه عاينّا غصونا وأنشدني من لفظه لنفسه: وأهيف كالغصن المرنّح شاقني ... فطار إليه القلب من فرط شوقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 رأى البدر يحكي وجهه وهو سافرٌ ... فحمّله من جوره فوق طوقه وأنشدني من لفظه لنفسه: سرت من بعيد الدار لي نسمة الصّبا ... فقد أصبحت حسرى من السير ظالعه ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعبٍ أنفاسها متتابعه وأنشدني من لفظه لنفسه: غصنٌ رشيق القدّ لان معاطفاً ... نشوى وبالشّعر المرّجل أورقا وبمثل بدر التّمّ أينع فانظروا ... هذا القوام أجلّ أم غصن النّقا وأنشدني من لفظه لنفسه: يا صاحباً ما زال من إنعامه ... لثياب راجيه المؤمل رافي قد قطّعت فرجيّتني حتى لقد ... ظهر القطوع بها على أكتافي وكان يوماً هو والشيخ محمد الغزي جالسين في الجامع الأموي، عند الشيخ جمال الدين محمد بن نباته، وكل يذكر مساوئ صاحبه، وينشد هجوه فيه. فقال بدر الدين الغزي: لا قلت أنا، ولا قلت أنت، في هذه الساعة ننظم بديهاً يكون هجواً، وأطرق قليلاً ثم أنشد: يا بن أبي طرطور خلّ الهجا ... وخذ كلاماً راق في حسنه أنا وأنت اثنان كلٌّ غدا ... منا يروم الفضل في فنّه فواحد يكذب في قوله ... وآخر يكذب في ذقنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وأنشدني من لفظه لنفسه موشحةً عارض بها موشحة ابن سناء الملك المشهورة، وأجاد: أذكى الهوى وهاجه برد اللمى ... في ثغر ريم مايس القدّ يحميه أن أرومه لحظٌ أرى ... فرط الفتور سيفه الهندي ظبيٌ رمى فؤادي ... من لحظه بسهم وقد حمى رقادي ... لمّا أباح سقمي فالطرف للسّهاد ... وللسّقام جسمي واعجب من انقيادي ... إليه وهو خصمي لكنّها اللّجاجه ترمي بها ... عقل الحليم سورة الوجد إياك أن تلومه فاللوم في ... هذي الأمور قلّما يجدي أفديه ظبي أُنس ... ألمى الشفاه أحوى حشاشتي ونفسي ... مرعى له ومثوى كذّبت فيه حسّي ... إذ لم تلنه شكوى وجسمه بلمسي ... عند العناق يطوى يا حسن الاندماجه في خصره ... المضنى السقيم وهو في البرد والقامة القويمه بالخّد ... كالغصن النضير ناضر الورد لله منه طرف ... يدمي القلوب لحظا ووجنة تشفّ ... ولا تنيل حظّا يرقّ إذ يرفّ ... قلبي لها ليحظى تريك حين تصفو ... جسماً يخال فظّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 كالراح في الزجاجه تزهى بها ... كف النديم عندما تبدي أشعةً عظيمه تندى إذا ... شيمت وتوري جذوةً تهدي يا لوعة الغرام ... زيدي ويا جفوني بأدمعي الهوامي ... جودي ولا تخوني فهتف الحمام ... قد هيّجت شجوني وكلّ مستهام ... مستأنف الحنين لا تنكر انزعاجه للبرق في ... الليل البهيم مقلة تهدي إلى الحشا السليمه خفقاً ... أباتته سميري ليلة الصّد دع ذا وقل مديحا ... في أحمد بن يحيى من لم يزل مزيحا ... أعذار كلّ عليا منتسباً صريحا ... آخرة ودنيا تخال من يوحى ... في الدست حسن رؤيا إذا أرى ابتهاجه للجود ... والداعي المضيم ساعة الجهد فالكف منه ديمه والوجه ... شمسٌ ذات نور في سما المجد للسّر منه حصن ... على الورى مطلّ ليست به تظنّ ... عوراء تستدلّ غاراته تشنّ ... على العدى فتبلو أخبارهم ويعنو ... منهم لها الأجلّ فمن رأى هياجه سوّاه ... بالليث الكليم وهو في السّرد ونفسه الكريمه في السلم ... كالغيث المطير ساعة الرّفد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وغادةٍ ثنتني ... أعطافها الرشاق لكنّها أرتني ... أن الدّما تراق بالصدّ والتجني ... وبعدها الفراق قالت فرغت عني ... والصحبة اتفاق فقلت بانحراجه يا ست خليني ... بشوم وأنجزي وعدي قالت أنا مقيمه فاعمل وهت لي ... قلت زودي فالذهب عندي حسن بن عمر بن عيسى بن خليل الكردي الشيخ أبو علي مسند الديار المصرية في آخر عمره. سمع حضوراً من ابن اللتي مسند الدارمي ومسند عبد بن حميد وجزء أبي الجهم والمئة السريجية، وغير ذلك. وسمع من مكرم بن أبي الصقر الموطأ، وسمع من السخاوي، وقرأ القرآن على السخاوي، ثم إنه انتقل إلى مصر وسكن الجيزة، وكان يؤذن ويبيع الورق على باب الجامع ولم يعرفه أحد، وكان بيده ثبت فظهر أمره في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وفرح به أناس، وأخذوا عنه، ثم إنه ثقل سمعه فشق السماع عليه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة عشرين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة ثلاثين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 حسن بن عمر الصاحب بدر الدين ناظر الخاص بدمشق المعروف بابن النابلسي. كان في وقت قد باشر نظر الخاص بالقاهرة في أواخر أيام الملك الناصر حسن دون الشهر، ولما طلب الإقالة الصاحب تاج الدين موسى بن علم الدين أبي شاكر من دمشق أجيب إلى سؤاله، ورسم للصاحب بدر الدين بن النابلسي فوصل إلى دمشق في ثاني عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وباشر دمشق. فما أحمد الناس مباشرته. وكان يدعي أنه فقيه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وأقام بدمشق إلى أن عزل بالصاحب سعد الدين بن التاج إسحاق في أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة. وأقام في بيته بطالاً بدمشق مدة تزيد على الشهرين، ثم طلب إلى مصر فتوجه إليها. وتوفي هناك في طاعون مصر سنة أربع وستين. وكان قد رسم له في وقت بكتابه الإصطبلات بمصر ناظراً. وكان الأمير سيف الدين بكتمر المومني يومئذ أمير آخور كبير، فقيل له: إن هذا أحمق كبير وما أنت قدره، فلما حضر إليه بالخلعة عراه إياها، ورسم بقتله بالمقارع وسأله عن قضايا - نزهت هذا الكتاب عن ذكرها لفحشها - فامتنع، ثم إنه أقر له بها، فألبسه الخلعة واستمر به. وأنشدني من لا اسمي فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 قل لهذا الصاحب المولى الذي ... سار فينا سيرةً لم تحسن أنت فينا كافر النّفس فقل ... أحسن الله خلاص المومني ال حسن بن محمد بن هبة الله شرف الدين قطنبه، بضم القاف والطاء المهملة وسكون النون وبعدها باء ثانية الحروف وبعدها هاء: الأصفوني. كان شاعراً كثير المجون، عذب الينبوع بري من الأجون، ربي بأصفون، ولم يكن بين الصفا والحجون، كثير التنديب، غزير التذريب، مقبول المحيا، من رآه خدمه وحيا، ظريف الحركات، يكون في الدرجات، وينحط منها إلى الدركات. كان معاصره نبيه الدين عبد المنعم الشاعر، وهو أيضاً ماجن ظريف، قادر على التلعب بالكلام والتصريف، تدور بينهما محاورات ومفارقات ومحاورات أشهى من نقائض جرير والفرزدق، وأسح من الغمام الصيب وأغدق، وكانا يشبهان بالجزار والوراق، وللزمان بوجودها ضياء وإشراق. ولم يزل قطنبة على حاله إلى أن جاءه ما لا له به قبل، وكسر فخارته الذي سوى طينها وجبل. وتوفي رحمه الله تعالى .... صلى قطنبة هذا صلاة عيد الأضحى، وإلى جانبه آخر فلما ذكر الخطيب قصة الذبيح بكى ذلك الشخص زماناً طويلاً، فالتفت إليه قطنبة، وقال له: ما هذا البكاء الطويل؟ أما سمعته وهو يقول في العام الماضي إنه سلم وما أصابه بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 واتفق مرة أن وقع بينه وبين أهل بلده، وحضر الأمير علاء الدين خزندار والي قوص وإخميم فقصد شكواهم، فدخلوا عليه فلم يرجع، وكان مع الوالي شمس الدين الآمدي الناظر. وكان شيعياً، فلما حضروا عند الأمير قفز قطنبة وقال: يا آل أبي بكر، واغتاظ الناظر، وأنشد قطنبة: حديث جرى يا مالك الرقّ واشتهر ... بأصفون مأوى كلّ من ضلّ أو كفر لهم منهم داعٍ كتيسٍ معمّمٍ ... وحسبك من تيسٍ تولّى على بقر ومن نحسهم لا كثّر الله منهم ... يسبّ أبو بكر ولا يشتهى عمر فخذ ما لهم لا تختشي من مآلهم ... فإن مآل الكافرين إلى سقر فقال له الناظر: أنت تشاور، ما أنت منهم؟ وصرفهم فما حصل له قصده، فقالوا له: ما قلنا لك نصطلح معك ما فعلت. فقال: أنا ما عرفت أن هذا المشؤوم منكم. وكان قد تزوج بامرأة تحت الحجر، وكان لها منزل باعه أمين الحكم وخلى من اشتراه له، فقدم قطنبه إلى الأمير علاء الدين وأنشده: سبت فؤادي المعنّى من تثنّيها ... فتانةٌ كلّ حسن مجمعٌ فيها أنسيّة مثل شمس الأفق قد بزغت ... وحشيّةٌ في نفورٍ خوف واشيها منها: قهرت بالجانب البحري طائفةً ... فولّ وجهك يا مولاي قبليها عندي يتيمة تركيٍّ ظفرت بها ... لها من الله جدرانٌ تواريها تعاونوا مع أمين الحكم واعتصبوا ... أخفوا وثائق فحوى خطهم فيها حتى أُبيعت عليها نصف حصتّها ... ما حيلتي وأمين الحكم شاريها ما زلت أفحص عن تلك الوثائق يا ... مولاي حتى أبان الله خافيها وها هي الآن عندي وهي ثابتةٌ ... فامض الولاية فيمن كان يؤذيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ومات له صاحبان كانا خصيصين به. فقال الشهاب أحمد بن الحسين الأصفوني: ما لقطنبة تأخر عنهما، فبلغه ذلك، فقال: ما تأخرت عنكما عن ملالٍ ... غير أني أرم صيد الشّهاب فأنا مثل فارس البحر لا بدّ ... بظفري أصيده أو بنابي وكان قد وقع بينه وبين نجم الدين بن يحيى الأرمنتي، فهجاه بقصيدة منها: يا إلهي أرحتها منه في الح ... كم أرحها من ابنه في الخطابة فقال له الخفراء: يا قطنبة، الباسرية جاؤوا من أرمنت يريدون قتلك، أرسلهم ابن يحيى وما نقدر على ردهم، انج بنفسك، فخرج منها وكان آخر العهد به. حسن بن محمد الشيخ الإمام الفاضل البليغ المنشئ الكاتب نجم الدين أبو محمد بن الشيخ كمال الدين القرشي القرطبي الصفدي الشافعي الخطيب بصفد. كان فارساً منبر، وإمام من برى قلما ومن بر، ناظماً ناثرا، يجري في ميدان البلاغة فما يرى جواد قلمه عاثرا. كتب الإنشا، وتصرف فيه كيف شا، مع أمانة لا يرى من التكلف في وجهها كلف، وديانة لا يلمح في رونقها تصنع من صلف، وكرم بموجوده الحاضر وود يخجل من حسنه خد الورد الناضر، وصدق لهجه، وقول حق ولو أن فيه تلاف المهجه. وكان شعاره أشعريا، وعلمه عن التقليد عريا، فكم كان عنده من التقليد أدلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وبراهين إذا أوردها كأنها له طبيعة وجبله، ومسائل أصول إذا سردها قلت هذه سحائب مستهله، لم أر بعده من يقول: أيها الناس أفصح منه، ولا من خطب زان منبره ولم يشنه، يؤدي الألفاظ بتجويد حروفها، ويذكر القلوب القاسية بما نسيته من خطوب الدنيا وصروفها، كم جعل العبرات على الخدود وهي هوامي هوامع، وكم غادر العيون وهي دوامي دوامع، شدت الفصاحة لحييه، وسدت البلاغة نحييه، تزور في الموعظة حدقتاه، وتحمر لفرط الحرص على القبول وجنتاه، كأنه منذر جيش، أو منكر طيش. وكانت له في البحث سلطه، وغلظة على خصمه لا تصحف بغلطه، وله قدرة على التعليم، وفراسة في وجه التلميذ إذا أخذ قوله بالتسليم، يعلم من الطالب إذا فهم، ولا يخفى عليه إذا بهم، فلا يزال يغير له الأمثلة، ويدير الأسئلة إلى أن تتكشف عنه الغيابه، ويظهر له أنه حصل على العنايه. ولم يزل يذكر بوعظه ويحبر بلفظه إلى أن رمي تفيهقه بالصمات، ونزلت بذويه سمات الشمات. وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده بالكرك سنة ثمان وخمسين وست مئة. كان والده الشيخ كمال الدين خطيب قلعة صفد، وكان ينوب عن والده ويكتب الإنشاء، ويوقع عن النواب بصفد، فلما قدم الأمير سيف الدين بتخاص إلى صفد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 نائباً حضر معه القاضي شهاب الدين أحمد بن غانم، وكان زين الدين عمر بن حلاوات قد قدمه الشيخ نجم الدين وجعله يكتب عنده، فما زال يسعى إلى أن وقع الاتفاق بينهم وبين القاضي شرف الدين النهاوندي وغيره، وقرروا الأمر مع النائب إلى أن قطع الشيخ نجم الدين من التوقيع، وبقي بيده خطابة الجامع الأموي، ثم إنهم صادروه، حتى توجه خفية إلى دمشق، وكان الأمير سيف الدين بلبان بدمشق مشد الدواوين، وهو يعرفه من صفد، فاستخدمه موقعاً بدمشق، وكتب قدامه، وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله يأمن إليه ويقدمه ويستكتبه في السر وغيره، وأضيف إليه خطابة جامع جراح بدمشق. ولما تولى الأمير سيف الدين كراي نيابة دمشق كان يعرفه من صفد ويركن إلى أمانته وعفته، فقلده الأمر وغدقه به، فتعب بذلك تعباً مفرطاً ونصح مخدومه، فكان لا يعلم لا من يده، فعادى الدماشقة ومقتوه، ولما أمسك كراي اختفى وسلمه الله منهم لما سلكه من الأمانة والعفة. أخبرني من لفظه قال: رددت ليلةً مئتي دينار، ورهنا تلك الليلة طاسةً على زيت القنديل. ولما حضر الأمير جمال الدين نائب الكرك إلى دمشق أغروه به، وأرادوا منه الإيقاع به، فقال: أخذ لأحد شيئاً؟ فقالوا: لا، قال: فما أصنع به إذا نصح لمخدومه. ثم إنه جهز إلى صفد خطيباً وموقعاً، وكان زين الدين بن حلاوات قد انفرد بالأمر وتمكن من نواب صفد، ودخل إلى النائب وقرر معه ما أراد، فلم يمكنه من مباشرة شيء، فبقي في صفد إلى أن حضر له توقيع ثان، وكلما حضر له توقيع عطله، إلى أن أشركوا بينهما في التوقيع والخطابة، فأقاما مدة، فوقع بينهما، فطلبا إلى دمشق، وقرر الأمير سيف الدين تنكز أن يخيرا وينفرد كل واحد بوظيفة، فاختار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الشيخ نجم الدين خطابة القلعة والمدينة، واستقر زين الدين بن حلاوات في التوقيع، فأقام يخطب ويشغل الناس تبرعاً، وتخرج به جماعة فضلاء، وقل من قرأ عليه ولم ينبه، ولم أر مثل في مبادئ التعليم، كان يفتق أذن المشتغل، ويوضح له طرق الاشتغال، ولم أر مثله ف تنزيل قواعد النحو على قواع المنطق، وكان يحب إفساد الحدود والمؤاخذة فيها والرد عليها والجواب عنها. وممن قرأ عليه أولاً العلامة القاضي فخر الدين المصري وغيره. وكان لي منه - رحمه الله تعالى - نصيب وافر من المحبة، وكنت أجد منه حنواً كثيراً وبراً، ولم أقرأ على أحد قبله، وكان شديد المحبة لأصحابه، شغوفاً عليهم صادق اللهجة، مفرط الكرم، وكانت بينه وبين الشيخ صدر الدين قرابة، وكان هشاً بشاً بساماً، وعمته مليحة، ولم أر أعف يداً ولا فرجاً منه، وكان خطه مليحاً ونظمه سريعاً، ونظمه أرشق من نثره، ولم أره يخطب بغير الخطب النباتية. وكان جيد المشاركة أشعري العقيدة، شافعي المذهب، يحب الكتب ويبالغ في تحصيلها ويحرص على المنافسة فيها، ولكنه كان مقلاً من الدنيا ماله غير علومه. قال: ما أعرف أنه وجبت علي الزكاة في عمري. رأيته بعدما مات رحمه الله في المنام بمدة، فقمت إليه وقبضت على يده بعدما قمت إليه وصافحته، وقلت له: قل لي ما الخبر؟ فقال لي: لا تعتقد إلا وحدانيته، فقلت له: هذا شيء قد جبل عليه اللحم والدم، فقال: ولا بأس مع الفاتحة سورة أخرى من القرآن، وقصيصات الناس، فعلمت بذلك أنه قد نصحني حياً وميتاً، لأنه كان في حياته رحمه الله تعالى يتوقف في توقيعه ويتحرى ويتحرز كثيراً فيما يكتبه، ولا يكتب إلا ما هو سائغ، فكان صاحب القصة يتعذر عليه مطلبه. ولما توفي رحمه الله تعالى كنت في حلب فحصل لي بسببه ألم عظيم إلى الغاية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وكتبت إلى ولده كمال الدين محمد وإلى غيره من الأصحاب مراثي كثيرة نظماً ونثراً، ثم جمعت ذلك وسميته ساجعات الغصن الرطيب في مراثي نجم الدين الخطيب. ومما نظمته فيه قولي: يا ذاهباً عظمت فيه مصيباتي ... بأسهمٍ رشقت قلبي مصيبات قد كنت نجماً بأفق الفضل ثمّ هوى ... فاستوحشت منه آفاق السّموات سبقت من بات يرجو قرب خالقه ... ولم تزل قبلها سبّاق غايات بكى الغمام بدمع الودق مذ عقدت ... حمائم البان من شجوي مناحات ولطّم الرّعد خدّ السّحب وانتشرت ... ذوائب البرق حمراً في الدّجنّات أصمّ نعيك سمعي من تحقّقه ... وهان ما للّيالي من ملمّات جنحت فيه إلى تكذيب قائله ... تعلّلاً بالأماني المستحيلات وكدت أقضي ويا ليت الحمام قضى ... حسبي بأن الأماني في المنيّات وراح دمعي يجاري فيك نطق فمي ... فالشان في عبراتي والعبارات إن أبدت الورق في أفنانها خطباً ... فكم لوجدي وحزني من مقامات جرحت قلبي فأجريت الدموع دماً ... ففيض دمعي من تلك الجراحات لو كنت تفدى رددنا عنك كلّ أذىً ... بأنفسٍ قد بذلناها نفيسات فآه من أكؤسٍ جرّعتها غصصاً ... وقد تركت لنا فيها فضالات نسيت إلاّ مساعيك التي بهرت ... عين المعالي بأنوارٍ سنيّات ومكرماتٍ متى تتلى مدائحها ... تعطّر الكون من ريّا الرّوايات وفضل حلم تخف الراسيات له ... وعز علم علا السبع المنيرات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وكم مناقب في علمٍ وفي عملٍ ... أضحت أسانيدها فينا صحيحات ومنها: فأين لطفك بي إن هفوةٌ عرضت ... كأنّما حسناتي في إساءاتي وأين فضلك إن وافى أخو طلبٍ ... فتخجل الغيث من تلك العطيّات نبكي عليك وقد عوّضت من كفنٍ ... أُلبسته بثيابٍ سندسيّات وما تلبّثت في مثوى الضريح إلى ... أن صرت ما بين أنهار وجنّات تصافح الحور والولدان منك يداً ... كم أظهرت في النّدى والفضل آيات من ذا يعيد دروس النحو إن درست ... ربوعها بالعبارات الجليّات ومن لعلم المعاني والبيان ومن ... يبدي بعلميهما سرّ البلاغات ومن يزفّ عروس النظم سافرةً ... قد حلّيت بعقودٍ جوهريّات إذا أُديرت على أسماعنا خلبت ... ألبابنا بكؤوسٍ بابليّات ويرقم الطّرس أسطاراً فنحسبها ... سوالفاً عطفت من فوق وجنات ومن إذا بدعةٌ عنّت يمزّقها ... سطا براهينه بالمشرفيّات وإن أتت مشكلات بعدما اتضحت ... وأقبلت كالدياجي المدلهمات نضى نصول أصول الدين لامعة ... فيقطع الشّبهات الفلسفيّات ومن يفيد الورى في علمه حكماً ... تجلى ويبدي رياضاً في الرياضات ومن يذيب دموع العين من أسفٍ ... إذا ارتقى منبراً بين الجماعات ويوقظ الأنفس اللائي غدت سفها ... من لهوها والتّصابي في منامات وتقتفيه إلى العرفان تاركةً ... قبيح ما ارتكبته من غوايات ليهن قبرك ما قد حاز منك فما ... ضمّت حشا كلّ قبرٍ طاهر الذات وجاد تربتك الغرّاء ساريةٌ ... تحلّ فيها العقود اللولويات وكلّ يومٍ تحيّاتي تباكرها ... فتفضح النّسمات العنبريات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وكتب هو يوماً إلي وقد فارقته متأذياً: بالله لا تغضب لما قد بدا ... فأنت عندي مثل عيني اليمين ما أتعب النفس سوى من غدا ... يجحد ما أوليته أو يمين وأنت عندي جوهرٌ قد صفا ... من دنس الذّمّ نفيسٌ ثمين ووالذي يعلم ما قلته ... إخبار من أخلص في ذي اليمين ما حلت عن حسن الوفا في الهوى ... وأنت في هذا المكين الأمين نسأل الله أن يحرس تلك الروحانية الطاهرة من الكدر إن شاء الله تعالى، فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: بررت فيما قلت يا سيّدي ... ولست تحتاج إلى ذي اليمين والله لم أغضب وحاشى لمن ... أراه عندي مثل عيني اليمين ولم يكن غيضي إلاّ لمن ... يمين عن طرق الوفا أو يمين ويفتري الباطل في قوله ... عني وليس الناس عنه عمين ويظهر الودّ الذي إن بدا ... ظاهرة فالغشّ فيه كمين فغثّه غثّى نفوس الورى ... ممّن ترى والسمّ منه سمين وكتب إلي من صفد وأنا بدمشق كتاباً نظماً ونثراً عدمته، وكتبت الجواب في سنة ثمان عشرة وسبع مئة: تذكّرت عيشاً مرّ قدماً وقد حلا ... وربعاً عمرناه بلهوٍ وقد خلا فهاجت لي الذّكرى غراماً ألفته ... وشنّت على الأحشاء حرباً مقسطلا ولله صبري في الرّزايا فإنّه ... جميلٌ ولكن خان فيكم وبدّلا وقيل أتبكي في دمشق من الأسى ... وإن حلّ جيش الهمّ فيه ترحّلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 زماناً تقضّى أو ربوعاً تطاولت ... عهودك منها وانمحت بيد البلى ففاضت جفوني بالدموع لقولهم ... وقلبٌ له أبكى حبيباً ومنزلا وهل نافعي أنّ الرياض تدبّجت ... بساحتها أو صوت قمريّها علا وللورق من زهر الرياض مجامرٌ ... إذا حركت عوداً تحرّق مندلا وقد راح منها الدوح لابس حلّة ... وصاغ من الأزهار تاجاً مكلّلا وغنّى حمام الأيك ثمّ تراقصت ... غصونٌ سقتها الريح كاساتها ملا فمالت سكارى ثمّ صفّق جدولٌ ... فألقت عليها من معاطفها الحلى فمن جدولٍ أضى حساماً مجرّدا ... ومن هيف أغصانٍ تحرّك ذبّلا وللبين في الأحشاء ما لو أقلّه ... يثير قليلاً ملّ ثمّ تململا كأنّ اجتماع الشّمل عقدٌ تعلّقت ... بأسلاكه كفّ النّوى فتفصّلا ففارقت مخدوماً حمى الله ربعه ... من الدهر يوماً ما أبرّ وأجملا سقاني طفلاً قهوة العلم والنهى ... وزاد إلى أن طال قدري واعتلى وألبسني لمّا اتّصفت برقّة ... من الفخر والعلياء مجداً مؤثّلا وكم نعمٍ لو رمت تعدادها أبت ... وكانت من الإحصاء للذرّ أسهلا إذا غبت عن أبوابه فهباته ... إليّ كأنفاس النّسيم توصّلا وإن قذفتني غربةٌ كان جوده ... سحاباً يوافيني فأعطى ونوّلا ووافى في كتاب منه من بعد جفوة ... فأضحى به دمعي على الخدّ مرسلا لقد أنشأته راحةٌ كفّ كفها ... من الخطب ما أعيى الأنام وأعضلا تمنى ملثّ الغيث لو كان بطنها ... وودّت بها الأنهار لو كن أنملا على أن كتبي لا تزال كتائباً ... أُلاقي بها في ساحة الوجد جحفلا أقبّل فيها الأرض أعني مؤدّيا ... بذلك فرضاً ما أراه تنفّلا وإن كان في الأحشاء ما يمنع الفتى ... من الوجد والتّبريح أن يترسّلا فلا زال محروس الجناب مظفّرا ... بأعدائه ما هيّج الشوق مبتلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فكتب الجواب عن ذلك رحمه الله تعالى: يقبل الباسطة ألهمها الله الوفاء لمن وفى بعهوده، وأطلع نجمها المتقد في مطالع سعوده، وأعاد غصنها إلى منبت سما منه رافلاً في خلع بروده، مثمراً بدوحة منشئه الذي ما يفتح ورده إلا لما سقي ماء ورده عند وروده، وينهي بعد وصف شوقه الذي تطاول عليه ليله فادلهما، ولمع في دجنته بارق اللواعج فأضرم بين الجوانح نيران الخليل لما، وأجرى من جفنه القريح طوفان نوح فلأجل ذلك هجره الوسن ومن بعد الهجران به ما ألما، وكابد فؤاده هما، ووالذي يعلم خائنة الأعين بالسلو ما هما، وعاهده على الأخذ بسنة الصبر الجميل فلم يف بعهد " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً "، وأراد القلم أن يصف ما وجد بعد البعد من الأسف نثراً، فأبت البلاغة إلا أن يكون نظما، وهو: نأيتم فأمسى الدمّع منّي مورّدا ... على صحن خدّ صار بالسّقم عسجدا إذا ما بدا في وجنتي منه صيّبٌ ... رأيت من الياقوت نثراً مبدّدا وإن نظمته فوق نحري صبابةٌ ... تبيّنت عقداً بالشذور منضّدا وما حثّه إلا بريقٌ تتابعت ... لوامعه يبدين نصلاً مجرّدا وكم أذهب التذهيب منه حشاشةً ... وأودع حزناً في الفؤاد مجدّدا بدا من سفيرٍ مستطيرٍ ضياؤه ... فآنست ناراً في الدجنّة مذ بدا وأمى فؤادي كالكليم ولم يجد ... على النار لما أن تحقّقها هدى وكيف اهتداء الصبّ والقلب والهٌ ... وإدراكه مذ غبت عنه مشرّدا يهيم إذا هبّت نسيمة جلّق ... ويصبوا إذا ناح الحمام وغرّدا ويذكر أياما تقضّت بسفحها ... فيبدئ نوحا في الظلام مردّدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ليالي تحكي الروض في حلل الحيا ... وغضن النقا يبدي عليه تأوّدا تبسّم ثغر الزهر لمّا بكى أسىً ... ولاح كصبحٍ بالظلام قد ارتدى أأحبابنا غبتم فكم لي وقفةٌ ... على صفدٍ والقلب مني تصفّدا وكم لي بهاتيك الطلول مواقفٌ ... وقفت عليها الدمع إذ رحت منشدا تناءى خليلٌ يا خليليّ فاسعدا ... بدمعٍ يضاهي المزن إن كنت مسعدا وأبدى صدوداً والصدود ملامةً ... وأنجز هجراناً وأخلف موعدا كذا شيمة الدهر الخؤون ودأبه ... يخون وفيّاً أو يكدّر موردا وأنشدني لنفسه على طريق ابن رشيق في الأبيات المشهورة: ولقد ذكرتك بين مشتجر القنا ... والموت يختطف النفوس بمخلب وأسنّه المرّان مثل كواكبٍ ... تبدو أشعتها بظلمة غيهب ولوامع البيض الرقاق كأنّها ... برقٌ تألّق مذهباً في مذهب والحتف قد لعبت كؤوس مدامه ... بعقولنا والذّكر غاية مطلبي وأمرني أن أنظم على هذا الأسلوب فقلت: ولقد ذكرتكم بحربٍ ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب والصّافنات بركضها قد أنشأت ... ليلاً وكلّ سنا سنانٍ كوكب والبيض تنثر كلّما نظم القنا ... والنّبل يشكل والعجاج يترّب وحشاشة الأبطال قد تلفت ظماً ... ودم الفوارس مستهلٌّ صيّب والنفس تنهب بالصّوارم والقنا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب وكتب يوماً في الاعتذار من وداع الحبيب: يوم الوداع بدت شواهد لوعتي ... نار الخليل تشبّ في الطوفان وأردت أعتنق الحبيب فخفت أن ... يغشاه يمٌّ أو لظى نيران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وطلب مني أن أنظم شيئاً في هذه المادة فقلت: لم أطّرح يوم الوداع عناقه ... مللاً ودمع المقلتين سكوب إلا مخافة أن يفترّ عن ... بردٍ وتبدو حرقتي فيذوب ومن نظمه وقد أهدي إليه قراصيا: يا سيّداً أصبحت كفّاه بحر ندىً ... تولي سحائبه الأنعام والقوتا كنّا عهدنا اللآلي من مواهبه ... واليوم ننظرها فينا يواقيتا ومنه وقد أهدي إليه بطيخ أصفر: أهديت شيئاً يروق منظره ... ماءً تبدّى في جامد اللهب أو شمس أفقٍ قد كوّرت فبدا ... شعاعها مثل ذائب الذهب لما تبدّت لها بروق مدىً ... أبدت حشاها أهلّة الشّهب وكم أرتنا القسيّ من قزحٍ ... مبشّراتٍ بواكفٍ سرب أخضرها قد زها بأحمرها ... كورد خدّ بالآس منتقب وأرشقت من عقيق مبسمها ... خمرة ريقٍ أحلى من الضّرب فبتّ من نشوةٍ بها ثملاً ... أهزّ عطف السّرور من طرب ومذ ترشّفت برد ريّقها ... خلت فؤادي العزيز في حلب ومنه، وقرأته عليه، ونقلته من خطه: سرى برق نعمان فأذكره السّقطا ... وأبدى عقيق الدمع في خده سمطا فلاح كسيفٍ مذهبٍ سلّ نصله ... وروّع وسميّ السّحائب فانحطا وأدّى رسالاتٍ عن البان والنّقا ... وأقرأه معنى الغرام وما خطّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وأهدى إليه نسمةً سحريّةً ... أعادت فؤاداً طالما عنه قد شطّا تمرّ على روض الحمى نفحاتها ... فتهدي إلى الأزهار من نشرها قسطا وتنثر عقد الطلّ في وجناتها ... فتظهر في لألاء أوجهنا بسطا وتطلع منه في الدجا أيّ ألجم ... وتلبس عطف الغصن من سندسٍ مرطا وتوقظ فوق الدوح ورق حمائمٍ ... جعلنا قلوب العاشقين لها لقطا هم نسبوا حزناً إليها وما دروا ... وما أرسلت من جفنها أبداً نقطا وكم تيّمت صبّاً بلحن غريبه ... رواه الهوى عنها وما عرفت ضبطا فيا ليت شعري هل بها ما بمهجتي ... من الوجد أم لم ترع عهداً ولا شرطا هل هي في دوحات كلّ خميلةٍ ... تغرّد أو ناحت على فقدها السّبطا ولو أنّها قد تيّمتها صبابةٌ ... لما طوّقت جيداً ولا جاورت شطّا ولا عانقت غصناً بكفّ مخضّب ... ولا اتّخذت من زهر أعطافه قرطا ولا لبست ثوباً يروق مدبجاً ... ولا نسيت عهد الهديل ولا الأرطى ولو ذكرت أيامنا بطويلعٍ ... لأجرت كدمعي مذ بدت لمّتي شمطا وقد نفّرت عني غرابيب صبوتي ... غرابيب دهرٍ جار في الحكم واشتطّا وخطّ على فوديّ سطراً حروفه ... رقمن بقلبي عارض الحتف مذ خطّا ولكنّه قد أودع الفكر حكمةً ... أفادته عرفانا فيا نعم ما أعطى تجارب أيامٍ لها الغدر شيمةٌ ... فكم سترت فضلاً وكم أظهرت غمطا وألبسه ثوباً من العلم معلماً ... بدا لذوي جهلٍ فأورثهم سخطا إذا ما روت عنه البلاغة منطقاً ... يرى النجم في عليائه عنه منحطّا وإن غاص في لجّ البيان يراعه ... أرى جنّةً لا أثل فيها ولا خمطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 بها حور عينٍ لو رآها زهيرها ... لصيّر خدّيه لأقدامه بسطا إذا ما تجلّى للأفاضل حسنها ... أدارت عليهم من لواحظها اسفنطا وتحجب عمّن قد تردّى لجهله ... وأصبح جلباب الحيا عنه منعطّا ولا غرو ألاّ يدرك الشمس ذو عمىً ... على قلبه من الجهالة قد غطّى صفاتٌ عزتها نسبةٌ قرشيّةٌ ... إلى من سما مجداً وأكرم بهم رهطا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم بن أبي سعد الصاحب قوام الدين بن الطراح. كان من بيت علم ورئاسه، وحديث ونفاسه، وكان أخوه فخر الدين أبو محمد المظفر بن محمد له تقدم عند التتار، وحرمة لا يحجبها استتار. وقدم هذا قوام الدين القاهره، وكان حسن الصحبة والمحاوره، ظريف المنادمه، كريم المجاوره، وله معرفة بنحو ولغة ونجو وحساب، وأدب لم يكن لغيره فيه احتساب. أخبرني من لفظة العلامة أثير الدين أبو حيان قال: قدم علينا القاهرة. وقال لي: إني أول من تشيع من بيتنا، قال أثير الدين: وكان فيه تشيع يسير، ثم إنه سافر إلى الشام وكر منها راجعاً إلى العراق مع غازان، وكنت سألته أن يوجه إلينا شيئاً من أخباره وعمن أخذ من أهل العلم، وشيئاً من شعره فوجه لي بذلك وكتب لي من شعره بخطه: غدير دمعي في الخدّ يطّرد ... ونار وجدي في القلب تتّقد ومهجتي في هواك أتلفها الش ... وق وقلبٌ أودى به الكمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وعدك لا ينقضي له أمدٌ ... ولا الليل المطال منك غد ومنه: لقد جمعت في وجهه لمحبّه ... بدائع لم يجمعن في الشمس والبدر حبابٌ وخمرٌ في عقيقٍ ونرجسٍ ... وآسٌ وريحانٌ وليلٌ على فجر وقال: كتب إلي أخي أبو محمد المظفر يعاتبني على انقطاعي عنه، وهو الذي رباني وكفلني بعد أبي: لو كنت يا ابن أبي حفظت إخائي ... ما طبت نفساً ساعةٌ بجفائي وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ورعيت لي عهدي وصدق وفائي خلّفتني قلق المضاجع ساهراً ... أرعى الدّجى وكواكب الجوزاء ما كان ظنّي أن تحاول هجرتي ... أو أن يكون البعد منك جزائي قال: فكتبت إليه: إن غبت عنك فإنّ ودّي حاضرٌ ... رهنٌ بمحض مودّتي وولائي ما غبت عنك بهجرةٍ تعتدّها ... ذنبا عليّ ولا لضعف ولائي لكنّني لما رأيت يد النّوى ... ترمي الجميع بفرقةٍ وتنائي أشفقت من نظر الحسود لوصلنا ... فحجبته عن أعين الرقباء انتهى كلام الشيخ أثير الدين. قلت: وتوفي المذكور رحمه الله تعالى في أوائل المحرم سنة عشرين وسبع مئة ببغداد، ودفن بمشهد موسى الجواد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 ومولده في شهر ربيع الأول سنة خمسين وست مئة. وكان الملك الأشرف خليل بن قلاوون قد جهز لأخيه فخر الدين توقيعاً وعلماً وخاتماً، وتقرر بينهما إذا دخل السلطان أرض الحجاز يقدم عليه بجيشه، فإنه كان نائب سلطنة هناك، ولما ورد أخوه قوام الدين في أيار سلار والجاشنكير حضر معه الخاتم والتوقيع والعلم، فلذلك قرر له على المصالح بدمشق ثلاث مئة درهم في كل شهر. حسن بن محمد بن علي الشريف نور الدين بن الشريف محيي الدين بن فخر الدين بن زهرة، الحسيني الحلبي، ابن عم الشريف بدر الدين نقيب الأشراف بحلب. كان فيه نهضة، وله همة ومعرفة، ولي نظر البيمارستان وغيره بحلب، فعزل من ذلك وحوقق، وأخذ منه مال على سبيل المصالحة، وحصل له إخراق وإهانة، وكأنه قد خيف من عائلته، فترك إلى أن خرج إلى قرية من قرى سرمين ليقسم مغلها، ونزل عليه الرجال وقتلوه، ومعه ثلاثة أنفس، وقطعت يد آخر من رفاقه من مرفقه، ولم يتعرضوا إلى ما معهم من المال ولا القماش، وذلك في ليلة الثلاثاء خامس شهر الله المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 حسن بن محمد بن قلاوون السلطان الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور. ملك قهر الجبارين أخيرا، وصبحهم في مأمنهم مغيرا، وجعلهم في السجون وحدانا وكانوا أكثر نفيرا، وملأ القلوب سطوه، ولم يدع أحداً ينقل في غير الطاعة خطوه، واحتجن الأموال، وأرى الناس الغير والأهوال، وبنى المدرسة العظمى، وأنفق البلغاء فيها حواصل أفكارهم نثراً ونظما، ووقف عليها الوقوف التي تجري سيولها، وتسري في البر خيولها. إلا أن الدهر ما أمهله لتتكمل بدورها وتتأمل العيون ما تتطاول إليه قصورها، ولو تمت لخذلت مستنصرية ببغداد عندها، واعترفت لها بالتعظيم عن نية طاهرة لا عن دها: تعنو الكواكب إجلالاً لعزتها ... وتستكين لها الأفلاك من عظم كأنّها إرمٌ ذات العماد وإن ... زادت بمالكها فخراً على إرم ولم يزل في عز سلطانه وجبروته، ومروره في بيد طيشه ومروته إلى أن خلع من الملك، وأنزل من درجات النعيم إلى درجات الهلك، حالة ألفها الناس من أم ذفر، وغاية لا بد منها لكل سفر، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وكان قد جلس على تخت الملك أولا بعد خلع أخيه الملك المظفر حاجي في بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر إلى دمشق الأمير سيف الدين أسنبعا المحمودي السلاح دار وحلف له العساكر بدمشق، فاستقر بيبغاروس في نيابة مصر، والأمير منجك في الوزارة والاستاذدارية والأمير سيف الدين شيخو يقرأ القصص عليه بحضور السلطان، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن كان يوم السبت رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فقال السلطان يوماً بحضور القضاة، وأمراء الدولة حضور: أنا ما أنا رشيد؟ قالوا: الله الله، فقال: أنا ما أنا أهل للسلطنة؟ فقالوا: الله الله. فقال: إن كان الأمر هكذا فأمسكوا إلي هذا. وأشار إلى الوزير منجك، وكان النائب أخوه قد توجه إلى الحجاز هو والأمير سيف الدين طاز، ودبر هذا الأمر له الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور، فأمسك الوزير، وكتب إلى الأمير طاز فأمسك بيبغاروس في طريق الحجاز على ما تقدم في ترجمة بيبغاروس، وزاد مغلطاي في إمساك الأمراء والنواب، على ما تقدم، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن خلع الناصر حسن في ثامن عشري شهر جمادى الآخر نهار الاثنين سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة وأجلسوا أخاه الملك الصالح صلاح الدين صالح، على ما سيأتي في ترجمته. ولم يزل الملك الناصر حسن بالقلعة داخل الدور السلطانية في مكان يلازمه لا يجتمع بأحد إلى أن أحس الأمير سيف الدين شيخو بأن الأمير سيف الدين جردمر أخا الأمير طاز قد قصد فتنة يثيرها، فحينئذ خلع الملك الصالح وأعاد الناصر حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 إلى الملك وأجلسه على تخت السلطنة بكرة الاثنين ثاني العيد من شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة. وحضر الأمير عز الدين أيدمر الشمسي إلى دمشق وحلف له العساكر، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، ونقل أرغون الكاملي من نيابة حلب إلى مصر، فأقام قليلاً واعتقله بالإسكندرية، واستقل بالتدبير الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين صرغتمس، وكان الأمير سيف الدين طشتمر القاسمي أمير حاجب، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن جرح الأمير شيخو على ما سيأتي في ترجمته، وأقام قليلاً ومات رحمه الله تعالى. وأمسك الأمير طاز وأخوته، وانفرد صرغتمش بالتدبير بعد موت شيخو إلى أن أمسكه الملك الناصر حسن على ما سيأتي في ترجمته وأمسك معه جماعة، وذلك في عشري شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فصفت له الدولة ولم يشاركه أحد في التدبير، وشرع في عمارة المدرسة العظمى التي ظاهر القاهرة، ولو كملت لكانت غاية في العظم وعلو البناء واتساعه، ويقال إنه كان قد أرصد لعمارتها في كل يوم عشرين ألف درهم، وأقامت على ذلك، والعمارة لا تعطل منها يوماً واحداً ثلاث سنين وأكثر، وخلع وما نجزت عمارتها، وعلى الجملة فهي أمر عجيب. وزاد في احتجان الأموال مصادرة الأمراء والكتاب وأصحاب الأموال، وزاد أيضاً في أخذ القرى الكبار الأمهات الأعيان من سائر المملكة الإسلامية بالشام جميعها ومصر واصطفائها لنفسه، ولم يمت أمير إلا وأخذ من إقطاعه خياره، ووفر بعض التقادم التي هي في العساكر لأمراء المئين، ولم يدع أحداً آمناً على نفسه من النواب ومن دونهم فلا يقيم النائب إلا دون السنة، وكذلك الأمراء لا يقيمون إلا أقل من سنة حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 ينقلوا من إقطاعهم ومن مكانهم، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن خلعه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة كما تقدم، وأجلس السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر حاجي، وورد إلى دمشق الأمير سيف الدين بزدار السلاح دار وحلف العساكر الشامية. وكان بعض الأصحاب قد قصد مني نظم قصيدة أذكر فيها أمر السلطان وقهره وعمارته المدرسة المذكورة، وأن تكون واضحة بحيث يفهمها، فقلت: إنّي بنظم مدائح السّلطان ... فتق البيان من البديع لساني النّاصر ابن الناصر الملك الذي ... ملك القلوب بطاعة الرحمن من بيت أملاك أبوه وجدّه ... مع إخوةٍ صالوا على الحدثان وأبو المحاسن بينهم حسن كما ... سمّي حليف الحسن والإحسان فتراه ما بين الملوك كأنّه ... دين النّبيّ علا على الأديان وتراه مثل البدر والأمراء مث ... ل الزّهر في فلك من الإيوان لا بل هو الشمس المنيرة في الضّحى ... في رونقٍ وسناً ورفعة شان أمست ملوك الأرض خاضعة له ... في سائر الأقطار والبلدان من عدله المشهور قد ملأ الملا ... وكأنّه كسرى أنوشروان لوعاينته ملوك عصرٍ قد مضى ... لتقمّصوا بالذّلّ والإذعان تتلو الحمائم في مناقب فضله ... خطباً تهزّ منابر الأغصان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فترقّص الأعطاف من فرحس به ... وتميل من طربٍ غصون البان أيامه من يمنها وأمانها ... مشكورةٌ فينا بكلّ لسان قهر الأعادي بأسه فأذلّهم ... ورماهم بالخزي والخسران من خانه في ملكه فقد اغتدى ... متبرّياً من ربقة الإيمان والله سلّطه على أعدائه ... ورمى الجميع بذلّة وهوان الله أيّده ومكّن سيفه ... من عنق كلّ منافق خوّان وترى دما أعدائه بسيوفه ... كشقائق نثرت على ريحان لكنّه من رحمةٍ حقن الدّما ... لم يمض فيها حدّ كلّ يمان شكراً لخالقه الذي من لطفه ... قد بات منصوراً على الأقران وبنى بقاهرة المعزّ مدارساً ... للفقه والتحديث والقرآن أرسى قواعدها وشيّد صرحها ... فعلت على العيّوق والدّبران تتحيّر الأفهام في تكوينها ... فنباؤها من أعظم البنيان ليست على وجه البسيطة مثلها ... من أرض توريز إلى أسوان لو عاين المنصور رونقها غدا ... من دهشةٍ لحقته كالحيران هاتيك مدرسةٌ وأمّا هذه ... فمدينةٌ في غاية الإتقان للشافعيّ ومالكٍ وأبي حني ... فةٍ الإمام وأحمد الشيباني هو فارس الخيل الذي تجري به ... كالبرق يوم السّبق في الميدان فتطير أُكرته كرأس عدوّه ... لما طغى من ضربة الجوكان وكذاك يوم الحرب إن هزّت به ... أيدي الكماة عوالي المرّان يلقى الكفاح بوجهه وبنحره ... ويكون ليث وغىً على الفرسان نصر الضعيف على القويّ بباسه ... فالظّلم في خزي وفي خذلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 والشّرع قد أعلى الإله مناره ... فتراه وهو مشيّد الأركان فلأجل ذا تمتدّ مدّة ملكه ... محروسةً في السّرّ والإعلان الحسن بن مظفر بن عبد المطلب بن عبد الوهاب بن مناقب بن أحمد الشريف العدل شمس الدين أبو محمد الحسيني المنقذي الدمشقي. روى عن الفخر الإربلي وأبي نصر بن الشيرازي وعبد العزيز بن الدجاجية، وإبراهيم الخشوعي، وناب في الحبسة مديدة، وكان في جملة الشهود. وسمع منه الشيخ شمس الدين الذهبي، وكان قد ابتلي ببلغم، فكان إذا مشى تعدو بغير اختياره، ثم يسقط ويستريح ويقوم. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. الحسن بن منصور بن محمد بن المبارك جلال الدين بن شواق، بالشين المعجمة والواو المشددة وبعد الألف قاف، الإسنائي. كان جواداً كريما، عاقلاً حليما، فاضلاً أديبا، كاملاً لبيبا، نبيه القدر، واسع الصدر، يشعر فيأتي بالرياض اليانعه، ويهز بالطرب سامعه، أبي النفس لا يرى الضيم، ولا تدخل غادة شمسه تحت ستر غيم. لم يزل في نفاسته ومعارج رياسته إلى أن هبط من أوج قدره إلى حضيض قبره. ووفاته رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. كان بنو السديد بإسنا يحسدونه ويعملون عليه، فعلموا عليه بعض العوام، فرماه بالتشيع. ولما حضر بعض الكاشفين إلى إسنا حضر إليه شخص يسمى عيسى بن إسحاق وأظهر التوبة من الرفض، وأتى بالشهادتين، وقال: إن شيخنا ومدرسنا حضر إليه في هذا جلال الدين بن شواق، فصادره الكاشف؛ أخذ ماله، فجاء إلى القاهرة، وعرض عليه أن يكون في ديوان الإنشاء فلم يفعل، وقال: لا، تركت أولادي يقال لهم من بعدي: أبوكم خدم وعرض عليه أن يكون شاهد ديوان حسام الدين لاجين قبل السلطنة فلم يفعل. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: أخبرني الفقيه العدل حاتم بن النفيس الإسنائي أنه تحدث معه في شيء من مذهب الشيعة فحلف أن يحب الصحابة ويعظمهم ويعترف بفضلهم، قال: إلا أني أقدم عليهم علياً. ومن شعره: رأيت كرماً ذاوياً ذابلاً ... وربعه من بعد خصب محيل فقلت إذ عاينته ميّتاً ... لا غرو أن شقّت عليه النّخيل ومن شعره يمدح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هوا طيبة أهواه من حيث أرّجا ... فعوجا بنا نحو العقيق وعرّجا وسيروا بنا سيراً حثيثاً ملازماً ... ولا تنيا فالعيس لم تعرف الوجى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ومن شعره: كيف لا يحلو غرامي وافتضاحي ... وأنا بين غبوقٍ واصطباح مع رشيقٍ القدّ معسول اللمى ... أسمرٍ فاق على سمر الرّماح جوهريّ الثّغر ينحو عجباً ... رفّع المرضى لتعليل الصّحاح نصب الهجر على تمييزه ... وابتدا بالصّدّ جدّاً في مزاح فلهذا صار أمري خبراً ... شاع في الآفاق بالقول الصّراح يا أُهيل الحيّ من نجدٍ عسى ... تجبروا قلب أسيرٍ من جراح لو خفضتم حال صبٍّ جازم ... ماله نحو حماكم من براح ليس يصغي قول واشٍ سمعه ... فعلى ماذا سمعتم قول لاح ومحوتم اسمه من وصلكم ... وهو في رسم هواكم غير ماح وصحا كلّ محبٍّ ثملٍ ... وهو من خمر هواكم غير صاح ولئن أفرطتم في هجره ... ورأيتم بعده عين الصلاح فهو لاج لأُولي آل العبا ... معدن الإحسان طرّا والسّماح قلّدوا أمراً عظيماً شانه ... فهو في أعناقهم مثل الوشاح أمناء الله في السّرّ الذي ... عجزت عن حلمه أهل الصّلاح هم مصابيح الدّجى عند السّرى ... وهم أُسد الشّرى عند الكفاح قلت: شعر ابن شواق يشوق، ويحلي الأجياد ويطوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 حسن بن نصر الصدر نبيه الدين الإسعدي. كان محتسب القاهرة، ولما تولى الصاحب ضياء الدين النشائي الوزارة تولى هو نظر الدواوين. وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة، ودفن برا باب النصر بالقاهرة، وصلى عليه الشيخ نصر المنبجي. الحسن بن هارون بن حسن الفقيه الصالح نجم الدين الهذباني الشافعي أحد أصحاب الشيخ محيي الدين النووي. كان ديناً خيراً ورعاً. سمع من ابن عبد الدائم. ولم يحدث لأنه توفي - رحمه الله تعالى - كهلاً سنة تسع وتسعين وست مئة في تاسع شعبان. الحسن بن هبة الله بن عبد السيد شمس الدين الأدفوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 حفظ المنهاج للنووي، وسمع من ابن أبي الفتح محمد بن أحمد الدشناوي، أقام بإسنا سنين، ثم أقام بقوص إلى أخر عمره. وكان دخل مصر وحضر الدروس. وكان خفيف الروح، يكتم سره ولا يبوح، لطيفاً في حركاته وكلامه، متحبباً إلى من واجهه بتحيته وسلامه، قليل الغيبه، إذا نقل عن أحد شيئاً حمله على أحسن محامله ونفى الريبه. وكان يعرف شيئاً من الموسيقى، وينزل النغم على الوزن تطبيقا، إلا أنه عمره انخلع من الخلاعه، وادكر الموقف واطلاعه، والتزم بالإشغال، واشترى بالرخيص الغال، وانتصب للعلم، وجنح بعد حرب التصابي إلى السلم، ورمى السلاح، ودخل في زمرة الصلاح. ولم يزل على حالته هذه إلى أن توجه إلى أخراه، وحمده الصبح بعد مسراه. ووفاته - رحمه الله تعالى - بعد العشرين وسبع مئة. ومن شعره: إن المليحة والمليح كلاهما ... حضرا ومزمارٌ هناك وعود والرّوض فتّحت الصّبا أكمامه ... فكأنّه مسكٌ يفوح وعود ومدامةٌ تجلو الهموم فبادروا ... واستغنموا فرص الزّمان وعودوا ومن شعره فيمن وقعت على نصفيته قنينة حبر: جاء البهاء إلى العلوم مبادراً مع ما حوى من أجره وثوابه ملئت صحائفه بياضاً ساطعاً ... غار السّواد فشنّ في أثوابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 حسن بن هندو الحاكم بمدينة سنجار، وبالموصل أخيراً. كان في آخر عمره يكاتب المسلمين ويترامى عليهم، ويظهر المودة والنصح والإخلاص في المحبة، وكل ذلك زور وبهتان، لأنه كان نجمة التركماني المفسد يأوي إليه، وجرى منه، وتوجهت العساكر إلى سنجار، وقاسوا شدة، وطلب الأمان وقال: أنا غلام مولانا السلطان ونائبه، وهذا أخي يكون عندكم رهينة، فرسم للعساكر بالعود، وحضر أخوه إلى قريب من دمشق، وهرب ولم يظهر له خبر. ثم إنه ما رجع عن مكره ولا فساده ولا أذاه إلى أن قتله صاحب ماردين في سنة أربع وخمسين وسبع مئة، في أواخرها وأراح الله المسلمين منه. حسن الكردي شيخ صالح زاهد، راق في معارج صاعد، له حال وكشف، وكوكب هدى قد تنزه عن الكشف، يقصده الناس بالزياره، وتومي الأصابع إليه بالإشارة. كان مقيماً بالشاغور بظاهر دمشق منجمعاً عن الأنام، قد ألف الخلوة وتعبد والناس نيام، له حاكورة يزرع فيها الخضر، ويرتفق به ويطعم منه من حضر، أقام على هذه الحال سنين، واستراح من هموم المال والزوجة والبنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ولم يزل على هذه الحال إلى أن أخذ من شعره واغتسل، واستقبل القبلة وركع ركعات وراح إلى ربه وانتقل. وكانت وفاته سنة سبع مئة. حسن الجوالقي كان له في الدولة صوره، والمحاسن من الأخلاق عليه مقصوره، نفع الناس بجاهه، وعوده في السفارة واتجاهه، وكان مقبول القول لا يرده أحد، ولا يرى في قلعة الجبل بالقاهرة من لفضله جحد، وعنده مكارم للوارد والصادر، والغزال الكانس والليث الخادر، أقام بمصر مدة على هذا القدم، وما احتد فيها يوماً ولا احتدم. ولم يزل كذلك إلى أن خطر له الحضور إلى دمشق للاسترواح، وتجديد العهد بالأصحاب وذكرى أوقات الأفراح، وكان به مرض واستشفى، وأكرمه الناس ساعة الملقى، فأقام أقل من شهر وقضى، وعد فيمن درج ومضى. وتوفي - رحمه الله تعالى - في نف جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وتأسف الناس والفقراء لفقده. حسين بن أسد بن مبارك بن الأثير سمع من الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وشمس الدين الواعظ الجزري، وهو آخر من حدث عنه بالسماع، ومن النجيب عبد اللطيف، وأبي الفضل محمد بن محمد البكري، وزين الدين عبد المحسن بن عبد العزيز بن علي بن الصيرفي المخزومي، ومن إسماعيل بن سليمان، ومن بدر، ومن جماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وكان صالحاً حسن الشكل مليح المحاضرة، وكان حنلبياً، وينتسب إلى صاحب جامع الأصول. وتوفي بداره بحارة الديلم في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. الحسين بن أبي بكر بن جندربك الأمير شرف الدين أمير حسين الرومي. كان من فرسان الخيل، وممن يسامي بسؤدده نجوم الليل، يجيد اللعب بالطير الجارح، ويصيد به ما هو في الجو طائر وفي البر سارح، هذا إلى ما هو فيه، مبرز في رمي النشاب، وصيد الوحش الذي يشهد له به البازي والكلاب، لا يكاد الوحش ينجو من يديه، ولا يفوته في ظهيرته أو أبرديه. باشر الحروب مصافاً وحصارا، وكانت النصرة له غاية وقصارى. وكان في لسانه عجمه، لا تمنعه من اختبار سهم من عربي ولا عجمه، لأنه كان يؤثر قرب الفضلاء، ويود محادثة النبلاء، ويسأل عن غوامض بالنسبة إليه من القرآن، ويفحص عن مشكلات من معاني شعراء الأوائل وأهل الزمان، وله التنديب الحلو، والتندير الذي لا يرى وهو من التعجب خلو. ونادم الأفرم في القصر، وفاز بنضارة ذلك العصر، ووقع بينه وبين الأمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 سيف الدين تنكز ونجا، وجعل الله له من أمره مخرجا، لنيته السليمه، وطويته القويمه. وطلبه السلطان فيما بعد ذلك، وسلكه من التقريب بحضرته أقرب المسالك. ولم يزل على حاله إلى أن أفل نجم حياته، وتغيرت بالأسقام حلاوة شياته. وتوفي بالقاهرة - رحمه الله تعالى - في سابع المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ودفن بجوار جامعه بحكر جوهر النوبي. كان وهو أمرد رأس مدرج طلب حسام الدين لاجين لما كان نائب الشام، وكان يؤثره ويقربه لأنه كان صياداً شجاعاً. وكان يحبه لأجل أخيه الأمير مظفر الدين، وربما تنادم معهما خلوة. ولما ولي الملك حسام الدين لاجين طلبه إلى مصر وخلع عليه خلعة ولم يرضها، ثم إنه عاد إلى الشام وطلبه فيما أظن ثانياً، ورسم له بعشرة، وجرى للسلطان ما جرى على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فأقام بمصر إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك، فرسم له بالعشرة، وحضر مع الأفرم إلى دمشق صحبة الطلب. ثم إنه آخذ الطبلخاناه ولاق بقلب الأفرم ونادمه، ولم يزل معه بدمشق إلى أن هرب الأفرم عند قدوم الملك الناصر من الكرك إلى دمشق، فلحق هو بالسلطان ودخل معه ومع خواصه، وجهزه السلطان إلى الكرك ومعه الأمير سيف الدين تنكز، فأحضر الخزانة، وتوجه مع السلطان إلى القاهرة، ودخل معه بأنواع الحيل والتقرب إلى أن ما وصل إلى مصر إلا وهو من جملة المقربين. أخبرني من لفظه قال: كنا ونحن سائرون في الطريق إذا مررنا بصيد آخذ الصقر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الجارح وأقول ياخوند: إن كان نملك مصر فهذا الطير يأخذ هذه الرمية، قال: وأتحيل وأقارب وأبلغ الجهد وأرميه فلا يخطي، فأقول: ياخوند هذا بسعادتك، فنزل من قلبه. وكان محظوظاً في الصيد بالجوارح والضواري والنشاب، لا يكاد يفوته شيء منه. رأيت أنا هذا منه مراراً عديدة لما كنت أسافر معه، فإنني كتبت له الدرج بصفد وبمصر، وكان يستصحبني معه في أسفاره شاماً ومصراً، ثم إن السلطان أعطاه في مصر إمرة مئة وقدمه عل ألف، وأفرد له زاوية من طيور الجوارح، فكان أمير شكار مع الأمير سيف الدين كوجري. وحضر مع السلطان إلى دمشق لما توجه إلى الحجاز في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وأقام بدمشق ولم يتوجه إلى الحجاز لأنه وقع وكسرت رجله، وكان الأمير سيف الدين تنكز يحضر لزيارته ويعوده كل قليل، وهو نائب دمشق. ولما عاد السلطان عاد معه إلى مصر ولقي الحرمة الوافرة وحظي بالديار المصرية، وكان ينتمي إلى الأمير سيف الدين طغاي الكبير وينبسط معه فحلا بقلب الخاصكية وسلم لذلك لما أمسك السلطان الأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وما أعطاه الناس في تلك الواقعة سلامه. ثم إنه توالت عليه الأمراض فرسم له السلطان بالعود إلى الشام، فحضر إليها وهو مستمر عند تنكز على تلك المحبة، إلى أن وقع بينهما بسبب القصب الذي له في قرية عمتنا، وتخاصما في سوق الخيل ورجعا إلى دار السعادة وتحاكما، ثم إنهم سعوا بينهما في المصالحة، فقام تنكز وقام أمير حسين فوضع يده على عنق تنكز وقبل رأسه، فما حمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 تنكز منه ذلك. قال لي أمير حسين: والله ما تعمدت ذلك، ولكنه كان خطأ كبيراً، فكتب تنكز وطالع السلطان، فشد الفخري قطلوبغا من أمير حسين شداً كبيراً، فما أفاد كتاب تنكز، ورسم السلطان للأمير شرف الدين أن يكون مقامه بصفد وإقطاعه على حاله، وجاء كتاب السلطان إليه يقول فيه: إنك أسأت الأدب على نائبنا، وما كان يليق بك هذا، وحضر كتاب السلطان إلى نائب صفد بأن الأمير شرف الدين طرخان لا تجرده إلى يزك ولا تلزمه بخدمة إن شاء ركب وإن شاء نزل، فأقام بصفد قريباً من سنتين ونصف. ومن هنا كتبت له الدرج. ثم إن الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار لما حضر إلى دمشق لإحضار الأمير علاء الدين ألطنبغا من حلب ليتوجه إليها أرغون الدوادار نائباً، كأنه قال للأمير سيف الدين تنكز لما جاء ذكر أمير حسين: والله ما كان السلطان هان عليه أمره، فحينئذ جنح تنكز للصلح مع أمير حسين وسير إليه بالغور ليلتقيه إلى القصير المعيني، فاصطلحا هناك وخلع عليه، ووعده بأنه إذا عاد من مصر أخذه معه إلى دمشق ففاوض السلطان في ذلك فما وافق على ذلك، وطلب الأمير شرف الدين إلى مصر وجاء الفور البريد وأخذه وتوجه به إلى دمشق، وجهز تنكز إلى مصر، فتوجه إليها على خيل البريد، وكنت معه، فوصل إليها في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير بهاء الدين أصلم السلحدار، فأقام عليه إلى أوائل سنة تسع وعشرين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وتوفي رحمه الله تعالى، وحنا السلطان عليه حنواً كثيراً، وأعطى مماليكه الإقطاعات في الحلقة ورتب لهم الرواتب وأمر بعض أقاربه، ورتب الرواتب لبناته وزوجته وأقاربه وبعض غلمانه وأباح طيوره بحضوره، وهذا لم يتفق لغيره. وهو الذي بنى القنطرة على الخليج وإلى جانبها الجامع الذي له في حكر جوهر النوبي، ولما فرغ أحضر إليه المشد والكاتب حساب ذلك، وقال: هذا حساب هذه العمارة، فرمى به في الخليج، وقال: أنا خرجت عن هذا لله تعالى، فإن خنتما فعليكما، وإن وفيتما فلكما. يقال: إنه غرم على ذلك فوق المئتي ألف درهم، وكان - رحمه الله تعالى - على الدرهم والدينار من يده شحيحاً، وأما من خلفه فما كان يقف في شيء، وكان الفرس والقباء عنده هين الأمر، يطلق ذلك كثيراً. وكان خفيف الروح دائم البشر، لطيف العبارة، كثير التنديب الداخل، وكانت في عبارته عجمة، لكنه إذ قال الحكاية أو ندب أو ندر يظهر لكلامه حلاوة في السمع والقلب. قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس رحمه الله تعالى: نحن إذا حكينا ما يقوله هو ما يكون لذلك حلاوة كلامه من فيه. وكان ظريفاً إلى الغاية في شمائله وحركاته، وكان فيه الخير والصدقة، ولكنه كان يستحيل في الآخر بعد إقباله. وكان يجلس في مصر رأس الميمنة من أسفل، ولما حضر توتاش جلس مكانه، وكان هو يجلس في الميسرة بعد ذلك إلى أن مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وكان السلطان يحبه ويؤثره كثيراً ويعجبه كلامه، وكان قد أعطاه طبلخاناه جعلها وقفاً عليه يعطيها هو من جهته لأي من أراد من أقاربه، فكانت تنتقل بين أقاربه إلى أن مات وماتوا. وكان قد تولى أمر الركب بدمشق وحج في سنة خمس وسبع مئة، وحج أيضاً من الديار المصرية. الحسين بن الحسين بن يحيى أبو محمد بن أبي علي القاضي الأرمنتي، تقدم ضبط هذه النسبة لم أعلم شيئاً من حاله فأترجمه، أو أعمل الظن فيه حتى أرجحه، لكن ذكره الشيخ قطب الدين عبد الكريم في تاريخه والفاضل محمد بن علي بن يوسف، والفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي في تاريخ الصعيد. وتوفي بأرمنت - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وأورد له: غلطت لعمري يا أُخيّ وإنّني ... لفي سكرةٍ ممّا جناه لي الغلط حططت بقدري إذ رفقت أخسّةً ... ومن رفع الأسقاط حقّ بأن يحط وأورد له أيضاً: أقسمت لا عدت لشكر امرئ ... يوماً ولا أخلصت في ودّي من قبل أن تبدو أفعاله ... في حالة القرب أو البعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وكلّ من جرّعني سمّه ... فهو الذي أطعمته شهدي الحسين بن خضر ابن محمد بن حجي بن كرامة بن بحتر بن علي بن إبراهيم بن الحسين بن إسحاق بن محمد: الأمير ناصر الدين التنوخي المعروف بابن أمير الغرب، مقامه ومقام ذويه بجبال الغرب من بلاد بيروت، والحسين بن إسحاق في أجداده، وهو ممدوح أبي الطيب في القصيدة القافية التي يقول فيها: شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريّها كيرانها والنمارق وله فيهم أمداح ومراث. وكرامة بن بحتر هو الذي هاجر إلى نور الدين الشهيد فأقطعه الغرب وما معه بإمرية فسمي أمير الغرب بذلك، قال الأمير ناصر الدين المذكور: ومنثوره إلى الآن عندنا بخط العماد الكاتب، وتحضر كرامة بعد البداوة، وسكن حصن سلحمور من نواحي إقطاعه، وهو على تل عال بغير بناء، وانتشأ أولاده هناك، ولم يزالوا كذلك إلى أن كان الحضر، فكان قذى في عين صاحب بيروت أيام الفرنج، وشجاً في حلقه، ورام حصره مراراً، فتوعر الوصول إليه، فلما صار الحال إلى أولاده الشباب هادنهم صاحب بيروت وسالمهم، وجعلوا ينزلون إلى الساحل، وألفوا الصيد بالطير وغيره، فراسلهم، وطلب الاجتماع بهم في الصيد، فتوجه كبارهم وتصيدوا معه إلى آخر النهار، فأكرمهم وقدم لهم ضواري وطيوراً وكساهم قماشاً ولمن معهم، وعادوا إلى حصنهم، ولم يزل يستدرجهم مرة بعد مرة إلى أن أخرج ابنه معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وهو شاب، فقال: قد عزمت على زواجه، وأدعو له ملوك السواحل، وأريدكم تحضرون ذلك النهار، فتوجه الثلاثة الكبار وبقي أخوهم الصغير في الحصن ووالدته وجماعة قليلة، وتوجهوا إليه، وامتلأ الساحل بالشواني والمدينة بالفرنج الغتم وتلقوهم بالشمع والمغاني، فلما صاروا في القلعة، وجلسوا مع الملوك قعدوا إلى العصر، ثم إنهم غدروا بهم وتكاثروا عليهم وأمسكوهم وأمسكوا غلمانهم، وغرقوهم وركبوا في الليل، ومع صاحب بيروت جميع العسكر القبرسي واشتغلوا بالحصن، وانجفل الفلاحون قدامهم والحريم والصبيان إلى الجبال والشعراء والكهوف وطاولوهم، وعلم أهل الحصن بأن الجماعة قد أمسكوهم وغرقوهم، ففتحوا الباب، وخرجت العجوز ومعها ولدها الصغير وعمره سبع سنين، ولم يبق بينهم سوى هذا واسمه حجي، وهو جد والد هذا ناصر الدين. ولما حضر السلطان صلاح الدين وفتح صيدا وبيروت، توجه إليه هذا حجي وباس رجل السلطان صلاح الدين في ركابه، فلمس رأسه بيده وقال: أنا آخذ ثأرك، طيب قلبك، أنت موضع أبيك، وأمر له بكتابة أملاك أبيه، وهي القرايا التي بأيديهم بستين فارساً. ولم يزالوا على ذلك إلى أيام الملك المنصور قلاوون، فذكر أولاد تغلب من مشغرا قدام الشجاعي أن بيد الجبلية أملاكاً عظيمة بغير استحقاق، ومن جملتهم أمراء الغرب، وتوجهوا معه إلى مصر، فرسم المنصور بإقطاع أملاك الجبلية مع بلاد طرابلس لجندها وأمرائها، فأقطعت لعشرين فارساً من طرابلس، فلما كان أيام الملك الأشرف توجهوا إليه وسألوه أن يخدموا على أملاكهم بالعدة، فرسم لهم بها وأن يزيدوها عشرة أرماح أخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ولما كان أيام الروم في أيام تنكز وكشفها الأمير علاء الدين بن معيد، حصل من تفضول في حقهم، فرسم السلطان الملك الناصر أن تستمر عليهم بمضاعفة العدة، فاستقرت عليهم لستين فارساً، وهي إلى الآن باقية على هذا الحال. وأما هذا ناصر الدين فإنه كان جواداً سمحاً، لا يزول كرمه ولا يمحى، يخدم أعيان الناس، ويتجاوز الحد في ذلك والقياس، ومن يتوجه إلى تلك النواحي، فإنه يجد منه ثغر جود يخجل الأقاصي. وكان يكتب جيداً ويأتي من المحاسن ما حق له أن يدعى سيداً، ويترسل ترسلاً فيه فصاحة وبلاغة، وكلمات كأنها قد صاغها صياغة، وفيه عدة فضائل، وكرم عشرة ولطف شمائل، ورئاسة تدل على كرم أصله، وسيادة يترجم عنها لسان قلمه ونصله. وهو مطاع في قومه، لا يصل المشتري ولا زحل إلى سومه، إذا قال لأحدهم: اسكت رمي من وقته بالصمات، وإذا قال له قم قام، وإذا قال له مت مات، يتسارعون إلى امتثال أوامره، ويتقارعون على الفوز بالتحلي من كلامه بجواهره. ولم يزل على حاله إلى أن غرب نجم أمير الغرب، ولم يدفع عنه أحد بطعن ولا ضرب. وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. ولما كبر وأسن نزل قبل موته بسنتين عن إمرته لولده الأمير زين الدين صالح، وكنت قد توجهت إلى بيروت ولم يكن بها، فسير إلي قاصداً يطلبني لأتوجه إليه إلى أعبيه، لأرى مكانه فيها، فإن الناس يصفونه بحسن زائد وطيب هواء وماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 فرأيت الحركة تشق علي، فاعتذر، فحضر هو بنفسه بعد أيام بعدما تفضل وروده وأحسن وأجمل وقست جوده على الغمام فكان أندى وأغدق وأكمل. وأنشدته لما اجتمعت به: ما زرت في أُعبيه قصداً للجفا ... ربعاً تشرّف بالأمير حسين ورأيته في ثغر بيروت الّتي ... بنداه أصبح مجمع البحرين الحسين بن سليمان بن فزارة القاضي الإمام الفاضل شهاب الدين الكفري، بفتح الكاف وسكون الفاء وبعدها راء، الدمشقي الحنفي. تلا بالروايات على علم الدين القاسم، وسمع من ابن طلحة ومن ابن عبد الدايم، ودرس بالطرخانية، وكان شيخ الإقراء بالمقدمية والزنجيلية. وقرأ بنفسه على ابن أبي اليسر، وكتب الطباق، وكان شيخ قراءات، وبيده لمن يحاكمه في التفاضل براءات. ودرس وأفتى، وكان في الجود بعلمه أكرم من الغيث وأفنى، وناب في الحكم زماناً، ونظم فيه من الإجادة جماناً. وكان خيراً عالماً، ديناً لا يرى لسيف السنة ثالماً، إلا أنه أضر بأخرة، فلزم داره وجلس في بيته كالبدر في داره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 ولم يزل على حاله إلى أن حل ضيف الحين بفتى فزاره، وآن اجتماعه به فزاره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبع مئة عن اثنتين وثمانين سنة. وقرأ عليه أقضى القضاة شرف الدين أحمد وغيره. الحسين بن علي بن إسحاق بن سلام بتشديد اللام: الشيخ الإمام الفاضل المفتي الكامل الدمشقي الشافعي. كان مفتي دار العدل في زمن الأفرم. كان فقيهاً عارفا، ونبيهاً حوى من العلم تالداً وطارفا، عارفاً بخلاف المذاهب، شاهداً لمن خلقه بأنه زائد الكرم والمواهب، قل من ناظره وارتد إلا هزيما، أو فاخره في سيادة إلا كان سليباً وابن سلام سليما، يتخرق في الجود، ويرعى حق الضعيف والوفود. اجتمع فقهاء المذاهب الأربعة في درس من بعض الدروس، وبحث هو مع الجميع، فقطع أصولهم وفروعهم من الغروس، رأى الناس منه في ذلك اليوم عجبا، وجمع محبة القلوب له والتعظيم وحبى. ولم يزل على حاله إلى أن بغته حمامه، وخفر فيه ذمامه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع عشرة وسبع مئة في رابع عشري شهر رمضان. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وكان قد أعاد بالظاهرية ودرس بالجاروخية، ودرس بالعذراوية، وتوفي - رحمه الله تعالى - وعليه ديون كثيرة، وكان قد ألقى الدرس بالعذراوية عوضاً عن صدر الدين سليمان الكردي يوم الأحد حادي عشر المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. الحسين بن علي بن الحسين بن زهرة نقيب الأشراف بحلب، السيد الشريف شمس الدين أبو علي بن الشريف فخر الدين أبي الحسن بن شمس الدين أبي علي. توفي - رحمه الله تعالى - بالزرقاء بعد عوده من الحج رابع عشري المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بسما من عمل بصرى. الحسين بن علي بن سيد الأهل ابن أبي الحسن بن قاسم بن عمار، الشيخ الإمام الشافعي نجم الدين الأسواني الأصفوني. كان فقيهاً فاضلاً مشاركا، ميمون النقيبة مباركا، صاحب فنون، وعبارات في المعارف الذوقية وشجون. أفتى ودرس، وسرى في طلب العلم وعرس، وانتفع به جماعة من الطلاب، وغنموا الفوائد وأخذوا الأسلاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وكان قد تجرد مع الفقراء، وتفرد بأشياء لم يبلغها جماعة من الفقهاء، ثم أناب وعاد إلى طريقة أهل العلم، وتزيا بزي أهل الوقار والحلم. ولم يزل على حاله إلى أن فقد حسه وذوقه، وأصبح والتراب فوقه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: تجرد المذكور مع الفقراء زماناً طويلاً، وكان في وقت فقيهاً في المدرسة الشريفية، فحضر درس قاضي القضاة ابن بنت الأعز، فأنشد بعض الناس قصيدةً مديحاً في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصرخ هو على عادة الناس، فأنكر القاضي ذلك وقال: أيش هذا؟ فقام وقال: هذا شيء ما تذوقه، وترك المدرسة والفقاهة بها. وقال: كان يقرئ في كل شيء في أي كتاب كان، وانتفع به جماعة وقال: كان يفتي ويدرس ويقرئ الطلبة، وهو وأخوه الحسن والزبير، ثلاثة من أهل العلم والتعبد. وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: هو المعروف بابن أبي شيخة، سمع من أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق بن طرخان، ومحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي وأبي عبد الله محمد بن عبد القوي، ومن أبي الحسن علي بن أحمد الغرافي والحافظ شرف الدين الدمياطي. وحدث بالقاهرة، وأخذ الفقه عن أبي الفضل جعفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 التزمنتي وغيره واشتغل عليه الطلبة طائفةً بعد طائفة، وتولى الإعادة بالشريفية وغيرها. وأقام مدة بمدرسة الملك يلقي فيها الدروس، وتجرد مدةً مع الفقراء، وجرى على طريقهم في القول بالشاهد، وأقام بجامع عمرو بن العاص يستغل ويشتغل، وهو قوي النفس، حد الخلق، مقدام في الكلام، وهو من أهل بيت معروفين بالعلم والصلاح. الحسين بن علي بن مصدق بن الحسن شرف الدين أبو عبد الله الشيباني الواسطي الصوفي بخانقاه سعيد السعداء. رأيته غير مرة، واجتمعت به عند الصاحب أمين الدين، فأنشدني رحمه الله تعالى جملة من شعره. وكان شكلاً كاملاً طويلاً هائلاً، ذا ذقن فرشت على صدره، وكادت تسيل فتملأ سعة حجره، ينشد ويتفيهق، ويسيل دمعه فيترقرق، له أبهة في النفوس وجلاله، وعلى كلامه من الذوق أمارة ودلاله. ولم يزل على حاله إلى أن رأى ابن مصدق الحق اليقين، ولحق بمن تقدمه من المتقين. وتوفي رحمه الله تعالى .... أنشدني من لفظه لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وأحور أحوى فاتن الطّرف فاترٍ ... مسير بدور التمّ من دون سيره إذا جئت أشكو طرفه قال خدّه: ... ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره فأنشدته أنا لنفسي في مليح نائم: سباني خدٌّ من فتىً كان نائماً ... فقال عذولٌ شره دون خيره أتهوى ولم تدر العيون فقلت: دع ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره وأنشدته أيضاً لنفسي في مليح يقابل كتاباً: قابلت كتباً مع حبيبٍ هاجرٍ ... فسرّ قلباً كاد أن يفنى وله فقلت يا وارث قلبي في الهوى ... جمعت بين الجبر والمقابله فأنشدني هو لنفسه: قابلني المحبوب يوماً وغدا ... يمنحني جماله ونائله قلت له يا سيّدي جبرتني ... فهل أرى من بعدها مواصله فقال لي هذا الذي فعلته ... على سبيل الجبر والمقابله وأنشدني من لفظه لنفسه: يا من هواه وحبّه ... غطّى على عيني وقلبي عطفاً عليّ بنظرةٍ ... فإليك إيجابي وسلبي الحسين بن علي بن عبد الكافي ابن علي بن يوسف بن تمام: الإمام الفاضل الفقيه النحوي العروضي الناظم، أقضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 القضاة جمال الدين أبو الطيب ابن العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي. كان ذهنه ثاقبا، وفهمه لإدراك المعاني مراقبا، حفظ التسهيل لابن مالك، وسلك من فهم غوامضه تلك المسالك، وحفظ التنبيه، وكان يستحضره وليس له فيه شريك ولا شبيه، وقرأ غير هذا. وكان يعرف العروض جيداً، ويبيت لأركان قواعده مشيداً، وينظم الشعر بل الدرر، ويأتي في معانيه بالزهر والزهر، وكانت مكارمه طافحه، وأنامله غيوث سافحه، كثير التواضع في الملتقى، غزير المروءة لا يصل النجم معه فيها إلى مرتقى، عفيف اليد في أحكامه، لم يقبل رشوة أبداً، ولم يسمع بذلك في أيامه، يتصدى لقضاء أشغال الناس، ويعامل من أساء أو أجرم معاملة متغاض متناس، فأحبته القلوب، ومضى حميداً على هذا الأسلوب. إلى أن نغص شبابه، وتقطعت بمن يوده أسبابه. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. ومولده في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وقلت أرثيه: رزء الحسين عظيمٌ ... وهو العذاب الأليم ومالنا فيه إلاّ ... صوب الدموع حميم والصبر أولى ولكن ... صبر الفؤاد عديم ففي العيون دموعٌ ... تنهلّ منها الغيوم وفي الحشى زفراتٌ ... منها تشبّ الجحيم والليل صار حداداً ... تقمّصته النجوم وللسحائب خدٌّ ... من الرّعود لطيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 والجوّ ضاق خناقاً ... فما يهبّ نسيم وما تنفّس صبحٌ ... بل راح وهو كظيم حزناً لقاضٍ قضى ما ال ... ذمام منه ذميم وكان قاضي عدلٍ ... صراطه مستقيم يقضي بحقٍّ وصدقٍ ... عن الهوى لا يريم ترى الثناء عليه ... قد طاب منه الشميم يلقى الورى منه وجهٌ ... طلق المحيّا وسيم وثغره في ابتسام ... به يسرّ الغريم وخلقه مثل روضٍ ... والنبت منه غميم وجهٌ حييٌّ وخلقٌ ... سهلٌ وصدرٌ سليم أحبّه الناس حتّى ... مظلومهم والظّلوم فلو يجور وحاشى ... قضى ارتضته الخصوم إن الزمان أراه ... بمثله لعقيم لو كان يفدى لجادت ... أرواحنا والجسوم وإنّما الموت أمرٌ ... لم ينج منه عظيم وذاك فينا وفي من ... قد فات داءٌ قديم قاضي القضاة تصبّر ... فالخطب فيه جسيم لكنّ مثلك راسٍ ... لمّا تخفّ الحلوم قد كان درّة عقدٍ ... والسلك فيه نظيم فما يضرّ سناه ... إن زاك منه قسيم ودرّه في اتّساقٍ ... والكلّ درٌّ يتيم إذا بقي أخواه ... فسوف تؤس الكلوم فلا تبت في عذاب ... وقد حواه النّعيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 يصافح الحور منه ... في الخلد كفٌّ كريم وأنت تعلم أنّ ال ... ذي دعاه رحيم وما تقاك ضعيفٌ ... ولا نهاك سقيم وكلّنا سوف نمضي ... وما عليها مقيم وكنت أنا قد كتبت إليه: عندي جمال الدين مسألةٌ غدا ... بيانها فيما لديك محرّرا إذ أنت من بيتٍ جميع بنيه قد ... فازوا بما حازوا وقد سادوا الورى إن جاودوا ألفيتهم صوب الحيا ... أو جادلوا أبصرتهم أُسد الشّرى فاطلع بأُفق الفضل شمساً أشرقت ... لا ترض أنّك فيه بدرٌ أسفرا وأعد جوابي عن سؤالي إنّه ... لك واضحٌ أن رحت فيه مفكّرا فكّرت والقرآن فيه عجائبٌ ... بهرت لمن أمسى له متدبّرا في هل أتى لم ذا أتانا شاكراً ... حتى إذا قال الكفور تغيّرا فالشكر فاعله أتى في قلّةٍ ... والكفر فاعله أتى متكثّرا فعلام ما جاءا بلفظٍ واحدٍ ... إن التوازن في البديع تقرّرا لكنّها حكمٌ يراها كل ذي ... لبٍّ وما كانت حديثاً يفترى فأمنه لا زلت الجواد بفضله ... لمن استعان به لإشكالٍ طرا فكتب الجواب إلي عن ذلك: قبّلت أسطر فاضلٍ بهر الورى ... ممّا لديه عجائبٌ لن تحصرا قد نال في علم البلاغة رتبةً ... عنها غدا عبد الرّحيم مقصّرا وأراد منّي حلّ مشكلة غدا ... تبيانها عندي كصبحٍ أسفرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وجوابه أنّ الكفور ولو أتى ... بقليل كفرٍ كان ذاك تكثّرا بخلاف من شكر الإله فإنّه ... بكثير شكر لا يكون مكثّرا فإذاً مراعاة التوازن ههنا ... محظورةٌ لمن اهتدى وتفكّرا فاصفح فعجزي عن جوابك ظاهرٌ ... كظهور ما بين الثّريّا والثّرى وكتب هو رحمه الله تعالى إلي ملغزا: يا أيّها البحر علماً والغمام ندىً ... ومن به أضحت الأيام مفتخره أشكو إليك حبيباً قد كلفت به ... مورّد الخدّ سبحان الذي فطره خمساه قد أصبحا في زيّ عارضه ... وفيه باسٌ شديدٌ قلّ من مهره لا ريب فيه وفيه الرّيب أجمعه ... وفيه يبسٌ ولين البانة النّضره وفيه كلّ الورى لمّا تصحّفه ... وضيعةٌ ببلاد الشام مشتهره فكتبت أنا الجواب إليه وهو في ريباس. ؟ الحسين بن علي بن أبي بكر بن محمد الشيخ الإمام الفاضل بهاء الدين بن تاج الدين أبي الخير الموصلي الحنبلي، شيخ الحديث بالعساكرية، وأحد العدول بمركز المسمارية. كان شيخاً طوالا، وفاضلاً لا يتمارى ولا يتمالا، ذكي الفطره، زكي العشره، جيد الذهن صافيه، وافي ظل الأدب ضافيه، ينظم جيدا، ولا يدع الكلام يخرج من فيه إلا مفيداً مقيدا. له قدرة على حل الألغاز ونظمها، وقوة على الإصابة في مرامي سهمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 لم يزل على حاله في الارتزاق بالشهادة إلى أن مات على الشهادة، وأحسن الله إليه معاجه ومعاده، فسكنت شقاشقه، وأصابته من الحمام رواشقه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق في رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة. ومولده في شهر رجب سنة تسعين وست مئة. قدم الشام قبل الثلاثين وسبع مئة، وأقام بدمشق إلى أن مات رحمه الله تعالى. وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام بها دون الشهرين، وعاد، وكان بيده خطابة قرية دومة قريباً من سنة، ثم انفصل منها، وكان يكتب جيداً ويحب المؤاخذة والمناقضة، وقل من سلم منه من أهل عصره. وكتب بخطه كتابي فض الختام عن التورية والاستخدام وقرأه علي. وكان يروي جامع الأصول عن رجل عن المصنف، كما قال رحمه الله تعالى. وبيني وبينه مكاتبات ومحاورات ومراجعات ذكرت منها جانباً في كتابي ألحان السواجع بين البادي والمراجع. وكان يحب نظم الضوابط، وكتب هو إلي ملغزا: وما اسمٌ إذا فكرت فيه وجدته ... يحلّ بتصحيفٍ محلاًّ مستّرا بديع فعالٍ ليس يدرك صنعها ... إذا فكّر الإنسان فيه تحيّرا ويزري به معكوسه مطلقاً فإن ... أتى فيه تصحيف فلا تسأل القرى فتصحيفه فيه دقيقٌ وبعضه ... قصيرٌ وبعضٌ قد علا وتجبّرا وإن صحّف التصحيف من عين فعله ... فذلك محبوبٌ إلى سائر الورى فقد جمع الضدّين نفعاً وضرّةً ... وجمعاً وتفريقاً وحلواً ممرّرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وقد جاء في التنزيل آيٌ بذكره ... وذلك أمرٌ ظاهرٌ للّذي قرا وجملته في الليل يمكن حصرها ... وإن سيم عدّا في النهار تعذّرا فكتبت أنا الجواب عنه، وهو في نحل: قريضك فينا قد غدا شامخ الذّرى ... نرى طرسه عند البيان مزهّرا تغوص على المعنى الخفيّ بقدرةٍ ... تريك دجى الإشكال في الحال نيّرا أحاشيك من عكس الذي قد أردته ... وألغزته يا فاضلاً بهر الورى وحاشاك من تصحيفه فهو خلّةٌ ... غدا بغضها في الناس شيئاً تقرّرا فلا زلت تهدي للأنام بدائعاً ... من النظم ما انهلّ الغمام على الثرى وكتب هو إلي أيضاً ملغزاً: وصاحبٌ مستحسنٌ فعله ... ليس له ثقلٌ على صاحب فتىً ولكن سنّه ربّما ... زادت على السبعين في الغالب قلت وقد قالوا أبن ما اسمه ... ليعلم الشاهد للغائب ظننتم تصحيف معكوسه ... يخفى وليس الظّنّ بالكاذب فكتبت أنا الجواب إليه وهو في مشط: أفدي بهاء الدين من فاضلٍ ... في النّظم لم يخرج عن الواجب ألغز في شيء غدا حمله ... على رؤوس الناس في الغالب تراه لا تضحك أسنانه ... يا حسنه من أصفرٍ شاحب كم غاص في ليل شبابٍ وكم ... قد لاح في صبح من الشايب وكتب هو إلي ملغزاً: وصاحب مكرّمٍ ... ينعته من وصفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 يجود بالنّفع على ... من دهره ما عرفه وليس يكسى حلّةً ... إلاّ بها قد أتحفه ولا يزال عارياً ... وبرده قد أنجفه وعكسه مصحّفاً ... تقبيل ثغرٍ بشفه فكتبت أنا الجواب، وهو في ميل: هذا بهاء الدين لا ... يزال يبدي طرفه ألغز في شيءٍ حكى ... من كلّ قدٍّ هيفه وفيه من ذاك الذي ... حوشيته بعض الصّفه بطول شبرٍ رأسه ... أملس رابي الهدفه إن غاص في شقّ فما ... يبلّ إلا طرفه وكتب إلي كثيراً من الألغاز والأحاجي وغير ذلك، وأثبت بعض ذلك في ألحان السواجع. الحسين بن علي بن حمد الغزي عز الدين أخو الحسن بن علي الغزي، تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه. كان يعمل بيده عدة صنائع، ويتقن أشياء عرفه فيها ضائع، ومعروفه ضائع. وكان يلعب بالعود ويتقن نجارته، ويأتي فيه بأشياء إلا أنه لم تربح فيه تجارته، فإنه كان عثيرا، ولا يزال إلى معروف الناس فقيرا. وكان ينظم نظماً مقاربا، ويكتب خطا ما وصل طبقة أخيه ولا ربا، وكتب في الدرج بعد وفاة أخيه وأقام مدة إلا أنه لم تشد في ذلك أواخيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى مصر، فطعن بها وتردى برداء تربها. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة. كان هذا عز الدين أصغر من أخيه بدر الدين، كان يعمل بيده عدة صنائع ويعاني التصوير، ويصنع ذلك، ولم يكن في ذلك مجيداً، كما جود نجارة العود، فإنه نجز للأمير سيف الدين طقطاي الدوادار عوداً كان عجباً من العجائب، وكان يلعب بالعود، ووقفني مرة على مصنف، وضعه في الموسيقى. وكان قد دخل بعد وفاة أخيه بدر الدين إلى ديوان الإنشاء بدمشق وأقام به في قلة محصول من معلومه وتأخره، إلى أن قطع الناس في أيام الوزير فخر الدين بن قروينه، وكان في جملة من قطع، ثم إنه يستكتب في الديوان على كتب القصص بغير معلوم. وفي أيام القاضي جمال الدين بن الأثير منع من ذلك، فساءت حاله وتوجه في صحبة شمس الدين بن أبي السفاح إلى مصر، فطعن في يوم والثاني. وتوفي رحمه الله تعالى، وكان يكتب مقارباً وينظم كذلك. ؟ الحسين بن عمر ابن محمد بن صبرة، مؤنث صبر: الأمير عز الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 كان من الأمراء بدمشق، وتولى بها الحجوبية، وهو من بيت له في السيادة سمو، ومن أصل له في الرياسة نمو، ومن قبيل لهم في المكارم رواح وغدو. وعمر إلى أن بلغ الثمانين، ووقف جواد عمره الركض في تلك الميادين، نقل في آخر عمره إلى طرابلس على إقطاع ضعيف، وخبز ما يشبع من أكله وحده من غير مضيف. ولم يزل بها إلى أن فقد الصبر ابن صبره، ونزل بعد بلوغ الثريا قبره. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان أولاً بدمشق حاجباً مدة، وولي الصفقة القبلية عوضاً عن الرستمي في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة إلى أن نقل آخر عمره إلى طرابلس على إقطاع ضعيف، فكثر الدين عليه وساءت حاله وقل ماله، وكانت نقلته إلى طرابلس في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وسبع مئة. أنشدني لنفسه إجازة العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود ما كتبه إلى الأمير عز الدين بن صبره لما كان بطرابلس: سلوا عنّي الصّبا فلها بحالي ... وحمل رسائل العشّاق خبره لتخبركم بأنّي حيث كنتم ... حليف صبابة بكم وعبره وإني في البعاد وفي التداني ... وحيث حللت عبدٌ لابن صبره أميرٌ هام بالإحسان وجداً ... به فكأنه من حيّ عذره تواضع كالنجوم دنت سناءً ... لنا وعلت فأعلى الله قدره من القوم الأولى كرموا حدوداً ... وآباءً وأعماماً وأُسره فللدنيا بهم شرفٌ وفخرٌ ... وللإسلام تأييدٌ ونصره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 إذا ضنّ الحيا خلفت نداه ... أكفّهم فعاد العسر يسره أتيت دمشق إذ جازت إليها ... كتائب من أعزّ الله نصره وكان مجرّداً وفقدت حظّي ... برؤيته وعدت بألف حسره أعزّ الدّين دعوى ذي دعاءٍ ... يواليه لكم سرّاً وجهره تذكّر عصر أُنسٍ في حماكم ... أتى وقضى فحيّى الله عصره وسطّرها وماء الدمع منكم ... إذا ما خطّ سطراً بلّ سطره هجرت دمشق فالورقاء تبكي ... أسىً وعلت على الأوراق صفرة وجئت الثغر تكلؤه وتحمي ... سواحله سطاً وتصدّ بحره فخار لك المهيمن في رباط ... أقمت بساحتيه فحزت أجره فلا زالت جيادك حيث سارت ... تسايرها السعادة والمسرّه فحيث حللت كنت رفيع قدرٍ ... لراجيه على الإحسان قدره الحسين بن محمّد ابن الحسين محمد بن الحسين بن زين الحسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله العوكلاني، بالعين المهملة المفتوحة والواو الساكنة، وبعدها كاف مفتوحة ولام ألف، ونون وياء النسبة: ابن موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 القاضي الكاتب الناظم الناثر شهاب الدين أبو عبد الله الحسيني المعروف بابن قاضي العسكر، موقع الدست الشريف بالقاهرة. إن نظم قلت: البحر يلتطم، وإن نثر قلت: السيل يحتد ويحتدم كأنه يترسل، ومترسل يتوصل بالبلاغة ويتوسل، بديهته تسبق قلمه، ورويته تلحق بالدر كلمه، ذو نفس ممتد، وفكر محتد، وإنشاء معناه مبيض في خلال السطر المسود. كم أنشأ من تقليد، وكتب من توقيع نسخ بين دفتي التجليد، وقضي لذكره بالتخليد، وراسل إخوانه بكتاب ألقى إليه البيان بالإقليد، وولد معانيه الغامضة فتضرج خد البلاغة من توريد ذلك التوليد، وكان قد أنشأ شيئاً كثيراً، وخلد منه ما لا يعرف له نظيراً، وباشر كتابة السر في حلب، ولم تطل المدة حتى انقلب، فرجع إلى وطنه باختياره، وفرحت مصر بازدياده. ولم يزل على حاله على وظيفته إلى أن تلاشى كيانه، وأودى بيانه، وسكتت الشقائق، وقرطست تلك الأسهم الرواشق. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شعبان يوم الاثنين سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وسألته عن مولده فذكر أنه في سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقاهرة في سويقة الصاحب. اجتمعت به ورافقته في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل، وبدمشق لما قدم متوجهاً لكتابة سر حلب، وأنشدني كثيراً من نظمه إلى الغاية، وأسمعني من إنشائه ما يزيد على الوصف، ورأيته يكتب وهو ينشي ما يكتبه، وينشدني من شعره غير ما يكتبه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وكان مطيقاً على فني النظم والنثر، له قدرة تامة. كتب بديوان الإنشاء من التقاليد والتواقيع شيئاً كثيراً إلى الغاية. وأجاز لي، على ما ذكره من لفظه، الشيخ شرف الدين الدمياطي وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد والأبرقوهي. قال: وحفظت التنبيه وبحثته، واشتغل على الشيخ علاء الدين القونوي، ورسم له بالتوقيع بين يدي السلطان الملك الكامل شعبان في سنة ست وأربعين وسبع مئة عوضاً عن القاضي زين الدين محمد بن الخضر لما خرج لكتابة سر الشام، وكان بيده خطابة وتدريس فيما أظن. وكتبت إليه من رحبة مالك بن طوق: ما لقلبي عن حبّكم قطّ سلوه ... كلّ حالٍ منكم لدى الصبّ حلوه إن بخلتم حاشاكم بوفاءٍ ... أو ثنتكم بعد التّعطّف قسوه فلكم قد قضى وما نقض العه ... د محبٌّ ولي بذلك أُسوه يا ابن بنت النّبي قل لي وقولي ... يا بن بنت النبي أفضل دعوه هل بدا في الوفاء منّي نقضٌ ... أو جرى في الحفاظ منّي هفوه فعلام الإعراض والصّدّ عمّن ... لم يجد في سوى معاليك صبوه كيف أنسى ساعات وصل تقضّت ... وبعطفي منها بقيّة نشوه ما خلت خلوة ولم ألق فيها ... من عذارى حديثك العذب جلوه حيث لي من حديثك النظم والنث ... ر متى ما أردت كاسات قهوه ومعانٍ كالحور زفّ حلاها ... منطقٌ تشخص الأفاضل نحوه كان في مصر لي بقربك أنسٌ ... عن أُناسٍ لهم عن الخير نبوه وأرى رقّة الحواشي التي عن ... دك تغنى عمّن غدا فيه جفوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وإذا ما أتيت ألفيت صدراً ... منك لي في حماه حظٌّ وحظوه واقتعدت الفخار بين البرايا ... وتسنّمت في السّيادة ذروه وأرى أن لي إذا زرت أرضاً ... أنت فيها التشريف في كلّ خطوه كيف لا والولاء في قومك الغرّ ... أراه في الدين أوثق عروه منيتي أن أرى حماك بعيني ... لا أراك الحمى ولا دار علوه آه لو تنصف الليالي إذ ما ... حكمت بالبعاد من غير عنوه أو لوانّ الفراق يقبل مني ... في اقتراب الدّيار من مصر رشوه يا زماناً بمصر ولّى حميداً ... هل يجيب الإله لي فيك دعوه فكتب إلي الجواب عنها تسعةً وستين بيتاً: أنسيم الصّبا على الروض غدوه ... سحبت ذيلها على كلّ ربوه وسرى لطفها إلى الدّوح فارتا ... ح فكم رنّحت معاطف سروه أم سقيط النّدى على الورد كاليا ... قوت إذ يجعل اللآلئ حشوه أم تثنّي الغصون في حلل الزّه ... ر سقاها السحاب كاسات قهوه أم مسيل المياه بين رياضٍ ... بنضار الأصيل أمست تموّه أم غناء الحمام غرّد في البا ... ن وأضحى به يرجّع شدوه أم نجوم السماء زهرٌ أم البد ... ر منيرٌ أم مشرق الشمس ضحوه أم وصال الحبيب بعد صدودٍ ... فأتى ذا لذا فأسرع محوه أم حديث العذيب يعذب في ك ... ل لهاةٍ لمن تذكر لهوه أم كتابٌ قد جاءني من خليلٍ ... بارع فالخليل لم ينج نحوه رحب باعٍ لرحبة الشام وافى ... ذو وفاء وعفّة وفتوّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 سامقٌ فوق هضبة المجد والع ... ز سبوق لم يدرك الناس شأوه ناظمٌ ناثرٌ بليغٌ بديعٌ ... ماهرٌ باهر المقالة أفوه حيثما حلّ في الممالك حلّى ... وغدا وارداً من الحمد صفوه بعد حولين قد أتاني فأهلا ... وحباني عذب الكلام وحلوه وعناني من عبد دارٍ ولكن ... غصبته أيدي الحوادث عنوه وأرادوا حمول ذكري فغاروا ... منه لمّا أعلى بذكري ونوّه حجبوه عني فأظهره الل ... هـ لعيني، أتحجب الشّمس هبوه منها: يا صلاح الدين البديع نظاماً ... والذي من انشائه لي نشوه لا تلمني على تأخّر كتبي ... إذ ألمّت بحدّ ذهني نبوه كنت في شدّةٍ وقد فرّج الل ... هـ ونجّى، فصرت منها بنجوه منها: أنا سبط النّبي وابن عليّ ... شرفٌ باذخٌ لأرفع ذروه وإذا ما اعتراني الدّهر بالعد ... وان أمسكت منهما أيّ عروه وطلب مني بشتا أسود، فجهزته إليه وكتبت معه: يا سيّداً ما زال يدعى سيّدا ... حاز المكارم والعلا والسّؤددا شرّفتني بأوامرٍ دأبي لها ... مهما أتى مرسومها أن أسجدا وطلبت بشتاً أسوداً من جلّقٍ ... ولو اقتصرت لبست حظّي الأسودا لبس العباءة والعيون قريرةٌ ... خيرٌ من الحلل الحرير مع الرّدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فألبسه فضفاض الذيول حكى دجا ... لوناً فوجهك فوقه ليلٌ بدا فكتب الجواب عن ذلك: حيّا دمشق وأهلها غيث النّدى ... وسقى معاهدها الحيا متعهّدا دارٌ خليل الصدق ساكن ربعها ... ما عنه منّي بالرّضا أن أبعدا الفاضل المتفضّل الحبر الذي ... جمع المحاسن كلّها متفرّدا الناظم العقد الفريد قريضه ... والناثر الدرّ النّفيس منضّدا والكاتب الحسنات في صحفٍ له ... بيضٍ لها اسودّت وجوهٌ للعدى الصاحب المولي الجميل صحابه ... متفضلاً متطوّلاً متودّدا وصلت وصلت إليّ منك عوارفٌ ... قرباً وبعداً برّها لن يفقدا وأتى إليّ البشت مقترناً بما ... لك من يدٍ بيضاء كم وهبت ندى صوفٌ به لذوي الصّفاء تلفّعٌ ... شعرٌ شعار من اغتدى متعبّدا قد جاء من جهة الصلاح محبّذا ... هو من لباس تقي به قد أسعدا قد قمت في ليل الشّتاء به إلى ... ربّ السّما أدعو له متهجّدا قلت: وبيني وبينه مكاتبات كثيرة ذكرتها في كتابي ألحان السواجع. الحسين بن محمد بن عدنان تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه أمين الدين جعفر بن محمد، هو الشريف زين الدين الحسيني بن أبي الجن. كان كاتباً مشهورا، وفاضلاً في أهل الاعتزال مذكورا، فارس جلاد وجدال، ومقام في انتصار مذهبه ومقال. خدم بكرك الشوبك زمانا، ونقل إلى دمشق فوفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 لها بالسيادة ضمانا، وتنقل في المباشرات، وتنفل بعد الفرض في المعاشرات، وولي نظر حلب، وجلب إليها من السيادة ما جلب، ثم إنه ولي نقابة الأشراف بدمشق، ونظر الديوان، وجلس في دسته كأنه كسرى في الإيوان، ولما وصل غازان إلى دمشق، واستحوذ عليها ووصل بغول المغول إليها دخل في تلك القضيه، وجبى الأموال من الرعيه، ولما نصر الله الإسلام، ورفع ما كان تنكس منه من الأعلام عوقب الشريف وضرب، وسجن وسحب، وصودر هو وأخوه الشريف أمين الدين، وأخذ منهما جمله، ومزق الله سعدهما وشت شمله. ثم طلب زين الدين إلى القاهرة، ودامت شدته متظاهره، فطلبه الأفرم مرات ليحاققه، ويبصر إن كان الحق معه ليوافقه، فلما أرسل إليه ولاه نظر ديوانه، وألقى إليه من أمره فضل عنانه، وولاه أيضاً نظر الجامع وغيره، ثم إنه عاد إلى مدرج طيره. ولم يزل على حاله إلى أن شخصت عينه، ووافاه حينه. وتوفي في سادس ذي القعدة سنة ثمان وسبع مئة. وهو، رحمه الله، والد السيد علاء الدين نقيب الأشراف. وكان الأفرم قد ولاه نظر ديوانه عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني في جمادى الأولى سنة ثمان وسبع مئة، ولما مات كان بيده نظر ديوان الأفرم، ووكالة الأفرم، ونظر الجامع، وبقي في ذلك مدة يسيرة نحو خمسة أشهر، وتوفي رحمه الله تعالى وعمره نحو خمسة وخمسين عاماً، وتولى نظر الجامع بعده القاضي شرف الدين بن صصرى، وكان قد ولي نقابة الأشراف في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الحسين بن محمد بن إسماعيل الشيخ الجليل الزاهد العابد الكبير نجم الدين أبو عبد الله القرشي المعروف بابن عبود. كانت له وجاهة في الدولة عظيمه، ومكانة دونها النجوم التي تزين الليالي البهيمه، إذا قام في أمر كان به أقعد من الوزير، وأنفذ فيه من الأسد إذا يزير، خبيراً بطرق السعي، قديراً على ما يرويه لما لعهوده من الرعي، وهو الذي قام في ولاية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد حتى تولى القضاء وألزمه بقبول ذلك الضيق بعدما كان فيه من الفضا، لأنه ما زال وجيهاً في الدول، معظماً عند الملوك الأول. ولم يزل على حاله إلى أن أفل نجمه فما طلع، ولحق الناس ما لحقهم عليه من الهلع. وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة الجمعة ثالث عشري شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة وقد جاوز السبعين. وحضر جنازته جمع عظيم، وقام بالمشيخة بعده في الزاوية ابن أخيه الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ بدر الدين حسن، وزاويتهم في القرافة مشهورة. الحسين بن محمد بن عمر ابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن هلال، الصدر الأصيل معين الدين أبو علي بن الشيخ الصدر الكبير عماد الدين بن هلال الأزدي الدمشقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 سمع من ابن أبي اليسر، وأبي بكر بن محمد النشبي، وسعد الدين بن حمويه، والمسلم بن علان، وابن شيبان، والرشيد العامري، وجماعة. وحدث. وكان يشهد على الحكام وهو منقطع عن الناس. فيه مروة وإحسان، وكرم ومعرفة بالأمور. توفي رحمه الله تعالى ثاني عشر جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة. حسين بن محمد بن قلاوون الأمير جمال الدين ابن السلطان والملك الناصر بن السلطان الملك المنصور. كان من أولاد السلطان الملك الناصر، ولم يتول الملك، وهو آخر أولاد السلطان موتاً فيما أظن، وخلف أموالاً عظيمة، وكان الناصر حسن وغيره من إخوته يخافونه. ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وسبع مئة. وكانت تختلف عليه الأحوال؛ تارة يكون أمير مئة مقدم ألف، وتارة أمير طبلخاناه. أبو الحسين بن محمود ابن أبي الحسين بن محمود بن أبي سعيد بن أبي الفضل بن أبي الرضا: الإمام جمال الدين الربعي البالسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 كان قد أم بالشجاعي مدة، وترقى إلى أن أم بالسلطان الملك الناصر محمد من سنة ثمان أو سنة تسع وتسعين وست مئة إلى حين وفاته. وكان أكبر الأئمة. وكان شيخاً فاضلاً عالماً، برياً من الكبر سالماً، كثير التلاوة للقرآن، حسن الأخلاق مع الأصحاب والإخوان، كتب بخطه الكثير، من ذلك كشاف الزمخشري، تفسير القرآن الكريم. وكان حسن الخط، جيد الضبط، قسم أوقاته ما بين التلاوة والذكر والتسبيح والمطالعة وكتابة العلم. وكان يتهجد كثيراً. وقرأ بالسبع على الشيخ برهان الدين المالقي. وقرأ عليه مختصره للمقرب بحثاً، وحفظ أكثره. وقدم القاهرة سنة ستين وست مئة، وأقام بها إلى أن توفي بها بمنزله في درب الأتراك، في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده ببالس سابع عشر شهر رجب سنة ست وأربعين وست مئة. قال شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي: سألته عن اسمه فقال اسمي كنيتي، وهكذا سماني والدي. قلت: وتزوج شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس ابنته فيما أظن. الحسين بن يوسف بن المطهر الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون، جمال الدين بن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 عالم الشيعه، والقائم بنصرة تلك الأقاويل الشنيعه، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته، ودلت على كثرة أدواته، وكان ريض الأخلاق حليما، قائماً بالعلوم العقلية حكيما، طار ذكره في الأقطار، واقتحم الناس إليه المخاوف والأخطار، وتخرج به أقوام، ومرت عليه السنون والأعوام، وصنف في الحكمه، وخلط في الأصول النور بالظلمه، وتقدم في آخر أيام حزابندا تقدماً زاد حده، وفاض على الفرات مده. وكان له إدارات عظيمه وأملاك لها في تلك البلاد قدر جليل وقيمة، ومماليك أتراك، وحفدة يقع الشر معهم في أشراك. وكان يصنف وهو راكب، ويزاحم بعظمته الكواكب. ثم إنه حج وانزوى، وحمل بعد ذلك الرهج وانطوى. ولم يزل بالحلة على حاله إلى أن قطع الموت دليله، ولم يجد حوله من حوله حيله. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقيل: سنة ست وعشرين وسبع مئة، وقد ناهز الثمانين. ومن تصانيفه شرح مختصر ابن الحاجب، وهو مشهور في حياته وإلى الآن، وله كتاب في الإمامة رد عليه العلامة تقي الدين بن تيمية في ثلاث مجلدات كبار، وكان يسميه: ابن المنجس، وله كتاب الأسرار الحفية في العلوم العقلية. حسين الموله التركماني كان يحلق ذقنه، ويتركها فترى كأنها ظرف حقنه، ويمشي في الطرق حافيا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ولم يكن عن النجاسات متجافيا، وسخ الثياب دون الإهاب، يحدث نفسه، ويحرك رأسه، ويكثر الحلف بالله تعالى، وربما نطق بشيء من الغيب وتعالى، وبعض الناس اعتقد صلاحه، وبعض الناس ودلو أغمد فيه سلاحه. الألقاب والأنساب الحصيري: نظام الدين أحمد بن محمود. الحظيري: شمس الدين عبد القادر بن يوسف بن حشيش علم الدين مسعود بن أبي الفضل، وولده معين الدين هبة الله. أبو حفص الشيخ زين الدين قاضي القضاة المالكي بحلب. كان رجلاً معدوداً برجال، وخصماً لا تثبت له الخصوم في مجال، ولا يقعقع له بالشنان، ولا يولي الدبر من بارقه سيف ولا لمع سنان، يطلب ولا يني فتورا، ويدأب ليله ونهاره على التقدم، ولا يراه الدهر ضجورا. تقدم من غير علم بسعيه، وخدم الناس حتى التزموا بحقه ورعيه. ما زال يسعى إلى أن قال حاسده ... له طريقٌ إلى العلياء مختصر ولي القضاء بحلب، وتوجه إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها قاضي القضاة إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وجاء الخبر إلى دمشق بموته في أوائل شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وثور في هذه المدة نعمةً طائلة، وحصل كتباً كثيرة. وكان في أول حاله بدمشق أميناً في طواحين الأشنان، ثم إنه بقي يخدم كتاب الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، فيستخدمونه في الأمانات على بيوع حواصل الأمير، ثم جلس في حانوت الشهود، وبقي يتوجه في كل سنة صحبة بدر الدين الغزي إلى القدس شاهداً على حاصل قمامة. ولما عزل القاضي شهاب الدين الأرتاحي المالكي من قضاء حلب شرع يسعى في المنصب والناس يعجبون منه إلى أن ورد المرسوم بتوجهه إلى حلب. وقلت أنا فيه: اجهد ولا تقتصر يوماً على طلب ... فالشّهم من لم يقف في السعي عند طلب هذا أبو حفص مع جهل يؤخّره ... سعى إلى أن غدا قاضي قضاة حلب الألقاب والأنساب ابن أبي حليقة: علم الدين رئيس الأطباء بمصر إبراهيم ابن أبي الوحش. ابن الحلبي: القاضي بهاء الدين ناظر الجيش بمصر عبد الله بن أحمد، وولده القاضي فخر الدين ناظر جيش دمشق محمد بن عبد الله. والحلي: صفي الدين الشاعر عبد العزيز بن سرايا. والحلي الرافضي: علي بن حسن. حمادالمقرب الحلبي ابن الشيخ الصالح الزاهد العابد المقرئ البركة المقرب الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 كان هذا الشيخ حماد لله وليا، وبكل خير مليا، جاهد دنياه وسلاحه صلاحه، وجاهر أولاه بالإعراض عن زخرفها فلاح فلاح فلاحه، وعمل على النجاة في أخراه فركب طريقها، وصحب أهلها ورافق فريقها. أنوار الصلاح عليه تلوح، وأرج الولاية من أردانه يفوح. ظهرت له أحوال وكرامات وقام ليله فالتهجد عاش والكرى مات، وصام نهاره وأوقاته كسب وهي للبطال غرامات. جانب ما يدعى بدعا، وحارب شهوات نفسه ورعى ورعا. زرته في جامع التوبه، وما كادت تصح لي نوبه، واجتهدت على الثانية، فما اتفق لي إليه أوبه، ورأيت منه رجلاً قد أعرض عن العرض الفاني، وأمسك الجوهر الباقي، وترك الدني الداني، وحصلت لي منه بركات، ووصلت إلي بسببه حركات. وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يعظمه ويعترف بصلاحه، ويشهد باعتزاله عن الناس وانتزاحه، ويتحقق أنه ممن نأى عن الناس وطار بجناح نجاحه. وحسبك بمن ثبت نضاره على ذلك المحك، وأصغى لحديثه وما قطعه من حيث رق ولا رك. ولم يزل على حاله إلى أن آثر الله لقاءه، ورأى انتقاله إليه وانتقاءه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة بدمشق في عشري شعبان. وكان الشيخ حماد قد ورد من حلب ونزل بظاهر دمشق على رجل من الأولياء بمرج الدحداح، ثم إن الشيخ حماداً انقطع بجامع التوبة يقرئ القرآن تبرعاً، لا يأخذ عليه أجرةً غير الأجر، وكان لا يزال متوجهاً إلى القبلة على طهارة كاملة، لا يبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 لأحد شيئاً إلا من قوم قد صحبهم ووثق بهم وعرف ما هم عليه، وهو مستمر الصيام الدائم والاعتكاف الدائم والتلاوة، هذا وقد جاوز التسعين. ولم يكن يدعي ولا يفتخر، وكان إذا اضطر إلى ذكر شيء من حاله، قال: كان فقير، أو حكى لي فقير، ولا يصرح بذكر نفسه أبداً، ورأيته وعلى جسمه بلاس شعر تحت القميص، وهو شيخ قد أفنته الليالي والأيام وأنحلته العبادة والمجاهدة، وكانت له جنازة عظيمة إلى الغاية. ابن حماد: محمد بن إسماعيل. ابن حماد: خطيب حماة: يوسف بن أحمد. ابن الحمامية: مسعود بن سعيد. حمزة بن أسعد ابن مظفر بن أسعد بن حمزة: الصدر الكبير الرئيس الصاحب عز الدين بن مؤيد الدين بن مظفر ابن الوزير مؤيد الدين أسعد القلانسي التميمي الدمشقي. كان رئيس الشام وعلم الأعيان، وعين الأعلام، ذا رأي وبصيره، ويد لم تكن في المكارم قصيره. جرى في السيادة على أعراقه، وترنح في روض الرياسة كالغصن في أوراقه، له تجارب، وله غوص في الشدائد إذا نزلت به ومسارب، قد لبس الزمان، وعرف الإخوان، وقالب الدول، وصور بين عينيه سيرة الملوك الأول، صاحب حزم، ورب همة وعزم، وأخا خبرة ودهاء، ومعرفة وذكاء، وافر العقل، يتحرى الصواب إذا ورد عليه النقل. له في مصر والشام وجاهه، والملوك ومن دونهم يعرفون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 قدره وجاهه، لا ترد له شفاعه، ولا يجلس في مكان إلا توخى رفاعه. أملاكه يعجز عن نظيرها الملوك، وأمواله وجواهره تضيق بها الصناديق والسلوك. قدم أناساً كثيرين واستخدمهم، وبرقعهم بالرياسة وقدمهم. ولم يزل على حاله إلى أن لبد الموت عجاجته، وكدر مجاجته. وتوفي رحمه الله تعالى سادس ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. سمع من ابن عبد الدايم، والرضي بن البرهان، وابن أبي اليسر. وحج مرتين. وحدث بدمشق والحجاز، وكان قد توجه إلى مصر، واجتمع بالنائب والسلطان وخلع عليه، وعاد في شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة، وتوجه أيضاً إلى مصر، وعاد في شهر رمضان سنة ست وسبع مئة، ومعه أمين الدين بن القلانسي، وخلع عليه بطرحة. وفي ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة لبس خلعة الوزارة بدمشق، وكتب في تقليده: الجناب العالي كما يكتب للنائب تعظيماً له. وأوقع الحوطة عليه الأمير سيف الدين كراي نائب الشام، وعلى جماعة من غلمانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، واستمر في الترسيم أكثر من شهرين. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى من السنة. أحضره كراي وادعى عليه بريع الملك الذي أشهر عليه القاضي نجم الدين الدمشقي ببطلان بيع الملك الذي اشتراه من تركة قلاوون في المرثا والسبوحة والفضالية، لكونه بدون قيمة المثل، ولعزل الوكيل الذي صدر منه البيع قبل عقد البيع، ولوجود ما يوفى منه الدين غير العقار، وفيما بعد ذلك أمسك كراي، وخرج الصاحب عز الدين من الاعتقال في يوم الخميس ثالث عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة من دار السعادة إلى الجامع، وصلى الظهر، وتوجه إلى داره، ووقف له الناس في الطرق، وأوقدوا الشموع. ثم إنه عاد وجلس بدار الحديث أكثر من عشرين يوماً، إلى أن وصل نائب السلطنة الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، ثم إنه وصل تقليده بإعفائه من الوزارة، واستقراره في وكالة السلطان، وتوجه إلى الديار المصرية، وغاب شهراً، وعاد على يده كتب السلطان بأنه باق على وكالته، وأن القضاة يحترمونه ويسمعون كلامه، والإنكار لما ثبت عليه وأن ذلك لم يأذن فيه السلطان، وذلك بإعانة القاضي كريم الدين الكبير. وخلع عليه في سابع عشري الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة باستمراره على نظر الخاص، وعلى الصاحب شمس الدين غبريال بنظر الوقف المنصوري، وخلع على شهاب الدين أحمد بن قطنبة التاجر بوكالة الخاص الشريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 حمزة شمس الدين التركماني الوافد من الشرق، كان ظالماً غاشماً، هادماً لمباني الخير هاشماً، له جرأة وإقدام، ومحبة في تلاف النفوس والإعدام. تقرب إلى الأمير سيف الدين تنكز بحيله الدقيقه، وأصالته في المخازي العريقه. لم تمسكن، وتركن لما سمن بعد الهزال وتعكن، فخرب بيوتاً وزاد متزلزل الشر ثبوتا. وصار يركب في البريد ويفعل في مصر والشام كل ما يريد. وصار يتحمل المشافهات بين تنكز والسلطان، ويحي إليهما من أذى الناس ما لا يوسوسه الشيطان ودخل معهما في عظائم، وحرك ما كان ساكناً من النمائم، وبدل النسمات العليلة بالسمائم، وآذى أناساً بكت عليهم الغمائم وناحت الحمائم، ولو دام أمره شهراً آخر أهلك الحرث والنسل، ونقل المناصب الجليلة من الكفء الكريم إلى اللئيم الفسل. ولكن أخذه الله من مأمنه. وأثار إليه الشر والهلاك من معدنه، فقطعت أربعته ولسانه، وتنوع قبل ذلك عقابه وذله وهوانه. وكان هلاكه في شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. كان في أول أمره قد وفد من تركمان الشرق، واتصل بخدمة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولم يزل يحتال بكل حيلة إلى أن بقي يصغي إلى كلامه، ويقبل عليه بوجهه، وأظهر عليه معرفة بلاد التتار، فسيره مرة إليها، وأمره أن يشتري له من هناك جارية، فأحضرها فأعجبته ووقعت من قلبه، وصارت حظيته، وصار بعد ذلك يستمر عنده بالليل، وينفرد به، وكان عنده كتاب شاه نامه في أخبار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الفرس، فصار يحفظ من ذلك في النهار ويورده عنده في الليل، وتكرر منه ذكر رستم في تلك الحكايات، وكان يسميه رستم، ثم إنه أخذ في الحط على ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره، وهو ما هو عنده من التمكن والمحبة وعلو المكانة، ويذكر جماعته الذين في خدمته، وقرر عندهم أموراً وهم غافلون عنها، إلى أن تحقق بعض ما أوحاه إليه، فعظم ذلك عنده وتمكن حمزة. ولم يزل إلى أن عقر الدوادار، وعمل على قتل علي بن مقلد حاجب العرب، وأبعد الدوادار. وانتقل منه إلى القاضي شرف الدين أبي بكر بن الشهاب محمود كاتب السر وكان عنده جزءاً لا يتجزأ، وعلى علاء الدين بن القلانسي ناظر ديوانه، وعلى قاضي القضاة جمال الدين بن جمله، وعقر جماعة من البريدية وغيرهم، وتقدم، وصار في رتبة ناصر الدين الدوادار، وصار يروح إلى مصر في البريد ويجيء، ويتحمل المشافهات من السلطان إلى تنكز ومن تنكز إلى السلطان. وعمل بعد ذلك على جماعة من مماليك تنكز وخواصه الأقدمين، وأبعدهم ونفاهم، ولم يبق عنده أحد في مرتبته، وتمرد وتجبر، وطغى وتكبر، وظلم وبالغ في العسف والجور، وعمر حماماً عند القنوات وشيده وزخرفه، فكثرت الشكاوى عليه في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. فتنمر له الأمير سيف الدين تنكز وسجنه وعذبه، ورماه بالبندق الرصاص وهو واقف قدامه عريان، لأنه هو كان يشير عليه بذلك، فذكر هذه العقوبة ولم يستعملها إلا في حقه حتى تورم، وعمل النساء قماشاً لبسنه في ذلك العصر وسمينه بندق حمزة، وما رق له أحد من سوء ما عامل به الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ثم إنه نقله من حبس القلعة إلى حبس باب الصغير مدة، ثم أفرج عنه، ثم بلغه عنه كلمات سوء في حقه، فبعث به إلى مغارة زلايا، فقطع هناك لسانه من أصله، وقطعت يداه ورجلاه فيما قيل، وأصبحت جمرة حمزة رمادا، وبلغ الله عدوه فيه مرادا! وكانت مدته دون السنتين أو ما حولها، وله في الظلم والجبروت والفرعنة حكايات، وجد الجزاء عن بعضها في الدنيا. حمزة بن شريك الأمير شمس الدين التركماني، المقيم بالقبيبات، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق. حج بالركب في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وهي السنة التي حج فيها الأمير سيف الدين تنكز. وتوفي شمس الدين حمزة هذا في ثالث شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وجاء الأمير سيف الدين خاص ترك على إقطاعه. الألقاب والأنساب الحمصي: الأمير علم الدين سنجر. حمص أخضر: الأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب وصفد ومصر. ابن حمويه: إبراهيم بن محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 حميد بن عيسى الأمير شهاب الدين أخو الأمير سيف الدين بن فضل. ورد كتاب الأمير رمله بن جماز في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة أن عرب الحجاز قتلوه. وكان رحمه الله تعالى أعور. ابن حميد: ناظر الجيش، شمس الدين أبو طالب. حميضة بالحاء المهملة وفتح الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها ضاد معجمة: كان أمير مكة، ولقبه عز الدين. وهو ابن الأمير الشريف أبي نمي صاحب مكة. وكان حميضة هذا قد خرج عن طاعة السلطان، وعصى عليه، وآثر اتباع الشيطان. فولى السلطان أخاه الأمير سيف الدين عطيفه، وحرم جفنه أن يرى طيفه. وبقي حميضة في البرية مشردا، وأمره بين الشر والفساد مرددا، والطلب يضيق عليه الخناق، ويسد عليه فضاء الآفاق، وأهل مكة خائفون من شره، طائفون بالكعبة هرباً من خبث باطنه وسره. وكان في السنة الماضية قد هرب من مماليك السلطان الملك الناصر محمد لما حج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ثلاثة نفر فلحقوا به، وأقاموا عنده، ثم تبين لهم منه أنه ربما يرسلهم إلى السلطان، فقتلوه في وادي بني شعبة، وحضروا إلى مكة، فقيدوا الذي تولى قتله، وجهزه عطيفة إلى السلطان، فقتله به. وكانت قتلة حميضة في جمادى الآخرة سنة عشرين وسبع مئة. وكانت قد جرت بينه وبين أخيه أبي الغيث وقعة، فخرج أخوه أبو الغيث، ثم إنه ذبح بأمر أخيه حميضة في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. وكان السلطان قد جرد إليه عسكراً، فلما أحس بذلك في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبع مئة نزح قبل وصولهم بستة أيام، وأخذا المال النقد والبز، وهو مئة حمل، وأحرق الباقي في حصنه الذي له بالجديد، وبينه وبين مكة ثلاثة أيام، وقطع ألفي نخلة، والتجأ إلى صاحب الحليف، وهو حصن بينه وبين مكة ستة أيام، وصاهره، فلحقه العسكر، وواقعوه، وأخذوا جميع مال حميضة، وأحرقوا الحصن وأسروا ابن حميضة، وسلموه إلى عمه رميثة. واستقر رميثة أمير مكة، ولحق حميضة بالعراق، واتصل بخربندا، وأقام في بلاده أشهراً، وطلب منه جيشاً يغزو بهم مكة، وساعده جماعة من الرافضة على ذلك، وجهزوا له جماعة من خراسان، فما اهتموا بذلك حتى مات خربندا، وبطل ذلك. وكان الدلقندي الرافضي قد قام بنصرته، وجمع له الأموال والرجال على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 يأخذ له مكة، ويقيمه بها، ثم إن محمد بن عيسى أخو مهنا هو وجماعة من العرب وقعوا على حميضة وعلى الدلقندي، فأخذوا ما معهما من الأموال، ودثر حميضة. وكان محمد بن عيسى له مدة في بلاد التتار قد خرج عن طاعة السلطان فحضر عقيب ذلك إلى بلاد الإسلام، فرضي السلطان عنه لذلك. الألقاب والأنساب ابن حنا: الصاحب تاج الدين محمد بن محمد. وشهاب الدين أحمد بن محمد. ابن حلاوات: موقع طرابلس عمر بن أحمد. حينئذ: محيي الدين عبد القادر بن أحمد. الحيسوب: جمال الدين الكاتب عبد الكافي بن عثمان. ابن أبي الحوافر: بهاء الدين علي بن عثمان. وجمال الدين عثمان بن أحمد. الحيالي: محمد بن شرشيق. ابن الحيوان: يوسف بن موسى. الحوراني: المنشد سليمان بن عسكر. والمحدث يوسف بن محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 حرف الخاء خاص ترك الأمير سيف الدين الناصري. كان عند الملك الناصر في الدفعة الأولى والخواص الذين حضروا معه من الكرك، ولهم عنده اليد الطولى. وكان شكلاً حسناً، تام الظرف، حلو الوجه، أبيض الثغر، أسود الطرف، له قد يقول الرمح إذا رآه: هذا الأسمر ما أذبله! وذؤابة حب القلوب تجمع فيها، فصارت سنبله. وكانت مع طوله تنزل شبراً عن الحياصه، وإذا خطر بها تهتك المتيم حتى يقول الحيا: صه. وكان ريض الأخلاق زائد الحلم، لين الجانب في الحرب والسلم. حضر إلى الشام قبل الثلاثين وسبع مئة، وأقام به إلى أن غرب بدر التمام، وبكى عليه حتى الغمام. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في يوم الخميس عاشر شهر رجب. وكان قد زوجه السلطان بابنة الأمير سيف الدين سلار، ولما نزل من القلعة سكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 في دار سلار بين القصرين، فأقام كذلك مدة، وجهزه إلى الشام أميراً. وهو والد الأمير صلاح الدين خليل أحد أمراء مصر والشام. الألقاب والأنساب الخازن: الأمير علم الدين سنجر. والأمير سيف الدين طقتمر. والأمير علاء الدين مغلطاي. خالد بن المصنف المغني كان فريد دهره، ووحيد عصره، يعرف علم الموسيقى، ويجيد الضرب بالدف، حتى كأن النغم والضرب له سيقا، قد ملك هذه الصناعة؛ فصارت له ملكه، واقتدر على أصولها وفروعها، وأتى فيها بما لا ذاقه الفارابي ولا علكه. لم أر في عمري مثل اقتداره على هذه الصناعه، ولا مثل سرعة تصنيفه إذا فتح فمه أو مد على الطار ذراعه. قد نظم له عقد هذه الصناعة سلكا، وحاز إرث ما في الأرتماطيقى ملكا. قد عرف النقرات، وما لها من أنس الطباع والنفرات، والأدوار وما لها في الطرب من الإدارات، وجلس في قاعات الإيقاعات، وظهر كالبدر في دارات الطارات. كان يسافر مع الأمير سيف الدين تنكز في الصيود، وتضمنا وإياه تلك الأغوار والنجود، فننظم له المقطوع الشعر، ونلقيه عليه بما يراه من السعر، فيصنع له في الوقت لحنا، ألذ عند النحوي من إعراب لا يرى فيه لحنا، كأن الله سخر له هذا الأمر وخلقه وفق ذوقه، وجعل من تقدمه تحت تخت هو وحده من فوقه، فكم له ساذخ كله طراز، وكم له من قول ما لحقيقة أحد إليه مجاز. ونقل الناس عنه وإلى الآن أقوالاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 معروفه، وسواذخ بالإتقان موصوفه، كل ساذخ كأنه قول أو شيء ما نسخ المتقدمون له على نول، لما فيه من الرنانات المختلفه، والإيقاعات المؤتلفه. ولقد رأيت بمصر جماعة من أرباب هذا الفن وأستاذيه، ومن يعرف هادي طريقته من هاذيه يعترفون له ويعظمونه، ويأخذون در قوله وينظمونه، وقالوا: هذا خالد، ذكره إلى يوم القيامة خالد، لأن علم النغم قال له دون الناس: نعم. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن حمل على عود المنايا، ولم يسمع الناس بعده شبابة ولا ناياً. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة تقريباً. وقلت أنا في رثائه تضميناً: قد مضى خالد المغنّي وولّى ... وعليه الدموع وقفاً جوار كم له نوبة، وما كان فينا ... بأميرٍ، تدقّ في الأسحار ولأقواله المطاعة يعنو ... كلّ من جاء باقي الأعصار هكذا فلتكن أمارة من أت ... قن فناً وغيره ذو افتقار رحمة الجنك والدفوف عليه ... وصلاة العيدان والمزمار خالد بن إسماعيل بن محمد القاضي الرئيس شرف الدين بن القيسراني المخزومي الشافعي، موقع الدست الشريف بدمشق، ابن القاضي عماد الدين - وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة وتمام نسبه هناك - وأخو القاضي شهاب الدين يحيى، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 كانت فيه رئاسة عظيمه، وسيادة تجلو ظلم الدياجي البهيمه، ومروءة تحمله ما لا يطيق، وعصبية يسير في طريقها مفرداً بلا رفيق، وكرم أنسى خالد به ذكر البرامكة الخالد، وأحيا بطارفه ميت مجده التالد، وقال له كل مؤمل: وبررتني حتى كأنك والد، وإقدام حتى على الأسود والأساود، يذوب عند شمسه الجليد، وشجاعة لا تنكر له فإن ممن ينسب إلى خالد بن الوليد. وكان في ضميره من الترقي آمال، وله في ذلك نيات صادقة وأعمال، وعنده تشوف إلى وراثة ما لأسلافه من المناصب وله تطلع إلى ارتجاع ما سلبته الليالي بأيديها الغواصب، فحال بينه وبين الوصول إليها حلول أجله، ولم يفرح ذووه وأصحابه ببلوغ سؤله ولا نيل أمله: تقول له العلياء لو كان نالها ... وجادل فيها من رآه يجالد وهبت سراة الناس ما لو حويته ... لهّنئت الدّنيا بأنّك خالد ولم يزل في توقيع الدست إلى أن وقع في المحذور، وأغمد القبر منه شبا السيف المطرور. وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة السبت ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات في تربة الصاحب شمس الدين غبريال. ومولده ... وكان والده رحمه الله تعالى لما قدموا إلى دمشق من حلب قد زوجه بابنة الصاحب شمس الدين غبريال، واحتفل به، ورتبه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، وذلك في سنة ثماني عشرة وسبع مئة أو ما قبلها، وقرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 له معلوماً جيداً. ولما توجه الصاحب شمس الدين إلى نظر الدولة بالديار المصرية توجه معه، ولما عاد منها عاد معه إلى دمشق. وكان مفرط الجود والكرم، تحمل للتجمل من الديون ما بهظه حمله وآده ثقله، لا تليق كفه درهما ولا ديناراً، غزير المروءة، شجاع النفس، كثير الإقدام على الأخطار، سلمه الله تعالى مرات من العطب لصفاء نيته، وحسن سريرته. ولما ملك الفخري دمشق في نوبة ألطنبغا جعله كاتب سره، ونفع الناس وولاهم الوظائف، ولم يأخذ من أحد شيئاً. ولما صار الفخري في دمشق، وسكن القصر الأبلق ولاه وكالة بيت المال بدمشق، مع توقيع الدست. ولما توجهوا إلى مصر مع الفخري خرجت عنه للقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، ثم إنه في أيام طقزتمر جلس في توقيع الدست بدمشق. وكان ينفع الناس قدام النواب، ويثني على من يذكر عندهم، لما عنده من المروءة والعصبية. وكان يصحب الأمراء، وصحب الأمير فخر الدين أياز نائب حلب، ووقع بينه وبين يلبغا، وطلبه يوم الجمعة يوم هروبه من دمشق، ولو أظفره الله به وجد منه شراً كبيراً، ولكن الله سلم. وصحب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي وهو في مصر. ولما صار في حلب نائباً استمر على صحبته إلى أن عمل نيابة الشام، ثم توجه لحلب ثانياً، ومنها إلى مصر، ولما حضر إلى القدس كان هو وكيله، وقصاده تنزل عنده، وتقضي أشغاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وكان فيه خدم للناس كلهم مع إيثاره الفقراء والصالحين، وقضاء أشغالهم وبرهم، وفطورهم في شهر رمضان عنده. وكان قد قرأ القرآن، وحفظ المنهاج للنووي، وسمع على القاسم بن عساكر. وما رأيت أخطر من أمراضه، ولا أصح من جسمه مع كثرة أمراضه وعلله. ولما كان شاباً كان لا يزال أرمد، ثم لما تكهل كان يتبيع به الدم، فيثور به كل قليل، ويكاد يقتله ويخرج في وجهه أنواع من الماشرا والأمراض الدموية القتالة، وينجيه الله تعالى منها، إلى أن حصلت له قرحة، فأتت عليه، وطولت به قريباً من ثلاثة أشهر. وكان فصيحاً في اللغة التركية كأنه فيها بلبل. اللقب والنسب الخالدي صاحب الديوان بالممالك القانية، أحمد بن عبد الرزاق. ابن الخباز جماعة، منهم: المحدث نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم. ومنهم: شمس الدين محمد بن عمر الحلبي الدمشقي. الختني بدر الدين يوسف بن عمر. خديجة بنت زين عبد الرحمن ابن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد المقدسية أم محمد، أم صلاح الدين، وزوج شرف الدين بن الشيخ شمس الدين الحنبلي. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن خطيب مردا، وسمعت من اليلداني، ومحمد بن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدايم. وأجاز لها سبط السلفي، وجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وتوفيت رحمها الله تعالى في رابع عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة. ومولدها تقريباً سنة سبع وأربعين وست مئة. اللقب والنسب ابن الخراط علي بن عثمان. ابن الخشاب صدر الدين أحمد بن عيسى. ابن الخشاب مجد الدين عيسى بن عمر. ومشد الدواوين محمد بن يحيى. خضر بن بيبرس الملك المسعود بن الملك الظاهر. كان من أحسن الناس في الشكاله، وأحق من يجعل الحزن والبكا له، عاقلاً مهذباً، ساكناً مدرباً. أبعد في البحر إلى الأشكري النصراني، وسلاهو وسلامش أخوه مصر، كأنما قالت: لا أراك ولا تراني، وأقام هناك إلى أن توفي أخوه، وعلم أنه قد قل بل عدم مصرخوه، فحضر بعد ذاك خضر، ورأى رونق مصر النضر. فقيل: إنه سقي السم، وعدم من النسيم الشم. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. ولما مات كان في سن الكهولة، ووصل إلى مصر من بلاد الأشكري في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وكان قد ملك الكرك بعد أخيه الملك السعيد، ثم اقتضت آراء الدولة تجهيزه مع أخيه العادل سلامش. وفي هذا خضر قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر لما ختنه والده الملك الظاهر: هنّئت بالعيد وما ... على الهناء أقتصر بل إنها بشارة ... لها الوجود مفتقر بفرحة قد جمعت ... ما بين موسى والخضر قد هيّأت لوردكم ... ماء الحياة المنهمر الخضر بن عبد الرحمن ابن الخضر بن الحسين بن الخضر بن الحسين بن عبد الله بن عبدان: الشيخ الأصيل شمس الدين بقية المسندين الدمشقي الكاتب. تفرد بأشياء من المرويات والأشياخ، وأسمع إلى أن خمد عمر جمره وباخ. وسمع منه خلق على ضعفه، ورزق في ذلك سعداً لو أعفاه لم يعفه؛ لأنه كان ارتزق في خدم الجهات من المكوس وغير ذلك. ثم إنه تركه في آخر عمره، وما مر بتلك المسالك. ولم يزل على ذلك إلى أن بطل بالموت تسميعه، وشت من الشمل جميعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ووفاته في سنة سبع مئة. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة. وروى عن النفيس بن البن مغازي ابن عائذ، وعن ابن صصرى أبي القاسم، وأبي المجد القزويني، وزين الأمناء، والمعافى بن أبي السنان، والمسلم المازني، وابن غسان، وحضر ابن أبي لقمة. وأجاز له الموفق، والفتح بن عبد السلام. خضر بن محمد ابن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان بن علي، القاضي زين الدين بن القاضي تاج الدين بن زين الدين بن جمال الدين بن علم الدين بن نور الدين، كذا أملى علي نسبه. قرأ القرآن، وصلى به. وسمع البخاري على الحجار، وست الوزراء، وعلى غيرهما. وقرأ النحو على الشيخ شهاب الدين بن المرحل، وحفظ الألفيتين المالكية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 والمعطية. وبحث في المقرب، وصناعة الكتاب لابن النحاس، وبعض التنبية؛ تقدير الربع. وحفظ عروض ابن الحاجب، وقصيدة ابن مالك في الفرق بين الظاء والضاد. والتجريد للبحراني، في البديع. وكان كاتباً سريعاً، وارداً من سرعة التنفيذ روضاً مريعاً، له صبر على الكتابة وجلد، وقدرة على كتمان ما دخل منه في خلد؛ إلا أنه قليل النظم إلى الغايه، إما لعسرة عليه، أو لأنه لم يكن له به عنايه. رافقته في الديوان مرتين، وحمدت منه كل ما يشكوه من الضرتين. ولم يزل على حاله إلى أن فقد الخضر عين الحياه، وظمئ إلى العيش فأسقاه حياه. وتوفي رحمه الله تعالى في آخر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده في سنة عشر وسبع مئة. كان في جملة كتاب الإنشاء بقلعة الجبل، ثم لما رسم السلطان الملك الناصر محمد لوالده القاضي تاج الدين محمد بكتابه سر حلب في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة دخل هو دار العدل ولما توجه القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود إلى حلب كاتب سر في سنة ست وأربعين وسبع مئة جعله القاضي علاء الدين بن فضل الله مكانه في الحضور بين يدي النواب بمصر، واستمر به في نيابته، واعتمد عليه، وألقي إليه أمر الديوان فوفى بذلك ووفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وكان كاتباً سريعاً، يكتب من رأس القلم التواقيع والمناشير. وكان ينطق بالجيم كافاً. وأنشدني من لفظه لنفسه: عبدك السائل الفقير ابن خضر ... يسأل العفو والرضا والسّلامه فعسى بالدّواة يكتب أجرا ... فأنله الرجا يا ذا الكرامه وأنشدني من لفظه لنفسه في مقص: يحرّكني مولاي في طوع أمره ... ويسكنني شانيه وسط فؤاده ويقطع بي إن رام قطعاً وإن يصل ... يشقّ بحدّي الوصل عند اعتماده ولما طلبت أيام الملك الصالح إسماعيل إلى مصر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وجلست في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل تفضل الجماعة الموقعون، وكتب بعضهم إلي شعراً من باب الهناء، وأجبته عنه. ثم إنه بعد مدة كتب زين الدين هذا: تأخرّت في مدحي لأني مقصّر ... وفضل صلاح الدين لا زال يستر خليلٌ له الآداب حقّاً ينالها ... جليلٌ به الأصحاب تسمو وتفخر لقد آنس الأمصار لّما أتى لها ... وأوحش ربع الشام إذ كان يقفر فلا شهدت عيناي ساعة بعده ... ولا سهدت شوقاً إليه فتسهر ودام عليّ القدر يرقى إلى العلا ... محامده بين الأنام تسطّر فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: تفضّلت زين الدين إذ أنت أكبر ... وأشرف من مدح به العبد تذكر فشرّفت مدري حين شنّفت مسمعي ... فيا من رأى شعراً على الدرّ يفخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 فما هو شعرٌ يحصر الوزن لفظه ... ولكنّه شيء من السّحر يؤثر يجوز بلا إذن على الأذن خفّةً ... كأنّ الزّلال العذب منه يفجّر فها أنا منه في نعيمٍ مخلّدٍ ... وعيشي بخضرٍ في ربا مصر أخضر وكتب إلي أيضاً ملغزاً: يا سيد العلماء والبلغاء، والكتاب والأدباء، ما اسم أول سورتين من القرآن، وحرف من أول سورة أخرى، وهو ثلاثة أحرف، وتلقاه ثمانيه، إذا أفردت مجموعه سراً وجهراً، أول حروفه إليه ينسب أحد الجبال، وآخرها قسماً لا تزال، إن حذفت أوله وصحفت ثانيه فهو ظن حقيقته الآمال، أو صحفت جملته كان وصف مؤمن يجري على هذا المنوال، أو حذفت أوسطه مع التحريف كان عبداً لا يعتق، أو حذفت آخره مع بقاء التحريف كان حيواناً يسرق ولا يسرق، ويأنس وينفر، ويقيد بالإحسان وهو مطلق، يطوف بالبيت، ويأوي في المنازل إلى الحي والميت، ولا يباع ولا يشترى، وعينه المجاز حقيقة تبلغ قيمة بل تماثل جوهرا، وإن أبقيت هذا الاسم على حالته، فهو شيء لا يستغني عنه مسجد ولا جامع، ولا بيع ولا صوامع، ولا مسلم ولا كافر، ولا قاطن ولا مسافر، ولا غني ولا فقير صابر، ولا قوي ولا ضعيف، ولا مشروف ولا شريف، ولا خائن ولا مأمون، ولا حي ولا من سقي كأس المنون، ومع ذلك فهو جليل حقير، قليل كثير، يملكه المالك والمملوك، والملي والصعلوك، وهو شيء ممتهن، ويعلو على رؤوس الأمراء والوزراء والملوك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قلبه بالتحريف فعل مضى، واسم إذا نطق به قد يرتضى، وهو قد يبدو به النور في الدياجي، وعند الصباح ينقطع منه أمل الراجي، لا يستغني عنه بيت ولا بقعة، ومع ذلك يباع بفلس ودينار، وفوق ذلك في الرفعة، وهو بين واضح، فأحلله بميزان عقلك الراجح إن شاء الله تعالى. فكتبت أنا الجواب عن ذلك وهو في قطن: وقف المملوك على هذا اللغز العجيب، والمعمى الذي ماله في فنه مماثل ولا ضريب، وعجبت منه نباتا نطق معكوسه، وثلثاه كتاب تزدان سطوره وطروسه، أوله يضاف إليه أكبر الجبال، ومجموعه مادة للحبال أشبه بياضا بالثلج، ومحبوبه يروق ويحسن بالحلج، قد خف على اللسان وزنه، وأعجب أرباب الأموال ادخاره وخزنه، كله نابت في التراب، وثلثاه سابح في البحر لا يستراب، إن جعلت آخره وسطا كان فعل من انقطع رجاؤه، واتسعت في اليأس أرجاؤه، وإن صحفت حروفه في هذه الحالة أتتك من الحر واقدة، وأصبحت العجاجة وهي في الجو عاقدة، وإن صحفته أيضاً كان أمةً من الأمم، وليسوا من العرب إذا عدوا ولا العجم، يعد منهم فرعون وجنوده، ولنا فيهم نسب وصهر يعزك منكره وجحوده، وإن عكسته في هذه الحالة كان آنيةً لا محالة، ولهذا اللغز أوصاف أخر لا تذكر، ولا تعرف بعد ولا تنكر، أضربت عنها خوف الإطالة صفحا، وعددت هذا القدر ربحا، لأن مولانا حرسه الله تعالى مد فيه الأطناب، واستوعب أوصافه بالإسهاب والإطناب، والله يديم حياته لأهل الإنشاء، وينشر محامده بلسان الإذاعة والإنشاء، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. خضر بن أقجبا جمال الدين بن فخر الدين الصفدي، والده يعرف بأقجبا الساقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 انتشأ هذا في صفد جندياً مثل والده، وزاد بطارفه على تالده، وسعى حتى ولي بها عدة ولايات، وساس الناس بما رآه من الإهمال والغيابات. ولما كان أرغون شاه بصفد ثانيا خدمه، وأثبت في الوقوف بين يديه قدمه، فرشحه للتقدم، وعمارة مجده بعد التهدم. ولما حضر إلى دمشق أتاه، ووافقه السعد عنده وواتاه، فحصل له عشرة، فجد في أمرها لما عنده من الشره. ثم إن الحال زاد به، فسعى في ولاية مدينة دمشق فتولاها، وبقي فيها مدة وما جلاها ولا حلاها، بل راح وخلاها. وتوفي رحمه الله ثاني عيد النحر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى قد عزل من الولاية قبل موته بعشرة أيام، لأنه كان قد مرض مرضاً طويلاً، وبقي مدة عليلاً. وكان وهو أمرد صورة في الحسن بديعه، ولما قارب التكهل استحال إلى هيئة شنيعه. وباشر بدمشق قبل الولاية شد الزكاة. خضر بن سليمان الأمير ابن أمير المؤمنين المستكفي بالله. كان ولي العهد. فتوفي في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن في التربة المظفرية جوار السيدة نفيسة خارج القاهرة. خطاب بن محمود بن رنقش الأمير عز الدين العراقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 كان له مال وثروه، وشيخاً قد بقي على رأي العوام بروه، وفيه خير وإحسان، وفضل أربى به على رب السيف والطيلسان. عمر الخان بين غباغب والكسوه، وجبر به كل من يمر في الطريق من الرجال والنسوه، وعمر حماماً بحكر السماق معروفاً، وجعله بألسنة الشكر موصوفاً. وكان فيه معروف وبر، وخير في الظاهر وفي السر. ولم يزل على حاله إلى أن نزل الخطب ب خطاب ، وبدل أهله بنكد العيش بعدما طاب. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. خطاب الصاحب الكبير المحترم، ركن الدين بن الصاحب كمال الدين أحمد بن خطاب الرومي السيواسي. شيخ كبير له حرمه، وعليه أثار سعادة ونعمه، وله غلمان وأتباع وحفده، وحاله تقتضي التوسع في الحشمة والحفده. وقف خانقاه ببلد سيواس، ووقف عليها وقوفاً كثيرة من أنواع البر التي تعم الناس. قدم إلى دمشق، وتوجه إلى الحجاز، فمات رحمه الله تعالى بالكرك، وراح إلى الله تعالى، وترك ما ترك، وذلك في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمئة، وصلي عليه بالجامع الأموي، ودفن عند جعفر الطيار رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 خطلو شاه نائب التتار. كان كافياً كافرا، داهية ماكرا، رفيع المرتبه، لا يبالي بالمعيبة ولا المعتبه. نزل بالقصر الأبلق في واقعة غازان، وفعل كل ماشان ومازان، وتوجه إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكلمه في الرعية، فتنمر عليه، وأعرض عنه، ولم يلتفت إليه. وكان مقدم التتار يوم شقحب، فعاد بلا أهل، ولا أهل ولا مرحب. وانهزم خاسئاً، وأصبح مكلوءاً معكوماً بعد أن كان كالماً كالئاً. وجهزه غازان في جيش كبير من المغل لمحاربة صاحب جبال كيلان، فبيته الملك دوباخ، وبثقوا عليهم الماء في الليل فغرقوا، وأظهروا لهم النيران من كل جانب، وأزعجوهم بالصياح إلى الصباح، فغرق أكثرهم، ورماه دوباج بسهم ما أخطأ حبة قلبه، ودخل عليه الموت بهمزة سلبه. وفي هذه الواقعة قتل الشيخ براق كما تقدم في ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وكان هلاك خطلوشاه في سنة سبع وسبع مئة، وفرح غازان بموته، لأنه كان يخافه. الألقاب والأنساب الخطيري: الأمير عز الدين أيدمر. وابن خطير: الأمير بدر الدين أمير مسعود. وأخوه الأمير شرف الدين محمود. وناصر الدين محمد بن مسعود. خطيب الفيوم: معين الدين أحمد بن أبي بكر. خطيب مردا: عبد الرحمن بن محمد. وخطيب القدس: عماد الدين عمر بن عبد الرحيم. الخطيب بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن. ابن خطيب بعلبك: محمود بن محمد. ابن خطيب بيت الآبار: نجيب الدين أحمد بن عمر. وعلاء الدين علي بن عمر. وموفق الدين عمر بن أبي بكر. وموفق الدين محمد بن عمر. وشرف الدين محمد بن داود. والقاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر. خلف ابن عبد العزيز بن محمد بن خلف بن خلف بن عبد العزيز بن محمد، أبو القاسم الكاتب الغافقي القبتوري، بفتح القاف، وسكون الباء الموحدة، وفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الواو، وبعدها راء، الإشبيلي المولد والمنشأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 قرأ على الأستاذ أبي الحسن الدباج كتاب سيبويه، وقرأ عليه بالسبع، وقرأ الشفاء بسبته على عبد الله بن القاسم الأنصاري. وله إجازة من الرضي بن البرهان، والنجيب بن الصيقل. وكتب لأمير سبتة، وحدث بتونس عن الغرافي، وحج مرتين. وكان كاتباً مترسلا، ينثر وينظم، ويكبر الفضلاء، ويعظم، مع الخير والتقوى، وملكة نفسه التي تصبر على المضض وتقوى. جاور بمكة زمانا، وأعطاه الله بالسعادة من ذلك ضمانا. ولم يزل على حاله إلى أن عد خلف في السلف، وورد موارد التلف. وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة الشريفة في أوائل سنة أربع وسبع مئة. أنشدني من لفظه العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدني المذكور لنفسه: أسيلي الدّمع يا عيني ولكن ... دماً ويقلّ ذلك لي، أسيلي فكم في الترب من طرفٍ كحيل ... لتربٍ لي ومن خدّ أسيل وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذكى كفّي ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا ... قضاءه الكفّ عنه كنت ذا كفّ وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... ما لي وهنّ منى نفسي وآمالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما ... آلوت جهداً ولكن جدّي الآل وأنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري، قال: أنشدني لنفسه بالمدينة: رجوتك يا رحمن إنّك خير من ... رجاه لغفران الجرائم مرتجي فرحمتك العظمى التي ليس بابها ... وحاشاك في وجه المسيء بمرتج قلت: شعر جيد، لكنه متكلف. خليفة بن علي شاه الأمير ناصر الدين ابن وزير البلاد القانية. كان من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وممن للأقلام في ذكره مد ومشق. لما قدم الشام أحبه تنكز. وحصل له من خاطره مركز، فكتب إلى السلطان في أمره، وجعله دون الناس الواردين في حجره. وكان ذا شكالة حسنه، وطلعة يجفو الطرف لأجلها وسنه، جهزه فيما بعد أرغون شاه إلى صفد محل إقطاعه، وحكم على وصوله إلى دمشق بامتناعه، فحضر إليها طلباً لمداواة مرض حصل له في صفد، فأقام بها قليلاً، وسهم المنية قد أصاب شاكلته ونفد، وما حمل ولا رفد. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وكان الأمير ناصر الدين قد وفد إلى الشام صحبة الأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير، فرآه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فأعجبه شكله، فسأل السلطان أن يكون عنده بدمشق أميراً، فرسم له بذلك، واختص بتنكز ولازمه كثيراً، ولما أمسك تنكز لحق كل من كانت له به خصوصية شواظ من ناره، خلا الأمير ناصر الدين فإن السلطان راعى فيه خاطر أخيه؛ لأنه كان في تلك البلاد مقيماً، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين كجكن، وكان يلبسها لبس الخواتين في تلك البلاد، ولما عمر الأمير سيف يلبغا جامعه بدمشق تولى هو شد العمارة، وقصد أن تكون عمارته على زي عمارة تلك البلاد الشرقية، فلما أمسك يلبغا خاف ناصر الدين خليفة أن يؤخذ بجريرته فسلمه الله تعالى. وكان إقطاعه بصفد، فلما جاء أرغون شاه إلى دمشق جهزه إلى صفد، ورسم له بالإقامة هناك، فحصل له ضعف، وحضر للمداواة بدمشق فتوفي بها، وعمر داراً على نهر بردى، تحت دار الجالق، ووضعها وضع تلك البلاد، وما أظنه كان يخلو من تشيع، والله أعلم. خليل بن إسماعيل بن نابت بالنون أولاً: الفقيه المحدث فخر الدين الأنصاري القدسي. رحل إلى مصر، ولقي المشايخ وكتب، وحصل في الحديث محصولاً جيداً ودأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وكان محدث القدس ومفيده، ومبدي فضله ومعيده. روى عن العز الحراني، وروى عنه ابن الخباز، وكان ينقض في بحثه على الخصم كما ينقض الباز. وكان ذكياً يقظاً نبيهاً، ويزيد على الحديث بأنه كان فقيهاً. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فما أمسى، وسكن بعد بيته رمساً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في شهر ربيع الأول. درس بالأمجدية وغيرها بالقدس، وكان مفيد القدس. خليل بن محمد بن سليمان الشيخ الإمام العدل جمال الدين السملوطي - بالسين المهملة، وبعدها ميم ولام مشددة وواو وطاء مهملة - الشافعي النحوي. أقرأ النحو بمصر مدة، وكابد في تعليم الطلبة شدة، وكان عدلاً مقبولاً، ولم يكن بالرياسة متبولاً. ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى من دعاه، وقام به الصارخ ونعاه. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وقد بلغ السبعين، ودفن بباب النصر خارج القاهرة. خليل ابن الأمير حسام الدين بن البرجمي بالباء الموحدة، والراء والجيم والميم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 كان له دربة بالأمور والمباشرات، وتغاض عن الشرور والمكاشرات، فتحدث في أيام الملك الناصر في ديوان بشتاك، وعظم في تلك المدة فما نال بسوء ولا يشاك، ولما انفصل بشتاك، تحدث في ديوان الكامل، وخدمه قبل الملك، فحصل له به السرور الشامل. ثم لما ولي الملك، رسم له بإمرة طبلخاناه، وولاه شد الدواوين، وأركبه رقاب من كانوا له مناوين. ولما خلع الكامل أخذ منه ذلك، وانصرم عنه ما هنالك. ثم أعطي إمرة عشرة، فما وصلت إلا وقد انفصل أجله، ولم ينفعه تلبثه ولا عجله. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً يوماً، ومات في الثاني. وكان الملك الكامل قد طلبه وهو سلطان فأعطاه طبلخاناه وشد الدواوين، وأعاد الصاحب علاء الدين بن الحراني إلى نظر الدواوين بدمشق، وجهزه معه، فوصلا إليها في أول ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة. ولما خلع الكامل انفصل من الإمرة ومن الشد، وبقي بطالاً إلى أن كتب له أرغون شاه بعشرة الأمير بدر الدين صدقة بن الحاج بيدمر فما وصل منشوره حتى مات رحمه الله تعالى. وكان ممن يتوالى محبة أصحاب الشيخ تقي لدين بن تيميه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 خليل بن كيكلدي العلائي الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل، جامع شتات الفضائل، المفسر المحدث الفقيه النحوي الأديب المؤرخ الإخباري صلاح الدين الدمشقي الشافعي الأشعري. كان أعجوبة في علومه الجمه، وفضائله التي لم يكن أمرها على الناس غمه. أتقن التفسير، وعلم من الحديث ما يشهد به له الجم الغفير. وبرع في الفروع والأصول، وأحاط بما في المحصل والمحصول، واستخرج لباب الإعراب، واطلع على أسرار لغة الأعراب، وعلم تراجم أعيان العالم، وعرف وقائع من داهى أو سالم. وأما نقد الصحيح من الحديث فذاك فن تفرد بخاصته، وشهد له أهل زمانه في أفراده وعامته، وتصانيفه تؤيد هذه الدعاوي، وتعاليقه تحقق له المحاسن، وتنفي عنه المساوي. أقام بالقدس زماناً، وأنفق فيه من العمر أعواما، واتخذ فيه من الطلبة أعوانا، فهبت له النفخات القدسيه، وصبت له اللمحات الأنسيه. ولم يزل على حاله بتلك الأرض المقدسه، والرحل التي هي ظلال البركات معرسه، إلى أن فسد من الصلاح تركيبه، ورحل على الرقاب وعلم الحديث جنيبه. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين ثالث شهر الله المحرم سنة إحدى وستين وسبع مئة. ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وتسعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 سمع صحيح مسلم سنة ثلاث وسبع مئة على الشيخ شرف الدين الفزاري، وكمل عليه ختم القرآن. وسمع البخاري على ابن مشرف سنة أربع. وقرأ العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكري. وجد في طلب الحديث سنة عشر وسبع مئة. وقرأ بنفسه على القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، وعلى أبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وإسماعيل بن مكتوم، وعبد الأحد بن تيمية، والقاسم بن عساكر، وابن عمه إسماعيل، وهذه الطبقة، ومن بعدها. وشيوخه بالسماع نحو سبع مئة شيخ. ومن مسموعاته: الكتب الستة، وغالب دواوين الحديث، وقد علق في مجلد سماه: الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعه. ومن تصانيفه: النفحات القدسية، يشتمل على تفسير آيات وأحاديث، مواعيد، وكتاب الأربعين في أعمال المتقين، وكتاب تحفة الرائض بعلوم آيات الفرائض، وبرهان التيسير في عنوان التفسير، وإحكام العنوان لأحكام القرآن، ونزهة السفرة في تفسير خواتم سورة البقرة، والمباحث المختارة في تفسير آية الدية والكفارة، ونظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، وتحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، وتفصيل الإجمال في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 تعارض الأقوال والأفعال، وتحقيق الكلام في نية الصيام، وشفاء المسترشدين في اختلاف المجتهدين، ورفع الاشتباه عن أحكام الإكراه، ونهاية الإحكام لدراية الأحكام، وكتاب الأربعين الكبرى. وله التعاليق الأربعة: الكبرى والوسطى والصغرى والمصرية في اثني عشر مجلداً. وكتاب الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين في اثني عشر أجزاءاً. والأربعين الآلهية ثلاثة جزءاً، وعوالي مالك بن أنس السباعيات ستة أجزاء، وسداسيات أصحاب سفيان بن عيينة في سبعة أجزاء، والمحاسن المبتكرة، عشرة أجزاء، والمسلسلات ثلاثة أجزاء، وعنبر السحر في آية السحر، وتقرير غاية المدة في تفسير آية العدة، وتفسير مجابي الهصر في تفسير آيتي الخوف والقصر، والفوائد المحققة في تفسير آيتي المحاربة والحرام، وكتاب إيضاح وجوب الإجمال والإحسان في شرح حديث الخصال الواجبة للغير على الإنسان، وشرح القول الحسن في الوصية لمعاذ عند بعثته لليمن، وروض الإيقان في شرح حديث: الطهور شطر الإيمان، جامع التحصيل لأحكام المراسيل، تحقيق ثبوت الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب، تفسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة، تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء، إبانة الخطوة في قاعدة مد عجوة، رفع الالتباس عن مسائل البناء والغراس، إتمام الفوائد المحصولة في الأدوات الموصولة، الفضول المفيدة في الواو المزيدة، المعاني العارضة لمن الخافضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وكان أولاً بزي الأجناد، ثم ترك ذلك، وأقبل على الطالب والاشتغال. وحفظ التنبيه، ومختصر ابن الجاجب، ومقدمتيه في النحو والتصريف، ولباب الأربعين في أصول الدين لسراج الدين الأرموي، وكتاب الإلمام في الأحكام، وعلق عليه حواشي. ورحل صحبة الشيخ كمال الدين الزملكاني إلى القدس سنة سبع عشرة وسبع مئة. وسمع من زينب بنت شكر وغيرها. ولازم الشيخ كمال الدين سفراً وحضرا، وعلق عنه كثيراً، وحج معه في سنة عشرين وسبع مئة. وسمع بمكة من الشيخ رضي الدين الطبري، ولازم القراءة على الشيخ برهان الدين الفزاري في الفقه والأصول مدة سنين، وخرج له مشيخة، وللشيخ تقي الدين قاضي القضة السبكي، وغيره من الأشياخ مشيخات، وولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ثم إنه درس بالأسدية سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وأذن له الشيخ كمال الدين الزملكاني بالإفتاء سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم درس بحلقة صاحب حمص سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ثم تولى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام به إلى آخر وقت. وتولى تدريس مشيخة الحديث بالسيفية تنكز بالقدس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وحج سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وجاور بمكة وعاد في سنة ست وخمسين. وعدت أنا وهو إلى الشام، ورافقته في الطريق، واجتمعت به غير مرة في دمشق والقاهرة والقدس. وأخذت من فوائده في كل علم، وقل أن رأيت مثله في تحقيق ما يقوله في كل فن وتدقيقه. وكان ممتعاً في أي باب فتح، يحفظ تراجم أهل العصر، ومن قبلهم، وتراجم الناس من المتقدمين، وهو عارف بكل شيء يقوله أو يتكلم فيه. وأنشدني لنفسه إجازة، ونقلته من خطه: يا ربّ كم من نعمةٍ ... لك لا أُؤدّي شكرها أو ليتني فيها الجمي ... ل وذدت عني شرّها وكفيتني يا ربّ في ... كلّ الأمور أمرّها ووقيتني عند الشدا ... ئد والحوادث ضرّها فاغفر ذنوبي كلّها ... إنّي لأرهب وزرها فهي التي فارقتها ... وأجدت حلماً سترها وعصيت جهلاً حين لم ... أقدر جحيمك قدرها والطف بعبدك دائماً ... وقه الخطوب ومكرها وكان له ذوق كبير في الأدب ونكتة، وعمل كثيراً نظماً ونثراً. وكان فيه كرم زائد، ووجه طلق في تلقي الأصحاب ومن يرد القدس، وترك عليه جملة من الديون بسبب ذلك. وكتبت إليه وقد ورد إلى دمشق المحروسة في بعض السنين، أظنها سنة تسع وثلاثين وسبع مئة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 أتيت إلى دمشق وقد تشكّت ... إليك لطول بعد وانتزاح وكانت بعد بعدك في فساد ... وجئت لها ففازت بالصّلاح وقد أجاز لي بخطه كل ما يجوز له تسميعه. وكان يكتب في الإجازات بيتاً مفرداً، وهو: أجازهم المسؤول فيه بشرطه ... خليل بن كيكلدي العلائي كاتبه وهذا مثل ما أكتبه أنا أيضاً في الإجازات، وهو: أجاز للسائلين ما سألوا ... فيه خليل بن أيبك الصفدي وكتبت له أنا عدة تواقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بالقدس بالشام والقاهرة. فأول ما كتبت له بذلك بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تهدي إلى الأماكن الشريفة صلاحا، وترفع قدر من إذا خطا في طلب العلم الشريف تضع له الملائكة جناحا، أن يرتب المجلس السامي الصلاحي مدرسا بالمدرسة الصلاحية بالقدس الشريف لما اتصف به من العلوم التي أتقنها حفظا، وطرز بإيرادها المحافل، فراقت في القلوب معنىً، وفي الأسماع لفظا، فهو الحبر الذي يفوق البحر بغزارة مواده، والعالم الذي أصبح دم الشهداء بإزاء مداده، إن نقل حكماً فما المزني إلا قطرة من هتانه، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 رجح قولاً فما ابن سريج إذا جاراه من خيل ميدانه، أو ناظر خصماً فما ابن الخطيب ممن يعد في أقرانه، أو استدل محتجاً فما يقطع السيف إلا بدليله وبرهانه، فالماوردي حاوي مناقبه وذكره، وأبو إسحاق صاحب التنبيه على رفعة محله وقدره، قد أضحت به وجوه الأصحاب سافرةً عن الحسن البارع والمنظر الجميل، وأمست طرق المذهب بدروسه واضحة الأمارة، راجحة الدليل، ولذلك ندب لنشر العلم الشريف لذلك القطر الجليل، واستحق لفضله الأقصى أن تكون حضرة القدس مقام الخليل، فليورد من فضله الباهر هناك ما يحيي مذهب ابن إدريس بدرسه، وينشر ميت العلم حتى يكون روحاً في قدسه، وليتعهد الطلبة بالحفظ والبحث، فإنها للعلم كالجناحين، وليقف عندما شرطه الواقف أثابه الله الجنة، فما يفسد أمر وقع بين صلاحين، وتقوى الله تعالى زينة العلم، فليجعلها طراز لبسه، وجمال العلم، فليدخرها لغده الذي يربى في الخير على أمسه، والله تعالى يزيده فضلاً على فضله، وينشر به أعلام العلم الذي يخفق على رؤوس أهله، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وبيني وبينه رحمه الله مجارات ومكابتات وألغاز وغير ذلك، وقد سقت منها جانباً في كتابي ألحان السواجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه: يا صاح دعني من حديثك إنّ قلبي في البلاء أو ما ترى أهل الحديث تسافلوا بعد العلائي وقلت فيه أيضاً: العلم بعد صلاح الدين قد فسدا ... والفضل نقصانه قد راح مطّردا مات الذي كان في علم الحديث إذا ... ما أظلم الشكّ فيه راح متّقدا ومن يحررّ أسماء الرجال ويد ... ري النقد والنقل والتعليل والسندا قد شارك الناس في أشياء يفضلهم ... فيها من العلم لا نحصي لها عددا أما إذا كان في نقد الصحيح من ال ... حديث فهو لهذا الشأن قد قعدا والفقه ألقاه تدريساً يحرّره ... حتى تجاوز في غاياته الأمدا وفي الأُصولين أستاذٌ فما أحدٌ ... أراه يقوى لديه لو حكى أُحدا ستّ وستون عاماً مرّ أكثرها ... في نصرة السنة الغراء مجتهدا إن أظلمت شبهة من إفك مبتدعٍ ... وقام في دفعها قلت الصباح بدا أهل الضلالات أرداهم فلم يجدوا ... من دونه في جميع الناس ملتحدا جاؤوا إليه وكادوا الحقّ فيه وقد ... كادوا يكونون من شرّ له لبدا فشتت الله من لطف عزائهم ... وحلّ إذ فيهم كلّ ما عقدا مباحثٌ كلّما التفّ الجلاد من ال ... جدال أو ضاق حربٌ فكّت الزردا سرى إلى غاية ما نالها أحد ... كانت طرائقه نحو العلى قددا نحوٌ وفقهٌ وتفسير إلى أدب ... قد راح مجموعه المختار منفردا وفي تراجم أهل العصر حاز يداً ... طولى وكم قد أفاد الناس منه يدا فليس أدري له مثلاً أنظّره ... ومن يدانيه في شأوٍ فقد بعدا علمٌ وحلمٌ ومعروفٌ وطيب ثناً ... وحسن سمت ونسك زائد وهدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 تمرّ أوقاته في حفظ سؤدده ... فما رأيت له وقتاً يضيع سدى يقري الورى جفنات ثم يقرئهم ... مجلداتٍ لمن وافى ومن وفدا وحين جاور من جور الزمان وقد ... أنضى إلى مكة العيرانة الأُجدا وكان خير فتى أدّى فرائضه ... في عصره وتردّى الصّبر والجلدا وكل يوم يزيد البّر في عمل ... منه على أمسه حتى يسرّ غدا مضى إلى الله محفوفاً برحمته ... حتى يلاقي غدا في الحشر ما وعدا أكاد من حسن ظني في طريقته ... أني أشاهده في جملة الشهدا يا بن العلائيّ إني قد قضيتك من ... حق الرثاء الذي أبصرته رشدا فاذكر أخاك إذا حيّتك نافحةٌ ... من روح ربك أو بلّت لديك صدى فأنت ضيف عظيم الجود وهو إذا ... ما جاد لم ينس من معروفه أحدا وقم إلى الله يوم الحشر في دعةٍ ... فأنت عندي معدودٌ من السّعدا خليل بن أيتمش الأمير صلاح الدين بن الأمير أيتمش المحمدي، والده تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة. وكان هذا صلاح الدين له صورة سبحان من أبدعها، ولو شاء لذهب بالشمس وأطلعها، بديع الجمال، وافر الحسن، يشهد له البدر بالكمال قد تأنى الحسن فيه وتألق، وتملأ القمر بنظره لما رآه فتملق، بقد من أين للغصن تخطره، ونشر من أين لزهر الروض في السحر تعطره، ووجه حلا نظره، وتمنى الأفق لو أنه شمسه أو قمره، وعيون من نفاثات السحر في عقد القلوب، وجفون كم وقع أسد منها في أقلوب، وفم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 تبسم مرجان شفته عن لآلئ منظومه، ووجنات كأنها بأزاهر الحدائق مرقومه، وشعر يخط في الأرض إذا خطا، ويحسده الغزال إذا عطا، زان بجماله المواكب، وزاحمته الكواكب على حسنه بالمناكب. فلو قدر البدر كان الذي ... تطلّع ما بين أطواقه وما أطمع الظبي إن رام أن ... يحاكيه يوماً بأحداقه بينا هو في أمر صعوده، ومنازل سعوده، إذ أنزله الحمام من حصنه، وبكى الحمام على غصنه وتجرع أبوه كأس فقده المر، وود لو كان بدله في تلك الحفر، فتأسف الناس على شبابه، وبلوا بوبل دموعهم ما جف من ترابه. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء تاسع شهر رمضان، سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان ممن يحبه ويهواه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولكنه كان يحب من غير إتيان محرم أو معصية غير النظر. اللقب والنسب ابن الخليلي الصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز، وولده شرف الدين عبد الرحمن. خوبي بضم الخاء المعجمة، وسكون الواو، وبعدها باء موحدة وياء آخر الحروف. كانت جارية الأمير سيفا الدين بكتمر الساقي، اشتراها بعشرة آلاف دينار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 مصرية، كانت مغنية عواده، بادية الحسن والطرب عواده، لم يكن دخل مصر لها نظير، ولا غنى الحمام على مثل قدها النضير، اشتراها وهام في هواها، وسكنها في داره على بركة الفيل التي ما اقتنى أحد مثلها ولا حواها، إذا جست أوتارها أخذت من القلوب أوتارها، وجرى من لطف أناملها الماء في العود، وقيل: هذا البدر في السعود. فإذا غنت أغنت عن الأطيار، وإذا عنت عنت قلوب البررة الأخيار. ثم إنها نقلت بعده إلى ملك بشتاك، وزن فيها ستة آلاف دينار، ودخل معها قماش وحلي، وغير ذلك بعشرة آلاف دينار، ثم إنه وهبها لمملوكه ألطنبغا فيمن أظن، وهنا آخر علمي بأمرها. ولما اشتراها بكتمر الساقي بلغ أمرها امرأته أم أمير أحمد، فقالت له: أريد أنزل إلى دارك التي على البركة لأتفرج هناك، فعلم المقصود، فنزل إلى خوبي وقال لها: الست إذا جاءت إلى هنا اجلسي على يديها والعود في حجرك، واضربي قدامها، وغني لها نوبة مطربة، فلما نزلت ودخلت الدار أول ما توجهت إلى الشباك المطل على البركة، واشتغلت ساعة، ثم التفتت بعد ذلك إلى جهة جواريها، فرأت جارية تركية بيضاء، وجميع ما عليها أبيض مصقول من غير زركش ولا حلي ولا مصاغ فأنكرت ذلك، وقالت: من هي هذه؟ فباست الأرض وقعدت، ووضعت العود في حجرها، وقالت: دستور، وغنت نوبة كاملة مطربة، فقالت الست: من هي هذه؟ فقالوا: هذه جارية الأمير. فقالت: هذه خوشداشتي، ثم أخذت بيدها، وأجلستها إلى جانبها وأحضرت لها بدلة كاملة بطرز زركش وباولي وزركش، وحلياً ومصاغاً مما هو يجمله، وقالت لمن يثق إليها: والله لما قالوا اشترى الأمير جارية بعشرة آلاف دينار وسكنها في داره على البركة، ظننت أنها تكون مثلي في الحشم والخدم والجواري والملبوس. ثم إنها طلعت بعد ذلك إلى القلعة ولم تنكر من أمرها شيئاً، واطمأنت نفسها إلى ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 قلت: ضعيفان يغلبان قوياً، لأن بكتمر الساقي رحمه الله تعالى تداهى فيما قاله لخوبي، وزادت هي في الدهاء عليه، فما حصل لهما بذلك إلا خير. ولما توفي بكتمر الساقي رحمه الله تعالى في طريق الحجاز قال السلطان: والكم أول ما تصلون القاهرة احترزوا على عود خوبي، فإنها أول ما تسمع خبر بكتمر تكسر عودها. وكان الأمر كما قال، فقيل: إنها أول ما بلغها ذلك قبل وصول السلطان كسرت عودها. وغضب السلطان عليها، وأباعها لبشتاك بستة آلاف دينار، ولكنها لم تقع من قلب بشتاك بموقع. اللقب والنسب ابن خواجا إمام محمد بن عمر ابن أبي الخوف أحمد بن محمد ابن الخيمي مجد الدين إبراهيم بن علي ابن الخلاطي الكاتب محمد بن نجيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 حرف الدال الألقاب والأنساب الداراني القاضي صدر الدين سليمان بن هلال. دانيال بن منكلي بن صرفا القاضي ضياء الدين أبو الفضل التركماني، القاضي بالشوبك. سمع بالكرك من ابن اللتي. وقرأ القراءات على السخاوي بدمشق، وسمع من كريمة، ومن جماعة. وسمع ببغداد من ابن الخازن وعبد الله بن عمر بن النخال، وهبة الله بن الدوامي وإبراهيم بن الخير. وبحلب من ابن خليل. وبمصر من يوسف الساوي وابن الجميزي. وولي قضاء الشوبك مدة. وولي القضاء بأماكن. وخرج له علاء الدين علي بن بلبان مشيخةً قرأها عليه شرف الدين الفزاري. وخرج له ابن جعوان أربعين حديثاً. وسمع منه المزي والبرزالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وكان شيخاً متميزا، سكن من الوقار حيزا، شكله تام، وفضله في العلم عام، قد تنقل في الولايات، وحكم في عدة جهات. ولم يزل على حاله إلى أن أمسى الموت في دانيال دانيا، وطرف الحمام إليه رانيا. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وتسعين وست مئة بالشوبك. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة. داود بن إبراهيم بن داود الشافعي سمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وابن البخاري وغيرهما. وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة. داود بن أسد الأمير بهاء الدين القيمري. كان من رجال الدهر في السعي والتقدم، وأهل الزمان في التوصل إلى خراب بيوت أعاديه والتهدم، إلا أنه لا يدوم له حال، ولا تثبت له قدم، حتى يرميه الدهر بالانتقاد والانتقال. ولم يزل بين هبوط وصعود، ونحوس وسعود، ومباشرة أملاك وعمائر، ونصب دلالات وأمائر، حتى قمر الدهر من القيمري عمره، وأنفذ الحمام فيه أمره. وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أول ما عرفت من حاله أنه تعلق على الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام لما كان بغزة، وخدمه. ولما نقل إلى نيابة الشام حضر معه إلى دمشق، ولم يزل يسعى إلى أن حصل إمره عشرة بغزة، ثم صار يتعلق على واحد بعد واحد ممن يظهر في كل دولة بالديار المصرية واحداً بعد واحد، إلى أن أعطي في وقت إمرة طبلخاناه، وهو يجتهد في التقرب إلى خواطر الأمراء بالضمانات والزراعات والتجارات، إلى أن تعلق أخيراً على الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، كل هذا وهو في غزة. ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد في واقعة بيدمر حضر في ركاب الأمير سيف الدين يلبغا فأعطي إمرة طبلخاناه بالشام، فأقام بدمشق قليلاً، وتوجه إلى بلاده بغزة، فأقام هناك، وفي الساحل وفي نابلس فوق الشهرين إلى أن وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى. وكان قد ولي في وقت نظر القدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام. وكان قد تعلل في نابلس وأمر أن يحمل إلى القدس، فحمل على باب، وأظنه مات هناك. وقيل: إنه خلف ثماني مئة ألف درهم. داود بن أبي بكر بن محمد الأمير نجم الدين بن الزيبق، بالزاي والياء آخر الحروف، والباء الموحدة وبعدها قاف. كان من رجال المباشرات وأولي الدربة في الولايات. إذا تولى جهة أصلحها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 بالسياسه، وصال على أهلها بالصرامة والنفاسه، وله في دسته العبسه، والمهابة الزائدة في الجلسه، يطرق ولا يطرف، ويعرف أشياء، ويري أنه ما يعرف. اشتهرت حرمته في البلاد، وعلم أنه صاحب جدال وجلاد، وإذا ذكر اسمه للمفسد ود أنه لم يخلق، ورأى أنه يموت ولا يرى ابن الزيبق، هذا إلى لطف وحسن أدب، إذا خلا بأصحابه، ومن يأنس إليه من إخوانه وأترابه. وكان يرعى صاحبه ولا ينساه، ويخدم الناس، ولو دب على المنساه. تنقل في ولايات الشام ومصر سنين، وقمع الله به جماعةً من المفسدين. ولم يزل على حاله إلى أن غرب من عمره نجمه، ومحي في رمسه رسمه. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب الفرد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالصالحية عند تربة الشياح. أخذ العشرة، وباشر في أيام سلار خاص الساحل والجبل، ثم باشر خاص القبلية، وبعد ذلك باشر الخاص بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر، ثم باشر شد الديوان بحمص، ثم باشر شد الأوقاف بدمشق، ثم تولى جبل نابلس، ثم إنه نقل إلى شد الدواوين بدمشق عوضاً عن الأمير بدر الدين بن الخشاب في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ثم باشر شد غزة والساحل والجبل. وشكر للسلطان الملك الناصر فطلبه إلى مصر وولاه ولاية مصر وشد الجهات والصناعة والأهراء، وأعطاه طلبخاناه، ولم يداخل القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وراج عليه الأمير علاء الدين علي بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 المرواني، وداخل النشو، فكانا إذا حضرا عنده ينبسط ابن المرواني مع من يكون حاضرا، ويندب وينشرح ونجم الدين الزيبق في تصميم وإطراق، أو يري أنه ناعس، إلى أن رأى النشو أنه ما يدخل معه في دائرته، فاتفق مع الأمير سيف الدين مكلتمر الحجازي، وأحضر من شكا منه في يوم دار عدل، فعزله السلطان، وأمر بإخراجه إلى دمشق إكراماً للأمير سيف الدين تنكز في يومه ذاك، فعاد إلى دمشق، فولاه تنكز شد الأوقاف والخاص، إلى أن جرت واقعة النصارى في نوبة الحريق بالجامع الأموي، فسلمهم الأمير تنكز إليه، فتولى عقابهم وتقريرهم، واستخرج أموالهم وتسميرهم على الجمال وتوسيطهم وحريقهم. وجرت عقيب هذه الواقعة كائنة تنكز وإمساكه، فأمسك الأمير نجم الدين في جملة من أمسك لأجله، ثم أفرج عنه. وتولى نابلس في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش، ثم عزل وتولى بر دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر. ثم طلب إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل، وتولى شد الخاص المرتجع عن العربان بالشام وصفد وحمص وحماة وطرابلس. وأقام كذلك ولده شجاع الدين أبو بكر نائبه في ولاية البر بدمشق إلى أوائل أيام الأمير سيفي الدين يلبغا، فتوجه على الخاص إلى مصر، وتولى بمصر شد الجيزية، وكان بها كاشفاً ومشدا. ولما أمسك يلبغا وأقاربه ومن كان تسحب معه حضر الأمير نجم الدين هو والصاحب علاء الدين بن الحراني والأمير عز الدين أيدمر الزراق للحوطة على موجود المذكورين وإقطاعاتهم، وجعل الأمير شمس الدين آقسنقر أمير جاندار يتحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 معهم. وكان قد عين للأمير نجم الدين إقطاع طبلخاناه لتجهز إليه إلى الشام، فاعتل قريباً من جمعة، ومات رحمه الله تعالى. ومن حسن سياسته أنه تولى نابلس في أيام تنكز فقتل فيهم، وأراق دماءهم، وبعد ذلك نقل عنهم وولي شد دواوين دمشق. وغضب عليه تنكز وأمسكه، وطلب منه مئة ألف درهم، فحضر أكابر أهل نابلس، فقالوا: نحن نزنها عنه، ويعاد إلينا والياً، فكان ذلك من أسباب الرضى عنه. وكنت قد كتبت له توقيعاً بشد الخاص بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكان ذلك عقيب قدومه من مصر إلى الشام، وهو: الحمد لله الذي جعل نجم الدين في آفاق السعادة طالعا، وسيره في منازل السيادة حتى كان الحكم بشرفه قاطعا، وقدر له الخير في حركاته وسكناته مستقيماً وراجعا، وأبرزه في هذه الدولة القاهرة لشمل مسراتها جامعا، نحمده على نعمه التي قربت من نأى بعد انتزاحه، وأعادته إلى وطنه الذي طالما شام التماع برقه في الدجى بالتماحه، وجبلته على إشارة دون كل قطر تبسم روضه بثغر أقاحين وما قلنا أقاحه، وخصته بمباشرة خاص تأتى له وتأتي البركات فيه على اقتراحه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نزل إثبات التوحيد في أبياتها، ووجدت النفوس لذاتها بإدمانها لذاتها، ومد الإيمان أيدي جناتها إلى ثمار جناتها، وأوصل الإيقان راحات قاطفيها إلى راحاتها. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله إلى الخاص والعام، وأورثه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 خزائن جوده فريد الإفضال ومزايا الإنعام، وحببه إلى قوم هم أنس الإنس، وجنبه قوماً " إنْ هُم إلاّ كالأنعامِ " وأيده بالكرامة، وأمده بالكرم ونصره بالملائكة الكرام. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سدوا ما ولاهم، وسادوا من والاهم، وشادوا مجد هذه الأمة فهم أولادهم فيه وبه أولاهم، ووعدوا على ما اتبعوا جنةً دعواهم فيها: سبحانك اللهم، صلاةً يتضوع من نشرها شذاهم، وتكفي من اتبعهم شر أهل البدع وتقيه إذا هم أذاهم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وبعد: فلما كانت وظيفة شد الخاص الشريف بدومة وداريا من أجل الوظائف، وأنفس المناصب التي كم أمها عاف وراقها عائف، وأشرف المباشرات التي من دونها بيض الصفائح لا سود الصحائف، يحتاج من باشرها إلى أن يكون ممن علت هممه، وغلت قيمه، وشكرت شيمه، حتى تفيض على العام من الخاص نعمه، وتدر بداريا دروه، وتدوم على دومة ديمه. وكان المجلس السامي الأميري النجمي داود بن الزيبق الناصري ممن تهادته الممالك الإسلامية شاماً ومصرا، وحاز نوعي الثنا مداً وقصرا، وفات البلغاء من الحصر وصفه حصرا، وطرف عيناً ترون العين، ووضع عن الغلال أغلالاً وإصرا. طلع في كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 أفق، ولا غرو، فهو النجم، وأقام على من خطف الخطفة من رصد حفظه كوكب رجم، وصلب عوده على من أراد امتحان بأسه بغمز أو اختبار لينه بعجم، وانتقل من جنة دمشق إلى مجاورة النيل وهو نهر الجنه، وعاد إلى وطنه ومصر مصرة على محبته، فأشواقها في سموم هوائها مستجنه، وحسنت مباشرته في كل قطر محدود، وباتت مخازيم سؤدده وسدادها مسدود، وأضحى وعمل عمله ليس لناظر فيه مخرج، ولا دون فضله باب مردود، وأطربت مناقبه حتى قال الناس: هذه مزامير داود. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أن يفوض إليه كذا، فليباشر ذلك مباشرةً تشخص لها عيون الأعيان، ويتعلم الكتاب منها تثمير أقلام الديوان، والأبطال تدبير عوالي المران، مجتهداً فيما يدبره، معتمداً على حسن النظر فيما ينبه عليه أو يثمره، فما ندب لذلك إلا لحسن الظن بسياسته، ولا عين لهذه الوظيفة إلا لجميل المعرفة بما جرب بين سؤدده ورياسته، ومثله لا ينبه على مصلحة يبديها، أو منفعة يعلنها أو يعليها، أو فائدة يهديها أو يهديها، أو كلمة اجتهاد لا يملها من يأخذها عنه أو يستمليها. وهو بحمد الله تعالى غني عن إطراء من يمدحه من الغاوين، أو يزهره له بشد هذا الديوان، فقد باشر قبله شد الدواوين، فلا يبذل للناس غير ما ألفوه من سجاياه الحسان في الإحسان، ولا يطو بشره عنهم، فمن رآه لم يكن معه محتاجاً إلى بستان، ولا يعامل الرفاق إلا بالرفق، فإن " كلّ مَنْ عليها فان "، والتقوى ملاك الوصايا فليجعلها له نجيا، وقوام الأمور فلا يتخذها ظهريا، وسداد كل عوز فمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 رامها " تمثّل لها بشراً سويّاً "، والله تعالى يتولاه فيما ولاه، ويزيده من فضله الأوفى على ما أولاه، والخط الكريم أعلاه الله تعال أعلاه، حجة على ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى. ؟ داود بن الحسن بن منصور علم الدين بن سواق. قرأ الفقه على بهاء الدين هبة الله القفطي، وتأدب على أبيه، وقد مر ذكره في حرف الحاء. كان شاعراً مطبوعا، محمولاً على اللطف موضوعا، خفيف الروح، لا تندمل له من اللهو قروح. ولم يزل على حاله إلى أن نزل الأمر الذي هو لقبض النفوس تواق، وساق ابن سواق إلى القبر سواق. وتوفي في حياة والده رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة. وأورث أباه داءً عظيما، وقال من حزنه: يا ليت الفتى أضحى عقيما. ومما قال أبوه في رثائه: مصابك يا داود ليس يهون ... فقد أنبعت فيك العيون عيون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 ورثاه محمد بن الحكم بقصيدة منها: قصدت ربع بني سوّاق مبتغيا ... حجّاً فخبت لأنّي لم أر العلما ومن شعره علم الدين يمدح طقصبا والي قوص: لاح برق من الخبا ... إنّ هذا له نبا وتنشّقت نسمة ... طرقتني مع الصّبا همت لمّا شممتها ... وفؤادي لها صبا وسرى النشر في الورى ... عمّ شرقاً ومغربا هذه دولة الرضا ... وبلها جاء صيّبا جئت بالحق ناطقاً ... لست يا برق خلّبا إنما أنت بارقٌ ... لاح من وجه طقصبا سيف دين مجرّدٌ ... ضيغمٌ ضمّه قبا عفوه وانتقامه ... قرن الذيب والظّبا وغدا طوع أمره ... أسمر الخطّ والظبى قلت: شعر عذب منسجم. داود بن محمد ابن أبي القاسم بن أحمد بن محمد: الأمير الرئيس الجليل عماد الدين ابن الأمير بدر الدين الهكاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 سمع من ابن اللتي، وحامد بن أبي العميد القزويني، والزكي البرزالي، وابن رواحة، وابن خليل، وابن قميرة بحلب، والتاج بن أبي جعفر بدمشق، وعمار بن منيع بحران، وعبد الغني بن بنين بمصر. كان فاضلاً نبيلا، عاقلاً جليلا، تولى نيابة قلعة جعبر في أيام الناصر، وكان في تلك الدولة ممن تعقد عليه الخناصر. ولم يزل يركب ويتصيد، ويتصدى للحركات ولا يتقيد، إلى أن حان مقدوره، وآن نزوله في القبر وحدوره. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة. ومولده سنة تسع وست مئة. وحدث بدمشق والقدس. داود بن مروان بن داود الفقيه الإمام القاضي نجم الدين أبو سليمان الملطي الحنفي. كان شيخاً كبيراً من أعيان الحنفية، درس بعدة مدارس، وتولى قضاء العسكر. وكان يقدم إلى دمشق، ويحكم فيها نيابةً عن قاضي القضاة حسام الدين أيام إقامته. وكان فيه مروءة وتعصب. توفي رحمه الله تعالى ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 داود بن يوسف بن عمر رسول الملك المؤيد هزبر الدين بن الملك المظفر التركماني صاحب اليمن. بحث التنبيه، وحفظ كفاية المتحفظ، ومقدمة ابن بابشاذ، وسمع من المحب الطبري وغيره. كان قد تفنن في العلوم، وأخذ بكل طرف من الفضائل والفهوم. وسمع الناس بميله إلى الأفاضل، فجاؤوه من كل قطر بعيد، واعتدوا للدهر يوم لقائه بعيد، وانثالوا عليه من كل فج، وأموا كعبة جوده بالحج. وأحسن إلى الواردين، وأجمل إلى القاصدين، وهاجر إليه أرباب الصنائع، وأودع عندهم الأيادي والصنائع، وجلب إليه نفائس الأصناف، وأنصف أربابها في العوض عنها غاية الإنصاف، جهزت إليه نسخة بالأغاني الكبير في مجلدة واحدة بخط ياقوت، فوزن فيها مبلغ خمسة آلاف درهم، واشتملت خزائنه على مئة ألف مجلد. وكان يحب أهل الخير، ويزور الصالحين، وكانت أيامه كثيرة الخير. قيل: إن عز الدين الكولمي ورد عليه، ومعه من الحرير والمسك والصيني ما أدى عنه ثلاث مئة ألف درهم. وأنشأ قصراً عديم المثل بديع الحسن. ولما مات رحمه الله تعالى اضطرب أمر اليمن مدة، وتمكن الملك الظاهر بن الملك المنصور، وقبضوا على المجاهد بن المؤيد، ثم مات المنصور، وكان دينا رحيما. ثم ثار أمراء مع المجاهد، فاستولى على قلعة تعز، ثم قوي أمره، وجرى على الرعايا من النهب وافتضاض الأبكار كل سوء، ودام الحرب بين الظاهر والمجاهد، وآل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الأمر إلى أن استقل الظاهر، وبقيت تعز بيد المجاهد، فحوصر مدة، وخربت لذلك تعز خراباً لا يستدرك، ثم إن المجاهد تمكن وأباد أضداده. ولم يزل المؤيد هزبر الدين في أرغد عيش مدة نيف وعشرين سنة، لأنه ملك بعد أخيه الأشرف سنة ست وتسعين، وبقي في ملك اليمن إلى أن خذل بالموت المؤيد، وأنزله من قصره إلى قبر تشيد. ووفاته رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن عند قبر أخيه بالمدرسة. وقال تاج الدين عبد الباقي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى يمدحه، وقد ركب فيلاً، ونقلته من خطه: الله أولاك يا داود مكرمةً ... ورتبةً ما أتاها قبل سلطان ركبت فيلاً وظل الفيل ذا رهجٍ ... مستبشراً وهو بالسلطان فرحان لك الإله أذلّ الوحش أجمعه ... هل أنت داود فينا أم سليمان وقال يمدحه وقد بنى القصر، ومن خطه نقلت: يا ناظم الشّعر في نعم ونعمان ... وذاكر العهد من لبنى ولبنان ومعمل الفكر في ليلى وليلتها ... بالسفح من عقدات الضال والبان قصرٌ فبالعلو من وادي زبيد علا ... عالي المنار عظيم القدر والشان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 به التغزّل أحلى ما يرى بهجاً ... فدع حديث لييلات بعسفان قصرٌ بناه هزبر الدّين مفتخرا ... وشاد ذلك بانٍ أيّما بان هذا الخورنق بل هذا السدير أتى ... في عصر داود لا في عصر نعمان فقف براحته تنظر لها عجباً ... كم راحة هطلت منه بإحسان أنسى بإيوانه كسرى فلا خبرٌ ... من بعد ذلك عن كسرى لإيوان سامى النجوم علاءً فهي راجعةٌ ... عن السّموّ لإيوان ابن حسّان تودّ فيه الثريا لو بدت سرجاً ... مثل الثريا به في بعض أركان يحفّه دوح زهر كلّه عجبٌ ... كم فيه من فنن زاهٍ وأفنان الألقاب والأنساب ابن الدباهي الحنبلي: محمد بن أحمد. الدبابيسي: مسند القاهرة يونس بن إبراهيم. درباس بن يوسف بن درباس الأمير الكبير حسام الدين الحميدي. كان بدمشق حاجبا، وشكره واجبا، لأنه باشر الحجوبية، وشد الأوقاف، فأثنى عليه حتى الحمائم على فروع الأراك فوق الأحقاف. وكان ذا هيئة وشكاله، ورئاسة وحشمة وجلاله، فصيح اللسان، مليح البيان، شعره والدر سواء في القيمه، وكلامه لانسجامه كأنه صوب الديمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 لم يزل بدمشق على حاله إلى أن أثارت له المنون حربا، وسدت على ابن درباس من الحياة دربا. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة. وكان أولاً بصفد فهام بحبها، وألف بها، ثم إنه نقل إلى دمشق، وأعطي إمرة الطبلخاناه والتقدم والوجاهة، وهو يتشوق إلى صفد، ويتذكر أوقات أنسه، وإذا رأى أحداً من أهلها مال إليه وصبا، وشم فيه أرج ما قطعه هناك في زمن الصبا. ونظم في حنينه إليها أشعاراً، وغنى بها الناس. من ذلك: يا صاحبي إن شئت توليني منن عرّج على صفدٍ فلي فيها شجن وبها أحبائي وأهلي والوطن وهم أعزّ من روحي ومن ... أهواهم في السرّ والإعلان كم ليلة قد بتّ في ساحاتها أجني ثمار اللهو من وجناتها وأجرّ ذيل صباي في عرصاتها هل راجعٌ ما فات من لذاتها ... أترى يعود لنا زمانٌ ثان الألقاب والألقاب ابن دقيق العيد: تاج الدين أحمد بن علي. وعز الدين عامر بن محمد بن علي. وطلحة بن محمد بن علي. ومحب الدين علي بن محمد. وجلال الدين محمد بن عثمان. والشيخ تقي الدين محمد بن علي. وكمال الدين محمد بن محمد بن علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 الدقوقي: المحدث محمود بن علي. الدكالي الصوفي: اسمه عثمان. الدشتي: شهاب الدين أحمد بن محمد. الدشناوي: بدر الدين زكري بن يحيى. وتاج الدين محمد بن أحمد. ابن درباس: فخر الدين عثمان بن محمد. ابن الدريهم: علي بن محمد بن عبد العزيز. دلشاذ بالدال المهملة واللام الساكنة وبعدها شين معجمة، وألف وذال معجمة: بنت دمشق خواجا بن جوبان، الخاتون زوج النوين، الشيخ حسن الكبير حاكم بغداد، تزوجها بعد عمتها الخاتون بغداد. كانت ذا حظوة عند بعلها، وكان لها أطوع من نعلها، لجمالها الذي فتنه، وحكم على قلبه بشجنه لما شحنه غراما وسجنه، فكانت هي الحاكمة في مملكة العراق، والآمرة في كل شيء من القطع والوصل والدنو والفراق، لا يخالفها أحد، ولا يحالفها من يكون له من دونها ملتحد، تكتب إلى نواب الشام بما تريد، وتجهز الأولاق في أشغالها وتعود رسلها على البريد، ويطلب نواب الشام منها ما يحاولونه من المهمات، ويدفعون لها ما يخشونه من الملمات. ورأيت اسمها في الكتب التي ترد عنها بالمغرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 العراقية، وهو كتابة عظيمة، والظاهر أنه كتب عنها بأمرها، بخلاف خط الكتاب بنفسه، وهذا إن كان بيدها فهو أمر عظيم، وإن كان بأمرها فهو أيضاً كبر همة، كونه يكون بخط قوي جيداً، وكانت تميل إلى الغرباء وتحسن إليهم. ولم تزل على حالها إلى أن كسفت من وجهها الشمس، وانطبقت عليها سحابة الرمس. وتوفيت رحمها الله تعالى في ثاني القعدة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ونقلت من بغداد إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودفنت هناك. وقيل: إن زوجها سقاها سماً؛ لأنه اتهمها بالميل إلى ابن عمها الأشرف بن تمرتاش، وذلك لأنه صادر جميع نوابها بعد موتها ومن كان من جهتها. دلنجي بكسر الدال المهملة وفتح اللام وسكون النون، وبعدها جيم وياء آخر الحروف: الأمير سيف الدين ابن أخت الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا. وكان قد أقام بمصر أميراً مده، ولسيف عزمه مضاء وحده، وأخرج لنيابة غزه، وصار لها به شرف باذخ وعزه، لأنه كتب له بها عن السلطان: نائب السلطنة بغزة، ولم يكتب لأحد غيره بعد الجاولي حتى ولا للأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب ودمشق، وأضيف له الحديث في نابلس، وهذه ميزة أخرى، ولم يكن لأحد من دمشق في غزة ولا في نابلس ولا في الساحل حديث البتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ولم يزل على حاله إلى أن دلي دلنجي في قبره، وراح إلى عالم نجواه وسره. ولما جرى للأمير سيف الدين بلجك الناصري في غزة مع العربان ما جرى، ورد بعده الأمير سيف الدين دلنجي، وكان وصوله إليها في أوائل شهر جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وقاسى في نيابته شدائد من عرب جرم وموقع، وجرت بينهم حروب وجراح، وقتل عدة من أمراء غزة، وتولى النيابة بعده الأمير فارس الدين ألبكي. دمرخان بن قرمان الأمير نجم الدين. كان في مصر أمير مئة مقدم ألف، وحضر إلى دمشق كذلك. أقام بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. الألقاب والألقاب الدهلي: نجم الدين سعيد بن عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 دوباج بن قطلي شاه ابن رستم بن عبد الله، الملك شمس الدين أبو العز بن الملك بن الملك صاحب كيلان. كان فارساً بطلا، لا يقبل في الإقدام عدلا، ولا يريد إلا الممات عن الحياة بدلا، وكان مع ذلك عاقلا، ولم يكن عن تدبير مملكته غافلا، له في القلوب مهابة مهابه، وعنده في مقالبة الأيام والليالي إصابه. لمح الدنيا بعين الصدق فعرفها، وتحقق غدرها وسرفها، فترك الملك، ونزل عنه لابنه، ونفض ما في يده منه، وما في ضبنه. وقدم إلى الشام ليحج فأدركه أجله بقباقب، كأنه كان له هناك يراصد أو يراقب. ووفاته في سادس عشري شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة. وقباقب منزلة عن الرحبة إلى جهة دمشق، فحمله جماعته إلى دمشق، وأنشئت له تربة مليحة بشرقي سوق الصالحية، ورتب له فيها المقرئون. وهو الذي رمى قطلي شاه الملك بسهم فقتله لما جهزه غازان إلى قتالهم في سنة ست وسبع مئة، وبقي في ملك كيلان خمسة وعشرين عاماً، ومات وعمره أربع وخمسون سنة، ووصى للحج عنه فحج عنه جماعة، وأنفق على تربته أموال كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 الألقاب والأنساب ابن دمرتاش: محمد بن محمد. ابن الدويك: محمد بن عبد الجبار. الدمياطي: شهاب الدين أحمد بن أيبك. والشيخ الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف. الدمياطي: عماد الدين محمد بن علي. الدميثري: الأمير علم الدين سنجر. الدواداري: الأمير علم الدين سنجر. الدلاصي: عبد الله بن عبد الحق. ابن دلغادر: زين الدين قراجا. الدهان: محمد بن علي. ابن الدميري: محمد بن علي. ابن الدواليبي الحنبلي: محمد بن عبد المحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 حرف الذال ذبيان هو الأمير ناصر الدين الشيخي والي القاهرة. كان داهيه، نفسه بالجد لاهيه، رجلاً رجله في الثرى، وهامة همته في الثريا ترى، نطر من أسف البير، وتسنم ذروة الفلك الأثير. وتقدم بالقاهرة في الدولة، ورأى نفسه في سماء المجد كالبدر، وخدمه كالنجوم حوله، لكنه كسف قريبا، وما نفعه أن كان أريبا. كان هذا الأمير ناصر الدين قد ورد من الشرق صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي رسول الملك أحمد إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وحبس الشيخ عبد الرحمن وجماعته في قلعة دمشق، ولما مات أفرج عنهم، وبقي هذا ناصر الدين يخيط الكوافي بدمشق. ثم إنه توجه إلى مصر، وتوصل إلى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتحيل إلى أن تولى ولاية القاهرة، والتزم بمستظهر، وعضده الجاشنكير إلى أن ولي الوزارة، ثم إنه قبض عليه وصودر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبع مئة بالقاهرة، بعد العقوبة والضرب، وذلك في أوائل ذي القعدة من السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ذبيان بن أبي الحسن بن عثمان الحاج العفيف البعلبكي التاجر. وكان يروي عن الشيخ الفقيه محمد اليويني وابن عبد الدائم، وغيرهما. وحدث بجزء ابن جوصا، وكان من أهل القرآن. وتوفي في رابع جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة. الألقاب والألقاب ابن أبي الذر: نجم الدين الصوفي عبد العزيز بن عبد القادر. الذهبي: محمد بن أحمد. ذون بطرو بالذال المعجمة والواو الساكنة، وبعدها نون وباء موحدة وطاء مهملة وراء وواو، وقيل فيه: ذون بترو، بالتاء ثالثة الحروف بدلاً من الطاء: الملك الكبير الطاغية الفرنجي الأندلسي. كان جباراً عنيدا، وشيطاناً مريدا، ملئ قلبه من المسلمين حقدا، وتضرم عليهم بالغضب وقدا، وبالغ في القسوه، وود من كلبه لو شرب دمهم في حسوه، تمرداً من منه وكفورا، وعتواً وعدواناً وفجورا. اجتهد وبالغ ليستأصل ما بقي من المسلمين بالأندلس، وحشد من قدر عليه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الفرنج الحمس، ولكن الله رد كيده في نحره، وأغرقه لما طغى في بحره، وما نفعه جيشه الذي لا يحصى، ولا أمره الذي كان لا يرد ولا يعصى، وقتل هو وجنده، ومن اعتقد أنه بيده يشد بنده، وسلخ بعد ذلك الصبر والجلد جلده، وحشني قطنا، وعلق على باب غرناطة، وطال في العذاب خلده. وكان هلاكه في سنة تسع عشر وسبع مئة. وكان من خبر هذا الطاغية أن الفرنج حشدوا ونفروا من البلاد، وذهب سلطانهم ذون بطرو إلى طليطلة ودخل على الباب، وسجد له وتضرع، وطلب منه استئصال ما بقي بالأندلس من المسلمين، وأكد عزمه، فقلق المسلمون، وعزموا على الاستنجاد بالمريني، ونفذوا إليه فلم ينجع، فلجأ أهل غرناطة إلى الله تعالى. وأقبل الفرنج إلى المسلمين في جيش لا يحصى، فيه خمسة وعشرون ملكاً، فقتل الجميع عن بكرة أبيهم، وأقل ما قيل أنه قتل في هذه الملحمة خمسون ألفاً، وأكثر ما قيل ثمانون ألفاً، وكان نصراً عزيزاً ويوماً مشهوداً، والعجب أنه لم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وكان عسكر الإسلام ألف وخمس مئة فارس، والرجالة نحواً من أربعة آلاف. وقيل: دون ذلك. وكانت الغنيمة ذهباً وفضة سبعين قنطاراً، وأما الدواب والقماش والعدد فشيء لا يحصى كثرةً، وبقي المسلمون يحتاجون إلى ما ينفقونه على الأسرى لقوتهم وقوت من يحرسهم ويحرس الدواب، فكان في كل يوم خمسة آلاف درهم، وبقي المبيع في الدواب والأسرى والغنائم ستة أشهر متوالية، ومل الناس من طول البيع وداخلهم العجز والكسل. وكانت الواقعة في صبيحة يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عشرة وسبع مئة وهو رابع عشر حزيران يوم عيد العنصرة للنصارى، وكان ذلك يوم عيد للإسلام، ويوم وبال على الكفار. وكان نزول الكفار على مكان يقال له منظرة بينوس بالقرب من جبل إلبيرة، وهو عشرة أميال من غرناطة. ومن جملة الملوك الذين للكفار: صاحب إشبونة وقشتالة والقرنيرة، وأرغون وطلبيرة، والذي تولى القتال نائب صاحب غرناطة الشيخ الصالح المجاهد أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء، وابنا أخيه الشقيقان أبو يحيى وأبو معروف، أمير جيش مالقة، ابنا عبد الله بن أبي العلاء وأخوهم لأبيهم أبو عامر خالد، أمير جيش رندة، وأبو مسعود محمد بن علي، وأمير جيش الخضراء أبو عطية مناف وغيرهم. وعلى الجملة فكانت واقعةً عظيمة لطف الله فيها بالمسلمين، ولم يتفق لها نظير، ولله الحمد والمنة على ما عود هذه الأمة من النعمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 حرف الراء رافع بن هجرس الإمام المقرئ المحدث الفقيه الزاهد أبو محمد الصميدي - بضم الصاد المهملة وفتح الميم، وبعدها ياء آخر الحروف، ودال مهملة - جمال الدين الصوفي نزيل القاهرة. سمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد، وبمصر من طائفة. وكان حيزً زاهدا، مأموناً عابدا، عني بالروايه، وصار له بها أتم عنايه، وكتب وحصل بعض الأصول، وعلق وأفاد، ولم يكن له إلى سن الرواية وصول. واشتغل بالقراءات حينا، وجعل له الطلب والدأب دينا، إلى أن جر رافع إلى قبره، وقطع إلى الآخرة مخاضة عمره. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة بمصر عن خمسين سنة إلا سنة. رجب بن قراجا بن عبد الله زين الدين الأرزني، بهمزة وراء ساكنة وبعدها زاي ونون. أخبرني العلامة أبو حيان قال: زين الدين رفيقنا على الشيخ بهاء الدين رحمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الله تعالى. كان له اعتناء بشيء من الأدب واللغة. وكان يكتب خطاً ليس بالجيد، لكنه في غاية الضبط والصحة، يشكل الحروف كلها ما أشكل منها، وما لم يشكل. وأنشدنا لنفسه: شاهدت في طرسك سحرا غدا ... يخامر الألباب بالأكؤس وكان كالروض غدا ناضرا ... يلذّ للأعين والأنفس رجب بن أشبرك التركماني الشيخ تقي الدين العجمي شيخ الزاوية التي تحت قلعة الجبل بالقاهرة. كان شيخاً مسنا، قد اتخذ بالأجل من سهام الدهر، مجنا، له وجاهة عند الدوله، وفي قلوب الناس له صوله، وعنده فقراء وأتباع، وله مريدون من الخواص والرعاع. لم يزل على حاله إلى أن أصابه سهم المنية فما أخطاه ولا تعداه، وكأن ميتته أمانة مؤداه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. وعمره إحدى وثمانون سنة. وكان في الديار المصرية شيخ طائفة العجم. الألقاب والألقاب الرجيحي: شيخ التونسية، اسمه سيف الدين. الرجبي والي مدينة دمشق، اسمه آقوش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 رزق الله بن فضل الله الرئيس مجد الدين بن تاج أخو القاضي شرف الدين النشو. كان أولاً نصرانياً، فاستخدمه أخوه في استيفاء الخزانة والخاص، وكان ينوب أخاه النشو إذا غاب، ويدخل إلى السلطان الملك الناصر محمد، ويخرج، فلما كان في سنة ست وثلاثين وسبع مئة في يوم الجمعة استسلمه السلطان قبل الصلاة على يده، وأبى عليه فلكمه بيده، وعرض عليه السيف، فأسلم، وخلع عليه، وقال له: لا تكن إلا شافعي المذهب مثلي، واستخدمه عند الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، فظهر وساد، وجلس في صدر الرياسة واتكا على وساد، وعظم شانه، وشاع ذكره، وعلا مكانه، وتوسع في الوجاهة قدره وإمكانه، وتبيدق وسط رقعة القلعة فرزانه، وكان قد بلغ السها راقيا، وطاف بكؤوس الجود ساقيا، ووهب فما أبقى على المال باقيا. وكان أولاً فيه ميل إلى المسلمين، وحنو زائد على المؤمنين، رتب سبعاً يقرأ في الجامع الأزهر، وقرر نصيباً من الصدقات تخفى وعند الله تظهر، وكان يجهز في كل سنة إلى الحرمين ستين قميصا، ولا يجد كفه عن الجود محيصا. وكان يحرص على أن يسلم من عبيده ممن يميل إليه سرا، يفعل ذلك خفيةً خيفةً من أمه حتى لا ينال شرا، فعل ذلك مع جماعة من غلمانه النصارى، وأرقائه الذين هم في سكرة الجهل حيارى. ولم يزل في مراقي سعادة، ومعارج سيادة إلى أن أمسك هو وأخوه - على ما سيأتي ذكره في ترجمة أخيه - وسلمه السلطان إلى الأمير سيف الدين قوصون فأصبح مذبوحاً، ذبح نفسه بيده، ولم يمكن أحداً يتمكن من عقابه ولا فساد جسده، وذلك في ثالث شهر صفر سنة أربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وكان رحمه الله تعالى ربعة، حلو الوجه، مليح العينين، أقطف الجفون. وكان نظيف الملبس، طيب الرائحة، يغير قماشه في غالب الأيام مرتين. وكان يفصل قماشه ويقول للخياط: طوله عن تفصيلي، وكف الفضل إلى داخل، فسألته عن ذلك فقال: أنا قصير، وأهب قماشي لمن يكون أطول مني، فإذا فتق ذلك الفضل جاء طوله. وكان كثيراً ما يهب قماشه، وقلما غسل له قماشاً إلا إن كان أبيض. وعمر داراً مليحة إلى الغاية على الخليج الناصري. وكتبت أنا إليه لما اهتدى: أنت أهدى للخير من أن تهدّى ... يا عزيزاً بكلّ غال يفدّى هذه للسعود والفضل أولى ... حزتها من مليك عصرك نقدا هكذا الهمّة النّفيسة في النّا ... س إذا حاولت من الله رشدا لك سرٌّ أبدى وأعاد ال ... فضل لله ما أعاد وأبدى كيفما كنت لم تزل في الأيادي ... والمعالي والفضل والبرّ فردا أينما سرت في طريق المعالي ... تتلقّى في كلّ أمرك سعدا سوف ترقى مراتب السّعد حتى ... يفتدي الدّهر طائعاً لك عبدا ولعمري قد قلّد الله هذا ال ... عصر من سعيك الموفّق عقدا وإذا سدت في الشّباب فماذا ... لك من بعد أن بلغت الأشدّا أنت ذو فطنةٍ من النّار أذكى ... وبنانٍ من السّحائب أندى ومحلٍّ كالنّجم لمّا تعلّى ... ومحيّا كالبدر لمّا تبدّى إنّ منكم للملك لمّا ظهرتم ... شرفاً زاده علّوك مجدا شرفٌ قد علا على الشّمس قدرا ... ما تعدّى لمّا عليها تعدّى لك منه أخٌ تراه شقيقا ... في رياض السّعود قد فاق وردا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 يخجل الشّمس في السّماء جمالاً ... ويفوق البحار في الجود رفدا قد أنام الأنام في كهف أمنٍ ... ولقد كان كحلهم قبل سهدا وأقرّ القلوب وهي التي كا ... نت من الرّوع في الدّجى ليس تهدا فلهذا قد سرّ أهلاً وصحبا ... ولهذا أفنى عدوّاً وضدّا فإلى جوده الرّغائب تسري ... وإلى بابه الرّكائب تحدى صانه الله من صروف الليالي ... وكساه من فاخر الحمد بردا وأرانا فيك الذي نتمنّى ... من علوٍّ يجاوز الشّمس حدّا رزق الله بن تاج الدين كان شكلاً لطيفا، ووجها حسناً ظريفاً، أنيق البزه، رشيق الحركة والهزه، إلا انه كان في بطانه مؤوفا، وربما كان داء مخوفا، وكان لذلك يعلوه اصفرار، ويرى له عن الصحة فرار. دخل ديوان الإنشاء، وصار من الخاصة الساكنين في الأحشاء. وكانت كتابته متوسطه، وعبارته في الفصاحة غير مؤرطه، ونظمه ما به من باس، ولا في جودته إلباس، وكان له فضل على رفاقه، وإحسان يبكون معه على فراقه. ولم يزل على حاله إلى أن رزق رزق الله الحمام، ومحق بدره بعد التمام. وتوفي - رحمه الله تعالى - ... وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وكان قد كتب إلي وأنا بدمشق أبياتا في هذا الوزن والروي، إلا أنني طلبتها عند هذا التعليق، فلم تر عيني لها أثرا، ولا وجدت لمبتدئها خبرا. والجواب الذي كتبته أنا عن الأبيات المعدومة والقطعة التي جعلت يد الضياع بيوتها مهدومة هو هذا: سطورك أم راحٌ بدت في زجاجها ... وكان سرور القلب بعض نتاجها أتتني من مصرٍ إلى أرض جلّقٍ ... فأهدت إلى نفسي عظيم ابتهاجها فيا نفس الأسحار في كلّ روضةٍ ... تيمّم ربا مصر ولطّف مزاجها وقف لي على ديوان الانشاء وقفةً ... وحيّ الكرام الكاتبين مواجها فثمّ وجوهٌ كالبدور تكاملت ... ولاق بها في الفضل رونق تاجها أئّمة كتّابٍ إذا ما ترسّلوا ... فأقلامهم ترمي العدى بانزعاجها وإن نظموا قلت الذّراري تنسّقت ... ولاق على الأيام حسن ازدواجها هنالك رزق الله بين ظهورهم ... فلا نفسٌ الاّ تمّ إبلاغ حاجها فيا ليت شعري هل أفوز بقربهم ... ويهدأُ من عيني اضطراب اختلاجها وكنت أنا كتبت إلى القاضي ناصر الدين بن النشائي لغزا في عيد: يا كاتبا بفضله ... كلّ أديبٍ يشهد ما اسمّ عليك قلبه ... وفضله لا يجحد ليس بذي جسمٍ يرى ... وفيه عينٌ ويد فكتب القاضي ناصر الدين الجواب: يا عالماً لنحوه ... حسن المعاني يسند ومن له فضائلٌ ... بين الورى لا تجحد أهديت لغزاً لفظه ... كالدّرّ إذ ينضّد فابق إلى أمثاله ... عليك إلفاً يرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وكتب إلي أيضاً القاضي كمال الدين محمد بن القاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا أبي الثناء شهاب الدين محمود: يا من زكا ولادةً ... وطاب منه المحتد ومن أياديه بها ... كلّ البرايا تشهد ومن غدا نواله ... كالبحر فيه مدد ألغزت في شيءٍ غدا ... يأتي وفيه غيد وال عبد قد صحّفه ... فاقنع به يا سيّد واقبله من مقصّرٍ ... لطولكم لا يجحد ودم معافى أبداً ... ما صحب الزّند يد وكتب تاج الدين رزق الله المذكور أيضاً: يا فاضلاً آدابه ... بها الورى تسترشد ومن على علومه ... أهل النّهى تعتمد ألغزت في عيدٍ إلى ... عبدٍ إليكم يسند ولم يؤخّر نظمه ... إلاّ حياءً يحمد ولم يماثل من له ... في سائر الفضل اليد فدم سعيداً تنتقي ال ... آداب أو تنتقد ؟ اللقب والنسب ابن الرزيز الخطيب عبد الأحد بن يوسف. الرستمي والي الولاة، اسمه آقوش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ابن رزين بدر الدين عبد اللطيف بن محمد. وعلاء الدين عبد المحسن بن عبد اللطيف. ابن الرسام علي بن محمد. رشيد بن كامل الإمام العلامة القاضي رشيد الدين الحرشي - بالحاء المهملة والراء والشين المعجمة - الرقي، وكيل بيت المال بحلب. سمع من ابن مسلمة، وابن علان، والقوصي، وعدة. له تفنن وأعمال، وترسلات من ديوان الإنشاء ينفق فيها الأموال. وكان يكتب بدمشق الإنشاء، ويحضر مجالس الناصر الحلبي في البكرة والعشاء. وولي نظر الجيش بدمشق أيضا، ودرس بعصرونية حلب فأفاض الفوائد فيها فيضا. وولي وكالة بيت المال بحلب، وما قصر في أخذ ولا طلب. وكان ذا صيانة وعقل، وفضل صح به عن النقل، وله قريض أبرز رياضه، وطرز بالسواد بياضه. ولكن ما حماه الأجل بحماه، ولا اتقى الحتف لما رماه. وتوفي بحماة غريباً - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. ومن شعره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الألقاب والأنساب الرشيدي: الشيخ برهان الدين إبراهيم بن لاجين. رشيد الدولة: الوزير فضل الله بن أبي الخير. ابن رشيد: محمد بن عمر. ابن رشيق: محمد بن الحسين. ابن الرضي المسند: أبو بكر بن محمد. الرضي المنطيقي: إبراهيم بن سليمان. ابن الرفعة: أحمد بن عبد المحسن. الشيخ نجم الدين فقيه العصر أحمد بن محمد. الرفا المسند: علي بن محمد. ابن الرعاد: محمد بن رضوان. رقية بنت محمد بن دقيق العيد بن وهب القشيرية هي ابنة الشيخ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد. سمعت من العز الحراني بقراءة والدها، ومن أبي بكر بن الأنماطي، وابن خطيب المزة. وحدثت بالقاهرة، وسمع منها جماعة. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: سمعنا عليها جزءاً من سنن الكشي، وأجازت لنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وهي امرأة متعبدة ملازمة للخير، من بيت العلم والصلاح. توفيت - رحمها الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. الألقاب والأنساب ابن الرقاقي أمين الدين أبو بكر بن عبد العظيم. الرقي الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد. ابن رمتاش الأمير زين الدين أغلبك. رميثة بضم الراء وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ثاء مثلثة وهاء: الأمير أسد الدين أبو عراده بن أبي نمي، أمير مكة، نجم الدين بن الأمير بهاء الدين أبي سعد الحسن بن علي الحسيني. كان قد وصل إلى القاهرة، وجهز السلطان معه جماعةً من الجند والعرب نحو ثلاث مئة نفر، وجماعةً من الحجاج إلى مكة في ثاني شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان قد قبض عليه أمير الركب المصري رابع عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وتوجه به إلى مصر، ولما وصل أكرمه السلطان وأجرى عليه في كل شهر ألف درهم، فبقي كذلك مكرما أربعة أشهر، وهرب من القاهرة إلى الحجاز، فلما علم السلطان بهروبه في اليوم الثاني كتب إلى شيخ آل الحريث، وقال: هذا هرب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 بلادك، وما أعرفه إلا منك. فركب الهجن وسار خلفه مجدا، فأدركه نائما تحت عقبة أيلة، فجلس عند رأسه وقال له: اجلس يا أسود الوجه. فانتبه رميثة وقال: صدقت، لو لم أكن أسود الوجه ما نمت هذه النومة المشؤومة حتى أدركتني. وقبض عليه، وأحضره إلى السلطان، فألقاه في السجن وضيق عليه. فقيل: إنه حصل له رمي دم، ثم أفرج عنه وعن حاجبه علي بن صبح في المحرم سنة عشرين وسبع مئة. وفي سنة إحدى وعشرين حلف له بنو حسن، وأظهر بمكة مذهب الزيدية، وكتب بذلك عطيفة إلى السلطان، فتأذى لذلك ... وفي يوم الثلاثاء حضر الأمير رميثة إلى مكة، وقرئ تقليده، ولبس خلعة السلطان الملك الناصر بعد وصول أمان السلطان إليه، وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ؟ اللقب والنسب الرهاوي أمين الدين عبد الله بن عبد الله. وعز الدين محمد بن عمر. ابن رواحة نور الدين أحمد بن عبد الرحمن. وزين الدين عبد الرحمن بن رواحة. الرومي الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم. بنو ريان جماعة منهم القاضي عماد الدين سعيد بن ريان. وولده تاج الدين محمد. والقاضي جمال الدين سليمان بن أبي الحسن. وولده كمال الدين إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 رنكال بالراء والنون الساكنة والكاف وبعدها ألف ولام: الأمير سيف الدين بن أشبغا، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق. كان أبوه من كبار بيوت المغول، وهو إذا رأيته يغتال عقلك منه غول، شكلاً تاما ضخما، وممن لم توجد له في المعرفة عزما، سليم الباطن والطباع، يرغب في العزلة عن الناس والانجماع. جرد إلى بيروت فكأنما جرد منها إلى تابوت، لأنه ما حمل رنكال منها رنكا، وجد البلى في جسده وأنكى. وتوفي في بيروت - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 حرف الزاي الألقاب والأنساب الزارزاري: شرف الدين موسى بن علي. الزريزاني: تقي الدين عبد الله بن محمد. ابن الزريزير: الكاتب الحاسب علي بن معالي. ابن الزراد: محمد بن أحمد. ابن الزمر: الإمام النحوي أحمد بن إبراهيم. الزراق: الأمير عز الدين أيدمر. والأمير علم الدين سنجر. ابن الزبطر: عيسى بن موسى. الزرندي: جلال الدين عبد الله بن أحمد. الزرعي: جماعة: شهاب الدين أحمد بن عمر. وبدر الدين محمد بن سليمان. والقاضي ناصر الدين الزرعي ناصر بن منصور. أبو زرعة: محمد بن يونس. زكرياء بن أحمد ابن محمد بن يحيى بن عبد الواحد ابن الشيخ عمر الملك أبو يحيى صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 تونس وطرابلس والمهدية وقابس وتوزر وسوسة، البربري المغربي الهنتاني المالكي اللحياني. كان فقيها، فاضلا نبيها. قد أتقن العربية، واطلع على غوامض المعاني الأدبية، ونظم الشعر، وأتى فيه بالسحر. وكانت له فضائل، وعنده من العلم خمائر كأنها خمائل. إلا أنه كان مبخلا، فلذلك لم يستمر مبجلا. ملك هذه النواحي، وحكم على مدنها والضواحي، وابتسمت بملكه الثغور البسامة من الأقاحي. ثم إنه رفض ملكه، وقطع من ذلك سلكه. وجاء إلى الإسكندرية وأقام بها واتخذها وطنا، ولم يضق بذلك عطنا. ولم يزل على حاله إلى أن أغمض طرفه، ومال عليه من الموت جرفه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده بتونس سنة نيف وأربعين وست مئة. كان اللحياني قد وزر لابن عمه المستنصر مدة، ثم إنه ملك سنة ثمانين وست مئة، ثم خلع، ثم إنه حج سنة تسع وسبع مئة، واجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية. ورد إلى تونس وقد مات صاحبها، فملكوه سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فوثب على تونس قرابته أبو بكر، فسار اللحياني إلى ثغر إسكندرية إحدى وعشرين وسبع مئة، وقد رفض الملك، وأقام بها إلى أن مات. وكان جدهم من أكبر أصحاب ابن تومرت، وكان اللحياني قد أسقط من الخطبة ذكر المهدي المعصوم، وكان جد أبيه قد ملك الغرب بضعاً وعشرين سنة، ثم ابنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 المستنص الملقب بأمير المؤمنين، وذلك في الدولة الظاهرية، ودامت دولته إلى سنة ست وسبعين وست مئة. وكان شهماً ذا جبروت، وتسلطن بعده ابنه الواثق بالله يحيى، ثم خلع بعد سنتين وأشهر، وتملك المجاهد إبراهيم، فبقي أربعة أعوام، ثم توثب عليه الدعي أحمد بن مرزوق البجائي الذي زعم أنه ولد الواثق، وتم ذلك له، لأن المجاهد قتل الفضل بن الواثق سرا، فقال: هذا: أنا هو الفضل، وملك عامين. وقام عليه أبو حفص أخو المجاهد، فهرب الدعي، ثم أسر وهلك تحت السياط بعد اعترافه أنه دعي. فتملك أبو حفص ثلاثة عشر عاما، وأحسن السيرة، ثم مات سنة أربع وتسعين وست مئة، وقام أبو عصيدة محمد بن الواثق، فملك خمسة عشر سنة. وكان صالحا مشكورا، وكان اللحياني قد لقب القائم بأمر الله. ومن شعره ... زكري بن يحيى ابن هارون بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله، بدر الدين الدشناوي، بالدال المهملة والشين المعجمة والنون ومن بعدها ألف وواو: التونسي. كان فقيها أديبا، نبيها أريبا، له نظر كأن قوافيه كؤوس، أو أزاهر روضة زاكية الغروس. حدث بشيء منه، ورواه الأكابر عنه. ولم يزل بالقاهرة إلى أن كمل مدته، وسكن الموت شرته وحدته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ... وسبع مئة. وروى عنه من شعر زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب وغيره. أنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري قال: أنشدني من لفظه ملغزاً في طيبرس: وما اسمٌ له بعضٌ هو اسم قبيلةٍ ... وتصحيف باقيه تلاقي به العدى وإن قلته عكساً فتصحيف بعضه ... غياثٌ لظمآنٍ تألّم بالصّدى وباقيه بالتّصحيف طيرٌ وعكسه ... لكلّ الورى علمٌ معينٌ على الرّدى ومن شعره في راقص: يا من غدا الحسن إذ غنّى وماس لنا ... مقسّما بين أبصارٍ وأسماع قاسوك بالغصن رقصا والهزار غنا ... وما يقاس بمّياسٍ وسجّاع قد تسجع الورق لكن غير داخلةٍ ... ويرقص الغصن بل في غير إيقاع ومنه: لا تسلني عن السّلوّ وسل ما ... صنعت بي لطفاً محاسن سلمى أوقعت بين مقلتي ورقادي ... وسقامي والجسم حرباً وسلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ومنه في مليح خطائي: فقال لي العذول أراك تبكي ... فقلت له بكيت على خطائي وقلت: أراد التورية بالخطأ مهموزاً مقصوراً ضد الصواب، عن الخطائي وهو المليح التركي الخطائي، وهو ممدود مهموز، فما قعدت معه التورية، وكذلك استعمله جمال الدين بن نباتة فقال: .... وهو من المادة الأولى في الخطأ وسوء الاستعمال. هذا الكلام على الفصيح الذي هو المشهور عند أهل العلم. وأما اللغة المرذولة المرجوحة الضعيفة التي هي غير فصحى فذاك بمعزل عن الانتقاد. ومما قلت أنا في مليح خطائي: أحببت من ترك الخطا ذا قامة ... فضحت غصون البان لمّا أن خطا إيّاكم وجفونه فأنا الذي ... سهمٌ أصاب حشاه من عين الخطا وقلت أيضاً: يا قلب لا تقدم على ... سحر الجفون إذا سطا ومن العجائب أنّه ... أضحى يصحّ مع الخطا ومن نظم بدر الدين الدشناوي - موشح: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 أيا من عليّ تجنّى ... وقد حاز لطف المعنّى اجعل من صدودك أمنا وارحمني وهب لي وصلا ... به أتملاّ وكن للمكارم أهلاً ... هذا أحلى زكري بن محمود بن زكري الشيخ الفقيه الإمام زكي الدين البصروي الحنفي، مدرس الشبلية، وكان قد درس أولاً بالمدرسة الفرخشاهيه، ثم إنه درس أياماً يسيرة في آخر عمره بالشبلية عوضاً عن فصيح الدين المارديني، وأخذت منه الفرخشاهية، وكان ذلك في بعض جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة. وتوفي زكي الدين المذكور في سادس عشر رجب من السنة المذكورة، وكانت مدة الولاية أربعين يوماً. زكري بن يوسف ابن سليمان بن حامد البجلي: الشيخ الإمام البارع زكي الدين الشافعي. كان شيخ تعليم وحبر تفهيم. قرأ عليه جماعة من الطلاب، وانتفع به زمرة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ذوي القرائح والألباب، وكان له قدرة على الإفاده، ورد الدرس والإعاده، يجلس في الحائط القبلي، ويظن من يراه لحسن سمته أنه الجنيد أو الشبلي. ولم يزل على حاله إلى أن عز لحاقه، وأوحش الطلبة فراقه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمسين وست مئة. وأول ما خطب نيابةً عن الشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني بجامع دمشق في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رجب سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان ملازماً للإشغال والإفادة والصلاة في الجامع الأموي، وكانت حلقته في الحائط القبلي من الجامع الأموي. ودرس بالطيبة والأسدية، وأعاد بالعذراوية والعصرونية. وسمع من جمال الدين الصيرفي، ومن علي بن البالسي، ومن الشيخ شمس الدين، ومن ابن البخاري، ومن محمد بن القواس، وعمر بن عصرون، والرشيد العامري وغيرهم، وحدث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 الألقاب والنسب بنو الزكي: عبد العزيز عماد الدين بن يحيى. والقاضي تقي الدين عبد الكريم بن يحيى بن محمد. زمرد بنت أيرق بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وراء بعدها قاف: الخطوية زوج شيخنا أثير الدين، والدة نضار الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في حرف النون. سمعت من جماعة وحدثت. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها بمكة جزءاً خرجه لها زوجها أثير الدين، وكان لها في صحبته نحو من أربعين سنة. روت عن الأبرقوهي والدمياطي وابن الصواف وابن السقطي والعجوي وعبد القادر بن الصعبي وزينب الإسعردية. توفيت رحمها الله تعالى سادس عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند ابنتها في البرقية داخل القاهرة، ورثاها الشيخ بأبيات، وجاوزت الخمسين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الألقاب والأنساب الزملكاني: فتح الدين أحمد بن عبد الواحد. والشيخ كمال الدين قاضي القضاة محمد بن علي. وعماد الدين محمد بن أحمد. الزنكلوني: الشيخ مجد الدين إسماعيل بن أبي بكر. ابن الزيبق: الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر. وولده الأمير ناصر الدين محمد بن داود. الزيرباج: الأمير حسام الدين لاجين. زهراء: بنت عبد الله بن محمد بن عطا: هي ابنة قاضي القضاة شمس الدين الحنفي، وهي أم علاء الدين علي بن ناصر الدين داود بن بدر الدين يوسف بن أحمد بن مقلد الأذرعي الحنفي. ابن زهرة: السيد نور الدين حسن بن محمد بن علي. وشمس الدين الحسين بن علي. ابن زنبور: الوزير علم الدين عبد الله بن أحمد. الزواوي: شرف الدين عيسى بن مسعود. زيد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الشيخ الفقيه زين الدين أبو كبير المغربي الشافعي. كان عنده مشاركة في فقه وأدب، وتواريخ ووقائع وأيام العرب، حسن المحاضره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 حلو المذاكره، إلا أنه كان لتأخره عن المناصب يمنى من حسده بالعذاب الواصب، فينطوي على إحن وترات، وينبض القسي الواترات. ووقف مرات بين يدي النواب، وكاد يمتهن بأيدي الحجاب، وجرت له في ذلك وقائع، واتفقت له بدائه فيها بدائع، وما أنجح له فيها عناء، ولا رشح له إناء: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده وكان لا يزال مصفرا، معلولاً معفرا. ولم يزل على حاله إلى أن ضرب زيد، وأصبح يرسف من العدم في قيد. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ولعله قد قارب الستين أو تعداها بقليل. وكان قد باشر في صفد قضاء بعض النواحي، وعاد إلى دمشق وبقي فقيهاً بالمدارس، وكان مقيماً بالمدرسة الأكزية على باب الخواصين، وتوجه إلى مصر مرات، وأحضر تواقيع بولايات، ولم تمض، وكان لا يزال خاملاً. وتوفي رحمه الله تعالى بعلة الاستسقاء. كتب هو إلي ملغزا: يا مولانا أثقل الله بفواضلك الكواهل، وأخمل بفضائلك الأوائل من الأفاضل، إن أمكن أن تلمح هذا اللغز اللطيف، وتعطيه حظا من سيال فكرك الشريف، تقلد المملوك به مأنة الفضل العميم، وتحلي بورود لفظه كما يتحلى بوجود شخصه بين يدي سيد كريم، وهو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 ما اسم يعتني الصائمون غالباً بتحصيله، ويتنافس الأكابر منهم في جملته وتفصيله، خماسي الحروف في الترصيف والترتيب، مسطح الشكالة في البساطة، كري عند التركيب، إن حذفت خمساً رأيته طائراً وسيما قص الأثر فاهتدي به، وغالب في طرق اللؤم تميما، وإن اختلس في أوله كان في الثغور الحصينة لآلئاً في الليل البهيم، وفي سورة القلم ناراً أحرقت الجنة التي أصبحت كالصريم. عزمت على إهدائه غير مرّة ... إلى بابك العالي فأمسكت عن قصدي فقد قيل عادات الأكابر أنّهم ... بإهدائه أولى فما جزت عن حدّي فأوضحه لي معنىً وإن شئت صورةً ... وإن شئت فارسم لي فإني به أبدي فكتبت إليه الجواب عن ذلك، وهو في قطائف وجهزت إليه منه صحناً: أمولاي بدر الدين مثلك من يهدي ... نداه وإن كان الضلال غدا يهدي بعثت بلغزٍ قد حلا منك لفظه ... فأخمل ذكر القطر فضلاً عن الشّهد فسامح فقد أوضحته لك صورةً ... على أنّه لا بدّ من شرح ما عندي يا مولانا هذا لغزك بديع المعنى، بعيد المبنى، يترشفه السمع سلافه، ويتلقفه البصر ورداً جنيا متى أراد اقتطافه، قد أغربت في قصده وأحكمت عقد بنده، دلني على معناه حسن مبناه، وقرب البيان من مغناه، فلك الفضل في حله وسح وابله وطله. ومن غرائب خواصه أنه أخذ من اللبن والحلاوة حظا، ومتى صحفت ثلاثة أخماسه عاد فظا، قد راقت العيون ملاحته، وحشيت بالقلوب حلاوته، يختص بشهر رمضان، لأن في قلبه حلاوة كحلاوة الإيمان، بعضه يقلى وكله محبوب، وآخره تحت القطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وأوله فوق الجمر المشبوب، يروقك إذا نثرت عقده، وفصلت زوجه وفرده، وأشبه شيء بالكواعب إذا اشتملت بالمناشف المخمل، وأحسن ما ترى ثرياه إذا اجتمع شملها وتكمل، وأليق ما ينشد إذا جف ثراها وانفصمت عراها: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر زين العرب بنت تاج الدين عبد الرحمن بن عمر بن الحسن بن عبد الله السلمي الدمشقي المعروفة ببنت الجوبراني. حجت وجاورت بمكة، وكانت شيخة رباط الحرمين، وأقامت برباط درب النقاشة، وتزوجت بالكمال بن العماد الأشتر، وفارقها سنة ثمان وخمسين وست مئة، ولم تتزوج بعده. وهي بنت أخي النجيب محاسن العدل. وسمعت من الشيخ تاج الدين القرطبي الأربعين السباعيات لعبد المنعم الفراوي، وحدثت بها غير مرة، وسمعت من العز عبد العزيز بن عثمان الإربلي. وأجازها في سنة ست وثلاثين وست مئة السخاوي، وأبو طالب بن صابر، وإبراهيم الخشوعي، وكريمة، وجماعة من أصحاب ابن عساكر. وأقعدت في آخر عمرها. وكانت تحفظ أشياء حسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وتوفيت رحمها الله تعالى في أوائل سنة أربع وسبع مئة. ومولدها تقريباً سنة ثمان وعشرين وست مئة. الألقاب والألقاب زين الدار وجيهية: بنت المؤدب علي بن يحيى، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الواو. زينب بنت عمر ابن كندي بن سعيد بن علي، أم محمد، ابنة الحاج زكي الدين الدمشقي، زوجها ناصر الدين بن قرقيسن معتمد قلعة بعلبك. كانت امرأة صالحة خيرة دينة لها بر وصدقة، بنت رباطاً، ووقفت أوقافاً، وعاشت في خير ونعمة، وحجت وروت الكثير، وتفردت في الوقت. أجاز لها المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وزينب الشعرية وابن الصفار وأبو البقاء العكبري وعبد العظيم بن عبد اللطيف الشرابي وأحمد بن ظفر بن هبيرة. حدثت بدمشق وبعلبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وسمع منها أبو الحسين اليونيني وأولاده وأقاربه، وابن أبي الفتح، وابناه، والمزي، وابنه الكبير، وابن النابلسي والبرزالي وأبو بكر الرحبي وابن المهندس. وقرأ عليها شيخنا الذهبي من أول الصحيح إلى أول النكاح، وسمع منها عدة أجزاء. وتوفيت رحمها الله تعالى بقلعة بعلبك سنة تسع وتسعين وست مئة. زينب بنت أحمد ابن عمر بن أبي بكر بن شكر الشيخة الصالحة المعمرة الرحلة أم محمد المقدسية الصالحية. سمعت من ابن اللتي، وجعفر الهمداني. وتفردت في وقتها. وحدثت بدمشق ومصر والمدينة والقدس. كانت تقيم مع ولدها، وكان مهندساً. وهي والدة الشيخ محمد بن أحمد القصاص. توفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. زينب بنت سليمان ابن إبراهيم بن رحمة الإسعردي المسندة المعمرة الدمشقية، نزيلة القاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 سمعت الصحيح من الزبيدي، ومن شمس الدين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وابن الصباح، وعلي بن حجاج، وكريمة. وأجاز لها خلق. وسمع منها شيخنا الذهبي. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وسبع مئة، وهي في عشر التسعين. زينب بنت أحمد كمال الدين ابن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية. شيخة مشيخة مسندة. سمعت من محمد بن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدايم، وخطيب مردا، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وعبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني، وأجاز لها إبراهيم بن الخير وخلق من بغداد. أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة، في تاسع عشر جمادى الأولى عن أربع وتسعين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 زينب بنت يحيى ابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشيخة الصالحة الأصيلة المسندة أم محمد. حضرت في الخامسة على عثمان بن علي المعروف بابن خطيب القرافة، وعلى عمر بن أبي نصر بن عوة، وعلى إبراهيم بن خليل. أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. وكتب عنها عبد الله بن المحب. وتوفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. زينب بنت إسماعيل بن إبراهيم الشيخة مسندة الشام، أمة العزيز، بنت المحدث نجم الدين. حدثت عن ابن عبد الدائم، وخلق. وتوفيت رحمها الله تعالى عن أكثر من تسعين سنة في المحرم سنة خمسين وسبع مئة، أو في أواخر ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 زينب بنت عبد الرحمن ابن محمد بن أحمد بن قدامة، الشيخة الصالحة أم عبد الله بنت الشيخ شمس الدين أبي الفرج بن أبي عمر. سمعت من ابن عبد الدايم، ووالدها. وأجازت لي. وكتب عنها عبد الله بن المحب. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 حرف السين سارة بنت عبد الرحمن ابن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله بن نمير المقدسية، أم محمد الشيخ المسند شمس الدين أبي الفرج. سمعت من إبراهيم بن خليل، وروت عنه. قرأ عليها شيخنا علم الدين البرزالي بطريق الحجاز باللجون من عمل الكرك، وفي الحجر. وتوفيت رحمها الله تعالى رابع عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة. سالم الأمير سيف الدين السلاح دار. كان أميراً كبيراً مقدماً في الديار المصرية، صاهر الأمير سيف الدين سلار أيام نيابته، وأخرجه السلطان الملك الناصر محمد إلى دمشق. وكان إقطاعه بمصر إقطاعاً كبيراً إلى الغاية، وكانت له بدمشق حرمة وافرة، وفيه ديانة وخير. وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح جبل قاسيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 سالم بن محمد بن سالم ابن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد الرئيس، أمين الدين أبو الغنائم ابن الحافظ أبي المواهب بن صصرى التغلبي الدمشقي الشافعي. حدث عن مكي بن علان. وسمع من خطيب مردا، والرشيد العطار، والرضي بن البرهان، وإبراهيم بن خليل، وجماعة. وكان على وجهه شامة كبيرة حمراء. كان عدلا لا يقبل في المروءة عذلا، ظاهر المروءه، طاهر السريرة المخبوءه. باشر الوظائف الكبار بأمانة خشنه، ولم ير الناس منه إلا حسنه، صحب الناس وتأدب، وانفصل عنهم فما ندر أحد عليه ولا ندب. ولم يزل على حاله إلى أن أدرك العطب سالم، وسلك من اندرج من العوالم. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة. كان قد ولي نظر الخزانة، وولي نظر الدواوين بدمشق، وغير ذلك، ثم إنه حج وجاور، ثم عاد إلى دمشق، وتنظف من ذلك جميعه، وأقبل على شأنه، ولازم منزله حتى لقي الله تعالى. سالم بن أبي الدر الشيخ الإمام مدرس الشامية الجوانية، أمين الدين الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 قرأ على الكراسي مدة، ونسخ من مسموعاته عدة، ورتب صحيح ابن حبان، وروى عن ابن عبد الدائم للشبان. وكان ذا دهاء، ومكر بأمور الادعاء. ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه، وراح إلى الله وتولاه. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة. وكان إمام مسجد الفسقار، وعنده خبرة بالدعاوي ونقضها. وسمع منه شيخنا الذهبي مشيخة ابن عبد الدائم، وعاش اثنتين وثمانين سنة. وهو سالم بن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ أمين الدين، أبو الغنائم بن أبي الدر الدمشقي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل وحفظ وحصل، ولازم الشيوخ وأثنى عليه مشايخ عصره، مثل الشيخ محيي الدين النواوي، وشرف الدين بن المقدسي، وغيرهما. وكان قد اشتغل أولاً على قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، وبعد ذلك على الشيخ محيي الدين النواوي. وكان إمام مسجد ابن هشام، ومعيداً بالمدارس، ثم إنه ولي تدريس المدرسة الجوانية، وكان مشهوراً بمعرفة الحكومات، والكتب الحكمية، وكان ذا مروءة وعصبية. وكان له ثبت بمسموعاته. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 سالم بن ناصر الدين الفقيه شرف الدين. كان قاضي قارا وخطيبها ورئيسها، ونجي مكارمها ونجيبها، شاعراً مفوهاً، أديباً لم يكن وجه فضله مشوهاً، أقام بقارا مدة من الزمان، ومد فيها للأضياف كبار الجفان. ولم يزل على حاله إلى أن درج من عش حياته، وغاض الوفاء عند الوفادة بوفاته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومن شعره .... سالم بن أبي الهيجاء ابن حميد بن صالح بن حماد، الإمام الفقيه القاضي مجد الدين أبو الغنائم الأذرعي الشافعي. كان فقيهاً فاضلا، سؤوساً عاقلا، كثير التلاوه، وعنده بعد ذلك من الأدب علاوه، يحفظ كثيراً من الأشعار، ويتلقفها ويأخذها ليلقنها بأغلى الأسعار. حسن الهيئه، كريم الرجعة والفيئه، خبيراً بالأحكام، قوي النفس على من تعلى من الأنام، وكانت له حرمه، ولم تحفظ عنه جرمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 توجه إلى مصر بعد ما انفصل من قضاء نابلس، فأدركه أجله هناك، وقال له عمله المبارك: بلغت مناك. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة. وعاش ثلاثاً وسبعين سنة. ومولده بقرية جمحا، قرية بالقرب من أذرعات. وهو والد شمس الدين محمد محتسب نابلس، وشهاب الدين أحمد وكيل الحاج أرقطاي. وروى عن الحافظ ضياء الدين المقدسي. سالم الأمين الموصلي المنجم كان شيخاً في النجامة قد تميز، ومال إلى معرفة هذا العلم وتحيز، يحل الأزياج ويكتب التقاويم، ويعرف عروض البلدان ومواقعها من الأقاليم، وله دربة في تلك الأوضاع، وتلك الأمور التي لا يعرفها إلا من امتد منه الباع. لم يزل على حاله إلى أن لم يبق عمره دقيقه، واستوفى جليل أجله ودقيقه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. اللقب والنسب السامري: سيف الدين أحمد بن محمد. سبط زيادة: الحسن بن عبد الكريم. ابن السابق: علي بن عثمان عبد الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 ابن سامة: محمد بن عبد الرحمن. السبكي: جماعة منهم: قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي. وولده القاضي جمال الدين الحسين. وتقي الدين محمد بن عبد اللطيف. والقاضي زين الدين عبد الكافي بن علي. وصدر الدين بن علي. ابن السباك: الشيخ تاج الدين الحنفي، علي بن سنجر. ست الوزراء الشيخة الصالحة المعمرة مسندة الوقت أم عبد الله ابنة القاضي شمس الدين عمر بن العلامة شيخ الحنابلة، وجيه الدين أسعد بن المنجا بن أبي البركات التنوخية الدمشقية الحنبلية. سمعت الصحيح ومسند الشافعي من أبي عبد الله بن الزبيدي، وسمعت من والدها جزأين. كانت مسندة العصر، وخريدة الرواية في القصر، رزقت الحظوة الباهره، وطالت بذاك النجوم الزاهره، فحدثت بالصحيح مرات، وفازت من ذاك بالصلات والمبرات، وكانت ثابتة على طول التسميع، مديدة الروح على الشروط وما يطرأ عليها من التفريع؛ إلا أنها انثالت عليها الجوائز، ولم تكن كمن عداها من العجائز. وطلبت إلى مصر، وسمع منها الأمير سيف الدين أرغون النائب، والقاضي كريم الدين الكبير. ولم تزل على حالها إلى أن لم تجد ست الوزراء من الموت وزرا، وصال الدهر على أهلها بفقدها وزرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وتوفيت رحمها الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة. ومولدها سنة أربع وعشرين وست مئة. وحجت مرتين، وتزوجت بأربعة رجال رابعهم نجم الدين عبد الرحمن بن الشيرازي. وكان لها ثلاث بنات. قرأ عليها شيخنا الذهبي مسند الشافعي، وهي آخر من حدث بالكتاب. وسمع منها الوافي، وابن المحب، والقاضي فخر الدين المصري، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني، وخلق كثير. ؟ ست الفقهاء ابنة إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، الشيخة الصالحة المعمرة المسندة بنت الإمام تقي الدين بن الواسطي الصالحية الحنبلية. سمعت حضوراً جزء ابن عرفة في سنة خمس من عبد الحق بن خلف. وسمعت من إبراهيم بن خليل وغيره. وسماعها قليل، لكن لها إجازات عالية من جعفر الهمداني، وأحمد بن المعز الحراني، وعبد الرحمن بن بنيمان، وعبد اللطيف بن القبيطي، وروت الكثير، وسمعوا منها سنن ابن ماجة وأشياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة. ولها اثنتان وتسعون سنة. ست العرب ابنة سيف الدين علي بن الشيخ رضي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي. الشيخة الصالحة أم محمد. حضرت على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، وحدثت وسمع منها شيخنا علم الدين البرزالي، وأجازت لي. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وإجازتي منها كانت في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ست القضاة أم محمد بنت القاضي محيي الدين بن القاضي تاج الدين أحمد الشيرازي. قاربت التسعين سنة. روت عن كريمة بنت عبد الوهاب مشيختها ثمانية أجزاء، والزهاد والعباد لابن الأزهر البلخي، ولم يوجد لها سوى ذلك. وتزوجت بالشيخ مجد الدين الروذراوري، ثم بالبدر بن الخرقي، ثم بغيره. وتوفيت رحمها الله تعالى في ثامن عشري القعدة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ست الأمناء بنت الشيخ صدر الدين أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا، وهي أخت والدة الخطيب معين الدين بن المغيزل وإخوته. وكانت تدعى أم عز الدين، وهو ولدها الأول. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت الحديث، وسمعنا عليها من جدها، وكانت أكبر من عمها وجيه الدين بسنتين. توفيت رحمها الله تعالى بالسعيدية قبل دخول القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة في الجفل. ست الوزراء أم محمد ابنة الشيخ العدل الرئيس تاج الدين أبي الفضل يحيى بن مجد الدين أبي المعالي محمد بن شمس الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ المسند أبي يعلى حمزة بن علي بن هبة الله بن الحبوبي التغلبي الشيخة. حجت وأعتقت ولازمت الخير، وغلبت السوداء عليها آخر عمرها، فتغير ذهنها نحو سنة. لها إجازة من الشيخ علم الدين السخاوي والحافظ ضياء الدين المقدسي وعز الدين بن عساكر النسابة، والضياء عتيق السلماني وتاج الدين القرطبي، وسالم ابن عبد الرزاق خطيب عقربا، وأخيه الجمال يحيى والعز أحمد بن إدريس المزة، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وغيرهم. وحدثت قديماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 توفيت رحمها الله تعالى يوم الخميس رابع شوال سنة خمس عشرة وسبع مئة ومولدها سنة تسع وثلاثين وست مئة. ست العلماء المعروفة بالبلبل. شيخة رباط درب المهراني بدمشق. كانت قوامة بالليل لأدوارها، ملازمة للصلاة على سجادها، مشهورة بحسن الوعظ والتذكير، والمبادرة إلى المواعيد والتبكير. ولم تزل على حالها إلى أن خرس البلبل منها، وقام الناعي بالذكرى عنها. وتوفيت رحمها الله تعالى ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وكانت جنازتها حافلة بالنساء. ست الأهل بنت علوان بن سعيد بن علوان بن كامل. الشيخة الصالحة المسندة البعلبكية الحنبلية. روت الكثير عن الشيخ بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وتفردت عنه بقطعة من المسموعات. قال شيخنا البرازلي: قرأت عليها بدمشق الزهد للإمام أحمد في أربع مجلدات وأجزاء كثيرة. وقرأت عليها ببعلبك عوالي البهاء عبد الرحمن، ومحاسبة النفس لابن أبي الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وكانت من أهل الدين والصلاح والقناعة، لا تبالي بنفسها في مأكل ولا غيره. وتوفيت رحمها الله تعالى في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث وسبع مئة. وكان أبوها من الصالحين الكبار. ستيتة الخاتون بنت الأمير سيف الدين كوكائي، زوج الأمير سيف الدين تنكز رحمهم الله تعالى. كانت خيرة صينة دينة. ترد زوجها عن أشياء كثيرة. وهي والدة الخوندة أم السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح، وأم فاطمة زوج الأمير سيف الدين بلجك ابن أخت الأمير سيف الدين قوصون. توفيت رحمها الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفنت في التربة التي لها على باب الخواصين بجانب المدرسة الطيبة، وعمل إلى جانب التربة رباط للنساء. وكانت قد حجت في العام الماضي، وتصدقت بشيء كثير. اللقب والنسب ابن سحاب: أحمد بن سليمان. السخاوي: نور الدين قاضي القضاة المالكي، علي بن عبد النصير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 السديد الدمياطي، الطبيب اليهودي كان من أطباء السلطان الملك الناصر محمد، لا يدخل الرئيس جمال الدين بن المغربي إلى دور السلطان في الغالب إلا وهو معه. وكان شيخاً قد أسن، وأشبه الشن، نحيفاً مائل الرقبه، قليل البشر كما يقال، كأن وجهه عقبه، إلا أنه فاضل في صناعته، ماهر في إنفاق ما معه من بضاعته، على ذهنه شيء كثير من إقليدس، ومسائل مما يحتاج إليه المهندس، وعلى ذهنه جزء كبير من الطبيعي وغيره، ويستحضر كثيراً من كلام الأطباء الذين يحتاج إلى أن يكونوا سبب خيره. وكان سعيد العلاج، يكاد يبري الاستسقاء والانفلاج، لم يكن في عصره من له سعادة علاجه، ولا من يدخل إلى المريض بواسطة مزاجه. حضرت علاجه في جراحة القاضي شرف الدين ناظر الخاص، وكان إذا تكلم يسمع له والمجلس بالأفاضل غاص، وسمعت منه فوائد، وجمعت عنه فرائد. ولم يزل السديد إلى أن حصل به الخطب الشديد، ولم ينفعه علاج قديم ولا جديد. وهلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة فيما أظن. وكان قد قرأ على الشيخ علاء الدين بن النفيس، وحضر مباحثه مع قاضي القضاة جمال الدين بن واصل. وذكر لي أشياء من فوائد الشيخ علاء الدين المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 الألقاب والأنساب ابن السديد: شمس الدين أحمد بن علي. وجمال الدين محمد بن عبد الوهاب. ومجد الدين هبة الله بن علي. السروجي: قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم. السروجي: المحدث محمد بن علي. سعد الله بن غنائم ابن علي بن ثابت، أبو سعيد الحموي النحوي المقرئ الضرير. كان ذا دين متين، وفضل مبين، ضرير النظر، غزير البحث والنظر. أقرأ الناس وأفاد، وفاز منهم بشكر ماله من نفاد. ولم يزل على حاله إلى أن طوحت به الطوائح، واجتاحته الجوائح. وتوفي رحمه الله تعالى ستة عشر وسبع مئة. الألقاب والألقاب ابن بنت أبي سعد: فخر الدين عثمان بن علي. والمسند ابن سعد: يحيى بن محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 أبو السعود ابن أبي العشائر بن شعبان الباذبيني، ثم المصري. الشيخ الصالح الزاهد، شيخ الفقراء السعودية. كان صاحب عباره، ورب مجاز وعباره، وفيه انجماع وزهاده، وأذكار وعباده، وله أتباع، ومريدون يرون أن طريقه تشترى وما تباع، وسوقه بمصر قائمه، وقلوب أصحابه فيه هائمه. ولم يزل على حاله إلى أن فرغ الأجل منه، وانصرف وجه الحياة عنه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة. الألقاب والألقاب السعودي: جماعة منهم: سيف الدين عبد اللطيف. السعودي: الشيخ أيوب. سعيد بن ريان بن يوسف بن ريان الصدر الكبير الرئيس القاضي عماد الدين الطائي ناظر حلب. كان من أحسن الناس وجهاً وقدا، وشكالة من ألف بالنظر إليها ما تعدى، بزته فاخره، وسعادته ظاهره، واسع الصدر، نبيه القدر، كريم البنان، صحيح البيان، فصيح المقاله، سريع الإقاله، سماطه ممدود، واحتياطه غير مردود، سعيد المباشره، حميد المعاشره، جيد التنفيذ والتصرف، خبيراً بالتودد والتعرف، قوي النفس لا يعبأ بمن ناواه، ولا يبالي بمن يزعم أنه ساواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ولم يزل على حاله في تقلب الدهر به إلى أن جاءه الأمر المقضي، وتصبح من موته بما لا يرضي. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب سنة ثمان وسبع مئة. باشر نظر الديوان بحلب مرات، وطلب إلى مصر وصودر، وأخذ منه على ما قيل: أربع مئة ألف درهم. وكان شرف الدين بن مزهر في تلك الأيام بمصر، وكان يحضر في دار الوزارة بقلعة الجبل، ويشكو عطلته وبطالته وضيق ذات يده، ويقول: والله ما تعشيت البارحة إلا على سماط عماد الدين بن ريان، يا قوم ما هذا إلا رجل كريم النفس، كان البارحة على سماطه من الحلاوة أربعة صحون، وكان.. وكان..، ويعدد أشياء، يقصد بذلك أذاه في الباطن، وهو في الظاهر يثني عليه ويتغمم له لأنه كان تلك المدة يحمل في المصادرة، وحط عليه الجاشنكير، وقال: ما بقيت أستخدمه في ديوان السلطان أبداً. فقال الأمير سيف الدين سلار: أنا أستخدمه في ديواني، فجعله ناظر ديوانه في دمشق، فحضر إليها، ورأى فيها من السعادة والوجاهة والتقدم أمراً زائداً عن الحد، وصحب الناس فيها، وعاشر أهلها ورؤساءها من أرباب السيوف والأعلام، وظهر بمكارم أخجلت صوب الغمام. ولما كان في رابع شوال وصل شرف الدين عبد الرحمن بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي مباشراً ديوان سلار عوضاً عن عماد الدين بن ريان، وذلك سنة سبع وسبع مئة. ولم يزل إلى أن حج وعاد مع الركب المصري، ورسم له بنظر حلب على عادته، وأخذ توقيعه بذلك، وحضر إلى دمشق فمرض بها، ومات رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وكان يكتب جيداً إلى الغاية، ويقول الشعر طباعاً. كتب إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وهو بدمشق مشد الدواوين: يا من إذا استنخي ليوم كريهةٍ ... هزّت شمائله المروءة فانتخى أنت الذي يخشى ويرجى دائماً ... وإليك يلجأ في الشدائد والرّخا وإذا الحروب توقّدت نيرانها ... أطفأتها بعزيمة تجلو الطخا وإذا تميل إلى الكسير جبرته ... وعلى العليّ من الجبال تفسّخا حزت المكارم والشجاعة والفت ... وّة والمروّة والنباهة والسّخا وأتت لك الأقدار فهي كما تشا ... بمحلّك العالي غدت تجري رخا ؟ سعيد بن عبد الله الإمام الفاضل العالم الحافظ نجم الدين أبو الخير الدهلي، بالدال المهملة المكسورة وبعدها هاء ساكنة ولام، الحنبلي الهلالي الحريري صنعةً. رحل من بغداد، وحضر إلى الشام، وتوجه إلى مصر، وثغر الإسكندرية. أكثر عن بنت الكمال، وابن الرضي، وتعب وحصل الأجزاء. وكان له عمل جيد وهمه، ورحلة للأقاليم وعزمه، لم يكن آخر وقت مثله في هذا الشان، ولا من يدانيه في علو المكان؛ لأنه يعرف التراجم والوفيات، وما فيها من اختلاف الروايات، وهذا أمر قل من رأيته يعتني به، أو يرعى اختلاف ترتيبه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وكان بعد شيخنا الذهبي قائماً بهذا الشأن في الشام، وبعده لم يبق في هذا الفن بشاشة تشتام. وله تواليف كتبت عليها أنا وغيري من فضلاء العصر تقريضا، ومدحناه فيها تصريحاً لا تعريضا. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن تعثر سعيد في طريق أجله، وراح إلى الله تعالى في عجله، لأنه بصق دماً يومين، ومات في الثالث رحمه الله تعالى وذلك في خامس عشري القعدة سنة تسع وأربعين في طاعون دمشق. ومولده سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وكان قد سمع علي بعض تواليفي. قال شيخنا الذهبي: سمع المزي من السروجي عنه. ومن تصانيفه كتاب تفتت الأكباد في واقعة بغداد، وكتبت له عليه تقريضاً. والرحلة الثانية إلى مصر، وكتبت له عليها ما نسخته: وقفت على هذا السلك الذي جمع در القريض، والروض الذي تنظر النجوم الزهر إلى زهره استحياءً بطرف غضيض، والسحر الذي ما نفث مثله في أحشاء العشاق كل طرف فاتر ولا جفن مريض، والأدب الذي لو حاوله شاعر لوقع منه في الطويل العريض، لأنه اختيار الشيخ الإمام الرحال الجوال نجم الدين سعيد الدهلي الحريري الحنبلي أدام الله به الانتفاع، وشنف بأقواله الأسماع: إمام إذا ناداه في الفضل حاسد ... تعثّر علما إنّ ذاك سعيد كذلك لو جاراه في أمد العلا ... لقلنا اقتصر فالنجم منك بعيد ولم يسمه بالفوائد سدى، ولا وسمه بهذه السمة إلا وهي واضحة الهدى، علماً منه بأن الفاضل لن يجهله، وأن الفوائد جمع لا نظير له، فالله تعالى يمتع الفضلاء بفوائده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 المدونة، ومحاسنه التي هي كفواكه الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. كتب في شهر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبع مئة. سعيد بن أحمد بن عيسى الشيخ الإمام الفاضل العدل نجم الدين، القاضي أبي العباس الغماري المالكي. كان معيداً بالمدرسة الناصرية والمنكوتمرية. كان فيه مخالطه، وإبهام للناس بالناس ومغالطه، مع كيس ولطف ذوق، وتقلبات لا يجيء فيها إلا من فوق، وعنده فقه، وله نظم ما به من باس، ومحاضرة مخرق بها فستر ذلك الإلباس، وحصل من الدنيا جملة وافرة، ولم يكن له من يرثها بعده، ولم يتزود منها غير الكفن لما نزل لحده. ولم يزل على حاله إلى أن طمس نجمه، ورمس فوقه رجمه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر بالقاهرة. كانت فيه مداخلة للناس ومزاحمة، وكان يصحب أولاد ابن الأثير، وأوهم بذلك حتى قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فكان لا يجهز إلى مصر شيئاً حتى يجهز إلى النجم سعيد نصيبه. وخلف جملة صالحة، ولم يكن له وارث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 سعيد بن محمد بن سعيد القاضي الرئيس الأصيل الكاتب، شمس الدين بن الأثير الموقع. كان رجلاً عاقلاً ملازماً لوظيفته، لا يدخل نفسه فيما لا يعنيه. وله اشتغال، وولي كتابة الإنشاء بدمشق. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر القعدة سنة إحدى وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له. سعيد بن محمد بن سعيد بن محمد بن سعيد القاضي شمس الدين بن الصدر شرف الدين بن الأثير، سبط القاضي محيي الدين بن فضل الله. توفي رحمه الله تعالى شاباً ابن ثماني عشرة سنة، وفجعت والدته فيه. وكان من جملة كتاب الإنشاء. وكتب صداقه، ولم يدخل بزوجته. ومات في جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة. سفرىبنت يعقوب بن إسماعيل بن عمر، عرف بقاضي اليمن، الشيخة الصالحية المعمرة أم محمد. سمعت من جدها إسماعيل، وأخيه إسحاق جزء أبي القاسم الكوفي. أجازت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق، وأذنت في ذلك لعبد الله بن المحب. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. الألقاب والألقاب السفاقسي الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد. وأخوه شمس الدين محمد بن محمد. ابن السفاح كاتب سر حلب زين الدين عمر بن يوسف. وعمه قاضي قضاة حلب نجم الدين عبد القاهر. ابن السقطي جمال الدين محمد بن عبد العظيم. ابن السكاكري بدر الدين علي بن محمد. ابن سكرة ناظر دمشق بهاء الدين أبو بكر. ابن السكري علي بن عبد العزيز. ابن السكري علي بن قيران. السكندري قاضي طرابلس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن منصور. السكاكيني محمد بن أبي بكر. ابن السلعوس شهاب الدين أحمد بن عثمان. وتقي الدين عمر بن محمد بن عثمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ابن سلامة بهاء الدين موسى بن عبد الرحمن. سليمان بن إبراهيم بن سليمان القاضي علم الدين أبو الربيع، المعروف بابن كاتب قرا سنقر، في الديار المصرية. وكان في الشام يعرف بالمستوفي، وورد من الديار المصرية أولاً مستوفي النظر بدمشق، ثم عزل في أيام الصاحب أمين الدين، وصودر، وذلك في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه باشر نظر البيوت والخاص. ثم إنه في أيام قطلوبغا باشر صحابة الديوان، وكان في مصر أولاً في زكاة الكارم، ثم إنه باشر عند الأمير سيف الدين منكلي بغا الناصري السلاح دار. وكان أولاً مع والده عند قرا سنقر، وهو خصيص به، وتوجه معه إلى البرية، وعاد منها. وكان من ذوي المروءات، وأولي الرغبة في الفتوات، يخدم الناس بجاهه وماله، ويولي الإحسان قبل سؤاله. وكان النظم عنده أهون من التنفس، وأسرع من القطر عند التبجس، فكنت أتعجب من أمره، ويحصل لي نشوة من كؤوس خمره، مع أنه نظم عذب أمضى من عضب، قد خلا من التعقيد والتعاظل المكروه، وانسجم فلا يظهر عليه كلف تكلف، ولا يعروه. وكان فصيحاً في اللغة التركيه، وما يورده من عباراتها المحكيه، وكان للكتب جماعه، ونفسه في الاستكثار منها طماعه، حصل منها شيئاً كثيرا، واقتنى منها أمراً كبيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وكان خطه أبهى من الرياض، وأبهج من ترقرق المياه في الحياض. وكتب بخطه كثيراً من المجلدات، وجمع مجاميع هي بين الأدباء مخلدات. وكان في صناعة الحساب بارعا، وفي عقد الجمل للبرق مسارعا. وصحب الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وجمع شعره ودونه ورواه عنه. وروى من شعر ابن سيد الناس وأكثر منه. ولم يزل على حاله إلى أن زال من الحياة ملك سليمان، وراح ولم ينفعه مما جمع غير التوحيد والإيمان. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ومولده ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وست مئة. كتب هو إلي وأنا بالقاهرة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة: يا غائباً غاب عن عيني فلم تنم ... وذاهباً فضله قد شاع في الأُمم سافرت عنا فطال الليل في سهدٍ ... فنحن بعدك في ظلم وفي ظلم آنست مصر وأوحشت الشآم فيا ... خلوّه من حلى الآداب والكرم ليهن مصر صلاح الدين كونك في ... أرجائها كاتباً في أشرف الخدم جمّلت ديوان إنشاءٍ حللت به ... يا خير حبر يوشّي الطّرس بالقلم فما محيّاك إلا بدر داجيةٍ ... وما يمينك إلاّ ركن مستلم سقياً لأيام أنسٍ كان رونقها ... بفضل أنسك فينا وافر القسم نجني فضائلك الغرّ الحسان ولا ... نعبا بروضٍ سقاه وابل الدّيم أقسمت لا فرق ما بين الجواهر في ... عقدٍ وبين الذي تبدي من الكلم فالله يبقيك ما ناحت مطوّقةٌ ... فيما نرجّيه من سعد ومن نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 فكتبت أنا الجواب إليه: بالغت في الجود والإحسان والكرم ... وزدت في شرف الأخلاق والشيم وما رضيت بغايات الأولى سبقوا ... إلى المعالي ولا ترضى بعزمهم حتى تحوز على الجوزاء مرتقياً ... إلى معاني لم تخطر بفكرهم وتدرك المجد سبّاقا وشغلهم ... في عثرة القول أو في عثرة الكلم كم اجتهدت لعليّ أن أفوز فلم ... أفز سوى مرةٍ في الدهر بالخدم وأبعدتني الليالي بعد ذاك وفي ... قلبي حلاوة ذاك اللطف والشيم فكنت كالمتمنّي أن يرى فلقا ... من الصباح فلما أن رآه عمي فليت دهري يسخو لي بثانيةٍ ... حتى أعود إليها عود مغتنم وأجتلي أوجه اللذات سافرةً ... عن كل مغنىً حوى صنفاً من النّعم فما خلائقك الحسنى التي بهرت ... عقلي سوى زهرٍ في الروض مبتسم أو نسمةٍ خطرت بالبان نفحتها ... ولا أقول سرت بالضّال والسّلم وما عبارتك المثلى سوى دررٍ ... والناس تحسبها ضرباً من الكلم كم التقطت ومولانا يسامرني ... جواهر الفضل والآداب والحكم وكم معانٍ كأنّ السحر نضّدّها ... لم تبق عندي عقابيلا من السقم نعم وأبيات شعرٍ راق موردها ... لم أنسهنّ وما بالعهد من قدم آها لأيّامنا بالخيف لو بقيت ... عشراً وواهاً عليها كيف لم تدم يا سيداً بندى يمناه صحّ لنا ... أنّ الغمام بخيلٌ غير منسجم وماجداً جدّ في كسب العلى فغدا ... تخشى الصوارم منه صولة القلم شوقي إلى لثم ذاك زاد على ... شوق الرياض إذا جفّت إلى الديم ووحشتي لمحياك الجميل هل اس ... توحشت قطّ لبدر التم في الظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ووحشتي لفوات القرب منك كما ... تجسّر الساهد المضنى إلى الحلم فهذه بعض أشواقٍ أكابدها ... في وصفها قلمي ساوى لنطق فمي أظهرت وجدي ولم أكتم لواعجه ... ومن يطيق خفا نار على علم وأنشدني غالب نظمه من لفظه لنفسه، فمما أنشدني لنفسه قوله ينحو فيه ما نحاه الشيخ تقي الدين السروجي في أبياته المشهورة: قصّة الشوق سر بها يا رسولي ... نحو من قربه مناي وسولي عند باب الفتوح حارةٌ بها الد ... ين تحت الساباط قف يا رسولي وإذا ما حللت تلك المغاني ... قف بتلك الطلول غير مطيل وتأمّل هناك تلق غرير الط ... رف أحوى يرنو بطرفٍ كحيل من بني الترك فاتر الطرف يرمي ... بنبال الجفون كل نبيل ألفيّ القوام قد ألف الهج ... ر دلالاً على المحبّ الذليل فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل قبّل الأرض ثم قدّم إليه ... قصةً قدّمت بشرح طويل فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل قل قلن خش دا كل تلاماس دن ... ادن إلاّ سني بلا تطويل كال سني كرمسكين كشي شفّه الوج ... د فأضحى حلف الضنى والنحول وأما أبيات الشيخ تقي الدين عبد الله بن علي السروجي فأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري والقاضي الرئيس عماد الدين إسماعيل بن القيسراني، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 كلاهما قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين السروجي، وأكثر الأبيات أنشدنيها القاضي عماد الدين: يا ساعي الشوق الذي مذ جرى ... جرت دموعي فهي أعوانه خذ لي جواباً عن كتابي الذي ... إلى الحسينيّة عنوانه فهي كما قد قيل وادي الحمى ... وأهلها في الحسن غزلانه امش قليلاً وانعطف يسرةً ... يلقاك درب طال بنيانه واقصد بصدر الدرب دار الذي ... بحسنه يحسن جيرانه سلّم وقل يخس من كي من ... اشت حديثاً طال كتمانه كنكم كرم ساوم اشي أط كبي ... فحبّه أنت وأشجانه واسأل لي الوصل فإن قال يق ... فقل أُوت قد طال هجرانه وكن صديقي واقض لي حاجة ... فشكر ذا عندي وشكرانه وأنشدني من لفظه لنفسه: غرامي فيك قد أضحى غريمي ... وهجرك والتجني مستطاب وبلواي ملالك لا لذنب ... وقولك ساعة التسليم طابو وأنشدني من لفظه لنفسه: أيا من قد رمى بسهم ... من الأجفان فهو أشدّ أقجي أيحسن منك أن أشكو غرامي ... فتعرض نافراً وتقول يقجي وأنشدني من لفظه لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 قلت له كم تشتكي ... وتشتهي خذ واتكي فقال: لا قلت: له ... لا تشتهي وتشتكي وأنشدني من لفظه لنفسه، وقد توفيت زوجته: إنّي لأعجب لاصطباري بعدما ... قد غيّبت بعد التنعّم في الثرى هذا وكنت أغار حال حياتها ... من مرّ عاطفة النسيم إذا سرى وأنشدني من لفظه لنفسه: أقول لقلبي حين غيّبها الثرى ... تسلّ فكلٌّ للمنية صائر وفي كل شيء للفتى ألف حيلة ... ولا حيلةٌ فيمن حوته المقابر وأنشدني من لفظه لنفسه: تقول بحقّ ودّك عدّ عنّي ... ودعني ما الكؤوس وما العقار وهاريقي وكاسات الحمّيا ... وذق هذا وذا ولك الخيار وأنشدني من لفظه لنفسه: لا تقل قد قبلت عقد نكاحٍ ... وبصدق الصّداق لا تك راضي وإذا ما عجزت قل بالتسرّي ... لم، وإلاّ بغير علم القاضي وأنشدني من لفظه لنفسه: قالت وقد راودتها عن حالة ... يا جارتي لا تسألي عمّا جرى إني بليت بعاشق في أيره ... كبرٌ فلا فلسٌ ويطلب من ورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 سليمان بن إبراهيم بن إسماعيل الملطي الحنفي القاضي الفقيه شمس الدين أبو محمد. ناب في الحكم مدة طويلة بدمشق، ودرس بالظاهرية وغيرها، وناب بالقاهرة في الحكم لما توجه إليها في الجفل. وكان رجلاً صالحاً مباركاً متواضعاً. وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت نصف ذي القعدة سنة ثلاث وسبع مئة. سليمان بن إبراهيم بن سليمان ابن داود بن عتيق بن عبد الجبار، القاضي صدر الدين المالكي. تولى قضاء الشرقية والغربية من الديار المصرية، وسافر رسولاً من جهة السلطان إلى بغداد. توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. سليمان بن أحمد ابن الحسن بن أبي بكر بن علي، تقدم تمام النسب في ترجمة ولده الحاكم أحمد بن سليمان، هو أمير المؤمنين أبو الربيع المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله الهاشمي العباسي البغدادي الأصل، المصري المولد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 قرأ واشتغل قليلاً، وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبع مئة، وفوض جميع ما إليه من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسارا معاً إلى غزو التتار، وشهدا مصاف شقحب في شهر رمضان سنة اثنين وسبع مئة، وهو مع السلطان راكب، وجميع كبار أمراء الجيش مشاة، وعليه فرجية سوداء مطرزة وعمامة كبيرة بيضاء بعذبة طويلة، وقد تقلد سيفاً عربياً محلى. ولما فوض الأمر إلى الجاشنكير، وقلده السلطنة بعد توجه السلطان الملك الناصر، ولقب المظفر، عقد له اللواء، وألبسه خلعة السلطنة: فرجية سوداء وعمامة مدورة، وركب بذلك والوزير حامل التقليد على رأسه، وهو من إنشاء القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وأوله: " إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " هذا عهد لا عهد لمليك بمثله. رأيته أنا بالقاهرة مرات، وكان تام الشكل حسنا، يملأ برونقه العين مهابة وسنا، تعلوه الهيبة والوقار وعليه من أبهة الخلافة والأمانة أنوار، يجود لو كان المال طوع حكمه، وينصف المظلوم ولكن هو يشكو مثل ظلمه. ولم يزل بمصر إلى أن تنكر السلطان عليه، وكاد من الحنق يحضره بين يديه، فأطلعه وأهله إلى القلعة، وأسكنه برجاً مطلاً على الباب، وحير في أمره ذوي العقول والألباب، فلم يركب ولم ينزل، ولم يدخل ولم يخرج وهو في المنزل، وبقي مدة تقارب الخمسة أشهر، ثم أفرج عنه، وأنزله إلى داره، وهو لم يشتف منه. ثم إنه تنكر عليه بعد نصف سنة أخرى، وجرعه في هذه المرة كأساً مزاجها مراً، وجهز وأولاده إلى قوص في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فراح إليها والعيون من الناس عليه عبرى، والنفوس لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 تملك على مصابه صبرا، وأقام بها يكابد هواحر هواجرها، ويجري دمعاً لما نزل من عينه محا محاجرها، إلى أن توفي ولده صدقه، وكان يحل منه محل قلبه لا الحدقه، فوجد عليه وجداً شديدا، وأذاب قلبه ولو كان حديدا. ولم يزل بعد ذلك في حزن يذوي، ودمع يكوي، إلى أن فجع المؤمنون بأميرهم، وباح الحزن عليه بما في ضميرهم. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شعبان سنة أربعين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة. وكان له ولد كبير اسمه خضر كان قد جعله ولي عهده، فتوفي في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، وعهد بالأمر إلى ولده الحاكم أحمد، فلم يمضه السلطان وبويع ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم بيعة خفية لم تظهر إلى أن تولى السلطان الملك المنصور أبو بكر، فأحضر ولده أبا القاسم أحمد، وبايعه ظاهراً، وكني أبا العباس، على ما تقدم في ترجمته في الأحمدين. وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: إن المرتب الذي كان له لم يكن يبلغ خمسين ألف درهم في السنة، فلما خرج إلى قوص قوم غالياً وحسب زائداً، ليكثر ذلك في عين السلطان، وجعل ستة وتسعين ألفاً، فرسم بأن يصرف ذلك إليه بكماله من مستخرج الكارم، فأرادوا نقصه فازداد. سليمان بن أبي بكر الأمير علم الدين ابن الأمير سيف الدين بن البابيري، تقدم ذكر والده في حرف الباء. وكان هذا الأمير علم الدين شاباً حسن الوجه، مبرأ من عدم الحياء وقبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 النجه، حلو الصوره، كأن وجهه للملاحة جامع، والمحاسن عليه مقصوره. تنقل في الولايات وتوقل هضبات النيابات. ولم يزل على حاله حتى أدرج في كفنه، واستحال بعد صحة تركيبه إلى عفنه. وتوفي رحمه الله تعالى بحماة، ورد الخبر إلى دمشق بموته في أول شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة، وعمره يقارب الثلاثين أو يزيد عليها قليلاً. وكان والده الأمير سيف الدين البابيري يحبه محبة زائدة وإذا قيل له: يا أبا سليمان، يترنح ويتريح، وأخذ له إمرة عشرة في حياته، ثم أخذ إمرة الطبلخاناه بدمشق في سنة سبع وخمسين أو سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وتولى ولاية الولاة القبلية، ووقع في أيامه ذاك العشير، إلى أن حضر الأمير شهاب الدين شنكل من الديار المصرية. ثم إن الأمير علم الدين سليمان أعطي نيابة ألبيرة في أوائل سنة ستين وسبع مئة، ثم عزل عنها، وحضر مع الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي من حلب إلى دمشق، فولاه ولاية الولاة بالقبلية، وعزل عنها، ورسم له بنيابة ألبيرة، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن عزل منها بالأمير سيف الدين قراكز أخي الأمير سيف الدين يلبغا، ونقل إلى حماة أمير طبلخاناه، فأقام بها قليلاً، وتوفي رحمه الله تعالى. وكان يحصل له في بعض الأوقات صرع، حصل له في وقت بحلب وقد حضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ليتوجه إلى نيابة ألبيرة، فتحامل وأمسك نفسه إلى أن حصل له رعاف كثير، وهو بباب دار النيابة بحلب رحمه الله تعالى. عمل شد الدواوين بدمشق أيضاً. سليمان بن أبي حرب علم الدين الكفري الفارقي النحوي الحنفي. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: تصاحبت أنا والمذكور بالقاهرة، وكان من تلاميذ ابن مالك، أخبرني أنه عرض عليه أرجوزته الكبرى المعروفة بالكافية الشافية وأنه بحث أكثرها عليه، وأنه قرأ القراءات السبع بدمشق، وأشغل الناس عليه، وكان حنفي المذهب. قال: وأنشدني كثيراً يذكر أنه له، ولما قدم الأديب شهاب الدين العزازي إلى القاهرة، ذكر لنا أنه كان ينشد لنفسه كثيراً مما كان ينشده العلم سليمان لنفسه. وأنشدني قال: أنشدني الفقير يعيش الفارقي قال: مما كتب به العلم سليمان إلى الكاتب شرف الدين بن الوحيد رحم الله جميعهم، وعفا عنهم: أما ومجد أثيل أعجز الفصحا ... ونائل كلّما استمطرته سمحا لو وازن ابن الوحيد الناس كلّهم ... ببعض ما ناله من سؤددٍ رجحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 سليمان بن حسن ابن أحمد بن عمرون البعلبكي الصدر شرف الدين. ولد بحماة، وحدث عن الحافظ شرف الدين اليونيني وغيره، واختلط في سنة أربع وخمسين وسبع مئة. باشر عدة ولايات بطرابلس وغزة وبعلبك ودمشق، وولي الأقطار الكبار في دمشق مثل الربوة وغيرها. وكان لين العريكه، لا يذم صاحبه ولا يخون شريكه، رافق في طرابلس لأسندمر النائب، وكان يحكي عنه الغرائب والعجائب، إلا أنه نزل به الوقت، وآل أمره بعد المحبة إلى المقت، وبطل من المباشره، وتخلى عن الاختلاط بالناس والمعاشره، وعبس الدهر في وجهه بعد المكاشره، وانكمش عن الصحبة بعدما كان عنده فيها شره، وجلس مع الشهود في الساعات، وخلع وقاره على الخلاعات، إلى أن أصبح الشرف في الحضيض، وغمض الموت طرفه وكان غير غضيض. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، عن نيف وثمانين سنة. وتولى نظر غزة والساحل ونابلس في وقت، وحضر من غزة إلى نابلس ليكشف أمرها، فحصل له مباشروها خمسة آلاف درهم على عادة الكتاب، فلما طلعوا وتلقوه، انفرد بالناظر خلوةً وقال: يا مولانا: عندكم فرد كناب من هذا النابلسي وقليل صابون وزيت؟ فقال له: نعم، فقال: دبره لنا وجهزه إلى غزة، وكان جميع ما طلبه ما يقارب الثلاث مئة، وراحت تلك الخمسة آلاف، وتوفرت على المباشرين، وكذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 كان يفعل في نظر الزكاة، يطلع إلى القابون ويتلقى القفول، فيحصل له كبار القفول التفاصيل الحرير والتحف والذهب والدراهم، فيقول لهم: الوقت مضرور إلى منيشفات بغدادية، فيعرف التجار أن ذلك رضاه، فيوفرون ما حصلوه لأنفسهم، ويعطونه ذلك القدر النزر. وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر غزة والساحل ونابلس في ثالث عشري صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة وهو: رسم بالأمر العالي، لا زالت شموس سعوده تحل بالشرف، وعروس وعوده تثمر بالتحف، لمن ارتدى بظلها والتحف، أن يرتب المجلس السامي القضائي الشرفي في كذا وكذا، ثقة بكفايته التي شهرت، ونامت عيون من دونه عنها وسهرت، وملأت القلوب إعجاباً بها وبهرت، لأنه الرئيس الذي كبت الجياد عن بلوغ مداه، وكبت الحساد بما حازه من الفضل الذي تقمص برده وارتداه، والماجد الذي جاذب في السيادة لما امتطاها أعنةً وأرسانا، والماهر الذي يملأ المعاملات حسناً وإحسانا، والكاتب الذي طالما جادل فجدل من العمال أبطالاً وفرسانا، والناظر الذي أصبح لناظر الزمان على الحقيقة إنسانا. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً، يظهر بها عزه، في وجه غرة غزه، ويغرق بحره الساحل بالعين والغله، حتى يكون كل ذرة في لجه درة، ويفيض على نواحي بره بره، وليضبط ما تحصل منها بأقلام الفكر في دفاتر الجنان، ويضع على متحصلاتها ختم مراعاته حتى لا يصل إليها ولا الجان، وكيف وعليها خاتم سليمان؟! على أن هذه النواحي عش دب منه ودرج، وعرين دخل غابه فغاب وخرج، وأفق طالما ترقى في مطالعه وعرج، وبر وبحر خلط علمه معرفتيهما ومرج، وبلاد تحقق مقاصد أهلها فما يبدون ولا يعيدون، ومباشرات لما دبرها قصرت عن أوصاف ابن عمرون فيها بلاغة ابن زيدون، والتقوى ملاك الأمور، فلينزلها ربوع فكره، وليجعلها نجي سره وجهره، والله تعالى يوفق مساعيه، ويجمل بمحاسنه أيامه ولياليه، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 سليمان بن أبي الحسن بن ريان القاضي جمال الدين بن ريان الطائي، هو ابن عمر القاضي عماد الدين سعيد بن ريان المقدم ذكره. كان رجل زمانه ونظير أقرانه. يحب الخط المنسوب ويبالغ فيه، ويود لو ملك كل شيء ليذهبه في تلافيه، ويلزم أولاده بالتجويد، ويحرضهم على تحصيله وبياض وجههم بكثرة التسويد، ويجتهد على نسخ المصاحف الكبار، وينفق عليها جملة من اللجين والنضار، ماله في غير ذلك أرب، ولا يثنيه عن ذلك أحد في العجم ولا في العرب، وبقية وصفه يأتي في مرثيته نظماً، ومن هناك يعلم قدر ما كان فيه حقيقةً لا وهما. نزل عن وظيفته لولده القاضي بهاء الدين الحسن في آخر عمره، وانقطع هو في بيته، وأقبل هو على ما يعينه في آخرته من أمره، إلى أن ابتلعه فم لحده، وأصبح عبرةً لمن تركه من بعده. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب. ومولده في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة. وكان والده رجلاً صالحاً من أهل القرآن، حرص على ولده هذا القاضي جمال الدين سليمان، وأقرأه القرآن الكريم، وكان يمنعه من عشرة أقاربه، وإذا رآه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 يكتب القبطي المعرب يضربه وينكر ذلك عليه، فأبى الله تعالى إلا أن يجعل رزقه في صناعة الحساب. ولم يزل مع ابن عمه القاضي عماد الدين سعيد بن ريان، فلما حج عماد الدين وتوجه إلى مصر وأخذ توقيعاً بنظر حلب، ووصل إلى دمشق توفي رحمه الله تعالى، فأخذ القاضي جمال الدين توقيعه، وتوجه به إلى حلب، وكان قراسنقر بها نائباً، ولعماد الدين عليه حقوق خدم، فاستقر القاضي جمال الدين ناظر جيش، ولم يزل بها إلى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فرسم له بنظر صفد في المال، فحضر إليها وأقام بها إلى أوائل سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر وولاه السلطان نظر الكرك ووكالة بيت المال، ثم إنه ولاه نظر حلب، ولم يخرج من مصر ولم يتوجه إلى الكرك، فحضر إلى حلب ناظر المال، فأقام بحلب مدة يسية، وتوجه إلى مصر وتولاها ثانياً. ثم إنه عزل من نظر بيت المال وحضر إلى نظر المال بصفد ثانياً، فأقام قريباً من شهر، ثم طلب إلى مصر، وتولى نظر الجيش بحلب، ولم يزل إلى أن عزل في واقعة لؤلؤ، وأقام بطالاً مدة يسيرة، ثم إنه جهز إلى نظر طرابلس فأقام بها. ثم إنه حضر إلى صفد ثالثاً ناظر المال، وولده القاضي شرف الدين ناظر الجيش، فأقام بها مدة. ثم توجه إلى حلب ناظر الجيش. ثم إنه استعفى وطلب الوظيفة لولده القاضي بهاء الدين الحسن ولزم بيته مدة. ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بدمشق عوضاً عن القاضي فخر الدين بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 الحلي لما توفي رحمه الله تعالى، وأقام به إلى أن عزل في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، فتوجه إلى حلب وأقام بها ملازماً بيته، لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة. ولما كان في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، حضر إلى دمشق وتوجه منها إلى الحجاز وقضى حجة الإسلام وعاد فيها وقد ضعف، فركب محفةً وتوجه إلى حلب، ولم يزل في حلب على حاله إلى أن توفي. ولقد رأيته يقوم في الليل ويركع قبل الفجر قريباً من عشرين ركعة، وله في كل اسبوع ختمة يقرؤها هو وأولاده، ويصوم في غير شهر رمضان. وكان ذهنه جيداً في العربية والأصول. وسمع ابن مشرف وست الوزراء، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين أخي الشيخ تاج الدين، ويعرب جيداً، ويعرف الفرائض جيداً، والحساب وطرفاً صالحاً من الفقه، وعلى ذهنه نكت من المعاني والبيان والعروض، وينقل كثيراً من القراءات ومرسوم المصحف. ولي معه مباحث كثيرة رحمه الله تعالى. ولما توفي كتبت إلى ولده القاضي شرف الدين حسين قصيدة رثيته بها وه: أظمأت نفس المعالي يا ابن ريّانا ... حتّى توقّدت الأحشاء نيرانا وانهلّ دمع الغوادي فيك من حزنٍ ... وشقّق البرق في الآفاق أردانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ومزّق الصبح أثواب الدّجى ورمى ... حلي النجوم وأضحى فيك عريانا وكلّ ساجعة في الأيك نائحةٌ ... تملي من الوجد في الأشجار أشجانا أتت دمشق بك الأخبار من حلب ... يا بئس ما خبّر النّاعي وناجانا وددت من حرقتي لو كنت ذا شجن ... لو أنّ للصخر قبل اليوم آذانا تكاد تبكي المعالي فيك من جزعٍ ... بالدمع لو وجدت للدمع أجفانا من للظلام إذا نام الأنام غدا ... يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا ومن لمحرابك الزاكي فليس يرى ... من بعد فقدك فيه قطّ إنسانا كم قد ختمت كتاب الله متّعظاً ... وفي تدبّره كم رحت ولهانا وكم حثثت الخطا نحو الصلاة لأج ... ل الصفّ الأوّل في الأسحار عجلانا تواظب الصّوم في يوم الخميس وفي ال ... إثنين حتى لقد أمسيت خمصانا وكم ممالك قد دبّرت حوزتها ... فكنت خير وزير قطّ ما خانا وتستقيم بك الأحوال ماشيةً ... حتى تفيض بك الأموال طوفانا لله درّك كم جمّلت مدرسةً ... وبالكتابة كم شرّفت ديوانا فكنت في الجود غيثاً والهدى علماً ... وفي الحجى حجة والعلم نهلانا ثم اعتزلت الورى من غير ما سبب ... إلا لتطلب من ذي العرش رضوانا ومن أراد من الأُخرى جواهرها ... أباع أعراض هذي المال مجانا وكان أربح مالاً عند خالقه ... وراج أرجح يوم الحشر ميزانا فاذهب فأيّ ضريح أنت ساكنه ... ترى التراب به روحاً وريحاناً ولم يمت من بنوه سادةٌ نجبٌ ... لما بنى مجدهم شادوه إتقانا وجمّلوا الملك إذ زانوا مناصبه ... وألبسوها من العلياء تيجانا إن كوتبوا أو لقوا أو خوطبوا وجدوا ... في الخط واللفظ في الهيجاء فرسانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بهاؤهم ما يباهي عزمه أحدٌ ... وفيهم شرفٌ باقٍ لهم زانا وما شهابهم خافٍ بمطلعه ... كما كمالهم قد حاز إحسانا تعزّ يا شرف الدين الذي قبضت ... يمنى علاه من العيّوق أرسانا بيانه ظاهرٌ لو أنّ رونقه ... للبدر لم يخش عند السّير نقصان تالله ما دار كأسٌ من بلاغته ... عليّ إلا أهزّ العطف نشوانا له عبارات نظمٍ كلّما سحبت ... ذيولها أعثرت في الحال سحبانا مثل العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا فالناس في حلب حلّت بهم بهمٌ ... وأصبح القوم خرساً في خراسانا فلا يرع لكم سربٌ بحادثة ... ولا رأى شأنكم خطبٌ ولا شانا ولا يكدّر لكم شربٌ بنازلة ... ولا حدت لكم الأحداث أضغانا تحفّكم بركاتٌ من تقاه فقد ... أخذتم منه حرزاً من سليمانا يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم لهذه النازله، والقلق لهذه الرزية التي جعلت الدموع هاميةً هامله، والجزع لهذه الحادثة التي تركت الجوانح حاميه، فليت القوى لو كانت حاملة ف " إنا لله وإنا إليه راجعون " قول من فقد جماله، وعدم صبره واحتماله، وفجعه الدهر بواحده الذي ما رأت عينه مثاله، فرحم الله ذلك الوجه الجميل، وقدس تلك السريرة التي كان الصفاء لها ألزم زميل، وما بقي غير الأخذ فيما وقع بالسنه، والصبر على فقد من أثار النار في الفؤاد وسكن الجنه، وقد جهز المملوك هذه القصيدة التي يسبح نونها من الهم في يم، ويشرح في هذا المأتم ما تم، إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يقبل الأرض وينهي ورود المثال الشريف يتضمن تعزي حسن لفظها، وأثر في القلوب وعظها، وتعين تسطيرها في صحائف الأفكار وحفظها، فوقف المملوك على محاسنها وأحاسنها، وشملته من مكامنها بميامنها، وتسلى بما حوت من مفصل الرثاء ومجموعه، وأسال من أجفانه دماً بدل دموعه، فيالها من رزية عظمت فيها المآتم، ومصاب كشفت حجبه السليمانية عن حزن له خاتم، وتحقق المملوك من أثناء أبيات القصيدة النونية بركات ذي النون، ونظر إلى نونها وقد غاص في بحر الفضائل فاستخرج دره المكنون، ولقد كتب المملوك جواب مولانا معترفاً فيه بالتقصير، مغترفاً من منهل فضله الغزير، وهو: جدّدت في القلب آلاماً وأحزانا ... أسالت الدّمع من جفنيّ طوفانا فاعجب لجفنٍ يفيض الماء مدمعه ... ومهجةٍ تلتظي بالحزن نيرانا عزّيتنا في أبينا فاكتسبت به ... أجراً وأوليتنا فضلاً وإحساناً أكرم به من أبٍ شاعت مناقبه ... في الناس واشتهرت بالجود إعلانا كم بات في ظلمات الليل منتصباً ... في خدمة الله يقضي الليل يقظانا كم ختمةٍ قد تلاها في النهار وكم ... أفنى الحنادس تسبيحاً وقرآنا ولازم الصّوم أوقات الهواجر لا ... يرتدّ عن صومه ديناً وإيماناً وكان يخشن في دين الإله تقىً ... عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا وكان يخشى ويرجى في ندىً وردىً ... والصّعب من رأيه تلقاه قد هانا شبنا وأذهلنا عظم المصاب به ... وكلّ صبّ به ذهل بن شيبانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 سارت جنازته والخلق تتبعها ... والحزن عمّهم فينا وغشّانا حتى ملائكة الرّحمن مذ علموا ... طاروا إليه زرافات ووحدانا نعى النّعاة وضجّوا بالنعيّ له ... فأورثوا القلب أشجاناً وأحزانا جار الزمان ولم يقصد بمصرعه ... إلا ليهدم للمعروف أركانا إن الخطوب التي ساقت منيّته ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا من ذا يوفّي علاه بالرثاء ولو ... كان المرثّي له قسّاً وسحبانا لم أقض بالشعر حقاً من علاه ولو ... نظمت في كلّ يوم فيه ديوانا لو قيل: من فاق أرباب الصّلاح تقىً ... كان الجواب: سليمان بن ريّانا إني لأعلم أنّ الله يجعله ... أوفى البريّة عند الله ميزانا حيّرتنا بمثال فيه تعزيٌ ... به اتّعظنا وعزّانا وسلاّنا فيه قريضٌ بديع النّظم مشتملٌ ... على معانٍ حسانٍ فقن حسّانا إن رمت تشبيهه بالرّوض كان له ... فضلٌ على الرّوض لا يحتاج برهانا الرّوض يذبل في وقتٍ ونظمك قد ... وقاه فكرك طول الدّهر ماشانا أو قلت ألفاظه مثل الكواكب لم ... أكن موفّيه بالأوصاف تبيانا إذ الكواكب في ضوء النهار أرى ... أنوارها تختفي في الجو أحيانا لكن أقول هذا العقد الثّمين وقد ... نظمت ألفاظه درّاً وعقيانا في أحمر الطرس قد سطّرت أحرفه ... كالدّرّ خالط ياقوتاً ومرجانا حفظت عهدك في حال الحياة ومن ... بعد الممات فحيّا الله مولانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 كذا تكون صفات الحرّ يحفط من ... عهد المودّة أصحاباً وإخوانا لا ذقت فقد حميم بعدها وحمت ... وقاية الله مولانا وإيانا سليمان بن حسن الشيخ حسام الدين بن بدر الدين، ابن الشيخ الكبير القدوة العارف غانم المقدسي. كان حسام الدين شيخ الحرم بالقدس، له همة وفيه مكارم، وعنده خدمة للناس. حدث عن الشيخ تقي الدين الواسطي. وسمع منه أمين الدين بن الواني. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده في شهر رجب سنة أربع وخمسين وست مئة. سليمان بن حمزة ابن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة: الشيخ الإمام المفتي شيخ المذهب، مسند الشام قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 سمع الصحيح حضوراً في الثالثة من ابن الزبيدي، وسمع صحيح مسلم وما لا يوصف كثرةً من الحافظ ضياء الدين، وربما عنده عنه ست مئة جزء. وسمع حضوراً من جده الجمال أبي حمزة، وابن المقير، وأبي عبد الله الإربلي، وسمع من ابن اللتي، وجعفر الهمداني، وابن الجميزي، وكريمة الميطورية وعدة. وأجاز له محمد بن عماد، وابن باقا، والمسلم المازني، ومحمود بن مندة، ومحمد بن عبد الواحد المديني، ومحمد بن زهير شعرانة، وأبو حفص السهروردي، والمعافى بن أبي السنان، والمقرئ ابن عيسى وخلق كثير. وخرج له ابن المهندس مئة حديث، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً فيه مصافحات وموافقات، وخرج له ابن الفخر معجماً ضخماً. وروى الكثير بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي، وتفقه بالشيخ شمس الدين وصحبه مدة. ودرس بالجوزيرة وغيرها. ولي الجوزية والقضاء عشرين سنة. ومن تلاميذه ولده قاضي القضاة عز الدين، وقاضي القضاة ابن مسلم، والإمام محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 العز، والإمام شرف الدين أحمد ابن القاضي، وطائفة. وسمع منه المزي، وابن تيمية، وابن المحب، والواني، والشيخ صلاح الدين العلائي، وابن رافع، وابن خليل، وعدد كثير. وقرأ طرفاً من العربية، وتعلم الفرائض والحساب، وحفظ الأحكام لعبد الغني، والمقنع. وكان حاكماً عادلا، لا يقبل في الحق عاذلا، وكان جيد الإيراد للدروس، خبيراً باجتناء ثمار العلم من الغروس، يحفظ درسه من ثلاث مرات أو أكثر، ويسرده كأنه عقد تنضد إذا كان عند غيره قد تبعثر. وبرع في مذهبه وجوده، وأجرى جواد ذهنه فيه على ما عوده. وكانت له معرفة تامة بتواليف الموفق، وإذا تكلم فيها رأيت الغصن رقص والطير غنى والنهر صفق. وتخرج به الأصحاب، وجر السحاب خلفه ذيله السحاب. وكان إذا أراد أن يحكم قال: صلوا على رسول الله، فإذا صلوا، حكم، وذل الخصم له ولو كان مروان بن الحكم. ولم يزل على حاله إلى أن قطع الله من الحياة أمله، والتقى التقي عمله. وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشري العقدة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وكان الجاشنكير قد عزله سنة تسع وسبع مئة بالقاضي شهاب الدين بن الحافظ، ولما حضر السلطان من الكرك اجتمع به وولاه. سليمان ابن داود ابن سليمان بن محمد بن عبد الحق، الشيخ الإمام الفاضل الأديب الفقيه الرئيس القاضي صدر الدين أبو الربيع ابن الشيخ ناصر الدين الحنفي. فقيه تأدب فبرع، وبلغ إلى الغاية من أول ما شرع، نظم سائر الفنون، وصدح في أيك الأدب والغصون. وقعدت معه التورية فأطربت، وزادت محاسن نظمه على الروض وربت. وكان مطرحاً عديم الوقفه، لا يكلف بالكلفه، ولا يأنس إلى وطن المناصب، ولا يفرق بين الشيعة والنواصب. قد أصبح في عالم الإطلاق، وتمسك بما يؤدي إلى مكارم الأخلاق. جاب البلاد، وجال بين العباد، ولم يدع شاماً إلا شام برقه، ولا عراقاً إلا ونبش عرقه، ولا حجازاً إلا كشف حجابه، ولا يمناً إلا وأم ملوكه وأربابه. وولي مناصب القضاء وغير ذلك، وانسلخ من الجميع يقول: وما الناس إلاّ هالكٌ وابن هالك طالما تمزر الفقر وتمزق، وأنف من ذلك فتزود للرتبة العالية وتزوق: يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّياً فعدناني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ولم يزل ينجد ويغير، ويقطع الآفاق بالمسير، حتى ابتزه الدهر ثوب حياته، والتقطه طائر الموت فيما التقط من حباته. وتوفي رحمه الله تعالى في أول سنة إحدى وستين وسبع مئة بالمهجم من بلاد اليمن. ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة. قرأ القرآن على الشيخ مبشر الضرير، وسمع على أشياخ عصره مثل الحجار، وابن تيمية، والمزي، وغيرهم. وقرأ المنظومة على عمه القاضي برهان الدين بن عبد الحق وحفظها، وقرأ ألفية ابن معطي، وحفظ النكت الحسان في النحو، وعرضها على مصنفها شيخنا أبي حيان، وكتب له عليها، وأثنى عليه، وعلق عليها حواشي من أولها إلى آخرها بخطه من كلام الشيخ، وبحث الأصلين على الشيخ صفي الدين الهندي بدمشق، وعلى تاج الدين بن السباك ببغداد، وقرأ تلخيص المفتاح على الخيلخاني. ودخل بغداد سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، واجتمع بفضلائها. وسافر إلى خراسان والري، وعاد إلى مادرين. ثم رد إلى القاهرة ثانياً، وكان قد دخلها أولاً مع عمه قاضي القضاة برهان الدين، وكان يقرأ له الدرس في مدارسه بالقاهرة، وأذن له في الإفتاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 ودرس بالديلمية، وحضر درسه أول يوم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وبقية القضاة. ودخل اليمن سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعدما حج، واجتمع بصاحبه، فأقبل عليه وأنس به، ورأيت خطه إليه في عدة أوراق بآداب كثيرة ولطف زائد وخوله نعماً أثيلة. وباشر عندهم، ثم إنه تزوج بابنة الوزير، وحد صحبة الملك المجاهد صاحب اليمن في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فجرت لهم تلك الأحوال ونهبوهم. أخبرني صدر الدين من لفظه قال: عدم لي في البر والبحر ما قيمته خمسة وعشرون ألف دينار. وحضر إلى دمشق ومعه جملة من الجواهر الثمينة. ثم إنه توجه إلى القاهرة، وسعى في أيام الأمير سيف الدين شيخو، فباشر توقيع الدست بالقاهرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة - فيما أظن - وبعد قليل رسم له بنظر الأحباس مع توقيع الدست. وجرت له حركة بسبب جاري تزوجها من جواري السلطان تخلخل أمره فيها ثم سكن، فلما أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش أخرجوه إلى دمشق موقعاً في سنة ستين أوائلها، فجاء إليها ولم يباشر شيئاً، وأقام في دمشق لا يظهر، إلى أن سافر منها واختفى خبره، ثم ظهر أنه مقيم بنابلس لا يظهر، ومعه مملوك له مليح الصورة يدعى طشتمر، ثم توجه إلى الحجاز سنة ستين وسبع مئة، ثم إنه دخل اليمن ومملوكه معه، فلما وصل إلى المهجم توفي رحمه الله تعالى. قيل: إنه قتل لأنه كان معه قطعة بلخش عظيمة، كان يدعي أنها لصاحب اليمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وكان قد تولى القضاء ببغداد وبماردين أيضاً. وكان رحمه الله تعالى عديم الكلفة، مطرحاً للرئاسة، يمشي في باب اللوق، ويمشي تحت قلعة دمشق، وكان هشاً بشاً، رضي الأخلاق. اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وكان جيد النظم، تقعد معه التورية والاستخدام وصناعة البديع، وجود فنون الشعر من الموشح والزجل والمواليا والقريض وغير ذلك. أنشد لنفسه بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة: أيري كبيرٌ والصّغير يقول لي: ... اطعن حشاي به وكن صنديدا ناديت هذا لا يجوز، فقال لي: ... عندي يجوز، فنكته تقليدا وأنشدني لنفسه سنة اثنين وخمسين وسبع مئة: عشقت يحيى، فقال لي رجلٌ: ... لم يبق فيك من الغرام بقيّا تعشق يحيى تموت، قلت له: ... طوبى لصبّ يموت في يحيى وأنشدني لنفسه: قال حبيبي: زرني ولكن ... يكون في آخر النهار قلت أُداري الورى وآتي ... لأيّ دارٍ فقال: داري وأنشدني لنفسه: طال حكّي وعندما ... قلت: خذه لوقته ضرط العلق ضرطةً ... دخل الأير في استه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وأنشدني لنفسه: سموت إذ كلمتني ... سلمى بغير رساله وقال صحبي: تنبّا ... وكلمته الغزاله وأنشدني لنفسه: من يكن أعمى أصما ... يدخل الحان جهارا يسمع الألحان تتلى ... ويرى الناس سكارى وأنشدني لنفسه: بدا الشّعر في الخدّ الذي كان مشتهى ... فأخفى عن المعشوق حالي وما تخفى لقد كانت الأرداف بالأمس روضةً ... من الورد وهي اليوم موردة الحلفا وأنشدني لنفسه: يا رسول الحبيب غث مستهاماً ... مغرماً يعشق الملاح ديانه حدّث الخائف الكئيب من الهج ... ر فهو ممن الحديث أمانه وأنشدني لنفسه: وقائلةٍ يوم الوداع أرى دماً ... تفيض به عيناك، ناديت لا أدري ألم تعلمي أنّ الفؤاد لبيننا ... يذوب وأنّ العين لا بدّ أن تجري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وأنشدني لنفسه: وإلام أمنحك الوداد سجيّةً ... وأبوء بالحرمان منك وبالأذى ويولمني فيك العذول وليس لي ... سمعٌ يعي وإلى متى نبقى كذا وأنشدني لنفسه: يقول نديمي عن نضوحٍ بكفّه ... لقد فضح الصّهبا وجلّ عن الخبث فقلت: هو المطبوخ من حسدٍ لها ... ألم تره قد صار منه إلى الثّلث وأنشدني لنفسه: ضيّعت أموالي في سائبٍ ... يظهر لي بالودّ كالصّاحب لمّا انتهى ما لي انتهى ودّه ... واضعية الأموال في السّائب وأنشدني لنفسه: وساحر طرفٍ عقربٌ فوق صدغه ... تدبّ إلى قلبي ولم أملك النفعا وحيّة شعرٍ خلفها نحو مهجتي ... يخيّل لي من سحرها أنّها تسعى وأنشدني لنفسه: لمّا حكى برق النّقا ... لمعان ثغرك إذ سرى نقل الغمام إليك عن ... دمعي الحديث كما جرى وأنشدني لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 حظّ عينيّ من الدّنيا القذى ... وفؤادي حظّه منها الأذى ولكم حاولت فيها راحةً ... ما أراد الله إلا هكذا وبيني وبينه مكاتبات ذكرتها في كتابي ألحان السواجع، وعلقت من شعره كثيراً مما أنشدنيه من لفظه لنفسه من الموشحات والمواليا وغير ذلك وجميعه في التذكرة التي لي. سليمان بن داود بن سليمان أمين الدين رئيس الأطباء بدمشق. كان سعيد العلاج، عديد السعد برأيه والابتهاج، أول ما ظهر به من المعرفة واشتهر، وشاع عنه أنه قد جاد وقهر، لما طلب إلى طرابلس لمعالجة أسندمر نائب طرابلس، فإنه وجده في الصيف في مثل ساحل طرابلس، وهم قد أدخلوه في خركاة وألبسوه فروة للمنام ثقيلة ومرضه حاد، فأمر بإخراجه من الخركاة، ونزع الفروة وحلق رأسه، وأخذ في علاجه بما يصلح به مزاجه، فصح وعوفي، وأعطاه شيئاً كثيراً، فاشتهر حينئذ أمر الأمين سليمان. وأنا اجتمعت به بدمشق والديار المصرية غير مرة، وبحثت معه، فوجدته رجلاً خبيراً بالعلاج لا على القواعد، بل أخذ ذلك بسعد يرشده له، وفطنة تؤديه إليه، ولم أجده يعرف شيئاً من الحكمة. وزرت أنا وهو الآثار النبوية التي برباط الصاحب تاج الدين محمد بن حنا في المعشوق. ولما توجه قاضي القضاة القزويني إلى الديار المصرية وجد عند السلطان تطلعا إلى عافية القاضي علاء الدين بن الأثير لفالج أصابه، فقال القاضي للسلطان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 يا خوند: أمين الدين سليمان الطيب بدمشق داوى ولدي عبد الله من هذا المرض وبرئ منه. فطلبه السلطان إلى القاهرة، ولازم ابن الأثير، فما أنجب فيه علاج، لأنه كان قد تحكم فيه المرض، وعاد إلى دمشق في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكان يسمر عند الصاحب شمس الدين بن غبريال، ويلعب الشطرنج بين يديه كل ليلة، ويلازمه في النزهة وغيرها، وكان قد حصل أموالاً عديدة وكتباً عظيمة. ولم يزل على حاله إلى أن أعيي العلاد داؤه، وفقده صحبه وأوداؤه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة في يوم السبت سادس عشري شعبان. وكان قد سمع على شيخه كمال الدين الدنيسري شيئاً من الحديث بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي. ودفن بالقبيبات قبلي دمشق. سليمان بن عبد الحليم بن عبد الحكيم الشيخ الإمام العالم الفاضل صدر الدين الباردي، بالباء الموحدة وبعد الألف راء ودال مهملة، المالكي الأشعري. كان فقيهاً في مذهب مالك، سديد الطرق في علمه والمسالك، أفتى على مذهب إمامه مالك رضي الله عنه زمانا، والتقط الناس من فتاويه دراً وجمانا، وكان من بقايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 العلماء وسلف الفضلاء، أشعري العقيدة، لا يقدر أحد على أن يكيده، وكان يصحب أكابر الشافعية ومن فيه ذكاء أو ألمعية. ولم يزل على حاله إلى أن فترت من الباردي حركاته، واستولت عليه سكناته. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد خامس جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. وكان يدرس بالشرابيشية. وقلت أنا فيه: من بعد صدر الدّين صدري ضاق بل ... قد ذاق فرط جوىً وحزن زائد ومن العجائب أن قلبي يلتظي ... بالنار من حزني لأجل الباردي سليمان بن عبد الرحمن ابن علي بن عبد الرحمن الشيخ الإمام العالم نجم الدين أبو المحامد النهرماوي - بالنون والهاء والراء والميم والألف والواو - الحنبلي قاضي القضاة ببغداد. قال الحافظ نجم الدين الدهلي: سمع ببغداد جميع الأربعين الطائية على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 المسند أبي البركات إسماعيل بن علي بن أحمد بن الطبال الأزجي بسماعه ممن جمعها الإمام أبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي، وحدث بها ببغداد، وسمعها جماعة، منهم نجم الدين الدهلي. وكان المذكور شيخ الحنابلة ببغداد وفقيههم ومدرسهم، تفقه على شيخ الإسلام تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي بكر الزريراني، وكان يثنى عليه بمعرفة الفقه. ودرس للحنابلة بالمستنصرية، وباشر القضاء مع التعفف والصيانة والتقشف، ولم يحكم بين الناس قبل موته بمده. ثم إن ولده استقل بالقضاء في حياته فسده، وولي التدريس أيضا، وأفاض الخير فيضا. ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن فغر القبر له فمه، وحلم إليه فالتقمه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ببغداد. ومولده تقريباً سنة سبع وأربعين وست مئة. سليمان بن عبد القوي ابن عبد الكريم بن سعيد الطوفي، بالطاء المهملة والواو. كان فقيهاً حنبليا، عارفاً بفروع مذهبه مليا، شاعراً أديبا، فاضلاً لبيبا، له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 مشاركة في الأصول، وهو منها كثير المحصول، قيماً بالنحو والفقه والتاريخ ونحو ذلك، وله في كل ذلك مقامات ومبارك. ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان شيعياً يتظاهر بذلك، ووجد بخطه هجو في الشيخين رضي الله عنهما. وكان قاضي القضاة الحاري يكرمه ويبجله ورتبه في مواضع من دروس الحنابلة، وأحسن إليه. ثم وقع بينهما، وكلمه في الدرس كلاماً لا يناسب الأدب، فقام عليه ابنه شمس الدين، وفوضوا أمره إلى بدر الدين بن الحبال، وشهدوا عليه بالرفض، فضرب، وتوجه من القاهرة إلى قوص، وأقام بها سنين. وفي أول قدومه نزل عند بعض النضارى وصنف تصنيفاً أنكرت عليه ألفاظ فغيرها. قال: ولم نر منه بعد ولا سمعنا شيئاً يشين. ولم يزل ملازماً للاشتغال وقراءة الحديث والمطالعة والتصنيف وحضور الدروس معنا إلى أن سافر من قوص إلى الحجاز. وكان كثير المطالعة، أظنه طالع أكثر كتب خزائن قوص، وكانت قوته في الحفظ أكثر منها في الفهم. وصنف تصانيف منها: مختصر الترمذي، واختصر الروضة في أصول الفقه تصنيف الشيخ الموفق، وشرحها، وشرح الأربعين النووية، وشرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 التبريزي في مذهب الشافعي وكتب على المقامات شرحاً رأيته يكتب فيه من حفظه، وما أظنه أكمله، وصنف في مسألة كاد، وسماه إزالة الإنكاد، وتكلم على آيات من الكتاب العزيز. ومن شعره: إن ساعدتك سوابق الأقدار ... فأنخ مطيّك في حمى المختار هذا ربيع الشهر مولده الذي ... أضحى به زند النبوّة وار هو في الشهور يهشّ في أنواره ... مثل الربيع يهشّ بالأنوار ومن قصيدة يهجو فيها بلاد الشام: قوم إذا حلّ الغريب بأرضهم ... أضحى يفكّر في بلاد مقام بثقالة الأخلاق منهم والهوى ... والماء وهي عناصر الأجسام ووعورة الأرضين فامش وقع وقم ... كتعّثر المستعجل التّمتام لا غرو إن قست القلوب قلوبهم ... واستثقلوا خلقاً لدى الأقوام فجوار قاسيّون هم وكأنهم ... من جرمه خلقوا بغير خصام قالوا: لها في المسندات مناقبٌ ... كتبت بها شرفاً حليف دوام أهل الرواية أثبتوا إسنادها ... من كل حبر فاضل وإمام قلت: الأماكن شرّفت لا أهلها ... لخصوصة فيها من العلاّم أرض مشرّفة وقوم جيفةٌ ... فالكلب حل بموطن الأجرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 سليمان بن عثمان الصدر الرئيس فخر الدين بن فخر الدين، ابن الشيخ الإمام صفي الدين أبي القاسم محمد بن عثمان البصروي. ولي حسبة دمشق وأقام فيها إلى أن عزل منها بابن الحداد في سابع ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، فأقام بدمشق مدة يسيرة أياماً قلائل. وتوفي في سابع عشري السهر المذكور، وحمل إلى بصرى ودفن بها. وكان قد توجه إلى الديار المصرية فتوفي بالبرية. وكان شاباً كريماً حسن الأخلاق. سليمان بن عبد الكافي الصدر الرئيس القاضي جمال الدين. كان فيه عقل وسكون، وحياء وحشمة. ولاه الأمير سيف الدين تنكز نظر ديوانه ونظر البيمارستان النووي بعدما عزل القاضي جمال الدين يوسف شقير وصادره وأخذ ماله في شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. واستمر ابن عبد الكافي في نظر ديوان تنكز إلى أن أمسك، ولما حضر الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق أمسك عبد الكافي في جملة مباشري تنكز، وأخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم باليد القوية، ثم إنه فيما بعد ولي استيفاء معاملة فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 سليمان بن عسكر بن عساكر علم الدين أبو الربيع المنشد الحوراني نقيب المتعممين بدمشق. كان يحفظ أكثر ديوان الصرصري في مدائح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان يحضر الأفراح والولائم، والختم والمآتم، وكل جمع يكون، وكل مكان يعلم أنه له فيه زبون، لا يكاد يفوته موضع، لا ينجو من خفه موقع، ومهما جرى في ذلك المجلس، أنشد هو من المدائح ما يوافق ذلك ويؤنس، ويحضر دروس الغزاليه، ويقوم عقيب الفراغ وينشد قصيدة حاليه، ويحج كل سنة، ويكون في الركب مؤذنا، ويقوم على كل من يموت موبنا، وينشد ما يحفظه جيداً من غير لحن ولا تحريف، ولا خروج عن قواعد التصريف، إلا أن الناس كانوا يستثقلونه، ويبخسون حظه ويهملونه. ولما مات ما قام مقامه أحد، ولا خلفه من اعترف بفضله أو جحد. ولم يزل على حاله إلى أن نشد فما وجد ضائعه، وكسدت بعده بضائعه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وكان قد سمع وروى عن عمر بن القواس. وكتبت له مرسوماً على ظاهر قصة، وقد توجه مؤذناً بالركب، ونسخة ذلك: لأنه المنشد الذي أضحت قصادئه غاية المقصود، والمطرب الذي يقال فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 هذا سليمان: وقد أوتي مزماراً من مزامير داود، والحافظ الذي يعرب إنشاده، والفصيح الذي يعلو به النظم إن شاده. لو سمعه الصرصري لعلم أنه فيما يورده متبصر، ويحقق أن السامعين له إذا بكوا وخضعوا عرانيق ماء تحت باز مصرصر كم حرك ساكن القلوب بلفظه البديع، وأجرت عبارته العبرات من بحره السريع، وجعل المحافل رياضاً لأنه أبو الربيع، فليؤذن آذاناً إذا سمعه الركب أقام، وقالوا: هذا المؤذن الذي للناس كلهم إمام، والله يرزقنا شفاعة من يجلو علينا مدائحه، ويفيض علينا في الدنيا والآخرة منائحه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وكان قد حضر بعض أفاضل العصر من مصر ورأى ما يفعله علم الدين المذكور من الإنشاد في المجامع، فأنكر ذلك، وأنشدني: أهل دمشق منهم ... قد ضاع مالا يوجد فكلّما تجمّعوا ... يقوم فيهم منشد قلت: هذا خطأ فاحش في التصريف، فإنه يقال: نشد الضالة فهو ناشد، وأنشد قصيدة فهو منشد، وأنت هنا تريد من نشدان الضالة فهو حينئذ ناشد. سليمان بن عمر بن سالم ابن عمرو بن عثمان الشيخ الإمام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 الشافعي، عرف بذلك لأنه حكم بزرع مدة. سمع من ابن عبد الدايم، والكمال أحمد بن نعمة، والجمال بن الصيرفي، وجماعة. وولي قضاء شيزر مدة، وناب عن القاضي بدر الدين بن جماعة بدمشق ومصر، ولما قدم السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مئة عزل قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وولى القاضي جمال الدين قاضي القضاة بالديار المصرية عوضه، فحكم فيها سنة، ثم إن السلطان أعاد ابن جماعة وبقي القاضي جمال الدين على قضاء العسكر ومدارس بيده. ثم إنه جهزه إلى الشام قاضي القضاة بعد نجم الدين بن صصرى، ثم إنه صرف بعد سنة بقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وبقي بيد القاضي جمال الدين بدمشق مشيخة الشيوخ وتدريس الأتابكية، وباشرهما في شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وكان البريد قد جاء بعزله في خامس عشري شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة. وبقي في العادلية خمسة عشر يوماً انتقل إلى الصالحية. ولم يزل على وظائفه إلى أن توجه إلى الديار المصرية في خامس عشري القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وولي الأتابكية بعده الشيخ محي الدين بن جهبل، وكان في ولايته بدمشق فيه صرامة وعفة وقلة مخالطة للناس، وعليه سكينة ووقار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وسمع الحديث من النجم محمد بن النشبي، وخرج له شيخنا البرزالي جزءاً من اثنين وعشرين شيخاً، حدث به بدمشق والقاهرة. وأصله مغربي. وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب في يوم الجمعة ثامن عشر صفر. وكانت وفاته بالقاهرة رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. سليمان بن قايماز بن عبد الله الشيخ الصالح أبو الربيع عتيق كافور النوري. قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً، سمعنا عليه بحلب ودمشق، وروى لنا عن ابن رواحة جزء ابن ملابس، وكان مقيماً بالمدرسة الأتابكية ظاهر حلب. توفي رحمه الله تعالى رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة بحلب. سليمان بن محمد بن عبد الوهاب الرئيس الصاحب فخر الدين أبو الفضل الشيرجي الأنصاري الدمشقي. سمع من الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وشرف الدين المرسي، ولم يحدث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وتعانى الكتابه، وكان من أعيان الرؤساء بل رأساً لتلك العصابه. فيه كرم، ولنار جوده ضرم، وعنده سؤدد وحشمه، وله رونق وطلاوة في النعمه، وولي نظر الدواوين، وجلس في صدور الدواوين. ولما جاء التتار إلى دمشق في واقعة غازان، وبدا منهم في حق أهل دمشق ماشان لا مازان، ألزموه بوزارتهم، وأدخلوه في جزارتهم، فدخل في ذلك مكرهاً كالذي حاذى، وتجنب الظلم وما آذى. ولما رحلوا نزل به حتفه، ورغم بالدخول في القبر أنفه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شهر رجب، ومشى الأعيان في جنازته إلى باب البريد، فورد مرسوم أرجواش نائب قلعة دمشق ورد الناس ومنعهم من المشي مع الجنازة، وضربوهم، ولما وصلت الجنازة إلى باب القلعة أُذن لولده شرف الدين في اتباعها. سليمان بن محمد بن موسى بن سليمان فخر الدين، ابن القاضي عماد الدين محمد ابن القاضي. كان فخر الدين هذا يخدم في الجهات الديوانية، ثم إنه بطل بعد ذلك وخدم في ديوان الإنشاء، وكتب به مدة، ثم إنه توجه مع والده إلى الديار المصرية، وأقاما هناك، ثم دخل ديوان الإنشاء وكتب بالقاهرة، ثم إنه كتب الدرج مع الوزير، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وحضر مع الوزير لما حضر السلطان في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، وعاد معهم، ثم إن نائب الشام كتب فيه يسأل أن يكون ناظر الحسبة بدمشق عوضاً عن أبيه، فرسم له بذلك، وخلع عليه، وكتب توقيعه بذلك ولم يبق إلا سفره، فانقطع ثلاثة أيام. وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وسبع مئة. وكان شكلاً حسناً عاقلا، ذاكراً للرئاسة ناقلا، يكتب خطأ جيدا ويعتني بما يكتبه متأيدا، إلا أنه ما سمعت له إنشاء، ولا ارتدى منه ظهارة ولا غشاء، وتجرع والده فقده، وعدم به من الحياة نقده، وتألم له أصحابه، وتربت يدا أترابه لما طمه ترابه، رحمه الله تعالى. سليمان بن مهنا ابن عيسى الأمير علم الدين أمير العرب، قد تقدم ذكر أخيه أحمد، وسيأتي ذكر أخيه موسى ووالده مهنا إن شاء الله تعالى كل منهما في مكانه، وهو شقيق أحمد. كان علم الدين هذا سليمان من الشجعان، والأبطال الفرسان، زائد الكرم والجود، ليس لنسمات مكارمه ركود، وكان المسلمون والمغل يخشونه ويهابونه، ويدارونه ويخافونه، يأكل إقطاع صاحب مصر ويأخذ أنعامه، وإقطاع ملك التتار وإنعامه، ولا يزال له بالبلاد الفراتية نواب وشحاني، وغلمان يستخرجون له الأموال من القفول وسكان المغاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وكان قد توجه مع قراسنقر إلى بلاد التتار، وأقام هناك سبع عشرة سنة، وله فيها ظهور واستتار، وجاء مع خربندا إلى الرحبة وكان مع المغل، وله مع حربهم على الإسلام عمل وشغل، ثم إنه عاد إلى بلاد الإسلام في سنة ثلاثين وسبع مئة أو ما قبلها، وعاد ودخل في الطاعة وأنعم السلطان عليه بإقطاع ولم يؤاخذه، ثم إنه ولي إمرة آل فضل بعد أخيه موسى. ولم يزل على ذلك إلى أن قر جن سليمان وسكن فما نبس، وصح موته وما التبس. وتوفي رحمه الله تعالى ظهر يوم الاثنين خامس عشري شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ورسم الصالح إسماعيل لسيف بن فضل بالإمرة، واعتقل أخاه أحمد بن مهنا، على ما مر في ترجمته. ولما عاد سليمان إلى بلاد المسلمين أقام ببلاد الرحبة وما حولها، وكان أبوه وعمه فضل وإخوته يرفدونه بالذهب وغيره، ويخوفونه من السلطان ويحذرونه من الوقوع في يده، وأخذوا يتعيشون به على السلطان ويمنونه بإحضاره، فلما فهم سليمان ذلك ركب بغير علمهم وما طلع خبره إلا من مصر، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يأخذون الإقطاعات والإنعامات من السلطان بسببي، وخير من فيهم يسير إلي مئتي دينار، فإذا رحت أنا إلى السلطان زال هذا كله، ولما وصل أقبل عليه السلطان وأمر له بإقطاع يعمل أربع مئة ألف درهم وأنعم عليه بمئتي ألف، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أخوه بالقعرة، وكان في أيام الفخري وهو مع ألطنبغا في حلب فقال: أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أتوجه إلى الفخري، فجاء إلى الفخري وهو نازل على خان لاجين، وتحيز له وأعرض عن ألطنبغا، وتوجه من دمشق إلى الناصر أحمد بالكرك، ورسم له بالإمرة عوض أخيه موسى، فاستقل بإمرة آل فضل إلى أن توفي سليمان بظاهر سلمية. وكان مفرط الكرم، حكى الأمير حسام الدين لاجين الغتمي النائب بالرحبة قال: كنت والي البر بالرحبة، وكان سليمان بن مهنا قد أغار على قفل فأخذه في البرية، وجاء إلى الرحبة فجهزت إليه رأس غنم، وأحضرت له من سنجار حمل شراب، فلما أكل وشرب وانتشى قليلاً قال لي: يا حسام خذلك هذه الفردة، فأختها، فوجدتها ملأى من القماش الإسكندري، قال: فبعت ما فيها بتسعين ألف درهم. وكان مقداماً شجاعاً، ومن إقدامه أنه عارض بريدياً وهو متوجه من بغداد ومعه جارية للسلطان الملك الناصر فأمسكها وافتضها وما انتطح فيها عنزان. وكان معاقراً للشراب ليلاً ونهاراً لا يفارقه. سليمان بن موسى بن بهرام تقي الدين السمهودي بن الهمام. كان فاضلاً عالما، فقيهاً فاضلاً من الشر سالما، نحوياً شاعرا، عروضياً ماهرا، لا يعرف له أستاذ، وله مع ذلك بصر في هذه العلوم ونفاذ، جيد الحفظ حسن الفهم، ينفذ في الفرائض نفوذ السهم، ويدري من الأصول مسائل بأدلتها، وفوائد بجملتها، وأما تعبده وتقشفه وصبره على الفقر وتعسفه، فأمر عجيب، وشيء يصبح القلب منه وبه وجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى من أماته ويحييه، ويسكنه الجنان ويحييه. وتوفي رحمه الله تعالى بسمهود في سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده في سنة ثمان وخمسين وست مئة. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي رحمه الله: وأنشدني لنفسه: لما في كلام العرب تسعة أوجه ... تعجّب وصف منكورةً وانف واشرط وصلها، وزد، واستعملت مصدريّةً ... وجاءت للاستفهام والكفّ فاضبط قلت: قد جمع بعض الأفاضل هذه التسعة في بيت وهو: تعجّب بما اشرط زد صل انكره واصفاً ... وتستفهم انف المصدريّة واكففا ومن شعر تقي الدين يمدح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أضاء النور وانقشع الظلام ... بمولد من له الشرف والتّمام ربيعٌ في الشهور له فخارٌ ... عظيم لا يحدّ ولا يرام به كانت ولادة من تسامت ... به الدنيا وطاب بها المقام نبيٌّ كان قبل الخلق طرّاً ... تقدّم سابقاً وهو الختام وله في العروض أرجوزة. سليمان بن موسى بن أبي العلاء الشيخ الصالح صفي الدين أبو العلاء الصوفي الكاتب. كان سامرياً، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، ثم إنه أقام عند الصوفية سنين، وكان يباشر شيئاً من وقفهم، ويعمل الحساب مع العامل لأنه كان فيه ماهراً وعارفاً خبيراً إلى الغاية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وله مقدمة في صناعة الحساب والديوان وما يحتاج، وباشر عدة جهات وحصل أموالاً، وكان قد أسلم في الدولة الأشرفية. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري شوال سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح الشيخ الإمام الفقيه المفتي القدوة الزاهد العابد القاضي الخطيب صدر الدين أبو الفضل القرشي الجعفري الحوراني الشافعي صاحب النووي. قدم دمشق مراهقاً، وحفظ القرآن بمدرسة أبي عمر على الشيخ نصر بن عبيد، ورجع إلى البلاد، ثم قدم بعد سبع سنين، وتفقه بالشيخ تاج الدين، وبالشيخ محيي الدين، وأتقن الفقه وأعاد بالناصرية وناب في القضاء لابن صصرى مدة، ولاه ابن صصرى نيابته في ثالث ذي القعدة سنة ست وسبع مئة عوضاً عن القاضي جلال الدين القزويني لما ولي خطابة الجامع الأموي، وولي خطابة العقيبة واكتفى بها. وكان أولاً خطيباً بداريا، يدخل دمشق على بهيم ضعيف. وحدث عن أبي اليسر والمقداد القيسي، وناب عن ابن الشريشي في دار الحديث. وكان مفرطاً في اتضاعه، على سمو قدره في العلم وارتفاعه، لم يغير ثوبه القطني ولا عمامته الصغيره، ولا رأى أحد في الحكم نظيره، إذا رأى أن الغريم ضعيف لا يقدر على أجرة رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 القاضي سعى هو بنفسه إليه وسمع جوابه، فأين يجد الناس هذا العلم أو هذا التقاضي، وربما توجه بنفسه إلى الشاهد وسمع شهادته وآثر بذلك فائدته وإفادته. وعينه الأمير سيف الدين تنكز للاستسقاء بالناس فاستسقى بهم، ورحم به العالم في ساعة الإبلاس. ولم يزل على حاله إلى أن نزلت على الداراني الدائره، ولحق بالأمم الخالية السائره. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده بقرية بسرى من السواد سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وكانت جنازته حفلة إلى الغاية. وكان يذكر نسبه إلى جعفر الطيار يعد بينه وبينه ثلاثة عشرة اسماً. وكان لا يدخل الحمام ولا يتنعم في مأكل ولا ملبس، وأظنه كان يجيد اللعب بالشطرنج، والله أعلم. سليمان القاضي علم الدين التركماني الحنفي قاضي حماة. أقام بحمص مدة مدرساً، ثم إنه نقل إلى قضاء حماة بعد وفاة القاضي نجم الدين بن العديم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وكان يعرف القراءات، وله مشاركة في العلم. توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة. اللقب والنسب ابن سلامة قاضي القضاة المالكي أحمد بن سلامة. السنباطي قطب الدين محمد بن عبد الصمد. سنجر الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى الأمير علم الدين التركي البرلي بالباء الموحدة والراء واللام، الدواداري. قدم من الترك في حدود الأربعين وست مئة. وكان شكله مليحا ووجهه صبيحا، خفيف اللحيه، ربعة من الرجال في البنيه، صغير العين، صناع اليدين، حسن الخلق، سهل الخلق، شجاعاً فارساً، مجادلاً لأهل العلم ممارسا، خيرا دينا، كاملاً صينا، مليح الكتابه، سريع الإقبال والإجابه، يحفظ الكتاب العزيز، ويؤثر تلاوته على الإبريز، فيه اصطناع للفضلاء، وتقديم للنبلاء، أنشأ جماعة من الأفاضل وقدم زمرة ممن يناظر أو يناضل. ولم يزل على حاله إلى أن انجر الموت إلى سنجر، وأصبح من تحت التراب والمحجر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شهر رجب بحصن الأكراد، ودفن هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وكان قد التجأ في الكسرة أيام غازان إليها. ومولده سنة نيف وعشرين وست مئة. قرأ القرآن على الشيخ جبريل الدلاصي وغيره. وحفظ الإشارة في الفقه لسليم الرازي، وحصل له عناية بالحديث وسماعه سنة بضع وخمسين، وسمع الكثير، وكتب بخطه وحصل الأصول. وخرج له المزي جزأين عوالي. وخرج له البرزالي معجماً ضخماً في أربعة عشر جزءاً، وخرج له ابن الظاهري قبل ذلك شئياً. وحج مرات. وكان يعرف عند المكيين بالستوري، لأنه أول من سار بكسوة للبيت بعد أخذ بغداد من الديار المصرية، وقبل ذلك كانت تأتيها الستور من الخليفة. وحج مرة هو واثنان على الهجن من مصر. وكان أميراً في الأيام الظاهرية، ثم أعطي أمرية بحلب، ثم قدم دمشق، وتولى شد الدواوين مدة، ثم كان من أصحاب سنقر الأشقر، ثم أمسك، ثم أعيد إلى رتبته وأكثر، وأعطي خبزاً وتقدمةً على ألف في أيام الأشرف، وجعل مشد الدواوين بالقاهرة في ذي القعدة سنة أحدى وتسعين وست مئة، وتنقلت به الأحوال وعلت رتبته في دولة الملك المنصور حسام الدين لاجين، وقدمه على الجيوش في غزوة سيس. وكان لطيفاً مع أهل الصلاح والحديث، يتواضع لهم ويؤانسهم ويحادثهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ويصلهم، وله معروف كثير وأوقاف بالقدس ودمشق، وكان مجلسه عامراً بالعلماء والشعراء والأعيان. وسمع الكثر بمصر والشام والحجاز، وروى عن الزكي عبد العظيم، والرشيد العطار، والكمال الضرير، وابن عبد السلام، والشرف المرسي، وعبد الغني بن بنين، وإبراهيم بن بشارة، وأحمد بن حامد الأرتاحي، وإسماعيل بن عزون، وسعد الله بن أبي الفضل التنوخي، وعبد الله بن يوسف بن اللمط، وعبد الرحمن بن يوسف المنبجي، ولاحق الأرتاحي، وأبي بكر بن مكارم، وفاطمة بنت الملثم بالقاهرة، وفاطمة بنت الحزام الحميرية بمكة، وابن عبد الدايم، وطائفة بدمشق. وهبة الله بن زوين، وأحمد بن النحاس بالإسكندرية، وعبد الله بن علي بن معزوز، وبمنية بني خصيب، وبأنطاكية، وحلب، وبعلبك، والقدس، وقوص، والكرك، وصفد، وحماة، وحمص، وينبع، وطيبة، والفيوم، وجدة، وقل من أنجب من الترك مثله وسمع من خلق. وشهد الوقعة وهو ضعيف، ثم التجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد فتوفي به هناك، هذا ما أخبرني به شيخنا الذهبي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وأما ما أخبرني به شيخنا أبو الفتح من لفظه، وكان به خصيصاً ينام عنده ويسامره، قال: كان الأمير علم الدين قد لبس بالفقيري وتجرد وجاور بمكة، وكتب الطباق بخطه، وكانت في وجهه آثار الضروب من الحروب، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج طلبه وهو فيه إلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءاً من أحاديث الجهاد، وقال: إن السلطان حسام الدين لاجين رتبه في شد عمارة جامع ابن طولون، وفوض أمره إليه، فعمره وعمر وقوفه، وقرر فيه دروس الفقه والحديث والطب، وجعل من جملة ذلك وقفاً يختص بالديكة التي تكون في وسط سطح الجامع في مكان مخصوص بها، وزعم أن الديكة تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في السحر، وضمن ذلك كتاب الوقف، فلما قرئ على السلطان أعجبه ما اعتمده في ذلك، ولما انتهى إلى ذكر الديكة أنكر ذلك، وقال: أبطلوا هذا، لا يضحك الناس علينا. وكان سبب اختصاصه بفتح الدين أنه سأل الشيخ شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري فما استحضر تاريخها، ثم إنه سأل أبا الفتح عن ذلك فأجابه، فحظي عنده وقربه، فقيل له: إن هذا تلميذ الشيخ شرف الدين فقال: وليكن. قلت: وغالب رؤساء دمشق وكبارها وعلمائها نشؤه. وجمع الشيخ كمال الدين الزملكاني مدائحه في مجلدتين بخطه أو واحدة. وكتب إليه علاء الدين الوداعي يعزيه في ولد اسمه عمر، ومن خطه نقلت: قل للأمير وعزه في نجله ... عمر الذي أجرى الدموع أجاجا حاشاك يظلم ربع صبرك بعد من ... أمسى لسكان الجنان سراجا وقال فيه، ومن خطه نقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 علم الدين لم يزل في طلاب العل ... م والزهد سائحاً رحّالاً فترى الناس بين راوٍ وراءٍ ... عنده الأربعين والأبدالا وقال لما أخذ له في دويرة السميساطي بيتاً: لدويرة الشيخ السميساطيّ من ... دون البقاع فضيلة لا تجهل هي موطنٌ للأولياء ونزهةٌ ... في الدين والدنيا لمن يتأمّل كملت معاني فضلها مذ حلّها ال ... علم الفريد القانت المتبتّل أني لأُنشد كلّما شاهدتها ... ما مثل منزلة الدويرة منزل وأنشدني إجازةً الحافظ شيخنا الفريد فتح الدين قال: أنشدني علم الدين الدواداري لنفسه: سلوا عن موقفي يوم الخميس ... وعن كرّات خيلي في الخميس شربت دم العدى ورويت منه ... فشربي منه لا خمر الكؤوس وجاورت الحجاز وساكنيه ... وكان البيت في ليلي أنيسي وأتقنت الحديث بكلّ قطرٍ ... سماعاً عالياً ملء الطّروس أُباحث في الوسيط لكلّ حبرٍ ... وألقى القرم في حرّ الوطيس فكم لي من جلادٍ في الأعادي ... وكم لي من جدالٍ في الطّروس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 سنجر الجمقدار الأمير علم الدين سنجر. كان أحد مقدمي الألوف أمراء المئين. وكان من جملة المشايخ أمراء المشور الذين يجلسون بحضرة السلطان. شيخ قد أنقى، وقارب ورود ما هو أبقى، عظيم الجثة طوالا، أعجمي اللسان لا يجيب سؤالا، سليم الصدر، كبير المنزلة في الدولة عالي القدر. نقله السلطان من مصر إلى الشام، وأتى به فجمل دمشق لما دخلها منشورة الأعلام. وكان هو أتابك العسكر، وصاحب الرخت الذي لا ينكر. وكان له برك هائل، وعزم في المواكب والحروب جائل. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن انتهى أمده، ومال من الحياة عمده. وتوفي رحمه الله تعالى .... وكان قد أخرجه السلطان، من مصر في سابع شعبان، سنة ثلاثين وسبع مئة على خبز الأمير سيف الدين بهادرآص. سنجر الأمير علم الدين الدميثري بضم الدال المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ثاء مثلثة وراء. توفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس سابع المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 سنجر الأمير علم الدين نائب قلعة دمشق المعروف بأرجواش، بهمزة مفتوحة وراء ساكنة وجيم مضمومة أو مفتوحة وواء بعدها ألف وشين معجمة. له مآنة على أهل دمشق لا بل على أهل الشام، ونعمة لا ينكرها إلا من انتجع برق المكابرة أو شام، فإنه ضبط القلعة في أيام غازان، وأخذ بما صان أمرها وزان، وتثبت في عدم تسليمها، ومد أظافير المناوشة لهم ولم يخش من تقليمها، وصبر على المحاصرة، ولم يجنح إلى المكاشرة والمكاسرة، وأقام قياماً يشكره الله له يوم القيامه، وحقن دماء المسلمين بما عنده من العزيمة القوية والصرامه. وقيل: إن ذلك كان بمعاونة قبجق له في الباطن، وملاحظته لذلك في الحال الساكن. وأياً ما كان فله فيه الفضل الأوفى، والثناء المستوفى. ولم يزل على حاله إلى أن أسلمه حصنه للمنايا، وتحكمت فيه يد الرزايا. توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري الحجة سنة إحدى وسبع مئة، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء والأعيان. ودفن في جبل قاسيون. كان نائب القلعة في أيام أستاذه الملك المنصور، ولم يخرج مدة ولايته من القلعة، ولا سير. وقيده الأشرف وألبسه عباءةً ليقتله، ثم عفا عنه وخلع عليه، وذلك في سنة تسعين وست مئة، وأعاده إلى النيابة، وكان ذلك بعد عود الأشرف من عكا. ولما اعتمد ما اعتمده في أمر القلعة أيام غازان عظم في النفوس، وكان التتار قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 طلعوا فوق سطوح دار السعادة، وتسلطوا على القلعة ورموها بالنشاب، فرمى عليهم قوارير النفط، فاحترقت الأخشاب، وسقطت بهم السقوف بهم السقوف في النار، وفعل ذلك بالعادلية ودار الحديث الأشرفية. وكان عبد الغني بن عروة الفقير يحكي عنه حكايات تدل على سلامة الباطن، وقد أوردت منها جانباً في ترجمة عبد الغني المذكور في حرف العين مكانه. سنجر الأمير علم الدين الجاولي بالجيم: كان أميراً كبيراً من أمراء المشور الذين يجلسون في حضرة السلطان، سمع وروى، وبزغ نجمه في الفضل وما هوى. وكان خبيراً بالأمور، مرت به تجارب الأيام والدهور، عارفاً بسياسة الملك وتدبيره، وفصل حاله وتحريره. ولي عدة ولايات من نيابات وغيرها، وكان فيها كافياً عارفاً بسبرها. وهو الذي مدن غزة ومصرها، وفتح عينها وبصرها، لأن الجاولي جاء ولياً في حماها، فعظم شأنها بولاية وحماها، وعمر بها قصراً للنيابة، فسيح الأرجاء، شاهق البناء، عالي الثناء، وعمر بها حماماً اتسع فضاؤه، وارتفع سماؤه، وتأرج هواؤه، وتموج ماؤه، وتفنن في الحسن بناؤه، وزهرت نجوم جاماته، وبهرت من رخامه زهرات خاماته. ثم إنه في النيابة الثانية عمر بها جامعا، لأنواع المحاسن جامعا، وبرقه يرى في سماء الإتقان لامعا، تسفل الثريا عن أهلة مئذنته المترفعه، وتبهت عيون النجوم في محاسن محرابه المتنوعه. وكان - رحمه الله تعالى - يذكر أصحابه في مغيبهم، ويوفر من إحسانه قدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 نصيبهم، ويكرمهم إذا حضروا، ويتمناهم إذا سافروا، ويستجليهم إذا سفروا. انتفع به جماعة من الكتاب والعلماء، وزمرة من الكبراء والأمراء. ولم يزل على حاله إلى أن جاء ولي الموت إلى الجاولي فتلقاه بالكرامه، وراح إلى الله على طريق السلامه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن بتربته التي على الكبش ظاهر القاهرة، وأسند وصيته إلى الأمير سيف الدين العلائي. وكانت جنازته حفلةً إلى الغاية. وفي أول أمره كان نائباً في الشوبك، ثم إنه نقل منها، وجعل أميراً في أيام سلار والجاشنكير. وكان يعمل الأستاذ دارية للسلطان الملك الناصر محمد، وكان يدخل إليه مع الطعام ويخرج على العادة. وكان يراعي مصالح السلطان ويتقرب إليه، فلما حضر من الكرك جهزه إلى غزة نائباً في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة عوضاً عن سيف الدين قطلقتمر صهر الجالق بعد إمساكه، وأضاف إليه الحديث في الساحل والقدس وبلد سيدنا الخليل - عليه السلام - وأقطعه إقطاعاً هائلاً، كانت إقطاعات مماليكه تعمل عشرين ألفاً وخمسة وعشرين ألفاً وأكثر. وعمل نيابة غزة على القالب الجائر، وكان القاضي كريم الدين الكبير يرعاه، وكذلك القاضي فخر الدين ناظر الجيش. وكانت مكاتباتهم ما تنقطع عنه في كل جمعة، بل مع كل بريد. وكان له إدلال على الكبار، فوقع بينه وبينه الأمير سيف الدين تنكز، فتراسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 عليه هو والقاضي كريم الدين الكبير، فأمسكه السلطان في ثامن عشري شعبان سنة عشرين وسبع مئة، فاعتقل قريباً من ثماني سنين، ثم أفرج عنه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة أو في سنة تسع وعشرين، وأمره أربعين فارساً مديدة، ثم أمره مئة، وقدمه على ألف، وجعله من أمراء المشور. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد، وكان هو الذي تولى غسله ودفنه. ولما تولى الملك الصالح إسماعيل جهزه إلى حماة نائباً، فأقام بها مدة تقارب ثلاثة أشهر، ثم رسم له بنيابة غزة، فحضر إليها وأقام بها مدةً تقارب مدة نيابة حماة، ثم طلب إلى مصر على ما كان عليه. وفي هذه النيابة لغزة شرع في عمارة الجامع بغزة وكمله لما كان في مصر، ولما كان في النيابة الأولى عمر ببلد سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام جامعاً، سقفه منه حجر نقر، وعمر بغزة حماماً هائلاً ومدرسة للشافعية، وعمر خاناً للسبيل بغزة، وعمر الخان العظيم الذي في قاقون. وهو الذي مدن غزة، وبنى بها بيمارستاناً، ووقف عليه عن الملك الناصر أوقافاً جليلة، وجعل النظر فيها لنواب غزة، وعمر بغزة الميدان والقصر، وبنى الخان بقرية الكتيبة، وبنى القناطر بغابة أرسوف. وهو الذي بنى خان سلار الذي في حمراء بيسان، وله التربة المليحة الأنيقة التي بالكبش، وجدد إلى جانبها عمارة هائلة، وكل عمائره طريفة أنيقة مليحة متقنة محكمة. ولما خرج نائب الكرك من مصر لنيابة طرابلس فوض إليه السلطان النظر على البيمارستان المنصوري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وآخر من توجه إلى الكرك لحصار الناصر أحمد الأمير علم الدين الجاولي، وجلس في الحصار على عادة من تقدمه، فلما كان في بعض الأيام طلع الناصر أحمد من القلعة وشيخه وسبه وأساء عليه الأدب، فقال الجاولي: نعم أنا شيخ نحس، ولكن الساعة ترى حالك مع الشيخ النحس، ونقل المنجنيق من مكانه إلى مكان يعرفه، ورمى به، فلم يخطئ القلعة، وهدم منها جانباً، وطلع العسكر منه إليها، وأمسك أحمد قبضاً باليد، وذبح صبراً، وجهز رأسه إلى الصالح. ولما خرج الأمير علم الدين الجاولي إلى دمشق في أيام سلار والجاشنكير لم يقدر سلار على رده لأجل البرجية، وكان الجاولي ينتمي إلى سلار ويحمل رنكه، وفي هذه المرة اشترى داره بدمشق التي هي الآن قبالة الجامع التنكزي من جهة الشمال، ووقع بينه وبين تنكز بسببها، فإنه أراد مشتراها منه، فما سمح له بذلك. وقد وضع الأمير علم الدين شرحاً على مسند الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وكان آخر وقت يفتي ويخرج خطه بالإفتاء على مذهب الشافعي. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة أو في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. سنجر الخازن الأمير علم الدين الأشرفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 كان الأمير علم الدين هذا فيه حشمه، وله ثروة زائدة ونعمه. يصحب الأفاضل، ويحب كل مناظر ومناضل، تنقل في المباشرة من الشد إلى ولاية القاهره، وربوع الثناء عليه في كل عامره. له ذوق وفهم، وعنده صدق حدس لا يخطئ العرض له سهم. ولم يزل على حاله إلى أن طويت صحيفة عمره، وفرغ الأجل من أمره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة السبت ثامن جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وكان السلطان قد ولاه شد الدواوين مع الصاحب أمين الدين، وكان يغري بينهما، ويوقع فيما بينهما، ويقول لهذا: أنا ما أعرف إلا أنت. ويقول لهذا كذلك، ولكن كان هذا علم الدين رجلاً عاقلاً، وفيه سياسة، وعزله من الشد، وولاه القاهرة، فتولاها وأحسن إلى الناس، ثم عزله في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وولى الأمير سيف الدين قديدار مكانه، فوجد الناس في أول ولايته شدةً، ثم لان جانبه. وأظن أن الخازن كان قد أمسك هو وبكتمر الحاجب وأيدغدي شقير وبهادر المعزي في سنة خمس عشرة وسبع مئة، والله أعلم. سنجر الألفي الأمير علم الدين، أحد الأمراء بدمشق. كان قد ولي نابلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وتوفي فجأة بالحسينية من وادي بردى في أوائل جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. سنجر مجد الدين الطبيب ببغداد، غلام ابن الصباغ. كان طبيباً فاضلاً، مهر في الطب وتقدم فيها وفي كتابة الدواوين ونظرها. ولي نظر المدرسة النظامية وغيرها، وحصل أموالاً جمة، وكان لا يمشي إلى المريض إلا بأجرة وافرة نحو ستة دراهم وأكثر. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة. سنجر الأمير علم الدين المصري أحد أمراء دمشق. توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وست مئة. قيل: إنه غص بشربة من المسكر - عفا الله عنه وسامحه -. سنجر بن عبد الله الناصري الأمير علم الدين، أحد أمراء الشام. كان أميراً مهيباً مشهوراً بالعقل والسكون، شجاعاً مقداماً معروفاً بكثرة الجهاد، ملازماً لما هو بصدده، قليل الدخول فيما لا يعنيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 أصابه زيار في حصار بلاد سيس في ركبته، فكسر العظم، فحمل إلى حلب، فمات في الطريق، وحمل ميتاً، ودفن بالمقام ظاهر حلب. وذلك في شهر رمضان سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان قد روى الحديث عن سبط السلفي. قال شيخنا علم الدين: سمعنا منه جزء موافقات الدهلي. سنجر الأمير علم الدين المنصوري أحد أمراء دمشق. توفي - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة سبع وسبع مئة، ودفن بالصالحية. وكان من أمراء طرابلس، فنقل إلى دمشق، وسكن بالديماس، وأقام بها شهرين وتوفي رحمه الله تعالى. سنجر الأمير علم الدين الحمصي تنقل في الولايات، وتوقل في ذرا النيابات، وباشر في مصر والشام، وتجملت به الليالي والأيام. وكان ذا عفة وأمانه، وحرمة وصرامة وصيانه، تخلص الحقوق في أيامه، ويخشى المباشرون من نقضه وإبرامه. ولم يزل على حاله إلى أن عزل من الحياه، ونودي عليه بالصلاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وكان قد نقل من دمشق إلى طرابلس، فتوفي - رحمه الله تعالى - ولم يدخلها. وكان قد باشر نيابة الرحبة، فأحسن إلى أهلها، وأنفق فيهم مستحقاتهم كاملة، وحمل منها إلى دمشق مئة ألف درهم في عام واحد، وهذا أمر لم نعهده في غير أيامه، بل دائماً يحمل من دمشق المال إلى الرحبة. ثم إنه جهز لشد الدواوين بحلب. ثم إنه طلب إلى مصر، وجعل مشداً مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير، ثم خرج إلى طرابلس مشداً، ثم توجه إلى حلب، ثم طلب لشد الدواوين بمصر، فأقام بها مدة، وسلم السلطان إليه الأمير بدر الدين لؤلؤ، فعاقبه، ثم أخرج إلى دمشق، وأقام بها مدة. ثم إنه استعفى من شد الدواوين بدمشق، وخرج إقطاعه لابن أيدغمش نائب دمشق، فتوجه منها إلى طرابلس، فمات قبل الدخول إليها. سنجر الأمير علم الدين البرواني أحد أمراء الطبلخاناه بالديار المصرية. وكان شجاعاً شهماً. توفي فجأة في الحمام في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن في القرافة. سنجر الأمير الكبير علم الدين الزراق كان من جملة أمراء دمشق، وكان يسكن بدار فلوس التي اشتراها الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وبناها وسماها بدار الذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 كان الأمير علم الدين قد توجه إلى الرحبة مجرداً، فتوجه وعاد ومرض ومات - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شعبان سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. سنجر الطرقجي الأمير علم الدين، أحد الأمراء بدمشق. كان ممن قدمه الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وأطنب في شكره وغالى، وكان ينتقل من الشد إلى غيره، ويعرض عنه، ثم يعود به إلى مدارج طيره. ولم يزل معه إلى أن غضب عليه غضبة مضريه، هتك فيها الحجب الشمسية والقمريه، وأبعده إلى طرابلس فكان فيها حتفه، ورغم بالموت بها أنفه. وتوفي - رحمه الله تعالى - حادي عشري جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ونقله ولده الأمير علي في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة إلى دمشق، ودفنه في تربته بالقبيبات. كان قد نقل من ولاية البلد إلى شد الدواوين في خامس شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعوض عنه في الولاية بصارم الدين إبراهيم الجوكنداري. ثم جهزه الأمير سيف الدين تنكز إلى ولاية الولاة بالصفقة القبلية في خامس عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وأعيد إلى الحجوبية الأمير علاء الدين أوران، وخلت دمشق مدة أشهر من شد الدواوين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الألقاب والنسب السنجري: الأمير سيف الدين بهادر. السنجاري: شهاب الدين الخطيب أحمد بن إبراهيم. سنقر بن عبد الله الزيني الشيخ الإمام المسند الخير المعمر علاء الدين أبو سعيد الأرمني القضائي الحلبي. اشتراه قاضي حلب زين الدين ابن الأستاذ، وسمع مع أولاده كثيراً، وكتبوا له في صغر وأنه لا يفهم بالعربي. ثم سمع في سنة خمس، وما بعدها سمع من الموفق عبد اللطيف وعز الدين بن الأثير، والقاضي بهاء الدين بن شداد، وابن روزبة. وسمع الثلاثيات من ابن الزبيدي بدمشق، وسمع ببغداد من الأنجب الحمامي، وعبد اللطيف بن القبيطي، وجماعة، وسمع بمصر من عبد الرحيم بن الطفيل، وأكثر عن ابن خليل، وسمع منه المعجم الكبير بكماله. وخرج له الشيخ شمس الدين مشيخة، وخرج له أبو عمرو المقاتلي، وأكثر عنه ابن حبيب وولداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وعمر وتفرد في الدنيا، وسمع الناس منه أشياء، وروى الكثير، وسمع منه ما هو عزيز من غيره، ومنه غزير. وما حدث ببعض مروياته، ولا حمل الكل من كلياته ولا جزئياته. ولم يزل على حاله إلى أن استقر سنقر في قعر لحده، ولم يكن في ذلك نسيج وحده. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس تاسع شوال سنة ست وسبع مئة. وحدث أكثر من ثلاثين سنة، وتفرد بأشياء. سنقر الأمير شمس الدين الجمالي مملوك الأمير جمال الدين آقوش الأفرم. أعرفه وهو في جملة البريدية، يسافر معنا في خدمة الأمير سيف الدين تنكز. ولما جاء الفخري، وجرى له ما جرى، جعل أخوه سيف الدين بهادر نائباً في بعلبك، ثم إنه أخذ طبلخاناة بعد موت الفخري فيما أظن. ولما توفي بهادر المذكور تعصب الجراكسة مع أخيه سنقر هذا، وخلصوا له الإمرة ونيابة بعلبك، فتوجه إليها. ثم إنه حضر في أيام الكامل من استخرج من شمس الدين قراسنقر المذكور ميراث سيف الدين بهادر الجمالي منه، فقام في القضية الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي والأمير فخر الدين أياز، وشهد له جماعة من أمراء دمشق بأنه أخوه، وخمدت القضية بعد أن عزل من النيابة ببعلبك، ثم إنه عاد إليها وباشرها جيداً إلى أن كتب الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى باب السلطان في ولاية الأمير بدر الدين بكتاش المنكورسي نيابة بعلبك، ونقل شمس الدين سنقر إلى طرابلس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 فورد المرسوم بذلك، فتوجه الأمير شمس الدين سنقر إلى طرابلس، فأقام بها ضعيفاً تقدير شهرين أو أكثر. ثم إنه قضى، ومر شخصه وانقضى. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أول شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. سنقر الأمير شمس الدين المنصوري الأعسر كان من كبار الأمراء في مصر والشام، وممن تجمل به الدول والأيام، عارفاً بما يتحدث فيه، خبيراً بالكلام الذي يخرج من فيه. وكانت له في الشام صورة كبيره، وعزمة شهيره، ومباشرة للأموال مثيره. ركب الأهوال ونكب، وسلب ماله وبين يديه سكب، ثم إنه انتصر، وشره في المباشرات وما اقتصر. وندب في المهمات مرات، وتولى الشد كرات. ولم يزل إلى أن ثبت إعسار الأعسر من حياته، وأصبح ثمر روحه في يدي جناته. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وسبع مئة. كان مملوك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري النائب بالشام، ودواداره، وكانت نفسه تكبر عن الدواداريه. ولما عزل مخدومه، وأرسل إلى مصر في الدولة المنصوريه، عرضت مماليكه على السلطان، فاختار منهم جماعة، منها سنقر هذا، فاشتراه وولاه نيابة الأستاذ درايه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وفي سنة ثلاث وثمانين وست مئة أمره بالشام، ورتبه في شد الديوان والأستاذ دارية. وأقام بالشام، وله سمعة زائدة وعظمة إلى أن توفي الملك المنصور، وتولى الأشرف، فكان في خاطر الوزير شمس الدين بن السلعوس منه، فطلب إلى مصر، وعوقب وصودر، فتوصل بتزويج ابنة الوزير، وكتب صداقها بألف وخمس مئة دينار، فأعاده إلى الحالة الأولى. ولم يزل إلى دولة الملك العادل كتبغا ووزارة الصاحب فخر الدين بن الخليلي، فقبض على الأمير شمس الدين المذكور وعلى الأمير سيف الدين أسندمر، وصودرا وأخذ من الأعسر قريباً من خمس مئة ألف درهم، وأهانه الوزير غير مرة، وعزله عن الشد بفتح الدين بن صبرة، وتوجه الأعسر صحبتهم إلى مصر. ولما وثب حسام الدين لاجين على كتبغا في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة، ورسم للأمير سيف الدين قبجق بنيابة الشام، ولي الأعسر الوزارة وشد الدواوين في شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة، ثم إنه قبض عليه، ثم ولي الوزارة بعد ذلك، وعامل الناس بالجميل، وتوجه لكشف الحصون في سنة سبع مئة أو في آخرها، ورتب عوضه في مصر عز الدين أيبك البغدادي. فاستمر الأعسر أمير مئة وعشرة مقدم ألف. وحج صحبة الأمير سيف الدين سلار. وتوفي بمصر بعد أمراض اعترته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وغالب مماليكه تأمروا بعده. وفيه يقول علاء الدين الوداعي لما سبق الناس والأمراء أجمعين في عمارة الميدان، ومن خطه نقلت: لقد جاد شمس الدين بالمال والقرى ... فليس له في حلبة الفضّل لاحق وأعجز في هذا البناء بسبقه ... وكلّ جواد في الميادين سابق وفيه يقول لما أمره السلطان بقطع الأخشاب من وادي مربين للمجانيق، ومن خطه نقلت: مربّين شكراً لإحسانها ... فقد أطربتنا بعيدانها ولولا الولاء لما واصلت ... ولا طاوعت بعد عصيانها أتانا بها وهي مأسورةٌ ... وآسرةٌ أسد غيطانها ولم نر من قبله غائراً ... أتى بالدّيار وسكّانها ولا عدمت عدله ملّةٌ ... يدبّر دولة سلطانها وفيه يقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل موشحاً، وهو: دمعي روى مسلسلا بالسّ ... ند عن بصري أحزاني لما جفا من قد بلا بالرّم ... د والسّهر أجفاني غزال أُنسٍ نافر ... سطت به التّمائم وغصن بانٍ ناضر ... أزهاره المباسم قلبي عليه طائر ... تبكي له الحمائم إن غاب فهو حاضر ... بالفكر لي ملازم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 كم قد لوى على الولا من موع ... د لم يفكر في عان وقد كفا ما قد بلى بالكم ... د والفكر ذا الجاني أزرى بغزلان النّقا ... وبانه وحقفه كم حلّ من عقد تقىً ... بطرفه وظرفه لم أنسه لمّا سقى ... من ثغره لإلفه سلاف ريقٍ روّقا ... في ثغره لرشفه قد احتوى على طلا وشه ... د ودرر مرجاني قد رصّفا وكلّلا ب ... البرد والزّهر للجاني أماله سكر الصّبا ... ميل الصّبا لقدّه وفكّ أزرار القبا ... وحلّ عقد بنده وسّدته زهر الرّبا ... وساعدي لسعده وبتّ أرعى زغبا ... من فوق ورد خدّه مثل الهوى هبّ على روضٍ ... ندي من طررٍ ريحاني قد لطفا حتى غلا م ... ورّد مزهّر نعماني خدٌّ به خدّ البكا ... في صحن خدّي غدرا وردّ لمّا أن شكا ... سائل دمعي نهرا كم مغرمٍ قد تركا ... بين البرايا عبرا يا من إليه المشتكى ... الحال تغني النّظرا زاد الهوى فانهملا دمع ... الصّدي كالمطر هتّان وما انطفا واشتعلا في ... كبدي كالشّرر نيراني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 يا فرحة المحزون ... وفرحةً لمن يرى إن صلت بالجفون ... وصدت من جفني الكرى فليس لي يحميني ... سوى الذي فاق الورى شمس العلا والدين ... أبي سعيدٍ سنقرا مولىً هوى كلّ علا وس ... ؤدد من معشر فرسان وقد صفا ثمّ حلا في الم ... ورد للمعسر والعان سنقر شاه الأمير شمس الدين المنصوري كان أميراً كبيرا، قد حوى مالاً غزيراً، وجوهراً نظيماً ومالاً نثيرا، واقتنى من السلاح والخيل ما يزيد في وصفه، ويكل اللسان وما وصل إلى نصفه. إلا أنه كان مبخلا، وإن كان مبجلا، ومذمما، وإن كان بالخز معمما. وكان به مرض مزمن، وتعلل مدمن، لا يزال به مصفرا، ونكد عيشه موفرا. ولم يزل به إلى أن أنزله في بطن جدثه، وأقام عدمه الدليل على حدثه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة سبع وسبع مئة. جاء إلى صفد نائباً في سنة أربع تقريباً، بعد الأمير سيف الدين بتخاص، وأقام بها نائباً إلى سنة سبع وسبع مئة، ورسم بعزله، وأن يجيء الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الكبير من الصبيبة إلى صفد نائباً، فما لحق المرسوم يجيء إلى صفد إلى أن توفي سنقرشاه - رحمه الله تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وكان يلبس زميطية حمراء، قيمتها نصف وربع درهم، فقيل له في ذلك، فلبس قبعاً مزركشاً، وقال: من أنا؟ فقالوا: الأمير سنقرشاه المنصوري، فخلعه، ولبس تلك الزميطية، وقال: من أنا؟ فقالوا كما قالوا أولاً، فقال: أنا هو ذاك إن لبست هذه أو ذاك. وكان عنده جماعة من الأويراتية، وكان كثير الصيد، اصطاد مرة من غابة أرسوف خمسة عشر أسداً وضبوحين، وكان في الجملة أسد أسود كبير. وكان قليل المقام في المدينة، بل غالب أيامه يكون في الصيد. وكان قد أفنى الأسود من الغابات. ولما توفي دفن بعين الزيتون في زاوية الشيخ قليبك. وابنته زوج الأمير سيف الدين أرقطاي نائب مصر. سنقرشاه الأمير شمس الدين الظاهري كان أحد أمراء دمشق. وسكن بالعقيبة عند حمام الجلال. توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثاني ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بكرة الثلاثاء بمقابر الصوفية، وحضر جنازته قاضي القضاة ونائب السلطنة وغيرهما من أعيان الأمراء والكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 سنقر الأمير شمس الدين الكمالي الحاجب كان أحد الأكابر، والأمراء الذين تثني عليهم ألسنة الأقلام في ثغور أفواه المحابر. وكان في طبقة سلار والجاشنكير والجوكندار أمير جاندار، والكمال رابعهم، وقادمهم في كل أمر وتابعهم، حتى اشتهر أمرهم وتأزر نصرهم، ولذلك قال بعض عوام المصريين المطابيع: لاكتبنّ القصص وقف فيك لسلاّر ... واقصد الجاشنكير ورح للكمالي واقول لو يا مير في أيام عدلك ... كيف يكون لي معشوقٌ يا خد بدالي ولما جرد العسكر من مصر صحبة كراي الذين توجهوا لإمساك أسندمر من حلب، كان الأمير الكمالي من جملتهم صحبة كراي، ودخلوا إلى دمشق في ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة، ولما كان في تاسع عشر شهر ربيع الآخر أمسك السلطان أربعة أمراء: نائب الكرك آقوش، وبيبرس الدوادار، ونائب السلطنة، وسنقر الكمالي، وغيرهم، وأودعوا برجاً في القلعة معتقلين، وذلك في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. سنقر الأمير شمس الدين أستاذ الدار أخرجه السلطان الملك الناصر حسن إلى الشام للحوطة على خيل الأمير سيف الدين طاز وغير ذلك في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة. فتوجه إلى حلب، وحضر بعد ذلك إلى دمشق، وبذل الجهد في موجود الأمير طاز، وكان إذ ذاك أمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 طبلخاناه، فانحلت بالديار المصرية وهو في الشام تقدمة ألف وإمرة مئة، فعينها السلطان باسمه، وعظمت منزلته عند السلطان، وعاد إلى مصر بعد مدة على تسعة أشهر، ونفع جماعةً ممن خدمه بدمشق وحلب وغيرهما. وزادت وجاهته عند السلطان، وكان يقال: إنه أخو الأمير سيف الدين بكتمر المومني نائب حلب. ولما جهز أخوه المذكور إلى حلب أقام بعد ذلك قريباً من نصف سنة، ثم إن السلطان تغير عليهما، وأمسك أخاه نائب حلب، وأخرجه إلى دمشق أمير طبلخاناه، فورد إليها في سنة ستين، وأقام بها قليلاً، ثم رسم بتوجهه من دمشق إلى صهيون بطالاً بغير إقطاع. فأقام بها مدة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - بصهيون، وورد الخبر بوفاته إلى دمشق في ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبع مئة. وكان فيه مروءة وعصبية مع من يعرفه. الألقاب والأنساب السنهوري المادح أحمد بن مسعود. السهروردي شهاب الدين عبد المحمود بن عبد الرحمن. ابن أبي سوادة القاضي بهاء الدين كاتب السر بحلب، اسمه علي بن علي بن محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 توفي - رحمه الله تعالى - في ضحى نهار السبت، منتصف شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومن شعره، وقد توفي القاضي عز الدين عبد العزيز بن القيسراني، مما كتبه إلى أخيه: وحقّك ما تركت الكتب عمداً ... بتعزيةٍ على هذا المصاب ولكن كلّما أثبتّ سطراً ... محته دموع عيني من كتابي وكتب إليه أيضاً: ولمّا قضى واستهدم الصّبر بعده ... وكنّا نرجّيه لإعدامنا كنزا بكينا وأجرينا الدّموع تأسّفاً ... ولم يجدنا فيض الدّموع ولا أجزى ولا تسألوا عن حالتي في رزيّتي ... وما حال مضنىً فارق الجاه والعزّا السواملي: جمال الدين إبراهيم بن محمد. سوتاي بالسين المهملة، والواو الساكنة، والتاء ثالثة الحروف، وألف ممدودة وياء آخر الحروف: النوين الكبير الحاكم على ديار بكر بمجموعها. كان رئيساً في نفسه، فريداً في أبناء جنسه، ذا عزم وجلد وحزم، وإثارة للحروب وهزم. عنده رئاسه، وحسن تدبير وسياسه، تحبه رعيته، لما صفت لهم طويته. ويدعون له على الدوام، ويختارون أيامه لو دامت أو عادت ولو في المنام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ولم يزل على حاله إلى أن أتى السوء سوتاي فدمره، ولم ينفعه ما أتقنه من أمره ودبره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان قد عمر حتى تجاوز المئة، لأنه حكى عن نفسه أنه كان قد حضر واقعة بغداد، وهو بالغ، ورأى أربعة بطون من ولده وولد ولده وولد ولد ولده وأولادهم حتى إنهم أنافوا على الأربعين ذكوراً وإناثاً. وأكبر ولده بارنباي ثم طغاي. وكان سوتاي أقطجيا لأبغا، والأقطجي بمنزلة أمير آخور. ولم يزل معظماً عند ملوك المغل. وهو جاء إلى ديار بكر، ونزل بها بتومانة بعد وفاة النوين آبك تاصميش، واستمر حاكماً من أوائل دولة أولجايتو سلطان إلى أواخر دولة السلطان بوسعيد ووفاته في بلد، وهي مدينة خراب بالقرب من الموصل، لأنه كان يشتو بها في كل سنة، ثم إنه نقل من بلد إلى الموصل ودفن في تربة كان بناها لنفسه من الموصل على دجلة. وكان مرضه ثلاثة أشهر، وكان قد أضر قبل موته بسنوات، ولما مات حكم بعده على ديار بكر علي باشا خال بوسعيد، وجرت له حروب مع أولاده. سودي الأمير سيف الدين، رأس نوبة الناصري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 كان من خواص أستاذه المقربين، وأعيانهم المدربين. له معرفة وفهم، وله نفوذ في الأحكام كما ينفد السهم. اجتهد على سياقة نهر الساجور إلى حلب، وبذل فيه لكل صانع ما طلب. وأخذ أمره بكلتا يديه، وأنفق في سياقته غالب ما لديه. ثم إنه من فرحه عجل وطالع السلطان بوصوله، فجهز المطالعة في البريد على يد رسوله بناء على أنه في غد يدخل البلد، فتقطع في تلك الليلة، وساح في الجلد. فكانت منه هفوة، وخطأ ندم على ما مد فيه من الخطوة. ولم يزل إلى أن لم يبق لسودي سؤدد، وذاب شحمه في القبر وتقدد. وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مئة يوم السبت، ودفن يوم الأحد بالقرب من تربة قراسنقر. وكان السلطان قد جهزه لنيابة حلب بعدما توجه الأمير شمس الدين قراسنقر من البلاد، وراح إلى بلاد خربندا، فوصل إلى حلب في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وقيل: إن طول النهر الذي حفره من الساجور إلى أن يصل قويق أربعون ألف ذراع، وعرضه ذراعان، وعمقه ذراعان تقريباً، وإن الذي أنفق عليه ثلاث مئة ألف درهم، النصف من مال السلطان، والنصف من مال سودي. ولم يظلم فيه أحد، بل حفر بالعدل والإنصاف. الألقاب والأنساب السوسي فخر الدين أحمد بن علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ابن سويد تاج الدين طالوت. سلارسيف الدين بالسين المهملة وبعدها لام مشددة وبعد الألف راء: الأمير سيف الدين التتري المنصوري الصالحي. كان أولاً من مماليك الصالح علي بن المنصور، فلما مات الصالح صار من خواص أبيه المنصور، ثم إنه اتصل بخدمة الأشرف، وحظي عنده، وأمره، وكان صديق السلطان حسام الدين لاجين ونائبه منكوتمر. ندبوه لإحضار السلطان الملك الناصر محمد من الكرك فأحضره. وركن إلى عقله فاستنابه وقدمه على الجميع. وخضع له الناس. وكان عاقلا، عارفاً بالأمور كاملا. ينطوي على دهاء، ويظهر قربك وهو ذو جفاء، سعيد الحركات في أموره، موفق الآراء في غيبته عن الملك وحضوره. اقترح أشياء ظريفة في لبس الفارس والفرس، ونسب إليه تقوم القيامة وذكرها ما اندرس. ونال من سعادة الدنيا ما لا يوصف كثره، ولا ينهض قدم تحمله عثره. وحصل من الذهب والفضة ما هو قناطير مقنطره، ومن اللآلي والجواهر ما تعجز عن مكاثرته السحائب المثعنجره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وكان ساكناً وادعاً لا شر فيه ولا باطن سوء لمخالفيه ولا محالفيه. وساس الملك تلك المده، وداهن أعاديه وهم حوله على انفراد عده. وكان محباً لمن يخدمه، مكباً على من يصطنعه أو يقدمه. ولما توجه الناصر إلى الكرك، تداها على الجاشنكير ولم يشركه في الوقوع في الشرك، فسلطنه بل سرطنه، وحببه للملك بل جننه، ودربه لذلك بل درنه. ومشى قدامه، إلا أن ذاك عير غير فطن وذاك خب خبعثنة. وما كان بأسرع من أن استحالت الدولة عليه، وفرت بأجمعها من بين يديه. وكان هو فيمن خامر، وقام مع الحزب الناصري وقامر. إلا أنه حاق به مكره، وأتعبه خماره وسكره، ومات في السجن جوعا، ولم يجد إلى الدنيا رجوعا. يقال إنه أكل من مداسه الكعاب، وتحقق أن الدنيا مومس بالية، وكان يظن أنها كعاب. وتوفي - رحمه الله تعالى - معتقلاً بالقلعة في الديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة. وكان يتحدث أن إقطاعه بضع وثلاثون طبلخاناه، واشتهر على ألسنة العوام وغيرهم أنه يدخله في كل يوم مئة ألف درهم. واستمر في النيابة إحدى عشرة سنة. ولما ملك الجاشنكير استمر به في النيابه، وازداد عظمةً وسعاده، وأقام على ذلك تسعة أشهر. ولما عاد السلطان من الكرك تلقاه سلار إلى أثناء الرمل. ولما جلس على كرسي الملك أعطاه الشوبك، فتوجه إليها في جماعته، وتشاغل السلطان عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 ونزح سلار عن الشوبك وطلب البرية، ثم إنه خذل، وسير يطلب من السلطان أماناً على أنه يقيم بالقدس لعبادة الله تعالى، فأجابه إلى ذلك، ودخل إلى القاهرة بعد أن بقي أياماً مشرداً في البرية مردداً بين العرب، ينوبه في كل يوم لهم ألف درهم وأربعون غرارة شعير. ولما جاء عاتبه السلطان واعتقله، ومنع من الزاد إلى أن مات جوعاً، وأكل كعاب سرموزته، وقيل: أكل خفه، وقيل: إنهم دخلوا إليه وقالوا له: قد عفا السلطان عنك، فقام من الفرح ومشى خطوات يسيرة وسقط ميتاً. وكان أمسر آدم، لطيف القد، أسيل الخد، لحيته في حنكه سوداء، وهو من التتار الأويراتية. مات في أوائل الكهولة، ولعله ما بلغها - رحمه الله تعالى - وأذن السلطان للأمير علم الدين سنجر الجاولي أن يتولى دفنه وجنازته، فدفنه بتربته عند الكبش. وكان - رحمه الله تعالى - ظريفاً في لبسه، اقترح أشياء في اللبس، وهي إليه منسوبة، منها المناديل السلارية والأقبية السلارية، وفي قماش الخيل وآلات الحرب. قال شمس الدين الجزري: إنه أخذ له ثلاث مئة ألف ألف دينار، وشيء كثير من الحلي والجواهر والخيل والسلاح والغلال مما لا يكاد ينحصر. قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: وهذا شيء كالمستحيل، لأن ذلك يجيء وقر عشرة آلاف بغل، الوقر ثلاثون ألف دينار، وما علمت أن أحداً من السلاطين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 الكبار ملك هذا ولا ربعه. ثم تدبر - رحمك الله - إذا فرضنا صحة قولهم، دخله في كل يوم مئة ألف درهم، أما كان عليه فيها خرج؟ فلو أمكنه أن يكنز في كل يوم ثلاثة آلاف دينار أكان يكون في السنة غير ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار؟ فتصير الجملة في عشرة أعوام عشرة ألف ألف دينار، وهذا لعله غاية أمواله، فلاح لك فرط ما حكاه الجزري واستحالته. قال الجزري: نقلت من ورقة بخط علم الدين البرزالي قال: دفع إلي المولى جمال الدين بن الفويرة ورقةً بتفصيل بعض أموال سلار وقت الحوطة على داره في أيام متعددة: يوم الأحد: تسعة عشر رطلاً بالمصري زمرداً. ياقوت: رطلان. بلخش: رطلان ونصف. صناديق ستة ضمنها جواهر فصوص ماس وغيره: ثلاث مئة قطعة. لؤلؤ كبار مدرر من زنة درهم إلى مثقال: ألف ومئة وخمسون حبة. ذهب: مئتا ألف وأربعون ألف دينار. دراهم: أربع مئة ألف درهم وسبعون ألف درهم. يوم الاثنين: ذهب: خمسة وخمسون ألف دينار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 دراهم: ألف ألف درهم وأحد وعشرون ألفاً. فصوص بذهب: رطلان ونصف. مصاغ عقود وأساور وزنود وحلق وغير ذلك: أربعة قناطير بالمصري. فضيات أواني وهواوين وصدوره: ستة قناطير. يوم الثلاثاء: ذهب: خمسة وأربعون ألف دينار. ودراهم: ثمانية آلاف درهم. براجم فضة وأهلة وصناديق: ثلاثة قناطير فضة. ذهب: ألف ألف دينار وثمان مئة ألف درهم. أقبية ملونة بفرو قاقم: ثلاث مئة قباء. أقبية بسنجاب: أربع مئة قباء. سروج مزركشة: مئة سرج. ووجد عند صهره الأمير موسى ثمانية صناديق، فأخذت، كان من جملة ما فيها عشر حوائص مجوهرة سلطانية وتركاش ماله قيمة، ومئة ثوب طرد وحش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وقدم صحبته من الشوبك خمسون ألف دينار وأربع مئة وسبعون ألف درهم، وثلاث مئة خلعة ملونة وخركاه أطلس معدني مبطنة بأزرق بابها زركش، وثلاث مئة فرس، ومئة وعشرون قطاراً بغال، ومثلها جمال. كل هذا سوى الغلال والأنعام والجواري والمماليك والأملاك والعدد والقماش. وذكر أنه عوقب كاتبه، فأقر أنه كان يحمل إليه كل يوم ألف دينار، وما يعلم بها غيره. وقيل: إن مملوكاً دلهم على كنز له مبني في داره، ووجدوا فيه أكياساً، وفتحوا بركة فوجدوها ملأى أكياس ذهب. قال شيخنا الذهبي: وحدثني شيخنا فخر الدين أن إنساناً حكى له، قال: دخل العام شونة سلار من أصناف الغلال ست مئة ألف إردب. وقال شيخنا الذهبي: ثم إنه مات البائس، يتحسر على الخبز اليابس. وقلت أنا فيه: في أمر سلاّر للألباب موعظةٌ ... لم يحتج العقل إذ يحتجّ برهانا حوى كنوزاً إذا قارون قارنها ... طافت عليه من الأموال طوفانا وبعد ذلك لم تقدر يداه على ... لبابة وقضى في الحبس جوعانا فألف أفٍّ لدنيانا وزخرفها ... فما سمعناه عن سلاّر سلاّنا الألقاب والأنساب ابن السلار ناصر الدين أبو بكر بن عمر. السلاري نائب مصر الأمير شمس الدين آقسنقر. ابن سلام الشيخ شرف الدين الحسين بن علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 سلامش الأمير سيف الدين الظاهري. قارب التسعين. كان من أمراء الديار المصرية. وكان صالحاً ديناً. توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن برا باب النصر. وكان أمير خمسين فارساً. الألقاب والأنساب السلامي الخواجة: مجد الدين إسماعيل بن محمد. سيف الدين الشيخ الجليل الكبير الرجيحي بن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية. كان له حرمة وافرة في الدولة، وعند أتباع جده وطائفتهم. توفي - رحمه الله تعالى - يوم السبت خامس عشر شهر رجب سنة ست وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي، وأعيد إلى الدار التي كان يسكنها داخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة، فدفن بها، وحضره خلق من الأعيان والقضاة والأمراء. وأجلس مكانه ولده فضل. كان الشيخ سيف الدين مليح السيرة، ضخم الهامة جداً، هائل المنظر، محلول الشعر. ناهز السبعين سنة. سيف بن سليمان ابن كامل بن منصور بن علوان بن ربيعة الموازيني السلمي الزرعي، القاضي شرف الدين. كان فقيهاً فاضلاً عفيفاً محترزاً، وله نظم، وعنده فوائد. وولي عدة ولايات من أعمال دمشق نحواً من أربعين سنة. وكان فيها مشكوراً. وولي بعلبك والقدس، وأقام به إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ثالث عشري جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة. وروي الحديث عن ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، ويوسف بن مكتوم، وغيرهم بدمشق والقدس. سيف بن فضل بن عيسى الأمير سيف الدين من آل فضل الزواهر، ومن قوم عدادهم في الجماهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ولي إمرة آل فضل بعد ابن عمه أحمد بن مهنا، فما صفا له عيش ولا تهنا. وعزل عن الإمره، وخمدت منه الجمره، وما شرب من عزها كأس خمره، إلا أنه كان مطاعاً في الدوله، مشاراً إليه في الجوله، مقدماً في الدول القاهره، معنياً بأمور الباطنة والظاهره. وكان قد أسره عمر بن موسى، ثم من عليه وأطلقه وجراحه لا تندمل منه ولا توسى. ولم يزل على حاله إلى أن غص من الحسام بريقه، وشخص بصره من بريقه. وقتل - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ستين وسبع مئة، قتله عمر بن موسى. كان الأمير سيف الدين له وجاهة في الدولة من أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان كل قليل يتوجه إلى باب السلطان، ويعوده بما يختاره من الزيادات والإنعامات. وكان هو وإخوته وآل فضل أبيةً لا يدخلون في حكم أمير النقرة من أولاد مهنا، بل مرجع حوطاتهم وإفراجاتهم مختص به. وكان قد ولي الإمرة بعد الأمير شهاب الدين أحمد بن مهنا في أيام الملك المظفر حاجي، فما مشى له حال، وضايقه أولاد مهنا، وقطعوا الطرقات على الناس وعجزوه، فأعيدت الإمرة إلى أحمد بن مهنا. وكان يرمى بعدم الصدق إلا أنه له الوجاهة في الدولة. ولقد رأيته وهو عند الأمير سيف الدين منجك نائب الشام بدار العدل، وقد جاء الأمير سيف الدين حيار بن مهنا من باب السلطان، وهو أمير النقرة، فجلس تحت الأمير سيف. وقلت أنا فيه لما قتل - رحمه الله تعالى -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 سيف بن فضل كان في الدّهر لا ... يخاف من حينٍ ولا حيف حتّى إذا ما خانه دهره ... أُنفذ حكم السّيف في سيف سيفاه الأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق. توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. الألقاب والأنساب السيف الحريري اسمه أبو بكر. السيف البغدادي اسمه عيسى بن داود السيف الناسخ يوسف بن محمد. بنو سيد الناس: شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد. الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن محمد. وسعد الدين محمد بن محمد بن محمد. وسعد الدين محمد بن محمد بن محمد. السيد: ركن الدين النحوي، الحسن بن شرفشاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 ابن سيد الأهل: الحسين بن علي. ابن السيوفي: نجم الدين عيسى. الألقاب والأنساب السهروردي الشيخ شمس الدين الكاتب أحمد بن يحيى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 حرف الشين شاذي الملك الأوحد تقي الدين بن الملك الزاهر مجير الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان بن يعقوب. كان أحد الأمراء بدمشق. توجه مجرداً إلى جبال الجرد، فتوفي هناك في ثاني صفر سنة خمس وسبع مئة، وحمل إلى دمشق، ودفن بتربة الدار الأشرفية بسفح قاسيون. وكان معظماً في الدولة أثيل المكارم عند الأفرم. وله اشتغال، وكان يحفظ القرآن العظيم، وسمع الحديث من الفقيه محمد اليونيني. قال شيخنا البرزالي: وروي لنا عنه. ومولده في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وست مئة بدمشق. وكان له بالأمور دربة وخبرة تامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 شاذي بن بدليك الأمير سيف الدين أخو الأمير شهاب الدين أحمد الساقي، المقدم ذكره. كان أولاً من جملة البريدية بمصر، ثم إنه أعطي طبلخاناه بحلب، وأقام بها. وخرج على الصالح صالح، وحضر مع بيبغاروس إلى دمشق، وهرب معه. وكان في جملة من أمسك على حلب، وأحضروه إلى دمشق. وكان في جملة من وسط بسوق الخيل بدمشق في شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. الألقاب والأنساب الشارعي المحدث إسماعيل بن إبراهيم. الشارمساحي الشاعر أحمد بن عبد الدائم. ابن الشاطبي علاء الدين علي بن يحيى. الشاطبي يوسف بن أحمد. شافع بن علي ابن عباس بن إسماعيل بن عساكر الكناني العسقلاني ثم المصري: الشيخ الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الأديب ناصر الدين سبط الشيخ عبد الظاهر بن نشوان. روى عن الشيخ جمال الدين محمد بن مالك، وغيره. وروى عنه الشيخ أثير الدين، وعلم الدين البرزالي، وجمال الدين إبراهيم الغانمي وغيره من الطلبة. كتب المنسوب فأحسنه، وجود طريقه وأتقنه، فإذا خط غض الزهر عينه، وطلب من العقود دينه، وإذا نظم القريض نظرت النجوم بطرف غضيض، وإذا نثر فضح الدرر، ملأ الدنيا إنشاءً، وأبرزها كالنجوم زهرت عشاء. وكثر من التصانيف وما ارتابت فيها العقول، وقال فسمع الناس ما يقول. كتب الإنشاء بمصر زمانا، ونظم قلائده على جيد الزمان عقيانا. إلا أنه أضر بأخرة، فعدم الناس طروسه الموشاه، ورقاعه التي هي بالزاهر مفشاه، ولكن فوائد نظمه ونثره تسيل ملء الحقائب، وصوب قريحته إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب. ولم يزل على حاله إلى أن شافه شافعاً حينه، وحل على وجوده من العدم دينه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاثين وسبع مئة في سابع عشري شعبان، ودفن بالقرافة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 كان قد أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى سنة ثمانين وست مئة في صدغه، فعمي بعد ذلك، ولازم منه بيته. وكان جماعةً للكتب؛ أخبرني من لفظه شهاب الدين البوتيجي الكتبي بالقاهرة، قال: خلف ثماني عشرة خزانة كتباً نفائس أدبية، وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب، وبقيت تبيع منها إلى أن خرجت من القاهرة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وأخبرني البوتيجي أيضاً، قال: كان إذا لمس الكتاب وجسه، قال: هذا الكتاب الفلاني، وهو لي ملكته في الوقت الفلاني، وإذا أراد أي مجلد كان، قام إلى خزانته وتناوله منها كأنه الآن وضعه بيده. اجتمعت به أنا في القاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، واستنشدني شيئاً من نظمي، فأنشدته لنفسي: إن وردي من الحمام قريب ... فلهذا أمست دموعي مفاضه ولكم جهد ما يكون بعيداً ... ومشيبي رشاش تلك المخاضه فأنشدني من لفظه لنفسه: قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمالٍ من لمّتي ويمين أيّ شيء هذا؟ فقلت مجيباً ... ليل شكٍّ محاه صبح يقين وأنشدني هو من لفظه لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 تعجّبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى بها قلبنا يصبو فألفيتها مأوى الأحبّة كلّهم ... ومستوطن الأصحاب يصبو له القلب فأنشدته أنا لنفسي: ألا إنّ القرافة إن غدونا ... تميل لها القلوب ولا عجيبا فما فينا مصابٌ قطّ إلاّ ... تضمّ له قريباً أو حبيبا وأنشدني هو أيضاً لنفسه: وبي قامةٌ كالغصن حين تمايلت ... وكالرّمح في طعن يقدّ وفي قدّ جرى من دمي بحرٌ بسهم فراقه ... فخضّب منه ما على الخصر من بند وأنشدته أنا لنفسي: قد شدّ حبّي بندا ... في حمرةٍ مثل خدّه كخاتمٍ من عقيقٍ ... قد زان خنصر قدّه فقال: لو اتفق لك خنصر خصره لكان أحسن، فقلت: في حمرة البند معنى ... ممن سباني بهجره كخاتمٍ من عقيقٍ ... قد زان خنصر خصره وكتبت له أستدعي إجازته، ونسخة ذلك: المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام المفيد القدوة جامع شمل الأدب، قبلة أهل السعي في تحصيله والدأب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 أخي المعجزات اللائي أحرزن طرسه ... كأُفقٍ به للنيّرات ظهور وما ثمّ إلا الشّمس والبدر في السّما ... وهذا شموسٌ كلّه وبدور البليغ الذي أثار أوابد الكلم من مظان البلاغه، وأبرز عقائل المعاني تتهادى في تيجان ألفاظه، فجمع بين صناعة السحر والصياغه، وأبدع في طريقته المثلى فجلت عن المثل، وأنبت في رياض الأدب غروس فضل لا تقاس بدوحات البان ولا الأثل، وأظهر نظامه عقوداً حلت من الزمان كل ما عطل، وقال لسان الحال ممن يتعاطاه: مكره أخاك لا بطل، وجلا عند نثاره كلمات مقصورات في خيامه، وذر على كافور قرطاسه من أنفاسه مسك ختامه، ناصر الدين شافع بن علي لا زال في هذا الورى فضله ... يسير سير القمر الطّالع حتّى يقول النّاس إذ أجمعوا ... ما مالك الإنشا سوى شافع إجازة كاتب هذه الأحرف ما يجوز له روايته من كتب الحديث وأصنافها، ومصنفات العلوم على اختلافها، إلى غير ذلك كيفما تأدى إليه من مشايخه الذين أخذ عنهم من قراءة أو سماع أو إجازة أو مناولة أو وصية. وإجازة ماله - فسح الله في مدته - من تأليف ووضع، وتصنيف وجمع، ونظم ونثر. والنص على ذكر مصنفاته وتعيينا في هذه الإجازة إجازةً عامة على أحد القولين في مثل ذلك. والله يمتّع بفوائده، وينظم على جيد الزّمن عنه بيد غيره من إنشائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أما بعد، فالحمد لله الذي أمتع من الفضلاء بكل مجيز ومستجيز، وأشهد من معاصري ذوي الدراية والرواية من جمع بين البسيط من علو الإسناد والوجيز. نحمده على نعمه التي يجب له عليها الإحماد، ونشكره على تهيئة فضلها المخول شرف الإسعاف والإسعاد، ونصلي على سيدنا محمد المعظمة رواة حديثه، وحق لهم التعظيم، العالية قدراً وسندا، من شأنه التبجيل والتفخيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وما أحقهم بالصلاة والتسليم. وبعد، فإني وقفت على ما التمسه الإمام الفاضل، الصدر الكامل، المحدث الصادق، العلي الإسناد، الراقي درجات علم الحديث النبوي بعلو روايته السائرة على رؤوس الأشهاد، وهو غرس الدين خليل بن أيبك: وحسبي به غرساً تسامى أصالةً ... إلى أن سما نحو السماء علاؤها حوى من بديع النّظم والنّثر ما رقى ... إلى درجاتٍ لا يرام انتهاؤها استجاز - أعزه الله - فأتى ببديع النظم والنثر في استجازته، وقال فأبدع في إبدائه وإعادته، وتنوع في مقالهما فأسمع ما شنف الأسماع، وأبان عما انعقد على إبداعه الإجماع، وقال فما استقال، ورتل آي محكم كتابه فتميز وحق له التميز على كل حال. وقد أجبته إلى ما به رسم جملةً وتفصيلا، وأصلاً وفرعا، وأبديت به وجهاً من وجوه الإجابة جميلا، ما يجوز لي روايته من كتب الحديث وأصنافها، ومصنفات العلوم حسب إجازة ألافها، حسبما أجزت به من المشايخ الذين أخذت عنهم، وسألت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 الإجازة منهم، بقراءة أو سماع أو مناولة أو وصية، ومالي من تأليف ووضع، ونظم ونثر وجمع، كشعري المتضمنة الديوان المثبت فيه، ومناظرة الفتح بن خاقان المسمى شنف الآذان في مماثلة تراجم قلائد العقيان، وسيرة مولانا السلطان الملك الناصر المتضمنة أجزاء متعددة، وسيرة والده السلطان الشهيد الملك المنصور المتضمنها جزء واحد التي حسنتها على ألسنة الرعايا متعددة، وسيرة ولده الملك الأشرف، ونظم الجواهر في سيرة مولانا السلطان الملك الناصر، أيضاً نظماً، وما يشرح الصدور من أخبار عكا وصور، والإعراب عما اشتمل عليه البناء الملكي الناصري بسرياقوس من الإغراب، وإفاضة أبهى الحلل على جامع قلعة الجبل، وقلائد الفرائد وفرائد القلائد فيما لشعراء العصريين من الأماجد، ومناظرة ابن زيدون في رسالته، وقراضات الذهب المصرية في تقريظات الحماسة البصرية، والمقامات الناصرية، ومماثلة رسائل ما حل من الشعر، وتضمين الآي الشريفة والأحاديث النبوية في المثل السائر، والمساعي المرضية في الغزوة الحمصية، وما ظهر من الدلائل في الحوادث والزلازل، والمناقب السرية المنتزعة من السيرة الظاهرية، والدر المنظم في مفاخرة السيف والقلم، والحكام العادلة فيما جرى بين المنظوم والمنثور من المفاضلة، والرأي الصائب في إثبات ما لا بد منه للكاتب، والإشعار بما للمتنبي من الأشعار، وتجرية الخاطر المخاطر في مماثلة فصوص الفصول وعقود العقول مما كتب به القاضي الفاضل في معنى السعيد بن سناء الملك، وعدة الكاتب وعمدة المخاطب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وشوارد المصائد فيما لحل الشعر من الفوائد، ومخالفة المرسوم في الوشي المرقوم، ومالي غير ذلك من حل نظم ونظم حل، ورسائل فيما قل أو جل. وما يتفق لي بعد ذلك من نظم ونثر وتأليف وجمع حسبما التمسه مني بمقتضى إجازته، وإيدائه وإعادته. وكتب في يوم الأحد خامس عشر صفر سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكتب بخط يده بعد ذلك: أجزت له جميع ذلك بشرطه، وكتب: شافع بن علي بن عباس. وأنشدنا إجازة له: أرى الخال من وجه الحبيب بأنفه ... وموضعه الأولى به صفحة الخدّ وما ذاك إلا أنّه من توقّدٍ ... تسامى يروم البعد من شدّة الوقد وأنشدني له إجازة، وقد احترقت الكتب أيام الأشرف: لا تحسبوا كتب الخزانة عن سدى ... هذا الذي قد تمّ من إحراقها لمّا تشتّت شملها وتفرّقت ... أسفت فتلك النار من زفراتها وأنشدني إجازة له: شكا لي صديقٌ حبّ سوداء أُغريت ... بمصّ لسانٍ لا تملّ له وردا فقلت له: دعها تلازم مصّه ... فماء لسان الثّور ينفع للسّودا وأنشدني له إجازة: قل لمن أطرى أبا دلفٍ ... بمديحٍ زاد في غرره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 كم رأينا من أبي دلفٍ ... خبره يربي على خبره ثمّ ولّى بالممات وما ... ولّت الدّنيا على أثره وأنشدني له إجازة في انكفاف بصره: أضحى وجودي برغمي في الورى عدماً ... إذ ليس لي فيهم وردٌ ولا صدر عدمت عيني ومالي فيهم أثرٌ ... فهل وجودٌ ولا عينٌ ولا أثر؟ وأنشدني له إجازة: لقد فاز بالأموال قومٌ تحكّموا ... ودان لهم مأمورها وأميرها نقاسمهم أكياسها شرّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها وأنشدني له إجازة في سجادة خضراء: عجبوا إذا رأوا بديع اخضرارٍ ... ضمن سجّادةٍ بظلٍّ مديد ثمّ قالوا: من أيّ ماءٍ تروّى؟ ... قلت: ماء الوجوه عند السّجود وأنشدني له إجازة في ممسحة القلم: وممسحةٍ تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في ضمنها خلع العذارا وأنشدني له إجازةً في شبابة: سلبتنا شبّابةٌ بهواها ... كلّ ما ينسب اللّبيب إليه كيف لا والمحسن القول فيها ... آخذٌ أمرها بكلتا يديه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وأنشدني له إجازة: ومن عجبٍ أنّ السّيوف لديهم ... تكلّم من تأتمّه وهي صامته وأعجب من ذا أنّها في أكفّهم ... تحيد عن الكفّ المدى وهي ثابته وكتب إليه السراج الوراق، ومن خطه نقلت: أيا ناصر الدين انتصر لي فطالما ... ظفرت بنصرٍ منك بالجاه والمال وكن شافعاً فالله سمّاك شافعا ... وطابقت أسماءً بأحسن أفعال وقدرك لم نجهله عند محمّدٍ ... لأن ابن عبّاسٍ من الصّحب والآل قلت: يريد بمحمد هنا القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر. وكتب إليه أيضاً، ومن خطه نقلت: سيّدي اليوم أنت ضيفٌ كريمٌ ... فاق معنىً في جوده بمعان لو رأى الفتح سؤدد الفتح هذا ... ما انتمى بعده إلى خاقان أو رآه فتح المغارب صلّى ... بعلاه قلائد العقيان وكأنّي أراكما في مجارا ... ة المعاني بحرين يلتقيان وتطارحتما مذاكرةً تفتن ... ن منها أزاهر الأفنان فإذا مرّ للصنائع ذكرٌ ... فاجعلاني في بعض من تذكران ومن نثر الشيخ ناصر الدين شافع - رحمه الله تعالى - في شمعة، قوله: شمعة ما استتم نبتها بروضة الأنس حتى نورن ولا نما بدوحة المفاكهة حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 أثمر. أومأ بنان تبلجها إلى طرق الهداية وأشار، ودل على نهج التبصر وكيف لا وهي علم في رأسه نار. كأنما هي قلم امتد بما أليق من ذهب، أو صعدة إلا أن سنانها من لهب، وحسبها كرماً أن جادت بنفسها، وأعلنت بإمتاعها على همود حسها، سائلها في الجود بامثالها مسؤول، ودمه بالعفو للصفو من سماحتها مطلول. تحيتها: عموا صباحاً بتألف فجرها، وتمام بدرها في أوائل شهرها. قد جمعت من ماء دمعها ونار توقدها بين نقيضين، ومن حسن تأثيرها وعين تبصرها بين الأثر والعين. كم شوهد منها في مدلهم الليل للشمس وضحاها، ومن تمام نورها للنجم إذا تلاها، وكم طوى باع أنملتها المضيئة رداء الليل إذا يغشاها. قد غيرت ببياض ساطع نورها على الليل من أثواب الحداد، وتنزلت منه منزلة النور الباصر ولا شبهة أن النور في السواد. إن تمايل لسان نورها فالإضاءة ذات اليمين وذات الشمال، وإن استقام على طريقة الإنارة فلما يلزم إنارتها من الإكمال. نارها إنما هو من تلاعب الهوى بحشاها، ونحولها بمكابدة تعذيبها بما من الاصفرار يغشاها. كم عقدت على سفك دمها مع البراءة من العقوق من محافل، وكم قتلت على إطفاء نائرها، ولا ثائرة من قاتل، فهي السليمة التي كم بات من زبان صرفها بليله السليم، وكم أجدى نفسها على نفسها بنفح روح ربها من عذاب أليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وأنشدني لنفسه إجازة: ولمّا أتانا ابن تيميةٍ ... وحقّق بالخبر منه الخبر أذبنا عقيدة تجسيمه ... بريق بريق سيوف النّظر وأنشدني أيضاً: قالوا: ألا تنظر ما قد جرى ... من حنبليٍّ زاد في لغوه فقلت: هذا خشكنان، أنا ... والله ما أدخل في حشوه الألقاب والأنساب ابن الشحام: نجم الدين عبد الرحيم بن عبد الرحمن. ابن شراقي: علم الدين عبيد الله. شرف بن أسد المصري شيخ ماجن، ماجن كما جن، ولا غسل ما حمل في ردنه من السخف ماء النيل ولا الأردن، خليع أربى على الجديد والخليع، وأنسى الناس ذكر صريع الدلاء بما له من الصنيع، ومتهتك ليس بعار من العار، ولا بمبال أي ثوبيه لبس أنقي من التقوى أو إزار من الأوزار؟، ظريف يصحب الكتاب، ويعاشر الشعراء وأهل الآداب، ويشبب في المجالس على القينات، ويسبب الفتيان للفتيات، لو رآه ابن حجاج ما حجه، أو ابن الهبارية لكان هباءً في تلك المحجه. وكان يمدح الأكابر والأصاغر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ولا يزال ذا كيس فارغ وفم فاغر. وله عدة مصنفات مملوءة بالخرافات والترهات، من مشاشاة الخليج وزوائد المصريين التي كالروض البهيج، وهي موجودة بالديار المصرية بين عوامهم وخواصهم، وفي رفوف ذخائرهم ومناصهم. ولم يزل على حاله إلى أن مجه المجون وابتلعته الحفره، ولقي من الله تعالى عفوه وغفره. وتوفي رحمه الله تعالى بعد مرض مزمن في سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين وسبع مئة، وكان في عشر السبعين. ورأيته غير مرة، وأنشدني شيئاً كثيراً من أشعاره ومن بلاليقه وأزجاله وموشحاته. ووضع كتاباً في مادة كتاب ابن مولاهم في الصنائع، إلا أن الذي لابن مولاهم في خمسين صنعة، والذي لابن أسد في ألف ومئتي صنعة، ومنها مئتا صنعة تختص بالنساء، وهذا عمل كثير واستقراء عتيد. وكان عامي العلم، فاضلي الطباع، يقع في شعره الجناس والتورية والاستخدام وسائر أنواع البديع، وإن لم يكن ذلك في بعض المواضع قاعداً من حيث العلم. وأنشدني من لفظه لنفسه قطعةً من تغزل شذت عني، ولم أحفظ منها إلا قوله: الظبي يسلح في أرجاء لحيته ... والغصن يصفعه إن ماس بالقدم وأنشدني من لفظه لنفسه بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بليقة، وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 رمضان كلّك فتوّه ... وصحيح دينك عليّه وأنا في ذا الوقت معسر ... واشتهي الإرفاق بيّه حتّى تروى الأرض بالنيل ... ويباع القرط بدري واعطك الدرهم ثلاثه ... وأصوم شهرين وما أدري وإن طلبتني في ذا الوقت ... فأنا أثبتّ عسري فامتهل واربح ثوابي ... لا تربحني خطيّه وتخلّيني أسقّف ... طول نهاري لا عشيّه لك ثلاثين يوم عندي ... اصبر اعطي المثل مثلين ون عسّفتني ذا الأيام ... ما اعترف لك قطّ بالدّين وانكرك واحلف وقل لك ... أنت من اين وانا من اين واهرب اقعد في قمامه ... أو قلالي بولشيّه وآجي في عيد شوّال ... واستريح من ذي القضيّه ولاّ خذ منّي نقيده ... في المعجّل نصف رحلك صومي من بكره إلى الظهر ... وأقاسي الموت لآجلك واصوم لك شهر طوبه ... ويكون من بعض فضلك إيش أنا في رحمة الله ... من أنا بين البريّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 أنا إلاّ عبد مقهور ... تحت أحكام المشيّه من زبونٍ نحس مثلي ... رمضان خذ ما تيسّر أنت جيت في وقت لو كان ... الجنيد في مثلو أفطر هوّن الأمور ومشّي ... بعلي ولا تعسّر وخذ ايش ما سهّل الله ... ما الزبونات بالسويّه الملي خذ منّو عاجل ... وامهل المعسر شويّه ذي حرور تذوّب القلب ... ونهار أطول من العام وانا عندي أيّ من صام ... رمضان في هذي الأيام ذا يكون الله في عونو ... ويكفّر عنّو الآثام وجميع كلامي هذا ... بطريق المضحكيّة والله يعلم ما بقلبي ... والذي لي في الطويّه ووضع فيما وضع حكايةً حكاها لي، وهي: اجتاز بعض النحاة ببعض الأساكفة فقال له: أبيت اللعن، واللعن يأباك، ورحم الله أمك وأباك، وهذه تحية العرب في الجاهلية قبل الإسلام، لكن عليك أفضل السلام، والسلم والسلام، ومثلك من يعز ويحترم ويكرم ويحتشم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 قرأت القرآن، والتيسير والعنوان والمقامات الحريريه، والدرة الألفية، وكشفا الزمخشري، وتاريخ الطبري، وشرحت اللغة مع العربية على سيبويه ونفطويه، والحسين بن خالويه، والقاسم بن كميل، والنضر بن شميل، وقد دعتني الضرورة إليك، وتمثلت بين يديك، لعلك تتحفني من بعض صنعتك، وحسن حكمتك بنعل يقيني الحر، ويدفع عني الشر، وأعرب لك عن اسمه حقيقا، لأتخذك بذلك رفيقا، ففيه لغات مؤتلفه، على لسان الجمهور مختلفه؛ ففي الناس من كناه بالمداس، وفي عامة المم من لقبه بالقدم، وأهل شهرنوزه سموه بالسارموزة، وإني أخاطبك بلغات هؤلاء القوم، ولا إثم علي في ذلك ولا لوم. والثالثة بك أولى، وأسألك أيها المولى أن تتحفني بسارموزة، أنعم من الموزة، أقوى من الصوان، وأطول عمراً من الزمان، خالية البواشي، مطبقة الحواشي، لا يتغير علي وشيها، ولا يروعني مشيها، لا تنقلب إن وطئت بها جروفا، ولا تنفلت إن طحت بها مكاناً مخسوفا، لا تلتوق من أجلي، ولا يؤلمها ثقلي، ولا تمترق من رجلي، ولا تتعوج ولا تتلقوج، ولا تنبعج ولا تنفلج، ولا تقب تحت الرجل، ولا تلصق بخبز الفجل. ظاهرها كالزعفران، وباطنها كشقائق النعمان، أخف من ريش الطير، شديدة البأس على السير، طويلة الكعاب، عالية الأجناب، لا يلحق بها التراب، ولا يغرقها ماء السحاب، تصر صرير الباب، وتلمع كالسراب، وأديمها من غير جراب، جلدها من خالص جلود المعز، ما لبسها ذليل إلا افتخر بها وعز، مخروزة كخرز الخردفوش، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 وهي أخف من المنفوش، مسمرة بالحديد ممنطقه، ثابتة في الأرض الزلقه، نعلها من جلد الأفيلة الخمير لا الفطير. وتكون بالنزر الحقير. فلما أمسك النحوي من كلامه وثب الإسكافي على أقدامه، وتمشى وتبختر، وأطرق ساعةً وتفكر، وتشدد وتشمر وتحرج وتنمر ودخل حانوته وخرج، وقد داخله الحنق والحرج، فقال له النحوي: جئت بما طلبته؟ قال: بل بجواب ما قلته، فقال: قل وأوجز، وسجع ورجز. فقال: أخبرك أيها النحوي أن الشرسا بجزوى شطبطاب المتقرقل والمتقبعقب لما قرب من قرى قرق القرنقنقف طرق زرنات شراسيف قصر القشتنبع من جانب الشرسنكل، والديوك تصهل كنهيق زقازقيق الصولجانات والحرفرف الفرتاح ببيض القرقنطق والزعر برجوا حلبنبوا يا حيز من الطيز بحيح بحمندل بشمرد نوخاط الركبنبو شاع الخبربر بجفر الترتاح بن بسوشاخ على لؤي بن شمندح بلسان القرواق، ماز كلوخ أنك أكيت إرس برام المستنطح بالشمرلند مخلوط، والزيبق بجبال الشمس مربوط، علعل بشعلعل مات الكركندوس، أدعوك في الوليمة يا تيس تش يا حمار بهيمة، أعيذك بالزحواح، وأبخرك بحصى لبان المستراح، وأوقيك وأرقيك، وأرقيك برقوات مرقات قرقران البطون، لتخلص من داء السرسام والجنون. ونزل من دكانه مستغيثاً بجيرانه، وقبض لحية النحوي بكفيه، وخنقه بإصبعيه حتى خر مغشياً عليه، وبربر في وجهه وزمجر، وناء بجانبه واستكبر، وشخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ونخر، وتقدم وتأخر، فقال النحوي: الله أكبر، الله أكبر، ويحك أأنت تجننت!؟ فقال له: بل أنت تخرفت، والسلام. قلت: في غالب ألفاظ كلامه الذي عزاه إلى النحوي نظر وأغلاط كثيرة، والمقطع الذي ختم به الحكاية بارد ما ملح فيه ولا ظرف، وكان ينبغي أن يكون حاراً هزازاً نادراً حلواً حالياً خاليا، كما المعهود في مثل هذه الحكايات الموضوعة، كما لو قال له النحوي: ويلك ما هذا العفان، قال: من ذلك الهذيان، أو ما أشبه ذلك. اللقب والنسب ابن الشريشي: الشيخ كمال الدين أحمد بن محمد. شطي بن عبية الأمير بدر الدين أمير آل عقبة عرب البلقاء وحسبان والكرك إلى تخوم الحجاز. كان شكلاً حسناً تام الخلق، محبوباً إلى القلوب بوجهه الطلق، يقربه السلطان ويدنيه، ويضمه إلى كنفه ويؤويه. يطلع إليه كل عام بقوده، ويفوز من إنعامه بجوده، ويجلسه في أعلى ذروة من طوده، ويحمده في وفادته عليه عقبى عوده. وهو زعيم قومه، والمتغالي في سومه، إذا شط شطي عن دراهم نزلوا به عن أقدارهم، فكم على لبني عقبة من عقبه، وكم فك بجاهه لرقبائهم من رقبه. ولم يزل على حاله إلى أن شط من شطي مزاره، وبعد عن الرؤية وإن قربت داره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وتوفي رحمه الله تعالى ليلة عيد الأضحى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، لأنه كان قد توجه إلى قرب المدينة الشريفة النبوية، صلوات الله وسلامه على ساكنيها، ونزل على بني لام، ولما كان ليلة العيد شكا وقال: كتفي كتفي، فأحضر بعض جواريه ناراً وأحمت حديداً وكوته يسيرا، ثم إنها توجهت لتعيد الحديدة إلى النار، ولما جاءت وجدته قد قضى نحبه رحمه الله. وأعطى مكانه لولديه أحمد ونصير. وهو في هؤلاء العربان المذكورين نظير مهنا بن عيسى في آل فضل، إلا أن مهنا وأولاده أكبر عند الملوك، وأوجه عند سلاطين مصر، لكن كان الملك الناصر محمد يخلع على شطي الأطلس الأحمر والطرز الزركش أيضاً. الشطنوفي: نور الدين علي بن يوسف. شعبان بن أبي بكر بن شعبان الشيخ الصالح أبو البركات الإربلي الفقير القادري، صاحب الشيخ الحافظ جمال الدين بن الظاهري، لازمه مدة، وطاف معه يسمع على الأشياخ بمصر والإسكندرية ودمشق، وكان عنده أجزاء من عواليه، وخرج له ابن الظاهري مشيخةً وسمعها منه العلامة تاج الدين الفزاري والكبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 سمع من عثمان الشارعي، وعلي بن شجاع، ومحمد بن أنجب النعال، وعبد الغني بن بنين، وكان يعرف شيوخه، ويحكي حكايات حسنة. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبع مئة، عن سبع وثمانين سنة. وكانت جنازته من الجنائز التي يقل نظيرها، حضرها القضاة والعلماء والأمراء والصدور والكتاب والمشايخ وعامة الناس. وكان قد خرج من إربل صبيا، ونشأ بحلب، ودخل القاهرة وأقام بها مدة، وعاد إلى دمشق، وأقام إلى أن مات في التاريخ. شعبان الأمير شهاب الدين ابن أخي الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب الناصري، أو لزمه. لما توفي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر تزوج هذا شعبان ابنته مغل بجاه ألماس لأنه كان خالها، ولما غضب السلطان على ألماس وقتله أخرج هذا شعبان إلى غزة، فأقام بها مدة، ثم لما مات السلطان رجع إلى مصر لأنه كان بينه وبين الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي قرابة أيضاً، وخرج معه إلى حماة وحلب وحضر معه إلى دمشق، وهو أمير طبلخاناه، وأقام بها إلى أن جرى ليلبغا ما جرى، فأمسك هو وأخوه يلبغا وجهزوا إلى مصر، ثم أفرج عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وبقي في مصر مدة، ثم جهز إلى حلب فأقام بها أميراً مدة، ثم حضر إلى دمشق أميراً في أوائل سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن مرض. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وترك عليه ديوناً كثيرة، ولم يخلف شيئا. وكان الأمير سيف الدين طقطاي الدوادار قد زوج ابنته من بنت أمير حسين، ثم إنه طلقها بعد مدة. كان الأمير شهاب الدين شكلاً ظريفا، قريباً على القلوب خفيفا، تقلبت به الأحوال، ومرت عليه في الأنكاد أعوام وأحوال، وكان إذا حكاها أشجى القلوب وأنكاها، وأقذى العيون وأبكاها. ولم يزل في سعده خاملا، ولثقل الديون حاملا، إلى أن راح إلى الله بحملته وذهب بجملته، رحمه الله تعالى. شعبان بن محمد بن قلاوون السلطان الملك الكامل سيف الدين، ابن السلطان الملك الناصر محمد، ابن السلطان الملك المنصور. كان ملكاً مهيبا، وسلطاناً لو ترك أضرم الدهر لهيبا، يتوقد ذكاءً وفطنه، وينفذ نظره في المصالح نفوذ النار في القطنه، متطلعاً إلى الملك وسياسة الرعايا، ويعجز بذهنه من ناظر أو عايا، لم يخل بالجلوس للخدمة طرفي النهار مع لعبه ولهوه، ولا رمي أمر من مهمات الملك بذهوله عنه وسهوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وكان مستبداً برأيه جازما، آخذاً بالاحتياط حازما، وكان متطلعاً إلى جمع المال وإحرازه، وادخاره واكتنازه. وأقام ديواناً يرأسه للبذل، ولم يقبل في ذلك برهان لوم ولا حجة عذل. وحليته دون إخوته أنه أشقر أزرق العين، محدد الأنف ليس بالشين. ولم يزل على حاله إلى أن استراح له التعبان، وفتح من خلعه فك ثعبان لشعبان، وذلك يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وكانت مدة ملكه سنةً واحدة وسبعة عشر يوماً، لأنه لما مات أخوه الصالح إسماعيل، على ما تقدم في ترجمته قيل: إنه أوصى له بالملك بعده، لأنه كان شقيقه، فاختلفت الخاصكية عليه، ومالت فرقة إلى أخيه حاجي المقدم ذكره، وفرقة إلى شعبان، فذكره الأمير سيف الدين أرغون العلائي للأمير سيف الدين ألملك النائب بمصر، فقال له: بشرط ألا يلعب بالحمام، فبلغه ذلك، فنقم هذا الأمر عليه. ولما جلس على كرسي الملك أخرجه إلى الشام نائبا، ثم إنه من الطريق جهزه إلى صفد نائبا، وطلب الأمير طقزتمر نائب الشام ليبقى في نيابة مصر. وكان جلوسه على تخت الملك يوم الخميس بعد دفن أخيه، وحلفوا له يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. وحضر الأمير سيف الدين بيغرا إلى الشام، وحلف له أمراء دمشق، ثم إنه أخرج الأمير سيف الدين قماري أخا بكتمر إلى طرابلس، وأخرج الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار إلى الشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وهابه الناس وأعظموه وخافوه، وفتح باب قبول البذل في الإقطاعات والوظائف، وجعل لذلك ديواناً قائم الذات. وكان يعين البذل في المناشير، وهو مبلغ ثلاث مئة درهم فما فوقها، فما استحسن الناس منه ذلك، وكانت نفسه في هذا الباب ساقطة. وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب جمال الدين محمد بن نباتة: جبين سلطاننا المرجّى ... مبارك الطالع البديع يا بهجة الدهر إذ تبدّى ... هلال شعبان في ربيع ولم يزل على حاله إلى أن برز الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى ظاهر دمشق، على ما سيأتي في ترجمته، وجرى من الأمير سيف الدين ملكتمر والأمير شمس الدين آقسنقر ما تقدم في ترجمته وترجمة المظفر حاجي، فخلع من الملك، ودخلوا به إلى السجن، وأخرجوا أخاه المظفر حاجي وأجلسوه على تخت الملك. أخبرني من لفظه سيف الدين أسنبغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه، وكان أرغون شاه يومئذ أستاذ دار السلطنة، قال: مددنا السماط على أن يأكله الكامل، وجهزنا طعام حاجي إليه ليأكله في سجنه، لأن الكامل أخاه كان قد أمسكه واعتقله، فخرج حاجي أكل طعام السلطان، ودخل الكامل فأكل طعام حاجي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 سجنه مكانه، وهذا أمر غريب، وكائن عجيب، فسبحان من بيده أزمة الأمور يصرفها كيف يشاء. وقلت أنا في واقعته: بيت قلاوون سعاداته ... في عاجلٍ كانت بلا آجل حلّ على أملاكه للردى ... دين قد استوفاه بالكامل شعيب بن محمد بن محمد ابن محمد بن ميمون المري المغربي الأصل. أخبرني العلامة شيخنا أثير الدين من لفظه، قال: أنشدنا المذكور من لفظه لنفسه، ومولده بساحل بر الحجاز بموضع يسمى قبر عنتر، ثاني عشر القعدة سنة ستين وست مئة، هكذا ذكر، وأنشدنا ما ذكر أنه نظمه: هزّوا الغصون معاطفاً وورودا ... وجلوا من الورد الجنيّ خدودا وتقلّدوا فترى النجوم مباسماً ... وتبسّموا فترى الثغور عقودا وغدا الجمال بأسره في أسرهم ... فتقاسموه طارفاً وتليدا فإذا ولدن أهلّة وإذا سرح ... ن جاذراً وإذا حملن أسودا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وإذا لووا زرد العذار على النّقا ... جعلوا اللّوى فوق العقيق زرودا رحلوا عن الوادي فما لنسيمه ... أرجٌ ولم أر في رباه الغيدا وذوت غصون البان فيه فلم تمس ... طرباً ولم أسمع به تغريدا فكأنما هم بانه وغصونه ... وظبا رباه وظلّه ممدودا نصبوا على ماء العذيب خيامهم ... فلأجلهم عذب العذيب ورودا وتحمّلت ريح الصّبا من عرفهم ... مسكاً يضوع به النسيم وعودا قلت: شعر جيد، له ديباجة ورونق، وكأنه وقف على أبيات لابن قلاقس الإسكندري رحمه الله ورأى منزعها، فراعى ذلك المنزع، وأبيات ابن قلاقس هي: عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلّدوا بصوارم الأجفان وتوشحوا زرداً فقلت أراقمٌ ... خلعت ملابسها على الغزلان ومشوا وقد هزّ الشباب قدودهم ... هزّ الكماة عوالي المرّات جرّوا الذوائل والذوابل وانثنوا ... فثنوا عناني محصنٍ وحصان ولربّما عطفوا الكعوب فواصلوا ... ما بين ليث الغاب والثعبان في حيث أذكى السمهريّ شراره ... رفع الغبار لها مثار دخان وعلا خطيب السيف منبر راحةٍ ... تتلو عليه مقاتل الفرسان وأبيات ابن قلاقس أمتن وأجزل، إلا أن في أبيات شعيب بيتاً نادراً جيدا ليس لابن قلاقس مثله، وهو قوله: وإذا لووا زرد العذار على النقا ...... البيت لما فيه من حسن الصناعة ودقة التخيل، وتطبيق مفاصل النصف الثاني على النصف الأول. ومثل هذه الأبيات قطعة لأبي محمد عبد الله بن البين، وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 غصبوا الصّباح فقسّموه خدودا ... واسترهفوا قضب الأراك قدودا ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا واستودعوا حدق المها أجفانهم ... فسبوا بهنّ ضراغماً وأسودا لم يكف أن جلبوا الأسنّة والقنا ... حتى استعانوا أعيناً ونهودا وتظافروا بظفائرٍ أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا وكانت وفاة شعيب المذكور، رحمه الله، بالقاهرة سنة تسع عشرة وسبع مئة. شعيب بن يوسف بن محمد القاضي الفاضل شرف الدين أبو مدين، السيوطي المحتد، الأسنائي المولد. قرأ الفقه على أبيه، وعلى أبي الحسن علي بن محمد الفوي. وقرأ النحو على تقي الدين بن الهمام السمهودي، والفرائض على عطا الله بن علي الأسنائي، وبحث المنهاج في الأصول على ابن غرة. وقرأ بعض عروض على الخطيب عبد الرحيم السمهودي. واستنابه والده عنه في الحكم بأسوان، ثم إنه حضر بعد وفاة أبيه، رحمه الله، إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة مكان أبيه، واستمر إلى سنة تسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وعشرين وسبع مئة، ثم ولي قضاء إسنا وأدفو، ودرس بالمدرستين بأسوان وبالعزيه بإسنا. وكان مع فضيلته خيراً في ذاته، منجمعاً عن لداته، حسن الصفات، مشغول الأوقات، قل من تعرض له بأذىً فسلم، أو أراده بسوء إلا وقابله الله بما علم، يعامل الله بسلامة صدره، فيقي الله عرضه كسوف بدره. ولم يزل على حاله إلى أن اغتالت شعيباً شعوب، وقصفت قناة عمره ذات الكعوب. توفي رحمه الله تعالى في ...... ومولده بإسنا سنة تسع وتسعين وست مئة. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: شوش عليه بعض القضاة فلم يقم إلا أربعة أشهر، ثم عزل، ثم أرسل أبو العباس أحمد بن حرمي يذكر عنه قضية فلم يقم إلا شهراً واحداً وشنع عليه بأشنع منها. وكان في عمل قوص ثلاثة قضاة، فصار الاثنان يقصدان أن يضما جهته إلى جهتيهما، فصرفا عن العمل، وأضيف إليه من كل جهة من جهات المذكورين جهة إلى جهته. ونظم بعضهم في ذلك: إنّ القضاة ثلاثةٌ بصعيدنا ... قد حقّقوا ما جاء في الأخبار قاضٍ بإسنا قد ثوى جنّة ... والقاضيان كلاهما في النار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 هذا بحسن صفاته وفعاله ... وهما بما اكتسبا من الأوزار وذكر كمال الدين له من هذا النوع وقائع عدة. قلت: وكأن هذه الأبيات لكمال الدين جعفر رحمه الله تعالى. وهكذا نظم بعض أهل العصر، أظنه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى في قاضي القضاة جلال الدين القزويني لما استناب القاضيين جمال الدين بن جملة، وفخر الدين المصري، رحمهم الله أجمعين وعفى عنهم، فقال: قاضي القضاة ونائباه ثلاثة ............................... الألقاب والأنساب الشقراوي نجم الدين موسى بن إبراهيم. الشقاري عماد الدين يوسف بن أبي نصير. القاضي شقير أحمد بن عبد الله. أمين الدين بن شقير عبد الله بن عبد الأحد. وتقي الدين عمر بن عبد الله. ابن الشماع: محمد بن عبد الكريم. ابن شكر الناسخ: محمد بن شكر. ونجم الدين يوسف بن أحمد. شهاب بن علي بن عبد الله الشيخ المبارك أبو علي المحسني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 شيخ أمي مقيم بتربة الفارس أقطاي بظاهر قلعة الجبل. روى الكثير عن ابن المقير، وابن رواج، وتفرد بأجزاء. وأخذ عنه شيخنا الذهبي، وقاضي القضاة العلامة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وابن سامة، وطائفة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. شهدة بنت عمر ابن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن جرادة العقيلي الحلبي: السيدة الجليلة أم محمد بنت الصاحب كمال الدين أبي القاسم بن العديم. سمعت بحلب من الكاشغري حضوراً سنة إحدى وعشرين وست مئة، وأجازها ثابت بن مشرف وغيره. قال شيخنا البرزالي: وروت لنا عن الشيخ الحافظ ضياء الدين عمر بن بدر بن سعيد الموصلي حضوراً، ولم يرو لنا عنه سواها. وتزهدت وتركت اللباس الفاخر من حين توفى أخوها القاضي مجد الدين بن العديم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 توفيت رحمها الله تعالى بحلب في سنة تسع وسبع مئة. ابن شواق: جلال الدين حسن بن منصور. ابن شواق: علم الدين داود بن الحسن. ابن شواق: علي بن منصور. ابن الشياح: عبد العزيز بن محمد. شيخو الأمير سيف الدين الساقي الناصري القازاني، من مماليك السلطان الملك الناصر. كان أميراً بالقاهرة، ثم إنه خرج إلى دمشق في الأيام المظفريه بعد إمساك الأمير سيف الدين يلبغا، وصل إليها في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكان من أحسن الأشكال وجهاً وقامه، ولبساً وعمامه. يتلو القرآن ويكتبه دائما، ويرى بعمل ما فيه قائما. وخطه روضة أينعت أزهارها، أو سماء تعاقبت فيها شموسها وأقمارها، لو رآه ابن هلال فتنه بدر وجهه، وعلم أنه ليس من طرزه ولا شبهه، ولو عاينه ابن مقلة قال: كذا يكون الإنسان، ومقل ما بيديه في حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 الخط من الإحسان. كتب بخطه المليح ربعة في ربع البغدادي الكبير، بقلم المحقق الذي يتعذر فيه التحرير، ووقفها بالجامع الأموي. وعنده مغالاة في الكتب النفيسة من كل فن. وكان قد فوض إليه الأمير سيف الدين أيتمش النظر في أمر الجامع الأموي، فاسترفع حساب المباشرين، وتعب في أمره، وتولى أمره بنفسه، وفي ضمن هذا ورد المرسوم بطلبه إلى مصر في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، فتوجه إلى القاهرة وأقام بها قريباً من عشرة أيام، ونزل به الأمر الذي وجب، وحل به القضاء المكنى أبا العجب. وتوفي رحمه الله تعالى في إحدى الجماديين من السنة المذكورة، وكان قد أشيع أنه طلب للوزارة. ؟ شيخو الأمير الكبير الأتابك سيف الدين الناصري. هو غير الأول، ومن صرح سعده وما تأول، وثبت سؤدده وما تحول، وكاد يكاثر أمواج البحار الزاخرة بما ملك وما تخول، وصدق الملك في أمره وما تقول، وكان قارون عصره، وعزيز مصره، وصاحب العقد والحل، والنقض والإبرام فيما حرم وما حل، وكانت الأمور به ماشيه، والخيرات فاشيه، وعيون حساده بأنوار سعوده عاشيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 تعود على الدنيا عوائد فضله ... فأقبل منها كلّ ما كان أدبرا بحلمٍ كأنّ الأرض منه توقّرت ... وجودٍ كأن البجر منه تفجّرا فقوي بذلك حزبه، وأضاءت في الآفاق شهبه، وأنشأ خلقا كثيرا، وجعل في كل مملكة غير واحد أميرا، وأراهم من إحسانه وخلعه جنةً وحريرا، فكبر نوابه في البلاد وكثروا، وجروا طلقا في ميادين سعودهم وما عثروا. ولم يزل على حاله إلى أن جرعه الدهر بغدره الأمرين، ونكد عيش جماعة كانوا على ملازمته مصرين، فجرح جراحة لم تندمل، وجعلت كل عين عليه بالدموع تنهمل. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. كان قد حظي عند الملك المظفر، وزادت وجاهته حتى شفع في الأمراء إخوة يلبغا وفي الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، وأخرجهم من سجن الإسكندرية، ثم إنه استمر في دولة الملك الناصر حسن أحد أمراء المشور، في اخر الأمر كانت القصص تقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدم، وصار زمام الدولة بيده، وساسها أحسن سياسة بسكون وعدم شر، وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر، وعظم شأنه. ولم يزل على حاله إلى أن رسم السلطان بإمساك الوزير وأخيه الأمير سيف الدين بيبغاروس في طريق الحجاز، وكان شيخو قد خرج متصيداً إلى ناحية طنان، فلما كان يوم السبت رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة رسم السلطان الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الناصر حسن بإمساك الأمير سيف الدين منجك الوزير، وحلف الأمراء لنفسه، وكتب تقليد بنيابة طرابلس باسم الأمير سيف الدين شيخو، وجهز إليه مع الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، فتوجه إليه وأخذه من برا، وحضر به إلى دمشق، فوصل إليها ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، وعلى يده مرسوم السلطان بإقامته في دمشق أميراً على إقطاع الأمير سيف الدين تلك السلامي. وتجهز تلك إلى القاهرة، فما وصل إلا وقد جاء على عقبه الأمير سيف الدين أرغون التاجي وعلى يده مرسوم بإمساكه وتجهيزه إلى باب السلطان، وتقييد مماليكه واعتقالهم بقلعة دمشق. ولما أمسك قرأ: " والفتنة أشدّ من القتل "، وقال: أين الأيمان التي حلفناها؟، وجهز سيفه صحبة الأمير سيف الدين طقتمر الشريفي، ثم جهز الأمير شيخو صحبة الأميرين مقيدا ومعهما الأمير سيف الدين جوبان وثلاثون جندياً يوصلونه إلى غزة، ولما وصلوا إلى قطيا توجهوا به إلى الإسكندرية، ولم يزل بها معتقلاً إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الملك الصالح صالح، فرسم بالإفراج عنه وعن بقية الأمراء الذين اعتقلوا مع الوزير منجك. ووصل الأمير سيف الدين شيخو إلى القاهرة في رابع شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ونزل الأشرفية، واستقر على عادته أولاً، وخرج مع السلطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 الملك الصالح إلى الشام في واقعة بيبغاروس وتوجه إلى حلب هو والأمير طاز وأرغون الكاملي خلف بيبغاروس - على ما تقدم في ترجمة أرغون الكاملي - وعاد مع السلطان إلى القاهرة، ولما أقام بها صمم على العمل على إمساك بيبغاروس وأحمد الساقي وبكلمش بعد ما هربوا إلى الروم، فأمسكوا وحزت رؤوسهم، على ما تقدم في تراجمهم. وصمم أيضاً على إمساك ابن دلغادر، فأمسك، ولم يزل به إلى أن أحضر إلى القاهرة ووسط وعلق على باب زويلة. ثم إنه خرج بنفسه في طلب الأحدب الخارج بالصعيد، وأبعد في طلبه، وعدى مدينة قوص، فهرب أمامه وأمسك من جماعته جماعة كثيرة إلى الغاية، ووسطهم من مكان الظفر بهم إلى القاهرة، وأبلى في أمرهم بلاءً حسناً، وطهر الأرض منهم. وكان ذلك في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة وأوائل سنة خمس وخمسين. ولم يزل مظفراً منصوراً فيما يحاوله. وقلت أنا فيه: شيخو أمير الجيوش سار ... لأحدبٍ باسه لطيخ أهمل أمر العقاب لمّا ... ريّش في ضعفه الفريخ قولوا له أنت في ضلالٍ ... ما فيه خير وفيه ريخ مالك قدّامه مطارٌ ... أنت صبيٌّ وذاك شيخو ولم يزل على حاله إلى أن قيل له: إن الأمير سيف الدين جردمر أخا الأمير سيف الدين طاز والأمير ركن الدين عمر بن أحمد بن بكتمر الساقي قد أوقعا بينك وبين السلطان، وقد عزموا على الإيقاع بك، فتيقظ هو لهذا الأمر، وخلع السلطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الملك الصالح في يوم الاثنين ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وأخرج السلطان الملك الناصر حسن وأجلسه على التخت، وحلف له هو والعساكر، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائبا ومعه إخوته، واستقر هو بالقاهرة على حاله، كل الأمور راجعة إلى أمره، وزادت عظمته بعد ذلك، وزادت أملاكه وإقطاعه ومستأجراته بالشام وبالديار المصرية، وصار نوابه بالشام في كل مدينة أمراء كباراً، وخدموه وبالغوا، إلى أن قيل: إنه كان يدخل ديوانه من إقطاعه وأملاكه ومستأجراته في كل يوم مبلغ مئتي ألف درهم وأكثر، وهذا شيء لم نسمع به في هذه الدولة التركية. وعمر المدرسة العظيمة، والخانقاه المليحة، والتربة الحسنة في الصليبة، وقرر في المدرسة الأربعة مذاهب، ووقف عليها الوقوف العظيمة. ولم يزل على حاله إلى أن كان يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، فخرج شخص من مماليك السلطان المرتجعية عن الأمير سيف الدين منجك يدعى باي قجا، لما جلس السلطان في دار العدل وأذن للخاصكية بالدخول، فوثب عليه وضربه بالسيف في وجهه وفي يده. وكانت واقعةً صعبة، ومات من الزحمة على ما قيل يوم ذاك جماعة، وكان يوماً عظيماً. وركب عشرة من مقدمي الألوف ملبسين وتوجهوا إلى قبة النصر، وأمسك باي قجا المذكور، وقرر فلم يقر على أحد، وقال: أنا قدمت إليه قصة لينقلني من الخاصكية إلى الإقطاع فما قضى شغلي، فبقي هذا الأمر في نفسي. ثم إنه بعد مدة سمر باي قجا وطيف به في الشوارع. واستمر الأمير سيف الدين عليلاً من تلك الجراحة، ولم يصعد منها إلى القلعة إلى أن خرج السلطان إلى سرياقوس، ولم ينزل بها، ثم إنه دخل المدينة قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وتوفي في ليلة الجمعة في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى. وما أحقه أن ينشد يوم موته: ألا رحم الله الأمير فإنّه ... أصمّ به الناعي وإن كان أسمعا وما كان إلاّ السيف لاقى ضريبة ... فقطّعها ثم انثنى فتقطّعا الألقاب والنسب ابن شيخ السلامية: فخر الدين عبد العزيز بن أحمد. والقاضي قطب الدين ناظر الجيش موسى بن أحمد. وولده صلاح الدين يوسف. وجمال الدين إبراهيم بن علي. بنو الشيرازي: جماعة، منهم: كمال الدين أحمد بن محمد. وعماد الدين المحتسب محمد بن أحمد. وشمس الدين محمد بن محمد بن محمد. الشيرازي: قطب الدين محمود بن مسعود. ونجم الدين إبراهيم بن عبد الرحمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 حرف الصاد الصابوني: أمين الدين عبد المحسن بن أحمد. وعلاء الدين علي بن يعقوب. ومجد الدين عيسى بن محمد. وجمال الدين أحمد بن يعقوب. صاروجا بفتح الصاد المهملة، وبعدها ألف وراء وواو وجيم وألف: الأمير صارم الدين المظفري، نسبة إلى مظفر الدين بن جندر. أخبرني الأمير شرف الدين حسين بن جندر قال: قلت للسلطان يوماً وقد أجري ذكره وهو في الاعتقال: يا خوند، هذا ما هو مظفري نسبة إلى المظفر الجاشنكير، وإنما هذا هو مملوك أخي مظفر الدين، فقال: هكذا؟! قلت: نعم، فما كان بعد ذلك إلا أيام حتى أفرج عنه. وكان أولاً بالديار المصرية، ولما أعطى السلطان الأمير سيف الدين تنكز إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك سلم الإقطاع إليه، وقال: هذا آغا متاعك، على رأي الترك، فأحسن صاروجا إلى تنكز وخدمه وثمر له إقطاعه. ولما حضر السلطان من الكرك قيل له عنه إنه يميل إلى أمير موسى بن الصالح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 علي، فأمسكه في واقعة أمير موسى، ثم أفرج عنه بعد مدة تقارب العشرين سنة، وجهزه أميراً إلى صفد، فأقام بها مدة تزيد على السنة والنصف. ثم إنه نقل إلى دمشق على طبلخاناه، وكان الأمير سيف الدين يرعى له خدمته الأولى، وكان إذا خاطبه قال له: يا صارم. ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، فأمسك الأمير سيف الدين بشتاك لما حضر إلى دمشق الأمير صارم الدين صاروجا ، واعتقل في قلعة دمشق في جملة من أمسك في تلك الواقعة، ثم إنه ورد المرسوم على الأمير علاء الدين ألطنبغا بأن يكحله، فدافع الأمير علاء الدين عنه يويمات يسيرة، ثم إنه خاف، فأمر بكحله، فعمي باصره، وكان ذلك عشية نهار، وفي صبيحة ذلك اليوم ورد المرسوم بالعفو عنه، ثم إنه رتب له ما يكفيه، وجهز إلى القدس، فأقام به مدة. ثم إنه عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أخريات سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وتوفي رحمه الله تعالى. وكان رجلاً خير الطباع، سليم الصدر، كثير المؤانسة والإمتاع، قل أن يكون في خزانته شيء، بل الجميع يفرقه على مماليكه الخواص، والذين هم على خدمته وملازمته غواص. وكان كتابه ومن يتحدث في بابه يشكون من ذلك، ويرون أن أيامهم بهذا مثل الليالي الحوالك. وكان الأمير سيف الدين قد ولاه الحكم في البندق، ثم عزله منه وتغير عليه قليلاً، ثم عاد إلى الحنو عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 صاروجا الأمير صارم الدين، نقيب النقباء بالديار المصرية. كان فيه دهاء وخدع، وصد عن الحق وصدع، لا يهاب أميراً ولا وزيرا، ولا يخاف كبيرا ولا صغيرا، له إقدام على السلطان، وعنده تختل ما يهتدي إليه الشيطان. قدمه السلطان وقربه، وأدناه لما عرفه وجر به كثيراً من مراده لما جربه. إلى أن خافه الأمراء، وهابه الكبراء. ولم يزل على ذلك إلى أن فارق الحياة، فجاءه الموت فجاءه، وقطع من الحياة أصله ورجاءه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وثلاثين وسبع مئة. كان نقيباً صغيراً، فلما توفي الأمير عز الدين دقماق نقيب النقباء أمره السلطان وجعله مكانه، وقدمه وعظمه، وصار يدخل إليه على ضوء الشمع، ويتحدث معه في كل ما يريد، حتى خافه الأمراء الكبار وخافه النشو ناظر الخاص، على ما فيه. ثم إنه توجه مع السلطان في السنة المذكورة، لما وصل في تلك السفرة إلى خانق دندرا وعاد، فلما قارب القاهرة وقف صاروجا على بعض المعادي ليعدي الأطلاب، فوقف على بعض الجسور ومد يده بالعصا ليضرب شخصاً تعدى مكانه، فرفع يده بالعصا، فوقع من أعلى الفرس إلى الأرض ميتا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 الألقاب والنسب ابن صارو شهاب الدين أحمد بن إبراهيم. ابن صابر المقدم إبراهيم. ابن الصباغ الكوفي صالح بن عبد الله. ابن الصائغ المقرئ محمد بن أحمد. صالح بن أحمد بن عثمان صلاح الدين القواس، الشاعر البعلبكي. كان رجلاً خيرا، مضيء القلب نيرا، يعبر الرؤيا ويتكلم عليها مناسبا، ويجيد فهمها حاسبا. وينظم القريض، ويأتي به مثل زهر الروض الأريض. وكان كثير الاتضاع، غزير مادة الإمتاع. قد صحب الفقراء زمانا، وحفظ من كلامهم لؤلؤاً وجمانا. وسافر البلاد، وعلم منها ومن أهلها الطارف والتلاد. ولم يزل على حاله إلى أن انفسد مزاج صالح، وتلقاه العيش بعد بشره بوجهه الكالح. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة في سادس عشر شهر ربيع الأول. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 أنشدني شيخنا الذهبي، قال: أنشد المذكور قصيدته السائرة ذات الأوزان، وهي: دائي ثوى بفؤادٍ شفّه سقم ... لمحنتي من دواعي الهمّ والكمد بأضلعي لهبٌ تذكو شرارته ... من الضنى في محلّ الروح من جسدي يوم النوى ظلّ في قلبي له ألمٌ ... وحرقتي وبلائي فيه بالرّصد توجّعي من جوىً شبّت حرارته ... مع العنا قد رثى لي فيه ذو الحسد أصل الهوى ملبسي وجداً به عدمٌ ... لمهجتي من رشا بالحسن منفرد تتبّعي وجه من تزهو نضارته ... لمّا جنى مورثي وجداً مدى الأمد هدّ القوى حسنٌ كالبدر مبتسم ... لفتننتي موهنٌ عند النوى جلدي مودّعي قمرٌ تسبي إشارته ... إذا رنا ساطع الأنوار في البلد مهدي الجوى مولعٌ بالهجر منتقمٌ ... ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد لمصرعي معتدٍ تحلو مرارته ... يا قومنا آخذٌ نحو الردى بيدي قلبي كوى مالكٌ في النفس محتكمٌ ... لقصّتي وهو سولي وهو معتمدي مروّعي سار لا شطّت زيارته ... لمّا انثنى قاتلي عمداً بلا قود قلت: يقال إن هذه القصيدة تقرأ على ثلاث مئة وستين وجها. وقد نظم الناس في هذا النوع قديما وحديثا، وأكثروا، وأحسن هذا النوع ما لم تظهر الكلفة عليه ويكون عذباً منسجما، وأقدم ما يوجد من هذا النوع قول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 أبي الحسن أحمد بن سعد الكاتب الأصبهاني، وكان بعد العشرين والثلاث مئة، وهو: وبلدةٍ قطعتها بضامر ... خفيددٍ عيرانة ركوب وليلة سهرتها لزائر ... ومسعدٍ مواصلٍ حبيب وقينةٍ وصلتها بظاهرٍ ... مسوّدٍ ترب العلا نجيب إذا غوت أرشدتها بخاطرٍ ... مسدّدٍ وهاجسٍ مصيب وقهوة باكرتها لتاجرٍ ... ذي عندٍ في دينه وحوب سورتها كسرتها بماطرٍ ... مبرّدٍ من جمّة القليب وحرب خصم هجتها مكاثر ... ذي عدد في قومه مهيب معرّد إبلٍ سقتها بباترٍ ... مهنّدٍ يغري الطلارسوب وكم حظوظٍ نلتها من قادر ... ممجّدٍ بصنعة القريب كافيت إذ شكرتها في سامرٍ ... ومشهد للملك الرقيب والأبيات المشهورة، وبعض الناس نسبها لأبي العلاء المعري، وما أظن أنا ذلك، وهي: جودي على المستنظر الصبّ الجوي ... وتعطّفي بوصاله لا تظلمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ذا المبتلى المتفكّر القلب الدوي ... واستكشفي عن حاله وترحّمي وصلي ولا تستنكري ذنبي البري ... وترأفي بالواله المستسلم تبدي القلا بتغيّري الحب الأبي ... المتلفي بخباله المتحكّم هذه الأبيات على كاملها من الكامل المسدس على أتم أنواعه، إلا أنه لحق الإضمار بعض أجزائها، فإذا حذفت الجزء الآخر من كل بيت، وجعلت القوافي عند قوله: بوصاله كانت الأبيات من شاذ الكامل المخمس. وأنشد العروضيون في مثله: لمن الصبيّ بجانب الصحراء ... ملقى غير ذي مهد فإذا حذفت من آخر كل بيت جزءين وجعلت القافية عند قوله وتعطفي كانت الأبيات من مربع الكامل، ومثله: وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعاً وتجمّل فإذا اقتصرت على الشطر الأول من كل بيت، وجعلت القافية عند قوله الجوي كان من الضرب الرابع من الرجز، وصار البيت بيتين من مصرع الكامل المسدس، وإن حذفت من الشطر الأول جزءاً، وجعلت القافية عند قوله: الصب بقي معك بيتان مصرعان من أحذ الكامل المضمر، كقول زهير: لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين من حجٍ ومن دهر فإذا نقصت من الشطر الأول جزءين، وجعلت القافية عند قوله: المستنظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 بقي بيتان من مربع الكامل المعرى، وإن شئت من الضرب الخامس من الرجز، وإن اقتصرت على الأجزاء الأول من الأبيات بقي مجموعها الأربعة الأجزاء بيتاً واحداً من مربع الكامل، وإن شئت من أقل أنواع الرجز المحدث، مثل قوله: طيفٌ ألم ... بذي سلم وهذه الأبيات الأربعة تقرأ على عدة وجوه. صالح بن ثامر بن حامد الإمام القاضي الفرضي تاج الدين أبو الفضل الجعبري الشافعي. سمع من ابن خليل، وعبد الحق المنبجي، والضياء صقر، والنظام البلخي، ومجد الدين بن تيمية، وعبد الله بن الخشوعي، والعماد عبد الحميد بن عبد الهاد. وخرج له أمين الدين بن الواني مشيخة. وولي قضاء أماكن. وروى عنه شيخنا علم الدين البرزالي، والواني، والطلبة. كان حاكماً عاقلا، لا يقبل في الحق لائماً ولا عاذلا، خيراً عفيفا، سليم القلب من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 الشر نظيفا. طريقه طريق السلف، يرى وهو بريء من الكبر والتيه والصلف. وكانت يده في الفرائض طولى، وذهنه فيه قد بلغ مراماً ونال سولا. وكان طويلاً مليح الشكل حسن الأخلاق. ولم يزل على حاله إلى أن أراد الله فناءه، وعمر به ربع الخير وفناءه. وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة ست وسبع مئة. ومولده سنة بضع وعشرين وست مئة. وولي قضاء بعلبك، وناب في الحكم بدمشق، وولي الخطابة، واستسقى بالناس. وكان جيد الأحكام. وله قصيدة طويلة في الفرائض. وتولى نيابة الحكم بعده القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن الدمشقي. ولما طلع ليستسقي بالناس في خامس جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وست مئة قعد الأمير علم الدين الدواداري أمام درج المنبر، ولما جاء القاضي تاج الدين الجعبري ليصعد المنبر، ويخطب قال له الدواداري: ما تستسقي بنا وأنت حاكم! فما رأى القاضي في مثل ذلك الجمع أن يرجع ويصعد المنبر غيره، فقال: اشهدوا علي أنني قد عزلت نفسي من الحكم، فقال له الدواداري: اصعد الآن. صالح بن عبد العظيم ابن يونس بن عبد القوي بن ياسين بن سوار المسند تقي الدين العسقلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 سمع من النجيب عبد اللطيف الحراني وغيره، وأجاز لي سنة ثمان وعشرين بالقاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى ... صالح بن عبد الله شرف الدين أبو محمد الصصري ابن بواب المدرسة القيمرية بدمشق. سمع بدمشق ومصر وحلب، وكتب وحصل، وتخرج، وسمع من خلق بعد سنة ثلاثين وسبع مئة، ثم إنه فتر واشتغل بالإسكندرية على ابن النصفي، وتلا بالسبع على أبي حيان. وكان في القاهرة في خدمة القاضي جمال الدين إبراهيم ابن العلامة شهاب الدين محمود، يدور بأولاده ويسمعهم على الأشياخ، فلما توجه جمال الدين إلى كتاب السر في حلب استمر في خدمة القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء، فأثرى وحسنت حاله، وجاء إلى دمشق في قالب غير الأول، وأقام قليلاً، وخدمة الناس، وتوجه إلى القاهرة فأقام بها قليلاً. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. صالح بن عبد الله بن جعفر ابن علي بن صالح بن الصباغ، الشيخ الإمام العالم الزاهد محيي الدين أبو عبد الله الأسدي الكوفي الحنفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 كان فقيه بلده وإمامها في أنواع العلوم والتصوف والزهد والأدب، طلب لتدريس المستنصرية مراراً وامتنع. أجاز له الصغاني في سنة خمسين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة بالكوفة. مات هو يوم الجمعة، ومات قبله ليلة الجمعة الإمام السيد الشريف جمال الدين يوسف بن حماد الحسيني المشهدي، وكان شيخ الشيعة ومفتيها. وله قصائد نبوية، وشعره رقيق، وكان معظما بالمدينة النبوية وبالعراق. صالح بن عبد الوهاب ابن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون الخطيب الفقيه العدل تقي الدين أبو البقاء ابن الشيخ الإمام مجد الدين الحنفي. كان خطيب الجامع بالنيرب بدمشق. سمع من ابن عبد الدايم. وكان ذا هيئة مليحه وخطابة فصيحه، وفيه تودد للأنام، وسماحة يدخل بها في زمرة الكرام. وكان يجلس في حانوت الشهود تحت القلعه، وينفق من رفاقه بحسن خلقه كل سلعه. ولم يزل إلى أن حل الخطب بالخطيب، وحنى الموت غصنه الرطيب. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة ست عشرة وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 ومولده يوم الأربعاء عاشر صفر سنة سبع وخمسين وست مئة. وتولى الخطابة مكانه ولده مجد الدين إبراهيم على عادة والده وجده، ونظم أبوه اسمه عند ولادته فقال: تيّمنت فيه غبطة باسم صالحٍ ... فسمّيته مستهدياً برشاده عسى الله فينا أن يمنّ بفضله ... فيحييه عبداً صالحاً في عباده صالح بن محمد بن قلاوون السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الناصر من ابنة الأمير سيف الدين تنكز رحمهم الله أجمعين. لما كان في يوم الاثنين ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أخذ الأمير سيف الدين طاز والأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور ومن معهما من أرباب الحل والعقد، وخلعوا الملك الناصر حسن، وأجلسوا أخاه الملك الصالح على كرسي الملك بحضور أمير المؤمنين المعتضد أبي الفتح أبي بكر وحضور القضاة، وحلفوا له العساكر، وجهز الأمير سيف الدين بزلار إلى دمشق ليحلف العساكر الشامية. ولما كان في يوم الجمعة آخر النهار ركب أمير آخور المذكور ومنكلي بغا الفخري إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 قبة النصر، وهو رابع شهر رجب الفرد، فركب الأمير طاز والسلطان الملك الصالح، فكانت النصرة للسلطان الملك الصالح عليهما، وعاد إلى القلعة منصوراً، ورسم بالإفراج عن الأمير شيخو وبيبغاروس والوزير منجك وغيرهم ممن كان معتقلاً. واستقرت الأحوال. ولما خرج بيبغاروس وأحمد الساقي وبكلمش بالشام، على ما تقدم في ترجمة المذكورين، خرج الملك الصالح إلى الشام وجرد العساكر إلى دمشق، وجهز نائب الشام الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، والأمير شيخو، والأمير طاز إلى حلب خلف ببيغاروس ومن معه، وأقام في دمشق إلى أن عاد شيخو وطاز، وصام شهر رمضان في دمشق، وصلى الجمعة في الجامع الأموي ثاني شوال، وخرج من الجامع وركب وتوجه بالعساكر إلى الديار المصرية. ولم يزل على حاله إلى أن قيل للأمير سيف الدين شيخو إن السلطان قد اتفق مع الأمير طاز وأخيه جردمر على أنهم يمسكونك، فلما بلغه ذلك خلع الملك الصالح صالحاً، وأجلس السلطان الملك الناصر حسن في ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة على كرسي الملك، فسبحان من لا يحول ولا يزول. وحضر الأمير عز الدين أيدمر الشمسي وحلف عساكر الشام للملك الناصر حسن، وأخرج الأمير طاز لنيابة حلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ولم يزل الملك الصالح على حاله عند والدته ابنة الأمير سيف الدين تنكز لا يركب ولا ينزل إلى أن ورد الخبر إلى الشام بوفاته رحمه الله تعالى في صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وكان مولده في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. ؟ صالح بن مختار ابن صالح بن أبي الفوارس تقي الدين أبو التقي الشيخ الإمام، إمام قبة الشافعي رضي الله عنه الأسنوي. سمع الكثير، وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين آذنا في ذلك لعمر بن علي بن شعيب القرشي. مولده في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى.. اللقب والنسب الصالح بن المنصور علي بن قلاوون. والصالح بن الناصر إسماعيل بن محمد. والصالح أخوه صالح بن محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 ابن صغير الطبيب ناصر الدين محمد بن محمد. صالحة خاتون بنت الملك مجير الدين يعقوب ابن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب. لم يكن في وقتها أعلى نسباً منها. توفيت رحمها الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولدها سنة خمسين وست مئة تقريبا. الألقاب والأنساب ابن صبرة الأمير عز الدين الحسين بن عمر ابن الصباغ النحوي الكوفي محيي الدين عبد الله بن جعفر. ابن صبح الأمير علاء الدين علي بن حسن. الصائغ شمس الدين محمد بن الحسن. ابن الصائغ محب الدين محمد بن عبد الله. ابن الصائغ أبو اليسر محمد بن محمد بن محمد. وأخوه: محمد بن محمد بن محمد. وأخوه: ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد. صدقة بن بيدمر الأمير بدر الدين ابن الأمير سيف الدين، تقدم ذكر والده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 كان هذا الأمير صدقة لو قال: أنا شقيق البدر، كل الناس صدقه، شاباً أجمع الناس على ظرفه وحلاوة تلوين طرفه، أسمر يهزأ قده إذا اهتز بالأسمر، وإذا افتر ثغره الأبيض رأى محبه الموت الأحمر، قد زانه الميل والهيف، وود الحمام لو غنى على قده أو هتف، لطيف الأخلاق، يفوق الناس بجماله على الإطلاق، لم يبقل خده، ولا انكف من سيف ناظره حده. لم يزل في ميدان شبابه الغض، وعنفوان صباه الذي ما انفرط ولا انفض حتى صار القبر لجوهرة صدقة صدفه، ولقيه الموت في وسط شوطه وصدفه. وتوفي - رحمه الله تعالى - عبطة في أوائل شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. وكان أمير عشرة في طرابلس، وهو مضاف إلى دمشق. اللقب والنسب بنو صصرى، جماعة: قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد. وأمين الدين سالم بن محمد. وشرف الدين محمد بن عبد الرحمن. الصفدي، جماعة، منهم: زين الدين عمر بن داود. وولده شهاب الدين أحمد. ونور الدين علي بن إسماعيل. وأمين الدين درويش محمد بن علي. والشيخ نجم الدين الصفدي حسن بن محمد. وولده الخطيب كمال الدين محمد بن حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 صفنجي الأمير سيف الدين الركني، مملوك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير. كانت له مكانة عند أستاذه، ونقل إلى دمشق. وكان ديناً مشكور السيرة. توفي رحمه الله تعالى في رابع عشري صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربته بجبل قاسيون بالقرب من زاوية السيوفي. صفية بنت الشيخ الإمام العالم المحدث مجد الدين أحمد بن عبد الله بن المسلم بن حماد بن ميسرة الأزدي، أم محمد، وتدعى ست الشام. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن أصحاب ابن عساكر، ويحيى الثقفي وغيرهما. وكانت امرأة صالحة مباركة. قصدت الحج فماتت بمدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلي عليها بالحرم الشريف، ودفنت بالبقيع ثاني عشري ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة. ومولدها سنة سبع وأربعين وست مئة. صفية بنت الإمام شرف الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 أحمد بن أحمد المعمرة، أم أحمد المقدسية، زوج الشيخ بهاء الدين بن العز عمر. في الحجة يوم الأربعاء عشري الحجة سنة أربعين وسبع مئة، توفيت رحمها الله تعالى. حدثت بصحيح مسلم عن ابن عبد الدايم. صلغاي الأمير سيف الدين الناصري، من أمراء الأربعين بدمشق. كان يسكن جوار المدرسة القيمرية، وهو صهر الأمير زين الدين كتبغا الحاجب. وكان أميراً ديناً خيراً، يسلم على من يلقاه في الطريق. وكان الأمير سيف الدين تنكز يحبه ولا يفارقه في صيوده. وتوفي رحمه الله تعالى في عشري صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقبرة القبيبات. اللقب والنسب الصفي الهندي محمد بن عبد الرحيم. ابن صف عذاره نجم الدين محمد بن يحيى. ابن الصيرفي المحدث شرف الدين حسن بن علي. ومجد الدين محمد بن محمد. الصياح إبراهيم بن منير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 الصفدي الشيخ نجم الدين الخطيب حسن بن محمد. وزين الدين الموقع عمر بن داود. ونور الدين علي بن إسماعيل. والصفدي: الطبيب. وشهاب الدين الطبيب: أحمد بن يوسف. والصفدي: سراج عمر شيخ سعيد السعداء. صرغتمش الأمير سيف الدين الناصري رأس نوبة. كان جميل الصوره، وصفات الحسن فيه محصولة محصوره، محياه كالبدر السافر في الظلام، أو الشمس إذا برزت من خلف الغمام. كتب وقرا، وأضاف أهل العلم وقرى، وعمر المدرسة المعروفة به بالقاهره، وجعل نجوم محاسنها في الإبداع زاهره، وكان يتلو القرآن على المشايخ، ويحب أن يكون في التجويد ذا قدم راسخ، إلا أن أخلاقه كان فيها شراسه، ونفسه فيها على احتمال الأذى نفاسه، فأقدم على عزل القضاه، واتبع السلطان في ذلك رضاه؛ لأنه كان قد انفرد بالتدبير، وثقلت وطأته على الدولة حتى خف عندها ثبير، وسالمته الأيام، وتيقظ سعده والناس عنه نيام، فكان مع جماله وبطشه يغلو عند من يعتبره بأرشه: كالبدر حسناً وقد يعاوده ... عبوس ليث العرين في عبده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 كأنّما مبرم القضاء به ... من رسله والحمام من رصده ولم يزل عالي الكعب، مالي القلوب بالرعب في حتى أخذ " أخذةً رابيه "، ولم تكن أنياب النوب عنه نابيه، فأمسكه الناصر حسن في العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة. وكان ذلك آخر العهد به. أول ما ورد إلى القاهرة في جلبة الخواجة المعروف بالصواف في سنة سبع وثلاثين أو ثمان وثلاثين وسبع مئة، فاشتراه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بثمانين ألف درهم، وخلع عليه تشريفاً كاملاً بحياصة ذهب، وكتب له توقيعاً بمسامحة كثيرة في متاجره، فقارب الثمن عنه مئة ألف درهم وهذا ما بلغنا ولا سمعنا به في هذه الدولة التركية، وأكثر ما بلغنا عن السلطان الملك المنصور قلاوون الألفي، وكان أقباش مملوك الإمام الناصر قد اشتراه الإمام الناصر بخمسة آلاف دينار أظنها كانت رائجا، وهو الدينار بستة دراهم، أو دينار الجيش: اثنا عشر درهما، ومع ذلك فلم تكن لصرغتمش صورة عند أستاذه ولا مكانة، ومات وهو في الطباق من جملة آحاد الجمدارية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وقد كنت يوماً عند القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وقد أنعم عليه السلطان بعشر طاقات أديم طائفي، فجاء إلى النشو يطلبها، وما احتفل به، وتردد مرات حتى أخذها، ثم إنه بقي بعد ذلك خامل الذكر إلى أيام المظفر حاجي، فخرج مع الأمير فخر الدين أياز السلاح دار لما جاء نائباً إلى حلب وهو معه مسفر حتى يقره في النيابة وعاد، ثم إنه جعل بعد ذلك يتقدم رتبة بعد رتبة إلى أن ورد مع السلطان الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وتوجه الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز إلى حلب خلف بيبغاروس، وبقي هو عند السلطان في دمشق يدبر أمره، إلى أن عاد السلطان إلى مصر، ولما وصلوا إليها عمل على الوزير علم الدين بن زنبور، وقام في أمره قياماً عظيماً، وبالغ في أمره إلى أن أمسكه وصادره، وأخذت منه أموال عظيمة، وقوى نفسه في أمره، وأعاره الأميران شيخو وطاز سكتةً في أمره لأنه توجع، وصمم عليهما، ومنها عظم، ولم يزل إلى أن أعيد الملك الناصر حسن إلى الملك وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب، وبقي هو والأمير شيخو. ولما جرح شيخو تلك الجراحة ومات منها انفرد الأمير صرغتمش بتدبير الملك، وعظم أمره وزاد مكانة، وعزل القضاة بمصر والشام، وغير النواب الكبار، وخضع السلطان له وصبر عليه وأرخى به طول الإمهال إلى أن أمسكه في التاريخ المذكور ومعه حاجب الحجاب الأمير سيف الدين طشتمر القاسمي وملكتمر المحمدي وابن تنكز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وطرغاي وأولاد آراي، وجهز إلى ثغر الإسكندرية، وقضى الله أمره فيه دون الجماعة. وعمر تلك المدرسة، وكان يتعصب لمذهبه كثيراً، وبالغ في عمارتها وزخرفها، وكان يؤثر الفضلاء ويقربهم، ويسأل عن مسائل في اللغة والفقه، ويعظم العجم ويؤثرهم. وكان قد انفرد بالحديث في أمر الأوقاف، وأمر البريد في مصر والشام. وضاق الناس منه، فما كان يركب البريد بمصر أحد إلا بعلمه، ومنع أحداً من البريدية أن يحمل معه دراهم وذهباً أو قماشاً على ظهر خيل البريد، وأمر بأن يعتبروا في قطيا، وزاد في هذا وأمثاله. وبالغ في أمر الأوقاف، وعمرت الأوقاف في أيامه. ووجدت بخطه في حائط المدرسة السلطانية بحلب مكتوبا: أبداً تستردّ ما تهب الدنيا ... فيا ليت جودها كان بخلا وكتب: صرغتمش الناصري. فلما رأيت ذلك عجبت من هذا الاتفاق، فكأنه كاشف نفسه بما وقع له، واستردت الدنيا ما وهبته، وأخذ السلطان من أمواله وحواصله شيئاً يعجز الوصف عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 وكنت أنا قد كتبت قصيدة أمدحه بها، لكني ما جهزتها إليه، وهي: يا همّ لا تدخل إلى خاطري ... فإنّ لي صرغتمش الناصري قد زيّن الله الليالي به ... لأنّه كالقمر الزاهر وكّمل الله المعالي به ... فأصبحت في رونق باهر والملك قد أضحى به في حمىً ... لأنّه كالأسد الخادر غلّ يد الظلم وعدوانه ... وكفّ كفّ الخائن الجائر مسدّد الآراء في فعله ... لأنّه ذو باطن طاهر ما أبصر الناس ولم يسمعوا ... بمثله في الزمن الغابر سيوفه إن سلّها في الوغى ... كبارقٍ تحت الدجى طائر يغمدها في مهجات العدا ... فتكتسي قرب الدم المائر يمينه للجود معتادة ... قد أخجلت صوب الحيا الماطر فعن عطاءٍ جوده حدّثنا ... واللطف يرويه لنا عن جابر كواكب السعد له قد غدت ... تخدمه في الفلك الدائر ومذهب النعمان زاد فضله ... فشاع في البادي وفي الحاضر وزاده حسناً إلى جماله ... فراق في الباطن والظاهر أنشا له مدرسةً حسنها ... بين الورى كما لمثل السائر فسيحة الأرجاء قد زخرفت ... بكلّ لونٍ راق للناظر رخامها مختلفٌ لونه ... كمثل روض يانعٍ زاهر وذهنه متّقدٌ بالذكا ... لأنّه ذو خاطرٍ حاضر وعلمه زاد على غيره ... كلج بحرٍ طافحٍ زاخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 يسبق برق الجوّ إدراكه ... لا كامرئٍ في جهله عاثر يقول من يسمع ألفاظه ... كم ترك الأوّل للآخر فوصفه أعجز كلّ الورى ... من ناظم القول ومن ناثر إنّ الثنا في وصفه قد غدا ... غنيمة الوارد والصادر تلهو به الركبان في سيرهم ... لأنّه أعجوبة السامر يلقى الذي يسعى إلى بابه ... بنائلٍ من جوده الغامر فالله يرعاه ولم ينسه ... عند خطوب الزمن الغادر لأنّه فوّض ما في نفسه ... منه إلى المقتدر القاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 حرف الضاد الضفدع الخياط: محمد بن يوسف. ؟ ضياء الدين المعبدي الشيخ المشهور بالديار المصرية. كان حسن الشكل، ظريفاً، فيه عفة وديانه، وتنديبه ظريف، وتنديره حلو، وكانت له مكارم ووجاهه. قال يوماً - وقد رأى الشيخ محمد القصار وهو في سماع يرقص - فقال له: يا قصار، أنجست الخرقة. فقال له القصار سريعاً: من دقك الخارج. وأضافهم يوماً إنسان؛ وأحضر لهم توتاً، فلما أكلوه، فرغت الضيافة، فقال الشيخ ضياء الدين: يا جماعة، توته، توته، فرغت الحدوته. قال لي شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة السبكي: هو الذي كان السبب في ولاية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قضاء الديار المصرية، وحلف عليه بالطلاق من زوجته ابنة ... وأخذه، وطلع به إلى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين؛ وقال له جئتك بسفيان بن عيينة، أو الثوري، كما قال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وتوفي الشيخ ضياء الدين - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة بالقاهرة بزاويته بالقرب من جامع السلطان. ضياء الدين بن خطيب بيت الآبار: محتسب القاهرة، وناظر البيمارستان المنصوري، اسمه يوسف بن أبي بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 حرف الطاء طابطا بالطاء المهملة وبعدها ألف وباء موحدة وطاء ثانية مهملة وألف، الأمير سيف الدين، والد الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، أحد أمراء المئين مقدمي الألوف بحلب وبدمشق. كان رجلاً أميا، غراً غتميا، لا يعرف ما الناس فيه، ولا يدري الفرق بين الحليم والسفيه، ذاق فقد مثل ذلك الولد، وعدم الصبر عليه والجلد، فالعجب كل العجب حياته بعده، وكونه ما سكن فيه لحده. لم يزل على حاله إلى أن غص بالموت، ونص عليه الفوت. وتوفي - رحمه الله تعالى - بحلب في صفر سنة خمسين وسبع مئة. وفد على البلاد لما حظي ولده عند الملك الناصر محمد، هو وولداه، الأمير سيف الدين أسندمر والأمير سيف الدين قراكز. ولم يزل إلى أن خرج ولده يلبغا إلى حماة نائباً، فخرج هو وأولاده، ولما توجه يلبغا إلى حلب نائباً، توجهوا معه، وصار هو أمير مئة مقدم ألف، وأولاده أمراء. ولما جاء يلبغا نائباً إلى دمشق، حضروا معه، ولما جرى له ما جرى وهرب هربوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 معه، ولما أمسك بحماة أمسكوا، وقيد هو وولده يلبغا، وجهزا إلى مصر، فلما وصلا إلى قاقون، تلقاهما الأمير سيف الدين منجك، وأطلعهما إلى قلعة قاقون، وأفرد كل منهم عن الآخر، ثم إنه أركب الأمير سيف الدين على البريد، وجهز إلى مصر، وأما ولده يلبغا فخنق، وحز رأسه، وجهز بعده. ثم إن طابطا جهز إلى الإسكندرية، ولما تولى الملك الناصر حسن بعده؛ أفرج عنه، وأطلقه، وكان مدة مقامه في الحبس ثلاثة أشهر تقريباً، وأفرج عنه في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. ثم إنه جهز أميراً إلى حلب، فأقام بها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المتقدم. طاجار بالطاء المهملة وبعد الألف جيم وألف بعدها راء، الأمير سيف الدين الدوادار المارداني الناصري. كان شكله مليحا، ووجهه صبيحا، مسترسل شعر الذقن في سواد، خفيف الحركة، لا يلحقه جواد، وكان يغلب عليه اللعب واللهو، والانشراح والزهو، لا يؤثر على الرقص شيئا، ولا يتخذ غير ظله فيئا، على أنه مكنه أستاذه تمكيناً كثيرا، وأحله من الدولة محلاً أثيرا، ركبه في البريد إلى الشام مرات، وتلقاه الناس بالخدم والمبرات، وحصل مالاً جزيلاً في مدة قريبه، واقتنى أشياء من كل صنف عجيبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ولم يزل في لهوه ومجونه، وعدم تثبته وسكونه، إلى أن راح فيمن راح، ونفضت من أمره الراح، في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني الذي تقدم ذكره هو في خوشداشه الذي نبه عليه، وأشار بإصبعه إليه، فقربه السلطان، وولاه الدوادارية بعد إنفصال الأمير سيف الدين بغا الدودار، على ما تقدم في ترجمة بغا، بعناية القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وعناية القاضي شهاب الدين بن فضل الله، لأنه كان صغيراً وكرها سيف الدين بغا، وتوهما أنه يكون طوع ما يختارانه، ويحاولانه منه، فما كان إلا أن تقدم، وذاق طعم الوظيفة، فعاملها بضد ما توهماه فيه، وأملاه منه، وأمره السلطان طبلخاناه، وقال له: والك يا طاجار، ما كان دودار أمير مئة قط، وأنا أعطيك إمرة مئة، فاجعل بالك مني، واقض أشغالك في ضمن أشغالي ولا تقض أشغالي في ضمن أشغالك، وإذا دفع إليك أحد شيئاً من الذهب برطيلاً، احمله إلى كاتبي النشو. وجهزه السلطان مع الأمير سيف الدين طشتمر الساقي إلى صفد، ليقره في النيابة، فأعطاه، على ما قيل، مئة ألف درهم، وجاء من صفد إلى عند الأمير سيف الدين تنكز، فأعطاه جملة، وكان تنكز في مرج الغسولة، فلما رأى خام الأمير سيف الدين تنكز، قال: والله هذا الخام ما هو للسلطان. فبلغ ذلك تنكز، وكان سبب الوحشة بينهما. وكان تنكز إذا طلع إلى المرج، يأخذ حريمه معه، وهن تسع جوار موطوءات، كل واحدة ببيتها وخدمها وجواريها، ويضرب عليهن شقة كبيرة يحشر خامهن فيها، ثم إنه بعد ذلك حضر إلى الشام خمس ست مرات، وقد ذكرت في ترجمة تنكز ما اتفق له، عندما جاء إليه قبل إمساكه، وما دار بينهما، ثم إنه جهزه للسلطان صحبة الأمير سيف الدين بشتاك، لما حضر للحوطة على موجود تنكز، وعاد إلى مصر، فلما توفي السلطان الملك الناصر، تمكن من ولده الملك المنصور أبي بكر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 فيقال: إنه هو الذي حسن له الفتك بقوصون، ولما شعر قوصون بذلك، خلع المنصور، ورتب أخاه الأشرف كجك، وأمسك طاجار وجماعة، وجهزهم إلى إسكندرية، فقتل طاجار مع بشتاك. وكان كثير اللعب يخرج من قدام السلطان، وينزل إلى القاهرة، ويعمل سماعاً، ويرقص، إلى أن يجيء وقت الخدمة، فيطلع إلى القلعة. وكان عليه في الرقص خفة وحركة وروح، وما تقرب إليه عماد الدين بن الرومي بشيء غير الرقص. وكان إذا ساق في البريد في مهم السلطان ينام طول ليله، ويقوم بكرةً، فيركب خيل البريد الجياد، ويسوق مشواراً واحداً من المركز إلى المركز، فإذا وصل المركز، ونزل، قال لمماليكه: صفقوا. فيصفقون له، ويرقص إلى أن يشدوا له الخيل فيركب، ويفعل ذلك من باب مصر إلى باب دمشق، وكذا إذا عاد. وكان بشتاك يحط عليه، ويكرهه، ويندب عليه قدام السلطان، ولما أمسك حمل من بيته إلى القلعة ستة صناديق مملوءة ذهباً، وكان السلطان قد زوجه ابنة الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير، وكانت أولاً زوج الأمير خضر ابن الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب والشام. وطاجار هو الذي عمر الخان الذي في جينين الذي ليس على درب مصر مثله بشد نجم الدين بن الزيبق، وعمر الحوض السبيل الذي في طريق غزة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 طاز بعد الطاء المهملة والألف زاي، ابن قطغاج، بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبعدها غين معجمة وألف وجيم. الأمير سيف الدين أمير مجلس. أول ما اشتهر ذكره في أيام الصالح إسماعيل. وهو شكل تام طويل، نبيه نبيل، شجاع بطل، إذا أعمل فكره خمل معه الكيد من عدوه وبطل، حر النفس والطباع، ما لازم شيمته التي هو عليها من الرضاع، أبي الهمه، قوي العزمه، بريء من التهمه، حمل عسكر مصر بعدده وآلاته، وخيوله التي تربط في اصطبلاته. ولم يزل أميراً إلى أن خلع الكامل شعبان، وأقيم المظفر حاجي، فكان هو أحد الأمراء الستة أرباب الحل والعقد. ولما خلع المظفر، وأقيم السلطان الملك الناصر حسن زادت وجاهته وحرمته. وهو الذي أمسك الأمير سيف الدين بيبغاروس في طريق الحجاز. وهو الذي أمسك الملك المجاهد سيف الإسلام علي بن المؤيد هزبر الدين داود صاحب اليمن، وأحضره إلى مصر. وهو الذي قام في نوبة الملك الناصر حسن لما خلع وأجلس الملك الصالح صالح على كرسي الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وهو الذي قام على الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور، والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، لما ركبا إلى قبة النصر، وخرجا على الملك الصالح بعد أربعة أيام، وهرب الصالح، ودخل إلى والدته، فدخل الأمير طاز إليها، والتزم به لها، واخذه، وركبه، وتوجه به، ورزقهما الله تعالى النصر. وهو الذي سعى في إخراج الأمراء المعتقلين الذين أمسكوا في نوبة الوزير منجك، وبدا منه كل خير، ونصره الله في كل موطن. وكان في درب الحجاز يلبس عباءة وزربولاً، ويخفي نفسه، ويدخل في طلب بيبغاروس، ويتجسس على أخباره. ولما خرج بيبغا من الحبس ووصل إلى حلب نائباً، وحدثته نفسه بالخروج على الدولة، وفشا هذا الأمر وزاد، ووصل بيبغاروس إلى دمشق، جهز قطلوبك الفارسي إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وهو على لد، يقول له: ما لي غريم دون المسلمين والسلطان إلا أنت وطاز، ولما بلغ ذلك إلى الأمير سيف الدين طاز قال: قد رضيت. وسير إليه يقول: أنا أمسكتك في درب الحجاز، وحججت بك، وما مكنت أحداً من أذاك، وأخرجتك من الحبس، وأعطيتك نيابة حلب، وأنت تعرفني جيداً، وأنا واصل إليك، إن أردت بارزتك وحدي، وإن أردت أنا وطلبي وأنت وطلبك، وما حاجة إلى قتال المسلمين وسفك دمائهم. ولما وصل الأمير سيف الدين طاز إلى غزة، ثم اجتمع بالأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وتوجها إلى جهة بيبغاروس، وبلغه الخبر، هرب، وتفرق شمل من كان معه من العساكر، وساقا وراءه إلى حلب، وهرب هو إلى الأبلستين. وقلت أنا في ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 قلت إذا بيبغا أراد خروجاً ... وهو يدري غريمه في الحجاز بيبغا بيبغا طويرٌ ضعيف ... وعليه من طاز قد طاربازي ثم إن الأمير طاز عاد هو والأمير سيف الدين شيخو إلى دمشق، وأخذ السلطان الملك الصالح، وتوجها به والعساكر المصرية إلى القاهرة، واستقروا بها، وجرى بعد ذلك لبيبغا وأحمد الساقي وبكلمش ما جرى، على ما تقدم في ترجمتهم. ولم يزل الأمير سيف الدين طاز على حاله إلى ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، فخلع الملك الصالح، وأعيد الملك الناصر حسن إلى الملك، ورسم للأمير سيف الدين طاز بالخروج إلى حلب نائباً، فخرج إليها، وأقام بها إلى أن ورد المرسوم عليه على يد الأمير سيف الدين منكلي بغا الناصري بحضوره إلى الباب الشريف على البريد في عشرة سروج، وذلك في أول سنة تسع وخمسين، فأقام بحلب يومين ثلاثة، ثم إنه خاشن الأمراء، وأمسكهم، ورسم عليهم، ثم أفرج عنهم بعد ما حوصر من القلعة، وركب في جماعته وطلبه ملبسين، وحضر إلى القطيفة، وعسكر طرابلس وحماة وحلب وجماعة من دمشق يسيرون خلفه منزلةً بمنزلة، وخرج ملك الأمراء أمير علي بمن بقي من عسكر دمشق لابسي السلاح، وقعد له على خان لاجين، فترددت الرسل بينهما، وآخر الأمر حلف له أمير علي نائب الشام على تمكينه من التوجه في عشرة سروج إلى باب السلطان، وتوجه إلى الكسوة، وهناك قيد، وتوجه به منكلي بغا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وأمسك إخوته، واعتقلوا في قلعة دمشق وفي قلعة صفد، وتوجهوا به إلى الكرك، وتوجهت أمه إليه وأم ولده موسى، وولده، ولم يضيق عليه بالكرك. ثم إنه بعد إمساك صرغتمش في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة رسم السلطان بنقله من الكرك إلى إسكندرية، فاعتقل بها، وكحله وهو في حبس الإسكندرية ولم يزل على حاله معتقلاً إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وجرى له ما جرى فأفرج عنه في أول دولة الملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي بتدبير الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، يقال: إنه أنعم عليه بمئة ألف درهم وقماش كثير فاختار أن يكون مقيماً بالقدس، فوصل إلى القدس فيما أظن في أوائل شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ثم إنه جهز إلى دمشق، وفي مستهل المحرم سنة ثلاث وستين وسبع مئة حضر له برلغ مكتوب بالذهب مزمك بأن يكون طرخانا على عادة الأمير منجك، يقيم في أي مكان اختاره من الشام. وكان قد ورد إلى دمشق في أواخر سنة اثنتين وستين، ونزل بالقصر الأبلق، وتوجه ملك الأمراء أمير علي لتلقيه، وكان هو قد عرج عن الطريق، فلم يلقه، وحضر طاز إلى دار السعادة، فلم يلق ملك الأمراء، فعاد إلى القصر، وتوجه ملك الأمراء إليه. وسلم عليه، ثم إنه سكن في الدار التي للأمير سيف الدين تنكز المعروفة بدار الذهب، وأقام بها مدة إلى أن مرض، وانتقل إلى القصر الأبلق، وطول فيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 فتوفي هناك - رحمه الله تعالى - في بكرة الاثنين عشري ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة، ودفن في مقابر الصوفية. أبو طالب ابن حميد القاضي الرئيس الصدر شمس الدين بن حميد. كان في ديوان الجيش بدمشق، ولما طلب القاضي قطب الدين بن شيخ السلامية إلى مصر، حضر للقاضي شمس الدين توقيع بأن يكون ناظر الجيش عوضاً عن قطب الدين، فباشره في يوم السبت ثاني عشري ربيع الآخر، فباشر ذلك مدة، ثم حضر القاضي معين الدين بن حشيش من الديار المصرية على الوظيفة المذكورة، وباشر القاضي شمس الدين بن حميد عوضاً عن القاضي فخر الدين بن المنذر في جيش دمشق، وتوجه ابن المنذر إلى نظر جيش طرابلس. طالوت الصدر الرئيس تاج الدين أبو علي بن الصدر نصير الدين عبد الله بن الشيخ وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي. كان عاقلاً فيه خير ودين قوي، قرئ في داره صحيح البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وكان سمع من ناصر الدين عمر بن القواس، وحدث عنه بدمشق وبطريق الحجاز. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة. طامغار بعد الطاء والألف ميم وغين معجمة وألف وراء: الأمير شهاب الدين بن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أحد أمراء الخمسين بالقاهرة. وكان يسكن على بركة الفيل بالحبانية، حسن الشكل، صاحب صدقة ومعروف. توفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربتهم بالقاهرة. وكان له أخ اسمه إبراهيم في بلاد التتار، أعرفه، وقد جاء مرة رسولاً من القان بوسعيد إلى السلطان الملك الناصر قبل وفاة أخيه المذكور بقليل. طان يرق بطاء مهملة وبعد الألف نون وياء آخر الحروف وراء بعدها قاف: الأمير سيف الدين نائب حماة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 كان حظه عند المظفر قد توفر، وذنبه وخطأه قد تكفر، لا يرى فعله إلا مليحا، ولا يجد وجه وده إلا صبيحا، أثيل المكانه، أثير الاستكانه، إذا شفع فلا يرد، وإذا منع فلا يصد، لا يكاد يصبر عن رؤيته، ولا يراه يحاول أمراً إلا فداه بمهجته، فلذلك أغدق سحائب إنعامه، وروق له شراب إكرامه. ولم يزل حاله عنده مستصحبا، إلى أن قال له اللحد: مرحبا. وجاء الناصر حسن بعده، فأجراه على ما اعتاد، وسلم منه رسن المحبة له واقتاد، وارتاح إلى تعظيمه وارتاد، ولم يزل في أوائل الدولة الناصرية معظم الجانب، مقدم الوجاهة إلى قود المقانب، إلى أن طلع الأمير علاء الدين مغلطاي من الاصطبل، وزحف على هلاك تلك الدولة، وضرب الطبل، فأمسك الوزير منجك وغيره، فأطار بالشر في الآفاق طيره، وكان الأمير سيف الدين طان يرق فيمن أخرجه، ووغر خاطر السلطان عليه، وأحرجه، فخرج إلى حماة نائبا، وباشر أمرها، فأحسن إلى أهلها ذاهباً وآيبا. أول ما ظهر من أمره أنه كان معظماً عند الملك المظفر حاجي، وحضر في أيامه إلى حلب في البريد، وجاء على يده كتاب من المظفر إلى الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام، يقول فيه: إننا قد تراهنا - نحن والخاصكية الأمير سيف الدين الجيبغا وغيره - أنه إن حضر إليك الأمير سيف الدين طان يرق أنك تضربه، وقال المشار إليهم: أنك ما تضربه، فلا تدعنا نغلب معهم، وحضر على يده كتب المذكورين أنه إن ضربه يكن خفية، فما أمكن يلبغا إلا أن ضربه في خفية ضرباً يسيراً خفيفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 ولم يزل أميراً، ثم كبر، وزاد عظمةً في أيام الناصر وأيام الوزير منجك، ولما جرى ما جرى من إمساكه، طلب الأمير سيف الدين أسندمر العمري من حماة، وجهز إليها الأمير سيف الدين طان يرق، فوصل إليها في يوم الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وأخرج إلى حماة في يومه، ولم يمهل، وأقام بحماة إلى أن رسم للأمير سيف الدين أرغون الكاملي بنيابة دمشق، فرسم للأمير سيف الدين طان يرق بالحضور إلى دمشق، والإقامة بها بطالاً، فوصل إليها في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها بطالاً لازماً بيته. ولما تحرك بيبغاروس، وأراد الحضور إلى دمشق وتوجه أرغون الكاملي بالعساكر إلى لد أخذ الأمير سيف الدين طان يرق معه، وكتب إلى السلطان في معناه، فجاء الأمير عز الدين طقطاي الدوادار إلى لد ومعه تقليد للأمير سيف الدين طان يرق بنيابة حماة، وتشريفه، فلبسه هناك، وأقام إلى أن حضر السلطان، ودخل إلى دمشق مع الأمير سيف الدين طان يرق وأرغون الكاملي، وتوجه معهم إلى حلب. ولما عادوا من حلب، قعد هو في حماة مباشراً نيابتها، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ولم يزل بها نائباً إلى أن خلع الملك الصالح صالح، وأعيد الملك الناصر حسن إلى الملك، فخرج الأمير سيف الدين طبجق لإحضار الأمير سيف الدين طان يرق من حماة، والتوجه به إلى مصر، ولما وصل إلى دمشق حضر المرسوم إلى الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام، بأنه يؤخر طان يرق بدمشق، ويدعه مقيماً بها، فأقام بها حسبما رسم به، ثم إنه أعطي إقطاع الأمير سيف الدين قردم وتقدمته، لما توفي بدمشق في التاريخ الذي يذكر في ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وتوجه الأمير سيف الدين طان يرق إلى الحجاز في سنة ست وخمسين وسبع مئة، وعاد إلى دمشق، فأقام بها، ثم ورد المرسوم بإمساكه في سنة تسع وخمسين وسبع مئة، واعتقل بقلعة دمشق مدة من الأشهر، ثم ورد المرسوم بالإفراج عنه، وبقي بطالاً بدمشق. ثم ورد المرسوم بتجهيزه في صفد، فتوجه إليها، وأقام بها، إلى أن أمسك في أواخر سنة تسع وخمسين أو أوائل سنة ستين، وجهز إلى الإسكندرية مع جملة من أمسك، فأقام في الاعتقال إلى أن خلع الملك الناصر حسن بن محمد، وجرى له ما جرى، فأفرج عنه، وأنعم عليه بمبلغ مئة ألف درهم - على ما قيل - وبخيل وبقماش، وأعطي إمرة مئة وتقدمة ألف فارس بدمشق - ووصل إلى دمشق في بكرة الجمعة سادس شعبان سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وجرى لبيدمر نائب الشام ما جرى من الخروج على يلبغا، فلازمه، وتوجه معه بالعسكر إلى غباغب، وجاءهم الخبر بهروب منجك وكسرته، فعادوا إلى دمشق. ولما بات ما أصبح له صباح في دمشق، وتوجه هو وتومان تمر نائب طرابلس إلى نحو يلبغا، وحضروا معه إلى دمشق، ورسم له السلطان بنيابة حماة، فتوجه إليها، وهذه النيابة الثالثة وذلك في شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ولم يزل على حاله في نيابة حماة إلى أن ورد الأمير ناصر الدين محمد العمري من مصر متوجهاً إليه ليأخذه من نيابة حماة، ويتوجه به إلى طرابلس، ليقيم بها أميراً وذلك في أول المحرم سنة أربع وستين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 الألقاب والنسب الطباخي نائب حلب الأمير سيف الدين بلبان. ابن الطبال الحنبليعماد الدين إسماعيل بن علي. ابن الطبيل محمد بن أبي بكر. الطبري صفي الدين أحمد بن محمد ونجم الدين محمد بن أحمد. طرجي بضم الطاء المهملة والراء وبعدها جيم وياء آخر الحروف: الأمير سيف الدين السلاح دار الناصري. كان في زمن الملك الناصر محمد أمير سلاح، كان في تلك الرفعة الأرغونية مقدما، وفي تلك الزمرة معظما، له الوجاهة في الخاصكية المقربين، والتقدم في الأمراء المدربين، وخوشداشيته كلهم كتف واحده، ويد أناملها في البطش متعاضده. ولم يزل في جاهه المتمنع، وعزه الذي هو مترفه مترفع، إلى أن طرح طرجي في قبره، وعز على ذي قرابته معالجة صبره. وتوفي - رحمه الله تعالى - هو والأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار في جمعة واحدة في شهر ربيع الأول أو الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وفي هذه المدة القريبة ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار نائب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 حلب، وكان خواشداشهما، فقال السلطان الملك الناصر: لا إله إلا الله ما هذه إلا آجال متقاربة. وتوهم الناس شيئاً في هذا الأمر، والله أعلم لحقيقته. طرجي الأمير سيف الدين أخو الأمير سيف الدين أرغون شاه. لما توفي الأمير عز الدين أيدمر الطوماري والي الولاة بالصفقة القبلية كتب أرغون شاه إلى السلطان، وسأل أن تكون طبلخاناه المذكور لأخيه، فأجيب إلى ذلك، ثم توفي الأمير نور الدين علي بن حسن بن الأفضل، فأعطي طبلخانته، وكان مقيماً في الديار المصرية، فوصل على الإقطاع المذكور إلى دمشق في إحدى الجماديين سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وأقام بدمشق. فلما مات الأمير سيف الدين قرابغادوادار أرغون شاه كان حوله يمرضه، وأسند وصيته إليه، فمات بعده بخمسة أيام بصق دماً ومات في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، رحمه الله تعالى. ابن طرخان: شمس الدين محمد بن أبي بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 طرغاي الأمير سيف الدين الجاشنكير الناصري. أصله من مماليك الطباخي، وهو خوشداش الأمير علاء الدين أيدغمش. كان ساكناً عاقلا، إلى الموادعة راكنا، ليس في شيء من الشر وإن هان، ولا ممن يدفف على جريح وإن ظهر له البرهان. ولم يزل معظما في بيت السلطان، وسعادته متواصلة الأسطان، إلى أن أخرجه السلطان لنيابة حلب، وأمسك بقرون حماة وحلب، ودخل حلب في ربيع الأول أو أول ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، ولم يزل فيها مقيماً على حاله إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، وصار في مصر، فعزله السلطان من حلب، وعزل نواب الشام أجمعين، فتوجه إلى مصر، وأقام بها إلى أن توفي الأمير سيف الدين آروم بغا نائب طرابلس، فأخرجه الملك الصالح إسماعيل إلى طرابلس نائباً في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها نائباً، إلى أن داناه الحين فاجتاجه، واستقى روحه من بئر جسده، وامتاحه. وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وحضر بعده إلى طرابلس نائباً الأمير شمس الدين آقسنقر. اللقب والنسب طرنا نائب صفد، الأمير سيف الدين بلبان. ابن الطراح قوام الدين الحسن بن محمد. الطرقجي الأمير علم الدين سنجر. طرنطاي الأمير حسام الدين البشمقدار. حضر إلى الشام على البريد هو والأمير سيف الدين تنكز نائب الشام والأمير سيف الدين أرقطاي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين عشرة وسبع مئة. كان بدمشق حاجبا، وحبه على القلوب لإحسانه واجبا، ولم يزل عند تنكز في غاية العظمه، وأمور الدولة به منتظمه، إلى أن وقع بينهما في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة فزالت تلك الألفه، والتحفت بالوحشة تلك التحفه، وعزله من الوظيفة، وأنزله من تلك الرتبة المنيفه، ولم يكن بدمشق في آخر وقت أحسن منه حالا، ولا أوسع أملاكاً وأكثر أموالا، إقطاع في الكثرة مطاع، وحواصل لا يصل إليها الاقتطاف بالاقتطاع، ومماليك كأنهم الكواكب، وجند إذا ركبوا زانوا المواكب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 ولم يزل ينتقل من مصر إلى الشام إلى غزة إلى حمص إلى أن حسم حسامه، وآن اقتسار جسده بالبلى واقتسامه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الجمعة خامس شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وقد عدى السبعين. وحدث عن عيسى المطعم وغيره. وكان بدمشق أميراً بعد ما عزل من الحجوبية، فلما ورد الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى دمشق نائباً، كان عنده مكين المنزلة، خاصاً به، ولما توجه بالعسكر إلى حلب وراء طشتمر حمص اخضر، كان هو المشير المدبر الحال العاقد، وتنكر له الفخري كثيراً، فلما هزم ألطنبغا ولاه الفخري نيابة حمص. ثم إن السلطان الملك الصالح في أول ملكه أعطاه نيابة غزة، فتوجه إليها في خامس عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً سنةً أو أزيد بقليل، ثم طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه إليها في شعبان سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وأقام بها حاجباً. ولما أن توفي الأمير علم الدين الجادلي أعطي إقطاعه وكان إقطاعاً كبيرا، فأقام بمصر حاجباً كبيراً، وكان منجمعاً، لا يدرى به، ولا يدرأ شيئاً، إلى أن توفي الصالح، فأخرج إلى حمص نائباً على البريد، عوضاً عن الأمير سيف الدين إياز الساقي، ووصل إلى دمشق، وتوجه إلى حمص على البريد، فوصل المرسوم بأن يرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 إلى دمشق، ليقيم بها، ويتوجه الأمير سيف الدين قطلقتمر الخليلي الحاجب بدمشق، فرد الأمير حسام الدين من منزلة القسطل، أو يريج العطش، فعاد، وأقام بدمشق أميراً مدة يسيرة. ثم لما أمسك الأمير سيف الدين الملك النائب بصفد جهز نائب غزة الأمير سيف الدين أراق إلى صفد نائباً، ونقل الأمير سيف الدين أولاجا من نيابة حمص إلى نيابة غزة وجهز الأمير حسام الدين البشمقدار إلى نيابة حمص، فأقام بها مدة يسيرة. ولما برز الأمير سيف الدين يلبغا اليحوي إلى ظاهر دمشق في أيام الكامل، كان الأمير حسام الدين أول من جاء إليه، وهو في محفة، ولما ولي السلطان الملك المظفر استمر به في دمشق. ولم يزل بها أميراً مقدم ألف، إلى أن توفي في التاريخ المذكور - رحمه الله تعالى - ولم يخلف ولداً غير ولده الأمير علاء الدين علي أحد أمراء الطبلخانات. طرنطاي أحد أمراء العشرات بدمشق، الأمير حسام الدين الجوكنداري. أول ما علمت من أمره أن الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ولاه مدينة غزة والبر بها في خامس شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه جاء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 غزة، وولاه جعبر، فأقام بها إلى أن توفي الأمير شهاب الدين أحمد بن برق، فطلبه من جعبر، وولاه مدينة دمشق، وخلع عليه خلعة أمير عشرة. وكان شكلاً حسناً، طويلاً أبيض مشرباً حمرة، كثير المكارم والخدمة للناس، والتقرب إليهم. وكنت قد كتبت له توقيعاً بولاية غزة، ونسخته. رسم بالأمر العالي، لا زال يدخر لكل مهم حساما، ويطلع في أفق الولاية كل بدر إذا غاب شهابها أخذ كماله وأربى عليه تماما، أن يرتب المجلس السامي الأميري الحسامي في كذا، سالكاً في هاتين الولايتين ما يجب لهما من الطرق التي تحمد منها العواقب، ويظهر فيها من لمعات الحسام ما يشخص له طرف الشهاب الثاقب، ويبدي فيها من حسن السياسة ما يتساوى في أمنه أهل المراقد والمراقب، لما علم من علو همته في الأوقاف المهمه، وعهد من نهضته في الأمور التي حراسته في جيدها تميمة وسياسته لحسنها تتمه، فليتول ما فوض إليه ولايةً تكون من الشدة والرفق قواما، وتجلو شمس معدلته من ألق الظلم ظلاما، وتعلي المحق على المبطل، فإن له مقالاً ومقاما، وليجتنب أخذ البريء بصاحب الذنب، وليحذر الميل على الضعيف الذي لا جنب له، ويترك صاحب الجنب وعمارة البلاد، فهو المقدم من هذا المهم، والمقصود بكل لفظ تم له المعنى أو لم يتم، فليتوخ العدل فإنه أنفع للبلاد، من صوب العهاد والسحب الماطرة، وألذ لأهل القرى من ولوج الكرى في الجفون الساهرة، فإنه لا غيث مع العيث، ولا حلم مع الظلم، وليتعمد الإنصاف بين الخصوم فما كل نار ضرم، ولا كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 شحم يراه في الورى ورم، وليصل باع من لاله إلى الحق وصول، وليتذكر قوله عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكل راع مسؤول، فليكن تقوى الله عز وجل ركنه السديد، وذخره العتيد، وكنزه الذي ينمي على الإنفاق، وكل كنز على طول المدى يبيد، والله يحرس سرحه، ويرعاه، ويوفق لكل خير مسعاه، والاعتماد في ذلك على الخط الكريم أعلاه، والله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى. طشبغا بفتح الطاء المهملة وسكون الشين المعجمة وباء موحدة وغين معجمة بعدها ألف: الأمير سيف الدين الدوادار الناصري. كان شكلاً حسناً إلى الغايه، ووجهه في الجمال آيه، يكتب خطاً كأن سطوره جداول قد ترقرقت، أو عقود جواهر قد تنظمت وتنسقت. وباشر الوظيفة في المرة الأولى بصلف زانه لما زاد، وأمانة فاز بها الجنيد لما قاربها أو قد كاد، إلى أن وقع بينه وبين القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء، فأخرج إلى دمشق بطالا، وجرى غمام دمعه على ما فارق من مصر هطالا، وأقام بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 ثم أعطي إمره، وقدم في دمشق على زمره، وتزوج ابنة الأمير سيف الدين أيتمش نائب دمشق فتعلى، وجاء إليه إقبال كان عنه تولى، ثم أعيد إلى الدوادارية بمصر، فأقام فيها مدة يسيره، وأعيد إلى دمشق على تلك الوتيره، فأقام بها قليلاً إلى أن محيت آيته، وانتهت من الحياة غايته. وتوفي - رحمه الله - بدمشق ثاني عيد رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. كان هذا طشبغا أولاً عند آنوك ابن السلطان الملك الناصر جمداراً صغيراً، وكان صورة بديعة الحسن، كان آنوك - على ما قيل - يحمل سر موزة طشبغا هذا على جسده تحت قميصه، ويقول له: يا طشبغا أنا جمدارك، ما أنت جمداري. ثم إنه كان دواداراً صغيراً في أيام الملك الصالح. ولم يزل إلى أن أخرج الأمير سيف الدين جرجي من الدوادارية في أول دولة الملك الناصر حسن في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فعمل الدوادارية بصلف زائد، وضبط موقعي الدست والقصص التي تدخل إلى دار العدل والتي تخرج، والكتب التي تكتب والتواقيع قبل دخولها في العلامة وبعدها، فإذا تأملها أولاً وآخراً أعطاها من يده لأربابها، ولم يسمع عنه في تلك المدة أنه قبل لأحد شيئاً. ولم يزل على حاله إلى أن وقع بينه وبين القاضي علاء الدين كاتب السر بسبب شخص من الموقعين يعرف بابن البقاعي، انتصر له طشبغا، وحضر إلى الديوان في حفدته، وسل عليه السيف، وأساء أدبه عليه، وضربه بيده، فتشاكيا إلى الأمراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وإلى النائب، فرسم بإخراج الدوادار إلى دمشق، فوصلها على البريد في يوم عيد الأضحى سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها مديدة بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه بدمشق، وزوجه نائب دمشق الأمير سيف الدين أيتمش بابنته بعدما شاور السلطان والأمراء في ذلك، وأقام بدمشق إلى أن أمسك الوزير منجك، فطلب إلى مصر لأن الأمير علاء الدين مغلطاي كان زوج أخت امرأة طشبغا، فتوجه إليها يوم السبت ثاني عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، ولما دخل على السلطان أقبل عليه إقبالاً كبيرا، وولاه الدوادارية، وقدم المصريون له شيئاً كثيرا. ولما جرى للأمير سيف الدين أرغون الكاملي ما جرى، وحضر إلى دمشق من حلب، أرسل السلطان طشبغا الدوادار إليه بناءً على أنه في حلب، فوجده في الرملة متوجهاً إلى باب السلطان، فعاد به إلى مصر، وحضر معه إلى نيابة حلب، فوصلا إلى دمشق في يوم الأحد بعد العصر خامس صفر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، فأعطاه نائب حلب شيئاً كثيراً إلى الغاية وفي يوم الاثنين سابع عشري صفر توجه من دمشق عائداً إلى مصر. ثم إنه لما جرى ما جرى، وخلع الملك الناصر وتولى الملك الصالح صالح أقام على الدوادارية مديدة، ثم إنه حضر إلى دمشق في حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها بطالاً. ومرض مدة، ثم توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور. وكان يكتب كتابة حسنة منسوبة، وكان فيه ميل إلى الفضلاء، كان بدمشق يسير يستعير مني التذكرة التي لي جزءاً بعد جزء يطالعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 طشتمر الأمير سيف الدين حمص أخضر الساقي الناصري. كان شكلاً ضخما، ووجهه ممتلئ لحما، قد طالت مدته في الإمره، وجمع من أزاهر الذهب والفضة كل حضره، فزادت أملاكه، ونمت أجورها، وعظمت خزائنه، وملئت بالأموال حجورها، إلا أنه كان عطاؤه عطاء الملوك، وإذا جاء وهب الجواهر التي في السلوك. وفيه بر للفقراء وإيثار، وجود لهم على طول المدى مدرار، وأمسكه السلطان مرتين، ولم يتمكن من أذاه كرتين. ثم إنه أخرجه إلى صفد نائبا، فترك فوده لذلك الهول شائبا، لأنه كان يستقل نيابة دمشق استكباراً وعلوا، واستهتاراً منه وعتوا، فأقام بها إلى أن رسم له بإمساك تنكز، فحضر إليه، وأمسكه، وأخذ ثأره منه وأدركه. ثم إنه توجه إلى حلب نائبا، بل جاء هاماً مالكاً صاحبا، فأظهر فيها من العظمة ما أظهر، وأبدى فيها من البذخ ما أرمد عيون أهلها وأسهر. ثم إنه قام في ناصر أحمد الناصر، ورام غاية ما كانت تبعد عليه إلا أن جده قاصر، فتعكس وهرب إلى البلاد الرومية في فصل تفاقم برده وبرده، ولم يقاوم جليده جلده، وقاس شقة الطريق، وقاسى أهوالا، ورأى أوحالاً صعبت عليه أحوالا. ثم إنه عاد وجعل في مصر نائبا، ولم يدر أنه سهم القدر إذا أرسل كان صائبا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 فأمسك بعد مدة قصيره، وذهب به إلى الكرك والعيون لفقده غير بصيره، فقتل هو والفخري صبراً بالسيف، وتحيفهما الحين والحيف. وكانت قتلته في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وإنما كان يسمى حمص أخضر لأنه لما كان في الطباق كان يأكله كثيراً، فسماه خوشداشوه بذلك. وكان في طبقة أرغون الدوادار وتلك الرفعة، وأراد السلطان مرةً إمساكه وإمساك أخيه قطلوبغا الفخري، وكان يدعوه أخي، وأنا شاك في إمساك الفخري في هذه المرة، فوقف الحرافيش تحت القلعة، واستغاثوا، ودخل خوشداشيته على السلطان، فأفرج عنهما، وعلم أنه لا قبل له بهما. ثم إنه لما أمسك الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وجهزه إلى حلب نائباً أمسكهما، وكان الأمير سيف الدين تنكز تلك الأيام في القاهرة، فشفع فيهما، فأفرج عنهما، وقال له: يا أمير، هذا المجنون - يعني الفخري - خذه معك إلى الشام، وهذا العاقل - يعني طشتمر - دعه عندي. فخرج الفخري إلى الشام، وأقام طشتمر في القاهرة وهو مستوحش الباطن. ولما توجه السلطان إلى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة كان طشتمر أحد الأمراء الأربعة الذين جعلهم مقيمين في القاهرة. وكان في أول أمره مليحاً حسن الصورة، وكان القاضي كريم الدين يتولى عمائره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 بنفسه، وهو الذي عمر له الدار التي عند حدرة البقر والإصطبل، ولها تلك البوابة العظمى والربع التي إلى جانبها التي ليس في القاهرة مثلها. ولما جهزه إلى صفد في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، استعفى وتضرع، وطلب الإقالة فدخل قوصون إلى المرقد، وخرج مرتين، وفي الثالثة قال له: بس الأرض، ولا تتكلم كلمة واحدة، فباس الأرض، وتوجه إلى بيته، وجهز إليه السلطان خيولاً بسروجها وأنعاماً. وفي يوم الخميس أجلسه بين يديه بعد الخدمة، وقال له: ما أجهزك إلى الشام إلا لتقضي لي فيه شغلاً. وأكب على رأسه، يقبله، وودعه. قلت: وكان ذلك الشغل المشؤوم إمساك تنكز. وجهز معه طاجار الدوادار، وقال: بعدما توصله إلى صفد؛ توجه إلى دمشق، وقل للأمير نائب الشام: هذا خوشداشك الكبير، وقد صار جارك، فراعه، ولا تعامله معاملة من تقدم. ومرض في صفد مرضة عظيمة، أشرف فيها على التلف، وعمر له قبراً في مغارة يعقوب بصفد، وفرغ منه، ثم إنه عوفي بعد ذلك. ثم إن السلطان جهز إليه للقبض على تنكز مع بهادر حلاوة الأوشاقي، فتوهم، وظن أن ذلك مكيدة لإمساكه نفسه، وقام من صفد المؤذن قبل انفجار الصبح، وساق منها في جماعته حتى وصل إلى المزة قبل الظهر، وهذا سوق عظيم لا يفعله غيره، لأن دمشق عن صفد مسافة يومين وأكثر، ثم إن الطريق محجر ووعر، لا يتمكن الفارس أن يسوق فيه. ولما أمسكه - على ما تقدم في ترجمة تنكز - وجهزه إلى باب السلطان مقيداً دخل إلى دمشق، ونزل في النجيبية وحدثته نفسه بنيابة الشام، فورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 إليه المرسوم بالتوجه إلى باب السلطان، فسار إليه من صفد على البريد، ولما وصل إليه شكره وأمر له بنيابة حلب، فورد إليها، وأقام بها نائباً، إلى أن خلع الملك المنصور أبو بكر، وولي الملك الأشرف كجك، وطلب الناصر أحمد إلى القاهرة، فامتنع، وجهز الفخري لمحاصرة الكرك، فلما بلغ ذلك طشتمر قام وقعد، وقلق لذلك قلقاً زائداً واضطرب اضطراباً عظيماً، وقال: هذا أمر ما أوافق أنا عليه أبداً، لأننا حلفنا لأستاذنا ولأولاده من بعده غير مرة، ولما أمسكنا تنكز، حلفنا له ولهم، والسلطان قد مات، وهذا سيدي أحمد في الكرك ووالده أعطاه إياها، فكيف يليق بنا - معاشر مماليكه - أن نخلع ابنه الواحد من ملكه الذي نص عليه، وقرره، ونهجج أولاده وحريمه إلى قوص، ونحاصر ولده الأكبر في الكرك، أيش يقول العدو عنا؟! وسير كتبه بهذه المادة، وما جرى مجراها إلى قوصون وإلى الأمراء الكبار وإلى ألطنبغا نائب دمشق، وتواتر منه ذلك، وتحامل عليه ألطنبغا، واتفق مع قوصون أنه يتوجه إلى محاربته بعسكر دمشق وإمساكه أو طرده، فجرى ما ذكرته في ترجمة ألطنبغا. ولما برز طشتمر من حلب، وعلم أن ما في يده من أمراء حلب شيئاً خرج من حلب، وترك خزانته وحواصله بها، وحمل ما يقدر عليه من الذهب الفضة والحوائص وما أشبه ذلك، ولحقه بعض عساكر حلب، وما أقدموا عليه وجعل كلما مر على قلعة من حصون حلب ناوشه عسكرها القتال، وهو يخلص من الجميع، ودخل إلى الروم في أمطار عظيمة وثلوج زائدة، وبقي هناك إلى أن ملك الفخري دمشق، وانهزم ألطبنغا ومن معه إلى مصر، على ما تقدم. وكتب الفخري إلى الناصر أحمد يطلب حضوره إلى دمشق، فشرع يدافعه من وقت إلى وقت، حتى فهم عنه أنه ما يحضر إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 بعد حضور طشتمر، فجهز الفخري البريد إلى أرتنا حاكم الروم، واجتهد في حضور طشتمر كل الاجتهاد. فلما كان في شهر رمضان، وصل طشتمر إلى دمشق، وكان قد خرج من حلب في أوائل جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، وقاسى في الطرقات مشاق ومصاعب، ونجا من الموت مرات. ثم إن الفخري وطشتمر توجهوا بالعساكر الشامية، ولما وصلوا إلى غزة بلغهم أن الناصر أحمد توجه من الكرك إلى القاهرة، فدخلوا إلى مصر بعده، وأقبل عليهما وقررا له الملك تقريراً ما فرح به غيره، لاجتماع العساكر بمصر والشام والقضاة بمصر والشام والخليفة، وكان يوماً عظيماً، قل أن وقع في مصر مثله، ثم إنه قرر طشتمر في نيابة مصر، وبعث الفخري إلى دمشق نائباً. فأقام وطشتمر في النيابة تقدير أربعين يوماً، وعمل النيابة بعظمة زائدة إلى الغاية القصوى، وتحجر على السلطان زائداً، ومنع الناس من الدخول إليه فصبر السلطان عليه، إلى أن خرج الفخري إلى الشام، وتوسط الرمل، وطلب طشتمر، فدخل إليه فأمسكه في القصر عنده، وجهز ألطنبغا المارداني في الحال وغيره لإمساك الفخري، وخرج السلطان من القاهرة، وتوجه إلى الكرك، وأخذ طشتمر معه معتقلاً، وجهز إلى ألطنبغا ليجهز الفخري إليه إلى الكرك، فوصل إليه، وجعل الاثنين في الاعتقال بقلعة الكرك، فأقاما مدة يسيرة، فقيل: إن السلطان بات برا الكرك ليلة، وأنهما كسرا باب محبسهما، وخرجا منه، وجاء الخبر، فأمر بإحضارهما إليه، وضرب عنقهما بالسيف صبراً، رحمهما الله تعالى. وقلت أنا فيه؛ لما قتل - رحمه الله تعالى -: طوى الردى طشتمراً بعدما ... بالغ في دفع الأذى واحترس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 عهدي به كان شديد القوى ... أشجع من يركب ظهر الفرس ألم تقولوا حمّصاً أخضرا ... تعجبّوا بالله كيف اندرس وقد بسطت ترجمته في تاريخي الكبير أكثر من هذا، وهو الذي عمر الحمامين المليحين اللذين في الزريبة بالقاهرة، وعمر الربع العظيم الذي في الحريريين داخل القاهرة، وعمر حماماً حسناً بصفد، وقال بهاء الدين الرهاوي لما اجتمع بالفخري في دمشق: قد أقبل الفخري في موكبٍ ... أعاذه الله من العين والحمّص الأخضر في فرحة ... لأجلها صار بقلبين طشتمر طلليه، الأمير سيف الدين، بالطاء المهملة وبعدها لامان متحركان بالفتح وبعدما ياء آخر الحروف ساكنة وهاء، إنما عرف بهذا لأنه كان إذا تكلم بشيء قال في آخره: طلليه، كأنه يغني بها. كان من المماليك الناصرية، وعظم أخيراً في أيام المظفر حاجي، وجعل أمير سلاح، وهو من أمراء المشور، والذين يكتبون إليهم نواب الشام قرين مطالعات السلطان. ولم يزل في هذه الرتبة إلى أن صار ربع الحياة من طلليه طللا، وحمل إلى قبره وقد نشرت الرحمة عليه ظللا. لأنه توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ططق الأمير سيف الدين الأحمدي، نسبةً إلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي؛ أمير جاندار، وقد تقدم ذكره في مكانه. كان عارفاً خبيرا، درباً بالأمور لا كمن لا يعرف قبيلاً ولا دبيرا، يكتب فيكبت حساده، ويقرأ فيرقا ويعلو أضداده، استراح به أرغون الكاملي مدة نيابته لما كان له دوداراً، ورأى من العز والعظمة ما لم يره كسرى ولا دارا، وعمل النيابة بالرحبة جيدا، وكان من العربان منصوراً مؤيدا، فابتسم به ذلك الثغر بعد قطوبه، ومعاناة كروبه، ومداناة حروبه. إلى أن جاءه الأمر الذي لا تمنع منه الحصون، وأذاع من حينه السر المصون. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة. كان المذكور من مماليك الأحمدي، أمير جاندار، ولما تأمر الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، أخذ جماعة من مماليك الأحمدي، فكان هذا ططق المذكور دواداره، وكان عاقلاً خبيراً مهذباً مدرباً، فاستراح به الكامل في نيابة حلب ودمشق، وكان بدمشق أمير عشرة، ولما عادوا إلى حلب ثانياً من دمشق أعطي إمرة طبلخاناه، ولما طلب الكاملي إلى مصر، توجه معه، وأمسك الكاملي على ما تقدم في ترجمته، بقي بطالاً مدة، ثم إنه أعطي طبلخاناه، وجهز إلى دمشق، فحضر إليها، وعرض جنده بدار السعادة في رابع عشر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وأقام بدمشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 قليلا، ثم طلب إلى دمشق قليلا، ثم طلب إلى مصر، وعاد صحبة السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي، لما وصل دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر، ولما كان بعد عيد رمضان ألبس الأمير ططق تشريفاً، وأعطي تقدمة ألف، وجهز إلى الرحبة في أوائل شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وكان بها نائباً، فسد ثغرها، وشد أمرها، ومنعها من أذى العربان إلى أن توفي، رحمه الله تعالى. وكان يودني، ويثني علي ثناء كثيراً، ولم أجتمع به، وكتبت إليه، وهو بحلب لما أظفرهم الله تعالى بأحمد الساقي وبكلمش وبيبغاروس وقراجا بن دلغار قصيدةً وهي: يا حسنه لمّا رمق ... لم يبق في جسمي رمق أحوى اللّواحظ ناعس ... أنفى جفوني بالأرق حلو المقبل باردٌ ... ملأ الجوانح بالحرق حسد الصباح جبينه ... لضيائه حتّى انفلق فالورد مثل خدوده ... وعليه كالطّلّ العرق والثغر ليلٌ صبحه ... فرق وفي الخدّ الشّفق شكري ليالي وصله ... شكر العفاة ندى ططق فهو الدوادار الّذي اص ... طبح الفضائل واغتبق أفعاله من حكمةٍ ... تجري على نسق اليسق وسكوته لسكونه ... وإذا تكلّم قال حق كم مسلمٍ بيراعه ... بين الأنام قد ارتزق وإذا برى أقلامه ... أبدى الأزاهر في الورق تغنى الملوك برأيه ... إن حان أمرٌ أو طرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 أثنى العدوّ عليه حت ... ى قال حاسده صدق تشكو دمشق فراقه ... فنسيمها بادي القلق يعتّل عند هبوبه ... وله الغدير صفا ورق وكأنّ نشر رياضها ... منه استعار أو استرق طوبى لمن بجنابه ... قد لاذ يوماً واعتلق من يمن طلعته وهي ال ... أعدا وصاروا في وهق أرأيت أحمد إذ غدا ... في نار بكلمش احترق وأتى كذلك بيبغا ... فتلاهما عطف النسق حزّت رؤوسهم وذ ... لك من عجائب ما اتفق مرقوا من الدين الحني ... ف لذاك راحوا في المرق وتمام كلّ مسرّةٍ ... إمساك من منهم أبق هذا قراجا الغادر ال ... باغي على كل الفرق وافى لمصرع حينه ... وبحبل طغواه اختنق كم هز رمح رزيّة ... وسهام بغي قد رشق مات الملوك بغصّةٍ ... منه وعمّهم الشرق قد كان فرعون الوغى ... لكن تداركه الغرق بسعادة سيفية ... أعطاكها رب الفلق لم تسر قط لغارة ... إلا ونصرك قد سبق وكأن ذكرك في الملا ... مسك تأرج وانفتق فاسلم ودم في نعمة ... ما هب ريح أو خفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 طغاي الأمير سيف الدين الكبير. لم يكن في مماليك أستاذه من حاز جماله، ولا بلغ القمر كماله، ولا ملك الرمح قده، ولا رأى السيف مضاء جفنه ولا حده، وكان شاباً أبيض طويلا، لا تجد العيون لجماله نداً ولا مثيلا، قد فات الوصف، وفاق ثغره عقد الجوهر في الرصف. وأما مكانته فما ملكها في وقته أحد ولا حازها، ولا داناها فضلاً عن أن يكون جازها. كان السلطان يكون مع خواصه يمزح، ويجول في ميدان خلوته ويمرح، حتى يقال: جاء طغاي، وكل منهم ينزوي، ويميل إلى مكانه المعروف به وينضوي، وكان يضع يده في حياصة أكبر الخواص، والذي لا يجد السلطان عنه مناص، ويخرج به إلى برا، ويرميه إلى الأرض، ويضربه مئتي دبوس، وهلم جرا. هذا والسلطان يرى ويسمع، وماله إلى خلاص ذلك نظر يطمح، ولا أمل يطمع، وحسبك أن تنكز ما كان يطير إلا بجناحه، ولا يتوصل إلى نيل مقاصده إلا بنجاحه. ولم يزل على حاله إلى أن زالت سعادته، وفرغت من الإقبال عليه مائدته، فاستحال عليه وما استحيا، وأعرض عنه ولم يسمع فيه لوماً ولا لحيا، وأخرجه إلى صفد، وأحوجه بعد العطاء الجزيل والصفد، وبعد قليل أخذه من صفد في صفد، وعمد إليه سيفاً، فأغمده في جفن حبسه، وفقد الناس مثله في أبناء جنسه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في الإسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 وكان سبب تغيره عليه أمور منها أنه لما مرض السلطان احتاج إلى أن يحلق رأسه، فحلقه، وحلق مماليك السلطان رؤوسهم، ولم يحلق طغاي ذؤابته، وكانت سوداء طويلة، مليحة إلى الغاية، ثم إنه طلب كلاً منهم على انفراد، وقال له فيما بينه وبينه. يكون نظرك على أولادي وحريمي ومماليكي؛ فأنت الذي يتم لك الأمر بعدي. فكل منهم تنصل، وبكى، وقال: هذا أمر لا يكون أبداً، ولا أوفق عليه، والله يجعلنا فداء مولانا السلطان، ولم ير من أحد من هؤلاء المقربين إقبالاً على ما قاله، فلما قال مثل ذلك لطغاي؛ رأى منه إقبالاً، وشم من أنفاسه الميل إلى طلب الملك، فكتم ذلك في باطنه، وأخرجه إلى صفد نائباً في ثالث عشري صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فحضر إليها يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وأقام بها تقدير شهرين، وحضر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي على البريد، وقال له: قد رسم لك بنيابة الكرك، فبات على ذلك، وجهز إليه له، وكان مع مغلطاي كتب السلطان إلى أمراء صفد بإمساكه، فلما كان يوم الخميس، ركب عسكر صفد، ووقفوا في الميدان، فلما علم ذلك قال: يا خوشداش، عليك سمع وطاعة لمولانا السلطان. قال: نعم. وحل سيفه بيده، فأحضر له القيد، وقيد، وتوجه به إلى مصر، وقد رأيته وقد خرج من دار النيابة بصفد، ليركب البغل الذي أحضر له، وكلما هم بالركوب تعلق فيه مماليكه، ومنعوه من الركوب، وبكى هو، وبكوا، وفعلوا ذلك مرات، وهو من طول قامته ظاهر عنهم ببعض صدره، وكان وجهه مبدعاً في الحسن، بارعاً في الجمال. وتوجه به إلى إسكندرية، وذلك في ثامن جمادى الأولى من السنة المذكورة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وكان آخر العهد به، وقبره ظاهر في إسكندرية في تربة يزوره الناس كما يزورون قبور الصالحين. وهو الذي عمر الخان الذي للسبيل بالقصير المعيني - رحمه الله تعالى -. ولما وصل إلى صفد كان الأمير سيف الدين تنكز يجهز إليه كل يوم والثاني حملي فاكهة وحلوى وكذلك الصاحب شمس الدين غبريال، ما أخلا بذلك مدة مقامه بصفد، وحضر إليه يوماً بريدي وعلى يده كتاب من الأمير سيف الدين تنكز على العادة، فيما كان يكتب به إلى نواب الشام في مهمات الدولة، فلما رأى الكتاب رمى البريدي إلى الأرض، وضربه مئتي عصاً، وقال: والك! أنا إلى الآن ما برد خدي من ركبة السلطان وفخذه، وصار تنكز يأمر علي، وينهي. وقال يوماً للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الديوان بصفد: والله، أنا مالي عند السلطان ذنب أخافه، ولا أخشاه، ولكن أخشى ممن يستشيره في أمري، فإنا كنا إذا استشارنا في أمر أحد قد غضب عليه نقول: يا خوند، اقتله. فأنا أخشى من مثل هؤلاء محاضر السوء. وقلت - وقد داخلتني رقة عظيمة - وقد رأيته ومماليكه يودعونه: تشفّى مماليك المليك بحادثٍ ... ألمّ بمن عنه الثّناء يطيب وقالوا: طغى فينا طغاي وما طغى ... ومن أين للوجه المليح ذنوب طغاي ابن سوتاي، هو الحاج طغاي بن النوين سوتاي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 لما توفي سوتاي والده، وثب على الحكم على التومان الذي بديار بكر علي باشاخال بوسعيد، فحاربه الحاج طغاي غير مرة، وانكسر الحاج طغاي غير مرةً، ويعود إلى حرب علي باشا، وما يعود عنه إلى أن قال علي باشا: ما رأيت أقوى من وجه هذا، ولكن هذا حمار حرب. ولم يزل بعد قتل علي باشا في محاربة قوم بعد قوم من التتار، وهو ملاحظ المسلمين متحيز إليهم، إلى أن قتله إبراهيم شاه بن بارنباي أخيه على ما تقدم في ترجمة إبراهيم شاه، وجاء الخبر بقتله من نواب الثغور والأطراف في يوم عاشوراء سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وحز إبراهيم شاه رأسه بيده. كان المذكور حمار حرب، وحمال طعن وضرب، لا يرجع عن القتال ولا ينثني، ولا يطأطئ رأسه لرزية ولا ينحني، إلى أن غدر به ابن أخيه، وشده في أواخيه، ولم تنفعه قرابه، وما جرد سيفه إلا أن يكون عنق عمه قرابه، فأصبح بين قومه مخذلا، وأمسى على التراب مجدلا، على أنه كان ردءاً للمسلمين، وبدءاً وعوداً في الذب عن المؤمنين، فالله يرحمه قتيلا، ولا يحرمه من أجره نقيراً ولا فتيلا. طغاي مملوك الأمير سيف الدين تنكز وأمير آخوره. كان في آخر وقت قد تمكن من أستاذه تمكناً زائدا، وأصبح لولا الخوف من السلطان جعله للجيوش قائدا، وكان لا يخالفه في أمر، ولا يرجع إلى غير رأيه بخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 زيد ولا عمرو، فكان هو وسيف الدين جنغاي المقدم ذكره - قد استحوذا على عقله، ومن سواهما عنده أخبر بنقله، على أن طغاي وجنغاي لم ير الناس منهما إلا ما أحبوه، ولم يحركا على أحد ساكناً، وإن كان الناس قد أوقدوا جمر الفتن، وشبوه. وما زال عند مخدومه في مكانة تسفل زحل عن تربها، وتصغر الشمس عن أن تكون في رتبة تربها، إلى أن أمسك، وقيل له: بعيد بين يومك وأمسك، ففصل السيف جسده نصفين، وكان ألفاً واحداً فأصبح ألفين. وكان ذلك في المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. يقال عن هذا طغاي: إنه خلص من أستاذه من الإقطاعات في الحلقة الأويراتية والوافدية ألف إقطاع، والسلطان نقم عليه ما نسب إلى أستاذه، وكان أولاً إذا راح في البريد إلى مصر أكرمه، وعظمه، وخلع عليه الخلع السنية، وأنعم عليه الإنعامات الوافرة، ولكن سبحان من لا يتغير، ولا يحول ولا يزول. وكان قد حصل أموالاً عظيمة، فأخذت ونهبت، ووسطه الأمير سيف الدين بشتاك في سوق الخيل يوم الموكب، ووسط خوشداشة جنغاي على ما تقدم. طغاي الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر وأم ابنه آنوك المقدم ذكره، وكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 جاريته أولاً، ثم إنه أعتقها، وتزوجها، وقيل: إنها أخت الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد المقدم ذكره. كانت بديعة الحسن، باهرة الجمال الذي لا يطيق وصفه القالة اللسن. رأت من السعادة، ما لا يراه غيرها من زوجات ملوك مصر الذاهبات، وتنعمت في ملاذ ما وصلت إليها يد الناهبات، لم يدم على محبة أحد غيرها، ولا نأى قسه عن ديرها، ولا عقل مجنونه عن ليلاها، ولا وقفت به جمال غرامه إلا في عقبة إيلاها، لأن نياق أشواقه؛ كانت كثيرة الشرود، سريعة الانتقال والانفتال عن مراعي زرود، وكانت فيما بعده معظمةً في كل دوله، مكرمة في كل زمان أحال الله حوله. ولم تزل كذلك إلى أن كسفت شمسها وهانت في الثرى بعدما عز على كف الثريا لمسها. وتوفيت - رحمها الله تعالى - في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. كانت هي الخوندة الكبرى بعد بنت نوكاي، وهي أكبر الزوجات، مقدمة حتى على ابنة الأمير سيف الدين تنكز. حج بها القاضي كريم الدين الكبير، واحتفل بها، وحمل لها البقل في محائر طين على ظهور الجمال، وأخذ لها البقر الحلابات، تكون معها في الطريق؛ ليؤخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 لبنها ويجبن، ويصنع لها في الغداء والعشاء المقلو السخن، وناهيك بمن وصل إلى هذين النوعين البقل والجبن، وهما أحسن ما يذكر، فما عساه يكون بعد ذلك. ثم إنه حج بها الأمير سيف الدين بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، إلا أن هذه الحجة دون تلك. أخبرني من لفظه القاضي علم الدين بن قطب الدين ناظر الجيوش، وكان أولاً مستوفي ديون تنكز، قال: إذا جهز الأمير - يعني تنكز - إلى مصر تقادم ما يكتب على أحد شيئاً، إلا على السلطان وعلى قوصون وعلى الخوندة طغاي. وبالجملة فقد رأت ما يراه غيرها، وعظمت بعد زوجها في أيام ملوك مصر أولاد زوجها كثيراً إلى الغاية، إلى أن توفيت - رحمها الله تعالى. طغاي تمر الأمير سيف الدين الناصري الساقي. لم يكن بعد طغاي الكبير أحسن منه، ولا من يروي القمران الجمال البارع إلا عنه. وكان طغاي تمر هذا أظرف وأمشق، وما تدري إذا نظر إليك أسلبك فؤادك أم شق، وطغاي كان أبيض مشرباً حمره، وهذا مع حمرته تعلوه سمره، مع لطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 الحركة إذا تثنى، وخفة الهيف، فلولا جوارح طرفه غرد الحمام على غصن قده وتغنى. زوجه السلطان ابنته، وكان في وقته منيته ومحنته، فهو أحد الأربعة الذين يبيتون عند السلطان، وتخرب بهم الدور وتعمر بهم الأوطان. وكان ساكناً عاقلاً مهيبا، وادعاً للشر لبيبا، وما كان يلازم السلطان مثل غيره، ولا يتطرح عليه، ولا يرى الناس أنه ممن يشار إليه. ولم يزل راقياً في مطالع سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن خسف قمره، وذوى من غصنه ثمره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، أو أواخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ولما زوجه السلطان ابنته، لم يعمل له زفة، لكنه رسم للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص أن يعمل ورقه بمكارمة الأمراء لقوصون في عرسه، فعمل بها ورقة وأحضرها إلى السلطان، فقال: كم الجملة. قال: خمسون ألف دينار. فقال: أعط نظيرها لطغاي تمر، فإنا عملنا له زفة قال الأمراء: هؤلاء يصادروننا بحسن عبارة. وكان أحد الأربعة الخواص المقرين هو وبكتمر الساقي وقوصون وبهادر التمرتاشي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ولما توفي - رحمه الله تعالى - وجد السلطان عليه وجداً عظيماً، وكتب إلى تنكز يعرفه بموته في جملة كتاب، فذهل هو وكاتب السر عن الجواب عن هذا الفصل، فجاء الجواب من السلطان إلى تنكز بالإنكار عليه، وقال: أكتب إليك أعرفك بموت صهري، وما تجهز الجواب إلي عن ذلك، ولا تعزيني فيه. طغاي تمر الأمير سيف الدين النجمي الدوادار. كان دوادار الصالح إسماعيل والكامل شعبان والمظفر حاجي. كان من أحسن الأشكال وأتمها، وأبدع الوجوه وأجملها في بسطها وضمها، مديد القامه، يكاد إذا خطا تسجع عليه الحمامه، تقدم في الدول؛ وصارت له وجاهة وعظمه، ونضد السعد دره على جيده ونظمه، وخدمه الناس وقدموا، وعكموا الحمول إلى بابه وقدموا. ولم يزل على حاله إلى أن عبث به أغرلو فيمن عبث، ولم يقدر على دفع حادث حدث منه، ولا على إزالة خبث ولا خبث، فأخرجه إلى الشام، وألحقه بمن أخذه في غزة على غره، وأجراه على عادة سفكه المستمره، وفصل رأسه عن جسده، وشفى منه غلة غيظه وحسده، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وطغاي تمر هذا أول دوادار أخذ إمرة مئة، وتقدمة ألف، وذلك في أول دولة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 المظفر، وعمر في الأيام الصالحية الخانقاه التي أنشأها برا باب المحروق ظاهر القاهرة، وهي مليحة إلى الغاية، وعمر الدار التي .... ولما كانت واقعة الحجازي وآقسنقر وأولئك الأمراء - على ما تقدم في ترجمة آقسنقر - رمى هو سيفه بنفسه، وبقي بلا سيف بعض يوم في أيام المظفر، ثم إن السلطان أعطاه سيفه واستمر به في الدوادارية على عادته، ثم لما كان بعد شهر أخرج هو والأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير والأمير سيف الدين بيدمر البدري على الهجن إلى الشام، ثم إنه لحقهم الأمير سيف الدين منجك، وقضى الله أمره فيهم هناك - رحمهم الله أجمعين - وذلك بتدبير أغرلو المقدم ذكره. ؟ طغجي بالطاء المهملة والغين المعجمة والجيم: الأمير سيف الدين الأشرفي مملوك الملك الأشرف خليل بن قلاوون. كان خليل مولاه خليل، وحبيب مخدومه الجليل، أمره وقدمه، وخرب به ربع غيره وهدمه وحوله إلى الإمرة وخوله، ومد يده في الخزانة فمد باعه وطوله، وأعطاه النفائس، وكان به يفاخر القمرين ويقايس، ولكنه زالت سعادته العظمى بعد مخدومه الأشرف، وبالغ في التوقي والحذر وأسرف، إلى أن اعتورته الصوارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 والذوابل، وهبرته وألقي على المزابل، وذلك في سنة ثمان وتسعين وست مئة في شهر ربيع الآخر. كان قد استمر على إمرته بعد قتلة الأشرف في الدولة العادلية كتبغا، وفي الدولة المنصورية لاجين، فقام وقعد لحينه، وكان لما قتل كرجي الملك المنصور حسام الدين لاجين توجه طغجي إلى دار نائبه منكوتمر، ودق عليه الباب، فأخرجوه، فعلم أنهم قد قتلوا أستاذه، فاستجار بطغجي فأجاره، وحلف له، ثم إنهم توجهوا به إلى الجب، فاغتنم كرجي غفلة طغجي، وأطلع منكوتمر من الجب وذبحه. واتفقوا على إحضار الملك الناصر محمد من الكرك للملك، وأن يكون طغجي نائباً له، وحلفوا له على ذلك فبقي في النيابة أربعة أيام، فلما قدم الأمير بدر الدين بكتاش من تجريدة حلب ومن معه من الأمراء طلع طغجي وكرجي وغيرهما لملتقى الأمراء برا القاهرة، فلما التقوا تباله عليهم أمير سلاح وقال لطغجي: كان عادة السلطان يطلع إلينا ويتلقانا. فقال: وأين هو السلطان؟ قد قتلناه. فعرج بفرسه عنه، وقال: إليك عني، أكلما قام للمسلمين سلطان، وثبتم عليه، وقتلتموه! فاعتوره أعوان السلطان الذي قتل بالسيوف، وقتلوه ظاهر القاهرة، ورمي على مزبلة هناك، وحجه الخلائق للفرجة والعبرة، ثم إنه دفن بتربته، وقد نيف على الثلاثين. ومن حلاوة شكله وظرفه ومحاسنه أطلع الناس تفاصيل قماش وسموها طغجي. ويقال: إنه كان بخدمة الأشرف في البلاد الحلبية، فمر السلطان بقرية جيلان، فقال له: ما اسم هذه القرية يا طغجي؟ فقال له: جيلان، فقال له السلطان: اقعد. فنزل عن مركوبه، وقعد على الأرض، فقال له السلطان: قم، واركب. فقال: السلطان رسم بالقعود وما أقوم. فقال: قم، وخذها لك، فباس الأرض ورجله، وركب معه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 طقتمر المير سيف الدين الصلاحي الناصري. كان فيه عسف وجور، وله تسلسل على أموال الناس ودور، لا يرحم من بكى، ولا يسمع من شكى، تردد تكراره إلى الشام، وتحدد استكباره، واستكثاره في كل عام، إلى أن أراح الله من عتوه، وأزاح ما يكابده الناس من غلوه في الظلم وعلوه. ومالت النوائب إليه وهو في حمص نائب، وأصابته المنية بسهم المصائب، وذلك في سنة سبع وأربعين وسبع مئة. كان أميراً في أواخر الأيام الناصرية محمد، وحضر في خدمة بشتاك لما قدم للحوطة على موجود تنكز، ثم توجه معه إلى القاهرة ولما خلع المصريون الناصر أحمد، وأقاموا الصالح، ورد هو في البريد للبشارة، وحلف العساكر. وعاد وتقدم في الأيام الصالحية، وحضر إلى الشام لتحصيل الهجن والنياق والشعير برسم الحجاز من دمشق وحلب وحماة، فثقلت وطأته على الناس، وبطل ذلك بموت الصالح - رحمه الله تعالى -، فعاد إلى القاهرة، وتقدم عند الكامل شعبان، وحضر إلى دمشق، واستخرج منها ثماني مئة ألف درهم لأجل حج الكامل، وضيق على الناس، ومنع أن يصرف لأحد شيئاً من الأموال، وقبضها وتوجه بها إلى القاهرة، واختص بالكامل كثيراً، فلما خلع الكامل وملك المظفر حاجي أخرجه إلى حمص نائباً، فتوجه إليها، وأقام بها قريباً من أربعين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 طقتمر الأمير سيف الدين الأحمدي، يعرف في بيت السلطان بطاسه. لما أمسك الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد جعل هذا مكانه في الأستاذ دارية أيام المنصور أبي بكر. كان رجلاً عاقلا، ناقماً على من نبذ عهده ناقلا، ولي نيابات عديدة، واستجلى من كل ناحية وجه خريده، وما فارق بلداً إلا وأهلها بالخير يذكرونه، ويدعون له ويشكرونه، فما كان إلا طاسةً بالخير تقلب، وتفرغ الحسنة على الناس وتغلب. ولم يزل إلى أن نقر الموت طاسة فطن، وحقق العدم منه ما ظن. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وكان قد أخرج أولاً إلى نيابة صفد، فأقام بها مدة، وجهز بعدها إلى حماة نائباً بعد الأمير علم الدين الجاولي، وأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى دمشق نائباً، فتوجه هو إلى حلب نائباً عوضه، فأقام بها نائباً إلى أن برز اليحيوي إلى ظاهر دمشق في أيام الكامل، وجاء إليه جميع نواب الشام، إلا طقتمر طاسه، فإنه لم يحضر إليه، ونقم ذلك عليه، ولما انتصر يلبغا، وولى المظفر حاجي كتب يلبغا فيه، فعزل من نيابة حلب، وتوجه الأمير سيف الدين بيدمر البدري عوضه إلى حلب، وطلب الأحمدي المذكور إلى القاهرة، فأقام بها أميراً بقية السنة، وجاء الخبر بوفاته - رحمه الله تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 طقتمر الأمير سيف الدين الشريفي السلاح دار. كان المذكور بدمشق أميرا، ومحله بها يراه الناس أثيرا، أقام بها مدة وهو في عافية وصحة كافيتها شافية إلى أن ضعف بصره، ودخل تحت الشعاع قمره، وكان يمشي وبين يديه مملوك له يعرفه بالناس لأجل السلام ومشاغلتهم بما عنده من الكلام، إلى أن انكف ناظراه، ومحي قمراه، فانقطع بعد ذلك في بيته تقدير أربع سنين، وجاءه ما نسي به عماه، وود أهله لو دام لهم أنسه في حماه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة خمسين وسبع مئة. وكان يسكن جوا باب الصغير عند بيت الصاحب شمس الدين، وخلف ولدين، يخالهما الناظر في سماء الحسن فرقدين. طقتمر الأمير سيف الدين النائب ببهسنا. كان من مماليك الأمير سيف الدين جركس نائب قلعة الروم، أفردت له نيابة الرها، وأقام فيها مدة، إلى أن ورد الأميران سيف الدين شيخو وسيف الدين طاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 في واقعة بيبغاروس إلى حلب، فرسم له بنيابة بهسنا، فأقام بها نائباً إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - ببهسنا، وجاء البريد بموته إلى دمشق في شهر المحرم سنة سبع وخمسين وسبع مئة. وكان شجاعاً شهماً مقداماً، وفيه تودد وخدمة للناس. طقصبا الأمير سيف الدين المؤيدي، مملوك الملك المؤيد صاحب حماة. وكان المذكور من بعض أمراء حماة، وصهر أستاذه الملك الأفضل، لأن المؤيد زوجه ابنته في حياته، لأنه اشتراه صغيراً، ورباه، وأحسن تربيته، فأنتشأ نشأة سعيده، وسلك طريقة حميده، وكان تام العقل، صادق النقل، جيد السياسه، كامل النفاسه، له وجه يستحي البدر من رؤيته، وتظهر على الغصن كسرة من خطرته، بعيون لو رقرقها لنوء الثريا لاستهل، أو رنا إلى الأسد لاستذل، مديد القامه، ظريف الهامه، من رآه أحبه بديها، وعلم أنه لا يجد له شبيها. ولم يزل على حاله، إلى أن هصرت يد الموت ثمر غصنه، وأنزلته من منيع حصنه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وكان محبوباً إلى أستاذه، يعظمه كثيراً، ويرسله في مهماته إلى السلطان، ويجهز تقادمه معه وأقواده، فيقبل السلطان عليه، وينعم عليه، ويؤثره، ويختاره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 بخلاف باقي خوشداشيته، ولما مات المؤيد استمر على إمرته في خدمة الأفضل ابن أستاذه، وكان خوشداشه الأمير سيف الدين أرغون الأفضلي بطالاً بدمشق، فأنعم عليه بإقطاع خوشداشه طقصبا، فتوجه من دمشق إلى حماة. طقزتمر بضم الطاء المهملة والقاف وسكون الزاي وفتح التاء ثالثة الحروف وضم الميم وبعدها راء: الأمير الكبير المقدم سيف الدين الناصري. كان أمير مئة مقدم ألف، قديم الهجرة في دولة الناصر، معظماً فيها يشار إليه بالأصابع، وتعقد عليه الخناصر، كثير الأدب والحياء، عديم المحاباة والرياء، لم يكن يتحيز في أيام أستاذه إلى فئة قط، ولم يمتد له لسان فضول فيحتاج لقط، لا جرم أنه تقدم من تقدم وتأخر، وسبق من سبق وعثر، وهو في ميدانه إمام البرق المتألق في السحاب المسخر، وحصل الأملاك العتيده، وأصل الأموال العديده، ولم يكن أحد يضاهيه، ولا يظاهره ولا يضافيه. صاهر ملكين، وظواهر بعلو مجده فلكين، ونص السلطان على أنه يكون بعده بمصر نائبا، ثقة منه أن الزمان يجيء إليه من الذنوب تائبا، وناب بمصر وحماة وحلب ودمشق، وأعمل أقلامه في العلائم بالمد والمشق. ولم يزل على حاله إلى أن لفته الأرض في ملاءتها وصحنته المنية في صلاءتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبع مئة. وكان الأمير سيف الدين طقزتمر أولاً مملوك المؤيد صاحب حماة، وقدمه للسلطان، وأقبل عليه، وقدمه، وأمره، وما كان يعد نفسه في بيت السلطان إلا غريباً، لأنه لم يكن له خوشداش يعتضد به. ولم يزل كبيراً معظماً من طبقة أرغون ومن بعده إلى آخر وقت، تقلبت عليه ثلاث أربع طبقات وراحت، وهو على حاله، لم يتغير عليه السلطان قط. وهو الذي ينسب إليه حكر طقزتمر ظاهرة القاهرة، وفيه الحمام المليح، وله الربع الذي برا باب زويلة، وكان أولاً يعرف بدار التفاح، وله غير ذلك. وزوج السلطان ابنته بابنه الملك المنصور أبي بكر، وتزوج ابنته الأخرى الملك الصالح إسماعيل، وجاء في خطبتها إلى دمشق الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، وأوصى السلطان بأن يكون بعده نائباً، فلما أحضر له المنصور التشريف بالنيابة اقتنع، فقال له: كنت امتنعت لما وصى السلطان بذلك؟ ولم يزل بمصر نائباً ذينك الشهرين مدة سلطنة أبي بكر إلى أن جرى ما جرى وخلع. ولما تولى الأشراف كجك طلب طقزتمر نيابة حماة، فأمروا له بها، وكان بها إذ ذاك الملك الأفضل محمد بن المؤيد، فأخرج الأفضل من حماة إلى دمشق، وحضر طقزتمر إلى حماة نائباً، فهو أول من خرج إليها نائباً بعد صاحبها الأفضل. ولقد سمعت الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق يقول في دار عدله، وقد جاء الخبر بذلك: كل شيء تزرعه تحصده، إلا ابن آدم إذا زرعته حصدك، هذا طقزتمر مملوك بيت أصحاب حماة قدموه لأستاذنا، وزرعوه بذلك فحصدهم، وأخرجهم منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 ولم يزل بحماة مقيماً إلى أن تحرك طشتمر في حلب، وسأله أن ينضم إليه، فتوجه إليه إلى بعض الطريق، ولما خرج ألطنبغا من دمشق وعلم بذلك أرسل إليه، فعاد من أثناء الطريق إلى حماة ولما بلغ طشتمر ذلك ضعفت نفسه، وهرب إلى بلاد الروم - كما تقدم - ولم يزل طقزتمر بحماة إلى أن بلغه وصول الفخري إلى دمشق، ونزوله على خان لاجين، فأرسل إليه، فحضر إلى عنده، وقوي جأش الفخري بذلك، ولم يزالا على خان لاجين إلى أن حضر ألطنبغا، وهرب، ودخل الفخري وطقزتمر إلى دمشق، وتوجه هو والأمير بهاء الدين أصلم وغيرهما من الأمراء الكبار إلى الناصر أحمد بالكرك، ليحضر إلى دمشق، فامتنع من الحضور، ثم إنه توجه مع العساكر الشامية إلى مصر، وأقام بمصر إلى أن جرى للناصر أحمد ما جرى. وتسلطن الصالح إسماعيل، ورسم للأمير سيف الدين طقزتمر بنيابة حلب، ونقل الأمير علاء الدين أيدغمش منها إلى نيابة دمشق، وتوجه كل منهما لمحل نيابته، والتقيا على القطيفة. ولما توفي الأمير علاء الدين أيدغمش، رسم لطقزتمر بنيابة دمشق، ونقل الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني من نيابة حماة إلى حلب، وحضر الأمير سيف الدين طقزتمر إلى دمشق، ودخلها في نصف شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى أن توفي الملك الصالح إسماعيل وتولى الملك الكامل شعبان، وحضر الأمير سيف الدين بيغرا، وحلف عسكر الشام له، وجاء معه تشريف باستقراره في النيابة على حاله بدمشق. وبعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام ورد الأمير بيبغاروس، ليحضر إلى مصر، ويكون بها نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين ألملك، فلم تطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 نفسه للخروج من دمشق، ومرض، وحصل له فالج وعدم نطق، وكتب مطالعةً، واستعفى فيها من التوجه إلى مصر، وأن يكون مقيماً بدمشق، وكتب إلى الأمراء، ودخل عليهم، وتشفع إليهم بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالخليل - عليه السلام -، ثم إن جماعته خوفوه عقبى ذلك، فوجد من نفسه خفة، وجهز الأمير فخر الدين أياز الحاجب على البريد يسأل الحضور إن كان ولا بد في محفة لعجزه عن ركوب الفرس، ففرح السلطان بذلك، وخلع على فخر الدين أياز، وحضر بعده ثانياً الأمير سيف الدين بيبغاروس لطلبه، فخرج في محفة، وهو متثاقل مرضاً يوم السبت خامس جمادى الأولى، ووجد نشاطاً في الطريق. ولما وصل إلى بلبيس سير ولده أمير حاج وأستاذ داره قشتمر يسألان له الإعفاء من النيابة، فأجيب إلى ذلك، ودخل إلى بيته، ولم يطلع إلى القلعة، وأقام في القاهرة ثلاثة أيام وقيل خمساً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور. طقطاي الأمير عز الدين الناصري الجمدار. كان بدمشق أميراً من جملة أمرائها. وكبيراً في عداد كبرائها، فيه خير وسكون، وميل إلى أهل الفضل وركون، وجهز إلى نيابة الكرك والقيام بما فيها من الدرك، فأقام بها مدة، ثم عاد، ونسي من دمشق ما هو أقدم من عهد عاد، فجبر الله بعوده قلبه، وشد أزره وصلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 ولم يزل على حاله إلى أن جمدت عين الجمدار، ولم يعد له في مدى الحياة مدار. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر شعبان سنة ثمان عشرة وسبع مئة. طقطاي السلطان صاحب القبجاق، هو طقطاي بن منكوتمر بن سابرخان بن الطاغية الأكبر جنكزخان المغلي، ومنهم من يقول فيه: توقتقاي بتائين ثالثي الحروف بدل الطائين وزيادة قاف بعد التاء الثانية. وكان مع كفره فيه عدل، وله جود على أهل الخير وبذل، وميل إلى من تدين من أهل الملل، ومن تظاهر بصلاح من أرباب النحل، إلا أنه كان يرجح الإسلام، ويحب الأئمة الأعلام، وكان له ميل عظيم إلى السحره، وله التفات إليهم، يعطر من الجو سحره، وكان يعظم الأطباء، ويقدم منهم الألباء. وممالكه واسعه، وحدوده شاسعه، وجيشه يربي على الرمل، ويفوق من النبات عد الخمل. جهز مرةً إلى بعض الجهات من كل عشرة واحداً، فبلغ ذلك مئتي ألف فارس، ممن يعاني الحروف ويمارس. وكان له ولد كان محياه البدر في التمام، أو الشمس إذا انجاب عنها الغمام، فأسلم، وكان يحب سماع القرآن، ولا يزال هو ومن يتلوه في قران، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 ومات - رحمه الله تعالى -، قبل أبيه فذاق كؤوس العلقم لفراقه، ولم تطفئ دموعه غلة احتراقه. ولم يزل طقطاي على حاله إلى أن أهلك الله نمروذه، وكف كف الموت مديته المشحوذه. وكان هلاكه في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وكانت مدة ملكه ثلاثاً وعشرين سنة، لأنه جلس على التخت وعمره سبع سنين. ولما مات طقطاي تولى أخوه أزبك - وقد تقدم ذكره -، وقيل إنه جرد من عسكره، من كل عشرة واحداً، فبلغ ذلك مئتي ألف وخمسين ألف فارس وكان ابنه ذلك المليح قد نوى أنه إن ملك لا يترك في مملكته غير الإسلام، فمات، وترك ابنه صغيراً، ولما مات طقطاي؛ أوصى لابن ابنه المذكور، فلم يتم له الأمر، وولي بعده ابن أخيه أزبك المذكور، وجلس على التخت في أواخر رمضان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وهذه المملكة هي المعروفة ببلاد بركة ابن عم هولاكو، قال الفاضل علاء الدين النعمان: إن طول هذه المملكة ثمانية أشهر، وعرضها ستة أشهر. والله أعلم. ؟ طقطاي الأمير عز الدين الدوادار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 كان من مماليك السلطان الملك الناصر، ولكنه أعطاه للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي في جملة ما أعطاه، وقال له: هذا يكون دوادارك، فحضر معه إلى حماة، وتوجه معه إلى حلب، وحضر معه إلى دمشق، ولم يفارقه إلى أن جرى ليلبغا ما جرى. هو لطيف النفس، ثقيل الرأس، سهل القياد، صوفي الاعتقاد، حسن الأخلاق، منفعل للخير على الإطلاق، يرعى أصحابه، ويذكر أحبابه، ليس فيه شر ألبته، ولو رأى منه جزءاً حسم أمره وبته، كأنما ربي في الخوانق، ونشأ فيها، فهو شيخ العقل على أنه غرانق، كثير الرياضة والتأني، بريء من التكلف والتعني. ولم يزل على حاله إلى أن قط عمره، وحط إلى الحضيض بدره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر المحرم سنة ستين وسبع مئة. كان يلبغا يقول: هذا قرابتي وخوشداشي، وكان قد سلم قياده إليه، فهو النائب، وحديث الناس معه في سائر الأمور، ولم يكن يقرر شيئاً فيخالفه. أعطاه الملك الكامل شعبان. وهو بدمشق - إمرة عشرة، فكتبت إليه: يا سيّداً ربّ العلى ... لكلّ خير يسّره ومن حباه طلعةً ... بالبشر أمست مقمره ومن له محاسنٌ ... ترضي الكرام البرره تهنّ أمر إمرةٍ ... أنباؤها مشتهره بها الوجوه قد غدت ... ضاحكةً مستبشره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 تنالها كاملةً ... مضروبةً في عشره وكان هذا القول مني تكهناً في حقه، لأنه صار فيما بعد أمير مئة مقدم ألف. ولما خلع الكامل وجلس المظفر على كرسي الملك توجه إليه من دمشق على البريد، فرعى له حق خدمته، وأعطاه طبلخاناه، ولم يزل حظياً عند أستاذه إلى أن توجه معه في وقت خروجه على المظفر، وصارا في حماة، فأمسكه الأمير سيف الدين قطليجا الحموي نائب حماة، وجهز صحبة إخوة يلبغا إلى مصر، فجهز إلى الإسكندرية. ثم إن الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين صرغتمش شفعا فيه، فأفرج عنه، وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فأقام في مصر، وأعطي إمرة عشرة، وتزوج بالقاهرة بزوجة الأمير سيف الدين طغاي تمر الدوادار وهي أخت الأمير سيف الدين طاز، ثم أعطي طبلخاناه، وصار خصيصاً بالأمير سيف الدين شيخو. ولما توجه الأمير سيف الدين طاز إلى الحجاز كان هو معه، وأمسكا بيبغاروس، وتوجها به إلى مكة، ولما عاد الركب، سبق هو وجاء إلى السلطان الملك الناصر حسن بخبره وبخبر إمساك المجاهد صاحب اليمن، فخلع عليه، ووصله. ثم إنه حضر مع الأمير سيف الدين بيغاروس ليقره في نيابة حلب، فأقره، وعاد، وقد شم من أنفاسه الخروج على السلطان الملك الصالح، وذلك في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ولما عاد من حلب في هذه المرة؛ ولاه السلطان الملك الصالح الدوادارية عوضاً عن طشبغا، فكتبت أنا إليه: هذا الدّوادار الّذي أقلامه ... تذر المهارق مثل روضٍ نافحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 تجري بأرزاق الورى فمدادها ... وبلٌ، تحدّر من غمامٍ سافحٍ أستغفر الله العظيم، غلطت، بل ... نهرٌ جرى من لجّ بحرٍ طافحٍ وإذا تكون كريهة فيمينه ... تسطو بحدّ أسنّةٍ وصفائحٍ يا فخر دهرٍ قد حواه، فإنّه ... عزّ لمولانا المليك الصّالحٍ ولما أراد بيبغا الخروج، وحلف الأمير سيف الدين العسكر للسلطان الملك الصالح حضر الأمير عز الدين إلى دمشق في شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقام قليلاً، وتوجه صحبة أرغون الكاملي إلى لد، وفارق أرغون، وتوجه إلى مصر، ثم إنه عاد في شعبان ومعه تقاليد للأمير بدر الدين بن خطير بنيابة طرابلس، والأمير سيف الدين طان يرق بنيابة حماة، وبنيابة صفد للأمير شهاب الدين أحمد بن صبح، ثم إنه توجه عائداً إلى مصر، وتوجه مع السلطان الملك الصالح إلى دمشق، ثم توجه مع الأمراء شيخو وجطاز وأرغون إلى حلب خلف بيبغا، ولما عادوا عاد معهم، وتوجه صحبة السلطان إلى مصر. ثم إنه حضر في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة متوجها إلى حلب، ليجهز العسكر خلف بيبغاروس وأحمد وبكلمش، فاتفق من سعده أنه لما وصل إلى حلب جاء أحمد وبكمش ممسوكين في ثاني عشري الحجة، فحز رأسيهما، وجهزا إلى مصر، وأقام هو بحلب إلى أن وصل بيبغاروس في ثالث عشري المحرم سنة أربع وخمسين، فحز رأسه، وجهز صحبته إلى مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 ثم إنه عاد إلى حلب، وتوجه بالعساكر صحبة أرغون الكاملي إلى البلاد الرومية، ووصلوا إلى قيصرية، ولم يزالوا إلى أن أمسك ابن دلغار، وصار عند ناصر الدين محمد باك بن أرتنا، فعادت العساكر بعدما قاسوا شدائد ومشاق ومتاعب يعجز الواصف عنها، وعاد الأمير عز الدين بالخبر، فدخل إلى دمشق في خامس شهر رجب الفرد سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ولما وصل إلى الأبواب السلطانية أعطي إمرة مئة وتقدمة ألف كانت بيد الأمير سيف الدين بلبان السناني، وقيل: إنه زادوه على ذلك بلدين آخرين من قرى مصر. ولم يزل في عظمة ورفعة، إلى أن جرح الأمير سيف الدين شيخو في يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وكان هو في جملة من ركب إلى قبة النصر في السلاح، وتظاهر بالتعصب الزائد، وتحيز إلى تلك الفئة، فلما توفي الأمير سيف الدين شيخو في سادس عشري ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة أمسك هو والأمير صلاح الدين خليل بن قوصون، والأمير سيف الدين قطلوبغا الذهبي، والأمير سيف الدين قجا أمير شكار، وجهزوا إلى الإسكندرية، ليعتقلوا بها، ورسم للأمير سيف الدين علم دار أن يكون عوضه في الدوادارية. من العجيب ما حكاه لي ناصر الدين محمد العلائي البريدي المصري؛ قال: كنا وقوفاً بين يدي الأمير عز الدين طقطاي الدوادار قبل إمساكه بسبعة ثمانية أيام، وقد سير إليه علم دار رسالةً يشفع عنده في بعض البريدية أن يجهزه في شغل عينه، فتأذى الأمير سيف الدين طقطاي، وقال: الأمير علم دار يجهزه من عنده، فما كان بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 ذلك إلا قدر يسير، وولي وظيفته، وجهز ذلك البريدي في الشغل الذي كان عينه، وأقام الأمير عز الدين والجماعة في ثغر الإسكندرية مدة يسيرة، ثم إنه أفرج عنهم، وحضر الأمير عز الدين إلى دمشق، ومعه علاء الدين ألطنبغا الأبو بكري مقدم البريدية متوجهاً به إلى طرابلس ليكون بها مقيماً في جملة بحرية القلعة بطرابلس، وأن يعين له إقطاع يعمل خمسة ستة آلاف درهم، وكان وصوله إلى دمشق في يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وسبع مئة، وتردد إليه أهل دمشق من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، ونزل في دار الأمير سيف الدين جوبان بالعقيبة، وتوجه إلى طرابلس، وأقام بها مدة تزيد على الشهرين، ثم رسم له بالحضور إلى دمشق، فحضر إليها، وأقام بها كذلك ثم رسم بعوده إلى طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها كذلك؛ إلى أن ورد الخبر بوفاته بطرابلس المحروسة في أواخر شهر الله المحرم سنة ستين وسبع مئة - رحمه الله تعالى - فسبحان من لا يحول ولا يزول. طلحة الشيخ الإمام المقرئ النحوي الأصولي علم الدين الشافعي. كان في أصله مملوكاً، يدعى سنجر، فغير اسمه بطلحة. قرأ بالسبع على الشيخ موفق الدين بن أبي العلاء ببعلبك، وتوجه بعدما تميز وتصدر، وقرأ الناس عليه علومه بعد العشرين وسبع مئة إلى الشيخ برهان الدين الجعبري، وأخذ عنه وأجازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 كان يعرف الحاجبية معرفة من أتقن العربية، وأصبح كما تمنى الشاعر عالماً بما في ضمير الحاجبية، ويعرف مختصر ابن الحاجب ويشرحه، ويحل لفظه ويسرحه، وكان يقرئ القراءات السبع، ويتفيهق في التلفظ بها كما يزأر السبع، ونغمه في التلاوة طيب لذيذ، وصوته يكاد يحيا به الوقيذ، وكان يقرأ بالجوق في الختم فيطرب الناس بلحنه، وإذا قرأ في الجامع تحقق الناس أن حلاوة السكر في صحنه. ولم يزل على حاله إلى أن عدم أهل حلب فوائده وفقدوها، وقال الناس: رحم الله أعظماً دفنوها. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وعشرين وسبع مئة بحلب وقد نيف على الستين. قرأت عليه بحلب مدة مقامي قطعة جيدة من كتاب البيوع في التعجيز لأنه كان أخذه عن الجعبري. وكنت أسمع دروسه في الجاجبية وفي مختصر ابن الحاجب، وكان يراعي الإعراب في كلامه حتى في وقت بحثه وجداله، وكان شيخاً طوالاً، أزرق العين بلحية سوداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 طلحة بن الخضر ابن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن حسن بن علي، الصدر شمس الدين القرشي الدمشقي. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن علان، وسمع من الصدر البكري وجماعة. وكان من أعيان الشهود ومن أرباب البيوت والثروة بدمشق. توفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب سنة تسع وتسعين وست مئة. طلحة بن محمد ابن علي بن وهب، الشيخ ولي الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. توفي بالقاهرة سنة ست وتسعين وست مئة، وكان موته وموت ابن الصاحب فخر الدين في يوم واحد. طوغان الأمير سيف الدين طوغان. ولي الشد بدمشق مرات، وتولى نيابة البيرة، فأمسكه أهل قلعتها وقيدوه، لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 أمسك أسندمر وجهزوه، فأمضى ذلك وهو في ذي الحجة سنة عشر وسبع مئة، ولكن أنكر السلطان عليهم فيما بعد، وتوجهوا به إلى مصر، ثم إنه أفرج عنه، وأعيد إلى دمشق، فشد أهل الدواوين في صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ثم أمسك في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وجهز إلى مصر هو وجماعة من الأمراء منهم بيبرس المجنون، وسنجر البرواني، وبيبرس التاجي، وكشلي، ثم أفرج عنه بعد مدة طويلة، وجهز نائب قلعة صفد، فجاء إليها، وعمرها، ورمها، ولم شعثها، وهو مع ذلك بطال، وفيما بعد مدة أظنه أعطي إمرة عشرة. وكان ينفق في الصناع والفعول من ماله، إلا أنه كان ظالماً عسوفا، عديم الرحمة عبوسا، لا يكاد يبتسم أبداً. وكان آيةً في الكرم، وغاية في الجود، يخجل الغيث إذا احتد برقه واضطرم، لا يغسل قباءه أبدا، ولا يرى له في اقتنائه مستندا، بل يلبسه، فإذا استخ وهبه، ونزعه عن جسده لغيره وسلبه. وكان في أخلاقه حدة وشراسه، وشدة تقطع من الحلم أمراسه. ولم يزل على حاله في قلعة صفد إلى أن طوي خبر طوغان، بعد ما كان سائراً من مصر إلى موغان. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وعشرين فيما أظن. وكان يحكى عنه عجائب، منها أنه كان يوماً في قلعة البيرة جالساً وعنده المباشرون يعملون الحساب، فنعس هو لحظة وغفا وانتبه، فقال للناظر: اكتب على طوغان جناية مبلغ مئتي درهم لكونه يكون في شغل مولانا السلطان وينعس. فما أمكن الناظر والمباشرين إلا امتثال أمره، وقال لخزنداره: هات مئتي درهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 فأحضرها، ووضعها في صندوق الحاصل، فلما كان بعد أيام نعس الناظر، فجناه خمس مئة درهم. وكان يوماً في صفد جالساً على البرج والهواء يتخفق في أعلى القلعة، فلعب الهواء بذيله، فوضعه تحت فخذه، فلعب الهواء به ثانياً، فشال فخذه ووضعه تحته، فلعب به ثالثاً فنزعه عنه وألقاه على الأرض، وضربه بالعصي إلى أن قطعه. وكان الأمير سيف الدين أرقطاي كثير البسط والانشراح، فجاءه بعض أمراء العربان فانبسط عليه، وقال: أطلعوه القلعة، فجاؤوا به وهو واقف في عمارة القلعة، فلما رآه، قال: هات قيداً، وقيده به، وأداره في العمل تحت الحجارة والكلس، فقالوا: يا خوند إنما ملك الأمراء يلعب معه. فقال: والك، أنا عندي لعب!؟ وتعب الناس في خلاصه منه، إلى أن اجتمع به في الخدمة، وشفع فيه حتى أطلقه. وكان يقف في عمارة القلعة من طلوع الشمس إلى مغيبها، وإذا كان الليل نام على قفاه، ورفع رجليه مع الحائط، وقد عصبها بالفصاديات، وقمطها، ويعطي الصانع الدراهم من عنده، وهو يضربه بالعصا التي في يده، وقلما ضرب أحداً إلا أجرى دمه، لأنه ما كان يكون في يده عصاً إلا ما تصلح أن تكون نصاب دبوس، رحمه الله. وفيه يقول علاء الدين الوداعي - وقد كان عنده في البيرة كاتب درج -، ومن خطه نقلت: يا جيرةً قربهم مرادي ... وحظ قلبي ولحظ عيني طوغان، طوفان راحتيه ... قد حال بينكم وبيني فلا سبيل إلى لقاءٍ ... من بين لجين في لجين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 اللقب والنسب الطوسي: شارح الحاوي عبد العزيز بن محمد. الطوفي: نجم الدين الحنبلي سليمان بن عبد القوي. ونجم الدين الرافضي عبد القوي بن عبد الكريم. طوير الليل: تاج الدين محمد بن علي. طيب رس بن عبد الله الشيخ الإمام العالم الفقيه النحوي علاء الدين الحنفي المعروف بالجندي. ذكر أنه قدم من بلاده إلى البيرة، فاشتراه بعض الأمراء بها، وعلمه الخط والقرآن العظيم. وتقدم عنده وأعطاه إقطاعاً وأعتقه. فلما توفي أستاذه قدم إلى دمشق وقد جاوز العشرين سنة، وتفقه بها على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، واشتغل بالنحو واللغة والعروض والأدب والفرائض والأصلين حتى فاق أقرانه، وسمت همته، فصنف في النحو وغيره، ونظم كتاب الطرفة في النحو، وجمع فيه بين ألفية ابن مالك ومقدمة ابن الحاجب، وزاد عليهما، وهي تسع مئة بيت، وقرأها عليه جماعة، منهم الشيخ صلاح الدين البطايني، وشرحها. وكان الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي يثني عليهما. وكان مغرى بالنظم من صغره، وكان حسن المذاكرة، لطيف المعاشرة، مخبره أحسن من منظره، كثير التلاوة، يصلي بالليل كثيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بالصالحية في طاعون دمشق. وكان مولده سنة ثمانين وست مئة تقريباً. وأنشدني من لفظه المولى الشيخ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن يعقوب الرحبي الشافعي، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ علاء الدين المذكور قال: وهو أول شيء نظمته بالبيرة قال: وكلّما القلب ناجاني بهجرك لي ... وهل تعود فأقوالي: عسى وبلى قد كان قربك عكس اللّفض مدّته ... كما مقامي اللّغط هري بلا وبه قال: أنشدني المذكور لنفسه: بكفر بطنا لقد طبنا على نزهٍ ... من مشمشٍ كنجوم غشّت الشّجرا أحلى من الوصل لكن في لطافته ... أرقّ من نسمةٍ هبّت لنا سحرا كدت تذوّبه الألحاظ من عجبٍ ... لما رأت قد بدت في لطفه الصّورا وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه في كيال مليح له رفيق اسمه الشمس يلقب الثور لقبحه ويلقب أيضا بالدقن لطول لحيته: نفسي الفداء لكيّال برى جسدي ... بأربعٍ زيّنتها أربعٌ أخر في ردفه عظمٌ في خصره هضم ... في ريقه شهدٌ في طرفه حور كأن وجنته في النّقع إذ غرقت ... ياقوتةٌ فوق تبرٍ تحتها درر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 من أجله الشّمس من أنواره كسفت ... فمن رأى الشّمس غشّى نورها القمر رفيقه الدّقن ثورٌ إنّ ذا عجبٌ ... خشفٌ ترافقه الثيران والبقر وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه: قد بتّ في قصر حجّاجٍ فذكّرني ... بضنك عيشة من في النّار يشتعل بقٌّ يطير وبقٌّ في الحصير سعى ... كأنّه ظللٌ من فوقها ظلل وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه: قاربت ستين عاماً والشباب ظلا ... مه على شعري ما شيب بالنّور وكان شاهد زورٍ للشباب فلا ... تستعجبوا من سواد الشّاهد الزّور وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه في عطار: احتجت إلى قطر نباتٍ وسنا ... فابتعتهما من ذي اعتدال وسنا من وجهه ومنطقه كم سلبت ... أجفان متيّميّ هواه وسنا طيب الأمير سيف الدين. كان من جملة الأمراء بصفد، ثم إنه نقل إلى دمشق وأقام بها قريباً من سنة، ثم إنه توجه صحبة العساكر إلى صفد لحصار أحمد الساقي، ولما سلم نفسه أحمد توجه به الأمير طيب إلى باب السلطان صحبة من توجه معه من الأمراء فرسم له السلطان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 الديار المصرية بالإقامة فأقام بها، وذلك من أوائل سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة ولما خرج الأمير علاء الدين مغلطاي والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري على السلطان الملك الصالح أول دولته كان معهما، فرسم باعتقاله، وذلك في شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ثم إنه أفرج عنه وورد إلى صفد وأقام بها بطالاً. ثم إنه توجه صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا برفاق نائب صفد إلى دمشق لما راح إلى بيبغاروس، وهرب معهم لما هربوا، ودخلوا البلاد الرومية، ثم إن الأرض أضمرته، ولم أسمع له خبرا إلى أن ورد مرسوم السلطان بتجهيزه من ثغر إسكندرية إلى تلك البلاد، أعني الشرقية من ولاية إلى ولاية وكان ذلك في شهر رمضان أو ما بعده، سنة ست وخمسين وسبع مئة. اللقب والنسب ابن أبي الطيب نجم الدين وكيل بيت المال عمر بن أبي القاسم. وولده نجم الدين محمد بن عمر. الطيبي: محمد بن بادي. وشمس الدين الطيبي موقع طرابلس: أحمد بن يوسف. طيبرس الأمير علاء الدين الساقي أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 توفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. طيبغا الأمير سيف الدين السلاح دار الناصري المعروف بقوين باشي، بقاف وواو وياء آخر الحروف وبعدها نون وباء موحدة وألف وشين معجمة وياء آخر الحروف. كان شكله تاماً طويلا، وخده أسيلا، ذقنه في حنكه سوداء، وعمته مليحة ووجنته مرداء، خيراً لا شر فيه، يحبه تنكز ويعظمه ويعرف له حقه ويوفيه، وولاه نيابة حمص فأقام فيها على حال شديده، وسيرة في العدل سديده، ثم إنه نقله إلى نيابة غزه، وأراد له بذلك التقدم والعزه، فأقام فيها مدة يسيرة مريضا، ورأى من السقم مدىً طويلا عريضا، إلى أن فارق وجوده، وأطال البلى تحت الأرض هجوده. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة. وكان له ولد كأنه القمر إذا بدر في أفقه، أو الغزال في لي عنقه، فمات في حياته، وجرعه كأس وفاته، وصبر هو والناس على فقده، وودوا لو شركوه في سكنى لحده. طيبغا الأمير علاء الدين طيبغا حاجي. أعرفه بالقاهرة، وهو رأس نوبة الجمدارية، ثم إنه خرج إلى دمشق، واختص بالأمير سيف الدين تنكز، وكان يقربه ويدنيه، ولما أمسك تنكز، وحضر بعده بشتاك، أمسك الأمير علاء الدين طييبغا حاجي والأمير سيف الدين ألجيبغا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 العادلي، وأودعا قلعة دمشق في الاعتقال، ولم يزالا إلى أن مرض السلطان مرض موته، وعوفي قليلاً فأفرج عنهما وعن غيرهما من الذين كانوا في الاعتقال بمصر والشام، وجهزه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري في أول دولة الناصر أحمد إلى حلب ليكون بها نائبا فتوجه إليها، وأقام بها نائبا بعد حمص أخضر إلى أن وصلها الأمير علاء الدين أيدغمش نائباً. وكان قد جهز في سنة اثنتين وأربعين إلى حلب أميرا، فتوجه إليها، وبعد ذلك عمل النيابة بها، ولما عزل منها أقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة تقريباً، وحضر تابوته إلى دمشق ودفن بها. وكان عاقلا ساكنا وافر الحشمة كثير الحياء. طيبغا الأمير علاء الدين الإبراهيمي. كان أميراً بصفد من جملة الطبلخانات، ورسم له بنيابة قلعة صفد عوضا عن الأمير شهاب الدين بن لافي، وباشر ذلك مدة قليلة دون الشهر، وعزل بالأمير صلاح الدين بن الخشاب. وتوفي الإبراهيمي بعد عزله بقليل في شهر شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة. طينال بفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها نون وألف ولام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 الأمير سيف الدين الأشرفي الحاجب بمصر الناصري نائب السلطنة بطرابلس وغزة وصفد. كان أميراً كبيرا، درباً بالأمور خبيرا، ما أقام ببلد إلا وأحبه أهلها وانتفع العرفان بها وانتفى جهلها. أول ما ورد إلى طرابلس نائباً بعد الأمير شهاب الدين قرطاي قوى نفسه، وصوب رأيه وتخمينه وحدسه، وأخذ في معاكسة الأمير سيف الدين تنكز ومعاندته، ومنافسته في الأمور ومنابذته، فكتب به إلى السلطان وعزله، وأراه الذل في المنزل الذي نزله. ورسم له بنيابة غزة، فتوجه إليها وقد جعل إصبعه فيها تحت رزه، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها قليلا، ثم طاوع أن يكون في الجنة لا في النار ذليلا، فأعيد إلى طرابلس ثانيا، ورجع إليها شاكراً حامداً ثانيا، ووطن نفسه على الطاعة لمن قهره، والخضوع لمن كان سائله فنهره، فمشت حاله، وارتفع خبره وانتصب حاله. ثم إنه عزل من طرابلس، ثم أعيد إليها ثالثا، ثم عزل وجهز إلى صفد نائبا، فأقام بها إلى أن تحتم الأجل، وتختم بالوجل. وتوفي بصفد رحمه الله تعالى في نهار الجمعة خامس شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وكان في النيابة الثانية بطرابلس فلما أمسك تنكز عزل منها لما عزل نواب الشام وحضر إلى دمشق وأقام بها أميراً، ولما كان الفخري بدمشق جهزه إلى طرابلس نايبا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 فتوجه إليها ثالث مرة نائبا، ولم يزل بها إلى أن رسم له الصالح بالتوجه إلى صفد، فتوجه من طرابلس إليها وأقام بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، ودفن في مغارة يعقوب عليه السلام بصفد في قبر كان طشتمر حمص أخضر قد أعده لنفسه. ولما أتى في المرة الثانية إلى طرابلس في شهر ربيع الآخر في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة كان يجهز مطالعته إلى السلطان مفتوحة على يد البريدي الذي هو من جهته، ليقف عليها تنكز ويقرأها ويختمها ويجهزها. وكان السلطان قد جهزه بمصر هو والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب إلى اليمن نجدةً لصاحبها، ومعهما ألف فارس في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وكتب إليه مرة كتاباً من طرابلس يهنئ فيه الأمير سيف الدين تنكز بقدومه من صيد الطير، ويذكر فيه أنه هو كان أيضا غائباً في الصيد، فكتبت أنا الجواب إليه عنه ونسخته: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي المولوي الأميري السيفي، وجمع شمل المسرات إليه جميعا، وجعل حرمه على الخطوب محرما وزمنه كله ربيعا، وأظفره من الصيد بما يلقى لديه في الدو صريعا، ويخر له من الجو صريعا، المملوك يقبل اليد الكريمة التي أصبح الجود لها مطيعا، ويخدم بالدعاء الذي يظن لصدقه في رفعه أن الله يكون له سميعا، ويصف الولاء الذي إذا دعا الإخلاص لباه سريعا، ويبث الثناء الذي ملأ الأسماع جمره جوهرا، والصحف بديهاً بديعا، وينهي ورود المشرفة العالية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 فوقف منها على أسطار البلاغة التي أخرج العي منها خائفا يترقب، واستجلى منها كواعب البيان التي إذا لمحها هلال الأفق غطى نوره بكمه الأزرق وتنقب، ورعى منها العبارة التي إذا أثنى البليغ عليها فقد قابل درها المنظم بالجزع الذي لم يثقب، فقابل ذلك بالشكر لله تعالى على عود مولانا إلى وطنه، وقرار قلبه وقرة عينه بما ناله من اجتماعه بمسكنه وسكنه، بعد أن عرضت صيوده على مواقد النيران، وضربت أطيارها قباب أشلائها على طريق الوحش تتقارع منها على قرى الضيفان، ونثر على سندس الربيع من ريشها الأزرق ياقوت ومن دمها الأحمر مرجان، وغدت وجنة الأرض وفمها من الدماء مضرج ومن الريش خيلان، فالله يكمل لمولانا المسرة التامه، ويبهج خاطره الكريم بأفراحه العامة للخاصة والعامه، ويجعل عداه في قبضة قنصه، ويجرع كلاً منهم كؤوس غصصه، حتى يكونوا كصيوده بين يديه طرحى معفرين في الثرى كأشلائها معقرين جرحى، وولدا مولانا الجنابان العاليان: المظفري موسى والناصري محمد مخصوصان بتحية تجاري لطفهما، وثناء يباري في الطيف وصفهما، إن شاء الله تعالى. ؟ طي الحوراني كان قيماً بدار الحديث الظاهرية. أمسك وضرب بدار الوالي، فاعترف بقتل الشيخ زكي الدين السمرقندي الحنفي، فشنقوه على باب الظاهرية بكرة الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبع مئة. الطيوري الحاسب: علي بن عثمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 حرف الظاء ظافر بن أبي غانم ابن سيف بن طي بن محمد بن سالم فتح الدين أبو الفتح الأرفادي الحلبي الطائي. أخبرني العلامة أبو حيان قال: كان المذكور بالقاهرة، وله نظم منه قوله: ولقد ظننت بأننا ما نلتقي ... حتى رأيتك في المنام مضاجعي فوقعت في نومي لوجهك ساجداً ... ونثرت من فرحي عليك مدامعي ظافر بن محمد ابن صالح بن ثابت زين الدين الأنصاري الجوجري المحتد، العدوي، نسبة إلى فقراء الشيخ عدي، يعرف بالطناني، بفتح الطاء المهملة وبعدها نون مخففة وبعدها ألف ونون ثانية، وهي بلدة بالديار المصرية بها ولد. أخبرني العلامة أثير الدين قال: كان المذكور رجلاً فقيراً، كثير الانبساط، يظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 الخرق. ويذكر عنه بعض من خالطه صلاحاً وديانه، وتنسب له كرامه. ورأيته بدمياط، وله نظم كثير، من ذلك قوله: تميس فتخجل الأغصان منها ... وتزري في التلفت بالغزال وتحسب بالإزار بأن تغطّت ... وقد أبدت به شكل الجمال سلوها لم تغطّي البدر عمداً ... وتسمح للنّواظر بالهلال ولم تصلي الحشا بالعتب ناراً ... وفي ألفاظها برد الزّلال ولم فضحت بمعصمها اعتصامي ... وأطبقت العقيق على الّلآلي ويبدي حالها أمراً عجيباً ... ظهوراً في خفاء مثل حالي فإن حاكت بوفر الرّدف وجدي ... فقد حاكى بها الخصر انتحالي حلالٌ في الغرام بها عذابي ... كما عذب اللّما منها حلا لي اللقب والنسب ابن الظاهري شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن. والحافظ جمال الدين أحمد بن محمد. وفخر الدين بن الظاهري: عثمان بن محمد. ظهير بغا الأمير سيف الدين أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 كان قريباً للسلطان الملك الناصر محمد. حضر إلى الديار المصرية في سنة ست وعشرين وسبع مئة بعد خروج الأمير سيف الدين أرغون النايب إلى حلب، وأظنه أخذ تقدمته، وعظمه السلطان لما وصل وأعطاه إمرة مئة. وكان الأمير سيف الدين يكتب بالمغلي، وكان إذا حضر كتاب من بوسعيد بالمغلي، ولم يكن الأمير سيف الدين أيتمش حاضراً يقرأه الأمير سيف الدين ظهير بغا، ويكتب جوابه بالذهب أو بالمداد، ولم أر أحداً أكثر من أقاربه بتلك البلاد، كانوا يفدون عليه في كل وقت طول السنة من مئتي نفس فما دونها إلى العشرة مدة مقامه في الديار المصرية، فمنهم من يقيم بالديار المصرية، ومنهم من يختار العود ويعود وقد بره ووصله وحمله وحمله. ولم يزل على حاله بالديار المصرية إلى أن توفي في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ظهير بن أمير حاج بن عمر الشيخ ظهير الدين الأرزنجاني، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي وبعدها نون وجيم وبعدها ألف ونون وياء النسبة. ورد إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى من مصر، لأنه كان يصحبه وهو في مصر إلى أن حضر إلى دمشق، وكان عنده عزيزاً مكرماً، ولكنه لا يدخل في أمر ولاية ولا عزل، وما أعرف أنه كان بيده شيء من الولايات غير نظر مسجد النارنج لا غير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 ولم يزل عنده معظما إلى أن قال عنه حمزة التركماني للأمير سيف الدين تنكز: إن القاضي جمال الدين ابن جملة رشا ناصر الدين الدوادار بألف دينار حتى سعى له في قضاء الشام، فتنكر له تنكز، فأنكر ذلك، فسلمه تنكز إلى قاضي القضاة ابن جملة، فبالغ في تعزيره وأركبه حماراً، وطاف به في الأسواق، وهو يضرب بالدرة إلى أن رق له الناس وأحضر إلى تنكز في تلك الحال، فرحمه، وجرى على القاضي بسببه ما يأتي شرحه في ترجمته، وعزل من منصبه وحكم بفسقه وباعتقاله. ولم يزل الشيخ ظهير الدين على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة بدمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 حرف العين الألقاب والأنساب العابر الحنبلي شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن. والعابر الحنبلي زين الدين علي بن أحمد الآمدي. عامر بن محمد ابن علي بن وهب: هو عز الدين ابن الشيخ الإمام العلامة أوحد المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد القشيري المصري. سمع من العز الحراني، وابن الأنماطي، وغيرهما. جلس بحانوت العدول لما تعدل، وأورق غصن فضله وتهدل، وأقام على هذه القدم مده، ورفض هذا الضابط الضاغط لما قاساه فيه من الشده، ثم إنه خالط أهل المعاصي، وتوقل معهم هضبات تلك الصياصي، فأثرت فيه تلك الخلطه، وأصبح في بيته الصحيح غلطه، وأخرجته عن طريق أهله تلك العشره، وأمسى كما يقوله الناس: إزليط العثره، حتى إن أباه جفاه، ولفظه من حسابه ونفاه، ولما تولى والده قدس الله روحه، القضاء أقامه وأنزله من حانوت العدول لعلمه أنه على غير الاستقامة، فيا ضيعة اسمه، ويا خيبة حدس أبيه ووهمه لأنه سماه باسم أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، أمين هذه الأمة كما جاء في الأحاديث الصحاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إنّ السماء نظير الماء في الزرق وكان الشيخ تقي الدين قدس الله روحه قد سمى أولاده بأسماء الصحابة العشرة رضي الله عنهم. ولم يزل عز الدين المذكور على حاله إلى أن هدم الموت ما عمر من عامر، وأضر به الداء المخامر. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى عشرة وسبع مئة في القاهرة. العاقولي: جمال الدين عبد الله بن محمد. عائشة بنت محمد ابن المسلم بن سلام بن البهاء الحراني الشيخة الصالحة أم محمد. سمعت من إسماعيل بن أحمد العراقي، ومحمد بن أبي بكر المعروف بابن النور البلخي، ومحمد بن عبد الهادي المقدسي، وإبراهيم بن خليل، وعبد الرحمن ابن أبي الفهم اليلداني. أجازت لي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكتب عنها بإذنها عبد الله بن المحب. وتوفيت رحمها الله تعالى في شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 وهي أخت المحدث محاسن، ومولدها سنة سبع وأربعين وست مئة. وكان قد سمعها أخوها في الخامسة، وسمعت من فرج القرطبي، والبلخي، وابن عبد الدائم والعماد وعبد الحميد، وتفردت، وروت جملة صالحة، وكانت خيرة قانعة فقيرة، تعمل في الحياكة. سمع منها أبو هريرة ابن شيخنا الذهبي، وأولاد المحب والطلبة، وروت فضائل الأوقات للبيهقي عن ابن خليل، وخرج لها ابن سعد. عائشة أم محمد ابنة العدل زين الدين إبراهيم بن أحمد بن عثمان بن عبد الله بن غدير الطائي الدمشقي المعروف بابن القواس. حجت غير مرة وجاورت بمكة سنين، وهي زوجة علاء الدين بن صدر الدين بن المنجا. أجازها ابن مسلمة، ومكي بن علان، والبهاء زهير القوصي، وابن زيلاق، وابن دفترخوان، والسليماني، والنور وعلي بن سعيد، والتلعفري، وهؤلاء السبعة أعيان الشعراء. توفيت رحمها الله تعالى سادس ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ومولدها سنة خمس وأربعين وست مئة تقريباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 عبادة بن عبد الغني الإمام المفتي زين الدين أبو سعد الحراني المؤذن الشروطي الحنبلي. كان قد طلب الحديث في وقت، ودار على الشيوخ قليلاً، ونسخ جملة من الأجزاء سنة بضع وتسعين وست مئة، ثم إنه تقدم في الفقه وناظر، وتميز في الفروع وفاكر بها وحاضر، فرأى أنه ارتفع عن هذه الدرجه، وأعدم بذاك الناس من حسن ضرجه، وكان عنده صحيح مسلم، عن القاسم الإربلي. ولم يزل على حاله إلى أن حكم الموت فساده في عباده، وأباده الله تعالى فيمن أباده. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة. اللقب والنسب ابن عبادة الوكيل شهاب الدين أحمد بن علي عبد الله بن أحمد بن تمام بن حسان الشيخ الإمام الفاضل الزاهد الورع تقي الدين بن تمام التلي الصالحي الحنبلي. سمع من يحيى بن قميرة، وخطيب مردا، والكفرطابي، وإبراهيم بن خليل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 وجماعة، والمرسي، واليلداني، وقرأ النحو على ابن مالك، وعلى ولده بدر الدين. كان رجلاً صالحا، دائم البشر لا يرى كالحا، ديناً خيرا، صيناً يرى وجهه في الظلمات نيرا، نزهاً محبوباً إلى القلوب، صلفاً طول عمره في الزهد على أسلوب، فقيراً لا يملك شيئا، ولا يجد له في الأرض فيئا، حسن الشعرة والمنادمه، مليح الذاكرة برئيا في المصادقة من المصادمه، ظريف البزة مع الزهد والقناعه، نظيف الملبس في الجمعة والجماعه، وله النظم الذي هو أسرى من النسيم وأسنى من العقد النظيم، يكاد يرشفه السمع راحا، ويداوي من قلوب أهل الكآبة جراحا، قد انسجم لفظه فهو صوب غمامه، ولذ تركيبه فهو صوت حمامه، تمكنت القوى في قوافيه، وطاب تلاف النفوس في تلافيه. ولم يزل على حاله إلى أن كسف بدر ابن تمام في تمامه، وغرد الحمام بل ناح على كأس حمامه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة ليلة السبت ثلاث شهر ربيع الآخر. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. وسيأتي ذكر أخيه الشيخ محمد إن شاء الله تعالى في المحمدين. أخبرني القاضي شرف الدين أبو بكر بن القاضي شمس الدين بن شيخنا أبي الثناء محمود، قال: كان جدي، يعني القاضي شهاب الدين محموداً، قد أذن لغلامه الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 نفقته معه أنه مهما طلب منه الشيخ تقي الدين من الدراهم يعطه بغير إذنه، قال: فما كان يأخذ منه إلا ما هو مضرور إليه انتهى. قلت: وكان قد صحبه أكثر من خمسين سنة، وكان قد حج وجاور واجتمع بالتقي الحوراني وبقطب الدين ابن سبعين، وسافر وطوف البلاد، وأقام بالديار المصرية مدة، وصحب الفقراء والفضلاء، وتفرد عن ابن قميرة بالجزء الرابع من حديث الصفا، وخرج له فخر الدين بن البعلبكي مشيخة، قال: شيخنا البرزالي: قرأتها عليه، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا، لم يكن له أثاث ولا طاسة ولا فراش ولا سراج ولا زبدية، وبيته خال من جميع ذلك، أنشدني شيخنا العلامة شهاب الدين محمود إجازةً لنفسه ما كتبه من الديار المصرية إلى الشيخ تقي الدين ابن تمام: هل عند من عندهم برئي وأسقامي ... علمٌ بأنّ نواههم أصل آلامي وأنّ جفني وقلبي بعد بعدهم ... ذا دائمٌ وجدهم فيهم وذا دامي بانوا فبان رقادي يوم بينهم ... فلست أطمع من طيفٍ بإلمام كتمت شأن الهوى يوم النّوى فنمى ... بسرّه من دموعي أيّ نّمام كانت لياليّ بيضاً في دنوّهم ... فلا تسل بعدهم ما حال أيامي ضنيت وجداً بهم والنّاس تحسب بي ... سقماً فأُبهم حالي عند لوّامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وليس أصل ضنى جسمي النحيل سوى ... فرط اشتياقي إلى لقيا ابن تّمام مولى متى أخل من برء برؤيته ... خلوت فرداً بأشجاني وأسقامي نأى ورؤيته عندي أحبّ إلى ... قلبي من الماء عند الحائم الظامي وصدّ عني فلن يسأل لجفوته ... عن هائمٍ دمعه من بعده هام يا ليت شعري ألم يبلغه أنّ له ... أخاً بمصر حليف الضّعف من عام ما كان ظنّي هذا في مودّته ... ولا الحديث كذا عن ساكني الشام فكتب الجواب ابن تمام عن ذلك: يا ساكني مصر فيكم ساكن الشام ... يكابد الشّوق من عامٍ إلى عام الله في رمقٍ أودى السّقام به ... كم ذا يعلّل فيكم نضو أسقام ما ظنّكم ببعيد الدار منفردٍ ... حليف همّ وأحزانٍ وآلام يا نازحين متى تدنوا النّوى بكم ... حالت لبعدكم حالي وأيّامي كم أسأل الطّرف عن طيفٍ يعاوده ... وما لجفني من عهدٍ بأحلام استودع الله قلباً في رحالكم ... عهدته منذ أزمانٍ وأعوام وما قضى بكم في حبكم أرباً ... ولو قضى فهو من وجدٍ بكم ظام من ذا يلوم أخا وجدٍ بحبّكم ... فأبعد الله عذّالي ولوّامي في ذمّة الله قومٌ ما ذكرتهم ... إلا ونمّ بوجدي مدمعي الدّامي قوم أذاب فؤادي فرط حبّهم ... وقد ألمّ بقلبي أيّ إلمام وما اتخذت سواهم عنهم بدلاً ... ولا نقضت لعهدي عقد إبرام ولا عرفت سوى حبي لهم أبدا ... حباً يعبّ؟ ر عنه جفني الهامي يا أوحداً أعربت عنه فضائله ... وسار في الكون سير الكوكب السّامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 في نعت فضلك حار الفكر من دهشٍ ... وكلّ ظامٍ سقي من بحرك الطّامي لا يرتقي نحوك السّاري على فلكٍ ... فكيف من رام أن يسعى بأقدام منك استفاد بنو الآداب ما نظموا ... وعنك ما حفظوا من رقم أقلام أنت الشّهاب الذي سامى السّماك علاً ... وفيض فضلك فينا فيض إلهام لمّا رأيت كتاباً أنت كاتبه ... وأضرم الشّوق عندي أيّ إضرام أنشدت قلبي هذا منتهى أربي ... أعاد عهد حياتي بعد أعوام يا ناظريّ خذا من خدّه قبلاً ... مهو الحرير بتقبيلٍ وإكرام ثم اسرحا في رياضٍ من حدائقه ... وقد زهي زهرها الزّاهي بأكمام من ذا يوفّيه في ردّ الجواب له ... عذراً إليك ولو كنت ابن بسّام فكم جنحت ولي طرفٌ يخالسه ... وأنثني خجلاً من بعد إحجام يا ساكناً بفؤادي وهو منزله ... محلّ شخصك في سرّي وأوهامي حقاً أراك بلا شكّ مشاهدةً ... ما حال دونك إنجادي وإتهامي ولذّ عتبك لي يا منتهى أربي ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام حوشيت من عرضٍ يشكى ومن ألمٍ ... لكنّ عبدك أضحى حلف آلام ولو شكا سمجت منه شكايته ... إنّ الثمانين تستبطي يد الرّامي وحيد دارٍ فريدٌ في الأنام له ... جيران عهدٍ قديم بين آكام طالت بهم شقّة الأسفار ويحهم ... أخفوا وما نطقوا من تحت أرجام أبلى محاسنهم مرّ الجديد بهم ... وأبعد العهد عنهم بعد أيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 فلا عداهم من الرّحمن رحمته ... فهي الرّجاء الذي قدّمت قدّامي وكم رجوت إلهي وهو أرحم لي ... وقلّ عند رجائي قبح آثامي فطال عمرك يا مولاي في دعةً ... ودام سعدك في عزٍّ وإنعام ولا خلت مصر يوماً من سناك بها ... ولا نأى نورك الضّاحي عن الشّام وأنشدني العلامة أبو حيان قال: أنشدنا لنفسه ابن تمام: وقالوا: تقول الشّعر قلت أُجيده ... وأنظمه كالدّرّ راقت عقوده وأبتكر المعنى البديع بصنعةٍ ... يحلّى بها عطف الكلام وجيده ويحلو إذا كرّرت بيت قصيدةٍ ... وفي كلّ بيتٍ منه يزها قصيده ولكنّني ما شمت بارق ديمةٍ ... ولا عارضٍ فيه ندى أستفيده فحسبي إلهٌ لا عدمت نواله ... وكلّ نوالٍ يبتديه يعيده وأنشدني أيضا قال: أنشدني لنفسه: وقالوا صبا بعد المشيب تعلّلاً ... وفي الشّيب ما ينهى عن اللهو والصّبا نعم قه صبا لمّا رأى الظّبي آنساً ... يميل كغصن البان يعطفه الصّبا أدار التفاتاً عاطل الجسيد حالياً ... وفي لحظه معنىً به الصبّ قد صبا ومزّق أثواب الدّجا وهو طالعٌ ... وأطلع بدراً بالجمال تحجّبا جرى حبّه في كلّ قلبٍ كأنّما ... تصوّر من أرواحنا وتركّبا وأنشدني، قال: أنشدنا لنفسه: أُكاتبكم وأعلم أنّ قلبي ... يذوب إذا ذكرتكم حريقا وأجفاني تسحّ الدّمع سيلاً ... به أمسيت في دمعي غريقا أُشاهد من محاسنكم محيّاً ... يكاد البدر يشبهه شقيقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 وأصحب من جمالكم خيالاً ... فأنّى سرت يرشدني الطريقا ومن سلك السّبيل إلى حماكم ... بكم بلغ المنى وقضى الحقوقا ومن شعره: طرقتك من أعلى زرود ودونها ... عنقا زرود ومن تهمامة نفنف تتعسّف المرمى البعيد لقصدها ... يا حبّذا المرمى وما تتعسّف ومنه: معانٍ كنت أشهدها عياناً ... وإن لم تشهد المعنى العيون وألفاظ متى فكّرت فيها ... ففيها من محاسنها فنون ومنه: تبدّى فهو أحسن من رأينا ... وألطف من تهيم به العقول وأسفر وهو في فلك المعاني ... وعنه الطّرف ناظره كليل له قدٌّ يميل إذا تثنّى ... كذاك الغصن من هيفٍ يميل وخدٌّ ورده الجوريّ غضٌّ ... وطرفٌ لحظه سيفٌ صقيل وخالٌ قد طفا في ماءٍ حسنٍ ... فراق بحسنه الخدّ الأسيل تخال الخدّ من ماءٍ وجمرٍ ... وفيه الخال نشوانٌ يجول وكم لام العذول عليه جهلاً ... وآخر ما جرى عشق العذول قلت: وهو مأخوذ من قول أبي الطيب: مالنا كلّنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 كلّما عاد من بعثت إليها ... هام فيها وخان فيما يقول وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكلّ عينٍ دليل أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها وخانت قلوبهنّ العقول وقال ابن سناء الملك: راح رسولاً وجاءني عاشق ... وعاقه عن رسالتي عائق وعاد لا بالجواب بل بجوىً ... أخرسه والهوى به ناطق وذكرت أنا بقول ابن تمام رحمه الله ما قلته أنا ومن مادته أخذت، وعلى منواله نسجت: ألحّ عذولي في هواه وزاد في ... ملامي، فقلت: احتل على غير مسمعي فلم يدر من فرط الولوع بذكره ... مصيبته حتى تعشقه معي وقلت أنا أيضاً على هذه المادة: بي غزالٌ لمّا أطعت هواه ... أخذ القلب والتّصبر غصبا ما أفاق العذول من سكرة العذ ... ل عليه حتى غدا فيه صبّا عبد الله بن أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن محمد، الشيخ الإمام الصالح المحدث أبو محمد بن الشيخ المحدث محب الدين السعدي المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي. سمعه والده، وحفظه القرآن، وطلب بنفسه في سنة سبع وتسعين، ولحق ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 القواس، وابن عساكر الشرف، والغسولي، والناس بعدهم، وكان عنده عوال عن ابن البخاري وبنت مكي وعدة، وانتقى له شيخنا الذهبي جزءاً، وانتقى هو لبعض مشايخه ونسخ عدة أجزاء. وخلف عدة أولاد، وكان من أهل الخير والصيانه، وأولي الصلاح والديانه، حسن الشكل واللحية السوداء، والوجه كأنه بدر في الليلة الظلماء، طيب الصوت لذيذ النغمه، إذا تلا كأنما صب على الآذان صوب نعمه، يقرأ سريعاً مع فصاحه، ويخيط بإيراده ما في القلوب من جراحه. نفع الناس بمواعيده العامه، وأفاض عليهم فيها ملابس التقوى التامه، وكان له محبون وزبون يدفع بهم الحرب الزبون، وكان يقرأ في الحائط الشمالي ومجلسه حافل غاص، وسمعته غير مرة. ولم يزل على حاله إلى أن طالت منه الرقده، وأذاق الله الناس فقده. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وثمانين وست مئة. عبد الله بن أحمد بن علي ابن أحمد الشيخ الإمام الفقيه النحوي جلال الدين بن الشيخ فخر الدين بن الفصيح العراقي الكوفي الحنفي، قد تقدم ذكر والده في الأحمدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وكان هذا جلال الدين همته مباركه، وعنده في العلوم مشاركه، وقدم إلى دمشق، وسمع بها وسمع أولاده. إلا أنه عجل عليه حتفه، ورغم بالتراب أنفه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وسبع مئة. وكان قد سمع ببغداد من جماعة، وسمع بدمشق من شيخنا الذهبي، ومن الجزري. عبد الله بن أحمد بن يوسف ابن الحسن الفقيه الفاضل جلال الدين أبو اليمن الزرندي، بالزاي والراء المفتوحة وبعدها نون ساكنة، الشافعي. سمع بالحرمين، وبحماة، وحلب، والساحل، وغير ذلك، وقرأ كثيراً، وله عدة محافيظ، وكتب المشتبه، وسمع أبا العباس الجزري، والمزي، والذهبي، وغيرهم من الموجودين. وكان شاباً فيه يقظه، وطلب في كل لحظه، لا يفتر ولا يني، ولا يعدل عن الدأب ولا ينثني. ولم يزل على حاله إلى أن قصف، ومحق بدره بعدما خسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأخير من شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة. بالطاعون. ومولده سنة عشرين وسبع مئة. عبد الله بن أحمد بن محمد بن سليمان القاضي تاج الدين بن القاضي الشيخ شهاب الدين بن غانم. تقدم ذكر والده رحمه الله تعالى. كان شاباً غضا، طري البشرة بضا، كتب في ديوان الإنشاء بدمشق فأخجل الحدائق، وتعثرت وراء أشرعته البوارق، يكاد قلمه يفوت الطرف تسرعا، ويظن من يراه أنه لم يعمل أقلامه تبرعا، وكان الناس يتعجبون من كتابته البديعه، وحركة يده السريعه. ولم يزل على حاله إلى أن عثرت قوائم جواده، وأصاب سهم المنية حبة فؤاده. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء سادس المحرم ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة. ووجدت بخطه أبياتاً كتبها للقاضي علاء الدين بن الأثير: ومثلك إن أبدى الجميل أعاده ... وإن جاد بالمعروف عاد كمّلا وما زلت تغني بالنّدى كلّ مقترٍ ... مقلّ فتولي العالمين تطوّلا وما جاءك المسكين قطّ مؤمّلا ... جميلك إلاّ نال ما كان أمّلا لك اشتهرت يا بن الأثير مآثرٌ ... بآثارها الحسنى ملأت بها الملا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وجودك قد عمّ الوجود وأهله ... فما منزلٌ من فيض فضلك قد خلا وأنت فلم تبرح تغيث ولم تزل ... تعين ذوي الحاجات منك تفضّلا فلا زلت محروس المقرّ مبلّغا ... أمانيك مشكور الندى دائم العلا ورثاه والده بشعر كثير، ومنه ما كتبه تحت خطه بعد وفاته: آها لكاتبها وما ... فعلت بأنملها الظراف نوب المنون العارضا ... ت لكلّ حيٍّ بالتّلاف أفرطت في تفريطهنّ ... بما أفتن من التلاق تجتاح أرواح الورى ... بظواهرٍ منها خواف لتعيدهم كمرامدٍ ... بالريح تنسفها السّواف أجّجن نيران الجحيم ... أسىً بقلبي والشّغاف وأطلن سقماّ ماله ... إلاّ علاج الموت شاف عبد الله بن أحمد الوزير علم الدين بن القاضي تاج الدين بن زنبور. كان كاتباً سعيد البدايه، متصرفاً له في التدبير عنايه، جمع له من الوظائف الجليلة ما لم يجمع لغيره، ودانت له الأيام حتى ذل الأُسود لعيره، وجمع له من الأموال ما تقصر عنه أمواج الأمواه، وتكل عن وصفه أفواج الكلم من الأفواه، واقتنى من الأملاك ما يحار له الأملاك، وحاز من الإنعام ما يقف السابح في ذكره إن عام، وأما المراكيب والمراكب والملابس التي تفخر بها الكواكب، فشيء زاد على المعهود مقداره، وضاقت في البر والبحر أقطاره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وعاند أولاً وكاد يدركه العطب، ونهض من وهدة الخطب إلى ذروة المنبر من العز وخطب، ثم إنه استقل من يعانده، واستذل من يراوده، فوقع هو في هوة لا يصل من ينتاشه إلى قرارها، وتاه في موماة هلاك لا ينجيه الحذر من فرارها، فأخذ من مأمنه، وثار إليه الشر من مكمنه، فأصبح علمه منكسا، وقلمه مركسا، ونزلت به من الزمان بليه، وأمست حلية المنصب من ابن زنبور خليه، يطلب من ينصره فلا يجده، ويروم من يعضده فلا يعده ولا يعده، وتنوع له العذاب، وتفرع من الهوان ما أذله وأذاب، إلى أن تقطعت القلوب له رحمه، وجاءه الفرج فلم يخلص إليه من الزحمه، عادة من الزمان أجرى الناس عليها، وأجراهم بعد غاياتهم إليها. ثم إنه جهز إلى قوص، مع حظه المنقوص، ففارق أربعة رق له فيها الحسدة: مناصبه ووطنه وماله وولده، فبات وزيراً سعيدا، وأصبح فقيراً في البلاد طريدا، فلا رغبة لعاقل في العليا، ومرحباً بإقبال هذه الدنيا، فقد: تفانى الرجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل ولم يزل بقوص، والذل يغور به ويغوص، إلى أن اندفع إلى القبر واندفن، وخرج من دنياه وما معه غير الكفن. وتوفي بقوص رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وسبع مئة. أول ما علمته من أمره أن القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص استخدمه كاتب الإصطبلات بعد أولاد الجيعان في أواخر أيام الملك الناصر محمد، وبقي القاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 علم الدين على هذه الوظيفة إلى أن خرج القاضي علم الدين بن القطب من مصر إلى دمشق، فخلت عنه وظيفة استيفاء الصحبة، وخرج إلى حلب وكشف القلاع، وحصل أموالاً. وبقي على ذلك إلى أن أمسك جمال الكفاة في واقعته الأخيرة، ومات تحت العقوبة، فنقل القاضي موفق الدين إلى نظر الخاص، فبقي قليلاً، وطلب الإعفاء فأعفوه، وتولى علم الدين بن زنبور الخاص، وأضيف إليه من الجيش بعد القاضي أمين الدين، ولم يزل على ذلك إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير، فأضيفت الوزارة إلى ابن زنبور، وهذا أمر ما اتفق لغيره أبداً، ولا سمعنا به وإنما كان الجيش والخاص مع جمال الكفاة، وهذه الوظائف الثلاث، هي عبارة عن الدولة إلا كتابة السر، فعلم الدين بن زنبور، أول من جمع له هذه الوظائف. وبقي على ذلك إلى أن خرج السلطان الملك الصالح صالح إلى الشام في واقعة بيبغاروس، فحضر معه إلى دمشق وأظهر في دمشق عظمة زائدة، وروع الكتاب ومباشري الأوقاف ولكنه لم يضرب أحداً، ولا كشف رأسه، وتوجه مع السلطان عائداً إلى مصر، في أوائل ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ولما وصل عمل السلطان سماطا عظيماً، وخلع فيه على الأمراء كبارهم وصغارهم، وكان تشريف الأمير صرغتمش ناقصاً عن غيره، وكان في قلبه من الوزير، فدخل إلى الأمير سيف الدين طاز وأراه تشريفه، وقال: هكذا يكون تشريفي، واتفق معه على إمساك ابن زنبور. وخرج من عنده وطلبه وأهانه وضربه ورسم عليه وجد في ضربه، ومصادرته، فأخذ منه من الذهب والفضة والقماش والأصناف والكراع والأملاك ما يزيد على الحد، ويتوهم الناقل لذلك أنه ما يصدق في ذلك، ويستحيي العاقل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 ذكره. وبقي ف العقوبة زماناً، وكان الأمير سيف الدين شيخو يعتني به في الباطن، فشفع فيه وخلصه وجهزه إلى قوص فأقام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور، وقيل: إنه سم، وقيل: نهشه ثعبان، والله أعلم. وتولى الوزارة بعده القاضي موفق الدين وتولى الخاص القاضي بدر الدين كاتب يلبغا، وتولى القاضي تاج الدين أحمد بن أمين الملك نظر الجيش. وبلغنا أنه لما أعيد الملك الناصر حسن إلى الملك أعيدت المصادرة على من بقي من ذوي قرابة ابن زنبور، وأنه أخذ له، ومنهم جملة من المال، وأما ما أخذ منه في المصادرة في حياته فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصي من ورقة بخطه، على ما أملاه القاضي شمس الدين محمد البهنسي: أواني ذهب وفضة ستون قنطاراً. جوهر ستون رطلاً. لولو أردبان. ذهب مصكوك مئتا ألف وأربعة آلاف دينار، ضمن صندوق، ستة آلاف حياصة، ضمن صناديق زركش: ستة آلاف كلوته، وذخائر عدة، قماش بدنه: ألفان وست مئة فرجية. بسط: ستة آلاف. صنجة دراهم: خمسون ألف درهم. شاشات: ثلاث مئة شاش. دواب عاملة: ستة آلاف. حلابة: ستة آلاف. معاصر سكر: خمس وعشرون معصرة. وخيل وبغال: ألف، دراهم ثلاثة أرداب. إقطاعات سبع، كل إقطاع: خمسة وعشرون ألف درهم. عبيد: مئة. خدم: ستون. جواري: سبع مئة. أملاك القيمة عنها. ثلاث مئة ألف دينار. مراكب: سبع مئة. رخام القيمة عنه: مئتا ألف درهم. نحاس: قيمته أربعة آلاف دينار. سروج وبدلات خمس مئة. مخازن ومتاجر: أربع مئة ألف دينار. نطوع: سبعة آلاف. دواب: خمس مئة. بساتين: مئتان. سواقي: ألف وأربع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 عبد الله بن أحمد بن محمد ابن محمد بن نصر الله الشيخ فخر الدين بن الشيخ الإمام تاج الدين ابن المغيزل الحموي شيخ الشيوخ بحماة. كان رجلاً مباركاً، ولي المشيخة بعد والده وأقام فيها أكثر من أربعين سنةً. ووليها بعده قاضي القضاة شرف الدين البارزي. سمع بقراءة شيخنا البرزالي بحماة على والده سنة خمس وثمانين وست مئة. وكان منقطعاً يصوم دائماً ويتعبد، ولم يكن قد تأخر في بني المغيزل مثله. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري شهر رمضان ثلاث وثلاثين وسبع مئة. عبد الله بن أحمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن إبراهيم بن خليل وغيره، وكان فقيهاً كتب الكثير وسمع وكتب الطباق: وصار نقيباً للقاضي الحنبلي قبل موته بشهر. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. وله حضور على خطيب مردا، وهو في ثاني سنة من عمره، وسمع من جده وعم والده الفقيه محمد بن عبد الهادي وابن عبد الدائم وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 عبد الله بن أحمد بن علي ابن المظفر - وسيأتي تمام نسبه في ترجمة ولده القاضي فخر الدين محمد - القاضي الصدر الكبير الرئيس بهاء الدين ابن الحلي ناظر الجيوش بالديار المصرية. كان من أعيان المصريين وصدورهم ونجوم مباشريهم وبدورهم، قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن النجيب عبد اللطيف الحراني. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة عاشر شوال سنة تسع وسبع مئة. ودفن بالقرافة. وتولى الوظيفة بعده القاضي فخر الدين كاتب المماليك. عبد الله بن أبي بكر بن عرام بفتح العين المهملة وتشديد الراء وبعدها ألف وميم: الأسواني المحتد، الإسكندراني الدار والوفاة. سمع الحديث، وصحب الشيخ أبا العباس المرسي، وأمه بنت الشيخ الشاذلي. كان يقرئ النحو بإسكندريه، ويألف به كل ذي نفس سنيه، وأفعال سريه، فأفات الجهل وأفاد العلم، وساد الناس لما ساسهم بالحلم، وكان يذكر عنه كرامات، ويشاهد له في الصلاح مقامات. ولم يزل على حاله إلى أن عرى الموت ابن عرام حياته، وقدر له بالسوء بياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده بدمنهور سنة أربع وخمسين وست مئة. عبد الله بن تاج الرئاسة الصاحب الرئيس الوزير الكبير أمين الملك وزير الديار المصرية والشامية. لما استسلم الجاشنكير الأمير ركن الدين بيبرس النصارى اختبأ الصاحب أمين الدين هو والصاحب شمس الدين غبريال تقدير شهر، ولما طال الأمر عليهما ظهرا وأسلما. وهو ابن أخت السديد الأعز المذكور المشهور في الدولة الظاهرية المنصورية، وكان خاله مستوفياً، وبه تخرج، وعليه تدرب، ولما مات رتب هو مكانه ومال في الاستيفاء، السعادة الزائدة والدنيا العريضة، وزر بعد ذلك ثلاث مرات، وهو يتأسف على وظيفة الاستيفاء. وكان رئيساً كبيرا، كاتباً منفذاً وزيرا، قد درب الأمور وباشرها، ورأى المناصب الجليلة وعاش بها وعاشرها، ولم أر من يكتب أسرع منه ولا أقوى، ولا أعرف بالمصطلح في الدولة ولا أحوز لمعرفة عوائدها ولا أحوى، يكون مرتفقاً على مدوره، والورقة في يده اليسرى مهوره، فيأخذ القلم ويكتب ما يريده ويلقيه أسرع من البرق، وأعجل من الشمس التي يكون ضؤوها في الغرب وهي في الشرق، وكان إذا وضع القلم في أول السطر وكتبه لا يرفعه إلى آخره قدرةً على الكتابة، كأنما يمد بسبب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وكان مع جلالة منصبه كثير الأدب، زائد التواضع إذا أمر أو نهى أو طلب، وكتب بخطه المليح ربعة مليحه، واعتنى بأمرها فجاءت جيدة صحيحه، وكان يتغالى في أمداح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكتبها بخطه ممن أنشدها أو تكلم. ولم يزل بدمشق على نظر الدواوين إلى أن طلب إلى مصر ليعاد إلى الوزاره، فتوجه إليها، ولم يصل إلا وأمره قد نقصه من حسن العباره، فأقام في بيته بطالا إلى أن قبض عليه، وأخذ روحه قبل ما لديه. وتوفي رحمه الله تحت المصادرة والعقاب، وطلب الأموال منه بلا حساب، وذلك في سنة أربعين وسبع مئة. وكان قد ولي الوزارة عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب بالديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ثم عزل منها وتولى الوزارة بعده الأمير بدر الدين بن التركماني في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وصودر وأفرج عنه، ثم إنه ولي الوزارة ثانياً، فعمل عليه القاضي كريم الدين الكبير وفخر الدين وأخرجاه إلى طرابلس ناظراً بمعلوم الوزارة في مصر، فوصل إليها في شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها إلى أن حج فيما أظن واستعفى من المباشرة، وسأل الإقامة في القدس يعبد الله تعالى هناك، فأجيب إلى ذلك، فتوجه إليها في المحرم سنة عشرين وسبع مئة، وله راتب يكفيه، في كل مرة يعزل شاماً ومصراً. ولم يزل بالقدس مقيماً، إلى أن أمسك القاضي كريم الدين الكبير في شهر ربيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 الآخر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر على البريد، ولما وصل في خامس عشري ربيع الآخر ولاه السلطان الوزارة مرة ثالثة. أخبرني الصاحب أمين الدين رحمه الله تعالى قال: لو علمت أنه بقي في الدنيا وظيفة يقال لها نظر خاص ما خرجت من القدس، قلت: لم ذاك يا مولانا الصاحب؟ قال: لأن ناظر الخاص يدخل إلى السلطان بكرة النهار فيتحدث معه بكل ما يريد أن يطلقه وينعم به على خواصه وجواريه ومن يختاره، ويدخل بعده ناظر الجيش فيتحدث معه في إقطاعات الأمراء والجند بالديار المصرية والشامية من الزيادات والنقصان والإفراجات، ويدخل كاتب السر فيقرأ البريد عليه وفيه من الولايات والعزل جميع ما بالشام، وأدخل أنا بعد ذلك، فيقول: اخرج احمل لناظر الخاص كذا وكذا فأنا فلاح لذلك المولى، وليس لي مع السلطان حديث إلا في فندق الجبن، دار التفاح، صناعة التمر، جهات القاهرة ومصر، فعلمت صحة ما قاله. وأقام في الوزارة إلى أن كثر الطلب عليه، فدخل إلى السلطان وقال: يا خوند ما يصلح للوزارة إلا واحد من مماليك مولانا السلطان يكون أمير مئة مقدم ألف، واتفقا على الأمير علاء الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 مغلطاي الجمالي، فقال له السلطان. اخرج نفذ أشغالك إلى آخر النهار وانزل إلى بيتك واسترح، وأعلم الناس أن الوزير فلان. فخرج ونفذ الأشغال، وكتب على التواقيع، وأطلق ورتب إلى آخر النهار، ونزل آخر النهار إلى بيته بالمشاعل والفوانيس على عادة الوزير، والنظار والمستوفون والمنشدون قدامه، ولما نزل على باب بيته قال: يا جماعة مساكم الله بالخير، ووزيركم غداً علاء الدين مغلطاي الجمالي، وكان ذلك عزلاً لم يعزله وزير غيره في الدولة التركية، وذلك يوم الخميس ثامن شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم لازم بيته يأكل مرتبه إلى أن عمل الاستيمار في أيام الجمالي، ووفر فيه جماعة، فطلب هو من السلطان أن يتصدق عليه بوظيفة، فقال السلطان تكون ناظر الدولة كبيراً مع الوزير، فباشر النظر في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة هو والقاضي مجد الدين بن لفيتة أربعين يوماً فكان حمله على الجميع ثقيلاً. فاجتمع الكتاب بأجمعهم عليه، وقاموا كتفاً واحدة، فما كان إلا أن كان يوماً وهو قاعد في باب الوزير لخدمة العصر، وإذا خادم صغير خرج من القصر وجاء إلى باب الوزير وأغلق دواته وقال: يا مولانا بسم الله الزم بيتك، فلزم بيته. ولما أمسك الصاحب شمس الدين غبريال وجاء السلطان من الحجاز وطلب غبريال إلى مصر رسم السلطان للصاحب أمين الدين بمكانه ناظر النظار بدمشق، وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها بعمل الوزارة إلى أن أمسك السلطان النشو ناظر الخاص في سنة أربعين وسبع مئة، طلب الصاحب أمين الدين إلى مصر ليوليه الوزارة، فعمل الكتاب عليه وسعوا في أمره إلى أن انثنى عزمه عنه، فأقام في بيته قليلاً، ثم أمسك هو ووالده القاضي تاج الدين ناظر الدولة والقاضي كريم الدين مستوفي الصحبة، وصودروا، وبسط عليهم العذاب إلى أتوفي هو رحمه الله تعالى تحت العقاب في سنة أربعين وسبع مئة. وكان الصاحب أمين الدين كثير التواضع والأدب مع جميع الناس كبارهم وصغارهم، وكان قد أسن وكبر، ولا يدخل عليه أحد إلا يقوم له، ويحكى عقيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 ذلك أن خاله كان إذا جاء إلى قوم يقول بالله لا تقوموا فإن هذا دين يشق علي وفاؤه. ولما حضر إلى دمشق أحبه الأمير سيف الدين تنكز أخيراً محبة كبيرة، وكان يثني على آدابه وحشمته. ولما عمل نظر الدولة مع الجمالي كنت بالديار المصرية فطلبني وقال: أشتهي أن تكتب عني المكاتبات والأجوبة، ورتب لي عليه شيئاً، وكنت أبيت معه وأصبح وأنا في جامكيته وجرايته وقماشه، فيعاملني بآداب كثيرة وحشمة زائدة، رحمه الله تعالى. إذا جاءته قصة أو كتاب قلب ذاك وكتب في ظهره: مولانا يتصدق ويكتب بكيت وكيت. ولما رسم له بنظر النظار بدمشق كنت إذ ذاك في ديوان الإنشاء بالديار المصرية، وكتبت له توقيعاً شريفاً بذلك ونسخته: الحمد لله الذي جعل ولي أيامنا الزاهرة أمينا وأحله ضمائر من ضمائرنا الظاهرة مكانا أينما توجه وجده مكينا، وخصه بالإخلاص لدولتنا القاهرة فهو يقيناً يقينا، وعضد بتدبيره ممالكنا الشريفة فكان على نيل الأمل الذي لا يمين يمينا، وفجر خلاله نهراً أصبح على نيل السعود معيناً معينا، وزين به آفاق المعالي فما دجا أمر إلا وكان فكره صبحاً مبينا، وجمل به الرتب الفاخرة، فكم قلد جيدها عقداً نفيسا، ورصع في تاجها دراً ثمينا، وأعانه على ما يتولاه فهو الأسد الأسد الذي اتخذ الأقلام عرينا. نحمده على نعمه التي خصتنا بولي تتجمل به الدول، وتغنى الممالك بتدبيره عن النصار والخول، وتحسد أيامنا الشريفة عليه أيام من مضى من الملوك الأول، وتحل السعود حيث حل إذ لم يكن لها عنه حول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستمطر بها صوب الصواب، ونرفل منها في ثوب الثواب، وندخر منها حاصلاً ليوم الحساب، ونعتد برها واصلاً ليوم الفصل والمآب. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الصادق الأمين، ورسوله الذي لم يكن على الغيب بضنين، وحبيبه الذي فضل الملائكة المقربين، ونجيه الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حجة على الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صحبوا ووزروا، وأيدوا حزبه ونصروا، وبذلوا في نصحه ما قدروا، وعدلوا فيما نهوا وأمروا، صلاةً لهم تكون لهم هدىً ونوراً إذا حشروا، ويضوع بها عرفهم في الغرف ويطيب نشرهم إذا نشروا، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وبعد: فإن أشرف الكواكب أبعدها دارا، وأجلها سراً وأقلها سرارا، وأدناها مبارا وأعلاها منارا، وأطيب الجنات جناباً ما طاب أرجاً وثمارا، وفجر خلاله كل نهر تروع حصاه حالية العذارى، ورنحت معاطف غضونه سلافة النسيم فتراها سكارى، وتمد ظلال الغصون، فتخال أنها على وجنات الأزهار تدب عذارا. وكانت دمشق المحروسة لها هذه الصفات، وعلى صفاها تهب نسمات هذه السمات، لم يتصف غيرها بهذه الصفة، ولا اتفق أولو الألباب إلا على محاسنها المختلفة، فهي البقعة التي يطرب لأوصاف جمالها الجماد، والبلد الذي ذهب المفسرون إلى أنها إرم ذات العماد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 وهي في الدنيا أنموذج الجنة التي وعد بها المتقون، ومثال النعيم للذين عند ربهم يرزقون، وهي زهرة ملكنا، ودرة سلكنا، وقد خلت هذه المدة ممن يراعي مصالح أحوالها، ويرعى نجوم أموالها، ويدبر أمر مملكتها أجمل تدبير، ويحمي حوزتها ويحاشيها من التدمير، فيسم منها غفلا، ويحلي عطلا، ويملأ خزائنها خيراً يجلى، إذا ملأنا ساحتها خيلاً ورجلا. تعين أن ننتدب لها من خبرناه بعداً وقربا، وهززناه مثقفاً لدناً وسللناه عضبا، وخبأناه في خزائن فكرنا فكان أشرف ما يدخر وأعز ما يخبا، كم نهى في الأيام وأمر، وكم شد أزراً لما وزر، وكم غنيت به أيامنا عن الشمس، وليالينا عن القمر، وكم رفعنا راية مجد فتلقاها عرابة فضله بيمين الظفر، وكم علا ذرى رتب تعز على الكواكب الثابتة، فضلاً عمن يتنقل في المباشرات من البشر، وكم كانت الأموال جمادى فأعادها ربيعاً غرد به طائر الإقبال في الجهات وصفر. وكان المجلس العالي القضائي الوزيري الصاحبي الأميني هو معنى هذه الإشاره، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الداره، نزل من العلياء في الصميم، وفخر بأقلامه التي هي سمر الرماح كما فخرت بقوسها تميم، وتحفظت الموال في دفاتره التي يوشيها فأوت إلى الكهف والرقيم، وقال لسان قلمه " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم "، و: عقم الزمان بأن يجيء بمثله ... إنّ الزمان بمثله لعقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وتشبه به أقوام فبانوا وبادوا، وقام منهم عباد العباد، فلما قام عبد الله يدعوه كادوا. أردنا أن ينال الشام فضله، كما نالته مصر فما يساهم فيه سواهما ولا يقول لسان الملك لغيره: حللت بهذا حلّة بعد حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله وشرفه، أن يفوض إليه تدبير الممالك الشريفة بالشام المحروس ونظر الخواص الشريفة والأوقاف المبرورة على عادة من تقدمه في ذلك وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، وهو في الشهر مبلغ أربعة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعين. تفصيله عن: نظر المملكة الشريفة بالشام المحروس: أربعة آلاف ومئة وثلاثة وثلاثين، مبلغ ألفان وسبع مئة وثلاثة وثلاثين: ثمن لحم وتوابل، ألف وثلاث مئة وخمسون، خارجاً عما باسم كتابة النظر، وهو في الشهر قمح غرارة ونصف، دراهم: مئة وخمسون. عن نظر الخاص الشريف، غلات عن الوظيفتين: تسع وعشرون غرارة، مبلغ وثمن لحم وتوابل: ثلاثة أرطال بالدمشقي: خمس مئة وأربعون درهماً، تفصيله: قمح تسع غرائر، شعير عشرون غرارة، أصناف المشاهرة: بالوزن الدمشقي، سكر بياض اثنان وعشرون رطلاً ونصف، حطب: تسعة قناطير. وفي اليوم بالدمشقي، خبز: خمسة عشر رطلاً، شمع: أوقية ونصف، ماء ورد: أوقية ونصف، صابون: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 أوقية ونصف، زيت طيب: نصف رطل، والكسوة والتوسعة والأضحية والأتبان على العادة لمن تقدمه في ذلك. فليتلق هذه الولاية بالعزم الذي نعهده، والحزم الذي شاهدناه ونشهده، والتدبير الذي يعترف له الصواب ولا يجحده، حتى تثمر الأموال في ورق الحساب، وتزيد نمواً وسمواً فتفوق الأمواج في البحار وتفوت المطر في السحاب. مع رفق يكون في شدته، ولين يزيد مضاء حدته، وعدل يصون مهلة مدته، فالعدل يعمر، والجور يدمر ولا يثمر، بحيث إن الحقوق تصل إلى أربابها، والمعاليم تطلع بدورها كاملة في كل هلال على أصحابها، والرسوم لا تزاد على الطاقة في بابها، والرعايا يجنون ثمن العدل متشابها، وإذا أنعمنا على بعض أوليائنا بجمل فلا تكدر بأن تؤخر، وإذا استدعيناه إلى أبوابنا بمهم فليكن الإسراع إليه يخجل البرق المتألق في السحاب المسخر فما أردناك إلا أنك سهم خرج من كنانة، وشهم لا يثني إلى الباطل عيانه ولا عنانه، فاشكر هذه النعم على منائحها، وشنف الأسماع بمدائحها، متحققاً أن في النقل بلوغ العز والأمل، وأنه: لو كان في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل فاستصحب الفرح والجذل بدل الفكر والجدل، وسر على بركة آرائنا الشريفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 وقل: وفي بلاد من أختها بدل، واختر ما اختارته لك سعادتنا المؤبدة المؤيدة فطرفها بالذكاء مكتحل: إن السعادة فيما أنت فاعله ... وفّقت مرتحلاً أو غير مرتحل فما آثرنا بتوجهك إلى الشام إلا ليأتيك المجد من هنا وهنا، ولأنك إذا كنت معنا في المعنى فما غبت في الصورة عنا، وابسط أملك " إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين "، ونزه نفسك فقد أويت " إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين "، والوصايا كثيرة وأنت ابن بجدتها علماً ومعرفة، وفارس نجدتها الذي لا يقدم على أمر حتى يعرف مصرفه، فما نحتاج أن نرشدك منها إلى علم، ولا أن نشير إليك فيها بأنملة قلم، وتقوى الله تعالى هي العروة الوثقى، والكعبة التي من يطوف بها " فلا يضلّ ولا يشقى "، فعض بالناجذ عليها وضم يديك على معطفيها، والله يتولى ولايتك، ويعين دربتك في الأمور وعنايتك، والخط الشريف أعلاه الله تعالى وشرفه أعلاه، حجة بثبوته والعمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. وأنشدني لنفسه إجازة ما كتبه شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود عندما ولي الوزارة الأخيرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة: تبلّجت الدّنيا وأشرق نورها ... وعاودها بعد النّفور سرورها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 وماست بأعطاف الممالك نفحةٌ ... من العزّ عمّ الخلق طيباً مرورها وردّت على دست الوزارة بهجةٌ ... إذا لم تكنها الشمس فهي نظيرها فأربت على ماضي الدّهور لكونها ... أُعيدت إلى المولى الوزير أُمورها وصاحبها حكماً فكلّ محكّمٍ ... يباشرها من عنده يستعيرها وما رسمت من بعده باسم غيره ... فساوى الورود الآن منها صدورها وهل يطرق الآمال أرجاء ربّته ... على مفرق الشّعرى العبور عبورها أمين الدّنا والدين والملك والعلى ... ومعلي سنا آرائها ومشيرها فأشرقت الأقطار بعد قطوبها ... بمرآه وافتّرت سروراً ثغورها ولم لا ترى تلك الثغور بواسماً ... وآراؤه حول الممالك سورها ولم يدر إن أثرى ثرى الملك بالنّدى ... أيمناه أحيت تربها أم بحورها وقد كانت الآمال ماتت فردّها ... به نشر بشرى كان فيها نشورها ولو نذرت من قبلها رتبةٌ علت ... لحقّ عليها أن توفّى نذورها يلوح بأجياد التقاليد وصفه ... فتشرق بالدرّ الثمين سطورها وتبدو معاني نفسه في مدادها ... كما تتبدّى في الليالي بدورها إذا ما سطت أقلامه وضراغم ... لها الطّرس غابٌ والصّرير زئيرها وإن أجرت الأرزاق فهي غمائم ... يسير إلى الآفاق منها مطيرها وإن دبّحت طرساً فأبهج روضه ... يناظر زهر النيّرات نضيرها وإن سجعت في مهرقٍ فحمائم ... لها الكتب دوحٌ والقلوب طيورها أتانا به لطف الإله بخلقه ... وكلّ امرئ هادي العيون قريرها إذا أجدبت أرضٌ وغاض معينها ... فمن راحتيه روضها وغديرها فأخصب واديها وأمرع ربعها ... وأُصلح غاويها وأثرى فقيرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 بحجته معنى الجلالة سافرٌ ... وأضفى ستور الكاملين سفورها ويدنيه منّا فضله في علوّه ... كشمس الضحى تعلو ويقرب نورها وقد لحظ الأعمال أوّل نظرةٍ ... تساوى لديه نأيها وحضورها ووافت حمول المال من كلّ وجهة ... ثقالا هواديها بطيّا مسيرها ولم يك عن عسفٍ ولكن أثارها ... وقد خفيت من كل قطرٍ خبيرها فأضحت بيوت المال ملأى برأيه ... تغصّ ولا يخشى انتقاصاً غريرها وقد أخصبت منه الخزائن فاغتدت ... كروضة حسن والدلال زهورها ولو لم تكن قد أصبحت وهي جنّة ... به ما علا الأبرار منها حريرها أيا مالك النّعمى الذي لنواله ... مناهل لم يكدر لديّ نميرها لقد كنت أخشى أن أموت وما أتى ... بما كنت أرجو من علاك بشيرها وقد كنت بالعقبى من الله واثقا ... وإن أبطأت أيامها وشهورها وإنك ما استنصرت إلاّ بربك الع ... ليّ ولم ينس العباد نصيرها ومن يكن الرحمن حافظ نفسه ... فكيد أعادي نفسه لا يضيرها فدونكها يصفي لك العزّ وردها ... ويضفي جبير السّعد منك جبورها فقد يئست منها وقد آل أمرها ... إليك نفوس زال عنها غرورها فأكرم بملكٍ أنت منه أمينه ... ودولة ملك أنت فيها وزيرها وعش وابق ما غنّى الحمام بدوحه ... وبارى هديل الورق منها هديرها يقبل الأرض التي يود لو فاز بلثم أعتابها، أو كحل ناظره الذي قذي بالبعد عنها بلثم ترابها، ويتمنى لو قام لديها بفرض التهنئة منشدا، أو مثل بها بين الأولياء منبهاً لهم على تكرار السجود لله تعالى ومرشدا. وينهي ورود البشرى التي كانت الآمال تترقب ورودها، والتهاني التي كانت الأماني تتنجز من الدهر وعودها، والنعم التي كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 الأولياء تخشى أن تجود بأنفسها قبل أن ترى وجودها، فالحمد لله على هذه المنن التي أجابت من سأل، وتركت المملوك وأمثاله من الأولياء يصحبون الدنيا بلا أمل، وأعادت على النواظر نضارة نورها وإضاءة نورها، وردت إلى القلوب ما بعد من آمالها أو نفر من سرورها، وفسحت للأولياء في أرجاء الرجاء مجالا، وأجرت سوابق الإحسان في مضمار المعنى فغدت لها المحامد غررا، والأثنية المشرقة أحجالا، ثم الحمد لله على هذه المنة التي لا يقدر الشكر قدرها، ولا يدرك سرار الانتهاء بدرها، ولا تزال الأقدار تعاضد نهيها وأمرها، والسعادة ترفه بيمن خياطتها الممالك بيض جيوشها المرهفة وسمرها، والمملوك فقد اجتنى ثمر دعائه الصالح، وأخذ من هذه التهنئة حظ المقيم الملازم بالأبواب العالية مع أنه النائي النازح، والله يجعل هذه المنة فاتحة ما يستقبل من أمثالها، ويمتع الأولياء كافة بما أنجزت لها الأيام من وعود آمالها بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. عبد الله بن جعفر بن علي بن صالح محيي الدين الأسدي الكوفي النحوي الحنفي، ابن الصباغ. أجاز له رضي الدين الصاغاني، والموفق الكواشي، وبالعامة من ابن الخير، وألقى الكشاف مرات دروسا، وجلا من آدابه، على الطلبة عروسا، وسقى من فضائله المتنوعة غروسا، وكانت له جلالة وأبوة وأصالة، عرض عليه تدريس المستنصرية فأبى، وصار له بهذا الإعراض حديث ونبا، وكانت فضائله موصوفه، وهو في ذلك الزمان فاضل الكوفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الموت بابن الصباغ صبا، وصبت الأحزان عليه سحائب الدموع صبا. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة. كان فيه عبادة وزهادة، وكتب عنه عفيف الدين المطري، وأجاز للشيخ تقي الدين بن رافع، ونظم الفرائض. عبد الله بن جعفر عفيف الدين التهامي أحد كتاب الإنشاء للملك المؤيد صاحب اليمن، كان دينا حسن السيره، طاهر السريره. نقلت من خط الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني، قال: كان عفيف الدين يملي على أربعة قريضاً من فيه، على غرض طالبه ومستفتيه، من غير لعثمه، ولا فأفأة ولا تمتمه، في أوزان مختلفه، وقواف غير مؤتلفه، وبلغ السبعين، وهو مشتمل برداء الدين. وقال: توفي سنة أربع عشرة وسبع مئة ببلده من أعمال الجثة. قال يمدح المؤيد وقد سار إلى عدن من تعز، وعيد بها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 أعلمت من قاد الجبال خيولا ... وأفاض من لمع السيوف سيولا وأماج بحراً من دلاصٍ سابحٍ ... جرّت أسود الغاب منه ذيولا ومن القسىّ أهلةً ما تنقضى ... منها الخضاب عن النصول نصولا وتزاحمت سمر القنا فتعانقت ... قرباً كما يلقى الخليل خليلا فالغيث لا يلقى الطريق إلى الثرى ... والريح فيها لا تطيق دخولا سحبٌ سرت فيها السيوف بوارقاً ... وتجاوبت فيها الرعود صهيلا طلعت أسنّتها نجوماً في السما ... فتبادرت عنها النجوم أُفولا تركت ديار الملحدين طلولا ... مما تبيح بها دماً مطلولا والأرض ترجف تحتها من أفكلٍ ... والجوّ يحسب شلوه مأكولا حطمت جحافلها الجحافل حطمةً ... تدع الحمام مع القتيل قتيلا طلبوا الفرار فمّد أشطان القنا ... فأعاد معقلهم بها معقولا عرفوا الذي جهلوا فكلّ غضنفرٍ ... في النّاس عاد نعامة إجفيلا ملك إذا هاجت هوائج بأسه ... جعل العزيز من الملوك ذليلا بحر إلى بحر يسير بمثله ... والملح أحقر أن يكون مثيلا وقال: وقد أمر المؤيد أن تطرح دراهم في بركة صافية، وأن ينزل الخدام والحاضرون للغوص عليها: أرى بركة قد طما ماؤها ... وفي قعرها ورقٌ منتثر فيا ملك الأرض هذي السّما ... وهذي النجوم وأنت القمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وقال: وقد أمر المؤيد أن يقطع الندامى عناقيد عنب، فقطع عفيف الدين عنقوداً وحمله إلى السلطان وهو يقول: جاء ابن جعفر حاملاً بيمينه ... عنقود كرم وهو من نعماكا يقضي الزمان بأنّ نصرك عاجلٌ ... يأتي إليك برأس من عاداكا وقال: وقد حضر خروف المغني من الشام سنة ثلاثين وسبع مئة، وغنى بين يدي السلطان: إن أيامكم لأمنٌ ويمنٌ ... وأمانٌ في كل بدوٍ وحضر هيبةٌ منك صالحت بين سرحا ... نٍ وسنحلٍ وبين صقر وكدري ومن المعجزات أنّ خروفاً ... يرفع الصوت وهو عند الهزبر قلت: كذا نقلته من خط الشيخ تاج الدين اليمني قوله: أمن ويمن وأمان، والأمن والأمان واحد. عبد الله بن أبي جمرة خطيب غرناطة المالكي. روى عن أبي الربيع بن سالم وأقام مدة بسبته لا يخرج عنها جمعته ولا سبته. ثم إنه ولي خطابة غرناطه، وغدق به صاحبها ذاك وناطه، وكان ذلك في آخر عمره ونهاية أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 خطب يوم جمعة وسقط ميتاً من أعلى المنبر، وكان ذلك آية لمن عق ومن بر، وذلك بعد سنة عشر وسبع مئة. عبد الله بن حسن ابن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور، الشيخ الفقيه الإمام المحدث اللغوي المفتي قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد بن العلامة شرف الدين بن الحافظ جمال الدين بن الحافظ تقي الدين الدمشقي الصالحي الحنبلي. سمع حضورا سنة ثمان وأربعين، وحدث عن مكي بن علان، والعراقي، والكفرطابي، ومحمد بن سعد، سمع منه صحيفة همام والعماد بن عبد الهادي، واليلداني، وخطيب مردا، وعلي بن يوسف الصوري، وإبراهيم بن خليل، وأبي المظفر سبط الجوزي، وطائفة. وحدث بصحيح مسلم عن ابن عبد الهادي، وطلب قليلا بنفسه، وقرأ على ابن عبد الدائم والشيخ شمس الدين، روى الكثير وتفرد، وكان يمل ولا يحتمل تطويل المحدثين، تفقه وبرع في مذهبه، وأفتى ودرس في حال تقلبه. وكان خيراً وقورا، ساكناً صبورا، حسن السمت، لا يرى في حاله عوج ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 أمت، لين العريكه، من جالسه صار في أمره وما هو فيه شريكه، تقلد الحكم بعد عز الدين المقدسي فما غير زيه، ولا حول نديه، ولا ركب بغلة، ولا حضر المواكب ولا مشى في حفلة، بل كان يركب حماره، وجعل ذلك دليلاً وأماره. وكان طويل القامة رقيقا، دقيق الصوت رفيقا. مليح الذهن حسن المحاوره، متع المحاضره، ولم يكن محذلقاً في أموره، ولم يكن عنده فطنة في غيبته ولا في حضوره. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه الأجل فبغته، ولم يخطه الذي وصفه ونعته، حكم بالبلد إلى العصر، وطلع إلى الجبل ففاجأه الموت وهو يتوضأ للمغرب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكانت ولايته سنة وشهرين. ومولده سنة ست وأربعين وست مئة. وأجاز لي رحمه الله تعالى في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب عنه بإذنه عبد الله بن أحمد بن المحب. وكان وصول تقليده بالقضاء إلى دمشق يوم الثلاثاء سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. عبد الله بن الحسين ابن أبي التائب بن أبي العيش، الشيخ المسند المعمر الشاهد، بدر الدين أبو محمد الأنصاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 سمع مع أخيه إسماعيل كثيراً من مكي بن علان، والرشيد العراقي، وابن النور البلخي، وعثمان بن خطيب القرافة، وإبراهيم بن خليل، وعبد الله بن الخشوعي، وعدة. وروى الكثير على ضعفه، وتفرد بالرواية، ولو طلب الإعفاء من الطلبة لم تعفه، وعمر دهرا، وخاض من العمر المديد نهرا، وكان لا يصدق في مولده في آخر عمره، ويزعم أنه تجاوز المئة، فما أصبره على جمره، ثم إنه شرع في الطلب على الروايه، وبان للناس منه الغوايه. ولم يزل على حاله إلى أن نزل بابن أبي العيش الموت، وحضره مع كثرة التسميع الفوت. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين وست مئة. وألحق مرة بخطه الوحش اسمه مع أخيه فيما لم يسمعه فما روى من ذلك كلمة واحدة، وأجاز لي بدمشق بخطه سنة تسع وعشرين وسبع مئة. عبد الله بن خطلبا ابن عبد الله جمال الدين الغساني أحد مقدمي الحلقة بالقاهرة. أخبرني العلامة أثير الدين من لفظه قال: مولده رابع عشر شعبان سنة سبع وعشرين وست مئة، وأنشدني: قال: أنشدني من لفظه لنفسه: أستغفر الله من أشياء تخطر لي ... من ارتكاب دنيّاتٍ من العمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ومن ملاحظتي طوراً مسارقةً ... وتراةً جهرة للفاتر المقل من كلّ أحوى حوى رقّي ورقّ له ... قلبي وقد راق لي في وصفه غزلي من أحسن الناس وصفا قد شغفت به ... وهو الذي حسنه العصيان حسّن لي فالشمس تفخر إن قيست ببهجته ... والبدر منه وغصن البان في خجل فجلّ جامع ما في الناس من حسن ... ومن على كلّ قلب الجمال ولي عبد الله بن ريحان ابن عبد الله، الشيخ جمال الدين التقوى القليوبي. سمع من ابن المقير، والساوي، وابن الصابوني، وابن رواج، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وغيرهم. وقرأ بنفسه على بعضهم، وكان يسكن بالمدرسة الكاملية بالقاهرة، وينادي بقيسارية التجار، وكان عسراً في التحديث. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه جزء الصولي عن ابن رواج بجامع الحاكم. وتوفي في نصف صفر سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين وست مئة بالقاهرة. عبد الله بن سعيد الدولة الوزير موفق الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 أول ما علمته من أمره أنه كان رحمه الله ناظر البيوت في آخر أيام الملك الناصر محمد، ثم إنه بعد ذلك تولى نظر الدولة، وأمسك مع القاضي جمال الدين جمال الكفاة، ونجاه الله من تلك الفتنة وكانت واقعة عجيبة، وصودر فيها جماعة، ومات آخرون وهلك جماعة من العقوبة. ثم إنه تولى نظر الخاص بعد جمال الكفاة، ولما تولى نظر الخاص كتب اسمه: عبد الله، وقبل ذلك إنما كان اسمه: هبة الله، وكذا كان يكتبه، فلما ولي الخاص كتب: عبد الله، واستمر على ذلك إلى آخر وقت، ثم إنه طلب الإعفاء من نظر الخاص، وأعيد إلى نظر الدولة، وتولى علم الدين بن زنبور نظر الخاص، ولم يزل موفق الدين على نظر الدولة إلى أن أمسك ابن زنبور الوزير، فتولى موفق الدين الوزارة، وأقيم معه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني مشيراً، وكان يجلس معه إلى آخر وقت. وكان القاضي موفق الدين خيرا، باطنه لا يزال بمحبة الفقراء نيرا، يميل إلى الصلحاء ويبرهم، ويحسن إليهم بما يستروح إليه سرهم، ولا يرد فقيرا، ولو كان ما يعطيه نقيرا، ولا يزال على مصالحهم يثابر، وليس كمن يأخذ من نهاوش ويضعه في نهابر. وكانت أخلاقه سهله، وغضبه مثل ثم تقتضي التراخي والمهله، دائم البشر، فائح النشر، وكان يحب الفضلاء ويدنيهم، ويود قربهم ويعينهم ويغنيهم، وخطه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 حسن جيد نقش، حلو الأوضاع رقش. وكان من غريب الاتفاق، أنه تزوج باتفاق، وهي جارية سوداء أظنها كانت من حظايا الصالح إسماعيل، اتصل بها بعده لأن صبره فيها عيل، ودخلت إليه بخدم كثير، وفرش وثير وجد منه عثير، وكان يتكلف في النفقة عليها كل يوم جمله، وينهض من ذلك بما لا يطيق غيره حمله، ولعله لمح منها ما هاله فحصل له الهلع، وأراد الله أن يختار له من السعود سعد بلع، وليس ذلك بدعاً فلولا الأغراض الفاسدة ما نفقت السلع، وما الوزير موفق الدين فرداً في هذه المسأله، ولا هو بأول من نصر حجة مبطله، فقد صنف ابن الجوزي كتاباً سماه تنوير الغبش في فضائل الحبش وقصيدة ابن الرومي القافية التي يصف بها السوداء تقارب المئتي بيت، وأحسنها: أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق وقال الشريف الرضي من أبيات: وما كان سهم الطّرف لولا سواده ... ليبلغ حبّات القلوب إذا رمى إذا كنت تهوى الظبي ألمى فلا تلم ... جنوني على الظبي الذي كلّه لمى ولم يزل الوزير موفق الدين في الوزاره، إلى أن جاءه الأجل وزاره، وأبعد من اتفاق مزاره. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وتأسف الناس عليه وعدمه الفقراء، فإنه كان لهم ثمالاً، وبدعائهم له سلم من آفات أصابت غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 عبد الله بن أبي السعادات ابن منصور بن أبي السعادات بن محمد، الإمام الفاضل أبو بكر نجم الدين بن الأنباري البغدادي البابصري شيخ المستنصرية، المقرئ، خطيب جامع المنصور. سمع ابن بهروز الطبيب، والأنجب الحمامي، وأحمد المارستاني، ولي مشيخة المستنصرية، بعد العماد ابن الطبال، وتفرد بأجزاء وحمل عنه أهل بغداد. وتوفي سنة عشر وسبع مئة في ثاني عشر شهر رمضان وله اثنتان وثمانون سنة. ومن مسموعاته الإبانة الصغيرة لابن بطه على أحمد المارستاني بسماعه من ابن اللحاس، وموطأ القعنبي على ابن العليق عن شهده، ومسند عبد ابن حميد بفوت يسير من أوله، والجزء الثالث من ذم الكلام للأنصاري على ابن بهروز. عبد الله بن سعد ابن مسعود بن عسكر الماسوحي الفقيه المحدث الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 كان عارفاً بالفروع، جيد المشاركة يروق ويروع، كثير النقل، صحيح العقل. تفقه بالشيخ برهان الدين، وسمع على الحجار، والمزي، والشيخ برهان الدين وغيرهم، وكتب الأجزاء والطباق. وولده سنة اثنتي عشرة وسبع مئة تقريباً. عبد الله بن شرف ابن نجدة المرزوقي، علم الدين. أخبرني الإمام العلامة أثير الدين قال: كان المرزوقي يحضر معنا عند قاضي القضاة تقي الدين ابن رزين، وكان معيداً بالمشهد الحسيني. ألف شرحاً للتنبيه وأنفذه إلى الشيخ بهاء الدين بن النحاس، فكتب عليه نثراً يصفه، وأعاده فأنفذ المرزوقي أبياتاً يشكره على ذلك وهي: يا مالك الرق والقياد ... ومن له الفضل والأيادي ومن تحلّى التقى لباساً ... وأرشد الناس للسّداد ومن علا ذروة المعالي ... وخلّف الناس في وهاد ومن غدا في العلوم بحراً ... آذيّه الدهر في ازدياد وصار مدح الأنام وقفاً ... على علاه إلى التنادي شرّفت ما قد نظرت فيه ... شرّفك الله في المعاد وهو كتاب عنيت فيه ... ولم أنل منتهى مرادي جمعت فيه غرّ المعاني ... من كتب جمّةٍ عداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 وعاند الدهر فيه حظي ... والدهر ما زال ذا عناد فمهّد العذر فيه عنّي ... إن كنت قصّرت في اجتهادي لا زلت للعرف ذا اصطناع ... ترأب ما كان ذا فساد فأجابه الشيخ بهاء الدين عن ذلك: يا فارساً في العلوم أضحى ... يزيد نظماً على زياد وراويا للحديث أمسى ... يفوق فيه على المرادي ومنسياً سيبويه نحواً ... بلفظه الفائق المفاد من دونه الأصمعيّ فيما ... رواه قدماً عن البوادي فمسند الفضل عنه يروى ... ونظمه جلّ عن سناد شيّدت للشافعيّ ذكراً ... بمنطقٍ دونه الإيادي فاسلم لتهدى بك البرايا ... فأنت للفضل خير هاد إليك في معضلٍ مفرٌ ... وهل معادٌ سوى العماد ومن يجاريك في قريضٍ ... يعارض البحر بالثّماد قلت: رزق المرزوقي السعادة في شعره لما انتحس شعر ابن النحاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 عبد الله بن الصنيعة المصري الصاحب شمس الدين غبريال، بكسر الغين المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها راء وياء آخر الحروف وبعد الألف لام، المصري. كان أولاً كاتب الخزانة في أيام المنصور حسام الدين لاجين، وكان يصحب الأمير شمس الدين قراسنقر، ثم إنه انتقل إلى الشام وولي نظر الجامع الأموي والأسرى والأوقاف في المحرم سنة عشر وسبع مئة عوضاً عن شرف الدين بن صصرى. ولما حضر الأمير سيف الدين كراي لنيابة دمشق عزله عن نظر الجامع والأوقاف، وولى عوضه القاضي شرف الدين محمد بن جلال الدين النهاوندي قاضي صفد، ولما أمسك كراي وحضر الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك عزل شرف الدين النهاوندي وولى القاضي تقي الدين عمر بن السلعوس. ثم إن الصاحب شمس الدين تولى نظر الدواوين بدمشق في نصف المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. عوضاً عن الشريف أمين الدين وبدر الدين بن أبي الفوارس لما حضر السلطان إلى دمشق، وتولى شد الدواوين معه الأمير فخر الدين أياس مملوك الأعسر عوضاً عن القرماني، وباشر نظر الدواوين على القالب الجائر، وأمسى كل أحد وهو في أمره حائر، دخل في ناصر الدين الدوادار، وتسلسل سعده وما دار، وخدم تنكز وبالغ في الخدمه، وثبت له على طول المدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 قدم القدمه، وخدمته الأيام والليالي، وجرت أنهار دمشق له ذهباً، وأصبح حصاها لآلي، ووجه الناس بمباشرته السعيدة أماناً من الحوادث، وبقيت المناصب في أيدي مباشريها أوقافاً عليهم، تنتقل من وارث إلى وارث، وسد باب المرافعات والمصادرات، واغتنم أفعال الخير مع الناس بالمعاجلة والمبادرات، فكأنما كانت أيامه مواسم، وهبات هباته نواسم، وثغور الأيام فرحاً به في رحابه بواسم، والأرزاق بأقلامه قد أثقلت الغوارب وأعيت المناسم، وسعادات تدبيره لأدواء اللأواء حواسم، وربوع الجور والعدوان في مدة مباشرته طوامس ويقال: طواسم، وكأن أبا الطيب أراده بقوله: لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام ورأى دمشق وتمتع بمحاسنها، وتنعم في ظلالها الوارفة من مساكنها، واقتنى بها الأملاك النفيسه، وحصل بها الأموال التي تكون البحار الزاخرة عليها مقيسه. ولم يزل في سعادة بعد سعاده، وزيادة بعد زياده، إلى أن نقض حبله، ونفض ويله، فتغير له تنكز وتنكر، وأكمن له وتفكر، فاتفق مع السلطان على عزله، وأن يريه جده بعد هزله، فقبض عليه في حادي عشر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان من الحجاز فطلبه إلى مصر، فالتزم له بتكملة ألف ألف درهم. ونزل إلى بيته وأقام بالقاهرة إلى أن أذنت شمسه بالغروب، وجرت الدموع عليه من الغروب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت ثامن عشر شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكان الصاحب شمس الدين سعيد الحركات خفيفاً ظريفاً، حلو النادرة مليح التنديب، كان في متعممي دمشق شخص يعرف بالقاق يندب الناس عليه، ويمزحون معه بذلك ويظهر هو التأذي بعض الأوقات، فاتفق أنه سرق مرة جملة من الخشب من شيء كان يباشره، وذكر أمره للصاحب شمس الدين، فبقيت، فلما كان في بعض الأيام جاءه فقال له: يا مشؤوم، الناس يقولون عنك قاق، طلعت أنت نقار الخشب. وكان فيه ستر وحلم، لم يقع لأحد من أكابر دمشق واقعة إلا وسد خرقها وتدارك رمقها وتلافى عطبها على أحسن الوجوه ولم يكشف لأحد رأساً ولا ضرب أحداً بالمقارع، ولا صادر أحداً ولا عزل أحداً. وكان كلما انتشأ أحد من الأمراء خواص السلطان خدمه وباشر أموره بالشام وثمر له وأهدى، وكان أولئك يعضدونه ويقيمونه، وإذا جاء أحد من مماليكهم أو من جهتهم أنزله عنده وأزاح أعذاره وخدمه، وكان مرجع دواوينهم إليه وأموالهم تحت يده يتجر لهم فيها ويتكسب مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك وغيرهم، كل من له علاقة بالشام ولا يخرج الحديث عنه، وكان هو والقاضي كريم الدين الكبير متعاضدين جداً، ودامت أيامهما مدة. وطلبه السلطان مرات إلى مصر، فراح على البريد وعاد بزيادة إكرام وإنعام وزيادة معلوم، ولما كان في سنة أربع وعشرين وسبع مئة طلبه السلطان إلى مصر وخلع عليه وباشر نظر الدولة مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير وذلك في شهر رمضان، فأقام بالديار المصرية على كره منه لأنه ألف دمشق واعتدال مزاجها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 فسعى سعياً جيداً وعاد إلى دمشق على عادته وقاعدته في نظر الدواوين، ووصل إلى دمشق في يوم الاثنين ثامن عشري صفر سنة ست وعشرين وسبع مئة، وفرح الناس به واستبشروا، وعاد القاضي كريم الدين الصغير ناظر دمشق إلى مصر. ولم يزل بدمشق على أكمل ما يكون من السعادة إلى أن قبض عليه تنكز بأمر السلطان في التاريخ المذكور، وجعل في المدرسة النجيبية ورسم عليه الأمير علاء الدين المرتيني، فكان يكون قدامه وإذا دخل إلى الطهارة وعاد منها يقوم الأمير يمسك له فرجيته ويلبسها له. ووزن في الشام أربع مئة ألف درهم ثم إن المرسوم ورد بطلبه إلى مصر فتوجه إليها ولما وصل نزل في الطبقة التي على دار الوزارة بقلعة الجبل وجاء إليه القاضي شرف الدين النشو، وقعد بين يديه، ولم يعرف من هو لبعد عهده بمصر، فقال: السلطان يسلم عليك، فلحظته أنا وغمزته، فعلم أنه كبير، فقام وقف له وأجلسه إلى جانبه فأسررت أنا إليه أن هذا هو النشو ناظر الخاص، فقام وقف وعامله بما يجب وحلف له أنه ما يعرفه، فقبل اعتذاره، ولما راح من عنده جاء إليه الأمير صلاح الدين الدوادار برسالة عن السلطان، وكان الأمير علاء الدين بن هلال الدولة مشد الدواوين يروح إليه في الرسائل عن السلطان هذا وهو قاعد على مقاعد سنجاب ومقاعد سرسينا، ولم أر أنا ولا غيري مصادراً مثله إلى أن قال له النشو: يا مولانا وزنت في الشام أربع مئة ألف فكمل لنا ألف ألف، فقال: السمع وألف طاعة، وكتب خطه بست مئة ألف درهم، ونزل إلى بيته، ولم يزل يحمل إلى أن بقي عليه مئتا ألف، فاستطلقها له الأمير سيف الدين قوصون من السلطان، ولو أن بكتمر الساقي يعيش له ما جرى عليه بعض ذلك، وكان أعاده لأنه شفع فيه عن طريق الحجاز وسير الإفراج عنه إلى الشام، ومات بكتمر بعد ذلك ثم إن أعداءه غيروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 السلطان عليه، وقيل له: إن في دمشق ودائع فكتب السلطان إلى تنكز، فتتبع ودائعه وظهر له شيء كثير، فحمل ذلك إلى السلطان. ولما مات رحمه الله تعالى وقع بين أولاده اختلاف في الميراث، فطلع ابنه صلاح الدين يوسف ولم يكن له ولد ذكر غيره ودخل إلى السلطان ونم على أخواته، فأخذ منهم شيء كثير من الجوهر، فيرى الناس أن الذي أخذ من ماله أولاً وآخراً ما يقارب الألفي ألف درهم، وما أظنه نكب ظاهراً غير هذه المرة، وسمعته ليلةً يقول: من حين باشرت الكتابة ما أعلم أنني اشتريت لي مركوباً ولا قماشاً ألبسه أنا ولا أهلي، وفي هذه المصادرة لم يشك أحد عليه ولا رفع فيه قصة لا في الشام ولا في مصر، ولما أفرج عنه خرج الناس له بالشمع وفرحوا به فرحاً عظيماً. وعمل بعد موته في دمشق محضر بأنه خان في مال السلطان واشترى به أملاكاً، وشهد فيه كمال الدين مدرس الناصرية، وابن أخيه القاضي عماد الدين، وعلاء الدين بن القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وغيرهم من الأكابر، وامتنع عز الدين بن القلانسي ناظر الخزانة من ذلك، ونفذ المحضر إلى مصر، وأراد السلطان بيع أملاكه فوقف له قوصون واستطلقها منه لأولاده. وكان يسمع البخاري في ليالي رمضان، وليلة ختمه يحتفل بذلك، ويعمل في كل سنة مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحضره الأكابر والأمراء والقضاة والعلماء ووجوه الكتاب، ويظهر تجملاً زائداً ويخلع على الذي يقرأ المولد، ويعمل بعد ذلك سماعاً للأمراء المحتشمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 وعمر جامعاً حسناً، شرع فيه في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة على باب شرقي عند دير القعاطلة، ووقف عليه وقوفاً، وعمر بالرحبة بيمارستاناً، وعمر بكرك نوح عليه السلام بالبقاع طهارة وأجرى إليها الماء في قناة هناك. وكتبت أنا إليه من الرحبة: يا سيّد الوزراء ذكرك قد علا ... وكأنّه حيث اغتدى كيوان لك جامع بدمشق أضحى جامعاً ... للفضل فيه الحسن والإحسان وأمرت أن يبنى برحبة مالك ... من جودك المبرور مارستان أنشأت ذاك وذا فجئت بآيةٍ ... صحّت بها الأديان والأبدان وكتبت إليه يوماً وأنا بدمشق .... وكتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز من الديار المصرية يعلمه بوصوله وتقبيله الأرض بين يدي السلطان وبحضور الإقبال الشريف عليه وإفاضة الإنعامات الشريفة عليه في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخة الكتاب: أسبغ الله ظل المقر الكريم العالي المولوي الصاحبي الشمسي، وسر قلبه بأخبار أحبابه، وسرى همه الذي توهمه بسببهم لما تقمص من الدجا أسود جلبابه، وسير أنباءهم التي هي أطرب وأطرى من زهر الروض تحت وقع ربابه. المملوك يخدم بدعائه الذي يتمسك من القبول بأقوى أسبابه. وبثنائه الذي يجد الندمان منه نشوة لا يجدها في كأسه المرصع بدر حبابه، ويقبل اليد الكريمة التي تخجل البحر إذا طمى في عبابه، وينهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 إلى العلم الكريم أنه سطرها من الأبواب الشريفه، خلد الله سلطانها، ونصر أعوانها، بعدما وصل إليها في يوم كذا وقبل الأرض بالمواقف الشريفه، وود لو استعار فم الثريا للثم تلك المواطئ التي هي على الكواكب منيفه، وفاز برؤية وجه مولانا السلطان الذي أخجل البدر في سعوده، وترقى على أوجه وهو في معارج صعوده، وود لو أن أعضاءه جميعها عيون، وكل جارحة فيها تطالب أشواقها بمالها في ذمة النوى من ديون، وشملت المملوك الصدقات الشريفة بتشريف أثقل كاهله، وجعل ربوع آماله بالمسرات آهله، وتوالى الإنعام الشريف في كل يوم على الأنعام، وأغرقته المواهب العميمة بأياديها إلى أن عام، وتزايد الجبر الشريف في كل ساعة يكون فيها بالمواقف الشريفة ماثلا، وفتح على المملوك بصالح أدعية ما ترك منها سهماً في كنانة ضميره إلا إذا كان له ناثلا، هذا إلى ما يتحف به في كل يوم من جمل التفاصيل التي يحار العقل في نقوشها، وتتأصل في المحاسن مباني عروشها، ومن الخيل التي ترى الشهب عند شهبها مستقله، ويود الأفق لو كانت تجعل مسيرها في مجرته لأنها تملأ الطرق بالأهله، ولم يصف المملوك أنواع هذه الصدقات الشريفة التي عمت، وكملت بدور بدرها وتمت، إلا إشعاراً لمولانا، بسط الله ظله، بأن نصيبه منها يحضر صحبة المملوك، ويناله منها ما يخجل القمر في التمام والشمس في الدلوك، وقد جهزها لمملوك على يد فلان ليطمئن خاطره الكريم، ويتحقق ما المملوك عليه من الأخبار التي تسره وتحل من قلبه في الصميم، وبعد قليل يأخذ دستورا بالعود، ويعلم أنها ساعة يشب لها الفؤاد ناراً ويشيب الفود، وإذا استخرج المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها بالرجوع، ورسم بذلك، وهو أمر يمنع الجفون من الهجوع، عجل المملوك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 إعلام مولانا بذلك على العاده، والله تعالى يجمع المملوك ومولانا دنيا وأخرى في دار السعاده بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. عبد الله بن أبي الطاهر ابن محمد الشيخ الصالح أبو عبد الرحيم المقدسي المرداوي. أول سماعه بمردا من خطيبها سنة ست وثلاثين، وسمع من الحافظ الضياء، واليلداني، وتلقن بمدرسة أبي عمر، ثم رجع وحدث في أيام ابن عبد الدائم. روى عنه ابن الخباز. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وسمع منه الأصحاب، وكان معمراً من أبناء التسعين، وهو آخر أصحاب الضياء بالسماع. وتوفي رحمه الله تعالى بمردا سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. عبد الله بن عبد الأحد ابن عبد الله بن سلامة بن خليفة، الشيخ الصدر الكبير أمين الدين بن شقير الحراني. كان محموداً مشكوراً، كل أحد يثني عليه ويعظمه، وهو على قدم الصدق والعدالة محترم معظم من أرباب الأموال، وله حقوق على الناس ووجاهة عند الدولة. حدث عن يوسف بن خليل، وعيسى بن الخياط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 توفي رحمه الله بغزة ثالث عشري شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة. ومولده بحران في نصف شعبان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. كان قد توجه من دمشق في جماعة من أولاده وأقاربه يقصد القاهرة فأدركه الأجل بغزة. عبد الله بن عبد الحق ابن عبد الأحد المخزومي المصري الدلاصي. تلا لنافع على أبي محمد بن لب سنة خمس وثلاثين وست مئة، ثم تلا بعده كتب علي بن فارس، وسمع القصيدة من قارئ مصحف الذهب. وأقرأ دهراً بمكة، وتلا عليه بالروايات عبد الله بن خليل، والمجير مقرئ الثغر، وأحمد بن الرضي الطبري، والوادي آشي، وخلق. وكان من أصحاب الحال والسقم والانتحال، له في ظلمات الليل أوراد، وركعات تكون في صحف حسناته كالأطواد، وفيه زيادة تأله، وفيه خشية من الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 العظيم تحله، وقد أحيا الليل سنوات، وقطع ظلامه في ذكر وصلوات، وتفقه لمالك ثم للشافعي، فشرب من جلاب الحلات، ونصب راية الرافعي. ولم يزل على حاله إلى أن ما حمت الدلاصي من الموت سابغة دلاص، ولكم يكن له من قدومه عليه مناص. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة. عبد الله بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني، الشيخ الإمام الفقيه المفتي القدوة العابد شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ العلامة تقي الدين. سمع حضوراً من ابن أبي اليسر، وسمع من الجمال البغدادي، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، وابن أبي عمر وابن علان، وابن الدرجي، وخلق كثير، وطلب الحديث في وقته، وسمع المسند والمعجم الكبير والدواوين، وسمع منه الطلبة. قال شيخنا الذهبي: وما علمته صنف شيئاً. كان لسناً فصيحا، جزل العبارة مديد الباع فسيحا، غزير مادة العلم كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 الإغضاء والحياء والعلم، بصيراً بالقواعد، حاوياً لكثير من غرائب المسائل الأباعد، كثير الإنصاف إذا بحث، إذا سكت خصمه حضه على الكلام وحث، زائد التعفف قادراً على التقشف مع الدين المتين، والإخلاص المبين، واسع قميص الزهد، مغتبطاً بما عنده من الجهد، منقبضاً عن الناس، منجمعاً عن مخالطة الأدناس، يتنقل في المساجد المهجوره، ويقيم فيها كثيراً لا لضروره، يختفي فيها أياما، ويهجر بها ما عساه أن يهجر دواما، مع ما أحكمه من الفقه والعربيه، والنكت الأدبيه، وبرع فيه من معرفة السيرة وكثير من التاريخ وأسماء الرجال، وما يتسع في ذلك من المجال، ورأيت كثيراً من الفضلاء يقول: هو أقرب من أخيه إلى طريق العلماء، وأقعد بمباحث الفضلاء، وكان أخوه العلامة تقي الدين يحترمه ويتأدب معه، ويحذر أن يخدعه. ولم يزل على حاله المرضية إلى أن نزل به ما لا بد من نزوله، وظفر من الله تعالى بمرامه وسوله. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، قبل أخيه العلامة تقي الدين بسنة، وكانت جنازته حافلة مشهودة، حمله الناس على الرؤوس. عبد الله بن عبد الكافي نور الدين بن ضياء بن الخطيب الكبير جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي الدمشقي الشروطي الأديب. كان حسن الكتابه، جيد المعرفة بالإصابه، وكان فيه لعب وانطباع وعثرة وانخلاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 ولم يزل على حاله إلى أن راح ليكون رميما، ويجد من فضل محبيه براً عميما. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وستين وست مئة. عبد الله بن عبد الكافي ابن عبد الرحمن بن محمد الحميري الصنهاجي المصري المالكي، زكي الدين أبو محمد المعروف بالمأمون. سمع من الدواداري، وقيل: إنه سمع من النجيب. وكان حسن الشكل والهيئة، لطيف الذات، تولى نظر الكرك والشوبك، وأقام هناك مدة وكان يعرف عروضاً وفقهاً ويشغل الناس وله نظم. توفي رحمه الله تعالى في سابع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر ظاهر القاهرة. عبد الله بن عبد الله أمين الدين الرهاوي الدمشقي تربية ابن الكريدي. سمع وقتاً من ابن القواس، وابن عساكر، وطلب بنفسه وقتاً بعد السبع مئة، ونسخ الأجزاء وارتزق بالكتابة في زرع وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة بين العيدين. ومولده سنة أربع وثمانين وست مئة. عبد الله بن عبد الولي ابن جبارة بن عبد المولى الإمام تقي الدين الحنبلي ابن الفقيه المقدسي الصالحي. كان إماماً مفتياً مدرسا، مدلجا في الفضائل معرسا، صالحاً ديناً خيراً صيناً عارفاً بالفرائض والجبر والمقابلة، فارساً في بحثه، كم جدل من جادله، تبحر في الفرائض، وغرق فيها ألف رائض، وكان قد طعن في سنه، وقارب المئة على ما في ظنه. ولم يزل على حاله إلى أن كسر ابن جباره، وسكنت منه تلك العباره. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر. وكان من أهل الفتوى والتدريس. عبد الله بن عبد الوهاب ابن حمزة بن محمد بن الحسين بن حمزة، الشيخ العدل ناصر الدين أبو محمد بن العدل كمال الدين النهراني الحموي. وكان يجلس بين الشهود بحماة، وله مسجد وقراءة، حضر جزء لطيفاً وهو في أول سنة من عمره على والدة جدته صفية بنت عبد الوهاب القرشية، وحدث بالجزء مرات بحماة ودمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه بهما، وهو من حديث أبي بكر بن زياد النيسابوري، وكان قد قدم دمشق سنة سبع وسبع مئة، وسمع منه جماعة من الطلبة، وكان جده قاضياً بحماة، وهو من بيت مشهور. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. عبد الله بن عبد الوهاب ابن فضل الله صلاح الدين ابن القاضي شرف الدين العمري. كان شاباً عاقلاً له فهم ومعرفة، وهو جندي، وهو والد الأمير ناصر الدين محمد بن فضل الله. وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن بتربة له جوار المدرسة العزية التي عند الوراقة ظاهر دمشق. عبد الله بن علي ابن محمد بن سلمان القاضي الرئيس الكاتب المنشئ جمال الدين بن الشيخ علاء الدين بن غانم. كان شاباً ظريفا، مليح الوجه نظيفا، عليه رونق الشباب ولطف السلافة إذا شف عليها الحباب، شكله أنيق، وصدغه في خده سحالة لازورد في زنجفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 سحيق، يكتب خطا من أين للوشي رقومه، أو للأفق الصاحي نجومه، كأنه طرة ريحان، أو روض فيه الطل حيران، خصوصاً إذا كتب الدرج وعلق، وتأنى في تنميقه وتأنق، يأتيك بالعجب، ويريك كما يقال سلاسل الذهب، مع سرعة لا يلحقه فيها البرق إذا خفق، ولا النور إذا سطع وولد الشفق، يكتب الإنشاء من رأس قلمه، ويؤلف الدر الثمين من كلمه، وله غوص في نظم ونثر، وتلعب بالعقول إذا نفث قلمه بسحره. إلا أنه قصف غصنه، ووقفت في أوائل حلبة العمر حصنه، فأذواه الموت ريحانه، وأراق منه بنت حانه. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شوال سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وكان قد مرض في عمره مرضا حاداً مرات، ونجاه الله منها وسلمه إلى أن حم أجله فمات عبطه، وكان به لديوان الإنشاء أي غبطه. كتب هو إلي في بعض علته هذه ولم أعده، من أبيات: مولاي كيف كسرتني فهجرتني ... علماً بأني كيف كنتم راض أو قلت إني لأعود ممرّضاً ... ظنّاً بأني لا محالة ماض فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: أرسلتها مثل السهام مواضي ... نفذت من الأغراض في أغراض فأتت وعتبك قد تخلّل لفظها ... مثل الأفاعي بين زهر رياض دعني من الجبروت أو من أهله ... لا تجعلنّ سوادهم كبياضي حاشاك أن تمضي وسعدك قد غدا ... مستقبلا فينا وأمرك ماض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى: تبكي الطروس عليك والأقلام ... وتنوح فيك على الغصون حمام يا من حواه اللّحد غضّاً يانعاً ... وكذا كسوف البدر وهو تمام يا وحشة الديوان منك إذا غدت ... فيه مهمّات البريد ترام من ذا يوفّيها مقاصدها على ... ما يقتضيه النّقض والإبرام هيهات كنت به جمالاً باهراً ... فعليه بعدك وحشةٌ وظلام أسفي على الإنشاء وهو بجلّقٍ ... نثّاره قد مات والنظّام كم من كتابٍ سار عنك كأنّه ... برد أجاد طرازه الرقّام إن كان في شرّ فقد رد الرّدى ... وبه ترفّه ذابل وحسام لم لا يردّ البأس ما ألفاته ... مثل القنا واللام منه لام أو كان في خير فكلّ كلامه ... درّ يؤلّف بينهنّ نظام وكأنما تلك السطور إذا بدت ... كأس ترشّف راحها الأقلام يهتزّ عطف أُولي النّهى لبيانه ... فكأنّ هاتيك الحروف مدام كم فيه وجهٍ سافر مثل الضحى ... وعليه من ليل السطور لثام ولكم كتبت مطالعاتٍ خدّها ... قانٍ وثغر فصولها بسّام وكأنما ألفاتها قضب اللّوى ... وكأنما همزاتهنّ حمام ما كنت إلا فارس الكتّاب في ... يوم تفرّج ضيقه الأقلام صلّى وراءك كلّ من عاصرته ... علماً بأنك في البيان إمام وكأنّ قبرك للعيون إذا بدا ... قصرٌ عليه تحية وسلام يا محنةً نزلت بعترة غانم ... هانوا وهم في العالمين كرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 لما تغيّب في التّراب جمالهم ... وقعدوا لهولٍ عاينوه وقاموا يا قبره لا تنتظر سقيا الحيا ... حزني ودمعي بارقٌ وغمام لي فيك خلّ كم قطعت بقربه ... أيام أُنسٍ والخطوب نيام لذّت فلذت بظلّها فكأنها ... لقياد لذّات الزمان زمام أسفي على صحب مضى عمري بهم ... وصفت بقربهم لي الأيّام ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام بالرغم منّي أُفارق صاحباً ... لي بعده ضرٌّ ثوى وضرام يا من تقدّمني وسار لغايةٍ ... لا بدّ لي منها وذاك لزام قد كنت أحسبه يرثّيني فقد ... عكست قضيّته معي الأحكام أنا ما أراك على الصراط لأنّه ... بيني وبينك في المعاد زحام إذ قد سبقت خفيف ظهرٍ لا كمن ... قد قيّدت خطواته الآثام فإذا المخفّ وقد تقدّم سابقاً ... وشفيعه لإلهه الإسلام فاذهب فأنت وديعة الرحمن لي ... يلقاك منه البرّ والإكرام ويجود قبرك منه غيث سماحةٍ ... بالعفو صيّب ودقها سجّام ولقد قضيتك حقّ ودّك بالرثا ... والحرّ من يرعى لديه ذمام خلّفتني رهن التندّم والأسى ... تعتادني الأحزان والآلام لكنّ لي بأخيك نجم الدين في ... الديوان أُنساً ما عداه مرام مهما توجّس أو توحش خاطري ... فيه تزول وتنقضي الأوهام وكتب إلي من دمشق وأنا بالقاهرة: ذكّرت قلبي حين شطّ مزارهم ... بهم فناب عن الجوى تذكارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 وبكى فؤادي وهو منزلٌ حبّهم ... وأحقّ من يبكي الحبة دارهم وتخلّق الجفن الهمول كأنما ... لمحته عند غروبهم أنوارهم وذكرت عيني عند عين فراقهم ... لما أثارت لوعتي آثارهم نذري الدموع عليهم وكأنهم ... زهر الرّبا وكأنها أمطارهم ويئنّ منة حالي العواذل رحمةً ... لمّا بكيت وما الأنين شعارهم ويح المحبيّن الذين بودّهم ... قرب المزار ولو نأت أعمارهم فقدوا خليلهم الحبيب فأُذكيت ... بالشوق في حطب الأضالع نارهم مولىً تقلّص ظلّ أُنسٍ منه عن ... أصحابه فاستوحشت أفكارهم كم راقهم يوماً برّؤية وجهه ... ما لا يروقهم به دينارهم ولكم بدت أسماعهم في حلية ... من لفظه وكذا غدت أبصارهم كانوا بصحبته اللذيذة رتّعاً ... بمسّرةٍ ملئت بها أعشارهم يتنافسون على دنوّ مزاره ... فكأنما بلقاه كان فخارهم لا غيّب الرحمن رؤية وجهه ... عن عاشقيه فإنها أوطارهم وجلا ظلام بلادهم من بعده ... فلقد تساوى ليلهم ونهارهم يا سيّداً لي لم تزل ثقتي به ... إن خادعتني في الولا أشرارهم أصرمت حبل مودتي ولصحبتي ... عرف الطريقة في الوداد كبارهم أم تلك عادات القلى أجريتها ... فكذا الأحبّة هجرهم ونفارهم فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: أفدي الذين إذا تناءت دارهم ... أدناهم من صبّهم تذكارهم في جلّق الفيحاء منزلهم وفي ... مصع بقلب الصبّ تضرم نارهم قوم بذكرهم الندامى أعرضوا ... عن كأسهم وكفتهم أخبارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وإذا الثناء على محاسنهم أتى ... طربوا له وتعطّلت أوتارهم وإذا هم نظروا لحسن وجوههم ... لم تبق أنجمهم ولا أقمارهم فهم البدور إذا ادلهمّ ظلامهم ... وهم الشموس إذا استبان نهارهم دنت النجوم تواضعاً لمحلّهم ... وترفّعت من فوقها أقدارهم وبكفّهم وبوجههم كم قد همت ... ألواؤهم وتوقّدت أنوارهم أهدى جمالهم إليّ تحيّة ... منها تدار على الأنام عقارهم أفقٌ وروضٌ في البلاغة فهي إمّ ... ازهرهم في الليل أو أزهارهم لك يا جمال الدين سبقٌ في الوفا ... لو رامه الأصحاب طال عثارهم وتودّدٌ ما زال يصفو ورده ... حتى تقرّ لصفوه أكدارهم يا بن الكرام الكاتبين فشأنهم ... صدق المودّة والوفاء شعارهم قوم إذا جاؤوا إلى شأو العلى ... سبقوا إليه ولم يشقّ غبارهم صانوا وزانوا باليراع ملوكهم ... أسوارهم من كتبهم وسوارهم ما مثلهم في جودهم فلذاك قد ... عزّت نظائرهم وهان نضارهم ما في الزمان حلىً على أعطافه ... إلاّ مآثرهم به وفخارهم تتعلم النّسمات من أخلاقهم ... وينوب عن زهر الرّبا أشعارهم ولفضلهم ما ابن الفرات يعدّ في ... هـ قطرةً لمّا تمدّ بحارهم وحماهم يحمي النّزيل بربعه ... من جور ما يخشى ويرعى جارهم بالرغم مني أن بعدت ولم أجد ... ظلاٍّ تفيّؤه عليّ ديارهم لو كان يمكنني وما أحلى المنى ... ما غاب عنّي شخصهم ومزارهم ويح النوى شمل الأحبة فرقت ... فمتى يفكّ من البعاد إسارهم وكتب رحمه الله تعالى وقد دخلت الديوان بدمشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 يقول جماعة الديوان فيه ... فسادٌ لا يزال ولا يزاح فقلت فساده سيزول عمّا ... قليل إذ بدا فيه الصّلاح فكتبت أنا الجواب إليه: هويت جماعة الديوان دهراً ... فلمّا ضمّنا بدمشق مغنى نظرت إليهم نظر انتقادٍ ... فكنت جمالهم لفظاً ومعنى وكتب إلي من دمشق، وأنا بصفد ضعيف: كتابك قد أتى عيني وفيها ... فساد نوىً لشوقي وارتياحي فجدّده فليس يزول إلاّ ... إذا عاد الصّلاح إلى الصّلاح فكتبت أنا الجواب إليه: كتابك جاءني فنفى همومي ... وآذن سقم جسمي بالزوال وأذكر ناظري زمناً حميداً ... تمتّع بالجمال من الجمال وكتب هو يوماً إلي: قد أصبح المملوك يا سيّدي ... يختار أن يفترع الرّبوه وقد أتى صحبتكم خاطباً ... فأسعفوا واغتموا الخلوه فكتبت أنا الجواب إليه ارتجالاً: ما لي على الربوة من قدره ... لأنني أعجز عن خطوه وليس مركوبي هنا حاضراً ... فمرّ نحو الخلوة الحلوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وكتب هو إلي وأنا بالقاهرة: سار دمعي مني إليك رسولا ... حين أخليت ربعك المأهولا وفؤادي استقرّ إذ أنت فيه ... يتراآك بكرةً وأصيلا ونسيم الصّبا تحمّل من وص ... ف اشتياقي فيه حديثاً طويلا ترك القلب في الأضالع يظما ... فيسقّيه الاشتياق غليلا فاستمع ما يملّي النسيم بعلمٍ ... عن غرامي إذ كان مثلي عليلا وقميص الكرى مزقٌ فإن زا ... ر خيالٌ وصّلته توصيلا حبّذا قربك الذي كان أندى ... في فؤادي من النّسيم بليلا وليالٍ كم غازل الطرف من أُن ... سك في جنحهنّ وجهاً جميلا ومدام كأنّها لون دمعي ... عندما أزمع الحبيب رحيلا كأسها في الدّجا تبدّى شهاباً ... وكسا المزج رأسها إكليلا فتهدّيت للسرور برؤيا ... هـ وإن كان للهدى تضليلا كم ركبنا لها سوابق لهوٍ ... كان جرس الغناء فيها صهيلا قرّب الله عهدنا من ليالٍ ... لم أكن لاقترابهنّ ملولا أتلظّى جوىً وفرط حنين ... إن تذكرت ظلهنّ الظليلا وإذا ما احترقت شوقاً فقولي: ... ليت لم أتخذ فلاناً خليلا يا صلاح الدين الذي فسد العي ... ش لنا مذ نأى وساء مقيلا قد أتتني أبياتك الغرّ تحكي ... نسمات الصّبا تجرّ ذيولا أو نبات الربا يصافحه القط ... ر فيغدوا رطب الحيا مصقولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 فتذكرت منك جودا عميما ... ومحيا طلقاً وفضلاً فضيلا ورأيت السطور تحكي ليالي ال ... قرب حسناً ورقّةً لا طلولا حبذا عهدهن والعيش فيه ... إذ أنا مالك إليه وصولا كنت أجني ثمار أنسك فيه ... نّ فبدلت بالنوى تبديلا وكتبت أنا إليه من دمشق، وهو بغزة في الصيد جواباً عن كتاب فيه عتب: حيث الخيام برمل غزّه ... لي سادةٌ عندي أعزّه وأنا كثيّر حبّهم ... وهم كما أختار عزّه سيما جمالهم الذي ... في فضله طرفي تنزّه مولىً بعطف يراعه ... طربٌ يرنّحه وهزّه أضحى يوشّي طرسه ... ويحوك بالأسجاع طرزه يملي عليه بدائعاً ... يكسو المهارق خير بزّه لو فاخر الروض البسي ... م بكتبه لأبان عجزه ألفٌ حكت غصن النقا ... صدحت عليه حمام همزه من ميم ميلي عنه لا ... أدخلت قلبي تحت رزّه وظفرت منه بمعقلٍ ... لا تطرق الأحداث حرزه وبه تبيّن لي الهدى ... وحللت من معناه رمزه وبه ملأت يدي غنىً ... من فضله وفتحت كنزه فالله يحرس مجده ... ويديم للآداب عزّه يقبل الأرض، ويصف شوقه الذي شق الجوانح، وجرح الجوارح، وملأ الفؤاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 فوادح، ويذكر حنينه الذي شغله عن ذاته، وأذهله حتى عن تمني اللقاء ولذاته، ونغص صفو عيشه بالبعد، وهذه أحسن حالاته. وينهي ورود المثال العالي فتلقى منه أكرم وارد، وحوى من ألفاظه الغر مصائد الشوارد، وشافهه منها ألسن عتب لها في القلب وقع السيوف، وإن كانت فصاحتها مثل المبارد، وأضرمت في الحشا نيراناً لها الزفرات دخان، والضلوع المحنية مواقد، فقابلها بأعذاره الملفقة، فقالت حرارة تلك السطور: دعنا من عذرك البارد، ونظر من تلك الحروف المنظمة إلى نونات كأنها براثن الأسود، وإلى ميمات كأنها عيون الأساود: وكأن ذاك الطرس أصبح سلّة ال ... حاوي وهاتيك السطور أفاعيا ثم إن المملوك كابر نفسه، وقال: ربما تصحف عليه ما تصفح، وترجى أن يكون هذا القدر هو الذي ترجح، وجانس بين آساته وعطفه، فذاك ترنم، وهذا ترنح: ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم وعلل نفسه بقول الآخر: ................................. ويبقى الودّ ما بقي العتاب وقال: هذا هو العتب المحمود العواقب، وهذا التأديب الذي يعقب الرضى ولا يعاقب. وقد عاد المملوك إلى صوب الصواب، وتضرع من تلك السطور على عتبات العتاب، وظن أنما فتن، فاستغفر ربه، وخر راكعاً وأناب: وهذا الذنب أوّل كلّ ذنب ... وآخره إلى يوم الحساب فليغفر مولانا هذه الهفوه، وليقله عثرة هذه الخطوه، التي لم يلق فيها حظوه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 والله يمتع العيون والنفوس بجماله وجلاله، ويزين الوجود بمحاسنه التي يخجل منها البدر في كمال بمنه وكرمه، إن شاء الله. وحكى لي رحمه الله تعالى، قال: رأيت البارحة في المنام، كأن في بيتي نهراً عظيماً صافياً، وأنت من ذلك الجانب، وأنا من هذا الجانب، وكأني أنشدك: يا خليلي أبا الصّفا لا تكدّر ... منهلاً من نمير ودّك أروى فجميع الذي جرى كان بسطاً ... ولعمري بسط المجالس يطوى فقلت لي: لا بل انظم في زهر اللوز شيئاً، فأنشدتك: أيا قادم الزهر أهلاً وسهلاً ... ملأت البرايا هدايا أرج فوقتك فضّ ختام السرو ... ر وعهدك فرجة باب الفرج فكتبت أنا إليه عندما قص علي هذه الرؤيا: حاشى لله أن أكدّر عهداً ... لم يزل من وفائك المحض صفوا وإذا ما حديث فضلك عندي ... ضاع مني في نشره كيف يطوى وكنت وعدته بعارية رسالة لابن رشيق سماها ساجور الكلب، فتأخرت، فكتب هو إلي: يا جواداً عنانه في يد الجو ... د تباخلت لي بساجور كلب لا تضع رتبة التفضّل والإيث ... ار فالأمر دون بذل العتب وإذا لم يكن من العتب بدّ ... فمرادي إن شئت غير الكتب فجهزتها إليه، وكتبت الجواب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 أيها الأروع الي فاق مجدا ... لا تؤنّب من لا أتاك بذنب أنت تدري أن الوفاء الموفّى ... لي طباعٌ في الودّ من غير كسب أنا أخبا لو كان طوق عروس ... عنك حتى أصون ساجور كلب وبيني وبينه مكاتبات كثيرة نظم ونثر، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع. عبد الله بن علي بن عمر ابن شبل بن رافع بن محمود، الشيخ الصالح المحدث نجم الدين أبو بكر الصنهاجي الحميري الشافعي الصوفي. اعتنى به والده، وأسمعه صحيح البخاري من الشيوخ الثلاثة: ابن عزون، وابن القاضي رزين، وابن رشيق، وسنن أبي داود من النجيب عبد اللطيف، ومسند الإمام أحمد من النجيب أيضاً، ورحل به إلى دمشق ومعهما فخر الدين بن النويري، فسمع بها صحيح مسلم من ابن عبد الدائم، ومن أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وسمع بالإسكندرية أيضاً من أصحاب ابن موقا. وكان مكثراً صبوراً على التسميع، ذاكراً لمسموعاته، وحدث بالكثير، ومن جملة ما حدث به الكتب الستة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة بقرافة مصر الصغرى، ودفن بها. ومولده في سادس عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وست مئة. عبد الله بن علي بن سليمان الشيخ الإمام العالم كمال الدين أبو محمد الغرناطي المالكي. كان رجلاً صالحاً عارفاً بالنحو والقراءات، وله مشاركة في الفقه، وأقرأ الناس بحلب نحو عشر سنين، وعاد إلى الغرب، وجدد عهده بأهله، وبعض شيوخه. ثم إنه رجع، وأقام بالقدس شيخ الإقراء، ومدرساً وإماماً للمالكية. قال شيخنا البرزالي، سمع بقراءتي سنن أبي داود على ابن البخاري، وغير ذلك، وحدث بالقدس. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى عشرة وسبع مئة. عبد الله بن علي ابن محمد بن عمر بن أبي عمر المسند الأصيل شهاب الدين أبو القاسم الأزدي الدمشقي. حدث عن ابن أبي اليسر وغيره حضوراً، وسمع من ابن علان وطائفة. وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى في سنة أربع وأربعين وسبع مئة عن ثلاث وسبعين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 عبد الله بن أبي عمر ابن أبي الرضا الفارسي الفاروثي الشيخ الإمام العالم العلامة سيف النظر نصير الدين أبو بكر الشافعي، مدرس المستنصرية ببغداد. كان من كبار المذهب، ورافعي لوائه المذهب، لو ناظر السيف الآمدي قطعه، أو الرازي ألقاه في هوة رزية ودفعه. قدم دمشق، وتكلم، وجرح جماعة في بحثه وكلم، وبانت فضائله، وحكت الرياض الأريضه شمائله، وعاد إلى مدرج عشه، وأقام بها إلى أن حمل على نعشه. وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة. عبد الله بن محمد ابن الصفي بن أبي المعالي أحمد المقدسي المعروف بابن الواعظ. أخبرني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: لقيته بدمياط سنة ثمان وثمانين وست مئة، وأنشدني لنفسه: سرت نسمةٌ مسكية العرف معطار ... لها أرج في طيّ مسراه أسرار فملنا بها حتى الغصون كأنّما ... شذاها سلاف الراح والنشر خمّار ألا هات عن نجد أحاديث غربةٍ ... فيا طيب ما خبرٌ أفدت وأخبار أُهيل ودادي هل على أيمن الحمى ... أراكم وتقضى بالتواصل أوطار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وهل تسعف الأيام تسمح بالمنى ... بقرب مزار أو يوافق مقدار خليليّ إن القلب والنفس والهوى ... لعينيه أعوانٌ عليّ وأنصار قلت: شعر يقارب الجودة، ولو كان لي فيه حكم لقلت: .............................. فيا حبذا خبرٌ أفدت وأخبار وكان يستريح من اللحن، ومن قلق هذا التركيب؛ لأن ما ههنا زائدة، وتقديره: فيا طيب خبر وأخبار أفدت، والمعنى عليه، وإن كانت نكرة موصوفة وتقديره: فيا طيب ما أفدته خبراً وأخباراً، فيتعين النصب حينئذ على التمييز. عبد الله بن محمد بن هارون ابن عبد العزيز بن إسماعيل الطائي الأندلسي القرطبي المالكي، نزيل تونس. قرأ القراءات على جده لأمه محمد بن قادم المعافري، ولازم خال أمه إمام جامع قرطبة العلامة أبا محمد عصام بن أبي جعفر أحمد بن محمد بن خلصة، واستفاد عليه، وأخذ عن قرابته الحافظ أبي زكريا بن أبي عبد الله بن يحيى الحميري، وقرأ عليه الفصيح والأشعار الستة، وسمع منه الروض الأنف، وسمع قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي، وأخذ عنه الموطأ سماعاً، وقرأ عليه كامل المبرد، وسمع صحيح مسلم من عبد الله بن أحمد بن عطية، وسمع من أبي بكر محمد بن سيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 الناس الخطيب صحيح البخاري، ولازمه وسمع الشمائل من الحافظ محمد بن سعيد الطرار، وسمع التيسير من النحوي أحمد بن علي الفحام المالقي، وأخذ كتاب سيبويه تفهماً عن أبي علي الشلوبين وأبي الحسن الدباج، وقرأ مقامات الحريري تفهماً على العلامة عامر بن هشام الأزدي، وانتهى إليه علو الإسناد. وروى عنه شيخنا أبو حيان وأبو عبد الله الوادي آشي، وأبو مروان التونسي خازن المصحف وآخرون. قال شيخنا الذهبي: وكتب إلينا بمروياته عام سبع مئة، كان قد جمع بين الرواية والدرايه، وتحقق عند الناس ماله بالعلم من العنايه، وأخذ عنه الكبار، وأعاد جدة ما قد خمل من هذا الفن وبار، إلا أنه كان يتشيع ظاهرا، ويطعن في معاوية وابنه ناظماً وناثرا. ثم إنه في آخر وقته اختلط وانحطم، وسكن منه ذلك البحر الذي تموج والتطم، وبان هرمه، وخمد ضرمه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وست مئة. أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، قال: رأيت بخط ناصر الدين بن سلمة الغرناطي: شيخنا ابن هارون فيه تشيع وانحراف عن معاوية، وابنه يطعن فيهما نظماً ونثراً، اختلط بعد انفصالي عنه، وبان اختلاطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق العراقي الإمام البارع عماد الدين الحربوي الطبيب الأديب الحيسوب المتفلسف، أحد الأعيان ببغداد. نبغ في فنون من العلوم العقلية والنقليه، وقرأ عليه جماعة في أنواع من المعارف الجدية والهزليه، وجالس الملوك، وحصل أموالاً تضيق بدررها السلوك، ودرس مذهب الشافعي بدار الذهب، وأغار على ما في كتب المذهب من الجواهر ونهب، ومنح الطلبة ما عنده من ذلك ووهب، وولي رئاسة الطب، ومشيخة الرباط، وعمل أشياء بالاحتيال والاحتياط. ولم يزل على حاله إلى أن زال سلطانه، وفارقته مع الحياة أوطانه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة. وهو الذي علم شرف الدين هارون بن الوزير وأولاد عمه علاء الدين صاحب الديوان فن الحساب، وكثرت أمواله، وكان قد أخذ فن المعقول عن النصير الطوسي وأنشأ داراً وقفها على إمام ومؤدب وعشرة أيتام، وله تصانيف وإنشاءات. وأخذ عنه العز الإربلي، وله من التصانيف: القواعد البهائية في الحساب، ومقدمة في الطب، وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 قال في تفسير رشيد الدولة: هو إنسان رباني، بل رب إنساني، تكاد تجل عبارته بعد الله. فشهدوا عليه بعد موت الرشيد، فدخل على قاضي القضاة قطب الدين، فحقن دمه، ومات، ودفن في داره ببغداد. عبد الله بن محمد بن علي ابن حماد بن ثابت الواسطي الإمام المفتي بالعراق، جمال الدين بن العاقولي البغدادي، مدرس المستنصرية. كان يقول: إنه سمع من محيي الدين بن الجوزي، وسمع من الكمال الكبير، وروى عن ابن الساعاتي شيئاً في تأليفه. وكان إماماً عالما، سالباً غرة الكمال سالما، له مهابة وعنده شهامه، وإذا رمى أمراً أنفذ فيه سهامه، حميد الطريقه، مفتي العراق على الحقيقه، أفتى نحواً من سبعين سنه، وأعاد عينه في العلم رمداء، وغيره بالجهل عينه وسنه. ولم يزل على حاله إلى أن زاد في هجر موضعه، وسار راكباً على شرجعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة، وعدل سنة سبع وخمسين وست مئة. ورزق الحظ في فتاويه، ودفن بداره التي وقفها على ملقن وعشرة أيتام، وكانت جنازة عظيمة إلى الغاية، ما رؤي مثلها. وخلف ولداً ذكياً، اشتغل بالحكمة والنظر، ودرس وعظم أيضاً بعد والده. عبد الله بن محمد بن أبي بكر الإمام العلامة تقي الدين الزريراني، بزاي مفتوح، وراء بعدها، ياء آخر الحروف، وراء ثانية، وألف بعدها نون، العراقي الحنبلي مدرس المستنصرية. برع في مذهبه، وسار منه في موكبه، واشتغل واشتعل، وحفي في طلب العلم وانتعل، وصنف وناظر، وذاكر بالعلوم وحاضر، وناب في الحكم فحمدت سيرته، وطهرت في القضاء سريرته، وقرأ الناس عليه، وحملوا المسائل والفتاوى إليه. ولم يزل على حاله إلى أن التقى الموت بالتقي، وفني جسده، وذكره بقي وهو نقي. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. وكان قد قدم دمشق في حدود سنة تسعين، وتفقه بها على المجد وغيره، وعاد إلى بغداد، وهو والد شرف الدين عبد الرحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 عبد الله بن محمد بن أبي بكر الفقيه شرف الدين أبو محمد بن الشيخ العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، يأتي ذكره والده في مكانه. كان شرف الدين هذا آيةً في الذكاء والحفظ. قرأ القرآن صغيراً وعمره تسع سنين، وختمه، وصلى به سنة إحدى وثلاثين بالجوزية، كان يتلقن في أكثر الأيام نصف جزء، وحفظ العراف في تلقينين، وحفظ الجرجانية والكافية الشافية لابن مالك، وحفظ المحرر للشيخ مجد الدين بن تيمية، وقرأ مختصر الروضة للشيخ مجد الدين الطوخي في أصول الفقه، وحفظ المحرر في الحديث لشمس الدين بن عبد الهادي، وسمع الحديث، وأكثر منه في الشام ومصر على أصحاب ابن عبد الدائم وأصحاب ابن النجيب الحراني وطبقتهم، وسمع على الحجار أكثر صحيح البخاري، وسمع الكتب الستة والمسانيد المشهورة، وشيئاً كثيراً من الأجزاء. وأفتى ودرس، وأعاد، وحج مع والده مرتين، وأقام بينهما سنةً بمكة، ثم إنه حج بعد ذلك سبع حجات متواليات، وتزوج اثنتين. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 عبد الله بن محمد بن عبد القادر بن ناصر قاضي القضاة زين الدين المعروف بابن قاضي الخليل الشافعي. كان قاضي قضاة الشافعية بحلب، وكان حسن الشكاله، قادراً على نصب الحباله، وقوراً، له مهابة فاخر البزة، قد أوقد التعاظم فيها شهابه، عنده مشاركه، وله منابذة ومتاركه، عقله المعيشي جيد، وذكره بالقبول متأيد، محاضرته حلوه، ومذاكرته من الإملال خلوه، وله نظم قد صفا، ورف عليه ظل القبول وضفى. ولم يزل على حاله بحلب إلى أن كمل شوطه وانقلب. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمسين وست مئة. ولي بدمشق قضاء بعلبك في أول المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة، وقضاء حمص، ثم إنه نقل إلى قضاء حلب، فأقام به نيفاً وعشرين سنة، وناب في الحكم بدمشق، وحج مرات، وتزوج بابنة الأمير علم الدين الزراق، وجرت له أمور مضحكة بسببها، لأن سمعه لحقه صمم، وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني كثير الحط عليه، حكى لي عنه حكايات عجيبة، نسأل الله العفو والسلامة منها. وتوجه الشيخ كمال الدين بعده لقضاء حلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 ومن شعره: أحبّك حبّاً يمنع العين نومها ... ويمنعني عند الظّما بارد العذب وما أنا راضٍ عن غرامي وإنني ... لأعتب في هذا الغرام على قلبي قلت: هو مأخوذ من قول الأول.. ومن شعره في سنة حجه: ولما أتى سيلٌ عظيم عرمرمٌ ... بوادي القرى يعلو على السهل والوعر علونا ظهور اليعملات تحصّنا ... وكانت لنا في البرّ سفناً وفي البحر ومن شعره قصيدة يمدح بها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد بدت طيبةٌ ولاحت رباها ... فابتدر قربه بلثم ثراها واحمد الله ذا المواهب والفض ... ل على النعمة التي أولاها وافرش الخدّ والدموع على الأر ... ض وهذا شأن الذي يغشاها ثم لاحت لنا القباب العوالي ... فاستنارت رحالنا من سناها وأتينا مدينة العلم والو ... حي ومن تنف خبثها وأذاها فرأينا جلالةً وبهاءً ... ما رأيناه في مكانٍ سواها وأتينا سعياً إلى الحرم الأ ... شرف والحجرة التي نهواها حبذّا ساعةٌ أتيناه فيها ... وصباحٌ وليلةٌ سرناها ثم قلنا عليك يا أشرف الخلق ... صلاة ورحمة لا تضاهى وعلى صاحبيك صهريك جاري ... ك سلامٌ يعطر الأفواها يا رسول الإله يا أشرف الخل ... ق ويا أعظم النبيين جاها يا مغيث الأنام في موقف الحش ... ر إذا أوثق النفوس رداها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 حيث كلٌ يقول: نفسي نفسي ... ليس يرجو نجاة شيءٌ سواها فتنادي أنا لها زادك الّله ... ارتقاءً ورفعةً ترضاها فهناك الرسول يسجد لله ... لدى العرش مخبتاً أوّاها ملهماً أشرف المحامد لله ... وما كان قبل ذاك دراها فينادى ارفع واشفع تشفّع ... ثم سل كلّ حاجة تعطاها ثم يؤتى بأمّة نظر الله ... إليها بأحمدٍ فهداها ثم يمضي بهم سريعاً إلى الجنة ... يا فوزها ويا بشراها قلت: نظم، مقبول، إلا أن فيه لحناً خفياً، ولحناً ظاهراً، فالظاهر في قوله: ومن تنف، فجزم بمن، توهمها شرطية، وليس كذلك، والخفي قوله: وسل كل حاجة تعطاها، جواب الأمر في: سل تعطها، ولكنه يجوز، وهو أهون من الأول. عبد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون الشيخ تقي الدين الهرغي، بضم الهاء وسكون الراء، وبعدها غين معجمة، الزكندري، بالزاء والكاف والنون والدال المهملة، والراء المراكشي، قاضي الركب المغربي. اجتمعت به بجسر اللبادين بدمشق في حادي عشر صفر، سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وسألته عن مولده فقال: في تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة. وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في البربر: وما أمّة سكناهم نصف وصفهم ... وعيش أعاليهم إذا ضمّ أوّله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 ومقلوبه بالضم مشروب جلّهم ... وبالفتح من كلٌّ عليه معوّله وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: اسم الذي قد سبى قلبي تجنيّه ... وعزّ ملك جميع الحسن يطغيه ما كل آخره عشرٌ لأوّله ... وعشر ثالثه شطرٌ لثانيه وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: قسماً بورد الوجنتين ونضرته ... وبقدرك السامي الرفيع وعزّته لو لاح وجهك في الكرى لكثيّر ... ما اعتاده برح الخيال بعزته أو لو رأى الضّليل بعض جمالكم ... ما ضلّ عن سبل الهدى بعنيزته عبد الله بن محمد أبو محمد المرجاني القرشي التونسي الشيخ الإمام العالم المفتي. كان مشهوراً في الآفاق ذكره، مشهوداً في البواطن علمه وخبره، وكان إماماً مفتياً في مذهب مالك، عالماً بما فيه من المآخذ والمسالك، حلو العبارة مذكرا، خبيراً بعلوم القرآن مفسرا، ما كان أحد يقدر على إعادة ما يسرده، ولا حفظ ما يقوله ويورده، لأنه كان ربما يتكلم على الآية الواحدة ثلاثة أشهر، وتخيل الناس أن هذه المادة من بحر زاخر، فإنها تستكثر على الأنهر، وله يد طولى في الحديث ومعرفه، وقدم راسخ في العبادة والتصوف البديع الصفه، ولم يصنف شيئا، ولا ترك لشخصه فيئا، وترك مجلدات كثيرة إلى الغايه، وعلى الجملة فكان آيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 توفي بتونس رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. وعاش اثنتين وستين سنة، وصلى عليه المستنصر أبو عبد الله محمد بن الواثق صاحب تونس. قدم الإسكندرية والقاهرة، وذكر بهما، وتعجب الناس منه رحمه الله تعالى. عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن خليل بهاء الدين العسقلاني ثم المكي المقرئ الشافعي المحدث. عني بالحديث، وارتحل له، وأخذ عن بيبرس العديمي بحلب، وعن ست الوزراء، والدشتي بدمشق، وعن التوزي، ورضي الدين بمكة، وعن طائفة بمصر، وقرأ المنطق، وقرأ بالروايات وأتقن المذهب. وكان حسن القراءه، بديع المراجعة والبداءه، جيد المعرفة بعلومه، يضاهي الأفق في عداد نجومه، مليح المذاكرة إذا انشرح، بديع المحاضرة كأنه نسيم في السحر سرح، متين الديانه، مبين الصيانه، شديد الورع، عديم التسرع، يؤثر الانقطاع والخمول ويود أن لا يكون له بالخلق شمول. حصل المدارس والمعاليم، ثم ترك ذلك جميعه وانقطع، وآثر الحق الذي لاح له وسطع، ورابط بظاهر الإسكندرية في زاوية هناك، وخلص من الاشتراط والاشتراك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 وما زال على حاله إلى أن راح خفيف الحاد، وترك الفاني وأخذ ما ليس له من نفاد، وتوفي رحمه الله تعالى .... ومولده سنة أربع وتسعين وست مئة بمكة. عبد الله بن محمد بن عسكر ابن مظفر بن نجم بن شاذي بن هلال، شرف الدين أبو محمد القيراطي الشافعي. سمع من الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وسمع بالإسكندرية من الأشياخ الموجودين في سنة سبع مئة، وقرأ الأصول على الباجي، والخطيب الجزري، والعربية على شيخنا أبي حيان. كان فقيهاً أديبا، عارفاً لبيبا، محفوظه كثير، ومدده في التفسير غزير، ولي القضاء بنواحي عديده، ووجد فيها أموراً مفيتة ومفيده، ثم استعفى، وطلب لقضاء حلب، فاستخفى. وحكى عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أشياء دارت بينهما حسنة، دلت على أنه كان مطبوعاً. ولم يزل على حاله إلى أن خلت منه القاهرة، وأوحش بفضله النجوم الزاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده في بلبيس سنة اثنتين وسبعين وست مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 ولي القضاء بالمنوفية وبدمياط وبسيوط، ودرس بالسنجارية المجاورة لقبة الشافعي، وبالمشهد النفيسي، وأعاد بالقطبية وبقبة الشافعي، وترك القضاء، وطلب لقضاء حلب، فبكى بين يدي السلطان واستعفى، وسئل عن قضاء الغربية فلم يجب. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي، قال لي: ما بقيت أدخل في القضاء، فإني ما وجدت فيه خيراً، ومن شعره: يا دارهم باللوى حيّيت من دار ... ولا تعدّاك صوب العارض الساري ترى تعود ليالينا بقربهم ... قبل الممات وتقضى فيك أوطاري ودّعت طيب حياتي يوم فرقتهم ... فالطرف في لجّة والقلب في النار لله عيش مضت أيامه هدراً ... لم يبق فيها سوى أوهام تذكار عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد الشيخ الإمام الفقيه المحدث الفاضل شرف الدين أبو عبد الله الواني الدمشقي حفيد الشيخ برهان الدين المؤذن المقدم ذكره. سمعه والده الشيخ أمين الدين من أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم حضوراً، ومن ابن سعد والبهاء بن عساكر، وبالقدس من بنت شكر، وبمصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وقوص والحرمين وحماة وحلب، وطلب هو بنفسه، وقرأ، وكان قارئاً مطيقا، فصيح اللفظ منطيقا، حاد الذهن، سريع الإدراك، بديع الاشتراك، لو عاش لكان عجبا، وأبقى له في الغابرين نبا، ولكنه مات عبطه، وأضاع الموت جمعه وتحصيله وضبطه. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وكان قد قرأ على شيخنا الذهبي وغيره، وكان فيه ورع، وعمل أربعين بلدية وغير ذلك. وكتبت ورقة شهادة له باستحقاقه لما يتولاه من وظائف العلم، ونسختها .... عبد الله بن محمد بن محمد بن علي الإمام القدوة شيخ المحرم، نجم الدين الأصبهاني المجاور، صحب أبا العباس المرسي تلميذ الشاذلي. كان شيخاً مهيبا، وقوراً عجيبا، منقبضاً عن الأنام منجمعاً عن الناس في ذاته بالحطيم، زاهداً في الحطام. تفقه في مذهب الشافعي فأتقنه، وبرع في علم الأصول وأثار معدنه، ودخل في طريق الحب، ونزل منه في جب، وصحبه الشيخ عماد الدين الحزامي. ولم يزل على حاله إلى أن عدم الحرم أنسه، وأتاه العدم الذي يعم نوعه وجنسه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 ومولده في ثلاث وأربعين وست مئة. جاور بضعاً وعشرين، حج من مصر، ولم يزر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعيب ذلك عليه مع جلالة قدره، وكان لجماعة كثيرة فيه اعتقاد عظيم. عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الصدر الفاضل جمال الدين بن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسوف يأتي ذكر جماعة من إخوته، وذكر والده وعمه كل منهم في مكانه. كان قبل ما يتعلج، ويدخل في السمن ويتولج، ذا صورة في الحسن بديعه، وطلعة تترك قلوب من رآها صديعه، تتيم فيه جماعة وهاموا، وغرقوا في دموعهم وعاموا، ولما طلب السلطان والده ليوليه قضاء الشام كتب فيه تنكز أن هذا ولده يتعب الناس بسببه، فقال السلطان: أنا أترك ولده عندي بالقاهرة، فجهز والده، وأقام عبد الله المذكور بالديار المصرية، فخدمه الناس، وتقربوا إليه بمجالس اللهو والإيناس، وصحب الناس وعرفهم، ورافقهم وألفهم. ولما حضر والده قاضي قضاة الديار المصرية زاد وجاهه، وارتفع عظمةً ونباهه، وحصل أموالاً جمه، وأملاكاً لا تذم لها ذمه، واقتنى من الخيل ما كثار بعدته وعدته نجوم الليل، وكانت له خبرة في معرفة جيادها، ودربة تامة في اقتنائها واقتيادها، وذهنه في غاية الحسن، وذكاؤه تعرفه القالة اللسن. وحفظ التنبيه في الفقه وغيره من كتب العلم، ودرب الأحكام الشرعية كما يراه أولو الحلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 ولما توجه والده مع السلطان إلى الحجاز ناب عنه في إلقاء الدروس، وعجب الناس منه، وحركوا له الرؤوس، ثم إنه خرج مع والده إلى الشام، وترك وراءه ملكاً كم لمح بارقه، وكم شام. ولما كان الفخري على خان لاجين بدمشق قرره في ديوان الإنشاء كاتبا، وأجرى له معلوماً على ذلك وراتبا. ولم يزل على ذلك إلى أن برك جمله فما قام، وثوى بعد تنعمه في ذل التراب وأقام. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ومولده ... وكان قد حصل له فالج ووالده بدمشق خطيب، فتعب عليه وعالجه أمين الدين سليمان إلا بقايا منه. وكان شكلاً ضخماً، كبير البطن، ثقيل الحركة، يتعذر عليه المشي إلا بكلفة. وحضر إلى دمشق بخيول عظيمة، وجوار كثيرة مبدعات الحسن، وكان يحتاج لجماعته ومن حوله في كل يوم خمسة أرطال لحم بالدمشقي، وكان يبالغ في اقتناء الخيل المسومة، ويسابق عليها أولاد الأمراء والأمراء ومماليك السلطان، وأخرجه السلطان لذلك من مصر، وأقام بدمشق مدة، ثم سأل والده فيه السلطان، وضمنه، فأذن له في العود، ثم أخرجه، ثم أعاده مرتين، وأنا شاك في الثالثة، وعمر بمصر على النيل بالقرب من جزيرة الفيل عمارةً عظمى أنفق عليها ما يزيد على ألف ألف درهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 ولما خرجوا من مصر اشتراها الأمير سيف بشتاك بأربعين ألف درهم، وأباع له النشو منها شبابيكها النحاس بأربعين ألف درهم، وكانت له دار أخرى داخل القاهرة عند دكة المحتسب أباعها بدون العشرين ألف درهم، أقل ما أنفق عليها ستون ألف درهم. وأما الجواري فذكر لي من لفظه بالقاهرة: هن ما يبرحن عشرة، أربع منهن أمهات أولاد، وست أبيعهن وأشتري بدلهن دائماً. وأما عدد خيله ومراكيبه وما يحتاج ذلك من السروج المرصعة واللجم والفكوك باليشم واليصم والأقواس والبرذنبات والكنافيش عمل الدار والمقصبه والعبي، وغير ذلك فشيء كثير جداً، لكل فرس بذلتان وثلاث، وقال لي في وقت: عندي تسع عشره حجراً غير البغال والأكاديش والفحول الثمينة. وأما الكتب المجلدة من الأدبيات والدواوين وغيرها من كل فن فكان عنده وحده خارجاً عن أبيه وإخوته فوق الثلاثة آلاف مجلدة، ولكن كل نسخة ما يقع مثلها في عمر مديد. وأما الصيني من القطع النفيسة الجليلة الغريبة فشيء عظيم، إلى غير ذلك من سائر الأصناف النفيسة البديعة الثمينة. وبالجملة فما كان إلا في عداد الملوك، وكان يحفظ ديوان ابن الفارض بكماله، ومن شعر الأرجاني وابن النبيه والحاجري والبهاء زهير وابن عربي والسراج الوراق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 وأبي الحسين وابن دانيال وابن النقيب، وفحول المتأخرين ما يقارب عشرين ألف بيت. ولما مات كان قد ذهبت نعمته، ولم يبق منها إلا بقايا، وزالت بأجمعها، ولم يطرح الله فيها بركة، ووصل بعده أولاده إلى أن كانوا يستعطون من أصحاب أبيهم، ومن أكابر الناس، فسبحان العظيم. عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي الشيخ الإمام العالم فخر الدين أبو محمد الشافعي. كان فقيهاً، وصنف منسكاً كبيراً، وناب في الحكم على باب النصر بالقاهرة، وأقام بمكة شاهداً على العمارة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وكان شاهداً بالخزانة في قلعة الجبل، وسمع من ابن خطيب المزة، وحدث، وقيل: إنه شرح التنبيه. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وهو ابن أخي القاضي جمال الدين ابن السقطي. عبد الله بن محمدالمراكشي بن عبد الله فخر الدين أبو محمد المراكشي كان فقيهاً مباركاً مشكوراً، اشتغل كثيراً بالعلم، ونسخ بخطه، وكان إمام المدرسة الرواحية، وفقيهاً بالمدارس. وقرأ بالروايات على الزواوي، وروى الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 عن الرشيد بن مسلمة، وسمع من جماعة منهم شمس الدين محمد بن سعد المقدسي، وعبد الله بن الخشوعي، وابن طلحة، وإسماعيل العراقي، والعماد بن عبد الهادي، واليلداني، والكفرطابي، والسديد بن علان، والباذرائي، وعثمان بن خطيب القرافة، والنجم بن النور البلخي، وابن عبد الدائم. وتوفي رحمه الله في مستهل شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وقد قارب الثمانين رحمه الله تعالى، دخل حمام السلاري فوقع ومات هناك، وغسل بالرواحية. عبد الله بن محمد بن فضل الله القاضي شمس الدين بن القاضي فخر الدين ناظر الجيوش. نشأ في حياة والده، وتأهل للمناصب. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة. وفقده والده، وكتب الأمير سيف الدين تنكز إلى والده وعزاه فيه. عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصاحب الأثير الوزير فتح الدين القرشي المخزومي الخالدي الحلبي بن القيسراني. سمع أبا القاسم بن رواحة، وابن الجميزي، ويوسف الساوي، وابن خليل، وأحمد بن الحباب، وجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 كان من أعيان الوزراء، وأفاضل الكبراء، شارك في الفضائل والآداب، ودخل في عداد المحدثين والشعراء والكتاب، روى وروى الناس عنه، وأخذوا الفوائد منه. كان ممن يزهى الزمان بوجوده، ويفخر بعلوه في علومه، ورقيه في جو جوده. وكتب الإنشاء في الديار المصرية، وأطلع بدور المعاني في ليالي سطوره الحبرية، وكان كما قال ابن الساعاتي: أشمّ عفيف العين واليد والمنى ... وغيب الحشا والسر والجهر والحلم له قلمٌ يرجى ويخشى شراته ... فكم شدّ من أزرٍ وكم سدّ من ثلم وفاق يد الغيث الصناع جلالةً ... بما بثّ من وشي بديع ومن رقم ولم يزل بين صناعة البلاغة والتدبير، وتصريف الدول والتحبير، إلى أن فتح القبر له فاه، وقال كل من يعرفه: والهفاه! وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة بالقاهرة. ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة. كان له اشتغال بالحديث وتحصيله، وصنف في أسماء الصحابة المذكورين في الصحيحين، وترجم لهم، وروى شيئاً من أحاديثهم بأسانيده في مجلديه، وهما وقف المدرسة الناصرية بدمشق. وكان يذاكر بأشياء حسنة مفيدة اللفظ والمعنى، وكتب الناس عنه قديماً، وممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 روى عنه في معجمه الشيخ شرف الدين الدمياطي من نظمه، وأخذ عنه أشياخنا: فتح الدين بن سيد الناس، وعلم الدين البرزالي، والذهبي. أنشدني من لفظه، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الصاحب فتح الدين بن القيسراني: بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشي ونسخة حسنه قرئت فصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشي وكان قد ولي الوزارة في دولة الملك السعيد بن الظاهر في ذي الحجة سنة سبع وسبعين وست مئة بدمشق، وقبض عليه في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وست مئة، ووليها أيضاً في دولة الكامل كتبغا فما أظن، وعمه عز الدين أبو حامد محمد كان وزيراً بدمشق للملك الناصر، وجده موفق الدين خالد وزير دمشق أيضاً للعادل نور الدين الشهيد، وكان عنده مكيناً، وقد ذكرت ترجمة موفق الدين مستوفاة في التاريخ الكبير. وكان القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى قد نظم مرثية في الملك الظاهر، ومدح الملك السعيد، وضمن البيتين المشهورين، وهما: خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلةٌ في أوجه تتهلّل ملكان ذلك راحلٌ وثناؤه ... باقٍ وذا باق ثناه يرحل فكتب الصاحب فتح الدين إلى ابن عبد الظاهر لما وقف على المرثية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 يا ذا الذي أخذ الكتاب بقوّةٍ ... فأتى به وهو الأخير الأوّل قد حاز فيه بدائع الحسن التي ... ما مثلها فهو الرئيس الأمثل لا فاضلٌ ساواه فيه ولا مشى ... في مثل منطقه البليغ الأفضل مستشهدٌ فيه بأحسن شاهد ... إذ قال بيتاً مثله لا ينقل خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلّةٌ في أدمع تتهلّل وكذاك أنت خلفت فيه الفاضل ... الندب الجليل وأنت منه أفضل أرهبت فيه فقد أتيت بمعجزٍ ... في كل سطر منه يبدو جحفل قلت: ادعى بعضهم أن هذا البيت لابن قلاقس الإسكندري، يهنئ الأميرين محمداً وأبا السعود ولدي الداعي عمران بن سبأ صاحب عدن. قلت: الصحيح أن ابن قلاقس ضمنه، فإني وقفت على مجموع لابن خلكان قاضي القضاة رحمه الله تعالى بخطه وقد أثبته لابن خفاجة الأندلسي، ومما وقفت عليه في هذه المادة وهي التعزية والتهنئة في بيت قول ابن شرف القيرواني: بكينا عليه ضاحكين كأننا ... نهار عليه شمسه وهو ممطر غراءً ممن زار القبور وغبطة ... بأبلج لبّاه سريرٌ ومنبر وقد سبق الناس كلهم إلى هذا أبو دلامة زند بن الجون يعزي بالمنصور ويهنئ بالمهدي في كل بيت فقال: عينان واحدةٌ ترى مسرورةً ... بأمامها جذلاً وأخرى تذرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 تبكي وتضحك مرة فيسوءها ... ما أنكرت ويسرّها ما تعرف ويسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرّها أن قام هذا الأرأف هلك الخليفة يال أمّة أحمدٍ ... وأتاكم من بعده من يخلف أهدى لهذا الله فضل خلافةٍ ... ولذاك جنات النعيم تزخرف وكتبت أنا إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق أهنئه بولد ذكر جاءه، وأعزيه في ولد ذكر مات، كل بيت عزاء وهناء: عزاؤك فيمن غدا راحلا ... هناءٌ بهذا الذي قد حضر فأوحشنا ذاك لمّا مضى ... وآنسنا اليوم هذا وسر وهذا به عيشنا قد صفا ... وجرّعنا ذاك كأس الكدر إذا الشمس في جوّها أشرقت ... فما ضرّنا حين غاب القمر عبد الله بن محمد بن بهادر آص جمال الدين بن الأمير سيف الدين. كان شاباً حسناً ومليحاً، يخجل البدر سناء وسنا، ذا وجه ناسب الأقمار، وجرى حديثه في الأسمار، يخطه بقد من أين للرمح هزته، أو للغصن بزته، يكاد ينعطف بالنسيم إذا سرى، وينقصف من لطف حركاته إذا انبرى: رأى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالاً فأضحى بين ذاك قواما وكان رحمه الله تعالى يعمل بيده أشياء مليحة من آلات الجندية، قل من يعملها من حذاق الصناع، وعمل أشياء من أعمال الخرد فوشيه متقنة، ودخل بها إلى السلطان الملك الناصر حسن، وقدمها فاستحسنها منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 وكان سعيد الحركات، له حظ وافر في المتجر، توجه مع والده الأمير ناصر الدين إلى الديار المصرية، وله إقطاع بالشام، فأقام بمصر عند والده، ومرض ثلاثة أيام، وكسف بدره. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، وترك شيئاً له صورة. عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيرو الشيخ الإمام المحدث المفتي شيخ الإسلام زين الدين الفارقي، خطيب دمشق ومفتيها، أبو محمد الشافعي. سمع من كريمة القرشية، وابن الصلاح، والسخاوي، وابن خليل، وطبقتهم، ثم إنه تحول إلى مصر، وقرأ على الشيخ عز الدين بن عبد السلام وغيره. وروى الكثير، وأبان عن فضل غزير، وفاز بذكر شهير. وكانت فيه زعارة وحده، وهيبة عظيمة وشده، وكانت فيه قوة للحق، وجلادة على مخاصمة الخلق، وتسرع في الافتاء وقع معه في هوة الإثم إلى الحلق، أراق دماءً كثيره، وقطع أطرافاً أمورها في ذلك الزمان شهيره. وكان فصيحاً في لفظه، بديعاً في خطه، متحرياً في ديانته، متجرياً إلى أمد صيانته. ولم يزل على حاله إلى أن فارقت الفارقي حياته، وورد عليه بما أبكى الناس عليه مماته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة ثلاث وسبع مئة. ومولده في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. وكان شيخ دار الحديث الأشرفية، قدم من مصر بالمشيخة بعد الشيخ محيي الدين النووي رحمهما الله تعالى، ودرس بالشامية البرانية، والناصرية، وتصدى للإشغال. وكان قد باشر الإمامة والخطابة بالجامع الأموي في العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، وحضر الأفرم لسماع خطبته، وصلى بالمقصورة، وفي هذا اليوم قرئ تقليد قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمقصورة، قرأه الشيخ شرف الدين الفزاري. وتولى مشيخة الحديث بالأشرفية سبعاً وعشرين سنة، وهو الذي اهتم بعمارتها بعدما احترقت أيام التتار، وعمرت أحسن مما كانت أولاً، وكان مقصوداً بالفتوى. عبد الله بن موسى بن أحمد الشيخ الصالح الجزري. كان شيخاً مباركاً، كثير الخير والعبادة، وله مطالعة وفهم ومعرفة، وعليه هيبة ووقار، وأقام بجامع دمشق سنين بمشهد أبي بكر مجاوراً متعبداً منقطعاً. وسمع الحديث من ابن البخاري، وحدث عنه، وكان يلازم الحضور عند الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويسأله ويضبط عنه أشياء من العلم. وحج غير مرة، وجاور بمكة وتعبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 وتوفي في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير عند أولاد شيخه الشيخ عمر الجزري شيخ أرض نبات. عبد الله بن موسى بن عمر ابن يومن الزواوي، الشيخ المقرئ المحدث الصالح الزاهد العفيف. قدم الحجاز قبل التسعين وست مئة، وأقام بمكة أكثر من المدينة، وجاور إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وصحب الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، وسمع عليه وعلى التقي عبيد، ومن مؤنسة بنت الملك العادل السباعيات التي خرجها لها ابن الظاهري، وحدث بها عنها. وسمع منه جماعة، وكان يحفظ الموطأ، وكان كثير الأمراض. عبد الله بن يوسف بن أبي بكر الشيخ جمال الدين الإسعردي الإصطرلابي. رأيته بدمشق في الحائط الشمالي بالجامع الأموي، وجالسته غير مرة، فوجدت إنساناً منحرف المزاج، محتاجاً إلى العلاج، قد ساءت أخلاقه من ضيق رزقه، وأدته إلى نوكه وحمقه، إلا أنه إذا ثاب عقله، وأناب فضله وجد الطالب منه في قواعد هذا العلم غرائب، وجعل للبه عنده رغائب، ولو جاءه بطليموس كتبه الجمل الكبير والصغير، وضيع زمانه في ما يعرفه الإنسان في الكتاب، حتى يستطيل أو يستطير، وما أظنه انتفع به أحد، ولا كان عنده لطالب ملتحد. ولم يزل في جنونه، ودوران من جنونه إلى أن سقط من قيسارية محسي فدخل تحت الشعاع، ولم يكن له عن الطريقة المحترقة من دفاع. وكانت وفاته عشية السبت عاشر شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكان يعرف الإسطرلاب معرفةً جيدة، وله أوضاع جيدة، إلا أنه كان منحرفاً يسب الناس ويغتابهم، ولا يذكر أحداً بخير لفقره، وضيق رزقه، وضعف بصره قبل موته. / الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم بقية حرف العين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الشيخ الإمام العالم العلامة حجة العرب، أفضل المتأخرين، جمال الدين أبو محمد الأنصاري الحنبلي المصري. شيخ النحو، ومن قام في أمره بالإثبات والمحو، أظهر فيه الإبداع وصنف، وقرط الأسماع وشنف، ونظر ودقق، وتعمد لأن تعمق وحقق، ورجح الأضعف، لذهنه المتوقد وأوهى الأقوى من الأقوال، وسهل المتعقد، وكد وكدح، وصد عن الباطل، وأطرب لما صدح، وناقض شيخنا أثير الدين وحجه، وعدل بمذاهبه عن المحجة، وكاد يميت ذكر أبي حيان، ويردي كل من جاء من جيان، فلو عاصره سيبويه لحاكم الكسائي إليه، وفصل أمر المسألة الزنبورية بين يديه، وفصل فصول كتابه وخلعها عليه، أو الفارسي لأجلب عليه بخيله ورجله، أو ابن جني لما كتم سر الصناعة من أجله، أو ابن مالك لكان له مملوكاً، وجعل به طريق التسهيل للناس مسلوكاً: وأطلعه الفهم بعد النهي ... على مشكلات كلام العرب ولم يزل بالقاهرة يصنف ويفيد، ويجود للطلبة بفوائده ويجيد، إلى أن نزلت به أم اللهيم الأربي، وفجعت به النحاة والأدباء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وتوفي رحمه الله تعالى عشية الخميس خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبع مئة. مولده تقريباً بعد العشرة وسبع مئة. وكان في أول عمره قد تفقه للشافعي، ثم انتقل أخيراً إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وحضر مدارس الحنابلة، وحفظ مختصر أبي القاسم الخرقي في دون الأربعة أشهر، مع ملازمة المطالعة والاشتغال، وروى الشاطبية عن قاضي القضاة ابن جماعة، وغيرها. وصنف وأفاد وتخرج به جماعة من أهل الديار المصرية، ومن أهل مكة لما جاور بها، وأقرأ كتاب سيبويه مرات، وصنف كتباً في العربية منها: تعليقه على مشكل ألفية ابن مالك، ومنها: مقدمة في النحو سماها الإعراب عن قواعد الإعراب، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وهو كتاب مفيد قد جود وبيضه فسوده، واشتهر في حياته في الشام ومصر، واشتغل به أهل العصر. عبد الله بن أبي الوليد محمد ابن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد محمد التجيبي بن الحاج القرطبي المالكي. إمام محراب المالكية بجامع دمشق، حدث عن ابن الثمانين، وكان مشهوراً بالصلاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 توفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بظاهر دمشق. وسيأتي ذكر والده في المحمدين. عبد الله الفاتولة بالفاء والألف والتاء ثالثة الحروف والواو واللام والهاء، الحلبي الدمشقي. شيخ قد أسن، وبلي من الكبر فأشبه الشن، فقير حرفوش، مكشوف الرأس منفوش، عليه دلق رقيق، بالي الخرقة دقيق، قد تمكن منه الوسخ، وثبت فيه ورسخ، قد جمعه من عدة رقاع، والتقطه من متباعد البقاع، يعبث به الأطفال فيزط، وينهض لمناوشتهم وينط، له مجمرة يستدفئ بنارها، ويرتضي بعابها وعارها. وكان عاقلاً، إلا أنه عن الصلاة لا يزال غافلاً، والناس مع ذلك يذكرون له كرامات، ويشهدون أنه يشهد في الملكوت مقامات. ولم يزل على حاله إلى أن انحل فتل الحبل من الفاتوله، وأكلته أم دفر القاتوله. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة. وكان يجلس عند عقبة الكتان بدمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 أخبرني شيخنا الذهبي، قال: كان الفاتولة جيد العقل، لا يقرب الصلاة، ولا يسأل الناس شيئاً، فقلت أنا في ذلك: يا معشر المسلمين هذا إبراهيم في غاية الضلال ومن عجيب الزمان يبدو ... فاتولة العصر في انحلال عبد الله الحاجب الأمير جمال الدين الدمرتاشي. كان رأس الميسرة في الحجبة بدمشق، ركابياً بخدمة دمرتاش بن جوبان المقدم ذكره، وحبس بعده في قلعة دمشق مدة مديدة، ثم أطلق، وتولى شد المسابك بدمشق، ثم تولى شد المواريث الحشرية بدمشق في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه تولى مدينة دمشق في أيام الأمير يلبغا، وخدم الناس وأحسن إليهم، ثم تولى ولاية البر، وجمع له بين ولاية المدينة والبر زماناً، ولم يهتك مستوراً، ثم إنه تولى القبلية وهو على حاله في خدمة الناس ثم إنه ولي إمرة الحجوبية في الميسرة إلى آخر وقت وهو على حاله في خدمة الناس ومسايستهم إلى سنة تسع وخمسين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وسبع مئة، فعزل عن الحجبة، وأخرج إلى طرابلس بطالاً، فأقام بها قليلاً، ورسم له بعوده إلى دمشق، فأقام بها بطالاً إلى أن توفي في ثاني القعدة يوم الجمعة سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وكان قد حج في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وكان يزعم أنه في ولاية المدينة دخل إليه في الليل شيخ من الجن واعترف عنده أنه شرب الخمر وسأله أن يحده، وأنه فعل به ذلك، وطلبه فلم يجده، سمعت ذلك من لفظه غير مرة. عبد الأحد بن أبي القاسم ابن عبد الغني بن خطيب حران الشيخ العدل بقية الأخيار، شرف الدين أبو البركات بن تيمية التاجر. سمع من ابن اللتي في الخامسة، ومن ابن رواحة ومرجى بن شقيرة، وعلوان بن جميع. وكان له حانوت في البز، ثم انقطع، وحدث زماناً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في رابع شعبان. ومولده بحران سنة ثلاثين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 عبد الأحد بن سعد الله ابن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الأحد بن عمر الفقيه شمس الدين أبو محمد الحراني الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً، كثير التنفل، يستحضر الكثير من المذهب، وسمع الكثير ببغداد وبدمشق، وحدث، ومن شيوخه: ابن البخاري، وابن شيبان، ورقية بنت مكي، وابن الواسطي، والعماد بن العماد، والنفيس بن الكمال، والشمس بن الزين بدمشق. ومن شيوخه ببغداد: الكمال الفويرة، والرشيد بن أبي القاسم، ويوسف بن كرم، وابن الطبال، وعبد الرحيم بن الزجاج، وابن الدباب، وابن المريخ، وعبد المنعم بن عرندا. وسمع أيضاً بحماة وحلب والإسكندرية. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن البغداديين وجزءاً عن الشاميين، وحدث بهما فيهما عن أكثر من مئة شيخ. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. مولده بحران سنة ثمان وستين وست مئة، وكان يعرف بابن نجيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 عبد الأحد بن يوسف بن الرزيز تصغير رز. خطيب جامع القاضي كريم الدين الكبير الذي بالقبيبات ظاهر دمشق، خطب فيه أول يوم فرغ من عمارته في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وضره جماعة من القضاة والعلماء وأرباب الدولة، وقصد الناس الصلاة خلفه لبركته وحسن خطابته. عبد الباري بن أبي علي الحسين ابن عبد الرحمن كمال الدين بن الأسعد الأَرْمَنْتي، بهمزة مفتوحة، وراء ساكنة، وميم مفتوحة، ونون ساكنة، وتاء ثالثة الحروف، القرشي البكري. سمع من ابن النعمان وغيره. كان متورعاً زاهداً، يقطع الليل هاجداً، عنده وسواس في النجاسات، وتخيل زائد في توهم القاذورات، بحيث إنه زاد أمره، وتغير مزاجه، وكاد يخيب فيه طبه وعلاجه، وغلبت عليه السوداء، وما يتبعها من فساد التخيل والأدواء، فطلع المنبر بقوص بعد صلاة الجمعة، وادعى الخلافة له في كل بقعة، ثم إنه صلح حاله بعد ذلك قليلاً، وبقي في عقابيل ذلك نزيلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وكان فقيهاً مالكياً، ثم تحول شافعياً، وحفظ كتاب ابن الحاجب في الفروع، والتعجيز أكمله حفظاً بعد الشروع. ولم يزل على حاله إلى أن لسعه ثعبان فمات من سمه، وعدم روح الحياة ولذة شمه، وذلك بقوص سنة ست أو سبع وسبع مئة. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ذكر لي جماعة من قوص أن قاضي القضاة أبا الفتح القشيري قال له: اكتب على باب بلدك أنه ما خرج منها أفقه منك. وكان عنده قمح قد انتقاه وغسله بالماء فيزرعه في أرض يختارها بنفسه يتولى زرعه وحصاده وطحنه، وعنده طين طاهر يعمل منه آنية ليأكل فيها ويشرب. عبد الباقي بن عبد الحميد ابن عبد الله بن أبي المعالي متى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن يوسف، الشيخ تاج الدين اليمني المخزومي. كان أسمر اللون، ظريف الكون، شيخاً طوالاً، حسن العمة، بعيد الهمة، يدعي في الإنشاء أشياء لو صحت كانت معجزه، أو لو أتى ببعضها كانت من الغرائب الموجزة، لا يحقق شيئاً من العلوم، ولا مما يتصف به ذوو الألباب والحلوم، نعم كانت له قدرة على النظم والنثر، وهو فيهما كثير التردي في الردي والعثر. وكان يقرئ في المقامات والعروض، ويحسن ما يدعيه بالتقادير والفروض، ونظمه أقرب إلى الجودة، ونثره يقال فيه كما قيل: قد عرفناك يا سوده، ويكتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 خطاً نقشاً، ويجيد منه سطراً رقشاً، وعلى كل حال فكان من أشياخ الأدب، وجراثمه التي تقصد بالطلب. وكان كثير الحط على القاضي الفاضل، وهذا دليلي على أنه لم يكن ممن يناظر أو يناضل، وكفته هذه الحطة، وحبسه بها سيئة أكفأته في هذه الورطة. وكان يرجح كلام ابن الأثير، وهذا كلام من هو بين أهل الكلام عثير، وبينهما عند أرباب هذا الفن من الفرق، ما بين القدم والفرق، وبينهما من البعد والبون ما بين الفساد والكون، أو الأبيض اليقق والأسود الجون، علم ذلك من علمه، أو جهله من جهله. ولم يزل على حاله إلى أن فني عبد الباقي، ورقد في البرزخ إلى يوم التلاقي. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وأربعين، أو أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مائة. ومولده بمكة ثاني عشر شهر رجب سنة ثمانين وست مئة. وكان قد ورد في أيام الأفرم إلى دمشق، وعمل رسالة سماها: قلائد الحور في المفاخرة بين المنظوم والمنثور، وحكم فيها القاضي محيي الدين بن فضل الله، فتوسط له عند الأفرم، فرتب له على الجامع الأموي بدمشق في الشهر مئة ردهم، وقرأ عليه الطلبة في المقامات والعروض. ثم إنه توجه إلى اليمن، وكتب الدرج باليمن، وربما وزر، ثم إنه لما توفي المؤيد صاحب اليمن صادره ولده المجاهد، وأخذ منه ما حصله، فورد إلى مصر سنة ثلاثين، وقدم إلى دمشق، ورأيته بها في سنة إحدى وثلاثين، ثم عاد إلى مصر، وبها اجتمعت به سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وفوض إليه تدريس المشهد النفيسي، وشهادة البيمارستان المنصوري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 ثم إنه ورد إلى دمشق، ورتب مصدراً بالحرم في القدس، فأقام به مدة وتردد إلى دمشق وحلب وطرابلس، وعمل له راتب بطرابلس، ثم توجه إلى القاهرة وأباع وظائفه، وبها توفي رحمه الله تعالى. وكانت له قدرة على النظم والنثر، إلا أنه لم يكن له فيهما غوص على المعاني. وكان ظنيناً بنفسه، يدعي أنه يملي على أربع كتاب، أو قال: خمسة في مقاصد مختلفة نظماً ونثراً، ويظن مع ذلك أن كلامه خير من كلام القاضي الفاضل، وعارض الرسائل المختارة للفاضل، مثل الرسالة الذهبية، وفتح القدس، وغيرهما، فكان كمن عارض الزواهر بالذبالة، والجواهر بالزبالة وكان كلامه متوسطاً، وعمل تاريخاً لليمن، وتاريخاً للنحاة، وليسا بشيء، وذيل على تاريخ ابن خلكان بذيل قصير جداً رأيته لم يبلغ به ثلاثين رجلاً. وكان يعظم نفسه، ويطريها، بل يطغيها، ولكن لكلامه وقع في النفوس، وديباجة إذا أطنب في وصف نفسه، وتعيش بذلك زماناً، وقمر عقولاً أغماراً. وأنشدني من كلامه المنظوم والمنثور كثيراً، وكتب على أشياء وقف عليها من تصانيفي تقريظاً بالنظم والنثر، فمن ذلك ما كتبه على كتابي جنان الجناس: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 جنان جناس فاق جنس جنان ... يعين المعاني فيه جل معان لقد نوع الأجناس فيه مؤلف ... طرائق وشي أو سموط جمان غدا ناهجاً فيه مناهج لم يكن ... قدامة قدماً جاءها ببيان مقاصد ما نجل الأثير مثيرها ... بدائع فضل من بديع زمان محررة الألفاظ لكن حسنها ... رقيق ينسينا جليل حسان إذا ابن فتى نجل الحديد أرداها ... تقول له أقصر فلست بدان وما أنت فمن يسبك التبر ناقدً ... ومالك في سبك الفضا ريدان لقد أطربت أبياته كل سامع ... فرائد ما جاءت لهن ثوان تفوح بأرواح الصبا نفحاتها ... حظيرة بان عند حضرة بان لقد صير الحساد تذرف دمعها ... مدامع شأن في محاجر شان أقول لنظمي حين حاول شأوها ... رفيقك قيسي وأنت يمان بقيت صلاح الدين للفضل صالحاً ... لحسن بيان من يراع بنان فكتبت أنا إليه ارتجالاً: لآ لي غوالٍ من حلي غوان ... وترجيع بم عند خفق مثان أم الشيخ تاج الدين نظم شعره ... فما زهر روض من حلاه بدان إمام زمام الفضل أضحى بكفه ... يصرفه يومي ندى وبيان وزير بتدبير الممالك عارف ... غدا الناس في أيامه بأمان إذا هو جارى الغيث يوم سماحه ... فذاك أوان ليس فيه بوان يشيد مباني المجد في حومة العلى ... بهز يراع أو بسل يمان فأقسم ما أثنى على ما وضعته ... بشعر ولكن بالجنان حباني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 جناس بديع لو تقدم عصره ... أبان لنا في ذاك عجز أبان فشكري ما وفى حقوق صنيعه ... وكيف بشام شام برق يمان وأنشدني من لفظه لنفسه: تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان قلت: أخذ الأول من قول الأول، وهو أحسن: جهل الفتى عار عليه لذاته ... وخموله عار على الأيام وأنشدني من لفظه لنفسه: بخلت لواحظ من رأينا مقبلاً ... برموزها ورموزهن سلام فعذرت نرجس مقلتيه لأنه ... يخشى العذار لأنه نمام قلت: أخذه من قول الأول، وهو أحسن، وأكمل: لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوام كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمام وأنشدني من لفظه لنفسه في حمار وحش: حمار وحش نقشه معجب ... فلا يضاهي حسنه في الملاح فمذ غدا في حسنه أوحداً ... تشاركا فيه المسا والصباح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 قلت: فيه إضمار قبل الذكر، ولا يجوز في الأفصح، ولغة أكلوني البراغيث مرذولة وأحسن من هذا قول القائل في فهد: تنافس الليل فيه والنهار معاً ... فقمصاه بجلباب من المقل وأنشدني من لفظه لنفسه: لا أعرف النوم في ليلى جفا ووفا ... كأن جفني مطبوع من السهد فليلة الوصل تمضي كلها سمراً ... وليلة الهجر لا أغفى من الكمد وأنشدني من لفظه لنفسه وقد زاد جمال الدين بن نباته الشاعر بدمشق، فرأى في بيته نملاً كثيراً: مالي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا فقال لا تعجبا من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا عبد الحافظ بن عبد المنعم ابن غازي بن عمر بن علي المقدسي، الشيخ المحدث أبو محمد. سمع الكثير على الحافظ ضياء الدين ومن بعده من الشيوخ، ونسخ الكثير لنفسه وللناس، ثم إنه بعد ذلك كتب الشروط، وارتزق بذلك في أيام الشيخ شمس الدين ومن بعده من قضاة الحنابلة، وكان يكتب خطاً حسناً. ومن شيوخه: المرسي، ومكي ابن علان، وابن مسلمة، وخطيب مردا، والصدر البكري، واليلداني، وإسماعيل العراقي، وإبراهيم بن خليل، والعماد بن النحاس. وسمع بحلب والقدس، وكان يضبط أسماء السامعين، ويكتب الطباق. وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 عبد الحافظ بن بدران ابن شبل بن طرخان الزاهد القدوة، المسند الرحلة عماد الدين أبو محمد النابلسي المقدسي، شيخ نابلس. قدم دمشق في صباه، وسمع الكثير من الشيخ موفق الدين، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وأحمد بن طاوس، وزين الأمناء، والبهاء عبد الرحمن، وابن الزبيدي، وجماعة. وأجاز له أبو القاسم بن الحرستاني، وأبو البركات بن ملاعب. تفرد بأشياء أسمعها، وأختص بمحاسن أجرى مياهها وأنبعها، قصد من البلاد للسماع والتبرك، وطلب لتسكين القلق والتحرك. كان كثير الأوراد والتلاوة، والاجتهاد في الانجماع على ذلك علاوة، ملازماً بيته إلى جانب مسجده، مقبلاً على شأنه في تعبده، بنى بنابلس مدرسة، وجدد طهارتها، وتحيل كثيراً إلى أن أتقن عمارتها، إلا أن الكيمياء استحوذت على عقله، ورمت فؤاده منها بنبله، فعالج لواعجها، ونافح أكوارها، ولا أقول: نوافجها، ولم يصح له فيها كغيره تدبير، ولا علم فيها قبيلاً من دبير، ثم إنه ترك هذا الهوس، وقال له التوفيق: قد قصرت لما طولت فيها النفس. ولم يزل على حاله إلى أن ضاع عبد الحافظ، وألقاه في حفرته اللافظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، وقد شارف التسعين. وأول سماعه سنة خمس عشرة وست مئة، رحل إليه ابن العطار وعلم الدين البرزالي، وسمع منه شمس الدين بن مسلم، وابن نعمة، وجماعة، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي عشرة أجزاء. عبد الحق بن محمد الشيخ الإمام المحدث مجد الدين أبو محمد. سمع الكثير كأخيه من أصحاب ابن كليب، والبوصيري، وحدث، وهو أخو تاج الدين عبد الغفار السعدي. أجاز لي بخطه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وقد نيف على الثمانين. عبد الحق بن أبي علي ابن عمرو بن محمد بن عمرون الصدر أمين الدين المعروف بالفارغ الحموي. كان فاضلاً عاقلاً كثير الأدب، جيد النظم والنثر، حسن الترسل والإنشاء متفرداً بحل المترجم. توفي بالقاهرة في رابع عشري المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. وبعضهم قال فيه: عبد الخالق، وسيأتي في مكانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 عبد الحميد بن منصور ابن علي بن عبد الجبار الأنصاري. سمع من علي بن عبد الواحد، وإسماعيل بن أبي اليسر، وغيرهما. وأجاز لي بخطه في السنة التي توفي بها رحمه الله تعالى، وهي سنة تسع وعشرين وسبع مئة في ذي القعدة. ومولده في سنة ست وخمسين وست مئة. عبد الحميد بن عبد الرحيم ابن أحمد بن حسان، الشيخ المعمر الكبير تاج الدين أبو عبد الله الحريري الدمشقي. أصله من وادي التيم، ذكر أنه يعرف الملك الأشرف والملك الكامل. أقعد في أواخر عمره سنين، وكان مقبولاً عند القضاة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: ظهر سماعه لجزء ابن عرفة على ابن عبد الدائم، وحدث به غير مرة. قال: قرأته عليه قبل موته بقليل. عبد الخالق بن عبد السلام ابن سعيد بن علوان القاضي الإمام تاج الدين أبو محمد المعري، الأصل، البعلبكي، الشافعي، الأديب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 حدث عن الشيخ الموفق، والبهاء عبد الرحمن، والمجد القزويني، والكاشغري، والعز بن رواحة، والتقي أبي أحمد علي بن واصل البصري، وأحمد بن هشام اللبلي، والزكي أبي عبد الله البرزالي، وجماعة. وأجاز له الكندي، وروى الكثير، وتفرد في وقته بالرحلة إليه والمسير، وحدث بدمشق بسنن ابن ماجة، وكان الطلبة إليه في جد حاجة. وكان صاحب أوراد وقيام في الدياجي وبكاء من خشية الله وخطاب وتناجي. ودرس بالأمينية بدمشق، وولي قضاء بعلبك، وحمدت أحكامه، وشكرت سيرته وأيامه. ولم يزل على حاله إلى أن راح عبد الخالق إلى من خلقه، وأوضح له من صبح الهدى فلقه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة ثلاث وست مئة. فأناف على التسعين. وسمع شيخنا الذهبي منه سنن ابن ماجة وأكثر عنه، وهو من أكبر شيوخه، وحدث عنه أبو الحسين اليونيني والمزي. ومن شعره .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 عبد الخالق بن أبي علي ابن عمر بن محمد بن عمر الصدر الفاضل الكبير عفيف الدين أبو الفضائل بن الصدر علاء الدين بن زين الدين بن الفارغ الحموي الشافعي. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز جزء ابن عرفة، قرأه عليه في سنة خمس وخمسين وست مئة، وعن ابن عبد الدائم والنجيب عبد اللطيف، وسمع من الباذرائي وجماعة. وكان موصوفاً بالمروءة والمكارم، وقضاء الحقوق، وهو ابن أخت قاضي القضاة تقي الدين بن رزين. وكان تقدم له اشتغال، وحفظ التنبيه، وقرأ الحديث، ثم إنه خدم بعض الأمراء بالقاهرة، وولي نظر الصدقات بدمشق مدة، وسكن درب العجم. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سلخ رجب سنة ثمان وثلاثين وست مئة. وقد تقدم ذكر أخيه عبد الحميد في مكانه. وبعضهم سماه عبد الحق، وقد تقدم في مكانه. عبد الرحمن بن إبراهيم ابن عبد الله بن أبي عمر المقدسي، الشيخ الإمام الفاضل الزاهد عز الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 أبو الفرج بن الشيخ الإمام عز الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الإمام القدوة أبي عمر محمد بن قدامة. سمع من ابن عبد الدائم، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. وسمع من والده، ومن عم والده الشيخ شمس الدين، وعمر الكرماني، وعبد الولي ابن جبارة، وأحمد بن جميل، وأبي بكر الهروي وجماعة. وكان رجلاً صالحاً كثير الخير مواظباً على أفعال البر فقيهاً فاضلاً، درباً مناضلاً، يعرف الفرائض، ويغوص في بحرها على الغوامض، ويده فيها طولى، ويورد فيها مذاهب عجيبة ونقولاً. واشتغل عليه خلق كثير، وانتفع به جم غفير، وخرج له شمس الدين بن سعد مشيخة قرأها عليه شيخنا علم الدين البرزالي. ولم يزل على خير إلى أن لقي الله ربه، ووجد عنده ما أحبه. وتوفي رحمه تعالى في ثامن شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده تاسع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وست مئة. وحج مرة مع الشيخ شمس الدين، وكمل عليه كتاب المقنع بالمدينة، وحج بعد ذلك مرات. عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد بن محمد بن نصر الله الحموي، الشيخ الفقيه الإمام الزاهد ناصر الدين بن المغيزل الحموي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 كان مدرس العصرونية، وكان فقيهاً صالحاً، متواضعاً ديناً متعبداً. توفي رحمه الله تعالى في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة بحماة. عبد الرحمن بن أيوب تاج الدين مغسل الموتى. أقام يغسل الموتى نحواً من ثمانين سنة. وكان رحمه الله تعالى تعافه النفوس، وتنفر منه لملازمة التغسيل والنزول في الرموس، لأنه اتصف بالقساوة، وعدم المبالاة بأمر بينه وبين الحياة اتضاد وعداوة. رسم في وقت الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى بقتله بالمقارع فشفعوا فيه، فنقل حانوته من طريقه، وكان يمر عليه إذا توجه إلى دار الذهب، وكانت دكانهم في الكفتين، فنقلوا منها. وسئل قبل موته: كم غسلت من الأموات؟ فقال: ستين ألف ميت، وكان ذلك قبل موته بمدة. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الغاسل غسيلاً، وصبحته نائبات المنايا وكان لها رسيلاً. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وكان من أبناء الثمانين. عبد الرحمن بن أبي بكر بن أحمد ابن عمر بن أبي بكر بن عبد الله بن الشيخ الفقيه الفاضل تقي الدين أبو محمد المقدسي الحنبلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 كان فاضلاً في الفقه والحساب والفرائض والمساحة. وكان يوصف بالشجاعة والأمانة والهمة. روى عن ابن عبد الدائم جزء ابن الفرات. قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه بمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوفي في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة. عبد الرحمن بن أبي بكر ابن محمد بن محمود القاضي كمال الدين البسطامي الحلبي الحنفي. ناب في الحكم بالقاهرة، وكان إماماً بالقبة المنصورية، ومدرساً بالمدرسة الفارقانية. كان قد عجز عن الحركة ولزم بيته. وكان قد سمع من النجيب عبد اللطيف من الموافقات المخرجة له، وحدث عنه بأكثر سنن أبي داود. وكان يحفظ كتاب الهداية في الفقه. ونزل عن الفارقانية، والتربة الأشرفية لولده الفقيه سراج الدين عمر. عبد الرحمن بن الحسن الفقيه الإمام القدوة الرباني البركة نجم الدين اللخمي المصري القبابي، بالقاف والباء الموحدة وبعدها ألف وباء ثانية الحروف. والقباب قرية بناحية دمياط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 تفقه للإمام أحمد، وبرئ به طرف الزهد وكان أرمد، نزح من مصر بأهله، ونزل في حمص برحله، فانزوى بها، وخيم بين قبابها، وفتح حانوت فاخوري لأجل البلاغ، وتحصيل ما للعيال فيه مساغ، وكان ينبه المشتري على عيوب الآنية، ويجتهد في إعلامه خوفاً من أن يسقى من عين آنية. ثم إنه تحول إلى حماة، فعرف به صاحبها، فآواه وحماه، وأقبل عليه وكان يزوره، ويعد أن ذلك حبوره، فاشتهر أمره، وقصد بالزيارة مقره. ولم يزل على حاله إلى أن لقي باب قبره القبابي مفتوحاً، وقال روحه الطيب لملكيه: روحا. وتوفي رحمه الله تعالى بحماة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. وحمل على الرؤوس، وقبره الآن بحماة يزار. حدث بشيء يسير عن عيسى المطعم، كان قد سمع منه مسند الدارمي، وترك المدارس بمصر، وتوجه إلى حمص. وكانت له جنازة عظيمة إلى الغاية. عبد الرحمن بن رواحة ابن علي بن الحسين بن مظفر بن نصر بن رواحة، الشيخ الجليل المسند زين الدين بن أبي صالح الأنصاري الحموي الشافعي نزيل مدينة سيوط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 سمع من جده لأمه أبي القاسم بن رواحة عدة أجزاء منها: القناعة لابن مسروق، وسمع من صفية بنت الحبقبق جزءاً من معرفة الصحابة لابن مندة وهو الثامن، وللبغوي، وله إجازة من ابن روزبة والشيخ شهاب الدين السهروردي، وطائفة. وتفرد في زمانه، وتأخر عن أقرانه، واختفى ذكره مده، ثم إنه تنبه له من الطلبة عده، وحدث في آخره عمره وخاتمة أمره. ولم يزل على حاله إلى أن خرج روح ابن رواحة، ولقي من الله جودة وسماحة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. وكان كاتباً في سيوط. عبد الرحمن بن عبد الرحيم ابن عبد الرحمن بن إسماعيل بن رافع العثماني القوصي الكيزاني سديد الدين. سمع من مجد الدين القشيري، ومن ابنه الشيخ تقي الدين، ومن عبد العظيم، ومن ابن برطلة، ومن ابن عبد السلام، وغيرهم وحدث بقوص. سمع منه شرف الدين النصيبي وغيره. وحدث بالقاهرة، وقرأ الفقه على الشيخ مجد الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وكان خفيف الروح مطبوعاً، سليم الصدر متبوعاً، إذا انشرح أضحك الثكلى، وتحقق السامع أنه لا يرى له شكلاً، وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ينبسط معه، ويهش له إذا سمعه، وينشده، ويبره ويرفده. ولم يزل على حاله إلى أن وقع السديد في الكرب الشديد، وراح إلى المبدي المعيد. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده بقوص سنة أربع وعشرين وست مئة. وكان ابن دقيق العيد إذا رآه وخلا به أنشده: بين السديد والسداد سد ... كسد ذي القرنين أو أشد عبد الرحمن بن عبد اللطيف ابن محمد بن عبد الله بن وريد المكبر البزاز، المعروف بالفويرة، الحنبلي المقرئ المحدث. كانت له إجازة من ابن طبرزد، وابن سكينة، وأحمد بن الحسن العاقولي، والحسين بن شنيف، وعبد الملك بن مبارك قاضي الحريم، ومحمد بن هبة الله بن كامل الوكيل، وابن الأخضر، وأبي البقاء العكبري، وسليمان بن الموصلي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وعبد الله بن المبارك بن أحمد بن سكينة وغيرهم. وسمع من ابن صرما ومحمود بن مندة وعمر بن كرم، ويعيش بن مالك بن ريحان، وأبي القاسم بن علي بن يوسف بن أبي الكرم الحمامي، ومحمد بن الحسن بن أسلم الفرغاني، ومحمد بن أحمد بن صالح الجيلي، وزيد بن يحيى بن هبة، وأبي الحسن محمد بن محمد بن حرب النرسي. وقرأ القراءات على الفخر الموصلي صاحب يحيى بن سعدون القرطبي. وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان شيخ المستنصرية في عصره لعلو إسناده، قارب المئة سنة. قال شيخنا البرزالي: أجاز لي ولولدي محمد غير مرة، وهو آخر من روى بالإجازة عن ابن طبرزد، وابن سكينة. عبد الرحمن بن عبد المحسن ابن حسن بن ضرغام بن صمصام، العدل الفقيه المعمر، كمال الدين الكناني المصري المنشاوي الحنبلي. سمع من سبط السلفي، والصدر البكري، وطائفة. وسمع منه شيخنا الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 كان يخطب بالمنشأة التي لقناطر الأهرام، وصار عدلاً بالقاهرة دهراً، واختبل قبل موته بنحو من أربعة أشهر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشرين وسبع مئة. ومولده بالمنشأة سنة سبع وعشرين وست مئة. عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر ابن شهاب، الإمام المفتي الشيخ تقي الدين أبو الفرج الواسطي الشافعي، محدث واسط. قدم دمشق، وحج مرات، وسمع هو وشيخنا الذهبي، وأخذ عن المخزمي، وبنت جوهر، والموجودين. وكان ذا مروءة، ومحاسن مخبوءه، متواضعاً لمن يلقاه، إذا رأى شراً بصاحبه توقاه، كيساً خيراً، ذا باطن بالإخلاص نيراً. قال شيخنا شمس الدين: حصل كثيراً من مروياته، وحدثنا عنه ابن ثردة الواعظ، وصحب الشيخ عز الدين الفاروثي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة. عبد الرحمن بن عبد المولى بن إبراهيم الشيخ المسند أبو محمد اليلداني الصحراوي. سمع الكثير من جده تقي الدين، والرشيد العراقي، وابن خطيب القرافة، وشيخ الشيوخ الأنصاري، وأجاز له العلم السخاوي، والحافظ ضياء الدين، وآخرون. وتفرد بأشياء، وسمع منه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى كتاب الآثار للطحاوي، ووصله ورتب له مرتباً. وكان فقيراً، ثم عمي. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة خامس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة، وهو سبط اليلداني. عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد ابن هلال، فخر الدين أبو محمد الأزدي الدمشقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 كان عدلاً ابن عدل ابن عدل، كان منقطعاً عن الناس ملازماً لبيته وعياله، ليس له تعلق بغير ذلك. توفي رحمه الله تعالى في بستانه بالنيرب ظاهر دمشق، في صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة. وكان قد روى شيئاً من الحديث عن ابن أبي اليسر، وسمع من جماعة. وحج وحدث بطريق الحجاز. ومولده في المحرم سنة ثلاث وستين وست مئة بدمشق. عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن علي بن أحمد بن عقيل، الإمام الخطيب ضياء الدين بن الخطيب السلمي البعلبكي. سمع من أبي المجد القزويني كتاب شرح السنة، وكان خاتمة أصحابه، وسمع من ابن اللتي، وابن الصلاح. وكان خيراً متواضعاً، يخضب بالحمرة، وبقي في الخطابة بضعاً وخمسين سنة، وسمع منه شيخنا الذهبي. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث صفر سنة ثلاث وسبع مئة. ومولده سنة أربع عشرة وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 عبد الرحمن بن علي ابن إسماعيل بن يحيى بن البارزي، الصدر الكبير زين الدين بن علاء الدين المعروف بابن الولي الحموي. كان متعيناً في بلده، وله مكانة عند الملك المؤيد، وعند ولده الأفضل، وكان وكيل بيت المال بحماة، وبنى بها جامعاً، وصلى فيه. وتوفي رحمه الله تعالى خمس شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. عبد الرحمن بن عمر الصدر الرئيس شرف الدين بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي. كان قد ورد إلى دمشق متولياً نظر ديوان سلار عوضاً عن القاضي عماد الدين بن ريان. وكان شاباً عاقلاً، عنده سكون ومعرفة، وفيه رياسة وحشمة. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع صفر سنة تسع وسبع مئة. وكان قد حضر بعده على نظر الدواوين المذكورة عز الدين محمد بن كمال الدين عبد القادر بن منهال، وسيأتي ذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 عبد الرحمن بن عمر بن علي الهاشمي الجعفري الشنشتري، الطبيب نور الدين، الحكيم الطبيب. كان فاضلاً في علوم، وكتب المنسوب الذي أخجل الدر المنظوم، وبرع في الإنشاء والأدب وأيام الناس من العجم والعرب، واتصل بعلاء الدين صاحب الديوان، فأجله مع أصحابه في الإيوان، وحصل بالطب أموالاً، وتقدم في الدولة فما يدري أعادى الناس أم والى، ثم إنه أقبل على التصوف، ودخل في التصون ورحل عن التشوف والتسوف، وخاض تلك الغمرات، وترنم بذكر البان وليالي السمرات، وعمر خانقاه، جعل نفسه شيخها المشار إليه، وكبيرها الذي يفد الناس عليه، وعظم شأنه عند خربندا، وبقي دخله في العام سبعين ألفاً. ولم يزل على حاله إلى أن دخل النور من الأرض في ظلماتها، وذكر الناس به أيام الفضل وطيب أوقاتها. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وقد أسن. وكان قد قدم بغداد، ونزل بالنظامية، وتفقه ومهر في الطب، وتخرج بابن الصباغ، وابن القسيس، ونوه عز الدين الجعفري متولي البصرة بذكره، وهو والد الشيخ نظام الدين يحيى الذي كان شيخ الربوة بدمشق، وعاد إلى بغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 عبد الرحمن بن عمر بن صومع الدير قانوني الشيخ الصالح أبو محمد سبط الشيخ زين الدين بن عبد الدائم. سمع من ابن اللتي، والهمذاني، والحافظ ضياء الدين المقدسي وغيرهم. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت عليه مسند أبي بكر رضي الله عنه من أول مسند ابن حميد وغير ذلك. ضرب التتار رقبته بالصالحية، ولم يتفق دفنه في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. وكان صائماً عدة أيام. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. عبد الرحمن بن عمر بن الحسن ابن علي كمال الدين التيمي الأرمنتي، يعرف بالمشارف. كان جواداً كريماً، رئيساً حليماً، كثير المروه، غزير الفتوة، شاعراً أديباً ماهراً في فن الكتابة أريباً، تقلب في الخدم الديوانية، وتسلب ما في الجهات السلطانية. ولم يزل على حاله إلى أن فارق الدنيا، ونزح عن السفلى إلى العليا. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وسبع مئة. ومن شعره: حبست جفني على الأرق ... نغمات الورق في الورق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وانعطاف الغصن صيرني ... واختلاف النور في نسق هائماً لم أدر ما فعلت ... يد هذا البين بالأفق ومنه: ألحظك فيه سحر أم حسام ... وخدك فيه ورد أم ضرام وثغرك فيه در أم أقاح ... دماً في فيك شهد أم مدام خطرت فكاد في فرط التثني ... يغرد فوق عطفيك الحمام أياً من خص بالتعذيب قلبي ... أما في الوصل بعدك لي مرام قلت: شعر مقبول له ديباجة إلا أن في الأول فصلاً بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: صيرني وصيرني متعلق ب؟ هائم، ومثل هذا لا يجوز، وقوله في الثاني: خطرت. أحسن منه قول أبي طاهر حيدر البغدادي: خطرت وكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عمر الشيخ الفقيه المسند الأصيل مجد الدين ابن الشيخ المحدث مجد الدين بن الصفار الإسفرايني. سمع على كريمة، وابن الصلاح، والقرطبي، وإسماعيل بن ظفر، وعتيق السلماني، وشيخ الشيوخ ابن حموية، وعمر بن البراذعي، والصريفيني، وجماعة، وحدث بدمشق والقاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وكان رجلاً جيداً، قرأ كتاب التعجيز في الفقه وجود حفظه، وقرأ غيره. وكان ملازماً للاشتغال، طاهر اللسان، حسن الأخلاق قنوعاً. وكان فقيهاً في المدارس، وتولى مشيخة الخانقاه الشهابية. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. عبد الرحمن بن محمد الإمام القدوة العابد المتبع المذكر تاج الدين ابن الإمام أفضل الدين أبي حامد التبريزي الشافعي الواعظ، أحد من قام بالإنكار على رشيد الدولة وزير التتار، وطعن في نحلته وفلسفته، فما أقدم الرشيد عليه، وأعرض عنه لرفعة قدره في نفوس الناس من أهل بلد تبريز. كان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، سلفي الاعتقاد، ذا سكينة وإخلاص واجتهاد، وعظ ذكر، وعظ بناجذ الصدق وفكر، وكانت له في النفوس مهابة، وعنده خشوع وإنابة. وقدم دمشق بنية الحج بأبيه وبنيه وجماعته وذويه، وسار وحج وعاد مع الركب العراقي، وأعمل اليعملات طمعاً في التلاقي، فأدركه أجله في بغداد، فانقطع بذلك السير والإغذاذ. وكانت وفاته سنة تسع عشرة وسبع مئة، وله ثمان وخمسون سنة. عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المالكي، الشيخ شهاب الدين مدرس المستنصرية ببغداد، شيخ المالكية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 روى عن ذي الفقار محمد بن شرف العلوي مسند الشافعي بسماعه من ابن الخازن، وسمع من علي بن محمد الأسد آبادي، وعز الدين الفاروثي، والعماد بن الطبال، وسمع في الحجاز من زين الدين ابن المنير قصيدة. وأخذ عنه الشرف بن الكازروني، وأبو الخير الدهلي، وولده الفقيه شرف الدين أحمد الذي درس بعده، تخرج به الأصحاب. وتلقي لعظمته بالترحاب. وبعد صيته وسمعته. وأوقدت في المحافل شمعته. وكان صاحب أخلاق، ومواهب في الحال وإطلاق. وعنده تصور وتصديق وتصوف، وتطلع إلى الواردات وتشوف. يشهد السماع، ويكشف القناع، ويتواجد لطفاً، ويتعاهد ذلك ظرفاً، ولا يرعى ناموساً ولا يراعي ملبوساً. دخل اليمن، وفاز هناك بغلاء الثمن. وله مصنفات في المذهب وفي الدعوات، وله: عمدة السالك والناسك. وله غير ذلك. ولم يزل على حاله إلى أن هزم جيش ابن عسكر، وأصبح فريداً في قبره كأن لم يذكر. وتوفي رحمه الله تعالى اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ابن يوسف البعلبكي، ثم الدمشقي الحنبلي، الفقيه، المحدث، المفيد، فخر الدين أبو محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 سمع من الفخر في الخامسة، ومن ابن الواسطي، وابن القواس، ثم طلب بنفسه سنة خمس وسبع مئة، رحل وكتب، وتعب ودأب. وكان عين الطلبة، ومعين السامعين على بلوغ المأربة. وكان يقرأ على الكراسي، ويجلس في تلك المراسي، وفيه للعوام نفع، وبه في صدر الشيطان ضرب ودفع. وتميز ودرس الفقه على مذهبه، وتعب على تحصيل منصبه. ولم يزل على حاله إلى أن حلت به الداهية، وأصبحت عينه شاخصة ساهية. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثمانين وست مئة. عبد الرحمن بن محمد بن علي أبو زيد الأنصاري الأسدي القيرواني، المعمر، صاحب تاريخ القيروان. أخذ عن عبد الرحمن بن طلحة، وعبد السلام بن عبد الغالب الصوفي، وطائفة، وأجاز له ابن رواج، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وجماعة. وخرج له أربعين تساعيات بالإجازة. سمع منه محمد بن جابر الوادي آشي. وكن مؤرخ بلده ومحدثها، ومانح فوائدها ومورثها. عمل هذا التاريخ المختص ببلده، وما رئي مثل صبره على ذلك ولا جلده. ولم يزل على حاله إلى أن أدركه مكتوبه، وفرغ من عمره محسوبه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 عبد الرحمن بن محمد بن علي الفقيه النبيه، تاج الدين ابن الإمام العلامة فخر الدين المصري الشافعي، وسوف يأتي ذكره والده في مكانه من حرف الميم. حفظ المنهاج للنووي، ومنهاج البيضاوي في الأصول، وناب عن والده في تدريس العادلية الصغيرة وفي الرواحية. ونزل أبوه له عن تدريس الدولعية. وحج مع والده سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وجاور والده، وقدم هو صحبة الركب إلى دمشق. وكانت فيه هشاشة، وله بمن يلتقيه بشاشة. وفيه تعصب مع الناس، ومروة توجب له الإيناس. وعنده كرم وجود، واعتراف بالجميل من غير جحود. وفي كل قليل يعمل للفقهاء ولأصحابه دعوه، ويرزق بالثناء عليه فيها حظوه. ولم يزل على حاله إلى أن ذوى ينعه، وغاض من الحياة نبعه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. ومولده في عشرين شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة. كان في الحمام، فبصق دماً، فخرج من الحمام، وقد أيقن بالهلاك، ودار على أصحابه وودعهم، ويقول لكل واحد منهم: لا أوحش الله منكم، قد بصقت، وأنا ميت. وتأسف الناس على فقده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 ومما قلت أنا في ذلك الوقت: يا رحمتا لدمشق من طاعونها ... فالكل مغتبق به أو مصطبح كم هالك نفث الدما من حلقه ... أوما تراه بغير سكين ذبح عبد الرحمن بن محمد بن علي ابن عبد الواحد الصدر الفقيه، القاضي تقي الدين ابن الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني الشافعي. كان في حل المترجم آية، وفي حل الألغاز غاية. وما عدا ذلك فهو منه عري، ومما كان يعرفه والده بري. وخطه لا يرضى به تعيس أن يكون حظه، وذهنه في غير ما ذكرته لا يفهم به لفظه. على أنه كان ينظم ولكن خرزا، ويدع الطرس بذلك من خطه صعيداً جرزاً. ولكن كان سليم الطباع، جيد الصحبة لطيف الاجتماع. ينفعل لأصحابه، ويوافق كلاً منهم على آرائه. وجوده متدفق، وبذله لما في يده غير مترفه ولا مترفق. ولم يزل على حاله إلى أن فارق الأوطان، ونزح من الأعطان. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق. وطلبت أنا من الديار المصرية في أيام الأمير سيف الدين تنكز بوساطة القاضي شهاب الدين بن القيسراني في المرة الثانية، ولما جئت رتبت مكانه في ديوان الإنشاء. وكان هو رحمه الله قد توجه صحبة والده إلى الديار المصرية، ولما توفي والده في بلبيس، دخل هو القاهرة ودفن والده عند قبر الشافعي رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وكان والده قد عمل سيرة مليحة للسلطان الملك الناصر محمد، فدخل وقدمها، وساعده الناس إكراماً لأبيه، وعضده الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، فرسم له بتدريس المسرورية وبأن يكون في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، فدخل إليها وأهل دمشق إما أقاربه، أو تلاميذ والده، وإما أصحابه، فرعوه لذلك. وكان قاصراً في كل ما يعرفه والده، إلا في حل المترجم، كان يحله بلا فاصلة في أسرع ما يكون، وكذلك الألغاز حتى إنني كنت أتعجب له في ذلك من جود ذهنه في غير هذين، وتوقد ذهنه فيهما. فسبحان الله العظيم والده شيخ الإسلام وكل ما يعرفه كان فيه آية، وهذا ولده هكذا، مع ما تعب عليه والده واجتهد. عبد الرحمن بن أبي محمد ابن محمد بن سلطان القرامزي، الشيخ الصالح، بقية السلف، أبو محمد الحنبلي. كان شيخاً مشهوراً، يلازم الجامع أعواماً وشهوراً، كثير الصلوات، غزير الخلوات، له مريدون وأصحاب وخدام وأحباب. اشتغل بالعلم أولاً، وانقطع للعبادة والتلاوة، جعل ذلك معولاً، وللناس فيه عقيدة، ومحبة عتيدة. ولم يزل على حاله إلى أن لحق بالباري تعالى، وتواتر البكا عليه وتوالى. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة ببستانه بأرض المصيصة ظاهر دمشق. وصلى عليه بجامع جراح، ودفن بمقبرة الباب الصغير في تربة له جوار القلندرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 سمع من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشبي، والشيخ حسن الصقلي، والجمال البغدادي الحنبلي، والمجد بن عساكر، وابن هامل، والكنجي، وجماعة. وسمع بالقدس من الخطيب قطب الدين، وبالخليل من الشيخ عبد الدائم بن الزين بن عبد الدائم. وحدث بدمشق والقاهرة، وكان تلا بالروايات على الشيخ حسن الصقلي. عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل ابن محمد بن أحمد بن أبي الفتح، الخطيب عفيف الدين أبو محمد ابن الشيخ الخطيب المرداوي المقدسي خطيب مردا. ورد دمشق مع والده، وقرأ الحديث بنفسه سنة ثلاث وخمسين، وسمع الكثير على والده وابن عبد الدايم. وخطب مدة طويلة بالقرية المذكروة، وحدث قديماً. سمع منه ابن الخباز سنة خمس وستين وست مئة. قال شيخنا البرزالي: قرأ عليه بدمشق وبمردا. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وسبع مئة. ومولده تقريباً بمردا سنة ثلاثين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 عبد الرحمن بن محمود مجد الدين بن قرطاس القوصي الأديب. سمع الحديث بالقاهرة على أشياخ عصره، وقرأ النحو على العلامة أثير الدين، وتأدب على الطوفي الحنبلي والشيخ صدر الدين بن الوكيل والأمير مجير الدين عمر بن اللمطي. وتولى الخطابة بجامع الصارم بقوص. وكان يتصوف، ويجمع الدواوين وينتقي منها ويتصرف. وعلق تعاليق، وعمل منها مبتدآت وتغاليق. ووقف كتبه على المدرسة السابقية بقوص، وعلم الناس بذلك أنه صحيح غير منقوص. ولم يزل على حاله إلى أن خرق سهم المنية قرطاسه، وأخمد الموت أنفاسه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ورثى مجير الدين بن اللمطي بقصيدة أولها: كأس الحمام على الأنام يدور ... يسقى بها ذو الصحو والمخمور منها: يزهى به النعش الذي هو فوقه ... وكذاك يزهى بالأمير سرير عبد الرحمن بن مخلوف ابن عبد الرحمن بن مخلوق بن جماعة بن رجاء الربعي الإسكندري المالكي، الشيخ الإمام العالم العدل الخير المعمر المسند محيي الدين أبو القاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 سمع من جعفر الهمذاني، وعلي بن زيد التسارسي، سمع عليه الثالث من الثقفيات وسمع الدعاء للمحاملي على جعيفر، وسمع من ابن رواج. وسمع منه الواني، وشيخنا أبو الفتح بن سيد الناس، وابن ربيع المصغوني، وسمع منه شيخنا الذهبي خمس مجالس تعرف بالسلماسية. وكان له بصر بالشروط، وأمره في العدالة مضبوط، وله فيها تقدم وشهرة، وخبرة فيها قد جمل به دهره. وتفرد بأجزاء عالية سلفية رواها، وملك زمام أمرها وحواها، وشفى بروايتها من النفوس جواها. ولم يزل على حاله إلى أن فرغ من حياته وعاؤها، وأجيب في منيته دعاؤها. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. عبد الرحمن بن مسعود بن أحمد العلامة شيخ الحنابلة، شمس الدين ابن قاضي القضاة، سعد الدين الحارثي المصري الحنبلي. سمع من العز الحراني، وغازي، وبدمشق من الفخر علي وجماعة. وأخذ النحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والأصول عن ابن دقيق العيد. وحج غير مرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وكان يدرس بمدارس كبار، وإذا جرى في حلبة المناظرة لا يعلق الريح له بغبار. مع الوقار الجميل، والسمت الذي لبس له فيه عديل. وصدق اللهجة، وعفاف المهجة، والديانة التي رأس بها وتصدر، والصيانة التي تصبب بها نوه وتحدر. ولم يزل على حاله إلى أن نبش من الحارثي قبره، وعدم من صاحبه عليه صبره. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة سادس عشري ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة. عبد الرحمن بن موسى هو الملك أبو تاشفين، ابن الملك أبي حمو، بالحاء المهملة والميم المشددة والواو، ابن الملك أبي عمرو عثمان ابن السلطان يغمراسن بن عبد الواد الزناتي المغربي البربري صاحب تلمسان. كان شجاعاً حازماً، موقناً بالشر جازماً، جبروته زاد عن الحد حتى كذبه العقل وأباه، وناهيك بمن تجرأ وما اتجرى وقتل أباه. وكان قد نظر في فنون العلم مدة، وأنفق فيها من عمره عدة، وتفقه على ابني الإمام، وفدت سيرته ونسي ورد الحمام. ويحكى عنه في دولته قبائح، أما الراوي لها فكاتم وأما التاريخ لها فبائح. قصده سلطان المغرب أبو الحسن المريني وحاصره مدة طويلة وأنشأ في المنزلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 مدينة كبيرة، وطال الأمر إلى شهر رمضان، فبرز أبو تاشفين في أبطاله لكبسه ومكيدة يعملها فانعكست عليه، وركب جيش أبي الحسن وحملوا حتى دخلوا من باب تلمسان وقتلوه على ظهر جواده في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وكان الحصار نحو سنتين وأكثر. وطيف برأسه في المغرب، ثم دفن مع جسده عند آبائه بتلمسان. وكان جد السلطان أبي الحسن قد نازل تلمسان أيضاً سنوات ومات وهو يحاصرها سنة بضع وسبع مئة. عبد الرحمن بن موسى بن عمر تاج الدين الناسخ، عرف بابن المناديلي، ووالده بدر الدين بن أبي الفضل. كان ينادي يوم الجمعة على الكتب، ويأخذ رزقه فيها من بني الخطية السلب، ونسخ كثيراً من الدواوين الصغيرة الرائقة، والأشعار التي بالغزل والنسيب لائقة. وقطعت في غير جناية يمينه، وبقي رحمة لا يجد من يعينه. وكتب بعد قليل بشماله، وقاتل على ذلك لأن الخط كان رأس ماله. وكان يعتذر في آخر الكتاب أنه بيده اليسرى، ليعذره من كان بذكره مغرى. وكان خطه أبهج من خميلة، وأرهج من الطلعة الجميلة. ولم يزل على حاله إلى أن غص بالشجى، ولم يجد من يد الموت مخرجاً. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ووصل إلى السبعين. وكان قد وصل إليه القباري واليعفوري، وكتب لهما كتاباً، وكان ذلك مرافعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 في حق الأفرم، فأمسكوا، وأفتى الشيخ زين الدين الفارقي بقطع يديه، وتوسيط الآخرين، فقطعت يده. وقد تقدم ذكر هذه الواقعة في ترجمة الشيخ أحمد القباري في آخر الأحمدين فتكشف من هناك. ولما قطعت يده قال للأفرم: يا خوند قطعت يدي لأجل درهمين، هذان دفعا إلي درهمين وقالا: اكتب هذا الكتاب، فرق له الأفرم، وأعطاه جملة دراهم، وأظنه رتب له شيئاً، وكان التاج المذكور مغرى بكتابة ديوان ابن الفارض والحاجري وغيره من هذه الدواوين الصغار، ويكتب كثيراً بكتاب الدرة المضية في اللغة التركية، وهذه الكتب موجودة بين ظهراني الناس، وخطه معروف. وكان يقول: عمري ما وقع في أذني ألذ من قول الأفرم: وهذا اقطعوا يده، لأنه رسم قبل ذلك بتوسيط القباري واليعفوري المذكورين. وكان قد أسن، ووقعت أسنانه، وكان يمشي وفي جنبه جرن خشب، ويدق، حتى يدق الخيارة والقيثاءة والتفاحة والسفرجلة والكمثري وغير ذلك. ووجد بعد موته سماعه مشيخة العفيف محمد بن زكريا بن رحمة. عبد الرحمن بن نصر ابن عبيد المفتي الإمام زين الدين الفدمي السوادي الصالحي الحنفي. سمع المرسي، وسبط بن الجوزي، وخطيب مردا، وإبراهيم البطائحي، والرشيد العراقي، واليلداني، وعدة. كان له في الفقه بصر حديد، وفي الشروط نظر ما لخصمه عنه محيد. شهد تحت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الساعات، وأنفق عمره في الطاعات، إلى أن عجز وانقطع، ولمع برق ضعفه وسطع. وكان يعبر الرؤيا، ويأتي في كلامه بما هو الغاية العليا. ولم يزل إلى أن جف عوده، وزمجرت بالنزاع رعوده. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وله ست وثمانون سنة. وانقطع بمدرسة الأسدية لما عجز عن التوجه إلى مكان الشهود. عبد الرحمن بن يوسف ابن محمد الشريف الخطيب الإمام العالم، الزاهد الفاضل جمال الدين أبو البقاء الحراني، خطيب المسجد الأقصى. كان صاحب فضائل وفنون، ولي الخطابة بالأقصى بعد قاضي القضاة، بدر الدين بن جماعة. توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبع مئة. عبد الرحيم بن إبراهيم ابن إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي، تاج الدين أبو الفضل. سمع من جده أبي محمد كثيراً، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بدمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله قاضي القضاة نجم الدين الجهني البارزي الشافعي الحنفي، حفيد قاضي القضاة شيخ الإسلام شرف الدين، الحاكم بحماة، وسيأتي ذكر جده هبة الله في حرف الهاء في مكانه. توفى القضاء نجم الدين هذا بحماة لما ترك قاضي القضاة جده المنصب وقد أضر. وقد كان إبراهيم والده توفي في حياة والده شرف الدين. ولم يكن في عصر نجم الدين هذا أحد من قضاة القضاة أقدم منه في هذا المنصب شاماً ومصراً مدة تزيد على الثلاثين سنة. وكان ساكناً خيراً قائماً بوظيفته على مات يجب. ورأيته بحماة غير مرة. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة. عبد الرحيم بن أبي بكر مجد الدين الجزري الفقيه النحوي الصوفي. كان قائماً بمعرفة النحو، هائماً في محبة أدته سكرتها إلى عدم الصحو. وكانت له حلقة اشتغال، يجالس إليه فيها من هو في محبته متغال. وفيه مع ذلك عشرة وانطباع زائد، وكيس لا يحتاج معه في المحبة إلى رائد. ولكنه ابتلي بحب شاب شيب فوده، وحسن إلى الهلاك قوده، فكان إذا رآه ترعد فرائضه عشقاً وصبابة، ويود لو نال من عظيم وصاله صبابة. فقويت عليه سوداؤه، وتحكم منها فيه داؤه. فأغلق الخانقاه الشهابية عليه، وطلع إلى سطحها وألقى بنفسه إلى الطريق فمات، وأنزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 بنفسه من أعاديه الشمات. وكان يوم جمعة، وقت الصلاة، ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وست مئة. عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن نصر الموصلي، الشيخ الإمام نجم الدين بن الشحام الشافعي. أكثر الأسفار، ومطالعة الأسفار. واشتغل ببغداد وتميز، وانزوى إلى سراي وتحيز. وأقام بها مدة، وأنفق فيها من العمر جده. وقدم دمشق سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وولي مشيخة القصر. ودرس بالجاروخية والظاهرية البرانية. ولم يزل إلى أن ذاب بالأسقام شحمه، وسبك في القبر لحمه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. وله ثمان وسبعون سنة. وكان فقيهاً طبيباً. وكان قد ولي تدريس الظاهرية البرانية، ثم أضيف إليه تدريس الجاروخية ومشيخة خانقاه القصر. عبد الرحيم بن عبد العليم الدندري، بدال مهملة أولى ودال ثانية بينهما نون وبعد الدال الثانية راء، المعروف بالفصيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 مدح الأكابر، واستجدى بشعره، وسامحهم فيه بترخيص سعره. وكان خفيف الروح، قانعاً بما تيسر من الفتوح. ولم يزل على حاله إلى أن خرس الفصيح، وبكاه صاحبه بجفنه القريح. قال الفاضل كما الدين الأدفوي: توفي سنة أربع وسبع مئة ظناً. وأورد له في تاريخ الصعيد قصيدة مدح بها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، منها: أيا سيداً فاق كل البشر ... ومن علمه في الوجود انتشر ويا بحر علم غدا فيضه ... لوارده من نفيس الدرر أيادي ندى عمنا جودها ... كما عم في الأرض جود المطر وفي روض أيامك المونقات ... أنزه طرف المنى بالنظر عبد الرحيم بن عبد المنعم ابن عمر بن عثمان، الإمام المفتي الزاهد، جمال الدين، أبو محمد الباجربقي، بباء موحدة وبعد الألف جيم وراء وباء أخرى وقاف، الموصلي الشافعي. شيخ فقيه محقق، نبيه مدقق، نقال، عارف بالوجود والطرق والأقوال. له حلقة اشتغال تحت قبة النسر إلى جانب البرادة، كل فاضل قد جعل إليها ترداده. اشتغل بالموصل وأفاد، وبدأ بالفضل في دمشق وأعاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وكان طويلاً، عليه مهابة، ساكناً كثير الرجوع والإنابة، كثير الصلاة والذكر، والخشوع والفكر. ولم يزل على حاله إلى أن بلغ عمره حده، وجعل اللاحد على الأرض خده. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شوال. وكان قد خطب الجامع الأموي نيابة، ودرس بالغزالية نيابة. وولي تدريس الفتحية، وحدث ب؟ جامع الأصول لابن الأثير عن واحد عن المصنف. وله نظم ونثر ووعظ. وقد نظم كتاب التعجيز فعمله برموز. وهو والد الشيخ محمد الآتي ذكره في مكانه، إن شاء الله تعالى، صاحب تلك العجائب. ومن شعره: .... عبد الرحيم بن علي ابن هبة الله الأسنائي الصوفي. كان من أصحاب الحسن بن الشيخ عبد الرحيم القنائي. وكان نحوياً شاعراً، لغوياً ماهراً. جمع في النحو كتاباً سماها المفيد، وقال: " هذا ما لدي عتيد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 ولم يزل إلى أن نحاه البلى، وجر ذيله إليه مسبلاً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة. ومن شعره: أهاجك برق بالمدينة يلمع ... وبيض يعاليل سوار وطلع تراهن يهمين الحيا فكأنه ... على وجنات الأرض در مرصع كأن عراها عندما مسها الحيا ... سحيقة مسك نشره يتضوع على جنبات الغدر زهر تفتقت ... لها في شعاع الشمس لون منوع عبد الرحيم بن علي بن الحسن ابن الفرات عز الدين الحنفي. اجتهد في مذهبه واشتغل، ودخل في مضائقه ووغل، وبرع في الفقه وأفتى، وسلك طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا " وانتهت إليه رياسة الإفتاء والإشغال، ودرس وأعاد وأتى بكل نفيس غال. وكان قد سمع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأبي عبد الله بن القماح، وعبد الله الصنهاجي. وتفقه على محيي الدين الدمشقي، وقاضي القضاة شمس الدين الحريري، والشيخ علاء الدين القونوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 ودرس بالحسامية بالقاهرة وبتربة الحريري بالقرافة، وأعاد بالمدرسة المنصورية وغيرها، وناب في الحكم بمصر. وبطل ذاك إلى أن أصبح ابن الفرات رفاتاً، وأمسى شخصه تحت الأرض كفاتاً. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في المدرسة الصالحية بين القصرين سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبع مئة. عبد الرحيم بن محمد ابن يوسف السمهودي، الخطيب بسمهود. كان فقيهاً شافعياً، أديباً نحوياً. رحل إلى دمشق، واجتمع بمحيي الدين النووي وحفظ منهاجه، وجعل إلى هذا الكتاب معاده ومعاجه. وكان لضيق رزقه. وما هو عليه من حذقه يتحيل على ما يتقوت به بأنواع من الحيل، ويقول إذا جاءه طوفان الحرمان: " سآوي إلى جبل " وكان يقرئ النحو والعروض والأدب بسمهود، ويأتي على ذلك بما هو من الشواهد مشهور ومشهود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 ولم يزل على حاله إلى أن رقا الخطيب منبر نعشه، وفسد ولم يعط جناية أرشه. وتوفي رحمه الله تعالى بسمهود سنة عشرين وسبع مئة. وكان قد قرأ الفقه على الزكي عبد الله السيرناوي. وأقام بالقاهرة مدة. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي رحمه الله أن كان بالقاهرة تحصل له ضائقه، وتلجئه الحاجة والفاقة، فيأخذ ورقاً ويكتب فيه قلفطيريات ويعتقه ويبيعه بشيء له صورة. قال: وحكي لي ذلك أيضاً شيخنا أثير الدين وكان صاحبه. وكان ظريفاً لطيفاً جارياً على مذهب أهل الأدب في حب الشراب والشباب والطربق، وكان ضيق الخلق، قليل الرزق، اجتمعت به كثيراً. وله خطب ورسائل، ومن شعره: يا مالكي ذلي لحسنك شافعي ... فاشفع هديت الحسن بالإحسان من قبل أن يأتي ابن حنبل آخذاً ... من وجنتيك شقائق النعمان ومنه: وافي نظامك فيه كل بديعة ... أخذت من الحسن البديع نصيباً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فلقد ملكت من البلاغة سرها ... وحويت من فن البديع غريبا ونصبت من بيض الطروس منابراً ... أضحى يراعك فوقهن خطيبا تبدي ضروب محاسن لسنا نرى ... بين الورى يوماً لهن ضريبا ومنه: وروض حللنا من حماه خمائلاً ... ينبه منه النشر غير نبيه تغنت لنا الأطيار من كل جانب ... بمرتجل نختاره وبديه وأضحى لسان الزهر فوق غصونها ... يخبر بالسر الذي هو فيه ومنه: كأنما البحر إذ مر النسيم به ... والموج يصعد فيه وهو منحدر بيضاء في أزرق تمشي على عجل ... وطي أعكانها يبدو ويستتر ومنه: قال لي من هويت شبه قوامي ... وقد اهتز بالجمال دلالا قلت: غصن على كثيب مهيل ... صافحته النسيم فمالا ومنه قصيدة يمدح بها المظفر صاحب اليمن: هم القصد إن حلوا بنعمان أو ساروا ... وإن عدلوا في مهجة الصب أو جاروا تعشقتهم لا الوصل أرجو ولا الجفا ... أخاف وأهل الحب في الحب أطوار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وآثرتهم بالروح وهي حبيبة ... إلي، وفي أهل المحبة إيثار وهل سحر ولى بنعمان عائد ... فكل ليالينا بنعمان أسحار عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم ابن علي تقي الدين البمباني - بالباء الموحدة. وبعدها ميم وباء أخرى، وألف بعدها، ونون - وبمبان قرية بأسوان. قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي. وكان فاضلاً أديباً، نحوياً أريباً، خفيفاً ظريفاً، متعاً لطيفا، ينظم البلاليق، ويجيد الاختيارات والتعاليق. ولم يزل على حاله إلى أن بلغ غايته، ونكس الموت رايته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس أو ست وسبع مئة. ومن نظمه يمدح طقصبا والي قوص: لعلا جنابك كل أمر يدفع ... وإليك حقاً كل خطب يرفع ومنها: ما كان يفعله الشجاعي سالفاً ... في مصر في أسوان جهراً يصنع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وضاعت له سكين فوجدها مع ابن المصوص الأسنائي، فقال فيه: إنك قذارى في اللصوص ... يا بن المصوص خنيجري كان في الطبق ومنتصر في القول صدق وأنت خذته بالسبق ... لعب الفصوص عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحمن ابن عمر بن أحمد القزويني الأصل، الدمشقي الدار، تاج الدين، خطيب الجامع الأموي، ابن قاضي القضاة جلال الدين تقدم ذكر أخيه جمال الدين عبد الله، وسيأتي ذكر أخيه الخطيب بدر الدين محمد وذكر والده وذكر عمه وجماعة من بيتهم إن شاء الله تعالى. كان أعلم، وهو بمخارج الحروف من إخوته أعلم. فكنت أعجب من ألفاظه الفصيحة، وخطابته المليحة. وكان يخطب بلحن، ويورد خطبته بلا لحن. ويقرأ طيباً في محرابه، ويأتي من نعمة النغمة بما هو أحرى به. وكان يتعاجم في كلامه تشبهاً بأبيه، دون إخوته وذويه. وكان العوام يحبونه، ويؤثرونه على من سواه ويختارونه. وعزل من الخطابة، ثم أعيد إليها رحمة له وإطابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 ولم يزل على حاله إلى أن صلي عليه، وامتدت يد البلى إليه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء، ثامن ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً على العادة. وخرج جنازته ومعها خمس جنائز من بيته فيما أظن أو أكثر، لأنه مات منهم في جمعة جماعة. لما مات أخوه الخطيب بدر الدين محمد، ولي الأمير علاء الدين ألطنبغا الخطابة للعلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، وباشر الخطابة إلى أن ملك الفخري دمشق، فولي الخطابة لتاج الدين هذا. وكتبت له توقيعاً من رأس القلم ارتجالاً، جاء أوله: " الحمد لله الذي رفع تاج الدين على رأس المنابر، وأنطق بأوصافه ألسنة الأقلام في أفواه المحابر.. ". ولما طلب قاضي القضاة إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل تولى الخطابة من هناك، وكان يطلع على المنبر ويجلس قبل الخطبة ويبكي ويقول: هذا السبكي قد أخذ الخطابة وقطع رزقنا، فكان يرق العوام له، ويبكون معه. ولما جاء قاضي القضاة إلى دمشق نزل له عنها، فاستمر تاج الدين يخطب بالجامع الأموي من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن توفي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وكان خطيب جامع بشتاك الذي على بركة الفيل، وهو أول من خطب به، وكان معه بدمشق تدريس المدرسة الشامية الجوانية وتصدير بالجامع الأموي. وقرأ كثيراً من العربية على الشيخ الإمام بهاء الدين بن عقيل وكثيراً من الأصول على العلامة الشيخ شمس الدين الأصبهاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 ولم يكن له يد في شيء من العلوم، وتأسف الناس لموته، وكانت جنازته حافلة، ولم يبلغ الأربعين. عبد الرحيم بن علي ابن حسين بن مناع المعمر الصالح زين الدين التكريتي الدمشقي التاجر. حدث بالصحيح غير مرة عن ابن عبد الدائم. وكان مهيباً نبيلاً، منور الشيبة، كريم الأخلاق أقعد في أواخر عمره. وتوفي رحمه الله تعالى بالصالحية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ومولده في شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة. عبد الرحيم بن يحيى ابن عبد الرحيم بن المفرح بن المسلمة، الأموي، الشيخ الفقير أبو محمد بن المحدث الدمشقي الكوافي. حضر السخاوي، وعتيقاً السلماني، وعمر بن البراذعي، وسمع كثيراً من عم أبيه الرشيد بن مسلمة، والسديد بن علان، وعدة. وحدث وكتب في الإجازات في أيام ابن أبي اليسر، وحفظ القرآن. وكان يعمل الكوافي، ويقرأ على الترب. وخرج له شيخنا علم الدين البرزالي مشيخة سمعها منه شيخنا الذهبي والجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. عبد الرزاق بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن الصابوني، الشيخ الإمام المحدث المؤرخ الإخباري النسابة الفيلسوف الأديب، كمال الدين الشيباني بن الفوطي البغدادي، صاحب التصانيف. أفرد له شيخنا الذهبي ترجمة تخصه في جزء، ذكر أنه من ولد معن بن زائدة الأمير. اشتغل في علوم الأوائل، وحظي منها بكل طائل. وعبث بالنظم وبالنثر وتأدب، وأتقن ذاك وتهذب. ثم إنه صنف التواريخ المفيدة، وكانت له يد في ترصيع التراجم مجيدة، وذهنه في جميع ذلك سيال، وإلى كل فن ميال. وأما خطه فلم أر أقوى منه ولا أبرع، ولا أسرى ولا أسرع، خط فائق، رائع رائق، بديع إلى الغاية في تعليقه، لو أنه ريح لسابق الرياح في يومه إلى تخليقه، وكان يكتب في كل يوم أربع كراريس، ويأتي بها أنقش وأنفس من ذنب الطواويس. أخبرني من رآه قال: ينام ويضع ظهره على الأرض ويكتب ويداه إلى جهة السقف. ولم أر له بعد هذا خطاً إلا وهو عجب، وقد أجاز لشيخنا الذهبي مروياته. ولم يزل على حاله إلى أن فرط أمر الفوطي، وديس خده تحت الأرض ووطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث المحرم سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. كان قد أسر في كائنة بغداد، ثم إنه صار إلى النصير الطوسي سنة ستين، واشتغل عليه بعلوم الأوائل، وباشر كتب خزانة الرصد بمراغة أزيد من عشرة أعوام، وهي على ما قيل أربع مئة ألف مصنف، والأصح أن تكون أربع مئة ألف مجلد. ولهج بالتاريخ، واطلع على كتب نفيسة. ثم إنه تحول إلى بغداد وصار خازن كتب المستنصرية، فأكب على التصنيف، وسود تاريخاً كبيراً جداً، وآخر دونه، سماه: مجمع الآداب في معجم الأسماء على الألقاب، في خمسين مجلداً، المجلد عشرون كراساً. وألف كتاب: درر الأصداف في غرر الأوصاف مرتب على وضع الوجود من المبدأ إلى المعاد، يكون عشرين مجلداً، وكتاب: تلقيح الأفهام في المختلف والمؤتلف مجدولاً، والتاريخ على الحوادث إلى خراب بغداد. والدرر الناصعة في شعر المئة السابعة. قال: ومشايخي الذي أروي عنهم ينيفون على الخمس مئة شيخ، منهم: الصاحب محيي الدين بن الجوزي، والأمير مبارك بن المستعصم بالله حدثنا عن أبيه بمراغة، وحلف ولدين. وله شعر كثير بالعربي وبالعجمي. عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الله ابن الزبير، الخطيب، تقي الدين ابن الشيخ العلامة شمس الدين أحمد الخابوري، خطيب حلب وابن خطيبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 توفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة، في أوائلها. وولي الخطابة بعد قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي المعروف بالدمشقي. عبد الرزاق بن علي ابن سلمي بن ربيعة الفقيه، المحصل جمال الدين بن القاضي ضياء الدين الشافعي. كان اشتغل وتعب، وحفظ الوجيز وحفظ كتابين في الطب، وأقام مدة بالباذرائية. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة. عبد السلام بن محمد ابن مزروع بن أحمد، الإمام المحدث القدوة، عفيف الدين أبو محمد البصري الحنبلي. حدث عن المؤتمن ابن قميرة، وفضل الله الجيلي، وجاور بالمدينة أكثر عمره، خمسين سنة، وحج أربعين حجة منها متوالية. وكان من خيار الشيوخ. سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي، وله نظم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. وكانت وفاته بالمدينة الشريفة. وقرأ عليه علم الدين البرزالي مشيخة ابن شاذان الكبرى بدمشق ثم قرأها عليه بالحجاز في رابغ وخليص، وقرأ عليه بالمدينة ثلاثة أجزاء، وهي: الخامس من حديث الحمامي، والثاني والثالث من حديث أبي الأحوص. الألقاب والنسب ابن عبد السلام: خطيب العقيبة ناصر الدين أحمد بن يحيى. ومحيي الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. عبد السيد بن إسحاق بن يحيى الحكيم الفاضل بهاء الدين ابن المهذب، الطبيب الكحال. كان من قبل ديان اليهود، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وتعلم القرآن وجالس العلماء. وكان طبيباً فاضلاً. توفي رحمه الله تعالى في سادس جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 عبد الصمد بن عبد اللطيف ابن محمد بن محمد بن نصر الله، الصدر، الرئيس، الأصيل، بهاء الدين أبو القاسم بن الشيخ الخطيب بدر الدين بن المغيزل الحموي. كان رجلاً جيداً، له ثروة وتجارة، وقد سمع على جماعة، وحدث ببلده وبطريق الحجاز وولي الوزارة بحماة، ثم تركها. ولما مات أخوه الخطيب معين الدين ولي الخطابة بحماة مكانه، فبقي سنة ومات في ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. الألقاب والنسب ابن عبد الظاهر: كمال الدين علي بن أحمد والقاضي علاء الدين علي بن محمد. عبد العزيز بن أحمد ابن عثمان، الإمام البارع، الرئيس عماد الدين، أبو العز الهكاري المصري الشافعي قاضي المحلة، ويعرف بابن خطيب الأشمونين. كان من الرؤساء النبلاء، والفقهاء والعلماء، له معرفة وفهم، وحكم ينفذ نفوذ السهم، مع رياسة وسؤدد، وتؤدة وقعدد. له اعتناء بالحديث واهتمام، وله تصانيف مليحة الترتيب والنظام. وكان يتواضع مع رفعته، ويتدانى على سعة رقعته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 حج مرات، وفاز بما شاء من مبرات. وذكر لقضاء دمشق بعد ابن صصرى، ولم يرض بها لسكنه قصراً. ولم يزل على حاله إلى أن ولي قاضي المحلة محلة الأموات، وأصبح وقد خلت بأهله المثلات. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان قد سمع من عبد الصمد بن عساكر، وغيره. وله تصانيف وأدب وشعر، ومن تصانيفه الكلام على حديث الأعرابي الذي واقع أهله في شهر رمضان، واستنبط منه ألف حكمة. عبد العزيز بن أحمد بن شيخ السلامية القاضي الرئيس فخر الدين. باشر الحسبة بدمشق في يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى تسع عشرة وسبع مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن الحداد، وولي ابن الحداد نظر الجامع الأموي، ولبسا تشريفيهما. عبد العزيز بن إدريس ابن محمد بن أبي الفرج المفرح بن إدريس، الشيخ عز الدين أبو محمد، وأبو بكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 أيضاً ابن الشيخ الإمام المحدث تقي الدين بن مزيز التنوخي الحموي، أخو الشيخ تاج الدين أحمد، وقد تقدم ذكره في الأحمدين. روى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز، وسمع بالقاهرة من إسماعيل بن عزون عدة أجزاء تفرد ببعضها في الشام. وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بحماة. ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة. ولما توفي صلى عليه أخوه الشيخ تاج الدين، ودفن بمقبرة الباب القبلي ظاهر حماة. عبد العزيز بن عبد الحق ابن شعبان بن علي بن الشياح عز الدين أبو محمد الأنصاري الدمشقي. روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي. توفي بقرية يبرود، وحمل على الأعناق إلى تربة والده، وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. عبد العزيز بن سرايا ابن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العز بن سرايا بن باقي بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 عبد الله بن العريض، الإمام العلامة، البليغ، المفوه، الفاضل، الناظم، الناثر، شاعر عصرنا على الإطلاق، صفي الدين الطائي السنبسي الحلي. شاعر أصبح به راجح الحلي ناقصاً، وكان سابقاً فأصبح على عقبه ناكصاً. أجاد القصائد المطولة والمقاطيع، وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، فما قدر زهر الأرض في الربيع؟ تطربك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعلولة، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة أو سيوف مسلولة. يغوص على المعاني ويستخرج جواهرها، ويصعد بمخيلته الصحيحة إلى السماء ويلتقط زواهرها. كلامه السحر إلا أنه خلال، ولفظه على القلب الظمآن ألذ من الماء الزلال. تلعب بالمعاني كما يتلعب النسيم بالأغصان اللدان، وولد بعضها من بعض كما يتولد الضرج من الخجل في خدود الولدان، مع بديع ما سمع بمثله البديع، وترصيع ما ألم به الصريع. وشعره مع حلاوة الديباجة، وطلاوة التركيب التي ما فرحت بها طلاء الدن ولا سلافة الزجاجة، لا يخلو من نكت أدبية ترقص المناكب، وفوائد علمية من كل فن ينقص الكواكب. عالماً بكل ما يقول، عارفاً بغرائب النقول. أجاد فنون النظم غير القريض، وأتى في الجميع بما هو شفاء القلب المريض، لأنه نظم القريض فبلغ فيه الغاية، وحمل قدامة جماعة من فحول الأقدمين الراية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وكذلك هو في الموشحات والأزجال والمكفرات والبلاليق والقرقيات، والدوبيت والمواليا، والكان وكان والقوما، ليس له في كل ذلك نظير يجاريه، ولا يعارضه ولا يباريه. وأما الشعر فجود فنونه، وصاد من بره ضبه ومن بحره نونه، لأنه أبدع في مديحه وهجوه، ورثائه وأغزاله، وأوصافه وتشبيهاته، وطردياته وحماسته، وحكمه وأمثاله، لم ينحط في شيء منها عن الذروة، ولم يخرج في مشاعرها عن الصفا والمروة. وأما نثره فهو طبقة وسطى، وترسله يحتاج في ترويجه إلى أن يعلق في أذنه قرطاً. وعلى الجملة فإنه: تملل الشعر حتى ما لذي أدب ... في الناس شين ولا غين ولا راء وكان يسافر ويتجر، ويعف في بعض الأحيان عن الاجتداء ويزدجر. وكان منقطعاً إلى الملوك الأرتقية أصحاب ماردين، وشهر مدائحهم في الصادرين والواردين. وكانت فيه شجاعة وإقدام، وقوة جنان وثبوت أقدام. ورد إلى مصر وامتدح السلطان الملك الناصر، وبز بمديحه كل متقدم ومعاصر. وعاد إلى البلاد الشرقية، إلا أنه كان شيعياً، وليس هذا الأمر في الحلة بدعياً. وكان يتردد إلى حلب وحماة ودمشق، ويعد إلى ماردين، ويعرج على بغداد. ولم يزل على حاله إلى أن كدر الموت على الصفي عيشه، وأنساه خرقه وطيشه. وتوفي رحمه الله تعالى تخميناً سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ومولده يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وست مئة. وقلت أنا فيه: إن فن الشعر نادى ... في جميع الأدباء أحسن الله تعالى ... في الصفي الحلي عزائي وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباته: يا سائلي عن رتبة الحلي في ... نظم القريض وراضياً بي أحكم للشعر حليان ذلك راجح ... ذهب الزمان به وهذا قيم وكان قد دخل إلى مصر في سنة ست وعشرين وسبع مئة تقريباً، وأظنه وردها مرتين، ومدح القاضي علاء الدين بن الأثير بعدة مدائح، وأقبل عليه كثيراً، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر، وقدم مديحه، واجتمع بالشيخ فتح الدين، وبأثير الدين، وبمشايخ ذلك العصر، ولما دخلت بعده، وجدتهم يثنون عليه. وأما الصدر المعظم شمس الدين عبد اللطيف الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكان يظن بل يعتقد أنه ما نظم الشعر أحد مثله لا في المتقدمين ولا في المتأخرين مطلقاً. واجتمعت أنا به في الباب وبزاعة من بلاد حلب في مستهل ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، كنا في الصيد مع الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، وأجاز لي بخطه جميع ماله من نظم ونثر وتأليف مما سمعته منه، وما لم أسمعه، وما لعله يتفق له بعد ذلك التاريخ على أحد الرائين، وما يجوز له أن يرويه سماعاً وأجازة ومناولة ووجاده بشرطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وأنشدني من لفظه لنفسه في التاريخ والمكان: للترك مالي ترك ... مادين حبي شرك حواجب وعيون ... لها بقلبي فتك كالقوس يصمي وهذي ... تشكي المحب ويشكو وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه: وإذا العداة أرتك فر ... ط مذلة فإليك عنها وإذا الذئاب استنعجت ... لك مرة فحذار منها وأنشدني من لفظه لنفسه: لا غرو أن يصلى الفؤاد بذكركم ... ناراً تؤججها يد التذكار قلبي إذا غبتم، يصور شخصكم ... فيه، وكل مصور في النار وأنشدني من لفظه لنفسه: يقبل الأرض عبد تحت ظلكم ... عليكم، بعد فضل الله، يعتمد ما دار مية من أسنى مطالبه ... يوماً وأنتم له العلياء والسند وأنشدني من لفظه لنفسه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض أخشى عليه بأن يصاب بأسهمي ... مما يسابقني إلى الأغراض وأنشدني من لفظه لنفسه: وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلاً باستراق السمع من زحل ركبت منه مطاليل تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل قلت: ولم يطل اجتماعنا به، لأنه كان قد قصد الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله، لأنه كان قد سرقت له عملة بماردين، وبلغه أن اللص من أهل صيدنايا، وسأل كتابه إلى متولي البريد بدمشق بأمساك غريمه. وقوله: " كالقوس ... " الأبيات، إشارة إلى قول ابن الرومي: تشكي المحب وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وقوله: " وإذا الذئاب استنعجت ... " البيت، يريد بذلك قول القائل: وإذا الذئاب استنعجت لك مرة ... فحذار منها أن تعود ذئاب والذئب أخبث ما يكون إذا اكتسى ... من جلد أولاد النعاج ثيابا وديوانه يدخل في مجلدين كبار أو ثلاثة صغار، وكله منتخب. وله قصيدة ميمية في مديح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عارض بها البردة، أتى فيها بما يزيد على المئة والأربعين نوعاً من البديع، وشرحها وسماها: نتائج الألمعية في شرح الكافية البديعية. وجود في هذه القصيدة ما شاء. وله مدائح ببني أرتق على حروف المعجم، مجلد. وله كتاب: العاطل الحالي والمرخص الغالي. وقال لي إنه وضع شيئاً في الجناس، ولم أره إلى الآن. وقيل: إنه عمل مقامات يسيرة. والذي أقوله: إن الرجل كان أديباً كبيراً عالماً فاضلاً قادراً على النظم والإنشاء، مهما أراد فعل. وأنشدني له إجازة: سوابقنا والنقع والسمر والظبي ... وأحسابنا والحلم والبأس والبر هبوب الصبا والليل والبرق والقضا ... وشمس الضحى والطود والنار والبحر وأنشدني إجازة، وفيه استخدامان: لئن لم أبرقع بالحيا وجة عفتي ... فلا أشبهته راحتي في التكرم ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن رأي محرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 قلت: استخدام الحيا في مفهومية، وهو: الحيا، نقيض الوقاحة، والحيا: المطر. واستخدم الجفن في مفهوميه، أحدهما: جفن السيف وهو قرابة، والجفن: غطاء العين، وهو من غريب النظم. وأنشدني له إجازة في مثله: لا يسمع العود منا غير حاضنه ... من لبة الشوس يوم الروع بالعلق ولا يعاطي كميتاً غير مصدره ... يوم الصدام بليل العطف بالعرق وأنشدني له إجازة في سبع تشبيهات: وظبي بقفر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشاً بأسهم كشمس بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جناً بأنجم ونقلت من خطه وهو مما يقرأ مقلوباً: " كد ضدك. كن كما أمكنك. كرم علمك يكمل عمرك ". ونقلت من خطه رسالة طويلة نظماً ونثراً، كل كلمة منها تصحيف ما بعدها، تكون أربع مئة كلمة، وهي: " قبل قبل يداك ثراك عبد عند رخاك رجاك، أبي أبي سؤال سواك. آمل أمك رجاء رخاء. فألغى فألقى جدة خده بأعتابك باغياً بك شرفاً سرفا. لاذبك لأدبك مقدماً مقدماً أمل آمل يزجيه يبشره بيسره وجودك وجودك. فاشتاق فاستاف. عَرف عرُف منك مثل عبير عنبر، وقَدم وقُدم، صَدقه صِدقه متجملاً متحملاً بصاعه بضاعة تبر نثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 سند سيد حليم حكيم ... فاضل فاضل مجيد مجيد حازم جازم بصير نصير ... زانه رأيه الشديد السديد أمه أمة رجاء رخاء ... أدركت إذ زكت نقود تقود مكرمات مكرمات بنت بي؟ ... ت علاء علا بجود يجود وهي طويلة، ربما تزيد على الأربع مئة. وقد أوردتها بمجوعها في كتاب: حرم المرح في تهذيب لمح الملح. وأنشدني له إجازة مضمناً. تزوج جاري وهو شيخ صبية ... فلم يستطع غشيانها حين جاءها ولو أنني بادرتها لتركتها ... يرى قائم من دونها ما وراءها وأنشدني له إجازة: ليهنك أن لي ولداً وعبداً ... سواء في المقال وفي المقام فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام وأنشدني لنفسه إجازة: وذات حر جادت به فصددتها ... وقلت لها: مقصودي العجز لا الفرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 فدارت ودارت سوء خلقي بالرضا ... وفي قلبها مما تكابده وهج إذا ما دفعت الأير فيها تجشأت ... وذاك ضراط لم يتم له نضج وأنشدني له إجازة: خلياني أجر فضل برودي ... راتعاً في رياض عين البرود كم بها من بديع زهر أنيق ... كفصوص منظومة وعقود زنبق بين قضب آس وبان ... وأقاح ونرجس وورود كجبين وعارض وقوام ... وثغور وأعين وخدود وأنشدني له إجازة: ولي غلام كالنجم طلعته ... أخدمه وهو بعض خدامي تراه خلفي طول النهار فإن ... دجا لنا الليل صار قدامي جعلته في الحضور مع سفري ... كفروة الحرث بن همام قلت: يريد قول الحريري: فعمدت لفروة هي في النهار رياشي وفي الليل فراشي. وأنشدني لنفسه إجازة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 لما رأت علياك أني كالذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد وافيتني ووفيت لي بمكارم ... فنداك لي صلة وأنت العائد قلت: أخذ هذا من واقعة شرف الدين بن عنين مع الملك المعظم لما كتب إليه وهو ضعيف: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي أحتاج ما أحتاجه ... فاغنم ثنائي بالجيمل الوافي فحضر المعظم إليه وقال له: أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة، وأعطاه صرة فيها ثلاثة مئة دينار. ولكن صفي الدين زاد هنا النقص، لأن الذي عند النحاة اسم ناقص يحتاج إلى صلة وعائد. وأنشدني له إجازة: وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدماً وهو ريان ناعم يغرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم وأنشدني له إجازة يطلب مشمشاً: يا جواداً أكفه في مجال الحر ... ب حتف وفي النوال غمامه جد بتضعيف عكس مشطور تصحيف مثنى ترخيم مثل علامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 قلت: مثل علامة: سمة، فإذا رخمتها كانت: سم، فإذا ثنيتها كانت: سمسم، فإذا صحفتها كانت: شمشم، فإذا أخذت شطرها كان: شم، فإذا عكستها كانت: مش، فإذا ضعفتها كانت: مشمش. ومثل هذا قول القائل يطلب حبراً: تصدق علي بمعكوس ضد ... مصحف قولي خبت ناره فتصحيف: خبت ناره: خسارة، وضدها: ربح، ومعكوسها: حبر. ولكن الشيخ صفي الدين زاده عملاً كثيراً. وأنشدني إجازة لنفسه يستهدي راحاً: جاد لنا الدهر بعد ما بخلا ... ومجلس الأنس قد صفا وحلا ونحن في مجلس يزينه ... رشف طلى بيننا ولثم طلى فاهد لنا لا برحت ذا نعم ... ما ضد تصحيف عكسه عدلا قلت: ضد عدل: جار، وتصحيفه: حار، وعكسه: راح. والله أعلم. وأنشدني له إجازة يطلب فلفلاً: أعوزتنا إحدى العقاقير في الدر ... ياق فأتحف بها تكن خير تحفه ضعف تصحيف ضد مشطور مثل ... لمثنى معكوس ترخيم دفه قتل: ترخيم دفه: دف، ومعكوسه: فد، ومثتاه: فدفد، ومثله: مهمه، ومشطوره: مه، وضده: قل وتصحيفه: فل، وتضعيفه: فلفل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وأنشدني لنفسه إجازة: بأبي قذار منك وابن زرارة ... أدنيت حتف المستهام العاني فلو أن كاسم أبي معاذ قلبه ... ما كان في البلوى أبا حسان قلت: المعنى: بسالف منك وحاجب أدنيت حتفي، فلو أن قلبه جبل ما كان في البلوى ثابتاً، لأن سالفاً أبوه قذار، وحاجباً أبوه زرارة، ومعاذاً أبوه جبل، وحسان أبوه ثابت. وأنشدني لنفسه أيضاً: ما كان ودك إذ عتبتك في الجفا ... كابن الطفيل ولا أبي حسان وجهي أبو المقداد منك من الحيا ... والقلب منك حكى أبا سفيان قلت: المعنى: ما كان ودك عامراً ولا ثابتاً، وجهي منك أسود وقلبك صخر. لأن الطفيل ابنه عامر، وحسان أبوه ثابت، والمقداد أبوه الأسود، وأبا سفيان كنيته صخر. وأنشدني لنفسه أيضاً رحمه الله تعالى موالياً: تقول بسك مني يا شقيق البدر ... لقول ضدك عني بالخنا والغدر وكان ظنك أني يا جليل القدر ... يكون ذلك فني عند ضيق الصدر قلت: وهذان البيتان يقرأ شطر كل قفل منها فيصير بيتي قريض قائمة الوزن بذاتها، وهما: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 تقول بسك مني ... لقول ضدك عني وكان ظنك أني ... يكون ذلك فني وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، خرج منهما بيتاً موالياً قائماً الوزن، وذلك: تاء قاف واو لام باء سين كاف ميم نون يا ... لام قاف واو لام ضاد دال كاف عين نون يا واو كاف ألف نون ظاء نون كاف ألف نون يا ... ياء كاف واو نون ذال لام كاف فاء نون يا وهذا عمل صعب إلى الغاية، ولا يتأتى إلا لذي القدرة والتسلط على النظم. وقد أردت أن أعمل مثل ذلك، فأعان الله تعالى، وفتح علي، فقلت: علمت أنك حبي يا رشيق القد ... وقلت: ودك طبي يا شريق الخد فراع صدك لبي يا سعيد الجد ... عسى يردك ربي يا مديد الصد فشطر كل نصف أول يقرأ فيكون قريضاً وهو: علمت أنك حبي ... وقلت: ودك طبي فراع صدك لبي ... عسى يردك ربي وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، كانا بيتي موالياً وهما: عين لام ميم تاء ألف نون كاف حاء باء يا ... واو قاف لام تاء واو دال كاف طاء باء يا فاء راء ألف عين صاد دال كاف لام باء يا ... عين سين ألف ياء راء دال كاف راء باء يا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وأنشدني له إجازة: وعدت في الخميس وصلاً ولكن ... شاهدت حولنا العدا كالخميس أخلفت في الخميس وعدي وجاءت ... بعدما قبل بعد يوم الخميس قلت: المعنى: أنها أوعدته الزيارة في يوم الخميس فرأت العدا كالجيش، فأخلفت الوعد في ذلك النهار، وجاءت في يوم الجمعة، وذلك لأن البعد والقبل متكافئان فسقطا، وفضل معه بعد والخميس بعده الجمعة. وهذا أخذه من قول القائل: ما يقول الفقيه أيده الله ... ولا زال عنده الإحسان في فتى علق الطلاق بشهر ... بعدما قبل بعده رمضان وقد أوردت هذين البيتين في شرح اللامية وتكلمت عليه وعلى تقديم القبلات والبعدات، وهناك يظهر هذا أوضح من هنا. وأنشدني لنفسه ما يقرأ مقلوباً: أنث ثناء ناضراً لك إنه ... هنا كل أرض إن أنث ثناء أمر كلاماً ألفته مظنه ... له نظم هتف لأم الكرماء أهب لوصف لا لما هب آمل ... ملماً بها ملء الفصول بهاء أروح أطيل الدأب أبرم همة ... مربى بإدلال يطاح وراء أرق فلا حزن ينم بمهمل ... مهم بمن ينزح الفقراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 أخر لأني نائب لقضية ... تهيض قلبي أن ينال رخاء أفوه أراعي قوته بتكلف ... لكتبة توقيع أراه وفاء وأنشدني له إجازة مما يقرأ مقلوباً: يلذ ذلي بنضو ... لو ضن بي لذ ذلي يلم شملي لحسن ... إن سح لي لم شملي وأنشدني لنفسه إجازة في الجناس: كم قد أفضنا من دموع ودماً ... على رسوم للديار والدمن وكم قضينا للبكاء منسكاً ... لما تذكرنا بهن من سكن معاهد تحدث للصبر فناً ... إن هاجت الورق بها على فنن تذكارها أحدث في القلب شجاً ... وفي الحشا قرحاً وفي القلب شجن لله أيام لنا على منى ... فكم لها عندي أياد ومنن شربت فيها لذة العيش حساً ... وما رأيت بعدها مرأى حسن ؟ كم كان فيها من فتاة وفتى ... كل لقلب المستهام قد فنى فما ارتكبنا بالوصال مأثماً ... بل بعتهم روحي بغير ما ثمن وعاذل أضمر مكراً ودها ... فنمق العيش بنصح ودهن لاح غدا يعرف للقلب لحاً ... إن أعرب القول بعذلي أو لحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 يزيدني بالزجر وجداً وأسى ... وكان ماء الود منه قد أسن سئمت منه اللوم إذ طال مدى ... ولم أجبه بل بدوت إذا مدن بجسرة تشد في السير قرى ... إذا لم تذلل بزمام وقرن لا تتشكي نصباً ولا وجى ... إذا دجا الليل على الركب وجن حنت وأعطت في السرى خير عطاً ... إن حن يوماً غيرها إلى عطن وأصبحت من بعد أين وعناً ... للملك الناصر ضيفاً وعنن ملك غدا لسائر الناس أباً ... إن سار في كسب الثناء أو أبن الناصر الملك الذي فاض جداً ... فخلته ذا يزين وذا جدن ملك علا قدراً وجداً وسناً ... فجاء في طرق العلا على سنن لا جور في بلاده ولا عدى ... إن عد في العدل زبيد وعدن كم بدر أعطى الوفود ولهى ... وكان يرضيهم كفاف ولهن حنيت من إنعامه خير جنى ... وكنت من قبل كميت في جنن فما شكوت في حماه لغباً ... ولو أطاق الدهر غبني لغبن دعوته بالمدح عن صدق ولا ... فلم يجب يوماً بلم ولا ولن أنظم في كل صباح ومساً ... كأنه لصارم الفكر مسن يا مالكاً فاق الملوك ورعاً ... إن شان أهل الملك طيش ورعن أكسبني بالمجد مجداً وعلاً ... فصغت فيك المدح سراً وعلن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 إن أولك المدح الجزيل فحرى ... وإن كبا فكر سواي وحرن لا زلت في ملكك خلواً من عناً ... وليس للهم لديك من عنن ونلت فيه ما تروم من منى ... وعشت في أمن وعز ومنن وأنشدني إجازة لنفسه: سل سلسل الريق إن لم تروحر ظلما ... بل بلبل القلب لما زاده ألما قد قدَّ قدُّ حبيبي حبل مصطبري ... إن آن أن أجتني جرماً فلا جرما مذ مل ململ قلبي في تغنته ... لو كف كفكف دمعاً صار فيه دما بل رب ربرب سرب ثغره شنب ... لو لؤلؤ رام تشبيهاً به ظلما لو قابل الشمس لألأ لاؤها كسفت ... فإن يقل للدجازح زحزح الظلما كم هَد هُدهد واشينا بناء وفاً ... غداة عنعن عن أعدائنا الكلما مذ نم نمنم أقوالاً شقيت بها ... إذ زل زلزل طود الصبر فانهدما لم لملم الوجد عندي بعد مصرفه ... عني وجمجم جم الغيث فالتأما مدلج لجلج نطقي عن إجابته ... لو رق رقرق دمعاً ظل منسجماً إن كان دعدع دع كأس العتاب وقل ... من مهمه العشق لا يطويه من سئما إن قيل ضعضع ضع خديك معتذراً ... أو قيل قلقل قل أرضى بما حكما أو قيل طحطح طح بالحب ملتجئاً ... أو قيل دمدم دم بالود ملتزما سب سبسب الحب واشكر من احبتنا ... لكل منْ منَّ منْ أهل الوفا كرما هم همهم حفظهم للخل حق وفا ... من حيث حصحص حص الهم منتقماً إن قيل أح أحاح الغدر فارض بهم ... أولا فنفسك لمُ لمَ لمْ تفض ندما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وأنشدني لنفسه إجازة: إنهض فهذا النجم في الغرب سقط ... والشيب في فود الظلام قد وخط والصبح قد مد إلى نهر الدجى ... يداً بها در النجوم يلتقط وألهب الإصباح أذيال الدجى ... بشمعة من الشعاع لم تقط وضجت الأطيار في أوراقها ... لما رأت سيف الصباح مخترط وقام من فوق الجدار هاتف ... متوج القامة ذو فرغ قطط يخبر الراقد أن نومه ... عند انتباه جده من الغلط والبدر قد صار هلالاً ناحلاً ... في آخر الشهر وبالصبح اختلط كأنه قوس لجين موتر ... والليل زنجي عليه قد ضبط وفي يديه للثريا ندب ... يزيد فرداً واحداً عن النمط فأي عذر للرماة والدجى ... قد عد في سلك الرماة وانخرط أما ترى الغيم الجديد مقبلاً ... قد مد في الأفق رداه وانبسط كأن أيدي الريح في تلفيقه ... قد لبدت قطناً على ثوب شمط يلمع ضوء البرق في حافاته ... كأن في الجو صفاحاً تخترط وأظهر الخريف من أزهاره ... أضعاف ما يخفي الربيع إذا شحط ولان عطف الريح في هبوبها ... والظل من بعد الهجير قد سقط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 والشمس في الميزان موزون بها ... قسط النهار بعدما كان قسط وأرسلت جبال دربند لها ... رسلاً صبا القلب إليها وانبسط من الكراكي الخزريات التي ... تقدم والبعض بعض مرتبط كأنها إذ تابعت صفوفها ... ركائب عنها الرحال لم تحط إذا قفاها سمع ذي صبابة ... مثلي تقاضاه الغرام ونشط فقم بنا نرفل في ثوب الصبا ... إن الرضا بتركه عين السخط والتقط اللذة حيث أمكنت ... فإنما اللذات في الدهر لقط إن الشباب زائر مودع ... لا يستطاع رده إذا فرط أما ترى الكركي في الجو وقد ... نعم في أفق السماء ولغط أنساه حب دجلة وطيبها ... مواطناً قد زق فيها وقمط فجاء يهدي نفسه وما درى ... أن الجياد للحروب ترتبط من كل سبط من هدايا واسط ... جعد التلاع منه في الكعب نقط أصلحه صالح باجتهاده ... وكل ذي لب له فيه غبط وما أضاع الحزم عند حزمها ... بل جاوز القيظ وللفصل ضبط حتى إذا حر حزيران خبا ... وتم تموز وآب وشحط وجاء أيلول بحر فاتر ... في نضج تعديل الثمار ما فرط أبرز ما أحرز من آلاته ... وحل من ذاك المتاع ما ربط ومد للصنعة كف أوحد ... مننره عن الفساد والغلط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وظل يستقري بلاغ عودها ... فنبر الأطراف واختار الوسط وجود التدقيق في لحامها ... فأسقط الكرشات منه والسقط ولم يزل ينقلها مراتباً ... تلزم في صنعته وتشترط فعندما أفضت إلى تطهيرها ... صحح دارات البيوت والنقط حتى إذا قمصها بدهنها ... جاءت من الصحة في أحلى نمط كأنها النونات في تعريقها ... يعوج منها بندق مثل النقط مثل السيور في يد الرامي فلو ... شاء طواها وحواها في سفط لو يقذف أليم بها مالكها ... ما انتقض العود ولا الزور انكشط كأنما يندقها نيازك ... أو من بد الرامي إلى الطير خطط من كل محني الضلوع مدمج ... ما وهم الباري بها ولا فرط كأنما لام عليها ألف ... وقال قوم إنها اللام فقط فأجل قذى عيوننا ببرزة ... تنفي عن القلب الهموم والقنط فما رأت من بعد هور بابل ... ومائه التيار عيشاً يغتب ونحن من مروجه في نشوة ... عند التحري في الوقوف للخطط من كل مقبول المقال صادق ... قد قبض القوس وللنفس بسط يقدمنا فيها قديم حاذق ... لا كسل يشينه ولا قنط يحكم فينا حكم داود فلا ... تنظر منا خارجاً لما شرط لا يسبك الأسباق من جفته ... ولم يكن مثل القرلى في النمط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 إذا رأى الشر تعلى وإذا ... لاح له الخير تدلى وانخبط ما نعم المزهر والدف إذا ... فصل أدوار الضروب وضبط أطيب من تدفدف التم إذا ... دق اكتسى الريش وهذا قد شمط وذاك يرعى في شواطيه وذا ... على الروابي قد تحصى ولقط فمن جليل واجب تعداده ... ومن مراع عدها لا يشترط تعرج منا نحوه بنادق ... لم ينج منها من تعلى واختبط فمن كسير في العباب عائم ... ومن ذبيح بالدماء يعتبط وأنشدني له إجازة، ومن خطه نقلت: كيف الضلال وصبح وجهك مشرق ... وشذاك في الأكوان مسك يعبق يا من إذا سفرت محاسن وجهه ... ظلت بها حدق الخلائق تحدق أوضحت عذري في هواك بواضح ... ماء الحيا بأديمه يترقرق فإذا العذول رأى جمالك قال لي ... عجباً لقلبك كيف لا يتمزق يا آسراً قلب المحب فد معه ... والنوم منه مطلَق ومطلَّق أغنيتني بالفكر فيك عن الكرى ... يا آسري فأنا الغني المملق ؟ وصحبت قوماً لست من نظرائهم ... فكأنني في الطرس سطر محلق قولاً لمن حمل السلاح وخصره ... من قد ذابله أرق وأرشق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 لا توه جسمك بالسلاح وحمله ... إني عليك من الغلالة أشفق ظبي من الأتراك فوق خدوده ... نار يخر لها الكليم ويصعق تلقاه وهو مزرد ومدرع ... وتراه وهو مقرط ومقرطق لم تترك الأتراك بعد جمالها ... حسناً لمخلوق سواها يخلق إن نوزلوا كانوا أسود عريكة ... أو غوزلوا كانوا بدوراً تشرق قوم إذا ركبوا الجياد رأيتهم ... أسداً بألحاظ الجآذر ترمق قد خلقت بدم القلوب خدودهم ... ودروعهم بدم الكماة تخلق جذبوا القسي إلى قسي حواجب ... من تحتها نبل اللواحظ ترشق نشروا الشعور فكل قد منهم ... لدن عليه من الذؤابة صنجق لي منهم رشأ إذا قابلته ... كادت لواحظه بسحر تنطق إن شاء يلقاني بخلق واسع ... عند السلام نهاه طرف ضيق لم أنس ليلة زارني ورقيبه ... يبدي الرضا وهو المغيظ المحنق حتى إذا عبث الكرى بجفونه ... كان الوسادة ساعدي والمرفق عانقته وضممته فكأنه ... من ساعدي ممنطق ومطوق ؟ حتى بدا فلق الصباح فراعه إن الصباح هو العدو الأزرق وأنشدني له إجازة يمدح الملك الناصر محمد بن قلاوون: أسبلن من فوق النحور ذوائبا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وجلون من صبح الوجوه أشعة ... غادرون فود الليل منها شائبا بيض دعاهن الغبي كواعباً ... ولو استبان الرشد قال كواكبا وربائب فإذا رأيت نفارها ... من بسط أنسك خلتهن رباربا سفهن رأي المانوية عندما ... أسبلن من ظلم الشعور غياهبا وسفرن لي فرأين شخصاً حاضراً ... شدهت بصيرته وقلباً غائبا أشرقن في حلل كأن أديمها ... شفق تدرعه الشموس جلابيا وغربن في كلل فقلت لصاحبي ... بأبي الشموس الجانحات غواربا حلو التعتب والدلال يروعه ... عتبي، ولست أراه إلا غاتبا عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظاً وقطب حاجبا فأراني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا ذو منظر تغدو القلوب بخسنه ... نهباً وإن منح العيون مواهبا لا غرو أن وهب اللواحظ حظوة ... من نوره ودعاه قلبي ناهبا كمواهب السلطان قد كست الورى ... نعماً وتدعوه القساور سالبا ملك يرى تعب المكارم راحة ... ويعد راحات الفراغ متاعبا ؟ لم تخل أرض من ثناه وإن خلت من ذكره ملئت قناً وقواضبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 بمكارم تذر السباسب أبحراً ... وعزائم تذر البحار سباسبا ترجى مواهبه ويخشى بطشه ... مثل الزمان مسالماً ومحارباً فإذا سطا ملأ القلوب مهابة ... وإذا سخا ملأ العيون مواهبا كالغيث يسفح من عطائه نائلاً ... سبطا ويرسل من سطاه حاصبا كالليث يحمي غابه بزئيره ... طوراً وينشب في القنيص مخالبا كالسيف يبدي للنواظر منظراً ... طلقاً ويمضي في الهياج مضاربا كالسيل يحمد منه عذباً واصلاً ... ويعده قوم عذاباً واصبا كالبحر يهدي للنفوس نفائساً ... منه ويبدي للعيون عجائبا فإذا نظرت ندى يديه ورأيه ... لم تلف إلا صيباً أو صائبا أبقى قلاوون الفخار لولده ... إرثاً ففازوا بالثناء مكاسبا قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا عشقوا الحروب تيمناً بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا وكأنما ظنوا السيوف سوالفاً ... واللدن قداً والقسي حواجبا يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا أصلحت بين المسلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوفود أقاربا ووهبتهم زمن الأمان فمن رأى ... ملكاً يكون له الزمان مواهبا فرأوا خطاباً كان خطباً فادحاً ... لهم وكتباً كن قبل كتائبا وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم إن صلت كن قواضبا حتى إذا خطف المنافق خطفة ... أتبعته منها شهاباً ثاقبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 لا ينفع التجريب خصمك بعدما ... أفنيت من أفنى الزمان تجاربا ؟ صرمت شمل المارقين بصارم ... تبديه مسلوباً فيرجع سالبا صافي الفرند حكى صباحاً جامداً ... أبدى النجيع به شعاعاً ذائباً وكتيبة تدع الصهيل رواعداً ... والبيض برقاً والعجاج سحائبا حتى إذا ريح الجلاد حدت لها ... مطرت وكان الوبل نبلاً صائبا بذوابل ملد يخلن أراقماً ... وشوائل جرد يخلن عقاربا تطأ الصدور من الصدور كأنما ... تعتاض عن وطء التراب ترائبا فأقمت تقسم للوحوش وظائفا ... فيها وتصنع للنسور مآدبا وجعلت هامات الكماة منابراً ... وأقمت حد السيف فيها خاطبا يا راكب الخطر الجليل وقوله ... فخراً بمجدك لا عدمت الراكبا صبرت أسحار السماح بواكراً ... وجعلت أيام الكفاح غياهبا وبذلت للمداح صفو خلائق ... لو أنها للبحر طاب مشاربا فرأوك في جنب النضار مفرطاً ... وعلى صلاتك والصلاة مواظبا إن يحرس الناس النضار بحاجب ... كان السماح لعين مالك حاجبا لم يملؤوا فيك البيوت رغائبا ... إلا وقد ملؤوا البيوت غرائبا أوليتني قبل المديح عناية ... وملأت عيني هيبة ومواهبا ورفعت قدري في الأنام وقد رأوا ... مثلي لمثلك خاطباً ومخاطبا في مجلس ساوى الخلائق في الندى ... وترتبت فيه الملوك مراتبا وافيته في الفلك أسعى جالساً ... فخراً على من قال أمشي راكبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فأقمت أنفذ في الأنام أوامراً ... مني وأنشب في الخطوب مخالبا وسقتني الدنيا غداة وردته ... ريا وما مطرت علي مصائبا فطفقت أملأ من ثناك وشكره ... حقباً وأملأ من نداك حقائبا أثني فتثنيني صفاتك مظهرا ... عياً وكم أعيت صفاتك خاطبا لو أن أعضانا جميعاً ألسن ... تثني عليك لما قضينا الواجبا وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت، يمدح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى البدر حسناً أن يقال نظيرها ... فيزهى ولكنا بذاك نضيرها وحسب غصون البان أن قوامها ... يقاس به ميادها ونضيرها أسيرة حجل مطلقات لحاظها ... قضى حسنها أن لا يفك أسيرها تهيم بها العشاق خلف حجابها ... فكيف إذا ما آن منها سفورها وليس عجيباً أن غررت بنظرة ... إليها فمن شأن البدور غرورها فكم نظرة قادت إلى القلب حسرة ... يقطع أنفاس الحياة زفيرها فواعجباً كم نسلب الأسد في الوغى ... ويسلبنا من أعين الحور حورها فتور الظبى عند القراع يشينها ... وما يرهف الأجفان إلا فتورها وجذوة حسن في الخدود لهيبها ... يشب ولكن في القلوب سعيرها إذا آنستها مقلتي خر صاعقاً ... فؤادي وقال القلب لادك طورها وسرب ظباء مشرقات شموسه ... على حلة عند النجوم بدورها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 تمانع عما في الكناس أسودها ... وتحرس ما تحوي القصور صقورها تغار من الطيف الملم حماتها ... ويغضب من مر النسيم غيورها إذا ما رأى في النوم طيفاً يرودها ... توهمه في اليوم ضيفاً يزورها نظرنا فأعدتنا السقام جفونها ... ولذنا فأولتنا النحول خصورها وزرنا وأسد الحي تذكي لحاظها ... ويسمع في غاب الرماح زئيرها فيا ساعد الله المحب فإنه ... يرى غمرات الموت ثم يزورها ولما ألمت للزيارة خلسة ... وسجف الدياجي مسبلات سورها سعت بيننا الواشون حتى حجولها ... ونمت بنا الأعداء حتى عبيرها وهمت بنا لولا حبائل شعرها ... خطا الصبح لكن قيدته ظفورها ليالي يعديني زماني على العدا ... وإن ملئت حقداً علي صدورها ويسعدني شرخ الشبيبة والغنى ... إذا شانها أفتارها وقتيرها ومذ قلب الدهر المجن أصابني ... صبوراً على حال قليل صبورها فلو تحمل الأيام ما أنا حامل ... لما كاد يمحو صبغة الليل نورها سأصبر إما أن تدور صروفها ... علي وإما تستقيم أمورها فإن تكن الخنساء إني صخرها ... وإن تكن الزباء إني قصيرها وقد أرتدي ثوب الظلام بجسرة ... عليها من الشوس الحماة جسورها كأني بأحشاء السباسب خاطر ... فما وجدت إلا وشخصي ضميرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وصادية الأحشاء غصى بآلها ... يعز على الشعرى العبور عبورها ينوح بها الخريت ندباً لنفسه ... إذا اختلفت حصباؤها وصخورها إذا وطئتها الشمس سال لعابها ... وإن سلكتها الريح طال هريرها ؟ وإن قامت الحرباء ترصد شمسها ... أصيلاً أذاب الحظ منها هجيرها تجنب عنها للحذار جنوبها ... وتدبر عنها في الهبوب دبورها خبرت مرامي أرضها فقتلتها ... وما يقتل الأرضين إلا خبيرها بخطوة مر قال أمون عثارها ... كثير على وفق الصواب عثورها ألذ من الأنغام رجع بغامها ... وأطرب من سجع الهديل هديرها نساهم شطر العيش عيساً سواهما ... لطول السرى لم يبق إلا شطورها حروفاً كنونات الصحائف أصبحت ... تخط على طرس الفيافي سطورها إذا نظمت نظم القلائد في البرى ... تقلدها خصر الربا ونحورها طواها طواها فاغتدت وبطونها ... تجول عليها كالوشاح ظفورها يعبر عن فرط الحنين أنينها ... ويعرب عما في الضمير ضمورها نسير بها نحو الحجاز وقصدها ... ملاعب شعبي بابل وقصورها فلما ترامت عن زرود ورملها ... ولاحت لها أعلام نجد وقورها وصدت يميناً عن شميط وحاذرت ... ربا قطن والشهب قد شف نورها وعاج بها عن رمل عاج دليلها ... فقامت لعرفان المراد صدروها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 غدت تتقاضانا المسير لأنها ... الى نحو خير المرسلين مسيرها ترض الحصى شوقاً لمن سبح الحصى ... لديه وحياً بالسلام بعيرها إلى خير مبعوث إلى خير أمة ... إلى خير معبود دعاها بشيرها ومن بشر الله الأنام بأنه ... مبشرها عن إذنه ونذيرها ومن أخمدت مع وضعه نار فارس ... وزلزل منها عرشها وسريرها ومن نطقت توراة موسى بفضله ... وجاء به إنجيلها وزبورها محمد خير المرسلين بأسرهم ... وأولها في المجد وهو أخيرها فيا آية الله التي مذ تبجلت ... على خلقه أخفى الظلال ظهروها عليك سلام الله يا خير مرسل ... إلى أمة لولاه دام غرورها عليك سلام الله يا خير متشافع ... إذا النار ضم الكافرين حصيرها عليك سلام الله يا من تعبدت ... له الجن وانقادت إليه أمورها تشرفت الأقدام لما تتابعت ... إليك خطاها واستمر مريرها وفاخرت الأفواه نور عيوننا ... بتربك لما قبلته ثغورها ولو وفت الوفاد قدرك حقه ... لكان على الأحداق منها مسيرها لأنك سر الله والآية التي ... تجلت فجلى ظلمة الشرك نورها مدينة علم وابن عمك بابها ... فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها شموس لكم في الغرب مدت شموسها ... بدور لكم في الشرق حفت بدورها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 جبال إذا ما الهضب دكت جبالها ... بحور إذا ما الأرض غارت بحورها فيا آل خير الآل والعترة التي ... محبتها نعمى قليل شكورها إذا جولست للبذل ذل نضارها ... وإن سوجلت في الفضل عز نظيرها وصحبك خير الصحب والغرر التي ... بهم أمنت من كل أرض ثغورها كماة حماة في القراع وفي القرى ... إذا شط قاريها وطاش وقورها أيا صادق الوعد الأمين وعدتني ... ببشرى فلا أخشى وأنت بشيرها بعثت الأماني عاطلات لتبتغي ... نداك فجاءت حاليات نحورها وأرسلت آمالاً خماصاً بطونها ... إليك فعادت مثقلات ظهورها إليك رسول الله أشكو جرائماً ... يوازي الجبال الراسيات صغيرها كبائر لو تبلى الجبال بحملها ... لدكت ونادى بالثبور ثبيرها وغالب ظني بل يقيني أنها ... ستمحى وإن جلت وأنت سفيرها لأني رأيت العرب تخفر بالعصا ... وتحمي إذا ما أمها مستجيرها فكيف بمن في كفه أورق العصا ... يضام بنو الآمال وهو خفيرها وبين يدي نجواي قدمت مدحة ... قضى خاطري أن لا يضيع خطيرها يروي غليل السامعين قطارها ... ويجلو عيون الناظرين قطورها وأحسن شيء أنني قد جلوتها ... عليك وأملاك السماء حضورها تروم بها نفسي الجزاء فكن لها ... مجيزاً بأن تمسي وأنت مجيرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فلا بن زهير قد أجزت ببردة ... عليك فأثرى من ذويه فقيرها أجرني أجزني واجزني أجر مدحتي ... ببرد إذا ما النار شب سعيرها وقابل ثناها بالقبول فإنها ... عرائس فكر والقبول مهورها فإن زانها تطويلها واطرادها ... فقد شانها تقصيرها وقصورها إذا ما القوافي لم تحط بصفاتكم ... فسيان منها جمها ويسيرها بمدحك تمت حجتي وهي حجتي ... على عصبة يطغى علي فجورها أقص بشعري إثر فضلك واصفاً ... علاك إذا ما الناس قصت شعورها وأسهر في نظم القوافي ولم أقل ... خليلي هل من رقدة أستعيرها عبد العزيز بن عبد الجليل الشيخ الإمام الفقيه عز الدين النمراوي الشافعي. كان من فقهاء القاهرة المشهورين. أفتى ودرس وصحب الأمير سيف الدين سلار مدة، وترقى بسببه. توفي رحمه الله تعالى في تاسع ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة. عبد العزيز بن عبد الغني ابن أبي الأفراح سرور بن أبي الرجاء، سلامة بن أبي بن اليمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 بركات بن أبي الحمد داود، ويتصل بالحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الينبعي المحتد، الإسكندراني المولد. أخبرني العلامة أبو حيان قال: أنشدنا لنفسه بجامع عمرو بن العاص، ثاني عشر شهر رجب، ثمانين وست مئة: وجدت بقائي عند فقد وجودي ... فلم يبق حد جامع لحدودي وألفيت سري عن ضميري ملوحاً ... برمز إشاراتي وفك قيودي فأصبحت مني دانياً بمعارف ... وقد كنت عني نائباً لجمودي ومن عين ذاك الأمر حكم مبين ... لتحقيق ميراثي وحفظ عهودي فمن مبتدا فرقي قنوتي ووجهتي ... إلى منتهى جمعي يكون سجودي وعاكف ذاتي مطلق غير مطرق ... وبادي صفاتي قد وفا بعقودي وإن أمرتني نشأتي غير نسبتي ... فصالح آبائي نذير ثمودي سألقي عصاي في رحاب تجردي ... لتأتي من نحو القبول وفودي وأخلد بلعامي إلى أرض طبعه ... لترفعني الآيات حال صعودي إذا وردت من ماء مدين نشوتي ... لطيفة أسراري بطيب ورودي فأنزل مني منزلاً بعد منزل ... وتنزل شمسي في بروج سعودي فلا منهج إلا ولي فيه مسلك ... ولا موطن إلا وفيه شعودي قال العلامة أبو حيان: قال شيخنا الرضي الشاطبي: هذا يعرف بالشيخ عبد العزيز المنوفي، وهو من أتباع ابن العربي، صاحب عنقاء مغرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 قال الشيخ أثير الدين: وهو شيخ عبد الغفار بن نوح القوصي. قلت: توفي هذا الشيخ، أبو فارس المنوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاث وسبع مئة. وولده سنة سبع وست مئة. عبد العزيز بن عبد القادر ابن أبي الكرم بن أبي الذر الربعي البغدادي، الشيخ نجم الدين، أحد أشياخي الذين سمعت عليهم بالقاهرة. أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وسمعت عليه المقامات الجزرية التي لابن الصيقل، كان يرويها عن المصنف، قرأها عليه الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن العسجدي بالمدرسة القراسنقرية بالقاهرة في السنة المذكورة ونحن نسمع. وله رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في إنكاره صحة الكيمياء، وله مصنفات منها كتاب نتائج الشيب من مدح وعيب وهو كبير، ملكته بخطه. وكان شيخاً قد أتقى واستمسك من الزهد بالعروة الوثقى، صوفياً قد تجرد، وانفرد عن الوظائف ومن فيها تمرد، طيلاً مهيباً، دانياً من القلوب قريباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 لم يزل على حاله إلى أن ذر على ابن أبي الذر ترابه، وفارقه لداته وأترابه. وتوفي رحمه الله تعالى ... ومولده ببغداد سنة اثنتين وستين وست مئة. عبد العزيز بن أبي القاسم ابن عثمان، الشيخ عز الدين أبو محمد البابصري البغدادي الحنبلي الصوفي الأديب من أعيان الشميساطية. سمع مشيخة الباقرحي على ابن الأجل، وسمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد. وكان بالفقه بصيراً، وعلى الأدب لمن عاناه نصيراً، وله حظ من معرفة أيام الناس، وتراجم الأطهار والأدناس، وعلى ذهنه من الشعر جملة، وعلى ظهر قلبه من روايته حمله. ولم يزل على حاله إلى أن شخص بصر البابصري وبرق، وغص بها الحلقوم وشرق، وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وثلاثين وخمس مئة. وسمع منه ابن البرزالي، وابن الصيرفي، وضعف بصره أخيراً. وله شعر منه قوله: ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 عبد العزيز بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصدر عز الدين بن القيسراني، كاتب الإنشاء بالقاهرة. سمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن الشريف موسى وغيرهما. ودرس بالفخرية وغيرها على مذهب الشافعي. وكان من بيت رياسة، وجماعة وصدارة ونفاسة، بزته جميلة، ومنظره آنق من خميلة، وكفه يسح بالنوال ولا يشح عن السؤال، ولطفه كالنسيم، وظرفه كطلعة الصبح البسيم. ولم يزل على حاله إلى أن ذوى رطيباً، وركب أعواد النعش ولم يك خطيباً. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة تسع وسبع مئة، ودفن بالقرافة ولم يكمل الأربعين. وكتب عنه شيخنا البرزالي وجماعة من المصريين. وله نظم ونثر، ومن نظمه ما قاله في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وقد خطب بمصر: تضوع نشر المسك من لفظك العذب ... وأظهرت من نهج البلاغة ما يصبي وشنفت أسماع الأنام بخطبة ... نفخت بها الأرواح في ميت القلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وقد عجب الراؤون من عود منبر ... تلامسه إذا لم يكن منبت العشب ولكنه من حين لامست عوده ... تعرف حتى صار من مندل رطب ومنه: من طلب الأرزاق من عند من ... يطعمه الله ويسقيه يكون قد ضل سبيل الهدى ... وحاد عن نيل أمانيه لأن من يعجز عن نفسه ... يعجز عن إرزاق راجيه عبد العزيز بن محمد بن عبد الحق ابن شعبان بن علي، عز الدين أبو محمد الشياح بالشين - المعجمة والياء آخر الحروف وألف بعدها حاء مهملة - الأنصاري الدمشقي. روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي. كان رجلاً حسناً، لوذعاً فطناً. تعانى الخدم والتجارة، وكتب في الديوان طلباً للمعيشة وحسن الشارة. وتولى على عمارة الجامع السيفي بظاهر دمشق، ولما فرغ ولي إشرافه، واجتنى قطوفه وحاذر غيبته عنه وانصرافه. ثم إنه توجه للقدس وعاد فباشر مشارفة يبرود، وأقام بها إلى أن نشرت له من الموت مطويات البرود. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحمل على الأعناق إلى تربة والده بسفح قاسيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 عبد العزيز بن محمد بن أحمد ابن هبة الله بن جرادة، قاضي القضاة، عز الدين أبو البركات بن الصدر محيي الدين الحنفي، ابن العديم قاضي القضاة بحماة. كان شيخاً فاضلاً في عدة فنون. ولي قضاء حماة مدة تقارب الأربعين سنة. وكان مدرساً بعدة مدارس، وروى الحديث عن يوسف بن خليل الحافظ، وسمع من أخويه: يونس وإبراهيم، ومن الضياء صقر، وهدية بنت المغربي، وغيرهم. وكان له اعتناء ب؟ الكشاف ومفتاح السكاكي وغير ذلك. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربتهم بعقبة نقيرين. ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. عبد العزيز بن محمد بن علي الطوسي ضياء الدين، مدرس النجيبية ومعيد الباذرائية والناصرية. كان بصيراً بالفقه وأصوله، خبيراً بمنتخبه ومحصوله. أفاد وأفتى، وتميز بمحاسن شتى، وصيف في العلم وطلبه وشتى، وصنف التصانيف البديعة حتى، ووضع شرحاً للحاوي وأعان به الطلبة على الفتاوي. وشرح المختصر لابن الحاجب، وأتى فيه بكل مهم واجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 ولم يزل على حاله إلى أن خرج من الحمام، فدخل في الحمام، ورثاه حتى ساجعات الحمام. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة، خرج من الحمام ومات، رحمه الله تعالى. عبد العزيز بن محمد بن عبد الحق ابن خلف بن عبد الحق، الفقيه الإمام العدل عز الدين الدمشقي الشافعي. كان فاضلاً، عنده فقه وحديث، وله معرفة بالشروط وكان من أعيان الشهود، ودرس بالمدرسة الأسدية ظاهر دمشق. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن الزبيدي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وجعفر الهمداني، وغيرهم. وله إجازة من ابن القطيعي، وابن روزبة، وجماعة من بغداد. وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده في تاسع عشر شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة. عبد العزيز بن منصور الصدر عز الدين الكولمي التاجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 كان له أموال كالأمواه، أو الكلمات التي تخرج أفواجها من الأفواه، لا يضبطها حساب، ولا يحصل نظيرها اكتساب، فاتت العد، وتعدت الحد. عبد العزيز بن يحيى بن محمد القاضي الرئيس عماد الدين أبو محمد ابن قاضي القضاة محيي الدين بن الزكي القرشي الدمشقي الشافعي مدرس العزية والتقوية. وكان أحد من ولي نظر الجامع الأموي غير مرة، ونول أهله ومن له به علاقة كل مسره، وكان شكله مليحاً، ونطقه في المقاصد السعيدة فصيحاً، فيه حشمة، وله همة، وعنده صدارة، وللرياسة عليه إحاطة وإدارة. وكان قد عين للقضاء، وقابله الناس بالارتضاء. ولم يزل على حاله إلى أن حانت وفاته، ولانت للموت صفاته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة. وقرأ عليه شيخنا البرزالي مشيخة أبي مسهر بروايته حضوراً عن إبراهيم بن خليل. عبد العزيز المغني المعروف بالفصيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 كان مشهوراً بالإجادة في صناعت، وأظن دخل اليمن رحمه الله. وتوفي بالقاهرة في جمادة الأولى سنة عشر وسبع مئة. وفيه يقول علاء الدين الوادعي - ومن خطه نقلت -: قل للذي عشق الفصيح وعنده ... أن العيون إليه لم تتيقظ يا من تحفظ في هواه عن الورى ... ليس الفصيح كفاية المتحفظ ونقلت منه له: عذلي في هوى الفصيح دعوني ... واسمعوا العذر واضحاً مشروحا خفت لحناً في شرح مجمل حبي ... فلهذا قد حفظت الفصيحا ونقلت منه له: لحن هذا الفصيح أحسن من إع؟ ... راب ذاك الفصيح في كل حال بين هذين في الفصاحة بون ... ذاك من ثعلب وذا من غزال ونقلت منه له: وليلة ما لها نظير ... في الطيب لو ساعفت بطول كم نوبة للفصيح فيها ... أطرب من نوبة الخليل ؟ عبد العظيم بن عبد المؤمن الشيخ زكي الدين بن الشيخ شرف الدين الدمياطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 مات كهلاً سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان شيخ الظاهرية بالقاهرة. عبد الغالب بن محمد ابن عبد القاهر بن محمد بن ثابت بن عبد الغالب الماكسني. سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، وأبي بكر محمد بن علي النشبي، وإبراهيم بن إسماعيل بن الدرجي، وغيرهم. أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. عبد الغفار بن محمد ابن عبد الكافي بن عوض السعدي المصري القاضي المفتي المتقن المجيد تاج الدين الشافعي. روى عن إسماعيل بن عزون، والنجيب، وابن علاق، وعدة، وجع وصنف وقطع ورصف، ونسخ الكثير وجود، وأفاد الطلبة وعود، وعمل المعجم والتساعيات، وخرج المسلسلات، وكان موصوفاً بالفقه والإتقان والدين والإيقان. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد الغفار عند الحفار، وتحدث بأخباره السفار. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 ومولده سنة خمسين وست مئة. وكان شيخ الحديث بالمدرسة الصاحبية بمصر، وأخذ عنه تقي الدين بن رافع، وشهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والواني، وابنه، والسروجي. وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ذكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة أنه كتب بخطه ما يزيد على خمس مئة مجلد ما بين فقه وحديث وغير ذلك. وقرأ العربية على أمين الدين المحلي، وسمع منه، ومن ابن عزون، وابن علاق، والنجيب عبد اللطيف، وأخيه، والمعين بن القاضي الدمشقي، ومحمد بن مهلهل الجنبي وعبد الهادي القيسي والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وأبي حامد بن الصابوني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، ومحمد بن إبراهيم الكلي الطبيب، وابن الخيمي الشاعر، والحافظ اليغموري، والفضل بن رواحة، وسمع بالإسكندرية من عثمان بن عوف آخر أصحاب ابن موقا وابن الدهان وابن الفرات وجماعة من أصحاب ابن البنا وابن عماد، وخرج لنفسه معجماً في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 ثلاث مجلدات، وأجازه من دمشق ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجماعة من أصحاب الخشوعي وغيرهم. وحدث بالكثير، واعتنى بهذا الشأن، وكان ذاكراً لشيوخه وسماعه، حسن الخط، جيد الضبط، عارفاً بهذا الشأن وناب في الحكم بمصر عن القاضي تقي الدين الحنبلي. عبد الغفار بن أحمد ابن عبد المجيد بن عبد الحميد، الذروي المحتد، الأقصري المولد، القوصي الدار، المعروف بابن نوح. صحب الشيخ أبا العباس أحمد الملثم، والشيخ عبد العزيز المنوفي، وقد تقدم ذكره آنفاً، وتجرد زماناً، وتفرد بالمشيخة عياناً. وكانت له قدرة على الكلام، وفصاحة يشهد بها الأئمة الأعلام، وله في السماع حال، وعنده قال من جعل له القال، وبه نزل من رقق شعره في المحبة والغزل، وكان ينكر من المنكرات كثيراً، ويأمر بالمعروف فيوقد به سراجاً منيراً، وله قوة جنان، وتصرف عنان في البيان. ولم يزل على حاله بالقاهرة، بعدما جاء إليها من قوص إلى أن قامت النوائح على ابن نوح، وفارق جسده ما كان قد تعلق به من الروح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وتوفي بمصر سنة ثمان وسبع مئة ومولده ... وكان قد تعبد سنين، وسمع من الدمياطي بالقاهرة، وحدث عنه بقوص، وسمع بمكة من المحب الطبري، وصنف كتاباً سماه الوحيد، وله بظاهر قوص، رباط حسن، وله بقوص أحوال معروفة، ومقالات موصوفة، وينسب أصحابه إليه كرامات. كان النصارى قد أحضروا مرسوماً بفتح الكنائس، فقام شخص في السحر بجامع قوص، وقرأ " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "، وقال: يا أصحابنا الصلاة في هدم الكنائس، فلم يأت الظهر إلا وقد هدمت ثلاث عشرة كنيسة، ونسب ذلك إلى أنه من جهة الشيخ ابن نوح، ثم إن عز الدين الرشيدي أستاذ دار سلار حضر إلى قوص، فتوجه إليه نصراني يدعى النشو، كان يخدم عندهم، وتكلم في القضية، واجتمع العوام، ورجموا إلى أن وصل الرجم إلى حراقة الرشيدي، فأتهم الشيخ بذلك، ثم إنه بعد أيام حضر أمير إلى قوص وأمسك جماعة من الفقراء، وضربهم، واخذ الشيخ معه إلى القاهرة، ورسم له أن يقيم بمصر، ولا يخرج منها، فحصل بعد مدة لطيفة للرشيدي مرض، وتهوس وتلاشت حاله، واستمر في أنحس حال إلى أن توفي، وتوفي الشيخ بعده بمدة في تاريخ وفاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 ومن شعره: أنا أفتي أن ترك الحب ذنب ... آثم في مذهبي من لا يحب ذق على أمري مرارات الهوى ... فهو عذب وعذاب الحب عذب كل قلب ليس فيه ساكن ... صبوة عذرية ما ذاك قلب عبد الغفار قيل: عبد القاهر، الشيخ العالم الفقيه نجم الدين المعروف بابن أبي السفاح الحلبي، قاضي القضاة الشافعي بحلب. توفي بحلب رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة خمسين وسبع مئة. وقيل: اسمه عبد القاهر، وهو الصحيح. عبد الغني بن يحيى ابن محمد بن عبد الله الحراني القاضي شرف الدين أبو محمد الحنبلي. ولي نظر الخزانة بالديار المصرية مدة طويلة، ثم أضيف إليه قضاء الحنابلة. كان رئيساً جواداً، نفيساً لا يدخل العل له فؤاداً، فيه لمن يقصده تعصب، وقيام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 على من يعانده وتوثب، اشتهرت رئاسته، وظهرت للناس نفاسته، وشكرت في القضاء أيامه، وحمدت فيه أحكامه. ودرس بالصالحية إلى أن فارق دنياه، وترك عليا. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وسبع مئة. ومولده بحران في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وست مئة. وروى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، وسمع منه الطلبة، وتولى قضاء الحنابلة بمصر يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن عوض. عبد الغني بن محمد بن عبد الواحد القاضي الفقيه تقي الدين بن الشيخ شمس الدين المقدسي. كان مدرساً بالمنصورية بالقاهرة، وعنده فضيلة، وهو متعين في مذهبه. توفي رحمه الله تعالى خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة عند والده. عبد الغني بن منصور ابن منصور بن إبراهيم، جمال الدين أبو عبادة الحراني المؤذن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 روى عن عيسى بن الخياط الحراني، وسمع من مجد الدين بن تيمية، وغيرهما. وكان من أعيان المؤذنين، طيب الصوت، فقيهاً فاضلاً مناظراً مشاركاً في العلوم، وله نظم. توفي رحمه الله تعالى بقرن الحارة، وحمل إلى دمشق، وكانت جنازته حافلة في ثالث ربيع الآخر سنة خمس وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين بحران. وحدث بعرفة ومنى. عبد الغني بن عروة ابن عبد الصمد بن عثمان، جمال الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح الرأس عيني. سمع بحلب سنة أربع وأربعين وست مئة على الشيخ عز الدين عبد الرزاق الرأس عيني المعروف بالمحدث. وكان جمال الدين هذا حسن الخلق خفيف الروح، يتردد إلى الأعيان وغيرهم من الأفرم ومن دونه من جميع الطوائف، ويحاضرهم ويلاطفهم ويستجديهم، وكان يخرج من بيته من بكرة، ويدور على الناس دورة، وما تجيء الثانية أو الثالثة حتى يحصل له العشرون درهماً فما دونها. وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وقد تجاوز الثمانين، ودفن بمقابر الشيخ أرسلان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وكان كثيراً ما يحكي ويتعيش بوقائعه مع الأمير علم الدين أرجواش نائب قلعة دمشق، لأنه كان به خصيصاً، لا يكاد يصبر عنه. حضر إلى صفد في وقت، وكان الأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الديوان بصفد ووالي الولاة، وهو متزوج بابنة أرجواش فتركها في مخدع بحيث تسمع، وأحضر الشيخ عبد الغني واستحكاه، فأخذ يحكي عن أرجواش، ومما حكاه أنه لما توفي الملك المنصور، قال: يا عبد الغني، أحضر لي مقرئين يقرؤون ختمة للسلطان، قال: فأحضرت له جماعة، وجلس أمامهم وإلى جانبه دبوس، وأخذ أولئك يقرؤون على العادة، فقال: دعهم يقرؤون عالياً، ليسمع السلطان في قبره، فقلت لهم: ارفعوا أصواتكم بالقراءة، فقفزوا وما فرغوا منها إلى ربع الليل، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: دعهم ليقرؤوا ختمة أخرى فقال، فقلت لهم: ابدؤوا في أخرى فشرعوا في الثانية، وما فرغوا منها إلى نصف الليل، فقلت: يا خوند فرغوا بسعادتك، فقال: لا، السموات ثلاث، والأرض ثلاثة، والبحار ثلاثة، والمعادن ثلاثة، كل شيء في الدنيا ثلاثة ثلاثة، يقرؤون الأخرة تتمة ثلاثة، فقلت لهم: يا مساكين اقرؤوا أخرى، واحمدوا الله واشكروه كونه ما عرف أن السموات سبع والأرض سبع، فما فرغوا حتى أشرفوا على الهلاك، لأنهم من المغرب إلى بكرة في عياط، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: رسم عليهم إلى بكرة، فإذا تعالى النهار، اكتب عليهم حجة تحت الساعات بالله وبالقيامة الشريفة أن ثواب هذه الختمة لأستاذنا السلطان الملك المنصور، وهات الحجة إلي واعطهم مئة درهم. فما ملكت ابنة أرجواش نفسها، بل فتحت الباب، وخرجت إلى الشيخ عبد الغني ونتفت ذقنه، وخربت عمامته، فخرج منها، وهي تشيخه وتسبه، وأما زوجها؛ فقاسى منها شدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وقال: جئت يوماً إلى باب القصر الأبلق، فوجدت الملك الكامل، والصاحب عز الدين بن القلانسي جالسين فدروزتهما، فلم يعطياني شيئاً، فلطفت القول، وزدت فما رشحالي بشيء، فقلت: والله لأغرمنكما جملة كثيرة على هذه العشرة دراهم، وتركتهما، ومضيت، وشددت طبق فاكهة، وحملته حمالاً، وغطيته بفوطة مليحة، وجئت إلى باب الصاحب، ودققت الباب، فخرجت الجارية، فدفعت إليها الطبق، وقلت لها: قولي لمولانا الصاحب، الله يجعلها ساعة مباركة، وتركتها حتى مشت خطوتين، وقلت لها: يا ستي تعالي، هذا بيته الجديد وإلا العتيق؟ فقالت: ولي! إيش يكن بيته الجديد؟ فقلت: يا ستي هاتي الطبق، أنا أحسبه الذي دخل فيه عروساً، وأخذت الطبق ومضيت، فدخلت إلى ستها، وحكت لها الواقعة، فما شكت أن الصاحب تزوج بغيرها، فقعدت في حزن شديد، ولما حضر الصاحب؛ لم تقم إليه، ولم تأخذ شاشه، ولا فرجيته على العادة، فقال: خير ما لكم؟! قالت: روح إلى عروسك الجديدة، فضحك، فصممت، وصار كلما ضحك؛ تصمم، فحلف لها بالطلاق، أن هذا ما جرى منه شيء، فزادت في التصميم، فاغتاظ منها، وحلف بطلاقها، وباتت منه وبقيت مدة إلى أن ترضاها وسألها عن الموجب لذلك، فحكت له الصورة، فعلم من أين أتي؟، وحكى لها الصورة، فصدقته، فجدد لها صداقاً، وزاده، وبذل لها شيئاً بجملة، وغرم في هذه الواقعة قريباً من خمسة آلاف درهم. وأما الملك الكامل؛ فإنه كان يوماً عند الأفرم يحكي له، ويتلطف، فحضر الملك الكامل، فشكر الأفرم منه، فقال عبد الغني: والله يا خوند، ما في دمشق من يحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 مولانا ملك الأمراء مثله، ولقد بلغ الملوك أنه من أيام اشترى خمس مئة غرارة شعير، ليحملها إلى اصطبل مولانا ملك الأمراء، فالتفت إليه الأفرم، وقال: يا ملك ليش تفعل هذا؟، أنا أعرف بحالك، والله ما تعود تفعل مثل هذا وأمثاله وأعود أقبل منك، فقال: يا خوند الكل من صدقاتك، وخرج فما أمكنه إلا حمل خمس مئة غرارة شعير إلى اصطبل الأفرم، وكان الصاحب عز الدين بعد ذلك والملك الكامل إذا رأيا عبد الغني بادراً بالمكارمة، وقالا له: اكفنا شرك، وله من هذا الضرب ألوان، وأنواع يضيق عنها هذا المكان، وهذا القدر كافي. عبد القادر بن عبد العزيز ابن السلطان الملك المعظم عيسى بن أبي بكر محمد العادل بن أيوب هو الملك أسد الدين أبو محمد. سمع من خطيب مردا السيرة النبوية وحدث بها في مصر، وروى عنه عدة أجزاء، وله إجازة من محمد بن عبد الهادي والصدر البكري. وله همة وجلادة، وقدوم على دمشق ووفاده، مليح الشكل لمن يراه، صبيح الوجه، يشهد بالقدرة لمن يراه، حسن الأخلاق من الرياضة، كثير البشر لمن قصد اعتراضه، شديد البنية والتركيب، عتيد القوى في الترغيب والترهيب، قيل: إنه ما تزوج ولا تسرى، ولا تبرم من ذلك ولا تبرى. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أسد الدين مفترساً، ورسب شخصه في القبر ورسا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مائة. ومولده بالكرك سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وكانت وفاته بالرملة، ونقل إلى القدس، وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. واجتمعت به غير مرة. عبد القادر بن محمد ابن أبي الكرم عبد الرحمن بن علوي بن المعلى بن علوي بن جعفر القاضي تاج الدين بن القاضي عز الدين العقيلي البخاري الحنفي. سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وسمع من الإمامين جمال الدين الحصيري، وتقي الدين بن الصلاح، وولي قضاء الحنفية بحلب، ونظر الأوقاف والمدرسة العصرونية. وعاد إلى دمشق، وحدث بها بالمئة البخارية، وعاد إلى حلب. ولم يزل بها إلى أن حلت به في حلب الداهية، وأصبح ذا قوة واهية. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده بدمشق سنة ثلاث وعشرين وست مئة. عبد القادر بن محمد بن تميم الفقيه المحدث محيي الدين المقريزي، بالميم المفتوحة والقاف الساكنة والراء المكسورة وبعدها زاي، البعلبكي الحنبلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 سمع ببلده من زينب بنت كندي، وبدمشق من ابن عساكر، وابن القواس، وبمصر من البهاء بن القيم وسبط زيادة، وبحلب والحرمين. ونسخ وحصل، وجمع وأصل، وميز وفصل، وتفقه ودأب، وجد واجتهد في الطلب، وصار شيخ دار الحديث للبهاء بن عساكر، وكان بها يحاضر ويذاكر. ولم يزل على حاله إلى أن نزل في الجدث، وأنس أصحابه ما قدم بما حدث. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، عن خمس وخمسين سنة أو نحوها. عبد القادر بن أبي القاسم ابن علي الأسنائي، القاضي ناصر الدين الشافعي. كان كاتب الحكم العزيز الشافعي بالقاهرة. كان فاضلاً ديناً، عاقلاً صيناً، عفيفاً ورعاً، خبيراً حفظ عهد القضاء ورعاه، عمر المدرسة الشهابية بميدان القمح ظاهر القاهرة، وعمر وقوفاً من ماله، ثم إنه استعاد ذلك من ربع الوقف قليلاً قليلاً، وكان معيد الشافعية بالمدرسة المنصورية، وشاهد الحواصل بها وبالبيمارستان، ومعيد المدرسة القطبية، وناب في الحكم خارج باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 الفتوح عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في بعض الأعمال، وكان يحج كل سنة ويترك سنة، وجاور بمكة مدة، وكان يعيد بالسيفية. وسمع من شهاب بن علي المحسني وغيره. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة وقد جاوز السبعين، وخلف مالاً وثروة، وتصدق في مرضه بنحو من خمسة عشر ألف درهم، ودفن بالقرافة الصغرى. عبد القادر بن بركات ابن أبي الفضل: الشيخ محيي الدين الصوفي المعروف بابن قريش أحد الأخوة، تقدم ذكر أخيه الشيخ إبراهيم، وسيأتي ذكر أخيه الشيخ تقي الدين في حرف الميم. أسن هذا محيي الدين وكبر وعجز عن المشي، وكان يركب حماراً، وكانت له خصوصية بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، وكان من ذلك الطراز الأول، فبقي في آخر عمره غريباً. إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. عبد القادر بن يوسف ابن مظفر، الصدر الجليل العدل المأمون أبو محمد شمس الدين بن الخطيري الدمشقي الكاتب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 سمع من عبد الوهاب بن رواج، وأجاز له أبو القاسم بن الصفراوي: وعلي بن مختار: وجماعة. وسمع منه جماعة: الواني، والبرزالي، وابن شيخنا الذهبي، وولي نظر الجامع الأموي ونظر الخزانة. وكان من الكتاب العقلاء، والرؤساء النبلاء، تنقل في المباشرات، وقابل بالمكاسرات المكاشرات. وساس دهره إلى أن زار قبره. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. عبد القادر بن أحمد الفقيه الجدلي المناظر محيي الدين حينئذ، كان يكثر في بحوثه من قول حينئذ. كان أصله من بغداد، ومن سمعه تحقق أنه أستاذ، مليح السمت عديم الصمت، له فضائل، وعنده شبه ودلائل. لم يزل إلى أن سقط عن سلم فما تنفس وكان من الحياة في طريق مستقيم حتى تنكس. وكانت وفاته رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سن الكهولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 عبد القادر بن مهذب ابن جعفر الأدفوي قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: هو ابن عمي، كان ذكياً جواداً متواضعاً، وصل إلى قوص للاشتعال بالفقه، وحفظ أكثر التنبيه ولم ينتج فيه، وكان إسماعيل المذهب، مشتغلاً بكتاب الدعائم تصنيف النعمان بن أحمد، متفقهاً، وكان فيلسوفاً، يقرئ الفلسفة، ويحفظ من كتاب زجر النفس، وكتاب أثولوجيا، وكتاب التفاحة المنسوب لأرسطو كثيراً. قال: وذكر لي بعض أصحابنا، ممن لا أتهمه بكذب، أنه تعسر عليه قفل باب، فذكر أسماء وفتحه، وأنهم قصدوا حضور امرأة، فهمهم بشفتيه لحظة فحضرت فسألوها عن ذلك، فقالت: إنها حصل عندها قلق عظيم، فلم تقدر على الإقامة. وكان مؤمناً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منزلاً له منزلته، ويعتقد وجوب أركان الإسلام، غير أنه يرى أنها تسقط عمن حصل له معرفة بربه بالأدلة التي يعتقدها، ومع ذلك، فكان مواظباً على العبادة في الخلوة والجلوة، والصيام، إلا أنه يصوم بما يقتضيه الحساب، ويرى أن القيام بالتكاليف الشرعية يقتضي زيادة الخير، وإن حصلت المعرفة، وكان يفكر طويلاً، ويقوم ويرقص ويقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 يا قطوع من أفنى عمرو في المحلول ... فاتوا العاجل والآجل ذا البهلول قال: فمرض فلم أصل إليه، ومات فلم أصل عليه، وسار إلى ساحة القبور، وصار إلى من " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ". وأظن وفاته ي سنة خمس أو ست وعشرين وسبع مئة، قال لي: جماعة سنة خمس لا غير. عبد القاهر بن محمد ابن عبد الواحد بن موسى القاضي الأديب الخطيب الشافعي جمال الدين أبو بكر البخاري ثم التبريزي. كان ذا شكالة وعمه، وحركات وهمه، أبيض اللحية نقيها، أحمر الوجنة ورديها، عليه قبول: وللنفس إليه تشوق وبه ذهول، مغرى بالأدب، موفر الهمة في تحصيله والطلب، يشعر مثل الصبا إذا هبت، والقطر إذا نبت، وينثر الدر من فيه نثراً، ويكتب الرقعة كأن صغرى وكبرى، لم تخرج تبريز مثل كلمة الإبريز. تولى القضاء بسلمية وعجلون، وقضاء القضاة بصفد، وختم ذلك بقضاء دمياط، وأقام بها إلى أن جاءه الأمر الذي لا يدفع بالأعلاط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة. ومولده بحران سنة ثمان وأربعين وست مئة. واشتغل ونشأ بدمشق، وتفقه للشافعي، وجاءنا قاضي القضاة إلى صفد في أيام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي لما كان بدمشق، ولم يزل تلك المدة، إلى أن عزل وتولى القضاء جلال الدين القزويني، فعزله من صفد، ثم إنني رأيه بالقاهرة مرات، وولي قضاء دمياط مرات، وآخر عهدي به في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. قال شيخنا الذهبي: قال فيما ذاكرني به، يعني القاضي جمال الدين التبريزي، قال: ماتت أمي بنت عشرين سنة، وكان أبي تاجراً ذا مال، فقدم بي إلى دمشق، وأنا ابن ست سنين فمات، وكفلني عمي عبد الخالق، ورجع إلى حران، وباع أملاكنا بثمانين ألفاً ورد بي، ثم قال لي يوماً: امض بنا، فمضى بنا نحو ميدان الحصا، وعرج بي فوثب علي وخنقني، فغشيت، فرماني في حفرة، وطم علي المدر والحجارة، فأبقى كذلك إلى أربعة أيام، فمر رجل صالح كان برباط الإسكاف عرفته بعد ثلاثين سنة، فبكر يتلو، ومر بجسرا بن شواش ثم إلى القطائع، فجلس يبول، وكنت أحرك رجلي فرأى المدر يتحرك، فظنه حية، فقلب حجراً، فبدت رجلي في خف بلغاري، فاستخرجني، فقمت أعدو إلى الماء فشربت من شدة عطشي، ووجدت في خاصرتي فزاراً من الحجارة، وفي رأسي فتحاً قال الشيخ شمس الدين: ثم أراني القاضي أثر ذلك في كشحه، ووضع أصابعي على جورة في رأسه تسع باقلاة ودخلت البلد إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 إنسان أعرفه، فمضى بي إلى ابن عم لنا، وهو الصدر الخجندي، وكان مختفياً بالصالحية، وله غلامان ينسجان ويطعمانه، اختفى لأمور بدت منه أيام هولاكو، وكتب معي ورقة إلى نسائه بالبلد، وكانت بنته ست البهاء التي تزوج بها الشيخ زين الدين بن المنجا، وماتت معه، هي أختي من الرضاعة، فأقمت عندهن مدة لا أخرج، حتى بلغت، وحفظت القرآن بمسجد الزلاقة، فمررت يوماً بالديماس، فإذا بعمي، فقال: ها جمال الدين، امش بنا إلى البيت، فما كلمته، وتغيرت ومعي رفيقان، فقالا لي: ما بك، فسكت وأسرعت، ثم رايته مرة أخرى بالجامع، فأخذ أموالي، وذهب إلى اليمن، وتقدم عند ملكها، ووزر، ومات عن أولاد. وجودت الختمة على الزواوي، وتفقهت على النجم الموغاني، وترددت إلى الشيخ تاج الدين، وتفقهت بابن جماعة، وقرأت عليه مقدمة ابن الحاجب وعلى الفزاري، ثم وليت القضاء من جهة ابن الصائغ وغيره، ونبت يوماً بجامع دمشق عن ابن جماعة، فقيل له: إن داوم هذا راحت الخطابة منك، يعني لحسن أدائه وهيئته. وجالسته مرات، وكان يروي عن الشيخ مجد الدين بن الظهير قصيدته التي أولها: كل حي إلى الممات مآبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 انتهى ما ذكر الذهبي. قلت: ولما كان بصفد، قرأت عليه ديوان خطبه سماه تحفة الألباء وأجازني جميع ما يجوز له أن يرويه، وفي هذه الخطب مواضع خارجة عن الصواب من اللحن الخفي، فكتبت عليها طبقة، وهي: قرأت هذه الخطب المسرودة على حروف المعجم من أولها إلى آخرها على مصنفها وكاتبها العبد الفقير إلى الله تعالى القاضي جمال الدين عبد القاهر بن محمد التبريزي الحاكم بصفد المحروسة، لا زالت الطروس توشي وتوشع بكلامه وأقلامه، وترصف وترصع بحكمه وأحكامه، ومحاسن أيامه ولياليه تنشا وتنشد، ودرر نظمه ونثره تنظم وتنضد، قراءة من غاص اللجة من بحر حبرها، وعلم قيمة المنتقى والمنتقد من دراريها ودرها، واستشف معانيها المجلوة في حبر حبرها، وصدق معجز آياتها، وما شك في خبر خبرها، واستجلى وجوه عربها وتوجيه إعرابها، وتحقق أن القرائح ما لها من طاقة على مثلها في بابها، وتنزه في حدائقها التي ضربت عليها أوراق الأوراق، واجتلى أبكارها الغر، فكانت حقيقة فتنة العشاق، فسرحت سوام الطرف فيما أرضاه من روضاتها، ورشفت قطر البلاغة مما زهي من زهراتها: وتشنفت أذني بلؤلؤ لفظها ... وتنزهت عيناي في جناتها وتأملت أفهامنا فتمايلت ... بترشف الصهباء من كاساتها وكأن همز سطورها بطروسها ... ورق على الأغصان من ألفاتها وكأنها وجنات غيد نقطها ... خال على الأصداغ من جيماتها لله ما أطرى وأطرب ما أتى ... في هذه الأوراق من سجعاتها لا غرو أن عقدت لسان أولي النهى ... عن مثلها بالسحر من كلماتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فكتب هو إلي: شرفت غرس الدين حين قرأت ما ... أمليت من خطب أجدت شياتها فصاحة لو أن قساً حاضر ... لرآك تسبقه إلى غاياتها يا فخر دهر أنت من بلغائه ... وعلا ليال أنت من ساداتها خطبي التي أنشأتها ما أنت من ... خطابها فتجاف عن علاتها عظمتها وبررتها وجبرتها ... وغفرت ما قد كان من زلاتها فلأنت أكرم فاضل لما بدت ... لعيانه غطى على عوراتها فاسلم ودم ما رنحت ريح الصبا ... أعطاف غصن الروض في هباتها وأنشدني لنفسه في شبابة، وقد وجدتها فيما بعد في ديوان جوبان القواس بخطه: وناطقة بأفواه ثمان ... تميل بعقل ذي اللب العفيف لكل فم لسان مستعار ... يخالف بين تقطيع الحروف تخاطبنا بلفظ لا يعيه ... سوى من كان ذا طبع لطيف فضيحة عاشق ونديم راع ... وعزة موكب ومدام صوفي فأنشدته أنا لنفسي ملغزاً في الكمنجا: ما اسم إذا خفت هماً ... رأيت لي فيه منجا يشدو بلحن عجيب ... حروفه ما تهجى كم قد شجاك بصوت ... من الحمائم أشجى إن لم يجئ لك طوعاً ... في الحل فهو كمن جا فأعجبه ذلك وزهزه وطرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: حضرت صحبة الملك الظاهر بيبرس حصار قلعة صفد، فصنعت هذه الأبيات: إذا القلعة الشماء باتت حصينة ... وبات على أقطارها القوم رصدا ترى منجنيقاً يذهب العقل جسه ... يغدرهم بين الأسرة همدا إذا ما أراها السهم منه ركوعه ... تخر له أعلى الشراريف سجدا وأنشدني لنفسه من لفظه كثيراً من شعره فمن ذلك قصيدة طويلة أولها: أنت الممنع والمحجب ... إلا على من ليس يحجب ومع البعاد فأنت من ... حبل الوريد إلي أقرب سر بسيط ظاهر ... يختال في شبح مركب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 عبد القوي بن عبد الكريم القرافي الحنبلي الطوفي، نجم الدين الرافضي. له مصنف في أصول الفقه ونظم كثير، وعزر بالقاهرة على الرفض لأنه قال: كم بين من شك في خلافته ... وبين من قيل إنه الله وهو الذي يقول في نفسه: حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري هذه إحدى الكبر توفي ببلد الخليل عليه السلام سنة ست عشرة وسبع مئة. ويقال إنه تاب أخيراً من الهجاء والرفض. عبد القوي بن محمد ابن جعفر الأسناي، نجم الدين المعروف بابن مغني وبابن أبي جعفر. قرأ على الشيخ النجيب بن مفلح، والشيخ بهاء الدين بن هبة الله القفطي، وناب في الحكم، ودرس بالمدرسة العزية بقوص. وكان طيب الخلق، ضحوك السن لو نظر إلى الأفق، كثير الرياضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 لا يدخل من الغيظ في مخافة ولا مخاضه، خفيف الروح إذا جالس، ظريف الإشارة إذا خالس، وكان محباً للسماع، لا يؤثر عليه شيئاً في الانتفاع، يكاد إذا سمع شبابة يطير طرباً، ولا يبلغ من اللذة أربا، وكان التزم أنه لا يبحث مع قاض، ولا يجيبه عن تقريرات ولا إنقاض. ولم يزل على حاله إلى أن عقر سمعه وطفي من نور الحياة شمعه. وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة ثمان وتسعين وست مئة. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: بلغني أنه وصى أن تخرج جنازته بالدفوف والشبابة، وتمنع النائحات والباكيات عليه. عبد الكافي بن عثمان الشيخ جمال الدين المعروف بابن بصاقة الحيسوب كان كاتباً متصرفاً، يعرف صناعة الكتابة الديوانية، وهو من قدماء الكتاب، وعمر وضعف. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية، وصلي عليه في جامع الأمير سيف الدين تنكز. وكان حسن الأخلاق. عبد الكافي بن علي ابن تمام بن يوسف، الشيخ الإمام القاضي زين الدين، أبو محمد السبكي الشافعي، والد قاضي القضاة شيخ الإمام تقي الدين السبكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده في حدود سنة تسع وخمسين وست مئة. هو من أهل سبك العبيد من الديار المصرية. تفقه بالقاهرة على السديد، والظهير، وقرأ أصول الفقه على الشيخ شهاب الدين القرافي، وناب في القضاء ببعض أعمال القاهرة عن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق اليد، وتولى أخيراً قضاء المحلة الغربية، وأقام بها إلى حين وفاته. وسمع من ابن خطيب المزة وغيره، وحدث. وسمع منه ولده قاضي القضاة تقي الدين. وخرج له أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف السبكي مشيخة. وحدث بالقاهرة والمحلة ومكة والمدينة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب جزء الغطريف وقطعة من سنن أبي داود وشيئاً من نظمه، وتوفي بالمحلة، ونقلت من خطه له: قطعنا الأخوة عن معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا فماتوا على دين رسطالس ... ومتنا على ملة المصطفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الألقاب والنسب جمال الدين بن عبد الكافي: اسمه سليمان. عبد الكريم بن حسن الشيخ المسلك العارف كريم الدين الآملي، بميم بعد الألف الممدودة، ينتمي إلى سعد الدين بن حموية شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة. كان إلى الأعيان محبباً، ولم يكن حظه منهم مخيباً، له في النفوس صورة كبيرة، وله أبهة في الصدور، كأنما ألبس منها حبيره، وعنده شيء يغطي جراجات باطنه بجبيره، وفيه أمور لا يدريها ولا يدريها إلا العقول الخبيرة، وهو من كبار القوم الذين خاضوا تلك الغمرات، وعظموا تلك المشاعر ورموا بها تلك الجمرات، وقالوا في خلواتهم: إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات وكانت له رياضات عديدة، ومفاوضات للصوفية مديدة. وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية كثير الحط عليه، غزير النط - على رأي العوام - إليه. حكى لي الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأكفاني، قال: دخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 الشيخ كريم الدين مرة إلى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وتكلم زماناً طويلاً والشيخ ساكت، فلما خرج من عنده؛ قال للحاضرين: هل فيكم من فهم عنه تراكيب كلامه، لأني أنا ما فهمت غير مفرداته. وقال شيخنا الذهبي: أثبت الصوفية فسقه من ستة عشرة وجهاً، وأخرج من الخانقاه، ثم أعيد، وتولى مكانه بعد موته قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. ولم يزل على حاله إلى أن خاب من الآملي أمله، ووافاه بالوفاة أجله. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة عشر وسبع مئة، وتولى عوضه الشيخ علاء الدين القونوي. عبد الكريم بن يحيى ابن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز، الشيخ الإمام القاضي تقي الدين أبو محمد بن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل بن قاضي القضاة محيي الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي القرشي الأموي العثماني المصري، ثم الدمشقي الشافعي. ولد بمصر ليلة عرفة سنة أربع وستين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وقدم من مصر إلى دمشق، وتفقه بها، وسمع من ابن البخاري وغيره، وولي مشيخة الشيوخ، ودرس بأماكن، وكان من رجال الدهر عزماً وحزماً وسكوتاً ودهاء وغوراً ومكارم وإفضال. عبد الكريم بن عبد الرحمن ابن عبد الواحد، نجم الدين بن صدقة الكاتب، ابن عم النفيس واقف النفيسية. قال شيخنا الذهبي: خدم في جهات الظلم، وكان سمع من الرشيد بن مسلمة وابن عبد الدائم وطبقته، وحفظ التنبيه. قتل: وتوفي رحمه الله تعالى بصافيتا سنة ست وتسعين وست مئة. عبد الكريم بن عبد النور ابن منير، الشيخ الإمام الحافظ مفيد الديار المصرية، قطب الدين أبو علي الحلبي، ثم المصري الشافعي المعروف بابن أخت الشيخ نصر. حفظ القرآن وتلا بالسبع على أبي الطاهر إسماعيل المليجي صاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 أبي الجود، وتلاه بالسبع على خاله الزاهد الشيخ نصر المنبجي، وانتفع بصحبته، وسمع من العز الحراني، وغازي، وابن خطيب المزة، والقاضي شمس الدين بن العماد، وطبقتهم بدمشق والحرمين من طائفة. وكتب العالي والنازل، وسمع من السامي والسافل، وخرج وجمع، ونفع وانتفع، وشرح من البخاري شطره، وأثبت في طرسه سطره، وعمل بمصر بالرجال، ومجال بالفقه بعض مجال، وحج غير مرة، وأحرز من الأجر كل ذرة، وروى الكثير، وهو في حجنب ما سمعه قليل، وجالد وحد عمره فليل. ولم يزل على حاله إلى أن دارت رحا الموت على قطبه، ونزلت بأهله مصيبة خطبه. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سلخ شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وستين وست مئة. علق في تاريخه عن شيخنا الذهبي، وما عنده عنه إلا الإجازة، وكان يحبه في الله. وكان فيه تواضع زائد، وحسن سيرة، ولعل أشياخه تبلغ الألف، وخرج لنفسه أربعين تساعيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وأخذ عنه المحدثون تقي الدين بن رافع، وابن أيبك الدمياطي، وعمر بن العجمي، وعلاء الدين مغلطاي، والسروجي، وعدد كثير. وأنا في شك هل سمعت منه أو لا؟ ولكنه أجاز لي، وأجزت له ولأولاده، واجتمعت به عند الشيخ فتح الدين بن سيد الناس غير مرة. عبد الكريم بن علي الشهرزوري زين الدين. كان مقيماً بقوص، وحظه من الدنيا منقوص، وكان يتطور أطواراً، ويتدور مع الدقر أدواراً، تارة يلبس زي الفقراء، وتارة يكون في شعار الرؤساء. بينا هو في الربط والزوايا إذا هو يخدم في الجهات التي فيها المكوس والطوايا. ولم يزل على حاله إلى أن دعاه الله وأخذه، واجتذبه من الحياة وفلذه. وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة خمس وسبع مئة بقوص. عمل بعض الرؤساء من جيرانه عرساً، وفرق أطعمة كثيرة، وغفل عنه فلم يرسل إليه شيئاً، فكتب إليه: يا جيرة جرتم على جاركم ... وعادة الجيران ألا تجور ما كان في أمراقكم كلها ... رطل خرا يشربها الشهرزور وقال يهجو شهاب الدين بن القاضي النجيب القوصي: وكرشة مملوءة ... من الخرا مطنبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 شبهتها مرمية ... بدمها مختضبه قليطة القاضي الشها ... ب بن النجيب بن هبه وكان ينظم الأزجال والبلاليق، وطلب من بعض التجار جوزة هندية، فلم يبعث بها قال: طلبت منك جوزة ... منعت مني قربها وكم طلبت زوجة ... منك فلم تبخل بها قلت: الباء الأولى في قوله قربها مفتوحة، والثانية مكسورة، وهي عيب في القافية، وكان ضامن الزكاة بقوص. عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الشيخ الإمام الفاضل علم الدين، ابن بنت العراقي. كان من علماء مصر في عدادهم، وفضائله التي قضت بسدادهم، وكانت له مشاركة في عدة فنون، ومضت عليه في الإقراء سنون، وله صبر على التعليم والإشغال وقدرة على الإكباب على نفع الطلبة وإيغال، حتى إن معظم من في الديار المصرية قرأ عليه، وأخذ عنه العلوم، ومثل بين يديه. وكان حسن المفاكهة، مليح الملقى بالملق والمواجهة، لا يسأم المذاكرة، ولا يمل طول المحاضرة، كثير الحكايات والنوادر، والإصابات في البوادر، نفسه منبسطة، وسيوف فوائده مخترطة، إلا أنه أضر آخر عمره، وعدم من الطروس والأقلام رؤية بيضه وسمره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 ولم يزل على حاله إلى أن بلغت التراقي، وذهب ابن بنت العراقي. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة أربع وسبع مئة. ومولده بمصر سنة ثلاث وعشرين وست مئة. أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان قال: أصله من وادي آش من الأندلس، وجده أبو أمه ليس من العراق، وإنما رحل إلى العراق، ثم عاد إلى مصر وهي بلده، فسمي العراقي. وكانت له مشاركة في الفقه وأصوله والأدب والتفسير، وله اختصاص بتفسير الزمخشري، وصنف مختصراً في أصول الفقه، ورداً على القاضي ابن المنير المالكي في رده على الزمخشري. وكانت له معرفة بالحساب والكتابة، وحظ من النظم والنثر، ودرس بالشريفية وبالمشهد الفقه، وأملى كتاباً على تفسير القرآن مختصراً احتوى على فوائد، وأنشدنا قال: نظمت في النوم في قاضي القضاة ابن رزين وكان معزولاً: يا سالكاً سبل السعادة منهجاً ... يا موضح الخطب البهيم إذا دجا يا ابن الذين رست قواعد مجدهم ... وسرى ثناهم عاطراً فتأرجا لا تيأسن من عود ما فارقته ... بعد السرار ترى الهلال تبلجا وابشر وسرح ناظراً فلقد ترى ... عما قليل في العدى متفرجاً وترى وليك ضاحكاً مستبشراً ... قد نال من تدميرهم ما يرتجى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وكتب الشيخ علم الدين المذكور بخطه كتاب الحاوي الكبير للماوردي مرتين. وكان يؤم بمسجد الدرفل. قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله: سمعت عمي - يعني أبا البقاء يحيى بن علي - يقول: كنا حاضرين في الدرس عند قاضي القضاة صدر الدين ابن بنت الأعز، وهو يلقي في حديث " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر " فحضر الشيخ علم الدين العراقي، فما استقر جالساً حتى قال على وجه السؤال: لا يخلو إما أن تحصل الحياة بتلك الأرواح أم لا؟ والأول عين ما تقوله التناسخية، والثاني مجرد حبس للأرواح وسجن. انتهى. قلت: لا نسلم أنها إذا كانت كذلك تكون في سجن وحبس، لأنه أقل أقسامها أن تكون في حواصل الطير، كما كانت في أجسادها في هذه الدار، وما قال أحد إن هذا عذاب لها ولا سجن، ولا يورد أن الدنيا سجن المؤمن، لأن هذا أمر نسبي، وقد يجعل الله لها في الحواصل من السرور والابتهاج ما يحصل لبعض النفوس في هذه الدار من السرور الزائد والبهجة التامة. عبد الكريم بن أبي الفرج ابن الحكم الشيخ الزاهد القدوة الصدر شرف الدين بن الشيخ السيد القدوة الزاهد نجم الدين الحموي الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 باشر حسبة حماة مدة، وكان يعرف بالمحتسب في حياة والده وبعدها، وتركها، وكان له زاوية حسنة يقصدها الفقراء والزوار ويجدون عنده الراحة والفضل المكارم والأوقات الطيبة والمكارم والسماعات والسماطات. ودرس بالمدرسة الحيرية بحماة، ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثامن شوال سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربته بعقبة نقيرين، وصلي عليه غائباً وعلى الوزير فخر الدين بن الخليلي بالجامع الأموي بدمشق في وقت واحد. عبد الكريم بن محمد ابن محمد بن نصر الله الحموي الشيخ الفاضل الصدر الكبير أبو السماح، ابن المغيزل، وكيل بيت المال بحماة. حدث بمصر والشام، وكان قد سمع من الكاشغري، وابن الخازن وابن قميرة، وسمع بحماة من العز بن رواحة. وكان شيخاً حسن الخلق، يلقى الناس بوجه طلق، يجتهد على قضاء الحوائج، ويسلك في التلطف لهم أقرب المسالك وأنجح المناهج، حسن التوصل إلى مقاصده، لطيف التوصل في مصادره وموارده، لا يخبأ عمن يقصده نفسه ولا ماله، ولا يزال يسعى إلى أن يبلغه آماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 ولم يزل على حاله إلى أن نحلت حركاته، وغاضت عمن يقصده بركاته. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة ست عشرة وست مئة. عبد الكريم بن هبة الله ابن السديد المصري القاضي الجليل الكبير النبيل المدبر المشير الأثير الأثيل، كريم الدين أبو الفضائل، وكيل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وناظر خاصته ومدبر دولته. أحيا الكروم والجود، وسهر في طيب الثناء عليه والمدابير هجود، صدق أخبار البرامكة بل أخملهم، وزاد في اقتراح المكارم فحملهم الخجل بل جملهم، ابتدع في الإحسان طرقاً خفيت على الأوائل، وابتده جوداً لا يحسن الثناء عليه سحبان وائل، فكان كما قال أبو الطيب: تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع عمر ربوع الندى، وغمر الناس بالجدى، وعم بجوده وما خص، وبل جناح الشكر وما حص، فدرجت حوله طيور الثناء وما طارت، وعرجت في مراقي حمدة ودارت، أجمع أهل عصره من غير مصره على سماحه، ولم يخالف واحد على مبالغة الجود في بطن راحه، إذا أنه كرم، كرمه عرش على الفقراء والأمراء، وتعدى الغاية فتأدى إلى الملوك والوزراء حتى أخجل بنيله النيل، وفرت مياه الفرات، وقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 هذا من المستحيل، وعلى الجملة فكان خبره أكبر من خبره، وهو أبو دلف زمانه الذي ولت الدنيا على أثره، وقد تمكن من سلطانه تمكن الصبابة من بني عذرة، والشجاعة من آل أبي صفرة، وحل منه محل الإنسان من العين. وأطاعه طاعة امفلس لرب الدين، فهو له في القوبل مثل المحب للواشين، والغر للغاشين لا يكاد يخالفه، ولا يرى هواه في شيء إلا يميل إيه ويحالفه، وكان به لذلك الملك نضارة، ولذلك العصر غضارة: جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير ولم يزل نجمه في سعود، وعزمه في صعود، إلى أن غدر به زمانه، وخانه محبوه وإخوانه، وتبرأ منه من كان يجمعهم خوانه فقبض عليه ونظر بعد الرضا بعين السخط إليه وجهزه إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم إلى أسوان، ومن هناك انتقل إلى رضوان، وادعي أنه شنق روحه، واختار أن سكن ضريحه، وذلك في ثالث عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وكان قد أسلم كهلاً أيام الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان لا يصرف على السلطان شيء إلا بقلمه، ويقال: إنه طلب يوماً إوزة، ولم يكن كريم الدين حاضراً، فتعذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 صرفها إليه، ولما هرب المظفر رحمه الله تعالى ووصل السلطان إلى مصر، لم يكن له دأب في غير تطلب كريم الدين والتوقع عليه والسؤال عنه في كل وقت. أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس، قال: جاء كريم الدين إلى الأمير علم الدين الجاولي، وقال له: قد جئت إليك، فقال: ما في يدي لك فرج، ولكن اليوم للسلطان خاصكي، يقال له: الأمير سيف الدين طغاي الكبير وهو لا يخالفه فأريد أجتمع لك به، وأعرفك ما يكون، ثم إنه اجتمع به فقال له أحضره، ودخل طغاي إلى السلطان، وهو يضحك، فقال له: إن حضر كريم الدين أيش تعطيني؟ ففرح، وقال له: أعندك هو؟ أحضره، فخرج، وقال للجاولي: أحضره، فأحضره، وقال طغاي لكريم الدين: مهما قال لك السلطان؛ قل له: نعم، ولا تخاله، ودعني أنا أدبر أمرك، فدخل به عليه، فلما رآه استشاط غضباً، وقال له: اخرج الساعة، احمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وخرج، فقال: لا كثير، أحمل خمس مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة. فقال: لا، كثير، احمل ثلاثة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فقال: لا، كثير، احمل الساعة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فخرج، فقال له الأمير: سيف الدين طغاي: لا تسقع ذقنك وتحضر الجيمع الآن، ولكن هات الآن منها عشرة آلاف دينار، ودخل بها إلى السلطان، فسكن غيظه، وبقي كل يومين وثلاثة يحمل خمسة آلاف دينار، ومرة ثلاثة آلاف دينار، ومرة ألفين. ولم يزل هو والقاضي فخر الدين ناظر الجيش؛ يصلحان أمره عند السلطان إلى أن رضي عنه وسامحه بما بقي عنده، واستخدمه ناظر الخاص فهو أول من باشر هذه الوظيفة، ولم تكن تعرف أولاً، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 تقدم عنده، وأحبه محبة زائدة عن الحد، وكان يخلع عليه أطلس أبيض والفوقاني بطرز، والتحتاني بطرز، والقبع زركش على ما استفاض. وكانت الخزائن عنده جميعها في بيته، وإذا أراد السلطان شيئاً نزل مملوك إليه في بيته، واستدعى منه ما يريده، فيجهزه إليه من بيته، وكان يخلع على أمراء الطبلخانات الكبار من عنده، وقيل: إن السلطان نزل يوماً من الصيد، فقال له: يا قاضي! عرض أنت صيود الأمراء، يحضرون صيودهم على طبقاتهم بين يديه، وهو يخلع عليهم على طبقاتهم واحداً بعد واحد. وحج هو والخوندة الكبرى طغاي، واحتفل بأمرها، وقد مضى ذكر حجها في ترجمتها، وكان يخدم كل واحد من الأمراء الكبار والمشايخ والخاصكية الكبار، وأرباب الوظائف والجمدارية الصغار، وكل أحد حتى الأوشاقية في الإصطبل وأرباب الوظائف، وكان في أول أمره ما يخرج القاضي فخر الدين لصلاة الصبح إلا ويجد كريم الدين راكباً وهو ينتظره، ويطلع في خدمته إلى القلعة، ودام الأمر هكذا ستة أشهر أو ما حولها، ثم إن فخر الدين كان يركب ويحضر إلى بابه، وينتظره ليطلع معه إلى القلعة، وكان في كل يوم ثلاثاء، يحضر إلى دار فخر الدين، ويتغذى عنده، ويحضر محفيتين لا يعود اله شيء من ماعونهما الصيني أبداً، وكان يركب في عدة مماليك أتراك - يقال سبعين مملوكاً أو أقل - بكنابيش عمل الدار وطرز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 ذهب، والأمراء تركب في خدمته. وبالجملة ما رأى أحد من المتعممين ما رآه القاضي كريم الدين. ولما ورد في صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة أمر ببناء جامع في آخر القبيبات بدمشق، فعمره الصاحب شمس الدين غبريال، وأخذ في العمل فيه بعد سفره. قيل: إنه طلبه السلطان يوماً إلى الدور فدخل، وعادت الخزندارة تروح وتجيء مرات فيما تطلبه الخوندة طغاي، فقال له السلطان: يا قاضي! أيش حاجة لهذا التطويل بنتك، ما تختبئ منك، ادخل إليها، وأبصر الذي تريده أفعله، فقام، ودخل إليها وسير قال لها: أبوك هنا، أبصري له ما يأكل، فأخرجت له طعاماً، وقام السلطان إلى كرمة في الدور، وقطع منها عنباً، وأحضره في يده، وهو ينفخه من الغبار، وغسله بماء بيده، وقال: يا قاضي، كل من عنب دورنا، هذا أمر ما فرح به متعمم. وكان إذا أراد أن يعمل سوءاً، ويراه قد أقبل يقول: جاء القاضي وما يدعنا نعمل شيئاً مما نريده، فيحدثه في إبطال ما كان قد هم به من الشر، وفي مدة حياة القاضي كريم الدين لم يقع من السلطان إلا خير. وأما مكارمه فحكى لي غير واحد بالقاهرة جماعة لا يمكن تواطؤهم على نقل باطل: أنه حضرت إليه امرأة رفعت له قصة تطلب فيها إزاراً، فوقع في ظاهرها إلى الصيرفي بصرف مبلغ ثماني مئة درهم، فلما رأى الصيرفي ذلك؛ أنكره، وأوقفها، وتوجه إليه، وقال: يا سيدي، هذه سألت إزاراً والإزار ما ثمنه هذا المبلغ، فقال له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 صدقت، وأخذ القصة، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: هذه متعالي وقال: أنا ما أردت إلا ثمانين، ولكن الله أرادها ثماني مئة، فوزن الصيرفي للمرأة ثماني مئة درهم وثمانين درهماً. وقيل: إنه كان له صيرفي يستدعي منه ما يريد صرفه لمن يسأله شيئاً، وإن الصيرفي أحضر إليه مرة وصولات ليست بخطه فأنكرها، فقال الصيرفي: هذا في كل وقت يحضر إلي مثل هذه الوصولات، فقال: إذا جاء أمسكه وأحضره، فلما جاء على العادة أمسكه وأحضره إلى بابه فقيل: إن الصيرفي وقع بالمزور، فقال: سيبوه، مالي وجه أراه، ثم قال: أحضروه، فلما مثل بين يديه قال: ما حملك على هذا؟ قال: الحاجة، فقال له: كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك لهذا الصيرفي، ولكن ارفق، فإن علينا كلفاً كثيرة، وقال للصيرفي: كلما جاءك شيء من خط هذا فاصرفه، ولا تشاور عليه. وحكي لي أنه قبل إمساكه ضيع بعض بأبية مماليك بكتمر اللاساقي حياصة ذهب، فقال صاحبها للأمير، فقال الأمير: إن لم يحضر الحياصة، وإلا روحوا به للوالي ليقطع يده، فنزلوا بذلك البابا، فوجد القاضي كرم الدين آخر النهار طالعاً إلى القلعة، فوقف وشكا حاله، فقال: أخروا أمره إلى غد، فلما نزل إلى داره؛ قال لبعض عبيده: خذ معك غداً حياصة ذهب، لنعطيها لذلك البابا المسكين، فلما أصبح وطلع إلى القلعة أمسك، واشتغل الناس بأمره، ونسي أمر البابا، ولما فرغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 الناس طلب البابا، وجهز إلى الوالي، فقال له رفاقه: ما كان القاضي كريم الدين وعدك، روح إليه، فقال: يا قوم، إنسان قد أمسك وصودر، أروح إليه! فراح إليه، وكان قد أمر بالمقام في القرافة، فلما دخل إليه؛ شكا حاله، فقال: يا بني، جئت إلي وأنا في هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الدراهم، استعن بها، كانت قريب الألفين، فلما أخذها وخرج؛ قال لذلك العبد: ما كنت قد أعطيتك حياصة ذهب لهذا البابا؟ فقال: نعم، وهي معي، فقال: هاتها، فأخذها، وطلب البابا، ودفعها إليه، وقال: هذه الحياصة أعطهم إياها والدراهم أنفقها، فطلع بالحياصة، وأعطا للمملوك، فدخل بها المملوك للأمير سيف الدين بكتمر الساقي، فطلب البابا، وقال له: قل لي أمر هذه الحياصة كيف هو؟ فحكى له ما جرى له مع كريم الدين، فقيل لي: إن بكتمر الساقي لطم وجهه، وقال: يا مسلمين! مثل هذا يمسك أو يؤذى؟! وما إمساك كريم الدين برضى بكتمر. وحكى لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي نجم الدين بن الأثير قعدا يوماً على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه، فقال علاء الدين بن عبد الظاهر: ما مكارمه إلا لمن يخالفه، فهو يصانع بذلك عن نفسه، فما كان بعد يومين أو ثلاث إلا حتى احتاج نجم الدين بن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام، فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل فيها بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص، فحمل إليه جملة كبيرة، فضل له منها عما احتاج إليه ثلاثون قنطاراً، ولم يأخذ عن ذلك ثمناً، وأما علاء الدين بن بعد الظاهر؛ فإنه تركه يوماً في بستانه، وانحدر إليه في البحر، فلم يدر به إلا وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 أرست حراقته على زربية علاء الدين، فنزل إليه، وتلقاه، ودهش لقدومه، فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان، ومهما كان طعام ذلك النهار يحضره، فأحضر له ما اتفق حضوره، وقال له: يا مولانا أنا ما أعلمتك بمجيئي، ولكن أنا مثل اليوم ضيفك، ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة، وشرع رتبها على ما أراد، وخرج من عنده، فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زربيته بأنواع الأخشاب والطوب وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع والفعول، وكل ما يحتاج إليه، وأخذوا في هدم ذلك المكان، وشرعوا في بنائه، على ما قال لهم، فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف بالذهب واللازورد، وفرغ منه، فلما كان قبل الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسوق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفائق وغيره، والسكر والأرز، وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه، وعمل الطعام الفائق المختلف ومد السماط العظيم، ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره وجاء إليه، وجد الدار قد عمرت على ما أراد، والطعام قد مد سماطه، فأكل هو ومن معه، وأحضر أنواع الفواكه والحلوى والمشروب، ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة، أخرج إليه منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره، وما يصلح لملبوس علاء الدين، وقال: هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 ما يحبه ويراه، وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة لحم وجراية، ونزل يركب، ونزل معه علاء الدين، فلما ركب وفارقه، قال: يا مولانا علاء الدين! والله هذه الأشياء أنا أفعلها طباعاً، وأنا لا أرجوك ولا أخافك. وقيل: إنه مرة شرب دواء، فجمع له كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد، وحمل إلى داره وبسط ذلك الورد إلى كراسي الطهارة، وداس الناس ما داسوه، وأخذ ما فضل أباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم. وكان السلطان قد فوض إليه نظر البيمارستان المنصوري، فنمت أجور أوقافه، وعمرت وعمر البيمارستان، وكان كلما دخل فيه تصدق بعشرة آلاف درهم، ومات مرة من الزحمة ثلاثة أنفس. وبالجملة، فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى يبتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره. وهو الذي صدق أخبار البرامكة، ومن رئاسته الكاملة أنه كان إذا قال: نعم؛ كانت نعم، وإذا قال: لا؛ فهي لا، وهذه الخلة تمام الرئاسة. وكان في كل أول ثلاثة الشهور رجب وما بعده من كل سنة يخرج كل من كان في الحبوس من الولاية، ومن حبس الشرع، وما يدع في الحبوس أحداً، إن كان عليه دين أوفاه، أو على قضية معضلة أحضر الغريم، وتوصل إلى رضاه بكل طريق، وعمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 بالزربية جامعاً وميضأه، وعمر في طرق الرمل البيارات، وأصلح الطرق، وعمر في دمشق جامع القبيبات وجامع القابون، ووقف عليهما الوقوف الجيدة. وكان عاقلاً وقوراً داهية، جزل الرأي بعيد الغور، بحب العلماء والفضلاء، ويبرهم ويحسن إليهم أخبرني الشيخ شهاب الدين العسجدي، قال: كنت ليلة عيد مع الشيخ صدر الدين ونحن متوجهان إلى القرافة، فعرض لنا فقير، وقال للشيخ: يا سيدي، شيء لله، فقال لي: كم معك؟ قلت: لا عليك، توجه إلى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يسلم عليك، ويهنئك بالعيد، فتوجهت إليه، وقلت له ذلك، فقال: كأن الشيخ مفلس في هذا العيد، يا ططاج - مملوكه - ادفع إلى رسول الشيخ ألفي درهم، قال: فأخذتها، وجئت بها إليه، فقال الشيخ: صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحسنة بعشرة. قدم من ثغر من الإسكندرية مرة في نوبة الحريق الذي وقع بالقاهرة، فغوت به الغوغاء، ورجموه، فغضب السلطان، وقطع أيدي أربعة، ثم إنه مرض في ذلك العام قبل الواقعة، ولما عوفي زينت القاهرة، وتزاحم الخلق، واختنق واحد. ولما انحرف عنه السلطان أمر للأمير سيف الدين أرغون النائب بالقبض عليه، فلما أراد بكرة النهار الدخول إلى السلطان على العادة طلبه إلى بيته وأمسكه، وأوقعت الحوطة على دوره وموجوده، وأمسك ولده علم الدين عبد الله، وكان يوماً عظيماً، وذلك يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وبقي في بيته أياماً، ثم إنه رسم له بالنزول إلى تربته بالقرافة، فتوجه إليها، وأقام بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وفي جمادى الآخرة رسم بتسفيره إلى الشوبك، فأقام به إلى أن رسم له بالحضور إلى القدس، فوصل إليه تاسع عشر شوال من السنة المذكورة، فأقام به يحسن إلى الفقراء والمجاورين والزوار، إلى أن رسم له بالعودة إلى مصر، فتوجه من القدس في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إليها أخذ ما كان من ذخائره وحواصله وموجوده، ورسم له بالتوجه إلى أسوان، فأقام بها إلى أن توجه إليه الأمير ركن الدين بيبرس الفارقاني، وأصبح على ما قيل مشنوقاً بعمامته، وقيل: إنه لما أحس بقتله توضأ، وصلى ركعتين، وقال: هاتوا، عشنا سعداء، ومتنا شهداء. وكان الناس يقولن: ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة. وكان قد طلب الحجار وست الوزراء، وسمع عليهما صحيح البخاري بقراءة شيخنا ابن سيد الناس ووصلهما، ووصل الشيخ بجملة، وكتب له بها نسخ وذهبت وجلدت. وكتب إليه شرف الدين القدسي: إذا ما بار فضلك عند قوم ... قصدتهم ولم تظفر بطائل فخلهم خلالك الذم واقصد ... كريم الدين فهو أبو الفضائل وأنشدني إجازة شيخنا أبو الثناء شهاب الدين محمود، ما كتب به إلى القاضي كريم الدين يتقاضاه سكراً له في الديوان: أيها السيد الذي لو تجارى ... جوده والحيا لقصر وبله والكريم الذي تفرد في الجو ... د فلم يلف في المكارم مثله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 والذي كل ما تفرق بين الن؟ ... اس من فرغ نائل فهو أصله والذي كل ما يقال من الأو ... صاف والمدح والثنا فهو أهله عم معروفة وتمت أيادي؟ ... هـ، وزادت علياه وامتد فضله ؟ وسما نيله على النيل إذ في ... كل يوم إن تأته فاض فضله وهمى جوده فلو لم يسل سأ ... ل ومن لم يقصده وافاه بذله لي رسم على نداك من السك؟ ... ر هذا أوانه ومحله وخصوصاً والعبد من إثر ضعف ... آده ثقله وأعياه حمله لي مني تصحيفه في نظام ... يتقاضاه عقده أو حله مثل مولاي من يرى الشكر أولى ... فهو آل الندى ويصبيه فعله فابق واسلم يعزى إليك الندى وال؟ ... جود والفضل والتطول كله ما تغنت ورقاء في الورق النض؟ ... ر وحلى معاطف الدوح ظله ومما رثى به الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم للقاضي كريم الدين رحمه الله تعالى: كريم الدين عشت بكل خير ... ومت ممات كل فتى كريم شهيداً قد درجت بغير ذنب ... ولا إثم يؤثم للأثيم بلغت جميع ما تختار حتى ... بلوغك رحمة الله الرحيم إلى جنات عدن صرت يا من ... له تشتاق جنات النعم وجدت بما حوت كفاك فينا ... لأرملة وشيخ أو يتيم وللأمراء والفقراء حتى ... لأثرى كل محتاج عديم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 ففي دنياك فزت بكل حظ ... وفي أخراك بالأجر العظيم وقد خلفت ما يبقى إلى أن ... تقوم قيامة العظم الرميم من الذكر الجميل لكل صنع ... حديث منك أو بر قديم مناقب خصها الرحمن منه ... بما قدم عم من فضل عميم وبالمدح المضمن كل حمد ... وشكر ظاعن لثنا مقيم وما أبقيت في قلبي جواه ال؟ ... مجدد للهموم وللغموم لقد جرعت حين جرعت كأس ال؟ ... حمام فتاك كاسات الحميم ففي الجنات أنت بغير شك ... ومن خلفت في نار الجحيم ويحسب من تصبره سليماً ... وكيف وليله ليل السليم يقضي ليله بتعلات ... ويخلو في دجاه بالهموم فلا تبعد فإن الموت آت ... على المخدوم منا والخديم عبد اللطيف بن بلبان ابن عبد الله السعودي، الشيخ الصالح الفاضل سيف الدين أبو محمد. كان خليفة الشيخ عمر السعودي مدة، ثم ولي المشيخة ولد الشيخ عمر. سمع من ابن عزون، والمعين ابن القاضي الدمشقي، وخرج له شهاب الدين الدمياطي جزءاً. وكان فيه خير وديانه، وله شعر وكلام على طريقة القوم. توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وكتب في الإجازات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 عبد اللطيف بن خليفة الصدر المعظم الفضل شمس الدين العجمي أخو النجيب كحال غازان وغيره. كان النجيب المذكور له صورة كبيرة، ومحل زائد عند ملوك المغل، وكان أخوه هذا شمس الدين عبد اللطيف قد تسمى في تلك البلاد بالملك الصالح، وورد إلى الديار المصرية، فأكرم كثيراً إلى الغاية. وكان أديباً فاضلاً، لبيباً عاقلاً، على ذهنه غوامض من العربية، وعنده نكت ظريفة أدبية، يترسل بغير سجع، وينبت في طروسه أزاهر بغير رجع، لكن بعبارة فاضل، بحاث مناضل، يستشهد على مقصوده بالآيات الكريمة، والأحاديث القويمة والحكمة القديمة، والأشعار الرائقة، والفقر الفائقة، وخطه قوي إلى الغاية من عادة تعليق العجم، وشبه الزهر الذي أينع لما نجم، وله مداخلات مع السلطان وغيره من أرباب الدولة، وممن له في الدهر جولة، يتحدث بالتركي والعجمي فصيحاً، ويذر من يجادله في الوقت طريحاً. وكان له إقدام على الأكابر، وجرأة على أرباب السيوف والمحابر، ويحضر عند السلطان في بعض الأحيان، وينفع من يريد، ويضر بكل لسان. ولم يزل على حاله إلى أن مرض بفالج، فكابد منه ألماً يعالج من برحه ما يعالج، ثم إنه بطلت حركات جوارحه، وقيدت مطلقات سوارحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وجدوه غريقاً في البركة، ودفن في مقابر باب النصر. وكان له من الرواتب في تلك الأيام ما يقارب الألفي درهم، واجتهد بدهائه، إلى أن جعل ذلك في جملة رواتب المماليك السلطانية حتى إن المستوفين لا يتعرضون له إذا عملوا استيماراً، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب إذا رآه في القلعة يقول: ما أحسد إلا هذا الشيخ الذي له في كل شهر ألفا درهم، وهو دائر بطال بلا شغل. وكان يحضر عند السلطان في سرياقوس، يتكلم بين يديه بالنفع والضر لمن يريد، لأنه كان خبيراً بأخلاق الملوك، ومخاطباتهم وسياساتهم. قال لي من لفظه: أنا أتعيش بين الناس، وأتجوه عندهم بكل جلسة أجلسها بسرياقوس عند السلطان عدة شهور. وكانت له خصوصية بالقاضي فخر الدين ناظر الجيش، وبالقاضي علاء الدين بن الأثير كاتب السر، ونفع جماعة، وهو كان أحد من ساعد الخطيب جلال الدين القزويني على توليه قضاء القضاة بالشام وعلى الحضور إلى قضاء الديار المصرية. ودخل يوماً إلى القاضي مجد الدين بن لفيتة، وهو ناظر الدولة، يطالبه بمرتبه وألح عليه، وزاد في الإبرام، فقال له: يا مولانا كل شهر ألفا درهم، ما تمهل علينا بشهر واحد؟، فقال: يا مولانا هذه الألفان التي لي ما تكفي هذا عبدك الذي يحمل دواتك أن يشرب بها نبيذاً، فلم يجبه بكلمة، وصرف له ما أراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وكان إذا حضر عند فخر الدين ناظر الجيوش أخذ الورقة من يده، ونتشها بعنف، ورمى بها، وقال: خلنا من هذا، وتحدث بنا في شأننا. وكان شيخاً تام القامة، أعشى البصر قليلاً، ذا عمة صغيرة كأنها تخفيفة، وكان لا يخاطب إلا بمولانا، وكان يدعي أنه قرأ المنطق على الأثير الأبهري. وكانت له دار مليحة على بركة الفيل، وله أموال وجواهر نفيسة، ورأيته يوماً وقد دخل إلى الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك، وقد انقطع الأمير من وجع مفاصل كان يعتريه في رجليه، وكان قد غاب عنه مدة، فلما رآه مقبلاً؛ قال له: يا مولانا! أين كنت في هذه الغيبة؟ وا ويلاه من رجلك. وكان أصله بتلك البلاد يهودياً ثم أسلم، ولما انفلج جاء إلي الشيخ شمس الدين محمد ابن الأكفاني، وقال لي: يا مولانا الآن. كما أسلم شمس الدين العجمي، فقلت له: كيف ذلك، وهو قديم الإسلام؟! فقال: لأن المسلمين سلموا من يده ولسانه، يعني بالفالج الذي حصل له. أخبرني من لفظه العلامة شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: اجتمع يوماً شمس الدين، والأمير ناصر الدين بن البابا، وشجاع الدين الترجمان، ونجم الدين بن قاسم بن مرداد، فقال ناصر الدين: أخبرني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 هذا، وأشار إلى أحد الاثنين، فقال شمس الدين: من هو هذا؟ " إن البقر تشابه علينا " فقال شجاع الدين: مولانا، من قال هذا الكلام. فقال شمس الدين: الذين قال الله في حقهم: " يا بني إسرائيل اذكر نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين "، فقال شجاع الدين: مولانا، حاشاك تقول مثل هذا! وإنما قال الله في حقهم: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " الآية، أو كما قال. ولما دخلت القاهرة اجتمعت به في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فرأيت منه رجلاً داهية، خبيراً بما يتكلم به، يغلب عليه العقليات، ويستحضر من كلام الحكماء جملة وافرة، وينقل كثيراً مما يذاكر به من فنون الأدب ووقائع الناس، خصوصاً وقائع ملوك المغل، وله ذوق جيد في الشعر، وتفضل في حقي كثيراً رحمه الله ونوه بذكري عند الأكابر وأثنى علي ثناء كثيراً انتفعت به، شكوت إليه يوماً من بعض الكتاب، فقال لي: مولانا القواهر العلوية دائمة الفيض ممنوعة الحجب تقتص من الظالم للمظلوم، ومن الحاكم للمحكوم. وكتبت أنا إليه في أول شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة: يا من بحبل ولائه أتمسك ... وبذكره بين الورى أتمسك أوليتني نعماً غدت تترى فما ... تدرى وغاية شكرها لا تدرك وأفدتني فضلاً بكل نفيسة ... تشرى فجودك في الورى لا يشرك أنت المبوأ ذروة المجد التي ... عزت فما لسواك فيها مسلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 حزت السيادة في الأنام وأنت في ... أهل العلوم على الجميع مملك كل ينام عن المحامد والعلا ... وإذا دعي لفضيلة يستدرك إذا عزائمك العلية كم لها ... في كسب ذلك باعث ومحرك وتجود مبتدئاً ومالك مقصد ... إلا طباع فتى غدا يتبرمك شيم من النفس الأبية أشرقت ... أبداً تقاد إلى الجميل وتملك وغدت مرنحة بما تولي الورى ... صنعاً جميلاً شأوه لا يدرك هذبتها بمعارف قدسية ... فتبيت تصقل بالعلوم وتسبك حتى لقد خلصت ونور ذاتها ... عرفان من بجنابه تتمسك إن لم يكن هذا فكيف بررتني ... وجعلت ثغر الدهر نحوي يضحك يا شمس فضل ظله المبسوط لي ... أنا من سناه في الورى أتبرك سطرت ما أوليتني ذهباً على ... وجه الزمان وذا المديح يزمك فتهن شهراً قد أتاك مبشراً ... يا خير من بصيامه يتنسك واسلم ودم في كل خير وافر ... من حيث يأتي لا يمل ويترك ما بات ضوء الشمس يصقل جدولاً ... ويروح من نفس الصبا يتفرك عبد اللطيف بن ممد بن سند سراج الدين التاجر الكارمي الإسكندراني. كان من أعيان الكارم، وذوي الجود والمكارم، رئيساً وجيهاً، فاضلاً نبيهاً، وقف وقوفاً جيده، وبنى مدرسة بالثغر للمحاسن متصيده، وسمع وروى، وأطنب في ذلك وما غوى، وله ديوان كله أمداح نبوية، ومحامد على خير البرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ولم يزل على حاله إلى أن طفئ سراجه، وكمل نقد عمره وخراجه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة. وكان قد سمع من النجيب، وابن فارس، وغيرهما، وحدث وسمع منه الأعيان. ومن شعره: لي بالأجيرع دون وادي المنحنى ... قلب تقلبه الصبابة والضنا غاروا عليه بالغوير ويمموا ... نجداً سحيراً واستقلوا أيمنا ملكوه مني بالمكارم والعلا ... وحموه عني بالصوارم والقنا أتبعتهم يوم استقلت عيسهم ... بحشاشة ألفت معاناة الغنا ونثرت من جفني عقيق مدامعي ... حين التفرق فاستحالت أعينا وسرت بي الهوج البوازل ترتمي ... ليلاً ولذ لها الفناء على الفنا حتى إذا أهدت لنا ريح الصبا ... عرف الخزامى زال عنها ما عنى فأنخت نضوي ثم قلت لها: قفي ... مهلاً رويدك فالمعرس ههنا وأنشدني من لفظه العلامة أبو حيان قال: ومن شعر سراج الدين المذكور: ما للنياق عن العراق تميل ... تهوى الحجاز وما إليه سبيل ذكرت لياليها المواضي بالحمى ... والوجد منها سائق ودليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 واستنشقت عرف الخزام وشاقها ... ظل بأكناف الغوير ظليل عجباً لها تهوى النسيم تعللاً ... بنسيم رامة والنسيم عليل ترد النقيب وما تبل به صدى ... وتود لو أن العذيب بديل لله ليلتها وقد لاحت لها ... أعلام يثرب واستبان نخيل وبدا لها شعب الثنية فانثنت ... تهتز من طرب به وتميل يحدو لها حادي السري مترنماً ... ما بعد طيبة لركاب مقيل يا سائق الوجناء عرج بالغضا ... فهناك عرب بالأراك نزول دار لعزة ما أعز جوارها ... وظلالها للوافدين نزول للنوق مراعاها البهيج وللعدى ... نقم تهيج وللجياد صهيل فإذا حللت فللظباء مراتع ... وإذا رحلت فللحمام هديل عبد اللطيف بن أحمد ابن محمود بن الإمام الفاضل التاجر، سراج الدين بن الكويك، بكاف أولى مضمومة، وبعدها واو مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وبعدها كاف أخرى. كان فاضلاً جيد العربية، والمقاصد الدقيقة الأدبية، حسن الشاكلة والمحيا، لو حاول القمر حسنه ما تم له وما تهيأ، حسن النظم البارع، جيد الذهن فيما يفهمه وإليه يسارع. سمع بقراءتي على شيخنا أثير الدين كثيراً، وكان يحلني من قبله محلاً أثيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 توجه إلى التكرور بتجارة فلم يكر، وحل به من الموت هناك الأمر النكر. وتوفي هناك رحمه الله سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. اجتمعت به غير مرة ونحن نحضر حلقة شيخنا أثير الدين، وسمع بقراءتي جملة، وكان شافعي المذهب، قدم دمشق سنة عشر وسبع مئة، وسمع بنت البطائحي وإسحاق الأسدي وابن مكتوم. وقفت على ثلاثة أبيات بخطه كتبها على مصنف لشيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي سماه كل وما علي تدل وهي: لله ذر مسائل هذبتها ... ونفيت خلفاً عد خلفاً نقله وحللت إذ قيدت بالشرطين ما ... أعيا على العلماء قبلك خله فعلا على الشرطين قدرك صاعداً ... أوج العلوم وفوق ذاك محله عبد اللطيف بن عبد العزيز ابن عبد السلام، الفقيه محيي الدين بن الشيخ عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي. روى عن ابن اللتي، وطلب الحديث بنفسه بالقاهرة وقرأ على الشيوخ، فكان أفضل الإخوة، وهو من بينهم صاحب القريحة والهمة والنخوة، قرأ الفقه وتميز، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وانزوى إلى زاوية العلماء وتحيز، وكان يعرف تصانيف والده جيداً، ولم يكن عن معرفة غيرها متحيداً. ولم يزل على حاله إلى أن لقي عبد السلام من ربه سلاماً، ولم يسمع محادثه منه كلاماً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة، وقيل: سنة خمس. عبد اللطيف بن عبد العزيز الشيخ مجد الدين بن تيمية الحراني الحنبلي. روى عن جده، وعن عيسى بن سلامة، وابن عبد الدائم. وخطب بحران سنوات، وكان عدلاً خيراً. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. عبد اللطيف بن محمد ابن الحسين العلامة أبو البركات بدر الدين بن شيخ الشافعية القاضي تقي الدين بن رزين الحموي المصري الشافعي. كان إماماً تفنن، وعرف المذهب وتعين، ودرس وأفتى، وحسن وصفاً ونعتاً، أعاد لأبيه، وولي قضاء العسكر، فلم يكن له فيه شبيه، ودرس بالظاهرية، وخطب الجامع الأزهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 ولم يزل على حاله إلى أن خف ابن رزين على نعشه، وبله وبل الردى بطشه. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة. ومولده بدمشق سنة تسع وأربعين وست مئة. وحدث عن عثمان خطيب القرافة، وعبد الله ابن الخشوعي، وغيره، وكان قد حفظ المحرر في الفقه. وكان فقيهاً كبيراً قد تولى الإعادة لوالده، وهو ابن عشرين سنة، وأفتى، وناب في الحكم بالقاهرة وقليوب، وولي قضاء العسكر في حياة والده، واستمر على ذلك إلى أن مات، أكثر من ثلاثين سنة. ودرس بالمدرسة الظاهرية، والسيفية والأشرفية، وخطب بالجامع الأزهر، وكان يذكر الدروس من الفقه والحديث والتفسير والأصول، وكان له اعتناء بالحديث والرواية. وولي قضاء العسكر عوضه جمال الدين الأذرعي مضافاً إلى قضاء القضاة بمصر. عبد اللطيف بن عبد العزيز الشيخ الإمام النحوي المقرئ شهاب الدين بن المرحل الحراني. كان في النحو علامة، له فيه أمارات بينة وعلامة، لو عاصره الأستاذ ابن عصفور لكان غلامه، متثبتاً فيما يقوله، سالمة من الشك نقوله، يكتب خطاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 حسناً قوياً، ويأتي به في المنسوب سوياً. وكان يتردد من مصر إلى حلب، ويتجر بالكتب فيها إذا جلب. ولم يزل على حاله إلى أن رحل رحلة لم يعد منها إلى هذه الدار، ورثاه حتى الحمام الهدار. وتوفي رحمه الله تعالى سنى أربع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة. سمعت صحيح البخاري بقراءته في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بالظاهرية بين القصرين على شيخنا أبي الفتح. وكان فيه جمود يسير، وما اعتقد ذاك الجمود عن بلادة، ولكنه كان ذا تثبت في النقل. أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن الخباز، قال: سألته بحلب، فقلت: يا سيدي، كِشاجم بكسر الكاف أو فتحها أو ضمها؟ فأخذ يفكر زماناً، ويقول: كُشاجم بضم الكاف مثل علابط، هذا وزن صحيح، ثم التفت إلي، وقال: يا سيدنا، لا تنقل عني في هذا شيئاً ما يحل لك. قلت أنا: المعروف بين أهل الأدب أنه كشاجم بفتح الكاف لأنه كما قيل في سبب تسميته بذلك أنه كان كاتباً شاعراً أميراً جليساً منجماً، فأخذوا له من كل وصف حرفاً وركبوا له هذا الاسم. وكان الشيخ شهاب الدين رحمه الله تعالى يعرف ألفية ابن مالك، أقرأها جماعة بالقاهرة وحلب، وممن قرأها عليه بالقاهرة أخي إبراهيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وقد اجتمعت به رحمه الله تعالى غير مرة، وأخذت من فوائده، وكان يلازم سوق الكتب كثيراً لأنه كان يتجر فيها، وينقلها إلى حلب. عبد اللطيف بن نصر ابن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر بن الشيخ أبي سعيد الميهني الشيخي نجم الدين شيخ الشيوخ بالبلاد الحلبية بن الشيخ بهاء الدين أبو محمد. سمع من جده لأمه حامد بن أميري، وعبد الحميد بن بليمان، ويحيى بن الدامغاني، وابن روزبه، وغيرهم. أقام بحلب وحدث بها. وغص بلقمة، فمات رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده بحمص سنة تسع وست مئة، وكتب لشيخنا الذهبي بإجازة مروياته. عبد اللطيف الشيخ سيف الدين شيخ زاوية السعودية بالقاهرة، كان يعرف قبل ذلك ببلبان الكرجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 سمع من المعين أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي، وأبي إسحاق إبراهيم ابن عمر بن مضر، غيرهما. وخرجت له مشيخة لطيفة، وكتب خطاً حسناً متوسطاً. أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب بخطه: أجزت لهم رواية كل مالي ... روايته سماعاً أو إجازه ومالي من مقول مؤلفات ... حوت نظماً ونثراً لي مجازه أجزتهم وأرجو الله ربي ... ينيلهم الكرامة والعزازه عبد المحسن بن حسن ابن سليمان البارنباري جمال الدين. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: رايته مراراً بالقاهرة ودمياط، وبمصر، وله نظم، منه ما أنشدني لنفسه بدمياط وهو: متى يا أهيل الحي أحظى بقربكم ... ويبلغ قلبي من لقائكم القصدا وترجع أيام تقضت على الحمى ... وتنجز ليلى من تواصلها الوعدا قال: وله أيضاً: منهج فخر الدين في حكمه ... وشرعه أقوم منهاج قد وسع الناس بأخلاقه ... فما له في الخلق من هاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 عبد المحسن بن أحمد ابن محمد بن علي، الشيخ المسند أمين الدين أبو الفضائل بن شهاب الدين بن الحافظ جمال الدين أبي حامد بن الصابوني. أجاز لي بخطه المرتعش المعوج بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت سادس جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده في سابع عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وست مئة. وسمع من أصحاب البوصيري، وكان مكثراً. وحدث وهو من رواة جزء ابن عرفة. وسمع ابن عزون، وابن القاضي الدمشقي، وابن علاق، والنجيب الحراني بالقاهرة، وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وشيوخ جمة. وكان شاهداً بمصر ثم ضعف بصره. عبد المحسن بن عبد اللطيف ابن محمد بن الحسين بن رزين، القاضي الإمام علاء الدين بن القاضي بدر الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين بن رزين. سمع من العز الحراني، وغازي. سمعت خطابته ودرسه بالظاهرية غير مرة، وكان فصيحاً بليغاً، ودرسه بسكون، لا يتكلم فيه أحد غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 أجاز لي بخطه في رابع المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وسمع من ابن خطيب المزة سنن أبي داوود بقراءة أبي حيان. وكان خطيباً بالجامع الأزهر عبد المحمود بن عبد الرحمن ابن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله الشيخ الإمام القدوة والصدر الكبير شهاب الدين أبو القاسم بن أبي المكارم بن الشيخ عماد الدين أبي جعفر بن الشيخ الإمام القدوة شهاب الدين أبي حفص السهروردي البغدادي. كان شيخاً قدره كبير، له وقار يخف عنده ثبير، صدر العراق وقلبه، وعينه التي يطبق الدهر عليها هدبه، أمواله جزيلة، وحشمته نبيلة، وكلمته كالسهام النافدة، وعظمته في النفوس ترى وهي إلى الثريا آخذة. وكان يجلس للوعظ أحياناً، ويموت سامعوه وجداً، وهم يقولون: أحياناً. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد المحمود على الأعناق محمولاً، وقطع من كل من كان يؤمه مأمولاً. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مئة. وكان قد لبس الخرقة من جده أبي جعفر محمد، وروى عنه سداسيات القاسم بن عساكر. ولشيخنا علم الدين البرزالي منه إجازة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 عبد المحمود بن عبد السلام ابن حاتم بن أبي محمد بن علي البعلبكي الدمشقي الشافعي الشيخ الإمام العالم مجد الدين أبو المحامد. اشتغل وحفظ التنبيه وعرضه على المشايخ، وقرأ على الشيخ محيي الدين النووي، ولازم الشيخ برهان الدين الإسكندري وقرأ عليه القرآن والتنبيه. وسمع الحديث من القاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي وحدث عنه. وقال: كتبت الأسماء في مجالس الحديث، وقرأت بنفسي على الكرجي والقاضي ابن الخويي، وأجلسني مع الشهود القاضي بهاء الدين بن الزكي. وكان يدعي أنه من ذرية أبي فراس بن حمدان. توفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين عرفة تاسع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وقال: كنت رضيعاً عندما دخل هولاكو البلاد. عبد الملك بن أحمد ابن عبد الملك الأنصاري، تقي الدين الأرمنتي الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 سمع الحديث على شيخه مجد الدين القشيري، وابنه الشيخ تقي الدين، وعلى عبد المحسن ابن إبراهيم المكتب وغيرهم. وحدث، وكان فقيهاً مفتياً، معيداً في فضله مبدياً وكان يحسن إلى الفقهاء، ويجود على الأدباء ويساعدهم على المناصب، ويكف عنهم بفضله كل شر واصل واصب. ولم يزل على حاله إلى أن أنشبت فيه المنية أظفارها، وحكمت فيه شفارها. وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده بأرمنت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة. وكان قد أجازه الشيخ مجد الدين بالإفتاء، وله أرجوزة في الحلى، ورجز تاريخ مكة للأزرقي. وكان يكتب خطاً رديئاً لا يحسن أحد يستخرجه إلا الشاذ. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان بعض قضاة قوص إذا جاءت إليه ورقة بخطه، يقول لصاحبها: أحاضره ليقرأها. ومن شعره: قالت لي النفس وقد شاهدت ... حالي لا تصلح أو تستقيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 بأي وجه نلتقي ربنا ... والحاكم العدل هناك الغريم فقلت: حسبي حسن ظني به ... ينيلني منه النعيم المقيم قالت وقد جاهرت حتى لقد ... حق له يصليك نار الجحيم قلت معاذ الله أن يبتلي ... بناره وهو بحالي عليم ولم أفه قط بكفر وقد ... كان بتكفير ذنوبي زعيم وقال في لزوم سوق الوراقة: أيا سائلاً حالي بسوق لزمته ... يسمونه سوق الوراقة ما يجدي خذ الوصف مني ثم لا تلو بعده ... على أحد من سائر الخلق من بعدي يكسب سوء الظن بالخلق كلهم ... وخسة طبع في التقاضي مع الحقد وينقص مقدار الفتى بين قومه ... ويدعى على رغم من القرب والبعد وإن خالف الحكام في بعض أمرهم ... يرى منهم الله كل الذي يردى ولا سيما في الدهر إذ رسموا لنا ... بأربعة في كل أمر بلا بد ويكفيه تمعير النقيب وكونه ... يشنطط بين الرسل في حاجة الجندي وإن قال إني قانع بتفردي ... فهذا معاش ليس يحصل للفرد فبالله إلا ما قبلت نصيحتي ... وعانيت ما يغنيك عنه وما يجدي وإن كنت مقهوراً عليه لحاجة ... فصابر عليه لا تعيد ولا تبدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 عبد الملك بن الأعز ابن عمران الثقفي، تقي الدين الأسنائي. كان بالتشيع متهماً، وعلى التوالي ملتئماً. وكان في عداد الأدباء، ومن جملة الشعراء. وكان قد قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي. ورد عليهم أسنا. وله ديوان شعر. ولم يزل على حاله إلى أن جف من حياته الورق، ورق خيط عمره ودق. وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة سبع وسبع مئة. ومن شعره: لا تلم من تحب عند سراه ... فغرام الحبيب قد أسراه جذبته يد الغرام لمن يه؟ ... واه فاعذره في الذي قد عراه راح يطوي نشر الليالي من الشو ... ق إليه ووجده قد براه ومنه: جفوني ما تنام إلا ... لعلي أن أراك فزرني قد براني الشو ... ق يا غصن الأراك وطرفي ما رأى مثلك ... وقلبي قد حواك فهو لك لم يزل مسكنفسبحان الذي أسكنوحسنك كم به أفتن وما قصدي سواكحبيبي آه ما أحلىهواني في هواك فخل الصد والهجران ... ولا تسمع ملام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وصلني يا قضيب البان ... ففي قلبي ضرام وجد للهائم الولهان ... يا بدر التمام وزر يا طلعة البدرودع يا قاتلي هجريوارفق قد فني عمري وعد أيام وفاكواسمح أن أقبل يامليح بالله فاك إذا ما زاد بي وجدي ... ولا ألقى معين وصار معي على خدي ... كالماء المعين أفكر األتقيك عندي ... يطيب قلبي الحزين لأنك نزهة الناظروشخصك في الفؤاد حاضروحبي فيك بلا آخر وقولي قد كفاكفجد واعدل وعد واصلوصل من رضاك جبينك يشبه الإصباح ... بنور وقد هدى وريقك من رحيق الراح ... به يروى الصدى وخدك يبهر التفاح ... مكلل بالندى سباني لونه القانيفخلاني كئيب عانيتجافي النوم أجفاني فهل عيني تراكفذاك اليوم فيه خديأعفر في ثراك عذولي لا تطل واقصر ... ودع صباً كئيب تأمل من هويت وابصر ... إلى وجه الحبيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وكن يا صاح مستبصر ... ترى شيئاً عجيب ترى من حسنه مبدعكبدر التم إذ يطلعتحير لم تدر ما تصنع ولا تعرف هداكوتبقى مفتكر حيرانإلا إن هداك عبد الملك بن عبد الرحمن ابن عبد الأحد بن عبد العزيز بن أبي نصر حماد بن صدقة الحراني العطار، الشيخ جمال الدين العطار، عرف بابن العنيقة. قال شيخنا البرزالي: سمعت عليه الفوائد الملتقطة المخرجة من مسموعات أبي الفتح عبد الله بن أحمد بن أبي الفتح الخرقي الأصبهاني انتقاء محمد بن مكي الحنبلي بسماعه من الشيخ العدل أبي الفضل معالي، بسماعه من الخرقي المذكرو بأصبهان في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وست مئة، بقراءة الشيخ تقي الدين بن تيمية، قال: ثم قرأت عليه عدة أجزاء. توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة سبع مئة في المحارة بعد الرحيل من الصالحية إلى العباسة بدرب مصر في الجفل. عبد المؤمن بن خلف ابن أبي الحسن بن شرف، الشيخ الإمام العالم العلامة، الحافظ البارع النسابة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 المجود الحجة، علم المحدثين عمدة النقاد، شرف الدين أبو محمد وأبو أحمد الدمياطي الشافعي. قرأ القرآن وطلب الحديث بعدما تميز في الفقه، وقد صار له ثلاث وعشرون سنة، فسمع بالإسكندرية في سنة ست وثلاثين من أصحاب السلفي، ثم قدم القاهرة وعني بهذا الشأن رواية ودراية، ولازم الحافظ زكي الدين حتى صار معيده. وحج سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وسمع بالحرمين، وارتحل إلى الشام سنة خمس وأربعين وست مئة. وارتحل إلى الجزيرة والعراق مرتين، وكتب العالي والنازل، وبالغ، وصنف إذ ذاك وحدث، وأملى في حياة كبار مشايخه. وسمع من ابن المقير، وعلي بن مختار العامرين ويوسف ابن عبد المعطي بن المخيلي، والعلم بن الصابوني، وإبراهيم بن الخير البغدادي، وابن العليق، وأحمد ويحيى ابنى قميرة، وموهوب بن الجواليقي، وعد بالعزيز بن الزبيدي، وهبة الله محمد بن مفرج ابن الواعظ، وعلي بن زيد التساري، وظافر بن شحم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 المطرز، وشعيب بن الزعفراني المجاور، وصفية بنت عبد الوهاب، وحمزة بن أوس الغزالي، ومحمد بن محمد بن محارب القيسي، ومحمد بن الجباب، وابن عمه أبي الفضل بن الجباب، وابن رواج، وابن رواحة عبد الله، وأبي الحسن محمد بن ياقوت، وابن الجميزي، وحسين ابن يوسف الشاطبي، وعبد العزيز بن النقار الكاتب، ومظفر بن عبد الملك الغوي، وأبي علي منصور بن سند بن الدماغ، ويوسف بن محمود الساوي، وعبد الرحمن بن مكي السبط، ومحمد بن الحسن السفاقسي، خاتمة من سمع حضوراً من السلفي. وسمع بدمشق من عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وطبقتهم. وبدمياط من خطيبها الجلال عبد الله. وبحران من عيسى بن سلامة الخياط. وبماردين من عبد الخالق بن أنجب النشتبري. وبحلب من ابن خليل فأكثر، لغله سمع منه مئتي ألف حديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وبالموصل من أبي الخير إياس الشهرزوري صاحب خطيب الموصل. وبمصر من عبد الكريم بن عبد الرحمن الترابي، حدثه عن خطيب الموصل، وعنده عدة من أصحاب السلفين وشهدة، وابن عساكر، وخلق من أحاب ابن شاتيل، والقزاز، وابن بري النحوي، وإسماعيل بن عوف، ويحيى الثقفي، وابن كليب، وأصحاب ابن طبرزد، وحنبل، والبوصيري، والخشوعي. ونزل إلى أصحاب الكندي، وابن ملاعب، والافتخار الهاشمي. وكتب عنه طائفة من رفائه ومن هو أصغر منه، وعدد معجمه ألف ومئتان وخمسون نفساً. وأجاز له أبو المنجا بن اللتي، وأبو نصر بن الشيرازي. ويروي بالإجازة العامة عن المؤيد الطوسي وجماعة. وحدث عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، والإمام أبو الحسين اليونيني، والقاضي علم الدين الأخنائي، والشيخ علاء الدين القونوي، والشيخ أثير الدين أبو حيان، والشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس، والحافظ المزي، والعلامة قاضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 القضاة تقي الدين السبكي، وفخر الدين النويري، وخلق كثير من الرحالين، وطال عمره، وتفرد بأشياء. قال المزي: ما رأيت أحفظ منه. وسمع جزء ابن عرفة من بضع وثمانين نفساً بالشام ومصر والعراق والجزيرة وجزء ابن الأنصاري من أكثر من مئة شيخ. وكان قد أربى على من تقدمه في علم النسب، لأنه طفا على من سواه، وغيره رسا ورسب. وكان قد برع في علوم، وآسى بعرفانه ما أعيا من الكلوم، وتفنن في فضائل، وتفرد بأدلة ومسائل، وصنف التصانيف المحررة، والتواليف المحبرة، ونحوه فيه غوامض، ولغته فيها الروافع والخوافض، إلى فصاحته المنتهى، وقراءته هي رصد السمع والمشتهى، سريع القراءة لا يعرف التثبت ولا الإناءة، كأنه السيل إذا تحدر، والبحر إذا اندفع بعدما تصدر. مليح الهيئة، قريب العودة والفيئة، حسن الأخلاق، غنياً بعلمه لا يلتفت في الإملاء إلى الإملاق، جيد العبارة، ظريف الإشارة، صحيح الكتب كثيرها، غزير المادة لمن يثيرها، باسم الثغر في ملقاه، طالب الزيادة والعلو في مرقاه، حلو المذاكرة، زائد الإمتاع والتفنن في المحاضرة، حسن العقيدة، كافاً عن الدخول في الكلام، لا يفتح وصيده، ينظم القريض، ويأتي به كالإغريض. وكان موسعاً عليه في رزقه، ولم يك كما جرت العادة مثل من خمل مع حذقه، له عند الناس حرمة وجلاله، وأبهة في النفوس تزين خلاله. ولم يزل يسمع الحديث إلى أن مات فجاءه، وكأنما كان ينتظر قدوم الموت فجاءه. وتوفي رحمه الله تعالى في نصف صفر سنة خمس وسبع مئة. وقال شيخنا علم الدين البرزالي: في خامس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ومولده بتونة، قرية من أعمال تنيس في آخر عام سنة ثلاث عشرة وست مئة. وكان منشؤه بدمياط، وسكن دمشق مدة، وأفاد أهلها، ثم تحول إلى الديار المصرية ونشر بها أعلام علومه، وتولى مشيخة الظاهرية بين القصرين. وتصانيفه كلها جيدة منقحة مهذبة، تشهد له بالفهم وسعة العلم، منها: كتاب الصلاة الوسطى مجلد لطيف. كتاب الخيل مجلد وقد جوده قبائل الخزرج مجلد، العقد المثمن فيمن اسمه عبد المؤمن مجلد، الأربعون المتبانية الإسناد في حديث أهل بغداد مجلد، مشيخة البغاددة مجلد، السيرة النبيوية مجلد، مشيخة، وله غير ذلك. قال الذهبي: سمعته يقول: سمعت ابن رواج يقول: قرأ علي السراج بن شحانة نتف الإبط فحركه بالكسر، فقلت: لا تحركه يفح صنانه. وأخبرني شيخنا ابن سيد الناس، قال: دخل الشيخ على جماعة يقرؤون الحديث فسمعهم يقولون: عبد الله بن سلام بتشديد اللام، فقال: سلام عليكم سلام. وحمل عن الصاغاني عشرين مجلداً من تصانيفه في اللغة والحديث. ومن شعره .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 عبد المؤمن بن عبد الحق ابن عبد الله بن علي، الإمام العالم صفي الدين البغدادي الحنبلي، من علماء العراق. كانت له بالحديث عناية، وله تواليف بلغ فيها النهاية، وعنده فنون، مضى من عمره في جمعها سنون، وكان فيه خير وفتوة، وديانة ومروة. ولم يزل إلى أن تكدر عيش الصفي، وظهر أجله الذي كان في غضون الأيام وهو خفي. وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة. وخرج لنفسه، وسمع من شيخنا الذهبي، ومن الفرضي. عبد المؤمن بن عبد الرحمن الشيخ الإمام الكاتب المجود عز الدين بن العجمي. كانت له فضائل، وعنده فوائد ومسائل، وهو شيخ كتابه، ورب ذكاء ومهابه. كان قد رحل إلى القاهرة، وأهلها في ذك العصر يفاخرون بالمكارم النجوم الزاهرة، فانقطع في بيت بحارة أرجوان، وأرخى على بابه ستارة أرجوان، وتردد الناس إليه، وأقبلو بخواطرهم عليه، فنفقت سوقه، ومشت وما وقفت سوقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وراج وأذكى السراج، وجبى ما وجب له من الإتاوة والخراج. وكان يجلس في كل سوق حيث تباع المجلدات والدفاتر التي فيها دواوين العلوم مخلدات، فيشتري منها القشات وما يمتري، ويقع له فيها مخاريم من صحاح الجوهري، فيكملها بخطه ويناسب، ويأخذ فيها مع ما يترجمه عليها ما شاء من المكاسب. وكان يشد الكتب أحمالاً أجمالاً، ويسير بها إلى حلب أجمالاً أحمالاً، وحصل من ذلك جملاً، وأوفر من فوائدها جملاً. ولم يزل على حاله إلى أن أخذه الموت في قشه، وجعل التراب فرشه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. وكان هو وأخوه الشيخ شمس الدين خطيب حلب الآتي ذكره، إن شاء الله تعالى في مكانه شيخي كتابة. اجتمعت بالشيخ شمس الدين هذا بالقاهرة غير مرة في بيته وفي سوق الكتب، وكان من رجال الدنيا في بابه وإذا ذكر الرجال ما يكونون قطرة في حساب سحابه. وكتب له شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود، رحمه الله تعالى، إجازة وهي: أما بعد حمد الله جاعل علم البيان علماً على الإعجاز، وسلماً إلى ارتقاء ذروة الفصاحة المستقرة على ركني الحقيقة والمجاز، ووسيلة إلى الإحاطة بأسرار البلاغة المستكنة في طرفي الإطناب والإيجاز، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أوتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 جوامع الكلم، ولوامع الحكم، التي يتضاءل لديها كل منثور، من كلام البشر ومنتظم، وعلى آلة وصحبه الذين من زل عن سننهم ذل وهوى، ومن تمسك بسننهم فاز وسلم. فإني لما خلت في غمار طلبة الأدب رغبة في اقتباسه، وطعماً في تحصيل بعضه بإدامة التماسه، وحصلت كثيراً من كبته رواية ودراي، وعرفت ما أجتنب من نقائص المعاني والألفاظ التي لا تؤمن نكايتها في الأذهان السليمة بالسراية، لم أزل أستضيء بنور أئمته، وأهتدي بمنار من بلغ الغاية فيه من علماء أمته، وأقنع من لحاق من برز في مضماره برؤية غباره، وأرضى من مآثر من صرفه على إيثاره بمشاهدة آثاره، فنمت علي نفحات آدابهم، ورفلت في فواضل ما تشبثت به من أهابهم، وكاتبوني فأجبت بعدم الرغبة في العتق في رقهم، وجاروني فوافقتهم في المضمار الأدبي، مع الاعتراف بتقدمهم وسبقهم، فقبلوا من كلامي ما لولا حسن إغضائهم لم يقبل، واسبلوا علي ما اضطرتني إليه المباشرة ستر تجاوزهم ولولا جميل اعتنائهم لم يسبل. ولما فزت بالاجتماع بالجناب العالي الشيخي العزي، نفع الله به طارحته في فنون الأدب غير مرة، فرأيت من مواده بحراً لا يرى العبر عائمة، وشاهدت من بدائهه برقاً لا يفقد الري شائمة، وفاوضت منه إماماً تقطر الفصاحة من أعطاف قلمه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وتخطر البلاغة في أفواف كلمه، وتنزل المعاني المتمنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البدائة حسرى دون الوسط في حلبة علمه، إن وشي الطرس فرياض، وإن أجرى النقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد، لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلم بفكره، ولا يقدم التخيل المسبوق على المرور بذكره، ولا يجوز زيف الكلام على ذهنه المنتقد، ولا يثبت عناء النظام لدى خاطره المتقد، فسمعت منه مقامات في العرفان قد وشى الأدب حبرها، وحقق الطلب خبرها، وزان الصدق لهجتها، وزاد الحق بهجتها، وحلتها البلاغة برقومها، وكللتها الفصاحة بشهبها ونجومها، تشرق القلوب بأضوائها، وترتوي النفوس بأنوائها، وتستضيء البصائر بأقمارها، وتغتذي السرائر بما تجتني في رياض اليقين من يانع ثمارها، ووقفت له على طرائق في التوحيد، أوضحها علمه لسالكها، وهدى فكره الطائف بكعتبها إلى لطائف مشاعرها ومناسكها، فمن أراد الصفا في سلوكه سعى من مروة الإخلاص إليها، ومن تعرض لنفحات الفتح الذي اقتصر في طرق تعبده عليها، مع بروزها في ألفاظ أرق مساغاً من الماء القراح، وأدق مسلكاً في الجسوم من الأرواح، وأجلى لليل الشك البهيم من صباحة محيا الصباح، إلى غير ذلك من أحاديث تكلم على بلاغتها وبلاغها، وأبان ما جهلته الأفهام الظامئة من أسباب مساغها، مما لم يبلغ بذلك إلا إرشاد الطالب، وتنبيه المفتقر إليها على ما أودع في أثنائها من الكنوز، وادخر في أرجائها من المطالب. ولما وقفت على تلك البدائع، وفهمت ما تضمنته من النكت الروائع، وعلم مني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 أني ممن يعرف الدر وإن لم يملكه، وينتقد التبر وإن لم يسبكه، ولذلك أتعوض فيما أعانيه من الكتابة عن الدر بالخرز، وأكتفي عن أبكار المعاني الجليلة من العون المسنة بما هو سداد من عوز، سامني مع ارتفاع شأنه في هذه الصناعة، وإثرائه دوني من نفائس هذه البضاعة، أن أجيزه رواية نظمي الذي قدمت العذر في انتهاج طريقه، ونثري الذي أوضحت السبب في مصاحبة فريقه، ومكاتباتي التي أنشأتها بسبب الوقائع التي دعت إليها، وتواقيعي التي ارتجلت غالبها لحفز الدواعي الباعثة عليها، ولمالي في قواعد ذلك من تأليف وتصنيف، وانتخاب غني بشهرته عن التصريف، فسألته الإعفاء من هذه الدرجة التي قدره أرفع منها، ورغبت إليه في قبول القول بالموجب في إجازتي من فوائده التي هي أحق بأن يروي غريبها ويحدث عنها، فلم يعف من تلك الإشارة التي قصده بها الإحسان، ومراده أن ينظم سبح نظمي في سلك ما يؤخذ عنه من درر بدائعه الحسان. فامتثلت أمره أعزه الله تعالى ونفع به وأجزته رواية ما يجوز لي وأتيه من مسموعاتي ومقروءاتي واختياراتي ومناولاتي، وما لي من نظم مختلف الأوضاع، مستحق، لولا ما يضوع فيه من المدائح النبوية، أن يضاع ولا يذاع، وإنشاء نوعته كثرة المباشرة، وكثرته المحافظة على الوظيفة والمثابرة، ونفحته فوائد المطارحة والمذاكرة، إلى ما يندرج في سك ذلك من تأليف حمل عليه التنقيب عن أسرار هاتين الصناعتين واختيار واختصار وانتقاء وانتقاد، وانتخاب تكلمت على ما فيه من معنى مستملح وأدب مستفاد، ورغبت إليه في أن يصلح من ذلك ما أغفله القلم، وزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 فيه الفكر الذي عثرته أبلغ من عثرة القدم، إذ هو الملي بالإحسان في ذلك، الجدير بتوطئة ما تعذر سلوكه على السالك. ومولدي بحلب في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة، وهي إذ ذاك للعلوم معالم، ولوفود الفوائد مواسم، وسمعت بها الكثير ولكن أين أصوله؟ وفقد لي في الوقعة ثبت كبير، ولكن كيف حصوله؟ فإن وجد في ذلك شيء في الأصول فهو أصل في هذه الإجازة، وإن تعذر وجوده فكم سلبت بضاعة فضل في أثناء مفازه. وكتب: محمود بن سلمان في المحرم، سنة ست عشرة وسبع مئة. عبد المؤمن كان مقداماً جريئاً، شجاعاً من الخير بريئاً، لا يهاب سيول السيوف إذا تحدرت، ولا يخاف من ورد الحتوف إذا تكدرت، بلا عقل بلا دين يردانه عن الردى بلا لب بلا ثبات يصدانه عما يوجب الصدى. قد ركب هو نفسه، وذهل عن وجود حسه. لا يخشى عاقبة، ولا له من الله تعالى مراقبة، يقدم على الليث في غابة، ويرد على المطلوب ولو أن فيه تمزيق إهابة. ولم يزل في سكر جنونه وسوء ما يتوهم في ظنونه، إلى أن ركب الجمل مصلوباً، وانعكس حسابه عليه فأصبح مقلوباً. كان هذا المذكور قد ورد القاهرة في أيام القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وأخذ يتعلق على خدمة الأميرين سيف الدين قوصون وسيف الدين بشتاك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 بواسطة طاجار الدوادار، ولم يكن في ذهن الناس منه شيء إلى أن دخل مع الأمير قوصون وبشتاك على السلطان في معنى النشو، على ما سيأتي في ترجمة النشو، وخاف السلطان شره، فأراد إبعاده، وولاه قوص، وتوفي السلطان الملك الناصر وهو في قوص. ولما خلع الأمير قوصون الملك المنصور أبا بكر بعث به إلى قوص، وكأنه سير إليه في السر بقتله، فقتله، وأخذ ما معه من الجواهر، ولما جاء السلطان أحمد بن الكرك وطشتمر والفخري طلبوه من قوص، وسمروه على جمل، وطافوا به شوارع القاهرة، وشمت به الناس وسبوه ولعنه، واعترف وهو على الجمل مسمر أنه هو الذي جرح القاضي شرف الدين النشو، فقال: يا أهل مصر، أنا ما أبالي بتسميري وقد قتلت ملك الكتاب وملك الترك في بلادكم، فأنا الذي جرحت النشو، وأنا الذي عمل عليه حتى أمسك وقتل، وأنا قتلت المنصور أبا بكر سلطانكم وابن سلطانكم، أو كما قال. وكان تسميره في أواخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكان المذكور رافضياً، والله أعلم بحاله وبما صار إليه في ماله. عبد الواحد بن منصور ابن محمد بن المنير، العلامة عز القضاة فخر الدين الجذامي الإسكندري صاحب التفسير. سمع من السراج ابن فارس، وتفقه بعمه ناصر الدين، وله نظم ونثر، وعمل أرجوزة في السبع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة في يوم السبت رابع جمادى الأولى. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. عبد الواحد بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد ابن المسلم بن الحسن بن هلال بن الحسن بن عبد الله بن محمد، الشيخ الفقيه الفاضل الأصيل، مخلص الدين أبو المكارم، ابن الشيخ عز الدين بن فخر الدين. سمع من جده فخر الدين في سنة ست وخمسين وست مئة، وسمع من ابن أبي اليسر، والنجم ابن النشبي. وأجاز له إبراهيم بن خليل، وعبد الله بن الخشوعي، وعبد الحميد بن عبد الهادي وجماعة. حفظ التنبيه. وكان يكرر عليه إلى آخر وقت، واشتغل على الشيخ تاج الدين. وكان له شعر وخدم في الجهات الدينية. وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وست مئة. وكان عنده تعفف وانقطاع. عبد الواحد بن علي ابن أحمد بن محمد بن عبد الواحد، شمس الدين القرشي الحنبلي. أخبرني من لفظه شيخنا أبو حيان، قال: كان المذكور موصوفاً بالصلاح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 ويذكر عنه أنه اجتمع بالخضر عليه السلام لما سافر عن جبل لبنان واشتاق إليه، وأنشد لنفسه: لعلك يا نسيم صبا زرود ... تعود، فقد ذوى للبين عودي ويا نفحات أنفاس اللخزامى ... على المشتاق من لبنان عودي قال: وأسمع الحديث وسمعنا عليه بالحكر، وكان فيه مقيماً. عبد الواحد القيرواني أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان عندنا بالقاهرة، وله نظم حسن، ورحل إلى الحجاز، واستوطن بمكة، وصحب ملكها أبا نمي الحسيني. وله فيه أشعار حسنة، أجاد فهيا غاية، ونظم بها نظماً كثراً، وتعرض في نظمه لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتل بها أشنع قتل. ومن شعره بالقاهرة مما أنشدنا بعض أصحابنا: غليل أسى لا يهتدى لمكانه ... عزيز أسى لا يرتجى من سقامه خذوا إن قضى في الحب عمداً بثأره ... أخا البدر يبدو في غمام لثامه ورفقاً به لا ناله ما يشينه ... وإن كان أسقى الصب كأس حمامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 غزال تضاهيه الغزالة في الضحى ... وتشبهه في البعد عن مستهامه يموت جني الورد غماً بخده ... ألم تنظروه مدرجاً في كمامه عبد الوهاب بن عمر الإمام الزاهد النحوي ظهير الدين بن عمر بن عبد المنعم بن هبة الله ابن أمين الدولة الحلبي الحنفي الصوفي. سمع من حيية الحرانية، وأجاز له شعيب الحراني، وابن الجميزي. وحدث، وأخذ عنه محمد بن محمد بن طغريل وجماعة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة. عبد الوهاب بن عمر أخو الشيخ صدر الدين بن الوكيل. كان أسود الجلدة، لأن أمه كانت حبشية، تفقه وحضر المدارس، ثم إنه انسلخ من ذلك، وتمفقر وتجرد تجرد العالم. وتوفي رحمه الله تعالى شاباً، سنة تسع وتسعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 عبد الوهاب بن فضل الله القاضي الكبير الخبير، الكاتب المدبر شرف الدين أبو محمد، كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بمصر والشام. كان كاتباً مترسلاً، حسن المقاصد متوصلاً، ما كتب بين يدي الأتراك مثله، ولا عرف مقاصدهم وأتاهم كما في نفوسهم مثل بنانه الذي فاض وبله، يتحيل في عبارته، ويتجنب مستثقل الألفاظ، ويتحيد عن الألفاظ الغربية التي تهجر من الأعراب، فلا يخرج الكتاب من يده إلا عذباً فصيح الألفاظ، ظاهر المعاني، لا يحتاج إلى التنبيه والإيقاظ. يكتب خطاً لو كان للحدائق يوماً ما احتاجت للأزاهر، أو للغواني ما تحلت بالجواهر، متعه الله بحواسه الخمس، وكان يسمع البعيد ويسمع الهمس. وكان مخاديمه يحترمونه ويعظمونه، ويتوخون كبار الدر لأجل الثناء عليه وينظمونه. وكان كاملاً في فنه، حاملاً أعباء ديوانه، إذا انفرد لا تثنه. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه بريد حينه، وحل عليه من الأجل وفاء دينه. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة. ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مئة. وكان في أول أمره يلبس القماش الفاخر، ويأكل الأطعمة المنوعة الشهية، ويعمل السماعات الطيبة، ويعاشر الفضلاء مثل الشيخ بدر الدين بن مالك وغيره. ثم إنه انسلخ من ذك كله لما داخل الدولة وقتر على نفسه واختصر في ملبوسه، وانجمع عن الناس انجماعاً كلياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وكان قد سمع في الكهولة من ابن عبد الدائم، وأجاز له ابن مسلمة وغيره. وتنقل إلى أن صار صاحب ديوان الإنشاء بمصر مدة طويلة، وما كتب قدام أحد إلا وعظمة واحترامه، مثل حسام الدين لاجين، والملك الأشرف، والملك الناصر محمد بن قلاوون. والأمير سيف الدين تنكز كان يذكره كل قليل، ويجعل أفعاله قواعد يمشي الناس عليها. أخبرني القاضي شهاب الدين بن القيسراني. قال: كنت يوماً أقرأ البريد على الأمير سيف الدين تنكز، فتحرك على دائر المكان طائر، فالتفت إليه يسيراً ورجع إلي، وقال: كنت يوماً بالمروج، وشرف الدين بن فضل الله يقرأ علي بريداً جاء من السلطان، والصبيان قد رموا جلمة على عصفور، فاشتغلت بالنظر إليها، فبطل القراءة وقال: يا خوند، إذا قرأت عليك كتاب السلطان اجعل بالك كله مني، ويكون كلك عندي، ولا تشتغل بغيري أبداً، وافهمه لفظة لفظة، أو كما قال. وما رأى أحد ما رآه هو من تعظيم الناس له، رآه الملك الأشرف مرة، وقد قام ومشى، وتلقى أميراً، فلما حضر عنده قال: رأيتك وقد قمت من مكانك وخطوت خطوات! فقال: يا خوند، كان الأمير سيف الدين بيدار النائب قد جاء وسلم علي. فقال: لا تعد تقوم لأحد أبداً. أنت تكون عندي قاعداً وذاك واقف. ولما توفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بمصر، وقام بعده عماد الدين بن الأثير مدة يسرة طلب السلطان الملك الأشرف القاضي شرف الدين من دمشق، ورتبه بعد عماد الدين بن الأثير في صحابة ديوان الإنشاء بالديار المصرية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 فأقام بها إلى أن جاء السلطان الملك الناصر من الكرك في سنة تسع وسبع مئة. وكان قد وعد بالوظيفة للقاضي علاء الدين بن الأثير، فأخرج القاضي شرف الدين إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، فوصل إلى دمشق يوم السبت تاسع عشر شهر الله المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، وهو ينفذ بريداً إلى بعض النواحي. ومتعه الله بجوارحه، لم يتغير سمعه ولا بصره، ولا تغيرت كتابته، وخلف نعمة طائلة من الأموال. ولما مات بدمشق حضر شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود مكانه في صحابه ديوان الإنشاء بدمشق، ورثاه بقصيدة طنانة، وهي: لتبك المعالي والنهى الشرف الأعلى ... وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا وتنتحب الدنيا لمن لم تجد له ... وإن جهدت في حسن أوصافه مثلاً ومن أتعب الناس اتباع طريقه ... فكفوا وأعيتهم طريقته المثلى لقد أثكل الأيام حتى تجهمت ... وإن كانت الأيام لا تعرف الثكلا وفارق منه الدست صدراً معظماً ... رحيباً يرد الحزن تدبيره سهلا فكم حاط بالرأي الممالك فاكتفت ... به أن تعد الخيل للصون والرجلا وكم جردت أيدي العدى نصل كيدهم ... فرد إلى أعناقهم ذلك النصلا وكم جل خطب لا يحل انعقاده ... فأعمل فيه صائب الرأي فانحلا وكم جاء أمر لا يطاق هجومه ... فلما تولى أمر تدبيره ولى وكم كف محذوراً وكم فك عانياً ... وكم رد مكروهاً وكم قد جلا جلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 ومنها: وقد كان للاجين ظلاً فقلصت ... يد الموت عدواً عنهم ذلك الظلا وعف عن الأغراض مغض عن القذى ... صبور عليه في الورى يحمل الكلا سأندبه دهري وأرثيه جاهداً ... وأكثر فيه من بكاي وإن قلا ولم لا وقد صاحبته جل مدتي ... أراه أباً براً ويعتدني نجلا ولم يرنا في طول مدتنا امرؤ ... فيحسبنا إلا الأقارب والأهلا وكم أرشدتني في الكتابة كتبه ... ولو زل عن إرشادها خاطري ضلا وكم مشكلات لم تبن لمحدق ... إليها جلاها فانجلت عندما أملى فمن هذه حالي وحالته معي ... أيحسن أن أبكي على فقده أم لا وعهدي به لا أبعد الله عهده ... وأقلامه أني جرت نشرت عدلا وتجري بما تجري الملوك من الندى ... بها فتزيل الجدب والمحل والأزلا لقد كان ي أنس به وهو نازح ... كأن التنائي لم يفرق لنا شملا وقد زال ذاك الأنس واعتضت بعده ... دموعاً إذا أنشأتها أنست ألوبلا فلا مدمعي الهامي يجف ولا الأسى ... يخف جواه إن أقل لهما مهلا ولا حرقي تخبو وإن يطف وقدها ... بماء دموعي صار فيها غضاً جزلا إلى الله أشكو فقد صحب رزئتهم ... وفقد ابن فضل الله قد عدل الكلا ولم يترك الموت الذي حم منهم ... حمماً ولا خلى الردى منهم حلاً وعمهم داعي الحمام فأسرعوا ... جميعاً وألفى قولنا منه إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وكم يرجئ الساري الونى عن رفاقه ... بإبطائه عمن تقدمه كلا أيطمع من قد جاز معترك الردى ... إذا ركبهم يوماً بدارهم حلا ولا سيما من عاهد الداء جسمه ... يعاوده بدءاً إذا ظنه ولى عزاؤك محيي الدين في الذاهب الذي ... قضى إذا قضى فرض المناقب والنفلا فمثلك من يلقى الدروس بكاهل ... يقل الذي تعيا الجبال به حملا وفي الصبر أجر أنت تعرف قدره ... وآثاره الحسنى فلا تدع الفضلا وسلم لأمر الله وارض بحكمه ... تحز منه فضلاً ما برحت له أهلا ولا زال صواب المزن والعفو دائماً ... يؤمانه حتى إذا وصلا انهلا ورثاه الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن غانم، أنشدنيها لنفسه إجازة: ما كنت من حزني عليك بلاه ... لما فقدتك يا بن فضل الله أصبحت ذا جلد لفقدك واهن ... حزناً عليك وذا اصطباري واه كم صنت سر الملك منك بهمة ... وكفاية ما صانها إلا هي ولكم مهم مشكل أمضيته ... إذ أنت منه امرأو ناه من للمصالح والمهمات التي ... ما كنت عنها ساعة بالساهي كم حاجة حصلت تجاهك وانقضت ... وكريهة فرجتها لله من ذا يقوم مقام فضلك في العلا ... من سائر الأنظار والأشباه ما زلت عمرك محسناً حتى انتهى ... ولكل عمر في الزمان تناه كم قائل ما زلت أنت ملاذه ... قد كنت عزي في الأنام وجاهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 ولكم سعيد مات بعدك خاملاً ... بل كان يفخر دائماً ويباهي ما فرد داهية برزئك قد دهت ... بل قد دهت لما فقدت دواه قسماً لقد خمل الزمان وكنت لم؟ ... اكنت فيه هو الزمان الزاهي لله در معارف قد حزتها ... من ذا يجاري فضلها ويباهي أنطلقت أفواه الزمان بمدحك ال؟ ... عالي لفضل دام منك وفاهي أسفي على ما فات منك وأنت لم ... تبرح بقربي منعماً وتجاهي أبكيك ما بقي البكاء بكاء مح؟ ... زون على طول المدى أواه فسقت ضريحك رحمة فياضة ... ترويه بالأنواء والأمواه ولما طلب في الأيام الأشرفية إلى مصر، كتب إليه علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت: وافقت ربي في ثلاث بأن ... تبقى وترقى وتنال العلى وقد رأت عيناي أمنيتي ... والحمد لله تعالى على والآن في مصر فلا بد من ... أن تخلف الفاضل والأفضلا وكتب إليه، ونقلت من خطه: لئن كان أصلي من ذؤابة كندة ... أولي الحكم الغراء والمنطق الفصل فما زلت طول الدهر أشكر فضلكم ... إلى أن دعوني في القبائل بالفضل ومن إنشاء القاضي شرف الدين بن فضل الله كتاب بشرى بالنيل، وهو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 لا زالت البشائر تستمتع بمحاورته، وتغتبط بمجاورته، وتود لو استقر بذراه قرارها، وطال معه سرارها، وهذه البشرى تبشره بنعمة عظمت مواهبها، وعذبت مشاربها، وانتشرت في البسيطة مذاهبها، وردت الآمال الظماء، وضاهت الأرض بها السماء، وأغنت عن منة الغمام، وعمت مصر بالهناء حتى فاض إلى الشام، وهي وفاء النيل الذي وفى، وفي وفائه حياة البلاد والعباد، وشكر النعمة به متعين على الحاضر والباد. ومنه أيضاً: ورد كتابه فتمتع منه بعرائس أبكار الأفكار، وتملى منه بنفائس من أنفاس الأزهار، وشاهد كل سطر منه أحسن من سطري، وكان ناظره صائماً عن النظر لبعده فأوجب عليه عيد قدومه فطراً، وردد فكره في بدائعه الرائقة الرائعة، ورأى التشريف بإرساله من جملة صنائعه المتتابعة، ووقف عليه وسر بدونه وإيابه. وشكر الأيام التي خولته من اقترابه ما لم تطمعه الأيام في تمثيله ولم يدر في حسابه، والله تعالى يقرن اليمن بهذه الحركة، ويجعلها مشمولة على السعادة مخصوصة بالبركة. ومنه نسخة كتاب كتبه عن نائب السلطان بالشام لما قدم المبارك الذي ادعى أنه ابن المستنصر: " سلام عليك طبتم فادخلوها خالدين ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 ليهنك النعمة المخضر جانبها ... من بعدما اصفر في أرجائها العشب ضاعف الله جلال الجناب الكريم الشريف العالي المولوي السيدي النبوي، وجعل قدومه كاسمه المبارك على الإسلام. واسم شققت له من اسمك فاكتس ... شرف العلو به وفضل العنصر وأورد ركابه الأرض الشامية ورود الغمام، وبين أنوار الخلافة على جبين مجده فلا تضام النواظر في رؤيتها ولا الأفهام، وأضاء بوجوده بيت الإمامة حتى يعود إلى عوائده الحسنى في سالف الأيام، وسخر له العزائم والشكائم، وجعل من شيمته السيوف والأقلام. ورد الكتاب الكريم تبدو البكرات من صفحاته، وتسري نسمات السعد من أنفاس كلمه الطيب ونفحاته، وكان كالسحاب إذا سح وابله، وكالذكر المحفوظ إذا عمت ميامنه للإسلام وفواضله. وكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتم سناه واستقلت منازله فتلقاه حين ألقي إليه من سماء الشرف بالإعظام، وحل الواردون به من مواطن القبول محل ملائكة الوحي الكرام، وتلا على ما قبله: يا بشراي هذا سيد ولم يقل: هذا غلام. فأي قلب لم يسر بمقدمه، وأي طرف لم يستطع أنوار مطلعه على الدنيا ومنجمه. ومن شعره يمدح الملك المنصور قلاوون الألفي: تهب الألوف ولا تهاب لهم ... ألفاً إذا لاقيت في الصف ألف وألف في ندى ووغى ... فلأجل ذا سموك بالألفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ومنه لما ختن الملك الناصر محمد: لم يروع له الختان جناناً ... قد أصاب الحديد منه حديداً مثلما تنقص المصابيح بالقط ... ط فتزداد في الضياء وقودا ومنه: كتبت والشوق يدنيني إلى أمل ... من اللقاء ويقصيني من الدار والشوق يضرم فيما بين ذاك وذا ... بين الجوانح أجزاء من النار ومنه: في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف فإن أعش بعدهم فرداً فيا عجباً ... وإن أمت هكذا وجداً فيا أسفي ومنه يهنئ القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ببنت: أمولاي فتح الدين هنئ خدركم ... بقرة عين للصيانة والمجد ومتعتم منها بأيمن غرة ... مباركة في الصالحات من الولد وصين بني سعد حماكم وعشتم ... ميامين فرسان اليراعة والحمد وعوذ تم من عين حاسد فضلكم ... ومجدكم في المجد يوماً وفي المهد فأولادكم إما بدور فضيلة ... وإما شموس هن أخبية السعد فبورك فيها طلعة فلربما ... أفاد بني سعد فخاراً بنو نهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 ؟ عبد الوهاب بن فضل الله القاضي الكبير الأثير المهيب شرف الدين النشو ناظر الخاص. كان كالغصن قده. أو السيف حده، أو البدر محياه البهي، أو الدر كلامه الشهي. طويل القامة ممتدها، ظريف الخطرة يحسبها الناظر خطرة كاعب ويعتدا. باشر نظر الخاص فعم به إقبال الدولة، وانتشرت له السمعة والصولة، وسد مهمات لو جرى النيل ذهباً لأفناه الإنفاق، ولو نثرت النجوم دراهم لما ساعدها الإرفاد ولا الإرفاق، وبزت أموال جماعة وأرواحهم، وركدت بعدما هبت بالسعادة أرواحهم، وتمكن من السلطان فوصل وقطع، ولمع بارق سعوده وسطع، وخلاله العصر، وجلا السعد له القصر، وانفرد بالتدبير، وما خلا ذلك التثمير من التدمير، وغره ميل السلطان إليه وتقريبه، وفاته منه ما يجري به تجريبه، فعاند الناس جميعاً، ولم يكن لأحد من الخاصكية سمعياً، وأراد يتعشى بأناس فتغدوا به قبل، وفوقوا إليه من المصائب صائبات النبيل، فافترسته ليوث خوادر، وساعدت عليه المقادر، وعجز السلطان عن خلاصه، وغنموا الغفلة في افتراسه وافتراصه. وجاءه شؤبوب الشيوب، واستخرج منه ومن أهله خبايا البيوت قبل الجيوب، فقضى تحت العقاب نحبه، ولقي بما قدم ربه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة أربعين وسبع مئة. وفي ذلك قال القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب دواوين الإنشاء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 في يوم الاثنين ثاني الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا يا أهل مصر نجا موسى، ونيلكم ... وفى وفروعون وهو النشو قد هلكا وكان النشو أولاً هو ووالده وإخوته يخدمون عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فلما انفصلوا من عنده أقاموا بطالين مدة في بيتهم، ثم إن النشو خدم عند الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، فأقام في خدمته تقدير ستة أشهر، ثم إن السلطان طلب كتاب الأمراء، فحضروا، فرآه وهو واقف وراء الجميع، وهو شاب طويل نصراني، حلو الوجه، فاستدعاه وقال له: إيش اسمك؟ فقال: النشو. قال: أنا أجعلك نشوي. ثم إنه رتبه مستوفياً في الجيزية، وأقبلت سعادته فأرضاه فيما يندبه إليه، وملأ عينه بالنهضة والكفاءة، فنقله إلى استيفاء الدولة، فباشر ذلك مدة، وخدم الناس، وأحسن معاملتهم فأحبوه. ثم إن السلطان استسلمه على يد بكتمر الساقي وسماه عبد الوهاب، وسلم إليه ديوان ابنه آنوك، فلاحظته السعادة، ونام عنه طرف الزمان. ولما توفي القاضي فخر الدين ناظر الجيش نقل السلطان القاضي شمس الدين موسى من نظر الخاص إلى نظر الجيش، وولى النشو ناظر الخاص مع كتابة ابنه، وحج مع السلطان في تلك السنة، وهي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 ولما كان مستوفياً وهو نصراني كانت أخلاقه حسنة، وفيه بشر وطلاقة ورجه وتسرع إلى قضاء حوائج الناس، ولما تولى الخاص وكثر الطلب عليه من السلطان، وزاد السلطان في الإنعامات والعمائر وبالغ في أثمان المماليك وزوج بناته وتوجه إلى الحج واحتاج إلى الكلف العظيمة المفرطة الخارجة عن الحد ساءت أخلاق النشو، ولبس للناس جلد النمر، وأنكر من يعرفه، وفتحت أبواب المصادرات للكتاب ولمن معه مال، وكان الناس يقعون معه ويقومون إلى أن جرح، فازداد الشر أضعافه، وهلك أناس كثيرون، وسلب جماعة نعمهم وذهبت أرواح، وزاد الأمر إلى أن دخل الأمير سيف الدين بشتاك والأمير سيف الدين قوصون وجماعة من الخاصكية ومعهم عبد المؤمن الذي تقدم ذكره إلى السلطان، فقال عبد المؤمن: أنا الساعة أخرج إلى النشو وأضربه بهذه السكينة، وأنت تشنقني وأريح الناس من هذا الظالم، فقال السلطان: يا أمراء متى قتل هذا بغتة راح مالي، ولكن اصبروا حتى نبرم أمراً، فلما كان ليلة الاثنين ثاني صفر الشهر المذكور اجتمع السلطان به، وقال له: غداً أريد فلاناً، فاطلع أنت من سحر لتروح وتحتاط عليه، وأحضر جماعتك ليتوجه كل واحد إلى جهة أعينها له. فلما كن من بكرة النهار طلع القلعة ودخل إليه واجتمع به وقرر الأمر معه، وقال له: اخرج حتى أخرج أنا وأعمل على إمساكه مع الأمراء، فخرج وقعد على باب الخزانة، وقال السلطان لبشتاك: اخرج إلي النشو وأمسكه، فخرج إليه وأمسكه وأمسك أخاه مجد الدين رزق الله المذكور في حرف الراء، وصهره ولي الدولة، وأخاه الأكرم، وجماعتهم، وعبيدهم، ولم يفت في ذلك الوقت إلا المخلص أخوه الكبير، فإنه كان في بعض الديرة، فجهز إليه من أمسكه وأحضره، وسمل بشتاك النشو إلى الأمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 سيف الدين برسبغا الحاجب، وعوقب هو وأخوه المخلص ووالدتهما وعبيدهم. وماتت والدتهما وأخوه المخلص تحت العقوبة في المعاصير والمقارع. ثم إن السلطان رق على النشو ورفع عنه العقوبة، ورتب له الجريحية والفراريج والشراب فاستشعروا رضا السلطان عنه، فأعيدت عليه العقوبة ومات تحتها رحمه الله تعالى. وقيل: إن الذي تحصل من النشو ومن إخوته ومن أمه ومن عبيدهم وأخيه وصهره مبلغ ثلاث مئة ألف دينار مصرية. وأراني النشو قبل خروجي من الديار المصرية في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، قال: هذه أوراق فيها ثمن المماليك الذين اشتراهم السلطان من أول مباشرتي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة إلى الآن، وجملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار وسبع مئة ألف دينار. وأما جراحته، فإنه كان من عادته متى أذن الصبح ركب من بيته في الزربية وتوجه إلى القلعة فيجلس على باب القلعة إلى أن يفتح ويدخل، فلما كان في ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع أو ثمان وثلاثين وسبع مئة ركب على عادته، فلا كان خلف الميدان عند أوله إلى جهة البحر، لحقه فارس يطرد الفرس وبيده سيف مشهور، فقال له عبده من ورائه: يا سيدي جاءك، فالتفت فرأى السيف مسلولاً، قال لي: فرفست البغلة لأحيد عنه، فأخذتني إليه، فضربه على عضده اليسار وعلى جنبه إلى مربط لباسه، ثم تقدمه وضربه ضربة أخرى إلى خلف، فوقع شاشة إلى الأرض، ولما ضربه هذه الثانية رفعت البغلة رأسها، فجاء السيف في حجاج عينها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وبعض أذنها، فلما وقع شاشه توهمه رأسه وساق وتركه، فرجع النشو إلى البيت، فقطب الجرايحي يده بست إبر وقطب جنبه باثنتي عشرة إبرة، ولو لم أر ذلك بعيني ما صدقت، فإن الناس أجمعوا على أنه ادعى ذلك ليؤذي الناس عند السلطان. وحكى لي القاضي شرف الدين النشو من لفظه غير مرة لما تولى نظر الخاص قال: كنت أطلع مع والدي إلى القلعة بالحساب، فيتقدمني هو بحماره القوي وأنقطع أنا على الحمار الضعيف، والحساب عليه، فلا أزال أضربه بالعصا إلى أن تتكسر ثم أضربه بفردة السرموزة إلى أن تنقطع، وأطلع القلعة في أنحس حال. وحكى لي أيضاً غير مرة قال: لما بطلنا من عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب أقمنا نبيع من أطرافنا وننفق علينا، إلى أن لم يبق لنا شيء، فاحتجنا يوماً ولم نجد ما نبيعه، فجمعنا السراميز العتق وسيرنا أبعناها بما أنفقناه علينا، فقال لي والدين: هذا آخر الخمول، وما بقي بعد هذا قطوع، وقد قرب الفرج. قال: وكان لي قميص إذا خرجت أنا لبسته، وإذا خرج أخي المخلص لبسه، فلما كان ثاني يوم نزل عبدنا إلى البحر، فاصطاد لنا سمكة مليحة سمينة، فقلوناها بما فيها من الدهن، ولم يكن عندنا ما نشتري به سيرجاً، فلما كان ثاني يوم لذاك اليوم جاءني من طلبني لأخدم عند أيدغمش أمير آخور، فتوجهت وقدر الله باتصال القسمة وخلع علي، فتوجهت بالتشريف إلى الشرابشيين وأبعته واشتريت قماشاً من الشراب كثيراً وفصلناه قمصانا لما وجدناه من حرقة عدم القمصان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 عبد الوهاب بن محمد ابن عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي، الشيخ الإمام العالم النحوي الفقيه كمال الدين ابن قاضي شهبة الشافعي. سمع من ابن أبي الخير سباعيات الصيدلاني ورواها عنه. سمع الكتب الكبار ومسند الإمام أحمد، وله ثبت بخط الوجيه السبتي. ومن شيوخه الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، والمجد بن الخليلي، وإسماعيل بن العسقلاني، والبرهان بن الدرجي، والشرف بن القواس. كان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالمذهب ناقلاً، له حلقة بالجامع الأموي خلف محراب الحنابلة، قرأ عليه جماعة من الطلبة أولاد الأكابر، ومن أرباب السيوف وذوي المحابر. وكان حريصاً على التعليم، مجتهداً على التفهيم، يعيد الدرس للطالب مرات، ويطالبه بإعادته كرات، ويسمع على المشتغلين الماضي الذي تقدم، ويقيم بالمذاكرة من ربوع العلم ما تهدم، لو أمكنه صور الدرس للطالب في الخارج، ورقاه في فهمه على المعارج، وانتفع عليه بذلك جماعة، وأرخى على وجهه قناع القناعة، وكان يعتكف في الجامع الأموي شهر رمضان بكماله، ويستجلي من الخير بدور جماله. ولم يزل على حاله إلى أن لم يكن في عدم ابن قاضي شهبة شبهة، ودس في التراب ذاك الوجه والجبهة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 ومولده في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وكان من أعيان أصحاب الشيخ تاج الدين في الفقه والأصول، ومن أعيان أصحاب أخيه شرف الدين في العربية. لازمهما وسلك طريقهما في الإشغال. عبد الوهاب بن أحمد ابن يحيى بن فضل الله، القاضي الرئيس شرف الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي محيي الدين، موقع الدست بدمشق. كان شكلاً ظريفاً، أبي النفس شريفاً، فيه شجاعة وإقدام، وفروسية ثابتة الأقدام، يلعب الكرة بالصوالج، ويصيد بالطير والحوامي ما هو في وكره والج، ويسوق في البريد فيكاد يسبق الرياح، ويثبت على ظهور الخيل من الليل إلى الليل إلى الصباح. وكتب الرقاع جيداً، ووقع على القصص متأيداً. وكان فيه مروءة وكرم، وحدة في أخلاقه تتوقد بالضرم. ولم يزل على حاله إلى أن ذوى غصنه الناعم، وأصبح وأعضاؤه للبلى مطاعم. وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ودفن في تربتهم بجبل قاسيون. استخدمه السلطان بمصر بعد دخولهم إليها، في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكتب في ديوان الإنشاء مع الواده رحمه الله تعالى، ومع عمه القاضي علاء الدين. وسمع بقراءتي على الشيخ فتح الدين بن سيد الناس وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 ولما رسم لوالده بكتابة سر دمشق حضر معه، وكان يدخل بالعلامة إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا ويخرج، ويقرأ البريد عليه، وكان يؤثره ويحبه، وكان يكتب عن والده أوراق البريد وأسماء الموقعين على القصص. ولما توفي والده رحمه الله تعالى تحدث له مع القاضي ناصر الدين كاتب السر وأدخله إلى الدست موقعاً في أوائل سنة خمسين وسبع مئة أواخر أيام أرغون شاه. الألقاب والنسب ابن عبود: جمال الدين الحسين بن محمد. عبيد الله بن محمد الإمام العابد شيخ الحنفية ركن الدين أبو محمد البارساه، بالباء الموحدة وبعدها ألف وراء وسين مهملة وبعدها ألف وهاء، السمرقندي، نزيل دمشق، ومدرس الظاهرية، ومدرس النورية. كان من كبار المذهب، تقمص منه درعه المذهب، وأصبح وحواصل علومه بيد التعليم تنهب، مكباً على التعليم والمطالعة والتفهم والمراجعة، له ورد في اليوم والليلة مئة ركعة، يحرم جفنة في الليل لذاذة الهجعة، وله حلقة في الجامع للإفادة، وللطلبة إلى حرمها في كل يوم وفاده. ولم يزل البارساره إلى أن بار وجوده، وطفي في الماء وقوده، فأصبح في بكرة الظاهرية ملقى غريقاً، أصيلاً في الأموات عريقاً، قتل لشيء كان معه من الحطام، وقيد إلى المنية بخطام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وذلك في ليلة الاثنين ثاني عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة. وكن قد أعطي تدريس النورية قبل وفاته بستة أيام، وألقى فيها ستة دروس لا غير، وأمسك طي الحوراني قيم دار الحديث بالظاهرية، وضرب، فأقر بقتله، فشنق على باب المدرسة. عبيد الله بن علم الدين ابن شراقي، بفتح الشين المعجمة وبعدها راء وألف وقاف وياء آخر الحروف، الكاتب. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: رأيته بالقاهرة، وكتب إلي بأبيات. ومن شعره ما كتب به إلى الخطيب مجد الدين بمدينة الفيوم من أبيات: خلائقك الحسنى أبر وألطف ... وأنت بأنواع المكارم أعرف وتلك السجايا الغر فهي كروضة ... مفوفة الأزهار تجني وتقطف طبعت على فعل الجميل خلائقا ... فأنت بما تأتيه لا تتكلف فأجابه مجد الدين: يميناً لأنت البحر للدر تقذف ... وذا عجب إذ أنت بالعذب توصف وما الدر في البحر الفرات وإنما ... خصائص فضل حزتها بك تعرف فلا جيد إلا وهو منها مطوق ... ولا سمع إلا وهو منها مشنف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 منها: لقد نالنا من طيب نشرك نشوة ... فقلنا: أهذا الشعر أم هو قرقف فذاك هو السحر الحلال حقيقة ... كمر نسيم الروض بل هو ألطف وكتب علم الدين بن شراقي إلى زين الدين الأرمنتي: بحق ما حزت من خصال ... عطرت الأكوان بالأريج شنف بنظم كنظم در ... ورونق اليانع البهيج فمذ قطعت القريض عني ... أمري في مقلق مريج فأجاب زين الدين المذكور: سألت أمراً وبي احتياج ... لنظمك الباهر البيهج تطلب مني وأنت أولى ... ما البحر يحتاج للخليج نظمك في حسنه أراه ... كالزهر في يانع المروج بلاغة فيه لم ينلها ... حبيب أوس ولا السروجي ومن شعر علم الدين شراقي: ولقد هممت بأن أفوز بنظرة ... من مالك تهوى المعالي وصفه لم يستطع نظري يراه شاكيا ... فبعثتها عني تقبل كفه الألقاب والنسب ابن عبيد الله الموقع: شهاب الدين أحمد بن عبيد الله. صلاح الدين يوسف بن محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 عتيق بن عبد الرحمن. ابن أبي الفتح، المحدث المتقن الزاهد تقي الدين أبو بكر القرشي العمري المصري الصوفي المالكي، شيخ خانقاه ابن الخليلي. سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن النجيب عبد اللطيف، وعبد الله بن علاق، وكتب عنه الطلبة. وجاور بمكة مدة، وكان فيه تعبد، وعنده فقر وتزهد، وتحر وتجرد، وله فضيله، يخرج بها من السمة الردية الرذيلة. مرض مدة بالفالج وعالج من آلامه ما كان يعالج. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. عتيق بن محمد ابن سلميان المخزومي، تاج الدين الدماميني، بالدال المهملة والميم والألف والميم الثانية والياء آخر الحروف وبعدها نون. قرأ الفقه بقوص، وحفظ التنبيه، واستوطن الإسكندرية، وانتهت إليه رئاستها. وكان ذكياً كثير العطاء، وله مشاركة في التاريخ والأدب، وبنى مدرسة بالمرجانيين بالثغر ووقف عليها أوقافاً كثيرة. وحضر إلى مصر فتوفي بها في أواخر جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 عثمان بن إبراهيم ابن أبي علي الحمصي المقرئ الصالح أبو عمرو الصالحي النساج، إمام مسجد القرشيين. سمع حضوراً نصف البخاري الأخير من ابن الزبيدي، وسمع من ابن اللتي، لكنه كان يحرف كتابة الأسماء، يكتب الحمصي المصري، فذهب سماعه. وكان قد سمع كثيراً من الحافظ الضياء. وسمع منه الواني، والمقاتلي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والمحب، وجماعة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة. وكان خيراً يتودد إلى الناس ويتواضع ويحسن بشره. عثمان بن إبراهيم ابن مصطفى، الشيخ الإمام العالم فخر الدين المارديني المصري، مفتي الحنفية المعروف بابن التركماني. كان فاضلاً في مذهبه، عارفاً بدقائقه وتقلبه، شرح الجامع الكبير وألقاه دروساً، وجلاه للنواظر والبصائر عروساً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 كان جميل المحاضرة، جليل المذاكرة، أخلاقه لطيفة، وتناديبه ظريفة، طلق المحيا، فصيح العبارة، حسن العمة، كامل الشارة، وكان له ولدان، كأنهما في سماء الفضل فرقدان. ولم يزل على حاله إلى أن حم يومه العصيب، فأخذ من الموت بنصيب. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت حادي عشر شهر رجل الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ومولده في عاشر جمادى الأولى سنة ستين وست مئة، يوم توفي الشيخ عز الدين بن عبد السلام المنصوري. وسمع من الأبرقوهي، والدمياطي، وغيرهما. وشرح الجامع الكبير في مئة كراس، وألقاه في المدرسة المنصورية. وله نظم. وتفقه به ولداه الشيخ علاء الدين والشيخ تاج الدين. عثمان بن أحمد ابن محمد، المحدث، فخر الدين أبو عمرو الحلبي، ثم المصري، ابن الظاهري. حضر النجيب، وابن علاق، وسمع من عامر القلعي والعز الحراني، ونسخ بعض الأجزاء وكتب الطباق. قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: وله إلمام ببعض هذا الشأن وكثرة مطالعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة. وولده سنة إحدى وسبعين وست مئة. وكان له قبول، وعنده مروءة، وقرأ القرآن بروايات، وحفظ ألفية ابن مالك، وتعب عليه والده وأسمعه الكثير. قال شيخنا علم الدين البرزالي: شيوخه ست مئة شيخ، وذلك في سنة خمس وثمانين وست مئة، وازداد بعد هذا التاريخ خلقاً كثيراً. وسمع منه الطلبة والرحالون. عثمان بن أحمد بن عمر ابن أحمد بن هرماس بن نجا بن مشرف بن محمد بن ورقة، القاضي الفقيه الإمام العالم فخر الدين أبو عمرو قاضي نابلس. ولي القضاء بعدة أماكن بالشام. وكان حسن السيرة في القضاء عفيفاً، يقال إنه أباع ملكاً بثلاثين ألفاً، وأنفقه عليه مدة الولاية. وكان كثير الأستحضار لمسائل المحاكمات. قال البرزالي: كتبنا عنه من شعره بنابلس. وتوفي رحمه الله تعالى تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبع مئة، ومولده سنة ثلاثين وست مئة بزرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 عثمان بن أحمد بن عثمان ابن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي الشافعي، المعروف بابن أبي الحوافر، الطبيب بالقارة. له إجازة من ابن اللتي، وابن المقير، وإبراهيم الخشوعي، وغيرهم. وكان ينعت بجمال الدين. توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة غرة صفر سنة إحدى وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. عثمان بن إدريس ابن عبد الله بن السلطان عبد الحق بن مجبو، البطل الضرغام، فارس الإسلام، مقدم الجيوش أبو سعيد بن أبي العلاء المريني. قائد جيش غرناطة، وهو الذي أبلى يوم الكائنة العظمى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونصر الله فيها الإسلام، وأباد جيوش الفرنج. وكان ذا دين متين، وعقل صحيح مبين، فيه شرف وعند سيادة، وله كبرياء في الرئاسة، وافرة الزيادة، أبلى في الحروب، وأملى دروساً في الجراح والضروب، يلقى الهجير بنحره ويقدم على الهول وهو قد جاء وطم ببحره، لا يبالي بالكتائب إن قلت أو كثرت، ولا يهمه أمر جياده، إن كلت أو عثرت، أين ما بأسه عنترة أو عامر بن الطفيل؟! وأين من كره على الفارس زيد الخيل؟ كاد يرد الموت من الظما، أو يخال سمرة الرماح لمى، أو يتخيل أن السيوف جداول فهو يخوضها، أو يتوهم أن المنايا ذات دلال فهو يروضها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 ولم يزل على حاله إلى أن صالت عليه المنايا، وجاءته بما في زواياها من الجنايا. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. قيل: إنه شهد مئتي غزوة وأربعاً وثلاثين غزوة، أهلك الله ضده الوزير المحروق الذي أبعده من الحضرة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة لأن ولده إبراهيم بن عثمان كان قد شارك يحيى بن عمر بن راجو في قتلة السلطان أبي الوليد، ثم عاد ابن أبي العلاء إلى منصبه فلي سنة تسع وعشرين وسبع مئة. نزل يوم الملحمة العظمى إلى الأرض، وسجد وتضرع إلى الله ثم ركب فرسه وقال لجيشه: احملوا، وكانوا دون الألفين، فحملوا على القلب وفيه ذون بطرو المقدم ذكره، وهو في بضعة عشر ملكاً من الفرنج فقتلوا كلهم، ثم لم يفلت منهم أحد، ودام القتال إلى الليل، فأقل ما قتل من الفرنج ستون ألفاً وقيل: ثمانون ألفاً، ولم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة إلى الغاية. وتوفي رحمه الله تعالى وهو مرابط، وكان من أبناء الثمانين. عثمان بن إسماعيل ابن عثمان، الأمير صارم الدين. كان أولاً حاجباً بصفد، ثم نقل إلى دمشق أميراً ثم أعيد إلى دمشق، ولم يزل بها مقيماً إلى أن توجه صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى إلى ملطية. ولما عاد العسكر من ملطية توفي رحمه الله تعالى في الطريق في سابع عشري شهر ربيع الأول بالمعرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وكان رجلاً جيداً ساكناً وقوراً. عين لشد الدواوين بدمشق، وكان يسكن بدرب الفراش، وخلف أولاداً وذرية، وكان جده من مماليك الدوادار الرومي، كذا قاله شيخنا البرزالي. وعاش ثمانياً وخمسين سنة. وهو أخو الأمير ناصر الدين مشد الأوقاف بدمشق، وناظر الحرمين بالقدس والخليل عليه السلام. وكان يعرف في دمشق بحاجب صفد، أعني الأمير صارم الدين. عثمان بن أيوب ابن مجاهد الفرجوطي، بالفاء والراء الساكنة والجيم والواو الساكنة الطاء المهملة. كان ملازم التلاوة، ويستعمل الصبر على ذلك علاوة، قد التحف بالتحف من القناعة، وجعل الشكر رداءة وقناعة، يرضى بالقليل من العيش الشطف، ويتجلد لما مضى ولا يأتنف، عديم الطلب من الناس، سليم القلب في معاشرة الأخيار والأدناس. ولم يزل على حاله إلى أن افترش تراب لحده، وألصق بالثرى ديباجة خده. وتوفي في مستهل شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتوفي ببلده فرجوط. ومن شعره: ألا في سبيل الحب ما الوجد صانع ... بقلب له من وشكة البين صارع يكابد من أجل البعاد هلوعه ... وإن قلى الأحباب للصب هالع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 ويقلقه داعي الهوى ويقيمه ... فيقعده الإعجاز والعجز مانع ويصبو فتنصب الدموع صبابة ... ولا غرو إن صبت لذاك المدامع إذا فاح من أكناف طيبة طيبها ... تحركه شوقاً إليها المطامع وإن ذكرت نجد وجرعاء رامة ... ولله كم من لوعة هو جارع هل الدهر يوماً بعد تفريق شملنا ... بذاك الحمى النجدي للشمل جامع وهل ما مضى من عيشنا في ربوعكم ... وطيب زمان بالتواصل راجع عدوا بالتلاقي عطفة وتكرماً ... علي فإني بالمواعيد قانع وإن تسمحوا بالوصل يوماً لعبدكم ... فهذا أوان الوصل آن فسارعوا أهيل الحمى هل منكم لي راحم ... وهل فيكم يوماً لشكواي سامع فهذا لسان الحال يرفع قصتي ... لديكم عسى منكم لبلواي رافع عثمان بن أيوب ابن أبي الفتح، فخر الدين أبو عمرو الأنصاري العسقلاني. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: مولد المذكور ببيت زينون، بالنون لا بالتاء، من عسقلان وغزة، في خامس عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة. وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: أتاني كتاب خلت في طي نشره ... بريق ضياء يخجل القمرين إلى علم أسعى به من سميه ... فنلت مني بالسعي في العلمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فأجابه نور الدين بن سعيد: ببيت وبيت قد سبقت مجلياً ... فلا زلت بالبيتين ذا سبقين وأنجحت بالأمر الذي قد قصدته ... بسعيك يا ذا الفضل بالعلمين قال: وأنشدنا المذكور لنفسه: من يبقها وردي ومن وجناتها ... وردي وخمري لحظها والساقي يا هند عندك منيتي ومنيتي ... بوعيد هجر أو بوعد تلاقي عثمان بن أبي بكر ابن محمد قاضي القضاة جلال الدين أبو عمرو الحاكم بصفد. كان قاضيها من الأيام الظاهرية، وكان نوابها يحبونه ويعزونه ويكرمونه، وهو والد قاضي القضاة شرف الدين محمد قاضي صفد وطرابلس الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشري المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة. وكان يعرف بالنهاوندي بنون مفتوحة وهاء بعدها ألف وواو ونون ساكنة ودال مهملة. عثمان بن بلبان المحدث فخر الدين الرومي المقاتلي الدمشقي الكفتي. سكن مصر سنوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وداخل الرؤساء إلى أن صار معيداً في المنصورية للحديث. وكان حلو المذاكرة، يحفظ بعض القرآن. سمع من ابن القواس، ويوسف الغسولي، وابن عساكر وبحلب من سنقر الزيني مملوك ابن الأستاذ، وبمصر من الدمياطي وطبقته، وعني بالرواية، ونسخ الأجزاء وحصل. قال شيخنا الذهبي: كتبت عنه وكتب عني، وكان في ورعه نقص، وغيرة أدين منه، وليس له محفوظ، ولا حفظ القرآن يعني ختمه. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. عثمان بن عبد الصمد ابن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، الشيخ بدر الدين أبو عمرو بن الشيخ جمال الدين الخطيب قاضي القضاة بن قاضي القضاة جمال الدين الحرستاني الدمشقي. سمع حضوراً من جده سنة ست وخمسين وست مئة، ومن عبد الله بن الخشوعي، وشرف الدين الحسين الإربلي، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والمجد بن النشبي، وغيرهم. واشتغل على الشيخ شمس الدين أبي عبد الله المقدسي مدرس الشامية، ورتب بالمدارس، وكان يجلس مع الشهود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ومرض أواخر عمره بالفالج، وعجز وانقطع إلى أن مات. وتوفي رحمه اله تعالى ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة. عثمان بن علي الإمام العالم المفتي القاضي فخر الدين الأنصاري الشافعي المصري ابن بنت أبي سعد. كان فقيهاً كبيراً، وحاكماً خبيراً، فاضلاً في الأصول، غزير المادة والمحصول، ويدري العربية، وعنده جزء كبير من الأنواع الأدبية، وكتب الخط البهج، وأتى به أبهى من الروض الأرج. وكان يشارك يف علم الموسيقى، ويطبق الألحان على الكلام تطبيقاً. ولم يزل على حاله إلى أن تداول أصحابه نعيه، وتذاكروا اجتهاده وسعيه. وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومولده بداريا من أرض دمشق. وحدث عن الكمال الضرير، والرضي بن البرهان، وتقلب في الخدم الديوانية، ووقع عن قاضي القضاة ابن رزين، وأفتى سنين وولي القضاء بقوص، وتوفي رحمه الله تعالى وله تسعون عاماً. ومن شعره يصف بركة: وجلا بياض النهر في مخضرها ... وكأنه إذ لاح للأبصار سبك اللجين على بساط زمرد ... والشمس فيه تلوح كالدينار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 عثمان بن علي بن إسماعيل ابن الشيخ الإمام العلامة صاحب الفنون، قاضي القضاة. فخر الدين أبو عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي ابن خطيب جبرين، فقيه حلب ومقرئها وحاكمها. كان فاضلاً إذا قلت فاضل، وعالماً يقر له كل مناظر ومناضل، قادراً على حل كلام الناس في سائر الفنون، مبادراً إلى شرح ما يقرأ عليه ويأتي من ذلك بالنكت والعيون، لم أر له في هذا الشأن نظيراً يقاربه، ولا من يجاريه فيسالمه أو يحاربه، وكان في كل فن ماهراً، وعلى كل علم ظاهرا، كأن ابن الخطيب ابن خطيب الري وكلاهما فخر، وكأن هذا ذاك إلا أن الأول فينا يقطف من زهر وذاك يقطع من صخر، يحل كلام كل مصنف بغير كلفه، ويتسرع إلى فهمه، كأن له دربة قديمة وألفه. لقد كنت أعجب من شأنه وحق لي العجب، وأتفكر في بيانه الذي أطلع على كل غائب وما احتجب، وما كان إلا أعجوبة الزمان، ونادرة الوجود في نوع الإنسان. لكنه تولى قضاء قضاة حلب فما حمد في ذلك العقبي، وضرب بينه وبين الراحة بسد فما استطاع له نقبا، وطلب إلى مصر وأنكر السلطان ولا يته وزجره، فنزل من القلعة، وكان ذلك مِنْ مَنْ أمره نهايته: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 فمالنا اليوم ولا للنهى ... من بعده إلا البكا والنحيب وتوفي رحمه الله في القاهرة بالمنصورية سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وستين بالقاهرة، كذا رأيته بخط بعض الفضلاء. وكان رحمه الله قد تلا بالسبع على شمس الدين الخابوري، والبدر التاذفي، وابن بهرام، والكمال الغرناطي. وتفقه بقاضي حلب شمس الدين بن بهرام، وقاضي حماة شرف الدين، وأخذ عن ابن ملي علم الكلام. وتصدر وأقرأ، وتخرج به الناس، واشتهر اسمه، وكان عاقلاً ذكياً غزير المادة، كثير الإطلاع. قرأت أنا عليه بحلب سنة.. في الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، وفي الشمسية مشروحة لابن المطهر في المنطق. وحضرت دروسه الجماعة الذين يقرؤون عليه، فكنت أرى منه العجب، لم يحضر إليه أحد بأي كتاب كان في أي علم كان في أي باب كان من ذلك الكتاب إلا وأقرأه فيه، وحل كلام ذلك المصنف، ولم أر مثله في هذا الباب ولا رأى غيري إلا ما حكاه لنا الأشياخ عن الشيخ كمال الدين بن يونس، فإنه كان عجباً في هذا الباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وكان يقرئ في الشاطبية وكتب القراءات، وفي الحاوي، وكتب الفروع، وفي المختصر لابن الحاجب، والمحصل للإمام فخر الدين، وفي الفرائض، والجبر، والمقابلة، وفي الحساب، وعلم: الصواب، وكتاب التحت والميل، وفي الحاجبية، وفي تصريف ابن الحاجب، وفي تمرين التصريف، وفي كتب الحكمة مثل الملخص لفخر الدين، وفي كتب الطب، وفي كتب الهجاء، وفي أشياء غير ذلك. وكان يومئذ ينوب عن القاضي زين الدين الشافعي، وعن القاضي ناصر الدين بن العديم الحنفي، ومع ذك كله يحكم بين الناس، وإذا فرغ من الحكم سبح، وكذلك في التعليم إذا قرأ الطالب اشتغل بالسبحة. وصنف شرح الشامل الصغير وشرح التعجيز وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح البديع لابن الساعاتي. وله في الفرائض نظم، وشرحه في مجلد. ومصنف في المناسك، وفي اللغة، وشرح الحاوي في الفقه فيما أظن. وتلا عليه بالسبع محتسب حلب نجم الدين بن السفاح الحلبي، والشيخ علي السرميني، وجمال الدين يوسف بن حسن التركماني، وأحمد بن يعقوب، ولم يكمل. وتولى قضاء قضاة حلب الشافعية في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 ثم إن السلطان طلبه وطلب ولده إلى مصر، فلما مثلا بين يديه روعهما الحضور قدامه، لكلام أغلظه لهما، فنزلا مرعوبين، ومرض بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، ومات ولده قبله، وتوفي هو رحمه الله بعده بيوم أو يومين، مدة المرض دون الجمعة. وكان قد ولي حلب عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب. وكنت قلت فيه: غدا ابن خطيب الري للناس آية ... فضائله منها البدور تمام وفي حلب قاضي القضاة نظيره ... ففخرهما يسمو وليس يسام كما اشتركا في ابن الخطيب إضافة ... ولكن ذا قاض وذاك إمام ومن شعره في مقلمة: تأمل تر حالي بعديعاً وقصتي ... وأنعم رعاك فكرك في أمري حويت الذي رزق الخلائق كلهم ... وأحكامهم طول الزمان به تجري ولو رمت مما في يد الناس حبه ... عجزت ولم أبلغ مرامي مدى عمري ومنه في مروحة: وخادم ما مثلها خادم ... بكل معنى حسن توصف يروق من يبصرها حسنها ... أخلاقهها محبوبة تؤلف لباسها الوشي وفي حجرها ... عود لها وهي به أعرف يحرك الأرواح ترويحها ... ويشتفي المكروب إذ تطرف ومنه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وقائل ما الذي ترجوه حين ترى ... ببابك الموت قد أرسى ولم ترم وما الذي أنت يا مسكين قائله ... إذا حللت بضيق اللحد والظلم فقلت: توحدي رب العرش مدخري ... وحسن ظني بربي بارئ النسم والقول فاسمع رعاك الله قول فتى ... على سوى الحق يا مولاي لم يقم أمسيت جارك يا من لا يضام له ... جار وضيفك يا ذا الجود والكرم ومنه في أسماء الولائم: بوليمة سم كل دعوة مأكل ... بتقيد لكن لعرف أطلق ولذي الختان فتك إعذار وما ... للطفل فهي عقيقة بتحقق وسلامة الحبلى من الطلق اجعلا ... خرساً لها ولأجل غائب انطق بنقيعة ووكيرة لعمارة ... ووضيمة لمصيبة بتصدق وسم اليتامى ما لها سبب بمأ ... دبة وخد يا صاح قول محقق قلت: لا بأس بتصحيح ألفاظ هذه الولائم خوفاً من التصحيف: فطعام الختان إعذار وهو بالعين المهملة والدال المعجمة والراء، لأن العرب تقول عذرت الغلام إذا ختنته. وطعام المولود في اليوم السابع عقيقة، بعين مهملة وقافين وهو مشهور. وطعام سلامة الحبلى من الطلق خرس، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبعدها سين مهملة، تقول العرب فيه: خرسه. وطعام الغائب إذا قدم من سفره نقيعة بنون مفتوحة وقاف مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وعين مهملة مفتوحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وطعام الدار إذا فرغت عمارتها وكيرة بفتح الواو بعدها كاف وياء آخر الحروف وراء بعدها هاء. وطعام المصيبة وضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة وبعد ها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها ميم وهاء. والطعام بلا سبب مأدبة بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء على وزن مأربة، فإن كانت المأدبة عامة فهي الجفلى بفتح الجيم والفاء واللام وبعدها ألف مقصورة، وإن كانت المأدبة خاصة لقوم بأعيانهم النقرى بفتح النون والقاف والراء وبعدها ألف مقصورة. ومن شعر الشيخ فخر الدين في أسماء خيل الحلبة. أسامي خيول الحلبة أعلم أنها ... لمن عدها عشر فخد قول واصف مجل مصل قل مسل لثالث ... ورابعها التالي وخمس بعاطف وسدس بمرتاح حظي مؤمل ... لطيم سكيت فاره غير خائف وخذها على الترتيب والفسكل الذي يجيء أخيراً فاستمع قول عارف قلت: لا بأس بتقييد أسماء خيل الحلبة ليؤمن فيها التصحيف: الأول: المجلي، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد اللام. والثاني: المصلي مثل اسم الفاعل من الصلاة. والثالث: المسلي، بضم الميم وفتح السين وتشديد اللام. والرابع: التالي، اسم فاعل من تلا يتلو. والخامس: العاطف بالعين المهملة والألف والطاء المهملة والفاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 والسادس: المرتاح، بضم الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف وحاء مهملة. والسابع: الحظي بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف. والثامن: المؤمل بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الميم وبعدها لام. والتاسع: اللطيم بفتح اللام وكسر الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ميم. والعاشر: السكيت تصغير ساكت، بضم السين المهملة وفتح الكاف مخففة وبعضهم يشددها، وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف، وبعض العرب تسمية الفسكل بكسر الفاء وسكون السين المهملة وكسر الكاف وبعدها لام. وقد طول الشيخ فخر الدين رحمه الله تعالى في عد هذه العشرة، وقد نظمها بعض الأفاضل في بيتين وهما: أتانا المجلي والمصلي بعده ... مسل وتال بعده عاطف يجري ومرتاحها ثم الحظي ومؤمل ... وجاء اللطيم والسكيت له يبري عثمان بن عمرو ابن أبي بكر بن محمد، الملك العزيز فخر الدين بن الملك المغيث فتح الدين بن الملك العادل سيف الدين بن الملك الكامل ناصر الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن محمد بن أيوب. أجاز لي بخطه في القاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. سمع من مؤنسة بنت العادل وجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وحدث وجمع مجاميع بخطه الحسن. وكان ناظر البيمارستان القديم بالقاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده بقلعة الكرك سنة اثنتين وخمسين وست مئة. عثمان بن محمد ابن منيع بن عثمان بن شادي، شمس الدين بن البشطاري، بضم الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف راء. سمع من ابن رواج، والمرسي، وسمع منه شيخنا الذهبي. وكان طيب النغمة يعرف الموسيقي موصوفاً بذلك. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وعمل المؤذنون عزاءه بدمشق. وكانت وفاته بقوص. ومولده بعد الأربعين وست مئة. عثمان بن محمد بن عثمان ابن أبي بكر، الشيخ المقرئ الفقيه الزاهد مفيد الديار المصرية، فخر الدين أبو عمرو المغربي التوزري، بفتح التاء ثالثة الحروف وسكون الواو وفتح الزاي وبعدها راء، المصري المالكي المجاور. سمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي. ثم طلب بنفسه سنة نيف وخمسين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وتلا بالسبع على أبي إسحاق بن وثيق، والكمال بن شجاع. وقرأ صحيح مسلم على ابن البرهان. وأكثر عن المنذري، والرشيد بن عزون، وأصحاب البوصيري فمن بعدهم. قرأ مسند أحمد والمعجم الأكبر للطبراني والدواوين الكبار، وذكر أنه قرأ صحيح البخاري نحواً من ثلاثين مرة. وسمع بقراءته خلق كثير، وشيوخه نحو الألف. ثم إنه أقبل على شانه، وعرف عواقب زمانه، فجاور بالبيت الحرام، وغني هناك بالحطيم عن الحطام، وتعبد في مثل ذاك المقام، وتهجد فيه والناس ينام، وحدث بالكثير، وكان صاحب أصول وله فهم خطير، ولديه محاضرة، وعنده مذاكرة ومسامرة، وخبرته بالقراءات متوسطه، ولكنها غير مغلطه. ولم يزل على حاله إلى أن وصل بعد تسميعه إلى الفوت، وحسمت فوائده بمدية الموت. وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة. وكانت له إجازة من ابن المقير. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بمنى أجزاء، وأخذ عنه الإمام عبد الله بن خليل والناس. عثمان بن محمد ابن عبد الرحيم، الإمام البارع قاضي القضاة فخر الدين أبو عمرو حفيد قاضي القضاة فخر الدين الحموي بن البارزي الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 لحق جده وأخذ عنه وعن عمه قاضي القضاة شرف الدين. وكان ذا دين وصرامة، وسيرة مشكورة عند الخاصة والعامة، وكان يحفظ الحاوي ويفهمه، وينزل مسائله على الرافعي ويعلمه. وله إلمام كثير بنحو ابن مالك، وخوض كثير في تلك المسالك. ولي قضاء حمص وما ساس نوابها، فما دخل معهم مدينة الحرمة ولا رأى بوابها. لا جرم أن القرماني ضربه، ولولا الإنابة قرمة، وألهب جمر غضبه عليه وضرمة. ثم إنه عاد إلى حماه، وأوى منها إلى حماه، وولي بها الخطابة، وجمع بينها وبين النيابة. ثم إنه تولى قضاء القضاة بحلب، وأماط عنها العدوان وسلب. ولم يزل بها إلى أن مرض مدة وأفاق غير ناصح، ثم بعد مدة مات فجأة فما صح إلا أنه ما صح. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. وحج غير مرة، وحدث بمسند الشافعي عن ابن النصيبي، وتفقه به جماعة. وكان قد مرض مدة وأفاق، وتوضأ بعد ذلك في ويوم وجلس في مجلس حكمه ينتظر صلاة العصر فمات فجأة. وكان بحمص والأمير سيف الدين أرقطاي بها نائب، فجرى بينهما يوماً كلام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فأساء الأدب على النائب، فصبر له واحتمله، ولما جاء القرماني إلى حمص نائباً جرى بينهما كلام، فأساء الأدب، فبطش به وضربه، وقال الناس: إنما ضربه الحاج أرقطاي. وكان توجهه إلى حلب قاضياً في أوائل الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. عثمان بن محمد بن علي فخر الدين أبو عمرو البزاز مفتي الثغر. عثمان بن محمد بن عبد الملك ابن عيسى بن درباس، فخر الدين الماراني القاهري. سمع من أبيه، وحدث. وكان مقبول القول عند القضاة، وإذا فتح فمه بالشعر قلت: هذا سيف قد انتضاه. وهو من بيت حشمة وقضاء، وقبول عند الناس وارتضاء. لم يزل على حاله إلى أن سكن منه النفس، وأصبح فيما بين عم يتساءلون وعبس. وتوفي رحمه الله تعالى يوم عاشوراء سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ومن شعره: كيف المقام بدار لا أراك بها ... وأي معنى لمغنى لم تكن فيه يفديك بالروح صب لو حصلت له ... وفاته كل شيء كان يكفيه عثمان بن محمد لؤلؤ الأمير فخر الدين بن الأمير شمس الدين لؤلؤ. كان أحد الأمراء الطبلخانات بدمشق، جهزه الأمير سيف الدين تنكز إلى صفد مشد الدواوين ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علاء الدين بن المرواني، فأقام بها سنتين فأكثر، وطلب الإقالة، فتوجه إلى دمشق وأقام بها أميراً إلى أن توجه ابن المرواني إلى مصر، فولاه تنكز مكانه في ولاية البر في أول شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها مدة إلى أن مرض وطلب الإقالة فأقيل. وتوفي رحمه الله تعالى بعد ذلك بعشرة أيام في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وكان أميراً من خمس عشرة سنة. وكان خيراً ديناً عاقلاً وقوراً، فيه حشمة وعقل وأدب، وكان يقيم الثلاثة الأيام والأربعة ما يشرب فيها ماء، ويعمل بيده عدة صنائع ويزركش ويطرز ويعمل الكشاتوين. عثمان بن يعقوب ابن عبد الحق، السلطان أبو سعيد المغربي المريني، صاحب مراكش وفاس وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 كان ذا حلم، وركون إلى السلم، فأهمل أمور الجهاد، فامتلأت عليه بالوبال الربا والوهاد، وامتدت أفنان الفتن، وجرى وبل الوبال وهتن. وعلا في أيامه أمر الغلاء، وكادت سنوه تجري على الولاء. إلا أنه كان له نظر في العلوم، واتصاف يدخل به في ذوي الفهوم. ولم يزل في إنكاد إلى أن كاد يفارقه الملك، ويقع في ورطات، يرمي بنفسه إلى الهلك، إلى أن جاء الأمر الذي لا يدفع، ولا يرده صاحب ولا يمنع. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وله بضع وستون سنة. كانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وملك أخوه يوسف قبله خمساً وعشرين سنة، لكن بينهما الملكان عامر وسليمان، وخالف على عثمان ابنه عمرو، وملك سجلماسة، وجرت في ذلك أمور يطول شرحها. وملك بعد عثمان ولده الفقيه العالم السلطان العادل أبو الحسن علي، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه. عثمان بن يوسف ابن أبي بكر، القاضي المحدث الفقيه الورع الصالح فخر الدين أبو محمد النويري المالكي. صحب والده القدوة الزاهد علم الدين، وتفقه به وبجماعة، وأفتى ودرس، وكان كثير الحج والمجاورة والتأله والصدق والإخلاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. عثمان أبو عمرو الصعيدي، الحلبوني: بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وضم الباء الموحدة، وبعدها واو ساكنة، ونون، الشيخ الصالح العابد. كان فيه صدق وتأله، وتؤثر عنه أحوال وتوجه وتأثير. أقام مدة ببعلبك، ومدة ببرزة. وكان قانعاً متعففاً، ترك أكل الخبز مدة سنين عديدة، وقال إنه يتضرر بأكله. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر المحرم سنة ثمان وسبع مئة، وطلع الأفرم والقضاة والناس إلى جنازته. عثمان بن أبي النوق فخر الدين المغربي. كان له قدرة على الارتجال، والبديهة التي يعجز عنها رجاء الرجال، يكاد أنه لا يتكلم في جميع محاوراته إلا بالشعر الموزون، والنظم الذي يفرح به المخزون، ولما وصف لي بذل هونت أمره، وقلت: يكون ممن يورد تمرة وجمرة، فما كان إلا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 رأيته بالجامع الأموي في ليلة نصف شعبان وهو واقف ينضض بلسانه مثل الثعبان والناس في ذلك الأمر المريج، وكأن صحن الجامع بذلك الوقيد أزاهر الروض البهيج، فقلت له: يا مولانا أنشدنا شيئاً من شعرك، واقذف لنا قليلاً من لآلئ بحرك، فأنشدني من وقته في الحالة الراهنة أبياتاً جملة، أتى بها سرداً من أول وهلة، كأنما كان قد بيتها لذلك، أو سهر فيها ليلة الحالك، ومعناها تشبيه ذلك الوقيد والاشتعال، ووصف ما للناس به من الاحتفال والاشتغال، وتشبيه القومة وحركاتهم، وترقيهم في درجاتهم، وانحطاطهم في دركاتهم، بحيث لو وصف في ذلك لما صدقت، ولا ارتمى بي الظن إلى ذلك ولا حلقت، فما كدت أقضي عجبي منه، ووددت أنني لم أنفصل عنه. ثم إنني اجتمعت به بعد ذلك في جامع حلب، وكان الأمر على ذلك الأنموذج الذي مضى وذهب. وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: رآني مرة وبين يدي كتاب له فاتحة ذهب، فأنشدني كأنه يتحدث: أراك تنظر في شيء من الكتب ... وفي أوائلة شيء من الذهب لو شئت تصرف نقداً من فواتحه ... صرفت منه دنانيراً بلا ريب قال: فوهبته الكتاب، وأنشدته: خذه إليك بما يحوي من الذهب ... ففي ندي السحب لا يخشى من اللهب واضمم يديك عليه لا تمزقه ... فإنه ذهب من معدن الأدب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قال: وكتب إلي يتقاضاني عليقاً لفرسه، وشيئاً ينفقه: دموع كميتي على خده ... من الجوع يطلب مني العلف وليس معي ذهب حاضر ... ولا فضة وعلي الكلف ولي منك وعد فعجل به ... فمن أنجز الوعد حاز الشرف ودم وتهن بشهر الصيا ... م بوجه يهل وكف تكف فبعثت إليه الشعير والنفقة، وكتبت إليه الجواب: مسحت بكمي دموع الكميت ... وقلت له قد أتاك العلف ووافى إليك جديد الشعير ... لعل يداوي سقام العجف وفي كم سائقه صرة ... تسر لتخفيف ثقل الكلف فإياك تحسبها للوفا ... فإني بعثت بها للسلف وكان يقص ما ينظمه في الورق قصاً مليحاً محكماً جيداً بالنقط والضبط، ولكن أوضاعه على عادة المغاربة في كتابتهم. ونقلت من قصة قوله: إلى الحر الحسيب إلي علي ... علاء الدين ذي الحسب العلي إلى من جوده عم البرابا ... وفاق مكارماً لكريم طي إلى من قدره فاق البرايا ... وزاد علاً على الأفق السمي وكان اجتماعي به في الجامع الأموي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، أو في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، واجتماعي به في حلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وتركته وهو يعمل مجلساً يفسر فيه القرآن، وكان ذلك آخر عهدي به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 عثمانالمعروف بالدكالي بضم الدال المهملة، وكاف بعدها ألف، ولام، الصوفي، من فقراء الشميساطية. كان يتردد إلى الناس، ويجتمع بطائفة من العوام والأدناس، فاستخف منهم جماعة، وألقى إليهم من الكلام ما ذكره للزمان أضاعه، وسلك بهم شيئاً من الطرائق الباجربقية، فإنه كان عنده منها بقية غير نقية ولا تقيه، وقال لهم: أنا أدلكم على الطريق إلى الله عز وجل، وخالف القواعد الشرعية فضل أو أضل، وتبعه شرذمة قليلة، وطائفة أذهانهم عن قبول الصواب كليله. ولم يزل على حاله، واستمراره على غيه وضلاله، إلى أن فصل السيف رأسه من بدنه، وأراح الناس من فتنه، وذلك في حادي عشري القعدة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ولما شاع أمره أمسك واعتقل، وأحضر في دار العدل ثلاث مرات في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وأدوا عليه شهادات عجيبة، ولم يعترف بشيء، ولما كان يوم الثلاثاء أحضر في زنجير وبلاس شعر، وحضر الشيخ جمال الدين المزي والشيخ شمس الدين الذهبي وجماعة، وشهدوا عليه بالاستفاضة عنه أنه قال ما ادعي عليه به، فحكم قاضي القضاة شرف الدين المالكي بإراقة دمه، فضربت رقبته في سوق الخيل، ولم يكن ذلك رأي النائب ألطنبغا ولا رأي قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ولكن أمر الله تعالى نفذ فيه. حكى لي قاضي القضاة تقي الدين، رحمه الله تعالى قال: قال لي الأمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 علاء الدين ألطنبغا: لما كانت ليلة الثلاثاء فكرت في أنهم يحضرون عثمان الصوفي وأبتلش بأمره، وقصدت دفع أمره عني، فقلت: غداً ما أعمل دار عدل، وأركب بكرة وأروح، فلما أصبحت أرسل الله عليه النوم، فنمت إلى أن طلع النهار وتعالى، فدخلوا إلى وقالوا: إن القضاة والحجاب والجماعة حضروا وهم في انتظارك، فالتزمت بعمل دار العدل ذلك النهار، أو كما قال. وحكى لي هو عن نفسه، رحمه الله تعالى قال: أردت وأنا خارج من دار السعادة أن أقول لنقيب المتعممين أن يتوجه إليهم ويقول لهم ألا يعجلوا في أمره، فأنساني الله ذلك إلى أن فرط فيه الأمر، أو كما قال. ولم أر أنا أثبت جناناً منه ولا أملك لأمر نفسه، لأنني كنت حاضرة أمره في الثلاثة أيام. عثمان المعروف بابن علم ابن الإمام العالم القاضي فخر الدين المعروف بابن علم. كان شيخاً فقيهاً محدثاً، له اشتغال بالقاهرة وتحصيل، وولي قضاء الخليل مدة، ثم تركه لولده وسكن الرملة، وكان له بها ميعاد وحلقة إشغال، وله معلوم على ذلك. توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وهو والد القاضي برهان الدين قاضي الخليل. وكانت وفاة فخر الدين بالخليل ودفن بمقبرة البلد. عثمان المعروف بالقريري الشيخ المنيني الصالح المعروف بالقريري، بضم القاف وفتح الراء الأولى، وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وراء ثانية مكسورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 كان رجلاً مباركاً صالحاً. لما اشتد الأمر بأهل بعلبك زمن غازان، وكانت بعلبك مفتوحة الأبواب، فلما نازلها بولاي غلقت أبوابها، قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: فتوجهنا لزيارته، فوجدنا قطب الدين اليونيني خارجاً من عنده، فقال لنا: دخلت على الشيخ فلم يكلمني ووجدته مفكراً، فلم أجلس، والرأي أن ترجعوا، فإن هذا رجل له بادرة فقلنا: لا بد أن ندخل فدخلنا، قال: فالتفت إلي وقال: يا محيي الدين، لأي شيء غلقتم أبواب المدينة؟ فقلت له: يا سيدي، خوفاً من بولاي، فإنه قد جاء ونزل عليها، وربما أنه يريد أن يحاصرها، قال: فغضب الشيخ غضباً شديداً، واحمرت عيناه، وجثا على ركبتيه، وطلعت الزبدة من فيه، حتى ظنناه سبعاً يريد أن يفترسنا، وبقي على هذه الحالة هنية، ثم قال: وغزة العزيز، طرشهم رجل طرشة بدد شملهم. وفتح يديه يمنة ويسرة ثم سري عنه. وقال: قل لهم يا محيي الدين أن يفتحوا الأبواب: قال: فقمنا وفعلنا ما قال، فباكرنا الخبر في اليوم الثالث برحيل غازان عن دمشق في الساعة التي قال فيها الشيخ عثمان ما قال. وتوفي الشيخ القريري في سنة ثمان وسبع مئة. الألقاب والأنساب ابن العجمي: الخطيب شمس الدين أحمد بن عبد الرحمن. وأخوه الشيخ عز الدين عبد المؤمن. وشمس الدين أحمد بن محمد. شمس الدين العجمي: عبد اللطيف بن خليفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وكمال الدين بن العجمي: عمر بن محمد. وابن العجمي الحنفي المدرس بالإقبالية: محمد بن عثمان. وشهاب الدين بن محمد بن عبد الرحمن. وبهاء الدين يوسف بن أحمد. وتاج الدين يوسف بن إسماعيل. عدنان بن جعفر ابن محمد بن عدنان الشريف، شرف الدين بن الشريف أمين الدين بن محيي الدين الحسيني بن أبي الجن نقيب الأشراف بدمشق. تقدم ذكر والده وعمه، وسيأتي ذكر جده في المحمدين إن شاء الله تعالى. لبس تشريفه عوضاً عن والده بطرحة في تاسع شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة وهو شاب، فقدم على غيره لعقله وفهمه وأهليته لذلك. ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأربعاء تاسع عشري المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابرهم عند مسجد الذبان ظاهر دمشق وعمره اثنتان وأربعون سنة. الأنساب والألقاب ابن عدلان: محمد أحمد. ابن العديسة: محمد بن علي. ابن العديم: عبد العزيز بن محمد. وناصر الدين محمد بن عمر بن عبد العزيز. ابن عرام: بهاء الدين أحمد بن أبي بكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 ابن بنت العراقي: عبد الكريم بن علي. العزازي التاجر الشاعر: أحمد بن عبد الملك. وبدر الدين محمد بن عثمان. وولده فخر الدين عثمان بن أبي الوفاء. ابن العز الحنفي: محمد بن محمد، وجمال الدين يوسف بن محمد. ابن العز عمر: بهاء الدين علي بن عمر. ابن العسال: أمين الدين فرج الله بن أسعد. وصلاح الدين يوسف بن أسعد. بنو عساكر: جماعة منهم: شرف الدين أحمد بن هبة الله. وفخر الدين إسماعيل بن نصر الله. وبهاء الدين القاسم بن مظفر. وبدر الدين محمد بن الحسين. ابن عسكر المالكي: عبد الرحمن بن محمد. العسقلاني: بهاء الدين عبد الله بن محمد. العشاب المحدث: أحمد بن محمد. ابن عصية قاضي بغداد: أحمد بن حامد. ابن أخت ابن عصفور: محمد بن أحمد. أبو عصيدة صاحب تونس: محمد بن يحيى. عضد بالعين المهملة المفتوحة، والضاد المعجمة المضمومة، والدال المهملة، الشريف الخواجكي، المعروف بابن قاضي يزدكان، أحد خواجكية القان بوسعيد. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني الخواجا مجد الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 إسماعيل السلامي، أن المذكور كان فيه تسلط على الوزير ومن حول السلطان، ففكروا في إبعاده، وحسنوا لبوسعيد أن يجهزه رسولاً إلى الهند إلى السلطان محمد بن طغلق، قال: فجهزه، فلما وصل إليه أقبل عليه، وكان يقربه ويدينه ويؤثر كلامه ويسامره، وأعطاه شيئاً كثيراً إلى الغاية، ولما كان في بعض الأيام، قال له: ادخل إلى الخزائن، فدخلوا به إليها وعرضوها عليه. وقالوا: أمرنا السلطان أنك مهما أردت وأعجبك منها تأخذه، فأخذ من جميع الخزائن مصحفاً، فحكوا ذلك للسلطان، فأحضره وأنكر عليه ذلك، فقال: السلطان قد أغناني بإحسانه عن جميع ما رأيت، ولم يكن لي غنى عن كلام الله تعالى، فأعجبه ذلك منه، وأمر له بألف ألف دينار فحملت إليه. ولما عاد وقارب البلاد بلغ الوزير الخبر، فحسنوا لبوسعيد أن يجعل أحمد أمير ألكة بفتح الهمزة واللام والكاف وبعدها هاء ومعناه أن يكون له الحكم حيث حل من المملكة، وأن يفعل ما أراد، فتوجه المذكور إلى أطراف مملكة بوسعيد وتلقى الشريف عضد، وأخذ منه مبلغ مائتي ألف دينار، وضرب منها أواني، وقدم بعضها لبوسعيد أو كما قال. عطاء الله بن علي ابن زيد بن جعفر، الفقيه نور الدين بن الثقة الحميري الأسنائي. كان فقيها فرضياً، عدلاً مرضياً، من كبار الصالحين، والأولياء الناجحين، انقطع ستين سنة في مكان، لا يخرج منه إلا للصلاة إذا سمع الأذان، ولا يملك شيئاً من الدنيا، ولا يرغب إلا فيما في المنزلة العليا. ولم يزل على حاله إلى أن خانت الليالي لابن الثقة، وحانت من المنايا صعود العقبة الزلقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 فتوفي رحمه الله تعالى بأسنا في سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ووقع يوم موته مطر عظيم. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: أخبرت أنه قال: أنا أموت في هذا النهار، فإن والدتي أخبرتني أنني ولدت في يوم مطر عظيم. وقال: أخبرني جماعة أنه لما قدم نجم الدين بن ملي إلى أسنا اجتمع به وتكلم معه في الفرائض والجبر والمقابلة، فقال: ما ظننت أحداً في كيمان الصعيد بهذه المثابة. وكان رحمه الله تعالى سليم الصدر جداً، قال: قال لي صاحبنا علاء الدين الأصفوني: قلت له مرة: يا سيدنا، أبو بكر المؤذن طلق زوجته، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت له: لكن صارت بكراً كما كانت، فضحك وقال: فتبول من أين؟ وجمع دراهم ليحج بها، وأقام سنين يجمعها فسرقت، فقصد الوالي أن يمسك إنساناً بسببه فلم يوافق. قال: وحكي لي عنه أنه كان يقول: الجن فلي الليل يمسكون إصبعي، ويقولون: هذا إصبع عطاء الله! وأخذ علمه من الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وأقام بالمدرسة الأفرمية التي بأسنا ستين سنة تقريباً منقطعاً لا يخرج إلا للصلاة في مسجد له أو لضرورة، وليس عنده إلا عمامة وفوقانية طاقية وفروة وشملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 الألقاب ابن العطار: جماعة منهم: شرف الدين إبراهيم بن أحمد. كمال الدين كاتب الإنشاء أحمد بن محمود. والشيخ علاء الدين بن العطار علي بن إبراهيم بن داود. وبدر الدين محمد بن أحمد. ابن عطاء السكندري تاج الدين أحمد بن محمد. ابن عطايا سعد الدين الوزير محمد بن محمد. الشريف عطوف محمد بن علي. ابن عطية عطية بن إسماعيل . عطية بن إسماعيل ابن عبد الوهاب بن محمد بن عطية بن المسلم بن رجا اللخمي الإسكندراني المالكي، العدل الكبير جمال الدين أبو الماضي بن مكين الدين. سمع كرامات الأولياء من مظفر بن الفوي، وتفرد بذلك. وكان والده من أصحاب الصفراوي وجده، وروى عن الحافظ ابن المفضل، وجدهم عطية أخو أحمد يروي عن أبي بكر الطرطوشي. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وقد زاد على الثمانين أشهراً. الألقاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 ابن العفيف: الكاتب محمد بن محمد. أولاد ابن عقبة: جماعة منهم: القاضي صدر الدين إبراهيم بن أحمد بن عقبة. وصدر الدين يعقوب بن إبراهيم. العقيمي: جمال الدين عمر بن إبراهيم. علي بن إبراهيم ابن الخطيب يحيى بن عبد الرزاق بن يحيى، العدل المسند مؤيد الدين أبو الحسن الزبيدي بضم الزاي، المقدسي، ثم الدمشقي، ابن خطيب عقربا. سمع من جده، ومن الناصح ابن الحنبلي، وابن غسان، والإربلي، وابن اللتي، والقاضي ابن الشيرازي، وسالم بن صصرى، ومحمد بن نصر القرشي، وحج فسمع بالمدينة من النجم بن سلام. كان ديناً متواضعاً، ولي مخزن الأيتام. وناب في نظر الجامع وغير ذلك، وشهد على القضاة. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة. علي بن إبراهيم بن داود الشيخ الإمام المفتي المحدث الصالح، بقية السلف، علاء الدين أبو الحسن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 الموفق بن الطبيب الشافعي، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية والعلمية. حفظ القرآن، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد العزيز بن عبد، والجمال ابن الصيرفي وابن أبي الخير، والمجد محمد بن إسماعيل ابن عساكر، والعماد محمد بن صصرى، وابن مالك شيخ العربية، والشمس ابن هامل، وأبي بكر محمد بن النشبي، وخطيب بيت الآبار، ومحمد بن عمر، والقطب ابن أبي عصرون، وأحمد بن هبة الله الكهفي، والكمال بن فارس المقرئ، والشيخ حسن الصقلي، والفقيه زهير الزرعي، والقاضي أبي محمد بن عطاء الأذرعي، ومدللة بنت الشيرجي، وإلياس بن علوان المقرئ وغيره. وسمع بمكة من يوسف بن إسحاق الطبري، وأبي اليمن بن عساكر. وبالمدينة من أحمد بن محمد النصيبي. وبالقدس من قطب الدين الزهري. وبنابلس من العماد عبد الحافظ. وبالقاهرة من الأبرقوهي، وابن دقيق العيد. وعمل له شيخنا الذهبي معجماً بلغ أشياخه فيه مئتين وسبع وعشرين شيخاً. وسمعه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بقراءته سنة سبع وتسعين، وابن الفخر، وابن المجد، والمجد الصيرفي، والبرزالي، والمقاتلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وكان فقيهاً أفتى ودرس، وركب الجادة في العلم وألج وعرس، وجمع وصنف، ونسخ الأجزاء وألف، ودار مع الطلبة ووطف. وكان فيه زهد، وورع بلغ الجهد، وتعبد وأمر بالمعروف على زعارة أخلاقه، ومرارة في مذاقه. وكان قد صحب الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، واشتعل ذهنه عليه اشتعالاً، وتفقه عليه، وحفظ التنبيه بين يديه. وكان له محبون وأتباع، وسوق نافقة فيها تطلب وتباع. وأصيب رحمه الله تعالى بالفالج سنة إحدى وسبع مئة، وكان يحمل في محفة، ويكون فيها جالساً مرفه، ويدار به كذلك إلى الجامع والمدارس، ويمارس حامله ما يمارس. ولم يزل على حاله إلى أن التقى عمله، وأعطاه الله من جوده أمله. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده يوم الفطر سنة أربع وخمسين وست مئة. رأيته غير مرة ولم أسمع منه، لكن حصلت بركة رؤيته لا روايته. وعقد يوماً مجلس بمشهد عثمان في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فطلب العلماء والفقهاء، وغص المجلس بالأعيان، فما كان إلا أن جاء الشيخ علاء الدين بن العطار وقد حمله اثنان في محفته على عادته، فلما رآه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وقد دخلا به، قال: أيش هذا؟ من قال لكم تأتون بهذا، ورده تنكز إلى برا، وجلس خارج الشباك، إلا أن ابن الزملكاني لحق كلامه بأن قال: قنا لكم تحضرون العلماء، ما قلنا لكم تحضرون الصلحاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قلت: على كل حال كسر خاطره. وكان يكتب بيده اليسرى. وكان قد حج غير مرة، وكان في شهر ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب وجماعة في بعض الفتاوي الصادرة عن الشيخ علاء الدين بن العطار، وأن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب الشافعي، وأنه ينبغي للفقهاء والقضاة النظر في ذلك، وتوجهوا إلى الحكام، فحضر جماعة إلى ابن العطار وقالوا: إنهم قد هيؤوا شهادات يشهدون بها عليك، فبادر هو إلى القاضي الحنفي، وصورت عليه دعوى، فحكم بإسلامه وحقن دمه وبقاء جهاته عليه، ونفذ حكم ذلك، فلامه أصحابه على عجلته، فأحال الأمر على من نقل ذلك فأنكروا، ووصلت القضية إلى الأفرم فأنكر ذلك، وغضب لحصول الفتن بين الفقهاء، وأحضر ابن النقيب وجماعة، ورسم عليهم بالقصر أربع ليال، وأحضروا بدار العدل وسوعدوا، فأطلقوا بعد ذلك. علي بن إبراهيم التجاني البجلي أخبرني العلامة أثير الدين قال: المذكور أستاذ بتونس يقرأ عليه النحو والأدب، قدم علينا حاجاً، وأنشدنا بالقاهرة لنفسه: إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب كصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأرض وهي لا تشرب قال: وأنشدنا وكان الممدوح قد وهبه مالاً عوناً على الحج: يا سيداً قامت لدهري به ... على الذي تعتبه الحجة جودك للناس ربيع ولي ... منه ربيعان وذو الحجة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 علي بن إبراهيم بن عبد المحسن ابن قرناص علاء الدين الخزاعي الحموي الشافعي، ابن قرناص. أخذ عن جماعة، ونسخ، وقرأ على الشيوخ ولم يكثر. سمع بمصر من ابن خطيب المزة، وبدمشق من شرف الدين بن عساكر. وكان فصيح القراءة، قيل الدربة بالرجال، وله نظم. توفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بدمشق. ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة. ومن شعره ... علي بن إبراهيم بن علي ابن معتوق بن عبد المجيد بن وفا، علاء الدين أبو الحسن الواسطي الأصل البغدادي المنشأ، الواعظ المعروف بابن الثردة، بالثاء المثلثة والراء والدال. قدم إلى دمشق مرات ووعظ بها، وأخذ من فضتها وذهبها، ولكنه في المرة الأخيرة تغيرت حاله، وتغبت سماء عقله وغزاله، فالتحق بعقلاء المجانين، وسلك من الهذر في أفانين، وكان يثوب إليه عقله في بعض الأوقات، وتكون منادمته ألذ من الأقوات، فينشد الأشعار الرائقة له ولغيره، ويبذر الحب لسقوط طيره، ثم يعاود الاختلال والاختلاط، وينخل، إذ ينخل من الرباط. رأيته في هذه الحالة وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 يجاري القاضي شهاب الدين بن فضل الله بيتاً فبيتاً، ويسبق إلى نظم البيت حتى إخاله كميتاً. وابتدأ بعمل كارة صغيرة يحملها تحت إبطه، ويجتهد عليها بكل جهده وضبطه. وهو يزيدها في كل يوم مما يراه مطرحاً في الطرق، إما خيطاً أو حبلاً ويديره عليها كالنطق، وتلك في كل يوم تنمو وتزيد، وهو يقاسي من حملها العذاب الشديد، حتى إنه يكون في الطهارة وهو يكابد حملها، وما ينكر حملها. ولما كان آخر وقت ضعف عن حملها فألقاها، وعجز عن ضمها ومعالجة شقاها. وأصبح ابن الثردة طعام الدود، وشخصه المنتصب وهو تحت الأرض ممدود. وتوفي رحمه الله تعالى بالبيمارستان النوري في أول شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة. وسألته عن مولده، فقال: في ثاني عشري شعبان سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان في هذا الاختلاط يدعي أنه كانت له ببغداد كتب تقدير الألفي مجلد، وأن جماعة من التجار الذين قدموا إلى دمشق اغتصبوها وأخذوها منه، ولم يلق من يساعده على ذلك. وكان ذلك من مخيلة السوداء، فساءت حاله وأضرت به، وأخذه الولع الزائد في هذه الكارة، ويطلبها الناس منه فيقول: لو دفع لي فيها ألف دينار ما أبعتها. وكان قد أتى إلى بعض الحكام وادعى عنده، وهو في هذه الحالة، على التجار الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 أخذوا كتبه، فقال له القاضي: يا شيخ علاء الدين، قولك دعوى، ألك بينة تشهد بذلك؟ فقال له: كيف يكون لي بينة، وقد صفعوك منها بمئتي مجلد، يعني دفعوها برطيلاً، فضحك القاضي والحاضرون منه. وعلق عني أشياء من نظمي، وعلقت عنه. وقال لي يوماً: أنشدني هذين البيتين اللذين لك في الجناس، وأنا قد حفظتهما، ولكن أشتهي أسمعهما منك لأرويهما بالسماع. فأنشدته لنفسي: أتاني كتاب فيه أن محبتي ... تلاشت كما قيل أي تلاشي فيا قبح ما قد ضم جانب طرسه ... فضائح واش في فضاء حواشي وكان إذا دفع إليه أحد شيئاً من دراهم أو غيرها يقول: من أنت؟ أظن عندك شيء من كتبي، فأنت تبرطلني على ذلك. ولا يقبل لأحد شيئاً. وكنت أراه فأتألم لحاله، وأتوجع لما أصابه. وكنت أخضع له وأتذلل وأعطيه شيئاً قليلاً من الدراهم، فيقول: يا مولانا، والله لا أريد شيئاً من مالك. فأقسم عليه وأقول: لا بد من ذلك، فأنا محبك وراوية شعرك. فيأخذ من عرض ذلك درهماً واحداً، ولا يزيد على ذلك. فعله مرات. وكتب، وهو في هذه الحالة، قصة للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نظماً، نقلت ذلك من خطه، وهي: يا نائب السلطان لا تك غافلاً ... عن قتل قوم للظواهر زوقوا قوم لهم وقع وذكر في الورى ... ويرى عليهم في المهابة رونق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وإذا رأوا شيئاً عليه تحيلوا ... في أخذه وتأولوا وتملقوا ما هم تجار بل لصوص كلهم ... فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا المين دأبهم إذا ما حدثوا ... ما فيهم من في كلام يصدق مرقوا من الدين الحنيف بأسرهم ... كالسهم ظل من الرمية يمرق كم أستغيث وكم أضج وأشتكي ... منهم إليك وكم لقلبي أحرقوا سدوا علي الطرق بغياً منهم ... أني اتجهت وللأعادي أذلقوا وأتوا بمالي من لآمة طبعهم ... نحو الشآم وبينهم قد مزقوا وأراك لا تجدي إليك شكاية ... إلا كأنك حائط لا ينطق ماذا جوابك حين تسأل في غد ... عنهم ورأسيك من حيائك مطرق ما أنت راع والأنام رعية ... وإذا ركبت، لك الملوك تطرق؟ كن منصف المظلوم من غرمائه ... فالبغي مصرعة وفعل موبق واكشف ظلامة من شكا من خصمه ... فالحق حق واضح هو مشرق لا تعف عن قوم سعوا لفسادهم ... في الأرض بغيا منهم وتجوقوا وانصب لهم شرك الردى إن أنجدوا ... أو أتهموا أو أشأموا أو أعرقوا لا تنبرق منهم وإن هم أسرجوا ... أو ألجموا أو أرعدوا أو أبرقوا ومتى ظفرت بمفسد لا تبقه ... فبقاؤه للناس ضر مقلق واكفف أكف الظالمين عن الورى ... ليكف عنك الله شراً يطرق لا زلت سيفاً للأعادي قاطعاً ... ورؤوسهم مهما حييت تحلق وبقيت في مجد رفيع لا يهي ... وبنود نصرك عاليات تخفق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 علي بن إبراهيم بن عبد الكريم تاج الدين الكاتب المصري. كان رجلاً عاقلاً، كثير السكون، فيه لطف وتودد إلى الناس. يعرف بكاتب قطلوبك، لأنه كان كاتب الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير. ولم يزل في الخدم الديوانية. وهو والد الشيخ الإمام العالم القاضي فخر الدين المصري الشافعي، الآتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى. توفي في العشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالعادلية عند ولده المذكور، ودفن بمقبرة الباب الصغير ظاهر دمشق. علي بن إبراهيم بن خالد الأمير علاء الدين بن جمال الدين. كان قد باشر ولاية دمشق هو وأبوه. وتوفي رحمه الله تعالى بقرية من قرى حوران في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة. قال شيخنا علم الدين: رأيت سماعه على القاضي شمس الدين بن عطا الحنفي في سنن أبي داود. ويعرف بابن النحاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 علي بن أحمد بن عبد الدائم ابن نعمة بن أحمد، الشيخ أبو الحسن المقدسي الصالحي، قيم جامع الجبل. سمع من البهاء عبد الرحمن، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن غسان، ومكرم، والإربلي، وأبي موسى الحافظ، وجماعة بدمشق، ولزم جعفر الهمداني. كان رجلاً عابداً، فقيراً لأهوال هذه الدنيا مكابداً. ابتلي فصبر، وثبت على البلاء لما اجتاز به وعبر، وانقطع لما حصل له الزمانة، وشكر الله وما ذم زمانه. وكان لا يبرح يتلو في المصحف بين يديه، ويتلو كل يوم ختمة يقدمها بين يديه. ودخل عليه التتار لما فتحوا الباب، وحموا له سيخاً ووضعوه في فرجه فمات في العذاب. وكانت وفاته رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة عن ثمانين سنة. علي بن أحمد بن عبد المحسن ابن أحمد، الإمام الفقيه، العالم، المحدث، المسند، بقية المشايخ، تاج الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 أبو الحسن العلوي الحسيني الغرافي، بالغين المعجمة والراء المشددة وبعد الألف فاء، الإسكندري الشافعي، المعدل. سمع في الخامسة من ابن عماد وطائفة، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن بهروز، وابن القبيطي، وجماعة. وسمع منه شيخنا الذهبي جماعة أجزاء، وانتقى عليه عوالي، وخرج لنفسه ولغيره، وحمل عنه المغاربة والرحالون، وحدثوا عنه في حياته. وكان قد سمع من ظافر بن شحم، وابن حاتم، وعلي بن جبارة. كان له بالحديث أنس وعناية، ومعرفة بقوانين الرواية، وكان فقيهاً نبيهاً، وفاضلاً في بلده وجيهاً. وكتابته حسنة سريعة، وإذا ألقى الطرس من يده تراه روضة مريعة. ولم يزل على حاله إلى أن لبى من دعاه، وجاء إلى البلاد من نعاه. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. وكان شيخ دار الحديث التي أنشأها نبيه الدين بن الأبزاري بثغر الإسكندرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 علي بن أحمد بن جعفر ابن علي بن محمد بن عبد الظاهر بن عبد الولي بن الحسين بن عبد الوهاب بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب بن محمد بن أبي هاشم بن داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الشيخ كمال الدين الهاشمي الجعفري القوصي، نزيل إخميم، المعروف بابن عبد الظاهر. سمع من الشيخ أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، ومن شيخه مجد الدين بن دقيق العيد، وأجازه بالتدريس على مذهب الشافعي. وصحب الشيخ علي الكردي، وقدم عليهم قوص، فاجتمع عليه الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد والشيخ جلال الدين الدشناوي والشيخ كمال الدين هذا، وعبد الخالق بن الفقيه نصر، ولازموا الذكر بمسجد جلال بقوص. وكان الشيخ كمال الدين هذا قد أصبح شيخ دهره، وأوحد عصره. قد جمع بين العلم والعمل، وبلغ من الصلاح كل أمل. وظهر له من الكرامات ما أخجل الشمس إذا حلت دارة الحمل. وانتشر ذكره، وصدق خبره خبره. وحكى الناس عنه أموراً في الصلاح لم تحك عمن سواه من أهل ناحيته، ولا رواها الرواة عمن هو في دائرته. وكان يحضر السماع، ويخلع فيه على الأغاني ما عليه من المتاع، وله فيه أحوال عجيبة، وإشارات مصيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن عبد الظاهر في باطن الأرض، وأقام تحتها إلى يوم العرض. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وسبع مئة ودفن برباط إخميم، وقبره هناك يزار. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بقوص. وامتدحه الشيخ تاج الدين الدشناوي بأبيات منها: محبك هذا العارف العازف الذي ... تبدى بوجه بالضياء مكلل حليف التقي والشكر والذكر دائماً ... فلله هذا الشاكر الذاكر الولي عزائمه العليا تضاهي مقامه ... ومقداره والسر أن أسمه علي ألا إن لله الكمال جميعه ... وما لسواه منه حبة خردل ومن شعر الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر: يا عين بحق من تحبي نامي ... نامي فهواه في فؤادي نام والله ما قلت ارقدي عن ملل ... إلا لعسى تريه في الأحلام قلت: فيهما لحنتان خفيفتان خفيتان، ولو قال: " يا عين بمن سهرت فيه نامي " " إلا لعسى أراه في الأحلام ". لخلص من ورطة اللحن. وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي القاضي نجم الدين القمولي أن الشيخ كمال الدين رأى مرحاضاً قد أخرج ما فيه، ووضع بجانب المسجد، فقال في نفسه: لا بد أن أحمل هذا، فنازعته نفسه في ذلك، لأنه من بيت رياسة وأصالة وسيادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وعدالة، فقال: لا بد من ذلك، ثم استدرجها إلى أن حمله في النهار، ومر به في حوانيت الشهود حتى تعجبوا منه ونسبوه إلى خبل في عقله. ثم إنه سافر إلى القاهرة، واجتمع بإبراهيم الجعبري ولازمه وانتفع به. ثم إنه استوطن إخميم، وظهرت بها كراماته وانتشرت بركاته. وقال حكى لي صاحبنا الفقيه علاء الدين العدل علي بن أحمد الأصفوني رحمه الله تعالى وكان ثقة في نقله، قال: كنت بأدفو أخذت في العبادة، ولازمت الذكر مدة حتى خطر لي أني تأهلت. قال: وكان أخي جلال الدين غائباً عنا مدة وانقطع خبره، فحضر شخص وأخبرني أنه قدم من ألواح ونزل سيوط، فسافرت إلى سيوط، فلم أجده، وصحبت شاباً نصرانياً ورافقته في الطريق إلى سوهاي، وصار ينشدني طول الطريق شعراً، وكان جميلاً ففارقته من سوهاي، ووجدت ألماً كبيراً لمفارقته، فدخلت إخميم وعندي وجد بذلك النصرانين فحضرت ميعاد الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر، فتكلم في الميعاد، على عادته، ونظر إلي وقال: لا إله إلا الله، ثم أناس يعتقدون أنهم من الخواص، وهم من عوام العوام، قال الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ". والنحاة يقولون: مِن للتبعيض، ومعنى التبعيض ألا ترف شيئاً من بصرك إلى شيء من المعاصي. ثم قال: حكى لي فقير قال: كنت في خدمة شيخ، فمررنا بدار، وإذا بامرأة جميلة ورأسها خارجة من الطاق تتطلع إلى الشارع، فوقف الشيخ زماناً يتطلع إليها ويتعجب من ذلك. ثم بعد ساعة والشيخ صاح صيحة عظيمة، وإذا بالمرأة نزلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فالتفت الشيخ إلى الفقير وقال: نظرت إلى هذا الجمال، فقال: أنقذني من هذا الكفر، فتوجهت إليه، فالشيخ ما نظر إلى حسن الصورة، وإنما نظر إلى صورة الحسن، فمن أراد ينظر إلى النصراني فلينظر كذا. قال الشيخ علاء الدين: فصرخت ووقعت. قال: وحكى لي صاحبنا محمد بن العجمي، وهو من أصحاب أبي عبد الله الأسواني قال: عمل سماع في دار ابن أمين الحكم، وحضر الشيخ ورؤساء البلد وخلق كثر، وكنت من جملة الحاضرين، فحضر القوال، وهو مظفر بالشبابات والدفوف، وقالوا شيئاً، ثم قال: من بعد ما صد حبيبي ومار ... جا اليوم وزار أبصرت ما كان أبركو من نهار جاني حبيبي وبلغني المنى ... وزال عن قلبي الشقا والعنا ودار كاس الأنس ما بيننا يا ما أحسن الكاسات علينا تدار ... في وسط دار أنا ومحبوبي نهاراً جهار فقام الشيخ وقال: إي والله، أن ومحبوبي نهاراً جهار. إي والله. وطاب وخلع جميع ما عليه، وخلع الجماعة ما عليهم، ولم يبق كل أحد إلا بلباسه، ثم أرسلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وأحضروا ثياباً، فقال: يا مظفر، قال: لبيك، قال: ثيابي وثيابك الجماعة، الجميع لك. فشدوا كارات. فقلت: يا مظفر لولا رأس هذا المنسر معك ما قشطت ثياب الجماعة، فبلغت الشيخ فضحك. علي بن أحمد بن الحسين علاء الدين الأصفوني. اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وتأدب على الغضنفر الأصفوني والجلال بن شواق الأسنائي وغيرهما. كان أديباً ذكياً، سري النفس زكياً. له مكارم لم تنلها الغمائم، ومحاسن تسجع بأوصافها الحمائم. وكان له شعر ألذ من نغمات الأوتار، وأطرب من تغريد القمري في الأسحار على الأشجار. وله يد طولي في صناعة الحساب، ومباشرة في الخدم السلطانية جعلها من باب الارتزاق والاكتساب. وجلس بين الشهود بقوص وبالقاهرة، وتقمص تلك الحلة الفاخرة. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه أمر ما أطاق دفعه، وأعمل الموت فيه خفضة ورفعه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 أثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوي، ووصفه بمكارم أخلاق. قال: لما طلع داود الذي ادعى أنه ابن سليمان من نسل العاضد إلى الصعيد في سنة سبع وتسعين وست مئة، وتحركت الشيعة، بلغ علاء الدين هذا أنه قال لبعض أهل أصفون، إنه يتحمل عنه الصلاة. فنظم علاء الدين. ارجع ستلقى بعدها أهوالا ... لا عشت تبلغ عندنا الآمالا يا من تجمع فيه كل نقيصة ... فلأضربن بسيرك الأمثالا وزعمت أنك للتكالف حامل ... وكذا الحمار يحمل الأثقالا ولما ولى السفطي قوص سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان بصره ضعيفاً جداً حتى قيل إنه لا يبصر به شيئاً. وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيش قد قام في ولايته. قال علاء الدين: قالوا تولى الصعيد أعمى ... فقلت: لا بل بألف عين وبلغه شعر الشيخ عبد القادر الجيلي، وهو: ما في المناهل منهل يستعذب ... إلا ولي منه الألذ الأطيب أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب فقال علاء الدين: ما في الموارد مورد يستنكد ... إلا ولي فيه الأمر الأنكد أنا قنبر الأحزان أملأ طلحها ... حزناً وفي السفلى غراب أسود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر الشيخ الإمام العالم زين الدين أبو الحسن الآمدي الحنبلي العابر. كان شيخاً مهيباً، يقظاً لبيباً، فهيماً أريباً، صالحاً صدوقاً، ثقة إذا كان نطوقاً، عابراً للرؤيا، عارفاً بأحوال الدنيا، أضر في أخر عمره، وكان إلى ذلك نهاية أمره. وكانت تبدو منه عجائب مع عماه، وصوائب من كل سهم رماه، إلى أن فتن به القان غازان، وأنعم عليه بما زاد وبما زان. وكانت له منامات غريبة الكون، تدل على أنه له من الله نعم العون. ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الآمدي إلى مداه، وتجاوز عمره ببلوغ رداه. وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وكانت له حكايات عجيبة تحكى عنه، منها أنه أهدى إليه بعض أصحابه نصفية حسنة، فسرقت، فرأى في نومه شيخه الإمام مجد الدين عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش المقرئ شيخ القراء ببغداد، وهو يقول له: النصفية أخذها فلان وأودعها عند فلان، اذهب وخذها منه. فلما استيقظ قال في نفسه: الشيخ مجد الدين كان صدوقاً في حياته، وكذلك هو بعد وفاته. فذهب إلى الرجل الذي ذكره، فدق عليه الباب، فخرج إليه، فقال: أعني النصفية التي أودعها فلان عندك، فقال: نعم، فدخل وأخرجها له، فأخذها وذهب، ولم يقل له شيئاً. وجاء السارق بعد ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 إلى المودع يطلب النصفية، فقال له: جاء الشيخ زين الدين الآمدي، وطلبها على لسانك، فأعطيته إياها. فبهت السارق وبقي حائراً، ولم يعنفه الشيخ ولا واخذ. ومنها أنه قال: رأيت في المنام كأن شخصاً أطعمني دجاجة مطبوخة، فأكلت منها ثم استيقظت وبقيتها في يدي. وهذا شيء عجيب. وهذه الوقائع مشهورة عنه في تلك البلاد. ولما دخل القان غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن جنكزخان بغداد في سنة ..... وتسعين وست مئة، ذكر له الشيخ زين الدين المذكور، فقال: إذا جئت غدا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتاها احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين لتلقي غازان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحداً بعد واحد. ويسلم كل منهم على زين الدين، ويوهمه الذين معه أنه هو السلطان امتحاناً له، فجعل الناس كلما قدم أمير يزهزهون له ويعظمونه، ويأتون إلى زين الدين ليسلم عليه، والشيخ زين الدين يرد عليه السلام من غير تحرك له ولا احتفال، حتى جاء السلطان في دون من تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يديه نهض له قائماً، وقبل يده، وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وبالغ في الدعاء له باللسان المغلي ثم بالتركي ثم بالفارس ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلاماً للناس. فعجب غازان من فطنته وذكائه وحدثه ذهنه مع ضرره. ثم إن السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً ورسم له بمرتب في كل شهر ثلاث مئة درهم، وحظي عنده وعند أمرائه ووزرائه وخواتينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وكان يتجر في الكتب، وعنده كتب كثيرة جداً، وإذا طلب منه إنسان كتاباً نهض إلى كتبه، وأخرجه من بينها. وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غيره أخرجه بعينه. وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا المجلد على كذا كذا كراسة، فيكون الأمر كما قال: وإذا مر بيده على الصفحة قال: عدد أسطرها كذا كذا سطراً، فيها بالقلم الغليظ هذا وهذا، المواضع كتبت به، وفيها بالأحمر هذا وهذا، المواضع كتبت به. وإن اتفق أنها كتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا، من غير إخلال بشيء منها مما يمتحن به. وكان لا يفارق الإشغال والاشتغال في غالب أوقاته، وللناس عليه إقبال عظيم لدينه وورعه. ومن تصانيفه: جواهر التبصير في علم التعبير، وله تعاليق كثيرة في الفقه والخلاف وغير ذلك. وانتفع به جماع. علي بن أحمد بن سعيد ابن محمد ابن الأثير، القاضي الكبير الصدر علاء الدين أبو الحسن بن القاضي تاج الدين الحلبي الأصل ثم المصري، صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أيام السلطان الملك الناصر محمد. وكان السلطان لما توجه في المرة الأخيرة إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنه مدة، ووعده بالمنصب، وأعاده إلى القاهرة. ولما قدم السلطان من الكرك أباع القاضي علاء الدين إكديشا كان عنده بمئة وعشرين درهماً، واشترى بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 حلوى، وتوجه للقاء السلطان، فلما استقر له الأمر، قال السلطان للأمير الدوادار: اكتب إلى محيي الدين بن فضل الله، وقل له يكتب إلى أخيه القاضي شرف الدين ليطلب مني دستوراً في التوجه إلى الشام، وأنا أستحيي أن أبدأه بالخورج من مصر. فكتب محيي الدين إلى أخيه بذلك فلم يلتفت إليه، وقال: أنا ما أعيش بعقل يحيى. ولما علم السلطان بذلك رسم للقاضي شرف الدين بن فضل الله في أوائل المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بأن يكون صاحب ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه القاضي محيي الدين، وتولى القاضي علاء الدين بن الأثير مكانه في كتابة السر بالديار المصرية في سابع عشر ذي الحجة يوم الثلاثاء سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وكان القاضي شرف الدين له على السلطان خدم كثيرة، وإنما لما خرج إلى الكرك جهز معه القاضي علاء الدين بن الأثر، وكان في تلك الأيام صغيراً بين الجماعة، فنقم السلطان ذلك، ونسبه إلى شرف الدين، ووعد القاضي علاء الدين بالمنصب. ولما ولاه عظمه وقربه وكرمه وأنعم عليه ونوه بقدره، وبلغ منه في المكانة العالية ما لم يبلغه أحد. وكان يأمره السلطان بأشياء إلى نواب الشام، ويقول له: اكتب إليهم بكذا وكذا عنك، فيكتب إليهم بما أمره، حتى إلى الأمير سيف الدين تنكز، فزادت عظمته في القلوب ووجاهته، وكان يركب بستة عشر مملوكاً من الأتراك، فيهم ما هو بعشرة آلاف درهم وأكثر. وكان أخيراً يقف هؤلاء المماليك في خدمته بالديوان سماطين ولا يتكلم إلا بالتركي، ومماليكه يقربون كلامه للناس. وكان فيه ذكاء وعنده نباهة، وحسن كتابة، فيها للنواظر نزاهة، وتدبير يعينه على التقدم والوجاهة، وإحسان إلي من يعرفه، وجود على من يحضر إليه من الشام ويصرفه. أنشأ جماعة وقدمهم في الدولة، وجعل لهم بنظره إليهم أبهة في النفوس وصوله. واقتنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 المماليك والأملاك، وخضع له الأمراء والنواب والأملاك، وحصل نعماً أثيرة، وأصل في الديوان كلمات كثيرة، ودانت له الأقدار، وصفت له أيامه من الأكدار. وعلا علاء الدين بن الأثير، إلى أن صار من دونه الفلك الأثير، ورقد في سعوده على الفرش الوثير، ورأى كل من دونه قليلاً وهو كثير، وتقدم به أولاد أخيه، وكتبوا معه في الدست، فشدت بهم قواعد الملك وثبتت أواخيه. وأصبح ذكره في كل أرض ... يدار به الغناء على العقار ولم تزل كواكبه في سعود، ومراتبه في صعود، إلى أن قلب الدهر له مجنه، وأظهر له ما كان أكنه، وتيقظ له وكأنما كان في أكنه، ورمي بفالج عدم معه الانتفاع بحواسه، وبطلت حركة يده وطالما كان القلم فيها كأنما شد بأمراسه على أم رأسه، وعز أمره وما نزل به على السلطان، وطلب علاجه من النازحين والقطان، فما نجع فيه دواء من يعالج، ولا ظهر طريق مستقيم لطب ما به من الفالج، فنزل من ديوانه إلى البيت، ورآه الناس وهو حي كأنه الميت، و: ما زال يدفع كل أمر فادح ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء منتصف شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الخميس بمقبرتهم بالقرافة، ومات وهو في حدود الخمسين. أصابه مبادي فالج، فكابر هو نفسه، وصار يدخل ويخرج إلى السلطان ويفهم السلطان عنه ذلك، وما يقول له شيئاً، فلما كان في بعض الأيام أراد أن يقوم من بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 يدي السلطان ويحمل الدواة بيمينه، فسقطت من يده فتألم له السلطان، وقال للأمير سيف الدين ألجاي الدوادار: اكتب إلى نائب الشام ليجهز لنا القاضي محيي الدين بن فضل الله، وسر السلطان يقول له: يا علاء الدين، أنزل واضرب لك خاماً في جزيرة الروضة، وعالج هذا الحادث، وأنا أجهز لك الأطباء، فلم يفعل، وبقي في الديوان مريضاً إلى أن جاء الخبر بوصول القاضي محيي الدين بن فضل الله إلى قطيا، فقال لألجاي: مخر ابن الأثير بالنزول إلى بيته. فجهز يقول له: قد جاء صاحب الديوان ووصل، وغداً يكون هنا، فباسم الله أنزل استريح في بيتك. سبحان الله العظيم، هم أولا به عزلوا، وهو ثانياً بهم عزل. فذي الدار أخدع من مومس ... وأمكر من كفة الحابل وكان نزول ابن الأثير إلى بيته في أوائل المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأقام في بيته، وتزايد به المرض، وجهز السلطان أحضر أمين الدين سليمان رئيس الأطباء بدمشق، وقال له لما وصل: أنزل إلى القاضي علاء الدين بن الأثير، وعالجه ووعده، فنزل إليه وعالجه فما أفاد وآل أمره إلا أنه لم يبق فيه شيء يتحرك غير جفونه فكان إذا أراد شيئاً علا صارخاً بصوته، فيحضرون إليه، ويدقون على الأرض دقات متوالية، وهو يعد الحروف من أول المعجم، فإذا وصلوا إلى أول حرف من مقصوده أطرق وأغمض جفنه، فيحفظون ذلك الحرف، ثم يفعلون ذلك، فإذا وصلوا إلى الحرف الثاني من مقصوده أغمض جفنه. ولا يزالون كذلك حتى يفهموا عنه قصده. وكان الزمان يطول عليهم وعليه حتى يفهموا عنه لفظة أو لفظتين. نسأل الله تعالى العفو والعافية من آفات هذه الدار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وكان يكتب خطاً قوياً منسوباً، وله قدرة على إصلاح اللفظة وإبرازها من صورة إلى صورة، وما كن يخرج كتاب عن الديوان حتى يتأمله، ولا بد له أن يزيد فيه بقلمه شيئاً. وله إنشاء، وهو الذي أنشأ توقيع الشيخ مجد الدين الأقصرائي بمشيخة شيوخ الخانقاه بسرياقوس لما فرغت عمارتها. وعلى الجملة، فإنه عمل كتابة السر جيداً، ونفذ المهمات على أحسن ما تكون. ومدحه شعراء عصره. ومما كتب إليه به ما أنشدناه لنفسه إجازة شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى: أما ومكانة لك في ضميري ... وذكرك لا يزال معي سميري لقد سافرت بالأشواق أسعى ... إليك وإن قعدت عن المسير ولو أدركت من زمني مرادي ... لما ناب الكتاب عن الحضور ولم أوثر ولا لابني اختياراً ... بخطي من نوال ابن الأثير وكيف وليس إلا بالتثامي ... بنان يديه يكمل لي سروري كريم طاهر الأعراق تعلو ... أصالته على الفلك الأثير له خلق يدمثه حياء ... كروض دمثته يد الغدير وجود كلما أخفاه صوناً ... حكى شمس الظهيرة في الظهور إذا وشى بليل النقس صبح ال؟ ... طروس أراك نوراً فوق نور وأبدي للموالي والمعادي ... أماني أو منايا في السطور وله فيه أمداح كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة قصيدة، مدحه بها، أولها: أصاب بجفنه عقل الأسير ... فيا ويل الصحيح من الكسير غزال كالغزالة في سناها ... تجحبه الملامة بالسفور منها: يلذ تغزل الأشعار فيه ... لذاذة مدحها في ابن الأثير أغر إذا احتبى وحبا العطايا ... رأيت السيل يدفع من ثبير أخو يومين يوم ندى ضحوك ... ويوم ردى عبوس قمطرير كأن حديثه في كل ناد ... حديث النار عن نفس العبير له قلم سرى للنفع سار ... يبيت على الممالك كالخفير تلثم بالمداد لثام ليل ... فأسفرت عن سنا صبح منير علي الاسم والأوصاف يزهى ... به الدهر العلي على الدهور من القوم الذين لهم صعود ... إلى العلياء أسرع من حدور سما شعري وزاد على علاهم ... فلقبناه بالفل الأثير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 أأندى العالمين يداً وأجدى ... على العافين في الزمن العسير إليك سعى رجاي وطاف قصدي ... فدم يا كعبة للمستجير ولما دخلت أنا إلى القاهرة في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت بعض الناس قد لهج بالمقامة للقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر التي وسمها ب؟ مراتع الغزلان، وكلفت أنا في ذلك بإنشاء رسالة في تلك المادة، فأنشأت رسالتي التي وسمتها ب؟ عبرة اللبيب بعبرة الكئيب، وكتبت في أولها أبياتاً تتعلق بمديحه، وقد شذت الآن عني، وحملتها إليه، فوقف عليها. ولما جئته بذلك قال لي: الله يزيدك من فضله. وطوق علي، فقلت له: والله يزيدك سعادة. علي بن أحمد بن عبد الواحد قاضي القضاة أبو الحسن عماد الدين بن محيي الدين أبي العباس بن بهاء الدين أبي محمد الطرسوسي الدمشقي الحنفي. كان قاضياً سؤوساً، عالماً في مذهبه رئيساً. كم ألقى دروساً، وأطلع من ألفاظه غروساً، حسن الشكل مديد القامة ظريف العمامة، كأن وجهه الشمس تحت الغمامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 لم ينكد عليه في منصبه، ولا رأى فيه ما ارتاع بسببه. ماشياً فيه على السداد، سالكاً فيه سبل الرشاد. يعظمه نواب السلطنة بالشام، ويثنون على ما له من القضايا والأحكام. وكان لا يمل من قراءة القرآن، ولا يفتر لسانه عن سرد آياته في كل زمان ومكان إلى أن سأل في النزول عن منصب القضاء لولده، وإيثاره به لما دار في خلده. فأجابه السلطان إلى ما قصده وعجل له الأمر الذي رصده. فلازم بيته آناء الليل وأطراف النهار، ويعمل على خلاصة في غد إذا وقف على شفا جرف هار. إلى أن حان مصرعه، وآن من ورد المنية مكرعه. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين ثامن عشري الحجة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالمزة. وكان الأمير تنكز رحمه الله تعالى قد ولاه تدريس المدرسة القايمازية بعد وفاة الشيخ رضي الدين المنطيقي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، فكتبت أنا توقيعه بذلك. ونسخته: الحمد لله الذي جعل عماد الدين علياً، وأيد شرعه المطهر بمن رقى بعلمه سموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وأصبح للوصي سميا، ورفع قدر من إذا كان في حفل همى ندى وحنى ندياً، وهدى الناس بأعلام علمه التي إذا خفقت كم هزمت كميا وقادت إلى الحق أبياً. نحمده على نعمه التي جعلت العلماء للأنبياء ورثة، وأقامت بهم الحجة على من نكب عن الحق أو نقض الميثاق ونكثه، ونفت بهم شبه الباطل عن الدين القيم كما ينفي الكير خبثه. وجعلت كل حبر منهم إذا نطق في المحافل جاء بالسحر الحلال من فيه ونفثه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها في المعاد خير عدة، ونأمن بها يوم الفزع الأكبر إذا ضاق على الناس خناق الشدة، ونجدها في الصحائف نوراً يضيء لنا إذا كانت وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. وتجعل أيدينا على قطاف ثمار الرحمة وجنى غصونها ممتدة. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من هدى الخلق ببرهانه، وأشرف من قضى بين الناس بالحق وفرقانه، وأعز مزن دفع في صدور البلغاء بنان بيانه، وأكرم من أطلق في ملكوت الله عز وجل عنان عيانه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا لأوليائهم السنة، ورووا من أعدائهم الأسنة، وأضحت طريقهم لطالب هدية الهدى مطية المظنة، وأمسوا حرباً لحزب الشيطان الذين جعل الله في آذانهم وقراً وعلى قلوبهم أكنة، صلاة تطلق جياد الألسنة في ميدانها الأعنة، وتبلغهم أمانيهم التي بايعهم عليها بأن لهم الجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وبعد، فلما كان العلم الشريف هو لدين حافظ نظامه، وضابط أحكامه في حلاله وحرامه، بنشره يطيب نشر الإيمان وأرجه، ويتسع من صدر الجاهل بأحكام ربه تعالى ضيقه وحرجه. والعلماء هم الذين يرعون سوامه ويراعون، ويقدمون على منع من يتعدى حدود الله تعالى فما يهابون ولا يهانون ولا يراعون. وكفى بالعلماء فخراً أنهم للأمة أئمة الاقتداء، وأن مدادهم جعله الله بإزاء دم الشهداء. وقد خلت في هذه الأيام المدرسة القايمازية، أثاب الله واقفها، ممن ينشر فيها أعلام العلم، ويبدي في مباحثه مع خصومه معنى الحرب في صورة السلم، وينبت في رياض دروسها دقائق النعمان، ويثبت في حياض غروسها دقائق النعمان. تعين أن يقع الاختيار على من يحيى بدروسه ما درس من مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه، ويجدد بفضائله التي أتقن فنونها ما رث من أقواله التي لا توجد إلا فيه، ولا تؤخذ إلا منه. وكن المجلس العالي القضائي العمادي أبو الحسن علي الطرسوسي، أدام الله أيامه، وأعز بالطاعة أحكامه، هو الذي تفرد بهذه المزايا، وجمع هذه الخلال الحميدة والسجايا، تضع الملائكة له إذا خطا في العلم الأجنحة، ويتخذ الناس إذا اضطروا لدفع الأذى عنهم من صلاح الأسلحة، قد أراد الله به خيراً لما وفقه وفقهه في الدين، وأقامه حجة قاطعة ولكن في أعناق الملحدين، تنقاد المشكلات لذهنه الوقاد في أسلس قياد، وتشيد أفكاره الدقيقة للنعمان إمامة ما لا شادته من المجد للنعمان أشعار زياد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وتبيت النجوم الزهر ناظرة إلى محاسن مباحثه من طرفها الخفي، وتنكف الألسنة الحداد من خصومه إذا جادلهم وتنكفي، ويأتي بالأدلة التي هي جبال لا تنسفها مغالط النسفي. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى أن يفوض إليه تدريس المدرسة المذكورة. فليظهر عرائس فضله المجلوه، ويبرز نفائس نقله المخبوه، وليطرز دروسه بدقائقه التي بهرت، ويزد المباحث رونقاً بعبارته التي سحرت الألباب وما شعرت، إذ هو الحاكم الذي سيف قلمه إذا أمضاه كان في الدماء محكماً، والحبر الذي لا يقاس به البحر وإن كان القياس في مذهبه مقدماً، والعالم الذي إذا نهض بالإملاء فهو به ملي، والفاضل الذي إن كان العلم مدينة فبابها علي. وليتعهد المشتغلين بالمدرسة بمطالبة محفوظهم، والحث والحض على الأخذ بزيادة العلم، فإن ذلك أسعد حظوظهم، والحفظ والجدل جناحا العلم ويداه، وبهما يتسلط الطالب على مقاربة المدى وإن كان العلم لا نهاية لمداه. فمن استحق رقياً على غيره فليرقه، وليوفه حقه؛ فإنه إذا نظر الحاكم في أمره وصل إلى حقه. والتقوى هي ملاك الأمور وقوامها، وصلاح الأحوال ونظامها، على أنه أدام الله أيامه هو الذي يشرع الوصايا لأربابها، ويعلم المتأدب كيف يأتي البيوت من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أبوابها. وإنما أخذ القلم على العادة نصيبه، وأتى بنكت ومن علم العوان الخمرة كانت منه عجيبة. والله يوفق أحكامه السديدة، ويمتع الأيام بمحاسنه، فإنها في الناس باب القصد وبيت القصيدة، والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وكان قد وصل تقليده من الديار المصرية بقضاء قضاة الحنفية بالشام عوضاً عن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي البصروي في نصف شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وخلع عليه، وقرئ تقليده يوم الجمعة بجامع دمشق، وولي الحكم مع تدريس المدرسة النورية، واستناب في الحكم عنه القاضي عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز الحنفي. وكان قاضي القضاة عماد الدين صاحب هذه الترجمة ينوب أولاً في الحكم عن قاضي القضاة صدر الدين، فلما توفي رحمه الله تعالى عين هو للمنصب لجودة أحكامه وحسن سيرته. وكان قد باشر النيابة بعد موت القاضي شمس الدين بن العز الحنفي في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 علي بن أحمد بن زفر ابن أحمد بن مظفر الإربلي، الدنباوندي الأصل، الشيخ الفاضل عز الدين أبو الحسن الصوفي. كان فقيراً قانعاً، خبيراً نافعاً، محفوظه كثير، وملفوظه غزير، حسن المجالسة، كثير المؤانسة. رأى بلاداً عديدة، وأنفق فيها مدة مديدة، ونظر في علوم كثيرة، وحصل منها فوائد إذا ذكرها تخجل اللآلئ النثيرة. وكان ضبطه جيداً، ونقله مقيداً، وزكي في الطلب فلم يعالج تورعاً، وفعل ذلك تبرعاً. ولم يزل على حاله إلى أن أربد وجه الإربلي، ومحي أثره تحت الثرى وبلي. وتوفي رحمه الله تعالى في ويم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة بإربل. وكان قد سافر البلاد وأقام بتبريز وماردين وغيرها من المدن. وكان قد رتب بمدرسة الطب، وزكي، وأذن له في العلاج. ولم ينتصب لذلك. كان صوفياً بدويرة حمد، وساكناً بها، وكان قد اختار مقام دمشق إلى أن مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 علي بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن عمر بن الشيخ علي الحداد، المؤذن بالجامع الأموي بدمشق. كان له شعر ومدائح نبوية، وكان ينشد في المحافل والمجالس. وتعلم صناعة الحدادة بالعقيبة، وأذن بالمرشدية، والصاحبية، وجامع النيرب، وبيروت. وحج غير مرة. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده بحلب سنة خمس وخمسين تقريباً. علي بن أحمد بن عبد الرحمن ابن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الإمام الخطيب فخر الدين أبو الحسن بن قاضي القضاة نجم الدين أبي العباس ابن الشيخ قاضي القضاة شمس الدين أبي محمد الخطيب بالجامع المظفري بسفح قاسيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 توفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد حادي عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب الخمسين. سمع من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره. وحدث، وفوض أمر الخطابة إلى خاله الشيخ عز الدين محمد بن الشيخ عز الدين إبراهيم بن الشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر، وإلى ابن أخته نجم الدين أحمد بن قاضي القضاة عز الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة، بينهما على الاشتراك. علي بن أحمد بن محمد الأمير السيد الشريف علاء الدين العباسي. أحد أمراء العشرات بدمشق. أول ما عرفت من أمره أنه كان والياً بالقدس، ثم إن الأمير سيف الدين أخذه وجعله أستاذ داره الكبير في بابه. ولما أمسك هو في جملة مباشري ديوانه، ووزن شيئاً في تلك المرة، ثم إنه تولى شد الأوقاف في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وتداول هو والأمير حسام الدين بن النجيبي هذه الوظيفة مرات، ثم إنه قوي عليه بانتمائه إلى الفخري، ثم أعطي إمرة عشرة مع الوظيفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وكان شكلاً طويلاً، تام الخلق نبيلاً، له عبسة وطل جلسه، وصمت وإطراق وإعراض عمن يخاطبه وإخراق. إلا أنه ليس فيه شر، ولا عنده كر إلى الفتن ولا فر. ولما كان الفخري بدمشق، ويئس من مجيء السلطان أحمد الناصر من الكرك، وبلغه أنه توجه إلى مصر، خطر له الخروج على المصريين، وقال: هذا عندنا رجل شريف عباسي، نقيمه نحن خليفة، ونبايعه، وما نحتاج إلى أحد من المصريين. وكان الفخري قد عني هذا علاء الدين مشد الأوقاف. علي بن أحمد بن أسد القاضي علاء الدين بن الأطروش، ابن أخي شمس الدين بن الأطروش، كان يعرف بالسكاكيني. وسمع القاضي علاء الدين هذا الدارقطني على الحافظ شرف الدين الدمياطي. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: هو رفيقي في السماع على الدمياطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وحدث بدمشق، وربما حدث بالديار المصرية. ورد إلى دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر متولياً نظر الحسبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعين، في أواخرها، وباشرها مباشرة جيدة بصلف ومهابة. ولم يزل بها، وهو يخدم الأمراء المصريين وغيرهم إلى أن سعى في طلبه مع الأمير سيف الدين أرغون العلاي والحجازي وغيرهم، فطلب إلى مصر في أواخر سنة خمس وأربعين، فتوجه إلى القاهرة، وباشر الحسبة بها ثم إنه عزل منها، وتولى حسبة دمشق مرة ثانية، فورد إليها بعد وفاة الشيخ عز الدين بن المنجا المحتسب في سنة ست وأربعين وسبع مئة فيما أظن، وتولى مع الحسبة نظر الأسرى بدمشق أيضاً، فباشر ذلك مدة لطيفة، وانفصل من الأسرى، وبقي على وظيفة الحسبة بدمشق، وهو مستمر على خدمة الأمراء المصريين، يسعى في العود إلى القاهرة. فطلب إليها ثانياً من دمشق في سنة ..... وأقام بها، وتولى الحسبة بالقاهرة ونظر المارستان المنصوري مرات، وعزل منهما ثم أعيد إليهما، وولي قضاء العساكر بالقاهرة أيضاً، ولما تولى علم الدين بن زنبور الوزارة عزله من وظائفه، ثم إنه أعيد إليها ثم عزل أخيراً من البيمارستان. وبقي على الحسبة وقضاء العساكر إلى أن ورد الخبر إلى دمشق بوفاته رحمه الله تعالى وصلى عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب يوم الجمعة عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكانت وفاته بالقاهرة يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وكان رحمه الله فيه خدمة للناس، ورعاية لأصحابه، ومكارم لمن يصحبه. أول ما عرفت من أمره أنه تعلق على صحبة الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وتمارض في وقت، وسعى مع أصحابه في أن يعوده الجاولي، فجاء إليه وعاده، فطار هذا الخبر في القاهرة، فتشبه الناس بالجاولي، وعاده الكبار من أرباب السيوف والطيالس. ولم يزل بعد وفاة السلطان الملك الناصر يسعى مع أمراء الدولة إلى أن ولي حسبة دمشق، كما تقدم. وكان من رجالات العالم في السعي، وحفظ المودة والرعي، لا يمل من المشاكلة للأكابر، والتردد إليهم إن كانوا أرباب سيوف أو محابر، والتودد إلى من حولهم، والتعهد إلى من يسمع قولهم، ولا يزال يداخلهم بكل صنف يميلون إليه، وينازلهم في كل مربع ينزلون عليه، حتى يخلب قلوبهم بخدمه، ويثبت لديهم رسوخ قدمه، فحينئذ يقترح بعد التطفل، ويترفع بعد التسفل. له عزمة ما استبطأ الدهر نجحها ... ولا استعتب الأيام وري زنادها إذا شوهدت بالرأي بان اختيارها ... وإن بان ذو الرأي اكتفت بانفرادها وكانت الدنيا تهون عليه في البذل، ويستوي عنده في المكارمة ذو الوجاهة والنذل، لا يرى إلا قضاء مآربه، وإضاءة الوجود بذكره في مشارقه ومغاربه. ولما جاء إلى حسبة دمشق عبث بشمس الدين الشاعر الخياط المنبوز بالضفدع، وضربه واعتقله، وهم بحلق ذقنه، فقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وخلصه، فتسلط على عرضه، وهجاه بقصائد ومقطعات كثيرة، من ذلك قوله وقد ركب بغلة بزنار: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 رقى ابن الأطروش إلى رتبة ... باغ لها الجنة بالنار تنصرت بغلته تحته ... فقد غدت تمشي بزنار علي بن أرقطاي الأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الحاج أرقطاي نائب صفد وطرابلس وحمص وحلب والقاهرة، تقدم ذكر والده في مكانه. كان ذا وجه سبحان من أبدعه، ومحيا كأن الله تعالى خلق الجمال له وأودعه. حلو الصورة، كأن المحاسن عليها مقصورة، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، إذا رأى الناظر عينيه يخال أن الكحل في جفونها قد نفض، والسحر من الزمن القديم إلا من حركاتها قد رفض، بقوام من أين للغصون الميادة حركاته، أو للقنا الذابل تحت الأسنة فتكاته، وذؤابة أورق بها من قده الغصن الرطيب، وحكت مجنون ليلى إذا خطا، فهي تخط على كثيب: حلو الشمائل والمعاطف أهيف ... جمعت ملاحة كل حسن فيه يختال معتدلاً فإن عبث الصبا ... بقوامه متعرضاً يثنيه كان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يميل إليه ميلاً شديداً، ويجد منه غراماً جعل قلبه في هواه عميداً، إلا أنه على عادته، في هواه، وقاعدة جواه، لم ينل منه إلا لذة نظره، واستجلاء قمر وجهه في دياجي شعره. طلبه وطلب أخاه إبراهيم، وكان الآخر بارع الجمال، ولكن علي هو البدر في ليالي الكمال. وكتب إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 السلطان في معناهما، وأمرهما عنده بدمشق، لبسا تشاريفهما، وأنزلهما عنده بدار السعادة، وأقاما قريباً من شهر. وجعل علياً بطبلخاناه وإبراهيم بعشرة، وأعادهما إلى أبيهما. وتوجه أمير علي مع والده إلى الديار المصرية، وأقام فيها مدة إلى أن هصرت يد الموت غصنه الرطب، وأعظمت على أبيه الخطب، وتوفي رحمه الله تعالى. علي بن إسحاق الشيخ المسند علاء الدين أبو الحسن بن الملك المجاهد صاحب الجزيرة بن السلطان بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل. سمع من الحراني جزء ابن عرفة، والمصافحات، المخرجة له والثمانيات وغير ذلك. وسمع من ابن علاق الجمعة للنسائي. وكان من أعيان الجند بالقاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. ومولده ثامن عشري المحرم سنة سبع وخمسين وست مئة بجزيرة ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 علي بن إسماعيل بن إبراهيم ابن كسيرات، القاضي تاج الدين بن الصاحب مجد الدين المخزومي. كان يخدم بطرابلس في وظائف الديوان من سنين. وكان كاتباً ظريفاً شاباً، لين الشمائل، ظاهر الرئاسة، له اشتغال ونظم. سمع مع الشيخ علم الدين البرزالي كثيراً. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده فلي مستهل الحجة سنة تسع وستين وست مئة. علي بن إسماعيل بن أبي العلاء ابن راشد بن محسن، الشيخ الفاضل علاء الدين أبو الحسن الدمشقي القواس الوتار. سمع من ابن أبي اليسر والزين بن الأوحد، والبدر عمر بن محمد الكرماني. وحدث. وكان رجلاً جيداً فاضلاً أديباً، له نظم، وعنده طرف من العربية واللغة، وذهنه جيد. وكان حسن المجالسة والمحاضرة، ملازماً لسوق القواسين، يقصده الناس في دكانه، ويصحح جماعة عليه ما يقرؤونه عليه في المواعيد وعلى الكراسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وتوفي رحمه الله تعالى في سادس صفر سنت ست وثلاثين وسبع مئة. علي بن إسماعيل بن يوسف الإمام العالم العامل العلامة القدوة العارف المسلك، ذو الفنون قاضي القضاة بدمشق الشافعي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، القونوي التبريزي. سمع الحديث عن إبراهيم بن عنبر المعروف بالمارداني، وأبي العباس أحمد بن عبد الله اليونيني، وأبي العباس أحمد بن عبد الواحد الزملكاني، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وإسماعيل بن عثمان بن المعلم، وأبي الخير سلامة بن سالم الجعبري، وعبد الله بن محمد الرصافي، وأبي حفص عمر بن القواس. وسمع بمصر من الأبرقوهي، وابن الصواف، وابن القيم، ومن الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة تقي الدين أبي الفتح بن دقيق العيد، ولازمه زمناً طويلاً، يحضر عنده بالليل، وكتب له بخطه مع تحريه وضبطه على مختصر ابن الحاجب على النسخة التي هي ملكه، باحثت صاحب هذا الكتاب، ونعته وقال: فوجدته يطلق اسم الفاضل عليه استحقاقاً. وحسبك هذا الثناء من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه وعلى من كان يطلق هذا اللفظة، أعني الفاضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى جبل علوم، وطود حلوم، وبحر فضائل ومسل مسائل، فاضل الدهر وعالمه العلامة، ومن إذا ذكر الناس غيره لم يقل الإنصاف له إلا مه، عرف التفسير وكشف سر كشافه، وعلم ما يخاطب به منه وما يشافه، وخاض بحر الفقه فلو رآه الروياني لأغرقه في بحره، وحوى محاسن الحاوي، فلو عاصر الماوردي لعجز عن ثنائه الطيب وشكره، ومخض زبد الكلام، فلو تأمله السيف الآمدي لوقف فيه عند حده، أو الإمام فخر الدين لتحقق أن محصله من عنده، وحقق أصول الفقه فلو تقدم زمانه كان ابن الحاجب بين يديه نقيباً، أو البيضاوي لتسود وجوه طروسه ولم يكن في منهاجه مصيباً. وذاق لب العربية فالفارسي يفتخر به ويقول أنا أبو علي، وابن مالك يقول: من شافعي في هذا الفن إلى هذا الولي. وخاض في لجة المعاني والبيان، فعبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 القاهر عنده عبد مقهور، وصاحب المفتاح لا نسبة له إلى من عنده خزائن المنظوم والمنثور. وبرع في المنطق فهو من الخونجي أفضل، ومن الكاتبي أنبه، ومن الأبهري أبهر وأنبل. وجد للجدل حتى وافقه العميدي على الخلاف، ونسف حبال النسفي وما تلافاه أحد من التلاف. وهذب نفسه بالمعارف في التصوف، وذاب في خلواته من التشوق إلى حضرة القدس والتشوف، فلو رآه الشبلي لقال هذا الأسد، أو معروف لأنكر نفسه وقال: هذا الذي بلغ من الأشد الأشد. هذا إلى صورة قد حسنها الذي فطرها، وشيبة بيضها الله ونورها، وأخلاق ليس للنسيم لطفها، ولا للرياض نضرتها وظرفها. أقمام في القاهرة فملأها علماً، وجاء إلى دمشق فسرها حكماً وحلماً. ولم يزل فيها على حاله إلى أن غاض بحره العجاج، وطفئ سراجه الوهاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له. ومات بورم الدماغ بقي مريضاً أحد عشر يوماً. وكانت جنازته حافلة، وتأسف الناس عليه. خرجوا به ولكل باك حوله ... صعقات موسى يوم دك الطور حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور تبكي عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى قد قدم دمشق في أول سنة ثلاث وتسعين وست مئة، فرتب صوفياً، ثم إنه درس بالإقبالية، ثم إنه توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام ثلاثين سنة على قدم واحد، إذا طلع الفجر خرج من مسكنه للصلاة بسكون ووقار، وإذا فرغ منها أخذ في إشغال الطلبة في غير ما فن إلى أن يؤذن الظهر، فيصلي، ويأكل شيئاً في بيته، ثم إنه من الظهر إلى العصر يدور، إما أن يزور أصحابه الأعزة، أو يتوجه في شفاعة لأحد قصده، أو يسلم على غائب أو يهنئ أو يعزي أو يعود مريضاً، إلى أن يتوجه إلى وظيفة الخانقاه للذكر والعبادة. هكذا أبداً لا يمر له وقت في غير ذلك. وكان قد ولي تدريس الشريفية بالقاهرة، وبها سكنه. وكان السلطان يعظمه ويثني عليه، وكذلك الأمير سيف الدين أرغون النائب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 أخبرني القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين كاتب السر بدمشق، قال: سمعت الأمير سيف الدين أرغون النائب يقول بحلب: ما رأيت رجلاً مثل الشيخ علاء الدين القونوي ولا ملأ عيني غيره. وكان يعرف بالتركي وبالعجمي. ولم يزل على حاله إلى أن توفي الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني ببلبيس، وقد طلبه السلطان ليوليه قضاء دمشق، فحينئذ عين السلطان الشيخ علاء الدين لقضاء الشام، فما خرج منها إلا كارهاً. كان يقول لأصحابه الأعزة عليه: أخملني السلطان كونه لم يولني قضاء الديار المصرية، وليته كان عينني لذلك في الظاهر، وكنت أنا سألته الإعفاء من ذلك. ولما خرج إلى الشام حمل كتبه معه على البريد، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرساً أو أكثر. وباشر منصب الحكم بدمشق أحسن مباشرة بصلف زائد وعفة مفرطة، ولن يكن له تهمة في الأحكام، بل رغبته وتطلعه إلى الإشغال والإفادة. وطلب الإقالة أولاً من السلطان، فما أجابه، ثم إنه لما جاء إلى الشام واستقر في دمشق، كتب إلى شيخنا العلامة تقي الدين السبكي ليناقله إلى وظائفه بالقاهرة، ويأخذ هو قضاء الشام، فما وافقه ذاك. وكان منصفاً في بحوثه، ريضاً معظماً للآثار، ولم يغير عمته للتصوف. ولما جاء إلى دمشق، بلغني أنه أحضر القاضي فخر الدين المصري والقاضي جمال الدين ابن جملة، وحل من وسطه كيساً فيه ألف دينار، وقال: هذه جاءت معي من الديار المصرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وخرج له ابن طغريل والشيخ عماد الدين بن كثير مشيخة، فوصلهما بجملة. وشرح الحاوي في أربع مجلدات وجوده، واختصر منهاج الحليمي وسماه الابتهاج. وله التصرف، شرح التعرف في التصوف. وكان قد أحكم العبية، وله يد طولى في الأدب، ويكتب خطاً قوياً إلى الغاية مليحاً تعليقاً. وكان له حظ وافر من صلاة وصيام وخير وحياء، وكان مع مخالفته للشيخ تقي الدين بن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة، يثني عليه ويعظمه ويذب عنه، إلا أنه لما توجه من مصر قال له السلطان: إذا وصلت إلى دمشق، قل لنائب الشام يفرج عن ابن تيمية. فقال: يا خوند، على ماذا حبستموه؟ قال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة. فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورجع أفرجنا عنه. وكان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات. وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، إلا أن له ردوداً على أهل الاتحاد. وكان يتحدث على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " كنت سمعه الذي يسمع به ". وشرحه شرحاً حسناً، وبينه بياناً شافياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي تخالف السنة من اعتزال وغيره: عرفت الشر لا للشر ... ر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر ... ر من الخير يقع فيه وكان يترسل جيداً من غير سجع، ويستشهد بالأبيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام. وكنت أنا بصفد أكتب إليه وهو بمصر عن الأمير شرف الدين حسين بن جندر رحمه الله تعالى فتأتي أجوبته بخطه، وهي في غاية الحسن، وفيها السلام علي والثناء الكبير والتودد من غير معرفة. ولما دخلت القاهرة واجتمعت به مرات، عاملني بكل جميل وطلب مني كتابي جنان الجناس. وقف عليه، وبقي عنده مدة، ثم أعاده إلي، وبلغني الثناء الزائد منه علي. ثم لما قدمت من مصر إلى دمشق متوجهاً إلى الرحبة، وهو بالشام قاض، طلب ذاك المصنف مني، فحملته إليه، وبقي عنده مديدة، ثم أعاده، وأخذ في الفضل والشكر على عادة إحسانه، جزاه الله عني الخير، ورحمه ورضي عنه. وكتب هو رحمه الله إلى ناصر الدين شافع، وقد طلب منه شيئاً من شعره: غمرتني المكارم الغر منكم ... وتوالت علي منها فنون شرط إحسانكم تحقق عندي ... ليت شعري الجزاء كيف يكون يقبل الباسطة الشريفة، لا زالت للمكرمات مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وينهي أن بضاعة المملوك فغي كل الفنون مزجاه، ولا سيما في فن الأدب، فإنه فيه في أدنى الدرجات. وقد وردت عليه إشارة مولانا حرسه الله تعالى في طلبه شيئاً من الشعر الذي ليس المملوك منه في عير ولا نفير، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما شذ من الهذيان، الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا للنسيان. والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إسحانه إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقاطته لا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده ويحرسه بالملائكة ويعضده. وكتبت إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم: مخالفة المرسوم وافقت المنى ... وحازت من الإحسان خصل المناضل أثارت على نجل الأثير إثارة ... من العلم مفتوناً بها كل فاضل وشاعت بالشام صورة فتيا على لسان بعض اليهود، وهي: أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى بي بكفر بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي دعاني وسد الباب عني فهل إلى ال؟ ... دخول سبيل؟ بينوا لي قصتي قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي فإن كنت بالمقضي يا قوم راضياً ... فربي لا يرضى لشؤم بليتي وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي ... وقد حرت دلوني على كشف حيرتي ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فها أنا راض باتباع المشيئة وهل لي اختيار أن أخالف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي فكتب الشيخ علاء الدين رحمه الله الجواب: حمدت إلهي قبل كل مقالة ... وصليت تعظيماً لرب البرية وحاولت إبلاغ النصيحة منصفاً ... لمن طلب الإيضاح في كل شبهة فأول ما يلقى إلى كل طالب ... لتحقيق حق واتباع حقيقة نزوع الفتى من كل عقد وشبهة ... تصد عن الإمعان في نظم حجة وإلقاء سمع واجتناب تعنت ... فلا خير في المستحمق المتعنت إذا صح عن الجد في كشف غمة ... بليت بها فاسمع هديت لرشدتي صدقت، قضى الرب العظيم بكل ما ... يكون وما قد كان فوق المشيئة وهذا إذا حققته متأملاً ... فليس يسد الباب من بعد دعوة لأن من المعلوم أن قضاءه ... بأمر على تعليقه بشريطة يجوز ولا يأباه عقل كما ترى ... حدوث أمور بعد أخرى تأدت كما الري بعد الشرب والشبع الذي ... يكون عقيب الأكل في كل مرة فليس ببدع أن يكون معلقاً ... قضاء إله الخلق رب الخليقة بكفرك مهما كنت بالبغي رافضاً ... تعاطي أسباب الهدى مع مكنة فمن جملة الأسباب مما رفضته ... مع الأمر والإمكان لفظ الشهادة فأنت كمن لا يأكل الدهر قائلاً ... أموت بجوع إذ قضى لي بجوعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 فلو أنتم أقبلتم بضراعة ... إلى الله والدين القويم الطريقة ووفيتم حسن التأمل حقه ... وأحسنتم الإمعان في كل نظرة لكان الذي قد شاءه الله من هدى ... وليس خروج من قضاء بالة ألا نفحات الرب في الدهر جمة ... ولكن تعرض كي تفوز بنفحة ولا تتكل واعمل فكل ميسر ... لما هو مخلوق له دون ريبة ولو كنت أدري أن فهمك قابل ... لفهم كلام ذي غموض ودقة لأشبعت فيه القول بسطاً محققاً ... على نمطي علمي كلام وحكمة ولكنما المقصود إقناع مثلكم ... فهاك قصيراً من فصول طويلة ولولا ورود النهي عن هذه التي ... سألت لصار الفلك في وسط لجة فها أنا أطوي بسط ما قد نشرته ... وأستغفر الله العظيم لزلتي ونظم الشيخ علاء الدين رحمه الله أبياتاً في الشجاج، أنشدنيها عنه الإمام قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي المالكي. قال: أنشدنا لنفسه، وسمعتها منه غير مرة: إذا رمت إحصاء الشجاج فهاكها ... مفسرة أسماؤها متواليه فحارصة إن شقت الجلد ثم ما ... أسال دماً وهي المسماة داميه وباضعة ما تقطع اللحم والتي ... لها الغوص فيه للذي مر تاليه وتلك لها وصف التلاحم ثابت ... وما بعدها السمحاق فافهمه واعيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وقل ذاك ما أفضى إلى الجلدة التي ... تكون وراء اللحم للعظم غاشيه ومن بعدها ما ينقل العظم واسمها ... منقلة ثم التي هي آتيه وموضحة ما أوضح العظم باديا ... وهاشمة بالكسر للعظم باغيه ومأمومة أمت من الرأس أمه ... وقد بقيت أخرى بها العشر وافيه فدامية تسمى لخرق جليدة ... هي الأم كيس للدماغ وحاويه وهذا هو المشهور في عدها وإن ... ترد ضبط حكم الكل فاسمع مقاليه ففي الخمسة الأولى الحكومة ثم ما ... بإيضاح عمد فالقصاص وجانيه وخصت بهذا الموضحات لضبطها ... فلا عشر في استيفائها متكافية وإن حصلت من غير عمد أو انته ... إلى المال عفواً فاقدر الأرش ثانيه على ذمة النفس التي أوضحت بها ... فتلك لنصف العشر منها مسايه وذاك لأرش الهشم والنقل مفرداً ... وزد بانضمام للحساب مراعيه ففي اثنين منها العشر ثم لثالث ... يزيد عليه نصفه بك حاسيه ومأمومة فيها من النصف ثلثها ... ودامغة مثل لها ومكافيه وقيل بأن الدمغ ليس جراحة ... لتدقيقه كالحرز وهي ملافيه وقد نجز المقصود والعي واضح ... وعجمتي العجماء في النظم باديه ؟ علي بن إسماعيل بن إبراهيم ابن قريش، المسند نور الدين أبو الحسن بن المحدث تاج الدين المخزومي المصري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 سمع الحافظين المنذري والعطار، وشيخ الشيوخ الحموي، ومحمد بن أنجب، والكمال الضرير، وابن البرهان، وابن عبد السلام. وسمع حضوراً من عبد المحسن بن مرتفع. وتفرد بأشياء، وكان صالحاً خيراً، من الشهود. أخذ عنه شهاب الدين الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وشمس الدين السروجي، وجماعة. وسمعت أنا عليه الجزء الأول والثاني من عوالي المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، بقراءة شيخنا الحافظ أبي الفتح، في منزله بين القصرين في عدة مجالس، آخرها في سابع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وأجاز لنا جميع ما يرويه، ورواهما لنا بسماعه من الشيخ زين الدين أبي الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن عزون. قال: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت الإمام أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري، قراءة عليها، وأنا أسمع، قالت: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت أحمد بن عبد الله بن عقيل الجوزدانية، قراءة عليها، وأنا حاضر، في الثالثة، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي، أخبرنا الطبراني. وتوفي الشيخ نور الدين بن قريش المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 علي بن إسماعيل الشيخ الإمام نور الدين الصفدي. ربي في حجر الشيخ زين الدين أبي بكر المقرئ إمام مسجد الشيرزي بصفد ومقرئها. كان له قدرة على الحفظ، وشهرة بكثرة اللفظ، ذكياً إلى الغاية، زكياً في نفسه ليس لطلبه نهاية، يحرص على أن يسلك طريق الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويأخذ نفسه بالدخول في كل بلية، ويشتهي أن يحيط بالأشياء علماً، وألا يدع علماً ولا غيره حتى يملكه فهما، فلذلك ضيع الزمان، وإن كان قد خرج عن الجهل بأمان، لكنه ذو عربية جيدة، وروية لم تكن عن الصواب متحيدة، وبرع في الحديث دراية، وشاكل فيه ببعض رواية، وشارك في الفقه فأخذ منه بنصيب، وكابد من الفقر كل يوم عصيب. ثم إنه دخل اليمن، وتولى هناك تدريساً، ولم يكشف الله لي بعد ذلك من أمره تلبيساً. وأظنه توفي رحمه الله تعالى بعد الست والثلاثين وسبع مئة. كان هذا نور الدين أعجوبة لمن يفكر في أمره، كان شديد الحرص على أن يعرف كل شيء، وإذا سئل عن شيء، يريد أن يجيب عنه بالقوة، وإذا لم يوافق الصواب يتحيل على نصرة ما يقوله بكل الطرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وأعرف له يوماً وضعت قدامه قطع الشطرنج التي وصفها مشهرو، وهو أنها تصف صفاً مخصوصاً من القطع البيض والسود، وإذا تكامل ذلك يدعي أن مركباً كان فيه مسلمون ونصارى جالسين على هيئة مخصوصة، وكان الرائس مسلماً، فهاج البحر عليهم وهم في وسط اللجة، فاحتاجوا إلى أن يرموا بعضهم في البحر ليخف المركب فأرادوا يعملون القرعة، وكان الرائس ذكياً، فنظر إليهم وقال: ما نحتاج إلى قرعة، بل نعد من هنا، وكل من جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسع من النصارى رمى به إلى البحر إلى أن رمى بالنصارى جميعهم، ولم يرم بأحد من المسلمين. فلما صنعت ذلك قدامة، أعجبه ذلك وزهره ونحنح وبقي مفكراً في ذلك، واشتغل باله به عامة نهاره. ثم إني فارقته وعدت إليه، فوجدته يكرر عليها ويقول: أربعة مسلمون وخمسة نصارى، ومسلمان ونصراني وثلاثة مسلمون ونصراني ومسلم، وهو يدرس ذلك، ويكرر عليه، ويقع التخبيط عليه في سرد ذلك على الصحة، فرحمته وقلت: يما مولانا هذا أمر يتعبك ولا ينضبط لك، وقد تطلبه في وقت الحاجة، فيشذ الصواب فيه عنك. فقال لي: فكيف انضبط لك هذا؟ قلت له: هذا ضابطه في بيت واحد من الشعر. فطار عقله، وقال: هذا أعجب. ولم يصدق. قلت: نعم، بيت واحد، حروفه المهملة مسلمون، والمعجمة نصارى. فلما أنشدته ذلك، وصف القطع على حكمه وعده وصح معه، خرج من حبال عقله، فقلت: وأزيدك أخرى، إن أردت صففت لك ثمانية ثمانية وسبعة سبعة وستة ستة وخمسة وخمسة وأربعة أربعة ثلاثة ثلاثة. فقال: هذا بقاعدة أيضاً قلت: نعم. فقال: أريد تعلمني ذلك، فقلت: ما هو وقته. وقمت وتركته. وحفظ مني بيت التسعة، وهو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 ولما فتنت بلحظ له ... عذلت فما خفت من شامت وفرح به فرحاً عظيماً، ثم إنه طالبني في آخر وقت بمعرفة القاعدة في ذلك، فما قلت له. وفرق الدهر بيننا بعد ذلك. ونور الدين هذا في عذر مما ذهب، لأنني وجدت الفاضل الأديب الكامل صفي الدين الحلي قد جاء إلى شيء مثل هذا، فأراد ضبط صفه، وصنع له أبياتاً لتعلق بالذهن، فقال خمسة أبياتاً، أولها: جيش من الزنج والإفرنج يقدمه ... ما كان بينهما زوج من الخدم والضبط في هذا ببيت واحد أخصر وأحسن وأسرع في العمل. ث إنني بعد فراقي لنور الدين هذا بثلاثين سنة، أردت ضابطاً لعد ستة وإلقاء السابع، وأخذت نفسي به، تصورته، وعملت لذلك بيتاً، وهو: فديتك إن صدقي من فخار ... أبان بناء سر في دعائي ثم إنني فكرت في رص مهارك النرد، وهي ثلاثون مهركة، وأردت أن توضع كذا دائرة، وتعد: ستة ويلقى السابع، ففتح الله بذلك، ووضعت له هذا البيت، وهو: قد رد شاني بكل شين ... عدمت ذا في صلاح جبري ثم أردت أيضاً أعد قطع الشطرنج: أربعة ويحذف الخامس، ففتح الله به، ونظمت لذلك بيتاً، وهو: عبتم فلم أندفع ومن ذا ... يدفع بالسب عنه ضرا؟ ثم إني أردت ذلك في قطع النرد، ففتح الله به، ونظمت له بيتاً، وهو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 لا تبك إن هب ريح نجد ... إنك يا بئس ما بليتا وكان قد نزل إلى دمشق، وقرأ على الشيخ نجم الدين القحفازي نحواً وعروضعاً، ولما رآه الجماعة بهذه المخيلة عبثوا به، ونظم فيه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى. وسائل يسأل مستفهماً ... من أين ذا المولى علي ورد قلت له: من صفد، قال لي: ... ولا رأى أولى به من صفد وشاع البيتان في دمشق واشتهر، فحصل له خيال، وترك دمشق، وتوجه إلى صفد، وفتح له حانوت تجارة في البطاين، ثم إنه طلب في بكرة نهار فلم يوجد له خبر، وغاب سنين ولم يظهر له أثر، فعمل أهله عزاءه. ولما كان بعد مدة ظهر خبره من مصر، ثم إنه عاد إلى صفد، فرأيته قد زاد الحال به، وقد تعلق بلعب الشطرنج، فكان يستغرق نهاره وليله، ولا يأكل ولا يشرب إلا إذا لم يجد من يلعب معه، وزاد في ذلك، فقلت له: يا مولانا، هذا الشطرنج هو مثل الكتابة، متى وصل الإنسان فيهما إلى غاية لا يمكنه أن يتعداها، وأنا قد نصحتك فما بقيت تقدر تزداد على هذه الغاية التي وصلت إليها شيئاً. فقال: كيف أعمل؟ أريد أكون فيها عالية مثل غيري. قلت: هذا الذي فتح الله به عليك، فلم يرجع عن غيه، ثم إنه لازم ذلك زماناً وعاد إلى ما قلت له. ثم إنه نزل إلى دمشق ورأيته بها، ثم إنا طلبناه فلم نقع له على خبر. وبعد حين تقديره عشرة أعوام طلع خبره في اليمن، وأنه هناك شيخ حديث، وهذا آخر عهدي بخبره في سنة ست وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 علي بن إسماعيل بن جعفر القاضي علاء الدين بن الآمدي. كتب المنسوب الفائق، وحقق ما فيه من الطرائق، وأتقن أقلامه السبعة، مع ثبوت التأنق وعدم التأني والسرعة، تسابق البروق أقلامه، وتفوق سطوره الدر إذا زانه نظامه. كأنما همزاته الحمائم على ألفاته التي هي الأغصان، وكأنما عطفات الجيمات وجنات، ونقطها خيلان. كم كتب ختمة وكأنها للعيون روضة ورد، وكم حرر ربعة فلم تحتج إلى ذهب ولا لازورد، تسودت بعده أوراق التجويد، وتحطمت أقلام الكتاب بعدما كانت أماليد: وأكبت الكتاب تبكي بعده ... بمدامع بلت بها أوراقها باشر جهات الديوان والأوقاف والدرج، وكان معدوداً في كتاب الحساب، متفرداً بالضبط في الدخل والخرج. ولم يزل على حاله إلى أن قطع الآمدي مدى الحياة، وجعله الطاعون ملقى على قفاه. وتوفي رحمه الله تعالى بعد عصر الخميس ليلة عيد رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة في طاعون دمشق، وقد ناهز الخمس وسبعين. وكان إماماً في صناعة الحساب، ليس في كتاب المسلمين له نظير في عصره. كنت أقول له: كم جملة ما أقول لك، وهو خمس مئة عشرون ألف وخمس عشرة وثمانين وخمسة وعشرين وسبعة وثلاثون ومئة وسبعين. وأقول له من هذه التفاصيل جملة، وهو يلتقط ذلك على أصابعه، فإذا فرغت من الكلام، قال على الفور: كذا وكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وكان قد باشر في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مستوفياً فيما أظن، وأقام به مدة، ثم إنه في أيام حمزة التركماني صادره مع علاء الدين بن القلانسي وغيره، وأخذ منه مبلغ ستين ألف درهم، ثم استخدمه في ديوان خاص داريا ودومة، وخدم كاتباً عند الأمير سيف الدين قرمشي في أيام القاضي شهاب الدين بن فضل الله، دخل به ديوان الإنشاء في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وباشر في أيام طقزدمر في ديوان الأسرى. وكان يشتري الملك بالدين، ويجعل الأجرة في وفاء الدين، فحصل من ذلك أملاكاً كثيرة من بساتين وقاعات ورباع. وكتب ما يقارب المئة والاثنتي عشرة ختمة وربعة، وأشعار تاريخي الكبير والتذكرة التي لي جميعها، وانتخب من ذلك مجاميع عديدة. وكان قد أودعه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله عشرة آلاف دينار، ونسيها، فلما صادره، قال له: لك عندي وداعة. فقال: لا، إن كان صحيحاً، فهاته، فأحضر الذهب بجملته، وكان الناس يلومونه على ذلك، وهو معذور لأنه لو ذكرها فيما بعد راحت روحه معه. علي بن أسمح العلامة الزاهد أبو الحسن البعقوبي الشافعي النحوي المعروف بالشيخ علي مثلاً، بفتح الميم والثاء المثلثة وبعدها لام ألف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 أخذه التتار من بعقوبا فأقام ببلغار عند التتار، وحفظ المصابيح للبغوي والمفصل والمقامات وغير ذلك. وكان شديد الديانة عتيد الصيانة، يلف رأسه بمئزر صغير، ويغني بقناعته عن الأمير والوزير. وكان ممن يعبث بالشيخ تقي الدين بن تيمية ويؤذيه بلسانه، ويستعمل في الحط ما علمه من معانيه وبيانه. ولم يزل كذلك إلى أن توجه للحج في سنة عشر وسبع مئة، فأدركه باللجون حمامه وحان من الحياة انصرافه وانصرامه. وكان قد سكن الروم، وولي مشيخة الحديث هناك، وهو شاب، وركب المغلة، ثم إنه بعد ذلك تزهد، وفارق الروم، وحضر إلى دمشق سنة بضع وثمانين وست مئة. علي بن أغرلو الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أغرلو العادلي. كان والده مملوك الملك العادل كتبغا، وكان والده ملك الأمراء بدمشق في أيام أستاذه، وقد تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة. وكان هذا الأمير علاء الدين من جملة أمراء الطبلخاناة بدمشق. توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 علي بن ألدمر الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أمير جاندار، قد تقدم ذكر والده رحمه الله تعالى في مكانه. ورد هذا الأمير علاء الدين أمير علي إلى دمشق أميراً من مصر على طبلخاناة في تاسع ذي القعدة سنة ستين وسبع مئة، وجلس تحت الأمي ناصر الدين بن ألملك. وأقام على حاله بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة. علي بن أيبك الأمير علاء الدين بن الأمير عز الدين أيبك الطويل، وهو أخو الأمير صلاح الدين محمد بن أيبك الطويل، وسوف يأتي ذكره في مكانه من المحمدين. وكان الأمير علاء الدين أولاً بدمشق في جملة أمراء الطبلخانات، ثم إنه نقل إلى طرابلس على إمرة طبلخاناة، وأقام بها إلى أن عزل الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري أمير حاجب من طرابلس، ونقل إلى إمرة الحجبة بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة ستين أو في سنة إحدى وستين وسبع مئة. فأعطي الأمير علاء الدين بن أيبك الطويل مكانه. وكان بطرابلس أمير حاجب إلى أن نقل منها إلى دمشق أميراً، فحضر إلى دمشق، وبقي بها أميراً، وكان وصوله إلى دمشق في العشر الأول من شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة. إلى أن توفي رحمه الله تعالى في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 علي بن أيوب بن منصور الشيخ الإمام علاء الدين المقدسي الشافعي، معيد المدرسة الباذرائية بدمشق. كان أولاً يعرف بعليان ويكتب ذلك بخطه في أول أمره. سمع من الفخر بن البخاري ومن عبد الرحمن بن الزين. وحدث بدمشق والقاهرة. وكان قد عني بالحديث، وطلب وقرأ بنفسه، وحرر الألفاظ وضبطها. وكان يكتب خطاً فائقاً، ويبرز الصحف من يده تحكي روضاً بالأزاهر رائقاً صحيحة الألفاظ مضبوطة، سليمة من اللحن مشكولة منقوطة. ولما أبيعت كتبه في حياته، تغالى الناس في أثمانها، وبالغوا في قيمتها رغبة في صحتها وحسنها وإتقانها. وكان قد درس بالأسدية وبحلقة صاحب حمص. ثم إنه توجه إلى القدس وسكنه فاختلط، وتلفظ بالصواب تارة، وتارات بالغلط، وأخذ في ادعاء المستحيلات، والقدرة على فعل ما هو خارج عن الممكنات. وكابد مع ذلك فقفراً شديداً، وعيشاً من الهناء بعيداً. ولم يزل على حاله إلى أن نزل قبره، وما يملك خيطاً في إبرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة بالقدس. وكان بدء اختلاطه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكان يذكر الجن كثيراً في كلامه، ويقول: قد وعدوني بأن يسوقوا إلي نهراً من النيل، ونهراً من زيت نابلس إلى داري هذه، ويعد لذلك أماكن يكون فيها الماء وأماكن يكون فيها الزيت، وأشياء من هذه المستحيلات. وكابد فقراً مراً مع هذه الحالة. نسأل الله تعالى العافية من كل بلاء. علي بن شاه بن أبي بكر التوريزي، الوزير الكبير. خدم القان بوسيعد ملك التتار، وتمكن منه عظيماً، وجعل عقد وزارته نظيماً. وهو الذي قام على الرشيد الوزير، وأهلكه، وساق إليه حتفه حتى أدركه. وكان داهية ذا هبة، غير مفكر في أمر دنياه الذاهبة. وكان محباً لأهل تالسنة، قوي اليقين في ذاك والمنة. صافي السلطان الملك الناصر، وهاداه، وكان إلباً على من خالفه وعاداه. ولم تزل رسله ترد، وسيل هداه إلى دمشق ومصر يجري ويطرد، وكلمته مقبولة وإشارته على العين محمولة. وكان في أول أمره سمساراً. فما زال يرقى إلى أن صار النجم له جاراً. ولم يزل على حاله إلى أن حمل على شرجعه، وعز على ذويه أوان مرجعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 وتوفي رحمه الله تعالى بأرجان في أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وهو والد الأمير ناصر الدين خليفة، أحد أمراء دمشق، المقدم ذكره في مكانه. وكان قد أهدى إلى السلطان الملك الناصر ربعة مليحة في قطع نصف البغدادي في ورق جيد، وهي مكتوبة، جميع أجزائها الثلاثين، بليقة ذهب، بقلم محقق كبير، مزمكة، في غاية الحسن. رأيتها في الخانقاه بسرياقوس. وأهدى أخرى مثلها إلى الأمير سيف الدين تنكز، أظنه جعلها في جامعة. علي بن أبي بكر بن محمد ابن محمود بن سلمان بن فهد، القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين، وقد تقدم في حرف الباء، ابن القاضي شمس الدين، وسيأتي ذكره في حرف الميم، ابن العلامة شهاب الدين محمود، وسيأتي ذكره. كان قد شدا طرفاً من الأدب، وعني بالإنشاء وكتب. ونظم ونثر، وجرى إلى الغاية فما شارفها حتى عبر. وكان يتودد إلى الناس، ويخدمهم بما يقدر عليه من غير إلباس. ولم يزل على حاله إلى أن كبا جوداه في وسط الميدان، وخلا منه صدر الدست وقلب الديوان. وتوفي رحمه الله تعالى في نهار الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 ومولده فيما أظن سنة ثلاثين وسبع مئة. كان قد دخل إلى الديوان، وكتب الإنشاء. ولما توفي أخوه القاضي شهاب الدين أحمد وكان يوقع في الدست، دخل هو بدل أخيه، ووقع في الدست بدمشق المحروسة. وحج إلى بيت الله الحرام في سنة ثلاث وستين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى كثير الأسقام، ضعيف التركيب. وكان في وقت قد أهدى إلي صحن حلوى مشبك، وتحته قطائف، فكتبت إليه: يا سيدي إن الذي أهديته ... عطف الموائد من حلاه مائد وافى فأذكرني عهود مكارم ... والخير منك كما يقال عوائد صحن لأنواع الحلاوة جامع ... ذا راكع فيه وهذا ساجد نصبت بساحته شباك مشبك ... وقطا القطائف تحتهن رواكد وبأفقه أقراص ليمون بدت ... فكواكب قد رصعت وفراقد والسكر المذرور فيه مجرة ... أو لا فمن فوق النحور قلائد إن كنت قد فرغته أكلاً فقد ... ملأته مني في علاك محامد لا زلت تهدي للموالي مثله ... في كل صوم فيه عيد عائد علي بن أبي بكر علاء الدين بن البرقعيدي الكحال. ما رأيت مثله في العمل بالحديد، قطع عندي لإحدى بناتي شرانيق من عينها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 دفعة واحدة، من أسرع ما يكون. فتق الجفن الأعلى، واستخرج منه شيئاً شبيهاً بالشحم الأصفر، ولم يعمل ما يعتمده غيره من تعليق الصنانير في الأجفان، وحك الشرانيق بالسكر النبات، لأن ذلك أمر مطول مؤلم. وكانت عنده مشاركة في الطب وغيره، وكان كحالاً بالبيمارستان النوري بدمشق. وأنشدني من لفظه لنفسه، وادعاه أنه نظمه في مشد الدواوين بدمشق: مشدنا في الشام قد شقيت ... مما تقاسي من جوره الأمم يذبح الناس ما يرق لهم ... كأنما الناس عنده غنم وتوفي رحمه الله في حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة. علي بن بكتمر الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين الأبو بكري. أحد الأمراء أخيراً بمصر. كان هو وإخوته قد أخرجهم الملك الناصر محمد بعد موت أبيهم في حبس الإسكندرية إلى دمشق، فأقاموا بها. وقد تقدم ذكر أخيه الأمير شهاب الدين أحمد. وطلب السلطان الملك الناصر حسن الأمير علاء الدين هذا، وأخاه الأمير سيف الدين أسنبغا إلى مصر، وأقبل عليهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 ولم يزل الأمير علاء الدين بمصر أميراً إلى أن جرى للملك الناصر حسن ما جرى، وتصاف هو والأمير سيف الدين يلبغا، وتناوشوا القتال، فحصلت للأمير علاء الدين جراحة في وجهه، فمات منها بعد يويمات، على ما قيل، ووصل الخبر بموته إلى دمشق في أواخر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة. ولما كان بالشام توجه إلى الرحبة نائباً مرتين، وأنا شاك في الثالثة. وكان من أبناء الستين أو ما يزيد عليها. كان شكلاً تاماً ذا رواء، وهمة في الأمور واعتلاء. يكتب ويقرأ، ويد لو أنشأ نظماً ونثراً، لأنه بمصر كان يجتمع بالأفاضل، ويرامي الأقران بالجدال ويناضل. وله ميل كثير إلى الألغاز، ولم يكن كغيره يهواها، وهو في العمي ضائع العكاز. ولما كنت بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، طلب مني لغزاً، فكتبت إليه: أيا سيداً حاز العلا وهو يافع ... فراوي الندى عنه كثير ونافع ومن حاز فضل السيف في معرك الردى ... فبارقه في ظلمة النقع ساطع ومن إن سألنا: من أولو الفضلو والنهى ... أشارت إليه عند ذاك الأصابع ومن نفق الآداب بعد كسادها ... وجلى دجاها من محياه لامع ومن هو ذخر للعفاة وملجأ ... إذا صدهم حظ من الدهر صادع أحاجيك ما اسم، أعوز الناس قطرهم ... فلما دعا انجابت عيون هوامع كتابته في الطرس لا شك أربع ... وعدته خمس وفي العكس سابع وإن زال منه ثالث فقبيلة ... لها في قراع الدارعين وقائع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وعدة ما يبقى لعكس ثلاثة ... ولكنه سبع، ففيم التنازع وإن تم معكوساً وصحفت لفظه ... تجده منى من قد غدا وهو جائع فصحفه بعد القلب من غير نقصه ... فذلك في التصحيف والقلب شائع أبن لي معماي الذي قد سترته ... فغيرك فيه مثل أشعب طامع ودم وارق في أوج المفاخر والعلا ... مدى الدهر ما غنت بأيك سواجع فحله في عباس. ولم يكتب الجواب نظماً. وطلب الزيادة مني، فكتبت إليه أيضاً ملغزاً في أبيات، منها: تقدم لعز قبل ذا وحللته ... فمن يقتن العليا بفضلك يقتد فما اسم رباعي الحروف وإنما ... تركب من حرفين من رامها هدي رسول إلى قوم كريم كتابه ... به خاطب القرآن كل موحد ويقتل عند الشافعي ومالك ... وعند الفتى النعمان والحبر أحمد له في أعالي كل غصن تلاوة ... بلحن كأن الدوح معبد معبد تكاد قوافي ذا القريض تذيعه ... فقد زينت منه بحرف مردد ودم راقياً في أفق كل سعادة ... بنى لك منها الدهر أشرف مقعد فحله في هدهد وهو صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 علي بن بلبان الأمير امفتي المحدث النحوي، أبو الحسن علاء الدين الفارسي المصري الجندي الحنفي. سمع من الحافظ شرف الدين الدمياطي جزء ابن ديزيل، وسمع من محمد بن علي بن ساعد، وبدمشق من البهاء بن عساكر وغيره. وكان جيد الفهم، لا يرد له عن إصابة الصواب سهم، حسن المذاكرة، كثير الفوائد في المحاضرة. وله تقدم في الدولة المظفرية، ووجاهة في الدولة الناصرية. وله شعر مموه بالبديع، ويوهم أنه مفيد، وهو طعام من ضريع. إلا أنه مقبول غير مردود. وفيه دلالة على أنه برز من خاطر مكدود. وكان مليح الشكالة، وافر الجلالة. ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الأجل كتابه، وهيل عليه ترابه. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة في منزله بشاطئ النيل. ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. وكان قد تفقه بقاضي القضاة أبي العباس أحمد السروجي، وبفخر الدين عثمان بن التركماني وبمحيي الدين الدمشقي وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وقرأ المنطق والأصول على الشيخ علاء الدين القونوي، والنحو على العلامة شيخنا أبي حيان، وصحب الأمير سيف الدين أرغون النائب، وكان قد تقدم في أيام المظفر. وله تصانيف، منها: شرح كتاب الجامع تصنيف صدر الدين الخلاطي. ورتب صحيح ابن حبان على أبواب الفقه، وكذلك معجم الطبراني الكبير بإعانة الشيخ قطب الدين عبد الكريم. وانتشا ولده جمال الدين، فتفقه لأبي حنيفة، ثم تحول شافعياً، فتألم والده لذلك. وكان علاء الدين الفارسي يصلح للقضاء لسكونه وعلمه وتصونه. ومن شعره: سرت نسمة طابت بطيبة للذكر ... فأرجت الأرجاء من عرفها العطر وجاءت بها البشرى فسرت بما سرت ... وأحيت بما حيت إلى مطلع الفجر فيا حسنها بخدية زمزمية ... أضاء لها من ثغرها زاهر الدر تبسم منها كل قلب وقالب ... فتيق نسيق الشيح والرند والزهر تجلت فجلت بالشفا كل غلة ... وحلت فحلت بالصفا عقدة الهجر أباحت حباء من حبائل شعرها ... تصيد به صيد الصناديد عن قسر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وغادرت الأسرى وأسري بسرها ... تسر بما لاقت وذاقت من الأسر فأصبحت مشتاقاً إلى ساكن الحمى ... ولم أستطع من بعد شيئاً سوى الصبر وهي طويلة. وهذا القدر منها كاف، إذ هو شعر فاضل. أتى فيه بصناعة بديع يوهم أن ذلك شعر يسمع فيطرب، وليس كذا ما كل باسمة لبنى. علي بن بلبان الأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين البدري. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الباء الموحدة. وكان الأمير علاء الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق. وكان حسن السياسة، كثير الرياسة، وافر الأمانة، زائد الصيانة، عفيفاً عن أموال الرعية، سالك الطريق المرضية المرعية. قل من رأينا سلك مسلكه القويم، أو تولى أمر ناحية فسقى عدله أهلها كأساً، مزاجها من تسنيم. ما باشر جهة إلا وسد خللها، وأزاح عللها، وشفى غللها وفصم جللها، ونشر حللها. لا جرم أنه وجد له ذلك مدخراً، وجعل ذكره الطيب في الناس سمرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وراح إلى الله معفواً عن مغفوراً له خطأه، ودخل في قوم ضرب مثلهم بزرع أخرج شطأه. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ولاه الأمير علاء الدين ألطنبغا ولاية نابلس لما كان بدمشق، فأجمل فيها السيرة. ثم إنه تولى ولاية الولاة بالصفقة القبلية، فأجمل سياستها، وعف عن أموال الرعايا إلى الغاية، ثم ولي نيابة الرحبة فحمدت سيرته بها، ثم عزل منها وأقام في دمشق على إمرته، ثم أعيد إلى نيابة الرحبة، ثم إنه عزل منها، ثم تولى القبلية، فزداد في حسن المباشرة والعفة عن أموال الرعايا حتى إنه كان لا يعلق التبن على خيله، ولا يشرب الماء إلا بثمن من دراهمه، ثم إن استقال فأعفي من ذلك. ثم ورد مرسوم السلطان بإعادته إلى نيابة الرحبة، وكا قد حصل له مرض استرخاء، فعاقه عن ذلك، وطولع بأمره، فورد مرسوم السلطان بأن يعفى من ذلك، ويتوجه إليها الأمير ناصر الدين محمد بن الزيبق. وبقي الأمير علاء الدين بعد ذلك قريباً من شهرين أو ثلاثة، وتوفي رحمه الله تعالى في التاريخ المقدم. علي بن بهادر آص الأمير علاء الدين أمير علي بن الأمير سيف الدين بهادر آص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 كان أمير عشرة، ولم يكن في دمشق من يلعب الكرة أحسن منه، يقال إنه هو بهذا اللعب كان السبب في خلاص والده، لأن تنكز كان يعظمه، ولكنه ضيع ماله وتضعضع حاله. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبع مئة. علي بن بيبرس الأمير الفاضل الذكي النحرير، علاء الدين بن الأمير الكبير ركن الدين. تقدم ذكر والده في حرف الباء مكانه. كان هذا علاء الدين له ألمعية، وعنده لوذعية، يتوقد ذكاء وفطنة، ويتقلب ما بين حالتي منحة ومحنة. عاشر الناس وصحب الفضلاء، واجتمع بالأكابر الرؤساء والنبلاء. وطالع كتب الأدب، وعلق لنفسه واختار ودأب، وحفظ من المنظوم والمنثور جملة وافية، وعلق بدهنه من أخبار من تقدم قطعة كافية. نشأ بمصر وأقام بدمشق وحلب، وترسل إلى سيس، فلذلك كان إذا تحدث خلب. وجلب إلى النفوس من محاسنة ما جلب. ولما عمل الحجوبية ما كان يدع أحداً يسبقه إلى كلام، وإذا قال شيئاً كان برئياً من المؤاخذة والملام. فكأنما عناه أبو الطيب بقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا ولي الحجوبية بحلب ثم نقل منها إلى دمشق، وكان وهو حاجب عينها، وأصلح منها ما فسد، وسد مينها، ثم عاد إلى حلب على الوظيفة، وزاد علواً في مراتبها المنيفة. ولم يزل بها على حاله إلى أن أطبق الموت أجفانه، وأودعه تحت الأرض أكفانه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وخمسين وسبع مئة. وقد عدى الخمسين بقليل. وهو أكمل الإخوة وأسعدهم وأفضلهم، سعى بنفسه إلى أن أخذ الإمرة من مصر، وكان قد كتب على يده الأمير سيف الدين يلبغا كتباً ومطالعة إلى السلطان، فاتفق تغير الدولة، فأقام هناك، وأعطي إمرة بدمشق، فجاء وأرغون شاه بدمشق نائب، سيف الدين أرغون الكاملي إليها نائباً، فخدمه، فولاه بها شد الدواوين. ولم يزل إلى أن اتفقت للكاملي تلك الكائنة مع الحلبيين، وهرب من عندهم، وجاء إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر، وأعيد إليها نائباً، فأحسن إلى علاء الدين بن بيبرس، لأنه ما غفل عن خدمة بيته وأهله، ولا خانة، فرعى له ذلك. ولما قدم الكاملي إلى دمشق، وطلب الأمير سيف الدين تلك الحاجب إلى مصر، خلت الوقت الوظيفة، فطلبها للأمير علاء الدين، فجاء إلى دمشق حاجباً، ولم يكن عنده غيره، لأنه عارف خبير درب، عاشر الناس ورآهم في مصر والشام، فما كان يتكلم في الدست غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 ثم إنه توجه إلى لد، وجاء معه إلى دمشق، وتوجه معه إلى حلب، فكان معه، فلما رسم له بالإقامة هناك، أقام عنده حاجباً، ولما طلب الكاملي إلى مصر لم يمكنه إلا الإقامة في حلب، وحضر الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، فراج عليه ونفق عنده بعدما كان قد أعرض عنه. ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ. وكان يستحضر شعراً كثيراً للأقدمين والمتأخرين وأهل العصر، وعلى ذهنه تواريخ ووقائع من قديم الإسلام وحديثه. وكان حلو العبارة، فصيح اللسان، يستحضر الواقعة في وقتها، ويتمثل بالشعر النادر في كتبه. وكان غريباً في أبناء جنسه. كتبت إليه بعدما توجه من دمشق لما أقام بحلب ارتجالاً من رأس القلم في شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة: لقد أوحشت أهل الشام حتى ... سلبت ربعوها ثوب البهاء يقبل الأرض ويشكو حظه من الأيام، وما يجده لهذه الحادثة من الآلام، وما يجرعه من الغصص لفراق مولانا الذي آنس مقامه حلب، وأوحش فراقه الشام. وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد نعم يا مولانا، لقد شقيت دمشق ببعدك عنها، وسعدت حلب بقربك منها. وما يقول المملوك إلا كأن الله تعالى كان قد كمل محاسنها بحلولك، وأطلع الأمن فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 بنزولك، وكاثر أنهارها بما تجريه المكارم فيها من سيولك، وفاخر أهلة أفقها بما تؤثره في طرقها حوافر خيولك، وفاضل أزاهرها النافحة بآثار جرذيولك: فتجملت وتكملت ... فأصابها عين الكمال ورمى الإله صفاتها ال؟ ... حسنى بحادثة الليالي فعيوننا من ذا بوا ... ك في منازلها البوالي وكأنما عرصاتها ... سلك وأدمعنا لآلي ومولانا عز نصره، فيجد أمثالنا كثيراً، وأما نحن فوالله ما نجد مثله، ولا من إذا أصابنا ظمأ أفاض علينا بالجود وبله وبله. وقد حرم المملوك على نفسه المرور على باب دار مولانا الكريمة، لا أخلاها الله تعالى من المحيا الكريم، والوجه الذي يخجل البدر إذا أنار في الليل البهيم. يا مولانا، الله يمتعنا بحياتك، ما ينسى المملوك تلك الليلة التي مرت، ومماليك بين يديك، وكأن الأنس والسعد والفضل في قبة ضربت عليك، والمسرة والإقبال والهناء خدام وقفوا لديك. ودموع المملوك ما يملك رد عنانا، ولا يخبا عقود درها وجمانها، ولا ينقطع لها خيط مزن، ولا يعلم الباعث لها ما هو، أمن سرور أو حزن. نعم، للنفس شعور بما يقع فيما بعد، وإدراك بما سوف يتجدد من النحس أو السعد. ولما عاد المملوك تلك الليلية من عند مولانا أعز الله أنصاره ودخل مسكنه واستجن داره، نظم المملوك: تعجب خلي من عبرتي ... وقد هطلت كالحيا الساكب فقلت: دموعي تحاكي ندى ... علي بن بيبرس الحاجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 وبالله يقسم المملوك أن دمشق بعد مولانا ما تسكن، والعمل على الخروج منها متعين إن أمكن. فلقد كان لها بمولانا ملك الأمراء جمال وأي جمال، ورونق لا يملكه إلا البدور إذا كانت في ليالي الكمال، وعز دائم لو أن ركابه الكريم فيها يحل ويرحل، وظل ظليل لو أن مغناها ما أقفر منه ولا محل. ما العيش فيها طيب لبعاده ... عنها ولا روض الحمى بنضير وعلى الجملة، فدمشق لها مدة سنين في خمول، الله يجعل هذا آخره، ويرينا وجه مولانا على ما يسر من أوقات أنسه الفاخرة: وكنا كما نهوى فيا دهر قل لنا ... أفي الوسع يوماً أو نكون كما كنا وألطاف الله تعالى خفية بعباده، وقد يرجع الله الغريب إلى بلاده، بمنه وكرمه. أنهى ذلك إن شاء الله تعالى. علي بن تنكز الأمير علاء الدين أيمر علي بن الأمير الكبير المهيب سيف الدين نائب الشام. كان يحبه والده محبة عظيمة، وأظنه من زوجه بنت الأمير سيف الدين كوكاي. أمره السلطان الملك الناصر، ولبس التشريف والشربوش، ومشى الأمراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 والحجاب ووجوه الدولة من أرباب السيوف في خدمته من مدرسة نور الدين الشهيد إلى دار السعادة في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان لا يزال عليلاً كثير الأوجاع والأسقام، فتنكد عيش والده بذلك. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي رحمه الله في عشية الاثنين عند المغرب، العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن في أول الليل بتربة والده التي بجوار جامعة، ظاهر دمشق. ووجد عليه وجداً عظيماً والده، وجهز إليه السلطان أميراً كبيراً يعزيه، وجهز إليه تشريفاً عظيماً، فلبسه. وكان قد جاء منه كتاب إلى الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، يوصي فيه بأخته، زوج أمير أحمد بن بكتمر الساقي، وكان اسمه فيه بخط يده، لأنه كان صغيراً جداً أول ما كتب. فكتبت أنا الجواب عنه وأنا بالديار المصرية في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: " أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميري العلائي، وزاد العيون بآثاره كل بهجة، وسر بأبكار معانيه كل نفس وأقر بها كل مهجة، وشد ببأسه عضد والده حتى يطفئ به حر الوغى ورهجه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تطوى على سلام، هو أصدق القول وأطربه لجهة، وينشر عن ثناء جعل طريقه إلى الأسماع على الرياض ونهجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وتوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي هي حقيقة المحاسن ومجازها، وبرود الفضل التي أضحت، وخط اسمه الكريم طرازها، فوقف منها على الرياض رقمها الغمام بأبر قطره، ودبح ثراها بملونات زهره، لا بل نظل منها إلى الأفق يلمع في ليل مداده صباح طرسه، ووجد ألفاظه الدر، لا بل تعلوا على الدر، أن تكون من نوعه وجنسه، وسر من الجناب العالي بدره، أهذا أبوه وهو في الحقيقة بحر وسماً واسعاً، وتعجب له من ماجد فاق البدور هلالاً وعلا الشموس نجماً، ورأى خط يده يطير جناحه بنجاح النجابة، وعلم أنه لا بد وأن يغدو فارس الكتائب والكتابة. فيا عز هذه الدولة الناصرية ببأسه الماضي الشبا. ويا بشرى المعالي منه بأمارة نجيب قالت له الإمارة مرحباً، والله يجمل ببدره هالات المواكب، ويعلي قدره على أقدار السعود من الكواكب، فإن الظن في الصدقات السلطانية ما رقى له غير أولي درجة، ولا تخطى الأمل الصادق منعطفه ومنعرجه. وأما الإشارات الكريمة إلى كريمته، فهي أين كانت كريمة، وحيث سارت وصارت سعودها مقيمة، وما الجناب العالي وأهله إلا بمنزلة الولد بل أعز قدراً، وإذا جاء أحدهم بحسنة واحدة نال بها عشراً، فهي درة أحرزها مودعها وشمس أشرق بالسعد واليمن مغربها ومطلعها. فلتقر عينه من جهتها المصونة، ولتطب نفسه بما تناله من العناية والمعونة، إن شاء الله تعالى. علي بن جابر بن علي بن موسى نور الدين الهاشمس اليمني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 شيخ الحديث بالمنصورية بالقاهرة. سمع باليمن من الزكي البيلقاني، وبمصر من العز الحراني وخلق، بدمشق من الفخر، وجماعة. كان فاضلاً محدثاً أديباً، رئيساً في نفسه أريباً، أخلاقه سهلة، وحركاته تقتضي التراخي والمهلة، متواضعاً في نفسه، مقتصراً في حاله ولبسه، وكان للكتب جماعة، ونفسه إلى التزيد منها طماعة. وكان صوته جهورياً، وليس من الفصاحة عرياً، وقراءته مليحة، وكلماته صحيحة. ولم يزل على حاله إلى أن هشم الموت عظام الهاشمي، وأتاه منه ما لم يسلم منه النوع الآدمي. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادة الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده بمكة سنة سبع وأربعين وست مئة وقليل: سنة ثمان وأربعين، في يوم عاشوراء، كما ذكر. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وأصحابنا ينسبونه إلى شيء من التساهل فيما يقوله ويدعيه. وكان الشيخ أبو عمرو بن سيد الناس يذكر عنه أنه ذكر شيئاً وكتب بخطه، ثم ادعى غيره وأصلحه. وكانت فيه مكرمة، وكان يوصف بحسن الجوار والمخالطة، وتورع في أنه هاشمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وقال شيخنا الذهبي: وكان مع علمه ليس متحرياً في النقل. قال أبو محمد النويري. أخذ عنه الطلبة. وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: استعرت من نور الدين المذكور مجلداً، فوجدت فيه في مكان الأبيات الضادية التي للشافعي رضي الله عنه وفيها تخريجة إلى الحاشية تتصل ببيتين، الأول حفظته، وهو: قف ثم ناد بأنني لمحمد ... ووصية وابنيه لست بباغض ثم تأملت الخط، فإذا هو خط نور الدين، انتهى. قلت: وقد اشتهر هذا البيت، وأثبته الفضلاء والحفاظ والناس من شعر الشافعي، وهو: يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ولكن من له معرفة ودربة بقدر الشافعي رضي الله عنه يتحقق أن الشافعي ما يقول: باغض، اسم فاعل من أبغض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وذكر الثقات عن الربيع أنه قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى نجداً. ولا هبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد هذه الأبيات الثلاثة. فإذا زيد رابع أو خامس، أخرج ذلك أهل النقد. وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: شهدت بأن الله لا رب غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص وأن أبا بكر خليفة أحمد ... وكان أبو حفص على الحق يحرص وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن علياً فضله متخصص أئمة دين يقتدى بفعالهم ... لحى الله من إياهم يتنقص وروى أبو سعد بن السمعاني في ذيله، وبسنده إلى جعفر بن أحمد بن الحسن السراج أنه أنشد رداً على من زعم أن في الشافعي تشيعاً: لا در در معاشر لم يحفظوا ... غيب الأئمة عاجز أو ناهض زعموا بأن الشافعي محمداً ... جادت ثراه بمصر مزنة عارض مترفض إذ قال في بيت له ... فليشهد الثقلان أني رافضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 ما قاله إلا بشرط واضح ... لأولي النهى والدين ليس بغامض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وبه يقول المسلمون فهل ترى ... عين لآل محمد من باغض يا من رماه ببدعة في دينه ... لازال جسمك حلف حمى نافض رجع القول إلى ذكر نور الدين الهاشمي: الله أعلم بسريرته. ومن شعره في أصحاب الطيالس: قوم لهم سيرة سارت ببغيهم ... قد ارتدوا برداء الكبر والحمق خفت رؤوسهم إذ خف عقلهم ... لولا طيالسهم طارت من العنق ومنه في أصحاب العذبات: قوم إلى الثيران أقرب نسبة ... وحقيقة قد ألبسوا أثوابا سترت عمائمهم شعوب قرونهم ... أو ما ترى عذباتهم أذنابا ومنه: يفخر زيد بحسن عمته ... يخطر بالكم إذا رأى عذبه كمثل ثور يدور ملتهيا ... يمرح عجباً إذا رأى ذنبه ومنه: هو المجد لا زور الأماني الكواذب ... وليس العلا إلا ابتذال الرغائب وما فاح نشر الروض إلا لأنه ... بذول لما أولاه قطر السحائب وما طاب ذكر الحمد إلا لأنفس ... لها في اقتناء الحمد أسنى المكاسب حناينك من عصر خلت منه سادة ... غياث لمستجد وغوث لراغب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 ومنه: نال من صدها الفؤاد سوا ... رب خير أتى بغير اعتماد شيمة في الحسان بغض المحب؟ ... بين فلا ترجون صفو الوداد قلت: شعر جيد، ومقاصد حسنة، ولكنه هو ولد بمكة، وربي باليمن، وأهل تلك البلاد المعهود عنهم اللطف ورقة الحاشية، ولا سيما وقد أقام بالديار المصرية، فكيف يقول: نال من صدها الفؤاد سلوا ... رب خير أتى بغير اعتماد هذا فيه جفاء وغلظة طباع. وأين هذا من قول الأول: علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح قال علمتني، فنسب ذلك إليها، وقال: الصبر، وما قال: السلو. والنصف الثاني في غاية الحسن. وكان الشيخ نور الدين المذكور يدعي أنه يحفظ الوجيز علي بن الحسن بن أحمد الإمام الزاهد العابد، علم الأولياء، أبو الحسن الواسطي الشافعي. صحب الشيخ عز الدجين الفاروثي، وسمع من أمين الدين بن عساكر وغيره،. وقرأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 القرآن والفقه، وأكثر من مطالعة العلم، ولاذ بظل الصبر والحلم، ولازم الحج ستين عاماً، وجاور في بعض ذلك مقاماً. وكان منجمعاً عن الناس، منعزلاً عن الأدناسن لا يقبل من كل أحد، ولا له غير الصبر ملتحد. له كشف وحال، وفضل وقال. كثير التلاوة والقيام، والذكر والصيام، منقطع القرين، متواصل الآهة والأنين. توفي رحمه الله تعالى ببدر محرماً، وراح إلى الله مكرماً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. علي بن الحسن الإمام الخطيب ابن الجابي، بالجيم والألف والباء الموحدة، خطيب جامع جراح. كان طيب النغم، حسن الصوت إذا نغم، جيد الأداء، فصيح التلاوة يشوق إلى الاقتداء به والاهتداء. يورد خطباً طوالاً، يطيل فيها جواباً وسؤالاً. وله عمل كثير في الكيمياء، ويزعم أنها صحت معه. والظاهر أنه ظفر منها ببعض صبغ أطمعه. ولم يزل في نصبه وكده إلى أن حصل في لحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة. وخطب بعده الشيخ شرف الدين الفزاري إلى أن نقل إلى خطابة الجامع الأموي. وكان هذا الخطيب ابن الجابي قد جمع نحو أربع مئة دينار. وجاءت التتار، فكابر وقعد في بيته في الجامع، فدخلوا عليه، فكلمهم بالتركي، فأخذوا ثيابه وفرشه ونحو ثلاثين قطرميزاً من زبيب ومخلل وعسل. ثم جاءته فرقة أخرى، وقالوا له: أين المال، فتمسكن لهم، فرأوا هناك لازورداً، فأرادوا أن يوجروه به، فصاح وخرج لهم عن ثلاث مئة دينار، فأخذوا الذهب، وعذبوه، ثم إنه هرب وتسلق من الباب الصغير، فظفر به أناس آخرون، وطالبوه مصادرة، وقاسى أهوالاً ووبالاً وفقراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في تاريخه. ولما أبيعت كتبه، جاء الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى واشترى منه كتباً بألف درهم، جميعها في الكيمياء، ورمى بها في وقته في بركة، وغسلها، وقال: هذه كانت تضل الناس وتضيع أموالهم. علي بن الحسن بن علي بن أبي نصر علاء الدين بن عمرون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 نشأ علاء الدين هذا، وقد عدم ما كان لوالده من الدنيا الواسعة، فاشتغل بالحساب، وولي الزكاة ثم الوكالة وغيرها. وكان من عقلاء الناس. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وسبع مئة في خامس عشر شهر رجب. وروى سداسيات الرازي عن أحمد بن النحاس، سمعها عليه بالإسكندرية عن ابن موقا. وكان والده من أرباب الأموال الجزيلة. أقام بالإسكندرية وتوفي بها. علي بن حسن الأمير نور الدين بن الأمير بدر الدين حسن بن الأفضل. كان الأمير نور الدين هذا ابن أخي الملك المؤيد صاحب حماة. جاء إلى دمشق بعد الفخري أمير طبلخاناة، وأقام بدمشق، واشترى دار أيدغدي شقير التي عند مئذنة فيروز من الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب، وهي دار عظيمة وبها بحرة متسعة، لم يكن بداخل دمشق أكبر منها، وعمر بها الأمير نور الدين قبة مليحة إلى الغاية. وكانت له أملاك وسعادة بحماة وإقطاع جيد، وعنده جواري جنكيات ودفيات، فانقصف، وأورث أهله الأسى والأسف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وكان موته في عاشر صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وعمره تقدير أربع وعشرين سنة. وكان يعرج قليلاً إلا أن وجهه حسن. علي بن حسن الأمير علاء الدين بن المرواني. كان في دمشق من خيار الناس، وأعقلهم ممن يود أن يعد أو يدخل في كيس الأكياس. ظريفاً مندباً، مخرجاً مهذباً، يخدم الناس ويتقرب بإحسانه، ويحسن بيده وبلسانه، إلى أن تولى الصعيد بمصر، فاكتسب هناك الإثم، وأصر على الإصر وسفك الدماء نهاراً جهاراً، وأجرى منه بجرأته أنهاراً. ثم إنه نقل إلى ولاية القاهرة، فأظهر فيها من الجبروت ما تجف منه البحار الزاخرة، ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى الآخرة. وتوفي رحمه الله تعالى .... أول ما علمت من أمره أنه جاء إلى صفد شاد الديوان ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الساقي، جهزه الأمير سيف الدين تنكز في سنة ثماني عشرة أو تسع عشرة. ولم يزل بصفد إلى أن طلب إلى دمشق، وتولى ولاية البر بها في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة عوضاً عن سنجر الطرقجي، فأحبه تنكز والصاحب شمس الدين، وقرباه وأدنياه وبالغا في إكرامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ولم يزل معظماً يحبه أهل دمشق، ويحسن هو إليهم إلى أن طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى القاهرة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وولاه الصعيد، فدخل يوماً إلى ديوان الإنشاء بقلعة الجبل لإلفه بأهل دمشق، وقعد عندنا يسيراً يتحدث ويذكر دمشق، فجاء إليه إنسان من عند بعض الخاصية يقول: هذا يكون في خدمتك، يصلي بك ويؤذن ويقرأ. يشير إلى فقيه معه. فقال: سلم على الأمير، وقل له: أنا ما أروح إلى الصعيد مسلماً، فضلاً عن أني أصلي. فأخذنا منه ذلك على عادة بسطه وتنديبه. فما كان إلا أن راح إلى الصعيد، وحط يده والسيف. فوسط وسمر وشنق، وسفك الدماء، إلى أن نقل إلى ولاية القاهرة في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وكان الحال في هذه الولاية أشق. أول ولاية بالقاهرة قطع على ما قيل خمسين يداً غير الأرجل، وزاد في ذلك، ودخل مع القاضي شرف الدين النشو وأحبه وأخذا أرواح جماعة من الكتاب. وولى السلطان ابنه الأمير ناصر الدين محمداً مصر، وأضاف الحسبة في الخبز إلى الأمير علاء الدين في أيام الغلاء، لكنه ساس ذلك سياسة جيدة. وأظنه تولى القاهرة بعد سيف الدين بلبان الحسامي، بعدما نقل إلى نيابة دمياط. علي بن الحسن بن علي الشيخ نور الدين أبو الحسن الأرموي الشافعي، شيخ خانقاه القاضي كريم الدين. سمع من الفخر بن البخاري وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده بأقصر سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وست مئة. علي بن حسن بن أبي الفضل ابن جعفر بن محمد بن كثير الحلي. قدم دمشق وأقام بها سنوات، ثم إنه في يوم شق الصفوف في الجمع الأموي، والناس في صلاة جنازة، وجعل يقول: لعن الله من ظلم آل محمد. ومن هذا وشبهه، فنبه الشيخ عماد الدين بن كثير عليه، وقال: أمسكوه، فإن هذا يسب الصحابة، فأمسكوه وأحضروه إلى العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فاستفهم منه عما يقول، فظهر له أنه يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأمر باعتقاله. ثم إن الناس قاموا في أمره، ورفعوه إلى قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي، فضربه ثلاثة أيام بالسياط، ويأمره بالتوبة، وهو مصر، ثم إن الناس حملوه إلى دار العدل بين يدي النائب، فأمره بالتوبة هو والقضاة، وهو مصر، ثم إن نائب القاضي المالكي حكم بضرب عنقه، فتوجه الناس به إلى سوق الخيل، وتوجه بعض الناس يشاور عليه، فجاء بعض الجند، وضرب عنقه، وأخذ رأسه، ولعب الجند به الكرة في سوق الخيل، ثم إن العوام أحرقوا جسده بالنار، وطيف برأسه بعد ذلك في أسواق دمشق. وكان ذلك في يوم الخميس عشري جمادة الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 علي بن حسن بن صبح الأمير علاء الدين، أحد الأمراء بدمشق. صحب الأفرم وداخله، ولما قفز الأمراء وتركوا الأفرم وحده، ولم يبق عنده أحد من الأمراء إلا من هو من خواصه، ولا من هو بعيد عنه، أخذه علاء الدين بن صبح، وتوجه به إلى الشقيف. ولما دخل السلطان إلى دمشق كتب لهما أماناً، فحضر إليه، ثم إنه أمسكه فيما بعد، وأقام في سجن الإسكندرية إلى أن أفرج السلطان عنه، ووصل إلى دمشق يوم عيد الأضحى سنة أربع عشرة وسبع مئة. ولم يزل بدمشق مقيماً على إمرته إلى أن توجه إلى البقاع، ومرض به. وتوفي هناك في يوم الأربعاء سابع عشري شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة. عمره سبع وأربعون سنة. علي بن الحسن بن محمد بن الحسين القاضي الرئيس الشريف، شرف الدين الحسيني الأرموي ثم المصري، نقيب العلويين ووكيل بيت المال بالقاهرة، وقاضي العساكر. حدث عن ست الوزراء، ودرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وكان من كتاب الإنشاء. وهو ابن عم السيد الشريف شهاب الدين الحسين المقدم ذكره. وكان السيد علاء الدين ظريف الشكل والمنظر، دائم البشر بوجه يخجل القمر إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 تم وأبدر. وله إنشاء جيد، ونثر ما عرج عن الحسن ولا حاد عنه، فإنه بالبلاغة متأيد، وبينه وبين الشيخ جمال الدين بن نباتة مكاتبات راقت صدروها وسطورها، ولاق بالقولب منظومها ومنثورها. وكان قد حصلت له وجاهة في أيام الملك الصالح إسماعيل من جهة أم السلطان، وساد فيها، وعبث به ابن عمه الشريف شهاب الدين بما كتب على الحيطان. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في أكفانه مدرجاً، وانقطع أمل من أم له ورجا. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة. علي بن الحسين بن قاسم بن منصور بن علي الشيخ الإمام العالم الفاضل العلامة المتبحر المفتن الأصولي الفقيه النحوي، الكامل زين الدين أبو الحسن ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ زين الدين بن العوينة الموصلي الشافعي. كان حسن الشكالة، ظاهر الجلالة، نير المحيا، يشبهه البدر لو تم له ذلك أو تهيا، أحمر الوجنة، رؤية البدر معها هجنة، نقي الشيب، بريئاً من العيب، طاهر الذيل عاطر الحبيب، فكه المحاضرة مأمون الغيب، خالياً من الشبهة والريب، حالياً بمواهب الفوائد التي ما يذكر معها للغمائم سيب. فقيه إذا قلت فقيه، يبهر علمه وبحثه كل من يلتقف فضله أو يلتقيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 أصولي مد أطناب الإطناب في شرح المختصر، وقام بأعباء هذا العلم وجالد لما جادل وانتصر. مفسر غير مقصر، بليغ إذا تفوه ألهي بعذوبة نطقه عن العذيب ووادي محسر. نحوي حل ما في التسهيل من التعقيد، وأوضح غوامضه فأغمض ناظر الناظر فيه بعد ما كان يعالج التسهيد. ورياضي أخذ جمل محاسنه بلا حسب، وقرب بعيد هذا الفن وسهل الاكتساب. وناظم أدار قوافيه كؤوساً على الألباب وأنس المتيمين بأغزاله ذكرى المنازل والأحباب. نبه به جماعة من الأعيان، وتخرج به طائفة من أولي الفهم والأذهان. ولم يزل يفيد، ويبدي البدائع في البدائة ويعيد إلى أن أتى سيل المنية على ابن شيخ العونية، واستوفى أجله منه دينه. وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل، وصلي عليه في ماردين غائباً في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. وسألته عن مولده، فقال: بالموصل ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وثمانين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 اجتمعت به في دمشق بالمدرسة القليجية جوار دار الذهب في شهر شوال سنة خمسين وسبع مئة، وقد ورد للحج إلى دمشق صحبة بنت صاحب ماردين، فرأيت منه حبراً كامل الفوائد، وبحراً لا تبخل أمواجه بإلقاء الفرائد، وكتبت إليه بعد ذلك سؤالاً نظمته قديماً، وهو: ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معان ولكنني في الكهف أبصرت آية ... بها الفكر في طول الزمان عناني وما ذاك إلا استطعما أهلها فقد ... نرى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير إن ذاك لشان فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: سألت لماذا استطعما أهلها أتى ... عن استطعماهم إن ذاك لشان وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف ... على سبب الرجحان منذ زمان فهاك جواباً رافعاً لنقابه ... يصير به المعنى كرأي عيان إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير، وأما حين يختلفان فإن كان في التصريح إظهار حكمة ... لرفعة شان أو حقارة جان كمثل أمير المؤمنين يقول: ذا ... وما نحن فيه، صرحوا بأمان وهذا على الإيجاز والفظ جاء في ... جوابي منثوراً بحسن بيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 فلا تمتحن بالنظم من بعد عالما ... فليس لكل بالقريض يدان وقد قيل إن الشعر يزري بهم فلا ... تكاد ترى من سابق برهان ولا تنسني عند الدعاء فإنني ... سأبدي مزاياكم بكل مكان وأستغفر الله العظيم لما طغى ... به قلمي أو طال فيه لساني والجواب المبسوط بالنثر، فهو: بسم الله الرحمن الرحيم سأل بعض الفضلاء عن الحكمة في ف؟ " استطعما أهلها " دون فاستطعماهم مع أنه أخصر؟ والجواب: قلت: والله الموفق: إنه لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني، لم يتحتم الإضمار، بل قد يكون التصريح أولى، بل ربما يكاد يصل إلى حد الوجوب، كما سنبين إن شار الله تعالى، ويدل على الأولية قول أرباب علم البيان ما هذا ملخصه: لما كان للتصريح عمل ليس للكناية، كان لإعادة اللفظ من الحسن والبهجة والفخامة ما ليس لرجوع الضمير، انتهى كلامهم. فقد يعدل إلى التصريح إما للتعظيم وإما للتحقير وإما للتشنيع والنداء بقبح الفعل، وإما لغيرهم، فمن التعظيم قوله تعالى: " قل هو الله أحد، الله الصمد " دون " هو ". وقوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل " ولم يقل وبه. وقوله: " الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " فقد كرر لفظ الحج مرتين دون أن يقال: فمن فرضه فيهن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ولا جدال فيه "، إعلاماً بعظمة قدر الحج، وعبادته، من حيث إنها فريضة العمر، وفيها شبه عظيم بحال الموت والبعث، فناسب حال تعظيمه في القلوب التصريح باسمه ثلاث مرات. ومه قول الخليفة أمير المؤمنين: يرسم بكذا دون أنا، إما لتعظيم ذلك الأمر أو لتقوية داعية المأمور أو نحوهما. وقول الشاعر: نفس عصام سودت عصاما وقول أبي تمام: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلاً فإن إيقاع الطلب على المثل أوقع من إيقاعه على ضميره لو قال: طلبنا لك مثلاً فلم نجده. وقول بعض أهل العصر: إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال الناس جل المنور وأما ما يكاد يصل إلى حد الوجوب، فمثل قوله تعالى: " يا أيها النبي إنا أحللنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 لك أزواجك " إلى قوله: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها " عدل عن الإضمار إلى التصريح، وكرر اسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنبيهاً على أن تخصيصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الحكم أعني النكاح بالهبة عن سائر الناس، لمكان النبوة، وكرر اسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنبيهاً على عظمة شأنه وجلالة قدره، إشارة إلى علة التخصيص وهي النبوة. ومن التحقير: " فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم " " فأنزلنا على الذين ظلموا "، دون: " عليهم "، " وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم " أضمر هنا، ثم لما أراد المبالغة في ذمهم صرح في الآية الثانية والثالثة بكفره فقيل " لعنة الله على الكافرين " " وللكافرين عذاب مهين ". وأمثاله كثير، فإذا تقرر هذا الأصل، فنقول: لما كان أهل هذه القرية موصوفين بالشح الغالب واللؤم اللازب بدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كانوا أهل قرية لئاماً " وقد صدر منهم بحق هذين العبدين الكريمين على الله ما صدر من المنع بعد السؤال، كانوا حقيقين بالنداء عليه بسوء الصنع، فناسب ذلك التصريح باسمهم، لما في لفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الأهل من الدلالة على الكثرة مع حرمان هذين الفقيرين من خيرهم مع استطعمامهما إياهم، ولما دل عليه حالهم من كدر قلوبهم وعمى بصائرهم، حيث لم يتفرسوا فيهما ما تفرسه صاحب السفينة في قوله: أرى وجوه الأنبياء. هذا ما يتعلق بالمعنى، وأما ما يتعلق باللفظ، فلما في جمع الضميرين في كلمة واحدة من استثقال، فلهذا كان قليلاً في القرآن المجيد. وأما قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله " وقوله: " أنلزمكوها " فإنه ليس من هذا القبيل، لأنه عدول عن الانفصال إلى الاتصال الذي هو أخصر، وعند فك الضمير لا يؤدي إلى التصريح باسم ظهر، بل يقال " فسيكفيك إياهم الله "، و" أنلزمكم إياها "، فكان الاتصال أولى، لأنه أخصر، ومؤداهما واحد، بخلاف مسألتنا. ثم هنا سؤالات، فالأول: ما الفرق بين الاستطعام والضيافة؟ فإن قلت: إنهما بمعنى، قلت: فلم خصصهما بالاستطعام، والأهل بالضيافة؟ والثاني: فلم قيل " فأبوا أن "، دون فلم، مع أنه أخصر؟ والثالث: لم قيل " أتيا أهل قرية "، دون أتيا قرية، والعرف بخلافة؟ نقول: أتيت الكوفة دون أهل الكوفة، كما قال تعالى: " ادخلوا مصر ". والجواب عن الأول: أن الاستطعام وظيفة السائل، والضيافة وظيفة المسؤول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 لأن العرف يقضي بذلك، فيدعو المقيم إلى منزله القادم، يسأله ويحمله إلى منزله. وعن الثاني: أن في الإباء من قوة المنع ما ليس في فلم، لأنها تقلب المضارع إلى الماضي وتنفيه، فلا يدل على أنهم لم يضيفوهم في الاستقبال، بخلاف الإباء المقرون بأن، فإنه يدل على النفي مطلقاً، وآيته: " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " أي حالاً واستقبالاً. وعن الثالث: أنه مبني على أن مسمى القرية ماذا؟ أهو الجدران وأهلها معاً حال كونهم فيها؟ أم هي فقط، أم هم فقط؟ والظاهر عندي أنه لم يطلق عليها مع قطع النظر إلى وجود أهلها وعدمهم بدليل قوله تعالى: " أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية على عروشها " سماها قرية، ولا أهل ولا جدار قائماً، ولعدم تناول لفظ القرية إياهم في البيع إذا كانت القرية وأهلها ملكاً للبائع، وهم فيها حالة البيع، ولو كان الأهل داخلين في مسماها لدخلوا في البيع، ولثبوت المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما ذكر الأهل لأنهم المقصود من سابق الكلام، دون الجدران، لأنه بمعرض حكاية ما وقع منهم من اللؤم. فإن قلت: فما تصنع بقوله تعال: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها " " وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون " " وضرب الله مثلاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 قرية كانت آمنة " إلى آخره " واسأل القرية " فإن المراد في هذه الآيات وأمثالها الأهل والجدران؟ قلت: هو من باب المجاز بالقرينة، لأن الإهلاك إنما ينسب إليهم دونها، بدليل " أو هم قائلون " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وبطرت معيشتها، ولاستحالة السؤال من غير الأهل. على أنا نقول: لو تصور وقوع الهلاك على نفس القرية بالخسف والحريق والغريق وننحوه، لم تتعين الحقيقة، لما ذكرناه. وهذه عجالة الوقت، ونحن على جناح السفر. هذا صورة ما كتب به إلى الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى، وقد كنت كتبت هذا السؤال للشيخ الإمام العلامة نجم الدين علي بن داود القحفازي وأجاب عنه بجواب يأتي إن شاء الله في ترجمته. وأجاب عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يجيء في ترجمته إن شاء الله تعالى. وقرأ الشيخ زين الدين القرآن ببغداد على الشيخ عبد الله الواسطي الضرير لعاصم من طريق أبي بكر. وشرح الشاطبية على الشيخ شمس الدين بن الوراق الموصلي، وحفظ الحاوي الصغير، وشرحه على أقضى القضاة عز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الدين أبي السعادات عبد العزيز بن عدي البلدي، وشرحه أيضاً على السيد ركن الدين. وقرأ مختصرات ابن الحاجب، وشرحه على السيد ركن الدين أيضاً. وقرأ أصول الدين والمعقولات على السيد ركن الدين أيضاً، وقرأ ألفية ابن معط على الشيخ شمس الدين المعيد المعروف بابن عائشة. وقرأ اللمع أيضاً لابن جني ببغداد على مهذب الدين النحوي، وعلى شمس الدين الحجري بفتح الحاء والجيم التبريزي مدرس العربية في المستنصرية. وقرأ الحساب على القاضي عز الدين المذكور آنفاً، وقرأ عليه الطب أيضاً. أجاز له جماعة، منهم الشيخ تاج الدين بن بلدجي الحنفي، وسمع عليه بعض جامع الأصول لابن الأثير، وكان يرويه عن ابن الحامض عن المصنف، وسمع أكثر شرح السنة على الشيخ تاج الدين عبد الله بن المعافي، وأجاز له الشيخ شمس الدين بن الوراق الحنبلي. وقدم إلى دمشق سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وسمع على الشيخ جمال الدين المزر صحيح البخاري والترمذي ومسند الشافعي، وأجزاء كثيرة. وعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 الشيخ شمس الدين السلاوي صحيح مسلم، وعلى الشيخ زين الدين بن تيمية سنن النسائي، وعلى الشيخ شمس الدين الذهبي سنن ابن ماجة، وسمع على الشيخ شمس الدين بن النقيب قاضي حلب بعض سنن الدارقطني، وأجازه الباقي. وسمع على الشيخ علم الدين البرزالي كتاب علوم الحديث لابن الصلاح. وأجازه الشيخ شمس الدين محمد بن شكاره المؤدب الموصلي المقامات الحريرية. وروي مصنفات الشيخ موفق الدين الكواشي عن الشيخ شمس الدين بن عائشة عن السيد ركن الدين عن المصنف رحمه الله تعالى وله من المصنفات تفسير بنج الحمد، وهو خمس سور من القرآن الكريم، أول كل سورة: " الحمد ". وشرح مختصر ابن الحاجب في مجلد، وشرح البديع لابن الساعاتي الحنفي، وشرح مختصر المعالمين للسد ركن الدين، وكتاب تنفيح الأفهام في جملة الكلام اختصار مقاصد السول في علم الأصول للسد ركن الدين، ونظم الحاوي الصغير في دون الخمسة آلاف بيت، ونظم شرح المنظومة الأسعردية في الحساب وشرح التسهيل لابن مالك، ولم يكمل، وشرح قصدية في الفرائض للشيخ عبد الله الجزري. وله كتاب عرف العبير في عرف التعبير. هذه الترجمة أملاها علي من لفظه، وسألته عن معنى هذه التسمية، أعني شيخ العوينة، فقال: الشيخ زين الدين الأعلى كان من أهل الثروة والسعادة بالموصل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 فآثر الانقطاع والعزلة، فآوى إلى الجباية بباب الميدان ظاهر الموصل، ولا ماء لها هناك إلا من الآبار المحفورة، طول البير خمسون ذراعاً وستون ذراعاً وأكثر وأقل فكان الشيخ زين الدين يتوجه في كل يوم إلى الشط، ويملأ إبريقين، ويحملهما، ويجيء بهما لأجل شربه ووضوئه. فمكث على ذلك مدة، وهو يقاسي مشقة لبعد المسافة، فلما كان في ليلة، رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول له: احفر لي عندك حفيرة، يظهر لك الماء، فلما انتبه استبعد ذلك، لأن الآبار هناك بعيدة الغور، ولبث مدة، فرأى تلك الرؤيا، فاستبعد ذلك، وقال: لو حفرت بعكاز طلع لك الماء. فقص ذلك على بعض أصحابه، وحفر في ذلك المكان تقدير ثلاثة أذرع أو أكثر، فأجرى الله تعالى هناك عيناً، وهي مشهورة هناك، فمن ثم قيل له شيخ العوينة، وكان من الصلحاء الكبار. انتهى. ولما بلغتني وفاة الشيخ زين الدين المذكور، قلت أنا في رثائه: الشيخ لما توفي ... وقدر الله حينه سالت دموعي عيوناً ... على ابن شيخ العوينة وأنشدني الشيخ زين الدين رحمه الله من لفظه لنفسه. ما كتب به إلى الشيخ شمس الدين الحيالي: سلام مثل أنفاس العبير ... على من حبه زاد المسير ونهج سبيله حرز الأماني ... ومصباح الهداية للبصير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 عوارفه لأهل الكشف قوت ... وإحياء لعلمهم الغزير إشارته النجاة لمن وعاها ... ومنطقه شفاء للصدور تحية من ذريعته إليه ... خلاصة نية وصفا ضمير وفي جمل الفصول له مثير ... الى المقصور في تلك القصور ولو واتاه تيسير وفوز ... بتكميل المقاصد والسرور وقابل سره وجه التهاني ... ولاح طوالع السعد المنير سعى ورمى جمار البعد عنه ... وطاف بكعبة الحرم الخطير ولم يقنع بتحفة بنت فكر ... ولا اعتاض السطور عن الحضور وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحرم الشريف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة: دعاها تواصل سيرها بسراها ... ولا تردعاها فالغرام دعاها ولا تخشيا منها كلالاً من السرى ... وحقكما إن الكلال عداها فإن مل حاديها وحار دليلها ... هدها إلى تلك القباب سناها عسى ينقضي في مسجد الخيف خوفها ... وتلقى مناها في نزول مناها وتجرع من ماء الأجيرع شربة ... وتنقع من حر الذميل صداها متى ما تخللت النخيل بيثرب ... بها عدمت تثريبها وغناها ولم يبق من أكوارها في ظهروها ... ظهور إذا ما بطن مر حواها إليك رسول الله سعى عصابة ... تعد خطاها فيك محو خطاها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 أتت وقراها موقر بذنوبها ... فأحسن كعادات الكرام قراها وليس لها عند الإله وسلية ... سواك إذا ما النار شب لظاها وأنشدني من لفظه ما كتبه لصاحب ماردين، يودعه، وقد توجه للحج سنة خمسين وسبع مئة: ودعتكم وتركت قلبي عندكم ... ورحلت بالمخلوق من صلصال فالقلب في الفردوس يشهد حسنكم ... والجسم في نار التفرق صال ومن شعره أيضاً يمدح صاحب ماردين: إلهي إن الصالح المصلح الذي ... بدا غزه في آل أرتق يزهر وألبسته من نور وجهك حلة ... تكاد لأبصار الخلائق تبهر إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال جل المنور وقالوا كما قالت صواحب يوسف: ... أذا ملك أم آدمي مصور يؤمل أن يدعوك ظناً بأنني ... لديك وجيه مستجاب موقر إلهي فلا تخلف بي الظن عنده ... وإن لم أكن أهلاً فحلمك يستر وهذي يدي مرفوعة بتضرع ... فيسر عليه كل ما يتعسر وآمنه من خوف فقد أمن الورى ... بهيبته مما يخاف ويحذر وأحسن له العقبى وبلغه بيتك ال؟ ... حرام على وجه يحب ويؤثر وحط ملكه حتى يؤوب مسلماً ... وقد حطت الأوزار وهو مطهر فما في اعتقادي في السلاطين مثله ... وأنت بما يخفى ويعلن أخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 فإن لم يكن فاجعله حيث ظننته ... فأنت على قلب الحقائق أقدر علي بن الحسين بن علي بن بشارة الفاضل علاء الدين أبو الحسن الشبلي، بالشين المعجمة والباء الموحدة واللام، الدمشقي الحنفي. سمع كثيراً من اليونيني، وسمع بنفسه، وكتب، وأعاد، وتأهل للإفتاء. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة تسعين وست مئة في غالب الظن. وولي إعادة المدرسة الشبلية. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمع معنا كثيراً، ورافقته في الحج رحمه الله تعالى. علي بن الحسين بن محمد بن عدنان السيد الشريف علاء الدين بن الشريف زين الدين بن الشريف محيي الدين بن أبي الجن الحسيني. كان أولاً خليعاًن ظريفاً خريعاً، فيه دماثة أخلاق، وسعة صدر في حالتي يسر وإملاق. قل أن يرى إلا وهو يضحك، ولسلامة صدره يعتقد ودك ونصحك. وكان الناس يتطفلون على عشرته، ويعتقدون وده لعدم شرته، ولم يكن في باطنه حقد، وخيره دون شره نقد. إلا أنه لسلامة باطنة يتظاهر بمذهب الاعتزال، وإذا أنكرنا عليه حاله في الوقت زال. ومع ذلك فكان عامياً خالياً من العلم، قد ملئ باطنه وظاهره من الحلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 ولم يزل على حاله إلى أن طفئت شعلته، وراح إلى الله تعالى ومعه نحلته. وتوفي رحمه الله تعالى في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وكان قد ابتلي بحمى الربع وطالت به مدة سنتين، ثم إنه راح إلى الربوة، وأكل سمكاً ولبناً، وربما أنه نزل في النهر، فمات رحمه الله تعالى. وكان أولاً بيده شهادة المواريث الحشرية، وله فيها أخبار. وكنت قد كتبت له توقيعاً بنقابة الأشراف بدمشق في شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وهو: الحمد لله الذي زان أشراف هذه الأمة بعليها، وجعله من الذرية المنسوبة إلى نبيها، ورفع شأنها إلى رتب تحف الملائكة بناديها والملوك بنديها، وقمع من شأنها برفع لوائها في آفاق الفخار إلى غاية لا يترجل علوي عن علويها، نحمده على نعمه التي لا تزال تجود وليها بجود وليها، ومننه التي طاب عرف رياها، وطار عرف ريها، وأياديه التي بلغت النفوس آمالها بماليها خيراً ومليها، وعوارفها التي نأت عن لحاق الشكر فيما نجد عبارة، وفيها حق وفيها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يلمع الإيمان من محيا ألمعيها، وتميس أعطاف قائلها تحت اللواء المعقود في حلالها وحليها، وترد نفس معتقديها الحوض المورود، فتبل غلتها بشهي كوثريها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الذي ابتعثه من سادة لم يلو المجد عن لؤيها، ولا أقصى الله المحامد عن قصيها، ورسوله الذي انتخبه من أنجاب كم أنجاب الظلام بسنا السنان من سمهريها وخفية الذي انتفاه من أمجاد لم تستقم طرق النجابة حتى شقها سنبك أعوجيها. صلى الله عليه وآله وصحابته الذين هم خير جماعة، ركبت إلى الشرف مطامطيها، وأعز فئة لم تخط غرض الصواب سهام قسيها، وأفضل زمرة تفرق الأبطال إذا انحسر فوق كميها، وأشرف سادة عاد غنيها على فقيرها، وعاذ فقيرها بغنيها. صلاة ترفل الأقلام من الطروس في سندسيها، وتبسم شفاه الطروس اللعس عن جوهري كلمها ولؤلؤيها، وشرف ومجد وكرم. وبعد، فإن أولى النسب بأن ترعى له الأقلام حدوداً، وترفعه إلى غاية تعقد له على السماك ألوية تخفق عذباتها وبنوداً، وتودع في غاب متى دخله دعي داخله الخوف مما ملئ أساود وأسودا، وينتهي إلى محل إذا سرحت العيون في أفيائه لم تلق إلا نعمة وحسوداً. نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ونم فلق الصباح عمودا فهو بيت النبوة الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره، وأعلاه على كل ذي شرف باذخ، وأظهره، وفرعه من شجرة أصلها ثابت من أبي القاسم، كما حرره النقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 والنقد، وحبره، وفرعها في السماء، تتشعب غصونه من التبول وحيدره، ولم تزل نقابة الطالبيين تساهمهم الخلافة العباسية في المناصب، وتزاحمهم في كواكب المواكب بالمناكب، وتشركهم في كل عقد وحل، وتجاذبهم سقيا رياضهم بكل وابل وطل، وقد قال الشريف الرضي للطائع، وما استحيا، مهلاً أمير المؤمنين فإننا لم نتفرق في درجة العليا. ولما خلت الآن هذه الوظيفة السنية، والرتبة العلية العلوية، من النقيب عماد الدين موسى بن جعفر، قدس الله روحه تطاول كل عرابة لتلقي راية مجدها بيمينه، ونظر بعين صلفه، وخطر بعطف شرفه، وشمم عرنينه، واحتاجت العصبة الطاهرة، والأنجم التي كل منها نير فكلها بحمد الله تعالى زاهرة إلى من يسد مسده، ويبلغ أشده الذي لا يبلغ الوصف حده أجمعوا رأيهم على من عقدوا عليه الخناصر، وحكموا بأن الأحق لما حواه من كرم الأصول، وطيب العناصر، واتفقت كلمتهم عليه بمجلس الحكم العزيز الشافعي زاده الله علواً، وأفاد أحكامه رفعة وسمعوا، وقال لسان حاله لما ولي: لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي ولما كان الجناب العلالي الأميري العلائي أدام الله عزي شرفه، ونفع ببركة سلفه هو الذي أسر القلم ضميره، وحكم الفكر فيه بصفاء السريرة، وأشارت الصفات إليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وكادت سماته الصادقة تدل الرائد عليه. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، ولا زال الشرف بأوامره المطاعة يزيد علاء، ويفوق على مدى الأيام سناً وسناء أن يغوص إليه نقابة الطالبيين بدمشق المحروسة على عادة من تقدمه بحكم رضى السادة الأشراف به، لما حازه من مفاخرة التي تبتلج بها الوجه الوضاء، ومآثره التي يترنم بها الركبان على ذات الأضاء، ومناقبة التي انساقت إليه من الحسين إلى زين العابدين إلى محمد الباقر إلى جعفر الصادق إلى موسى الكاظم إلى علي الرضى، إلى محمد الجواد، وهلم جرا، حتى انتهى صباح ذلك إليه فأسفر بمساعيه وأضا، ولأنه من بيت أحياه محييه، وزاده زيناً، وجعل رئاسته، أعزه الله تعالى، في ذمة الزمان إلى هذا الوقت ديناً، وسماه علياً تفاؤلاً بعلوه، ولذلك جعل أول اسمه عيناً، فليفخر بهذا النسب الذي أضحى على هامة الجوزاء مرخى الذوائب والبيت الذي علت شرفات شرفه، فكأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب، والمكارم التي شرح الجود بها التباس المذاهب، وليجمع السادة الأشراف عليه بأحسانه، ويودع كبيرهم وصغيرهم من الحنو والرأفة سرادق أجفانه، وينشر عليهم ملاءة عارفته وعرفانه، ويعاملهم بالبر والتقوى حتى يروا طرف الزمان الذي عمه عمه، كيف من الله علي بإنسانه. وليحفظ عليهم أنسابهم المتصلة، ويضبط ما تفرع من أغصانه المتهدلة، حتى لا تشذ شذرة من مكانها، ولا تتركب حبة مع غير جمانها، ولينزهم عن مناكحة غيرهم من الأجانب، ومخالطة من لا يعادلهم في الدرج والمراتب، فقبيح بالجواهر أن ينخرط الجزع في أسلاكها، وغير لائق بالدراري أن لا تدور في غير أفلاكها، وليصنهم عن التبذل في اكتساب المعاش، والتظاهر بغير ما ألفوه من زينة اللباس والرياش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وليمنعهم من التحاكم إلا إليه، والوقوف في التنازع إلا بين يديه، ولا يدعهم يتبذلون فإنهم سادة من فاه أو تكلم، وأشرف من تكرم أو تحلم، وبقية قوم إذا غضبوا غضبة مضرية قطر السيف دماء وتثلم، وإذا أعاروا ذرى المنابر سيداً صلى عليهم وسلم، وليأمرهم بالاتضاع لمن دونهم في المحافل والمجامع، والانقياد في الخير، فإن الناس يدخلون معهم في النسب الواسع، وليستوق المباشرين في تحصيل ما لهم وصرفه، وإنفاقه في طبقاته حين جناه وقطفه، وليحذرهم كل الحذر من الخوض فيما شجر بين الصحابة، ومن القول إنه كان الخطأ مع هذا، ومع ذلك الإصابة، فإنه لم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، والقاتل والمقتول بين علي ومعاوية من أهل الجنة، وكل منهم اجتهد فيما ترك وأخذ، وأنعم النظر فيما تناول ونبذ، والمجتهد يخطئ تارة ويصيب، وله من الأجر على كل حال نصيب، ولكن كان الحق مع علي يدور كيف دار، ويسير مع مقاصد كيفما سار. وأما المقالات المبتدعة، والضلالات التي خاب من شام برقها وانتجعة، فليزجرهم عن الخوض في باطلها الذي لا يعلم، ويكن عليهم في مثل ذلك قاسياً، ومن كان حازماً فليقس أحياناً على من يرحم، فقد دون أهل الباطل مقالات ابتدعوها، وزخارف لا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم من تلك العقائد التي زرعوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 أما أمر الخلافة فإنه ثابت الأساس، واضح القياس، مأمون الالتباس، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما نهى وأمر: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وقد ماتا قبل علي، فلو تولى الخلافة قبلهما لما صح إخبار هذا الخبر، ولا كان له من المعجزات أثر، وقد بايع علي أبا بكر فيما بعد مجتهداً، ولو كانت خلافته غير صحيحة لما سوغ نكاح الحنفية حتى أولدها محمداً، والحجج في هذا الباب كثيرة، والأدلة فيها قاطعة عند أولي البصيرة، وأنت أيها السيد أعلى الله قدرك أدرى بهذه الأمور، لأنك جهينة أخبارها، وحقيبة أسرارها التي توجد عند أخيارها دون أشرارها، فبصرهم المحجة، ولقنهم الحجة، وأقل الأقسام الإمساك عما لا عاصروه، ولا عالجوا جرحه المؤلم، ولا شاهدوا فتنة التي كانت كقطع الليل المظلم. وأما العقائد فحذرهم من الخوض في أخطار لجتها، والركوب على ظهر محجتها، كالقول بأنه الكسف الساقط، أو أنه يأتي " في ظلل من الغمام " والرعد الضاغط، ولهذا يسلمون على ما يزمجر من السحاب، ويخالون أن الأبرق سوطه المتألق بالتهاب، أو أنه اشتبه بغيره اشتباه الغراب، واعترفوا بهذا الباطل ودانوا، وغلطوا جبريل في الوحي، فمالوا عن الهدى ومالوا أو أنه الضوء من الضوء، يعنون أنه لا فرق إلا أن أحدهما أسبق، فافترى القائل بهذا وحاد عن الحق ولم يلحق، أو أن العصمة للأئمة والمعصية جائزة على الأنبياء، فإن القائل بهذا من أكبر الضلال والأشقياء، أو أن الإمام الظاهر حجته مسورة. والمستور حجته ظاهرة، فإن ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 جهل وضعف في الأذهان الفاترة، أو أن الدين معرفة الإمام، فإن هذا وأمثاله تحكم منهم وإسلام، إلى غير ذلك من المقالات التي خبطوا خبط العشواء فيها، واستعملوا في القول بها من كان غمراً أو سفيهاً، فما الدين القيم إلا ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه، وأشار الخلفاء الراشدون إليه، ولزم السلف الصالح منهاجه، وقوى الكتاب والسنة والإجماع احتجاجه، فاجهد على أن يركبوا الصراط المستقيم من ذلك، واحرص على أن يسلكوا إلى الحق أوضح المسالك، وتقوى الله تعالى ملاك الوصايا، وأنت إن شاء الله تعالى لا تزال خير خدنها، وساكن عدنها، وساحب ردنها، وصاحب مدنها، فاجعلها نصب عينك، وهذا فراق بين الوصايا وبينك، والله تعالى يعين ولايتك، ويوضح لأهل الحق بالسنة عنايتك، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى. علي بن داود ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكري بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل الفقيه الأصولي النحوي الأديب نجم الدين أبو الحسن ابن القاضي عماد الدين القرشي الأسدي الزبيري القحفازي، بالقاف والحاء المهملة، وفاء بعدها ألف وراء. قرأ القرآن الكريم على الشيخ علاء الدين بن المطرز، وكان قد أخذ القراءات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 السبع عن عماد الدين بن أبي زهران الموصلي، قرأ عليه رواية أبي عمرو من طريقي الدوري والسوسي إفراداً وجمعاً. وأخذ الفقه عن قاضي القضاة صدر الدين علي مع الفرائض قبل أن يباشر الحكم، وأصول الفقه على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لعنايته بمختصر ابن الحاجب، وعن الشيخ جلال الدين الخبازي الحنفي. وقرأ في أصول الدين عقيدة الطحاوي حفظاً، واعتنى بحلها وبمطالعة كتب الأصول لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وغيرهم، وعلم العربية من الشيخ شرف الدين الفزاري، ثم عن الشيخ مجد الدين التونسي. وعلم البلاغة عن الشيخ بدر الدين بن النحوية الحموي حين جاء إلى دمشق سنة تسع وتسعين وست مئة مع الجفال، ونزل بالبادرائية، قرأ عليه كتابه ضوء المصباح، وشرحه إسفار الصباح. والمنطق والجدل عن الشيخ سراج الدين الرومي مدرس الفرخشاهية والسفينية بالجامع الأموي. وعلم المواقيت عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في مقدمته التي صنفها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 ثم عن الشيخ بدر الدين بن دانيال بمدينة الكرك حين جفل الأعيان إليها سنة سبع مئة في مقدمته التي صنفها في علم الإسطرلاب وهي مطولة مفيدة. وعلم العروض فمن الكتب الموضوعة في ذلك. وحل المترجم، وجد في الكتب الموضوعة وقد تكلم فيه كلاماً غير شاف، فأخذه بالقوة حتى كتب له فيه: إن زرزوراً ووزه ... زودا داود زادا فحله. وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن الدرجي فيما حول سنة ثمانين وست مئة. سمع عليه أجزاء كثيرة، وسمع موطأ مالك من قاضي القضاة جمال الدين المالكي، ومن الشيخ نجم الدين الشقراوي الحنبلي، وسمع مختصر الرعاية للمحاسبي على قاضي القضاة شرف الدين البارزي لما قدم إلى دمشق حاجاً، ومن غيرهم. وكان الشيخ نجم الدين مجموعاً للفضائل، ممنوعاً من الرذائل، مطبوعاً على التنديب والتندير الذي يدل على لطف الشمائل، كثير الحكايات المختصرة في دروسه، والنوادر المضحكات في غصون فوائده وغروسه، لا يخل بذلك، ولا يوجد في وقت إلا وهو عليه متهالك، يضحك الثكالى، وينشط الكسالى، مع الأصول التي أحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 قواعدها، وكثر بروقها ورواعدها، والفقه الذي تهدلت فروعه، وتملأت منه أفاويقه وضروعه، والنحو الذي برز على أقرانه في إقرائه، وظهر مذهبه الصحيح من إفرائه، قرأ عليه فيه من الأعيان جماعة، واشتهر ذلك عنه في عصره، فما ينكر أحد سماعه، لو عاصره صاحب المفصل كان عليه مفصلاً، أو صاحب التكملة كان ناقصاً، وهذا مكملاً. وكتب المنسوب القوي، وحرر أصله السوي، وكان خطه آنق من حواشي الأصداغ، وأظرف من الحلل التي رقمت في أوان الصحة والفراغ. وله النظم الذي هو وسط، لا هو الذي ارتفع، ولا هو الذي سقط. كان من محاسن دمشق التي يفخر بها لزمان، وغرائبها التي قلدت جيد الدهر قلائد الجمان، وقل أن اتفق مجموعه في عصر لغيره من أهل مذهبه، أو قارب مداه من يجاري إلى غاية مطلبه. وخطب بالجامع التنكزي قبل بالدموع الأردان، وعلا المنبر فما ذكر معه سجع الحمائم على البان. ولم يزل على حاله إلى أن أصاب الموت قحف القحفازي، واختطف روحه من المنية بازي. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ونقلت مولده من خطه ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، وقد تقدم ذكره، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوماً لغزاً للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون عليه: يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج فقال واحد منهم: هذه الساقية، فقال له الشيخ: دورت فيها زماناً حتى ظهرت لك، يريد أنه ثور يدور في الساقية. وجئت أنا إليه في سنة سبع عشرة وسبع مئة، وسألته في أن أقرأ عليه المقامات الحريرية، فقال: أنا والله قليل الأدب. وسمعته يوماً يقول لمنصور الكتبي رحمه الله: يا منصور! هذا أوان الحجاج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة، فقال له: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك حرفاً قدره عشر مرات. وقيل لي: إنه لما عمر الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى الجامع الذي له بظاهر دمشق كان قد عينوا له شخصاً من الحنفية يلقب الكشك ليكون خطيباً، فلما كان يوماً وهو يمشي في الجامع المذكور، أجري له ذكر الشيخ نجم الدين ومجموع فضله وأنه في الحنفية مثل الشيخ كمال الدين الزملكاني في الشافعية، فأحضره، واجتمع به، وتحدثا، ثم قال له وهم في الجامع يمشون: أيش تقول في هذا الجامع؟ فقال: مليح، وصحن مليح، لكن ما يليق أن يكون فيه كشك، فأعجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ذلك الأمير سيف الدين تنكز، وأمر له بخطابة الجامع، وسمعت خطبته في أول يوم خطب به، وذلك في يوم الجمعة عاشر شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ثم إنه رسم له بعد مدة بتدريس الركنية، فوليها سابع عشري المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. فباشرها مدة، ثم نزل عنها، وقال: لها شرط لا أقوم به، ومعلومها في الشهر جملة كثيرة، تركه تورعاً. وكان إذا قال هذه التناديب يقولها سريعة رشقة من غير فكر ولا روية، ويقولها وهو يضحك وينبسط. وكان يعرف الإسطرلاب، ويحل التقويم، ويشتغل في مختصر ابن الحاجب والحاجبية والألفية لابن مالك، والمقرب لابن عصفور، وفي ضوء المصباح وغيره في المعاني والبيان. وكان قد تولى تدريس الركنية بجبل قاسيون عوضاً عن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة الحنفي لما مات في المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. وتولى الظاهرية عوضاً عن شمس الدين بن العز في أول صفر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وكنت قد كتبت أليه لما وضعت تاريخي الكبير أطلب منه ما أستعين به على ترجمته على العادة في مثل ذلك، ومنه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 يا مفيد الورى معاني المعالي ... وإمام الأنام في كل علم إن لي معجماً كأفق فسيح ... اشتهى أن يزان منك بنجم فتأخر جوابه عني، فكتبت إليه أيضاً: ظفرت بوعد منك بلغني المنى ... وجودك نجم الدين ليس يحول وقد طال ليلي لانتظار وروده ... وليل الذي يرعى النجوم طوي وكتبت معه السؤال الذي تقدم ذكره في ترجمة الشيخ زين الدين بن شيخ العوينة آنفاً وأوله: ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدي به الثقلان فكتب هو إلي بخطه: يا سائلي عن نسبي ... ومولدي وأدبي وما قرأ في العلو ... م من شريف الكتب ومن أخذت ذاك عنه من شيوخ مذهبي وغيرهم ممن حوى ... سر كلام العرب وما الذي سمعته ... عن النبي العرب وما الذي سمعته ... عن النبي العربي صلى عليه الله ما احلو ... لك جنح غيهب وذكر شيء صغته ... من شعري المنتخب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وما الذي صنفته ... من كتب وخطب لولا وجوب حرمة القصد ورعي الرتب ما قلت ذاك خشية ... من حاسد مؤنب يقول إني قلته مفتخراً بحسبي لكنما البخل بما ... سئلت لا يحسن بي والمقتضى مني له ... لا يأتلي في الطلب وهو خليل في الرخا ... وعدة في الكرب وهمة في جمع شم؟ ... ل الفضل لا في النشب وما صلاح الدين إلا ... في اقتناء القرب هو الذي أوجب لي ... يا صاح كشف الحجب عن محتدي ومولدي ... وفضلي المحتجب فقلت غير آمن ... من عائب مندب مختصراً مقتصداً ... معتذراً من رهبي ما ستراه واضحاً ... مرتسماً عن كثب ما زلت للفضل حمى ... ولبنيه كالأب تجمع شمل ذكرهم ... مخلداً في الكتب وذكر نثراً ما ذكرته في صدر ترجمته هذه، ثم إنه قال: وأما الرواية فإني لم أسمح لأحد بأن يروي عني مسموعاتي لصعوبة ما شرطه أصحابنا في الضبط بالحفظ من حين سمع إلى حين روى، وأن الكتب التي سمعتها لم تكن محفوظة عندي، فضلاً عن حفظ ما سمعته. وأما ما صنفه من الكتب فإني رغبت عن ذلك لمؤاخذتي للمصنفين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 فكرهت أن أجعل نفسي غرضاً لمن يأخذ علي، غير أني جمعت منسكاً للحج أفردت فيه أنواع الجنايات، ومع كل نوع ما يجب من الجزاء على من وقع فيه؛ ليكون أسهل في الكشف ومعرفته، وكان ذلك بسؤال امرأة صالحة لا أعلم في زماننا أعبد منها، وانتفع بحسن القصد فيه وبركتها خلق كثير. وأما ما سمحت به القريحة الجامدة والفكرة الخامدة، فمن ذلك ما كتبت به إلى عماد الدين بن مزهر، وقد كان يجتمع معنا في ليالي الشتاء عند بعض الأصحاب، فلما مات عمه تزوج جاريته، وانقطع عنا، فقلت: إن يكن خصك الزمان بخود ... ذات قد لدن وخد أسيل فلقد فزت بالسعادة والرحب وفارقتنا بوجه جميل قلت: هو مأخوذ من قول ابن الخيمي: لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل وقال: وقلت متذكراً لزيارة الكعبة وزيارة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام: يا ربة الستر هل لي نحو مغناك ... من عودة أجتلي فيها محياك أم هل سبيل إلى لقياك ثانية ... لمغرم ما مناه غير لقياك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 له نوازع شوق بات يضرمها ... بين الجوانح والأحشاء ذكراك لم ينس طيب لياليك التي سلفت ... وكيف ينساك صب بات يهواك يا ربة الخال كم قد طل فيك دم ... فما أجل بعرض البيد قتلاك أسرت بالحسن ألباب الأنام فما ... أعز في ذل ذاك الأسر أسراك ماذا عساها ترى تنأى الديار بنا ... لو كنت في مسقط الشعرى لجيناك ولو تحجبت بالسمر الذوابل عن ... زوار ربعك يا سمرا لزرناك ذلت لعزك أعناق الملوك أعلاك يا منتهى سؤلي وأغلاك تهتكت فيك أستار الهوى ولهاً ... لما بدا من خلال الستر معناك يا هل ترى يسمح الدهر المشت بما ... أرجوه من قرب مغناك لمضناك وأجتلي من محياك الجميل ضحى ... ما بات يحكيه لي من حسنك الحاكي من بعد خط رحالي في حمى أرج الأرجاء بالمصطفى الهادي الرضى الزاكي خير الخلائق طراً عند خالقه ... وخاتم الرسل ما حي كل إشراك سباق غايات أقصى الفضل والشرف الأعلى وراقي العلى من غير إدراك مهدي المعارف مبدي كل غامضة ... مسدي العوارف مردي كل فتاك محمد ذي المقال الصادق الحسن المصدوق في القول مقتصي كل أفاك يا نفس إن بلغتك العيس حجرته ... وصافحت يمن ذاك الربع يمناك ونلت مأمؤلك الأقصى بلثم ثرى ... أعتابه وبلغت القصد من ذاك وقمت بين يديه للسلام على ... أقدام ذلك تذري الدمع عيناك وقد مددت يد الإملاق طالبة ... سؤاله لك عفواً عند مولاك فقد بلغت المنى والسول فاجتهدي ... هناك واستنجدي لي طرفك الباكي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 عساك أن ترزقي عطفاً عليك فإن رزقت ذاك فيا والله بشراك وليهنك السعد إذ حطت رحالك في ... ربع به لم تزل تحدى مطاياك فثم أندى الورى كفاً وأعظمهم ... جاهاً وأرحبهم صدراً لملقاك وخيرهم لنزيل في حماه وأو ... فاهم ذماماَ وأملاهم بجدواك آخر قلباه من شوق لرؤيته ... فقد تقادم عهد الشيق الشاكي بالله يا نفس كوني لي مساعدة ... حاشاك أن تخذليني اليوم حاشاك وجددي العزم في ذا العام واجتهدي ... عسى بذلك تخبو نار أحشاك فإن حرمت لقاه تلك معذرة ... وإن ظفرت به يا حسن مسعاك صلى عليه إله العرش ما قطعت ... كواكب الأفق ليلاً برج أفلاك قال: وقلت عند قدوم الحج في بعض السنين أبياتاً أنشدت بدار الحديث الأشرفية: يا نياق الحجيج لا ذقت سهداً ... بعدها ولا ولا تجشمت وخدا لا فدينا سواك بالروح منا ... أنت أولى من بات بالروح يفدى يا بنات الذميل كيف تركتن ... شعاب الغضا وسلعاً ونجدا مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بوجوه زارت معالم سعدى قال: ولم يحضرني باقيها. ولما ظفر قازان في سنة تسع وتسعين، ثم جاء في سنة اثنتين وسبع مئة، فكسر، وقيل لي: إن قازان عندهم اسم للقدر، قلت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 لما غدا قازان فخاراً بما ... قد نال بالأمس وأغراه البطر جاء يرجي مثلها ثانية ... فانقلب الدست عليه فانكسر قلت أنا: هذان البيتان في غاية الحسن في بادي الرأي، ولكن إذا حكهما النظر ونقدهما تبهرجا وتزيفا وذلك لأن القدر في اللغة التركية قرن، هكذا بلا ألف، وأولها قاف، وقازان إنما هو: غازان، بالغين المعجمة، وإنما قال ذلك المتهكم به، كما قالوا في بولاي: بوليه، وفي خداي بندا خربندا، وفي قوله: فانقلب الدست عليه، فانكسر فيه أيضا، نظر، لأن المعنى الذي ورى به لا يصح له وبأدنى تأمل يظهر هذا للبيب، ولولا أن هذا شعر مثل هذا شيخ الأدب وفقيه وما وأخذته، فإنه قد مر ويمر في هذا التاريخ أشياء من هذا النوع فما أعرج على المؤاخذة. قال الشيخ نجم الدين: ولما ذهب بدر الدين بن بصخان مع الجفال إلى مصر وأقام هناك كتبت إليه: يا غائباً قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهلها لا يعلق إن كان صدك نيل مصر عنهم ... لا غرو فهو لنا العدو الأزرق قلت: وقد ذكرت في ألحان السواجع ما جاء في هذه المادة. قال الشيخ: ومن الخطب فاتحة خطبة رأس السنة: " الحمد لله الذي لا تدرك كنه عظمته ثواقب الأفهام، ولا تحيط بمعارف عوارفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 خطرات الأوهام، ولا تبلغ مدى شكر نعمه محامد الأنام، الذي طرز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصع بجواهر النجوم حلة الظلام، وفصل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام. أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومنه الشوامل الجسام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا نقص لها تمام، ولا يخفر لها ذمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وسوق الباطل قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحق قد غام، فجرد سيف العزم وشام، وعنف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام، صلى الله عليه وآله الخيرة الكرام، صلاة لا انفصال لمتتابعها ولا انفصام. قال: وأما الجواب عن إعادة لفظ الأهل في قوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها "، ولم يقل: استطعماهم، والمحل إضمار، وفيه الإيجاز، فقد علم أن البلاغة لا تختص بالإيجاز، وإنما هو نوع من أنواع، وأن مدار حسن الكلام وارتفاع شأنه في القبول بإيراده مطابقاً لمقتضى الحال، فإن كان مقتضى الحال خليقاً ببسط الكلام تعلقت البلاغة ببسطه، وإن كان حقيقاً بالإيجاز كانت البلاغة في إيراده كذلك، ثم قد يعرض للبليغ أمور يحسن معها إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فيتنزل غير السائل منزلة من يسأل إذا كان قد لوح له بما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 يقتضى السؤال، ويتنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهرت عليه مخايل الإنكار، ويوقع المضمر في موضع الظاهر، والظاهر في موضع المضمر إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم البلاغة، والذي حسن إيقاع الظاهر موقع المضمر في الآية الكريمة أن الظاهر أدل على المعنى الذي وضع له اللفظ من المضمر؛ لأنه يدل عليه بنفسه، والمضمر يدل عليه بواسطة ما يفسره، وقصد المتكلم هنا الإخبار عن الذين طلب منهم الإطعام أنهم أهل القرية؛ لأن من غشيه الضعف في منزله ولم يعتذر بعذر عن إكرامه؛ بل قابله بالمنع مع ظهور حاجته التي أوجبت له أن يسأل منه ذلك؛ لأن المسألة آخر أسباب الكسب يعلم بذلك أن الحامل له على الامتناع من إضافته لؤم الطباع واتباع مذموم البخل ولشح المطاع، كما قال الشاعر: حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع حتى روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " كانوا أهل قرية لئاماً "، ومن كانت هذه سجيته كان حرياً بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بالإحسان إيه، فلما رأى موسى صلوات الله عليه إصلاح الخضر عليه السلام لجدار مشرف على السقوط في القرية التي هؤلاء أهلها من غير طلب أجر ذلك منهم مع الحاجة إلى ذلك عجب من ذلك وأنكره حتى كأن نسي ما قدمه من وعده إياه بالصبر وبعدم المصاحبة إن سأله عن شيء بعد ذلك، مع حرصه على صحبته والتعلم منه فكان في إعادة لفظ الأهل في الآية الكريمة إقامة لعذر موسى في الاعتراض في هذه الحالة؛ لأنه حالة لا يصبر عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 الاعتراض فيها لأن حالهم يقتضى بذل الأجر في إصلاح أمر ديناوي لحرصهم وشحهم فترك طلب الأجرة على إصلاح ذلك مع الضرورة والحاجة وقع إحساناً إلى أهلها الذين قابلوهما بالمنع عن الضيافة، فكانت البلاعة متعلقة بلفظ الأهل التي هي الحاملة على الاعتراض ظاهراً فأطلعه الخضر عليه السلام بأن الجدار إنما كان ليتيمين من أهلها، واليتيم محل المرحمة، وليس محلاً لأن يطلب منه أجرة، وإما لعجزه، أو لفقره وهو الظاهر، أو لأنه لا يجوز تصرفه في ماله، ولهذا قال: " رحمة من ربك "، ولم يكن لأهلها الذين أبوا أن يضيفوهما، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى ما نقلته من خط الشيخ رحمه الله تعالى. قلت: جواب الشيخ رحمه الله تعالى في غاية الحسن، وهو كلام عارف بهذا الفن، جار على القواعد، والذي قاله الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك ملخصه: أنه إنما أعاد الأهل بلفظ الظاهر، لأمرين. أحدهما: أن استطعتم صفة لقرية، فلو قال: أستطعماهما لكان مجازاً، إذ القرية لا تستطعم، فلا بد من ذكر المضاف مضمراً، فتعين ذكره مظهراً، ولا يرد عليه أن استطعما جواب ل؟ إذا، لا صفة لقرية، لأنا نقول: لقوله في القصة الأخرى: " حتى إذا لقيا غلاماً فقتله "، فقال: ههنا جواب إذا متعين ولا يستقيم أن يكون فقتله جوابه إذ الماضي الواقع في جواب، إذا لا يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 بالفاء، فتعين فيه. قال: والظاهر أن الجواب في القصة الأخرى هكذا لأنها في مساق واحد. الثاني: أن الأهل لو أضمر لكان مدلوله مدلول الأول، ومعلوم أنه جمع الأهل، ألا ترى أن إذا قلت: أتيت أهل قرية كذا، إنما تعني: وصلت إليهم، فلا خصوصية لبعضهم، والاستطعام في العادة إنما يكون لمن يلي النازل بهم وهم بعضهم، فوجب أن تقول: استطعما أهلها لئلا يفهم أنهم استطعموا جميع الأهل، وليس كذلك. وقد أجابني عن هذا السؤال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى بجواب طويل، نظم ونثر، وقد كتبته بخطي، وقرأته عليه، وهو مثبت في التذكرة التي لي. وقد تقدم جواب الشيخ زين الدين علي بن الحسين بن شيخ العوانية في ترجمته أيضاً. ومن شعر الشيخ نجم الدين رحمه الله تعالى، قوله في مليحة اسمها: قلوب: عاتبني في حبكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب وقال: ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المغنى قلوب ومنه في مليح نحوي: أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف وصفت ما أضمرت يوماً له ... فقال لي: المضمر لا يوصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وأنشدني من لفظه لنفسه ما كتبه من أبيات إلى الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني. بأبي بكر خصصت بها ... من أخي الأفضال والمنن أقبلت تختال في حلل ... وشيها من صنعة اليمن فرعها يملي خلاخلها ... ما يقول القرط في الأذن قلت: هو مأخوذ من قول الصاحب جمال الدين عيسى بن مطروح: إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الظفائر ولكن قول الشيخ نجم الدين أخصر بكثير، فهو أحق به. ؟ علي بن رزق الله بن منصور الشيخ نور الدين المقدسي. سمع من ابن عبد الدائم، وأبي حامد محمد بن الصابوني. أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. علي بن سالم بن عبد الناصر القاضي الرئيس الفاضل المنشئ علاء الدين أبو الحسن الكناني الغزي الشافعي، أحد الأخوة. كان حسن الشكل والسمت، بهي المنظر؛ إلا أنه لا يملك الصمت، لا يكاد يسكت إذا تكلم، ولا يخشى على حسام لفظه أن يتثلم. تام القامة، ملحي الوجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 والعمامة، وخطه جيد ما به بأس، وفضله ظاهر ما به إلباس، له قدرة على مداخلة الأكابر، والخوض معهم في اللجج والمعابر، يتحدث بالتركي، ويرمي في الإماج والألكي؛ إلا أن الموت هصر غصنه اليانع، وأجرى عليه المدامع. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة فيما أظن. باشر التوقيع بغزة بعد ابن منصور لما توجه إلى طرابلس فيما أظن، وتغير عليه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى وعزله، وأحضره إلى دمشق، واعتقله. ولما كان في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا رسم له بالمدرسة الجراحية والمواعيد بالصخرة في القدس الشريف. وكتب إلي أيام غضب تنكز علي شعراً كثيراً، من ذلك: غدا حالي بحمد الله حالي ... وبالي قد تخلص من وبالي وراح الخير منحل العزالي ... علي وقبل ذا كان الغزالي وحزت العز مذ يممت حبراً ... كبحر لا يكدر بالقلال فحياني وأحياني وأبدى ... مكارم لم يشنها بالقلا لي وأرشفني على ظمأ زلالاً ... فكان ألذ من بنت الدوالي وشنف مسمعي ببديع لفظ ... فقلت أتيت بالسحر الحلال فزدني من قريضك يا خليلي ... فإن بليغ لفظك قد خلا لي أبث لديك خطباً قد دهاني ... نوائب أذهبت جاهي مالي وقد فني اصطباري واحتمالي ... وقد خان المناصح والموالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 فعجل يا أخا العلياء جبري ... وعاملني معاملة الموالي فقد ذقت المنايا لا المنى يا ... إماماً قد تفرد بالمعالي فقد قدتني الأحزان قداً ... بوخز البيض والسمر العوالي وأنبني ونيبني زماني ... وصيرني على جمر المقالي وأنت أبا الصفاء تقيم عذري ... وتغضي عن عيوب في مقالي أيا من علمه عم البرايا ... وحشى حلمه في كل حال فبلغني ولا ترجي رجائي ... فسيف الغم يا بن العم خالي رجوتك في قديم ثم لما ... علوت مكانة زاد الرجا لي فلا حظني بعين الجبر واعطف ... حماك الله من غلب الرجال قلت: خانته العوالي والمعالي ومالي، ما أتى لها بأخت، وكان يمكنه ذلك، وتكررت معه: لفظة: لي، بلام الجر، وياء المتكلم، وهو إيطاء، وبعضهم تسمح فيه. وكتب على كتابي جنان الجناس: نزهت في روض الجنان الناضر ... طرفاً يفديه بنور الناظر خطرت به والحسن فيه شاهد ... أبكار أفكار بدت للخاطر أكرم بجنات الجناس وزهرها ... مع زهرها الزاهي البهي الباهر نمت بها لما نمت ريح الصبا ... فغدت تضوع بالعبير العاطر يحيا الصريع بها إذا ما جعفر ... منها أتت غدرانه بغدائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 ويصير في روض المحاسن خالداً ... يأتي يفضل ربيعها للزائر فأعجب لروض زخرفته يراعه ... في نقش قرطاس بنقس محابر أضحى به در البلاغة زاهياً ... فالناس فيه ناظم مع ناثر قد فاق منشئه به من قبله ... فاعجب لسباق أتى في الآخر ما قدر سحبان وقدر قدامة ... إن خاض في بحر الخليل الزاخر فلقد أتيت أبا الصفا بفضائل ... كملت به من كل واف وافر قلدت أجياد الزمان قلائداً ... نظمتها من كل زاه زاهر وسكنت معنى العز يا ابن الغر إذ ... أبرزت معنى ذا بهاء باهر فلك الفضاحة والسماحة والكيا ... سة والرياسة من أقل مفاخر قصرت في مدحيك فاعذر إنني ... فني فروع الفقه لست بشاعر أصبحت من جور الزمان نعامتي ... فتخاء تجفل من صغير الصافر ونظمت هذا الهموم ضجيعتي ... بل كان قلبي في جناحي طائر فاغضض عن العي الذي في منطقي ... واحرص بجهدك أن تقيم معاذري واسلم ودم لعرائس أبرزتها ... وجليتها من بكر فكر ظاهر فكتبت أنا الجواب أشكره على ذلك: أسماء نظم قد زهت بزواهر ... وحديقة قد أحدقت بزواهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 أم غادة أهديتها في جيبها ... من شعرك الفتان عقد جواهر بكرت إلي فباكرتني نشوة ... ما كان يخطر مثلها في خاطري في باطني منها باقي سكرة ... يبدو علي بها الهنا في ظاهري مهلاً علاء الدين قد حملتني ... منناً تفوق على الغمام الماطر وجبرت تضيفي الكسير فقد غدا ... يروي الإجازة في الورى عن جابر ما هذه أولى يد أوليتني ... لك يا بن سالم ابن عبد الناصر زهر ودر ذاك من روض زها ... نبتاً وهذا من خضم زاخر إن كان شعر كنت أفقه عالم ... أو كان فقه كنت أبدع شاعر وكتب إلي كثيراً وهذا القدر كاف. وحمل إلي تخميس البردة؛ قصيدة البوصيري، فكتبت أنا له عليها: وقفت على هذا التخميس الذي طرز طرسه، وسقي الفضل غرسه، وجلا للعين عرسه، ونوع في البديع جنسه، ونول أهل الأدب أنسه، وساق إلى طيبة بأحمال المدائح عنسه، فرأيت أسرار البلاغة فيه فاشية، وأبكار الفصاحة كيف غدت في خدور السطور ناشيه، والبردة كيف اكتست بهذه الزيادة رقة الحاشية: لله من جاء به أولاً ... فإنه أتعب من بعده عسل ثغر الزهر في روضه ... لما روى الإبداع عن شهده وكل سطر غصن قد غدا ... يحمل من قافية ورده أقسم ما خمسها ناظماً ... لكنه قد طرز البردة فيا له من سهم خرج من كنانه، وشهم لا يثني إلا حجام عنانه، وذي فهم ثقف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 العلم رمح قلمه، وأرهف سنانه، لقد أصبحت غزة به ذات عزه، وأمس كثير الفضائل وفوائد تخجل منها عزه، يقول جاره البحر: ما لي عجائبه، ولا لي لآليه، ويعجز بلديه أبو إسحاق أن يكون قوى فيه لقوافيه، ويرى الخياط أن البردة كانت قبل هذا التفصيل سدى، ويعترف الرفاء أن إبرة قلمه قد لبست من المداد الصدا، فالله يديم لبني الآداب هذه الفوائد، ويميرهم من هذه المآدب التي غصون أقلامهم في امتداحهم فوائد، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. علي بن سعيد بن سالم علاء الدين الصبيبي، بضم الصاد المهملة، وبعدها باء موحدة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وباء ثانية نسبة إلى قلعة الصبية وهي قلعة بين صفد ودمشق، ومدينة هذه القلعة بليدة بانياس، الخياط، الشاعر المعروف بالشوش بشينين معجمتين بينما واو ساكنة والأولى مضمومة. كان من أعاجيب الأناسي، وممن غدت لحيته وكأنها خلقت بالمواسي، ووقفت سفنه في أبحر القريض، ولم تجر لأنها قيدت بالمراسي، وأضحكت الثكالى حركاته، حتى قال الزمان: لقد بان ياسي من التعجب بعد البانياسي، ما عساي أن أقول فيمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 يزعم أن أبا الطيب عنده باقل، وأن أبا تمام لم ينهض من الحضيض شعره المتثاقل. يدعي مثل هذا بتصميم، ويتبادى وما فيه شعرة من تميم. ولم يزل في طيشه، وتقتير عيشه إلى أن دب سوس البلى في الشوش، وفتح فاهاً له قبره المرفوش. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ومولده في حدود سنة ست وسبعين وست مئة. اجتمعت به غير مرة بالجامع الأموي وبجسر اللبادين، وكان ينشدني كثيراً من شعره فأسمع العجائب والغرائب، وأشكر الله على نعمة العقل، إلا أنه كان يندر له البيت في القصيدة ونصف البيت. وقال لي غير مرة وأنا وهو نمشي في صحن الجامع بعد ما يدير وجهه إلى القبلة: وحق هذا المعبد وما يتلى فيه، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل شعري ما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وقال لي غير مرة: أنا والله الذي لا إله إلا هو، ما لي غرض مع المتنبي، شعري خير من شعره، وكذا يقول في أبي تمام وغيره. ولقد قال لي مرة وأنا بجسر اللبادين: يا مولانا! ما هذا الحاتمي إلا كان إماماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 عظيماً، هذا يسمي شعراء عمرنا ما سمعنا بهم، مثل الحطبة، كذا قال بالباء الموحدة، ومثل الطرماخ كذا قال، بضم الطاء وسكون الراء، وبعد الألف خاء معجمة. وأنشدني في وقت قصيدة له ثانية جاء منها: والليل أسود كالزنجي حالكه ... والبرق سيف له فيه جراحات فقلت له: يا شيخ علاء الدين: عابوا عليك هذا، وقالوا: كأنك تقول: الليل أسود أسود أسود، فنفر في وقال: ما أراك أنت الآخر إلا قليل العقل مثلهم. وقال لي مرة: يا مولانا هجاني واحد أبلم، قلت: ما قال؟ قال: قال: في الخواصين خياط ... قالوا إن اسموا الشوش من جهلو صار لو ... فوق راسو شر بوش ثم مر بيده على رأسه في الهوى، وراح وجاء مرات، وقال: يا مولانا! أين الشربوش الذي على رأسي. وقلت أنا فيه وقد تبرمت به: كأني إذا أنشا وأنشد شعره ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل فيرمي ولا يدري فؤادي ومسمعي ... بجلمود صخر حطه السيل من عل ونقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى، قال: أنشدنا لنفسه موشحاً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 هل لكم من شعور بأفاعي الشعور ... حين يلدغن قلبي من كثيب الخصور لا تزيدوا ملامي ... ما لدائي دوا قد وهى بي غرامي ... وهوى بي الهوى وبرى من عظامي ... جلدها والقوى وتدانى حمامي ... آه أنى للنوى من ذوات الخدور هل لنا من مجير ... راشقات بهدب من نشاط الفتور من سهام الجفون ... كم بقلبي كلوم نزحها من عيوني ... عند مي مقيم أوردتني منوني ... وهو منهم نعيم لذ فيهم شجوني ... أقصروا لا تلوموا إن نار السعير جنتي مع سروري ... لا تزيدوا فعتبي كمنادي القبور علي بن سليم بن ربيعة القاضي الفقيه الأديب أقضى القضاة ضياء الدين الأذرعي الشافعي. تنقل في قضاء النواحي نحواً من ستين سنة من جهة ابن الصايغ وغيره، أكبرها طرابلس وأعمالها، وناب بدمشق أياماً سنة تسع وعشرين وله نظم كثير، من ذلك: نظم التنبيه في ستة عشر ألف بيت. وكان منطبعاً بساماً عاقلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 توفي رحمه الله تعالى بالرملة ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وله أربع وثمانون سنة. علي بن سليمان بن أحمد أبو الحسن الهادي بالله ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم. كان أبوه المستكفي بالله قد عهد إليه بالخلافة بعده، فتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشرين شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وعاش أقل من عشرين سنة، ودفن في ترب جده بجوار السيد نفيسة رضي الله عنها، وفجع به والده، ووجد عليه وجداً عظيماً. علي بن سنجر الإمام العالم تاج الدين بن قطب الدين أبي اليمن البغدادي ابن السباك، بالسين المهملة وبالباء الموحدة المشددة، وبعدها ألف وكاف الحنفي. عالم بغداد، وواحدها الذي يطلق عليه أنه أستاذ، انتهت إليه رئاسة المذهب بالمسنتصرية، وتفرد هناك بالعلوم الأدبية. وكان قيماً بعرفانه، ذكياً قد مضى فضله برفعة شانه. وخطه رياض مونقه، وآفاق بالشموس مشرقه، ما يرضى أن يكون ياقوت فصاً في خاتمه، ولا يرى أن جود هذه الصناعة، ينسب إليه، لا إلى حاتمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 ونظم شعراً تجاوز به الشعرى، وظن من سمعه أن قوافيه وضعت في أذن دراً. ولم يزل على حاله إلى أن سبك ابن السباك في بوتقة القبر، وعدم الطلبة على المصيبة به ذخائر الصبر. وتوفي رحمه الله ... ومولده سنة إحدى وستين وست مئة، أو في ستين، في شعبان، الشك منه. وكان قد سمع وهو كهل صحيح البخاري عن ابن أبي القاسم، وأحكام ابن تيمية منه، وإحياء علوم الدين من كمال الدين محمد بن المبارك المخرمي، ومسند الدارمي من ست الملوك، وله إجازة من أبي الفضل بن الدباب، ومحمد بن المريح. وأخذ السبع عن أمين الدين مبارك بن عبد الله الموصلي، والمنتجب التكريتي. وتفقه على ظهير الدين محمد بن عمر البخاري، وعلى مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب بن الساعاتي صاحب مجمع البحرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 وقرأ الفرائض على أبي العلاء محمود الكلاباذي، والأدب على حسين بن إياز، وحفظ اللمع، ثم المفصل والبداية وأصل ابن الحاجب، وله أرجوزة في الفقه، وشرح أكثر الجامع الكبير. ومن شعره: هل أرى للفراق آخر عهد ... إن عمر الفراق عمر طويل طال حتى كأننا ما اجتمعنا ... فكأن التقاءنا مستحيل وأنشدني الإمام تقي الدين بن رافع، قال: أنشدنا المطري، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه: الأمر أعظم مما يزعم البشر ... لا عقل يدركه كلاً ولا نظر فانظر بعينك أو فاغمض جفونك واح؟؟ ... ذر أن تقول عسى أن ينفع الحذر فكل قول الورى في جنب ما هو في ... نفس الحقيقة إن هم فكروا هذر فاستغفر الله قولاً قد نطقت به ... فيما مضى وهو في الألواح مستطر وأنشدني الحافظ نجم الدين أبو الخير سعيد الذهلي، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه: يا نهار الهجير نجم الدين قد طلت بالصو ... م كما طال ليل هجر الحبيب ذاك قد طال بانتظار طلوع ... مثل ما طلت بانتظار مغيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 ومن شعره: يخفي السلام علي خوف وشاته ... ويبيت لي حتى الصباح نديما فلسانه حين التقينا صامت ... ولحاظه تقرينني التسليما قلت: هذه تقرينني مستثقلة إلى الغاية لو أنها في النيل كدرته، أو في وجه الصباح جدرته، ولو قال: ولحاظه تهدي لي التسليما؛ لكان أحسن وأعذب في السمع. ومن شعره: لما غدا والشهد من ريقه ... ودونه يستشهد المستهام ازدحم النمل على خده ... والمنهل العذب كثير الزحام وكان قد قرأ عليه جماعة منهم: القاضي حسام الدين الغوري قاضي قضاة مصره. ولما ولي الغوري القضاء ببغداد دخل على شيخه ابن السباك بالخلعة، وقال: الحمد لله الذي جعل من غلمانك قاضي القضاة. ورأيت أنا بخطه نسخة بالكشاف في مجلدين صغيرين وهي كتابة عظيمة صحيحة مليحة إلى الغاية. ؟ علي بن طرنطاي الأمير علاء بن الأمير الكبير حسام الدين طرنطاي المنصوري. كان أصغر الأخوة، وهو أمير عشرة بالديار المصرية، مليح الشكل، حسن الهيئة. توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة، وعمل عزاؤه أياماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 ؟ علي بن طغريل الأمير علاء الدين أمير حاجب دمشق. حضر من مصر إلى دمشق حاجباً في شهر ربع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة في أواخر أيام يلبغا، فما أقام إلا يسيراً حتى جرى ليلبغا ما جرى، على ما سيأتي في ترجمته، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان المظفر حاجبي إليه والى الأمراء بدمشق بإمساك يلبغا، فلما هرب يلبغا ساق الأمير علاء الدين خلفه وجماعة من الأمراء، ورد من رد منهم، وبقي هو وراءه إلى أن اضطره إلى حماة. حكى لي الأمير سيف الدين تمر المهمندار انه رأى هذا الأمير علاء الدين وقد جاءه اثنان من جماعة يلبغا، وطعناه برمحيهما، وأنه عطل ذلك بقفا سيفه، ولم يؤذ أحداً منهما، وكان يحكي لي ذلك، ويتعجب من فروسيته. ولم يزل بدمشق على إمرته ووظيفته إلى أن وصل الأمير سيف الدين أرغون شاه، فأقام يدخل عليه في كل خدمة، ويطلب منه الإقالة من الشام والرجوع إلى مصر إلى أن كتب له إلى باب السلطان، وجاء الجواب بالإجابة إلى ذلك، فعاد إلى مصر في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر الأمير سيف الدين منجك عوضه حاجباً. وأقام الأمير علاء الدين بالقاهرة بطالاً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. علي بن طيدمر ككز بضم الكافين، وبعدهما زاي، الأمير علاء الدين أحد أمراء العشرات بدمشق، والده من مماليك السلطان الملك الناصر محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 وكان هذا ظريف القد، أسيل الخد، وجفنه يجرد سيفاً ماضي الحد، وخده كأنما ورد الورد وما رد، ظريف العمة، لبق الشمائل، يود الغصن لو ضمة، والبدر لو وهبه كماله وتمه. يتجمل به الموكب إذا كان في دارته، والأفق إذا تخيل أنه في شارته. ومع حسنه البارع فكان لطيفاً، إذا خطا رأيت الجمال به مطيفاً، سهل الإنقياد، كثير الوداد، ليس فيه شمم، ولا عنده عن طلب الميل صمم. ولم يزل إلى أن أذبل الموت ورد خده، وكف عن جفنه غرب حده. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يبقل وجهه. علي بن طنبغا قوين باشي علاء الدين ابن الأمير علاء الدين نائب حمص ونائب غزة. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الطاء. كان هذا علي ذا صورة جميلة، وطلعة كم جعلت القلوب من حسنها دمنة، والعيون كليلة، أرشق من الغصن إذا عطفته النسمات، وأعدل من الرمح إلا أن هذا ألطف حركات، كم فتن قلباً، وجعل من الصب دمعه صبا. بينا هو بدر في ليالي كماله إذا به قد انخسف، وبينا هو غصن يميس في اعتداله إذا هو قد انقصف، وأنشد الناس قبره: ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ومات عن اثنتين وعشرين سنة، وصلى عليه بسوق الخيل، وحضره الأمير سيف الدين والأمراء. وكانت جنازته حافلة، وكان قد حج مرتين، وأثنى الناس عليه، وتألموا له ولوالده. علي بن عثمان ابن يعقوب بن عبد الحق السلطان أبو الحسن بن أبي سعيد بن أبي يوسف المريني، صاحب مراكش وفاس وغيرهما، المريني، تقدم ذكر والده في مكانه. ملك أبو الحسن هذا، رحمه الله تعالى، بعد موت والده سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وكان سلطاناً فاضلاً، مناظراً للفقهاء ولأرباب السلاح مناضلاً. قام بالجهاد مدة ملكه، ونظم كثيراً من البلاد في سلكه، امتشق الصوارم واعتقل الأسل، واشتار العسل من غزواته وما اختار الكسل، وباشر القتال بنفسه، وأقام وجهه للنبل مقام ترسه، ووجد ضرب المواضي أحلى من الضرب، وجاد بروحه للخطوب حتى كأنما له في قتله أرب. يكر على الأبطال، والسيف مصلت بكفه، ويقدم على الصفوف باجتهاد، كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فما حمل على جيش إلا أباده، وأبان للملائكة كره، وفره وطراده، وأجال في حومات الوغي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 جياده، وارتجل المنايا للأعادي وباده، وعلى صرح الإسلام وشاده، وأصلح فساد الدهر وأهله فساده، هذا مع فضائل بحرها زخار، وعلوم نيرها سيار. ولم يزل في جهاد مع الفرنج، وحروب نصره الله فيها، وقد ظن أنه لم ينج، إلى أن أدبر سعده، وأخلفه الزمان وعده، وطالما صدق وعده، وخانه حتى ابنه، وساعده عليه حتى أدبرت شجاعته وأقبل جبنه، وهذه قاعدة الأيام التي قل ما انخرمت، وطالما أصبحت جمراتها رماداً بعد ما اضطرمت. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة. وكان هذا السلطان أبو الحسن قد صادق سلطاننا الأعظم الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهاداه وراسله، وجهز إليه التحف والطرف، وجهز إليه مرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة خمسين فرساً بسروجها وعددها المغربية صحبة الجهة التي حضرت للحجاز، وتدعى الحرة، وحضر معها شيء كثير من التحف النفائس. قيل: إنها أحضرت معها صورة كرمة تحمل على رؤوس النساء، عناقيدها الجواهر النفيسة، وأحضرت من الثياب البيض الرفاع جملة وافرة. وكانت هذه السروج على كل ركاب منها طلاء ذهب، ستة سبعة دنانير، وأمر السلطان لها بجميع ما دعت حاجتها إليه من آلات الحج وزاده وماعون مائه لها ولمن حضر معها، وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 معها فيما أظن خمس مئة نفر، ولما عادت أرسل السلطان معها من تحف مصر وقماش إسكندرية، وقماش العراق شيئاً كثيراً. وكان قد جهز إلى مكة، شرفها الله تعالى، ختمة بخط يده، وقر بعير مذهبة مليحة في بابها، والى القدس الشريف ختمة أخرى نظيرها صحبة ابن فرقاجة، وجهز معه مبلغاً اشترى به ملكاً ووقفه على من يقوم بقراءة القرآن هنا وهنا. وكانت المكاتبات ما تنقطع بينهما كل قليل. وورد منه كتاب على السلطان الملك الصالح إسماعيل في أواخر شعبان سنة خمس وأربعين وسبع مئة على يد كاتبه ابن أبي مدين يعزي السلطان فيه بأبيه، ويهنئه بالجلوس على تخت الملك، ويذكر واقعة جرت له، ويطلب الدعاء، ويستنجد به على الأعداء، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة: من عبد الله علي أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، المنصور بفضل الله، المتوكل عليه، المعتمد به جزيع أموره ما لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، ومؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجى أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد، مدوخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للاسنتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده. إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلا بدراً تما، وصدع بأنوار الفخار فجلى ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية، فأعلى منها علماً، وأحيا بها رسما، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والآمال، قطب المجد وسماكه، حسب الحمد وملاكه: السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المورث المؤيد المظفر، الملك الصالح، أبو الوليد إسماعيل ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد، وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع " فهي خاوية على عروشها "، السلطان الأجل الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائر والقاسط، المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد ابن الملك الأرضى الهمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 الأقضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والططار، محيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقاليم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطلعها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إبزاغه للشكر أن جعله وارث آبائه. سلام كريم يفاوح زهر الربا مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى، فأصر على الدخن، والإفك. والصلاة والسلام على نبينا محمد ورسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء، وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق، فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك، وماجت بهم حاملة الفلك، والرضا من آله وصحبه الذين ملكوا سبل هاده، فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم، فلزموا من محجة الصواب أسحج الهلك، وصابروا في جهاد الأعداء، فزاد خلوصهم مع الابتلاء. والذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور، وأحفل بذلك الدرك، فكتبنا إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم، وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة وصنع الله سبحانه تعرف مذاهب الألطاف، وتكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، وتصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين الكاف والنون، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه، والى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه - من مؤاخاة أحكمت منها العقود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذتاها المحبة والنية الصالحية، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى استحكمت وصلة الولاء، والتحمت كلحمة النسب لحمة الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب في قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد أورد رنق المشارب، وحقق قول: " ومن يسأل الركبان عن كل غائب "، أنبأ باستئثار الله بنفسه الزكية وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حناناً للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من حر الفتن عارض الأضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 والولي الحميم، عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً ولا معلماً بمن استقر له ذلك الملك حقاً، وفي أثناء ذلك أحفزنا الحركة عن حضرتنا لاستصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشأن نستخبر الوارد من تلكم البلدان عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان. فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها. فقام على سبيل الحج سابلا، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً أو قافلاً، ولما اجتمعت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقله الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من يجل المصاب لفقدانه، وتحل عرا الاصطبار لموته ولات حين أوانه، ولكن الصبر الجميل أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع للحادث اصطباره ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبتداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 وصار حميداً إلى خير المنقلب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيمة أو معرسة، ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنئكم بما خولكم الله أجمل التهنئة، وفي ذات الله الإيراد والإصدار، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عهده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة وثناء كمائمه عن الزهر غب القطر مفتقه، ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين المكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرميين الشريفين إلى " قرار مكين "، وأنه كان لوالدكم الملك الناصر؛ تولاه الله برضوانه وأورده موارد إحسانه؛ في ذلك من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما يعرف إلى رضا الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين، ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيها بذلك الخراج المستفاد وبما يصلهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به موفرة متحصلة. وقد أمرنا مؤدي هذه لكمالكم، وموفدها على جلالكم كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها، وما فعله من سداد وإسراف. ويتخير لها من يرتضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جزياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقتضي تخليد ذلك البر الجميل، وتجديد عمل ذلك الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربا، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا. وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزيدات بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلك الجناب، وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى الجهاد منا عزماً لمثل ندائه نصيخ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم بابهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلية أرضها من أطرافها، لتمحو كلمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 الإسلام منها، وتقلص ظل الإيمان عنها، فقدمن من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على أثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد. فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسد اختطاف الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفالهم بما لا يحصى عدداً وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى جزيرة الخضراء، أعاذها الله، بكل من جمعوه من الأعاد، لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجميل، حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكننا من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة وتترد على خطر من جهز الجهاد جهازه، وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته لمداناة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد من يمشي السواحل ويلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل، وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل والإمداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم مساهمة لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى، وقد ضرب بطعن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى، وقد كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب إدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهو منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقوداً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق ما يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد. فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح. فأذنا فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من في طره من المسلمين توخينا ذل المرام، هنالك دعا النصارى إلى السلم فاستجابوا لداعيه، وقد كانوا علموا فناء القوت، وما استرابوا الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين، ولم يرزؤوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلدة ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها، وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكفى بالله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها. وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر أن قدم لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منه فيها إن شاء الله ميسرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 حين يفترق عقد الكفار، ويفرد بهذه الجهة منه مجاوروا هذه الدار فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بأضعافهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم. ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد من العَدد والعُدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وتربط الجياد تنتخب العُدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقب الفرصة عند تمكنها في الأعاد، وعند عودنا من تلك المحاولة نسير الركب الحجاز موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء موالي تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحده، والقلوب والأيدي على ما فيه من مرضاة الله تعالى معتضده، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مذخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله، وهو سبحانه يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب، وتتضفر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام الأتم يخصكم كثيراً أثيراً، ورحمه الله وبركاته. وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبع مئة، صورة خط أبي الحسن المريني صاحب فارس. وكتب في التاريخ المؤرخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وكنت أنا إذ ذاك في القاهرة فرسم لي بكتابة الجواب فكتبته بخطي من إنشائي، في سادس شهر رمضان المعظم سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعد البسملة في قطع النصف بقلم الثلث: عبد الله ووليه صورة العلامة الشريفة ولده إسماعيل بن محمد. السلطان الملك الصالح السيد العالم المؤيد المجاهد المثاغر المظفر المنصور، عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين، أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه. يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المظفر المعمر الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد السني السري، المنصور أبا السحن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر، بسلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ المسك الأذفر طلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلا في كأسه من الشفق الأحمر مداماً ومن النجوم فواقعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 عبد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بني النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة. وصلاه على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تنحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما تراسل أصحاب، وتواصل أحباب وسلامه. ونوضح لعلمكم الكريم ورود كتابكم الكريم، وخطابكم الفائق على الدر النظيم، تفاخر الخمائل سطوره، ويصبغ خدود الورد بالخجل منثورة، وتحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه، والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي، فالطرس صباحه والنقس ديجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت من المغرب. فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ورجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المعرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع فيها بيانها المطبوع. فأما العزاء بأخيكم الوالد، قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 ولولا الوثوق بأنه في عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا رأى الطرف وسنه. عاش سعيداً يملك الأرض، ومات شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير مسير الشمس في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم. وأما لهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحنا هذه المنحة، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده، وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل. وأما ما ذكرتموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وفقتموهما على الحرمين الشريفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مدين، أعزه الله تعالى، لتفقد أحوالهما والنظر في أوقافهما فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبيلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب آمن من إزالة رسمه، أو إدالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهرة دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلى تقييداً ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا وقاعدة تصرفنا في مسالكنا، وله زيادة الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية. وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 حزنها وسهلها، فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم، فجر ذيل الهمزية وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضائق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا عليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العربات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول، وما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن له ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول في سجايانا. وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل، وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم من خطب العطب ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين، لأن الدر يفدى بالذهب، وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وعقده ما فيه فارط عزم، وإن كان فيتدارك. والأمر يجيء كما يجب لا كما يحب، والحروب يزور نصرها تارة ويغب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة ما عندكم من الجنود، وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير، سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير الجهاد فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا المغدة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدى هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لهذا الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق. وجيل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق. وأما ما منحتموه من الخيل العتاق والملابس التي تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق، والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والأخرى شرفها وشرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله مناهم من منى، وسؤلهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهون شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به ثمر النصر اليانع من ورق الجديد الأخضر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تعاديكم وتراوحكم، وتناوحكم أنفاسها المعنبرة، وتنافحكم، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. علي بن عبد الله بن ريان ابن حنظلة السيناني، بالسين المهملة وياء آخر الحروف ونون بعدها ألف ونون، نور الدين الحضرموتي. أخبرني العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور بدمريط، بال مهملة وميم ساكنة وراء مكسورة وياء أخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، قرية من الشرقية بالديار المصرية. تولى القضاء بجهات من الشرقية، وله معرفة بالنسب ومشاركة في الفقه. وحفظ جملة من الحديث، وله أدب ونظم على طريق العرب. وسينان الصحيح أنها من حمير وأنشدني لنفسه: لقي الفؤاد مذ نأوا تلهبا ... وصارمته الغيد ربات الخبا نار أسى تضرم في أحشائه ... تشب من وقد الغرام ما خبا يا راكب الوجناء من خزاعة ... يرقلها طوراً وطوراً خببا كأنها إذا انبرت بارقة ... تقطع أجواز الفلا والحدبا حي أبيت اللعن دار زينب ... إن جزت بالربع وحي زينبا ما أنصفت زينب لما أن نأت ... وغادرتني دنفا معذبا أسامر النجم إذا جن الدجا ... شوقاً إلى غيد كأمثال الظبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 بيض حسان خرد كواعب ... إذا رنوا عجباً رأيت العجبا يسفرن عن مثل الشموس أوجهاً ... ويختلبن القانت المهذب توفي رحمه الله تعالى ... ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة. علي بن عبد الله بن عمر نور الدين القصري. أخبرني العلامة أثير الدين قال: وقع المذكور لبعض القضاة. وله نظم ونثر جيدان، أنشدني له يصف فرساً: لما جرى شوطاً بعيد المدى ... ألف بني الغرب والشرق فات ارتداد الطرف ثم انثنى ... يهزأ بالريح وبالبرق قلت: أنا: اختصره من قول ابن حجاج من أبيات: قالت له البرق وقالت له ال؟ ... ريح جميعاً وما ما هما أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما قلت: وأنشدني لنفسه في روضة مصر: ذات وجهين فيهما قسم الحس؟ ... ن فأضحت بها القلوب تهيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 ذا يلي مصر فهو مصر وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم قال الشيخ أثير الدين وزدت أنا بيتاً وهو: فبلج البحار يسبح نون ... ويفج القفار يسنح ريم ومن نثره: جفن علمه الغرام كيف يكف، ودمع أبي حين وقف بالربع أن يقف انتهى. وقال كمال الدين الأدفوي: وكان فيه مروءة ومكرمة. أخبرني بكتوت مولى قاضي القضاة معز الدين الحنفي: أن ابن الكيلج تحدث له مع مولاه في العدالة ورسم بكتابة أسجال. قال بكتوت: فاستأذنته في أن يكتبه ابن القصري، وأعطاني ابن الكيلج أربعة دنانير للكاتب، فركبت وتوجهت إليه، ووضعت الدنانير بين يديه، فقام وفتح صندوقه، فأخرج منه ورقاً وكتب الأسجال، وأخرج من عنده دينارين وأضافهما إلى الأربعة، وقال: هؤلاء ضيافتك لدخولك إلى منزلي. وتوفي نور الدين بالقاهرة سنة ست أو سبع وتسعين وست مئة. علي بن عبد الله بن عمر ابن أبي القاسم البغدادي الحنبلي، أخو الإمام رشيد الدين، وهو الشيخ زين الدين أبو الحسن. أجاز له ابن العليق وجماعة. وسمع من فضل الله الجيلي ثلاثة أجزاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 أبي الأحوص. ومن علي بن محمد بن خطاب بن الخيمي جزء التراجم للنجاد، ومن ابن تيمية أحكامه، ومن محيي الدين بن الجوزي كثيراً من تواليف أبيه. وتفرد في وقته، وكتب في الإجازات، لكن كان عامياً، يتهاون في الدين، وكان أخوه يزجر عن السماع منه. قال السراج القزويني: تركته لما فيه مما لا يليق. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. علي بن عبد الله بن أبي الحسن ابن أبي بكر الإمام، العلامة، المفتن، المفتي، المتكلم، تاج الدين، الأردبيلي المولد، التبريزي الدار، الشافعي، الصوفي. قال: سمعت من جامع الأصول على القطب الشيرازي، وبعض الوسيط على شمس الدين بن المؤذن. وأخذت النحو والفقه عن ركن الدين الحديثي. وعلم البيان عن النظام الطوسي، والحكمة والمنطق عن السيد برهان الدين عبيد الله، وشرح الحاجبية عن السيد ركن الدين المؤلف، وأجازني شمس الدين العبيدي، وعلم الخلاف عن علاء الدين النعمان الخوارزمي، وإقليدس وأوطاوقس وبادوسيوس، والحساب والهيئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 عن فيلسوف الوقت كمال الدين حسن الشيرازي الأصبهاني، والوجيز في الفقه عن شيخ الزمان، حمزة الأردبيلي، وعلم الجبر والمقابلة والمساحة والفرائض عن الصلاح موسى، وشرح السنة والمصابيح عن فخر الدين جار الله الجندراني والبستي تاج الدين الملقب بالشيخ الزاهد عن الشيخ شمس الدين التبريزي عن الركن السجاسي عن القطب الأبهري عن أبي النجيب السهروردي، عن أحمد الغزالي عن أبي بكر النيسابوري عن محمد النساج عن الشبلي عن الجنيد. وأدركت كمال الدين أحمد بن عربشاه بأردبيل، دعا لي، ولقنني الذكر عن أوحد الدين الكرماني، وأدركت شيخاً كبيراً أجاز لي، أدرك الفخر الرازي. وأدركت ناصر الدين الببيضاوي، وما أخذت عنه شيئاً، وجالست ابن المطهر الحلي، وما أخذت عنه لتشيعه. واشتغلت وأنا ابن عشرين إلى تسع وعشرين سنة، وأفتيت ولي ثلاثون سنة، ووليت الخانقاه والتدريس وأنا ابن ثلاث وثلاثين، وخرجت إلى بغداد بعد ست عشرة وسبع مئة، وأتيت المشهد والحلة والسلطانية ومراغة، وحججت، ثم دخلت مصر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: هو عالم كبير شهير، كثير التلامذة، حسن الصيانة، من مشايخ الصوفية، كاتبن ي غير مرة، وحصل نسخة بالميزان، وذكرني في تواليفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 وقال الشيخ تقي الدين بن رافع: قديم فسمع علي بن عمر الواني، ويونس الدبابيسي ويوسف الختني، وابن جماعة. وكتب الطباق، وحصل جملة من الكتب الحديثية، وشغل في فنون ودرس بالطرنطائية، وناظر، وكثرت طلبته، وصنف في التفسير والحديث والأصول، وأقرأ الحاوي كله في نصف شهر، رواه عن شرف الدين علي بن عثمان العتقي عن مصنفه، انتهى. قلت: كان الشيخ تاج الدين من أفراد زمانه، وأنجاب عصره وأنجاد أوانه، بحراً يتموج علوماً، وحبراً يتأرج طيباً بالفوائد مستديماً. أخذ عن جماعة وانتفعوا وترقوا من حضيض الجهل وارتفعوا، وأقرأ الناس المنقول والمعقول، وتفرد بفنونه، فلو شاء لم يدع قائلاً يقول، وحضرت دروسه للطلبة، وسمع عبارته إلا أنها في عجمتها تورد من الدر مخشلبه، واعتراف المشايخ بفضله، وأصاب الأغراض والشواكل بنبال نبله. ولم يزل بمصر على حاله إلى أن سكنت تلك العبارات، وبطلت تلك الإشارات. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة ست وأربعين وسبع مئة. وتوجهت إليه يوماً، وهو بالمدرسة الطرنطائية، ومعي كتاب كشف الحقائق لأثير الدين الأبهري، وطلبت الاشتغال فيه عليه فقال: ما عندي عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 شرح، وكلامه عقد، ففارقته، وسمعت غير واحد من المصريين أنه أقرأ الحاوي من أوله إلى آخره في شهر واحد تسع مرات. وكان يشغل في هذه العلوم التي ذكرها كلها، وعلى الجملة، فكان في عصره عديم النظير. وقلت أنا فيه لما مات رحمه الله تعالى: يقول تاج الدين لما قضى ... من ذا رأى مثلي بتبريز وأهل مصر بات إجماعهم ... يقضي على الكل بتبريز علي بن عبد الله بن عبد القوي ابن الحسن بن أبي المجد بن ناجي بن سليمان المدلجي، الشافعي، المعروف بالعصلوجي. كان فقيهاً مدرساً بمصر، روى كتاب الشهاب للقضاعي عن الحافظ رشيد الدين العطار القرشي، وسمع منه أمين الدين الواني وغيره. وناب في الحكم عن ابن دقيق العيد بمصر. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شهر الله المحرم سنة سبع عشرة وسبع مئة. ومولده في صفر سنة ست وأربعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وان ينعت بالقاضي جلال الدين بن أبي الحسن. علي بن عبد الله بن مالك الشيخ الصالح الإمام الفاضل نور الدين أبو الحسن الدمديطي، بضم الدال المهملة الأولى وبعدها ميم ساكنة ودال ثانية مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، الشافعي. كان يعرف قطعة صالحة من أنساب العرب، ويذاكر بذلك، وله شعر. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة، ودفن بمقابر الصوفية خار باب النصر في آخر صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. علي بن عبد الحميد بن محمد بن وفاء الفقيه الفاضل، علاء الدين بن التركيشي، الحنبلي. كان من أعيان الحنابلة، فاضلاً نبيهاً نبيلاً، يبحث ويناظر ويجادل. توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في سابع عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ودفن خارج باب النصر، وكان قد سمع جزء ابن عرفة على ابن أبي الخير. علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم ابن نعمة بن سلطان بن سرور المقدسي، فخر الدين، مفتي نابلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 كان من العلماء الأتقياء، أفتى نحواً من أربعين سنة، وارتحل، وسمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن رواج، ومحيي الدين بن الجوزي. وكتب شيخنا الذهبي عنه، وهو والد عماد الدين مفتي نابلس. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة بنابلس. واجتمع خلق كثير في جنازته، وحضر أهل القرى من البر، وكان شيخاً صالحاً، كثير التواضع، محبباً إلى الناس. علي بن عبد الرحمن القاضي نور الدين بن المغيزل، الحموي، الكاتب. كان بحماة له وجاهة، وعنده أبوة ونزاهة، وحظي عند المنصور بحماه، ولاذ القاصدون لها بحماه، وكتب الدرج للمنصور، وأصبح وممدود جاهه عليه مقصور. وبعده توجه إلى طرابلس صحبة أسندمر النائب، فلم تطل مدته، وحلت به النوائب ففارق مغنى العيش، ولم يغن عنه ثبات ولا طيش. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبع مئة. وهو من نسل بنات شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري. حضر إلى دمشق أول سنة إحدى وسبع مئة، وتوجه مع نائبها الأمير سيف الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 اسندمر كاتب درج، وتقدم عنده، وحظي لديه، وأقام من بعض صفر إلى جمادى الآخرة، وتوفي. وكان قد رتبه عوض ابن رواحة، فأعيد لموته ابن رواحة إلى مكانه. علي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الواني الأمير علاء الدين، مقدم البريدية بدمشق المعروف بابن الفرا. كان حظياً عند الأمير سيف الدين تنكز، يسوق في المهمات، ويجهزه إلى باب السلطان في المعضلات، إلا أنه كان ينبسط معه بالفعل المؤذي والقول الفاحش، وتارة يدنيه كالمحبوب، وتارة يبعده كالوارش. أعطاه السلطان الملك الناصر طبلخاناه وحضر بها، فأنكر ذلك عليه، وحبسه مرة بسببها. ولم يزل يقع معه ويقوم، ويسف تارة ويحوم إلى أن أمسك فخلص، وزاد من فرحه ما كان نقص، وأقام بعده مدة إلى أن عقر سمعه، وطفيء من الحياة شمعه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق، وولده شهاب الدين أحمد، ولما مات كان أمير عشرة لا غير. علي بن عبد الرحيم كمال الدين بن الأثير الأرمنتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 كان فقيهاً شافعياً، قاضياً بليغاً لا تجد فيه عيا، من بيت أصالة في الصعيد، ورئاسة ذكرها باق لا يبين ولا يبيد، وكان أبوه حاكماً بأعمال قوص، واسم سؤدده فيها صحيح غير منقوص. وكان هذا كمال الدين قد تولى قضاء الشرقية وأحاديث سيرته فيها تقية، وتولى قضاء أشموم الرمان، وذكره فيها باق على مر الزمان. ولم يزل إلى أن طوحت به الطوائح، وقامت عليه النوائح وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة بمصر. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: أخبرني القاضي أبو الطاهر إسماعيل بن موسى بن عبد الخالق السفطي قاضي قوص قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قد عزل نفسه، ثم أعيد إلى القضاء فولاني بلبيس، وقال لا تعلم أحداً، وتوجه إليها عجلاً، فتوجهت ثاني يوم الولاية إليها ولم يشعر أحد، فلما جلست للقضاء بلغ الكمال الأرمنتي، وكان قاضياً بها، فأرسل إلى أصحاب الشيخ يسألهم، فسألوا الشيخ هل عزله، فقال: ما عزلته، فكتبوا إليه فأخذ في الحديث في الحكم، فلما بلغ الشيخ، قال: أنا ما عزلته وإنما انعزل بعزلي ولم أوله. علي بن عبد الرحيم بن مراجل الصدر علاء الدين الحموي الأصل الكاتب. كان والده شهاب الدين عبد الرحيم يتصرف في جهات الديوان بحلب ودمشق، وكان علاء الدين له إلمام بالأدب، وله فيه تحصيل وطلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وكان ينظم ويقدم على ذلك ولا يعظم، إلا أنه كان للشر يتسرع، ويقلد الجهل في أموره ولا يتشرع. ولم يزل يغير وينجد في البلاد، ويتقلب بين ظهراني العباد، إلى أن غلت مراجل المنية لابن مراجل، وعجل أجله الآجل. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة ثلاث وسبع مئة. وكان قد باشر عدة جهات من مشارفة ونظر، وباشر أخيراً استيفاء النظر بدمشق، وتوجه إلى مصر بعد السبع مئة، وتأخر مقامه بها شهوراً فقال: أقول في مصر إذ طال المقام بها ... وساء من سوء ملقى أهلها خلقي يا أهل مصر أجيبوا في السؤال عسى ... يسكن الله ما ألقى من القلق هل فيكم من يرجى للنوال ومن ... يلقى لوفد بوجه ضاحك طلق أم عندكم لغريب في دياركم ... بقية من ندى أو عارض غدق فقيل ذلك مما ليس نعرفه ... وإنما سفننا تجري على الملق فبلغ ذلك الصاحب تاج الدين بن حنا، فأرسل طلبها منه، فزاد فيها علاء الدين بن مراجل: لكن رأيت بها مولى خلائقه ... أعاذها الله بالإخلاص والفلق السيد الصاحب المولى الوزير ومن ... فاق الورى كلهم بالخلق والخلق تاج المعالي وتاج الدين قد جمعت ... فيه المكارم تأتي منه في نسق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 ستر على أهل مصر لم يزل أبداً ... مغطياً منهم للويل والحمق فالنيل من جود كفيه يفيض بها ... كالسيل لكنه ينجي من الغرق فلما وقف عليها أرسل له شيئاً له صورة. علي بن عبد العزيز الخطيب الكبير عماد الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين بن السكري. كان فيه وجاهة وصدراه، وحشمة ترشحه للوزارة، جهز إلى التتر رسولاً وبلغ برسالته مآرب وسولا، وأحسن السفارة فيما توجه فيه، ورغب أولئك القوم في تلاف من عانده وتلافيه، وعاد إلى القاهرة، وصارت له بذلك ترجمة نادرة. ولم يزل على حاله إلى أن قال له داعي الموت حيهل، ونهل من حوض المنايا مع من نهل. وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر صفر في السادس والعشرين منه سحر يوم الجمعة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده خامس عشري المحرم سنة خمس وثلاثين وست مئة. وكان يدرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وبمدرسة منازل العز بمصر. وكان خطيباً بالجامع الحاكمي، وولي إمامة مشهد السيدة نفيسة والنظر على أوقافه. وكان مشهوراً بين رؤساء الديار المصرية، وعنده عقل وافر وديانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن جده لأمه الشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وحدث بالقاهرة وبدمشق، وأظنه كان مفتي دار العدل. علي بن عبد الغني الفقيه المعمر العدل علاء الدين بن تيمية ابن خطيب حران ومفتيها، الشيخ مجد الدين. كان هذا علاء الدين شروطياً بمصر. روى عن الموفق عبد اللطيف وابن روزبه، وكان شاهداً عاقلاً عاقداً مرضياً. توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة. ومولده بحران سنة تسع عشرة وست مئة. حمل عنه المصريون. علي بن عبد الكافي ابن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم: الغمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع البارع، والعلامة شيخ الإسلام، حبر الأمة، مفتي الفرق، المقرئ، المحدث، الرحلة، المفسر، الفقيه، الأصولي، البليغ، الأديب، المنطقي، الجذلي، النظار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 جامع الفنون، علامة الزمان، قاضي القضاة أوحد المجتهدين تقي الدين أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي الأشعري. يا سعد هذا الشافعي الذي ... بلغه الله تعلى رضاه يكفيه يوم الحشر أن عد في ... أصحابه السبكي قاضي القضاة أما التفسير فيا إمساك ابن عطية، ووقوع الرازي معه في رزية. وأما القراءات فيا بعد الداني، وبخل السخاوي بإتقان السبع المثاني. وأما الحديث فيا هزيمة ابن عساكر، وعي الخطيب لما أن يذاكر. وأما الأصول فيها كلال حد السيف، وعظمة فخر الدين كيف تحيفها الحيف. وأما الفقه فيا وقوع الجويني في أول مهلك من نهاية المطلب، وجر الرافعي إلى الكسر بعد انتصاب علمه المذهب في المذهب. وأما المنطق فيا إدبار دبيران وقذى عينه، وانبهار الأبهري وغطاء كشفه، بمينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وأما الخلاف فيا نسف جبال النسفي، وعمى العميدي، فإن إرشاده خفي. وأما النحو فالفارسي ترجل له يطلب إعظامه، والزجاجي تكسر جمعه وما فاز بالسالمة. وأما اللغة فالجوهري ما لصحاحه قيمة، والأزهري أظلمت لياليه البهيمة. وأما الأدب فصاحب الذخيرة استعطى، وواضع اليتيمة تركها، وذهب إلى أهل يتمطى. وأما الحفظ فما سد السلفي خلة ثغره، وكسر قلب الجوزي لما أكل الحزن لبه وخرج من قشره. هذا إلى إتقان فنون يطول سردها، ويشهد الامتحان أنه في المجموع فردها، واطلاع على معارف أخر، وفوائد متى تكلم فيها قتل بحر زخر، وإذا مشى الناس في رقراق علم كان هو خائض اللجة. وإذا خبط الأنام عشواء سار هو في بياض المحجة. وأما الأخلاق فقل أن رأيتها في غيره مجموعة، أو وجد في أكياس الناس دينار على سكتها المطبوعة؛ فم بسام، ووجه بين الجمال والجلال قسام، وخلق كأنه نفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 السحر على الزهر نسام، وكف تخجل الغيوث من ساجمها، وتشهد البرامكة أن نفس حاتم في نقش خاتمها، وحلم لا يستقيم معه الأحنف، ولا يرى المأمون معه إلا خائناً عند من روى أو صنف، ولا يوجد له فيه نظير ولا في غرائب أبي محنف، ولا يحمل حلمه بل، فإنه جاء بالكيل المكنف. لم أره انتقم لنفسه مع القدرة، ولا شمت بعدو هزم بعد النصرة، بل يعفو ويصفح عمن أجرم، ويتألم لمن أوقد الدهر نار حربه وأضرم، ورعاية ود لصاحبه الذي قدم عهده، وتذكر لمحاسنه التي كاد يمحوها بعده، طهارة لسان لم يسمع منه في غيبة بنت شفة، ولا تسف طيور الملائكة منه على سفه. وزهد في الدنيا وأقلامه تتصرف في الأقوال، وتفضها على مر الأيام والجمع والأشهر والأحوال، واطراح للملبس والمأكل، وعزوف عن كل لذة، إعراض عن أغراض هذه الدنيا التي خلق الله النفوس إليها مغذه. وهذا ما رآه عياني، وختم عليه جناني، وأما ما وصف لي من قيام الدجى، والوقوف في موقف الخوف والرجا، فأمر أجزم بصدقه، وأشهد بحقه، فإن هذا الظاهر لا يكون له باطن غير هذا، ولا يرى غيره حتى المعاد معاذا: عمل الزمان حساب كل فضيلة ... بجماعة كانت لتلك محركه فرآهم متفرقين على المدى ... في كل فن واحداً قد أدركه فأتى به من بعدهم فأتى بما ... جاؤوا به جمعاً فكان الفذلكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 وتصانيفه تشهد لي بما ادعيت، وتؤيد به ورويت، فدونك وإياها، وترشف كؤوس حمياها، وتناول نجومها إن وصلت إلى ثرياها. ولما توفي قاضي القضاة جلال الدين القزويني بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة طلبه السلطان الأعظم الملك الناصر محمد، وطلب الشيخ شمس الدين بن عدلان بحضور قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وقال له: يا شيخ تقي الدين قد وليتك قضاء الشام، وألبسه تشريفاً عظيماً وخرج صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى. وكنت أنا في خدمته طول الطريق فالتقطت الفوائد، وجمعت الفرائد التي ظل في طلبها ألف رائد، وسهلت بسؤاله ما كان عندي من الغوامض الشدائد، ووددت أن النوى لم تلق لها عصا، وأن اليعملات في كل هاجرة تنفي يداها الحصا. يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر ودخل دمشق، فقل في روض حياه الغمام، ومادت غصونه بالطرب لما غنى عليها الحمام. أحيا الله به معالم علومها، وأطلع في آفاقها للهدى نيرات نجومها، وباشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 قضاءها بصلف زاد، وسلوك ما حال عن جادة الحق، ولا حاد، منزه النفس عن الحطام منقاداً إلى الزهد الصادق بخطام، مقبلاً على شأنه في العلم والعمل، منصرفاً إلى تحصيل السعادة الأبدية فما له في غيرها أمل، ناهيك به من قاضي حكمه في هذه الإقليم متصرف الأوامر، وحديثه في العفة عن الأموال علالة المسامر، ليس في بابه من يقول لخصم هات، ولا من يجمجم الحق أو يموه بالترهات. ومات الأمير سيف الدين تنكز وهو يعظمه، ويختار أكبر الجواهر للثناء عليه وينظمه: وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ولم يزل على حاله إلى أن حصل له من المرض ما حصل، وتماثل من سقمه ونصل، ونزل عن منصبه لولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، فتلقت الدولة ذلك منه بالترحاب، وقالوا سمعاً لما قاله وكرامة، وأهلاً بهذا النهر الذي غادرته تلك الغمامة. ولما استقر الأمر لولده وثبت، ورأى غصنه الذي تفرغ عن أصله ونبت توجه إلى الديار المصرية شوقاً لأرض أول ما مس جلده ترابها، وأول ما ضمه جناتها واتسع له جنابها، فقال النيل: مرحباً بغمام الشام، وقالت نجومها: أهلاً بهذا القمر التام، فأقام بها ريثما بل صداه، ورد برؤية ربوعها رداه، ونقله الله إلى حضرة قدسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 ومواطن رحمته وأنسه. فلبى المنادي، وخلا من نداه النادي، وقام الناعي فأسمع. وأوجد القلوب حزنها فأوجع. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده أول يوم من صفر سنة ثلاث وثمانين وست مئة. وتفقه في صغره على والده رحمه الله تعالى، ثم على جماعة آخرهم فقيه العصر نجم الدين بن الرفعة، ورأيته رحمه الله يثني عليه ثناء كثيراً، ويعظمه تعظيماً زائداً. وقرأ الفرائض على الشيخ عبد الله الغماري المالكي. وقرأ الأصلين وسائر المعقولات على الشيخ الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان يعظمه ويصفع بالدين. وقرأ المنطق والخلاف على الشيخ سيف الدين البغدادي. وقرأ النحو على الشيخ أثير الدين أبي حيان. وقرأ التفسير على الشيخ علم الدين العراقي. وقرأ القراءات على الشيخ تقي الدين بن الصائغ. وتخرج في الحديث على الحافظ شرف الدين الدمياطي. وصحب في التصوف الشيخ تاج الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 ورحل في طلب الحديث إلى الإسكندرية والشام، ومن مشاهير أشياخه في الرواية ابن الصواف، وابن جماعة، والدمياطي، وابن القيم، وابن عبد المنعم، وزينب، وهؤلاء بالإسكندرية وبمصر. والذين بالشام: ابن الموازيني، وابن مشرف، والمطعم، وغيرهم. والذين بالحجاز: رضي الدين إمام المقام وغيره. وخرج له شهاب الدين الدمياطي معجماً لشيوخه. جلس بالكلاسة جوار الجامع الأموي بدمشق، وحدث به قراءة عليه الإمام أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح السبكي، وسمعه عليه خلائق منهم الحافظ الكبير جمال الدين المزي، والحافظ أبو عبد الله الذهبي، وروى عنه شيخنا الذهبي في معجمه. وتولى بدمشق مع القضاء خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فقال شيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي: ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه ونظم في ذلك: ليهن المنبر الأموي لما ... علاه الحاكم ابر التقي شيوخ العصر أحفظهم جميعاً ... وأخطبهم وأقضاهم علي وتولى بعد وفاة شيخنا المزي رحمه الله تعالى مشيخة دار الحديث الأشرفية. فالذي نقول: إنه ما دخلها أعلم منه، ولا أحفظ في الرجال من المزي، ولا أورع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 النووي وابن الصلاح، ولا يورد زين الدين الفارقي فإنه أفقه منه رحم الله كلاً. وتولى تدريس الشامية البرانية بعد موت مدرسها قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب رحمه الله في أوائل سنة ست وأربعين وسبع مئة. وكتبت له بذلك توقيعاً هو مذكور في الجزء الخامس والعشرين من التذكرة التي لي. ثم إنه ولي تدريس المسرورية بعد الشيخ تاج الدين المراكشي، وكتبت له توقيعاً بذلك هو في الجز الثاني من التذكرة التي لي. وكان قد طلب في نهار الجمعة بعد الصلاة سادس عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة إلى الديار المصرية، جاء البريد بطلبه ليجعل قاضي القضاة بالديار المصرية، فتوجه. ثم إن القضية فترت، وأقام بها قليلاً وعاد إلى دمشق على منصبه. ومن مسموعاته الحديثية: الكتب الستة، والسيرة النبوية، وسنن الدارقطني، ومعجم الطبراني، وحلية الأولياء، ومسند الطيالسي، ومسند الحارث بن أبي أسامة، ومسند الدارمي، ومسند عبد، ومسند العدني، ومسند الشافعي رضي الله عنه، وسنن الشافعي، واختلاف الحديث للشافعي، ورسالة الشافعي، ومعجم ابن المقرئ، ومختصر مسلم، ومسند أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 والشفاء للقاضي عياض، ورسالة القشيري، ومعجم الإسماعيلي، والسيرة للدمياطي، وموطأ يحيى بن يحيى، وموطأ القعنبي. وموطأ ابن بكير، والناسخ والمنسوخ للحازمي، وأسباب النزول للواحدي، وأكثر مسند أحمد، ومن الأجزاء شيء كثير. ولقد كان عمره بالديار المصرية وجيهاً في الدولة الناصرية يعرفه السلطان الأعظم الملك الناصر ويوليه المناصب الكبار، مثل إدريس المنصورية وجامع الحاكم والكهارية. والأمير سيف الدين أرغون النائب يعظمه، والقاضي كريم الدين الكبير يقربه ويقضي أشغاله، والأمير سيف الدين قجليس، وأما الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار فكان لا يفارقه ويبيت عنده في القلعة غالب الليالي، ونائب الكرك والأمير بدر الدين جنكلي بن البابا والجاولي والخطيري وغيرهم جميعهم يعظمونه ويحترمونه ويشفع عندهم ويقضي الأشغال للناس. وجاء إلى الشام قاضي القضاة من سنة تسع وثلاثين إلى بعض سنة ست وخمسين هذه المدة كلها، وجاء في أيامه الطاعون فلو شاء هو وولده أقضى القضاة جمال الدين حسين أخذا في إثبات الوصايا ودعاوى القرابات وما يرث الناس بأسبابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 ثلاث مئة ألف دينار وأضعافها، وكان ينفرد هو رحمه الله تعلى بولايات الوظائف بنصف ذلك، ولم يقدر أحد يقول إنه وزن ديناراً ولا درهماً ولا أقل ولا أكثر. وأما لبسه الذي يكون عليه في غير دور العدل والمحافل فيما أظنه كان يساوي ثلاثين درهماً. وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل وبعد هذا جميعه يموت فيوجد عليه دين مبلغ اثنين وثلاثين ألف درهم، ولو لم يكن له داران بمصر اشترى الواحدة، وورث الأخرى مع مجلداته التي قناها في عمره، أبيع الجميع فكمل ثلثي الدين، والتزم ولداه مد الله في عمرهما بوفاء البقية، هكذا هكذا وإلا فلا لا. ينسب إلى الشافعي أنه قال: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص، قدس الله روحه، ونور ضريحه، والذي استقر في ذهني منه أنه كان إذا أخذ أي مسألة كانت من أي باب كان، من أي علم كان عمل عليها مجلداً أو مصنفاً لطيفاً، أعني في علوم الإسلام من الفروع والأصلين والحديث والتفسير والنحو والمعاني والبيان. وأما العقليات فما كان في آخر وقته فيها مثله. وأما فن الأدب فما احتاج مع أسماء كتبه وتصانيفه إلى بيان، هي تشهد له بأدبه وذوقه. وأما الهجاء وفن الكتابة فكان ما يلحق فيه. وأما صناعة الحساب فرأيت أئمتها يعترفون له فيها، ولم أره في مدة ولايته القضاء يستكثر على أحد شيئاً والعلة في ذلك إعراضه عن الدنيا وإلقاؤها وراء ظهره، حتى لم تكن له ببال حتى إنني قلت فيه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 لم يلتفت يوماً إلى زهرة الد ... نيا وإن كانت له زاهره رئاسة العلم التي حازها ... تكفيه في الدنيا وفي الآخرة ولم نر أحداً من النواب الذين هم كانوا ملوك الشام ولا من غيرهم تعرض له فأفلح بعدها، إما يموت فجأة أو يغتال أو يعطل ويستمر في عطلته إلى أن يموت، جربنا هذا غير مرة مع غير واحد، وهذا شاع وذاع. ولقد جئت إليه يوماً، وقلت له يا سيدي هذه قضية حديثاً، بالله دع أمرها فإنك قد أبلغت فيها عذراً، وهذا ملك الأمراء وغيره في ناحية وهم بمعزل، وأخشى يحصل بسببها شر، فما كان جوابي إلا أن أنشد: وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب فعلمت أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم. ومن حين نافسه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي ما قر له قرار ولا هناه عيش بدمشق، وجرى له ما جرى، وعزل منها، وتولى حلب، وقاسى بها شدائد، ثم إنه عزل ونقل إلى مصر، ثم إنه أمسك واعتقل بالإسكندرية، ثم حضر إلى القدس. ولم يزل يدخل في مرض ويخرج منه إلى أن توفي رحمه الله تعالى، ولما طلب إلى مصر خوفوه من أمره، فقال: يروح إليها ومما يفلح، ويموت والله ولده قاضي القضاة تاج الدين حيث قال في ترجمته لما ذكره في طبقات الفقهاء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الحسود يظن السوء عدوانا هذا الذي تعرف الأملاك سيرته ... إذا ادلهم دجى لم يبق سهرانا هذا الذي يسرع الرحمن دعوته ... إذا تقارب وقت الفجر أو حانا هذا الذي يسمع الرحمن صائحه ... إذا بكى وأفاض الدمع ألوانا هذا الذي لم يزل من حين نشأته ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا هذا الذي تعرف الصحراء جبهته ... من السجود طوال الليل عرفانا هذا الذي لم يغادر سيل مدمعه ... أركان شيبته البيضاء أحيانا والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة في العصر برهانا وحافظاً لنظام الشرع ينصره ... نصراً يلقيه من ذي العرش غفرانا كل الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا وصنف بالديار المصرية ودمشق ما يزيد على المئة والخمسين مصنفاً فمن ذلك: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، عمل منه مجلدين كبيرين ونصفاً، وتكملة المجموع في شرح المهذب ولم يكمل، والابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، بلغ فيه إلى آخر وقت والتحقيق في مسألة التعليق رداً على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق، وكان فضلاء الوقت قد عملوا ردوداً ووقف عليها، فما أثنى على شيء منها غير هذا، وقال ما رد علي فقيه غير السبكي، وكتاب شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام رداً عليه في إنكاره سفر الزيارة، وقرأته عليه بالقاهرة في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة من أوله إلى آخره وكتبت عليه طبقة جاء مما فيها نظماً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 لقول ابن تيمية زخرف ... أتى في زيارة خير الأنام فجاءت نفوس الورى تشتكي ... إلى خير حبر وأزكى إمام فصنف هذا وداواهم ... فكان يقيناً شفاء السقام والرفدة في معنى وحده وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها: خل عنك الرقدة ... وانتبه للرفده تجن منها علماً ... فاق طعم الشهده والتعظيم والمنة في " لتؤمنن به ولتنصرونه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها: غالب ما صنفه الناس في ... مسببات المال والجاه فللربا ذلك قد كان وال؟ ... تعظيم والمنة لله والحلم والأناة في إعراب " غير ناظرين إناه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها: يا طالب النحو في زمان ... أطول ظلاً من القناة وما تحلى منها بعقد ... عليك بالحلم والأناة والإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض كتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها: قل لمن راح باحثاً عن كلام ... في كناياته وفي التعريض لا تغالط، ما يشبه الدر شيء ... إن تأملته سوى الإغريض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وورد العلل في فهم العلل، وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها: أيا من شفى ما بنا من علل ... ورد ردانا بورد العلل جزاك إلهك من محسن ... هدانا الصواب وروى الغلل ونيل العلا في العطف بلا، وكتبتها بخطي وقرأتها عليه، وكتبت عليها: يا من غدا في العلم ذا همة ... عظيمة في الفضل تملا الملا لم ترق في النحو إلى رتبة ... سامية إلا بنيل العلا ومن تصانيفه أيضاً رافع الشقاق في مسألة الطلاق، والرياض الأنيقة في قسمة الحديقة، ومنية المباحث في حكم دين الوارث، ولمعة الإشراق في أمثلة الاشتقاق وإبراز الحكم من حديث: رفع القلم، وإحياء النفوس في حكمة وضع الدروس، وكشف القناع في إفادة لو الامتناع، وضوء المصابيح في صلاة التراويح، ومسألة كل وما عليها تدل، وكتب عليها الفاضل سراج الدين عبد اللطيف بن الكويك ثلاثة أبيات أوردتها في ترجمته، والرسالة العلانية والتحبير المذهب في تحرير المذهب، والقول الموعب في القول بالموجب، ومناسك أولى ومناسك أخرى، وبيع المرهون في غيبة المديون، وبيان الربط في اعتراض الشرط على الشرط، ونور الربيع من كتاب الربيع، والرقم الإبريزي في شرح التبريزي، وعقود الجمان في عقود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 الرهن والضمان، وطليعة الفتح والنصر في صلاة الخوف والقصر، والسيف المسلول على من سب الرسول، والسهم الصائب في بيع دين الغائب. وفصل المقال في هدايا العمال، والدلالة على عموم الرسالة. والتهدي إلى معنى التعدي، والنقول البديعة في أحكام الوديعة، وكشف الغمة في ميراث أهل الذمة، والطوالع المشرقة في الوقوف على طبقة بعد طبقة، وحسن الصنيعة في حكم الوديعة، وأجوبة أهل طرابلس، وتلخيص التلخيص وتاليه، والإبهاج في شرح المنهاج في الأصول، بدأ فيه قدر كراسين، وكمله ولده قاضي القضاة تاج الدين. ورفع الحاجب في شرح ابن الحاجب في الأصول، والقراءة خلف الغمام، والرد على الشيخ زين الدين الكتاني، وكشف اللبس في المسائل الخمس ومنتخب طبقات الفقهاء، وقطف النوار في دراية الدور، والغيث المغدق في ميراث المعتق، وتسريح الناظر في انعزال الناظر والملتقط في النظر المشترط، وتنزيل السكينة على قناديل المدينة، ودفع من تغلبك في مسألة مدرسك بعلبك، وشي الحلى في تأكيد النفي بلا، الاعتبار ببقاء الجنة والنار، ضرورة التقدير في تقويم الخمر والخنزير، تقيدي التراجيح، الكلام على حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. الكلام مع ابن الدارس في المنطق، جواب سؤال علي بن عبد السلام، رسالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 أهل مكة، أجوبة أهل صفد، فتوى: كل مولود يولد على الفطرة، مسألة فناء الأرواح، مسألة في التقليد، النوادر الهمذانية، الفرق في مطلق الماء والماء المطلق، المسائل الحلبية، أمثلة المشتق، القول الصحيح في تعيين الذبيح، القول المحمود في تنزيه داود، الجواب الحاضر في وقف عبد القادر، حديث نحر الإبل، قطف النور من مسائل الدور، مسألة ما أعظم الله، مسائل في تحرير الكتابة، مسألة هل يقال العشر الأواخر، مختصر كتاب الصلاة لمحمد بن نصر المروزي، الإقناع في قوله تعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع "، جواب سؤال من القدس، منتخب تعليقة الأستاذ في الأصول، عقود الجمان في عقود الرهن والضمان، مختصر عقود الجمان، وقف بني عساكر، النصر الناهد في لا كلمت كل واحد، الكلام في الجمع في الحضر لعذر المطر، الصنيعة في ضمان الوديعة، النقول البديعة في ضمان الوديعة، بيان المحتمل في تعدية عمل، القول الجد في تبعية الجد، تفسير يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، المواهب الصمدية في المواريث الصفدية، كشف الدسائس في هدم الكنائس، حفظ الصيام عن فوت التمام، جواب سؤال ورد من بغداد، كتاب الخيل، جواب الأمير سيف الدين بيبغاروس ورد من حلب، كم حكمة أرتنا أسئلة أرتنا، جواب أهل مكة، جواب المكاتبة من حارة المغاربة، معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، سبب الانكشاف عن إقراء الكشاف، وقف على وقف أولاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 الحافظ، النظر المعيني في محاكمة أولاد اليونيني، موقف الرماة من وقف حماة، مركز الرماة، القول في التقوي في الوقف التقوي، القول المختطف في دلالة: إذا اعتكف، كشف اللبس عن المسائل الخمس، غير الإيمان لأبي بكر وعمر وعثمان، زكاة مال اليتيم، الكلام على لباس الفتوة، وهو فتوى الفتوة، بيع المرهون في غيبة المديون، الألفاظ التي وضعت بإزاء المعاني الذهنية أو الخارجية، أجوبة مسائل سأله عنها ولده قاضي القضاة تاج الدين في أصول الفقه، العارضة في البينة المتعارضة، مسألة تعارض البينتين، كتاب بر الوالدين، أجوبة أسئلة حديثية وردت من الديار المصرية، نصيحة القضاة الكلام على قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ". ولما وقف على رد الشيخ تقي الدين بن تيمية على ابن المطهر في الرفض قال: وأنشدنيها من لفظه، وهي: إن الروافض قوم لا خلاق لهم ... من أجهل الناس في علم وأكذبه والناس في غنية عن رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستقبال مذهبه وابن المطهر لم تطهر خلائقه ... داع إلى الرفض غال في تعصبه لقد تقول في الصحب الكرام ولم ... يستحي مما افتراه غير منجبه ولابن تيمية رد عليه وفى ... بمقصد الرد واستيفاء أضربه لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدراً في صفو مشربه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 يخالط الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به لو كان حياً يرى قولي ويفهمه ... رددت ما قال أقفو إثر سببه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة رداً غير مشتبه وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أظن به والرد يحسن في حالين واحدة ... لقطع خصم قوي في تغلبه وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح لديهم في تطلبه وليس للناس في علم الكلام هدى ... بل بدعة وضلال في تكسبه ولي يد فيه لولا ضعف سامعه ... جعلت نظم بسيطي في مهذبه وقال: ما أنشدنيه من لفظه لما رد على ابن تميمة في الطلاق، وقد أكثر من الاحتجاج بيمين ليلى: في كل واد بليلى واله شغف ... ما إن يزال به من مسها وصب ففي بني عامر من حبها دنف ... ولابن تيمية من عهدها شغب وكتب لابنه الأكبر محمد رحمه الله تعالى في سنة عشر وسبع مئة، وأنشدنيه من لفظه رحمه الله تعالى: أبني لا تهمل نصيحتي التي ... أوصيك واسمع من مقالي ترشد احفظ كتاب الله والسنن التي ... صحت وفقه الشافعي محمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 وتعلم النحو الذي يدني الفتى ... من كل فهم في القران مسدد واعلم أصول الفقه علماً محكماً ... يهديك للبحث الصحيح الأيد وأسلك سبيل الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة في العلوم وأحمد وطريقة الشيخ الجنيد وصحبه ... والسالكين طريقهم بهم اقتدي وابتع طريق المصطفى في كل ما ... يأتي به من كل أمر تسعد واقصد بعلمك وجه ربك خالصاً ... تظفر بسبل الصالحين تهتدي واخش المهيمن وأت ما يدعو إلي؟ ... هـ وانته عما نهى وتزهد وارفع إلى الرحمن كل ملمة ... بضراعة وتمسكن وتعبد واقطع عن الأسباب قلبك واصطبر ... واشكر لمن أولاك خيراً وأحمد وعليك بالورع الصحيح ولا تحم ... حول الحمى واقنت لربك واسجد وخذ العلوم بهمة وتفطن ... وقريحة سمحاء ذات توقد واستنبط المكنون من أسرارها ... وابحث عن المعنى الأسد الأرشد وعليك أرباب العلوم ولا تكن ... في ضبط ما يلقونه بمفند فإذا أتتك مقالة قد خالفت ... نص الكتاب أو الحديث المسند فاقف الكتاب ولا تمل عنه وقف ... متأدباً مع كل حبر أوحد فلحوم أهل العلم سمت للجنا ... ة عليهم فاحفظ لسانك وابعد هذي وصيتي التي أوصيكها ... أكرم بها من والد متودد وكتب لولده قاضي القضاة تاج الدين وق رتب موقعاً بالدست الشريف بالشام في سنة خمس وسبع مئة: أقول لنجلي البر المفدى ... مقالاً وثقت منه عراه وليت كتابة في دست ملك ... رست أركانه وسمت ذراه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه ولا تأخذ من المعلوم إلا ... حلالاً طيباً عطراً شذاه ونصحك صاحب الدست اتخذه ... شعارك فالسعادة ما تراه ثلاث يا بني بها أوصي ... فمن يأخذ بها يحمد سراه وتقوى الله رأس المال فالزم ... فما للعبد إلا من براه قلت: التزم رحمه الله فيها الراء والثالث تضمين، وهو بيت مشهور جاء في موضعه متمكناً، وتراه في هذا البيت من الرؤية، وفي الخامس من الرأي فلا يظن أنه إيطاء. وأجابه رحمه الله تعالى ولده قاضي القضاة تاج الدين عن ذلك بقوله: أتت والقلب في الغفلات ساه ... تنبه كل ساه من كراه وصية والد برشفوق ... يقوم مع ابنه فيما عراه رؤوف بابنه لو بيع مجد ... بمقدور لبادر واشتراه ألا يا أيها الرجل المفدى ... ومن فوق السماء يرى ثراه أنلت فنلت في الدنيا منالاً ... يسرك في القيامة أن تراه وقال رحمه الله تعالى في معنى قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك ... البيت، وأنشدني ذلك من لفظه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 قلبي ملكت فما به ... مرمى لواش أو رقيب قد حزت من أعشاره ... سهم المعلى والرقيب يحييه قربك إن مننت به ولو مقدار قيب يا متلفي ببعاده ... عني أما خفت الرقيب قلت: ليس لهذه القوافي خامس فيما أظن، وقد تلطف في القافية الثالثة حتى تركبت معه من كلمتين وامتزجت، وقيب لغة في قاب، وفي هذه الأبيات معنى من المعاني الأدبية، وهو مما يمتحن به الأدباء في قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك، البيت، لأن الأصمعي قال فيه ما هو باد لكل أحد، وهو أن عينيها سهمان ضربت بهما في قلبه المقتل الذي هو أعشار، أي مكسر، من قولك: برمة أعشار إذا كانت كذلك. وأما ابن كيسان فقال ما هو أدق من هذا المعنى، فقال: ضربت بسهميك اللذين هما من سهام الميسر لتملكي أعشار القلب، وهي جميع ما يخص الميسر من القداح، فالمعلى له سبعة أسهم، والرقيب له ثلاثة أسهم، فيستغرق السهمان جميع الأعشار، وهذا وإن كان دقيقاً وفيه غوص ففيه تعسف، وتأويل فيه بعد، وأما هذا الذي نظمه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فهو صريح في هذا المعنى. وكنت قد طلبت منه ما أستعين به على ترجمته لما وضعتها في تاريخي الكبير الوافي بالوفيات فكتب لي مسموعاته وأشياخه ومصنفاته، ولم يكتب شيئاً من نظمه، فكتبت إليه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 مولاي يا قاضي القضاة الذي ... أبوابه من دهرنا حرز أفدتني ترجمة لم تزل ... بحسن أقمار الدجى تهزو لبست منها حلة وشيها ... أعوزه من نظمك الطرز فكتب الجواب رحمه الله تعالى: لله مولى فضله باهر ... من كل علم عنده كنز يا واحد الدهر ومن قد علا ... منه على هام العلا الغرز تسألني النظم ومن لي به ... وعندي التقصير والعجز قبل الداعي طرساً قد سما نوراً ونقساً، جمع أفانين العلوم في شبه الوشي المرقوم، ما بين خط إذا رمقته العيون قالت: هذا خط ابن مقلة، ونظم لا يطيق حبيب أن ينكر فضله، ونثر يرى عبد الرحيم عليه طوله، صدر عمن توقل ذروة البلاغة وسنامها، وامتطى غاربها وملك زمامها، وكملها من كل علم بأكمل نصيب، ضارباً فيه بالسهم المصيب، مشمراً فيه عن ساق الجد والاجتهاد، متوقداً ذكاء مع ارتياض وارتياد، إلى من هو عن ذلك كله بمعزل، ومن قعد به قصوره إلى حضيض منزل يطلب منه شيئاً مما نظم، ولعمري لقد استسمن ذا ورم، ومن أين لي النظم والرسائل إلا بنغبه من المسائل، على تبلد خاطر وكلال قريحه، وتقسم فكر بين أمور سقيمة وصحيح، فأنى لمثلي شعر ولا شعور، أو يكون له منظوم ومنثور، غير أني مضت لي أوقات استخفني فيها إما محبة التشبه بأهل الأدب، وإما ذهول عما يحذره العقلاء من العطب، وإما حالة تعرض للنفس فتنضح بما فيها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وأقول دعها تبلغ من أمانيها، فنظمت ما يستحيا من ذكره، ويستحق أن يبالغ في ستره، ولكنك أنت الحبيب الذي لا يستر عنه معيب، أذكر لك منه حسبما أشرت نبذاً، وأقطع لك منه فلذاً. وذكر أبياتاً أوردتها في ترجمته في تاريخي الكبير، ونقلت من خطه له وأنشدنيه من لفظه: إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل ونقلت من أيضاً له: مثال عم وخال ... بقول صدق وجيه بني بأخت أخيه ... لأمه لا أبيه وذاك لا بأس فيه ... في قول كل فقيه فنجلة هو داع ... بذاك لا شك فيه وكتب إلي وقد وقع ثلج بدمشق في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وسبع مئة: نطرت إلى أشجار جلق فوقها ... ثلوج أراها كالبروق تلوح فشبهتها قضبان فضة اكتست ... وقابلها منا الغداة صبوح ومن تحتها الأوراق خضر كأنها ... زمردة تغدو بنا وتروح ومن بينها النارنج كالذهب الذي ... هواه به كل النفوس تبوح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 فقلت: لقد أخطأت تشبيهي الذي ... يعز علي المعتز وهو فصيح تشبه يبساً ذاوياً برطيبه ... وميتاً بمن فيه الحياة وروح فول صلاح الدين هذا فإنه ... إذا قال تشبيهاً أقول صحيح وبعده: أقول للسرو قد كساه ... ثلج رواء عليه نور زمرد أنت في لجين ... فقال مه إن ذا قصور تشبيه ذاو بلا حياة ... بمن له منظر نضير وبعده أيضاً: أقول للسرو قد كساه ... ثلج بدا نوره وأنهج زمرد أنت في لجين ... فقال أبهى سنا وأنهج فهل ذكي يطيق وصفي ... أريه طرق الهدى وأنهج تقول لي ذائب المعاني ... فلا تراني لذا أنهج وأنت يا واصفي بشعر ... بغير ردف سواه أنهج فكتبت أنا الجواب إليه رحمه الله تعالى يقبل الأرض ويقول: أتتني سطور كالدياجي مدادها ... وفيها المعاني كالنجوم تلوح يغني بها الشادي إذا ما حسا الطلا ... ويخلو بها عاني الهوى فيبوح فكل معانيها غريب مصنف ... كما لفظها بين الأنام فصيح ملوكية التشبيه فيما تخيلت ... كذلك تشبيه الملوك مليح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 فقابلت منها نسخة تقويه ... على كل سطر قد حوته صحيح فأعملت فكري فانثنى متقاعساً ... وعهدي به عند القريض لحوح وعاد فقيراً في زوايا أضالعي ... وما عنده في نظم ذاك فتوح ثم إن أعقله بارحته، وصبر إلى اليوم حتى رأى نشاطه لما كن عليه وجانحته، وغالطه في نظم شيء في هذه المادة، وقال: ما ضرك أن تسير جوادك في هذه الجادة، فلا بد له من العرض بين يدي مولانا قاضي القضاة أدام الله تعالى أيامه، وإغضاؤه مضمون الدرك فيما كل السوانح غزلان رامة، فانفعل لذلك بعدما استحيا وخجل، وقال وهو ما بين الجذل والوجل: الثلج يسقط فوق أوراق حوت ... نارنج بستان سبى بروائه فكأنما تلك الثلاث سرقن من ... قاضي القضاة الحسن يوم لقائه فابيض ذا كثنائه واخضر ذا ... من جوده وأنار ذا كذكائه فشكرت له هذا التخيل وعلمت أنه لطيف التحيل، وقلت: ما بك ما يعوق، فالحق ببضاعتك السوق، فإذا به قد نظم واستعمل القلم، وقال: نارنجنا في الغصون يحكي ... والثلج في بعضهن رقم خدا تبدى به عذار ... عاجله بالمشيب هم فقلت له: لا بد من الزيادة، فإن الخيرة عادة، فقال: أزيدك شيئاً من الاستعارة فإنها لقمر التشبيه داره. وقال: قد سقط الثلج فوق دوح ... نارنجها يفرح الحزينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 كورد خد وآس صدغ ... لاح به السيب ياسمينا فقلت له: حسن، ولكن التشبيه الملوكي فات وهو من أعظم الآفات فقال: كأن سقيط الثلج في الورق التي ... تضمنت النارنج عند التضرج لآلي مشيب في زمرد عارض ... تبدى على ياقوت خد مضرج فقلت: هذا كاف، فانظم في السرو بلا خلاف، فقال بعدما نضج ولم يبق فيه عرق يختلج: عاينت سروة دوحة قد أشبهت ... والثلج يسقط فوقها متوالي حسناء زفت في ملاءة مخمل ... خضراء كللها سموط لآلي فكتب هو رحمه الله تعالى الجواب إلي عن ذلك: تراقصت الأشجار عند سماعها ... قريضك واختلت كنشوان يطرب وقالت: ألم أخبرك أنك قاصر؟ ... فقلت لها: باب صحيح مجرب وركبت أنا مغلطة من مغالط المنطق، ونظمته وكتبت به إليه وهو: أيا قاضي القضاة بقيت ذخراً ... لتشفي ما يعالجه الضمير فأنت إمامنا في كل فن ... ومثلك لا تجيء به الدهور كأنك للغوامض قطب فهم ... عليك غدت دقائقها تدور بلغت بالاجتهاد إلى مدى لا ... يخونك في معارفه فتور وبابك عاصم من كل جور ... وعلمك نافع ولنا كثير وقلنا أنت شمس علا وعلم ... فكيف بنوك كلهم بدور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 إليك المشتكى من سوء فهم ... يعسر إذ يسير له اليسير بليت بفكرة قد أتعبتني ... تحور إلي كسلى إذ تخور مقدمتان سلمتا يقيناً ... ولكن أنتجا ما لا يصير تقول البدر في فلك صغير ... وذلك في كبير يستدير فيلزم أن بدر التم ثاو ... بجانحة الكبير وذاك زور فأوضح ما تقاعس عنه فهمي ... فأنت بحله طب خبير وفهمك في الورى كضياء شمس ... وعلمك في الأنام هدى ونور فكتب الجواب في ليلته وفرع عليه ثلاثة أجوبة، وهو: سؤالك أيها الحبر الكبير ... سمت في حسن هالته البدور وهمتك العلية قد تعالت ... فدون طلابها الفلك الأثير ونظمك فوق كل النظم عال ... على هذا الزمان له وفور فلو سمحت بك الأيام قدماً ... لقدمك الجحا جحة الصدور سألت وأنت أذكى الناس قلباً ... وعندك كل ذي عسر يسير وقلت المشتكى من سوء فهم ... وحاشى إن فهمك مستطير وفكرتك الصحيحة لن تجارى ... ولم أرها تحور ولا تخور ولا كسل بها كلا وأنى ... ودون نشاط أولها السعير فهاك جواب ما قد سلت عنه ... وأنت بما تضمنه خبير مقدمتان شرطهما اتحاد ... بأوسط إن يفت فات السرور وهذا منه فالانتاج عقم ... وأعقبه عن التصديق زور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وذلك أن قولك في صغير ... هو المحمول ليس هو الصغير وفي الكبرى هو الموضوع فاعلم ... فمن ذياك للشرط الثبور وإن رمت التوصل باجتلاب ... مقدمة بها يقع العثور على تحقيق مظروف وظرف ... فمشترك عن المعنى قصير فمعنى البدر في فلك صغير ... يخالف ما تضمنه الكبير فلم يحصل لشرطهما وجود ... لذلك أنتجا ما لا يصير وفي التحقيق لا إنتاج لكن ... لأجلك قلت قولك لي عذير وأما إن أردت عموم معنى ... وذلك فيهما معنى شهير فينتج آمناً من كل شك ... وليس عليه إيراد يصير فذاك جواب ما قد سلت يا من ... غدا في العلم ليس له نظير وما عنه تقاعس منك فهم ... وكيف ومنك تنل الصخور فأنت البدر حسناً وانتقالاً ... بأفلاك مضاعفة تسير لحامله السريع وتالييه ... دليل أن خالقه قدير يرى ذو الهيئة النحرير فيها ... عجائب ليس يحويها الضمير فسبحان الذي أنشأه بر ... رحيم قاهر رب غفور وصلى الله رب على نبي ... هو الهادي به قد تم نور وكتبت أنا إليه سؤالاً من علم المناظر: قاضي قضاة الشام يا من له ... فوائد كالديم الهاطلة ومن له معرفة قد غدت ... لكل علم في الورى شاملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 ومن إذا حل بنا مشكل ... يلقا بالأجوبة الفاصلة وهو إمام الناس في فنهم ... وفي فنون عنده حاصله من كذب الحس فما عنده ... بينة تعضده عادله لكن هذا القطر في جوه ... غدا خطوطاً للثرى نازله كذلك النقطة فوق الرحى ... تبصرها دائرة جائله فبين العلة في صدقنا ... أولا فدعواكم إذا باطله وابق مدى الأيام في نعمة ... بدورها مشرقة كالمة فكتب هو رحمه الله الجواب إلي مختصراً: علتها السرعة مع وهمنا ... ومن خيال لم يزل خاتلة يقضي بها الوهم ويأبى الحجى ... وهو الذي أحكامه عادلة والحس مقصور على رؤية ... مبصرة للصورة الحاصلة وكتب أيضاً رحمه الله تعالى جواباً مطولاً في ثلاثة وأربعين بيتاً وقد أثبتها بكمالها في كتابي ألحان السواجع بين البادي والمراجع، وقال لي يوماً: نظمت بيتاً مفرداً من ثماني عشرة سنة، وزدت الآن عليه بيتاً في هذه السنة، وكانت سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وهما: لعمرك إن لي نفساً تسامى ... الى ما لم ينل دارا بن دارا فمن هذا أرى الدنيا هباء ... ولا أرضى سوى الفردوس دارا فأعجباني، وقلت في مادتهما، إلا أن بيتيه رحمه الله تعالى أحسن وأصنع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 قولي: لعمرك إن للباقي التفاتي ... ومالي نحو ما يغني طريقه أرى الدنيا وما فيها مجازاً ... وما عندي سوى الأخرى حقيقه وحصل له في وقت ما شرى، فكتب إليه جمال الدين محمد بن نباتة المصري: يفديك يا قاضي القضاة عليهم ... من كل داء تشتكي كل الورى شهد الشرى لك حين زارك بالتقى ... والصبر والصدقات لما خبرا لا تعدم المدح الروائح سيداً ... هذي خلائقها بتخبير الشرى فلما حضرت عنده أراني إياها، فلا وقفت عليها علمت ما أراده من خطأ التورية مع الناظم فمضيت من عنده وعدت إليه وقد كتبت أنا إليه بعد ذلك: لما اشتكى قاضي القضاة فديته ... من كل سوء يشتكي منه الورى عاينته لأذى الشرى متصبراً ... فعلمت حقاً أنه أسد الشرى وربحت توريتي التي قعدت وما ... خسرت ولم أنطق بتخيير الشرى فأعجبه ذلك وجبر على عادته معي، وفساد التورية مع الناظم الأول هو أن الشرى، بفتح الشين، مقصور؛ وهو المرض المعروف عند الأطباء بالماشرى، وهو الخراج الصغار التي تتولد من مادة دموية لذاعة، والشِرى بكسر الشين، مصدر شرت شرى، ففسدت توريته. ووصل الخبر مع البريد من مصر بوفاته قدس الله روحه في يوم الجمعة سابع جمادى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 الآخرة سنة ست وخمسين، فكتبت مرثية إلى ابنه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، وأنشدت في صبيحة العزاء بالعادلية، وهي: أي طود من الشريعة مالا ... زعزعت ركنه المنون فزالا أي ظل قد قلصته المنايا ... حين أعيا على الملوك انتقالا أي بحر قد فاض بالعلم حتى ... كان منه بحر البسيطة آلا أي حبر مضى وقد كان بحراً ... فاض للواردين عذباً زلالا أي شمس قد كورت في ضريح ... ثم أبقت بدراً يضي وهلالا مات قاضي القضاة من كان يرقى ... رتب الاجتهاد حالاً فحالا مات من فضل علمه طبق الأر ... مسيراً وما تشكى كلالاً كأن الشمس في العلوم إذا ما ... أشرقت أصبح الأنام ذبالا كان كل الأنام من قبل ذا العص؟ ... ر عليه في كل علم عيالا ؟ كان فرد الوجود في الدهر يزهى ... بمعالي أهل العلوم جمالا فمضوا قبله وكان ختاماً ... بعدهم فاعتدى الزمان وصالا كملت ذاته بأوصاف فضل ... علم البدر في الدياجي الكمالا وأنام الأنام في مهد عدل ... شمل الخلق يمنة وشمالا لمن بعده نشيد رحاباً ... ولمن بعده نشد رحالا وهو إن رمت مثله في علاه ... لم تجد في السؤال عنه سوى لا أحسن الله للأنام عزاهم ... فهم بالمصاب فيه ثكالى ومصاب السبكي قد سبك القل؟ ... ب وأودى منا الجلود انتحالا خزرجي الأصول لو فاخر النج؟ ... م علا مجده عليه وطالا خلق كالنسيم مر على الرو ... ض سحيراً وعرفه قد توالى ويد جودها يفوق الغوادي ... تلك ماء همت وذا صب مالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 أيها الذاهب الذي حين ولى ... صار منه عز الدموع مذالا لو أفاد الفداء شخصاً لجدنا ... بنفوس على الفدا تتغالى أنفس طالما تنفس عنها ... منك كرب يكظها واستحالا أنت بلغتها المنى في أمان ... فاستفادت غنى غزت منالا من لنا إن دجت شكوك شكونا ... من أذاها في الذهن داء عضالا كنت تجلو ظلامها ببيان ... حل من عقلنا الأسير عقالا من يعيد الفتوى إلى كل قطر ... منه جاءت جوابها يتلالا قد صببت الصواب فيها وأهدي؟ ... ت هداها وقد محوت المحالا فيقول الورى إذا ما رأوها ... هكذا هكذا وإلا فلا لا فليقل من يشاً ما شاء إن المو ... ت أردى الغضنفر الرئبالا وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا قد تقضى قاضي القضاة تقي ال؟ ... دين سبحان من يزيل الجبالا فالدراري من بعده كاسفات ... وإذا ما بدت تراها خجالى كان طوداً في علمه مشمخراً ... مد في الناس من بنيه ظلالا فبهاء بها ونعمت وتاج ... فوق فرق العلياء راق اعتدالا هو قاضي القضاة صان حماه ... من عوادي الزمان ربي تعالى وهداه للحكم في كل يوم ... فيه يرعى الأيتام والأطفالا وحباه الصبر الجميل ووفا ... هـ ثواباً يهمي سحابا ثقالا ليبيد العدى جلاداً ويغدو ... فيفيد الندى ويبدي الجدالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وكتبت بعد ذلك إلى ولده الشيخ الإمام بهاء الدين أحمد بمصر أعزيه: ؟ وهكذا جيشه المعهود نصرته ... على أعاديه بعد اليوم ينهزم أهكذا جبل الإسلام ينهدم ... وهكذا سيفه المسلول ينثلم وهكذا مجده الراسي قواعده ... تنحط منه أعاليه وتنحطم وهكذا البدر في أعلى منازله ... وسعده قد محت أنواره الظلم وهكذا البحر يمشي وهو ذو يبس ... من بعد ما كان في عرنينه شمم وهكذا كل ميت حل في جدث ... بكى له الفاقدان العلم والكرم وقد نعى العدل منه سيرة كرمت ... يحفها الزاهران الحلم والنعم والورق تملي لنا في وصفه خطباً ... يقلها المنبران البان والسلم ولو أراد الأعادي كتمها اعترفت ... بفضلها الشاهدان العرب والعجم قل للعدى إن جهلتم قدر رتبته ... فالبيت يعرفه والحل والحرم والليل والذكر والمحراب شاهده ... والشرع والحكم والتصنيف والقلم ومن يقل إنه يدري مكانته ... فما خفي عنهم أضعاف ما علموا فكم كماة من النظار قد مهروا ... في البحث جاؤوا بما ظنوا وما زعموا فكر فيهم بلا فكر وجد لهم ... جداله ثم لما سلموا سلموا ؟ وقصروا عن مبادي غاية حصلت ... له وأين عقاب الجو والرخم ولوا فراراً وقد ألقوا سلاحهم ... وهم أناس على التحقيق قد وهموا عليه هزمهم في كل معركة ... وما عليه بهم عار إذا انهزموا شكوا فتوراً رأوه في بصائرهم ... ولو ألموا به من قبل ما ألموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 ما الناس إلا سواء في بيوتهم ... ما الشأن في أمرهم إلا إذا التحموا كل يرى أنه راح منفرداً ... ليث وأقلامه من حوله أجم فإن تضمهم وقت الجدال وغى ... فغندها تظهر الأقدار والقيم تزايد الحلم من زاكي سجيته ... فلم يكن من عداه قط ينتقم موفق الحكم والفتوى على رشد ... ما ند منه على ما قد مضى ندم كم بات ينصر مظلوماً رآه وقد ... أودى وجانبه بالضعف يهتضم كان ابن تيمية بالفضل معترفاً ... وهو الألد الذي في بحثه خصم يثني عليه وقد أبدى بفكرته ... أوهامه فيراها وهو يبتسم وما أقر لمخلوق سواه وفي ... زمانه كل حبر علمه علم قاضي القضاة تقي الدين حين قضى ... غدا أولو العلم لم يهناهم حلم وكيف يهنأ عيش بعده وبه ... قد كان شمل الهدى بالحق يلتئم فاليوم أقفر ربع المكرمات وقد ... شط المزار وأقوت دونها الخيم مات الذي كان إن تسأله غامضة ... خلاك من حلها في العلم تحتكم يا سائراً فوق أعناق الرجال وكم ... سعت له في المعالي والهدى قدم خدمت علمك وقتاً والأنام إلى ... يوم القيامة فيما قلته خدم تركت فينا تصانيفاً تخاطبنا ... فأنت حي ولما تنشر الرمم ما مثل سيرتك المثلى إذا ذكرت ... بالحمد تبدو وبالتقريظ تختم أقمت في مصر والأخبار نافحة ... طيباً تسير بها الوخادة الرسم ما كنت إلا إمام الناس قاطبة ... في النقل والعقل تقضي كلما اختصموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 وكل مشكلة في الدين معضلة ... يضيق فيها على سلاكها اللقم تحل شبهتها من حيثما عرضت ... بالحق إذ لست في الترجيح تتهم مطهر الذات من ريب تضيء لنا ... منك العوارف والأخلاق والشيم يكاد من رقة فيه يهب صباً ... هذا وقد برحت أحداثه الحطم من أجل ذا غدت أيامه غرراً ... بيضاً ولم يقض فيها أن يراق دم كف على عدد الأنفاس في هبة ال؟ ... أموال ما سامها من بذلها الديم يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم لكن صبرنا على التفريق وهو أذى ... وما لجرح إذا أرضاكم ألم مهما نسيت فما أنسيت برك بي ... عند الظما ونداك البارد الشبم وفرط جبرك إذ تثنيني علي بما ... لا أستحق وذاك الحفل مزدحم حتى أغالط نفسي في حقيقة ما ... أدريه منها وفي علمي بها أهم فعال من طبع الباري سجيته ... على مكارم منها الناس قد حرموا وكاد دهري لياليه تسالمني ... وكاد يصرف عني الشيب والهرم والله لا فترت مني الشفاه عن الد ... عا ولا افتر لي من بعد ذاك فم فاصبر أبا حامد فالناس قد فجعوا ... فيمن مضى لم تخصص أنت دونهم تشارك الناس في هذا العزاء كما ... نعمى أياديه فيها الناس تقتسم وانظر وقس يا إمام الناس كلهم ... فإن سلمت فكل الناس قد سلموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 هذي المصيبة بالإسلام قد نزلت ... فانظر عرا الدين منها كيف تنفصم ما مثل من قد مضى يبكى عليه ولا ... تجري على وجنتيك الأدمع السجم فإنه في جنان الخلد في دعة ... لكفه الحور والولدان تستلم فقدس الله ذاك الروح منه ولا ... أراه يوم اللقا والحشر ما يصم يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي أنكى، والحادث الذي ما يحيك في خلد ذي جلد ولا يحكى، والمصاب الذي عقد المناحات له بالمناجاة، فوقف واستوقف له، وبكى واستبكى: ولو يغني البكا أو رد ميتاً ... بكيت فلم يساجلني الغمام فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من فقد إمامه، وفجع بمن كان يهديه إلى رشده ويريه طرق السلامة، وأعدمته الأيام حبراً لم يلتفت معه إلى الدراري إذا سمع كلامه، وغيضت منه بحراً كان يقذف به من دره فذه وتوامه، وأخذت منه فريد عصره فما يدري ما يبكيه منه، أعلمه أم بركته أم لطفه أم جوده الذي فضح الغمامة، وابتزت منه شيخ الإسلام الذي ما يخلفه الوجود إلى يوم القيامة. عمت فواضله فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كلمة تقولها الملوك لهذه المصيبة العظمى والرزية التي ما يجد الناس لها رحمى، ذهب والله من كان جمال الوجود، وإمام الأئمة وكعبة الجود، ومن كان بقاؤه بين ظهراني الناس رحمه، ومن بينه في العلوم وبين علو النجوم زحمه، ومن كان إذا كتب اهتزت من الطرب له الأقلام، وخضعت لأوامره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 السيوف، وسكنت خافقات الأعلام، وتملت بعلومه وتصانيفه الشريعة، فلما مات قال الناس أحسن الله عزاء الإسلام: غدا طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر ويقسم المملوك أن مولانا وأخاه أدام الله أيامهما ما انفردا بهذه الرزية، ولا ابتليا دون الناس بهذه البلية، يا مولانا هذا ركن الإسلام قد انهدم، وهذا بحر الإيمان قد ارتدم فمصابه قد عم وما خص، وتحيف جناح الصبر وما حص، فالله يعين على ما أبلى ويمسك رمق القلوب فإنها عريت من جبة الصبر وما تطيق من الأحزان نبلاً، وما بقي غير الأخذ بالسنة في الصبر، والتمسك بآثار السلف الصالح ممن أودع أحبابه القبر: أنت يا فوق أن تعزى عن الأحباب فوق الذي يعزيك عقلاً وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... اك قال الذي له قلت قبلا ويقسم المملوك ثانياً أن فيكما خلفاً باقياً، وكلاكما، كلاكما الله، نير أصبح في درجات من درج السعد راقياً، وما السلوة إلا بهذا، وإلا كانت قلوب الأولياء قد أمست جذاذاً، فالله تعالى يمتع مصر والشام منكما بمطالع النيرين، ويديم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 للإسلام منكما من يحيي له سيرة العمرين، وقد جاء من مولانا قاضي القضاة تاج الدين ما نور الظلم، وبور أرباب السيف والقلم. وقال الناس ليمن أيامه: " ومن يشابه أباه فما ظلم ". فمولانا يمده بالخاطر ولا ينسه من دعائه، فإنه في الأرض مثل الغمام الماطر، أنهي ذلك، والله الموفق بمنه وكرمه؛ إن شاء الله تعالى. علي بن عبد الكريم ابن طرخان بن تقي، الشيخ الإمام العالم علاء الدين أبو الحسن بن مهذب الدين الحموي الصفدي، وكيل بيت المال بصفد، المعروف بعلاء الدين الكحال. كان شيخاً مليح الشيبة، ظاهر الهيبة، طاهر الحضرة والغيبة، أحمر المحيا، قد طال ريا وطاب ريا، له مطالعة واشتغال، وعنده على الطبة حنو واشتمال، جمع مجاميع حديثيه، وألف مؤلفات أدبية. ولم يزل على حاله إلى أن كحل التراب أجفان الكحال، وغير بطن الأرض وجهه النير فاستحال. وتوفي رحمه الله تعالى في حدود العشرين وسبع مئة، وكان قد تعدى السبعين. رأيته بصفد مرات عديدة، وكان يركب فرسه ويقف على الخضري واللحام والخباز وغيرهم، ويشتري ذلك بنفسه ويخرج الفلوس من منديله وهو بعمة كبيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 وعذبة طويلة، إلا أنه كان خيراً لا شر فيه، ولا أعرف في صفد وكيل بيت مال غيره إلى أن مات. وصنف كثيراً، من ذلك كتاب القانون في أمراض العيون، وكتاب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية وكتاب مطالع النجوم في شرف العلماء والعلوم. علي بن عبد الكريم بن أبي العدائر العنبري ظهير الدين. كان من الكتاب الكبار المعروفين، وله نظم، وهو خال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. توفي في المحرم سنة اثنتين وسبع مئة ببعلبك. علي بن عبد الملك الأمير علاء الدين بن الملك القاهر بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة ست وسبع مئة. وكان يوماً مطيراً، ودفن بتربة والده، وعمل عزاؤه بكرة الأحد بتربة أم الصالح. علي بن عبد المؤمن بن عبد العزيز المسند نور الدين الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 سمع من جده لأبيه، ومن جده لأمه إسماعيل بن أبي اليسر، وأجاز لي بالقاهرة بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. علي بن عبد النصير ابن قاضي القضاة نور الدين أبو الحسن المالكي. كان قيماً بمذهب مالك، عالماً بما فيه من الغوامض الدقيقة والمسالك، حج مرات وحج من ناظره فقطعه كرات، وكان متقشفاً، ظاهر التخلي عن الدنيا كأنه منها على شفا، يتردد على أصحابه ويتعهد أماكن لداته وأترابه، توجه إلى مصر آخر مرة، وتعرف بالأمير سيف الدين شيخو فأقسم أنه ما رأى مثله في عمره، وراج عنده لما راح، ونزل محادثته منزلة كأس الراح، فولاه قضاء القضاة بالديار المصرية ولبس التشريف لذلك، وفرح به أصحابه وقالوا: هذا مالك مذهب مالك. فأقام على ذلك قليلاً، ثم اتخذ إلى ربه سبيلاً. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبع مئة ومولده .... وكان قد ورد إلى دمشق صحبة قاضي القضاة فخر الدين أحمد بن سلامة المالكي، وناب له في دمشق، ثم إنه أقام بعده في دمشق، وكان بيده تصدير في الجامع الأموي، ولما توجه إلى مصر آخراً لازم الأمير سيف الدين شيخو فولاه القضاء في يوم الاثنين ثاني صفر سنة ست وخمسين وسبع مئة، وتوفي في التاريخ المذكور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 فأقام في الحكم اثنين وسبعين يوماً، مرض منها مدة خمسين يوماً أو أقل، وما كان أقرب المأتم من العرس. علي بن عبد الواحد بن الخضر الرئيس علاء الدين بن السابق - بالسين المهملة وبعد الألف باء موحدة وقاف - الحلبي، نزيل دمشق. كان شيخاً جليلاً متميزاً، من رؤساء الدولة الناصرية يوسف. خدم في الجهات وولي نظر البيمارستان، ومات وهو ناظر العشر. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وسيأتي بعده ذكر علاء الدين بن السايق، بالياء آخر الحروف ولكن ذاك علي بن عثمان بن السايق. علي بن عبد الوهاب ابن علي بن خلف بن بدر علاء الدين ابن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز الشافعي. كان مقيماً بمصر فنزح عنها هارباً من الشجاعي إلى أن وصل حلب وبلادها، وأقام في حماة مدة ثم حضر إلى دمشق وسعى أخوه القاضي تقي الدين في ترتيبه ناظراً بديوان الأمير حسام الدين طرنطاي بدمشق رفيقاً لبدر الدين المسعودي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وحكى المسعودي قال: لما باشر علاء الدين عندنا في الديوان لم يكن له من الملبوس إلا ما هو عليه، وقد أخلق ولم يكن معه شيء، فأرسلت إليه جملة دراهم وقماشاً غير مفصل من مالي، وبحث فلم يجدني تعرضت إلى درهم واحد من مال مخدومي، قال وذكرني بكل سوء. ولما تولى الشجاعي نيابة دمشق حضر عنده، وتوصل إليه بما يلائمه، وولاه نظر ديوانه، وبعد ذلك توجه إلى مصر، وتولى الحسبة بها. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. قال ابن الصقاعي: وكان فيه قلق وثلب للناس ومن شعره: حماة غزالة البلدان أضحت ... لها من نهر عاصيها عيون وقلعتها لها جيد بديع ... ومن سود التلول لها قرون قلت: أخذه من قول .... علي بن عتيق ابن عبد الرحمن بن علي الشيخ الإمام العالم العلامة المفنن المحقق المدقق أبو الحسن المغربي القابسي المعروف بابن الصياد. ورد إلى الشام وقدم علينا إلى صفد في سنة ست وعشرين وسبع مئة وقرأت عليه المقامات الحريرية كاملة، وقطعة من ديوان أبي تمام، وديوان أبي الطيب، وبعض كتاب أسرار العربية لابن الأنباري، وبعض درة الغواص للحريري، وكتاب العمدة في الأحكام، وبعض الحماسة لأبي تمام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 وبعض المقامات اللزومية التي للسرقسطي، وذكرت إسناده لكل نسخة منها في النسخة المقروءة عليه. ثم إنني اجتمعت به في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومن هناك عاد إلى بلاده وكان آخر العهد به. إلا أنه كان أحد الأشياخ الذين أخذت عنهم، واقتطفت در الفوائد منهم، كان عالماً بالعربية، والمواد الأدبية، وكان له يد في الأصول فقهاً وديناً، وحاصله في مذهب الإمام مالك متوفر، كأنه ليث ولج منه عريناً، وأما التفسير فكان فيه علامة، ونهجه فيه واضح الاستقامة، وأما أسماء الرجال والسيرة النبوية فكان في ذلك قد بلغ الغاية، وأطل فيه على النهاية، وكان مع ذلك فقيراً، وورد إلى هذه الديار فلم يكن فيها أثيراً. وعاد إلى بلاده بخفي حنين، مثقل الجوانح بالأحزان، فارغ اليدين، وكان وجهه يتوقد حمرة، ويظن به أن قد شرب كأس خمره. قال لي ما افتصدت عمري. وكان ينظم نظماً عجيباً، أنشدني من لفظه لنفسه بالقاهرة: ما جاءك الوغد إلا كنت تكرمه ... ولا أتيتك إلا كنت منحرفا كذلك الكلب لا يعبا بجوهرة ... ومن سجيته أن يألف الجيفا وأنشدني من لفظه لنفسه: إنني من أرض فاسٍ ... كنت فيها كالقمر فخرجنا فكسفنا ... هكذا جري القدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 علي بن عثمان ابن يوسف بن عبد الوهاب الرئيس علاء الدين بن العدل، شرف الدين الدمشقي التغلبي الكاتب، ابن السايق، بالسين المهملة وبعد الألف ياء آخر الحروف وقاف، وقد تقدم ذكر ابن السابق، بالباء الموحدة، وكلاهما علي، ووفاتهما قريبة. كان علاء الدين شيخاً له جلالة، وله مروءة وأصالة، يكتب خطاً بديعاً، ويوشي به الطرس فيخال روضاً مريعاً، نسخ كثيراً بخطه، ووشع بقلمه حاشية مرطه، وله أدب ونظم متوسط الرتبة، وإذا جلاه عروساً قوبل بالخطبة. ولم يزل على حاله إلى أن حصل له صمم، ولمن يخاطبه ألم، وكان يكتب له في الهواء المراد فيفهم، وما يحوج الذي يخاطبه إلى أن يتكلم، أو أن يكتب له في الأرض ما يراد، فيعرف ذلك بالاقتصار والاقتصاد. ثم إن الموت ساق ابن السايق، وقطع من دناه العلائق. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ست مئة. وروى عن الرشيد بن مسلمة كان قد تخلى عن الناس وانقطع. علي بن عثمان بن عبد الواحد علاء الدين المعروف بالطيوري، الحاسب. كان رجلاً جيداً يشهد في القيمة، ويعلم الناس الحساب، وكان له مكتب وحلقة بالجامع الأموي. وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 علي بن عثمان الشيخ العادل المقرئ الفاضل نور الدين أبو الحسن بن الشيخ المقرئ فخر الدين أبي عمرو بن الشيخ الصالح نفيس الدين بن عبد الرحمن بن الشيخ الصالح زهري بن فارس بن قضاعة بن مدلج، ينتهي إلى مذحج بن عبد مناف القرشي، المصري الفرسيسي - بالفاء مفتوحة وراء ساكنة وسينين مهملتين بينهما ياء آخر الحروف - الشافعي. سمع من زينب بنت سليمان الإسعردي من الخلعيات، وكان متصدراً بالجامع الحاكمي بالقاهرة، وفيه خير وصلاح وانجماع عن الناس. وقرأ القراءات على نور الدين الشطنوفي. ولم يحدث. توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. علي بن عثمان بن محاسن الفقيه العالم المقرئ المحدث علاء الدين أبو الحسن الدمشقي الشاغوري الشافعي ابن الخراط، معيد الباذرائية، ونائب الخطابة. سمع من ابن علان، والقاسم الإربلي، والفخر علي. وأكثر، وقرأ بنفسه، وسمع المسند كله والكتب المطولة، وتلا بالسبع على برهان الدين الإسكندري، وشارك في الفضائل، وظهرت عليه للخير والصلاح دلائل. وكتب بخطه كثيراً واختصر، وجمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 في ذلك وحشر، اختصر تفسير ابن جرير بخطه، ويشنف أذن قرطاسه بقرطه، وكان فيه انجماع، وبعد عن الشر وامتناع، مع ملازمة الجماعة، والإمامة بالناس على أجمل طاعة. ولم يزل على حاله إلى أن ركب نعشه ومحا الدهر من الكون نقشه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة. قال شيخنا الذهبي: سمعنا منه وسمع مني. علي بن عثمان بن إبراهيم ابن مصطفى، الشيخ الإمام الفاضل المفنن علاء الدين قاضي القضاة بالديار المصرية، الحنفي، ابن التركماني، تقدم ذكر والده الشيخ فخر الدين، وذكر أخيه الشيخ تاج الدين أحمد. اشتغل هذا الشيخ علاء الدين وأفنى في ذلك عمره، واجتمع بمن أخذ عنه زمرة بعد زمرة، وكتب ودأب وصنف في غير ما فن وأتى فيه بالعجب. وجمع المجاميع المفيدة، ونزل من العلوم بالقصور المشيدة. وكان هو وأخوه في سماء الديار المصرية قمرين، وفي جنة رياضها نهرين، ولكن أفل أخوه تاج الدين قبله، واقتضى عطف الدهر لهذا بالتراخي والمهلة، فتولى قضاء القضاة بالديار المصرية، ونال من ذلك سؤله ورضاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 ولم يزل على حاله إلى أن غدت به أم حبو كرى، ونقلته من منصبه العالي إلى تحت الثرى. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة خمسين وسبع مئة. ومولده في شهور سنة ثلاث وثمانين وست مئة. وكانت ولايته القضاء بالديار المصرية في شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولبس تشريفه من قلعة الجبل، ونزل فلم يشعر به قاضي القضاة زين الدين البسطامي إلا ودخل عليه في تلك الصورة فبهت. ومن تصانيف قاضي القضاة علاء الدين ابن التركماني بهجة الأريب لما في الكتاب العزيز من الغريب، والمنتخب في علوم الحديث، وكتاب المؤتلف والمختلف، وكتاب في الضعفاء، والمتروكين، وكتاب الرد على الحافظ البيهقي، ولم يكمل، مختصر المحصل في علم الكلام مقدمة في أصول الفقه الكفاية في مختصر الهداية مختصر رسالة القشيري. وشرع في كتب كثيرة وفي مقدمات في العلوم ولم تكمل. ولما توفي رحمه الله تعالى تولى ولده قاضي القضاة جمال الدين عبد الله مكانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 وله من قصيدة كتبها إلى الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار: إذا شغل البرية فيك فاها ... فكل عنك بالخيرات فاها فإنك في الشبيبة والمبادي ... بلغت من الفضائل منتهاها وحزت جميع أنواع المعالي ... وفزت بها وجزت إلى مداها وصمت عن الحرام على اقتدار ... وصنت النفس عنه في صباها وملت بها إلى عمل وعلم ... فأضحى ذا الورى حقاً وراها فلا برح الوجود لها مطيعاً ... ولا زال العدا أبداً فداها علي بن عثمان بن أحمد ابن هبة الله بن أحمد بن عقيل الحكيم، الفاضل بهاء الدين أبو الحسن القيسي المصري، المعروف بابن أبي الحوافر. سمع من النجيب عبد اللطيف، والشريف العماد، وإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب المنقدي، والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، ومحمد بن إبراهيم بن رسلان الكلي، وغيرهم. وسمع من قطب الدين القسطلاني، وابن الأنماطي، وحدث. كان طبيباً فاضلاً حسن المعالجة، وبيته معروف ومشهور. وكان يكتب خطاً حسناً. توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 علي بن علي ابن أبي الحسن الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري. كان شيخاً مشهوراً عند الناس مكرماً معظماً، له حرمة عند الدولة ووجاهة. توفي رحمه الله تعالى في عشري جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسع مئة بقرية بسر من عمل زرع، وصلي عليه بجامع دمشق غائباً. ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة. وتوفي والده سنة خمس وأربعين وهو طفل صغير. علي بن علي القاضي بهاء الدين بن أبي سوادة، كاتب سر حلب، تقدم ذكره في حرف السين. علي بن عمر بن أبي بكر الشيخ الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن الواني بن الصلاح المصري الصوفي. سمع من ابن رواج أربعين الثقفي، ومن السبط أربعين السلفي وجزء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 ابن عيينة والسابع من أمالي المحاملي، والعاشر من الثقفيات. وسمع صحيح مسلم من المرسي والبكري، وحدث به خمس مرات، وسمع من يوسف الساوي. كان شيخاً من أهل الصلاح وأرباب الخير والفلاح، سهل القياد لمن يقصد سماعه، مطيعاً لمن حاول منه انتفاعه، أكثر المصريون عنه وأخذوا كثيراً من الرواية منه. تفرد في عصره وتجرد سيفه الماضي في مصره، فالحق الصغار بأكابدهم، وجمعهم بالرواية عنه يغابدهم. وكان قد أضر بأخرة، وعولج فأبصر، وطول به عمده فما قصر. ولم يزل على حاله إلى أن رأى الواني من سكرات الموت ألوانا، وترك مجاج الحياة مجاناً. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة. وهو آخر من روى حديث السلفي بالسماع المتصل. علي بن عمر بن أحمد بن عمر ابن أبي بكر بن عبد الله بن سعد، الصدر العدل الكبير الشروطي بهاء الدين بن العز المقدسي الأنصاري. سمع من ابن عبد الدايم، وعمر بن محمد الكرماني، وغيرهما. كانت له دربة كبيرة بالشروط ومعرفة تامة بما هو باد إليها منوط، يكتب خطاً آنق من الحدائق، وأنقى من محاسن الغيد العواتق. وعاش عمراً عامر الربوع، وأقام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 يمد له حبل الدهر وهو يبوع، ومتعة الله بحواسه لم يتغير فيها بضره ولا سمعه ولا نقص حرصه ولا جمعه. ولم يزل على حاله إلى أن انتبه له الدهر من سنته، وأمسكه في سنته. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء رابع عشر المحرم سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده في سنة ستين وست مئة. وكان يستخصر أسماء الناس وتواريخهم عجباً في ذلك. وعاش هذه المدة إلى آخر وقت وهو يقرأ الخطوط الدقيقة. وكان قد شهد على قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان ومن بعده من القضاة إلى آخر وقت. قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: إذا أشكلت علي قراءة كتاب امحى خطه أدفعه إليه فيقرأه بلا كلفة. وله مشيخة حدث بها، واجتمعت به غير مرة وكان يحضر إلى عندي وأملي عليه ما يكتبه من الأصدقة، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وفي سنة ثلاثين أيضاً بخطه. علي بن عمر بن عبد الله ابن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي الأصل، الآباري، الشيخ الصالح علاء الدين أبو الحسن بن الخطيب نجيب الدين بن الخطيب محب الدين بن الخطيب الزاهد بقية السلف أبي حفص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 سمع من جده لأبيه الخطيب عماد الدين داود وأخويه الضياء يوسف الموفق محمد، وهم أعمام والده، ومن النجيب نصر الله بن الصفار المحدث. حدث وسمع منه الطلبة. مرض آخر عمره مدة، وضعف وتغيرت أحواله، وانقطع بالكلية. وكان يؤذن ببيت الآبار. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة خامس شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة. علي بن عيسى ابن سليمان بن رمضان بن أبي الكرم، الشيخ الرئيس الكاتب الفاضل المعمر بهاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الفقيه ضياء الدين ناظر الأوقاف، وصهر الوزير بهاء الدين بن حنا، التغلبي المصري الشافعي، ابن القيم. سمع من الفخر الفارسي، وعبد العزيز بن باقا وسبط السلفي، وتفرد مدة عن الفارسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 وكان فيه قوة، وهمة مرجوه، يركب الخيل ويتصرف في مصالحه، ويسعى في مناجحه. وعنده دين واف، وخير كاف، ولطف مع من يلقاه، وتواضع وهو في أعلى مرقاه. ولم يزل على حاله إلى أن آن انصرام حبله، وحان انصراف حبله. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري القعدة سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة. وسمع منه الدمياطي، والحارثي، وشيخنا ابن سيد الناس، وابن حبيب، وشيخنا العلامة قاضي القضاة السبكي، والواني، والنور الهاشمي، وابن سامة، وابن المهندس، والشيخ رافع، وولده الشيخ تقي الدين حضوراً، وابن الفخر، وابن خلف. وقرأ عليه شيخنا الذهبي الأول من عوالي ابن عيينة للرئيس الثقفي. وكان يركب الخيل، ويقوم لكل من يدخل عليه، ويمشي في أموره. وكان ناظر الأحباس. وولي أمر التركة الظاهرية. وصاهر الصاحب بهاء الدين بن حنا. علي بن عيسى بن المظفر ابن إلياس ابن الشيرجي الدمشقي. حدث عن ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وطائفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وأجاز له الكمال الضرير، والرشيد بن العطار، وآخرون. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة أربعين وسبع مئة. عن ثمان وثمانين سنة. وكان يدعى بهاء الدين. علي بن عيسى بن داود ابن شيركوه الأمير علاء الدين بن الملك المعظم بن الملك الزاهر، مجير الدين ابن أسد الدين. كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، أقام بها مدة، ثم إنه تولى نيابة حمص بعد الأمير ناصر الدين محمد بن ألاقوش. جاء إلها في .... سنة ست وخمسين وسبع مئة. فأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وخمسين وسبع مئة. وكانت وفاته بحمص في عصر هذا النهار. وفي بكرة هذا النهار توفي ابن عمه الأمير أسد الدين أبو بكر بن الأوحد بدمشق. وكان ذلك عجيباً. وكان بيد الأمير علاء الدين نظر كثير من أوقاف البيت الأيوبي، وبيده أيضاً نظر المدرسة التقوية والغور التقوي بدمشق نيابة عن زوجته، لأنه انتقل ذلك إليها بشرط الواقف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 علي بن أبي القاسم ابن محمد بن عثمان بن محمد الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن بن الشيخ صفي الدين البصروي الحنفي قاضي دمشق. سمع من ابن عبد الدائم، والصفي إسماعيل بن الدرجي، والقاضي ابن عطاء، وغيرهم. وحج غير مرة، وحدث. اشتغل على والده، ولازم القاضي شمس الدين بن عطاء، وتزوج بابنته، وأذن له في الفتوى في سنة أربع وستين وست مئة. وكان ذا مال وثروة، وأموال لا ينفصم الدهر لها عروة. تقدم في آخر عمره على جميع أبناء مذهبه، وحاز الرئاسة عليهم بعلمه ومنصبه. وولي الحكم أكثر من عشرين سنة مسدد الأحكام، ينظف العرض من الآثام، عنيناً في ولايته، كفيفاً عن رؤية ما يشينه في ولايته، معظماً بين أهل دمشق إلى الغاية، موفور الجانب لا يصل أحد إلى ثلمه ولا ثلبه بسعايه. ولم يزل على حاله إلى أن طحنته رحى المنون الدائرة، وأصبح بسياقه في أول طلائع الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء بعد العصر ثالث شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ودفن بسفح قاسيون بالقرب من المدرسة المعظمية. ومولده في ثالث شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وست مئة بقلعة بصرى، أيام الخوارزمية. ولم يزل يترقى في المدارس الكبار إلى أن ولي قضاء القضاة بدمشق، وجمع بين تدريس المدرسة النورية والمقدمية والخاتونية البرانية. وهو سبط القاضي شرف الدين عبد الوهاب الحوراني نائب الحكم، كان بدمشق. وكان القاضي صدر الدين حفظة للحكايات والأشعار، حسن المحاضرة. علي بن قراسنقر الأمير علاء الدين بن الأمير شمس الدين. لم يزل مقيماً بالديار المصرية في جملة أمرائها إلى أن تحقق السلطان الملك الناصر موت والده في البلاد الشرقية، فأخرجه السلطان إلى دمشق أمي طبلخاناه أيضاً في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فيما أظن، أو في سنة تسع وعشرين في أوائلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 ووصل الأمير علاء الدين من القاهرة إلى دمشق في أول شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكان الأمير سيف الدين تنكز يحبه أخيراً ويعظمه. ولما توجه الأمير سيف الدين تمر الساقي إلى مصر مع الفخري، أو لما أنه مات بمصر، أخذ الأمير علاء الدين تقدمته على الألف. وكان مقدم ألف إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأحد ثامن عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكان هشاً بشاً بالناس، فيه ود وصحبة ورعاية للناس، يحضر العقود والمحافل للمتعممين وغيرهم، ويجمل الناس. وكان الأمير سيف الدين يلبغا يحبه ويعظمه. وهو والد الأمير ناصر الدين محمد. ولما توصل الأمير علاء الدين إلى دمشق أعيدت أملاكهم إليهم، وكانت أولاً تحت الحوطة. وأعطي بدمشق خبز الأبو بكري، وأفرج عن الأمير علم الدين الجاولي، وأعطي إقطاع الأمير علاء الدين للذكور بزيادة تليق به. علي بن قيران علاء الدين أبو الحسن الكركي السكزي، بالسين المهملة والكاف والسزاي، الدمشقي الجندي ثم الصوفي نزيل القاهرة. سمع الكثير سنة سبع عشرة، في الكهولة، وأخذ عن جماعة من أصحاب ابن الزبيدي. وحدث، ونسخ قليلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 قال شيخنا شمس الدين الذهبي: سمع معي. قلت: ولد سنة ثمان وخمسين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة. كان يكتب أسماء السامعين في المواعيد، وكان مخلاً رحمه الله تعالى، رأيته غير مرة، وكتب اسمي في سماعاتي. علي بن محمد بن إبراهيم الشيخ الإمام الزاهد بدر الدين السمرقندي الحنفي، شيخ خانقاه خاتون والخانقاه الشبلية. كان شيخاً مليح الهيئة، عليه سكينة ووقار. وكان فاضلاً وله كلام حسن، وخطه جيد، ونسخ بخطه كثيراً، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وهمته عالية في أمور دينه ودنياه. توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الشيخ الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ جماعته، شرف الدين، أبو الحسين، ابن الإمام البارع الشيخ الفقيه اليونيني البعلبكي الحنبلي. سمع حضوراً من البهاء عبد الرحمن، وسمع من ابن صباح، وابن اللتي، والإربلي، وجعفر الهمداني، ومكرم، وموسى بن محمد صاحب دمشق. وفي الرحلة من ابن رواج، وابن الجميزي، والحافظ المنذري عبد العظيم، وعدة. وعني بالحديث وضبطه، وبالفقه واللغة، وحصل الكتب النفيسة. وكان في وقته عديم النظير في بابه. ليس له مشارك في عشرته لأصحابه. حسن الملقى بلا ملق، جارياً في سجيته على المكارم كم انطلى لما انطلق. دينه متين، وهديه مبين. كثير الهيبة، يحفظ أصحابه في الحضور والغيبة. يحفظ كثيراً من الأحاديث بلفظها، ويفهم معانيها، ويعرف كثيراً من اللغة، كان أصمعي بواديها. وكان فصيح العبارة لطيف الإشارة. له قبول كثير من الناس، وعليه أنس زائد ولباس عار من الإلباس. ومن جملة ماله من السعادة، أنه أحرز في شهر رمضان الشهادة، لأن موسى الفقير المصري الناشف ضربه بسكين فقضى عليه. وتوجه وقد توجه علمه وعمله المبرور بين يديه. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة من شهر رمضان سنة إحدى وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 ومولده ببعلبك في حادي عشر شهر رجب سنة إحدى وعشرين وست مئة. قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: انتفعت به، يعني بصحبته، وأكثرت عنه. وقال شيخنا البرزالي: دخلت بعلبك أربع مرات، قرأت عليه فيها مسند الشافعي رضي الله عنه، والثقفيات العشرة، ومشيخة تخريج الشيخ شمس الدين بن أبي الفتح، وهي ثلاثة عشر جزءاً، وسنن الشافعي، رواية الطحاوي، وعمن المزني، ونحواً من عشرين جزءاً. وكان يقدم دمشق، وفي كل مرة نسمع عليه ونستفيد منه. كان قد قدم دمشق في شعبان، فحصل الأنس به والسماع عليه. وتوجه إلى بلده في آخر الشهر، فوصل أول شهر رمضان وأقام أياماً، ولما كان يوم الجمعة خامس شهر رمضان الرابعة دخل إلى خزانة الكتب التي في مسجد الحنابلة، فدخل هذا الفقير موسى المصري، فضربه بعصا على رأسه ضربات، ثم أخرج سكيناً صغيرة فجرحه في رأسه، فاتقى بيديه. فأمسك وحمل إلى والي البلد، وضرب، فأظهر الاختلال في عقله وتجانن، وحمل الشيخ إلى داره، وأتم صومه يومه. ثم إنه حصل له حمى، واشتد مرضه إلى يوم الخميس، دخل إلى رحمه الله تعالى في الساعة الثامنة، ودفن بباب سطحاً، وتأسف الناس عليه. علي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن مفرج الفقيه شمس الدين الأنصاري الإسكندري الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 كان جيد القريحة، ذكي الفطرة الصحيحة. له مشاركات في أصول دين وفروع، ودخول في النحو وشروع، واختصر الروضة، وملأ من معرفتها حوضه، وكابد من الفقر أنواعاً، أفضت به إلى أن تجرد وصار عرياناً، ولبس من القطوع والشدائد ألواناً، إلى أن أحسن إليه قاضي سيوط أبو الحجاج يوسف، وأطلقه من فقر كن في قيده يرسف. وأقرأ ولده أبا مدين شعيباً، وكشف عن ذهنه ريناً وريباً، ثم إنه صحب فخر الدين ناظر الجيش، ففاز بلذة العيش، وولاه قضاء بلده فوه، وأبرز سعده إلى الفعل بعد القوة. ولم يزل إلى أن توجه إلى مكة، فجاءه الأمر الذي قد حتم، وطبع عليه الوجود وختم. فتوفي رحمه الله تعالى هناك، وقال له سعد القعة: فزت بما هناك. وكان قد سمع من الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ولازمه، وأملى عليه شرح الإلمام. وقرأ الفقه والأصول والنحو على علم الدين العراقي. وتوجه إلى قوص، وتولى إعادة مدرسة ابن السيد، ثم أعرض عنه، وحصل له فقر شديد مدقع مدة، ثم تعرف بخفر الدين ناظر الجيش، فأعطاه شهادة الكارم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 بعيذاب وحصل مالاً. وشفع فيه عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فولاه قضاء فوه، وأجازه بالفتوى، ثم نقله إلى قضاء سيوط، ثم عزله، فتوجه إلى مكة، فتوفي هناك سنة أربعين وسبع مئة. وقد جاوز الستين. وكتب بخطه كثيراً من الفقه واللغة والتصوف، ووقف كتبه على طلبة العلم. ومن شعره رحمه الله تعالى: يا سائلي عن شامة في أنف من ... فضح الغصون بميسه في عطفه إن الذي برأ الحواجب صاغها ... نونين في وجه الحبيب بلطفه فتنازع النونان نقطة حسنه ... فأقرها ملك الجمال بأنفه قلت: وقد نظم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في هذه المادة عدة مقاطيع، ومن أحسنها قوله: ما خاله بأنفه ... كطابع الحسن فقط بل إنه من كحل ... من مقلتيه قد نقط وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان لنفسه في هذا المعنى: عجبت لخال حل في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود غدا وشيا ولكنما خداه فيه تغايرا ... هوى، فابتغى من وجهه أوسط الأشيا وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال صار له حليا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 علي بن محمد بن جعفر ابن محمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون، الشريف فتح الدين بن الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين. سمع من أبي بكر بن الأنماطي وخاله قاضي القضاة ابن دقيق العيد، وغيرهما. وجمع وألف وكتب وصنف واختصر الروضة، وخاض لجتها ألف خوضة. وكانت له يد طولى في حل الألغاز، ونظم كثير يشهد له أنه في حربها وحربها أقوى مجاهد وأجل غاز، وشعره يطرب الثكالى، ويدع النجوم السائرات السافرات من حسنه خجالي. هذا إلى سكون وعفة، واتضاع لا يعادله معه أحد في كفه. ولم يزل على حاله إلى أن انضم القبر على الفتح، وجرى عليه عقيق الدموع من السفح. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة. ومن شعره: كم من خليلين دام الود بينهما ... دهراً وما داما على الإنصاف واتفقا رماهما الدهر إما بالمنية أو ... بالبعد أو بانصرام الود فافترقا ومنه: ما بال ليلي أمسى لا نفاد له ... وكان قبل النوى في غاية القصر ولم يخص النوى دون اللقا سهر ... حتى أعلل طول الليل بالسهر وإنما عيشي الصافي بقربكم ... تبدل الآن منه الصفو بالكدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 ومنه لغز في كمون: يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك تبصره بالعين في يقظة ... كما يرى بالقلب في نومك قلت: هكذا تكون صنعة الألغاز، لقد تخيل جيداً وتحيل على إيراده في هذه الصورة. علي بن محمد بن محمود ابن أبي العز بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم، ظهير الدين الكازروني البغدادي الشافعي. سمع الحديث من الأمير أبي محمد الحسن بن علي بن المرتضى وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد، وأبي عبد الله محمد بن سعيد الواسطي. كان فاضلاً حاسباً فرضياً متأدباً مؤرخاً شاعراً، مصنفاً ماهراً، كثر التلاوة والعبادة والإنابة، غزير الوقار والمهابة. ولم يزل على حاله إلى أن أضمره الضريح، وغاب شخصه مع الموت الصريح. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة. هكذا رأيت كمال الدين الأدفوي ذكر هذه الوفاة وهذا المولد، ووافقه على ذلك شيخنا الذهبي. والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن من يولد سنة إحدى عشرة وست مئة، يمكن وفاته سنة سبع وتسعين وست مئة. ورأيت شيخنا البرزالي قد ذكر وفاته في تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، والله أعلم. وذكر أنه أضر، وأنه رتب صوفياً في خانقاه الطاحون بدمشق. وقال شيخنا الذهبي: كتب لي بمروياته في سنة سبع وتسعين وست مئة. ومن مصنفاته كتاب النبراس المضيء في الفقه، وكتاب المنظومة الأسدية في اللغة، مجلدة، وكتاب كنز الحساب في الحساب، مجلدة، وكتاب روضة الأريب في التاريخ، سبعة وعشرون مجلداً، وصنف في السيرة وفي التصوف، وله كتاب الملاحة في الفلاحة. وله نظم، منه قوله: زارني في الظلام أهيف كالبد ... ر بوجه منه يلوح النور قلت: أهلاً لو كنت زرت نهاراً ... قال: مهلاً في الليل تبدو البدور قلت: هو عكس قول أبي العلاء المعري: هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكر وازورارا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 أنا بدر وقد بدا الصبح في رأ ... سك والصبح يطرد الأقمارا لست بدراً وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجا وتبدو نهارا ومن شعر ظهير الدين الكازروني: مقرطق بالجمال ذو هيف ... يضرب فيه بعشقي المثل يرمي بسهم من غنج ناظره ... يا بأبي من نبالها المقل أسهر طرفي فتور ناظره ... والعشق داء دواؤه القبل ظلم ثناياه بارد شيم ... كأنه في مذاقه عسل بدر جمال بقلب عاشقه ... عن لوم عذاله به شغل تاه علينا بحسن صورته ... وغنج طرف يزينه الكحل قلت: شعر مقبول، وقوله: " والعشق داء دواؤه القبل "، ما له علاقة بنصفه الأول. قال شيخنا الذهبي: كتب إلي بمروياته عام سبع وتسعين. علي بن محمد بن خطاب الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الأصولي النظار علاء الدين الباجي الشافعي. سمع بدمشق من أبي العباس التلمساني جزء ابن جوصا. كان في أهل مصر شامه، ولكل من أم في علم إمامه، قل من جاء بعده مثله ورأى أمامه. طلق العبارة، إذا أرسل سهم بحث لا يخطئ الإشارة. ناظر العلامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 تقي الدين بن تيمية، وفاز دونه بالأولوية. وكان يباحث كل من قل وجل. ويسقي الوبل الغدق لا الطل. ولم يسمع منه بحث نازل، ولا خلت من فوائده ربوع الديار المصرية ولا المنازل. وكان آية من الآيات، وغاية نأت عن لحاق شأوها من الغايات: لا تجسر الفصحاء تذكر عنده ... بحثاً ولو كان الهزبر الباسل ولم يزل يقرئ الطلبة ويفيد، ويبدي الغرائب لهم ويعيد، إلى أن ناجى الباجي حمامه وبكاه حتى على الأراك حمامه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سادس ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة بالقاهرة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. صنف وأفتى وناب في الحكم بالشارع خار القاهرة، واشتغل الناس عليه طائفة بعد طائفة. واختصر المحرر في الفقه، والمحصول في الأصول، مختصرين: كبيراً وصغيراً، واختصر كشف الحقائق في المنطق، وصنف في الفرائض والحساب، ورد على ما بيد اليهود من التوراة، ورد على ذلك اليهودي الذي سأل الفتيا نظماً، وقد تقدمت في ترجمة الشيخ علاء الدين القونوي، وعمل رده نظماً. وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يقول: العلاء يطلق عليه عالم. وحضر درسه في المدرسة الصالحية، فوقع بحث في كلام الغزالي في الوسيط، فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 الباجي: الغزالي عدل في العبارة المقتضية كذا، حتى لا يرد عليه كذا. وهذا العبارة التي قالها يرد عليها خمسة عشر سؤالاً، وسردها. فقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: كم سنك؟ فقال: كذا، فقال: وهذا كله حصلته في هذا السن. وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: قال شيخنا العالم الثقة نجم الدين الأصفوني: حضرت درس الشيخ تقي الدين، فقال: يا فقهاء جاء شخص يهودي، ويطلب المناظرة. فسكت الناس. وقال الباجي: أحضروه، فنحن بحمد الله مليون بدفع هذه الشبه. وقال لي رحمه الله تعالى لما أحضروا ابن تيمية، طلبت في جملة من طلب، فجئت لقيته يتكلم، فلما حضرت قال: هذا شيخ البلاد، فقلت: لا تطرني ما هنا إلا الحق، وحاقته على أربعة عشر موضعاً، وغير ما كان كتب به خطه. وكان أخيراً قد نسب إليه كلام، واختفى بسببه مدة، وكان له ابنان فاضلان تكلما عنه، ثم إنه تقشف، وصار بفرجية مفتوحة لطيفة، وعمامة بكراثة لطيفة جداً لا تكاد تظهر. وتولى تدريس السيفية، وكان معيداً بالمنصورية والصالحية. ورأيت أنا شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يعظمه كثيراً إلى الغاية، ويثني على فضائله المنوعة. وكان قد ولي وكالة بيت المال بالكرك في الأيام الظاهرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 وقال شيخنا البرزالي: أجاز لنا جميع ماله روايته. وأنشدني قاضي القضاة تقي الدين السبكي من لفظه أبياتاً رثاه بها، ومنها: فلا تعذليه أن يبوح بسره ... على عالم أودى بلحد مقدس تعطل منه كل درس ومجمع ... وأقفر منه كل ناد ومجلس ومات به إذا مات كل فضيلة ... وبحث وتحقيق وتصفيد مبلس وإعلاء دين الله إن يبد زائغ ... فيخزيه أو يهدي بعلم مؤسس وكان شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان يثني عليه كثيراً. أخبرني قال: قرأ عليه يسيراً من مختصره في أصول الفقه، وسمعن عليه دروساً، وأنشدني من لفظه لنفسه: رثى لي عذلي إذ عاينوني ... وسحب مدامعي مثل العيون وراموا كحل عيني، قلت: كفوا ... فأصل بليتي كحل العيون قلت: كأن الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى نظر في هذا المعنى إلى قول السراج المحار: شكوت الذي ألقاه من ألم الهوى ... وقلبي عن وصف الأطباء في شغل وقالوا اشرب المغلي تجد فيه راحة ... فقلت: وذا أصل الذي بي من المغل وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدنا الباجي لنفسه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 بالبلبل والهزار والشحرور ... يسبى طرباً قلب الشجي المهجور فانهض عجلاً وانهب من اللذة ما ... جادت كرماً به يد المقدور وأنشدني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إجازة، قال: أنشدنا لنفسه: حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وإبصار كلام مع البقا صفات لذات الله، جل، قديمة ... كذا الأشعري الحبر ذو العلم والتقى علي بن محمد بن عبد الله ابن عبد الظاهر بن نشوان، الصدر الكبير الرئيس النبيل الكاتب علاء الدين بن القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين. سمع بقراءة الشيخ شمس الدين الذهبي من ابن الخلال. وكان القاضي علاء الدين كثير المكارم، بيته مجمع الفضلاء والأدباء، ومحله محط الخاملين والنبهاء والنبلاء، لا يزلا يراعي مصالح الناس ويساعدهم على بلوغ مآربهم البعيدة من القياس. يؤثر الواردين والصادرين بملابيسه ومراكيبه، وينتاشهم من ورطاتهم، ولو كانوا بني ما ضغي الدهر ومخاليبه. وكان في أيام سلار هو المشار إليه، والمعول فيما يرسم به عن الدولة عليه. وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 هو الذي خرج بهاء الدين أرسلان وهذبه، وفقهه وكتبه، لأنه كان يهواه، ويغضي طرفه، ويطوي على جوانحه جواه. ولما عاد السلطان من الكرك، وتولى أرسلان الدوادارية ما شك هو ولا غيره أن كتابة السر تتعداه، ولا أن الملك يضطلع بغيره ويتحداه، فما قدر الله له ذلك، ولم يجئ حساب الدهر هنالك، ولكنه كان يوقع في الدست بين يدي السلطان إلى آخر وقت، والسلطان يضمر له البغض والمقت، ويقول إذا رآه من بعيد: سبحان الرازق، هذا يأكل رزقه على رغم أنفي وأنف الخلائق. وكان القاضي علاء الدين حسن الشكل ظريف العمامة نظيف الملبوس ظاهر الوسامة طيب الرائحة، يعم مجلساً يكون فيه بهباته الفائحة. يكتب خطاً فائقاً من أين للعقود اتساقه، وللروض اليانع زهراته التي تضمنها أوراقه. قل أن اجتمعت مفرداته في غيره، أو بلغ مترفع في الجو مطار طيره، وإليه كانت الرياسة في زمانه، وإياه عنى مداح عصره وأوانه. ولم يزل في توقيع الدست إلى أن اجتث منه الدهر جرثومة الرئاسة، وأخلى مصره من السيادة والنفاسة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس رابع شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 ومولده سنة ست وسبعين وست مئة. وكتب الإنشاء في الدولة المنصورية، وعمره إحدى عشرة سنة، سنة ست وثمانين وست مئة. وكان الملك الناصر يكرهه لكونه قد اختص بالأمير سيف الدين سلار. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: قال لي السلطان الملك الناصر: ما كرهته لأجل شيء، وإنما خان مخدومه يعني سلار، لأنه استكتبه شيئاً واستكتمه إياه، فجاء إلي وعرفني به. وأخبرني أيضاً أن السلطان لما جاء من الكرك قال للأمير عز الدين الدوادار: الساعة يجيء إليك طعام من عند علاء الدين بن عبد الظاهر، فأقبله منه، فلم يكن قليل حتى جاءه ذلك فقبله. وعرف به السلطان، فقال له السلطان: الساعة يبعث إليك خرفاناً وأرزاً وسكراً، ويقول: يا خوند، أنا ما عندي من يطبخ ما يصلح لك، دع مماليك يشوون لك هذا، فما كان إلا عن قليل حتى جاء ذلك فأخذه وعرف السلطان به، فقال: الساعة يجهز إليك ذهباً ويقول: هذا أريده يكون وديعة في خزانة الأمير، فإنه أحرز عنده من بيتي، فما كان إلا أن جرى ذلك، وقال: يا خوند، قد بعت لي ملكاً، وأخاف أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 يسرق ثمنه، وقد أرصدته للحجاز، وأريد أن يكون في خزائنك، فأخذ الورقة، وعرضها على السلطان، فقال له السلطان: اكتب في قفاها: يا علاء الدين، نحن ما نغير شرف الدين بن فضل الله، وإن غيرناه فما نولي إلا علاء الدين بن الأثير، فوفر ذهبك عليك، وخله عندك. وكان القاضي علاء الدين كثير الرياسة والإحسان إلى من ينتمي إليه. وللعلامة شيخنا شهاب الدين محمود فيه أمداح كثيرة، ولما مات رثاه بقصيدة طنانة كتب بها إلى ناصر الدين شافع رحمهم الله أجمعين أنشدنيها إجازة، وهي: الله أكبر أي ظل زالا ... عن آمليه وأي طود مالا أنعي إلى الناس المكارم والندى ... والجود والإحسان والإفضالا ومهذباً ملأ القلوب مهابة ... والسمع وصفاً والأكف نوالا حاز الرئاسة فاغتدى فيها به ... أهل المفاخر تضرب الأمثال وحوى من الآدب ما أضحى به ... أهل البيان على علاه عيالا طلق المحيا لو يقابل وجهه ال؟ ... أنواء ظل جهامها هطالا متمكن من عقله فكأنه ... قد شد فيه عن الهنات عقالا رحب الندى تنسي بشاشة وجهه ... ما زاده أوطانه والآلا طرقته أيدي الحادثات فزعزعت ... منه مآلاً للعفاة ومالا وسطت على الشرف الرفيع فقلصت ... عن ذك الحرم المنيع ظلالا فجعت يتامى من ذؤابة هاشم ... أمسى أباً لهم وإن يك خالا فقدت أياماهم بفقد عليهم ... وكذا اليتامى عصمة وثمالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 ونضت مكلاءة كل مكرمة ضفت ... عنها فعاد لباسها الأسمالا وأعادت المجد المؤثل بعده ... كأنا غدير حياً فعادا آلا من للسماحة والفصاحة بعده ... قولاً يقال وكان قبل فعالا من للوجاهة والنباهة بعده ... إن قال في نادي الندى أو قالا من للفتوة والمروة أزمعا ... لما ترحل بعده الترحالا من للكتابة حين أضحى جيدها ال؟ ... حالي بدر بيانه معطالا قد كان فارسها الذي بيراعه ... كم راع قبل أسنة ونصالا وجوادها إن رام سبقا حازه ... فيها وقرطس إن أراد نضالا وخطيبها ما أم منبر كفه ... قلم فغادر للأنام مقالا من للبلاغة رامها من بعده ... كل فكانت كالنجوم منالا يا نجل فتح الدين أغلق رزئكم ... باب الرجاء وأوثق الأقفالا لهفي على تلك البشاشة كم بها ... بسطت لوافد رفده آمالا لهفي على تلك المكارم كم سقت ... ظامي الرجاء البارد السلسالا لهفي على تلك المروءة كم قضت ... سولاً لمن لم يبد منه سؤالا لهفي على آلائه كم ثقلت ... ظهراً وكم قد خففت أثقالا لهفي على تلك المآثر لم تطع ... في فعلها اللوام والعذالا أبكي عليه وقل مني أنني ... أبكي عليه وأكثر الإعوالا أدعو دموعي والعزا فيجيبني ... ذا هاملاً ويصد ذا إهمالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 وإذا اعتبرت الحزن كان حقيقة ... وإذا اعتبرت الصبر كان محالا وإذا غفلفت أقام لي إحسانه ... في كل وقت من سناه مثالا وإذا هجعت فإنما زار الكرى ... ليروع قلبي أن أراه خيالا قد كان يكرم جانبي ويجلني ... وإذا ذكرت أطابه وأطالا ويجلني كأبيه في تبجيله ... حتى أقول قد استوينا حالا فعلام لا أبكي وأستسقي له ... سحب القبول من الكريم تعالى ولقد صحبت أباه قبل وجده ... وهما هما مجداً سما وكمالا فوجدته قد حاز مجدهما معاً ... فرداً ونال من العلا ما نالا ومضى حميداً طاهراً ما دنست ... أيدي الهوى لبروده أذيالا عجل الحمام على صباه فلا ترى ... إلا دموعاً تستفيض عجالا يا ناصر الدين ادرع صبراً فقد ... فارقت ثم صبرت ذاك الخالا ورزيت قبل فراق خالك بابنه ... فحملت أعباء الخطوب ثقالا وختام هاتيك الحوادث فقد ذا ... فأعاد حزناً كان مر وزالا فاسلم لتبلغ بابنه العليا التي ... فسحت لهم فيها النجوم مجالا فالأجر جم والعزاء طريقه ... فاصبر فلست ترى لها أمثالا هي هذه الدنيا كشمس إن علت ... وافت عزوباً بعده وزوالا كم خيبت أملاً وأتبعت الرجا ... يأساً وغادرت المصون مذالا يسري بنا الآمال فيها غرة ... فيزيرنا ذاك السرى الآجالا تباً لها من غفلة فإلى متى ... نرجو البقاء ونرجئ الآمالا أو ما ترى فعل المنون بغيرنا ... نادتهم فتتابعوا إرسالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 سيما لمن قد جاز معتك الردى ... وغدا لقطب رحى المنون ثفالا عجباً لبال في غد تحت الثرى ... أنى يرى في اليوم ينعم بالا كم تخطئ الأسقام من أضحى لها ... هدفاً وقد بعثت إليه نبالا سيان من نزل القبور اليوم والسفر الذين غدوا غداً نزالا مع أنهم قطعوا الطريق وخلفوا ... للخالف الأوجاع والأوجالا فأعاننا الرب الرحيم على مدى ... بلغوا وحسن للجميع مآلا وسقته من عفو الإله سحائب ... يتلو سرى غدواتها الآصالا ومن إنشاء القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى رسالة في المفاخرة بين الرمح والسيف، وهي: بعثت إليك رسالتي وفي ذهني أنك الكمي الذي لا يجاريك ند، والشجاع الذي أظهر حسن الائتلاف لو شك الضد، والبطل المنيع الجار، والأسد الذي لك الأسل وجار، والباسل الذي كم لخمر الغمود بتجريدك عن وجوه البيض انحسار. ولك معرفة في الحرب ولاماتها، والشجاعة وآلاتها، وإليك في أمرها التفصيل، ولديك علم ما لجملتها من تفصيل. وها هي احتوت على المفاضلة بين الرمح والسيف، ولم تدر بعد ذلك كيف فإن السيف قد شرع يتقوى بحده، ولا يقف في معرفة نفسه عند حده، والرمح يتكسر بأنابيبه ويستطيل بلسان سنانه، ولم يثن في وصف نفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 فضل عنانه. قد أطرقتهما حماك لتحكم بنيهما بالحق السوي وتنصف بين الضعيف والقوي: أما السيف فإنه يقول: أنا الذي لصفحتي الغرر، ولحدي الغرار، وتحت ظلالي في سبيل الله الجنة، وفي إطلالي على الأعداء النار، ولي البروق التي هي للأبصار والبصائر خاطفه، وطالما لمعت فسحت سحب النصر واكفه، ولي الجفون التي ما لها غير نصر الله من بصر، وكم أغفت فمر بها طيف من الظفر، وكم بكت علي الأجفان لما تعوضت عنها الأعناق غموداً، وكم جابت الأماني بيضاً والمنايا سوداً، وكم ألحقت راساً بقدم، وكم رعيت في خصيب نبته اللمم، وكم جاء النصر الأبيض لما أسلت النجيع الأحمر، وكم اجتني ثمر التأييد من ورق حديدي الأخضر، وكم من آية ظفر تلوتها لما صليت وانقد لهيب فكري فأصليت فوصفي هو لذاتي المشهور، وفضلي هو المأثور، فهل يتطاول الرمح إلى مفاخرتي وأنا لجوهر وهو العرض، وهو الذي يعتاض عنه بالسهام وما عني عوض، وإن كان ذاك ذا أسنة، فأنا أتقلد كالمنة، كم حملته يد فكانت حمالة الحطب، وكم فارس كسبه بحملاته فما أغنى عنه ما كسب، حدث ليس من جنسه، ونفعه ليس من شأن نفسه، وأين سمر الرماح من بيض الصفاح، وأين ذو الثعالب من الذي تحمى به أسود الضرائب. وهل أنت إلا طويل بلا بركة، وعامل كم عزلتك النبال بزائد حركة؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 فنطق الرمح بلسان سنانه مفتخراً، وأقبل في علمه معتجراً، وقال: أنا الذي طلت حتى اتخذت أسنتي الشهب، وعلوت حتى كادت السماء تعقد علي لواء من السحب. كم ميل نسم النصر غصني وميد، وكم وهى بي ركن للملحدين، وللموحدين تشيد. وكم شمس ظفر طلعت وكانت أسنتي شعاعها. وكم دماء أطرت شعاعها. طالما أثمر غصني الرؤوس في رياض الجهاد، وغدت أسنتي فكأنما صيغت من سرور فما يخطرن إلا في فؤاد، وكم شبهت أعطاف الحسان بمالي بمن ميل، وضرب طبول ظل قناتي المثل، وزاحمت في المناكب للرياح بالمناكب، وحسبي الشرف الأسنى أن أعلى الممالك ما علي يبنى، ما لمع سناني في الظلماء إلا خاله المارد من رجوم السماء، فهل للسيف فخر يطال فخري، أو قدر يسامي قدري، ولو وقف السيف عند حده لعلم أنه القصير وإن كان ذا الحلى، وأنا الطويل ذو العلا، وطالما صدع هاماً، فعاد كهاما، وقصر عن العدى، وألم بصفحته كلف الصدا، وفل حده، وأذابه الرعب فلولا غمده.. فهل يطعن في بعيب، وأنا الذي أطعن حقيقة بلا ريب، ومن ههنا آن أن أمسك عنك لسان سناني، ونرجع إلى من يحم برفعه شانك وشأني، ونسعى إلى بابه، ونبث محاورتنا برحابه. وقد أوردهما المملوك حماك، فاحكم بما بصرك الله وأراك. ومن شعر علاء الدين، وقد رتبت معاليمهم على شطنوف: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 يا أميراً له من الجود بحر ... فهو يجري لنا بغير وقوف قد غرقنا في بحر هم وغم ... فطلعنا بذاك من شنطوف ولما دخلت أنا في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت جماعة قد لهجوا بالمقامة التي أنشأها القاضي علاء الدين وسماها مراتع الغزلان، فكلفني بعض أصحابي الأعزة أن أنشئ رسالة في مادتها، فأنشأت رسالتي عبرة اللبيب بعبرة الكئيب. علي بن محمد بن سلمان بن حمائل الشيخ الإمام الصدر الرئيس الكاتب الشاعر، صدر الشام، القاضي علاء الدين بن غانم. كان حسنة من حسنات الزمان، وبقية مما ترك أول الفضل والإحسان، ذا مروءة فاتت الواصف، وجود أخجل هتانه الغمام الواكف. تأذى من الدولة مرات، وما رجع عما له من العصبية والخير من كرات، يسدي الجميل إلى من يعرف والى من لا يعرف، ويتكل على الله تعالى فيما يتصرف بقلمه ويصرف. وكان وجيهاً في الدولة يعرف الناس قدره، ويعلمون أن المروءة لا تنزل إلا في قلبه، ولا تسكن إلا صدره. وكان حسام الدين لاجين وقبجق والأفرم ومن بعده إلى تنكز يرعون قدره ويراعونه، ويعلمون أنه ما يبخل أ، يعير ماعونه، لا يبخل بجاهه وماله على أحد من أبناء جنسه، ولو أن ما يف كفه غير نفسه. ولم يزل على حاله إلى أن حج وعاد إلى تبوك، فغنم ابن غانم أجله، وراح إلى الله تعالى، ولم يقصر به كرمه ولا اعتراه خجله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وله ست وثمانون سنة. وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى يقول: ما أعرف أحداً في الشام إلا ولعلاء الدين بن غانم في عنقه مانة قلدها بصنيعة أو ماله أو جاهه. وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يكرهه ويؤذيه ويحط عليه ويقول: كيف أعمل بهذا ابن غانم، أي من أردت أن أذكره عنده بسوء يقول: ما في الدنيا مثل ابن غانم، أو كما قال. وكان وقوراً مليح الهيئة منور الشيبة، ملازم الجماعة، مطرح الكلفة. حدث عن ابن عبد الدائم، والزين خالد، وابن النشبي، وجماعة. وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة، ولما دخلت ديوان الإنشاء اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، ووجدت منه خيراً وبراً رحمه الله تعالى. وهو كان آخر من بقي من رؤساء دمشق، لأن بيته كان مقصداً لكل غريب وغياثاً لكل ملهوف. كتب إليه الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض ما كتبه من أمداحه: علوت اسماً ومقداراً ومعنى ... فيا لله من فضل جلي كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي قلت: أخذ الثاني برمته من قول علاء الدين الوداعي رحمه الله تعالى نقلت ذل من خطه، وقد اجتمع بأصحابه، وكلهم يدعى علياً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي تجمعنا فكنا ضرب خيط ... علي في علي في علي وكان ينظم وينثر، وله أعمال جيدة في شبيبته، وبين الشيخ علاء الدين وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وبين الشهاب محمود وغيره من أهل عصره محاورات ومكاتبات على عادة الأدباء، مليحة. وكان قد طلب هو وأخوه شهاب الدين أحمد بن غانم إلى مصر على البريد في شهر رجب سنة سبع عشرة وسبع مئة، فرسم للشيخ علاء الدين بكتابه السر بحلب، فاستعفى من ذلك. وعرض عليه الإقامة بمصر، فاختار العود إلى بلده، ورسم لهما بزيادتين وخلعتين، وأعيدا إلى دمشق. ومن نثره رحمه الله يصف قلعة: " ذات أودية ومحاجر لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظر إلا أنها طالعة بين النجوم بمالها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر إلا أن " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج "، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر، وقد توعرت مسالكه، فلا يداس فيه إلا على المحاجر، وتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه " فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ". ومنه في صدر كتاب: " وجعله لحقيقة العلياء نفساً وعيناً، ولا أعدم منه الملك ناظراً ولا عيناً. ولا زال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 على الأعداء يرسل من مهابته رقيبين، أذناً وعيناً وأغنى بمكارمه من أن نشيم من السماء خالاً وعيناً، أو نرد من الأرض منهلاً وعيناً، وأطلع طلعة لوائه في الخافقين حتى تخال الشمس عيناً، وسير ركائب ذكره في الآفاق لا تشتكي أينا ولا عيناً وأقام ميزان القسط بين الرعايا لا تجد فيه غبناً ولا عيناً "، واستعبد بخدمته كل أصيد من الملوك، لكل جحفل قلباً ولك محفل عيناً، وأهلك كل عدو له وحاسد تارة فجأة وتارة عيناً، ومتعه بما خصه من استجلاء عرائس الحور العين بمجاهدته إذا شغل سواه عيناء من أسماء وعيناً، وسطر آثار مآثره محكمة على صفحات الأيام إذا لم يبق لمن سلف من الملوك أثراً ولا عيناً ". وأنشدني من لفظه ما كتبه إلى شيخنا العلامة أبي الثناء محمود: لقد غبت عنا والذي غاب محسود ... وأنت على ما اخترت من ذاك محمود خللنا محلاً بعد بعدك ممحلاً ... به كل شيء ما خلا الشر مفقود به الباب مفتوح إلى كل شقوة ... ولكن به باب السعادة مسدود قال: فكتب الجواب: أأحبابنا بنتم وشط مزاركم ... برغمي وحالت دون وصلكم البيد وودعتم روض الحمى بفراقكم ... فشابت نواصي بانه وهو مولود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 ومن لم تهجه الورق وجداً عليكم ... توهم أن النوح في الدوح تغريد وكتب إليه شيخنا نجم الدين الصفدي: شنف الأسماع بالدر الذي ... قد حكى الأنجم في ظلمائها وبدا كالشمس إلا أنه ... زاد في الحسن على لألائها فكتب الجواب إليه: ليس للمملوك إلا مدحة ... في معاليك وفي آلائها وبحار الفضل تجري منك لي ... فمقالي قطرة من مائها ومن شعر: سلب المهجة مني ... بالجفون الفاترات لو يزور البيت لم ير ... م الحشا بالجمرات وأخبرني من لفظه، قال: عتبني شهاب الدين محمود، وهو صاحب ديوان الإنشاء. وقال: بلغني أن جماعة من ديوان الإنشاء يذمونني، وأنت حاضر، ما ترد عني، فكتبت إليه: ومن قال إن القوم ذموك كاذب ... وما منك إلا الفضل يوجد والجود وما أحد إلا لفضلك حامد ... وهل عيب بني الناس أو ذم محمود قال: فكتب إلي بأبيات منها: علمت بأني لم أذم بمجلس ... وفيه كريم القوم مثلك موجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 ولست أزكي النفس إذ ليس نافعي ... إذا ذم مني الفعل والاسم محمود وما يكره الإنسان من أكل لحمه ... وقد آن أن يبلى ويأكله الدود قال: ولم يكن بعد ذاك إلا أيام حتى توفي رحمه الله تعالى وأكله الدود. وكان القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى قد طلب مني كتابي جنان الجناس وكتب علي: لقد ضم أجناس فأطربا ... وأعجز من باراه فيها وأعجبا صلاح لدين الله أبدي بدائعاً ... تروق بألفاظ أرق من الصبا يراه بليغ جاء بالمدح سائلاً ... مجيباً مجيزاً قوله لا مخيبا بإنشاده هذا وإنشائه لقد ... به فات من قد فاق فضلاً ومنصبا فقس إياد عند ذي الفضل باقل ... ولفظ امرئ القيس البديع هنا هبا فكتبت أنا أشكره على ذلك: ألا هكذا من قال شعراً فأطربا ... ووشى بروداً باليراع فأعجبا جبرت انكساري إذا أجزت مصنفي ... بأبيات شعر قد حكت رقة الصبا فما كل من وافى بحسنى يجيدها ... ولا كل من أولى الندى يجزل الحبا فأقسم لو جاراك في الفضل فارس ال؟ ... كتابة أعني الفاضل ابن علي كبا ومن للعماد الأصفهاني أن يرى ... ببابك دهراً واقفاً متأدبا لأنت الذي أنسى بألفاظ نظمه ... ورونقها عصر الشبيبة والصبا طريقتك المثلى التي اجتهد الورى ... على مثلها واستحسنوا منك مذهبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 ولم ير أحلى من يراعك أحمرا ... علت دهمة جاري من الطرس أشهبا بقيت لنا ذخراً مآثر فضله ... يضوع لها في كل يوم لنانبا وأنشدني من لفظه لنفسه: وكم سرحة لي في الربا زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا ويسكرني عرف الصبا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا فلله روض زرته متنزهاً ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلا ريا غدا الغصن فيه راقصاً ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى به متمشيا يغني لديك الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا فأنشدته أنا لنفسي في هذا المعنى: حسدت نسيم الروض في كل حالة ... ولا سيما يوم قطعناه بالحمى فكم م عطفاً للغصون مرنحا ... وعانق قداً للقضيب مقوما وقبل خد الورد وهو مضرج ... وثغر الأقاحي في الربا إذا تبسما وكم بات يستجلي عذار بنفسج ... سقته الغوادي صوبها فتنمنما ولما أمال القضب نقش ظلها ... وكبت كفا للغدير ومعصما وفتح أجفاناً من الزهر أغمضت ... ونبه قمري الحمي فترنما ولم أنسى وجه الروض يسفر ضاحكاً ... بأزهاره كالدر لما تنظما فمذ فتحت فيه البروق جفونها ... تبرقع منها بالحيا وتلثما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 علي بن محمد بن علي ابن وهب بن مطيع، الإمام الفاضل محب الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. سمع من أبيه، وحضر عند عبد الوهاب بن عساكر، وسمع من الزاهد عمر الحريري القوصي. وحدث بالقاهرة، وسمع منه أمين الدين محمد بن الواني الدمشقي وغيره. كان فاضلاً فقيهاً في مذهب الشافعي، يعترف له بذلك كتاب الروضة والرافعي. قوي النفس عزيزاً، قل أن يرى للذل مجيزاً. اتصل بابنة الخليفة الحاكم، فأصبح لذلك وهو حاكم. وناب عن والده في الدروس، وسمعت فيه فوائده، وكانت زاكية الغروس. ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه، وأجاب داعية وما أباه. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده بقوص سنة سبع وخمسين وست مئة. علق على التعجيز شرحاً جيداً، ولم يكمله، وناب في الحكم في أيام والده. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: ذكر لي بعض أقاربه أن الخليفة هو الذي ولاه النيابة عن والده، فإنه كان تزوج بنت الخليفة أبي العباس أحمد. ودرس بالفاضلية والمدرسة الصالحية نيابة عن والده، ودرس بالكهارية والسيفية. وكان عزيز النفس مترفعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 قال كمال الدين: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قال: كنت حاكماً بإخميم من جهة والده تقي الدين، فصحب محب الدين شخصاً من أهلها، فطلب منه كتاباً إلي في حاجة لذلك الشخص، فرسم بكتابته إلي، فلما كتب، قال له ذلك الشخص: إن أراد سيدنا أن شغلي ينقضي، يكتب له المملوك، فلم يوافق، فحلف عليه بالطلاق، فكتب: المملوك لله. وكان يقال: إنه كان يأخذ الهدية في حال نيابته، ويأخذ معلوماً على السعي في الحاجات عند والده. علي بن محمد بن علي هذا علي هو أحد الأخوين التوأمين الملقبين بالحن والبن، وهما حفيدا الشيخ علي الحريري الكبير المشهور. وكان هذا وأخوه قد دخلا في أذية الناس أيام قازان، وغرق هذا علي في جامع بعلبك بالسيل الذي جاء في سنة سبع عشرة وسبع مئة. علي بن محمد بن علي الشيخ الصالح الزاهد العابد بقية السلف، أبو الحسن البغدادي، الملقن بالجامع في الصالحية. كان صالحاً خيراً، مجمعاً على صلاحه وحسن طريقته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 روى الحديث عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، والناصح بن الحنبلي، وابن صباح، والقاضي ابن الشيرازي، ومحمد بن غسان، والجمال أبي حمزة، وعلم الدين بن الصابوني، وكريمة القرشية، وغيرهم. وخرجت له مشيخة وحدث بها. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شوال سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة. وخرج جماعة من البلد لحضور جنازته والتبرك بها. علي بن محمد بن علي بن أبي القاسم علاء الدين أبو الحسن بن العدل بدر الدين العدوي الصالحي المعروف بابن السكاكري الشروطي. أجاز له عبد العزيز بن الزبيدي، وابن العليق، وعبد الخالق النشتبري، وابن خليل. وسمع من ابن عبد الدائم، ومحيي الدين بن الزكي وجماعة. حدث وتفرد ببعض شيوخه، وكانت له معرفة بإتقان المكاتيب، وعلم بغوامضها، وشهد على الحكام. وكان قوي النفس، ثم إنه كبر وعجز، اعتراه نسيان وغفلة، وافتقر، وكان يلازم الجماعة. ومولده سنة ست وأربعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 علي بن محمد بن عمر ابن عبد الرحمن بن هلال الصدر الكبير العالم نجم الدين أبو عبد الله الأزدي الدمشقي. من أعيان رؤساء الدماشقة الأقدمين في الرئاسة، وقد ذكرهم ركن الدين الوهراني في أول منامة، فقال: " على أنه وجد من جوانح الخادم من نار الشوق أجيجاً، لو أن النار التي كلست الكلاسة واشتملت على الحائط الشمالي، وعرست في مئذنة العروس، وأذنت بهلاك المؤذنين وأهلت لغير الله بدار ابن هلال تكون مثلها لما اقتصرت على المقصورة، ولا بردتها البرادة حتى تصحن الصحن، وتنسر النسر ". وكان قد أجاز له بهاء الدين بن الجميزي، وسمع من ابن البرهان وابن أبي اليسر والكرماني وطائفة. وطلب بنفسه وحصل أصولاً ودار على المشايخ. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بكفر بطنا موافقات الموطأ. وكان يذاكر بأشياء حسنة، وقاله سادته لسنه، وفيه مكارم، وعنده بالجود مساجلة للغمائم، تعمل في بيته الحلوى التي تفرد بإتقانها، وتعاهدت الناس من هديتها بإدمانها، وبيتهم في الدماشقة مشهورون بعمل القرن يا روق، وإذا أهدي منه شيء يعتقدون أنه ترياق الفاروق. والى هذا نجم الدين رحمه الله تعالى كتب الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة. وقد طال نجاز وعده بذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 أصم حديث القرن يا روق مسمعي ... بتأخيره يا حابسين الندى عني فلا تجعلوني في العفاة نعامة ... غدت تبتغي قرناً فعادت بلا أذن ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن انكدر نجمه، وأصبح وقد ضمه تحت الأرض رجمه. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. وكان على ذهن شيء من التواريخ، وكان يدعي أنه حفظ المتسظهري على ما قيل. وحدث بدمشق والقاهرة والقدس. وحج وسمع بمكة من أمين الدين بن عساكر في سنة خمس وثمانين وست مئة. وجمعت شيوخه فبلغوا مئة وخمسين شيخاً. وله إجازة في سنة خمس وخمسين وست مئة، فيها ابن خطيب القرافة، وجماعة من أصحاب الثقفي الخشوعي وغيرهم. وكتب في الإجازات، وجمع فيها جماعة من أقاربه، وباشر نظر الأيتام غير مرة. وكان فيه نهضة وكفاية. وأمر أن يكتب على قبره: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله " ... الآية. ودفن بتربته قبالة تربة ابن قوام، رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 علي بن محمد بن غالب بن مري العدل الفقيه المحدث، كاتب الحكم، علاء الدين أبو الحسن ابن الإمام نصير الدين ابن القاضي كمال الدين الأنصاري الشافعي الدمشقي. روى الشاطبية بسماعه بقوله من الكمال الضرير. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعدة. وطلب الحديث، وقرأ النحو على ابن مالك، وقرأ كتباً وأجزاء. وكان يعرف نحواً وحساباً وشروطاً، وحصل من الشروط مالاً كثيراً. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. علي بن محمد بن فرحون الأديب الفاضل نور الدين أبو الحسن اليعمري المدني المالكي. قدم علينا دمشق، ورأيته بها مرات في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. وكان إنساناً شكله حشن، وعنده رواء وفيه لسن، حسن المحاضرة، لطيف المذاكرة، يحب الأدب، ويكثر منه الطلب. وأقام بدمشق يجمع وينتقي، ويصعد في طلب العارية ويرتقي، إلى أن آن رحيل الراكب، وجرى على فراقه الدمع الساكب، فقفل معهم إلى وطنه، وحن إلى عطنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 ولم يزل على حاله بالمدينة إلى أن أصبح في البقيع مزوراً، وأودع فيه ثم تولوا عنه نفوراً. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وأربعين وسبع مئة. كتب إلي يطلب مني شرح لامية العجم: قد طال هذا الوعد يا سيدي ... فانظر لمقصودي وكن مسعدي أنت صلاح الدين حقاً فكن ... صلاح دنياي التي تعتدي وجد بغيث الأدب المنتقى ... واسق رعاك الله قلباً صدي بدأت بالإحسان فاختم به ... يا خاتم الخير ويا مبتدي فكتبت أعتذر عن تجهيزه، لأنه في العارية: أقسمت لو كان الذي تبتغي ... عندي لم أمنعه من سيدي يا من له نظم علا ذروة ... وهادها تعلو على الفرقد لقد تطولت ولم تقتصر ... ومن بدا في فضله يزدد وأين من نال نهاياته ... ممن كما قلت له مبتدي وكان قد ركب أعجازاً وصدوراً على قصيدة الطغرائي لامية العجم، فجهزها إلي لأقف عليها، وأولها: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وشرعة الحزم ذادتني عن المذل وحلة العلم أغنتني ملابسها ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... وسؤددي ذاع في حلي ومرتحلي وهمتي في الغنى والفقر واحدة ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... دان ولا أنا في عيش بها خضل وليس لي أرب فيها ولا خول ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي وهي كلها على هذا النمط، يأتي إلى كل بيت فيجعل لكل صدر عجزاً، ولكن عجز صدراً، وقد أثبتها بكمالها في الجزء العشرين من التذكرة التي لي، فأعدتها بعد ما كتبت عليها تقريظاً وهو حسبما قصده مني والتمسه: " وقفت على هذا النمط الغريب والأسلوب الذي ما سلك شعبه أديب، والألفاظ التي تجيد الجيد، وما تريب أنها حلي التريب، والعبارة التي هي أشهى من عصر شباب ما شيب بمشيب، والنظم الذي شاب منه رأس الوليد، ونقص أبو تمام فليس بحبيب، والمعاني التي هي أوقع في النفوس من وصل حبيب، نزهته اللذة عن الرقيب القري، والسطور التي هي جداول الروض والهمزة فيها على ألفها حمامة على قضيب ". وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويزعم أن يأتي لها بضريب لقد أمتع ناظمها أمتع الله بفوائده ومحاسنه، وحلى جيد الزمن يدره الذي يثيره من معادنه، فجعل لآفاقها مشارق ومغارب، ولبيوتها في شعاب القلوب مراكز ومضارب، كيف أفادها أعجازاً وصدوراً، وكيف تنوع في الحسن حتى أفاد الحضور أردافاً، وركب على الأرداف حضوراً، وكيف اقتدر على البلاغة فأطلع في أفلاكها شموساً وبدوراً، فلو عاينها الطغرائي، رحمه الله تعالى جعلها لمنشور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 ديوانه طغره، وعلم أن روض نظمه إن كان فيه زهرة فهذا أفق أطلع في كل منزلة منه شمساً وبدراً وزهرة، فالله يعز حمى الأدب منه بفارس الجولة، ويديم لأيامه بفوائده خير دولة، ويلم شعث بنيه الذين لا صون لهم ولا صولة، ويمتعهم بمحاسنه التي لا يذكر معها أبيات عزة، ولا أطلال خولة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. وطلاب مني عارية المقامات الجزرية ليقف عليها، فجهزتها إليه، فأعادها بعد ما كتب عليها بخطه يقول الفقير إلى الله تعالى علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري المدني عفا الله عنه: لما نظرت مقامات الجزرية رأيت ألفاظها حوشية، وحلل أسجاعها غير مطرزة ولا موشية، لم يسق روضها ماء البلاغة المستعذب، فما أنبتت أرضها زهر اللفظ المهذب، ومع هذا فطالما كلف نفسه فيها وعذب، وعندي أن من لم يستحسن كذبها لم يكذب: ظن الفصاحة في الغريب فآثره ... فلكم له من فقرة هي فاقره قرحت قريحته وفات قبولها ... يا كرة من بعد ذلك خاسره وقد أثبت عندي منها المقامة الأولى، ورأيت أن ترك ما سواها أولى: إذا الأسلوب في المجموع واحد ... وليس على كتابتها مساعد علي بن محمد بن قلاوون الملك علاء الدين بن السلطان الملك الناصر بن الملك المنصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 أخبرني الأمير شرف الدين حسن بن جندر بك، قال: جهزني السلطان الملك الناصر لإحضاره من الكرك، ولم يكن له في ذلك الوقت ولد ذكر غيره. قال: وجاءه الخبر بوفاته ونحن معه في الصيد، وكنت أنا والأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فانكمش وأطرق ولم ينشرح ولم يكلم أحداً. قال: فقلت له: يا خوند الله يطول عمرك، تريد تفرح بموته، فقال: لأي شيء؟ قلت: إذا كنت وحدك دام ملكك، وطالت دولتك، ففهم مقصودي، وساق وانشرح، وأخذ الجارح مني وحمله، أو كما قال. وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشرة وسبع مئة. علي بن محمد بن بن محمد نصر الله ابن المظفر بن أسعد بن حمزة الصدر الكبير الرئيس القاضي علاء الدين أبو الحسن بن القلانسي التميمي الدمشقي الشافعي، تقدم ذكر أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن محمد. سمع الحديث من ابن البخاري وزينب بنت مكي وعبد الواسع الأبهري. وحدث واشتغل وحصل وتفرغ في المباشرات وتأصل، وبلغ المعالي وتوسل بعقله إلى أن توصل. وكتب في ديوان الإنشاء، وأذن له بالإفتاء، ودرس بالمدارس الكبار، وصار به في الدولة الاعتناء والاعتبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 وكان مليح الكون، صحيح اللون، ذا نفس متضعه، وهمة لأفاويق السكون والاقتصاد مرتضعه، علا إلى الثريا ثم هبط إلى الثرى، وحصلت له مصادرة مشيت معها سعادته القهقري. وكان قد أسره التتار، وخلص منهم عند الفراغ بالفرار. ولم يزل على حاله إلى أن زاره أبو يحيى فجأه، وعدم حواسه فلم يسمع له نبأه. وتوفي رحمه الله فجاءة بدمشق في بكرة السبت خامس عشري صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. باشر كتابة الإنشاء مدة زمانية، وكان قد أخذه التتار في نوبة قازان هو والقاضي بدر الدين محمد بن فضل الله وابن شقير وابن الأثير رهينة إلى بلاد أذربيجان، وبقي عندهم معتقلاً مدة، ثم إنه تنكر محتالاً، وهرب. فنودي عليه، فاختفى بتبريز شهرين، وسمى نفسه يوسف، وتوصل إلى البلاد في زي فقير، ووصل إلى حلب، فأكرمه نائبها، وبعثه على خيل البريد إلى دمشق، وسربه أهله، وكان قدومه إلى دمشق في جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة. وتولى نظر ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ونظر البيمارستان النوري مع توقيع الدست بدمشق في يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 توفي أخوه القاضي جمال الدين أخذ وظائفه مضافة إلى ما بيده، وهي: نظر الظاهرية ودرسها، وتدريس العصرونية، ووكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وتدريس الأمينية، فأعطى لابن أخيه القاضي أمين الدين نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، وانفرد هو بالباقي. وقلت له يوماً: يا مولانا أنت اليوم توقع عن الله تعالى وعن السلطان وعن ملك الأمراء وعن نور الدين الشهيد، وعن الملك الظاهر، فضحك وأعجبه ذلك. وكان هشاً بشاً لم يتغير عما يعرفه أصحابه، ولا زاده هذا العلو إلا ضعة. وكان أخيراً يراعي الإعراب في كلامه المسترسل، ثم إن تنكز تنكر عليه، وصادره وصادر رفاقه، وأخذ منه جملة، ولم يكن خانه، وإنما دخل في شيء لم يكن يدريه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأفرج عنه، ولم يبق بيده بعد هذه الوظائف كلها إلا تدريس الأمينية والظاهرية. علي بن محمد بن محمد الشيخ للسند المقرئ المجود الزاهد العابد أبو الحسن البغدادي الرفا، سبط الشيخ عبد الرحيم بن الزجاج، فسمعه كثيراً. سمع جامع المسانيد من ابن أبي الدنية وجزء الأنصاري من عبد الله بن ورد صاحب ابن الأخضر، ومن البخاري على أبي الحسن الوجوهي، وبعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 مسند الإمام أحمد من الشيخ عبد الصمد بن أحمد ومن جده. وأجاز له من واسط الشريف الداعي صاحب ابن الباقلاني، وحدث بجامع المسانيد ثلاث مرات، وأول ما سمع منه في سنة ثلاث وسبع مئة. فر من رؤية المنكرات ببغداد إلى قرية برقطا، واشترى أرضاً كان يستغل منها كفايته، فلقن هناك خلقاً كثيراً كتاب الله عز وجل، وقد أكثر عنه نجم الدين سعيد الدهلي وأهل بغداد. وتوفي رحمه الله تعالى ببرقطا في وسط سنة أربعين وسبع مئة، وحمل إلى مقبرة الإمام أحمد بن حنبل فدفن بها. وكان يعرف القراءات السبع. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، أو في سنة ثلاث وستين. كان مقرئاً مجيداً، وعالماً مفيداً، عارفاً بالقراءات، قريباً من المحاسن بعيداً من الإساءات. سمع الحديث، وروى عن القديم والحديث، وحظي أهل بغداد ببركته، وتألموا بعده لسكون حركته. ولم يزل على حاله من الخير الصريح إلى أن ضمه الضريح، وأصبح بعد التعب وهو مستريح. علي بن محمد بن ممدود ابن جامع بن عيسى الشيخ الصالح المسند المعمر شمس الدين أبو الحسن بن الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 المحدث العدل، محب الدين بالندنيجي البغدادي الصوفي. كان بخانقاه الشميساطي بدمشق، كان والده من المحدثين العدول، سمعه صحيح مسلم على أحمد البادسني عن المؤيد الطوسي، وأسمعه جامع الترمذي على العفيف بن الهني، وحدث بالكتابين غير مرة، وله إجازة من النشتبري، ومحمد بن علي بن السباك، وإبراهيم الزعبي، ومحمد بن الحصري، وعبد الله بن عمر بن أبي السعادات البندنيجي، وعلي بن عبد اللطيف بن الخيمي، وهؤلاء الستة من أصحاب ابن شاتيل، وأجاز له إلياس الحجبي من أصحاب خطيب الموصل. وأجاز له جماعة من بغداد، وذكر أن عمره في الواقعة اثنتا عشرة سنة، وكان ببغداد بواب الحجر، والحجر هي دار الوكالة، وقدم الشام، وأقام بالقدس ودمشق نحو سبع عشرة سنة. وكان طويلاً له مهابة، وعلى ذهنه من أخبار بغداد والواقعة شيء كثير، وكان سماع لجامع الترمذي سنة تسع وأربعين وست مئة، وسماعيه لصحيح مسلم سنة خمسين وست مئة، كلاهما بدار الخلافة ببغداد. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد سابع المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية بدمشق، وله ثلاث وتسعون سنة. وكان قد سمع مسند ابن راهوية من العز أحمد بن يوسف الأكاف بإجازته من ابن الخير بن الطالقاني، وقيل: سمع من ابن الخير. سمعت عليه صحيح مسلم بكماله بدار الحديث الأشرفية بقراءة المحدث ناصر الدين محمد بن طغريل بحضور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 جماعة من الأشياخ، منهم شيخنا المزي وغيره. أجاز لي بخطه، وكان سماع صحيح مسلم في مدة آخرها سادس عشر شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وكان يجلس للإسماع والقارورة مشدودة على وسطه للبول، لأنه كان ضعفت قوته الماسكة رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن نبهان الشيخ ابن الشيخ المشهور، شيخ البلاد الحلبية، وسوف يأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في المحمدين. لما توفي والده رحمه الله تعالى جلس هو مكانه، وقدم إلى دمشق، وحج، وزرته واجتمعت به صادراً ووارداً في سنة ثمان وأربعين أو في سنة سبع وأربعين، وعاد إلى بيت جبرين قريتهم. ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب. علي بن محمد بن هارون ابن محمد بن هارون بن علي بن أحمد الثعلبي الدمشقي، نزيل القاهرة، الشيخ المحدث الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن. كان قارئ العامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 سمع حضوراً في الرابعة وفي الخامسة من ابن صباح، وابن الزبيدي، والناصح بن الحنبلي. وسمع من الفخر الإربيلي والمسلم المازني ومكرم بن أبي الصقر، وعدة. وروى الكثير، وتفرد في وقته، وأكثر الطلبة عنه والرحالة. وكان خيراً ناسكاً متواضعاً حسن القراءة محبباً إلى العامة. خرج له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى مشيخة. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، وشيخنا البرزالي، وشيخنا الذهبي، وهو آخر من حدث وسمع من ابن صباح. وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ست وعشرين وست مئة. علي بن محمد بن علي بن عبد القادر الإمام الشيخ نور الدين ابن الإمام كمال الدين أبي عبد الله الهمداني. كتب لي في إجازته ولأخي إبراهيم ولأختي يواش، ومن ذكر اسمه في الإجازة، بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة: من بعد حمد الله ذي الإحسان ... ثم الصلاة على الرضي المنان لهم أجزت جميع مالي أن أرو ... يه على من نص أهل الشان وأنا علي بن محمد بن علي ابن ... الشيخ عبد القادر الهمداني وإلى تميم نجل مر نسبتي ... لأبي وأمي قال ذا الجدان وولدت عام اثني ثمانين التي ... بعد المئين الست في رمضان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 قتل: قوله: المنان في وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجوز، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلب الجزاء على بلاغ الرسالة، ولم يمن على أحد بذلك، كيف وقد قال له الله تعالى " ولا تمنن تستكثر " " بل الله يمن عليكم أن هداكم ". ثم كتب بعض الفضلاء بخطه في النسخة التي بخط المصنف المنقول منها هذه النسخة ما صورته: " المنان هو ذو المن، سواء امتن بها أم لا، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له المنن الجسيمة والأيادي التي لا تحصى، فإطلاق لفظ المنان عليه عندنا لا يمتنع، فإنها صفة مدح، ولذلك كانت من جملة الأسماء الحسنى، وهي قائمة به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأي مانع من إطلاقها عليه، وأما قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " فهو في غير ما نحن فيه ". علي بن محمد الشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن الشافعي المعروف بابن الرسام، وكيل بيت المال والمدرس بصفد. كان حسن الود، جميل التحية والرد، ليس فيه شر، ولا عنده أذى، إذا كر وإذا فر، يرعى عهود أصحابه، ويؤويهم إلى رحابه، ذا مروءة زائدة، وفتوة لمباني المجد شائدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 وكان قد حفظ التعجيز، وطالع عليه شرح الوجيز، يكتب بيده اليسرى خطاً كأنه العقود المنظومة، أو حلل الوشي المرقومة، يعجب كل من يراه، ويجعل كل أحد إليه سيره وسراه. لم يزل على حاله إلى أن جعل الموت ربع ابن الرسام رسماً، وعدم الوجود منه جسماً لا اسماً. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد. وقلت لما بلغتني وفاته بعد وفاة جماعة من الأصحاب في صفد: لما افترست صحابي ... يا عام تسع وأربعينا ما كنت والله تسعاً ... بل كنت سبعاً يقيناً كان والده جندياً، واشتغل في مبادي أمره على شيخنا نجم الدين بن الكمال خطيب صفد، ثم إنه نزل إلى دمشق، واختص بالشيخ صدر الدين بن الوكيل بدمشق وبمصر، وقرأ عليه وعلى غيره، وسمع الحديث بدمشق وبمصر، وصحب الأمير بكتمر الحاجب، وتوكل له. ولما حضر إلى صفد نائباً جاء إليه فأعطاه بها التدريس بالجامع الظاهري، ثم فيما بعد أخذ وكالة بيت المال. وكان عنده مشاركة في العربية والأصولين، وكان يلثغ في الجيم يجعلا كافاً، يشمها شيناً معجمة، وكان لو أكل فسقتة واحدة عرق لها من فرقة إلى قدمه. وكنت قد قرأت عليه في صفد كتاب التعجيز وهو الذي نقلني إليه بعد ما حفظت ربع التنبيه، ولم يقطع عني مكاتباته في مصر ولا في الشام. رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 علي بن محمد بن عبد العزيز بن فتوح ابن إبراهيم بن أبي بكر بن القاسم بن سعيد بن محمد بن هشام بن عمرو. الصدر الرئيس الفاضل العالم النحرير المدقق المفنن الفريد الخواجة تاج الدين أبو الحسن بن الصاحب موفق الدين بن عز الدين بن موفق الدين أبي الفتح الثعلبي الشافعي المعروف بابن الدريهم الموصلي، مصغر درهم، والدريهم لقب لسعيد أخي محمد بن هشام، قال في وقت: دريهماً، فلزمه ذلك، وهو ابن أخت الشيخ بهاء الدين الحسين الموصلي المعروف بابن أبي الخير المقدم ذكره في حرف الخاء. كان أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذكائه، وغريبة من غرائب الدهر تشرق سماء الفضل بذكائه، دقيق الغوص على المعاني شديد التنقيب على ما يتصف به من العلوم ويعاني، خاض بحار المنقول، وقطع مفاوز المعقول، خصوصاً فن الرياضي وما يتشعب فيه، والكلام على أسرار الحروف وما يلائم طبعه أو ينافيه. له قدرة على تأليف المناسبات واستحضار الأشباه والنظائر في المطارحات والمقايسات، تام الشاكلة، وافر الجلالة: أدب لم تصبه ظلمة جهل ... وهو كالشمس عند وقت الطلوع ويد لا يزال يصرعها الجو ... د ورأي في الخطب غير صريع وله تصانيف كثيرة في غر ما فن، وتواليف قنصت ما شرد فيه وما عن، وكانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 له نعمة طائلة فذهبت، وسعادة خدمته أياماً، فانجلت وما أنجبت، وسعى فأخفق، ولم بارق حده وما حقق. وتوجه إلى مصر غير مرة فما أجدى، وكد حظه فأعطى قليلاً وأكدى، واستشار حتفه بسعيه الذي نبشه. وآخر ما أولاه أن توجه رسولاً إلى الحبشة، فقطع الحين عليه الطريق قبل وصوله، ولم يقبض ابن الدريهم فيه فلساً من وصوله. وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ومولده ليلة الخميس منتصف شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بالموصل. سألته عن مولده فأخبرني بما أثبته، وقال لي: قرأت القرآن بالروايات على الشمس أبي بكر بن العلم سنجر الموصلي، وتفقهت على الشيخ زين الدين ابن شيخ العوينة الشافعي. وحفظت الهادي وبحثت الحاوي الصغير على الأشياخ، منهم القاضي شرف الدين عبد الله بن يونس من شرح والده كمال الدين الصغير. وحفظت في العربية الملحة وألفية ابن معط وألفية ابن مالك، وبحثت في التسهيل. وقرأت شيئاً كثيراً من الرياضي على الشيخ زين الدين ابن الشيخ العوينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 وسمع بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين بن التركماني، وشمس الدين بن الأصفهاني، ونور الدين الهمذاني صحيح البخاري، وسمعت بها صحيح مسلم وسنن أبي داود وبعض الترمذي. وأجازني الشيخ أثير الدين أبو حيان، وقرأت عليه بعض تصانيفه، وأجازني جماعة أشياخ انتهى. وتوفي والده وهو صغير، خلف نعمة طائلة، فاستولى عليها بيت شيخ البلد بالموصل كمال الدين، ومعين الدين بن الريحاني ولم يطلعوه منها إلا على القليل، وانتشأ يتيماً وهو بنفسه وهمته يجتهد ويشتغل في العلم، ولم يكن له من يحرضه على ذلك، ثم إنه لما اشتد تسلم مقداراً يسراً من ماله من بيت شيخ البلد، وسافر به إلى الشام ومصر، وحصل من ذلك ثروة عظيمة، ثم ذهبت. قلت: أول قدومه إلى مصر في متجر في زي الخواجية سنة اثنتي أو ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه عاد إلى البلاد، وتردد بعد ذلك إلى الشام ومصر غير مرة، ولم أر أحداً أحد ذهناً منه في الكلام على الحروف وخواصها، وما يتعلق بالأوفاق، وأوضعها. ورأيت منه عجباً، وهو أنه يقال له ضمير عن شيء يكتبه السائل بخطه، فيكتبه هو حروفاً مقطعة، ثم يكسر تلك الحروف على الطريقة المعروفة عندهم، فيخرج الجواب عن ذلك الضمير شعراً ليس فيه حرف واحد خارجاً عن حروف المضير، وكونه يخرج ذلك نظماً قدرة على تأليف الكلام، وله مشاركة في غير ما علم من فقه وحديث وأصول دين وأصول فقه وقراءات ومقالات ومعرفة فروع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 من غير مذهب وتفسير، وغير ذلك، يتكلم فيه جداً كلام من ذهنه حاد وقاد، وأما الحساب والأوفاق وخواص الحروف وحل المترجم والألغاز والأحاجي فأمر بارع، وكذلك النجوم وحل التقويم. اجتمعت به غير مرة، وكتبت إليه: نصحتك عن علم فكن لي مسلماً ... إذا كنت مشغوفاً بحل المترجم تتلمذ لتاج الدين تظفر بكل ما ... أردت ورد بحر الفضائل واغنم فلابن دنينير تصانيف ما لها ... نظير ولكن فاقها ابن الدريهم وكانت له خصوصية بالملك الكامل شعبان وبغيره من أمراء الدولة الخاصكية وغيرهم من المتعممين أرباب الدولة، إلى أن أغري به الملك المظفر حاجي فأخرجه إلى الشام قبل قتله بقليل، فوصل إلى دمشق بعد شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وذكر لي أن له في ديوان الخاص أثمان مبيعات وغيره ما يزيد على المئتي ألف درهم، وتوجه مرات إلى مصر لخلص له في ذلك شيء، فتعذر عليه الحال، ولما وصل إلى دمشق سنة ثمان وأربعين وسبع مئة أقام بها قليلاً، فورد كتاب الأمير سيف الدين قرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام بإخراجه من دمشق، فكبس بيته، وأخذت كتبه، وأخرج من دمشق في إحدى الجماديين سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 فتوجه إلى حلب. وتوفي بعده دوادار بيبغاروس، فعاد إلى دمشق في سنة خمسين عازماً على الحج، فلم يقدر له، ثم عاد إلى حلب. ثم إنه حضر إلى دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم توجه إلى مصر بطلب من هناك، ثم عاد إلى دمشق، ثم إنه رتب مصدراً بالجامع الأموي، ثم بعد قليل رتب في صحابة ديوان الجامع الأموي، فباشره وعرفه جيداً، فانحصر المباشرون منه، وناكدوه، فبطل المباشرة، ورتب في استيفاء ديوان الأسرى، ثم إنه توجه في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين إلى الديار المصرية. فأقام هناك سنتين أو أكثر، ثم إن السلطان الملك الناصر بعثه رسولاً إلى ملك الحبشة، فتوجه غير منشرح، وجاء الخبر إلى الشام بوفاته رحمه الله تعالى في قوص ذاهباً. ونظمه فيه تكلف وتعسف. وكتب إلي بعدة أحاج، وأجبته عنها، وكتبت أنا إليه بمثل ذلك، وأجابني عنها. وقد أودعت ذلك في كتابي المسمى نجم الدياجي في نظم الأحاجي. وكان ابن الدريهم ديناره في العلم كامل، وغمام فضائله في فضاء الطروس هام هامل، فلو عاصره البوني لقال: هذا الذي يبرني ويحبوني، أو ابن الدنينير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 لقال: ما أنا كابن الدريهم عند لمح الطرف، وهو في عمله يفوق ويفوت وإن تفاوت فيما بيننا الصرف. وعلى الجملة فكان في هذه العلوم آية وقدره قد تجاوز فيها كل حد، وانتهى إلى كل غاية، وعاكسته في مراده الأقدار، ولم يرفع له في المناصب مقدار، خلة ألفها الأفاضل من الدهر، وطريقة عوملوا بها في السر والجهر. ومن تصانيفه ما نقلته من خطه: النسمات الفاتحة في آيات الفاتحة، وإشراق النفس في الحمدلات الخمس، الدراية في " ما ننسخ من آية "، السبيل الأوطا في الصلاة الوسطى، لطائف الأحكام على " هو الذي يصوركم في الأرحام " مدة البحور على " إن عدة الشهور "، إضاءة يوح على " ويسألونك عن الروح "، مثاني الكتاب المبين على أن قلب القرآن " يس "، الآثار الرائعة في أسرار الواقعة، منام النصوح في الكلام على سورة نوح، أسرار البدر في ليلة القدر، الافتحاص على سورة الإخلاص، العبارات في اختيار القراءات، مناسبة الحساب في أسماء الأنبياء المذكورين في الكتاب، نظائر الآيات والكلمات المكررات، النخب في التصاديق والخطب، كنز الدرر في حروف أوائل السور، سبر الصرف في سر الحرف، الزين في معاني العين، المناسبات العددية في الأسماء المحمدية، غاية المغنم في الاسم الأعظم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 البرهان على عدم النسخ للملتين من القرآن، مداحض الإكراه في تناقض التوراة، تعريف التبديل في تحريف الإنجيل، نظم نفائس عقود الدرر الزاهرة في هدم كنائس اليهود بمصر والقاهرة، الإنصاف بالدليل في أوصاف ماء النيل، مكافأة الأقدار للأخيار والأشرار، بوادر الحلوم في نوادر العلوم، اليقين لمن به ندين في الدليل على خلافة الخلفاء الراشدين، زجر السفهاء بآداب الفقهاء، اختيار الراغب في اختيار المذاهب، أسرار العبادات بتفصيل الإعادات، شرح نظم الحاوي ولم يكمل، فائدة الأبحاث بأحوال الوالدة في الميراث، منسك الحج، الرد على تقي الدين الإخنائي المالكي في مسائل متفرقة، المعلم بمعاضدات مسلم، الخيرة في حسن مسائل الفال وكراهية الطيرة، نفع الجدوى في الجمع بين أحاديث العدوى، وشائع النوار في شرح لوامع الأنوار، ولم يكمل، تعريف الإفراد للمقتدي لتتمة الذهبي والصفدي، خلاصة الخلاصة، نحو خمس مئة بيت، تسهيل التسهيل، العروض المجملة من المسموعة والمهملة، الزناد القادح في اختيار الصادح، ذات القوافي، القصيدة الألفية، المبهم في حل المترجم، مختصر المبهم في حل المترجم، مفتاح النوز في حل الرموز، غاية الإعجاز في الأحاجي والألغاز، مشاجرة من انتصر في المفاخرة بين السمع والبصر، رسالة التراضي بين الأمين والقاضي، سيادة الخيم، والبصارة في أدب الأكل والزيارة، نظم السلوك في آداب الملوك، إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب، تنويل الراثي في تأويل المراثي، تنآئي المناظر في المنائي والمناظر، سلم الحراسة في علم الفراسة، الإنافة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 الضيافة، تصاريف الدهر في تعاريف الزجر، افتقاد الخرائد المواهر في انتقاد فرائد الجواهر، تقرير الأبحاث في خواص المولدات الثلاث، اختباء الاختبار، الإساة بأدواء النسا والباه، اقتناع الحذاق في أنواع الأوفاق، بسط الفوائد ي شرح حساب القواعد، شرح الإسعردية في الحساب، المناسخات المصرية، الأجوبة القاهرية، المناسخات الحلبية، الأجوبة الحلبية، المسألة الحجموية، الأجوبة الحموية، الأجوبة الموصلية، الترسلات الشامية، الأجوبة الشامية، لم تكمل رسالة النصح العلوي على لسان الجامع الأموي، إخلاص الخواص. تمت. وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه: صد عني فلم تلم يا عذولي ... لست أسلو هواه حتى الممات لا تقل قدأسا ففي الوجه منه ... حسنات يذهبن بالسيئات علي بن محمد الصاحب علاء الدين بن الحراني جاء إلى دمشق عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فما أقبل عليه الأمير سيف الدين تنكز، ولا توهم فيه أنه لمثل درة الشام يحرز، ولا أن معرفته لإظهار سرائرها تبرز، فتركه واقفاً وما أجلسه، واستوحش منه فما أنسه. وكأن نفسه رحمه الله تعالى استشعرت بشؤمه، وأن هذا يستخرج مخبوء ماله ومكتومه، فما كان بعد قليل حتى أمسكه السلطان، وحكم أيدي العيث والفساد فيما عمره من الأوطان، وعرضت على الصاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 علاء الدين حواصله وأمواله، وآلات بيوته وغلاله، فلم يدع خبيثاً إلا أظهره، ولا مكتوماً إلا استخرج مضمره، حتى قال مماليكه: أين كان لنا هذا مخبوءاً، وما نرى هذا الصاحب إلا عدواً. ثم إنه استمر بدمشق إلى أن جاء الفخري وملكها، وسلك تلك الطريق التي سلكها، فتلقى الصاحب علاء الدين ذلك المهم الأعظم بصدره ونهض بعبئه الذي يعجز غيره عن دفع شره، وأراد ذلك المهم أموالاً يفوت الحصر عدها ونفقات يخجل البحار نقدها، ثم إنه استعفى من نظر الشام فأجيب، وخلص من الأمر العجيب، ثم إنه تولى أيام الكامل شعبان فعاد إلى دمشق ثانياً، واتفق خروج يلبغا على السلطان وأصبح عن طاعته نائياً، فكلفه إلى نظير ذلك المهم. وعاوده ذلك الخطب الملم: وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه ولما انقضى ذلك الخطب الذي عرى والحادث الذي دهم الورى، استعفى فأعفي، وحظه لا يمكن طرفه أن يغفي. ثم لما أن قتل يلبغا حضر الحوطة على موجوده، وضبط ما في أغوار حاصلة ونجوده، فقضى هذا المهم وأكمله، وفصل طلب الإعفاء من أمر دمشق وأجمله. وقال: ما أدري حظي من دمشق ما هو؟، والناس بمثل حسنها لم يضاهوا: أظمتني الدنيا فلما جبتها ... مستمطراً مطرت علي مصائبا ولكنه في هذه المرات الثلاث، والكرات الخباث، يباشر بصلف زائد، وعفاف غضه بنسيم النزاهة مائد، لم يخن في قليل ولا كثير، ولا تعرض إلى فتيل ولا نقير. واشتهر بالأمانة عند الملوك، وصار خبره في ذلك كالشمس عند الدلوك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 وما زال بالقدس منقطعاً إلى أن نزل به ضيف المنية، وطفئت قناديله المضية. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة بالقدس. وأول ما عرفت من أمره أنه كان يكتب الدرج عن الأمير فخر الدين أقجبا الفارسي مش الدواوين بصفد، وكان يعرف إذ ذاك بعلاء الدين بن المقابل، لأن أباه كان مقابل الاستيفاء بصفد، ثم إنه خدم كاتباً للأمير عز الدين أيدمر الشجاعي نائب قلعة صفد. وكان فيه إذ ذاك كيس ولطف وذوق وانهماك على عشر المطابيع والفضلاء، وبيته مجمع الأصحاب والعشراء، وفيه مكارم وخدمة للناس، ثم إن الشجاعي توجه إلى البيرة نائباً فلم يتوجه معه. ثم إن الشجاعي جاء إلى القدس ناظر الحرمين، وكان الصاحب علاء الدين عنده، ثم إنه ترك ذلك جميعه، وتجرد ولبس زي الفقراء، ودخل اليمن بالكجكول والثوب العسلي، وغاب هناك مدة، وجرت له أمور شاقة، حكاها لي من الأمراض والوحدة والفقر. ثم إنه حضر إلى دمشق، وتوجه إلى مصر في أواخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ثم إنه خدم كاتباً عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب ولما مات خدم عند الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير. ولما مات خدم عند الأمير سيف الدين طغاي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 تمر، صهر السلطان الملك الناصر، واشتهر في مصر بالكفاية والأمانة. ولما مات جهزه السلطان إلى الكرك ناظراً فتقلق من ذلك، وحضر إلى مصر، فخدم عند الأمير سيف الدين قوصون مدة يسيرة. ثم إن السلطان جهزه إلى دمشق وزيراً عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فباشرها مباشرة حسنة بعفة وصلف زائد، وجاء الفخري، وجرى ما جرى، فقام له بكل ما أراد، ومنعه من أشياء كان يريد فعلها من مصادرة الناس فقال له: مهما أردت عندي. وتوجه معه إلى مصر، وطلب الإقالة، فرتب له مرتب، وأقام مدة على ذلك. ثم إن الكامل شعبان طلبه جهزه إلى دمشق وزيراً ثانياً، فلما وصل إليها اتفق خروج يلبغا على الكامل، وحضر إليه النواب من أطراف الشام وأراد لهم نفقات وكلفاً كثيرة فقام لهم بذلك المهم وسده، ولم يمكن يلبغا من التعرض إلى أموال الناس، وتوجه لمصر، وعمل تقديراً للشام، وحضر وهو على يده، فلم يمش له حال، فطلب الإقالة وتوجه إلى القدس، وانقطع به. ثم حضر للحوطة على موجود يلبغا، فضبطه، وحرره، وعاد إلى القدس منقطعاً إلى الله تعالى. وكان به فتق فعظم وتزايد، وكان في عانته، فلم يزل ينمو إلى أن كان يعلقه في فوطة إلى عنقه، وتفاقم أمره في ذلك الفتق إلى أن قتله، رحمه الله تعالى. وفي هذه المرات التي يحضرها إلى دمشق لم يوسع له دائرة، ولا اتخذ مماليك ولا جواري ولا خدام ولا فعل ما يجب لمثل هذه الوظيفة من البذخ والخدم والحشم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 بل له غلام يحمل الدواة وغلام للخيل، وغلام يطبخ له ويغسل لا غير، وإذا خلا سمع الحديث، أو طالع في مجلدات عنده. ولما أن توفي السلطان الملك الناصر جلس ولده المنصور أبو بكر، وحلف عسكر دمشق، وقد كانت العادة أنه في مثل هذا الواقع يخلع على الموقعين وعلى كتاب الجيش كما فعل في كل مرة قبل هذه، فتحدث الجماعة معه في ذلك، فوعد بذلك، واجتمعت أنابه في ذلك، فقال: أنا ما ألبس تشريفاً حتى يلبس الجماعة تشاريفهم. فكتبت أنا إليه بعد ذلك: مماليك مولانا الوزير جماعة ... لهم بتشاريف المليك غرام ولا غرو أن هاموا بها في حدائق ... لأنهم بالمدح فيك حمام علي بن محمد بن يوسف الموصلي الشيخ المعروف بالبالي، بالباء الموحدة. كان رجلاً مباركاً ينوب في الإمامة بمشهد عثمان بالجامع الأموي. سمع من ابن البخاري مشيخته، وكتب في الإجازات، وحفظ التنبيه واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس عشر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب الفراديس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 علي بن محمد بن عبد القادر العدل الرضي، علاء الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، أخو القاضي بدر الدين بن أبي اليسر بن الصائغ. توفي علاء الدين بسكنه بالمدرسة العمادية، جوار قلعة دمشق سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. كان شهد على الحكام، والقضاة يعتمدون عليه في شهاداته، وأكثر أهل البلد يكتبون عنده. علي بن محمدابن الكلاس وبابن الريس، وكان هو يكتب على المجلدات: علي الدواداري، الفاضل الأديب الماهر علاء الدين. كان يتوقد ذكاؤه، وتشرق في سماء الأدب ذكاؤه. جمع مجاميع أدبية، وعلق نكتاً حديثية، واقتنى من الكتب جمله، وأثقل بها حمله. وسمع من المشايخ وعلق، ووفى نبل أدبه وغلق. وكان خطه يتحدر كالسيل ويتألق كالبرق في الليل، يدل على قوة يده وتسرعها، وملاءتها من القدرة وتضلعها. وكان جندياً في حلقة جلق، وحرفته من أرباب السيوف التي هو بها متعلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ ابن الكلاس، ولم يضئ له جلاس بين الجلاس. وتوفي رحمه الله تعالى بقرية حطين من بلاد صفد، قبل الثلاثين وسبع مئة، أو ما بعدها. ورأيته بدمشق غير مرة. وكان قد وقع بينه وبين صاحبنا زين الدين الصفدي، وعبث به، وصنع فيه مقامة. ومن شعره: خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعرفني بالحلو منه وبالمر بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر ومنه: سقطت نفوس بني الكرام فأصبحوا ... يتطلبون مكاسب الأنذال ولقلما طلب الزمان إساءتي ... إلا صبرت وإن أضر بحالي نفسي تطالبني وتأبى همتي ... أن استفيد غنى بذل سؤال قلت: وقد أولع الشعراء بهذا المعنى، ومما قلت أنا فيه مضمناً قول المعري: قضت لي أن لا اشتكي الدهر همتي ... ولو ساورتني أسده والأساود وأن لا أنال الرزق في دار ذلة ... ولو أنني في هالة البدر قاعد ومن شعر ابن الكلاس: تقدمت فضلاً من تأخر مدة ... بوادي الحيا طل وعقباه وابل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 وقد جاء وتر في الصلاة مؤخراً ... به ختمت تلك الشفوع الأوائل ومنه: فكرت في الأمر الذي أنا قاصد ... تحصيله فوجدته لا ينجح وعلمت من نصف الطريق بأن من ... أرجوه يقضي حاجتي لا يفلح ومنه يلغز في القلم: ما اسم له في السماء فعل ... والأرض فيها له مكان ينطق بين الأنام حقاً ... بصمته إذ له لسان فأعجب له ناطقاً صموتاً ... له على الصمت ترجمان ومنه يلغز في الرغيف: ومستدير الوجه كالترس ... يجلس للناس على كرسي يدخل فيه البدر حمامه ... وبعدها يخرج كالشمس يواصل السلطان في دسته ... واللص في هاوية الحبس لو غاب عن عنترة ليلة ... وهت قوى عنترة العبسي ومنه: من مبلغ غبريل أن رحيله ... جلب السرور وأذهب الأحزانا والناس من فرط الشماتة خلفه ... كسروا القدور وأوقدوا النيرانا ومنه: وأهيف تحكي البدر طلعة وجهه ... وإن لم يكن في حسن طلعته البدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 خلوت به ليلاً يدير مدامة ... وجنح الدجا دون الرقيب لنا ستر فلما سرت كاس الحميا بعطفه ... ومالت به تيهاً ورنحه السكر هممت برشف الثغر منه فصدني ... عذار له في منع تقبيله عذر حمى ثغره المعسول نمل عذاره ... ومن عجب نمل يصان به ثغر وكان المجير الخياط قد كتب إلى علاء الدين بن الكلاس أبياتاً كتب بها إلى غيره أولاً وأولها: علاء الدين إن تنسى الودادا ... وتمنحنا القطيعة والبعادا فأجابه علاء الدين عنها بأبيات أولها: مجير الدين فت الناس نظماً ... ونثراً واختياراً وانتقادا ثم إن علاء الدين علم أن المجير كان قد كتب بها إلى غيره، فكتب المجير إليه، ومن خطه نقلت الأصل والجواب: يا علاء الدين يا من ... طاب بالآداب ذكره وله عرف ثناء عطر ... الأقطار نشره نظمه فاق الدراري ... ونظام الدر نشره أيها الصدر الذي حا ... ز علوم الناس صدره والأديب الشهم قنا ... ص المعاني الغر فكره والجواد الجائد الحا ... وي بحار الجود شبره عندنا منك حياء ... جل عند الناس قدره إذ بعثنا نحوك الشعر الذي فصل شذره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 وبه غيرك من قبلك قد قلد نحره فاغتفر هفوة هاف ... جاء بالأعذار شعره وليفز منك بعفو ... وليقم عندك عذره فكتب علاء الدين الجواب عن ذلك: يا مجير الدين يا من ... أعجز الألسن شكره وله بحر نوال ... عغمر العافين غمره والذي يحلو بأفوا ... هـ ذوي الألباب ذكره والذي بذ فحول الشعر في المضمار شعره والذي فوق السماكين وفوق النسر قدره كل مفضال أياديه بها قلد نحره أيها الحبر مجير الدين والمحمود خبره جاءني منك قريض ... يسكر الألباب خمره جامع در المعاني ... عونه فيه وبكره حل في القلب كما حل بروض الحزن قطره بل كما ضاء لساري الليل في الظلماء بدره نحو من يطلب من جو ... دك أن يبسط عذره عبد إخلاص تساوى ... سره فيك وجهره وإلى رؤيا محيا ... ك فني والله عمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 علي بن محمد بن أحمد ابن سعيد بن سالم بن عمر بن يعقوب، القاضي علاء الدين أبو الحسن المعروف بابن الفامي، المحتسب بدمشق. اشتغل بمذهب الشافعي ودرس، وأدلج في طلب العلم وعرس، وسهر ودأب، ومهر لما طلب، واشتغل بالشام ومصر، وتوجه إلى الإسكندرية، ولم يؤخذ له على السعي إصر. وتولى تدريس المدرسة الأمينية، وصفا ظاهره في ذلك والنية. ثم باشر الحسبة، ووفر الله تعالى منها كسبه، وأقام فيها مدة وعزل، وكان قد طلع بدره فيها كاملاً، ثم أفل لا بل خسف وخزل، وتمر فيها أموالاً، ولم يبل بالدهر أعاداه أم والى. وعمر أملاكاً لها صورة، وذخائر غير محصور. ثم إنه وليها ثانياً، ورد الدهر عنان سعده ثانياً، إلا أنه أخنى عليه بعد مدة يسيرة، وجعل عين تطلعه إليها حسيرة. ولكنه جبر وقته مع الله بالتوبة منها، وترحل عن امتطاء صهوتها، ونزل عنها، وخف منها حاذه، وأقلع غيم وابله وقل رذاذه. وكان قد أنهكه المرض، وزال عن أعاديه إليه الغرض. ثم إن ابن الفامي ألفى مي المنية، وسددت إليه سهام الحين من تلك الحنية. وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة السبت سادس عشري صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 ومولده في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. كان قد حفظ التنبيه في الفقه، والعمدة في الأحكام ومقدمة ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب، وسمع من زينب بنت الكمال، وأبي عمر وعثمان بن سالم بن خلف، ومحمد ابن إسماعيل بن الخباز، والحافظ أبي الحجاج المزي، وزينب بنت الخباز، ومن بهاء الدين بن إمام المشهد، وعليه اشتغل بالعلم وبه تخرج. وكان أولاً قد تزوج بابنة القاضي زين الدين بن النجيح الحنبلي نائب قاضي القضاة علاء الدين بن المنجا، وكان يكتب الحكم عنه بالمدرسة الجوزية، وكان تولى الأمينية مدرساً بها في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة لما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق في واقعة بيبغاروس بعد وفاة ابن عمه بهاء الدين بن إمام المشهد، ثم إنه تولى حسبة دمشق في أوائل سنة أربع وخمسين وسبع مئة في أيام الأمير علاء الدين أمير علي المارديني، ثم تزوج زوجة ابن عمه أيضاً وهي الحموية، فورثه في مدرسته وفي الحسبة وفي الزوجة. وعزل من الحسبة سنة تسع وخمسين بالقاضي عماد الدين الشيرجي، ثم تولاها في شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ثم إنه لما أثقل حاله في المرض نزل عنها من ذاته، وخلف عدة من الأولاد الذكور وغيرهم، واشتملت تركته على ثلاثة مئة ألف درهم ما بين عين وأملاك ومجلدات وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 كان لي تنور قد تعطل في أيام حسبته الأولى، فكتبت أنا إليه في ثامن شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وسبع مئة: يا سيداً هو بالإحسان محتسب ... أجراً يوازنه في الحشر ثهلان أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يا سيداً هو في الإفضال مبتدأ ... وفي البلاغة والآداب سحبان أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان علي بن محمود بن إسماعيل بن معيد الأمير علاء الدين البعلبكي. كان شكلاً طوالاً، جسيماً لم ير له مثالاً، بديناً إلى الغاية، بديلاً من الفيل في العظم والنهاية؛ إلا أنه كان من رجالات الناس رياسة، ودربة وخبرة ومعرفة وسياسة، خبيراً بالأمور ومعالجة الجمهور، دون دهاء وخداع، وملقه ملق واتضاع، خدم الناس وتقدم، وتقرب إليهم فأحمد عقبى ذلك وما تندم، فانتقل من الجندية إلى إمرة العشرة، ثم إلى الطبلخانات والولايات المشتهرة، وولي نظر الأوقاف بدمشق مدة، ثم تولى القبلية ويده إلى أعلى من ذلك ممتدة. وكان تنكز يحبه لمعرفته، ويقربه ويوليه لدرايته ودربته. ولم يزل في صعود، ومراقي سعود، إلى أن مرض بالقبلية، وقدم إلى دمشق فطالت علته، ولم تستد بالعلاج خلته، ونشرت له من الكفن حلته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة ودفن بالمزة. وكان قد ليس للإمرة بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. هو وعز الدين خطاب وسيف الدين بكتمر ومملوك الأمير سيف الدين بكتاش. وولي البر بدمشق عوضاً عن الأمير شرف الدين بن البرطاسي في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. ثم إنه ولي شد الأوقاف في سابع عشري شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة مضافاً إلى ولاية البر، ثم إنه عزل منهما وتولى القبلية بحوران يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة، وتولى أخوه الأمير بدر الدين بن معبد شد الأوقاف، وتولى ولاية البر علم الدين الطرقجي. وكان أبوه شرف الدين تاجراً ببعلبك من عدولها، فنشأ ولده هذا وتعلق بالدول وخدمها إلى أن تولى شد الأوقاف بدمشق، وتولى البر مدة، ثم جهز إلى القبلية، فقلق فيها، ومرضن وحضر إلى دمشق إلى أن مات رحمه الله تعالى. وكان قد سمع من المسلم بن علان ببعلبك في سنة سبع وسبعين وست مئة قطعة من مسند الإمام أحمد. قال شيخنا البرزالي: وسمع بقراءتي ببعلبك سنة إحدى وثمانين وست مئة. وسيأتي ذكر أخيه الأمير بدر الدين محمد بن معبد في مكانه إن شاء الله تعالى. وكان من سمنه إذا نام يحرسه اثنان، فإذا غط أنبهاه، فيقال إنهم غفلوا عنه فنام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 فغط فمات، والله أعلم. كذا جرى للأمير سيف الدين كشلي الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى. علي بن محمود بن حميد العلامة البارع علاء الدين أبو الحسن القونوي الحنفي الصوفي، المدرس بالقليجية. سمع من الحجار، والجزري، وعدة. ودار على المشايخ قليلاً وحببت إليه الآثار، وخرجت له مشيخة، ولازم الكلاسة يقرئ العلوم فيها، وينفع من كان طالباً نبيهاً، مع ديانة لا تجهل، وصيانة لا يسمع أحد بذكرها إلا ويذهل، وتواضع على علو قدره، وسمو بدره، ودنو غيثه في العلم وقطره، أقام على ذلك برهة، ولأهل العلم بفوائده في كل وقت نزهة. ولما توفي شيخ الشيوخ القاضي بدر الدين المالكي تولى هو مكانه، وقال له المنصب باستحقاقه،: كن، فكانه. وأقام فيه قليلاً إلى أن حشرج صدره، وأفل من سماء الحياة بدره. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعو دمشق. وكان يعرب لديوان الإنشاء الكتب التي ترد عليه بالعجمية من البلاد الشرقية. وكان يقرئ الطلبة في البزدوي وابن الساعاتي وفي منهاج البيضاوي، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 مختصر ابن الحاجب، وفي الحاجبية، وربما أقرأ في الحاوي الصغير للشافعية. ولما توفي قاضي القضاة شرف الدين المالكي تولى هو مشيخة الشيوخ مكانه، وكان القاضي شرف الدين يأخذ من كل خانقاه في الشام في كل شهر عشرة دراهم، وفي كل يوم نصيبين. ولما تولى القونوي ذلك أبطله ولم يتناوله. وكان فيه سكون زائد إلى الغاية رحمه الله تعالى. وممن قرأ عليه أخي إبراهيم رحمه الله تعالى في المنهاج للبيضاوي. علي بن محمود بن إبراهيم الشيخ الصدر الرئيس علاء الدين بن جوامرد الفراء. كان رجلاً جيداً مشكور السيرة، يقصده الناس، ويقضي حوائجهم، قارب التسعين، وكان تاجر الخزانة، وله على ذلك معلوم. توفي رحمه الله تعالى في سادس عشري المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون. علي بن مخلوف ابن ناهض بن مسلم النويري، قاضي القضاة زين الدين أبو الحسن المالكي. حكم بالديار المصرية نيفاً وثلاثين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 سمع المرسي، وروى عنه. وسمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيرهما. كان كثير المروة، غزير الفتوة، وافر الاحتمال، كثير الإحسان إلى أهل العلم والاشتغال، يكرم العدول، ولا يرى له عن تعظيمه عدول، قد درب الأحكام فصار ابن بحدتها وخبر فصل القضايا، ما تخفي علي وهدتها من نجدتها، وكان به لمصر فخار، وللمنصب به اشتهار. ولم يزل على حاله إلى أن اعترف أجله بما جحد، وأصبح ابن مخلوف، ولم يخلفه أحد. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري شهر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ومولده بالنويرة من أعمال البهنسة أربع وثلاثين وست مئة. وأظن الشيخ صدر الدين بن الوكيل فيه يقول: إلى مالك يعزونه ونويرة ... فلا عجب إن كان يدعى متمما ولولا أن هذا البيت من المرقص لم أذكره هنا. وتولى القاضي زين الدين بن مخلوف رحمه الله تعالى قضاء الديار المصرية في أواخر سنة خمس وثمانين وست مئة عقيب وفاة ابن شاش. ولما توفي هو رحمه الله تعالى تولى المنصب بعده قاضي القضاة تقي الدين ابن الأخنائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 وكان السلطان الملك الناصر في سنة إحدى عشرة وسبع مئة قد عزل ابن مخلوف وأمر القاضي الشافعي أن يتخذ قاضياً مالكياً نائباً له من جهته ففعل ذلك ثم أعيد القاضي زين الدين بن مخلوف إلى مكانه. علي بن مسعود بن نفيس بن عبد الله الفقيه المحدث الصالح الزاهد نور الدين أبو الحسن الموصلي الحنبلي الحلبي نزيل دمشق. سمع من أبي القاسم بن رواحة وغيره بحلب، ومن إبراهيم بن خليل. قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وحدثني أنه سمع من يوسف بن خليل، ولم يظفر بذلك، وسمع بمصر من الكمال بن الضرير، والرشيد، ومن أصحاب البوصيري، وعني بالحديث ودرب قراءته، وكانت مفسرة نافعة، وحصل الأصول ثم ارتحل إلى دمشق، فأكثر عن ابن عبد الدائم والكرماني وابن أبي اليسر والموجودين. وكان يجوع ويشتري الأجزاء ويقنع بكسرة فيسوء خلقه مع التقوى والصلاح، وقرأ كتباً مراراً. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر صفر سنة أربع وسبع مئة. ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة. ومات رحمه الله تعالى بالبيمارستان الصغرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 علي بن المظفر ابن إبراهيم بن زيد، الأديب البارع الكاتب الفاضل، المقرئ، المحدث، المنشئ، الناظم، علاء الدين الكندي الإسكندراني ثم الدمشقي المعروف بالوادعي، كاتب ابن وداعة. وتلا بالسبع على علم الدين القاسم، وشمس الدين بن أبي الفتح. وطلب الحديث، ونسخ الأجزاء. وسمع من عبد الله الخشوعي، وعبد العزيز الكفرطابي، والصدر البكري، وعثمان ابن خطيب القرافة، وإبراهيم بن خليل، والنقيب بن أبي الجن، وابن عبد الدائم، ومن بعدهم. ونظر في العربية. وكان ناظماً غواصاً على المعاني، شاعراً قادراً على إحكام ما للأبيات من المباني. جود المقاطيع دون القصائد، وأتى في كل بدر العقود وجواهر القلائد، يغوص على المعاني ويغور، ويفوح أرج نظمه ويفور. وكتب المنسوب الذي أزرت لآليه بياقوت، وأذكر الناس بما يروى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 السحر عن هاروت وماروت، ما كأن طروسه إلا حدائق، ولا كأن حروفه إلا رياض بين العذيب وبارق، ولا كأن مداده إلا شعرات في صدغي غلام مراهق. جمع المجاميع الأدبية، وانتقى الأحاديث النبوية، وله التذكرة الكندية التي بخانقاه الشميساطي تشهد بفضله، وتعترف بنباهته ونبله، وديوانه يدخل في مجلدين كبيرين، وقفت عليهما فأطرباني، وقلت للدف والشبابة بعدهما لا تقرباني، ولملكتهما فملكا قلبي، ووضعتهما بين كتبي، وقد سكنا خلبي وقد انتقيت منهما ما راق نظمه، وكمل بدره تمه، ومن ذلك قطعة وافرة في الجزء الثالث والثلاثين من التذكر التي لي. إلا أنه كان يتشيع، ويتوعر بذلك في ألفاظه وما يتورع. وكتب الدرج موقعاً بالحصون مدة طويلة، ثم دخل آخر عمره ديوان الإنشاء بدمشق، على رأي العوام، بألف حيلة، وكان هجاماً على الأعراض، هجاء للجواهر والأعراض، وكان الناس ينفرون منه لذلك، ويرون فضائله المضيئة كأنها الليل الحالك، ومع تفنن فضائله وتوسع رسائله لما دخل الديوان لا راح ولا جا، ولم يره الجماعة في باب الكتابة ولا جا، كما جرى لبعض الناس، وقال الجماعة للمتعجب: " ما في وقوفك ساعة من باس "، حتى قلت أنا: لقد طال عهد الناس بابن فلانة ... وما جاء في الديوان إلا إلى ورا فقلت كذا كان الوداعي قبله ... ولا شك فيه أنه كان أشعرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 ولم يزل على اله إلى أن تحقق الوداعي من الحياة وداعة، واسترجع الأجل ماله عنده من وداعة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء سابع عشر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة تقريباً. وتوفي ببستانه عند قبة المسجف. قال شيخنا الذهبي: كان يخل بالصلوات فيما بلغني. وكان شاهداً بديوان الجامع الأموي، وولي مشيخة الحديث بالنفيسية، وتولى نظر الصبية وبانياس فيما أظن، وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله ما كتبه على ديوان الوداعي رحمهما الله تعالى: بعثت بديوان الوداعي مسرعاً ... إليك وفي أثنائه المدح والذم حكى شجر الدفلى رواء ومخبراً ... فظاهره شم وباطنه سم ولما شاع عنه كثرة الهجو تطلب القاضي نجم الدين بن صصرى ديوانه، وتذكرته من خانقاه الشميساطي، وكشط من ذلك أهاجي الناس، ولم يقدر على استيعاب ذلك، فإنني وجدت له بعد ذلك بخطه كثيراً. وكان شيخاً مسناً، وله ذؤابة بيضاء إلى أن مات، ونقلت من خطه له: يا عائباً مني بقاء ذؤابتي ... تالله قد أفرطت في تعييبها قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أٌطعها أوان مشيبها قلت: نقل هذا من الحكاية التي تحكى عن بعض الوعاظ أنه طلع المنبر ووعظ والسلطان قد حضر ميعاده على كراهية له وهو يتكلم والمقص إلى جانبه والطواقي، والناس يصعدون إليه ويتوبون على يديه، فيقص شعورهم ويلبسهم الطواقي، فما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 إلا أن طلع إليه بعض خواص السلطان ممن يحبه ويهواه، وله ذؤابة سوداء مليحة طويلة، فتغير السلطان، وقال لمن يعز عليه: والله إن قطع شعر هذا المملوك لأقطعن يده، فلما صعد إلى الواعظ علم أنه قد وقع في خطر، فأخذ شعره في يده، وأخذ يفكر في خلاصه من تلك الورطة، وشغل المجلس بأشعار وحكايات، ثم قال: يا جماعة! أتدرون ما يقول لسان حال هذه الذؤابة، فقالوا له: ما يقول؟ قال: يقول: أنا كنت معه في زمن المعصية بالله لا تفرق بيني وبينه في زمن الطاعة، انزل روح يا سيدي، فأعجب السلطان ذلك والناس، ووقع كلامه منهم بموقع جد. وإنما سمي علاء الدين الوداعي، لأنه كان يكتب للصاحب علاء الدين بن وداعة، ولذلك قال، ونقلته من خطه: ولقد خدمت الصاحب ابن وداعة دهراً طويلاً فلقيت منه ما التقى ... أنس وقد خدم الرسولا وأنشدني شيخنا شمس الدين الذهبي، قال: أنشدنا المذكور من لفظه لنفسه، ونقلته أنا من خطه: من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي محاسن ما أوليت من منن فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن ونقلت منه ما كتبه لبعض أصحابه بمصر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي البالي وصف لي القرط وشنف به ... سمعي وما العاطل كالحالي وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثورا وإن رقا وراقا لي ونقلت منه: وزائر مبتسم ... يقول لما جا: أنا فقال أيري منشداً ... أهلاً بتين جاءنا قلت: يشير إلى قول الشاعر: أهلاً بتين جاءنا ... مفتح على طبق كسفرة من أدم ... مجموعة بلا حلق ونقلت منه له: لله ما أرشقه من كاتب ... ليس له سوى دموعي مهرق يميس رقصاً في قباء أسود ... فقلت: هذا ألف محقق ونقلت منه له: وذي دلال أحور أجحر ... أصبح في عقد الهوى شرطي طاف على القوم بكاساته ... وقال: ساقي، قلت: في وسطي ونقلت منه له: ولم أرد الوادي ولا عدت صادراً ... مع الركب إلا قلت: يا حادي النوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 فديتك عرج بي وعرس هنيهة ... لعلي أبل الشوق من آبل السوق ونقلت منه له: سقيا لكرم مدامة ... أنشت لها النشوات ليلا خلعت علينا سكرة ... بدوية كما وذيلا ونقلت منه له: ويوم لنا بالنيربين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه وقفنا فسلمنا على الدوح غدوة ... فردت علينا بالرؤوس غصونه ونقلت منه له: ذكرت شوقاً وعندي ما يصدقه ... قلب تقلبه الذكرى وتقلقه هذا على قرب دارينا ولا عجب ... فالطرف للطرف جار ليس يرمقه قلت: أخذه من قول الأول، والأول أحسن: لئن تفرقنا ولم نجتمع ... وعاقت الأقدار عن وقتها فهذه العينان مع قربها ... لا تنظر الأخرى إلى أختها ونقلت من خطه له: الغرب خير وعند ساكنه ... أمانة أوجبت تقدمه فالشرق من نيريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه وقال أيضاً: حوى كل من الأفقين فضلاً ... يقربه الغبي مع النبيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 فهذا مطلع الأنوار منه ... وهذا منبع الأنوار فيه قلت: أخذ الوداعي معناه الأول وبعض الثاني من قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: " وتلك الجهة وإن كانت غربية فإنها مستودع الأنوار وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار ". ونقلت من خطه له: رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي وما في ذاك من بدع ... سهام الليل ما تخطي ونقلت منه له وظرف: لنا صاحب قد هذب الطبع شعره ... فأصبح عاصية على فيه طيعا إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... فحق لشعر قاله أن يسبعا ونقلت منه له: قل للذي بالرفض أتهمني أضل الله قصده أنا رافضي لاعن الشيخين والده وجده ونقلت منه له: ولا تسألوني عن ليال سهرتها ... أراعي نجوم الأفق فيها إلى الفجر حديثي علا في السماء لأنني ... أخذت الأحاديث الطوال عن الزهري ونقلت منه له: امرؤ القيس بن حجر جدنا ... كان من أعجب أملاك الزمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 ضل لما ظل يبغي ملكهم ... وهدى الناس إلى طرق المعاني ونقلت منه له: كم رمت أن أدع الصبابة والصبا ... فثنى الغرام العامري زمامي بذوائب ذابت عليها مهجتي ... ومناطق نطقت بفرط سقامي ونقلت منه له: تأمل إلى الزهر في دوحه ... ومن زاره من ملاح الفتون تظن الوجوه التي تحته ... تساقطن من فوقه من عيون ونقلت منه ما قاله في رأس العين ببعلبك: لله در العين ليلة زرتها ... فوجدتها راقت ورقت مشرعا واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا ونقلت منه له: يا عاذلي في وحدتي بعدهم ... وأن ربعي ما به من جليس وكيف يشكو وحدة من له ... دمع حميم وأنين أنيس ونقلت منه له: قسماً بمرآك الجميل فإنه ... عربي حسن من بني زهران لا حلت عنك ولو رأيتك من بني ... لحيان لا بل مني بني شيبان ونقلت منه له: قلت وقد ماس في الكسا رشاً ... يخجل بدر التمام حين بدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 إن الكسائي لم يمل أبداً ... أحسن من قده إذ أبدا ونقلت منه له: أدام الله أيام العذار ... وبارك في لياليه القصار وأغنى الله روضة كل خد ... إذا استحيت من الديم الغزار ولا زالت مباسم كل ثغر ... لشائم برقا ذات افترار ولا برحت على العشاق تصفو ... ثياب العار في خلع العذار قلت: قد حذا حذو شمس الدين بن العفيف التلمساني حيث قال وهو ألطف: أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون وضاعف بالفتور لها اقتداراً ... وإن تك أضعفت عقلي وديني وأسبغ ظل ذاك الشعر يوماً ... على قد به هيف الغصون وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون وخلد دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين وقول شمس الدين محمد أيضاً: أدام الله أيام الجمال ... وخلد ملك هاتيك الليالي وأسبغ ظل أغصان التداني ... وزاد قدودها حسن اعتدال ولا زالت ثمار الأنس فيها ... تزيد لطافة في كل حال ولا برحت لنا فيها عيون ... تغازل مقلتي خشف الغزال ونقلت من خطه له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 تعجبوا من أدمعي إذ غدت ... بيضاً وكانت من دم قان لا تعجبوا طرفي رب الهوى ... وكل يوم هو في شان ونقلت منه له: قلت للعاذل المفند فيها ... حين وافت وسلمت مختاله قم بنا ندعي النبوة في العشق فقد سلمت علينا الغزاله ونقلت منه له أيضاً في شاهد: قضيت نجبي في هوى شاهد ... أصبح عدل القد بين القدود وليس لي من أمره مخلص ... وهكذا القاضي أسير الشهود قلت: كان ينبغي أن يأتي بالتوطئة بذكر القاضي ليكون المثل كاملاً. ونقلت منه له: متى أرى النفس التي ... من بعدهم قد نحلت تفتح أبواب الهنا ... إن هي إليهم قفلت علي بن معالي الصدر الفاضل علاء الدين الأنصاري الحراني ثم الدمشقي المعروف بابن الزريزير الكاتب الحيسوب. كان مشكوراً، وانتفع به جماعة. مات عن نحو أربعين سنة فجأة بدمشق في ثالث عشري صفر سنة خمس وسع مئة، ودفن بسفح قاسيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 علي بن مقاتل علاء الدين التاجر الحموي، صاحب الأزجال المشهورة. تفرد بنظم الأزجال في آخر عمره، وتحكم في فنها نبهية وأمره، وأتى بغرائب الصنعة واللزومات التي تضيق فيها على العوالي الرقعة، بحيث إنه أكثر من أنواعها، واستعمل أعوانها في مد أبواعها، وله شعر أيضاً إلا إنه في ذاك أمهر، وأزجاله أشهى إلى القلوب وأشهر. اجتمعت به في حماة وفي دمشق غير مرة، وجلا علي من بنات فكره كل خريدة كأنها للشمس ضره، وديوانه يدخل في مجلدين، ويراهما أرباب هذا الفن في جنات الصدور مخلدين. ولم يزل على حاله إلى أن قتل ابن مقاتل، ولم يقدر في معرك المنية على أن يخاتل. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة إحدى وستين وسبع مئة بحماة المحروسة. ومولده بها في سنة أربع وستين وست مئة. أنشدني كثيراً من أزجاله وأشعاره، ونقلت من خطه: ومليح عمه الحسن بخال مثل حظي وقع البحث عليه ... بينه وبين لفظي قال هذا خال خدي ... قلت بل ابن أخت لحظي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 ونقلت منه له: إن الخراساني لما حوى ... حلاوة الإيمان من خوفه فضله الله على غيره ... أما ترى قلبين في جوفه ونقلت منه له: إن كانون في الكوانين أمسى ... وبه حفلة من النيران كصديق له ثلاث وجوه ... كل وجه منها بألف لسان ونقلت منه له: يا مرقصاً يا مطرباً غنى لنا ... أنعم لإخوان الصفا بتلاقي فلقد رميت مقاتل الفرسان بين يديك عند مصارع العشاق ونقلت منه له: خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وةثغر وأرياق ولحن ومعرب ورود وسوسان وبان ونرجس ... وكأس وجريال وجنك ومطرب ونقلت منه له الأول تصحيف الثاني: شفائي وجناتي حبيب بسربه ... لعوب بمرج تفرج البأس شيمته سقاني وحياني حييت بشربة ... لغوت بمزح تفرح الناس سيمته ونقلت منه له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 أسهرتني مليحة أسهرتني ... طول ليلي ظلامه الطرف يعشي والسهى خيفة الغراق من السقم مسجى على بنيات نعشي والثريا كأنها راحة تلطم خد المريخ والجو مغشي ونقلت منه له: فضوا كتابي واعذروا فأناملي ... منها اليراع إذا ذكرتم يسقط والقلب يخفق لا ضطراب مفاصلي ... والخط يشكل والمدامع تنقط قلت: أحسن منه وأجزل وأمتن قول ابن الساعاتي: بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... نطم يصافحه النسيم فيسقط والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط ونقلت منه له: لا تنكروا حمرة خطي وقد ... فارقت من أحباب قلبي جموع فإنني لما كتبت الذي ... أرسلته رملته بالدموع ونقلت منه دوبيت في كل كلمتين قلب نفسها: الخل خلا من نمعانق بقناعقانع بعناقألف لا عاد وداع ما دام معانق ناعمعاش شاعألمى يملا ما أمعاطى وأطاع ونقلت منه له موالياً: على وفاكي وفاكي كم ذهب من عين ... وفي شفاكي شفاكي للذي بوعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 ما أحلى وماكي وماكي نبع أعذب عين ... وقد حماكي حماكي أن تراكي عين ونقلت منه له موالياً: قال الذي من يراه الطرف ما يسني ... أنا الذي إن نظرت بالبدر ما يسني والغصن يا خجلتو إن قام ما يسني ... وعاشقي إن هجوتو شهر مايسني ونقلت منه له أيضاً: كلمت من لو بقلبي ألف تكليمة ... بسيف لحظو الذي ما فيه تثليمه وقلت بعد الوفا تبخل بتسليمة ... أرخصت دمعي وما تغلى بتعليمه وكان قد أنشدني لنفسه بحماه زجلاً وهو: قلبي يحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه بدر السما ويطبع ... من راد وصالو يعطب صغير بحير في أمرو ... غزال قمر بشحرو ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب نذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو خيب ما كان طمعتو ... وقال كلام ما سمعتو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 ارجع ولي لا تتبع ... نخشى عليك لا تتعب كم قدامو وخلفو ... مشيت مطيع لخلفو وقصدي لثم كفو ... قال دع مناك وكفو فلثم كل إصبع ... من الثريا أصعب ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري ناديت ودمعي جاري ... أيش لو تكون يا جاري تدعني من فيك أشبع ... قال أيش يكون لك أشعب من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو يذبح وهو يريدو ... وكم ذا شيخ مريدو خلاه ودمعو يبلغ ... وهو بعقلو يلعب من حاز في حسنو خدجو ... لحظو لقتلي حدو وورد خدو ندو ... ما في الرياض شي ندو روض بالحيا مبرقع ... عليه سياج معقرب كم خصم في المقاتل ... صابو ابن مقاتل وكم ذا في المحافل ... قد أنشا غصن حافل من كل بيت في مربع ... ملحون بألف معرب فأعجبني هذا الذي فيه من قلب البعض في أغصانه وبعد حين خطر لي نظم شيء في هذا فقلت أنا وجعلت جميع قوافيه مقلوب البعض: قلبي لو صلو ترقب ... وبالخضوع لو تقرب وربع صبري تعرقب ... حين رأى عذار وتعقرب ترجم جمالو وعبر ... وزان لشكو وعرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 في حسن حبي غرايب ... للعشق فيها رغايب سرت إليها النجايب ... من الصبا والجنايب رآه عاذلي فيه كبر ... وقام لعذري وركب جيدو على الظبي راجح ... واللحظ من طرفو جارح تراه إلى الصد جانح ... وعاشقو ليس هو ناجح من صغر سنو تكبر ... وعاشقو قد تكرب حكم الهوى منو قاسط ... وحظي من وصلو ساقط مانا من الرحمة قانط ... والدمع من فوق خدي ناقط لمن طغى أو تجبر ... يندم وهذا تجرب غدا بوصلو مبخل ... خلاني كيف ريت مخبل وأسرع في قتلي ما أمهل ... وعم سقمي وما أهمل والدمع في الخد بحر ... والصدر للهم رحب تراه يزيد في جمالو ... مالو نظير في مجالو رأى ابن يعقوب لجالو ... كونو فريد في جلالو في طلعة الشمس غبر ... وفي السيادات غرب وفا وعودو تعود ... وما يفي إن توعد كم راحة من كفو أوجد ... لنو من الغيث أجود أبطل حسودو وأبطر ... ومدحو للسمع أطرب لفن الإنشا ضراعه ... لو من زمان الرضاعه وفي كلامه صناعه ... فيها بديع ونصاعه ترسلو الحلو بور ... غيرو وعن مثلو ورب كم من طويل فصل لخص ... ومن عق لفظ خلص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 والخير كم فيه ترخص ... والحق قال ما تخرص والملك بو قد تدبر ... والدهر بوقد تدرب راح للحجاز وترفق ... بالناس ومالو تفرق وحوض سيلو مروق ... وأمسى وجفنو مورق يتلو وصار أشعث أغبر ... وعزمو أكبر وأرغب شيخ الشيوخ لو مخايل ... تقول رياض أو خمايل لو جاد في قفر ما حل ... كان تبصر السيل حامل من أبصر وراح مبشر ... بوجه أبيض مشرب ولما نظمت هذا الجزل كان في دمشق في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة، وسمع بي، فجاء إلي وطلب الوقوف عليه، فأوقفته، فبهت له، وأنشدني له أشياء من هذا النوع، ولكنه لم يلتزم ذلك في جميع القوافي. ولما وقف عليه الإمام مجير الدين محمد بن الحسن بن الشهرزوري كتب لهو إلي: دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب في من لهجرو تبشر ... وللأعادي تشرب خبر بأسرار دمعي ... ولم يجبيني وما ادعي في حب أصلي وفرعي ... أعليه وما يهوى رفعي عن مقلتي شخصو بذر ... ونطقو في مقتي ذرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 يا من هو لي مني سالب ... صدغيك عقربها لاسب يا ولدي خالقك راقب ... فيا وسادد وقارب سيف هجرك القلب هبر ... وعسكر الصبر هرب يا أحلى الخلائق وأملح ... شخصك ترى يوم ألمح ولي تجود وتسمح ... وأرضك أجفاني تمسح هجرك بترني وتبر ... وخدي بالذل ترب يا أحصف الناس وأفصح ... عن زلتي بالله أصفح واغنم ثوابي واربح ... فعن هواك ليس أبرح ما دام خدك معبقر ... وشعر صدغك معقرب ازي رأى حبي أمرد ... ما ارجع يرى طرفو أرمد الآس ترى أو زمرذ ... عذار هذا المزرد طرز خدودو وحبر ... وحير الناس وحرب أي من تصبح بخالو ... يزول عنو خبالو لو رآه مشبه لخالو ... سيدي خليل في خلالو لما غدا قدرو أكبر ... قلوب حسادو أكرب أبو الصفا خير منشي ... إليه على رأسي نمشي ترسلو الحلو حوشي ... من حشو ولفظ وحشي فيه كيف أقبل وأدبر ... من سائر الناس هو أدرب لو عاين ابن المقفع ... بيانو أضحى مفقع وفي الكلام ما تشبع ... وكان بروح تبشع لفظو في الآذان أغبر ... وأقعد فصاحة وأغرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 شعرو على الشعرى باسق ... وفحلو في النظم سابق ما يلحقو قط لاحق ... قد اعتلى فوق حالق مية ألف نظام يقبر ... ما يطيق منو يقرب ولو رأى ابن هلالو ... خطر المعجز لهالو للبحتري أو لخالو ... لوجا مكانو خلالو لنو للأوزان أسبر ... وفي قوافيها أسرب بقى إلى ظلو يهرب ... ودام يرجا ويرهب ومن يجاريه يتعب ... وما ينالو ويعتب ومن يعاديه يغبر ... ومن يواليه يرغب عبدو المجيرحين تشرف ... ومن كلامو ترشف زبب وما بعد نصف ... وجاز حدود وصنف دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب وأنشدني علاء الدين بن مقاتل لنفسه: يا من قطع أوصالي ... ولي نار فراقو صالي يوسف بالجمال أوصى لك ... وأبوه بالحزن أوصي لي ما أصبرني عليك من عاشق ... وما أقساك عليه معشوق حاجبك بقوسو راشق ... وقلبي بنبلو مرشوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 فسبحان تبارك ما شق ... ألف ذا القوام الممشوق قد أخلصت فيك أعمالي ... وعلقت بك أمالي وذل الجمال راس مالك ... والصبر الجميل راس مالي يا من خلى دمعي جاري ... وأوقف حالي الله جارك ارعى لي الوداد يا جاري ... بالذي من السوء جارك وقلبي بوصلك داري ... ولو فرد يوم في دارك تستفيد شيء من أشغالي ... يا غريز عليه غالي قال إياك يكون أشغالك ... بحال تاجر البرغالي إن كان المعاشق جندك ... فأنا العاشقين من جندي ولي حاجة سهلة عندك ... رقاد ليله تنتين عندي وفوق عنقي تجعل زندك ... ومن تحت عنقك زندي وأنشدك شيء من أغزالي ... في جدي وفي أهزالي قال من حالك رقيق أغزالك ... قلتو جفنك الغزالي قال فمن ذا حلاً لفظك ... قلت من ما أحلى لفظو فيا ترى إيش حال حظك ... قلت يا سعيد في حظو فيه شوي سواد من لحظك ... يا من حد صارم لحظو فولاد ومجوهر حالي ... ولفظو مكرر حالي ما دام سعد حالك حالك ... عن وصلي فحالي حالي ارحم يا من الله حبو ... مجنون في سلاسل حبك مسكين قد تفطر لبو ... وما ذاق خميرة لبك ودمعو عليك قد صبو ... لهذا يسمى صبك ولو كنت بالنار سالي ... قلبو ما هو عنك سالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 فقل ليمن فيه سالك ... ما لو خرجه من سلسالي عندي لك فعال مخصومه ... وعندك فعالي خصه وروحي معك مغصوصة ... وتجرعت فيك كم غصه وأخباري عليك مقصوصه ... ولا بد لي من قصه ترفع للجناب العالي ... وأشكو للقوي المتعالي عسى بصلاح أفعالك ... يمتزج فساد أفعالي زرني يا مليح بحياتي ... قال لا والله فوق وحياتك قلت أنا أعشقك من ذاتي ... قال واش كنت أنا من ذاتك قلت ما تطيب أوقاتي ... بغير ساعة من أوقاتك فاجعل الوصال متوالي ... وكن في علي موالي قال ما أقدر أجي لك والك ... قلت أيوه تجي بالوالي علي بن مقلد علاء الدين حاجب العرب في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان راجلاً طويلاً، أسمر اللون كحيلاً، يتحنك بعمامته، ويتقلد بسيفه طول قامته، ويلبس الثياب الطويلة المفرجة، ويسلك الطريقة التي هي عن العربان فحرجه، يتبادى في كلامه، ويتباده في معاجلة تحيته وسلامه. قربه تنكز وأدناه، ومكنه فعناه وأغناه، وصارت له في الدولة وجاهة زائدة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 ومكانة؛ إلا أنها كانت إلى الهلاك قائده، وزاد في طغواه، وأرخى له الدهر أعنة هواه دون تقواه، فطار في غير مطاره، ونال نهايات أمانيه، وأوطاره، إلى أن تنكر تنكز له، فلبس له جلد النمر، وصبحه بصوب من سوط عذاب منهمر، فقتله بين يديه بالمقارع إلى أن تهرا، وتفصل جلده وتفرى، ثم كحله فأعماه، وقطع لسانه فأصماه. فما كان بأسرع من ولوج الحمام حماه، ونفاذ السهم الذي قصده الحتف به ورماه. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. حكى لي علاء الدين بن مقلد من لفظه، قال: توجهت إلى الرحبة في شغل، فعدت وقد حصل لي ثمانية عشر ألف درهم، أو قال: خمسة عشر ألف درهم، من العربان، ولم أذكر أنا هذا القدر إلا أن هذا في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان فرطاً عظيماً لا يصل إليه أحد في أيامه. وكان ابن مقلد رحمه الله تعالى قد زاد في التعاظم والتيه والكبرياء، فلو جاءه علي بن مقلد صاحب شيزر لقال: هذا شي زري لا شيزري، ولكنه أقام على هذا القدم مدة طويلة، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يسأل عنه من دواداره ناصر الدين، ويقول له: هذا ابن مقلد ما يعجبني حاله، وربما أنه يشرب النبيذ. فيقول ناصر الدين الدوادار: ما أظن ذلك ولا يقدر يفعله وحاجه فيه مرات، فلما كانت واقعة حمزة التركماني المقدم ذكره ودخوله في أمر ناصر الدين الدوادار، وما أوحاه في حقه وحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 جماعته، خرج لوالي المدينة وقال له: أريد منك أن تكبس ابن مقلد، فكبسه تلك الليلة، وعنده جماعة نسوة وحرفاؤهن، ولما أصبح دخل حمزة إلى تنكز وعرفه الصورة، فأحضر الدوادار وأنكر عليه ووبخه وعنفه، وكان ذلك سبب الإيقاع به، وأحضر ابن مقلد وقتله بالمقارع قتلاً عظيماً إلى الغاية، وكحله، واعتقله في قلعة دمشق، فبلغه عنه كلام لا يليق، فقطع لسانه من أصله، وأحضر إليه على ورقة، فمات فيما أظن من ليلته بعد ما سلب نعمة عظيمة، ورتبة مكينة، وجاهاً طويلاً عريضاً، نسأل الله خاتمة خير في عافية. علي بن منجا ابن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، الشيخ الإمام الفقيه البارع، قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ زين الدين أبي البركات ابن القاضي عز الدين أبي عمرو بن وجيه الدين أبي المعالي الحنبلي، قاضي دمشق. ذكرت جماعة من أهل بيته في هذا التاريخ، وحدث عن ابن البخاري، وابن شيبان، وطائفة. هو من بيت سعادة وحشمة، وسيادة ونعمة، وفتوى وفتوة، ومكارم للناس مرجوه، وأياد متلونة الأنواع متلوه. من تلق منه تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يس بها الساري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 وكان هذا القاضي علاء الدين كثير الرئاسة، غزيز السياسة، لا يكاد أحد يسبقه إلى عزاء ولا هناء، ولا ينزل من مضارب الرئاسة إلا في خباء مروءة وحياء، يود من يعرفه ومن لا يعرفه، ويسعف الخصم في الحق ولا يعسفه: منجذ من بني المنجا ... نال من الفضل ما ترجى أسرع في نيل كل مجد ... وهم في قصده ولجا فصار بحراً في العلم يصفو ... ولم ير الوصف منه لجا ولم يزل على حاله المرضية، وأوامره المقضية، إلى أن وقع ابن المنجا في شرك المنية وما نجا، وكاد النهار يكون لقده دجا. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس سابع شعبان سنة خمسين وسبع مئة. وتولى القضاء بعد قاضي القضاة جمال الدين المرادوي الحنبلي. نقلت مولده من خطه ليلة نصف شعبان سنة سبع وسبعين وست مئة. وكان قد لبس تشريفه بقضاء قضاة الحنابلة بدمشق يوم الأربعاء حادي عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى كثير الرئاسة والحشمة، قل أن يسبقه أحد إلى هناء أو عزاء، ويشارك أهل العزاء والهناء في شأنهم. ولما توفي فتاي مراد حضر إلي إلى البيت وعزاني فيه، وتوجه إلى الجامع، وصلى عليه في الجامع الأموي، وتوجه إلى مقابر الصوفية، ووقف على قبره حتى دفن. ولما انصرف الناس وقف لهم، وشيعهم، وتشكر لهم حتى أخجلني من كثرة إحسان وتوجعه وتفجعه، ولذلك قلت أنا فيه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 لم لا أسح دموعي في رزية من ... قد كان يزهى على بدر السما تيها وقد رماني القضا فيه بنائبة ... قاضي القضاة أراه نائبي فيها علي بن منصور بن محمد بن المبارك شمس الدين بن الإسنانئ المعروف بابن شواق الطبيب، بالشين المعجمة والواو المشددة، وبعدها ألف وقاف. اشتغل بالطب، وناب في الحكم بأصفون وغيرها، وأخذ الطب عن ابن بيان، ومهر فيه واشتهر بالمعرفة، وكان يتبارك بطب المكرم دون شمس الدين هذا، فقيل له في ذلك، فقال: المكرم يطلب في ابتداء الأمراض، وفي الأمور السهلة، وأنا ما أطلب إلا إذا أيس من المريض، وإذا كان المرض مخوفاً. وكان حسن الخلق. توفي رحمه الله تعالى بعد التسعين وست مئة. علي بن نصر الله ابن عمر بن عبد الواحد القرشي المصري الشافعي، الشيخ الإمام الفاضل الخطيب المعمر المسند نور الدين أبو الحسن. كان خطيب قرية بظاهر القاهرة، روى أكثر صحيح النسائي عن عبد العزيز بن باقا، وسمع أيضاً من جعفر الهمذاني، والعلم بن الصابوني، وأجاز له أبو الوفا بن مندة، وأبو سعيد المديني، وعدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 وتفرد، ورحل الناس إليه، وكان خاتمة من سمع شيئاً من ابن باقا. وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى والواني، وابن خلف، وابن المهندس، وابن حرمي، وعدة. وظهر للناس بعد رحلة شيمها الذهبي من مصر، وأثنى الناس عليه. وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشري شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة عن نيف وتسعين سنة. علي بن هبة الله ابن أحمد بن إبراهيم بن حمزة نور الدين بن الشهاب الإسنائي. كان فقيهاً مفتياً، سمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ عبد المؤمن، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وحفظ مختصر مسلم للحافظ المنذري، وأخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطي، والشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي. وبرع في الفقه وأفتى وسلك في العلم طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " وكتب الروضة في مكة بخطه، واجتهد في ذلك فحصل له المراد على شرطه، وكان يستحضر أكثرها وغالبها، ويرغب بمعرفته فيها طالبها. وهو أول من أدخل الروضة إلى قوص، وجعل قدرها بذلك صحيحاً غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 منقوص، ودارت عليه الفتوى، وكان فيها مسدداً، ودر علومه مجموعاً في ذهنه لا مبدداً. وكان أماراً بالمعروف ونهاء عن المنكر، كم وعظ غافلاً عن نفسه وكم ذكر. وكان مهيباً مع اتضاعه، سامياً في قدره، يرى النجم في أفقه أنه دون ارتفاعه، يتهجد في دياجيه، ويخاطب من يعلم سره ونجواه فيناديه ويناجيه. ولم يزل على حاله إلى أن تسجى، وانقطع ما أمل وترجى. وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة سبع وسبع مئة. ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني. ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول. وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، وقال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 علي بن يحيى ابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد. سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميزي وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين. وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة. ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني. ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول. وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، وقال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى. علي بن يحيى ابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد. سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميز وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين. وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة. علي بن يحيى بن عثمان ابن أحمد بن أبي المنى محمد بن نحلة، الشيخ علاء الدين بن نحلة. كان مدرس الدولعية بدمشق والمدرسة الركنية. وباشر نظر ديوان بيت المال إلى أن مات رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة. وكان صدراً عاقلاً رئيساً، حفظ المحرر في الفقه للشافعيه، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي مدة، وكان مواظباً على لزوم الجماعة والتردد إلى الفقراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 والصالحين، وله ورد من التلاوة. وروى جزء ابن الفرات عن ابن عبد الدائم، وسمع من غيره. وعمر داراً مليحة إلى جانب الركنية، ومات بعد فراغها بمدة يسيرة. علي بن يحيى بن إسماعيل بن القيسراني القاضي علاء الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي الصدر الكبير عماد الدين. نشا في حياة والده، ودخل ديوان الإنشاء في دمشق في أواخر أيام سيف الدين تنكز، وقطع بعده، ثم إنه استخدمه الفخري. وكان شاباً عاقلاً، ساكناً متثاقلاً، كثير الصمت، بهي السمت، كتب جيداً في قلم الرقاع، وروض به الطروس، فكانت كالزهر النابت في أخصب البقاع، واشتغل وحصل، واجتهد في طلب الأدب وأصل. وكان والده يجتهد عليه، ويود لو ساق الفضائل بأزمتها إليه. وكان في ذهنه وقفة تقصر به عن اللحاق، وتجعل بدر فضله مخصوصاً بالمحاق؛ إلا أنه حفظ الحاجبية والمعلقات بعد القرى، العظيم، وأحرز غير ذلك في عقده النظيم. ولم يزل على حاله إلى أن أذوى الموت زهرته الغضة، وجعل الدموع من الحزن عليه مرفضة. وتوفي رحمه الله تعالى .... من شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 كان قد مرض مرضة طول فيها، وأقام قريباً من سنة، ثم إنه حصل له استقاء، ولوالده رحمهما الله تعالى، ومات والده قبله بشهر، وأفاق هو، ثم إنه نقض الاستسقاء عليه ومات. وكان بعد إمساك تنكز، قد منع من مباشرة كتابة الإنشاء بدمشق، ولما جلس الفخري في القصر الأبلق استخدمه، فكتبت له توقيعاً ارتجالاً، ونسخته: رسم بالأمر العالي لا زال وليه علياً، وحفيه بكل خير ملياً، وصفيه تقر به السيادة من الدول نجياً، أن يعاد المجلس السامي القضائي العلائي إلى كتابة الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، لأنه من قوم كل منهم كريم. وكاتب ورئيس، إذا ابتدع في المعالي طريقة لم يكن له فيها تابع ولا عاتب، ومدبر لم يرتب الزمان أن ذكر مجدهم المؤثل فيه راتب، نشأت أصولهم في رياض بلاغة ووزارة، وسارت محامدهم في الآفاق فأخجلت الكواكب السيارة، وجرت بسعودهم التي ورثوها من جدودهم الأفك المدارة. وسكن الزمان بجبال حلومهم الراسخة بعد الطيش، واستغنى الملوك بكتبهم عن تجهيز الكتائب إلى كل جيش، وطابت أنفاس السحر برياهم؛ لأن بني مخزوم ريحانة قريش، وضربت أعراقهم حتى اتصلت بخالد بن الوليد، ونظر الناس منهم كل كفو غناه كالذهب عتيد، وباسه كالحديد شديد، وتجمل الدهر منهم بمدبر كان موفقاً في خدمة نور الدين الشهيد، طالما جالسوا الملوك على أسرتهم، وجاودوا الغيوث فعموا الأنام بمبرتهم، ونادموا النجوم فعاطوهم كؤوس مسرتهم، كما أغاث قلمهم ملهوفاً، وكان بمعرته جارماً، وكم حلب في حلب وغيرها رزقاً، وفي غيرها، وما كان حارماً. فليباشر ذلك مقتدياً بما لأبيه أدام الله تعالى نعمته في هذه الوظيفة من الآثار الحميدة، والمناقب التي أخذت أياديها على المحامد عهوداً أكيدة، والآثار التي لا يطاول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 الزمان قصورها المشيدة، والفضائل التي هي في الديوان بيت القصيدة، حتى تجملت به الدنيا، وأقسم الفضلاء أن القاضي الفاضل لم يقض نحباً، وأنه يحيا، مهتدياً بسمت عمه خلد الله سعوده، فإنه لهذه الدنيا شرف، ولهذه الأيام من أقلامه غاب لا يدخلها ليث خطب إلا انهزم وانصرف، ولهذه الأيام من تواقيعه جنات فيها حور الأرزاق، تأوي إلى غرف، وليدبج بأقلامه المهارق التي تمطرها البلاغة، وتعلم الناس بمعانيها كيف يكون السحر وبألفاظها صناعة الصياغة. والوصايا عنهم يؤخذ بيانها، ومنهم يشير إلى الهدى بنانها فما ينبه عليها، ولا يدل على الطريق الآخذة إليها، وتقوى الله هي العمدة، والذخر العتيد عند الشدة، فلا ينسى فيها نصيبه، ولا يقدم غيرها في المهمات كتيبة، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. وكتب إليه رحمه الله تعالى وقد عرض علي من حفظه المعلقات السبع وملحة الإعراب للحريري: أما بعد حمد الله تعالى حق حمده، وصلاته على سيدنا محمد نبيه وعبده وسلامه، فقد عرض علي الجناب الكريم العلائي ابن المقر الشريف الشهابي بن القيسراني: مولى إذا أعمل أقلامه ... لم يبق في الجود لغيث حصص فالبرق من حرقته يلتظي ... والرعد في السحب كثير الغصص لذا ألو الحاجات في بابه ... تطرب إن وقع فوق القصص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 جميع المعلقات السبع من أولها إلى آخرها، وملحة الإعراب للشيخ أبي محمد القاسم بن الحريري رحمه الله تعالى في مجلس واحد عرضاً عن ظهر قلب، وهذا يتعدى إلى اللب بهمزة السلب، كالسيل إذا تحدر على الحقيقة من علي، والجود إذا أتى من كريم ملين والحق إذا توضح من جليل جلي: فما رآه ناظري عارضاً ... لكنه صاحب ديوان وما تفاءلت له كاتباً ... بل حاكماً في صدر إيوان وقد شهدت له فراستي أنه ينزل من العلم الشريف في أعلى ربع، ويعرف اللغة، فلا يغيب شيء من غابها عنه، لأنه قد حفظ السبع، ويترقى في سماء الفضائل بدراً لا يغيب عنها، ولا يغرب، ويخرس الفصحاء ببيانه حتى لا يعرب كلامه يعرب، والله يسعده سعادة يزين الدياجي بسرجها، وتصعده رتباً، رقي أهل بيته في درجها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. علي بن يحيى ابن محمد بن عبد الرحمن السلمي، الحنفي، الرئيس، القاضي، علاء الدين أبو الحسن بن جمال الدين بن الفويرة. كتب هذا علاء الدين الخط المنسوب الباهر، وجود النسخ الذي يفضح الروض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 إذا كان بإزاء الأزاهر، وأتى بخطه في قوائم الحساب، كأنه عقود الجواهر، ونبغ بعد والده ورأس، واحترز من مطاعن السيادة. واحترس. وكان بيده شهادة الخزانة ونظر الأسرى، ووجد من ألم هذا النظر ما رجعت به عينه حسرى، وخرج عنه مرات، وعاد إليه، ولكن بعد ما أتى على ما لديه، ثم خرج عنه آخراً، وعدم منه على ما قيل بحراً زاخراً. ثم إنه رسم له بتوقيع الدست في الشام، فباشره دون نصف العام، وجاءه حينه، وملئت بالتراب عينه. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء ثالث عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة. كان في نظر الأسرى فسلط عليه القاضي علاء الدين بن الأطروش محتسب دمشق، فأخذها منه في أيام الأمير سيف الدين يلبغا، فاحتاج إلى كلفة حتى بطلت القضية. ثم إنه أخذها مرة أخرى فيما أظن أو غيره، فاحتاج إلى كلفة، ثم أخرجت عنه، فاحتاج إلى كلفة، ثم إنها خرجت عنه للأمير ناصر الدين بن المحسني، وبقي منها بطالاً إلى أن حضر القاضي علاء الدين بن فضل الله إلى دمشق صحبة السلطان الملك الصالح، فسأله أن يكون في الدست موقعاً، فوعده بذلك إذا وصلوا إلى مصر. ولما وصلوا جاءه التوقيع، وباشر، وجرى عليه ما لم يجر على غيره لكونه دخل في هذه الوظيفة، وليس من أهلها، ونظم الشاميون والمصريون في ذلك، فمن ذلك قول القاضي شمس الدين محمد بن قاضي شهبة، وأنشد فيه من لفظه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 توقيع مملكة الدست الشريف غدا ... يقول من حنق الأنفاس مغبون صبرت للقط لما لم يكن نجساً ... صبر المؤمل من حين إلى حين وبالفويرة قد أصبحت ذا نجس ... بالله يا أولياء الأمر كبوني وأنشدني لنفسه أيضاً: توقيع دست المسلمين يقول لم ... أذنب ولم أجرم ففيم قصاصي في الشام تقرض بالفويرة حلتي ... والقط في مصر فكيف خلاصي وأنشدني من لفظه لنفسه نجم الدين أحمد بن غانم: أدست الملك أنت عظيم قدر ... وأنت كبدر أفق وسط داره فما لك بالقذارة يا مفدى ... أهنت وحط فيك اليوم فاره وأنشدني آخر: توفيع ديواننا ينادي ... يا رب ما للأنام غيره اضربي القط والزغاري ... وقد تنجست بالفويره وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا وهو نائب دمشق قد رسم له بصحابة ديوان الجامع الأموي في سابع شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وكتبت له توقيعاً بذلك ونسخته: " رسم بالأمر العالي لا زال علياً وليه، نجياً صفية، ملياً إحسانه إلى من يرى به المنصب وفيه وفيه، أن يرتب المجلس السامي القضائي العلائي في كذا، لأن الكاتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 الذي راحت براحته الطروس مدبجة، والسطور شفاها، وحروفها لاختلاف وضعها ثغور مفلجة، والمداد مسكاً لأن المعاني به نافجة نافحة، ولا يقال نفجة، والحاسب الذي لو شاء لقط النيل على أصابعه، وحرر حركات البرق بعقود أنامله التي هي أسرع من لوامعه، وضبط حاصل الجامع حتى أصبح مأسوراً في جوامعه، والأصيل الذي تتردد الرئاسة خلال خلاله، وتتعدد السيادة من معاطفه إذا خطر في حلة كماله، وتشهد له المحاسن فإن الناس طالما شاهدوا إحسان جماله ". فليباشر ذلك مباشرة تليق برئاسته، وتضمن له الفضل الذي يديم الله له ملابس تناسته، حتى يقول الناس: إن الليث قد فاز بمدح شبله، والغيث حاز المنح بوبله، ويقسم المجد بهذا البلد ووالد وما ولد إن الفضل به اتحد، واشتمل عليه وبه انفرد، وهذا الجامع عمره الله تعالى بذكره يتحقق أنه ذو حسن ورونق يطرب من يلقها ومن ذا الذي لم يطرب لمعبد أمواله جمة، وأحواله مهمة، ولياليه بوقودها متوضحة إذا كانت أيام غيره مدلهمة، عليه جملة من الرواتب، وعدة من الجوامك تدرها سحائب النفقات من يد كل كاتب، يسترفده حتى بيت المال، وناهيك بذلك وتستجديه بقية المساجد، فينير لياليها الحوالك. فليعمل جهده في حراسة ماله، وصيانة ما يساق لزينته وجماله، وليجتهد فيما هو لازمه من وظيفة جملت الأوان، ويعتمد على السداد، فما له رفيق إلا وله بيت وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 صاحب الديوان. والوصايا كثيرة، وتقوى الله عز وجل أفضل ما شرحه لسان قلم، وخفق له في العمل الصالح عذبات علم، فليجعلها له حرماً، ويستدر بها من الله عز وجل نعماً. والحظ الكريم أعلاه، حجة العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى. علي بن يعقوب بن أحمد ابن يعقوب علاء الدين ابن الشيخ شرف الدين بن الصابوني. كان شاباً ابن ثلاثين سنة، وسمع الكثير بدمشق، والقاهرة. توفي بكرة الجمعة تاسع عشري جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن بمقابر باب النصر بالقاهرة. علي بن يعقوب بن جبريل الشيخ الإمام العالم نور الدين أبو الحسن البكري المصري الشافعي. كان يذكر له نسباً يتصل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، منه إليه عشرون اسماً. قرأ بنفسه مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا. وكان يطرح الكلف، ويمشي على طريق من سلف، ينهى عن المنكر، ويأمر بالمعروف، ويبالغ في ذلك وهو به موصوف. ووثب مرة على العلامة ابن تيمية، وأنكر عليه أموراً والله أعلم بالنية، وأنكر على الدولة أمراً لم يجد من يساعده، وتولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 ذلك أجانبه وأباعده، فرسم السلطان بقطع لسانه، وكاد الأمر ينفصل في شانه، ولولا صدر الدين بن الوكيل صدر هذا الأمر إلى الخارج، وألقي النور من النار في مارج، فتلطف له مع السلطان، فرسم بنفيه من القاهرة، وعدت هذه المنقبة لابن الوكيل في الأمثال السائرة. ولم يزل البكري على حاله إلى أن بكرت عليه مغيرة المنايا، وأصابت حبة قلبه منها بنات الحنايا. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. وكان له تواليف، ولما استعيرت البسط والقناديل من جامع عمرو بن العاص بمصر لبعض كنائس النصارى في يوم من أعيادهم، ونسب هذا الأمر إلى القاضي كريم الدين الكبير، وفعل ما فعل، طلع البكري إلى السلطان وكلمه في ذلك، وأغلظ له القول، وكاد ذلك يحوز على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين عليه، وقال: ما قصر الشيخ، كالمستهزئ به، فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري، فخارت قواه، وضعف ووهن، فازداد تأنيب بعض الحاضرين عليه، فأمر السلطان بقطع لسانه، فجاء الخبر إلى الشيخ صدر الدين، وهو في زاوية السعودي، فركب حماراً وصعد إلى القلعة، فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به، فلم يملك دموعه أن تساقطت، وفاضت على خده، وبلت لحيته، فاستمهل الشرطة عليه، ثم إنه صعد الإيوان والسلطان جالس فيه، فتقدم إليه بغير إذن وهو باك، فقال له السلطان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 خير يا صدر الدين! فزاد بكاؤه ونحيبه، فلم يزل السلطان يرفق به، ويقول: خير يا صدر الدين! إلى أن قدر على الكلام، فقال له: هذا البكري من العملاء الصلحاء، يرفق به، وما أنكر إلا في موضع الإنكار، ولكنه لم يحسن التلطف. فقال السلطان: إي والله، أنا أعرف هذا إلا حطبة، ثم انفتح الكلام، ولم يزل صدر الدين يلاطف السلطان ويرققه حتى قال له: خذه وروح، إلا أنه يخرج من القاهرة. وكان البكري بعد ذلك يقيم بدهروط وبغيرها، وجرى هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان، وما فيهم من ساعد الشيخ صدر الدين غير أمير واحد. وكان نور الدين هذا فيه كرم مع الفاقة، وكانت له جنازة حافة إلى الغاية. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وصى له ابن الرفعة أن يكمل شرحه على الوسيط، وصنف كتابً في البيان، وكتب على الفاتحة مجلدة. علي بن يوسف بن حريز بالحاء المهملة والراء والياء آخر الحروف الساكنة والزاي. الشيخ نور الدين أبو الحسن الشطنوفي، شيخ القراء. قرأ القراءات على تقي الدين الجرائدي، وعلى ابن القلال، وقرأ النحو على صالح إمام جامع الحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 وسمع من النجيب الحراني، وتولى التفسير بجامع ابن طولون، وتصدر للإقراء بجامع الحاك، وكان القضاة يكرمونه، والعلماء يعظمونه، ويعتقد الناس صلاحه، ويرون انه ممن جعل الدعاء سلاحه، وقرأ عليه جماعة وخلائق، وصفت منه له البواطن والخلائق. ولم يزل على حاله إلى أن شط المزار من الشطنوفي، وبطل ما كان يسنده منه إلى البصري والكوفي. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وصنف كرامات الشيخ عبد القادر الجيلي، وذكر فيها عجائب وغرائب، وطعن الناس عليه في أسانيدها وفيما حكاه. علي بن يوسف بن الحسن الإمام المحدث الأديب نور الدين أبو الحسن الزرندين بفتح الزاي والراء وسكون النون، وبعدها دال مهملة، ثم المدني الحنفي. تفقه وشارك في الفضائل، وكان عليه للعلم مخايل ودلائل، وله فهم ورزانة، ولكلامه رونق ورصانة، ونظم ونثر، وقرأ بنفسه الحديث والأثر. ولم يزل على حاله إلى أن دثر، ودخل في خبر كان وغبر وتوفي رحمه الله تعالى .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 ومولده بطيبة قبل السبع مئة. قال شيخنا الذهبي: رحل إلى العراق مع أخيه، وسمع ببغداد، ودخل إلى خوارزم ودمشق، ومصر، وعني بالحديث والرواية، وسمع مني وأعجبتني فضائله، وله نظم ونثر. علي بن يوسف الشيخ علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الإمام المحدث الكاتب مجد الدين أبي الفضل بن المهتار محمد بن عبد الله المصري الأصل، ثم الدمشقي الشافعي. سمع كثيراً بإفادة والده علي ابن أبي اليسر والضياء يوسف بن خطيب بيت الآبار، والبدر عمر بن محمد الكرماني، والمجد بن عساكر، والقاضيين شمس الدين بن أبي عمر الحنبلي، وشمس الدين بن عطا الحنفي وجماعة غيرهم. ومن مسموعاته على ابن أبي اليسر صحيح البخاري وسنن النسائي والحبانيات وأكثر من عشرين جزءاً. قال شيخناً علم الدين البرزالي: وجمعت من شيوخه ستين شيخاً، سمع منهم، وكان إماماً بمسدد الرأس، ويشهد تحت الساعات وله حلقة يقرئ فيها القرآن بالجامع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 ثم إنه ضعف بصره، وانقطع، وحدث هو وأبوه وأخوه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وست مئة. علي بن يوسف أمير علي بن أمير صلاح الدين بن الملك الأوحد شادي بن الزاهر، ابن صاحب حمص. كان هذا أمير علي صورة أبدعها الخلاق، وأفرغ عليها من الجمال ما لاق، كأن الشمس قد طلعت من قده على رمح، والبدر قد طلع من أطواقه وبدا من جبينه الصبح، كأنما صب النديم على وجناته رحيقه، أو الورد لما ورد روضها شق من الغيظ شقيقه، أو المحب لما لمحها أودعها حريقه، بقوام كأنه غصن بانه، أو قضيب ريحانه، وثغر تحكيه الأقحوانة، وشفاه هي على در مبسمة أصداف مرجانة: يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب وعيون تنفث السحر في عقد الحشا، وتفعل في القلوب ما يريده الغرام وما يشا، جفونها سيوف في جفون، وأهدابها سهام يرميها حاجب قوسه كنون، وبشرة رقت فما مثلها في البشر، وشفت كأنها الجوهر إذا صفا، وانقشر، يرى الناظر وجهه غريقاً في مائه، ويقابله الهلال فينطلع في لألائه: فانقش لما شئت على خاتم ... وحاذه تقرأه من خده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 هذا إلى حياء كأنه مريب، وإطراق لا يملأ معه عينه من أحد، كأنه رقيب قريب، وصيانة كأن الجنيد من جندها، وتقوى كأن السري سرى إلى عندها. وعلى الجملة فقل أن رأت العيون نظيره، أو دخل معه كفؤ في حظيره. توجه إلى الحجاز، واحتفل بأثقاله، وبالغ في حمول جماله، فلم يزل إلى أن قارب المدينة النبوية، فتغير مزاجه، وتصعب عليه علاجه، واصطفاه ربه، وضم ذاك الجمال البارع تربه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر وتأسف الناس على شبابه كيف اختطف، وعلى زهر حسنه كيف اقتطف، ودفنته أمه في البقيع، وأودعته كنف الشفيع. وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة فرحم الله شبابه، وكرم مآله ومآبه. وكان أحد الأمراء العشرات بدمشق، ولم يكن في زمانه في موكب دمشق أحسن منه، ومات رحمه الله تعالى، ولم يبقل وجهه، وكان تقدير عمره ثمان عشرة سنة فما دونها. الألقاب والأنساب ابن العماد المقدسي: أحمد بن عبد الحميد. وعماد الدين بن عماد الدين: أحمد بن محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 ابن العماد الكاتب: عز الدين حسن بن علي. عمر بن إبراهيم ابن حسني بن سلامة بن الحسيني، الإمام الأديب المسند المعمر جمال الدين أبو حفص الأنصاري العقيمي الرسعني. ذكر أن الكندي أجاز له، وأن الاستدعاء كان بخط الموفق، وإنما ذهب منه أيام هولاكو. سمع عليه شيخنا الذهبي والجماعة. وسمع من المجد القزويني وابن روزبة وأبي القاسم بن رواحة، وقدم دمشق في شبيبته، وسمع من ابن الزبيدي، وعبد السلام بن أبي عصرون، ومحمود بن قرقين، والضياء الحافظ. وقرأ العربية، ونظم جيداً، وكان يذكر في الأيام الناصرية الصلاحية يوسف، ويعد في الشعراء، وكتب عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، وتنقل في الخدم، وكان يوصف بالديانة والعفة والأمانة. وانتهت إليه رئاسة الشعر، وغلا به من القريض السعر، وحصلت له رئاسة، واشتهر في خدمة بالنفاسة. ولم يزل على حاله إلى أن درج إلى باريه، وراح ولك من بعده مباريه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده برأس العين سنة ست وست مئة. وروى عنه الدمياطي في معجمه وابن الصيرفي والمقاتلي وطائفة. وعقيمة: قرية من سنجار. وكان قد اتفق حضور شخص من مصر يعرف بشهاب الدين بلاخصى، وولي نظر العمائر والسكر، وكان مطيلساً، وكان يحمل دواته شاب ملح، وكان يسكن جوار الملك الزاهر، فأفسد الزاهر الشاب المذكور، ووعده بخبز، فترك شهاب الدين بلا خصى، وخدم الزاهر، فلقي عنده كل سوء ولم يشبع الخبز، فقال جمال الدين العقيمي فيه: يا شادناً ضل السبيل لرشده ... وعصى العذول سفاهة فيمن عصى قد كنت عند بلا خصى في نعمة ... فتركتها سفهاً وجئت إلى خصى ومن شعره: عيون المها مني إليك رسول ... نسيم سرى بالواديين عليل إذا ما انبرى يوري عن الروض نشره ... تقبل برديه صباً وقبول وإن هب معتلاً لبث صبابتي ... تفهم حديث الوجد فهو يطول وإن بان بان السفح عن أيمن الحمى ... فما مال إلا أنه ليقول حديثاً رواه البان عن نسمة الصبا ... ومن حزني أن النسيم رسول قلت: عكس هذا الشاعر المعنى، لأن الصبا تروي عن البان، وعن غيره مما تمر عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 عمر بن إبراهيم بن عمران نجم الدين البهنسي. اشتغل بمصر، وحضر مع أخيه من أمه عماد الدين المهلبي إلى قوص، وتولى الحكم بهو وبإسنا وأدفو، وكان فقيهاً له أدب وخط حسن، ودرس بالمدرسة العزية بإسنا، وأقم بها حاكماً، وبأدفو أكثر من سبع سنين. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: على طريقة مرضية، ووقعت بأسنا تركة عبد الملك بن الجبان الكارمي، فطب بسببها إلى القاهرة، فحصل له خوف شديد، ومرض بالبلينا، فرجع إلى قوص، وتوفي بها سنة عشر وسبع مئة، عن ثمانية وأربعين سنة. عمر بن أحمد بن الخصر بن ظافر سراج الدين الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي. سمع من الرشيد العطار، وتفقه أولاً على ابن عبد السلام، ثم على النصير بن الطباع، وأجاز له المرسي والمنذري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 وسمع منه شيخنا البرزالي وابن المطري، وخطب بالمدينة أربعين عاماً، وولي القضاء بعد ذلك ومرض، فسار إلى القاهرة، ليتداوى، فأدركه الموت بالسويس في العشر الأواخر من المحرم سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست أو سبع وثلاثين وست مئة. عمر بن أحمد بن أحمد بن مهدي عز الدين المدلجي النسائي الشافعي. سمع من شرف الدين الدمياطي وغيره. برع في الفقه ودقق، ونظر في الأدلة وحقق، وقاس ورجح وفرع وفرق، مع معرفة بالأصول وتوفير مواد ومحصول، وله على الوسيط إشكالات جودها، وبيض بها وجه المذهب لما سودها. وكان زاهداً قانعاً برزقه عابداً، يحضر السماعات ويطيب، ويحصل له حال يأخذ من الوجد بنصيب. ولم يزل على حاله إلى أن حج، فادلهم له ليل الحياة ودج. وتوفي بمكة رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة عشر وسبع مئة. وإشكالاته على الوسيط في مجلدين. وكان يدرس بالفاضلية والكهارية، ويعيد بالمدرسة الظاهرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 عمر بن أحمد بن عبد الدائم ابن نعمة المقدسي، الشيخ الصالح أبو حفص. عذبه التتار بالصالحية عذاباً شديداً، ثم حمل إلى داخل البلد، فأقام أياماً يسيرة، ومات في درب القلي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. وحضر على الحافظ أبي موسى بن عبد الغني في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وست مئة. وسمع من ابن الزبيدي والهمداني والإربلي، وابن صباح، والناصح بن الحنبلي، وغيرهم. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وآخر ما قرأت عليه الثالث والرابع والخامس من الخلعيات لسماعه من ابن صباح. عمر بن أحمد زين الدين بن الصدر شهاب الدين بن قطينة الزرعي التاجر. توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثامن عشر صفر سنة خمس وسبع مئة. عمر بن أحمد القاضي زين الدين، رئيس ديوان الإنشاء بطرابلس، الصفدي، المعروف بابن حلاوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 كتب الإنشاء أولاً بصفد، وفاز من الدهر بالحظ والصفد، ثم نقل إلى طرابلس، فنال فيها الحظ والوجاهة والسيادة، وباهى فيها الكواكب بمعاليه وباده. وكن من رجال الزمان إقداماً، وممن يتعب أعاديه إرغاماً، لا يهاب الأسود إذا فغرت فاها، ولا الأيام إذا أدبرت وأولته جفاها، خبيراً بمداخلة النواب، ومشاكلة الأنواع والأضراب، ما كتب قدام نائب إلا وخلبه، ونهب عقله وسلبه، وأصبح طوع مرامه، وقوساً في يده يرمي بها إلى غرضه بسهامه، ولا يرجع في المملكة لغيره في كلمة، ولا لصاحب وظيفة حركة في النفاد مصطلحة، ولا تجد في بلده أحداً يذكره إلا وهو يقول. ذاك خليلي وذو يواصلني ... يرمي ورائي بأسهم وامسلمه أطاعته المقادير وساعدته، وتأخرت عنه الخطوب وباعدته، ولو أخره الأجل تقدم، ولم يغادر للرؤساء غيره من متردم، فإن القاضي علاء الدين بن الأثير كان يطوي حشاه على محبته، ويرى أنه يستحق التقدم لرتبته، ولكن تقدم بين يديه فرطاً، وسطع له بارق السعد ثم سطا. وكان فيه خدمة للناس في قضاء أشغالهم، ومبادرة إلى تلقي حوائجهم، وتمشية أحوالهم، لا يتوقف في أمر يقصد فيه، ولا يبالي إن كان تلافه فيه أم تلافيه. وكان يدعي معرفة علوم شتى، وربما تجاوز في بعض الأوقات وأفتى. وينظم وينثر، ويجري في حلبة الشعراء، وما يرى أنه يعثر، ولكنه كان بالنجامة مغرى، ويرى أنه هو بمفرده منها أكبر من أبي معشر قدراً، وهي أجود ما يعرفه، وخيار دينار يخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 من كيس معرفته ويصرفه، والحظوظ ما تعلل، والدنيا ما تحتاج إلى تاج بالفضائل مكلل. ولم يزل في إسعاف وإسعاد وإلطاف وإصعاد، إلى أن وصل إلى غاية ما قدر له من عمره وأعرب بعد رفعه ونصبه بجره. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس بكرة السبت رابع شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة. كان هو أولاً بصفد، وله أخوان تاجران، أحدهما برهان الدين إبراهيم، وهو أوجه تاجر كان في صفد، والآخر يدعى يونس تاجر سفار، وتعلق هذا زين الدين بهذه الصناعة، وتردد إلى شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، وقرأ عليه بعض شيء في العربية وتدرب به، وكان ذهنه جيداً، وصار يكتب الدرج عنده، فلما ورد الأمير بتخاص إلى صفد نائباً كان معه الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، فانضم زين الدين إليه في الباطن، واستبد شهاب الدين بالوظيفة، وانفرد الشيخ نجم الدين بالخطابة، ثم اتفقوا عليه وأخرجوه من صفد، فتوجه إلى دمشق، وما كان إلا قليلاً حتى اتفق القاضي شرف الدين محمد بن النهاوندي الحاكم بصفد هو وزين الدين علي شهاب الدين بن غانم، وأوقعا بينه وبين النائب، وكتب النائب إلى مصر، وأحضر لزين الدين توقيعاً بكتابة سر صفد، وانفرد بالوظيفة. وكان فيه مروءة وعصبية، وسعة صدر في قضاء أشغال الناس والمبادرة إلى نجاز مرادهم ومساعدتهم على ما يجادلونه، وأنشأ جماعة في صفد من أجنادها، وغيرهم، وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 ذا خبرة، وسياسة ومداخلة في النواب واتحاد بهم حتى لم يكن لأحد معه حديث. وكان هو المتصرف في المملكة، وتقدم، ورزق الوجاهة، وحظي ونال الدنيا، وجمع بين خطابة القلعة والتوقيع بصفد. وانتمى إلى القاضي علاء الدين بن الأثير فمال إليه، ولما جاءه خبره من طرابلس بكى عليه، ولو أن زين الدين كان حياً لما انفلج ابن الأثير ما كان كاتب السر في باب السلطان غيره. ولما قال له السلطان من يصلح لهذا المنصب؟ قال: أما في مصر فما أعرف أحداً، وأما في الشام فما كنت أعرف أحداً غير ابن حلاوات وقد مات. وكان ابن حلاوات قد داخل نواب صفد كثيراً، ويقع بين النواب وبين تنكز، وعزل جماعة منهم، ثم لما جاء إليها الأمير سيف الدين أرقطاي نائباً وقع بينهما، واتصلت القضية بالسلطان وهي واقعة طويلة، فرد فيها الأمر إلى تنكز، فطلب ابن حلاوات إلى دمشق وقد امتلأ غيظاً عليه، ولما دخل عليه رماه بسكين كان في يديه لو أصابته جرحته أو قضت عليه، ورسم علي وصادره، فوزن ثمانية آلاف درهم، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب والقاضي علاء الدين بن الأثير مع السلطان، واتفق أن مات موقع طرابلس في تلك الأيام فما كان بعد ثمانية أيام تقريباً حتى جاء ابريد بالإفراج عنه، وإعادة ما أخذ منه، وهذا أمر ما اتفق لغيره في تلك الأيام، وتجهيزه إلى طرابلس موقعاً، وكان المرسوم مؤكداً، فما أمكن تذكر إلا اعتماد ما رسم به في حقه، وتوجه إلى طرابلس رئيس ديوان الإنشاء، ودخلها في مستهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبع مئة، وأقام بها في وجاهة ورياسة وحرمة وافرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وكان يعرف النجامة وعلم الرمل جيداً، ويدعي أنه من جماعة الشيخ محيي الدين بن عربي، وينتمي إلى مقالته، ويرى رأيه في الوحدة، ولم يتفق لي به اجتماع خاص، بل رأيته غير مرة، وسمعت خطبه كثيراً. وأخبرني من رآه أنه كان يتعذر علي كتابة اسمه عمر، فيكتب صورة نمر، ثم بعد ذلك يركب عليها حرف العين، لتتكمل له صورة عمر. ولما ورد في تلك المدة إلى دمشق دخل الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم إلى الأمير سيف الدين تنكز، وشكى منه شكوى بالغة، وقال: يا خوند! هذا فعل بي، هذا اعتمد معي، هذا حبس أولادي في قلعة صفد، وقيدهم، وزاد في ذلك، ثم إنه بعد ذلك اجتمع بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فقال له: يا شيخ شهاب الدين! أنت من بيت فقراء وصالحين، وهذا الذي فعلته بهذا المسكين ابن حلاوات بين يدي هذا الملك الجبار، ما كان يناسب طريقك، فقال له: يا مولانا قاضي القضاة لا تكن حليماً عند غضب غيرك، هذا حط رجلي في المعصار وعصرني، ولو كان ذلك على حوافر بغلتك ضرطت ناراً. وكان قد كتب إليه شيخناً نجم الدين كتاباً يحرضه عليه فيه ويغريه به، ومنه: ألا طعان ألا فرسان عادية ... إلا تجشوكم بين التنانير فكتب الجواب إليه عن ذلك، ومنه أبيات وهي: .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 ودخل زين الدين بن حلاوت في تلك النازلة وهو بدمشق إلى الصاحب شمس الدين، وقال: يا مولانا الصاحب أنا ما بقيت أعمل صنعة التوقيع، اعملوا إلي معلوماً ودعوني في هذا الجامع الأموي أشغل الناس في ستة عشر علماً، وكان شهاب الدين بن غانم حاضراً. فقام وقال: يا مولانا الصاحب هذا غلط منه، وإنما يعرف ثمانية عشر علماً لأنها اثنا عشر برداة وست أواذات في علم النغم، وهذا إلا والده مشبب وهو مطنكل، وأنشده أبياتاً منها: وإذا رأى المزمار هزت عطفه ... نسب إلى الأجداد والآباء ومن شعر زين الدين بن حلاوات: ولابسة البلور ثوباً وجسمها ... عقيق وقد حفت سموط لآلي إذا جليت عاينت شمساً منيرة ... وبدراً حلاه من نجوم ليال قلت: هذا القول فاسد؛ لأن البلور جسمها وهو الزجاج، ولباسها العقيق، وهو الخمرة، وأحسن من قول زين الدين رحمه الله تعالى قول الأول: وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر السما بكواكب الجوزاء ووجدت منسوباً إلى زين الدين رحمه الله تعالى: خصت يداك بستة محمودة ... ممدوحة بالبأس والإحسان قلم ولثم واصطناع مكارم ... ومثقف ومهند وسنان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 وأنشد له يوماً بيتاً القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر لما فتح الأشرف قلعة الروم، وهما: ألا أيها الحصن المنيع جنابه ... تطهرت من بعد النجاسة والشرك وأمسيت تجلى بالخليلين دائماً ... خليل إله العرش والبطل التركي فقال زين الدين رحمه الله تعالى: قلعة المسلمين حزت كمالاً ... وجمالاً ورفعة بهاء بالخليلين صرت تجلي مساء ... كعروس زادت سنا وسناء قلت: ما كفاه أنه ما قال شيئاً يسمع حتى لحن وحذف النون من تجلين. عمر بن آقوش الشاعر زين الدين أبو حفص الشبلي الدمشقي الذهبي الشافعي المعروف بابن الحسام الافتخاري. رأيته في صفد، واجتمعت به في دمشق غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وسمع الحديث على الحجار وغيره. وكان فيه تودد وتقرب، وحسن صحبة وطهارة لسان. وكان بعضهم يلقبه براطيش، وبعضهم يسميه شراشط. ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. وسألته عن مولده، فقال لي: في سنة أربع وثمانين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 أنشدني من لفظه لنفسه يودعني عند توجهي إلى الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة: ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيران لفرط غليله بكيت وهل يغني البكا عند هائم ... وقد غاب عن عينيه وجه خليله وكتبت أنا إليه من الرحبة: كتبت والدمع قد غطى على بصري ... وبت فيك نجي الهم والفكر وأشتهي من جوى قلبي وحرقته ... لو أشتري ساعة بالعمر من عمر وأنشدني له: قد أثقلتني الخطايا ... فكيف أخلص منها يا رب فاغفر ذنوبي ... واصفح بحلمك عنها وأنشدني له: يا من عليه اتكالي ... ومن إليه مآبي جد لي بعفوك عني ... إذا أخذت كتابي وأنشدني له: يا سائلي كيف حالي في مراقبتي ... وما العقيدة في سري وإعلاني أخاف ذنبي وأرجو العفو عن زللي ... فانظر فبين الرجا والخوف تلقاني أنشدني له: يا سيد الوزراء دعوة قائل ... من بعد إفلاس وبيع أثاث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 أبطت حوالتكم علي كأنها ... تأتي إذا ما صرت في الأجداث فإذا أتت من بعد موتي فاحسنوا ... بوصولها للأهل في ميراثي وأنشدني ما كتبه للصاحب شرف الدين يعقوب يشتكي من أيوب: بليت بالصبر من أيوب حين غدا ... ينكد العيش في أكلي ومشروبي وزاد يعقوب في حزني لغيبته ... فصبر أيوب لي مع حزن يعقوب وأنشدني له: إذا ما جئتكم للغناء فقري ... تقول أبشر إذا قدم الأمير وقد طال المطال وخفت يأتي ... أميركم وقد مات الفقير وأنشدني من لظفه له في الحمى: زارتني الحمى فقلت لها ابعدي ... فغدت تخادعني بلثم شفاهي قالت أروح فقلت هاذ بغيتي ... قالت أعود فقلت لا بالله وأنشدني من لفظه له: أمر على المنازل وهي تشكو ... من الأحباب ما أشكو إليها كلانا يشتكي لهم فراقاً ... فما عطفوا علي ولا عليها وأنشدني من لفظه له: لي حبيب ما زال يتعب قلبي ... فرأيت السلو عين الصواب تبت لله عنه توبة صدق ... واستراحت عواذلي من عتابي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 وأنشدني من لفظه لنفسه: إذا أضمر المحبوب هجري وجفوتي ... وعاد ولم يجز المحبة بالبغض أقول له أحسنت فيما فعلته ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض عمر بن أبي الحرم ابن عبد الرحمن بن يونس، الشيخ الإمام العلامة شيخ الشافعية زين الدين أبو حفص الدمشقي المعروف بابن الكتاني.. حدث عن ابن عبد الدائم بالإجازة. وسمع إسماعيل بن أبي اليسر، وإسماعيل بن المظفر، وعمر بن حامد القوصي، وإسرائيل بن أحمد، ومظفر بن أبي الدل الصالحي، والقاضي حسين بن علي القرشي وغيرهم. تفقه وناظر، وبرع في الأصول والفروع، وذاكر وحاضر، وتحول من دمشق إلى مصر بعلم جم، وورد القاهرة، فأخجل اليم الذي ثم، وحل بأفقها فاستحيا من كماله البدر الذي تم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 وكان جيد الذهن كثير النقل لمذهبه، بارعاً في التفقه، لا يثبت له أحد إن ناظره أو تمسك بسببه، مائلاً إلى الدليل والحجة، قائلاً بالبحث لا يرى التقليد من عظيم المحجة، يوهي بعض المسائل لضعف دليلها، وخفاء صحتها، وظهور عليلها، يلقي دروساً مفيدة، ويأتي بأشياء فوائدها عتيدة، لا يحتمل أن أحداً يعارضه أو يراسله أو يقارضه، فينفر فيه ويزبره، يكسره بالقول ولا يجبره. وكان في خلقه زعارة وشراسة، وحدة لا ينكس الكبر لها رأسه، لا يخضع لأمير ولا لقاض، ولا ينفعل لإبرام ولا لانتقاض، وله في ذلك حكايات مشهروة، ووقائع بين أهل مصر مأثورة، إلا أنه فرط في علم الحديث من حيث الرواية، وأهمل أمره، ولم يكن له فيه عناية، فكان صغار الطلبة يحضرونه دروسه، ويعيبونه عليه كثرة تصحيفه، وما يقع له من الخلل في أسماء الرجال، ولا يجسرون على تعنيفه، وكان به وسواس في تكبيره الإحرام، وتطويل حتى يفوته بالركون الإمام. ولم يزل على حاله إلى أن دخل في العدم، وكثر عليه التأسف والندم. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة. مولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وكان قد اشتغل بالفقه والأصولين على ابن أبي الثنا محمود بن عبيد الله المراغي، والعلامة الشيخ تاج الدين الفزاري، وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 ودخل إلى مصر، فولاه قاضي القضاة ابن بنت الأعز قضاء الحكر مدة، ثم استنابه العلامة ابن دقيق العيد في مصر، وولاه دمياط الشرقية، ثم استنابه في القاهرة، ثم إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ولاه الغربية، ثم إنه وقعت له بالمحلة واقعة، فعزل نفسه، وأقام بالقاهرة، وترك الاجتماع بقاضي القضاة ابن جماعة، وصار يتكلم فيه ويأسى إليه، وصارت الإساءة له عادة، فاستعملها مطلقاً، وتعدى إلى الأموات، ونفر الناس منه. وتصدر بالجامع الأموي الحاكمي مدة، وأعاد بالقراسنقرية، ثم ولي تدريس المنكوتمرية. ولما مات أبو الحسن بن جابر ولاه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك درس الحديث بالقبة المنصورية، وذلك في شهر رجب سنة خمسة وعشرين وسبع مئة، فتكلم الناس في ذلك. وكان الطلبة الصغار يضحكون منه، ويجيؤون إلى العلامة شيخنا أبي الفتح، ويقولون: صحف اليوم في كذا. وهم في كذا، وقال في ذلك الفاضل كمال الدين الأدفوي: بالجاه تبلغ ما تريد فإن ترد ... رتب المعالي فليكن لك جاه أوما ترى الزين الدمشقي قد ولي ... درس الحديث وليس يدري ما هو وولي مشيخة خانقاه طيبرس التي على البحر، وشكا منه بعض أولاد الواقف إلى الحاجب، فعزل منها، وكان وقد فهم من الناس هذا الحال، فيقول: ولونا ما يضحك فيه الصبيان علينا، ومنعونا ما نضحك فيه على الأشياخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 وكان شيخنا فتح الدين إذا ذكروا أمر وسوسته يقول: هذا تصنع. ولما ولي خطابة جامع الصالح برا باب زويلة ترك الوسوسة ضرورة. وكان في القضاء محمود السيرة، ظاهر العفة، طاهر الكف، وكان كثير الاشتغال، دائم المطالعة، وأولع في آخر عمره بمناقشة الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، وكتب على الروضة حواشي، ولما وقف عليها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى أجاب عما وقف عليه من ذلك قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الروضة: وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة. وشك هل هو قلتان أو لا، الذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنه نجس، لتحقق النجاسة، ولإمام الحرمين فيه احتمالان والمختار، بل الصواب الجزم بطهارته، لأن الأصل طهارته وشككنا في نجاسة منجسه، ولا يلزم من النجاسة التنجيس. قال الشيخ زين الدين الكتاني رحمه الله تعالى: وإذا وقع في الماء القليل نجاسة وشك هل هو قلتان أو لا لفظ متناقض، وحكمه بالطهارة باطل إذ فرض الماء قليلاً، والقليل دون القلتين، وإلا فإن كان قلتين فهو كثير، وإن كان الماء دون القلتين وحصل فيه نجاسة غير معفو عنها فهو نجسن لا خلاف فيه، فعلم من هذا ا، قوله: الصواب الجزم بطهارته باطل، وكان صوابه أن يقول: ما شك في كثرته ووقعت النجاسة فيه، ولو فرضه لذلك، وهو مراده بحكمه بأن الصواب الجزم بطهارته غير صواب، بل الصواب: الحكم بالنجاسة، لأن النجاسة محققة، وبلوغ الماء قلتين الأصل عدمه، ولا يجوز للآخذ بالاستصحاب مع نفس ما يعارضه، وهو نفس وقوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 النجاسة، إذاً لا خلاف في أن شرط الاستصحاب عند القائلين به أن لا يقطع بوجود المنافي له. وقوله: لا يلزم من النجاسة التنجيس، إنما هو في نجاسة معفو عنها لاقت ماء كثيراً، ولم يتغير، وليس الكلام في ذلك إذ كثرة هذا الماء مشكوك فيها، بل ملاقاة النجاسة سبب للتنجيس، وقضية السبب إعماله إلا لمانع والأصل عدم المانع، وهو الكثرة، فصار في جانب التنجيس أصلان: عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الثاني الذي هو النجاسة، ومن جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، واستصحاب مثل هذا ممنوع، فصار الظاهر الحكم بالنجاسة وملاقاة النجاسة محسوسة، فتصير هذه الصورة كالغدير مع الظبية التي بالت فيه، ووجد الماء متغيراً، واحتمل التغير بول الظبية، وطول المكث، وقد نص الشافعي على نجاسته، وقطع به جمهور الأصحاب، ومع هذا البحث الراجح الواضح كيف يقول: الصواب الجزم بالطهارة، فلا الصواب الجزم بالطهارة، ولا الظاهر، فضلاً عن الجزم، وقد قال الغزالي في الوسيط: الأصل بقاء النجاسة إلى أن يتبين الكثرة الدافعة، أو يقال الأصل طهارة الماء إلى أن يستيقن الصنان. والاحتمال الأول أظهر، فلو أصاب النووي لم يعتقد الجزم بالطهارة؛ بل لو تردد معذوراً مع أن الصواب الجزم بالنجاسة؛ لكنه وقف به نظره أو وقفه، وإنما بسطت وأسهبت لئلا يغلو فيه غر. قال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 تعالى: أما المناقشة في لفظ قليل فصحيحة، وكان الأولى حذفها، لكنه تجوز فيها، واستصحب اسم القليل مع الشك، أو لأنه يعد في العرف قليلاً وإن لم يكن في الشرع كذلك، والإمعان في الحكم بنجاسته إذا كان قليلاً لا معنى له، إذ لا نزاع فيه، وليس بمراد، وأما كون الصواب الحكم بنجاسته ما شك في كثرته فيرد عليه أنه حكم بالنجاسة مع الشك إذ الأصلان متعارضان، وهما طهارة الماء وقتله المقتضية للتنجيس، وهنا إذا تعارض أمران متضادان وجب التوقف، فكيف والقلة ليست مضادة للطهارة؛ بل مقتضية لضدها في هذه الصورة، وهذا معنى يصلح لترجح الطهارة، لأن المعارض لها أضعف منها، لكونه مقتضياً للضد لا نفس الضد، وإنما كان أضعف لكون المقتضي قد يتخلف المقتضى. وقوله: إن أصل الطهراة تيقناً ما يعارضه مع يقين ما يعارضه ممنوع إذ الغرض الشك، ومع الشك كيف يدعي اليقين. وقوله: في جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، إن أراد ما يرفعه ممنوع، وإن أراد ما يعارضه ويقاومه فيحصل الشك ويمتنع الحكم بالنجاسة، على خلاف غرضه، فإنه متى تقاومت المعارضة لا يجوز الحكم بالنجاسة، ويبقى الحال على ما كان عليه من الطهارة. وقوله: في جانب التنجيس أصلان، عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الذي هو النجاسة، أعلم أن عدم بلوغ قلتين وحده ليس بأصل معارض للطهارة بل بما ضم إليه من السبب، والسبب وحده لا يسمى أصلاً، وإنما يسمى ظاهراً، فإما أن يجعله مع عدم بلوغ الماء قلتين سبباً واحداً في التنجيس، وحينئذ يعارضه أصل الطهارة، وإما أن يجعله سبباً، والقلة شرط أو الكثرة مانعة وحينئذ يقال: إن الشرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 أو انتقاء المانع يكتفي فيه بالأصل إذا لم يعارضه أصل آخر وهنا عارضه أصل آخر، والسبب وحده بدون شرطه أو انتفاء مانعه لا يعمل، وإما أن يجعل وقوع النجاسة محل الحكم ويقاوم، عليها أمران: أحدهم يقتضي التنجيس، والآخر ضده، فيقف الحكم. وعلى كل تقدير فيجب أن لا يحكم بالنجاسة، فخرج من هذا أن دعواه في جانب التنجيس أصلان ليس بصحيح، ولو قال: أصل وظاهر لكان أصح في العبارة، ويتوجه عليه المنع بأن ذلك إنما يكون في أصل مستقل بظاهر مستقل، وليس هنا كذلك؛ لأن القلة ليست بأصل، بل بما ضم إليها، على ما تبين. وأما مسألة الظبية فإنما حمنا بالنجاسة لأن بول الظبية محقق، واستناد التغيير إليه ظاهر مستقل، لأن الأصل المعارض له معارض بالأصل النافي لطول المكث، ولا لما يقاوم الأصل إن علمنا بالسبب الظاهر المجرد الذي لا معارض له، فأين هذه المسألة من تلك، وقد جزم الصميري بالتنجيس متمسكاً بأن الأصل القلة، وسبق الغزالي دعوى ظهور التنجيس لتمسك بالقلة للتنجيس إمام الحرمي، فاقتصار الكتاني على كلام الغزالي دليل على أنه لم يقف على غيره. قال كمال الدين جعفر الأدفوي: كان منازعة في النقل، قلت له يوماً: قال الرافعي إن أكثر الأصحاب على جواز النظر إلى الأجنبية في الوجه والكفين إذا أمن الفتنة، فأنكر ذلك، ثم اجتمعت به ثاني يوم بالمدرسة القراسنقرية، فقال: الرافعي قال ما قلت، ولكن من أين للرافعي هذا، وشرع يغالب ويتغلب. قال: وقلت له يوماً: قال النووي: الأصح العفو عن الكثير من دم البراغيث، ونحوها مطلقاً فنازع، وحضر منهاج النووي فرآه، فشرع يؤول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 وكان بعض الطلبة يقرأ عليه يوماً في أن المعير إذا رجع والذرع قائم، ولم يكن يحصد قصيلاً فإ (نه يبقى إلى الحصاد، فقال هو: واختلف ههنا: هل عليه الأجرة، وما قالوا بمثل ذلك فيما إذا باع مالك الأرض وفيها زرع فإنه يبقى ولا أجرة، وطلب الفرق. فقلت: الفرق أن البائع لما زرع تصرف في ملكه، والمشتري دخل على الإبقاء، والتصرف كان في الملك، فلا يناسب أجره، والمستعير تصرف في ملك غيره، والمالك بصدد الرجوع في كل وقت، لكن التصرف كان الإذن، فلا يناسب قلع الزرع وضياعه، ولا إشغال أرض المالك مجاناً، فجمعنا بني المصلحتين، فأبقيناه حتى لا يفسد، وألزمناه الأجرة حتى لا يشغل أرضه مجاناً، فنازع نزاعاً طويلاً، لا بالرد النظري، إلا بالإساءة. قال: فتركت الاجتماع به. ومع ذلك فكان محققاً مدققاً كثير النقل، يستحضر النظائر والأشباه، لم يكن في الفقه في زمنه مثله، انتهى. قلت: ما صنف شيئاً ولا انتفع به أحد من الطلبة، وكان قل أن يفتي أحداً، ويقول لمن يأتيه بالفتوى: أنا ما أكتب لك عليها، روح إلى القضاة والى الذين لهم في الشهر من المعلوم كذا وكذا، وربما تحيل عليه بعض الناس فيما يرومه منه بأن يستصحب معه شاباً حسن الصورة فإنه كان يميل إلى ذلك لكن مع دين وعفاف وتصون كثير. ولما دخلت إلى الديار المصرية قلت للأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي رحمه الله تعالى: أريد أن أرى الشيخ زين الدين، وأجتمع به، فقال لي: ما تنتفع به ولا تنال منه مقصودك، ولكن اصبر، أنا أروح معك إليه، فتوجهنا إليه إلى داخل باب السعادة إلى دار الفارقاني، فصعد بي في سلم حجر أعلاه طبقة، فطرق الباب، فقال من؟ قال: محمد بن حنكلي فقال: ومليحك معك؟ قال: نعم، فقام، وفتح الباب، وبش بنا وأجلسنا، وانشرح، وأحضر شراب ليمون، وفيه قلب فستق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 وشراب حماض، وفيه قلب بندق، وأطعمنا من ذلك، وأحضر طعاماً شهياً طيباً وانشرح لنا مدة إقامتنا عنده لما كان معنا بعض مماليك الأمير، وهو وضيء الوجه، وفارقنا رحمه الله تعالى. وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يثني عليه. وقلت أنا فيه: يا من يروم الفقه برد أصوله ... رقمت حواشيه بكل بيان عرج بزين الدين تلق دروسه ... حللاً محررة من الكتاني عمر بن حسن بن عمر بن حبيب العالم المحدث الفاضل زين الدين أبو حفص الدمشقي، محتسب حلب. سمع من ابن البخاري، وابن شيبن، وعلي بن بلبان، وطائفة. وعني بالحديث، ورحل وسمع من ابن حمدان، والأبرقوهي، وسدة بنت درباس، وخلق، ونسخ وحصل الأجزاء، وخرج له شيخنا الذهبي معجماً عن أزيد من خمس مئة شيخ بالسماع. وكان كثير الأسفار، فدخل في آخر عمره إلى الروم، ثم إلى مراغة، فتوفي هناك رحمه الله تعالى في .... سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة تقريباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 عمر بن داود بن هارون بن يوسف القاضي زين الدين أبو حفص الصفدي، كاتب الإنشاء بالشام ومصر أصله من نين قرية من مرج بني عامر من صفد، بنونين، بينهما ياء آخر الحروف على وزن بين ودين. كان كاتباً ذكياً، فاضلاً سرياً، يقع على المقاصد، ويرقب المجرات ويراصد، إذا أخذ كتاباً تأمل فضوله، وتصور محصوله، وأجاب عنه بأجوبة بليغة ساده، دالة على غزارة المادة، وكان قلمه بليغاً إذا كتب مسترسلاً من غير سجع، واتكل على ما عنده في ذلك من الطبع، لأنه يأتي بما يكتبه، بليغ المعاني، مستوفي المقاصد، تام المراد، غير مخل ببيان ولا فاسد. أما نظمه فكان قليلاً مرذولاً، بطيئاً مهزولاً، ونثره كان أجود منه؛ إلا أنه كان وعر الجادة، ناب عن الطبع غير سار في المادة، وخطه أيضاً قوي منسوب، لكن ما عليه حلاوة، ولا له ما لخط غيره من اللطف والطلاوة؛ إلا أنه كان صبوراً على الكتابة، لا يسأم تواترها، ولا يمل تكاثرها، يقوم بتنفيذ ما في الديوان، ويسد مهماته على أحسن ما يكون وأسده، ولو بلغت إلى كيوان. تنقل من صفد إلى دمشق إلى غزة إلى الرحبة، ثم إلى دمشق، ثم إلى مصر إلى دمشق إلى مصر كرتين هبة بعد هبة، مع عطلة تخللت ذاك، وكاد الأمر يكون حتماً بغير انفكاك، ولكنه لطفت به المقادير، وأعادت اسمه إلى الدساتير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 ولم يزل على حاله إلى أن بتر الله عمر عمر، وانقبض ابنساطه في الحياة وانقبر. وتوفي رحمه الله وسامحه بالقاهرة في ثامن عشري صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، بعد مرض طويل قاسى منه شدة. ومولده في سنة ثلاث وتسعين وست مئة. قدم من قريته إلى صفد، وقد عذر في عام ستة عشر وسبع مئة فيما أظن أو قبل ذلك بقليل، ولازم شيخنا نجم الدين الصفدي، وأقام في بيته يبيت ويصبح، واشتغل عليه وكتبه وهذبه ودربه، فكان شيخنا في تلك المدة كاتب سر صفد، فاستكتبه عنده، وتخرج. وكان ذكياً فذاق هذه الصناعة، ومهر فيها. ولما بطل الشيخ نجم الدين من التوقيع كتب زين الدين الدرج للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الدواوين بصفد ووالي الولاة، ولما هرب الأمير علم الدين سنجر الساقي من صفد فاراً من نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي توجه زين الدين معه، فأقام بدمشق مدة يتردد إلى شيخنا شهاب الدين أبي الثناء محمود والى القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وعرف بين أهل دمشق، وعامل أهلها معاملة جيدة إلى أن أجمعوا على الشكر منه والتوجع له في بطالته، فأقام بها مدة، وحضر شمس الدين الجاولي إذ ذاك نائب غزة، فرأى خط زين الدين وعبارته فأعجبه ذلك. وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 زين الدين شديد المداخلة للناس، لطيف المؤانسة جريا في الإدلال والكلام والمشاركة مع صاحب المجلس والانخراط في سلكه، فخاف ابن منصور من تقدمه، فعمل عليه وأعاده إلى دمشق. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، جهزه إلى الرحبة موقعاً بإشارة القاضي شمس الدين محمد بن شيخنا شهاب الدين محمود رحمه تعالى بعد ما أقام بدمشق بطالاً تسع سنين فأقام بها قريباً من سنتين. ولما توجه القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى مصر قال الأمير سيف الدين تنكز لهما: ما بقي في الديوان أحد، فذكراه له، وقالا: يا خوند، كاتب الرحبة زين الدين الصفدي يصلح أن يكون في باب مولانا ملك الأمراء. وكان قد خلا مكان القاضي جمال الدين بن رزق الله من ديوان الإنشاء بدمشق لتوجهه إلى توقيع غزة، فرسم بإحضار زين الدين إلى دمشق، فجاء إليها، وأقام بها دون السنة، ثم إن القاضي شهاب الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فأقام يكتب بين يديه قريباً من ثماني سنين إلى أن رسم السلطان الملك الناصر محمد للقاضي شهاب الدين بن فضل الله بأن يلزم بيته، فعمل عليه هو الآخر، وأخرجه السلطان من الديوان، وأقام في القاهرة مدة ملازم بيته، ثم إن طاجار الدوادار أخرجه من القاهرة إلى صفد بطالاً، فأقام فيها إلى أن حضر القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فتحدث له القاضي شهاب الدين وأحضره من صفد إلى دمشق، فبقي فيها بطالاً إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد فتحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله مع الأمير علاء الدين ألطنبغا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 نائب الشام، فأمر له بالدخول إلى ديوان الإنشاء، فأقام به إلى أن رسم السلطان الملك الصالح بإبطال من أحدث عبد أبيه السلطان الملك الناصر، فبطل، ولازم بيته مدة، ثم إنه دخل مع من دخل فيما بعد. ولم يزل يكتب في ديوان الإنشاء بدمشق إلى أن حضر القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله، فسلم إليه الأمر، ورأى من السعادة ما لا رآه في عمره مدة ثلاث سنين. ثم إن القاضي علاء الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه هو ووالده القاضي شهاب الدين أحمد في البريد يوم عيد الأضحى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها موقعاً في الدست، وولده في جملة كتاب الإنشاء، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وكنت قد كتبت إليه إلى دمشق من صفد: عن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها وكتبت إليه مع غلام حسن الوجه وهو بغزة: يا نازحاً صورته في خاطري ... فرميت للتصوير بالنيران إن لم يبلغك النسيم تحيتي ... فلقد أتاك بها قضيب البان وكتب هو إلي من دمشق وأنا بصفد سنة ست عشرة وسبع مئة: أشتاق من دون الأنام خليلا ... فلذاك أصبو بكرة وأصيلا مولى رحلت وسرت عن معروفه ... فعدمت من إحسانه تنويلا لو كان في عصر مضى لم يعتمد ... إلا على ألفاظه الترسيلا هو فارس في فنه كم جدل الأقران في ميدانهم تجديلا ليس اليراع بكفه في طرسه ... إلا حساماً هزه مصقولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 فإذا ترسل خلته من لطفه ... أضحى يدير على الأنام شمولا نبت الكتابة عن سواه فلم تجد ... إلا بضافي الظل عنه بديلا فلذاك وجه الدهر راح بفضله ... لمن اجتلاه أو رآه جميلا أرجو اجتماع الشمل منه لأنه ... قد لا يكون به الزمان نحيلا والله ما لاحت بروق في الدجا ... إلا تجدد لي بكى وعويلا ولربما سمح الزمان بعودتي ... فأبل من شوقي إليه غليلا لا زال جودك بالمرام كفيلا ... ولطيف صنعك بالأنام جميلا أنس قريضك مذ تطلع نيراً ... بسما البديع كثيراً وجميلاً قط اليراع لسانه عن وصفه ... مذ مد باعاً في البديع طويلا فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: يا سيداً أضحى عظيم فخاره ... أبداً على هام العلا إكليلا وكسا برود النظم من ترصيعه ... غرر البيان وزادها تحجيلا لاحت تباشير الصباح بطرسه ... من أسطر أفنيتها تقبيلا راقت محاسنه ورق شمائلا ... فغدا يمج من البيان شمولا أما التشوق والحنين فلا تسل ... فالخطب منه لا يزال جليلا مذ غبت عني فالدموع على الولا ... لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا وتلهب الزفرات في طي الحشا ... خلى محل الصبر عنك محيلا فاسعف بقربك إنه جل المنى ... لتكيد ضداً أو تسر خليلا فالجسم في صفد أقام وقلبه ... بل قد تشحط في دمشق قتيلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 وكتبت أنا إليه من صفد: يا بارقاً سال في عطف الدجى ذهبا ... أذكرتني زمناً في جلق ذهبا لئن حكيت فؤادي في تلهبه ... فلست تحيكه لا وجداً ولا حربا ويا نسمياً سرى والليل معتكر ... وهب وهناً إلى أن هزني طربا أراك تنفح عطراً في صباك فهل ... تركت ذيلاً على جيرون منسحبا أم قد تحملت من صحبي تحيتهم ... فكان ذلك في طيب الصبا سببا قوم عهدت الوفاء المحض شيمتهم ... وإن شككت سل العلياء والأدبا صرفت إلا عناني عن محبتهم ... وبت نضواً حيلف الشوق مكتئبا لا الدار تدنو ولا السلوان ينجدني ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا أحبابنا إن ونت عني رسائلكم ... فلست أسأل إلا الفضل والحسبا وحياتكم ما لنفسي عنكم بدل ... كلا ولا اتخذت في غيركم أربا أعيذ ودكم من أن يغيره ... نأي ولو جردت من دون ذاك ظبا لعل دهراً قضى بالبعد يجمعنا ... وقلما جاد دهر بالذي سلبا أرضى بحكم زماني وهو يظلمني ... فيكم وأجني ببعدي عنكم التعبا ولن يظفرني إلا بودكم ... يا حيرتي فيكم إن رد ما وهبا نسيتموني ولم أعتد سوى كرم ... منكم يبوؤني من فضلكم رتبا حاشاكم أن تروا هجري بلا سبب ... أو تجعلوا البين فيما بيننا حجبا عاقبتموني ولا ذنب أتيت به ... فقل عن الصخر إذ يقسوا ولا عجبا عودوا إلى جبر كسري لا فجعت بكم ... فقد لقيت ببعدي عنكم نصبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يا خير من خط في الأوراق أو كتبا ... وخير من حاول العلياء والأدبا ومن علا فغلت فيه مودتنا ... وفاق فضلاً وفات العجم والعربا أنت قصديك الغراء باسمة ... عن نقط أحرفها لما حكى الحببا فرنحت أنفساً بالبعد قد تلفت ... وحركت كل عطف قد قسا طربا فهل بعثت بعتب جاء عن قلق ... أو لطف نظمك قد أهدى نسيم صبا حاشى المودة أن يعتادها ملك ... أو أن يكون النوى في مثله سببا وإنما الدهر بالإزراء حاربني ... وجار في الحكم لما بت مغتربا وما ترق على ذلي عواطفه ... ولا تمد إلى العلياء لي طنبا وكلما قلت قد لينت شرته ... يزيد ناري على تأجيجها حطبا فاعذز فإنك أولى الناس كلهم ... ببسط عذري إن لم أبعث الكتبا فأنت تعلم أني قد جعلتك من ... دون البرية في الدنيا أخاً وأبا فلا تؤاخذ إذا ما هفوة عرضت ... ممن يكون إلى علياك منتسبا وكتبت أنا إليه من الرحبة أهنئه بمولود ذكر: هناء به وجه الزمان تهللا ... وبشرى بها الإقبال وافى وأقبلا فهنئت مولوداً أتى فتشوفت ... إليه عيون الفضل والمجد والعلى وأكرم بنجم لاح فينا ومن يقل ... بنجل فحرف الميم باللام بدلا إذا ضوأ الآفاق نور هلاله ... فكيف إذا ما صار بدراً مكملا سيرضيك في أفعاله ومقاله ... إذا طال في أوج العلا أو تطولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 وترعف أقلام السيادة كفه ... ويرعف أعداء ويرعد ذبلا ويستخدم البيض الرقاق يراعه ... إلى أن يرد الصعب سهلاً مذللا ويسعى إلى أبوابه السعد صاغراً ... ويأتي إليه وهو طفل تطفلا يقبل الأرض وينهي أنه جلس بهذه البشرى على سرر السرور، والتحف منها بحبر الحبور، وملأ كفه بالدرر من هذه الأفراح، وملأ طرفه بالبدور، ونطقته هذه المسرات بالمحامد فارتجل وارتجز، وأمكنته الفرصة من التهاني، فانتهب وانتهز، وقرن الهناء بالدعاء فابتهج وابتهل، تخير ساعات الإجابة فانتقد وانتقل، وكيف لا يبتهج المملوك بمخدوم تجدد، ويتمسك بفضل تعدد، ويسر بدوح تفرع، وإن كان أصله بالمزايا تفرد، وهو هذا إلا بيت تمد في العلياء أطنابه، ترفع في السيادة أعلامه وقبابه، وتتسع لبني الآمال ساحاته ورحابه: وهذا هدية رب العلا ... فثق بهدايا هداياته وما أقول إلا أن مولانا ليث وقد أشبل، وبحر زخر لجه حتى مد بجدول، ومن حرمان المملوك أنه ما شافه السمع الكريم بالتهاني، ولا فاز برصد هذا الهلال كيف يترقى إلى الإبدار على الدقائق والثواني، ولا عاين لسلوك المحبين إليه طريقة، ولا حضر لهذه الجوهرة النفيسة يوم عقيقة، وما ضر الأيام لو كنت لجوهره عرضاً أدنى، أو لو ساعفت بالقرب فأكون حاضراً بالصورة إذ قد حضرت بالمعنى، والله تعالى يمتع عينه الكريمة بهذه القرة، ويهبه أمثالها حتى يرى في كل ذرة من الزمان دره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 فكتب هو الجواب عن ذلك: أتاني كتاب منك كالبدر يجتلى ... فأصبحت أجلوه على سائر الملا حكى الروض أمس بالأزاهر ناضراً ... أو العقد أضحى بالجمان مفصلا يدير على سمع الأنام سلافة ... من القول فاتت منك مسكرة الطلا لو أن أبا تمام أبصر حسنه ... لما قال في عصر تقدم أو خلا تخال به برداً عليك محبراً ... وتحسبه عقداً عليك مفصلا تهن به عبداً لعبدك قد أتى ... فناهيك من مولى به قد تطولا لقد زاد عبد في عبيدك إذا أتى ... فتمم عداً حين جاء تكملا وإني لأرجو أن يفوء بخدمة ... يفوق بها فوق السماكين منزلا تربيه مملوكاً وتنشيه خادماً ... ويكفيه هذا للمعالي توسلا وكتب هو إلي من صفد وأنا مقيم بالديار المصرة بعد ما خرج إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقد ظن أن لي في خروجه مدخلاً، وعلم الله تعالى كاف: إن كان ظنك أنني لك ظالم ... فارحم لأن تسمى لأنك راحم حسب المسيء من القصاص بأنه ... جرح بجرح والسعيد مسالم كم قد حرصت على التنصل عندما ... وقع العتاب فما أقال الحاكم الله يعلم أنني عاذر ... والله عني بالبراءة عالم ها قد جرى لي ما جرى لك قبلها ... ووقعت في صفد وأنفي راغم إن صح لي فيها عليك جناية ... فجزاؤها هذا العقاب اللازم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 فاقنع به واذكر قديم مودتي ... فالعهد فيما بيننا متقادم أو لم يكن ذنب وحالي ما ترى ... فامدد إلي يداً وجاهك قائم فلقد تأتى ما تريد فوالني ... منك الجميل فإنه لك دائم جار الزمان على وليك واعتدى ... وإليك للزمن الألد يخاصم من كان ليس بنادم مستدرك ... فأنا عليك إلى مماتي نادم كانت هناة وانقضت ومن الذي ... منا وليس له تعد جرائم إن الذي قسم الحظوظ كما يشا ... للرزق ما بين البرايا قاسم قل وكثر ليس تبقى حالة ... والدهر بين الناس بان هادم يا من له أخلصت كن لي مخلصاً ... فعلى مجازينا كلانا قادم أعلنت بالشكوى لضر مسني ... لكن ودي في الحقيقة سالم ولك السيادة خلة ومكارم ال؟ ... أخلاق منها في يديك خواتم فاقبل أخوتي الجديدة إنني ... فيها لمجدك أو لودك خادم وإلى الرضى عد بي وللحسنى أعد ... حتى تقوم على الصفاء علائم والبس رياستك السنية حلة ... أبداً لها من نسج سعدك راقم واجعل لها شكراً إقالة عثرة ... من صاحب قد صد عنه العالم أنت الخليل بل الخلي من الهوى ... وأخوتي قد جرها لك آدم فأعن أخاك بحسن سعيك مرة ... إن المغارم في الإخاء مغانم قلت: الأجوبة التي تقدمت أصلحت أنا فيها أماكن حتى رقت ولطفت، وأما هذه الأبيات الميمية فهي شعره على صرافته لم أغير منها شيئاً، وهي بخط يده في التاريخ الكبير في ترجمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 وكتبت أنا الجواب إلهي عن ذلك: يا من تعرضني وقلبي سالم ... من إثمه والله إنك آثم أتظن أني فهت فيك بفظة ... لا والذي هو بالسرائر عالم ما الأمر فيك كما زعمت وإنما ... أنت امرؤ فيما أهمك واهم أنسيت أن الله في أحكامه ... عدل وأنك في الحقيقة ظالم فاقتص لي منك الغداة بمثل ما ... عاملتني والله عدل حاكم كم قد قطعت الليل منك مسهداً ... والقلب ملتهب وطرفي ساجم أستصرخ الأنصار فيك وكلهم ... في غفلة عما دهاني نائم وإذا طلبت الروح من نفس الصبا ... جاءتني النسمات وهي سمائم فأقمت في صفد ودمعي مطلق ... حزناً ومالي في البرية راحم حتى إذا علم الإله ضرورتي ... نجى وطرفك بالغواية حالم فأنب وتب لله وارض بحكمه ... واصبر فحكم الله أمر لازم لعساك تؤجر أو ترى لك مخلصاً ... من ضيق حال ضره متفاقم والله مالي في خروجك مدخل ... كلا ولا طبعي لذاك ملائم فعليك بالصبر الجميل فإنه ... لجراح ناب النائبات مراهم ما دام لي بخلاف قصدك شدة ... وكذاك ما تخشاه ما هو دائم أعزز علي بأن يسوءك حادث ... أو أن أنفك في الرزية راغم ما احتجت للتذكار منك لأنني ... لك في الرخاء وفي الشقاء أقاسم فلأبذلن عليك مجهودي إلى ... أن تنقضي البلوى وبالك ناعم فتوخ في الأسحار أوقات الدعا ... إن الدعاء لدفع ذاك دعائم فكأنني بك قد خلصت خلوص بد ... ر التم حيث سحابه متراكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 وصفوت كالإبريز يخرج من لظى ... والصبح قد أخفاه ليل عاتم وأراك مسروراً ووجهك مسفر ... بشراً وثغرك بالأماني باسم وكأنما قد كان من عبث الردى ... بك لم يكن ولك الزمان مسالم وكان هو قد كتب بدمشق قبل الديوان كتاباً ببشارة النيل على وجه امتحان الخاطر، وجهز إلي نسخته، وهو: " أعز الله أنصار المقر ولا أخلاه من أثر رحمة يشاركه فيها الخلائق، وينبه ذوي الفضائل على التفكر في لطيف صنع الخالق، ويدخل في شمول عمومها وعموم شمولها الصامت والناطق، ويدل على إقبال الرخاء دلالة البرق المستطير على النوء الصادق: حتى يكون مباركاً في نفسه ... وعلى الورى في سائر الأقطار متقسم المعروف أحلى موقعاً ... عند النفوس من الخيل الساري يحيكه مشبه كفه النيل الذي ... أغنى الثرى عن منة الأمطار أربى عليها لونه لما جرى ... ما شانه الإرعاد بالأكدار وهي نعمة تحدث عن عجائب بحرها على الحقيقة ولا حجر، ويتساوى في الانتفاع بها كل نام فضلاً عما دب ودرج. لقد أبرزت كنانة أرض الله في أثوابها القشب، وسرى ذكرها إلى الشام المرتقب، موسم الوسمي طليعة السحب تضمن ذلك المثال الشريف الوارد بخبر وفائه القائل من سمعه: هذا عذوبة ألفاظ ألبستها من حلاوة مائه. وإن المقياس أتى بتمام قياسه الثابت على عادة عدانه، ونادى وقد سقى الأرض غير مفسدها بالأمان من طوفانه. وإن أراقم غدرانه انسابت في ذلك الإقليم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 فابتلعت غدران أراقمه، ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة، فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه. وإنه أحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين ضائقة المحل بسور، وأخذ الطرق على السالكين فلا مراكب في البر ولا عاصم إلا الجسور. ولم تنتقض قاعدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. على أن لله الحفي في هذا لطفاً خفياً وما هو بالخفي، فنقصها جاء " تماماً على الذي أحسن "، ونجاة بدنها الهالك للنبات آية المأمن. وكأني بهذا المخبر عنه، وقد بلغ الزبا من الربا، فطار النسر مبلول الجناح، ودنا حين أطلق فركضه من مشى بالأرجل، لا أن رفعه من قام بالراح. ومولانا يأخذ من هذه الأنباء بأحسنها وكلها حسنة، ومن هذه البشائر المنتظر قدومها بأبينها يمناً وكلها بينة متيمنة، وقد علم حق نعم الله الشكر فيوفيها منه حقها. ويتوقع رزق بلاده من السماء كما وعد، فقد أخرج لتلك من خزائن غيبه رزقها، ويوفر الرعايا من الجباية ليتوفروا على الدعاء، ويعرفوا نزاهة هذه الدولة القاهرة عن القوة على الضعفاء. فإن المرسوم الشريف نص على هذه الخاتمة الجلية، وطهر هذه الموارد من قذى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 الأذى لتنقى القلوب من السخط كما كانت في نفسها نقية، ومن وعى فواضل هذا الكرم الطاهر فليقل: يا مقيلات الجدود العواثر. والله تعالى يجعل مولانا من المتوكلين عليه ليزيده إيماناً، ويرزقه كما رزق تلك الديار التي غدت من الظمأ خماصاً، وراحت من الري بطاناً، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. ولما كنت أنا بالديار المصرية سنة تسع وعشرين وسبع مئة ألزمني القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله تعالى أن أنشئ كتاباً في المعنى، فكتبت، وبالله التوفيق: ضاعف الله تعالى نعمةالجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية هي أكبر من الآخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق ليل الهم وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا. هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تخصه بسلام يرق كالماء انسجاماً، ويروق كالزهر ابتساماً، وتتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص الله الديار المصرية بوفادة وفائه، وأغنى قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منه الغمام الذي إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 جاد فلا بد له من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي البلاد التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج فيها مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس. وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج من البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع. والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفاء عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر والماء كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمي، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى. إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في ذا العلم المبارك جذب البلاد من الجدب، وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحصنها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه. وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة في مطالعتنا الشريفة في كل يوم بخير قاعة في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعاً، وأقبلت سوابق الخيرات سراعاً، وفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، وتضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفا بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلاب لكرم طباعه جبر العالم بكسره. فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فرح موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له في هذا خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله عز وجل على العباد. وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها. ويخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج. فليأخذ الجناب العالي حظه من البشرى التي جادت المن والمنح وانهلت أياديها الغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجا أديم الأفق، ويتخذها عقداً يحيط به من العنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا المحروسة بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم الشريف حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة. والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وكتبت أنا إلى زين الدين المذكور، وقد أعارني نسخة الفلك الدائر: فديت مولى خالني مقتراً ... فعمني بالنائل الغامر لم يرض بالأرض على قدره ... فجاد لي بالفلك الدائر فراح وصفي في علا مجده ... مشتهراً كالمثل السائر وأنشدني من لفظه لنفسه في ضوء البدر بين الغصون: نظرت للشهب وقد أحدقت ... بالبدر منها في الدياجي عيون والروض يستجلي سنا نوره ... فتحسد الأرض عليها الغصون وكلما صانته أوراقه ... نازعها الريح فلاح المصون فقلت حتى البدر لم تخله ... ريب الليالي في السما من عيون فقلت له: والله حسن، ولكن أطلت فيه النفس في أربعة أبيات، ولو كان ذلك في بيتين لكان أحسن. وأنشدته لنفسي في ما بعد ذلك: كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة جمال الدين يوسف النابلسي الصوفي شيء من هذا المعنى. وأنشدته يوماً الأبيات التي أوردتها في ترجمة شيخنا نجم الدين حسن بن محمد خطيب صفد، وأولها: ولقد ذكرتكم بحرب ينثنى ... غن بأسها الهزبر الأغلب فأنشدني هو لنفسه في هذا المعنى: ولقد ذكرتك عندما بلغ الزبا ... عرق الجياد وفاض ماء النيل والبحر بر بالوحول وقد طمى ... بالبر بحر فرسخ في ميل والناس قد خاضوا فأغرق بعضهم ... ونجا القليل بضجة وعويل وقلوبهم من روعها في غمرة ... ويطب ذكرك بينهم تعويلي ولما رسم بعوده إلى ديوان الإنشاء بدمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، كتبت أنا إليه توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر العالي لا زال يزيد الأولياء زينا، ويزين الأكفاء بمن إذا حل صدراً كان عيناً، ويرتجع لكل مستحق ما كان له في ذمة الزمان ديناً، أن يستقر المجلس العالي الزيني في كذا، لأنه الكاتب الذي دبج المهارق، ورقم طورسها فكان لها نظرات الحدق ونضارة الحدائق، وخط سطورها التي إذا رملها غدت من الحسن كالريحان تحت الشقائق، وصرع بها أطيار المعاني لأن دالات السطور قسي، والنقط بنادق، وزان آفاقها بنجوم أسجاعه فلم يصل أحد إلى درجات فصاحتها لما فيها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 الدقائق، وأصدرها في الروح والروع يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق، وأودعها نفائس إنشائه فأثنى عليها أئمة البلاغة، ولو سكتوا أثنت حقائب الحقائق. طالما كتب بالأبواب الشريفة تقليداً، وجهز في المهمات كتباً ملأت البحر حرباً والبر بريداً، ووشى أمثلة صدرت عنها فطارت في الآفاق، ولكن أوثقتها الأفهام تقييداً، وعاد الآن إلى الشام فنفس عنه خناق الوحشة بقربه، وتلقها بالرحب علماً بأنه يغني عن الكتائب بكتبه، وأحله في رتبة يشرفها الولي بسلمه ويسوء العدو بحربه، شوقاً إلى أنس ألفه من لطفه، وعرفه من عرفه في نفح عرفه، فطاب به الواديان كلاهما، وتنافسا في أخذ حظيهما من قربه، فما تساهلا تساهماً، فهو من القوم الذين تسقى البلاد بهم وتسعد، وإذا قربوا من مكان تخطاهم السوء للأبعد، وإذا قاموا بمهم كانوا فيه أقعد، وإذا باشروا المعالي كانوا أسعد الناس وأصعد، وإذا كتبوا كبتوا العدا، لأن كلامهم لمع فأبرق وطرسهم قعقع فأرعد. فليباشر ذلك على ما عهد من أدواته الكاملة، وكلماته التي تركت محاسن البرايا بائرة وأزاهر الخمائل خاملة. والوصايا التي تملا كثيرة، وكم شرع لها قرطاسه وشرعها بأقلامه، ونضد عقودها بإحكام أحكامه، وملأ بجيوشها صدور مهامه. فما يلقى إلى بحره منها دره، ولا يذكر لطود فضله منها ذره، ولا يطلع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 القلم في أفق فضل كله شموس من ذلك بدره، ولا يدل مثله على صواب، فقبيح بالعوان أن تعلم الخمرة، ولكن لا بد للقلم من لفتة جيد، وفلتة نفث تكون كالخال في الوجنة ذات التوريد. وهي الذكر بتقوى الله تعالى التي من عدمها فقد باء بخسران متين، ومن لزمها فقد جاء بسلطان مبين. والله يتولى رفعة مجده وسعة رفده. والخط الكريم أعلاه حجة بالعمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى. وقد أوردت كثيراً من كلامه في ترجمته في التاريخ الكبير الذي أسميته الوافي بالوفيات. ؟؟ عمر بن سعد الله الإمام زين الدين الحراني الحنبلي، المعروف بابن بخيخ، بباء موحدة وخاء معجمة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وخاء ثانية. سمع الكثير، وحضر على الفخر، وكان بالفقه بصيراً، وبالنحو خبيراً، تخرج بالعلامة الشيخ تقي الدين بن تيمية وبغيره ممن ساد بعلمه في البرية. وناب في الحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 لابن المنجا، وخلص الحقوق ونجى، وكان يقول برأي الشيخ تقي الدين في المسائل التي انفرد بها ووقع له ما وقع بسببها، ويحكم بها وتسطر، ويذيب بها قلوب المخالفين فتفطر. وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يتألم ويتأذى منه وما يتحلم، ولا ينفذ ما يحكم به ولا ما يراه، ولا يصل به أسبابه ولا عراه، ونازعه في ذلك مرات ولم يرجع، وأصر عليها إلى أن ركب على الشرجع. ولم يزل على حاله إلى أن بخبخ الموت لابن بخيخ، وأتاه ما يأتي على الطفيل والشييخ. وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة بضع وثمانين وست مئة. وتألم الناس له. وكان قد ولي مشيخة الضيائية، وألقى فيها دروساً محررة، وكان قد ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بعد القاضي برهان الدين الزرعي رحمهم الله تعالى. وقال يوماً قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا: إن كنت تقول إن هذه الأحكام التي يحكم بها نائبك مذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فأنا أنفذها، قال: لا إلا إذا حكم بها هذا حكمت بصحتها، وطال التنازع في ذلك، ولم يرجع هذا، ولا نفذ هذا له هذا حكماً. وأظنه مات معزولاً، والله أعلم. وكان قد دخل في زمرة من توجه إلى غزة بسبب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحبس وأفرج عنه، وجاء إلى دمشق، هذا، على ما في ظني أو والده أو واحد من بيتهم. أخبرني من لفظه الشيخ الإمام عز الدين حمزة بن شيخ السلامية قال: رأيته ليلة مات قبل دفنه، فقلت له: ما مت؟ قال: بلى، قلت: فما رأيت الله تعالى؟ قال: بلى، يغمى على الميت في النزع، ذلك الوقت يرى الميت الله تعالى. قلت: فما قال لك؟ قال: قال لي: أهلاً بعبدي وحبيبي، أو كما قال. عمر بن طيدمر ككز الأمير ركن الدين. كان أحد الأمراء العشرات بدمشق، وكان هو وأخوه علي المقدم ذكره في الحسن فرقدي سماء ونيري أفق تبرأ من الظلماء، كم زانا المواكب، وسيرا في سوق الخيل فأشبها الكواكب، إلى أن اجتحف سيل المنية أخاه، وبورك في عُمرِ عُمَر هذا وما توخاه، فأقام بعد أخيه يطلع في أفق الملاحة، ويسفر عن صباح الصباحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 فودع الحياة واختطفها وتناول زهرة العيش واقتطفها، إلى أن انكدر نجمه الزاهر ونقل إلى باطن القبر حسنه الظاهر. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض قاضي القضاة عز الدين أبو حفص المقدسي الحنبلي. سمع من جعفر الهمداني، والضياء محمد، وحضر ابن اللتي. انتقل إلى القاهرة، وسمع من ابن رواج، وسبط السلفي، وتفقه بها على شمس الدين بن العماد. وبرع وأفتى ودرس، وكان متأنياً في الأحكام. وكان أبيض الرأس واللحية، سميناً، تام الشكل، كامل العقل. توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر صفر سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. وقرأ عليه شيخنا علم الدين البرزالي جزء الغضائري. عمر بن عبد الله بن عبد الأحد تقي الدين أبو حفص الحراني الحنبلي المعروف بابن شقير، تصغير أشقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 سمع الكثير بنفسه، ودار على المشايخ، وسمع من القاسم الإربلي، والفخر علي، وابن شيبان، وزينب، وخلق. ونسخ بعض الأجزاء، وروى الصحيحين. قال شيخنا الذهبي: وسمعت منه: توفي رحمه الله تعالى ... سنة أربع وأربعين وسبع مئة. قلت: كان شيخاً فاضلاً ديناً صيناً مشهوراً. عمر بن عبد الرحمن بن أحمد قاضي القضاة إمام الدين أبو المعالي القزويني الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، ابن القاضي سعد الدين، ابن القاضي إمام الدين. وهو أخو قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين. كان المذكور تام الشكل سميناً، جميل الوجه وسيماً مبيناً. أخلاقه لطيفة، وحركاته ظريفة. يتواضع لمن يلقاه، ويتنازل وهو في أعلى مرقاه، عقله جيد إلى الغاية، ونبله متصل بالنهاية. بارع الفضيلة، فارع الهضبة التي سمت عن كل رذيلة. ساس الناس سياسة ملك بها قلوبهم، وستر عيوبهم، وتغمد بحمله خطأهم وذنوبهم. أحسن مداراتهم، وأمنهم في أماكنهم وداراتهم، ولما بلغه خبر التتار في نوبة غازان، انجفل مع الناس إلى القاهرة، ورأى الناس منه عياناً ما كانت تأتيهم به أنباؤه السائرة. فما أقام بها غير أسبوع واحد، حتى لحده اللاحد. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. وولد بتبريز سنة ثلاث وخمسين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 واشتغل في العجم والروم، وقدم دمشق في الدولة الأشرفية، وهو وأخوه جلال الدين، فأكرم مورده لرئاسته وفضله وعلمه وعقله. ودرس بعدة مدارس. وولي القضاء بدمشق في أول دولة لاجين سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فأحسن إلى الناس وداراهم، وكان خروجه من دمشق في الجفل في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين، وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى، وخرج بجنازته خلق كثيرون من الأعيان. وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي، وفيه يقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل، رحمهما الله تعالى: انتسب القاضي إلى قاسم ... فصدقوا كلوتة الرجل العجل من ثور يرى دائماً ... وما رأينا الثور من عجل وكان القاضي إما الدين رحمه الله تعالى فاضلاً في الأصول والخلاف والمنطق، وشرح مختصر ابن الحاجب. عمر بن عبد الرحيم بن يحيى ابن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، القاضي عماد الدين أبو حفص قاضي القدس وخطيبه. كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل بدمشق مدة، وأقام بها، ثم انتقل إلى نابلس، وأذن له هناك بالإفتاء، ورتب له هناك على ذلك معلوم مدة سنين، ثم إنه تولى خطابة القدس عليه وعلى ولده، ثم إنه نقل إلى قضاء القدس، وبقي على ذلك أشهراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 ثم مات رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء عاشر المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وسمع من عمه رحمه الله تعالى الخطيب قطب الدين عبد المنعم خطيب القدس، وروى عنه. وكان سريع الحفظ، سريع الكتابة، ولم أر أنا في الأئمة من يقرأ في المحراب أردأ من قراءته. ولما زار الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني رحمه الله تعالى القدس صلى خلفه، ولما فرغ قال له: اقعد اقرأ الفاتحة، فقرأها عليه وصححها، ولما صلى به الصلاة الأخرى قرأها أردأ من الأولى، فقال الشيخ: ما في يدي حيلة. وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش كثير الاعتناء به، فلذلك جمع له بين الخطابة والقضاء، وكان قد زوج ابنه الخطيب شمس الدين بابنة قاضي القضاة شرف الدين النهاوندي قاضي صفد. وتوفي الخطيب عماد الدين رحمه الله تعالى وله من العمر أربع وستون سنة. وله شرح جمعه لصحيح مسلم. عمر بن عبد العزيز بن الحسن الصاحب فخر الدين بن الخليلي الداري. كان من الفضلاء الوزراء النبلاء، أحسن إلى الناس في وزارته، وكل خير نجده إلى اليوم مكتوب على توقيعه بإشارته. قرر في مباشراته للفقراء جملة رواتب، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 يخشى في ذلك العواقب ولا العواتب، وفاز إلى يوم القيامة بذكرها، وحاز محاسن حمدها وشكرها. عزل منها مرات، وقد حصل له فيها مبرات، وعاد إليها عود البدر إلى منازل سعوده، والهلال إلى مراقي صعوده. وشكر الناس أيامه، وأطلق بالجود أقلامه. ولم يزل على حاله إلى أن جاء الأجل وزار الوزير، وصار من رحمة ربه إلى خير مصير. وتوفي رحمه الله تعالى معزولاً يوم عيد الفطر سنة إحدى عشرة وسبع مئة عن اثنتين وسبعين سنة. وكان يكتب عنه في التواقيع: بالإشارة العالية المولوية الصاحبية الوزيرية الفخرية، سدي العلماء والوزراء. وهذا لم يكتب لغيره. وروى الحديث عن المرسي. وسمع منه ابن المهندس وابن البعلبكي وجماعة. وكان والده مجد الدين من الصلحاء. أقام بمصر مدة وحضر إلى دمشق، وكان يلوذ ببني صصرى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمانين وست مئة. ثم إن ولده الصاحب فخر الدين لاذ ببني حنا، وصارت له بذلك صورة في الدول، وتولى نظر الصحبة، ووزر للملك الصالح علاء الدين علي بن المنصور، ثم إنه ولي الوزارة أيام كتبغا في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربعة وتسعين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 وحضر معه إلى الشام سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف بعد ذلك بالأعسر في أوائل دولة لاجين في شعبان سنة ست وتسعين وست مئة. ثم أعيد للوزارة في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم صرف عنها في الدولة الناصرية، ثم أعيد إلى الوزارة في ثاني عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ثم صرف. وأول ما لبس للوزارة استحيا من الصاحب تاج الدين بن حنا، لأنه وليها عوضاً عنه، فنزل من القلعة إلى دار الصاحب بتشريفه، وقبل يده، وقال: أنا غلامكم ومملوككم، وخضع له خضوعاً كبيراً، وجلس بين يديه، فأراد الصاحب جبره في ذلك الوقت، فأخذ توقيعاً من بعض غلمانه يحتاج إلى خط الوزير، فقدمه له، وقال: مولانا يكتب على هذا، فقبله ووضعه على رأسه، وعلم عليه. وكان هذا من الصاحب تاج الدين إجازة بالوزارة لابن الخليلي. وكان السلطان الملك الناصر إذا قدم له توقيع برزقة أو براتب، وهو بإشارة الصاحب فخر الدين، يقول: هذا بإشارة ابن الخليلي، والله كل هذا ما أدري به. وكتب إليه سراج الدين الوراق، ومن خطه نقلت: عسى خبر من الإنجاز شاف ... لمبتدأ من الوعد الجميل فعلم النحو دان لسيبويه ... وكان الأصل فيه من الخليل وكتب إليه شمس الدين الحكيم بن دانيال: فصل الربيع بوجهه قد أقبلا ... متبسماً. ببدائع الأزهار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 وغدا به نبت الخمائل مخضلا ... يحكي السما. بالنور والنوار فكأنه حلى الربا أو كللا ... إذ أنجما. بجواهر ونضار والطير بين رياضه قد رتلا ... مترنماً. يلهي عن المزمار شكراً لمبدعه تعالى ذي العلا ... ما أعظما. من واحد قهار وتخال هاتيك السحائب هطلاً ... لما همى. سحاحها بقطار جود المليك الصالح الهامي علا ... من أعدما. بنواله الزخار ملك إذا ما حل قطراً أمحلا ... متكرما. كالقطر للأقطار ووزيره الفخر الذي قد خولا ... بالمنتمى. فخراً على النظار والدار تممها لعز معقلا ... أسنى حمى. فغدا تميم الدار فليهنه عيد أتاه مقبلا ... جذلاً بما. أولاه في الأمصار لا زال ما تأتي أخيراً أولا ... متنعما. ما لاح ضوء نهار وكان قد توجه يوماً شرف الدين البوصيري إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فوجد الصاحب فخر الدين هناك، فقال: زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي أبداً له بالتارك فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك عمر بن عبد العزيز بن الحسين بن عتيق الفقيه المعمر، قطب الدين الربعي المالكي المعدل. روى عن ابن المقير، ومحيي الدين بن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 وتوفي رحمه الله تعالى ... سنة ثماني عشرة وسبع مئة. وله سبع وتسعون سنة. عمر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن هلال. سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، والمؤمل بن محمد البالسي، ومحمد بن عبد المنعم بن القواس، وغيرهم. وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. عمر بن عبد المنعم بن عمر ابن عبد الله بن غدير، الشيخ المعمر المسند، مسند الشام، ناصر الدين أبو حفص بن القواس الطائي الدمشقي. سمع حضوراً من ابن الحرستاني، ومن ابن أبي لقمة، ومن ابن أبي نصر الشيرازي، وكريمة. وأجاز له أبو اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن مندويه، وابن ملاعب، وابن البناء، والجلاجلي، وخلق كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 وحج، وكان ديناً خيراً محباً للحديث وأهله، مليح الإصغاء، كثير التودد. روى الكثير في آخر عمره. وقرأ عليه شيخنا الذهبي المبهج في القراءات وكتاب السبعة لابن مجاهد والكفاية في القراءات الست عن الكندي. وخرج له مشيخة صغيرة، وخرج له أبو عمرو المقاتلي مشيخة بالسماع وبالإجازة، وأكثرا عنه. وسمع شيخنا المزي منه، وولده، وسمع منه شيخنا البرزالي، وابن سامة، والشيخ على الموصلي، والنابلسي سبط الزين خالد، وأبو بكر الرحبي، وأبو الفرج عبد الرحمن الحارثي، والشمس السراج سبط ابن الحلوانية، ومحمد بن البدر بن القواس. وتوفي رحمه الله تعالى بدرب محرز بدمشق يوم السبت ثاني القعدة سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وست مئة. ودفن بسفح قاسيون. عمر بن عبد النصير بن محمد ابن هاشم بن عز العرب القرشي السهمي القوصي الإسكندري الأصل، المعروف بالزاهد الحريري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 كان من أصحاب الشيخ مجد الدين القشيري وطلبته. باشر مشارفة المدرسة النجيبية، وكان مؤذناً بالمدرسة السابقية. وسمع من ابن المقير، والشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وغيرهما. وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية، وسم منه زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب، والفقيه تاج الدين عبد الغفار بن عبد الكافي السعدي. وشيخنا الحافظ فتح الدين، وشهاب الدين أحمد الهكاري، وشيخنا البرزالي، ومحب الدين بن دقيق العيد، وغيرهم. وكتب عنه شيخنا العلامة أبو حيان وغيره. وكان شاعراً ظريفاً. وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية في منتصف المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده بقوص سنة خمس عشرة وست مئة. وخمس القصائد الغازازية. أنشدني إجازة الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، قال: أنشدني المذكور لنفسه: عد للحمى ودع الرسائل ... وعن الأحبة قف وسائل واجعل خضوعك والتذل؟ ... لل في طلابهم وسائل ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 والدمع من فرط البكا ... ء عليهم جار وسائل واسأل مراحمهم فهن ... ن لكل محروم وسائل ومن شعره: ما لأجفاني جفت طيب كراها ... واستقلت بسهاد قد براها وأتاح البين لي من بينها ... عبرات عبرت عما وراها ومنه: لست ممن يزور من يزدريه ... فيلاقي مذلة واحتقارا وهو عندي أراه بين البرايا ... كهباء في عاصف الريح طارا ؟ عمر بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي. أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. وكان قد حضر على ابن الدائم، وسمع من الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وفاطمة بنت الملك المحسن أحمد بن أيوب. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بن قدامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 عمر بن عبد الوهاب بن ذؤيب القاضي الفقيه العالم نجم الدين بن شرف الدين الأسدي الشهبي. كان قاضياً بشهبة والسويدا نحوا من أربعين سنة. وحج. وكان حسن الهيئة. سمع مع أخيه من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وعرض التنبيه على الشيخ تاج الدين الفزاري. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. عمر بن علي الإمام أبو علي قاضي الجماعة بتونس، الهواري التونسي المالكي. كان في مذهب مالك رضي الله عنه رأساً، لا يرى أحد من الأفاضل به بأسا، عديم النظير في فنه، ماله مشابه في استحضاره وحدة ذهنه. له تصانيف وتلامذة كبار، ومريدون يودون من محبته أن لا يطير عليه غبار. وممن أخذ عنه الإمام برهان الدين السفاقسي، كان في تعظيمه مبالغا، وفي دم من ذمه أو ادعى باطلاً والغا. ولم يزل على حاله إلى أن أنهار جرف الهواري، وعدمه المجاري والمباري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 وتوفي رحمه الله تعالى في يوم عرفة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، بعد أن نزل من عند السلطان. وكان ذا عبادة وتقشف، وكان قد تفقه بأبي محمد الزواوي، وعاش بضعاً وثمانين سنة. عمر بن علي بن سالم بن صدقة تاج الدين أبو حفص اللخمي الإسكندري المالكي، المعروف بابن الفاكهاني. كان شيخاً فقيهاً مالكياً نحوياً، له ديانة وتصون ومصنفات. وقدم دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، بعد زيارته القدس، وتوجه منها إلى الحجاز، وحج ثلاث مرات. وسمع الترمذي والشفا على ابن طرخان، وقرأ القرآن على المكين الأسمر، وحضر دروس ابن المنير، وأقام بمصر سنين، ثم عاد إلى بلده. وتوفي في العشر الأول من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر. وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر. عمر بن عوض ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب، قطب الدين الشارعي، المعروف بابن قليلة، تصغير قلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 أخبرني الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان من لفظه، قال: حدث المذكور عن حاتم بن العفيف وغيره. ومن شعره: ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلاً بلغت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى ومنه: عزمت على تزويج بكر مدامة ... بماء قراح والليالي تساعد فأمهرتها در الحباب وإنه ... إذا جليت ليلاً عليها قلائد وجاءت رياحين البساتين عرفت ... فطابت بذاك النفس واللوز عاقد وكان حضور النبق فألا مهنئاً ... لنا بالبقا في العقد والورد شاهد عمر بن عيس بن نصر ابن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن حسن بن حسين التيمي، مجير الدين بن اللمطي، بلام وميم ساكنة وطاء مهملة. أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين أبو حيان رحمه الله تعالى قال: رأيته بقوص، وكتبت عنه شيئاً من شعره، ثم إنه قدم علينا القاهرة، وسكنها أيام كان أبو الفتح بن المطيع قاضياً، واشتغل عنده في أوقاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 وكان قد نظر في العربية على أبي الطيب السبتي، قدم عليهم قوص، وكان من تلاميذ شيخنا أبي الحسين بن أبي الربيع. وأنشدني لنفسه بمدرسة الأفرم سنة ثمانين وست مئة: أبى الدمع إلا أن يفيض وأن يجري ... على ما مضى من مدة النأي من عمري ومالي إن كفكفت ماء محاجري ... وقد بعدت دار الأحبة من عذر أما إنه لولا اشتياق لذكرهم ... ولا شوق إلا ما يهيج بالذكر لما شاقني نظم القريض ولا صبا ... فؤادي على البلوى إلى عمل الشعر وكان لمثلي عن أفانين منطقي ... هنالك ما يلهي عن النظم والنثر قال: وأنشدني أيضاً: جفن قريح بالبكاء موكل ... فعلت به العبرات ما لا يفعل وجوانح مني على شحط النوى ... أضحت تمزق في الهوى وتوصل عجباً لحكم الحب في فليته ... يوماً يجور به ويوماً يعدل إني وإن أمسى يحملني الهوى ... من ثقله في الحب ما لا يحمل فلقد حلت منه مرارات الجوى ... عندي وخف لدي ما يستثقل لا يطمع اللوام في تركي الهوى ... إن كثروا في لومهم أو قللوا لهفي علي زمني بمنعرج اللوى ... والشمل مجتمع ووجدي مقبل ما كان أهنا العيش منه فليته ... لو دام منه ريثما أتأمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 ومنه: وزهدني في الخل أن وداده ... لرهبة جاه أو لرغبة مال فأصبحت لا أرتاح منه لرؤية ... ولا أرتجي نفعاً لديه بحال قلت: ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى ترك ما ولاه من نظر رباع الأيتام، وتوجه إلى قوص، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. وله من العمر ثلاث وثمانون سنة. ويحكى عنه أنه كان صحيح الود، حافظاً للعهد، حسن الصحبة. عمر بن عيسى بن مسعود الفقيه العالم المالكي، سراج الدين أبو عمر بن القاضي العلامة شرف الدين الزواوي. ارتحل وأخذ عن زينب الكمالية وعدة، وقرأ سنن أبي داود وغير ذلك. وكان شاباً فاضلاً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة عن إحدى وعشرين سنة. عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم ابن أبي الطيب العجلي، نجم الدين الشافعي، وكيل بيت المال بدمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 كان نجم الدين ذا مروءة وافرة، وأخلاق على المكارم متضافرة. واختص بمنادمة الأمير عز الدين أيبك الحموي، نائب قلعة دمشق، ومجالسته، وتألف ذاك بمحادثته ومؤانسته. وكان يجري بينه وبين شمس الدين بن غانم أنواع من المهاتره، وعجائب من المشاحنة والمشاجرة. وتبدو منهما أفانين الهزل والمجون، والتناديب التي هي أشهى من معاطاة ابنة الزرجون. وجمع بين الوكالة ونظر الخزانة والبيمارستان، ومضت أوقاته بخير في أيام الأفرم، فما انتقل من الروضة إلا إلى البستان. ولم يزل على حاله إلى أن تخبث الوقت على ابن أبي الطيب، وأصابه من وابل الوبال صيب. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة. قال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: بيت أبي الطيب بيت قديم بدمشق، من بيوت التشيع، وكان منهم جلال الدولة بن أبي الطيب نائباً عن الدولة الفاطمية. ويقال إن أبا الطيب كان رجلاً فارسياً، قدم دمشق في خلافة يزيد بن معاوية، ولما طيف برأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وتغير ريحه، اشترى له طيباً بمئة دينار، وطيبه به. ثم كان من ولده من يكتب إلى الشيعة بخراسان بأخبار بني أمية، ويكني عن نفسه بابن أبي الطيب، إشارة إلى تطييب أبيه رأس الحسين، فلما ظهرت الشيعة الخراسانية، وأظهروا كنايتهم هذه، فعرفوا بها. ولهم وقف قديم بدمشق، لا يسمن ولا يغني من جوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 ولما وقعت الكائنة للقاضي محيي الدين بن الزكي، كان نجم الدين هذا من أصدقائه فتعلق بالمنصور صاحب حماة، وتسيج بخدمته. وكان ناظر ديوانه بدمشق في أيام الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري. وصارت له وجاهة، ثم إنه اختص بالحموي وبعده بالأفرم. ولما مات خلف مالاً، أنفقته زوجته على عوالم النساء وزواكرة الفقراء، وسيأتي ذكر ولده القاضي نجم الدين بن أبي الطيب في المحمدين. عمر بن كثير بن ضوء بن كثير الشيخ الخطيب بالقرية من عمل بصرى. قال شيخنا البرزالي: كان فاضلاً لغوياً شاعرا، كتبنا عنه هناك من شعره بحضرة الشيخ تاج الدين. توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبع مئة. عمر بن محمد بن عمر ابن خواجا إمام، شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق، الشيخ الجليل الفاضل شرف الدين الفارسي الأصل، الدمشقي، الشاهد، أظنه المعروف بالياغرت، بياء آخر الحروف وألف وغين معجمة وراء ساكنة وتاء ثالثة الحروف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 سمع في شبيبته فخر الدين بن الشيرجي، وسراج الدين بن الزبيدي، وابن اللتي. وكان يكتب المصاحف والعمر ويذهبها، ورأيت أنا بخطه ختمات. سمع شيخنا الذهبي منه مشيخته. ومتع شرف الدين بحواسه إلى أن مات رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة، ومتع بحواسه وكتابته. وتوفي والده ضياء الدين سنة خمس وستين وست مئة. عمر بن محمد بن يحيى بن عثمان القرشي العتبي الإسكندراني، ركن الدين أبو حفص، الشيخ الفقيه المسند المعروف بابن جابي الأحباس. سمع من سبط السلفي جزء الدعاء للمحاملي، وجزء ابن عيينة، وكتاب التوكل لابن أبي الدنيا، ومشيخة السبط، وتفرد في وقته، وكان من الشهود. وكتب عنه أشياخنا: العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والحافظان فتح الدين والذهبي، والحلبي، وعدة. وتوفي رحمه الله تعالى بالثغر ... سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 عمر بن محمد بن سليمان الدماميني، نجم الدين. سمع وحدث بالإسكندرية، وسمع منه أبو الفتح محمد الدشناوي، ويوسف بن أحمد بن محمد السكندري. عرف بابن غنوم، وكان من تجار الكارم، وكان رئيساً وله مكارم. ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سنة سبع وسبع مئة. نزل عنده بعض الأفاضل فأكرمه، فكتب على بابه لما ارتحل: نزلت بدار نجم فاق بدراً ... أدام الله رفعته وجاهه فأعذب موردي وأطاب نزلي ... وأهدت لي رياسته وجاهه عمر بن محمد بن عثمان ابن أبي الرجا بن أبي الزهر، القاضي الصدر تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السعلوس. كان صاحب الديوان بدمشق، فطلبه السلطان إلى مصر، وولاه نظر الدولة، شريكاً للقاضي علم الدين إبراهيم بن تاج الدين إسحاق. وكان يعظمه ويكرمه. وكان قد سمع في صغره من الفاروثي، وحج سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وكان قد باشر شغله بقلعة الجبل يوم الخميس قبل موته بيوم، ودخل إلى السلطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 وخرج، فاضطرب وتغيرت حاله، وعجز عن الركوب إلى بيته إلا في محفة، وانقطع يوماً، ولم يسمع منه إلا: أنا ميت لا غير. وتوفي يوم السبت بكرة حادي عشري القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وولي مكانه القاضي شهاب الدين بن الأفقهسي. وكان قد باشر بدمشق عدة ولايات. وكان تنكز يمزح معه ويقربه. عمر بن محمد بن عمر بن محمد القاضي كمال الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الخطيب كمال الدين المعري الأصل، العجلوني، قاضي غزة. اشتغل بدمشق على الشيخ برهان الدين، وولي القضاء في عدة أماكن، وكان قبل موته بقليل عين لقضاء الكرك، فأدركه أجله. سمع كمال الدين من الأبرقوهي، وحدث عنه بدمشق، وسمع بدمشق من ابن القواس. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر المحرم بغزة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 عمر بن محمد بن عمر ابن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم الحاكم بحماة، ابن الصاحب جمال الدين أبي غانم ابن الصاحب الكبير كمال الدين أبي القاسم. سمع من الأبرقوهي، وحدث عنه، وحج سنة سبع عشرة وسبع مئة. كان حسن الشكالة، كأن وجهه تحت عمته بدر في هالة، دائم البشر، عطر النشر، كريم الملقى لمن يحضر إليه، لين الجانب للخصم إذا وقف بين يديه، لم يشتم أحداً مدة ولايته، ولا خاطب أحداً بما لا يليق لكرم أصالته، مجموع الفضائل، مطبوع الكرم والشمائل، يعرف من العقليات جمله، وعنده من الأدب علماً وعملاً ما هو على الشرعيات فضله، قد فض له فضله ختام كل فن، وبل له وبله رياض ما شرد من النكت وعن، وخطه عقود العقول وفصوص الفصول، يحكي البرد إذا حبك، والذهب إذا سبك. ونظمه أرق من شكوى المحب إلى الحبيب، وألذ عند المتيم من غفلة الرقيب القريب. وكان الملك المؤيد يعظمه ويثني على فضائله ويتعجب لذهنه إذا تصرف في مسائله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 اجتمعت به فخلبتني عبارته، وسلبتني حركته وإشارته. ورأيت منه سيادة تعرب عن كمال ذاته، ورئاسة تفضي بغريب صفاته: ويفتر منه عن خصال كأنها ... ثنايا حبيب لا يمل لها رشف وفارقته والتلفت إليه يثني دائماً عنقي، والشوق تضرمه لواعد قلقي. ولم يزل بحماة والناس به مغتبطون، وعلى إحسانه وبره مرتبطون، إلى أن بغته أجله في أشده، وحل أنسه من الوجود بعد شده. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بعد صلاة الجمعة بمقبرة أقاربه قبلي البلد. ومولده يوم الثلاثاء سابع عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وست مئة. وتولى الحكم بحماة من سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى أن مات رحمه الله تعالى. وكان لين الجانب، كثير المروءة، ما قصده أحد في شيء وخيبه. ولم يحفظ أهل حماة عنه أنه سب أحداً بحماة مدة ولايته. وهو قاضي القضاة الحنفية، ومدرس بها، وكان صاحب حماة يثني عليه وعلى فضائله، وحصل لأهل حماة على فراقه ألم شديد وحزن عظيم، وجنازته حافلة إلى الغاية. وعند مروري بحماة عائداً من حلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، دخلت إليه في تحمل شهادة عليه، فرأيت منه رئاسة وحشمة وسيادة ولطفاً زائداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 وأنشدني من لفظه لنفسه: كأن وجه النهر إذ حفت به ... أشجاره فصافحته الأغصن مرآة غيد قد وقفن حولها ... ينظرن فيها أيهن أحسن ومن نظمه: ما لليالي بسهم البعد قد رشقت ... وصارم البين للأحباب قد مشقت وخالفت في الذي يهوى وما ونيت ... كأنها لخلاف القصد قد عشقت وأضرمت نار حرب من عداوتها ... ضراً فأعلامها بالهم قد خفقت وفرقت جمع شمل كان ملتئماً ... وجمعت حادثات كانت افترقت هي الليالي فلا تستكثرن لها ... هذا العناد إذا أنصارها اتفقت منها: أشكو إليك غراماً فيك أقلقني ... فدتك نفسي على طول المدى ووقت وفرط شوق ووجد ناره اتقدت ... بين الأضالع والأحشاء فاحترقت ولوعة منك لولا النفس واثقة ... بأن تعود لكانت للنوى زهقت من بعد ما غبت يا من كان يؤنسني ... ما أبصرت حسناً عيني ولا رمقت سواك ما مر في بالي ولا شفتي ... بغير ذكرك يا أقصى المنى نطقت عمر بن محمد بن ماو شهاب الدين الحميدي. أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه: أفديه عطاراً شهي اللمى ... أحور فتاناً كحور الجنان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 بي غمرة منه فيا ليته ... لو جاد لي يوماً بماء اللسان قلت: ذكرت هنا ما قلته في عطار: كلفت بعطار حكى البدر في السنا ... وظبي الفلا في جيده ونفاره دوا ألمي الورد المربى بخده ... يذر عليه آنسون عذاره وقلت أيضاً فيه: فديت عطاراً غدا حسنه ... يقول: سبحان بديع الصفات نهدي في صدري أبلوجة ... والريق قطر وعذاري نبات وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني المذكور لنفسه أيضاً: فديت نشاراً غدا نشره ... أذكى من المسك إذا فاحا قد راح من سكرة خمر الصبا ... كأنما قد شرب الراحا بسيف جفنيه ومنشاره ... كم شق أرواحاً وألواحا قلت: ذكرت أنا ما قلته في نجار: قد عشقت النجار لما بدا لي ... بمحيا قد فاق في الحسن بدرا أصله طيب ونكهة فيه ... فلهذا قد فاق نجرا ونشرا وقلت أيضاً في مليح نجار: أحببت نجاراً بديع جماله ... منه الشموس تغار والأقمار فخري به بين البرية أنهم ... قالوا غدا وحبيبه النجار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 عمر بن محمد بن عبد الحاكم ابن عبد الرزاق، الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة زين الدين أبو حفص البلفيائي، بالباء الموحدة وبعدها لام وفاء وياء آخر الحروف وألف ممدودة، وبلفيا بلدة من أعمال البهنساوية. تفقه بالقاهرة على الشيخ علم الدين العراقي، وسمع يسيراً من الحديث على الأبرقوهي، وعلى ابن سليمان بن القيم، والإمام علاء الدين الباجي. وخرج له قاضي القضاة تاج الدين السبكي أحاديث حدث بها أيام تفقه عليه. كان في الفقه إماماً، وعلماً لا يسام رفعة ولا يسامى، قد تضلع من الفروع، وكاد يتقدم على غيره من الشروع. قل نظيره، وعلا على الأطلس أثيره. اعترف له بذلك فقهاء مصره، وفضلاء عصره، لو أنه لم يكن عقله المعيشي طائلاً، ولا سيل علمه في سياسة الناس سائلاً. لا جرم أنه عزل واخترم من منصبه واختزل. وما زال يتقلب في حاليه مع الأيام، ويتصرف بنفسيه مع النقض والإبرام، إلى أن درج بعدما مشت حاله، وراح إلى الله وقدامه علمه وأعماله. وتوفي رحمه الله تعالى بصفد في أول شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة إحدى وثمانين وست مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 كان شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي يثني عليه ويعظمه في الفقه، ويقول: ما رأيت أفقه نفساً منه. وكان المصريون يقولون: لو حلف الحالف أنه يستفتي أعلم من في القاهرة، واستفتاه، لم يحنث. وكان قد تولى قضاء القضاة بحلب، فحضر إليها في أيام الأمير سيف الدين طرغاي، فلم تطل مدته، ولم تحسن سياسته الناس، فتعصب عليه جماعة مع كاتب سرها القاضي شهاب الدين بن القطب، فعزل منها بعد شهرين ثلاثة، إلا أنه باشرها بصلف وأمانة وعفة حتى قال فيه القاضي زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى: كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم فحضر إلى دمشق في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى ففاوضه قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فيه وعرفه مقداره، فقال له: لا تقطع به، فولاه تدريس المدرسة النورية بحمص، فأقام بها مدة إلى أن ورد الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد، فتعصب عليه عنده حاكمها القاضي شهاب الدين البارزي، فتركها وتوجه إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة قضاء المنوفية، فأقام بها مدة، وأتى إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة نيابة الحكم في باب الفتوح، ثم إن السلطان ولاه قضاء القضاة بحلب في أوائل سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ثم أبطل ذلك وولاه قضاء صفد في أواخر صفر فيما أظن، فأقام بها تقدير خمسين يوماً، وتوفي في طاعون صفد رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 وكان قاضي القضاة عز الدين قد ولاه قبل قضاء حلب الأول قضاء البهنساوية، وذلك في أوائل ولاية ابن جماعة. عمر بن محمد بن عثمان بن عبد الله الإمام البارع المفتن كمال الدين أبو حفص بن شهاب الدين بن العجمي الحلبي الشافعي. سمع بحلب ومصر ودمشق، وقرأ على شيخنا الذهبي أجزاء. كان فاضلاً قد تفنن، وعالماً قد تميز وتعين. شارك في العلوم، ورقى إلى أن استفلت عنه النجوم. بذهنه الوقاد، وخاطره المنقاد: تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل إلا أنه كان فيه رهج وطيش، وعدم قرار على حالة من العيش. يسعى ليله ونهاره، ويخلب بحسن توصله الحجارة. وما زال إلى أن اعترضت المنايا أمانيه، وخانت آماله أيامه ولياليه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 تخرج بالشيخ فخر الدين بن خطيب جبرين. وكنت أنا وهو نقرأ عليه بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة في المعقول والمنقول. وتخرج أيضاً بالشيخ كمال الدين بن الزملكاني لما كن بحلب. وتصدر بحلب للإفادة وتميز سنة نيف وسبع مئة. أخبرني القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بالشام قال: كان القاضي زين الدين عمر بن الوردي يقول له: والله عمرك ما تفلح، وإن أفلحت تموت. فكان الأمر كما قال، لأنه مات والده وورثه وتبلبل حاله ومات. عمر بن محمد بن سلمان ابن حمائل، جمال الدين بن غانم، أحد الإخوة. قال شيخنا البرزالي: سمع معنا مسند الإمام حمد على بن علان وغير ذلك. وكان رجلاً جيداً قليل الاختلاط بالناس متقنعاً. توفي رحمه الله تعالى حادي عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة. تقدم ذكر إخوته أحمد وعلي وأبي بكر. عمر بن محمد بن عثمان الشيخ الإمام المجود المحرر المتقن شيخ الكتابة في عصره، جمال الدين الدمشقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 شيخ التجويد، وفريد الكتابة لا ابن البصيص ولا ابن الوحيد. كتب الناس عليه بمصر والشام، وتخرج به جماعة من أولاد الأعيان والأعلام. ورزق في مصر الحظوة، ولم يتقدم لأحد معه خطوة. وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن مات، وكتب عليه الجماعة وقد عمر دهراً صالحاً ولم يفرح بخزيه الشمات. وحصل من التجويد آلافاً من الذهب المصري، ولو شاء كانت دنانيره على حروفها تجري. وكتب مجلدات بخطه الفائق، ووقف الأحداق على ما فيها من الحدائق. ولم يزل يكتب إلى أن قط عمره، ومحاه من صحيفة الوجود دهره. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في العشر الأول من صفر سنة تسع وخمسين وسبع مئة. رأيته يكتب بالديار المصرية في المدرسة الظاهرية بين القصرين. وكان يكتب أحمد بن بكتمر الساقي كل شهر بمئتي درهم، وكل مسودة يأخذ عليها جملة. وقال في وقت: أخذت من الكتابة خمسة آلاف دينار مصرية. وقلت: أنا فيه لما سمعت هذا الكلام عنه: احرص على الخط فلا بد من ... حظ يفوق المكثر المثري هذا الدمشقي بأقلامه ... أصاب كنز الذهب المصري عمر بن محمود شرف الدين بن الطفال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 سمع من الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ودخل في خدمته إلى دمشق. وسمع معه من أشياخها. وله نظم قريض وبلاليق. توفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومن بلاليقه المطبوعة: في ذي المدرسا ... جماعة نسا إذا أمسى المسا ... ترى فرقعه نسا ذا الزمان ... عجب يا فلان يكونوا ثمان ... يصيروا أربعه عمر بن مسعود بن عمر الأديب سراج الدين بن سعد الدين المحار، المعروف بالكتاني الحلبي. استوطن حماة وأقام بها منتمياً إلى بيت ملوكها: الملك المنصور وولده الملك المظفر وولده الملك الأفضل نور الدين علي، فأحسنوا إليه، وأسنوا له الجوائز. كان شعره في حماة قد غلا سعره، وخلب قلوب ملوكها سحره. وكان سراجه فيها منيراً، وكتانيه فيها حريرا، وراح أو به فيها كالراح وراج، وأذكى فيها لهب السراج. وله موشحات شعرية موشعات، وقطعه فيها كأنها من بقايا النيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 مقطعات. لهج الناس بها في زمانه، ومالوا إلى ترجيح أوزانه. وغنى المغنون بها فأطربوا الأسماع، وجودوا فيها الضروب والإيقاع. ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ السراج، وبطل ما على حياته من الخراج. وتوفي رحمه الله تعالى بحماة في سنة إحدى عشرة أو سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ظناً. أخبرني يحيى العامري الخباز الأديب، وكانت له به خصوصية، قال: كان كثيراً ما ينشد: رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد قال: ولما أن توفي رحمه الله تعالى حفرنا له قبراً، ظهر فيه من عظام الأموات فوق اثني عشر جمجمة. قال فتعجبت من ذلك. وقد روى لي شعره وموشحاته إجازة عنه القاضي الصاحب جمال الدين سليمان بن أبي الحسن بن ريان، المقدم ذكره. وديوان شعره لطيف، يكون في دون الثلاثة عشر كراساً، خارجاً عن موشحاته. وهو شعر متوسط، ومنه: رأيته في المنام معتنقي ... يا ليت ما في المنام لو كانا ثم انثنى معرضاً فواعجبي ... يهجرني نائماً ويقظانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 ومنه في مليح أحدب: وأحدب أنكروا عليه وقد ... سمي حساماً وغير منكور ما لقبوه الحسام عن سفه ... لو لم يروا قده القلاجوري ومنه: بعثت نحوي المشط يا مالكي ... فكدت أن تسلبني روحي وكيف لا تسلب روحي وقد ... بعثت منشوراً بتسريحي ومنه: أرى لابن سعد لحية قد تكاملت ... على وجهه واستقبلت غير مقبل ودارت على أنف عظيم كأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل ومنه: يا حبذا وادي حماة وطيبه ... وطلاوة العاصي به والجوسق فاتت منازه جلق فلأجل ذا ال؟ ... شقراء تكبو خلفه والأبلق ومنه: أنظر إلى النهر في تطرده ... وصفوه قد وشى على السمك توهم الريح صيدها فغدا ... ينسج متن الغدير كالشبك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 ومنه: لنا مغن حسن وجهه ... يطرب منه لحنه المعرب يرقص من يسمعه طيبة ... وهكذا المرقص والمطرب ومنه: قالوا: هوى بابن الأمير جواده ... فقلوبنا كادت عليه تفطر فأجبتهم لا تعجبوا لوقوعه ... إن السحاب إذا سرى يتقطر ومنه في إبريق فخار: ؟ يا حبذا شكل إبريق تميل له ... منا القلوب وتصبو نحوه الحدق يروق لي حين أجلوه ويعجبني ... منه طلاوة ذاك الجسم والعنق كم قد شربت له ماء الحياة ولن ... ينالني منه لا غص ولا شرق حتى غدا خجلاً مما أقبله ... وظل يرشح من أعطافه العرق ومنه في قنديل: يا حسن بهجة قنديل خلوت به ... والليل قد أسبلت منه ستائره أضاء كالكوكب الدري متقداً ... فراق باطنه نوراً وظاهره تزيده ظلمة الليل البهيم سناً ... كأنما الليل طرف وهو ناظره ومنه في معالج مقيره: بروحي أفدي في الأنام معالجاً ... معاطفه أزهى من الغصن الغض يكلف عطفيه العلاج فيبسط ال؟ ... قلوب إلى حبيه في ساعة القبض إذا ما امتطى لطفاً مقيرة له ... وأقعدها واحمر سالفه الفضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 رأيت محياه وما في يمينه ... كشمس تجلت دونها كرة الأرض ومنه في امرأة حدباء وخلفها جارية عرجاء: فديت من في ظهرها حدبة ... وهي بأخرى مثلها ناهده يحسبها الإنسان مع أنها ... قائمة في مشيها قاعده وخلفها جارية رجلها ... عن أختها فاضلة زائدة توقف في خدمتها وقفة ال؟ ... وز وتطوي رجلها الواحده ومنه في زامرة سوداء، وأجاد: ولرب زامرة يهيج بزمرها ... ريح البطون فليتها لم تزمر شبهت أنملها عن صرنايها ... وقبيح مبسمها الشنيع الأبخر بخنافس قصدت كنيفاً واغتدت ... تسعى إليه على خيار الشنبر ومنه في تشبيه لوح رخام شحم ولحم: ويوم قال لي ملك البرايا ... وبين يديه لوح من رخام أهل لك أن تشبهه بشيء ... يروق بني الترسل والنظام فقلت رقيق ثلج في مدام ... فقال ومثل برق في غمام وذاك أتم في التشبيه معنى ... فقلت صدقت يا بدر التمام وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن العزازي من القاهرة: من ضل عن طرق المكارم والعلا ... فليهتدي أنى سرى بسراجها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 عمر الذي بلغ البلاغة وارتقى ... درجاتها وسرى على منهاجها أما الفضائل فهو بيت قصيدها ... وطراز حلتها ودرة تاجها فكتب المحار الجواب: سارت فعطرت البلاد بنشرها ... أخبار مرسلها وسبل فجاجها عذراء قلدها الشهاب جواهراً ... من فكره غنيت به عن تاجها راقت معانيها برقة لفظها ... كالراح أشرق نورها بزجاجها وقال في جفانه أبنوس: ذات لحن شجي ... بتدي بما في الصدور كأنها جنح ليل ... من تحت صبح منير تشدو بشعر فصيح ... على لسان الحرير ومن موشحاته: جسمي ذوى بالكمد والسهر ... والوصب من جان ذي شنب كالبرد كالدرر كالحبب جمان بي غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف الخد منه خفر ... والجسم منه ترف قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف ثم التوى كالزرد معبقري ... معقربي ريحاني في مذهب مورد مدنر مكتب سوسان ؟ ظبي له مرتشف ... كالسلسبيل البارد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد مقرطق مشنف ... يختال في القلائد غصن نقا ينعطف ... من لين قد مائد بين اللوى وثهمد كجؤذر في ربرب غزلان من كثب ذي جيد ذي حور ذي هدب وسنان أما وحلي جيده ... ورنة الخلاخل والضم من بروده ... قد قضيب مائل والورد من خدوده ... إذ نم في الغلائل لا كنت من صدوده ... متصلاً بعاذل نار الجوى لا تخمدي واستعري ... وكذبي سلواني وانسكبي واطردي وانهمري ... كالسحب أجفاني مولاي جفني ساهر ... مؤرق كما ترى فلا خيال زائر ... يطرقني ولا كرى إني عليك صابر ... فما جزا من صبرا إن سح دمعي الهامر ... فلا تلمه إن جرى جال الهوى في خلدي ومضمري ... أضر بي كتماني مؤنبي فاتئد لا تفتر ... وجنب عن عان إن زاد في الهجر وصد ... رحت بصبري مرتدي عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد وكيف يخشى من قصد ... ملكاً عظيم المحتد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 فالملك المنصور قد ... سما سماء الفرقد ثم استوى بأجرد مضمر ... ومقضب يماني ذي شطب مهند وسمهري ... مضطرب مران ملك علت هماته ... من فوق هام المشتري وبخلت راحاته ... سح السحاب الممطر وعوذت راياته ... بمحكمات السور بدر بدت هالاته ... مثل الصباح المسفر تحت لوى منعقد بالظفر في موكب فرسان كالشهب في الأسعد والأقمر ... في عذب تيجان يا ملكاً دون الورى ... تخبطه الممالك ومالكاً إذا سرى ... تحجبه الملائك بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك فاستجلها من عمرا ... ثغر ثناها ضاحك لا تحتوى كالشهد كالسكر ... كالضرب معاني كالسحب كالعسجد كالجوهر من حلبي كتاني قلت: وقد عارضه الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى في كثير من موشحاته، ومما عارضه هذا الموشح، وقد سقته في ترجمة الأمير شمس الدين سنقر الأعسر مشد الدواوين. إلا أنه غير بعض قوافيه. ومن موشحات السراج، وألطفها وأحسنها قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 ما ناحت الورق في الغصون إلا ... هاجت على تغريدها لوعة الحزين هل ما مضى لي مع الحبايب آيب ... بعد الصدود أم هل لأيامنا الذواهب واهب ... بأن تعود مع كل مصقولة الترائب كاعب ... هيفاء رود تفتر عن جوهر ثمين جلا أن ... يجتلى يحمى بقضب من الجفون أحببته ناعم الشمائل مائل في ... برده في أنفس العاشقين عامل عامل من قده يرنو بطرف إلى المقاتل قاتل في غمده أسطى من الأسد في العرين فعلاً وأقتلا لعاشقيه من المنون علقته كامل المعاني عاني قلبي به مبلبل الحال مذ جفاني فاني في حبه كم بت من حيث لا يراني راني لقربه وبات من صدغه يريني نملا يسعى ... إلى رضابه العاطر المصون قاسوه بالبدر وهو أحلى شكلاً من القمر فراش هدب الجفون نبلا أبلى ... بها البشر وقال لي وهو قد تجلى جل باري الصور ينتصف البدر من جبيني أصلاً فقلت ... لا قال ولا السحر من عيوني بتنا وما نال ما تمنى منها ... طيب الوسن نفض من فرحة لدنا دنا تنفي الحزن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 وكلما مال أو تثنى غنى ... صوتاً حسن لا تستمع في هوى المجون عذلاً واسع إلى راح تقي سورة الشجون قلت: قد رأيت أيها الواقف على هذا وفقك الله ما فاته من الالتزام في بعض الحشوات، وما بعض الحشوات خال منه، وما أعتقد أنه أتى به وفاته، ولا يخفى ذلك على من يعرف علم البديع وشروط الجناس المزدوج. وكلفني بعض الأصحاب الأعزة أن أنظم شيئاً في هذه المادة، فنظمت مع علمي ما ينبغي للعاقل أن يعارض ما رزق السعد، وبالله التوفيق، وهو: ما تنقضي لوعة الحزين أصلا ... ولو سلا إلا لضرب من الجنون قمت ولم تحظ بالوصال صالي ... نار الجوى معذب البال في خبال بالي ... من الهوى ولا توافق على انتقال قالي ... يوم النوى وكن على مذهبي وديني ذلاإذتبتلى واصبر على ذلة وهون معذبي نازح المزار زاريعلىالقمر خلى فؤادي من الإسار ساريعلىخطر يقول والقلب في استعار عاريمنمصطبر من أرسل السحر من جفوني نبلاتقضيعلى حشا المحبين بالمنون في ريقه لذة السلافلا فيكأس المدام رأيت لي منه في ارتشافشافيمن السقام أقول والصمت في اعتكافكافيعند الملام يأتي تسليه عن يقينقل لاتغري البلاعلي فالوجد في الكمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 جبينه الصبح في انبلاجلاجلشعره وقلب مضناه في ابتهاجهاجلهجره يرقب منه يوم انفراجراجلصبره ظبي به الليث في العرينولىلو اجتلى عيونه بات في غبون وغادة في الهوى عدانيدانيوصالها لو أن دهري لها انتقانيقانيجمالها ما كان في الوجد قد شجانيجانيدلالها ولا جرت بالدما عيونيوبلاقد أخجلاسواكب العارض الهتون مقلتها صيرت رشاديشاديبذكرها وسحرها صار في العبادباديبنصرها وصار في الغور والوهادهاديلأسرها فانظر تجدها دون العيونكحلالا يصطلىلها بنار السحر المبين تبدو بوجه مثل المرايارايىفيه الهلال ألا ابن يحيى خير البراياراياإذا استحال طبع الليالي وللرعاياعايىصرف الليال يرد خطب الردى الحرونسهلاقد انجلىوانبلجت سدفة الدجون يا سعد ملك قد استجلاجلاًعنه العنا لأنه عندما تولىولىعنه الخنا فمي بذكراه مذ تحلىحلىفيه الثنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 وجاء بالجوهر الثمينجزلاًحتىاغتلى على عقود المدح الرصين فطرسه جامع الفرائدرائدإلى الصواب ولفظه زينة القصائدصائدفصل الخطاب وكله نخبة العقائدقائدالى العجاب وذكره صار في القرونيتلىحتى علامنابر الأيك والغصون أقول للغيث في سحابهحابهفي وبله فجوده للورى وشى بهشابهفي طله ولم يقم قط في منابهنابهمن شكله أفاض من فضله المعينسجلا ًملا الملاوسار في بحره سفيني نظمي على رتبة الأفاضلفاضلديباجه كأنه فيك بالأصائلصائلنواجه فانظر لمن صار في المحافلآفلسراجه ومن على ذروة الفنونحلاواستفلاسواه في حمأة وطين موشحي رائق الطرائقرائقفي فنه ما مثله قط في الخلائقلائقفي وزنه إن عد يوماً من النوافقوافقلوزنه فأنت فرد بلا قرين أملى ... سرح العلا حتى انجلت ظلمة الظنون ومن موشحات السراج المحار رحمه الله تعالى: أرقت لبرق لاح من أرض حاجري ... فأجرى دموعي من شؤون محاجري وهيج لي التذكار ... فأضرمت الأفكار في قلب الكئيب ... أو كادت تذيب نيران الوجيب ... حشاشة الأشواق كتمت الهوى جهدي ... وهل أنا كاتم وقد جد بي وجدي ... وشوقي لازم ونمت بما عندي ... دموع سواجم فما حيلتي والدمع يبدي سرائري ... ويظهر ما جنت عليه ضمائري ولم يبق لي أنصار ... سوى جلدي إن صار لقلبي جلد، وإلا فقد ... براه الكمد وضاقت به الآفاق ؟ أعرت حمام البان ... بعض توجعي فناحت على أفنان ... وجدي ولم تعي ولو سقت الأغصان ... فائض أدمعي لأورق منها كل ذاو وناضر ... بما رويت من ماء جفني وناظري ولو كانت الأطيار ... إذا نحت في الأسحار قبيل الصباح مثلي في النواح ... ما راشت جناح ولا لبست أطواق فؤادي الذي أصماه ... سهم من النوى فكابد ما يلقاه ... من ألم الجوى وبي رشا لولاه ... لم أدر ما الهوى ولا حل في قلبي سواه وناظري ... فيا نفس جدي في هواه وخاطري ولا ترهبي الأخطار ... عسى تدركي الأوطار فكم من هوى في نار الجوى ... وحكم الهوى تذل له الأعناق دعاني إلى حبيه ... خد مورد عليه لمن يجنيه ... صدغ مزرد ومن جفنه يحميه ... سيف مجرد فويلاه من تلك الجفون الفواتر ... تصول على عشاقه ببواتر نضتها يد الأقدار ... لمن يجتني الأزهار فيا من نظر سيوف الحور ... بأيدي القدر تسل من الأحداق أسلت من البلوى ... سيول مدامعي تنم يما تطوى ... عليه أضالعي ولي كبد تكوى ... بنار مطامعي فكن ناصري إن قل يا دمع ناصري ... عسى عاذلي في الحب يصبح عاذري ومن يعشق الأقمار ... ولم يكتم الأسرار يقاسي الولوع وفيض الدموع ... ونار الضلوع كذا صفة العشاق فكلفت أنا معارضته، فقلت، وبالله التوفيق: تغيبت يا بدري فطالت دياجري ... ولم أرج أنصاري وأنت مهاجري وما تنفع الأنصار ... إذا زاغت الأبصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 وبات الغمام، يبكي المستهام ... وانجر الحمام إلى النوح بالأطواق خلائقك الحسنى ... فتنت بها الورى ومقلتك الوسنى ... سبت مني الكرى ومبسمك الأسنى ... تنضد جوهراً وجفنك يحمي الريق منك بباتر ... فيا بارداً قد راح يحمى بفاتر ولو كانت الأزهار ... وقد راقت الأسحار تروي عن شذاك وتحكي سناك ... لكانت هناك، حدائقها الأحداق حبيبي قد أضحى ... هواك منيتي ولي كبد قرحى ... لعظم بليتي وجاء الذي يلحى ... تمام مصيبتي فإن قلت إني في الهوى غير جائر ... فما ضر لو أصبحت بالوصل جابري ؟ وإلا فكم من جار ... على ذي غرام جار ولا يختصر ولا يقتصر حتى ينتصر ... على الصب بالأشواق يقرر في هجري ... دليل دلاله ويمنع مع فقري ... جميل جماله وينكر مع ضري ... وصول وصاله ويقدم في سفك الدما غير قاصر ... بقسوة فتاك اللواحظ قاسر وقد أصبح الخطار ... إذا ماس في أخطار يشكو ما دهي إلى ملده ... ومن قده يشكو الغصن في الأوراق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 له مبسم ألمى ... حلا وهو بارد ؟ به اتسقت نظماً لآلي فرائد إلى رشفه نظمأ ... وما ثم وارد وقد دار في خد من الورد ناضر ... له عارض قد راق في كل ناظر له خبر قد طار ... وقد ملا الأقطار فما ينكر لما يشكر ... ولا يذكر إلا فاق في الآفاق تجنى وما أبقى ... وسر معاندي ورق لما ألقى ... من السقم عائدي وجفناه قد شقا ... حبالة صائد ؟ وهل يكتفي صب نوافث سامر ... بقلب سليب فاقد الصبر حاسر ومن ذا الذي قد ثار ... وحاول أخذ الثار من سهم مرق بطرف رمق ... وسحر الحدق لوا نصره خفاق ؟ عمر بن مظفر ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الشيخ الإمام الفقيه النحوي الأديب الشاعر الناثر زين الدين أبو حفص بن الوردي المعري الشافعي. أحد فضلاء العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه. تفنن في علومه، وأجاد في منثوره ومنظومه. شعره أسحر من عيون الغيد، وأبهى من الوجنات ذات التوريد. قام بفن التورية فجاءت معه قاعدة، وخطها في الطروس وهي فوق النجوم صاعدة، يطرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 اللبيب لسماعها ولا طرب الصوفي للشبابه، ويعجب الأديب لانطباعها ولا عجب الغواني بما التحف شبابه، ويرغب الأريب لارتجاعها ولا رغبة الروض الذي صوح في صوب السحابة. ويدأب النجيب في اقتطاعها ولا دأب المحب في التمسك بأذيال محبوبه السحابة: لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق كأنه الروض يبدي منظراً عجباً ... وإن غدا وهو مبذول على الطرق وفقهه للطالب روضه، وللأصحاب الفتاوى قد شرع حوضه. نظم الحاوي وزاده مسائل، وجعله بعد وحشة الأذهان منه خمائل، وعربيته تلافيها ما أنس غريبها بتلافيها وقربها إلى التعقل بعد تجانفها وتجافيها، وسهل عويصها فلو سمعته الأعرابية ما قالت: " يا أبت أدرك فاهاً غلبني فوها لا طاقة لي بفيها "، إلا أنه مع هذه القدرة وهذا التمكن من فن الأدب، وكونه إذا تصدى للنظم تنسل إليه المعاني من كل حدب، لا يسلم من الإغارة على من سواه، واغتصاب ما سبقته إليه غيره وما حواه، ولا يعف عما هو لمن تقدمه أو عاصر أو استسلم له أو حاصره. وبهذه الخلة نقص، ولولاها صفق له الزمان ورقص. ولم يزل في حلب يتولى القضاء في تلك النواحي، وتبكي الغمائم لفراقه وتبتسم لقدومه ثغور الأقاحي، إلى أن ترك الولايات ورفضها، وعاد على أحكامها ونقضها، وأرصد نفسه للإفادة، وتلفع برداء الزهادة، واختص بسيادة العلم وهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 السيادة. وتخرج به جماعة وتنبهوا، وحاكوا طريقه وتشبهوا، إلى أن افترس الوردي ورد المنية، وأصبح في حفرة القبر من وراء الثنية. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب. وتوفي أخوه القاضي جمال الدين يوسف قبله بقليل. وكان الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى قد رأى عجائب الطاعون في حلب، فعمل فيه رسالة أنشأها وأبدعها وسماها: النبا في الوبا، ولكنه ختم به الوبا، وفجع الناس فيه. وقلت أنا فيه لما بلغتني وفاته: لئن ذوى الوردي في هذه ال؟ ... دنيا لقد أينع في الخلد إنما أوحش ربع النهى ... والفضل في نقص وفي رد والعلم روض ماله رونق ... لأنه خال من الوردي وكنت قد كتبت إليه من دمشق في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة: سلام على الحضرة العالية ... سلام امرئ نفسه عانيه لأن لها رتبة في العلا ... ذوائبها في السما ساميه ويؤنس من غدا يجتني ... قطوف مسراتها دانيه أيا عمر الوقت أنت الذي ... كراماته في الورى ساريه ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه ويا فاضلاً أصبحت روضة ال؟ ... علوم بتحقيقه زاهيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 لك الخط كم فيه من نقطة ... لها الحظ بالقلب في زاويه تقدمت في النظم من قد مضى ... لأنك في الذروة العاليه ورخصت أسعار أشعارهم ... كأن مدادك من غاليه وكم من قصيد إذا حكتها ... تكون القلوب لها قافيه ونظمت في مذهب الشافعي ... كتاباً غدا حاوياً حاويه وزدت مسائله جملة ... بتحقيق مذهبه وافيه فما لك من مشبه في الورى ... ويا حسن ما ههنا نافيه لئن كنت أرسلت هذا القريض ... فللبحر قد سقته ساقيه وإلا فأهديت نحو الريا ... ض وقد أينعت زهرة ذاويه وسترك إن لم أكن حاضراً ... يغطي مساوئه الباديه فلا زلت في نعمة وفرها ... تساق له جملة باقيه يقبل الأرض ويسأل الله أن يمن عليه بجمع شمله، ويقرب اللقاء، فإن التمني قد أطال المدة في وضع حمله، وأن يريه ذلك الشخص الذي يروق البدور السيارة، ويروع الأسود الزأارة، وأن يرزقه اجتلاء ذلك الروض الذي نجني بسمعه أزهاره التي تسلب النظارة بالنضارة، وأن يورده على ظمئه البرح تلك الفضائل التي أبحرها زخاره، وأمواجها هدارة، وأن ينزله المحل الذي يخرج منه ومعه بكارة المعاني التي تبرز منها بكارة بعد كاره، وأن يمتع طرفه بذلك البدر الذي يأخذ الناس من فوائده الكواكب السيارة، وأن يطلع عليه شمس فوائده التي تشرق من الطلبة في الهالة والدارة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 لعل الله يجعله اجتماعاً ... يعين على الإقامة في ذراكا وينهي أنه لما كان في الديار المصرية حضر من حلب المحروسة المولى شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وأنشد المملوك تضمين أعجاز ملحة الإعراب لمولانا أدام الله فوائده فأخذ من المملوك بجامع قلبه، ودخل على لبه بهمزة سلبه، وعلم به القدرة على التصرف في الكلام، وتحقق أن نظم غيره إذا سمع قوبل بالملال والملام. وقال في ذلك الوقت عندما حصل له في كلام مولانا المقة وفي كلام غيره المقت: يا سائلاً عمن غدا فضله ... مشتهراً في القرب والبعد الناس زهر في الثرى نابت ... وما ترى أذكى من الوردي وكان المملوك قد علقها، وأدخلها أبواب حاصله وأغلقها، فاغتالتها أيدي الضياع، وعدم أنس حسنها المحقق من بين الرقاع. ثم إني سألته أن يجيزني رواية ما يجوز له تسميعه، فكتب الجواب، ومن خطه نقلت: كتب إلي فلان أمد الله تعالى في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه، يستجيز مني رواية مصنفاتي ومروياتي ومؤلفاتي، ففديته سائلاً، وأجبته قائلاً: أما بعد حمد الله جابر الكسير، والصلاة على نبيه محمد البشير النذير، وعلى آله الذين أعريت أفعالهم فسكن حب أسمائهم في مستكن الضمير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 فإني ألقي إلي كتاب كريم، يشتمل بعد بسم الله الرحمن الرحيم، على نظم فائق بهي، ونثر رائق شهي، غرس لي أصوله بفضله خليل جليل، فامتد علي من فروعه ظل ظليل، فرأيته فانتصبت له قائماً على الحال، وتميزت به على غيري، فطبت نفساً بعد الاعتلال، وابتهلت بالدعاء لمهديه مخلصاً، ولكن أسأت الأدب إذ وازنت جوهر نظمه بالحصى حيث قلت: سلام على نفسك الزاكية ... وشكراً لهمتك العالية أزهراً أم الزهر أهديتها ... لعبد مدامعه جارية كتاب يفوح شذى نشره ... فلي منه رائحة جائيه وسعد معاديه عن مركز ال؟ ... سعادة يلجا إلى زاويه إذا حمل الجدي في نطحه ... ففاس إلى رأسه دانيه وقابلني حين قبلته ... من الطيب ما أرخص الغاليه وفكهني في جنى غرسه ... ولا سيما بيت ما النافيه تردد عيني به لا سدى ... ولكنها تطلب العافيه فمهديه أفديه من سيد ... أياديه رائقة راقيه لعل الخليل بداني به ... ليجعلها كلمة باقيه فيا جابراً دم معاذاً فكم ... بعثت لمحلي من ساريه لأقلامك الرفع تبنى بها ... على الفتح أفعالها الماضيه ولو لم يكن قد سبا نورها ... لما حمل الخادم الغاشيه فإن أهلك الناس جهل بهم ... فأنت من الفرقة الناجيه فكم باب نصر تبوأته ... فأذهاننا منه كالجابيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 رضي بك عن دهره ساخط ... فلا زلت في عيشة راضيه وإني لفي خجل منك إذ ... أجبتك في الوزن والقافيه فعفوا وصفحاً ولا تنتقد ... ويا بحر مالك والساقيه ليهنك أنك عين الزما ... ن فليت على عينه الواقيه ولما انتهيت إلى استجازته التي انتظمت في سلوك الحسن بحسن السلوك، واستعظمت، فلولا حسن الظن لأوهمت تهكم المالك بالمملوك، أحجمت عن إجازة من شمر في العقل والنقل لتحقيق القديم والحديث، وتبحر في إغراب الإعراب حتى كأن النحاة إياه عنوا بمسألة سيرك السير الحثيث، وقلت: ماذا أصف، وبأي عباة أنتصف. في إجازة من إذا كتب طرز بالليل رداء نهاره، وإذا نثر فالأنجم الزهر بعض نثاره، وإذا نظم لم يقنع من الدر إلا بكباره، ولم يرض من المعاني إلا بدقيق من بين حجريه الثمينين بل أحجاره، إن أعرب ف؟ ويه على سيبويه، وإن نحا فهو الخليل غير مكذوب عليه، يأتي بما يفتر عنه المبرد، ويشق له الكسائي كساه ويجرد، ويقول الزجاجي: أيها الشاب لقد أخجلت جواهرك صرحي الممرد، وينادي ابن أبي الحديد: سطا علي لسانك المبرد، ويستخدم ملك النحاة في جنده، ويرفرف ابن عصفور عليه بجناحيه ويحلف أنه الخليفة من بعده، بتعمق يرهف حروف الحروف، وينصف حتى لا يعدو ثعلب ولا أكبر منه على ابن خروف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 ويصدق حتى لا يقال ضرب زيد عمراً، ويعدل حتى لا يشتم خالد بكراً، مع بساتين فنون أخر تهتز بنسمات السحر عذبات أفنانها، ويقول حاسدها: آه، فتشبه ألفه في العظم قدود نخلها، وهاؤه ثمر رمانها. ثم فكرت أن كتابه الشريف آمنني النوب، وخصني بالنوبة الخليلية من بين النوب، وكفاني مواثبة العكس والطرد، وأولاني مناسبة الغرس للورد، فترددت هل أفعل أو لا، ثم ظهر لي أن امتثال المرسوم أولى، وجسرني على ذلك مرسوم شيخ الأدب ورحلته، وركنه الأعظم وقبلته، شيخنا الفذ جمال الدين بن نباتة، فسح الله في مدته وأبقى حياته، الذي إن نثر جعل اللجين إبريزاً بحسن السبك، وإن نظم قال نظمه: لقرينتيه الحسن والقبول: قفا نضحك من قفا نبك. لا جرم أنا من بحره الحلو نغترف، وبالتقاط جوهره التي زان بها مفارق طرق البلاغة نعترف، فأطلعت إذن أمره طالباً صفحه وستره، وقلت: لقد بدأتني أعزك الله بما كنت أنا به أحرى، وكلفتني شططاً فتلوت: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً "، وها قد أجزت لك متطفلاً عليك، وأذنت لك متوسلاً إليك، أن تروي عني ما يجوز لي روايته وإسماعه، وليتصل بك فيما اتصل بك ما أمن انقطاعه، من منقول ومقول، وفروع وأصول، ونثر ونظم وأدب وعلم وشرح وتأليف وبسط وتصنيف بشرط المضبوط، وضبطه المشروط. أما مصنفاتي الشاهدة علي بقصور الباع، ومؤلفاتي المشيرة إلي بقلة الإطلاع، فمنها في الفقه: البهجة الوردية في نظم الحاوي، وفوائد فقهية منظومة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 ومنها في النحو: شرح ألفية ابن مالك، وضوء الدرة على ألفية ابن معط، وقصيدة اللباب في علم الإعراب، وشرحها، واختصار ملحة الإعراب نظماً، وتذكرة الغريب نظماً وشرحها. ومنها في الفرائض: الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة. ومنها في الشعر والأدبيات: أبكار الأفكار. ومنها في غير ذلك: تتمة المختصر في أخبار البشر، اختصار تاريخ حماة، والذيل عليه، والتتمات في أثنائه. وأرجوزة ي تعبير المنامات، خمس مئة بيت. وأرجوزة في خواص الأحجار والجواهر، ومنطق الطير، نظماً ونثراً، فيه نوع أدب تصوفي، وما لا يحضرني الآن ذكره، وكان الأولى ستره. أجزت لك أيدك الله رواية الجميع عني بأفضالك، ورواية ما أدونه وأجمعه من ذلك حسبما اقترحه خاطرك العزيز واستوجبت به مدحي، فأنا المادح أنا المجيز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 قاله وكتبه عمر بن مظفر في العشر الأول من شعبان سنة أربعين وسبع مئة. وكتب بخطه تضمين أنصاف أبيات ملحة الإعراب، وهي في غاية الحسن، وهي ستة وستون بيتاً، وقد أثبتها بكمالها في ترجمته في تاريخي الكبير. وكتب بخطه تضمين: يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لأبي العلاء المعري في مديح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي في إجازته في الجزء الثامن عشر من التذكرة التي لي. وكتب أيضاً بخطه مفاخرة له نثراً بين السيف والقلم وجودها، وكتب بخطه أيضاً مقاطيع كثيرة وهي في الجزء الثامن عشر من التذكرة لي، وأثبت له شيئاً كثيراً من نظمه في التذكرة التي لي وهو مفرق في أجزائها. ومن مصنفاته الكلام على مئة غلام كتبته جميعه بخطي، وهو في الجزء الثاني والثلاثين من التذكرة، والكواكب السارية في مئة جارية، كتبته جميعه بخطي أيضاً، وهو في الجزء الثالث والثلاثين من التذكرة، وله أحاجي نحوية على حروف المعجم وهي قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 يا من حاجى ... في الأسماء اطرح حرفاً ... بعد التاء القِثا وقال: ؟ يا من أحاجيه تغني ... عن فطنة المتنبي إن كان عندك فهم ... مثل لنا طول جب مدابير وقال: يا فاضلاً قد صلحت ... للعالمين نيته اطرح رتاجاً ما ترى ... يا سيدي أحجيته القباب وقال: يا من يفوق البرايا ... في بحثه حين يبحث مثل ولا تتوقف ... قولي تلا متلبث قراقِف وقال: قوالوا لرب الحجى ... والواضح المنهج مثل لنا مسرعاً ... في القول رزقي نجي قسميات وقال: أتت يا كامل الحجى ... والكلام المصحح قولي: الطرف ملكه ... هات لي مثله اشرح الإنالة وقال: يا فاضلاً في الأحاجي ... ما إن له من مؤاخي نور لآية حرث ... مثل بغير تراخ سنانير وقال: يا إماماً توقى ... ولي كل معاد ما نظير لقولي ... باع أرض سواد شراريف وقال: يا من حاجى ... وقيت أذى مثل قولي ... تعب جبذا عناقيد وقال: يا من أحاجيه أعيت ... ذهن الصدور الكبار ما مثل قولي لشخص ... حاجيته رطل قار مناقير وقال: يا سيداً ألفاظه ... لكل معنى حائزه مثل لنا ولا تقف ... ألف وألف جائزه الفاصلة وقال: يا من له بين الورى رتبة ... معروفة تومن تلبيسه مثل لنا أمر امرئ حاضر ... بأنه يشغل نقريسه الهداية وقال: يا تاجراً في العلم لا ... في الملهيات ولا القماش مثل لنا بخلاً بما ... إن شئت أو أقص عطاش دراهيم وقال: يا فاضلاً يرجى له ... من ربه حسن الخلاص مثل لنا في سرعة ... تعب المسن من القلاص عنانيب وقال: يا من أبان ال؟ ... معنى وفضه مثل لنا سريعاً ... أهمل فضه أبارقه وقال: يا من لثغر العلا ... والعلم أضحى يحوط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 إن كنت ذا فطنة ... ما مثل أحبب قنوط مقياس وقال: يا إماماً في الأحاجي ... زانه فهم وحفظ مثل الآن سريعا ... آلة التعريف لفظ الكلمة وقال: يا سيداً فيه بشر ... للبائس المتوجع إن كنت تدري الأحاجي ... فما مثال ارجع ارجع هدهد وقال: يا سيداً ذكاؤه ... قد أعجز المبالغا مثل لنا ولا تقف ... اطلب شراباً سائغاً سلمى وقال: يا سيداً ذكاؤه ... والفهم أعيا من يصف كن ناهباً وواهباً ... مثل لنا ولا تقف سلهب وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 يا من له فضل يمت به ... وبه يرجى الجمع للفرق مثل لنا إن كنت ذا فطن ... ما مثل أهمل ما على العنق الغراس وقال: يا فاضلاً في الله ... أضحى أخذه وتركه مثل لنا بسرعة ... مرتفعات ملكه الزباله وقال: يا سيداً ألفاظه ... تجل عن مماثل مثل لنا بسرعة ... عشر مئات فاضل الفراسخ وقال: يا من له في المعالي ... والفضل أي كرامه مثل لنا ولا تتوقف ... نظير علم علامه سمسمه وقال: ؟ يا شهماً ذكياً ... بالآداب ملآن مثل لي سريعاً ... أحبب غير غضبان مقراض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 وقال: يا شارح المعميا ... ت وجهه ووجهها ذو لحية كبيرة ... ملك له ما شبهها الحالة وقال: يا من حوى من فهمه ... وعلمه ما قد حوى مثل لنا إذ كنت ما ... ذكرته ظهر هوى مطاريح وقال: يا سيداً بفضله ... أصبح حبراً كاملاً مثل لما في الوقت ما ... رادف أطعم عاملا منوال وقال: يا سيداً في الأحاجي ... له كمال رويه مثل فداك المعادي ... والضد رب عطيه ذاهبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 ولما وقفت له على كتابه الكلام على مئة غلام عند القاضي الرئيس بهاء الدين حسن بن ريان، وجدت غالبه من نظمي في الحسن الصريح في مئة مليح، وكان ذلك عقيب قدومي من القاهرة فقلت له: يا مولانا اكتب إليه، وقل له: قد وقع صاحب العملة بها وعرفها. فكتب إليه وعرفه المقصود، فغير فيها أشياء فلهذا ترى نسختين ثم وقفت له على أشياء في غير ما نوع قد اغتصبها واختلسها، فكتبت إليه رحمه الله تعالى: أغرت على أبكار فكري ولم أغر ... عليها فلا تجزع فما أنا واجد ولو غير مولاي استباح حجابها ... أتته من العتب الأليم قصائد قواطع لا تحميه درع اعتذارها ... وألسنها عنه الخصام مبارد ولكنه لا فرق بيني وبينه ... يبين لأنا في الحقيقة واحد فكتب هو الجواب إلي وأجاد: وأسرق ما أردت من المعاني ... فإن فقت القديم حمدت سيري وإن ساويته نظماً فحسبي ... مساواة القديم فذا لخيري وإن كان القديم أتم معنى ... فهذا مبلغي ومطار طيري فإن الدرهم المضروب باسمي ... أحب إلي من دينار غيري كان رحمه الله تعالى وسامحه لما سمع قولي: أترك هوى الأتراك إن شئت أن ... لا تبتلى فيهم بهم وضير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 ولا ترجي الجود من وصلهم ... ما ضاقت الأعين منهم لخير قال هو رحمه الله مختصراً: سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه ولا تقصد الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه ولما سمع قولي: ركبت في البحر يوماً مع أخي أدبٍ ... فقال دعني من قال ومن قيل شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له ... لا تنكر، الشرح يا نحوي للنيلي فقال هو رحمه الله تعالى وزاد: ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيل يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيلي ولما سمع قولي: كؤوس المدام تحب الصفا ... فكن لتصاويرها مبطلا ودعها سواذج من نقشها ... فأحسن ما ذهبت بالطلا قال هو رحمه الله تعالى ونقص: ؟ أحسن ما كانت كؤوس الطلا ... ساذجدة يبدو بها الخافي فالنقش نقص ومن الرأي أن ... ترتشف الصافي من الصافي وقال رحمه الله تعالى أيضاً مختصراً: دع الكأس من نقشها ... فصاف بصاف أحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 إذا ذهبت بالطلا ... فقد طليت بالذهب ولما سمع قولي: انهض إلى الربوة مستمتعاً ... تجد من اللذات ما يكفي فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الجنك والدف قال رحمه الله تعالى: دمشق قل ما شئت في حسنها ... واحك عن الربوة ما تحكي فالطير قد غنى على عوده ... وزفها بالدف والجنك قلت: كذا وجدته قال، وفيه فساد، وهو أنه أضاف الدف إلى الربوة والمشهور بين الناس إضافة الجنك إلى الربوة، فما يقال إلا جنك الربوة، وما يقال: دف الربوة. وإن كان هناك دفوف كثيرة فإن المشهور ما قلته، وقد أخذ المعنى بكماله، ونصف البيت الأول من الثاني بلفظه، وهذه مصالتة، عفا الله عنه. ولما سمع قولي: تزوج الشيخ بتركية ... تضم في الغربة أطرافه كأنها من حسنها شمعة ... وهي على العشاق طوافه وقولي في مخيلة: نقط خدي الدمع عشقاً وقد ... قامت إلى الرقص خياليه فما رأت عيني لها مشبهاً ... مصرية في ضوء شاميه جمع هو المقصدين في مقطوع واحد فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 جاءتك في طيف خيال حكت ... خيال طيف هز أعطافه مصرية في ضوء شامية ... يا حين ذي الشمعة طوافه ولما سمع قولي: ومليح طراز كميه أضحى ... مثل خط العذار في حسن رقم قال قلت الظباء مثلي وما عا ... زت ظباء الفلا سوى طرز كمي وقولي أيضاً وفيه تضمين: ضممت معذبي لما أتاني ... ورقم عذاره قد راق عيني فيا طرزيه هل يدني زماني ... ليالي وصلنا بالرقمتين وجمعهما وقال: طرز قباء محنتي ... كخده ورقمه ما أعوزت منه الظبا ... إلا طراز كمه ولما سمع قولي: عجباً لزهر اللوز حين يلوح وال؟ ... أوراق إذ تجلى على نظاره عكس القضية في الورى فمشيبه ... يبيض من قبل اخضرار عذاره قال رحمه الله تعالى: أشجار لوز تنادي ... أمري على الخلف جاري بعد اشتعالي مشيباً ... يخضر مني عذاري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 قلت: قوله أخصر، لكنه أبتر، وقولي أنا أكمل وأجمل، وقولي عكس القضية أكثر في الاستعمال من قوله أمري على الخلق جار. ولما سمع قولي: أسائل عن أرض ألفت ربوعها ... وفيها حبيب نلت منه مرادي فقالوا متى تظلم جلالها بوجهه ... فقلت أنا أدرى بشمس بلادي قال هو مختصراً: ؟ ما الشمس عندي على ما ... زعمتم يا أعادي دعوه عنكم فإني ... أدري بشمس بلادي ولما سمع قولي في مليح أمير: هذا المليح المفدى ... قلب المعنى أسيره يقول من بات ضيفي ... عشقاً فإني أميره قال هو رحمه الله تعالى: أقول لبدر سائر بين أنجم ... أأنت أمير المصر قال أميره فقلت إذا مات الكرام بأسرهم ... أأنت تمير الوفد قال أميره ولما سمع قولي في مليح فقير: فقير غنيت به في الهوى ... إذا ما بدا عن محيا البدور وأصبح وجدي كثيراً به ... على أنه قد غدا بالفقيري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 قال هو مختصراً: بي فقير كغني ... بسنا وجه منير لا تلمني في افتضاحي ... فغرامي بالفقيري ولما سمع قولي في مليح ناسخ: بليت بناسخ كالبدر حسناً ... له خصر طفا والردف راسخ ؟ برى جسمي ضنا إذ قط قلبي ... وأصبح للجفا بالوصل ناسخ قال هو مختصراً: ناسخ راسخ الروا ... دف والخصر قد طفا قد برى الجسم عندما ... نسخ الوصل بالجفا قلت: أخذ المعنى واللفظ بعينهما واختصره لكنه محقه، فإنه ما ذكر القط وهذا ظاهر. ولما سمع قولي: لئن سمح الدهر البخيل بقربكم ... وسكن منا أنفساً وخواطرا جعلنا ابتذال النفس شكران وصلكم ... وقلنا لدمع العين تعمل ما جرى نقله فقال في مليح فقير: ولي فقير أدمعي ... تعمل فيه ما جرى إن قلت قد سلبتني ... يقول شغل الفقرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 ولما سمع قولي: يقول لما قلت هذا اللمى ... أسكرتني لما ترشف فاك سواك ما ذاق لمى مبسمي ... أستغفر الله ذكرت السواك نقله هو فقال: قالت وناولتها سواكاً ... ساد بفيها على الأراك سواي ما ذاق طعم ريقي ... قلت بلى ذاقه سواكي ولما سمع قولي: مر على حبي نسيم الصبا ... فقال لي في بعض أقواله ما لي في زهر الربا عبرة ... مذ تمسكت بأذياله نقله هو فقال: ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك ولما سمع قولي في قيم حمام: بلان حمامنا له نظر ... يحار في حسن وصفه الفكر عيناه موسى ونبت عارضه ... له مسن وقلبه حجر قال هو رحمه الله تعالى موالياً: حمامكم فيه قيم منظر ويسبي ... غسلني بالدمع ثن أنشد كذا صبي جعل مسنو وموسو والحجر نصبي ... قال ذا عذاري وذا طرفي وذا قلبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 ولما سمع قولي: المقلة السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادي النبال وتقطع الطرق على سلوتي ... حتى حسبنا في السويداء رجال قال هو ولكنه حول معناه: من قال بالمرد فإني امرؤ ... إلى النساء ميلي ذوات الجمال ما في سويدا القلب إلا النسا ... ما حيلتي ما في السويدا رجال ولما سمع قولي مضمناً: مليح يخاف على حسنه ... فينتف منه عذاراً سرح فقلت له خل هذا الخيال ... ومد الشباك وصد من سنح قال ونقل المعنى إلى صياد: لو جنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة الملح تقول لنبت العذار اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح ولما سمع قولي: بتنا وما نقلنا سوى قبل ... وريق فيه السلاف مشروبي نمنا وما نمت الوشاة بنا ... لولا فضول الحلي والطيب قال هو: زارت على ياسي لطيف خيالها ... يا دهر ما بقيت عليك ذنوب فركبت أخطار الهوى في وصلها ... والطيب واش والحلي رقيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 ولما وقفت أنا على قوله: أخذت عني بديلاً ... وذا دليل بأنك تمر بي لست تلوي ... علي حتى كأنك فلست تحسن هجري ... ولست أهجر حسنك وليس يوزن وجدي ... وليس يوجد وزنك قلت: الذي يسلك هذه الطريق السهلة العذبة المنسجمة التي ليس فيها غريب لغة ولا غريب إعراب، ولا تقديم ولا تأخير، ولا حذف ولا تقدير، ما يأتي بهذا الإعراب الذي نحتاج أن نقدر له نيابة المصدر المحذوف، وهو يتشبه بطريق البهاء زهير رحمه الله تعالى وذلك ليس في شعره تكلف، بل قول مطبوع غير متطبع، ولا عنده تكلف في إعراب ولا حوشي لغة. وقد قلت أنا في ذلك: لقد أضعفني حزني ... وضاعف خالقي حسنك فها أنا لم أزن وجدي ... لأني لم أجد وزنك وصاحب الذوق السليم يحكم بيني وبينه في هذا رحمه الله تعالى. وأنشدني لنفسه إجازة، وجوده مضمناً: مليح خصره والردف منه ... كبنيان القصور على الثلوج خذوا من خده القاني نصيباً ... فقد عزم الغريب على الخروج وأنشدني له أيضاً: جنبتني وأخي تكاليف الشقا ... وشفيتنا في الدهر من خطرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 يا حي عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التحكم في دم الأخوين وأنشدني له أيضاً: قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق وأنشدني له وجوده: جبرت يا عائدتي بالصله ... فتممي الإحسان تنفي الوله وهذه قد حسبت زورة ... لم أنت يا لعبة مستعجله وأنشدني له أيضاً: بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا فضلي وآدابي فالشيب قد حل برأسي وقد ... أقسم ما يرحل إلا بي وأنشدني له أيضاً: لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واطلب من جواد كريم كيف ترجى الجود من عند من ... يفتي بأن الفلس مال عظيم وأنشدني له أيضاً: رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني ؟ قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثيراً لقلة القاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 وأنشدني له أيضاً: وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً ... يبادر بالقيام على الحراره فأضحى لا يقوم لبدر تم ... كأن النحس قد عطي الوزاره وأنشدني له أيضاً: قلت لنحوي إذا عرضا ... له بأوقات الرضا أعرضا يا حيث لو أصبح باب الرضى ... كيف لما كنت كأمس مضى قلت: بريد يا مضموماً عني لو أصبح باب الرضى مفتوحاً لما كنت مكسوراً وأنشدني له أيضاً: لما رأى الزهر الشقيق انثنى ... منهزماً لم يستطع لمحه وقال: من جاء؟ فقلنا له: ... جاء شقيق عارضاً رمحه وأنشدني له أيضاً: دهرنا أمسى ضنيناً ... باللقا حتى ضنينا يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا وأنشدني له أيضاً: إني عدمت صديقاً ... قد كان يعرف قدري دعني لقلبي ودمعي ... عليه أحرق وأذري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 وأنشدني إجازة له: رأيت في الفقه سؤالاً حسنا ... فرعاً على أصلين قد تفرعا قابض شيء برضا مالكه ... ويضمن القيمة والمثل معا قلت: يتصور في صور منها المحرم يستعير صيداً من غيره فيتلف في يده فتلزمه القيمة لمالكه والمثل جزاء لله تعالى. أنشدني إجازة، ونقلته من خطه يمدح الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة كمال الدين محمد بن المزملكاني رحمهما الله تعالى: هنيت عاماً مقبلاً مقبلا ... عليك بالسعد وعيش حلا مولاي يا من قلبه راحم ... وهو أحق الناس أن يعدلا ؟ محبتي موجبة للثوى ... وحاجتي تقضي بأن ارحلا حسبت في أيامكم رفعة ... وما خشيت الدهر أن أنزلا وقلت من يرضى خمولي إذن ... فكنت أنت المحسن المجملا فليتكم أبقيتموني كما ... قد كنت من قبلكم الأولا أتقنت باب البيع والصرف في ال؟ ... شهبا وما دافع باب الولا ثم متى أغفلتني بعد ذا ... شرعت في التفليس مستبدلا ما أنس لا أنس رسولاً أتى ... بنقلتي لا أعدم المرسلا قلت رسولي رمت جري إلى ... منبج ماذا أنت مِن أو إلى قال آنا من قلت لا إن مِنْ ... للابتدا أنت كذا؟ قال: لا أنا إلى قلت إلى نعمة ... واحدة الآلاء عند الملا أين هي النعمة في قاطع ... بقربه ما حق أن يوصلا فقال ما سميتني هات قل ... واحذر عن التعليل أن تذهلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 قلت له جئت بنفي عن ال؟ ... جنس فحق أن نسميك لا قلت انصرف قال انصرافي على ... مذهب أهل النحو لن يجملا فالعدل والتعريف عندي ولي ... منزلة في النحو لن تجهلا قال أضفناك إلى منبج ... فحق أن تصرف مسترسلا قلت بلادي ربعها عامر ... ومنبج ربعها قد خلا قال اسمك المعدول عن عامر ... قضى عن العامر أن تعدلا وأنشدني له إجازة ومن خطه، نقلت موشحة فائقة: مذهبي؟ حب رشاً ذي جسد مذهبقد حبيحسناً به يستعذب القدح بي عاذلاًما أنت فيما قلتهعادلا سائلايخبرك دمع قد همىسائلا آه لاتعذل فما قلبي لذاآهلا منصبي والعقل أذهبتهما من صبيما ربيإلا وقد ربي به ما ربي ما نسي ... زمان طيب الوصل في ما نسي والمسي ... رقيبي بالكف لم ألمس جانسي ... حزني فألفي كلما جا نسي وارق بي يا طرف سهداً والنجوم ارقبواشن بيمن لم يهم في ثغر أشنب رق ما ... في خده الوردي قد رقما عندما ... رأيت دمعي للجفا عندما ضر ما ... في مهجتي من هجره ضرما من أبي يأبى الرضا نلت الجفا من أبيفارع بيرضاه يا قلبي وته وارعب من صلا ... لي فخه بل من نضالي منصلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 بلبلا ... فؤاد مضناه هوى بل بلا أو ولا ... ملازم آخره الأولا فانه بي غيري ولذات الغرام انهبواله بيعن عذل بل يا حشاي الهب وفي هذه الموشحة كرر في القافية لفظة بي في مواضع، وهو إيطاء، لكن يغتفر للحلا. ؟ عمر بن ناصر بن نصار العرضي جمال الدين، الكاتب الشاعر، توفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة. ومن شعره: .... عمر بن يوسف الصدر الرئيس الماجد القاضي زين الدين أبو حفص بن أبي السفاح الحلبي. كان ركن رئاسة، وطود سيادة وسياسة، تردى بالمكارم والإحسان، وكان حرياً وحقيقاً بلفظ الإنسان، يخدم الناس بماله وجاهة، ويقف مع صاحبه في معرض الدهر وتجاهه، مع دربة بمداخلة الناس، والتنوع لكل الأجناس، والسعي الذي إذا أضجره الحرمان قال العزم: " ما في وقوفك ساعة من باس "، لم يعتب لياليه، ولا أنشد يوماً أمانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال بل يصبر ويدأب، ويشعب صدع السعي ويرأب. ولم يزل يعاند من يطيق عناده، ويغالب الحوادث إلى أن أصلح له الدهر فساده فساده، وبلغ ما أم له وأمله، ورأس في الزمان وجمله، وعاذ به البدر من النقص فكمله، وتخرق في العطايا والهبات، وعلم أن الدهر هبات، وتعين في إظهار الرئاسة وتجمل، وتحلم على من عاداه أو عانده وتحمل، إلا أن الأعادي كادوه، وعلوا صرح الكيد له وشادوه، فخانه من إليه ينتمي، وخر صريعاً لليدين وللفم: وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام ولم يزل يقوم ويبرك، ويجمد ويحرك، إلى أن بطلت حركة نبضه وتعين لكل وارث مقدار فرضه. توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة بحلب. كان من جملة كتاب الإنشاء بحلب، فسعى واجتهد إلى أن تولى وكالة بيت المال ونظر الخاص، ولما مات جركس نائب قلعة المسلمين وحضر الأمير سيف الدين منجك من الديار المصرية إلى حلب لضبط موجوده، خدمه القاضي زين الدين هناك وصحبه، وتوجه معه إلى قلعة المسلمين، وتأكدت الصحبة بينهما. ولما عاد الأمير سيف الدين منجك إلى مصر وترقى، وصار وزيراً بالديار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 المصرية، طلب ابن السفاح وأخاه وولاه كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، وأقام في حلب تلك المدة على القالب الجائر، وحسده أصحابه وغيرهم، وأحسن إلى الناس كلهم، ولكن الحسود لا يرضيه إلا زوال النعمة. وكان الأمير أرقطاي نائب حلب، فمشى الأحوال وصبر ولم يسمع فيه كلام واش. ولما مات وحضر سيف الدين أرغون الكاملي زاد أعداؤه في السعي عليه وتمكنوا منه فرموا بينه وبين النائب، وتأكدت الوحشة، وتظاهر بالانحراف عليه، وكتب فيه إلى مصر حتى عزل بالسيد الشريف شهاب الدين الحسين الحسيني، وصودر، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولم يجر على كاتب سر ما جرى عليه، ثم إنه أفرج عنه وطلب إلى مصر، فما وصل إلهيا حتى أمسك الأمير سيف الدين منجك وقام عليه الأمير سيف الدين طشبغا الداوادار، فأعيد هو وأخوه القاضي شمس الدين تحت الترسيم إلى حلب، وأخذ منهما شيء آخر بعد المئة ألف. ثم أفرج عنه وتوجه إلى مصر، وعاد مع السلطان الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وجاء على وظائفه الأول بحلب، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وكان رحمه الله تعالى جواداً كريماً ذا مروءة زائدة وتعصب لمن ينتمي إليه وخدمة للناس ومداراة، وقل أن رأيت مثله، وكان يعتريه مرض الماشرى كل أربعين يوماً أو أقل أو أكثر، ويقاس منه شدة ثم يبرأ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 وجاء في بعض سفراته إلى دمشق فتوجهت إلى زيارته فوجدته يأكل سلفنداناً فعزم علي، فلم آكل منه لأنني كنت صائماً، ثم إني صنعت له في اليوم الثاني طبقاً من حلوى السلفندان، وجهزته وكتبت إليه معه: ما حرم المملوك لما غدا ... عندك أكل السلفندان إلا لأن يأتي به هكذا ... فصار هذا سلفاً داني وكانت إلى جانبي دويرة في دمشق لشخص نصراني قسيس في حلب، وكنت مضروراً لإضافة تلك الدويرة إلى داري، فكتب إليه ليتحدث مع ذلك النصراني ويشتريها لي منه ويرغبه في الثمن، وكتبت من جملة ذلك: أقول للحائر اللهفان حين غدا ... ولم ينل من أماني نفسه وطرا إن أهمل الدهر ما تبغيه من أمل ... ونام عن نيله نبه له عمرا فعاذ جوابه بأن الشغل ينقضي ولكن النصراني ضنين بهذا المكان وأبطأ على انقضاء الشغل في ذلك، فكتبت إليه أيضاً: مولاي زين الدين حالي غدت ... أنت بها دون الورى داري فدارك القسيس أو داره ... فإنني قد ضقت في داري عمر بن سراج الدين الشيخ الفاضل سراج الدين الصوفي الصفدي. توجه من صفد قديماً إلى القاهرة، أظن أنه قبل عشر وسبع مئة، وبلغني أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 حفظ الوجيز، ثم إنه صار صوفياً بخانقاه سعيد السعداء. ورأيته بالقاهرة غير مرة، وهو من جملة الصوفية بسرياقوس. ثم إنه ولي مشيخة الشيوخ بسعيد السعداء فأقام على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وكان شكلاً حسناً وقوته الحافظة متوفرة. الألقاب والنسب ابن عمرون علاء الدين علي بن الحسن. العنبري ظهير الدين علي بن عبد الكريم. عوض بن نصر بن عبد الرحمن بن شيركوه الفقيه المصري الحنفي الصوفي شرف الدين أبو خلف. سمع معي على أشياخي الحفاظ أثير الدين، وفتح الدين، والمسند يونس الدبابيسي، وغيرهم. كان جميل الود حسن الصحبة. كان الشيخ أثير الدين يقول: استدرك على بعض المصنفين سبعة عشر موضعاً من الغلط في أسماء القراء. وكان ينقل القراءات، وينقل فروع مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وله إلمام بالحديث، لأنه سمع منه كثيراً، وسمع بقراءتي كثيراً، إلا أنه لحقته يوماً غفلة، فسأل بعض الجماعة عن قول الزمخشري في أول المفصل لأي شيء قال: " الله أحمد " وما قال: الله يوسف ولا الله عيسى أو موسى أو غير ذلك من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 الأسماء. فحفظوها عنه، ووضع واحد منهم سؤالات عليه من أول المفصل إلى آخره على لسانه مثل: لأي شيء قال باب الترخيم وما قال باب التبليط، ولأي شيء قال الموصول وما قال الشبابة، ولأي شيء قال العلم وما قال السنجق، وقال زيد قفة وما قال السرقانية، ثم إنه شرع في تعليل ذلك جميعه مثل قوله: الموصول، لأنه اسمي وحرفي، فهو ينقسم إلى قسمين، والموصول قطعتان موصولتان وليست الشبابة كذلك، ومن هذه النسبة. وقال له الطلبة الذين يبعثون به أنت ما في القرآن الكريم لفظ يوازن اسمك، فانحرف من ذلك، وتأذى وجاء إلي شاكياً، فقلت له: بلى في القرآن ما يوازن اسمك فقال: ما هو؟ قلت: عنب فسر بذلك، وتوجه إليهم. وحكى لي الحافظ فتح الدين قال: جاء إلي عوض مرات، قال أريد أقرأ أنا بنفسي جزءاً، فاستحييت يوماً منه، فأخذ جزءاً وقعد على الكرسي وحضر الناس وجلست أنا في المحراب أمامه وأخذ هو في القراءة فأول حديث قرأه: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة يشوص فاه السواك "، فصحفه وقال يشوص بالشين المعجمة المفتوحة والواو المشددة والضاد المعجمة، ورقع في الضاد بلسانه، قال: فأخذت الجزء من يده منه، وقلت له: اترك، وقمنا. ومع ذلك فقد جمع جزءاً في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 الحناء: هل هو طيب أو لا وتتبع المعاجم، وجمع جزءاً وسماه شفاء المرض في من يسمى بعوض. حضر إلى دمشق في سنة أربع وبعض خمس وأربعين وسبع مئة لزيارة شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فوصله وبره، ثم إنه عاد إلى القاهرة. ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة سبع وأربعين وسبع مئة. وقيل: توفي في ذي الحجة. وكان تمتاماً رحمه الله تعالى. ابن العوينة: الشيخ زين الدين علي بن الحسين. عيسى بن أحمد بن مسعود بن خلف الشيخ ضياء الدين أبو الهدى المحدث الصوفي. خرج له وحدث. ومن شيوخه ابن الصفراوي، تفرد عنه بالقاهرة، وابن الطفيل وابن المخيلي، وابن دينار، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن المقير، وحمزة بن عمر الغزال، وأحمد بن يوسف، ويوسف الساوي، وعلم الدين بن الصابوني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن هؤلاء العشرة وعن غيرهم. قال: وقرأت عليه الأربعين أبدال التساعيات تخريج تقي الدين عبيد له ومجلسي ابن البختري وأحاديث مسلسلة. وتوفي في تاسع عشر شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة. وكان موته فجأة رحمه الله تعالى. عيسى بن إسماعيل بن عيسى ابن محمد بن حماد بن صالح، الشيخ الفقيه الفاضل عماد الدين أبو محمد الجهني الهيتي الصالحي. كان من أصحاب الشيخ تاج الدين، مواظباً على قراءة القرآن، ويكرر على كتاب التعجيز في الفقه، وحفظ أولاً كتاب التنبيه، ثم سافر إلى الموصل وإلى الروم، وخالط الفقراء وسمع من ابن أبي اليسر في صحيح البخاري، وسمع كتاب الترمذي على ابن علان، وسمع ثلاثيات المسند على ابن شيبان، وله إجازة من نقيب الأشراف بهاء الدين، والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي، ومكي بن عبد الرزاق القدسي، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 وتوفي في تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده تاسع عشر ذي القعدة سنة خمس وأربعين وست مئة. عيسى بن ثروان بن محمد ابن ثروان بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الباقي بن أبي الحسن التدمري، الشيخ الزاهد العابد العارف حفيد الشيخ الكبير ثروان. كان شيخ البيانية وشيخ بلده، وله الصيت والسمعة والقبول والكلمة المسموعة. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة. ومولده في نصف شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. وكان جد والده من أصحاب الشيخ أبي البيان. ودفن الشيخ عيسى عند قبر والده برا الباب الصغير. عيسى بن داود الشيخ الإمام العلامة سيف الدين أبو الروح البغدادي الحنفي المنطقي. أخذ الجدل عن البدر الطويل، والفخر بن البديع، وشارك وبرع في المنطق. تخرج به جماعة من الأعيان كشيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 وشرح الموجز للخونجي إملاء من حفظه، والإرشاد كذلك، وسكن القاهرة، وأقام بمدرسة الظاهر بين القصرين. قال: كان لي وقت بناء المدرسة المستنصرية سبع سنين أو ثماني سنين، وولدت بخوارزم. وقال قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى: قال لي سنة خمس وسبع مئة: لي تسعون سنة. وهذا تناقض منه. وتوفي رحمه الله سنة خمس وسبع مئة. وكان كثير التواضع مقتصداً سمحاً لطيف الشكل حسن المجالسة. وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة مضحكة، تدل على أنه كان ظريفاً مطرحاً، سليم الباطن رحمه الله تعالى. عيسى بن داود الملك المعظم شرف الدين أبو البركات بن الملك الزاهر مجير الدين أبي سليمان بن الملك المجاهد أسد الدين أبي الحارث شيركوه بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الأمير الكبير الملك أسد الدين شيركوه بن شادي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 كان قد توجه من دمشق إلى القاهرة يطلب الزيادة على إقطاعه، ومعه هدية جليلة، فأقبل عليه السلطان وقضى شغله، فأدركه أجله هناك. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع عشرة وسبع مئة. سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وروى. ومولده في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وست مئة. عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن حمد الشيخ المسند المعمر الرحلة شرف الدين أبو محمد المقدسي الصالحي الحنبلي الصحراوي المطعم ثم السمسار في الأملاك. سمع من ابن الزبيدي، والفخر الإربلي حضوراً، ومن ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وكريمة القرشية، والضياء الحافظ، وجماعة. وروى الكثير وتفرد، وخرجت له العوالي والمشيخة. وحدق عنه ابن الخباز في حياة ابن عبد الدائم. وله إجازة من ابن صباح ومكرم وابن روزبة والقطيعي، وعدة. وسار إلى بغداد وطعم في بستان المعتصم وكان أمياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 قال شيخنا الذهبي: بعيد من الفهم، وربما أخل بالصلاة على عادة العوام، وأقعد بأخرة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ست وعشرين وست مئة. عيسى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الكريم المقرئ الشيخ مجد الدين أبو محمد البعلبكي. كان من بيت معروف بالعدالة والديانة. سمع من أبي سليمان عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني ببعلبك. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مجلس البطاقة بسماعه من أبي سليمان المذكور، وكان قرأه الشيخ علم الدين ببعلبك في سنة سبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبع مئة. عيسى بن علي الأندلسي الدمشقي الشيخ الإمام المحدث الفاضل شرف الدين أبو الفضل الأندلسي الدمشقي المؤذن، قارئ الحديث للناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 عمل صنعة الحرير مدة، ثم إنه صحب الشيخ إبراهيم الرقي وتخرج به. وكان يقرأ الحديث على العامة بفصاحة ونغم طيب، واشتهر بذلك. وأجاد علم الوقت. كان من مؤذني الجامع الأموي، وأظنه جاء إلى صفد قبل العشرين، وقرأ علينا جزءاً من مروياته، ولم أتحقق الآن ما هو، وقد كتبت اسمي واسم غيري فيه. قال شيخنا الذهبي: سمعنا بقراءته صحيح البخاري على شيخنا المزي أيما قراءة، وقد سمع من ابن، الواسطي وأنشدنا من شعره، وكان لا تمل مجالسته، قال: وهو على هناته صويحبي، والله تعالى يسامحه. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة بضع وستين وست مئة. عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن مجد الدين أبو الروح المعروف بابن الخشاب، الفقيه الشافعي، وكيل بيت المال بالديار المصرية. قرأ القراءات على ابن الدهان والكمال الضرير، وسمع من أصحاب البوصيري، والحافظ المنذري وأبي الحسين القرشي وعبد الله بن علاق وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى. وحدث بالقاهرة وسمع منه الجماعة، وتفقه بابن عبد السلام، وصحب الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار الظاهري، وانتفع به. وتولى الوكالة ونظر الأحباس والحسبة ودرس بزاوية الشافعي بالجامع العتيق بمصر وبالمدرسة الناصرية وبالقرا سنقرية، وأفتى. وكان فيه مروءة وله همة، وكان الشجاعي ينبسط معه كثيرا. قال شيخنا العلامة أثير الدين: دخلت مرة معه أنا والشجاعي إلى البيمارستان المنصوري وإذا بمجنون يتطلع إلى ابن الخشاب وينشد: محتسب قصير ... يؤسس ويسكر تارة من محمض ... وتارة من معنبر فقال له الشجاعي: أنا قلت لهذا المجنون يقول لك هذا. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وولي الوكالة بعده ولده صدر الدين أحمد. عيسى بن عمر بن عيسى الأمير شرف الدين بن البرطاسي الكردي، مشد الدواوين بطرابلس. كان مشكوراً في مباشرته، مذكوراً بالخير في معاشرته، فيه كياسة، وعنده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 حشمة ورياسة، وله سيادة وسياسة، ما خلا من خير قدمه، وشر هدمه. وعمر بطرابلس مدرسة للشافعية مليحة، وجعل ساحتها للطلبة فسيحة. ولم يزل على حاله إلى أن أدبر وولى، وترك أعراض هذه الدار وخلى. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس خامس شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين، وتولى مكانه الأمير بدر الدين بكتوت القرماني. وكان ابن البرطاسي قد باشر ولاية البر بدمشق في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، ولم يزل في ولاية البر إلى أن عزل بابن معيد في سادس ذي الحجة سنة أربع عشرة، ثم أعيد بعد العيد إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور. عيسى بن فضل بن عيسى .... الأمير شرف الدين. توفي رحمه الله تعالى في إحدى الجمادين سنة أربع وأربعين وسبع مئة. عيسى بن المحب شرف الدين النابلسي المعروف بالناسخ في القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 كتب الخط المنسوب، وأتى به وهو في عداد الرياض محسوب، وجود النسخ وأتقنه، ونمقه وحسنه، فعرف بالناسخ لذلك، واشتهر به اشتهار النجم في الليل الحالك. وكان ينظم الشعر، ويتعاطى فيه مغالاة السعر. لبث في السجن بضع سنين، وكان اللطف بأذاه ضنين، ثم إنه خرج من غيابة جبه، ولكنه حصد بذر حبه، فشعشعت له النار رحيقاً، ومات فيها حريقاً. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وثلاثين أو ثلاثين وسبع مئة بالقاهرة. وكان قد جود واجتهد إلى أن حاكى خط القاضي علاء الدين بن الأثير وكان يوقع على هوامش القصص بما يريد ويتوجه صاحب القصة بها إلى بعض الموقعين، فيكتب بما سأله وهو لا يشك أن ذلك خط ابن الأثير، ويأخذ صاحب القصة الكتاب ويتوجه به إلى الدوادار فيرى خطاً معروفاً فيدخل به في فوطة العلامة ويعلم له السلطان ويخرج الكتاب، والكل صحيح، وما يرى أحد خط السلطان إلا ويكتب عليه علامته والاعتماد، ومشت بذلك أحوال، وحار الناس في ذلك ولا يعلم أحد ممن أتى عليه أصل الفساد من أين، إلى أن أمسك شرف الدين هذا فأخذه القاضي علاء الدين ودخل به إلى السلطان الملك الناصر محمد وحكى له الصورة، فقال له: أنا هذا ما زور علي، فإنما زور عليك فأمره إليك، فأودعه في سجن القلعة، فلبث قريباً من سبع سنين. ولما جرى للقاضي علاء الدين ما جرى من الفالج حدث في أمره فأفرج عنه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 وكان القاضي بعد إطلاعه على أمره لا يمكن أحداً من الموقعين يكتب على قصة حتى يكتب هو اسم من يوقع عليها، ومن ذلك التاريخ صار ذلك رسماً لكاتب السر يكتب على القصص اسم الموقع. وبلغني عن هذا شرف الدين أنه كان في السجن يزور أشياء في الوصولات وغيرها ومكث بعد خلاصه من السجن مدة قريباً من أربع سنين. ثم إنه نام ليلة ونسي روحه والطوافة في يده تقد، فاحترق اللحاف الذي عليه وتعذر خلاصه فأصبح في بيته ميتاً محترقاً. وكان قد كتب إلي من السجن وأنا بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة: يعز على عيسى وجود خليله ... بمصر وعيسى بات في قبضة السجن فيا نار أشواقي تلظت بها الحشا ... ولم يطفها من مقلتي واكف المزن ويا حسرتا لو فزت يوماً برؤية ال؟ ... محيا الذي أزرى على البدر في الدجن أمولاي إني قد سمعت فضائلاً ... ظهرت بها في مصر في غاية الحسن فسارت بها الركبان في ساحة الفلا ... وغنى بها الملاح إذ صار في السفن لقد فقت فرسان البلاغة كلهم ... وما أحداً عن ذاك في مصر أستثني عسى نفثة من در شعر نظمته ... أحلي بها جيدي إذا شنفت أذني فكتبت أنا إليه: خليل أتى مصراً وعيسى محجب ... من الدهر في سجن فلا كان من كن لئن كان في سجن فكل مهند ... إذا ادخروه للردى بات في جفن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 فيا زهر روض حجبته كمامه ... عسى تتفرى عنه في ذروة الغصن حنانيك إني فيك من شدة الأسى ... نقمت الرضى حتى على ضاحك المزن فصبراً على ما قد منيت كأنما ... الزمان على الأحرار مثلك ذو ضغن فقد يخرج الإصباح من ظلمة الدجى ... وقد تطلق الصبهاء من حرج الدن كأني بذاك الوجه يبدي نضارة ... وقد برقعته بالحيا راحة الحسن وقالت له الأيام وهي جديرة ... بكل قبيح أن تخون وأن تجني أعيسى لقد شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن وأنشدته يوماً لنفسي بعدما خرج من السجن: يا قلب إن رق خد ال؟ ... حبيب أو لان عطفه فشعره كم تجافى ... وكم تثاقل ردفه فأنشدني هو لنفسه: شكوت الذي ألقى سهاداً وعبرة ... فوكل جفني أنه قط لا يغفو فلانت لي الأعطاف والخصر رق لي ... ولكن تجافى الشعر واثاقل الردف قلت: في البيت الأول نظر، وهو أنه لا يقال إلا أغفى يغفي، ولم يسمع في فصيح الكلام يغفو، وفي البيت الثاني نظر. ثم إنني بعد ذلك قلت في هذه المادة: في القلب من هاجري لوعة ... بغير تلافيه ما تندمل فيا شعره بعض هذا الجفا ... ويا ردفه أنت ما تنحمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 والأصل في ذلك كله قول شمس الدين محمد بن التلمساني: يا خصره كم جفا ... تبدي وأنت نحيل يا ردفه نح عنه ... ما أنت إلا ثقيل وقوله أيضاً: يا ردفه جرت على خصره ... كم تعتدي ما أنت إلا ثقيل وقوله أيضاً: كأن الشعر يطلبني بدين ... فكم يجفو علي ويستطيل وكنت قد قلت أنا قديماً: يا ظالماً حل في ضميري ... وألزم القلب أن تحول تعلم الشعر منك لما ... رأى غرامي جفا وطول وقلت أيضاً: وبي رشأ معاطفه رشاق ... وكم رشقت لواحظه نبالا له شعر حكاه في التجني ... على ضعفي تجافى واستطالا ؟؟ عيسى بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الصدفي المعروف بابن الصابوني، مجد الدين الإشبيلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 قال شيخنا أثير الدين: لقيته بثغر دمياط وكان يتجر في البز، ثم انتقل إلى الإسكندرية. أنشدنا لنفسه في شاب اسمه بدر بن نجم: رأيت نجوماً في السماء كثيرة ... تقاصر عن إدراكهن أولو الفهم فلو جمعت لم تأت بدراً مكملاً ... فيا من رأى بدراً تولد من نجم قلت: .... عيسى بن محمد بن محمد ابن قراجا بن سليمان بن ياروق السهروردي الواعظ، شرف الدين أبو الرضا. أخبرني الشيخ أثير الدين من لفظه قال: كان المذكور سهروردي الخرقة، له أدب كثير وشعر كثير وتوشيح، أنشدنا بالقاهرة: مازال يهوى المقلا ... قلبي إلى أن قتلا الحمد لله الذي ... مات وما قيل سلا لو قيل لي واللحد قد ... صار لجسمي منزلا ما أنت صب بهم ... متيم قلت: بلى وأنشدني له أيضاً: يا سيد العلماء إن موشحي ... حرم لكعبته البدائة تسجد قلدته من بحر جودك جوهرا ... فأتاك وهو موشح ومقلد وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 أنا في السر والعلن ... عبد رق بلا ثمن يا مليحاً بحسنه ... سائر الناس قد فتن إن تزرني فإنها ... لك عندي من المنن لست أسلو هواك أو ... يدرج الجسم في الكفن وينادى بأنه ... مات في العشق والشجن وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة. عيسى الشيخ الكبير نجم الدين أبو المحامد ابن الشيخ أبي محمد شاه أرمن بن الشيخ صلاح الدين صالح بن عبد الله الأبلستاني الرومي المعروف بالسيوفي. كان شيخاً كبيراً مقصوداً بالزيارة، وأطلق له السلطان قرية الفيجة، وكانت له حرمة عند الدولة. توفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في زاويته المعروفة به. عيسى بن أبي محمد بن عبد الرزاق الصالحي العطار، الشيخ المسند الصالح ضياء الدين أبو محمد المعروف بابن المغازي، كان أبوه شيخ مغارة الدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 حدث بالصحيح عن ابن الزبيدي، وسمع ابن صباح حضوراً، وسمع من الإربلي وابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وأخذ عنه الواني، والمحب، والطلبة. وتوفي رحمه الله تعالى .... سنة أربع وسبع مئة. عيسى بن مسعود بن منصور بن يحيى شرف الدين الزواوي الفقيه المالكي. انتهت إليه معرفة مذهب مالك رضي الله عنه بالديار المصرية. تفقه بزواوه على أبي محمد عبد الصمد، ورحل إلى بجاية، وقرأ على أبي يوسف يعقوب الزواوي، وقرأ عليه في المهذب، والموطأ والبرهان في الأصول، ثم قدم القاهرة سنة سبع مئة وسمع الموطأ من الدمياطي. وحضر إلى دمشق في أوائل شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبع مئة، وحكم نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين عوضاً عن نائبه محيي الدين، وذكر درساً بالجامع، وأقام بدمشق سنين، ثم عاد إلى القاهرة، وسمع من قاضي القضاة جمال الدين الزواوي، واستنابه في الحكم بها مدة، وعاد إلى القاهرة وانتصب للإقراء وانتفع الناس به. وصنف تصانيف: منها شرح مسلم في مجلدات، وكتاب ابن الحاجب في الفقه ولم يكمل، وتاريخاً في مجلدات، واختصر كتاب ابن يونس في الفقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 وكانت له معرفة بالفرائض والحساب ومعرفة البلاد والأقاليم، ويحفظ جملة من أشعار العرب، وكان لا يقيم الوزن، ويصحف. وكان فيه ود لأصحابه، ودارت عليه الفتيا. وولي تدريس المنكو تمرية بالقاهرة، والإعادة بالناصرية والمدرسة الصالحية، وتولى تدريس المدرسة المالكية بمصر. وحصل له بلغم فمنعه من الحركة، وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس مستهل شهر رجب سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ومولده بزواوة سنة أربع وستين وست مئة. عيسى بن موسى المعروف بابن الزبطر، بكسر الزاي والباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وبعدها راء. كان نصرانياً مستوفياً بحمص، وقع منه تعرض بكلام قبيح لا يليق ذكره في حق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام الناس عليه فسعى في الباطن، وسكنت القضية. ثم إن أهل حمص قاموا عليه وأثبتوا شهادة استرعاها اثنان لآخرين عليه، فثبت ذلك على قاضي حمص، فادعى أن معه نصيحة، فحمل إلى دمشق، فكتب قاضي حمص إلى قاضي قارا بأمره، فلما وصل إلى قارا أسلم وأراد من قاضي قارا أن يحكم بإسلام فامتنع، فحضر إلى دمشق وتظاهر بالإسلام فما قبل منه، وفوض شيخنا قاضي القضاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 تقي الدين السبكي الحكم فيه إلى قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، فحكم بسفك دمه. وضربت رقبته في سوق الخيل بعد عصر الاثنين خامس شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة بحضور القضاة الأربعة. عيسى بن يحيى ابن أحمد بن محمد بن مسعود، الشيخ الإمام المحدث الصوفي ضياء الدين أبو الهدى الأنصاري السبتي. قدم القاهرة واستوطنها في الصبا، وسكن دمشق مدة في الدولة الناصرية الصلاحية يوسف. وحدث عن أبي القاسم الصفراوي، ويوسف بن المخيلي وابن المقير، وابن الطفيل، وابن دينار، وابن الصابوني، وجماعة، وخرج له التقي عبيد أربعين تساعيات أبدالا. قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: سمعها منه، وكان مليح القراءة للحديث حسن المعرفة، كثير الحرمة، ألبسني الخرقة وذكر أنه لبسها بمكة من الشيخ شهاب الدين الشهرزوري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة. الألقاب والأنساب ابن أبي العيش بدر الدين عبد الله بن الحسين. عين بصل إبراهيم بن علي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 حرف الغين غازان بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولى بن جنكزخان، السلطان الكبير والقان الجليل إيلخان، معز الدين. كان من أجل ملوك هذا البيت وأعظم من ركب ظهر أدهم أو امتطى صهوة كميت. حزء أعظم من كلهم، وواحد في موازنة جلهم، رابط الجأش، ضابط السياسة والانتعاش، خبيراً بالحروب وتدبيرها، وهلاك أعاديه وتدميرها. وكان أشقر ربعة خفيف العارضين واللحيه، غليظ الرقبة، كبير الوجه، عليه من المهابة حلية وأي حليه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت البرتكة أرقم لما ملك أخذ نفسه في الملك مأخذ جنكزخان، ودوخ البلاد والأقطار وأخذ من أدى الأمانة ومن خان. وكان لا يعف عن الأموال ويعف عن الدماء، ويود لعلو همته أن يملك ما تحت السماء. وكان يؤثر أن يظهر العدل عنه، ويود لو تمكن منه، ولذلك تسمى " محمود "، يريد به نور الدين الشهيد. وينتمي إلى تقليد أفعاله في القريب والبعيد، فما تمسك من ذلك إلا بأقصر سبب، وحكى ولكن فاته الشنب. هذا في بلاد أذربيجان والعراق، وما ضرب فيه له خام أو امتد رواق، وأما الشام فإنه مني من مغوله بالداء العضال، ورمي من جباريهم بما يرمى به الغرض من النبال في النضال، وسلم الله منهم بعض السلامة، ولطف بأهله إلا من أسروه فما سروه أو جرعوه حمامه. ولكن لما عادوا في الواقعة الثانية أخذ الله بالثأر لنا " فهل ترى لهم من باقية ": وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودا إلى حمص في قابل فإن الحسام الخضيب الذي ... قتلتم به في يد القاتل والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكزخان ما جرى للمغول بعد واقعة عين جالوت ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناء، فإن الموت أهل بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصنه الأجل، أو اختار الأسر لما وجد من الوجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 ولم يزل غازان على حاله إلى أن ... وصلت إليه يد سواء عندها البازي الأشهب والغراب الأبقع. وتوفي في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وسبع مئة، ببلاد قزوين، وحمل إلى تربة ب " شم " ظاهر توريز، والعوام يسمون هذا المكان: الشام، وهي تربة اشتملت على عمارة جليلة. وظاهر توريز يشتمل على ثلاث مدارس: للشافعية وللحنفية وللحكماء، وعلى مارستان وجامع وخانقاه، ورصد للكواكب، وخزائن للكتب، ودار مضيف، وأوقاف ذلك تغل في السنة نحو مئة ألف دينار رائج، والرائج ستة دراهم، والدرهم نصف وربع كاملي. وكان النظر في ذلك للخواجا رشيد وأولاده. واختلفت أخباره على البلاد الإسلامية، وخبط القصاد فيها تخبيطاً كبيراً. واشتهر أخيراً أنه سم في منديل تمسح به بعد الجماع، فتعلل مدة ومات. وكان الشيخ علاء الدين الوادعي - المقدم ذكره - تلك المدة في البيرة، فكتب مطالعة عن نائبها إلى السلطان الملك الناصر محمد، وكتب فيها: قد مات قازان بلا مريةٍ ... ولم يمت في الحجج الماضيه بل شنعوا عن موته فانثنى ... حيا ولكن هذه القاضيه فكتب الجواب إلى الأمير سيف الدين طوغان نائب البيرة شخنا العلامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 شهاب الدين أبو الثناء محمود - رحمه الله تعالى -: ووقفنا على البيتين اللذين نظما في وصف حال قازان، وتحقق موته بعد اختلاف الأخبار فيه، والجواب عنهما: مات من الرعب وإن لم تكن ... بموته أسيافنا راضيه وإن يفتها فأخوه إذا رأى ... ظباها كانت القاضيه وللوادعي - رحمه الله تعالى - في موت قازان عدة مقاطيع منها ما نقلته من خطه: لقد مات قازان فويل منافق ... يكابر فيه بالخديعة والمكر ولم يبق إلا أن يجيء بنفسه ... ويحلف أني قد شبعت من القبر ونقلت منه أيضاً له: وكم يجعل القصاد حياً وميتاً ... قزاناً وأوحتهم شياطينهم وحيا إلى أن قضى نحباً وصار إلى لظى ... وأصبح فيها لا يموت ولا يحيا ونقلت منه أيضاً له مضمناً: قد قال غازان يا للمسلمين لقد ... ثارت بقصادكم بين الورى الفتن كم قد نعيت وكم قد مت عندكم ... ثم انتفضت فزال القطن والكفن وكان جلوس غازان على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وحسن له نائبه نوروز الإسلام، فأسلم في سنة أربع وتسعين، ونثر الفضة والذهب واللؤلؤ على رؤوس الناس، وفشا بذلك الإسلام في التتار. وكان صاحب العراقين وخراسان وفارس والجزيرة وأذربيجان والروم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 قال العز الإربلي الطبيب ما معناه: إن غازان لما ملك استضاف نساء أبيه إلى نسائه على ياسا المغول في ذلك، وكان مغرىً بحب بلغان خاتون دون نسائه، وهي أكبر نساء أبيه، فلما أسلم قيل له: إن الإسلام يفرق بينك وبينها، لأنه لا يجوز في دين الإسلام أن ينكح الرجل ما نكح آباؤه من النساء، فهم بالردة إلى أن أفتاه بعض العلماء بأن أرغون أباه كان كافراً. وكانت بلغان خاتون معه سفاحاً والحرام غير محرم، فيجوز لك أن تنكحها، فسر بذلك، وعقد عقد نكاحه عليها، وثبت على الإسلام، ولولا ذلك لارتد. قال: ولاموا من أفتاه، فقال: إنما قلت ظاهر الشرع، وإن تسهلت فالتسهل في ارتكاب غازان بمحرم واحد وأسهل من أن يرتد كافراً، وينتصب لمعاداة الإسلام وأهله. فاستحسن ذلك من قوله، وعرف فيه حسن قصده. وكان غازان يتكلم بالتركية والمغلية والفارسية، ولكنه ما يتكلم بها إلا مع الخواجا رشيد وأمثاله من خواص حضرته، ويفهم أكثر ما يقال قدامه بالعربي، ولا يظهر أنه يفهمه تعاظماً لأجل ياسا جنكزخان الخالصة. ولما ملك أخذ نفسه بطريق جنكزخان، وأقام الياسا المغولية، ورتب الأرغوجية لعمل الأرغو وأن يلزم كل أحد قدره، ولا يتعدى طوره، وأن يكون الآغا آغا والأيني أيني، وصرف همته وعزيمته إلى إقامة العساكر وسد الثغور، وقصد الأعداء في الأطراف ونفذ البراليغ والأحكام بعمارة البلاد والكف عن سفك الدماء وتوفير أهل كل صنعة على عملها ليكثروا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وتعمر البلاد كما كانت في أيام الخلفاء - رضوان الله عليهم - والملوك الخوارزمية وغيرهم. إلا أنه كان مع شجاعته وحزمه ورأيه مبخلاً بالنسبة إلى ملوك بيته. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله علي إن شيخنا شمس الدين الأصفهاني حدثني عنه أنه أجاز خواجا رشيد على كتاب صنفه باسمه ألف ألف دينار، أخذ بها عقاراً خراباً كان يساوي أضعاف ذلك، ثم عمره بجاهه، فتضاعفت قيمته. قلت: مثل هذا لا يعد كرماً، لأن هؤلاء الملوك عطاؤهم لخواصهم ومن يقربوه ويحبونه ليس بقياس ولا على قاعدة مطردة، فإن السلطان الملك الناصر محمد كان يعطي خواصه مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك والحجازي ويلبغا أضعاف هذا العطاء، وهذا الخواجا رشيد لم يكن عند قازان أحد في محله ولا في رتبته لأنه كان لا يثق إلا به، وهو جليسه وأنيسه ونديمه وطبيبه وطباخه، فلا يأكل إلا من يده أو من أيدي أولاده، وكانوا يطبخون الطعام له في قدور الفضة، ويغرفونها في الطياسي الذهب والجفانات الذهب، ويحملونها بأنفسهم إليه، ويقطع له الخواجا رشيد ويلقمه بيده. وكان بيد خواجا رشيد على هذه الوظيفة مغل بلدين، إلى غير ذلك من الأرزاق الواسعة، وكان يطلعه من أسراره على ما لا يطلع غيره عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ولما استقر غازان وثبتت قدمه قطع الراتب عن كاز خاناه السراي وجامعهم بتوزير وما كان لهم من قديم الزمان، فجاءته رسل ملك السراي وقالوا له: خرجت عن الياسا، فردهم أقبح رد، وقال: الياسا ما أقرره أنا، ويكفيكم سكوتي عنهم. قال نظام الدين يحيى بن الحكيم: إن هلاكو لما فتح البلاد لمنكوقان نزل نفسه منزلة النائب له، لا يخرج له عن أمر، فبعث يقول له: إن بركة آغا يعني ملك السراي ليس في بلاده صناع ولا لها كبير دخل، ويحتاج هو وعسكره إلى قماش فتكون له مراغة وتوريز، فسلمها إلى نواب بركة، فعمروا بها كازخاناة لاستعمال القماش، والكازخاناة عندهم بمنزلة دار الطراز عندنا، وبنو لهم جامعاً وظف له وظائف، وكتب عليهما اسمه. ثم كانوا فيما بعد يجرون للكازخاناة والجماع بعض خراج مراغة وتوريز، فقطع غازان ذلك رأساً، والجامع والكازخاناة إلى الآن باقيان، وعليهما اسم بركة. ثم أن قازان بعد ذلك تسمى بالقان وأفرد نفسه بالذكر في الخطبة وضرب السكة باسمه دون القان الأكبر، وطرد نائبه من بلاده، ولم يسبق قازان إلى هذا أحد من آبائه. بل كان هولاكو وجميع من جاء بعده لا ينزلون أنفسهم إلا منزلة نواب القان الأكبر، ولا يسمى أحد منهم بالقان، وإنما يقال السلطان فلان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 والسكة والخطبة للقان الأكبر دونهم، وإن ذكر لأحد منهم اسم، ذكر على سبيل التبع، وإن كانوا ملاك البلاد وحكامها، ولهم جباية الخراج، وإليهم العقد والحل والولاية والعزل. وقال قازان لما طرد نائب القان: أنا أخذت البلاد بسيفي، ما أخذتها بجنكزخان ولا بأحد. ولا يجسر أحد على مراجعته. ولهذا لا يقال ذهب هولاكي ولا أبغاوي ولا أرغوني، وما يقال إلا ذهب قازاني وذهب خربندي وذهب بوسعيدي. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: قال لي الأمير سيف الدين ظهير بغا - رحمه الله تعالى -: المغل تقول: " من رأى غازان ما فاتته رؤية جنكزخان ". ثم قال: مات ملك المغل من بعده. قال: فحكيت ما قاله للأمير سيف الدين أيتمش الناصري، وكان أعرف أهل زمانه بأحوال المغل، فقال: لا أخطأ إلا من رأى غازان ما فاتته رؤية هولاكو، ومن رأى أبغا ما فاتته رؤية جنكزخان، وما مات ملك المغل بعد غازان، وإنما ماتت ياسا المغل. قال: وقال لي ظهير بغا: كان غازان إذا اشتد غضبه، وهو جائع أكل، أو هو بعيد العهد بالنساء جامع، وتشاغل عن غضبه بهذا وأمثاله. وكان يقول: آفة العقل الغضب، ولا يصلح للملك أن يكون في عقله آفة. وقال: كان غازان إذا غضب خرج إلى وسيع الفضاء، ويقول: الغضب إذا خزنته ازداد، وإذا صرفته تصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وقال: كان يقول: الملك بلا رجال، شجرة بلا أغصان، والملك بلا مال، شجرة بلا ثمر، والملك بلا سلاح، شجرة بلا ورق، والملك بلا إحسان، شجرة بلا فيء. وقال: رمي بعض أولاد القانات بابنه، فقال الناس: ابن قان يكون بهذا، كيف يتفق هذا؟ فقال لهم غازان: ما العنب منه خمر وخل! وقال: ركب قازان يوماً فرساً، فلعب به، فقال له: معذور أنت، محمود غازان فوقك. فوقع عنه، فقال: لولا وقوع المطر على الأرض ما طلع النبات. انتهى. وضرب غازان في مدة ملكه سبع مصافات، منها ما حضره بنفسه، ومنها ما لم يحضره، فأولها المصاف الذي بينه وبين نوروز بن أرغون آغا، وكان هذا نوروز قد سعى لغازان حتى ملك، ثم وقع في خاطره أنه آن خروج المهدي، وأنه هو يكون الممهد له، فاستحال على غازان، وخرج غازان لقتاله، واستعان نوروز بالأكراد اللو، فانتصر غازان، وهرب نوروز إلى أقاصي خراسان، ثم لجأ إلى قلعة، فأمسكه صاحبها وقطع رأسه، وجهزه إلى غازان، فأنكر عليه غازان، وقال: كان قتل هذا إلى ما هو إليك، ثم إنه قتله به. والمصاف الثاني مع اللو الأكراد، لكونهم قاموا مع نوروز، فكسرهم كسرة عظيمة أبيعت فيها البقرة الفتية السمينة بخمسة دراهم، والرأس الغنم بدرهم، وأبيع الصبي البالغ الحسن الصورة باثني عشر درهماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 قال الإربلي: وقتل في هذه الواقعة أولاً وآخراً خمسون ألفاً. والمصاف الثالث كان مع عرب البطائح وواسط، وكانوا قد ملكوا عليهم شيخاً منهم يدعى عمران، وكان قد حاربه عز الدولة بن بويه عدة نوب، ولم ينتصف منه. والمصاف الرابع والخامس والسادس بالشام، نوبة حمص ونوبة الأطراف ونوبة شقحب، فانتصر في الأولى، وملك الشام مدة أربعة أشهر، وفي الثانية طلع رأساً برأس، وفي الثالثة كانت الكسرة على جيشه. والمصاف السابع كان من أهل كرمان بعد حصارها ونهب أموالها، وعف عن الدماء في الذراري والنساء. ولم يصدع حصاة قلبه ولا فل عرش قواه مثل نوبة شقحب، فإنها أماتته بغبنه غبناً، وكانت بغير رأيه، لأنه جهز قطلوشا بالعساكر ليغير بهم على حلب والأطراف، وأمره ألا يعدي حمص، فلما جاء إلى البلاد وجد عساكرها قد تقهقرت قدامه، والبلاد خالية، وليس للجيوش ولا للسلطان في الشام خبر، فظن أن كسرتهم نوبة حمص ما بقي لها خبر، فجاء إلى دمشق، ومر على ظاهرها وجره الطمع إلى مصر، لعله يملك لغازان مملكة الإسلام. فأنجز الله وعده، ونصر حزبه. ولما رجع قطلوشا شتمه وضربه وأوقفه يوماً في الشمس وحملها غازان على نفسه، فلم تتطاول به الأيام حتى مات. وقيل: إن بلغان خاتون سمته في منديل عقيب نكاحها. قال القاضي شهاب الدين: ولم يصح هذا، وإنما هذا شيء ادعته يلقطو بنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 أبغا، ومشت به إلى ملوك الإسلام، وكانت تكاتبهم، وادعت أنها حسنت ذلك لبلغان خاتون، لأن بلغان خاتون كان لها أرب فيه من هوى، وكانت تخافه، فقالت لها: أمرك ما بقي يخفى، فعاجليه وإلا فروحك رائحة. قال الإربلي: وكان غازان له نظر في عواقب الأمور وخبرةً تامةً بتدبير الملك، وكان يلتحق في أفعاله بجده الأكبر هولاكو، ولم يكن فيه ما يشينه، غير أنه كان مبخلاً، لكن كانت هيبته قوية، وكان الرعايا في أيامه آمنين. قلت: وخطب له على منبر دمشق في يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بحضور المغل، ودعي له على السدة، وقرئ مرسوم بتولية قبجق نيابة دمشق. وكان قد كتب غازان لأهل دمشق فرماناً بإشارة الأمير يوسف الدين قبجق ونسخته: بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومانات والألوف والمئات وعموم عساكرنا من المغول والتتار والأرمن والكرج وغيرهم ممن هو داخل تحت طاعتنا أن الله سبحانه وتعالى لما نور قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبي عليه السلام " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين " ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين غير متمثلين بأحكام الإسلام ناقضون لعهودهم، مخالفون لمعبودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ظالمون في أحكامهم المتغايرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 انتظام، وكان أحدهم " إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد "، وشاع الخبر أن شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي إلى حريمهم وأموالهم بالأذية، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. وارتكابهم الجور والاعتساف، حملتنا الحمية الدينية والحفيظة الإسلامية على أن توجهنا إلى هذه البلاد، لإزالة العدوان والفساد، مستصحبين الجم الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا إن وفقنا الله تعالى بحوله وقوته لفتح البلاد، أن نزيل عن أهلها العدوان والفساد، ونبسط العدل في العباد، ممتثلين الأمر الإلهي المطالع " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون "، وإجابة إلى ما ندب إليه الرسول عليه السلام: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في أحكامهم وأهليهم. وحيث كانت طويتنا مشتملة على هذه الطويلة الجميلة والنذور الأكيدة، من الله سبحانه وتعالى علينا بتبلج تباشير النصر المبين، وأتم علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فهزمنا العدة الطاغية، والجيوش الباغية، ففرقناهم أيدي سبا " ومزقناهم كل ممزق "، حتى " جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا ". فازدادت صدورنا انشراحاً للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 منخرطين في زمرة من حبب إليه الإيمان، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثقة والنذور المؤكدة، فصدرت مراسمنا العالية أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طبقاتهم بدمشق وأعمالها وسائر البلاد الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدي عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم وأطفالهم، وأن لا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه حتى يشتغلوا بصدور منشرحة وآمال منفسحة لعمارة البلاد وما هم بصدده من تجارة وزراعة. وكان في هذا الهرج العظيم وكثرة العساكر تعرض بعض نفر يسير إلى بعض الرعايا وأسرهم، فقتلنا منهم ليعتبر الباقون ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتة، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان من اليهود والنصارى والصابئة، فإنما يبذلون الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا، لأنهم من جملة الرعايا، قال عليه السلام: الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر وعامة الرعايا الاستبشار بهذا النصر الهني والفتح السني، وأخذ الحظ الوافر من الفرح والسرور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة والمملكة الظاهرة. وكتب بتاريخ خامس ربيع الآخر، وقرئ هذا الفرمان في الجامع، ونثر الناس عليه بعض دنانير وبعض دراهم. ولما نزل قازان على دمشق دخلها الأمير سيف الدين قبجق، وجلس بالعزيزية، وكتب للناس أمانات من جهته، وخطب يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بجامع دمشق لغازان، وقرئ مرسوم بولاية قبجق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 لدمشق. وفي رابع عشري جمادى الأولى خرج جماعة من القلعة وكسروا المجانيق التي للتتار بالجامع الأموي. ودقت البشائر، ورحل غازان عن دمشق بعدما أخذ أموالاً كثيرة وترك قبجق نائباً عليها، وعنده قطليشاه، ومعه جماعة من المغول. قال الشيخ وجيه الدين بن المنجا - رحمه الله تعالى -: الذي حمل من دمشق إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف أو ست مئة ألف درهم سوى ما تمحق من البراطيل والتراسيم وإن شيخ المشايخ الذي نزل بالعادلية حصل له ما قيمته ست مئة ألف والذي حصل للأصيل بن نصير الدين الطوسي مئة ألف درهم والصفي السنجاري ثمانون ألفاً. قلت: هذا خارج عما نهبه المغل والأرمن للناس من الصالحية ومن المدينة وضواحيها، ولعله يقارب هذا المقدار. وفي سادس عشري جمادى الأولى، نودي في دمشق بخروج الناس إلى البلاد والقرى والحواضر، وألا يغرر أحد بنفسه. وفي سابع عشري رجب أعيدت الخطبة للملك الناصر محمد قلاوون على منابر الجوامع بدمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 غازي بن داود بن عيسى بن محمد بن أيوب الأمير الملك المظفر بن الناصر صاحب الكرك بن المعظم بن العادل. كان رجلاً جيداً كبير القدر محترماً مبجلاً، عنده فضيلة وفيه تواضع. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن خطيب مردا، والصدر البكري. كان قد حج وزار القدس، وقدم دمشق وأقام بها مدة ثلاثة أيام. ثم إنه عاد إلى القاهرة فتوفي بها - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وست مئة بقلعة الكرك. ودفن بالقرفة، وصلي عليه بدمشق غائباً. غازي بن خطلبا شهاب الدين الصرخدي ثم الدمشقي. أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان المذكور جندياً ثم تصوف ثم استغل بالقاهرة وتعدل وقعد في الدكان يسترزق مع الشهود. وأنشدني لنفسه بباب المدرسة الفاضلية: فلولا حظوظ النفس ما كنت في الهوى ... أسيراً وفي بحر الهوى أنت غارق دع الكل والإخلاص إن كنت خالصاً ... وإياك والأوهام فهي العلائق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 إذا ما نظرت الخلق بالحق لن ترى ... سوى الحق إن الكل بالحق ناطق وأين السوى والغير إن كنت عارفاً ... سوى صور والسر في الكل فارق غازي بن عبد الرحمن بن أبي محمد شهاب الدين الدمشقي الكاتب المشهور المجود. كاتب كبت البروق وراءه وما لحقت غباره، ولا نشقت الرياض ريحانه ولا ملكت الملوك طوماره. لحق الولي التبريزي، فكان الولي وسيماً وهو وليه، وخطه تحت طبقته والولي عليه. وكتب عليه جماعة من الكتاب وأبناء الرؤساء وأرباب الآداب، وكان يدعي أنه كتب على الولي، والصحيح أنه كتب على ابن النجار، وأتى بما يخجل الجواهر والأحجار. ولم يزل إلى أن حقق الموت نسخه، وأوجب عقد الحياة فسخه. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع عشر شوال سنة تسع وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة. وكان قد أجاد قلم الرقاع، وكان يكتب الناس على طريق الولي التبريزي ويستحسنها ويقول: ما كتب أحد مثله، وكان يجلس في المدرسة العزيزية ويكتب الناس فيها مدة خمسين سنة وقبلها مدةً زمانية تحت مئذنة فيروز، وكتب عليه عامة من أجاد الخط في زمانه كشمس الدين محمد بن أسد النجار ونجم الدين بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 البصيص، وابن الأخلاطي، وغيرهم، وإن كان ابن النجار قد كتب على ابن الشيرازي فإن أكثر انتفاعه إنما كان بالشهاب غازي، وكان إماماً في التوفيق ومعرفته بالخط أكثر من كتابته باليد، ولكنه كان في لسانه سفه وبذاءة مع كل بنت شفه وغير ذلك. وكان قد سمع شيئاً من الحديث من ابن عبد الدائم، وروى، وسمع عليه الطلبة. غازي بن عمر بن أبي بكر ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب، الأمير شهاب الدين أخو المعظم عيسى بن المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل الكبير. أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. غازي بن أحمد الصدر الكبير، القاضي شهاب الدين المعروف بابن الواسطي الكاتب. كان صدراً كبيراً، ورئيساً تنقل في المباشرات حتى صار وزيراً، وعلا بكتابته وتدبيره محلاً أثيراً، إلا أنه ما كان يخلو من جور، وميل إلى تنقل من طور إلى طور، وكانت لديه فضيله، وأدب عنده منه نكت جليله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وكتب الإنشاء بالقاهرة، وأبرز طروسه كالرياض الزاهره، وكان خطه كالوشي إذا حبك، والذهب الخالص إذا سبك. ولم يزل إلى أن أضر، وقوبل بما أضمر وأسر، حق التحق بربه، وجره القبر إليه وضمه بتربه. ومولده بحلب، وكان من أبناء الثمانين رحمه الله تعالى وتوفي رحمه الله في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. خدم بديوان الاستيفاء نائباً في حلب، ثم خدم كاتب الجيش بها، ثم إنه توجه إلى مصر وخدم هناك في جهات، وحضر إلى حلب مستوفياً في دولة الظاهر بيبرس وصرف، وعاد إلى مصر ورتب بديوان الإنشاء. وكان يكتب خطأ حسناً، رأيت بخطه نسخة " المثل السائر " في مجلدة واحدة في غاية الحسن. ثم إنه ولي نظر الصحبة في الأيام المنصورية. ورافق الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعي سنة اثنتين وثمانين وست مئة والأقرعي مشد الصحبة وصادرا الناس وعاقباهم، ووصل أذاهما إلى القضاة. ثم إنه ولي نظر حلب في الدولة الناصرية إلى سنة اثنتين وسبع مئة، وصرف، ثم إنه ولي نظر الدواوين بدمشق، ثم إنه صرف وأعيد إلى حلب وقد ضعف نظره جداً، وتوفي بها رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وكان قد وصل من مصر إلى دمشق متولي النظر بها عوضاً عن شرف الدين بن مزهر في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 غازي بن قرا أرسلان بن ارتق ابن غازي بن ألبي بن تمرتاش بن غازي بن أرتق، الملك المنصور نجم الدين بن الملك المظفر فخر الدين بن الملك السعيد نجم الدين بن الملك المنصور ناصر الدين صاحب ماردين. أقام في سلطنة ماردين نحو عشرين سنة، وليها بعد أخيه السعيد داود، وولي بعده الأمير علي ولقب بالملك العادل، فبقي سبعة عشر يوماً، ومات رحمه الله تعالى وولي بعده أخوه الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور، وكان المنصور رجلاً سميناً بديناً إذا ركب يكون خلفه محفه دائماً خوفاً من تعب يحصل له، فتكون المحفة مهيأة، ولما مرض أخرج أهل السجون وتصدق. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شهر ربيع الآخر في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ودفن رحمه الله تعالى بمدرستهم تحت القلعة عند أبيه وأجداده، رحمهم الله تعالى أجمعين، وكان شيخاً في عشر السبعين. اللقب والنسب أولاد ابن غانم: جماعة، منهم القاضي شمس الدين محمد بن سلمان بن حمايل، وهو والد الرؤساء الإخوة: الشيخ علاء الدين علي، وأولاده بدر الدين محمد وجمال الدين عبد الله، ونجم الدين أحمد، والشيخ شهاب الدين أحمد وولده تاج الدين عبد الله وأمين الدين إبراهيم. والشيخ حسام الدين سلمان بن حسن. والشيخ بهاء الدين أبو بكر، وولده شهاب الدين أحمد. والشيخ أبو الحسن عبد الله. وجمال الدين عمر بن محمد بن سلمان. وفخر الدين عثمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 والغانمي: إبراهيم بن يونس. والغافقي: النحوي إبراهيم بن أحمد بن عيسى. الغالب بأمر الله: صاحب الأندلس إسماعيل بن الفرج. ابن غاليه: المسند يوسف بن أحمد. الغتمي: نائب الرحبة، حسام الدين لاجين. الغزي: بدر الدين حسن بن علي، أخوه الحسين بن علي، الشيخ محمد المنجم. الغرافي: إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن، وتاج الدين علي بن أحمد بن عبد المحسن. ابن غنوم: صدر الدين يوسف بن أحمد. الغوري: محمد بن الحسين. غنايم بن إسماعيل بن خليل الشيخ الصالح أبو محمد التدمري الخواص بقرية راوية بقبر الست من غوطة دمشق. كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح والديانة من البيانية. سمع من الشيخ تقي الدين بن الواسطي، وكان عنده فهم، وله شعر، ويحفظ جملة من اللغة. وكان حسن الأخلاق، أخبر باليوم الذي، يموت فيه وصدق. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري شهر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، تجاوز الثمانين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 حرف الفاء فارس بن أبي فراس بن عبد الله الجعبري الحوائصي، الشيخ الصالح المعمر أبو محمد. أجاز لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة. النسب واللقب الفارسي: علاء الدين علي بن بلبان. الفاروثي: نصير الدين عبد الله بن عمر. الفاتولة: عبد الله. الفار الشطرنجي: أحمد بن محمد. الفارقي: جماعة منهم: سعد الدين سعد الله بن مروان. الفارقي النحوي الكفري: سليمان بن أبي حرب. رين الدين الخطيب: عبد الله بن مروان. الفاشوشة الكتبي: إبراهيم بن أبي بكر. الفارغ الحموي: أمين الدين عبد الحق بن أبي علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر الشيخة المعمرة المسندة العابدة، أم محمد البطائحية البعلية، والدة الشيخ إبراهيم بن القريشة، وقد تقدم ذكره في الأباره. سمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي، وسمعت من العلامة الحصري صحيح مسلم. وحدثت في أيام ابن عبد الدائم، وطال عمرها، وروت الصحيح مرات. سمع منها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وسراج الدين بن الكويك، وتقي الدين بن أبي الحسن، وابن شيخنا الذهبي، وعدد كثير. وتوفيت - رحمها الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولدها سنة خمس وعشرين وست مئة. 1335 - ... فاطمة بنت إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر المقدسية الصالحية المعمرة، خاتمة أصحاب إبراهيم بن خليل، وآخر من حدث بالإجازة في الدنيا عن محمد بن عبد الهادي، وابن السروري، وابن عوة، وخطيب مردا، وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 توفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة سبع وأربعين وسبع مئة. فاطمة أم عبد الله ابنة الشيخ الإمام المقرئ المحدث جمال الدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن سعد الله بن عبد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي. كانت امرأة صالحة، وقفت وبرت أهلها وأقاربها في حياتها. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن أكثر من مئة شيخ، منهم - بالسماع - المسلم المازني، وكريمة، وابن رواحة. وبالإجازة المجد القزويني، والحسين بن صصرى، والفتح بن عبد السلام، والداهري، وابن عفيجة، والحسن بن الجواليقي، وأحمد بن النرسي، وعبد السلام بن سكينة، والمهذب بن قنيدة، والأخوان ابنا الزبيدي وعبد اللطيف بن الطبري، ومحاسن الخزايني، وشرف النساء بنت الأنبوسي، وجماعة من البغداديين وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وقرأ عليها شيخنا الذهبي قبل موتها بيوم، وحضر معه جماعة، وأسمعت كثيراً. وكان لها إجازات من العراق وأصبهان ودمشق. وتوفيت رحمها الله تعالى ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبع مئة. ومولدها تقريباً سنة عشرين وست مئة. فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح الشيخة المفتية الفقيهة العالمة الزاهدة العابدة، أم زينب البغدادية الحنبلية الواعظة. كانت تصعد المنبر وتعظ النساء، فينيب لوعظها، ويقلع من أساء، وانتفع بوعظها جماعة من النسوه، ورقت قلوبهن للطاعة بعد القسوة، كم أذرت عبرات، وأجرت عيوناً من الحسرات كأنها أيكية على فننها، وحمامة تصدح في أعلى غصنها. وكانت تدري الفقه وغوامضه الدقيقه، ومسائله العويصه، التي تدور مباحثها بين المجاز والحقيقه. وكان ابن تيمية رحمه الله تعالى يتعجب من عملها، ويثني على ذكائها وخشوعها وبكائها. وبحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض وراجت، وزخرت بحور علومها وماجت، فلو عاينتها لقربت من الشيخ تقي الدين في تفضيلها. ولن أقصيه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وقلت له: هذه التي يصح أن يقال عنها: إنها بأربع أخصية، لأنها مونثة قد تفردت بالتذكير، وعارفة لم يدخل على معرفتها تنكير. ولم تزل على طريق سداد واعتداد من الازدياد إلى أن فطم من الحياة رضاعها، وآن من الدنيا ارتجاعها. وتوفيت رحمها الله تعالى بالقاهرة في يوم عرفة سنة أربع عشرة وسبع مئة. انصلح بها جماعة نساء في دمشق وبصدقها في وعظها وتذكيرها وقناعتها، تحولت بعد السبع مئة إلى مصر، وانتفع بها في مصر من النساء جماعة، وبعد صيتها وكانت قد تفقهت عند المقادسة بالشيخ شمس الدين وغيره. حكى لي غير واحد أن الشيخ تقي الدين بن تيمية قال: بقي في نفسي منها شيء، لأنها تصعد المنبر، وأردت أن أنهاها، فنمت ليلة، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فسألته عنها. فقال: امرأة صالحة، أو كما قال. وحكى لي أيضاً أنها بحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض، وراجت عليه. ثم قالت: أنت تدري هذا علماً، وأنا أدريه علماً وعملاً. فاطمة بنت محمد بن جميل بن حمد ابن حميد بن أحمد بن عطاف، الشيخة الصالحة المعمرة، أم محمد البغدادية المولد، الدمشقية. سمعت من والدها، وأجاز لها السلفي أجازت لي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب عنها بإذنها عبد الله بن المحب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. فاطمة بنت القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد أم الحسن ابنة شيخنا الإمام علم الدين البرزالي. نقلت من خط شيخنا ولدها، رحمها الله تعالى، قال: أحضرتها سماع الحديث، ولها ثلاثة أيام، حضرت على ابن الموازيني، وفاطمة بنت سليمان، وابن مشرف، والمخرمي، وفاطمة بنت البطائحي، والفخر إسماعيل بن عساكر، وجماعة. وسمعت من القاضي بهاء الحنبلي، وإبراهيم بن النصير، وعيسى المطعم، وأبي بكر بن عبد الدايم والبهاء بن عساكر، وابن سعد، وجماعة من الشيوخ. وسمعت صحيح البخاري على ست الوزراء بنت ابن المنجا، وحفظت من الكتاب العزيز، وتعلمت الخط، وكتبت ربعة ظريفة، وكتاب " الأحكام " لابن تيمية، و" صحيح البخاري "، وكملته قبل موتها بأيام قليلة. قلت: ونسختها هذه بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها، وينقل منها. قال: وكتبت غير ذلك، وحجت، وسمعت بطريق الحجاز، وحدثت بالحرمين الشريفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وكانت امرأة مباركة محافظة على الفرائض والنوافل، لها اجتهاد وحرص على فعل الخير، تجتهد يوم دخول الحمام أن لا تؤخر الفريضة عن وقتها، لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتجتهد في الخروج، لإدراك العصر، وكذلك تسارع في قضاء أيام الحيض من شهر رمضان تصومها وتعجلها وتحتاط فيها، وكانت فيها مودة، وخير وعقل ومعرفة وخير لم يفارقها قط. وتزوجت نحو خمس سنين، ولم تخرج من البيت، وما رأيت منها إلا ما يسرني، وكنت إذا رأيتها تصلي أفرح وأقول: أرجو الله أن ينفعني بها، فإنها كانت تصلي صلاة مكملة، وتجتهد في الدعاء، ولم تسألني قط شيئاً من الدنيا، ولا شراء حاجة. وانتفعت بها في الدنيا وأرجو أن ينفعني الله بها في الآخرة. واعتبرت الشيوخ الذين سمعت منهم فوجدتهم مئة وخمس وثمانين نفساً. وتوفيت رحمها الله تعالى في يوم الاثنين حادي عشري صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند تربتهم خارج الباب الشرقي. ومولدها يوم الجمعة سادس عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وسبع مئة. فاطمة بنت الخشاب نقلت من خط القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: بلغني عنها وقد سكنت قريباً مني أنها تجيد النظم، فكتبت إليها لأمتحنها في شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة: هل ينفع المشتاق قرب الدار ... والوصل ممتنع على الزوار يا نازلين بمهجتي وديارهم ... من ناظري بمطمح الأبصار هيجتم شجني فعدت إلى الصبا ... من بعد ما وخط المشيب عذاري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 أني اهتديت، وليلتي مسودة ... وضللت حين أضاء ضوء نهاري عهدي بأني لا أخاف من الردى ... فحذار من لحظ العيون حذار لا أرهب الليث الهزبر مجاوراً ... داري، وأرهب من جوار جوار الصائبات بلحظهن مقاتلي ... هل للسهام لدي من أوتار يا جيرتي الأدنين حقي واجب ... إن كنتم ترعون حق الجار ليلي بكم أدب الزمان مقسم ... ما بين تسهيد إلى أفكار يا جيرةً جار الزمان ببعدهم ... وهم بأقرب منزل وجوار إني سمعت صفاتكم فسكرت من ... طربي بغير مدامة وحمار وهويت بالأخبار حسنكم كما ... تهوى الجنان بطيب الأخبار يا معرضين وما جنيت إليهم ... ذنباً سوى وجدي وقرب ديار ميلوا إلي فللغصون تمايل ... حتى تقبل أوجه الأنهار وتلفتوا نحوي التفات أوانس ... إن الأوانس غير ذات نفار واجلوا محاسنكم لأحظى بالذي ... قد كنت أسمعه من الأخبار لا تحسبوا أن السفور نقيصةً ... أو ما ترون مطالع الأقمار أو تحسبوا أني أضيع سركم ... وأنا المعد لمودع الأسرار أيجوز أن أظمأ وورد نداكم ... صفو من الأقذاء والأكدار وأموت من دائي وفي أيديكم ... طبي من الأسقام والأخطار ولقد عرفتم في الأنام بمنطق ... عذب المذاقة طيب المشتار فحويتم حسن الصفات مؤيداً ... بمحاسن الأقوال والآثار بمحاسن تهب العقول بلاغة ... وبلاغة تذر المفوه عاري أخرستم الفصحاء إذ أنطقتم ... من لا يجيز القول بالأشعار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فبعثت من نظمي قلادة أدمع ... نثرت لآليها بلا استعبار نفثات مصدور الفؤاد متيم ... عجزت موارده عن الإصدار قال: فكتبت الجواب إلي: إن كان غركم جمال إزاري ... فالقبح في تلك المحاسن واري لا تحسبوا أني أماثل شعركم ... أنى تقاس جداول ببحار لو عاصر الكندي عصركم رمى ... لكم عوالي راية الأشعار أقصى اجتهادي فهم ظاهر نظمكم ... لا أنني أدعى دعاء مجار من قصرت عنه الفحول فحقه ... أن ليس يبلغه لحاق جواري ولربما استحسنت غير حقيقة ... فإذا سفرت أشحت بالأبصار لست الطموح إلى الصبا من بعدما ... وضح المشيب بلمتي كنهاري قلت: هذا الشعر كثير من امرأة في مثل هذا الزمان، ولعلها أشعر من ذكران كثيرين في عصرنا، وممن تقدمنا أيضاً، وما أحسن ما استعملت لفظ جواري هنا في القافية. اللقب والنسب ابن الفاكهاني: عمر بن علي. ابن الفراء: مقدم البريدية، الأمير علاء الدين علي بن عبد الرحمن. ابنه ناصر الدين محمد بن علي. ابن الفرات: عز الدين عبد الرحيم بن علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فخرية بنت عثمان أم يوسف البصروية، الحاجة الصوامة القوامة العابدة الزاهدة، زاهدة عصرها، وفريدة دهرها. رفضت الدنيا، ولم ترض إلا بالمنزلة العليا، خرجت عن أهلها ومالها، وتقوتت في القوت ببعض حلالها، وانزوت بحرم القدس الشريف، وتبرأت عن التالد والطريف، وقنعت من العيش الرغيد بكوز ماء ورغيف. واشتهر أمرها، وعرف الناس خبرها، وأعرضت عن الدنيا الفانيه، وأصبحت وهي لرابعة ثانيه. وجرب الناس لها أحوالاً، وصدقوا منها مقاماً ومقالاً. وكان لها كرامات، وعن وجوه الدنيا انصرافات وانصرامات. وكانت تتمنى أن تموت بمكة، وتدفن إلى جانب قبر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. فسمع الله لها هذه الأمنية واستجاب منها. وتوفيت رحمها الله تعالى في مستهل صفر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة عن ست وثمانين سنة. حكى لي أخوها الأمير صفي الدين أبو القاسم البصروي، قال: حمل إليها أخي نجم الدين ستة عشر ألف درهم مما يخصها، فتصدقت بالجميع في جلسة واحدة، ولم تترك منها درهماً واحداً. كانت تستقي ماء الوضوء بنفسها ولا تستعين بأحد. ولما حجت في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، قالت عند منصرف الحاج للذي قد توجه يخدمها من جهة أخيها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 انصرف ودعني في حالي، فأنا إذا دخل الحجاج إلى دمشق التحقت بربي، وكان الأمر كما ذكرت، وتوفيت رحمها الله تعالى مستهل صفر، ودفنت إلى جانب قبر خديجة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأقامت بالقدس منقطعة أربعين سنة تقف على باب الحرم تصلي إلى أن يفتح الباب فتكون أول داخل إليه، وآخر خارج منه، وتقتات بشيء يسير مما يحضر إليها من ملكها، وهو قريب من مئتي درهم، وتؤثر الفقراء والمساكين بالباقي. وطار ذكرها في الآفاق، ودخل إليها الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مرات، ومعه الذهب، ويخرج به وما تقبل منه شيئاً. وسيأتي ذكر أخيها صفي الدين أبو القاسم، وذكر أخيها نجم الدين محمد بن عثمان في مكانيهما، إن شاء الله تعالى. فرج بن قراسنقر الأمير جمال الدين بن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، وأخوه الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره، كان جميل الصورة حسن الشكالة. توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات. وهو والد الأمير جمال الدين فرج أيضاً. الفرجوطي: محمد بن محمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فرج بن محمد بن أحمد الشيخ الإمام العالم نور الدين الأردبيلي، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة وياء آخر الحروف ساكنة ولام، الشافعي، مدرس المدرسة الناصرية الجوانية بدمشق، داخل باب الفراديس، والمدرسة الجاروخية. كان عالماً ديناً، فاضلاً صيناً، منجمعاً عن الناس، مباعداً من لا يشاكله من الأجناس. وله إلمام بالكشاف يعرفه ويقريه، ويسبغ كؤوس ما فيه من المشكل ويمريه. وعلق على منهاج الشيخ محيي الدين النواوي في مواضع منه مفرقة في نحو ستة مجلدات. ولم يزل على حاله إلى أن طفي نوره، وغلب على نهاره عيشه ديجوره. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ورد إلى دمشق ولازم شيخنا العلامة شمس الدين الأصفهاني مدة مقامه في دمشق ولم يفارقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 ولما توفي الشيخ كمال الدين بن الشيرازي تولى عوضاً عنه تدريس المدرسة الناصرية في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة. اللقب والأنساب ابن فرج الإشبيلي: شهاب الدين أحمد بن فرج. ابن فرحون: علي بن محمد. أبو الفرج، ولي الدولة ابن الخطير تقدم في الدولة لما ظهر النشو صهره، وأضاء في سماء المعالي بدره، خدم عند كبار الأمراء الناصريه، وتطفل الأمراء على خدمته لهمته السريه، وخضع الناس له ودانوا، وتطامنوا لترفعه واستكانوا. وكان حلو الصورة لطيف الإشارة، عذب الكلام، طلق العباره، فصيحاً في نطقه، مليحاً في خلقه وخلقه، يحفظ ما راق من شعر المتأخرين، ووقائع المعاصرين النازلين والمفتخرين، ويندب ما هو أرشق من حركات القدود المشوقه، وألطف من إشارات العيون المعشوقه، ويذوق الأحجية النحوية ويضعها بلا كلفه، ويأتي بها وهي أحسن من البدر إذا تطلع في السدفه، حتى كنت أعجب منه ومن اقتداره، مع عدم اشتغاله بما يعينه في هذا الفن إذا جرى في مضماره، وأما التصحيف فكان لا يتكلف فهمه ولا يرد من الإصابة فيه سهمه، وأما التورية والاستخدام، فكانا له من أطوع الأرقاء والخدام، يذوقهما حال ما يطرقان سمعه، ويقد ذهنه لفهمهما كأنه شمعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ثم اشتملت عليه قافية صهره، وجرته إلى الردى، فصودر وقاسى من القلة ما رق له منه العدا، ثم أعان الله وأفرج عنه، وعادت له الدولة لتأخذ حظها منه. ثم إن الزمان استدرك عليه ما فرط، وأوقعه في أحبوله الوهم والغلط، فسمروا شخصه على جمل، وشمروا إليه ذيل الأجل، وفاز عدوه بالسرور والشمات، وقال وليه: " علو في الحياة وفي الممات ". وكان قد أسلم فما سلم، وحكم الله فيه بما علم، وحل بمن يعرفه هجوم الوجوم، " وعند الله تجتمع الخصوم ". وكانت واقعته في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في شهر ربيع الأول. كان ولي الدولة هذا قد تزوج وهو نصراني، بأخت القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قبل اتصال النشو بالسلطان، ولما تولى النشو الخاص عظم ولي الدولة، وزادت وجاهته، وتقدم على إخوة النشو. وخدم عند الأمير سيف الدين أرغون شاه، ثم إنه انفصل من عنده وخدم عند الأمير علاء الدين طيبغا المجدي، وتحدث في ديوان الأمير سيف الدين بهادر المعزي، وهو أمير مئة مقدم ألف من أمراء المشورة، وفي ديوان الأمير سيف الدين طقبغا، وزادت وجاهته، فلما أمسك القاضي شرف النشو وجماعته، أمسك هو في الجملة، ولكنه دخل إلى السلطان، وقال: والله يا خوند أنا ما أحمل عقوبة، وأنا أحمل موجودي، فإن بلغ مولانا السلطان أنه بقي لي درهم واحد، خذ روحي، فأمر السلطان بأن لا يعاقب، وسلم تلك المرة إلا من ضرب يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وتوفي النشو تحت العقوبة وأهله، وبقي ولي الدولة وأخوه الشيخ الأكرم في الاعتقال بعدما استصفي موجودهما. وكان قد عمر داراً على بركة الفيل في حكر أزدمر الشجاعي فأبيعت في جملة موجوده، وموجود أخيه، ولما مرض السلطان الملك الناصر محمد مرضه الذي مات فيه، أفرج عن ولي الدولة وعن أخيه فيمن أفرج عنه من الاعتقال بالشام ومصر. وكان الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي يعرف ولي الدولة، لأن مجد الدين رزق الله أخا النشو، كان كاتبه، فطلب من الملك المنصور أبي بكر، فرسم به له، فأخذه وأسلم على يده وبقي عنده. وعاد إلى تلك العظمة بزائد، ورمي بأشياء مما أوجبت خلع المنصور، وأوحى أعداؤه إلى الأمير سيف الدين قوصون ما أوحوه، فقبض عليه، وحسنوا له تسميره، فأخرج من محبسه وسمر على جمل، وهو لابس بسنجاب وشغلوا قدامه الشموع، وطافوا به بالمغاني في شوارع القاهرة، ثم قضى الله أمره فيه. وبلغني أنه وقف قدام دكان الشهود على باب خانقاه " سعيد السعداء ". وقال: يا مسلمين اشهدوا أنني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله لم يبد شيء مما رميت به، ولكن لي ذنوب، وخطايا تقدمت، هذا بها. فرج الله بن علم السعداء الصدر الرئيس أمين الدين بن العسال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 دخل هذا هو وأخوه سعد الدين أسعد بن علم السعداء إلى القاهرة عقيب ما جرى للنصارى ما جرى من إلزامهم بلبس الأزرق وشد الزنار، فأنفا من ذلك وأسلما. وكان هذا أمين الدين صدراً محتشماً، فيه مكارم ومروءة، ورأى من السعادة في دمشق ما لا رآه أمثاله، وباشر صحابة الديوان مدة، ولما غضب تنكز على ابن الحنفي ناظر ديوانه، وتوفي رحمه الله، تولى أمين الدين نظر ديوانه، فأقام به مدة، ثم إنه عزل منه، وعاد إلى صحابة الديوان، وعمر القاعات المليحة المشهورة عند " قناة صالح " داخل دمشق، واجتهد وسعى، فزوج صلاح الدين يوسف ابن أخيه، الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى، بابنة الصاحب شمس الدين غبريال. ولم يزل في سعادة وصدارة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبع مئة. النسب والألقاب الفرسيسي: فخر الدين علي بن عثمان. الفزاري: الخطيب شرف الدين أحمد بن إبراهيم. الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن. والده تاج الدين عبد الرحمن. ابن أبي الفصيح: فخر الدين أحمد بن علي. وجلال الدين عبد الله بن أحمد. والدمرندري عبد الرحمن بن العليم. الفصيح: المغني عبد العزيز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فضل الله بن عمر بن أحمد بن محمد القاضي بدر الدين بن إمام الدين القزويني الشافعي. قدم دمشق للحج، ونزل بتربة أم الصالح عند ابن أخيه القاضي إمام الدين والخطيب جلال الدين. وحصل له ضعف فلم يمكنه السفر. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وتسعين وست مئة، وشيعه الخلق إكراماً لأخويه. وكان مع شيخوخته يكرر على الوجيز، وكانت له حلقة إقراء بتبريز، ثم ولي قضاء بنسكار بلده بالروم، وكانت له معرفة بالحساب وغير ذلك. فضل الله بن أبي بن الخير الخير عالي رشيد الدولة، فخر الوزراء، مشير الدول الهمذاني، الطبيب العطار والده. أسلم هو، ومات والده يهودياً على دينه، وجرى القضاء بسعد ولده هذا في ميادينه، واتصل بغازان محمود، وخدمته في خدمته السعود، فقربه نجيباً، وقر به عيناً لما استقر به صفياً، وعظم شأنه، وعلا بتمكنه مكانه، ولم يكن عنده أحد في محله، وحكمه في حرمه وحله. ثم إنه اتصل بعده بخربندا، فزاده على ذلك وعقد له لواءً من السعد وبندا، وزاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 علواً، واستفاد غلوا، وكثرت أمواله، وامتدت آماله، وصار في عداد الملوك، ونظمت جواهر سعوده في السلوك. ثم إن الدهر تيقظ، وتيقن هلاكه وما تحفظ، فنقض ما أبرم، ونفض ما أكرم، ولما طبب خربندا ومات، نزل به المكروه والشمات، وشغب عليه الوزراء، علي شاه وأمثاله، وصادره من المقدور حبائله وحباله، فدارى عن نفسه بقناطير من الذهب، ودفع جملاً من الجواهر، فما أفاد، لأن عمره ذهب. وقتل هو وابنه قبله، وذبحوهما على غير قبله، وذلك في سنة ست عشرة وسبع مئة. وقال الشيخ علم الدين البرزالي: في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ولما قتلوه فصلوا أعضاءه، وبعث إلى كل بلد بعضو من أعضائه، وأحرقت جثته، يقال: إن جوبان أخذ منه ألف ألف مثقال. وكان فيه حلم وتواضع وسخاء وبذل للعلماء والصلحاء، وكان ذا رأي ودهاء ومروءة، وفسر القرآن، وأدخل فيه الفلسفة. ويقال: إنه كان جيد الإسلام - رحمه الله تعالى - ولما مات خلف بنين وبنات، وعمائر فاخرة، وأموالاً لا تحصر، وأحرقت تآليفه بعده. ثم وزر ابنه محمد بعده سنوات، وتمكن أيضاً وسيأتي ذكره في مكانه. وكان قد نسب رشيد الدولة إلى أنه سقى خربندا السم، فطلبه جوبان على البريد السلطانية، وأحضره بين يديه، وقال له: أنت قتلت القان. فقال: كيف أفعل ذلك، وأنا كنت رجلاً طبيباً عطاراً ضعيفاً بين الناس، فصرت في أيامه وأيام أخيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 متصرفاً في أمول المملكة، ولا يتصرف الأمراء والنواب إلا بأمري، وحصلت من الجواهر في أيامهما ما لا يحصى؟. وأحضر الجلال الطبيب ابن الحزان طبيب خربندا، فسألوه عن موت خربندا، وقالوا: أنت قتلته؟ فقال: الملك أصابته هيضة قوية فانهل بسببها ثلاث مئة مجلس، وتقيأ قيئاً كثيراً، فطلبني وعرض علي هذا الحال فاجتمع الأطباء بحضور الرشيد على إعطائه أدوية قابضة مخشنة للمعدة والأمعاء. فقال الرشيد: عنده امتلاء، وهو يحتاج إلى الاستفراغ بعد فسقيناه برأيه دواء مسهلاً، فانسهل به سبعين مجلساً، فمات، وصدقه الرشيد على ذلك. فقال الجوبان فأنت يا رشيد قتلته، فأمر بقتله. واستأصلوا جميع أمواله وأملاكه، وقتلوا قبله ولده إبراهيم، وكان عمره ست عشرة سنة. وحمل رأس الرشيد إلى تبريز، ونودي عليه هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله تعالى، وقطعت أعضاؤه وحمل كل عضو إلى بلد، وأحرقت جثته، وقام في ذلك الوزير علي شاه التبريزي، وقال بعضهم: إن الوزير كان ملحداً عدواً للإسلام. قال شيخنا علم الدين البرزالي: ولما قدم علينا الشيخ تاج الدين الأفضلي التبريزي حاجاً إلى دمشق في رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة. فذكرناه، فذكر قتل الشيخ والنداء عليه. وقال: قتله أعظم من قتل مئة ألف نصراني، فإنه كان يكيد الإسلام. قال الإربلي: الأفضلي كان قد تكلم في الرشيد مرة، وهو يهودي، وقد بدل كلام الله، فقصده الرشيد لينتقم منه، فاختفى الأفضلي منه مدة، ثم وقعت فيه شفاعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فعفى عنه وطلبه إليه، وطيب قلبه وخلع عليه خلعة سنية، فلم يقبلها منه، وبقي في نفس الأفضلي منه إلى الآن يذمه حياً وميتاً. والرشيد ما دخل في الإسلام كرهاً، وقد كان يناصح المسلمين ويخدمهم في كل الأحوال. قلت: وحكى لنا نجم الدين قاضي الرحبة ما رآه الرشيد من الشفاعة على أهل الرحبة، وحقن دمائهم، وكيف ساعدهم على خلاصهم من التتار، وإصلاح أمورهم مع الملك الناصر، وله في تبريز عظيمة من البر، وكان مشغولاً بسعادته عن معاداة الإسلام وكيده، ولم يكن يتبع إلا أعداه، ومن يقصد أذاه وسواء أكان مسلماً أو كافراً أو صالحاً أو فاسقاً. فضل بن عيسى الأمير الكبير شجاع الدين أخو الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى. كان ذا رأي وفضل، وخير عدل، وهمة بلغت السماك، وعزمة ليس لها عن الحزم انفكاك. تولى إمرة آل فضل سنين عديده، ونزل من السعادة بروجاً مشيده، وأخذها منه موسى ابن أخيه في وقت وأعيدت إليه مع عود المقة وذهاب المقت. وكان خبيراً بأخلاق السلطان، درباً بأحوال العربان، قد خبرهم وجربهم، وصرفهم على ما أراد، وسر بهم لما سر بهم، وكثرت إقطاعاته وأمواله، وزادت مواشيه وغلاله، ونمت عبيده وإماؤه، ومطرته بالسعادة والأمن سماؤه. ولم يزل على حاله إلى أن فض لفضل ختم القبر وكسر كسراً ماله جبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وتوفي رحمه الله تعالى ... ورأيته برحبة مالك بن طوق. وكان إذا وردت جماله الفرات يظن الإنسان أن الله تعالى قد ملأ الفضاء جمالاً، وبلغني هناك أنه دفن في بعض دفائنه في تلك الأراضي قدراً فيها ثمانون ألف دينار، وضاع المكان منه ولم يقع له على خبر. وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أخذ الإمرة من أخيه مهنا لما خرج عن الطاعة في واقعة قراسنقر، وأعطاها للأمير شجاع الدين فضل، وغضب عليه في وقت وأعطاها للأمير مظفر الدين بن مهنا، ثم أعادها إلى الفضل. فضل بن عيسى بن قنديل الشيخ الزاهد العابد الصالح العجلوني. كان مقيماً بالمدرسة المسمارية. كان مشهوراً بالخير والصلاح، وتعبير الرؤيا، اشتغل في ذلك على الشيخ شهاب الدين العابر الحنبلي. وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وعرض عليه خزن المصحف العثماني، فامتنع. وكان لا يقبل أحد شيئاً. وحضر إليه الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - و وزاره وهو في بيته في المدرسة المذكورة. مولده سنة تسع وأربعين وست مئة. ودفن بمقبرة الصوفية قريباً من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحضر جنازته القضاة، والأمراء والأعيان والجم الغفير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الألقاب والأنساب ابن فضل الله: جماعة منهم: شهاب الدين أحمد بن يحيى. ولده شرف الدين عبد الوهاب. القاضي محيي الدين بن فضل الله. أخوه القاضي شرف الدين عبد الوهاب. بدر الدين محمد بن يحيى. فضيل بن عربي بن معروف بن كلاب الجرفي والجرف: قرية ببلاد أدفو. كان رجلاً مباركاً متورعاً متطوعاً، يحكي عنه أهل تلك الناحية حكايات عجيبة من الكرامات والصلاح. قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: قال لي بعض الجرفية: إني زرعت أنا وهو مقثاةً، فظهر فيها بطيخة كبيرة. وكان بعض الفلاحين يشتهي أن يسرقها، ويخشى من الشيخ فضيل، فقطعها ودفعها إليه، وقال: خذها حلالاً. وحكى لي نفيس الخولي، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، قال: رأيت في النوم ثعباناً كبيراً وقصدني ثم صار إنساناً. وقال لي: تب عن القضية الفلانية، فوقع في نفسي أنه فضيل، فلما وصلنا إلى الجرف قلت له: يا شيخ فضيل أنا من قبيل أن تعاملني بهذه المعاملة؟ فقال: ما هي؟ القضية الفلانية؟ نعم أنا هو. قال: وحكى لي الجرفية: أنه كان يوماً بأدفو، فركبوا إلى أن وصلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 إلى قلاوة الكوم - وهي أرض كشف - فوقف في مكان، وحوق حواقة، وقال: ادفنوني هاهنا، ثم توجه إلى بيته، فأقام ثلاثة أيام أو نحوها. وتوفي - رحمه الله تعالى - ودفناه بتلك البقعة وبينها وبين مسكنه مسافة طويلة. الألقاب والأنساب ابن الفقاعي: جمال الدين إسماعيل بن محمد. ابن الفهاد القوصي: محمد بن إبراهيم. ابن أبي الفوارس: محمد بن مجاهد. ابن الفوطي: كمال الدين المؤرخ، عبد الرزاق بن أحمد. ابن الفويرة: جمال الدين يحيى بن محمد. ووالده بدر الدين محمد بن يحيى وعلاء الدين علي بن يحيى. ابن الفوية: محمد بن أحمد. فيروز الأمير نجم الدين أحد أمراء الطبلخانات بصفد. كان في شكله قصيراً، إلا أنه في الحرب كان يرى بصيراً، فيه شجاعة وإقدام، وثبات عند الوثبات لا تزحزح له الأقدام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 وكان ذا تجمل وافر، واضطلاع بأمر الإمرة متظافر، كثير الرخت، وافي الحظ من ذلك والبخت، يتجمل في خروجه إلى الأيزاك، ويظهر بجماعة من الجند الذين تهول أشكالهم من الأتراك، وكان لصفد به جمال، ولبدر ذكرها في البلاد به كمال. إلى أن كتب نائبها الحاج أرقطاي في معناه إلى السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأمر باعتقاله في قلعة صفد. فأقام بها معتقلاً نحواً من خمسن سنين. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - شفع فيه. فأفرج عنه، وحضر إلى دمشق بطالاً. ولم تطل مدته حتى توفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثلاثين وسبع مئة تقريباً. وكان يرميه أهل صفد بأنه ظفر بإكسير كان مع بعض المغاربة، وأنه تزوج بامرأة المغربي، وأخذه منها. وعمر بصفد داراً حسنة بالنسبة إلى صفد وعمل إلى جانبها تربة مليحة ومسجداً، ونقل غالب أحجار الدار من عكا. وأقام بصفد مدة - رحمه الله تعالى -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 حرف القاف القاسم بن محمد بن يوسف شيخنا الإمام الحافظ المحدث المؤرخ علم الدين أبو محمد ابن العدل بهاء الدين ابن الحافظ زكي الدين البرزالي - بكسر الباء الموحدة، وسكون الراء وبعدها الزاي، وألف ولام - الإشبيلي ثم الدمشقي الشافعي. حفظ القرآن العظيم ثم التنبيه ومقدمة ... في صغره، وسمع سنة ثلاث وسبعين وست مئة من أبيه، ومن القاضي عز الدين بن الصائغ. ولما سمع " صحيح البخاري " على الإربلي بعثه والده فسمعه سنة سبع، وأحب طلب الحديث ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وسمع من ابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وابن علان، وابن شيبان، والمقداد، والفخر، وغيرهم. وجد في الطلب وذهب إلى بعلبك، وارتحل إلى حلب سنة خمس وثمانين، ومنها ارتحل إلى مصر، وأكثر عن العز الحراني وطبقته. وكتب بخطه كثيراً وخرج لنفسه ولغيره كثيراً، وجلس في شبيبته مع العدول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الأعيان مدة. وتقدم في معرفة الشروط. ثم إنه اقتصر على جهات تقوم به، وحصل كتباً جيدة، وأجزاء في أربع خزائن، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أزيد من ألفين، وبالإجازة أكثر من ألف، رتب كل ذلك وترجمهم في مسودات متقنة. وكان - رحمه الله تعالى - رأساً في صدقه، بارعاً في خدمه، أميناً صاحب سنة واتباع، ولزوم فرائض ومجانبة الابتداع، متواصعاً مع أصحابه ومن عداهم، حريصاً على نفع الطلبة وتحصيل هداهم، حسن البشر دائمه، صحيح الود حافظ السر كاتمه، ليس فيه شر، ولا له على خيانة مقر، فصيح القراءة عدم اللحن والدمج، ظاهر الوضاءه، لا يتكثر بما يعرف من العلوم، ولا يتنقص بفضائل غيره، بل يوفيه فوق حقه المعلوم. وكان عالماً بالأسماء والألفاظ، وتراجم الرواة والحفاظ، وخطه كالوشي اليماني، أو رونق الهنداوني، لم يخلف بعده في الطلب وعمله مثله، ولا جاء من وافق شكله شكله. ولم يزل على حاله إلى أن حج سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، فتوفي بخليص محرماً بكرة الأحد رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة ونصف، وتأسف الناس عليه. وكان - رحمه الله تعالى - لدمشق به في الحديث جمال، بلغ ثبته أربعاً وعشرين مجلداً، وأثبت فيه من كان يسمع معه، وله " تاريخ " بدأ فيه من عام مولده الذي توفي فيه الإمام أبو شامة، فجعله صلة لتاريخ أبي شامة في ثماني مجلدات، وله مجاميع وتعاليق كثيرة، وعمل كثير في الرواية، قل من وصل إليه، وخرج أربعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بلدية، وحج سنة ثمان وثمانين وأخذ عن مشيخة الحرمين. وحج غير مرة، وكان باذلاً لكتبه لا يمنعها من سأله شيئاً منها، سمحاً في كل أموره، مؤثراً متصدقاً، وله إجازات عالية عام مولده من ابن عبد الدائم وإسماعيل بن عزون والنجيب وابن علاق، وحدث في أيام شيخه ابن البخاري. ولي دار الحديث مقرئاً فيها، وقراءة الظاهرية سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وحضر المدارس، وتفقه بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وصحبه، وأكثر عنه، وسافر معه، وجود القراءة على رضي الدين بن دبوقا، وتفرد ببعض مروياته. ثم تولى مشيخة دار الحديث النورية، ومشيخة النفيسية، ووقف كتبه وعقاراً جيداً على الصدقات. وقرأت أنا عليه بالرواحية قصيدة لابن إسرائيل يرويها عن المصنف سماعاً، وهي في مديح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولها: غنها باسم من إليه سراها وقرأت أيضاً عليه قصيدتين ميمية، أولها: هي المنازل فانزل يمنة العلم ودالية أولها: قلب يقوم به الغرام ويقعد في مديح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نظم الضياء أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف الخزرجي رواهما لي سماعاً عن المصنف بالإسكندرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وسمعت عليه وعلى الحافظ جمال الدين المزي " جزء الأربعين العوالي، من المصافحات والموافقات والأبدال "، تخريج ابن جعوان للقاضي دانيال. وقرأت عليه غير ذلك، وقرأ هو علي قطعة من شعري. وكان دائم البشر لي جميل الود، وكان من عقله الوافر وفضله السافر أنه يصحب المتعاديين، وكل منهما يعتقد صحة وده، ويبث سره إليه. وكان العلامة تقي الدين بن تيمية يوده ويصحبه، والشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني يصحبه ويوده ويثني عليه. وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله يرثيه: تراهم بالذي ألقاه قد علموا ... شط المزار، وبان البان والعلم لهفي عليهم وقد شدوا ركائبهم ... عن الديار ولا يثني بهم ندم قد كان يدنيهم طيف ألم بنا ... فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم الله أكبر كم أجرى فراقهم ... دمعاً، وعاد بمن لا عاد وهو دم أموا الحجاز فما سارت مطيتهم ... حتى استقلت دموعاً قدمت لهم وأحرموا لطواف البيت لا حرموا ... من لذة العيش طول الدهر لا حرموا زاروا النبي وساروا نحو موقفهم ... حتى إذا فارقوا مطلوبهم جثموا يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد ... خلفتم في حشاي النار تضطرم هل منشد فيكم أو ناشد طلباً ... أضللته وادلهمت بعده الظلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 قد كان في قاسم من غيره عوض ... فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم من لو أتى مكةً مالت أباطحها ... به سروراً، وجادت أفقها الديم هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم أقسمت منذ زمان ما رأى هجرته ... لقاسم شبهاً في الأرض لو قسموا هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم ما كان ينكره ركن الحطيم له ... لو أخر العمر حتى جاء يستسلم له إليه وفادات تقر بها ... جبال مكة والبطحاء والأكم محدث الشام صدقاً بل مؤرخه ... جرى بهذا وذا فيما مضى القلم يا طالب العلم في الفنين مجتهداً ... في ذا وهذا ينادى المفرد العلم يروي حديث العوالي عن براعته ... وماله طاعن فيها ومتهم قد كان يدأب في نفع الأنام ولا ... يرده ضجر منه ولا سأم وحقق النقد حتى بان بهرجه ... وصحح النقل حتى ما به سقم وعرف الناس كيف الطرق أجمعها ... إلى النبي فما حاروا ولا وهموا وعرف الناس في التاريخ ما جهلوا ... وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا يريك تاريخه مهما أردت به ... كأن تاريخه الآفاق والأمم ما فاته فيه ذو ذكر أخل به ... ولو يروم لعادت عاد أو إرام إذا نشرت له جزءاً لتقرأه ... تظل تنشر أقواماً وهم رمم يا أيها الموت مهلاً في تفرقنا ... شتت شمل المعالي وهو منتظم تجد فينا وتسعى في تطلبنا ... اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم قد ظفرت بفرد لا مثيل له ... وإن أردت له مثلاً فأين هم يا ذاهباً ما لنا إلا تذكره ... آهاً عليك وآه كلها ألم جادت عليك من الغفران بارقة ... عراء يضك فيها البارد الشيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 تروي ثراك وتسقى من جوانبه ... إلى جوانب حزوى البان والسلم وحل أرض خليص كل ريح صبا ... بنشرها تبعث الأردان واللمم وخيمت دون عسفان لها سحب ... تسقى بأنوائها السكان والخيم لهفي عليك لتحرير بلغت به ... ما ليس تبلغه أو بعض الهمم ما الحافظ السلفي الطهر إن ذكرت ... أسلافك العز والآثار والكرم قطعت عمرك في فرض وفي سنن ... هذي الغنيمة والأعمار تغتنم أبو القاسم بن الأجل الصاحب جلال الدين. أول ما علمته من حاله أنه كان من جملة كتاب حلب، فلما كان في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور نائب دمشق في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، حضر على البريد من مصر على يده مرسوم شريف بأن يكون مستوفياً بدمشق، فما مكنه ورده رداً قبيحاً. ولما مات أيدغمش - رحمه الله - عاد بعد ذلك وباشر الاستيفاء بدمشق مدة. ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى مصر بحساب دمشق، وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، أو أوائل سنة تسع وأربعين. وراح على أنه يصلح حال معاملة دمشق، فعاد منها وقد تولى نظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فما هان ذلك على الأمير سيف الدين أرغون شاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 واستمر به وهو منكر الوجه عليه، فضاق عطنه لذلك، ولم يقم إلا قليلاً، وطلب الإعفاء من المباشرة. فكتب أرغون شاه بذلك، وطلب عود الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فأعيد. واستمر الصاحب جلال الدين على نظر الحرمين القدس الشريف وحرم الخليل عليه السلام، عوضاً عن الصاحب شمس الدين، وأقام على ذلك مدة ثم توجه إلى مصر وأقام مدة. وحضر صحبة ركاب الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وعاد صحبة الركاب إلى مصر، وحنا عليه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، وبقي يذكر به الأمير سيف الدين شيخو، وتوجه صحبة شيخو إلى الصعيد، ورأى تلك الأحوال وما بذله شيخو من السيف في أهل الصعيد، وعاد، ثم إنه ولي استيفاء الصحبة بالقاهرة، وحضر هو والأمير سيف الدين جرجي إلى دمشق، بسبب ديوان المهمات، وتذكرة على يده في حال معاملة دمشق. ثم إنه عاد إلى مصر وأقام إلى أن انفصل من الاستيفاء، وأقام بمصر بطالاً إلى أن استخدم قبل موته بأشهر قلائل في نظر الخزانة البرانية فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون مصر سنة أربه وستين وسبع مئة. أبو القاسم بن عثمان الأمير صفي الدين البصروي الحنفي، أخو الأمير نجم الدين محمد البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي، وسيأتي ذكر أخيه في مكانه من المحمدين إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 كان فقيهاً فاضلاً في مذهبه، ناهلاً ما صفا من الفضائل في مشربه، ودرس ببصرى زماناً، وكان على ما يعانيه من ذلك معاناً. وله إقطاع في الحلقة يأكله، ويتخذ من العلم ما يشاكله، يلبس القباء والعمة المدوره، ويبرز بذلك في صورة مركبة بين الأمراء والعلماء مصوره، ثم إنه أعطي الطبلخاناه، وانسلخ من ذلك الزي الذي عاناه. ولم يزل على حاله إلى أن كدر بالموت صفاؤه، وحان بالوفاء وفاؤه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين تقريباً. كان لأخيه الأمير نجم الدين على السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون خدم يرعاها له لما كان بالكرك، ولما مات نجم الدين رعى حق أخيه، وأعطاه إمرة عشرة - فيما أظن - مضافاً لما بيده من تدريس المدرسة ببصرى، فيلبس قباء وعمامة مدورة ويتوجه كل قليل إلى باب السلطان بالخيول المثمنة الجيدة العربية. ولما كان بعد موت الأمير تنكز - رحمه الله تعالى - ألزمه السلطان بلبس الكلوتة، ثم أعطي طبلخاناه، وكانت جيدة. ولما ورد الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى دمشق نائباً أخذه الأفرم منه وجهزه إلى حلب على إمرة غيرها، فلما قتل أرغون شاه عاد الأمير صفي الدين إلى دمشق على حاله. وتولى نابلس فعمل الولاية على أتم ما يكون من الأمانة والمهابة والحرمة، وأقام بها قليلاً وسأل الإقامة منها، فأجيب إلى ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وتولى نظر الحرمين القدس والخليل عليه السلام، وعمله على أتم ما يكون وذلك في آخر عمره، وفيه توفي - رحمه الله تعالى. وكان له نظم متوسط - رحمه الله تعالى -، وقد تقدم ذكر أخته فخرية أم يوسف في حرف الفاء مكانه. القاسم بن مظفر بن محمود ابن تاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر. الشيخ الجليل الطبيب المعمر مسند الشام بهاء الدين أبو محمد الدمشقي. له حضور في سنة مولده على مشهور النيرباني، وحضر في الثانية على كريمة القرشية، وحضر في الثالثة على سيف الدولة بن غسان، والفخر الإربلي، ومكرم بن أبي الصقر، وعم جده أبي نصر عبد الرحيم بن محمد، وحضر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة على ابن المقير، وسمع في سنة أربع وثلاثين من ابن اللتي والقاضي شمس الدين بن سني والعز النسابة وطائفة، وأجاز له خاصاً وعاماً، مثل أبي الوفاء بن مندة، وابن روزبه والقطيعي وخلق. وكان يعالج المرضى مروءة، وله من ملكه ومغله ووقفه شيء وافر. وخدم في ديوان الخزانة مدة، ثم ترك ذلك وكبر وارتعش خطه. خرج له المفيد ناصر الدين بن الصيرفي " معجماً " حافلاً في سبع مجلدات، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وخرج له شيخنا البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، وعمر دهراً، وروى الكثير، وكان كثير المحاسن صبوراً على الطلبة. قال شيخنا الذهبي: على تخليط في نحلته والله أعلم بسره، وله صدقة ووقف، وقد جعل داره دار حديث. توفي - رحمه الله تعالى - خامس عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. اللقب قاضي القضاة حسام الدين الحنفي الرومي: الحسن بن أحمد. تقي الدين الحنبلي: سليمان بن حمزة. وقاضي القضاة جمال الدين الزرعي: سليمان بن عمر. قاضي بغداد الحنبلي: سليمان بن عبد الرحمن. وقاضي القضاة شرف الدين الحافظ: عبد الله بن حسن. زين الدين قاضي قضاة حلب الشافعي المعروف بابن قاضي الخليل: عبد الله بن محمد. وقاضي القضاة الحنبلي: شرف الدين عبد الغني بن يحيى. وقاضي القضاة بصفد: شرف الدين بن عثمان. ووالده: جلال الدين عثمان بن أبي بكر. وقاضي القضاة بحلب نجم الدين خطيب جبرين: فخر الدين عثمان بن علي. وقاضي القضاة عماد الدين الطرطوسي الحنفي: علي بن أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وقاضي القضاة الشيخ علاء الدين القونوي: علي بن إسماعيل. وقاضي القضاة نور الدين السخاوي المالكلي: علي بن عبد النصير. وقاضي القضاة علاء الدين بن التركماني الحنفي: علي بن عثمان. وقاضي القضاة صدر الدين الحنفي: علي بن القاسم. وقاضي القضاة زين الدين المالكي بن مخلوف: علي بن مخلوف. وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي: علي بن منجا. وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: عمر بن عبد الله. وقاضي القضاة إمام الدين القزويني الشافعي: عمر بن عبد الرحمن. وقاضي القضاة نجم الدين بن العديم: عمر بن محمد. وقاضي القضاة زين الدين البلفيائي: عمر بن محمد. وقاضي القضاة سعد الدين الحارثي الحنبلي: مسعود بن أحمد. وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة: محمد بن إبراهيم. وقاضي القضاة ناصر الدين بن العديم: محمد بن عمر. وقاضي القضاة ابن المجد: محمد بن عيسى. وقاضي قضاة حلب ابن بهرام: محمد بن محمد. وقاضي القضاة علم الدين الإخنائي: محمد بن أبي بكر وأخوه وقاضي القضاة المالكي: محمد بن أبي بكر. وقاضي القضاة شرف الدين المالكي: محمد بن أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وقاضي القضاة شمس الدين بن النقيب: محمد بن أبي بكر. وقاضي القضاة جمال الدين ابن واصل: محمد بن سالم. وقاضي القضاة جمال الدين الزواوي: محمد بن سليمان. وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: محمد بن سليمان. وقاضي القضاة جلال الدين: محمد بن عبد الرحمن. وقاضي قضاة حلب بدر الدين أبو اليسر: محمد بن محمد بن الصايغ. وأخوه قاضي القضاة بحلب أيضاً نور الدين محمد بن محمد بن محمد. وقاضي القضاة جمال الدين: يوسف بن إبراهيم بن جملة. قاضي نابلس فخر الدين: عثمان بن أحمد. قاضي فوه شمس الدين: علي بن محمد. ابن قاضي شهبة كمال الدين: عبد الوهاب. قاضي شبهة نجم الدين: عمر بن عبد الوهاب. قاضي غزة: عمر بن محمد. القاضي أخوين: محمد بن محمد. قاضي ملطية: محمد بن محمد بن علي. قاضي تونس: إبراهيم بن الحسن. ابن قاضي الحصن: إبراهيم بن علي. قاضي الرحبة نجم الدين: إسحاق بن إسماعيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 القاسم بن يوسف بن محمد بن علي الإمام المحدث الرحال علم الدين التجيبي السبتي. قال شيخنا الذهبي: حج وقدم علينا، وسمع من ابن القواس، والشرف بن عساكر وطائفة. قال: وانتقيت له مئة حديث من مئة شيخ. ثم إنه سمع بمصر وبالثغر من الغرافي، وبالمغرب، ونسخ وقرأ وحصل أصولاً، وله فضيلة جيدة، تأخر وحدث وروى عنه الوادي آشي. قال: وسمعته يقول: أحاديث بقية ليست نقيه، فكن منها على تقيه. ولد في حدود السبعين وست مئة. قال: وأظنه بقي إلى نحو الثلاثين وسبع مئة. اللقب والنسب ابن القاهر: علي بن عبد الملك. القبابي: نجم الدين عبد الرحمن بن الحسن. القباري: الشيخ أحمد. قبجق الأمير الكبير سيف الدين نائب دمشق وحماة وحلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 وكان من فرسان الإسلام، وأبطاله الشجعان الأعلام، لا يرام ولا يرامى، ولا يسام في تدبير ولا يسامى، برز في جودة الرمي بالنشاب، واللعب بالرمح على ظهور المطمهة العراب. وأما عقله ودهاؤه وحزمه وانتخاؤه، فانفرد بافتراع ذروته، وإحكام عروته، يظن بالشيء قبل وقوعه ما آل إليه، ويتخيل المقادير فتنثال عليه، وكان فصيحاً في اللغة المغلية، مجيداً في كتابتها كما تجيده كتاب العربية. وكان لا يكاد الصيد يخرج من بين يديه سليما، ولا يعبأ هو به أكان ظبياً أو ظليما، لكنه اضطر في الدخول إلى بلاد التتار، والتجاهر بالخروج منها دون الاستتار. ولكنه شعب ما صدع، ودمل ما جذع. فكان في عداد التتار وهو مع الإسلام، وفي ظاهر الأمر بينهم، وهو في الباطن تحت الأعلام. وداراهم إلى أن عادوا، وبدههم بدهاء إلى أن بادوا. ولم يزل بعد ذلك يتقلب في النيابات، ويشفي غلة سيوفه من التتار في المصافات إلى أن جاءه المصرع القاسر، واختطفه عقبان المنية الكواسر. وتوفي - رحمه الله تعالى - بحلب وهو نائبها في أواخر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ونقل إلى حماة ودفن في تربتة المشهورة بها. لما كان في بيت المنصور قلاوون كان مؤاخياً للأمير حسام الدين لاجين لا يكاد أحدهما يصبر عن الآخر إلى أن انعكس ذلك، على ما سيأتي ذكره. وما زال الأمير سيف الدين قبجق مقدماً في البيت المنصوري، رأساً من رؤوس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 مماليكه، وتأمر وأستاذه ما يثق به ولا يركن إليه، ولا يزال ينتظر منه بادرة فلا يخرجه معه إلى حروب الشام، ولا تجاريده خوفاً منه لئلا يهرب. قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حكى بلبان الطشلاقي مملوك الصالح علي، قال: ركب المنصور يوماً إلى قبة النصر في جماعة من خوشدا شيته الأمراء الصالحية، ونزلوا هناك في صواوين خفاف، فأكلوا وانشرحوا، وقام كل أمير إلى صيوانه، فأتى المنصور بعدة خراف رمسان بدارية، فقلبها ثم إنه تخير له منها خروفاً من أصحها أعضاءً، وفرق البقية، ثم بعث إلى كل أمير بخروف منها. وقال: ليقم كل واحد يذبح خروفه بيده ويشويه بيده مثلما نعمل في بلادنا، وأنا في الأول. ثم قام فذبح خروفه الذي اختاره وسلخه بيده، وأمر بنار فأوقدت، ثم شواه بيده، ولما انتهى طلب الأمراء ليأكلوا معه، ثم أخذ منه الكتف اليمين، فأكل لحمه، ولما فرغ لحمه جرده إلى أن أنقاه، ثم إنه تركه قليلاً إلى أن جف، ثم قام وجعل يلوحه على النار برفق، ثم نظر إليه وأطال فيه التأمل، ثم تفل عليه وسبه، فألقاه من يده، وكان يجيد معرفة النظر في الكتف فلم يجسر أحد من الأمراء على سؤاله عما رأى فيه، فدسوا عليه أميراً سماه الطشلاقي، قال القاضي شهاب الدين: أظنه بيسري، فمازحه، وقال له: يا خوند أي شيء رأيت في الكتف. فقال: والله حاشاك، قال عن هذا الصبي قبجق، وهذا الصبي عبد الله عن مملوك آخر كان عنده من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 المكتسبين أيضاً لا تخرجهم معك إلى الشام، فهؤلاء متى صاروا في الشام هربوا وعملوا فتنة. فأما عبد الله فتقدم موته، وأما قبجق، فلما صار نائب الشام هرب وأتى بالتتار. وقال: قال والدي: إن الشجعاني، قال مرة، وقد جاء كتاب من قبجق: هذا قنينة دهن ورد مخبوء لكل يوم مشؤون. ولم يزل مقدماً في بيت الملك المنصور وهو مؤخر إلى أن مات المنصور، وهو مؤخر. ولما ملك ولده الأشرف أجلة ونوه بقدره، وكان من أقرب المقربين إليه، وربما استشاره في بعض الأمر. ولما قتل الأشرف، وملك كتبغا لم يبق لحاشيته دأب إلا لاجين وقبجق، وتقصد قبجق قص جناح لاجين حتى اتفقا وطردا كتبغا، وملك لاجين، وخير قبجق بين نيابة الشام ونباية مصر، فاختار الشام، فجاء إليه وهو يظن أنه مالكها، ووصل إلى دمشق يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة. وظهر من تعظيم لاجين له أن كتب إليه " بالجناب العالي "، وكان يكتب إليه: " المملوك "، فاستعفى، فقيل له: أنت تعرف مكانتك ونحن نعرف مكانتك. ثم إن لا جين ولى جاغان، المقدم ذكره، أحد مماليكه شد الدواوين بالشام، وكان جاغان مدلاً على أستاذه، فعمل الوظيفة على قاعدة ضاق منها قبجق وانحصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وكانت مراسيم قبجق ترد عليه، فمنها ما يرده، ومنها ما يوقفه على المشاهدة، فنشأت بينهما منافسة، وبقي جاغان يكتب في حقه بما يغير بينه وبين السلطان من المودة التي أنفقوا فيها الأعمار، حتى اشتد تخيل لاجين منه، وبعث إلى آقوش الأفرم، وهو ابن خالة لاجين، يقول له: تجعل بالك من قبجق، وتعرفنا بأخباره، فطمع في النيابة، وكتب بما يزكي أخبار جاغان وأقواله. واشتد نفار قبجق وهم بالأفرام، فجاء الأفرم البريد بطلبه إلى مصر، ورسم لجاغان بسلوك الأدب معقبجق ولا يرد له أمراً، ولا ينقل قدماً عن قدم إلا بأمره، فأظهر قبجق الرضا، وأسر ما أسر. ثم إن الأخبار تواترت بقصد التتار أطراف الشام، فجردت العساكر المصرية والشامية، ورسم لقبجق بالخروج، وأن يكون مقدماً عليهم، فخرج إلى حمص وعرض عرضاً ما رأى قبله مثله " وخرج على قومه في زينته " وعليه قباء مزركش بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سربه يبهر العيون، وعليه كلوته كذلك، وفي وسطه كاش ملبس بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سرجه وكنفوشه ولجامه. ونزل بحمص وخيم عليها، فقال منكوتمر للاجين: ما قصرت سلطنت قبجق وبعثت معه الجيوش والأمراء، وقعدت أنت وحدك برقبتك، وندمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وكان هذا دأب منكوتمر يوحش بين لاجين وبين الأمراء، ويتقصد إبادتهم، فشرع لاجين في العمل على إمساك من قدر عليهم منهم، واغتيال من لا يقدر على إمساكه، وندب لهذا صلغاي بن حمدان، وكان خؤوناً نماماً غربال أسرار. ولما جاء قبجق وحدثه وكان والدي حاضراً، قال: فقال له: السلطان يسلم عليك، ويقول لك: قد حصل القصد بإلقاء السمعة والمهابة، وما بقي للتتار حركة، وأنا قد بعثني أرد العساكر المصرية من حلب والأمير يرجع إلى دمشق. فقال له قبجق: لما قال لك السلطان هذا، كان منكوتمر حاضراً عنده؟ قال: وإلا فأين يغيب ذاك. قال والدي: تفهمت بها خيانة ابن حمدان. ثم إن ابن حمدان قطع الكلام، وقال: يا خوند أنا جيعان وقد اشتهيت كركياً يشوى لي. فقال: هاهنا كركي مشوي هاتوه، فأتوا به وأنا قاعد، فلما أتى به، قال ابن حمدان: لا يقطع لي أحد، أنا أقطع لنفسي، ثم إنه أخرج سيخاً كان معه، وجعل يقطع برأسه، ويأكل، ثم قطع بسفل ذلك السيخ وقدمه لقبجق، وقال له: أنا قد قطعت لك وأنت إن اشتهيت تأكل، وإن اشتهيت لا تأكل، ففهم قبجق أنه قد سم له ما قطعه له، وغضب وأربد وجهه واسود وظهر عليه ما لا يخفى من الأذى، ثم قال: أما ما آكل شيئاً. قال والدي: فقمت من عنده، وشرع قبجق فيما هم فيه، وهم بما هم به. ثم سافر ابن حمدان إلى جهة حلب وكان من الأمراء الذين بها ما كان، وركب بكتمر السرح دار وألبكي نائب صفد، عائدين إلى حمص حتى أتيا قبجق وشكيا إليه ما كان أريد بهما بحلب، فشكا هو إليهما ما أريد به بحمص، وأجمعوا على الرأي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وأراد قبجق تحليف الأمراء له، وطلب من شهاب الدين بن غانم ليتولى له ذلك، فعمل نسخة بالتحليف، فلما حضر ليحلف. قال له أمراء الشام: أين كاتب السر، فقالوا: هو بعث هذا. فقال الطواشي، وكان رأس الميمنة وكبير الأمراء والملك الأوحد بن الزاهر ما نحلف إلا إن حلفنا كاتب السر، فإنه أخبر بالعادة. قال والدي: فطلبت، وأعطيت نسخة التحليف، فوجدتها مجردة لقبجق. فقلت: ما جرت بهذا عادة، ثم أخذت القلم وأضفت فيها اسم السلطان ولزوم طاعته، وجماعته، فحلفوا على هذا. وتنكر لي قبجق، قال: فلما رأى قبجق أن الأمر ما يتم له، لاختلاف الأمراء عليه، أعمل الرأي في الهرب، قال: حكى لي الغرسي الحاجب، قال: جئت إلى قبجق في الليلة التي أراد الركوب فيها للهرب، وأخذت في لومه وعذله، وقلت له: يا خوند بعد الحج إلى بيت الله الحرام وقطع هذا العمر في الإسلام، وأمير علي تروح إلى بلاد العدو؟ فقال: يا حاج، أنا كنت أعتقد أن لك عقلاً، الروح ما يعدلها شيء، وأما الإسلام فأنا مسلم أينما كنت، ولو كنت في قبرس. وأما الحج فكل سنة يحج من الشرق قدر من يحج من عندكم مرات، وأما أمير علي، فأي امرأة بصقت فيها جاء منها أمير علي وأمير إبراهيم وأمير خليل. ثم قال: هاتوا ما نأكل، فجاؤوا بزبدية خشب فيها لحم يخني، فأخذ منها قطعة وحطها على قباء كنجي زيتي عليه، وشرع يقطع منها ويأكل، ويغني بالتتري، يريني بذلك أنه قد دخل في زي التتار، وعيشهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ثم هرب وأمسك نائب حمص معه. فقال: يا خوند أيش هو ذنبي. فقال: مالك ذنب، وإنما معي حتى تفرق هؤلاء الحيال، يعني جند حمص ثم إنه أطلقه بعد ذلك. وبعد هروبه بيومين ثلاثة - قلت أنا: الصحيح بعد أسبوع وأكثر - جاءت الأخبار بقتل السلطان لاجين وذبح مملوكه منكوتمر، فجهز إليه البريدي الذي وصل بهذا الخبر، وهو علاء الدين الدبيسي، فلحقه وأخبره، فما صدقه، وهم بقتله، ثم تركه ورده، واستمر قبجق حتى وصل إلى أردو القان غازان، فقبل وفادته، ولم يجد لديه طائل إكرام. قال: وحكى لي شرف الدين راشد كاتب بكتمر السلاح دار، قال: إن غازان رتب له راتباً لا يليق بمثله، ثم إن غازان حشد للصيد وجمع حلقةً ما رئي مثلها، وضمت ما لا يحصى من الوحش. وقال لأمرائه: حتى نبصر هؤلاء إن كانوا أقجية أو لا، فظن أنه يفضحهم. ثم قالوا لقبجق: يا قبجق نحن قد شبعنا، وإنما عملناه ضيافة لكم، فنزل قبجق، وضرب له جوكا، ثم قال: بسعادة القان نتصيد، فعبرت بهم حمر وحشية، فأمر غازان بالرمي عليها. فقال قبجق: أيش يشتهي القان يأكل لحمه من هذه الحمير. فقال له: هذا وهذا، وأشار إلى اثنين منهما أو ثلاثة أو أكثر، فساق قبجق وصهر له عليها، واتفقا على الرمي على مكان منهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 ثم حاذياها ورميا عليها، فلم يخطئا المكان حتى تلاقى نشابهما وتقاصف. وهكذا في كل رماياهم، ثم إنهما حملاها حتى رمياها بين يدي غازان. فلما رأي رميهما المتوارد على مكان واحد في كل رمية زاد توقيرهم في صدره، وقال إلي قبجق بك، ثم ألبسه قبعاً كان على رأسه، وألبس صهره بكلاً كان عليه، ثم أصغى إلى كلامهم، فحدثوه في أمر الشام، واتفق أن الملك المظفر صاحب ماردين كان قد تحدث في هذه الإغارة التي شملت بلاده، فخرج بهم غازان حتى أتى بلاد حمص، وكان الملك قد آل إلى الملك الناصر، وقد خرج إلى الملتقى. قال: فحكى لي والدي قال: قال لي قبجق بعد عوده لما تلاقينا: نحن وأنتم تتعتع جيشنا، فهم غازان بالرجوع، وطلبني ليضرب عنقي قبل أن نرجع لكون خروجه كان برأيي، ففطنت لذلك فلما صرت بين يديه قال: أيش هذا؟ فضربت له جوكا، ثم قلت له: أنا أخبر بأصحابنا، وهم لهم فرد حملة، فالقان يصبر، ويبصر كيف ما يبقى قدامه منهم أحد، وكان الأمر كما قلت، وخلصت من يده، فلما انكسر تم أراد أن يسوق عليكم، فعلمت أنه متى فعل ذلك لم يبق منكم أحد، فقلت له: القان يصبر فإن هؤلاء أصحابنا أخباث، وربما يكون لهم كمين، وقد انهزموا مكيدة حتى نسوق خلفهم فيردوا علينا، ويطلع الكمين وراءنا، فوقف حتى أبعدتم عنا، فلولا أنا ما قتل منكم أحد، ولولا أنا ما بقي منكم أحد. ولما جاء غازان ونزل بتل راهط، جعل الحكم لقبجق بدمشق، وكان فيه مغلوباً مع التتار لا يسمعون منه، وعلى هذا، فكان يداري ويدافع عن المسلمين بجهده ويباطن أرجواش في عدم تسليم القلعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 ولما عزم غازان على العود، جعل إليه نيابة الشام، ولبكتمر السلاح دار نيابة حلب، ولألبكي نيابة السواحل كلها. قال: ووقفت على نسخ تقاليد كتبت لهم على مصطلح ملوكنا، كتبت بخط جمال الدين بن المكرم، وكتب لقبجق فيها " الجناب العالي "، وجعل زكريا بن الجلال وزيراً بالشام وحلب والسواحل عامة يتحدث في الأموال، وترك بولاي من عسكر التتار، ليكون ردءاً لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جنداً. ثم لما بنت ببولاي الدار، شرع يراسل المصريين، وجهز الصاحب عز الدين بن القلانسي والشريف زين الدين رسلاً منه إليهم، واستعان بكتب كتبها محمد بن عيسى، إلى الأمراء بسببه. فأما سلار فلان له جانبه. وأما الجاشكير فخشن عليها، ثم غلب عليه رأي سلار والأمراء الكبار. وقالوا: لو لم يكن إلا لأجل محمد بن عيسى، فإنه بالغ في أمره، وقام معه هذا القيام الذي ما بقي معه يمكن أن يتخلى عنه، وإن لم يؤووه أنتم آووه هم. وأخذوا وجهاً عند غازان، وقالوا: عملنا هذا لأجلك، فأجمعوا على صلحه، ثم جعلوا مقامه بالشوبك لخاصة مماليكه على رزق جيد عين لهم. ودام على هذا حتى كانت الواقعة الثانية نوبةً شقحف، فحضر وشهد يومها بمماليكه، وأبلى بلاءً حسناً لم يبل أحد بلاءه. وسبق إلى الماء ليملكه، فوجد عليها فوجاً من التتار، فما زال يقاتلهم حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 زحزحهم، وملكه. فبات المسلمون يرتوون بالماء، وبات التتار يصلون بنار العطش، وكان ذلك من أكبر أسباب النصرة فرعي له هذا العمل. ولما خلت حماه بعث إليها قبجق نائباً، وكان مثل مالكها. حكى الصاحب أمين الدين، قال: طلبت يوماً إلى دار النيابة وسلار جالس وبيبرس إلى جانبه، فدخلت مسرعاً لكثرة الاستعجال، وليس معي منديل للحساب. فقال لي سلار: أين كارتك، يعني مزرة الحساب، فقلت: هي مع العبد، فأمر بها، فأحضرت. فقال: اكشف أي شيء مضمون التذكرة التي كتبت على حماة، قال: فكشفتها، وكانت قد كتبت تذكرة على حماة، وكتب فيها إلى قبجق فالجناب العالي يتقدم بكذا، والجناب العالي يفعل كذا. فقال لي: يا سبحان الله نسيت ما عمله قبجق أمس ها تريد تغيظه، حتى يعمل النوبة أنحس من النوبة الأولى، هو طلع رقاصاً عندكم، حتى تقولوا له: اعمل كذا، افعل كذا ما يقنعكم، أنه قنع بحماة ويسكت عنكم، ثم أخرج كتاباً جاء منه، وهو يقول فيه بين أسطره: لا إله إلا الله، يا خوند يا خوشداش صرت مشد جهة عند الكتاب والدواوين أو والي بلد، إن كان هذا بمرسومك، فحاشاك منه، والموت أهون من هذا، وإن كان بمرسوم الدواوين، فتريد تعرف أن الدنيا سائبة وأنت تعرف أيش يترتب على هذا. قال: فقمت والله ما أبصر الطريق، فلما كنت في الدهليز لحقني نقيب فردني، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 فلما رآني، قال: لا تعودوا تذكرون حماة، واحسبوا أنها ما هي في الدنيا، قال: فوالله، ما عدنا مددنا فيها قلم. ثم لم يزل فيها قبجق حتى جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق آخر مرة تسلطن فيها، وجاءه قبجق من حماة وأسندمر من طرابلس معاً، وكانا قد اتعدا لمثل ذلك. وخرج السلطان للقائهما بظاهر الميدان الصغير بدمشق، وترجل لهما وعانقهما. ولما ركب أمسك أسندمر له الركاب وعضده قبجق، ثم توجها معه إلى مصر، ولما استقر الملك بمصر بعث قبجق، وفي ظنه أنه نائب الشام. وأتى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وهو ينتظر التقليد، فجاءه التقليد بحلب، فتوجه إلى حلب، وأقام بها نائباً إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان ما يحب إلا دمشق، وما يتمنى سواها، ففرقت الأيام بينها وبينه، وعكست مراده، وهذه عادتها القادرة، وشيمتها الغادرة. قبلاي الأمير سيف الدين الناصري ولي نيابة الكرك في الأيام الصالحية إسماعيل لما أخذت من أخيه الناصر أحمد، فأقام بها مدة، ثم طلب إلى مصر، وأقام إلى أن ولي الحجبة الصغرى مع الأمير سيف الدين أمير حاجب أيتمش الناصري، ثم إنه ولي الحجبة الكبرى، ولم يزل على ذلك إلى أن خلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى الملك الملك الصالح صالح، فولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية عوضاً عن الأمير سيف الدين بيبغاتتر، وذلك في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة. الألقاب والأنساب القبتوري: خلف بن عبد العزيز. قتال السبع: اسمه آقوش. قجا الأمير سيف الدين مشد الخاص بزرع وإربد وطفس، ومشد مراكز البريد بالقبلية والشمالية، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. كان خبيراً نحريراً، ذكياً بصيرا، يعرف ما يباشره، ويعرف الرجل قبلها يعاشره، إلا أنه كان متشدداً في أموره، متجدداً في يقظته يخاف من نسبته إلى قصوره. وكان لا يمكن رفيقه من الحديث، ولا يدعه يستريب ولا يستريث، وكان المباشرون معه في بوتقة حصر، وأبواعهم المديدة تشكو من القصر. لا ينخدع ولا ينصدع، ولا يرتد عن الشدة ولا يرتدع. فكان الكتاب وغيرهم يبيتون معه بليلة السليم، ويصبح كل منهم وهو غير سليم: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 ولم يزل في جبروته يتشدد، وفي قسوته يتمرغ ويتمرد، إلى أن قصمت بالمنون عرى غروره وبات وليه في حزنه، وعدوه في سروره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد رابع شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة، وقد تعدى الخمسين. ومن الغريب أنه في بلاد الساحل بغزة قد توجه للقسم وأرجف بأنه مات. وكان ذلك في شعبان، وأظنه بلغه الخبر، فنجز أشغاله، وحضر إلى دمشق، ورأى الناس نفسه وما به قلبه. ثم إنه توجه لقبض مغل زرع، فأرجف بموته، فحضر في آخريات رمضان وهو متوعك، وركب وجاء لدار السعادة في ليالي العيد، وهو يتجلد، ويري أنه ممن يخلد: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فأقام على حاله بعد ذلك، وتوفي سامحه الله ... وأول أمره كان من جملة البريدية، وكان فيه حذق ومعرفة وخبرة، فجهز الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بمشافهة فيها قوة وغلظة، إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب، فبلغه المشافهة بعبارة فجة مؤلمة، فبقيت في قلب ألطنبغا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 ولما جاء نائب الشام أراد أذاه، فقطع خبزه وتهدده، وكان قجا رجلاً فسعى في إصلاح أمره، وسكنت القضية. ولم يزل على حاله في جملة البريدية، إلى أن جاءت واقعة بيبغاروس، فاحتاج الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى المطالعة بأمره، فكتب مطالعة، واستنجد بالمصريين في سرعة إنجاده، وندب سيف الدين قجا في التوجه بالمطالعة، فتوجه بها، وكان ذلك مهماً كبيراً، فجاء قجا وقد أعطي إمرة عشرة، ثم إنه أخذ تقدمة البريدية وأخذ في الترامي إلى الأمير سيف الدين صرغتمش، والانتماء إليه. فلما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق أعطي طبلخاناه، وتحدث في أمر شد زرع وطفس وإربد، ثم إنه توجه في أواخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة إلى مصر وأثبت محاضر بوقفيه زرع وطفس وإربد، وأنه هو مشدها، وأبطل من كان فيها مباشراً، واستخدم غيرهم. وزادت عظمته ووجاهته، وتسلطه إلى أن مات - رحمه الله تعالى - في وسط عزه. وكتبت له توقيعاً بتقدمة البريدية عوضاً عن ناصر الدين محمد بن القرايلي، لما توفي إلى رحمة الله تعالى، في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ارتجالاً من رأس القلم وهو: " أما بعد حمد الله على نعمه التي جردت من أولياء هذه الدولة القاهرة سيفا، ومنعت بجده جنفاً من الأيام التي زادت خطباً وحيفا، وجمعت بمضائه من المصالح ما كانت الأطماع لا تؤمل أن تراه طيفا، وصلاته على سيدنا محمد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وآله وصحبه الذين نصروا حزبه، وتظاهروا على قمع عداه، فحازوا من المعالي أرفع رتبه، وتضافروا على اتباع هداه، فلم يكن بين الكواكب وبينهم نسبه، صلاةً يملأ البر بريدها، ويكاثر موج البحر عديدها، ما تقعقع من البريد لجام، وزعزع من المهمات ريح تثير السحب السجام، وسلامه إلى يوم الدين. فإن أولى من غدق به أمر البريد المنصور، وأضيفت إليه أمر التقدمة على فرسانه الذين يسابقون البروق اللامعة في الديجور، من قدمت خدمته في الدولة القاهرة، وساق في مهماته الشريفة، فشخصت لسيره، وسراه عيون النجوم الزاهره، وقطع المسافة في وقت تقصر عنه فيها الطيور الطائرة، كم تألق برق دجنة فسبقه في شق جيب الظلام، وأتى في مهم فبلغ الغاية قبل وصول خبره على أجنحة الحمام. يكاد من السرعة يأتي، وما جف ختم كتابه، ولا ارتسم ظله على الأرض، ولا اعتقل الخيال بركابه، وتحمل من أسرار الملوك مشافهات لم يبدها من القلم لسان، وأدى فيها الأمانة التي لم تحملها الجبال وحملها الإنسان. وكان المجلس السامي الأميري السيفي قجا الصالحي، هو الذي تضمنته هذه الإشارة، ومن ربا ذكره نفح عبير هذه العباره. وعلى شخصه دلت هذه الأدلة، وعليه وقع اختيار هذه الإماره. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي أن يرتب مقدماً على جماعة البريدية الشاميين عوضاً عمن كان بها على عادة ابن الفراء، لما كان أمير عشرة، لأنه نصل تجرع العدو منه الغصة لما تجرد، وأصل تفرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 بالمحاسن وبالمزايا تفرد، قد عرف الأيام وخبرها، ودرب الأمور ودبرها، وقطع مفاوز المباشرات وعبرها. فليباشر ذلك مباشرة من مارس هذه الوظيفة طول عمره ولم يركن إلى زيد الزمان ولا عمره، وليرتب الجماعة نوباً يتدالون الخدمة، ويختر لكل شغل بريدياً يكون في ذلك المهم عالي الهمة، ويعامل باللطف كبيرهم، وصغيرهم، ويبذل البشر إذا رأى جليلهم ولا يعرف الناس حقيرهم. حتى يعترف الجميع بفضله الجليل الجلي، ويقولوا إن القرايلي ما يلي، وتعود أيامهم بيضاً بعدما سجا الدجا، ويقول أحدهم: ذهب ناصرنا، فجاء قجا، يعمر أرجاء الرجا، والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمدة إن ازدجر، وعمل للآخرة وادكر، وخاف من سفر ينتهي به إما إلى جنة عدن، وإما إلى سقر. فلا يصحب غيرها خليلا، ولا يلمح من سواها وجهاً جميلا، والله يعلي درجته، ويحرس مهجته، والخط الكريم أعلاه، حجه في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. قجليس الأمير سيف الدين الناصري السلاح دار. كان خيراً، لطيفا، حسن العشرة ظريفا، يحب العلماء ويؤثرهم، ويتعصب لهم وينصرهم، ويخلص بجاهه لهم المناصب، ويدفع عنهم كل عذاب واصب. إلا أن أستاذه الملك الناصر يقذف به في كل هوه، ويعتمد عليه في كل واقعة مرجوه، فما أمسك في الشام أمير إلا على يده، ولا كسف قمر منبر إلا بتتبع رصده، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 فكان إذا سمع الناس بخروجه من مصر تزلزلت أقدامهم، تحققوا أنه متى وصل تحتم إعدامهم. وكان من كبار الخواص عند أستاذه المقربين، وأمراء الألوف الذي أصبحوا على وفق مراده مجربين. ولم يزل على حاله إلى أن سقي بكأس سقي به سواه وضمه قبره وحواه. وتوفي - رحمه الله تعالى في نصف صفر ليلة الثلاثاء، سنة إحدة وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. وكان عارفاً بعلم المواقيت يضع الأسطرلابات والأرباع والرخامات المليحة، ويتقنها، ويعرف عدة صنائع، وعنده آلاتها المليحة الفائقة الظريفة. واقتنى من المجلدات النفيسة شيئاً كثيراً إلى الغاية. وكان الفضلاء يترددون إليه خصوصاً أرباب المعقول، كان يتردد إليه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وله عنده مملوك بإقطاع جعله أستاذ داره. ويتردد إليه شرف الدين بن مختار الحنفي وغيرهما من الفقهاء وغيرهم. وكان جميل المودة، حسن الصحبة لطيفاً ظريفاً، حسن العشرة، ولكنه له سمعة في الشام سيئة لما ذكرته من أن السلطان يندبه في المهمات وثوقاً بعقله. وكانت طبلخانته في القاهرة ما لأحد مثلها، لأنه اعتنى بصناعها وانتقاهم، وأحضر بعضهم من البلاد. وكان قد تزوج ابنة الأمير سيف الدين الملك، كان يقال: إنه في القاهرة ليس لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 نظير، وكان يحبها محبة مفرطة، وينفق عليها نفقة عظيمة إلى الغاية، ولا تنقطع الأغاني من داره ليلاً ولا نهاراً من الجواري المطربات الفائقات. فكانت إذا دخلت إلى الطهارة وخرجت تلقينها وزفينها، وكذلك إذا أرادت النوم مع زوجها يعملن لها زفة. وأخذت يوماً منه إذناً لتنزل إلى المنظرة التي له على البحر مدة ثمانية أيام، فأعطاها لكل يوم مبلغ ألفي درهم، وأباعت هي من قماشها شيئاً بعشرة آلاف درهم، وطلعت إلى القلعة قبل الميعاد بيومين، وقالت: فرغت النفقة. ولما مات - رحمه الله تعالى - ما انتفع بها أحد بعده، لأنه حصل لها مرض سوداوي، وتوفيت - رحمها الله تعالى -. اللقب والنسب القحفازي: الشيخ نجم الدين، علي بن داود. القدسي: علاء الدين الشافعي علي بن أيوب. وشرف الدين محمد بن موسى. ابن قدس: محمد بن أحمد. قدودار الأمير سيف الدين متولي القاهرة، ولاه السلطان الملك الناصر محمد القاهرة، بعد الأمير علم الدين سنجر الخازن في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فوليها وأحسن إلى الناس أول ولايته، ولم يزل فيها إلى أن توجه إلى الحجاز فحج وجاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 توفي - رحمه الله تعالى - سادس عشرة صفر سنة ثلاثين وسبع مئة. قرابغا، الأمير سيف الدين قرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه. لم نر ولم نسمع بداودار كانت له منزلة هذا عند أستاذه، على أنه كان قد قاسى منه شدائد في أول أمره ثم سخره - الله تعالى - له أخيراً. كان لا يخالفه فيما يراه، ولا يخفي عنه ما ألم به في باطنه أو اعتراه. وكانت آراؤه عليه مباركه، وليس له فيها مع أحد مشاركه، قد تحقق نصحه ومحبته، وتيقن خبرته بحاله ودربته، فقوله عنده، قول حذام وأمره على كل حال لزام، وثور نعمه طائله، وسعادة هائله، في مدة يسيرة جداً، ووقت كأنه زمن الورد إذا رد وتردى. هذا مع أنه كان لا يعرف باللسان العربي كلمة واحدة، ولا درى ما اللفظة الفائتة من الفائدة. ولكن اختطف من وسط هذه السعاده، واقتطف من روض هذه السياده، وخلت منه الديار، وشط منه المزار. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الاثنين حادي عشري شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ودفن في تربة زوجه كسباي عند دار الأمير شمس الدين حمزة التركماني بالقبيبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 أخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بالشام، قال: لم أدخل على هذا أرغون شاه قط فرأيته جالساً قدامه، بل إلى جانبه، ولا رأيته يتحدث هو وأستاذه، وعنده مملوك آخر، انتهى. وكان يرجع إلى قوله ومهما أشار به فهو الذي يكون والعمل عليه، ولم يكن مشترى ماله بل السلطان الملك الناصر وهبه له على عادة إنعاماته، وزوجه بجاريته كسباي، وهي أعز جواريه، وأحظاهن عنده. وكان بعد ذلك لا يصبر أستاذها عنها، ولما خرج معه إلى صفد، أعطي إمرة عشرة، ولما توجه إلى مصر وأعطي نيابة حلب أعطي قرابغا إمرة طبلخاناه. ولما حضر إلى دمشق أعطاه أستاذه من عنده زيادة على إقطاع الطبلخاناه قرية بيت جن، وهي تعمل مئة ألف درهم، وأعطاه في كل سنة مئتي ألف درهم، غير الذي ينعم به على الدوام والاستمرار من الخيل والذهب والقماش. مرضت زوجه كسباي المذكورة في أيام الطاعون وبصقت دماً وماتت في اليوم الثالث، ودفنت في تربة أنشأها لها في جمعة، فدفنت في يوم الخميس سادس عشر شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ثم إنه مات ابنها ودايته بعدها بيومين. ثم إنه هو بصق دماً، ومات يوم الاثنين في التاريخ، فلحقهما بعد خمسة أيام وحمل من دار حمزة إلى باب النصير، وخرج أستاذه وصلى عليه مع الأمراء والقضاة، والناس ولم يتبعه أستاذه - رحمهما الله تعالى -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وكان لي ربيب يدعى مراد، يحمل دواتي فوصف له، فدخل إلى قاعة الإنشاء، وأخذه بيده وراح وسلمه إلى طواشي أرغون شاه. وقال: هذا مملوك ملك الأمراء، فكتبت إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء في هذا: يا سيداً صرت ظل جنابه ... لي جنة إن جاد دهري أو بغا أترى الزمان معاندي ومحاربي ... حتى رماني في الورى بقرابغا قرابغا، الأمير سيف الدين ابن أخت الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام. حضر معه إلى دمشق، وكان في مصر من جملة السلاح دارية للسلطان الملك الناصر حسن، وكان خاله، قد قال له في مصر: يا قرابغا، إن كنت تجيء معي على أنك ابن أختي تشفع وتتكلم فيما لا يعنيك، فلا تجيء، وإن كنت جئت كأنك أجنبي لا يكون لك في شيء كلام، فتعال. فحضر معه، وأقام قليلاً، ورتب له في كل يوم مبلغ خمسين درهماً، إلى أن انحلت طبلخاناه، فأخذها وكان لا يجسر أن يتحدث مع خاله في شيء، وإنما كان الناس يخدمونه لأجل الصورة الظاهرة. وكان أسمر طوالاً غليظاً، إلا أنه أرق من نسيم، وألطف من كأس تسنيم، حسن الأخلاق، يتصف بما راق، وما لاق، ويسجع على عوده كأنه الورقاء بين الأوراق، نادم جماعة من أهل دمشق وأجمعوا على لطفه، وجنوا ثمار الإحسان من عطفه، ولما توجه خاله إلى نيابة طرابلس توجه معه، ولم يحل عن تلك الحال، ولا ذاك الصنع الذي صنعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 ولما توفي خاله - رحمه الله تعالى - توجه إلى مصر فأقام بها، إلى أن اضمحل وتلاشى، وأصبح على نار المنية فراشا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ... قراجا بن دلغادر بدال مهملة، ولام ساكنة، وغين معجمة وبعدها ألف ودال مهملة وراء: الأمير زين الدين النائب بالأبلستين. كان من أمراء التركمان، وارتمى إلى الأمير سيف الدين تنكز وانتمى إليه، فأقامه وأحبه وعظمه، وكان ميله إليه أحد الأمور التي نقمها السلطان على تنكز لأنه كان يراجعه في أمره كثيراً، ويقول له: اعزله عن الأبلستين، فيراجعه في أمره، لأن ابن دلغادر كان الواقع بينه وبين الأمير أرتنا حاكم البلاد الرومية. ولما هرب الأمير سيف الدين طشتمر، حمص أخضر نائب حلب المحروسة توجه إليه، واستجار به فآواه، وأقام عنده إلى أن انتصر الناصر أحمد على قوصون، وطلب طشتمر، فحضر من البلاد الرومية وابن دلغادر معه، وتوجه معه إلى مصر، وما صدق بالخروج من القاهرة، ورأى نفسه قد عدى حلب وقويت نفسه عليه من ذلك الوقت ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب، وتواقعا وانتصر ابن دلغادر عليه. ولما جاء الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى حلب نائباً دخل معه، وكان يكاتبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 دائماً ويهاديه ولما قدم دمشق استمر الود بينهما، وأخذ لابنه الأمير صارم الدين طبلخاناه بدمشق، وكانت بيده، وهو عند والده. ولما وصل الأمير سيف الدين بيبغاروس إلى حلب وأراد الخروج على السلطان الملك الصالح صالح، راسله واتفق معه، وحضر معه في تركمانه إلى دمشق، وتسيب تركمانه يفسدون في الأرض، ويعبثون فنهبوا الأموال، وافتضوا الفروج، وسبوا الحريم، وسفكوا الدماء، واعتمدوا ما لا يعتمد الكفار في الإسلام. ثم إنه لما تحقق خروج السلطان الملك الصالح، ووصوله إلى لد خامر على بيبغاروس، وتوجه على البقاع إلى بلاده، وساق قدامه ما وجده للناس من خيول. فأخذ لأهل صفد جشاراً فيه أكثر من خمس مئة فرس. ولما هرب بيبغاروس وأحمد وبكلمش وغيرهم، توجهوا إليه إلى الأبلستين فتقرب بإمساكهم، وجهز أولاً أحمد وبكلمش إلى حلب، ثم أمسك بيبغاروس من الأبلستين وجهزه إلى حلب، فجرى ما جرى، على ما هو مذكور في تراجمهم، ثم إن الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز قاما في أمره قياماً عظيماً، وجهزا الأمير عز الدين طقطاي الدوادار إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب وصمما عليه. وقالا: لا بد من الخروج إليه بالعساكر، وخراب أبلستين، فتوجه بما معه من العساكر الحلبية وغيرهم من عساكر الثغور، ووصلوا إلى الأبلستين، وقاست العساكر شدائد عظيمة، وأهوالاً فنيت فيها خيولهم وجمالهم، ومشوا على أرجلهم في عدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 أماكن، ووجدوا أهوالاً صعبة، وهرب منهم خلق فخرب الأبلستين وحرقها وخرب قراها، وتبعه بالعساكر إلى قريب قيصرية، وأحاطت به العساكر من هنا، وعساكر ابن أرتنا من هناك، فأمسكه قطلوشاه من أمراء المغول بالروم، وجهزه إلى ابن أرتنا. وكتب نائب حلب إلى ابن أرتنا يطلبه، فدافعه من وقت إلى وقت إلى أن بعثه في الآخر مقيداً. ودخل إلى حلب يوم السبت ثاني عشري شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فثقل النائب قيوده وأغلاله واعتقله بقلعة حلب، وجهز سيفه إلى السلطان صحبة مملوكه علاء الدين طيبغا المقدم. ولما كان يوم الاثنين خامس عشر شهر رمضان، وصل إلى دمشق وجهز إلى مصر صحبة عسكر يوصله إلى غزة. ووصل إلى مصر فأقام في الاعتقال مدة، ثم إنه وسط وعلق على باب زويلة قطعتين ثلاثة أيام، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فسبحان مبيد الجبارين. وكنت قد قلت لما أمسك ابن دلغادر أحمد وبكلمش وبيبغاروس وحضرهم إلى حلب، وذلك موالياً: قد جيت في الغدر زايد با بن دلغادر ... وما تركت لفعلك في الورى عاذر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وخنت من آمنك وانقاد لك صاغر ... سودت وجهك في الأول وفي الآخر ولما كان بيبغاروس على دمشق وتوجهنا نحن مع النائب بالشام الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى لد وأقمنا بها زائداً عن أربعين يوماً، وفي كل يوم نسمع من الأخبار ما ينكد عيشنا من جهة أهل دمشق وأهلنا وأولادنا، جاءني من القاضي شرف الدين حسين بن ريان كتاب قبل خروجي من دمشق، فلما عدت من لد كتبت جوابه، وجاء منه: " وحاول المملوك الجواب فجاءت هذه العوائق التي ما احتسبت والحوادث التي لم تكن كيوم القيامة، فإن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، يا مولانا: هذه مصائب عمت وطمت وصرحت بالشر وما عمت، وقيدت إليها الأهوال وزمت ودعت الجفلى إلى مآدبها وأصم المسامع نعي نوادبها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قول من ضاقت به حيلته، واتسعت عليه بالهموم ليلته: وكان ما كان مما كنت أذكره ... فظن شراً ولا تسأل عن الخبر ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وفجر هذه الليلة العاتمه، فقد بلغت القلوب الحناجر، وحزت الغلاصم بالخناجر، وكسرت براني الصبر، وحسد من امتطى ظهر الأرض من استكن في جوانح القبر، وهذه رزية شموس التثبت بها كاسفه، وليس لها من دون الله كاشفه، اللهم اكشف هذه البلية عن البريه، ولق النفوس الظالمة ووق البريه، وأجرنا على عادة وعجل فك أسرنا بأسرنا، إنك بالإجابة جدير، وعلى كشف هذه اللأواء قدير ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 فكتب هو الجواب إلي عن ذلك نظماً ونثراً مطولاً، وكتبت أنا جوابه نظماً ونثراً مطولاً، وهما في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي. قرا أرسلان الأمير الكبير بهاء الدين المنصوري، أحد الأمراء المقدمين الكبار بدمشق، كان مليح الصورة، تام الخلق، سميناً، شجاعاً. لما هرب الأمير سيف الدين قبجق إلى بلاد التتار أمر هو ونهى، وحج بالناس. توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر باب توما، في يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى من السنة المذكورة. قرا سنقر الأمير الكبير شمس الدين أبو محمد الجوكندار المنصوري، من كبار الأمراء وأجل مماليك البيت المنصوري، اشتراه الملك المنصور في زمان الإمرة قبل أن تطير سمعته ويظهر اسمه. وكان من رجالات العالم ودهاتهم، وممن إذا قصده عداه وقف كالشجى في لهاتهم، كثير العزم، كبير الحزم، لا يثق بمن يداهنه أو يداهيه، ولا يصبر لمن يظاهره أو يضاهيه، قد حلب الدهر أشطره، وعلم المخزية من الأمور والمأثرة: يروعه السرار بكل شيء ... مخافة أن يكون به السرار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 عاداه جماعة من الأكابر وربطوا عليه المخالص والمضائق والمعابر، ولم يظفرهم الله تعالى منه بمقصود. ولم يزل زرعه قائماً غير محصود، ودفن من أعاديه جمله، وفرق بمكائده من حزبهم شمله، بطرق خفية المسارب، دقيقة المسالك بعيدة المرامي والمضارب. ترك المال والوطن والولد، ونزع من عنقه مأنة الصبر والجلد، وألقى حمل الاحتمال عن الكبد، ولم يرض أن يكون ثالث الأذلين العير والوتد، وأخذ في النجا بسنة النبي عليه السلام فنجا برأس طمرة ولجام، ودخل بلاد التتار، وخلى من تطلبه كما يقال على برد الديار، فأخذ البريد بسببه في قعقعة لجمه والبر يضيق عن الجيش وحجمه، والقصاد تروح وتغدو ناكصةً على أعقابها، والفداوية تفد عليه ولكن يدوس على رقابها: إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما سمعت ملام لهم عنك بالبيض الخفاف تفرق ... وحولك بالكتب اللطاف زحام وكادت خزائن مصر فيه يسكنها الغراب الأبقع، وبلد مصياف تعود وهي خراب بلقع، هذا والسلطان لا يني عزمه، ولا يثنى حزمه، بل البريد في أثر البريد، والقاصد في عقد القاصد فيما يريد، وغلب سعادة مثل الملك الناصر في احترازه وتوقيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ورد سهامه بتزفعة عنها وترقيه، إلى أن مات حتف أنفه من غير نجاح، أمر، وكاد يقول: بيدي لا بيد عمرو: وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام وتوفي رحمه الله تعالى في مراغة في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. كان الأمير شمس الدين قراسنقر لما اشتراه المنصور وهو أمير جعله أوشاقياً، ثم إنه ترقى وعرف عنده من صغره بحسن التأني في الأمور والتحيل لبلوغ الغرض. وهو من أقران طرنطاي وكتبغا والشجاعي وتلك الطبقة، وكان أسعد منهم، لأنه عاصرهم وقاسمهم سعادة أيامهم، وعمر بعدها العمر الطويل متنقلاً في النيابات الكبار، فأناس كثيرون يعتقدون أنه من قارا النبك، وليس بصحيح، بل هم جهاركس استنابه الملك المنصور في حلب، وتتبعه طرنطاي ونصب له الحبائل، وسلط الحلبيين عليه فشكوا منه، وأخذ يحسن للمنصور عزله، ولم يزل يعبث به إلى أن أمره بالكشف عليه، فأتى حلب بنفسه وكشف عليه، ولم يظفر منه بمراد. ثم إن الوزير ابن السلعوس أغرى به الأشرف وفطن له قراسنقر، فلم يزل يتلافى أمر نفسه ويرفع حاله بنفائس الأموال وكرائم الذخائر إلى أن سكن غيظ الأشرف عنه واستمر به. ثم إن ابن السلعوس لم ينم عنه حتى عزله من حلب وولى الطباخي عوضه، ونقل قراسنقر إلى أمراء مصر وتقرب إلى الأشرف وخواصه بكل نفيس، إلى أن ندم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الأشرف على عزله، فقال له: حلب الآن انفصل أمرها، ولكن سل حاجتك، فقبل الأرض وقال: نظرة من وجه السلطان أحب إلي من حلب وما فيها، ولكن أسأل أن أكون أمير جاندار، لأنني أرى وجه مولانا السلطان، وإذا جاء ذاك الرجل أقول له يتصدق مولانا ويقعد، فإن السلطان في هذا الوقت مشغول، يعني بذاك الرجل الوزير ابن السلعوس، فضحك السلطان ومزح معه في هذا، وقال له: هذا بس، قال: يا خوند يكفيني، وهذا ما هو قليل. واستمر أمير جاندار، وحجب ابن السلعوس مرات من الدخول إلى السلطان، وابن السلعوس يتلظى عليه، وقراسنقر يعمل مع الأمراء الأشرفية عليه إلى أن فعلوا تلك الفعلة. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي أينبك مملوك بيسري قال: خرجنا مع الأشرف إلى جهة تروجة، فقدم للسلطان لبن ورقاق، وهو سائر، فنزل يأكل، وكان أستاذي بيسري ولاجين قراسنقر قد نزلوا جملة على جانب الطريق، فبعث الأشرف إليهم بقصعة من ذلك اللبن وقد سمها، فقال بيسري: فؤادي يمغسني، ما أقدر آكل لبناً على الريق، فقال: لاجين: أنا صائم، فقال قراسنقر: دس الله هذا اللبن في كذا وكذا ممن بعثه، نحن نأكله؟ ثم أخذ منه، وأطعم كلباً كان هناك، فمات لوقته فقال: أبصروا أيش كان، يريد يزقمنا. ثم قاموا على كلمة واحدة واتفاق واحد في نجاز ما كانوا بنوا عليه، إلى أن كان ما كان، ولم يباشر قراسنقر قتله، ولما قتل نزل إليه ونزع خاتمه من يده وأخذ حياصته بيده، وفعل به ما تقتضيه شماته المشتفي، ثم إنه اختفى هو ولاجين في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 بيت كتبغا، وكان ينادي عليهما ويتطلبهما وهما عنده. ولما تسلطن كتبغا أخرجهما وأمرهما، وعظم شأنهما. ثم إن قراسنقر ناب للاجين لما تسلطن نيابةً عامة، وأورد الأمور وأصدرها برأيه، فعز على منكوتمر، ولم يزل به حتى أمسكه واعتقله في نصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة، ومعه جماعة من الأمراء. وعمل منكوتمر النيابة عوض قراسنقر، وتحدث القاضي شرف الدين بن فضل الله معه في أمره، فقال له: يا شرف الدين، أنا أمسكه، ووالله ما أؤذيه، فقال له: يا خوند، أروح إليه وأعرفه هذا، فقال: روح إليه، فلما عرف قراسنقر ذلك بكى وقال: والله ما كنت أموت وأعيش إلا عليه، فعاد إلى لاجين وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين هات المصحف، فحلف عليه أنه ما يؤذيه، ولا يمكن أحداً من أذيته، فعاد إليه وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين، الآن طاب الحبس. ولما قتل لاجين، وجلس السلطان الملك الناصر في المرة الثانية أطلقه وأعطاه الصبيبة، فبقي فيها مديدة، ونقل إلى نيابة حماة بعد العادل. ولما مات الطباخي في حلب نقل قراسنقر إلى نيابة حلب، وأعطيت حماة لقبجق. ولم يزل قراسنقر في حماة نائباً إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك إلى دمشق في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة، فحضر إليه، وركب السلطان وتلقاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وترجل له وعانقه وقبل صدره، والتقيا بالميدان الكبير، وبه استتم أمره واستبب له الملك. وكان ابنه ناصر الدين محمد هو الذي استمال أباه قراسنقر، فشعر بذلك المظفر، فيقال: إنه سمه. وأخذ قراسنقر في تدبير الملك والسلطان تبع فيما يراه، ووعده بكفالة الممالك والنيابة العامة بمصر. ولما وصل إلى مصر وجلس على تخت الملك قال له: الشام بعيد عني وما يضبطه غيرك، فأخرجه لنيابة دمشق وقال له: هذا الجاشنكير خارج إلى صهيون، فأمسكه واحضر به لنتفق على المصلحة، فاجتهد على إمساكه، ولما وصل إلى الصالحية أتاه أسندمر كرجي، فأخذه منه وأعاده إلى الشام، ووصل إلى دمشق ودخلها يوم الاثنين خامس عشري القعدة سنة تسع وسبع مئة، ونزل بالقصر الأبلق وقد نفض يده من طاعة السلطان، غير أنه حمل الأمر على ظاهره ولم يفسد السلطان بكشف باطنه، وأقام بدمشق على أوفاز، فما حل بها أحمالاً، ولا خزن غلة، ولا تقيد فيها بشيء، وأخذ أمره فيها بالحزم، فجعل له مماليك بطفس، ومماليك بالصنمين، وعيناً ببيسان، وإذا وصل من مصر أحد بطقوا إليه من بيسان، وإذا وصل الواصل إلى طفس تلقاه نواب قراسنقر ومماليكه، وقدموا له ما يأكل وما يشرب، وإذا أتى إلى الصنمين فعلوا به كذلك، ويشغلونه بالأكل والشرب والتكبيس إلى أن يبلغ الخبر قراسنقر وخيله وهجنه كلها محصلة لما يريد يفعله، وإذا ركب من الصنمين ركب معه من مماليك قراسنقر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 يوصله إلى قراسنقر بجميع من معه من مماليك وأتباع وسواقين حتى لا ينفرد أحد، ويكون معه ملطفات أو كتب أو مشافهات، فيتوجه بها، ثم إن قراسنقر ينزل الذي حضر من مصر هو وكل من معه عنده، ولا يدعه يجد محيصاً. فلما أتاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وأنزله عنده ولم يمكنه من الخروج خطوة واحدة، وأنزل مماليكه عند مماليكه، وكان عنده كأنه تحت الترسيم، وفتح أجربتهم، وفتق نمازنيات سروجهم، فوجد فيها الملطفات بإمساكه، فأعادها إلى مكانها، وطاوله إلى أن نجز حاله، وهو لا يظهر شيئاً مما فهم منه، وغالطه بالبسط والانشراح. قال الصاحب عز الدين بن القلانسي: أتيت إلى قراسنقر، وهو يأنس بي، وقلت له: ما هذا الذي أسمعه؟ فقال: اصبر حتى أفرجك، ثم قال لأرغون: بأي شيء غويتم أنتم؟ فإن نحن كنا في بيت المنصور غاوين بالعلاج والصراع، وحدثه في مثل هذا، فقال أرغون: ونحن هكذا، فقال: أيش تعمل؟ قال: أصارع، فأحضر قراسنقر مصارعين تصارعوا قدامه، ولم يزل به حتى قام أرغون وصارع قدامه فبقي قراسنقر يتطلع إلي ويقول: يا مولانا، أبصر من جاء يمسكني. انتهى. وفهم بيبرس العلائي الحال من غير أن يقال له، فركب على سبيل الاحتياط على أنه يمسكه، فبعث يقول له: إن كان جاءك مرسوم خلني، وإلا أنا أركب وأقاتل، إما أنتصر، أو أقتل، أو أهرب ويكون عذري قائماً عند أستاذي، وأبعث أقول له: أنت الذي هربتني، فتخيل بيبرس العلائي وراح إلى بيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وكانت نيابة حلب قد خلت، وقد بعث السلطان مع أرغون تقليداً وفيه اسم النائب خالياً، وقال له: تصرف في هذه النيابة، وعينها لمن تختاره، فهي لك إن اشتهيت تأخذها، وإن أردتها لغيرك فهي له. وكان في تلك المدة كلها يبعث قراسنقر إلى السلطان ويقول: يا خوند، أنا قد ثقل جناحي، في حلب بكثرة علائقي بها وعلائقي مماليكي، ولو تصدق السلطان بها علي رحت إليها. فلما كان من بيبرس العلائي ما كان قال لأرغون: أنا قد استخرت الله - تعالى -، وأنا رائح إلى حلب، ثم قام وركب ملبساً تحت الثياب من وقته، وركب مماليكه معه، وخرج في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى حلب، وأرغون معه إلى جانبه وما يفارقه، والمماليك حولهما لا يمكنون الأمراء من الدخول إليه ولا التسليم عليه، وخرج - كما يقال - على حمية إلى حلب في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام بحلب وهو على خوف شديد. ثم إنه طلب دستوراً للحج. فلما كان بزيزاء أتته رسل السلطان تأمره بأن يأتي الكرك ليأخذ منها ما أعده السلطان له هناك من الإقامات، فزاد تخيله، وكثر تردد الرسل عليه في هذا، فعظم توهمه، وركب لوقته وقال: أنا ما بقيت أحج، ورمى هو وجماعته ما لا يحصى من الزاد، وأخذ مشرقاً يقطع عرض السماوة حتى أتى مهنا بن عيسى ونزل عليه واستجار به. وأتى حلب فوقف بظاهرها حتى أخرجت مماليكه ما كان لهم في حلب، مما أمكنهم حمله بعدما مانعه الأمير شهاب الدين قرطاي من ذلك، فإنه ركب في الجيش، ولكنه لم يقدر على مدافعة مهنا. ولم يزل يكاتب الأفرم والزردكاش، ومهنا يستعطف لهم خاطر السلطان على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 يعطي الأفرم الرحبة، والزردكاش بهسنى، وقراسنقر البيرة، والسلطان يقول: بل الصبيبة، وعجلون، والصلت. فهموا بالمقام مع العرب، وعملوا على هذا، وتهيؤوا لإزاحة العذر فيه، فلما طالت المدة ضاقت أعطانهم وأعطان مماليكهم أكثر؛ لأنه ما يلائم العرب صحبة الأتراك وقشف البادية وخشونة عيشها، وشرعوا في الهرب فخاف قراسنقر من الوحدة، فقال لمهنا في هذا، فقال: أنا كنت أريد الحديث معك في هذا، ولكن خشيت أن تظن بي أنني استثقلت بكم، لا والله، ولكن أنتم ما تضمكم إلا الحاضرة والمدن، وهذا قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق - يعني خربندا - وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيئه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه ويعدهم بالإحسان، فتوجهوا إليه، فوجدوا منه ما أنساهم مصيبتهم، وسلاهم عن بلادهم، وكان وصولهم إلى ماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتلقاهم صاحبها، وحمل إليهم بأمر خربندا ستين ألف درهم وفي كل يوم مئة مكوك شعيراً وخمسين رأساً من الغنم، وأقاموا عنده في بستان مدة تسعة أيام، وتوجهوا إلى خربندا. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني قال: لما جاؤوا أمر السلطان خربندا للوزير أن يبصر كم كان لكل واحد منهم من مبلغ الإقطاع ليعطيهم نظيره، فأعطاهم على هذا الحكم، فأعطى قراسنقر مراغة، وأعطى الأفرم همذان، وأعطى الزردكاش نهاوند، وتفقدهم بالإنعامات حتى غمرهم. وقال: لقد كنت حاضراً يوم وصولهم، واختبرهم في الحديث، وقال عن قراسنقر: هذا أرجحهم عقلاً؛ لأنه قال لكل واحد منهم: أيش تريد، فقال شيئاً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فقال قراسنقر: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوجها، فقال: هذا كلام من يعرفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده، فعظم عنده بهذا، وأجلسه فوق الأفرم، وسنى له العطايا أكثر منه، وزوجه ابنه قطلوشاه، وسماه آقسنقر؛ لأن المغل يكرهون السواد، ويتشاءمون به. قال القاضي شهاب الدين: وكان خربندا وابنه بوسعيد يحضران قراسنقر في الألطاع والأرغو معهما دون الأفرم، وهما من مواضع المشورة والحكم. وامتد عمر قراسنقر بعد الأفرم، ووقع الفداوية عليه مرات ولم يقدر الله - تعالى - أنهم ينالون منه شيئاً، وما قدروا عليه إلا مرة وهو بباب الكرباس منزل القان، فإنهم وثبوا عليه وهو بين أمراء المغل، فخدش في ساقه خدشاً، وتكاثر مماليكه والمغل على الواقع فقطعوه، ولم يتأثر قراسنقر لذلك. انتهى. قلت: يقال: إن الذي هلك بسببه من الفداوية ثمانون رجلاً. حكى لي مجد الدين السلامي الخواجا قال: كنا يوم عيد بالأردو، وجوبان وولده دمشق خواجا إلى جانبه، وقراسنقر جالس إلى جانبه وهو قاعد فوق أطراف قماش دمشق خواجا، فوقع الفداوي عليه، فرأى دمشق خواجا السكين في الهواء وهي نازلة، فقام هارباً، فبسبب قيامه لما قام مسرعاً تعلق بقماشه تحت قراسنقر، فدفع قراسنقر ليخلص، فخرج قراسنقر من موضعه، وراحت الضربة في الهواء ضائعة، ووقع مماليك قراسنقر على الفداوي فقطعوه قطعاً، والتفت إلي قراسنقر وقال: هذا كله منك، وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءاً؛ وأخذ في هذا وأمثاله، ونهض إلى القان بوسعيد وشكا إليه، ودخلت أنا وجوبان خلفه، فقال للسلطان بوسعيد: يا خوند، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 إلى متى هذا؟ بالله اقتلني حتى أستريح، والله زاد الأمر وطال، وأنا فقد التجأت إليكم، ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم، والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه الحر والبرد. فانزعج بوسعيد لهذا الكلام، وقال لي بغيظ: إلى متى هذا وأنت عندنا والفداوية تخبؤهم عندك لهذا؟ فقلت: وحياة رأس القان ما كان عندي، وإنما حضر أمس مع فلان، لكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة: إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي، وقد قتل أخي، وما أرجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزائن مصر على قتل هذا وهذا دخل إليكم قبل الصلح بيننا، وهو مستثنى من الصلح، فعند ذلك قال جوبان: هذا حقه، نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه؛ وخرج فانفصلت القضية. وحكى لي علاء الدين بن العديل القاصد قال: توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر، فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم أو يومان ونحن في قفل تجار والفداوية مستورون أحدهم جمال والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق، فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا، فتقدموا إلى أولئك الأربعة وأمسكوهم واحداً واحداً من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم من القفل، وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم، وكذلك فعل بغيرهم. قلت: والظاهر أنه كانت له عيون تطالعه بالأخبار، وتعرفه المستجدات من دمشق ومن مصر، فإنه كان في هذه البلاد نائباً، وقد جهز جماعة من الفداوية، ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه، وما كان يغفل عن أمر الفداوية، وإ، هـ ما كان يؤتى عليه إلا منهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 قال القاضي شهاب الدين: ومات في عزه وجاهه معظماً بين المغل كأنه ما ربي إلا فيهم، ويقال: إنه ملك ثماني مئة مملوك، وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة، وإنما كان عنده مماليك كثيرة، وحصل أموالاً جمة، وكان يعطي لمماليكه الأموال الكثيرة، وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوائص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور والقماقم وغير ذلك من كل شيء فاخر. وتأمر في حياته بنوه الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف، والأمير علاء الدين على إمرة أربعين، وفرج بعشرة. وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جركس بطلبخاناه، وبهادر وعبدون بعشرات. قال شهاب الدين بن الصنيعة النقيب: لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبع مئة كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر؛ لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكهم وأتباعهم. وكان في حلب، والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره، وكان مع العظمة الكبيرة يداري بماله ويصانع حواشي السلطان حتى الكتاب والغلمان، فيقال له في ذلك، فيقول: ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر، وواحد من هؤلاء يجيء له وقت يلقح كلمةً تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت. وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء، فحقن الله دمه وأذهب ماله. قال القاضي شهاب الدين: حكى الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 الصوفي قال: كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر المماليك والناس، فعمل المولد مرة في سنة من السنين، فحضره قراسنقر، وكان في المولد رجل شريف صالح مغربي يعرف بالمراكشي، فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وخلع سيفه وشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام، وشرع يقطع المشوي لهم، ولا يدع أحداً يتولى خدمتهم سواه، فقال المراكشي: من هذا؟ فقالوا له: هذا الأمير شمس الدين قراسنقر، أمير كبير صفته نعته، ومكانته في الدولة كبيرة، فقال: لا إله إلا الله! يعيش سعيداً وينزل به في آخر عمره كائنة، ويخلص منها ويخلص بسببه غيره، ويسلم وما يموت إلا على فراشه. وكان لا يأخذ من أحد شيئاً إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة، وأين مثله أو من يقارب فعله؟! حكي أن شخصاً من أبناء الأمراء الكبار بحلب كان يحب صبياً اشتهر به وعرف بحبه، فاتفق أن ذلك الصبي غاب، فاتهمه أهله بدمه وشكوه إلى الوالي، فأحضره وقرره بالضرب والتعليق، فلم يصبر وقال: قتلته، فألزم به وأودع الحبس على دمه، وكان بريئاً، فتحيل في إرسال شيء. خدم به قراسنقر، فأمر أن ينظر ولا يعجل عليه، فما مضت مدة حتى جاء كتاب نائب ألبيرة يخبر بأنه قد أنكر على صبي من أبناء النعمة مع جماعة من الفقراء قصدوا الدخول إلى ماردين، وأنه رده إلى حلب ليحقق أمره، فلما جاء إذا به ذلك الصبي بعينه، وظهرت براءة المتهم وخلي سبيله، وغفل عنه قراسنقر مدة لا يذكره إلى أن مات أمير بحلب وخلف نعمة طائلة ولا وارث به، فلما أتاه وكيل بيت المال والديوان يستأذنونه في الحوطة عليه، فقال: هذا مال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 كثير، أريد واحداً من جهتي يكون معكم، وطلب ذلك الرجل وأمره أن يكون معهم، فحصل من تلك التركة محصولاً جيداً، وعمل به ذهباً أضعاف ما أعطي قراسنقر أولاً، وأتى بالذهب إلى قراسنقر وقال: يا خوند، هذا الذي تحصل، فقال: بارك الله لك فيه، نحن أخذنا نصيبنا منك أولاً سلفاً؛ ولم يأخذ منه شيئاً، رحمه الله وسامحه. وكان ورد إلى بغداد في أول شهر رمضان سنة خمس عشرة وسبع مئة، ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا، وأقام ببغداد ثلاثة أشهر ونصفاً، ثم عاد إلى خدمة خربندا، وكان عزمه الإغارة على أطراف الشام، فلم يؤذن له، ووثب عليه فداوي في ذي القعدة فلم يصل إليه وقتل الفداوي. قرا طرنطاي الأمير حسام الدين. كان أميراً بحلب، ونقل إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين ملكتمر المعروف بالدم الأسود، فوصل إلى دمشق مريضاً، ومات - رحمه الله، تعالى - بعد أيام قلائل في مستهل شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، ووصى إلى الأمير سيف الدين بلاط. قراقوش الأمير بهاء الدين. كان يقال: إنه ظاهري، أتى إلى صفد أميراً على طبلخاناه، وكان عنده مماليك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وخدام طواشية وأولاد ناس أتباع له ملاح. وأقام في صفد مدة مديدة. وقيل: إن القاضي فخر الدين ناظر الجيش كان يكرهه ويحط عليه؛ لأنه كان في وقت قد عمل شد الدواوين بالقاهرة، وكان فيه معرفة، وعنده مجلدات، ويستنسخ الكتب الأدبية وغيرها. وحكي لي أنه كان بالوجه البحري مباشراً شيئاً من أمور الدولة، فلما وزر ابن السلعوس كتب إليه كتاباً، فأغلظ قراقوش في الجواب، ثم إن الوزير أحضره بعد ذلك وضربه بالمقارع. اللقب القرامزي: عبد الرحمن بن أبي محمد. القرافي: صفي الدين محمود بن محمد. قرطاي الأمير شهاب الدين الأشرفي الجوكندار الحاجب، نائب طرابلس. كان معدوداً في الأبطال، ومسروداً في عداد أبي محمد البطال، قد مارس الحروب، وعرف الأماكن والدروب، وتمرن في الحصارات، وتدرن جسمه بعد التنعم في الإغارات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وكان كثير الاحتشام، عزيز المكارم التي تنتجع بروقها وتشام، معروفاً في الشام ومصر بالكفاءة، مشهوراً بالحمل والأناءة: تشف على جسم الزلال صفاته ... وتلطف عن روح النسيم شمائله أقام بطرابلس في المرة الأولى نائباً إلى أن عزل، وقطع أمره فيها وخزل، وحضر إلى دمشق وكان فيها أميراً كبيرا، نازلاً في حماها محلا أثيرا، يعظه تنكز ويرعى جانبه، ويجمل به مواكبه، إلى أن أعاده إلى طرابلس ثانياً نائباً كما كان، ووطد له عند السلطان القواعد والأركان. ولم يزل إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكان - فيما أظن - بحلب حاجباً في واقعة قراسنقر لما توجه إلى الحجاز وعاد من بركة زيزاء إلى حلب وأحاط، فوقف الأمير شهاب الدين قرطاي في وجهه ومنعه من الدخول إليها، فقال: أنا ما جئت إلا لأجل مملوكي جركس، فقال: خذه، وما عسى أن تفعله أنت وهو؟! وكان قد عزل عن طرابلس في المرة الأولى في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضر إلى طرابلس عوضه الأمير سيف الدين طينال المقدم ذكره. وأقام الأمير شهاب الدين بدمشق على إقطاع الأمير بدر الدين بكتوت القرماني، ولم يزل بها مقيماً إلى أن أعيد إلى نيابة طرابلس في العشر الأواخر من سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة عوضاً عن الأمير سيف الدين طينال، وجهز طينال إلى غزة نائباً، ونقل السنجري من غزة إلى نيابة حمص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 قردم الأمير الكبير سيف الدين أمير آخور كان في أيام الصالح صالح، وهو في محل كبير، فعمل عليه وأخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار الصالحي، فوصل إلى دمشق في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وطلب تلك الشحنة إلى مصر، فأقام الأمير سيف الدين قردم إلى أن أمسكه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي بين العشاء ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، واعتقله بقلعة دمشق، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان الملك الصالح إلى دمشق، في واقعة بيبغاروس، ولما توجه إلى مصر أخذ معه صحبة من أمسك في تلك الواقعة إلى مصر، ثم إنه أفرج عنه وحضر إلى دمشق نائباً في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ورتب له على الديوان في كل يوم خمسون درهماً، فلما مات الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي أنعم عليه بإقطاعه وتقدمته على الألف. واستمر على حاله بدمشق في جملة مقدمي الألوف إلى أن مرض، وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم الأحد تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. اللقب والنسب ابن قرصة: أحمد بن محمد. عز الدين أحمد بن موسى. ابن قرطاس: عبد الرحمن بن محمود. القرماني: الأمير بدر الدين بكتوت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 القرمي: قاضي طرابلس الحسن بن رمضان. قرمشي بن أقطون الأمير سيف الدين ابن الأمير علاء الدين الحاجب بمصر والشام. كان رجلاً داهيه، وذا همة لم تكن بغير المعالي لاهيه، خاطر في أمر لو انعكس عليه لم يكن لحمزة التركماني غيره ثانيا، ولم يصبح الهلال الوخي لعنان الموت عنه ثانيا، ولكنه حصنه الأجل، واستعمل القدر فيه التأني لا العجل، على أنه ما انشق له زهر السلامة عن الكمام، ولا سقي روض نجاته بحب الغمام، حتى وقع في أحبولة القدر وكان كمن سلم من الحمام إلى الحمام. ومن تعلق به جمة الأفاعي ... يعش، إن فاته أجل، قليلا وكان في صباه قد تنسك، وبحبال الآخرة تمسك، وامتنع من دخول الحمام، وأعرض عن لذات هذه الدنيا ورفض ما فيها من الحطام، وأخذ في مطالعة الأحاديث النبويه، والاقتفاء بسيرة السلف المرضيه، وتتلمذ للشيخ العلامة تقي الدين بن تيميه، وكانت ترد عليه بالنهي عن التمسك بالأمور الدنيويه، هذا وأبوه أمير كبير حاجب بصفد، والدنيا مقبلة عليه بالعطاء والمنح والصفد، وهو عنها بمعزل، وإذا ضربت له سرادق الدولة لا يعرج إليها ولا ينزل. ثم إنه انسلخ من ذاك، وآثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 الفكاك، ونسي أن سلامة العقبى كانت له خيرا، وتلك الطريقة الأولى كانت أحمد سيرا. وتنقلت به الأحوال فتقدم في دمشق فكان بها من جملة الحجاب، وأولي التقدم عند تنكز والاقتراب، ثم توجه إلى مصر فكان فيها حاجبا، ونال من الحظوة عند السلطان ما كان له واجبا، ثم إنه حضر إلى صفد وولي بها نيابة القلعة، ومنها كانت القلعه، وطلب إلى دمشق واعتقل، وحل به من نوائب الزمان ما لا عرف ولا عقل. وكان موته - رحمه الله، تعالى - في شهر شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر باب النصر بدمشق. كان قد نشأ بصفد على خير وديانة وتعبد، ولم نعلم له صبوة، وكان يحب الفقراء والصلحاء، ويميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وأصحابه، واختص بالأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، وكان يسمر عنده ويلازمه ليلاً ونهاراً. ولما كان في سنة ست وثلاثين اختص بالأمير سيف الدين تنكز، وأقام عنده ليلاً ونهاراً بدمشق، وأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وصار من أحظى الناس عنده، ثم إنه أعطاه عشرة أرماح بدمشق، وعلت مكانته عنده، وتردد في البريد مرات عديدة. ثم إنه توجه مع الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله، تعالى - لما توجه إلى مصر، وهي آخر مرة توجه فيها إلى مصر، فغير إقطاعه هناك بالإمرة ثلاث مرات، وولاه الحجوبية بدمشق. ولما أمسك هو طلب سيف الدين قرمشي إلى مصر، فتوجه إليه، وأقام بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 حاجباً في باب السلطان، وكان الناس يرون أنه كان له باطن في واقعة تنكز، وشنع الناس بأنه نم على تنكز ورماه بما غير خاطر السلطان عليه، والله أعلم، فنفرت قلوب مماليك السلطان منه، وأبغضه الأمراء. ثم إنه في أول دولة الصالح إسماعيل طلب الخروج إلى دمشق، فحضر إليها أميراً، ثم رسم له بالتوجه إلى صفد أميراً، ثم إنه بقي بها حاجباً. ثم إنه رسم له بنيابة قلعة صفد، فباشرها على أحسن ما يكون، وبالغ في عمارتها، ورم ما تشعث منها، فاجتهد في ذلك. ثم إن الأمير سيف الدين الملك نائب صفد لما أمسك في أيام الكامل شعبان شنع الناس أن الأمير قرمشي هو الذي نم عليه، وكتب إلى مصر في السر يقول: إنه قد عزم على أنه يهرب، فجددت هذه المرة عليه ما كان كامناً في نفوس الأمراء. ولما برز الأمير سيف الدين يلبغا من دمشق إلى الجسورة، واجتمع عليه العساكر طلبه ليحضر إليه، فوعده بذلك ولم يحضر، واتفق أن وردت كتب الكامل إلى قرمشي في الباطن، فجهزها هو من جهته إلى أمراء الشام وغيرهم، وأمسك قصاده بالكتب، فحرك ذلك عليه ساكناً عظيماً. ولما استقر الملك للمظفر حاجي جهز يلبغا حاجي إلى قرمشي، وأحضره على البريد، وأودعه معتقلاً في قلعة دمشق هو وأولاده وجماعة من أهله، فأقام بها قريباً من شهر أو أكثر، ثم أفرج عن أولاده وجماعته، وخنق وأخرج في الليل في صندوق، ودفن في مقابر الصوفية؛ رحمه الله تعالى وعفا عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 ولما كنت بالديار المصرية سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له مرسوماً بنيابة قلعة صفد ارتجالاً من رأس القلم، وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بسيفه الماضي الشبا، وأيده بخير ولي تقصر عن بأسه سمر القنا وبيض الظبى، وحصن معاقله بكفء تأرج عنه الثنا وطاب النبا، وحمى سرحه بفارس إذا أظلم العجاج أطلع في دجاه من سنانه اللامع كوكبا. نحمده على نعمه التي لا يداني جودها غمام، ولا يقارب حسن مواقعها تبسم زهر من ثغر كمام، ولا يجاري سراها برق تسرع جواده في ميدان ظلام، ولا يحاكي تواخيها في نواحيها ازدواج لآلئ تألفت حباته في النظام. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً رقم الإيمان برودها، وختم البرهان وجودها، وحسم الإدمان عنودها، ونظم الإيقان عقودها. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي تثنى الخطار من بأسه طربا، وضحك البتار في يمينه الشريفة عجبا، وولى الأدبار عدو الدين ممنعاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 هربا، وباد الكفار من حزبه لما ذاقوا ويلاً وحربا. صلى الله عليه وعلى آله الذين سادوا الأنام، وجادوا بما فاق الغمام، وعادوا بفضلهم على أولي الفاقة والإعدام، وحادوا عن طرق الضلال والظلام، صلاةً دائمة السنا، قائمةً بنيل المراد والمنى، ما ابتسم في الروض ثغر أقاح، وفتق غمد الظلام شفرة صباح. وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وبعد فإن ثغر صفد المحروسة من الحصون المشيده، والمعاقل الفريده، قد طاولت النجوم شرفاته، وعلت على الغيوم غرفاته، وتلهبت ذبالة الشمس في سراجه، ونفض الأصيل زعفرانه على بياض أبراجه. كم لاثت الغمائم على هامته عمائم، وكم لبست أنامل بروجه من الأهلة خواتم. والنيابة فيه منصب شريف، وفضل على الكواكب ينيف. وكان المجلس السامي الأمير سيف الدين قرمشي ممن جمل الدولة، وفاز بالقرب من الملوك الأول، ونصح والدنا الشهيد فأدى من حقه واجبا، واجتهد في رضاه فكان له عيناً وحاجبا، وآثر عوده إلى وطنه فنولناه مرامه، وأجبنا قصده الذي أحكم نظامه، رغبةً في العزلة والانجماع عن الناس، وطلباً للانفراد والخلوة وما في ذلك من باس، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، والمولوي، السلطاني، الملكي، الصالحي العمادي - أعلاه الله، تعالى، وشرفه - أن يستقر في النيابة بقلعة صفد المنصورة على أجمل العوائد وأكمل القواعد، فليجهد في مراعاة أحوالها، وتفقد مباشريها ورجالها، ورم ما تشعث من بنائها، وإصلاح ما تحتاج إليه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 ربعها وفنائها، فإن لها منه أيام والده المرحوم إيثارا، وله في عمارتها آثارا، فليجرها على ما عهدت، وليزكها فيما له شهدت، ويبذل الجهد في تشييدها، ودوام تحصينها بالرجال وتخليدها، وتثمير حواصلها بالسلاح والعدد والغلال، وعرض رجالها النفاعة فما الحصون إلا بالرجال، ومثله لا يذكر بوصية، ولا ينبه على مصلحة دانية أو قصية، ولكن التقوى هي العمده، والكنز الذي لا يفنى في الرخاء ولا في الشده، وهي به أليق، وبشد عراه أوثق؛ والخط الشريف - أعلاه الله تعالى أعلاه - حجته في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله، تعالى. قشتمر الأمير سيف الدين قشتمر زفر - بفتح الزاي والفاء وبعدها راء -. أول ما علمته من أمره أنه حضر في سنة ستين وسبع مئة من الديار المصرية إلى نيابة الرحبة، فأقام بها إلى أن حضر إلى دمشق، وتوجه بدله الأمير سيف الدين قطلو بن صاروجا. وأقام قشتمر زفر بدمشق إلى أن خرج الأمير بيدمر، فجهزه الأمير سيف الدين تمان تمر نائب طرابلس، فأحضره إلى دمشق، فنقم عليه ذلك. ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي إلى دمشق أمر بإمساك سيف الدين قشتمر زفر فأمسك، واعتقل بقلعة دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وتوفي في محبسه في يوم الجمعة سادس عشر شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، رحمه الله، تعالى. الأنساب والألقاب ابن قريشة: الشيخ تقي الدين محمد بن بركات. أخوه محيي الدين عبد القادر. أخوهما الشيخ إبراهيم. ابن قريش: علي بن إسماعيل. ابن قرناص: علاء الدين علي بن إبراهيم، وهبة الله محمود. القرندلي الكاتب: محمه بن بكتوت. ابن القزاز: محمد بن أحمد. ابن القسطلاني: محمد بن أحمد. وجمال الدين محمد بن محمد بن الحسن. ابن قطرال: محمد بن علي بن محمد. قطب الدين السنباطي: محمد بن عبد الصمد. قطز الأمير سيف الدين أمير آخور. لما أخرج الأمير حسام الدين لاجين آخور الكبير إلى دمشق من الديار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 المصرية - على ما سيأتي - جعل هذا الأمير سيف الدين مكانه، وذلك في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فبقي في الوظيفة إلى أن خلع المظفر حاجي في شهر رمضان من السنة المذكورة، وتولى الملك الناصر حسن، فأخرج الأمير سيف الدين قطز إلى نيابة صفد عند موت الأمير سيف الدين أولاجا نائبها، فأقام بصفد نائباً إلى ثاني شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مئة. فوصل الأمير شهاب الدين أحمد الساقي إلى صفد نائباً، ورسم للأمير سيف الدين قطز بالحضور إلى دمشق ليكون بها مقيماً من جملة أمرائها ما عاش، إلى أن جاءه منشوره. بل توفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. قطلقتمر قلي الأمير سيف الدين الناصري، أحد الأمراء بدمشق أصحاب الطبلخاناه. كتب في حقه أرغون شاه إلى باب السلطان وشكاه، وسأل نقله إلى حلب، فأجيب إلى ذلك. وكان قد جرد من دمشق صحبة العسكر إلى سيس سنة خمسين وسبع مئة، فكتب أرغون شاه إلى نائب حلب أنه إذا عاد العسكر الدمشقي يتقدم إليه بالإقامة في حلب حسبما رسم به، فأقام بها تقدير خمسة أشهر أو أقل. وتوفي إلى رحمة الله - تعالى - في جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة. قطلقتمر الأمير سيف الدين. كان يعرف بصهر الجالق. وكان أحد الأمراء بدمشق، ثم إنه ولي نيابة غزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وأمسك في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وجاء عوضه الأمير علم الدين الجاولي. قطلوبغا الأمير الكبير الداهية الشجاع المقدام سيف الدين الساقي الناصري المعروف بالفخري. رجل لا يهاب الموت، ولا يعبأ بالفوت، أسد يصول بمخلب من صارمه، ويربض في غاب من ذوابله التي ينصلها من عزائمه، دبر الحروب، وثبت في موقف تهرب منه الخطوب، كحل عيون النجوم بمراود الرماح، وضوأ الدجى الحالك بصباح الصفاح، ونور العجاج فكان كالإثمد والنجوم فيه مثل العيون الرمد، ومزقه بالبيض المرهفات لما نسجت ملاءته المطهمة الجرد: ينم على فتكاته زهر القنا ... كذاك حديث الزهر يحلو إذا نما ويحلو مع الخطي من كلف به ... ويحسبه قداً فيوسعه ضماً وكان الناس يظنون به أنه فارس صيد، لا فارس حرب وكيد، وأنه حامل راية كاس، لا حامل راية القنا الدعاس، إلى أن قام في ناصر أحمد الناصر، وشهدت له بالفروسية والثبات الأواصر، وظهر عن تدبير ساعدته عليه المقادير، وثبت في وقت اللقاء ثبات الأنجاد المغاوير، وثبت للقاء جيش الشام بمجموعه، ورزقه الله النصر من أول طلوعه، وكان هو في دون الألفي فارس، وخصمه في أكثر من عشرين ألفاً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 إلا أنهم في عداد الأطلال الدوارس، وكان يوماً عظيماً في النصر، ومشهداً تفوت عجائبه العد والحصر، وسار ألطنبغا في بيداء سملق، وسار الفخري ونزل القصر الأبلق. ولكن قلبت هذه السعادة إلى تعاسه، فصلت عن جسده راسه، وقطعت من الحياة أمراسه، وقتل صبرا، وألقي على الأرض شلواً لا يودع قبرا، فسبحان من بيده تصاريف الأمور، وبأمره الحبور إلى الثبور. وكانت قتلته بظاهر الكرك في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من رفعة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، ولم يكن لأحد من الخاصكية ولا من غيرهم إدلاله على السلطان، ولا فيهم من يكلمه بكلامه ويرد عليه الأجوبة الحادة المرة وهو يحتمله. وقد تقدم شيء من ذكره في ترجمة أخيه الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر. لم يزل عند السلطان أثيراً عالي المكانة إلى أن أمسكه في نوبة إخراج أرغون النائب إلى حلب في سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان الفخري ممن يكره الأمير سيف الدين تنكز ويحط عليه، وهو الذي ساعد الأمير حسين بن جندر عليه، يقال: إنه توجه مرة إلى بابه، وأقام - فيما قيل - من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 بكرة إلى الظهر حتى أذن له في الدخول، ولما أخرجه السلطان معه إلى الشام في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة شد الشلو في وسطه، وكان يركب في خدمته ويترجل قبل نزوله ويمشي في ركابه بالخف من غير سرموزة، ويحصل الصيد بين يديه، ويطعم طيوره، ولم يزل يدخل في قلبه بالخدمة إلى أن أحبه ومال إليه. قال تنكز مرة: والله أشتهي أن أركب مرة، وما أخرج ألتقي الفخري واقفاً ينتظرني. قيل: إنه كان له واحد واقفاً دائماً بدار السعادة متى قدمت فرس تنكز للركوب توجه إليه وأعلمه، ويكون هو قاعداً متأهباً للركوب، فيركب ويقف ينتظره، فأحبه محبة شديدة حتى لم يبق عنده بدمشق أعز منه. وقال تنكز عن الفخري: والله لو خدم أستاذه عشر هذه الخدمة ما كان أحد منا نال مرتبته. كان يوماً في ضيافة الأمير صلاح الدين بن الأوحد، وقد شربوا القمز، فدخل عليهم الأمير سيف الدين أوران الحاجب وهو عند تنكز بمحل كبير، فأخذ الفخري الهياب وقام وقال: عندك يا أمير، فلم يقبله، فألح عليه، فلم يوافقه، فقال تنكز: عندي يا أمير، أنا أحق بك، والله يا أمراء ما عند أستاذنا أكبر منه ولا أعز، ولو وطأ نفسه قليلاً ما كان عند أستاذنا فينا أحد يصل إلى ركابه، وأخذ في الثناء عليه والشكر منه، ومنها، وكان الواقع، وانتحس أوران بها إلى أن مات، وكان إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 شفع عنده ما يرده. ولم يزل إلى ترضى له السلطان. وكان بعد ذلك يحضر إليه الخيل والجوارح وغيرها من السلطان. ولم يزل في دمشق على هذا الحال إلى أن كتب السلطان إلى الفخري في الباطن في إمساك تنكز، وقال له: يا ولدي، ما خبأتك إلا لهذا اليوم، أبصر كيف تكون، وهذا من راح معه راح بلا دنيا ولا آخرة، فاجتمع هو والأمراء بدمشق، وخرجوا إلى الأمير سيف الدين طشتمر، وأمسكوا تنكز، على ما تقدم في ترجمته، فنظر إليه تنكز والتركاش في وسطه، فقال له: يا فخري، لا إله إلا الله، وأنت الآخر بالتركاش؟! فقال: ما شد إلا في يومه. ثم إنه أقام بعده بدمشق إلى أن حضر الأمير سيف الدين بشتاك وأخذ حواصل تنكز وخزائنه، وتوجه بها. ثم توجه الفخري إلى مصر بطلبه، وعظمه السلطان زائداً، ولم يزل في أعز مكانة إلى أن توفي السلطان الملك الناصر، فأظهر الميل إلى قوصون، وكان معه على بشتاك، وحضر إلى الشام، وحلف العساكر الشامية للمنصور أبي بكر، وذلك أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، ونزل في القصر، وخرج الناس لملتقاه، ودعوا له، وخصصوه بالدعاء دون ألطنبغا، وقدم له الأمراء بدمشق، وعاد إلى القاهرة. ولما جرى للمنصور ما جرى وخلعوه وملكوا الأشرف علاء الدين كجك وجعلوا الأمير سيف الدين قوصون، مال الفخري إلى قوصون ميلاً عظيماً وقام بنصره، وطلب قوصون من يتوجه إلى الكرك ليحاصر أحمد، فلم يجسر أحد غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 الفخري، فخرج هو والأمير سيف الدين قماري في ألفي فارس إلى الكرك، وحصر أحمد، ووسط جماعة من أهل الكرك، وبالغ وربما أفحش في خطاب الناصر أحمد، فحقدها عليه، ثم لما بلغ الفخري أن ألطنبغا نائب دمشق توجه إلى حلب لإمساك طشتمر نائبها، وخلت دمشق من العسكر، حضر الفخري إلى دمشق وترك الكرك، وخرج أهل دمشق إليه وتلقوه ودعوا له، فدخلها ونزل على خان لاجين، واقترض من مال الأيتام مبلغ أربع مئة ألف درهم ونفق فيمن معه من العسكر، ولحق الأمير بهاء الدين أصلم - وهو على قارا - بعسكر صفد ليلحق الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى حلب، فبعث إليه الفخري ورده، وطلب الأمراء الذين تخلفوا في بر دمشق، فحضروا إليه، وأقام بخان لاجين، وكتب إلى الأمير سيف الدين طقزتمر نائب حماة، فحضر إليه وتلاحق الناس به، ولما حضر طقزتمر إليه قوي جأشه وجأش من معه. وكان لما دخل إلى دمشق أحضر الناس وحلفهم للناصر أحمد، ودعا الناس إلى بيعته، ومال الخلق إليه، واستخدم الجند البطالة ورتب أناساً في وظائف، ووعده الناس كثيراً، وحضر إليه الأمير شمس الدين آقسنقر السلاري لما كان في غزة نائباً وأمسك الطرقات وربطها من صرخد إلى بيروت على من يحضر من مصر إلى حلب أو يحضر من حلب إلى مصر، وأمسك البريدية وأخذ ما معهم، وعمى الأخبار على قوصون وعلى ألطنبغا، وظهر بعزم كبير وحزم كثير، وساعده القدر وخدمته السعود زائداً، حتى لقد كنت أعجب منه. وصار أمره كلما جاء قوي، وأمر ألطنبغا كلما جاء انحل وضعف، وترددت الرسل بينه وبين ألطنبغا، وطال الأمر بينهما، ولم يزالا كذلك إلى أن وصل ألطنبغا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 حلب ونزل القطيفة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجبن عن لقاء الفخري ومعه عسكر دمشق وعسكر حلب وعسكر طرابلس في عدة تسعة عشر ألف فارس أو أكثر، وضعفت نفوس الذين مع الفخري؛ لأنهم دون الثلاثة آلاف بمن معهم من رجالة الجبلية من أهل البقاع وبعلبك، وترددت القضاة بينهما، ومال الفخري إلى الصلح وقال: أرجع عنك بشرط أن توفي عني مال الأيتام؛ لأنني أنفقت على من معي من العسكر، ولا تقطع من رتبته في وظيفة. فتوقف ألطنبغا، وطال التردد بينهما، والعسكران في المصاف، وهلك من مع ألطنبغا من الجوع؛ لأن عسكر الفخري حال بينهم وبين دمشق، وسيب المياه على المرج، فحال بينه وبين حريمه، وبين العسكر وبين دمشق، ولو نزل ألطنبغا ولم يقف بالقطيفة داس الفخري ومن معه دوساً، ولو وافق الفخري على ما أراد ودخل إلى دمشق دخلها وملكها وبقي على حاله نائباً، وكان الفخري يكون ضيفاً عنده تحت أوامره ونواهيه، ولكن إذا أراد الله أمراً بلغه، فلم يكن ذلك النهار إلا بمقدار الثالثة من النهار حتى مال العسكر الشامي بمجموعه إلى الفخري، وحركوا طبلخاناتهم وتحيزوا إلى الفخري، وتركوا ألطنبغا وحده على ما مر في ترجمته، فهرب فيمن هرب معه من الأمراء، ودخل الفخري بعساكره إلى دمشق، وملكها ونزل القصر الأبلق، وأخذ في تحليف العساكر للسلطان الملك الناصر أحمد، وجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فقال: جهز لي الأمراء الكبار الذين عندك. فتوجه إليه الأمير سيف الدين طقزتمر، والأمير بهاء الدين أصلم، والأمير سيف الدين قماري، وعلم الدين سليمان بن مهنا، فتوجهوا إلى الكرك، وعادوا ولم يحضر معهم، ووعده بأنه إذا حضر طشتمر نائب حلب حضرت، فأخذ الفخري في العمل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 حضور طشتمر من بلاد الروم، ولم يزل في الليل والنهار يعمل على ذلك إلى أن حضر، ووصل إلى دمشق، فخرج وتلقاه، وأنزله بالنجيبية على الميدان، وحمل إليه مالاً عظيماً. ووردت كتب الملك الناصر أحمد إلى الأمراء الكبار بالشام تتضمن أن الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري هو كافل الشام يولي النيابات الكبار لمن يختار، فوجه الأمير علاء الدين طيبغا حاجي إلى حلب نائباً، ووجه الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار إلى حمص نائباً، ووجه الأمير سيف الدين طينال إلى طرابلس نائباً، وشرع في عمل آلات السلطنة وشعار الملك، ويسأل من الناصر أحمد الحضور وهو يسوف به وبالأمير سيف الدين طشتمر إلى أن عزم الفخري وطشتمر على التوجه إليه بالعساكر إلى القاهرة، فلما قاربا القاهرة بعث إلى الفخري وإلى طشتمر من يتلقاهما، وأكرم نزلهما، واستتب الأمر للناصر أحمد، وحلف المصريون والشاميون له، وكان يوم البيعة الفخري واقفاً مشدود الوسط، وبيده عصاً محتفلاً بذلك الأمر احتفالاً كبيراً. وخرج الأمير سيف الدين آقسنقر الناصري إلى غزة نائباً، وخرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي إلى صفد نائباً، وخرج الأمير سيف الدين الملك إلى حماة نائباً، وخرج الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور إلى حلب نائباً، وخرج الفخري بعد الجميع إلى دمشق نائباً، فلما كان قريباً من العريش لحقه الأمير علاء الدين ألطنبغا المادراني في ألفي فارس لإمساكه والقبض عليه، فأحس بذلك، ففرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 ما معه من الأموال وهرب في نفر قليل من مماليكه، ولحق بالأمير علاء الدين أيدغمش وهو على عين جالوت، واستجار به. فأكرم نزله أول قدومه، ثم بدا له فيما بعد، فأمسكه وقيده وجهزه مع ولده أمير علي إلى القاهرة، فلما بلغ الناصر أحمد إمساكه خرج إلى الكرك، وأخذ معه طشتمر - وكان قد أمسكه أولاً على ما تقدم في ترجمته - وسير إلى أمير علي من تسلم الفخري منه، وسار به إلى الكرك، ودخل الناصر أحمد الكرك، واعتقل الفخري وطشتمر بالكرك مدة يسيرة، فيقال: إنهما في ليلة كسرا باب حبسهما وخرجا، ولو كان معهما سيف أو سلاح ملكا قلعة الكرك تلك الليلة، وكان الناصر أحمد في تلك الليلة قد بات خارج القلعة، ولما أصبح أحضرهما وقتلهما صبراً قدامه. يحكى أن طشتمر خار من القتل وضعف وانحنى، وأما الفخري فلم يهب الموت، وقال للموكلين بهما: والكم قدموني قبل أخي هذا، فإن هذا ماله ذنب، لعله يحصل له بعدي شفاعة. وكان قتلهما في التاريخ المذكور. وكان الفخري شجاعاً مقداماً أريباً داهيةً حليماً جواداً أمياً لا يحسن يكتب شيئاً، وإنما يكتب على التواقيع وعلى الكتب دواداره طغاي. قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: ما رأيت أكرم منه، لا يستكثر على أحد شيئاً يطلبه. انتهى. قلت: ولما جاء ونزل في القصر الأبلق بعد هروب ألطنبغا كتب كتباً على لسانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 إلى الأمراء المصريين، ورمى بينهم، فاختلفوا على قوصون وأمسكوه، هذا وهم في قصر دمشق فعل هذه الفعلة، فكنت أعجب من دهائه مع غتميته وأميته وما دبره وما اعتمده حتى خبط الشام ومصر. على أنه لما أدبرت سعادته كان حتفه فيما دبره: إن المقادير إذا أبرمت ... ألحقت الحازم بالعاجز ولقد أقول إذا فكرت فيه: أضاعوه وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر وقلت أنا فيه لما قتل - رحمه الله، تعالى -: سمت همة الفخري حتى ترفعت ... على هامة الجوزاء والنسر بالنصر وكان به للملك فخر فخانه ال ... زمان فأضحى ملك مصر بلا فخر ولما كان بعد واقعته جلسنا يوماً بحماة في خدمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فأخذ في نظم شيء من المجون مع شخص ينبسط معه، ونظم هو وغيره أشياء ما بين هجو وما بين مجون، وألزمني، فاستعفيت، فقال: لا بد، وأقسم علي، فقلت: هل لك في أير غدا رأسه ... تعجب منه قبة النسر لو أنه في جيش ألطنبغا ... خري له قطلوبغا الفخري فأعجباه وزهزه لهما كثيراً، وقال: ما بقي بعد هذا شيء، وترك ما كان فيه. قطلوبغا الأمير سيف الدين الناصري المعروف بالمغربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 كان قد جاء في بشرى بعافية السلطان إلى دمشق لما كان قد مرض السلطان وعوفي، وحصل له شيء كثير من تنكز ومن أمراء الشام. وكان أمير مئة مقدم ألف، وكان قد حضر مع رسول القان بوسعيد من القاهرة، فوصله إلى الفرات، وعاد إلى القاهرة، فمات عند وصوله إليها في ثامن شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وكان فيه دين وخير. حج في وقت بالركب المصري، رحمه الله، تعالى. قطلوبك الأمير سيف الدين المنصوري المعروف بقطلوبك الكبير. كان أميراً إذا قيل: أمير، لا بل ملكاً على تحقيق قدره الكبير، لم ير الناس مثل رخته، ولا مثل جلوسه في سعادة تخته، أموال تفوق الأمواج، وخيول حصونها أعظم من الأبراج، ومماليك كأنهم الكواكب، وحفدة تتجمل بهم المواكب، وآلات، تفتخر بها البدور في الهالات، حتى كان الناس يعجبون من بذخه، وعنفوان سعده الزائد وشرخه. وكان ذا خبرة ودهاء، ومعرفة بالأصناف واعتناء في الاقتناء، وتوجه إلى السلطان الملك الناصر وأحضره من الكرك، والتزم له بأنه لا هم يناله ولا درك، وهو الذي أتى به، وأخذ في توكيد ملكه وأسبابه، ويقال: إنه هو الذي قام له بشعار الملك من عنده، وكلما احتاج إليه في ذلك المهم عجله في نقده، حتى إن الحوائص الفضة والذهب أحضرها في أطباق الغسيل، وزاد في هذه الأشياء وأمثالها حتى عجب منه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 الفرات والنيل، فعظمه السلطان، ووعده بأن يكون في دمشق نائباً، وأن يكون هو حاضر الملك إذا كان هو غائبا. ثم إنه من مصر أخرجه إلى صفد نائبها، وألزمه أن يكفيها مهامها ويكف نوائبها، ثم إنه أمسكه فيها بعد قليل، وأذاقه فيها الخطب الجليل. وقبض عليه في رابع عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة بصفد، وحمل منها إلى الكرك. وفي شهر رجب سنة إحدى عشرة حمل بكتمر الجوكندار إلى الكرك، واعتقل مع كراي وقطلقتمر صهر الجالق وأسندمر نائب طرابلس وبتخاص. كان الأمير قطلوبك الكبير - رحمه الله، تعالى - مؤاخياً لسلار، وولي الحجوبية في مصر؛ لأنه كان قد ولي الشد بدمشق عوضاً عن جاغان لما قتل حسام الدين لاجين مدة يسيرة إلى أن وصل السلطان من الكرك إلى مصر، فأعرض عن الشد، وتوجه إلى مصر في يوم الأحد سادس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وست مئة، فولاه السلطان الحجوبية عوضاً عن الأمير سيف الدين كرت لما قتل، فعملها عملاً صغرت النيابة معه فيها، وقل قدرها؛ لجمع الأمراء عليه والأويراتية والوافدين، ومد السماك لهم وإفاضة الخلع عليهم، فأهم البرجية أمره خوفاً من قوة شوكة سلار، فأخرج إلى الشام وولي نيابة طرابلس، فكرهها، واستعان بالأفرم في الإقالة منها، فأقيل. ثم كانت بينه وبين أسندمر الكرجي نائبها بعده مصاهرة، كان معين الدين بن حشيش هو الساعي فيها. واستقر قطلوبك الكبير في دمشق من مقدمي الألوف، ولم يمش إلا مشي عظماء الملوك من فرط البذخ والتجمل وعظم الخدم والحشم والأتباع ووفور الحاشية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وكثرة الغاشية مما لا يقوم مغل إقطاعه بثلث الكلفة له، وكلما طال الزمان ومر عليه ازداد في ذلك أمره، وكان لا يدري من أين مدده، ولا كيف تنفق يده، وظهر من الأفرم كراهية له؛ لأنه بان له تكبره عليه، فوقع بينهما، ودخل الحاج بهادر وبكتمر الحاجب وغيرهما من الأمراء بينهما، فاصطلحا، وأوجبوا على قطلوبك الشكران، فعمل ذلك في المرج. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: أنفق فيه ما يقارب الثلاثين ألف دينار ما بين طعام وشراب وخلع وتقادم للأفرم وحاشيته، وكانت الضيافة ثلاثة أيام لم ينقطع مددها. قال: وكنت ممن حضرها ونظرها، وهي تزيد على الوصف. قال: والتزم مرة بدرك الرحبة سنة حملاً عن الأمراء، وجر نحو مئة جنيب من الخيل غير الهجن مجللات بالحرير ملبسات حلي الذهب والفضة، جميعها باسمه ورنكه، وأقام بالرحبة عشرة أشهر غير مسافات طرقه، وكان يقيم بأكثر الجند المضافين إليه، فأما جنده فلا يتكلف أحد منهم شيئاً في مدة بيكاره قال: فحكى لي صاحبنا الشريف ناصر الدين محمد الحسيني - رحمه الله، تعالى، وكان من مضافيه - من هذا ما تعجب منه، وقال لي: كان راتب شرابخانته في شهر رمضان في كل يوم وزن خمسة وعشرين رطلاً بالدمشقي من السكر، وبنى بالرحبة جامعاً وقصراً وميدان كرة ومنازل للجند. قال: ولما أتى السلطان من الكرك إلى دمشق كان لا ينفق في مدة مقامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 بدمشق تلك الأيام إلا من خزائنه، وسفره، إلى أن دخل إلى مصر، وهو من دمشق على وظيفة الأستاذ دارية، ثم أخرجه إلى صفد نائباً، فأقام بها إلى أن أمسكه. وكان قطلوبك بغا يعاني زي المغل في لبس الكنبك والطرز بين كتفيه، وركوب الأكاديش غالباً، وكان أسمر شديد السمرة بطيناً حسن الصورة، يكتب خطاً جيداً قوياً، وله إلمام ببعض عربية وفقه وحديث، وعنده تندير وولع على سبيل اللعب، وله شعر منه ما عمله في مجلس الأفرم في ساق يسقيهم القمز، فقال: أمير الحسن ساقينا ... يحيينا فيحيينا فيالله ما أحلى ... إشارات المحبينا فأمر الأفرم الشيخ صدر الدين بن الوكيل - رحمه الله، تعالى - بأن يزيد عليها، فذيلها بأبيات، ثم إنه أمر بها فلحنت، وغني بها عامة يومه. قلت: إلا أنه كان يأخذ أموال الناس، وما يعطيهم شيئاً، وإذا اشترى من أحد شيئاً ما يعوضه بثمنه، فأخذ مرة من تاجر شيئاً، وحال ما بينه وبين ثمنه، ولم يجد التاجر من يخلص حقه، فشكا حاله إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله، تعالى - فتوجه معه إليه، فلما دخل إليه قام له وأجلسه، وقال: شيخ، إذا رأيت الأمير بباب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير بباب الأمير فبئس الأمير وبئس الفقير. فقال له الشيخ تقي الدين: اسمع قطلوبك، لا تعمل دركوانات العجم، موسى كان خيراً مني، وفرعون كان أنحس منك، وكان موسى يأتي إلى بابه كل يوم ويأمره بالإيمان، أعط هذا التاجر ماله. فقال: نعم، ووزن له الذي له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وعمل عيد النحر في صفد، فنحر من الضحايا بقراً وغنماً ما يزيد على الوصف، وبعث بذلك إلى الزوايا والفقراء، وجافت بذلك صفد، وأنتنت بأسقاط الأبقار والأغنام، ولم يجد ذلك من يأكله. قطلوبك بن قراسنقر الأمير سيف الدين ابن الأمير شمس الدين الجاشنكير، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. كان ظريفاً في عباراته، لطيفاً في إشاراته، عليه خفر أولاد الناس، وفيه مباينة غيره من غرائب الأجناس، يتأنق في مآكله الشهيه، ويتخرق في ملابسه البهيه، يترامى على ود أصحابه، ويخالط كل أحد بما هو أولى به، وله ندماء وعشراء، وأصحاب وخلطاء. ولم يزل على حاله إلى أن ذابت شحمتا عينيه، ووجد ما قدم من الأعمال بين يديه. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سابع شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة. كان قد باشر الحجوبية بدمشق عوضاً عن الأمير شهاب الدين قرطاي في سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وعزل منها في ... وبقي على إمرته، وندبه الأمير سيف الدين تنكز إلى عمارة القناة التي ساقها من عين عروب إلى القدس، ولما فرغ من ذلك طلبه السلطان الملك الناصر محمد، وطلب الصناع الذين كانوا معه في العمل، فتوجهوا في البريد، ولما وصلوا قال لهم السلطان: أريد أن أسوق خليجاً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 النيل إلى سوق الخيل تحت القلعة، وأرميه على القاهرة. فتوجه الأمير قطلوبك بالصناع إلى حلوان، ووزنوا مجرى الماء وعادوا، وقالوا للسلطان: هذا يصير بسعادتك. قال: كم يريد؟ قالوا: ثمانين ألف دينار، قال: ما هو كثير؟ قال: وكم يريد من المدة؟ قالوا: عشر سنين، فقال: هذا كثير. وبطل ذلك العزم، وأعادهم إلى دمشق. ولما جاء الأمير شرف الدين حسين بن جندربك إلى دمشق ليتوجه منها إلى القاهرة لما طلبه السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة اجتمعا وتحادثا، وانشرحا لما بينهما من الرومية التي تجمعهما، وذكرا قديم صحبتهما، وأحضر أمير حسين وصية كنت كتبتها له بصفد، وقرأتها عليهما. ومما وصى به فيها يقول: فإن مات بدمشق فيدفن في تربتهم بجبل قاسيون المعروفة بهم، وإن مات بالقاهرة يدفن في بيت الخطابة بجامعه الذي أنشأه ظاهر القاهرة بحكر جوهر النوبي، وإن مات في الغزاة يترك في مكانه في الفلاة ليبعثه الله - تعالى - من حواصل النسور وبطون السباع. فقال قطلوبك بن الجاشنكير: والله يا أمير شرف الدين لقد اخترت ميتة عجيبة، والله أنا ما أشتهي أن أموت إلا على فراشي، ونطوعي ومخادي المزركشة في باشخاناتي، ويخرج نعشي وعليه الريحان والياسمين، وجواري من خلفي يبكين علي ويندبنني، فعجبت من تفاوت قصديهما، رحمهما الله، تعالى. قطلوبك الأمير سيف الدين الشيخي، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. توفي - رحمه الله، تعالى - بدمشق في خامس شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 قطلوتمر الأمير سيف الدين الخليلي الناصري. كان من جملة الأمراء بدمشق، وولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نائب دمشق الحجبة. وكان حاجباً صغيراً، وعمر الدار التي في العقيبة قبالة سوق الخيل والمئذنة والمسجد، وله الدار التي في القصاعين، وبقي على ذلك إلى أن حضر الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار من القاهرة متوجهاً إلى حمص نائباً في أول دولة الكامل شعبان، ولما وصل القسطل حضر البريد من مصر برده وأن يتوجه الخليلي مكانه إلى حمص نائباً، فتوجه الأمير سيف الدين قطلوتمر، وأقام بحمص قريباً من شهر. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبع مئة. قطليجا الأمير سيف الدين الحموي الناصري الجمدار. كان حسن الصورة بهيا، لطيف الحركات شهيا، أبيض تعلوه حمرة قانيه، نقي الثغر كأنه أقحوانة في الروض زاهيه، معتدل القوام، مبتسماً على الدوام، إلا أنه في حماة أساء السيره، ولم يجعل التقوى ظهيره، ونقل منها إلى حلب فما تمتع بها، ولا لحق أمره يتمسك بسببها، إلى أن ذوت زهرته اليانعه، وقامت به الناعية الرائعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وتوفي بحلب - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الخميس جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة. لما توفي الملك الناصر أستاذه عهدي به وهو أمير عشرة بالديار المصرية، ثم إنه تأمر طبلخاناه، وحضر إلى دمشق، وأقام بها أميراً مدة في أيام الكامل شعبان، ولما تولى المظفر حاجي ونقل أسندمر العمري من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس طلب قطليجا المذكور إلى مصر، ورسم له بنيابة حماة، فحضر إليها، وأقام بها. وهو الذي أمسك الأمير يلبغا اليحيوي لما خرج على المظفر، على ما سيأتي في ترجمته. ولم يزل قطليجا في حماة نائباً إلى أن قتل أرغون شاه نائب دمشق، ورسم للأمير سيف الدين أرقطاي بنيابة دمشق، وأن يكون قطليجا بدله في نيابة حلب، فتوجه إليها، ودخلها في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة، فأقام بها أياماً قلائل. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في التاريخ المذكور. قطليجا الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار، وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق. كان أبيض أزهر اللون، حسن الشكل تام الكون، ظريف الحركات، لطيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 السكنات، على وجهه مسحة جمال، وفيه من البدر حسنه ليلة الكمال. لم ير أزرق العين أحسن منه مقله، ولا أفتك من جفونه في كل حمله. وكان الأفرم يعض على حبه بالنواجذ، وله في حسنه إدراكات وما عليه فيها مآخذ، وكان هو ليس في دمشق من يلعب مثله بالكره، وله في الميدان صولة بها ومقدره، إلى خصائص أخر من فروسيته، ومحاسن تذهل العقول إذا فكرت في انفراده وجمعيته. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح شخصه مع قربه أبعد من أمسه، وتخيل الناس أن النجم دفن في رمسه. وتوفي - رحمه الله، تعالى - يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة، وكان في عشر الأربعين. لما جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق جعله في عداد السلاح دارية، وكان - على ما قيل - يسوق الفرس، ويأخذ نصف السفرجلة من غصنها، ويدع النصف مكانه وهو في أقوى مشوار الفرس، وهو أمر معجز لغيره. وأما اللعب بالكرة فكان فيه غاية، يقال: إن برديته كانت زنة مئتي درهم وخمسين درهماً، ولقد جاء إلى صفد مرات والجوكندار الكبير في صفد نائب، وكان يلعب هو والأمير ناصر الدين محمد بن الجوكندار، وكنا نتفرج عليهما، ويقول الناس: هذا طبجي مصر وهذا طبجي دمشق. وكان الأمير ناصر الدين أرشق على ظهر الفرس وأسرع حركة، والأمير علاء الدين قطليجا إذا تناول الكرة بصولجانه ما يحتاج معه إلا ضربة واحدة وقد بلغها المدى. ورأيته - رحمه الله، تعالى - كثيراً ما يتقيأ، ثم بعد ذلك يتغرغر بالخل والماورد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 هذا دائماً، وكان يحسو من دهن اللوز المربى شيئاً كثيراً قنينة قنينة، وكان للأمير سيف الدين قطلوبك الكبير إليه ميل، ولما جاء إلى صفد نائباً أحضره من دمشق إلى صفد أميراً، ولما أمسك قطلوبك عاد قطليجا إلى دمشق على مكانه. اللقب والنسب القفصي: محمد بن سليمان. ابن قطينة: شهاب الدين التاجر أحمد بن محمد، وزين الدين عمر بن أحمد. قطنبة: شرف الدين حسن بن محمد. ابن قليلة: عمر بن عوض. قلاوز الأمير سيف الدين الجمدار الناصري. كان من جملة أمراء الطبلخانات بدمشق، ثم إنه أعطي إمرة مئة وتقدمة ألف. ولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حمص، فأقام بها مدة. ثم إنه عزل منها، وكانت ولايته لحمص بعد الأمير سيف الدين بكتمر العلائي، ولما عزل من حمص حضر إلى دمشق وأقام بها، وتقدم عند الأمير سيف الدين يلبغا. ولما برز إلى الجسورة في أيام الكامل عاضده ووازره، ولما انتصر رعى ذلك له، وصار حظياً عنده يلازمه وينادمه. ولما كانت المرة الثانية برز معه إلى الجسورة في الأيام المظفرية، ولما هرب يلبغا لم يتوجه معه أحد من الأمراء غيره وغير محمد بن جمق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 على أنه كان قد أودع خزائنه في داريا، وأراد أن ينهزم، فما أمكنه. ولم يزل معه في البرية إلى أن دخلا إلى حماة، والأمير سيف قلاوز ضعيف، وقد عمل قدامه مخدة على الفرس، وأقام بها مدة جمعة، وورم وازرق؛ لأنها كانت أيام شديدة الحر، وكان هو في نفسه سميناً بديناً. فمات - رحمه الله، تعالى - في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة قبل أن يخرج يلبغا من حماة، رحمهما الله، تعالى. قماري الأمير سيف الدين الناصري أمير شكار. كان من الأمراء الخاصكية الكبار في أيام الملك الناصر محمد. كان عند أستاذه مكينا، ثابت الأساس ركينا، زوجه إحدى بناته، وجعل غصنه في روض ملكه من أحسن نباته، ثم قدمه على الألف، وجعله أمير مئة يكون إماماً والناس من خلف، وكان عقله وافرا، ووجهه كأنه البدر سافرا. ولم يزل في مراقي سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن قمر الموت قماري، وناحت عليه الحمائم والقماري. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بالقاهرة. جاء إلى دمشق في مهم لأستاذه إلى تنكز في سنة خمس وثلاثين - أو ست وثلاثين - وسبع مئة، وحضر إلى الجامع الأموي بدمشق، وتفرج فيه وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 الفوارة بجيرون، وفي غيرها، وكان مجيئه في الظاهر بطيور جوارح على العادة، وفي الباطن بسبب إمساك الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك. حكى لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: لما عاد من الشام أرسل إلي وإلى الدوادار وإلى أمير جاندار، وقال: ما أدخل إلى مولانا السلطان إلا بكم، فقلنا له: يا خوند، أنت ما أنت غريب، أنت من كبار الخاصكية، وزوج ابنة مولانا السلطان، فقال: أنا الآن في حكم الغرباء الأجانب، فلما قيل ذلك للسلطان أعجبه هذا التأني، وقال: جيداً عمل. ولما تولى الملك الصالح إسماعيل أخذ قماري هذا وجعله أمير آخور، فأقام قليلاً، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أوائل جمادى الأولى من السنة المذكورة. قماري الأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين بكتمر الساقي الناصري. كان شكله مليحا، ووجهه يلوح به الجمال صريحا، عمل أستاذ دارية الملك الصالح إسماعيل، وكان يشارك في الكثير والقليل، أحد من يشار إليه، وتقوم أركان الدولة به وعليه. ورأى في أيام الصالح دهراً صالحا، وعيشاً لو شراه بالنفس كان رابحا، إلى أن أخرجه الكامل إلى طرابلس نائبا، وأتاها فكان أمله في الحياة خائبا، وقوض الخيام للرحلة الكبرى، وجعل العيون على فقده عبرى. وأمسك بطرابلس في أواخر ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة. كان الأمير سيف الدين قماري في أيام أخيه أميراً صغيراً لا يدرى به ولا يحس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 ولما مات أخوه بكتمر الساقي في طريق الحجاز أعطاه السلطان إمرة مئة وتقدمة ألف، ولم يزل إلى أن خرج مع الفخري إلى الكرك لحصار أحمد، وحضر معه إلى دمشق ثم توجه إلى مصر وأقام بها أميراً كبيراً، ولما تولى الملك الصالح كان أستاذ داره، وكان أحد المشارين إليهم في تلك الدولة، فلما ولي الكامل شعبان أخرجه إلى طرابلس نائباً، فمرض في أول قدومه إليها مدة أشفى معها على التلف، ثم إنه انتعش منها واستقل. ولم يزل بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي في البريد، فأقام بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى طرابلس في العشر الأواخر من ذي الحجة، وقبض عليه وأحضره مقيداً إلى دمشق، ثم إنه جهز منها على البريد إلى مصر مقيداً في ذي الحجة سنة ست وأربعين، وكان الناس قد أرجفوا بأنه قد عزم على أن يقفز باتفاق مع الأمير سيف الدين الملك نائب صفد. قماري الأمير سيف الدين، كان أخا الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة بدمشق. ورد مع أخيه من الديار المصرية في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وكان يعتمد على عصاً إذا مشى؛ لأنه كان عرج يسير، وكان بطالاً، فرسم له بعد مدة بخمسين درهماً في كل يوم مرتباً على الأموال الديوانية إلى أن ينحل إقطاع إمرة، فأخذ ذلك مدة، ولما توفي الأمير ججكتو التركماني بدمشق أعطي إقطاعه بالإمرة، وأقام على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وأصابه فيها فالج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 ثم إنه ابتلي بالصرع، فكان يصرع في النهار عشر مرات وأكثر وأقل، وبقي على ذلك قريباً من خمسين يوماً حتى تعجب الناس من ذلك، ولم يسمع بمثل أمره، وأغمي عليه مرات، وجزموا بموته، ثم إنه يفيق بعد ذلك إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في بكرة الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية برا باب النصر، ومشى أخوه ملك الأمراء في الجنازة والأمراء والحجاب والقضاة وغيرهم. وكانت جنازة حافلة. وبعد دفنه مد أخوه سماطاً على قبره أكل منه من كان حاضراً من مماليكه وغيرهم، ولم يأكل هو شيئاً، وبات على قبره، وجاء الناس إليه على طبقاتهم ثاني يوم بكره. وكتبت أنا فيه مرئية قرأها ملك الأمراء أخوه، وهي: إن حزني على الأمير قماري ... علم الورق شجوها القماري باح سري فيه بمضمون وجدي ... لا أواري بين الضلوع أواري سار فوق الأعناق للترب عزاً ... ودموع الورى عليه جواري ونجوم الدجى لبسن حداداً ... وأرتنا تهتك الأستار وعيون الغمام تبكي بجفن ... وتبل الثرى بدمع القطار ولكم لطم الرعود سحاباً ... فتراه مشقق الأطمار وجبين الصباح شق فأضحى ... شفق الصبح زائد الإحمرار ونسيم الصبا يهب عليلاً ... بفتور في ساعة الأسحار لو أفاد الفداء ميتاً سمحنا ... بنفوس جادت بغير اعتذار وترامت من دونه للمنايا ... لا توان يعوقها في توار غير أن المنون في الفتك لا تع ... با بسمر القنا وبيض الشفار كاد لولا أخوه حي يسيل الد ... مع في الخد كالدم الموار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 جرح الدمع ثم آسى ببقيا ... كافل الملك ذي الزناد الواري ملك قد حمى دمشق بعزم ... آمن في مدى الردى من عثار وبها العدل قد أقام وحكم الش ... رع في ربعها رفيع المنار لا تحل الخطوب منها بربع ... فهي محروسة بعين الداراري وندى كفه إذا جاد يلقى ... لأنسكاب الغمام فيها يباري صبر الله قلبه في مصاب ... زاد منه الأموات أكرم جار ترك المال والبنين وولى ... عن ديار البلى لدار القرار هو ضيف قد بات عند كريم ... باذل العفو ساتر غفار يا سمي الولي لا ذقت يوماً ... بعدها حادثاً من الأقدار وحمى الله منزلاً أنت فيه ... ووقاه من دهرنا الغدار وفدتك النفوس من كل سوء ... ما أزاح الدجى بياض النهار اللقب والنسب ابن القماج: القاضي جمال الدين أبو بكر بن إبراهيم. ابن القماح: القاضي شمس الدين محمد بن أحمد. القمولي: القاضي نجم الدين أحمد بن محمد. ونجم الدين محمد بن إدريس. القمني: محمد بن الحسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 القمي الشريف: محمد بن محمد بن أحمد. القنائي: جماعة منهم: محيي الدين أحمد بن محمد، والشريف تقي الدين محمد بن جعفر. القواس: المسند أحمد بن عبد الرحمن. القواس البعلبكي: صالح بن أحمد. القواس الوتار: علي بن إسماعيل. ابن القواس: ناصر الدين عمر بن عبد المنعم. وناصر الدين محمد بن إسماعيل. ابن قوام: الشيخ نجم الدين أبو بكر. ابن قوام: الشيخ محمد بن عمر. والقوام الكرماني: مسعود بن محمد. ابن القوبع: ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن. القونوي: الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل. والقونوي: الشيخ علاء الدين علي بن محمود. قوصون الأمير الكبير النائب سيف الدين الساقي الناصري. كان أميراً وهو في عداد الملوك الكبار، وهو المشار إليه في أواخر الدولة الناصرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وما بسواه اعتبار، ليس فيه شر، ولا عنده ظلم ولا ضر، لطيف النفس، قليل البأس، ولما هيجوه هاج منه ذو لبدة ضرا، وسلوا منه حساماً ما لقي الضريبة إلا فرى. نهض بخلع أبي بكر المنصور، وأعاد ذاك الشمل وهو مبتوت ومبتور، ونثر من الدولة عقداً نظيما، وفرق بعزمه جمعاً عظيما، وفرق أموالاً تكاثر البحار الزخاره، والكواكب السياره، إلا أن الزمان أخنى عليه أخيرا، ورد جبره كسيرا، وطرف سعادته حسيرا، ولو دام على ما كان عليه أيام أستاذه لما رمي بالداهيه، ولا كانت شدته متناهيه: توقى البدور النقص وهي أهلةً ... ويدركها النقصان وهي كوامل فإن رمت أهنأ العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول ولما خانه أصفياؤه وتمادوا، وتعاونوا على خذلانه وتغادوا، قبض عليه ونهبت أمواله، وفرق رجاله، وخرجت عمائره وأوقافه، وانهالت كثبه وأحقافه، وأصبح لعدوه رحمه، وصار بينه وبين الفرج زحمه، واعتقل بثغر الإسكندرية إلى أن خنق واشتفى منه كل قلب حنق. وكانت واقعته التي عدم فيها في شوال سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. كان أولاً من أكبر خواص الملك الناصر، لم يكن بعد بكتمر الساقي أكبر منه، وزوجه السلطان ابنته - وهي ثانية ابنة زوجها من مماليكه - ودخل بها في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وكان عرساً حفلاً احتفل به السلطان، وحمل الأمراء التقادم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 إليه، وكانت جملتها خمسين ألف دينار، وكنت بالقاهرة في تلك المدة، وصنع في ليلة عرسه الأمير سيف الدين قجليس برج بارود ونفط يقال: إنه غرم عليه مقدار ثمانين ألف درهم. وكان من قوصون قد حضر أولاً إلى الديار المصرية مع الجماعة الذين حضروا صحبة ابنة القان أزبك زوج السلطان، وهو ابن ناس ولم يكن مملوكاً، ولكنه طلع يوماً مع تجار المماليك ليرى السلطان قريباً، فوقعت عين السلطان عليه، فقال: لأي شيء ما تبيعونني هذا؟ فقالوا: هذا ما هو مملوك، فقال: لا بد أن أشتريه، فوزن فيه مبلغ ثمانية آلاف درهم وجهزت إلى أخيه صوصون إلى البلاد، ثم إنه أنشأه وقدمه وأمره ورشحه لكل شيء، وأعطاه آمرية مئة وتقدمة ألف، وصار في طبقة بكتمر الساقي، وكان يتنفس عليه ويفتخر، ويقول: أنا السلطان اشتراني بماله، وكنت من خواصه وأمرني وقدمني وزوجني ابنته، ما أنا مثل غيري تنقلت من التجار إلى الاصطبلات إلى الطباق. وعمر جامعاً حسناً على بركة الفيل وعمر الخانقاة المليحة العظيمة بالقرافة وكان السلطان يتنوع في الإنعام عليه. قيل: إن السلطان دفع إليه مفتاح الزردخاناه التي لبكتمر الساقي وقيمتها ست مئة ألف دينار. ولما مات السلطان الملك الناصر قام هو في صف المنصور أبي بكر، وقام في صف الناصر أحمد الأمير سيف الدين بشتاك، واختلفا، وفي الآخر كان الأمر على ما أراده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 قوصون حسبما تقدم ذكره في ترجمة بشتاك، وجلس الملك المنصور أبو بكر على التخت، واستقرت قواعده. ثم إن خلطاءه حسنوا له القبض على قوصون وعلى غيره من الأمراء، فبلغ ذلك قوصون، فعمل عليه وخلعه من الملك وجهزه إلى قوص، وأجلس أخاه الأشرف كجك على كرسي الملك، وحلف الناس له، وصار هو نائباً، وجهز الفخري إلى الكرك يحاصر أحمد، فجرى ما جرى في ترجمة الفخري. وكان طشتمر نائب حلب قد تنفس أولاً على قوصون، فاستعان عليه بألطنبغا نائب دمشق، ولما خرج من دمشق خامر الفخري على قوصون، وحضر إلى دمشق، وملكها، وجرى ما تقدم، وأغرى الفخري الناس بقوصون، وصار يقول: هذا الغريب يخلع ابن أستاذنا ويقتله؟! هذا ما نصبر عليه. وظهر الشناع على قوصون لما قتل أبو بكر في قوص، وكان قد قتل جماعة من الحرافيش، وقطع أيدي جماعة وسمرهم، وسمر جماعة من الخدام، وسمر ولي الدولة الكاتب الذي تقدم ذكره، وغيره، فنفرت القلوب منه، وأخذ الفخري يكاتب أمراء مصر عليه، فتنكر أيدغمش أمير آخور عليه، وعامل الخاصكية عليه، فاجتمعوا عنده، وأقاموا ليلتهم عنده صورةً في الظاهر معه، وهم في الباطن عليه عيون، ونادى أيدغمش في الناس بنهب إصطبل قوصون، فثار العوام والحرافيش، وخربوا الإصطبل والخانقاه ونهبوهما، ونهبوا بيوت جماعته وألزامه وحاشيته، وهو يرى ذلك من الشباك ويقول: يا مسلمين، ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لي أو للسلطان، فيقول أيدغمش: هذا شكران للناس، والذي عندك فوق من الجواهر يكفي السلطان، وكلما هم قوصون بالركوب في مماليكه الذين لبسوا السلاح كسر الخاصكية عليه وقالوا له: يا خوند، نحن غداً نركب، ونرمي هؤلاء بالنشاب وقد تفرقوا. لوم يزالوا به إلى أن أمسكوه وقيدوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وجهزوه مع ألطنبغا نائب دمشق وغيرهما، واعتقلوهم في ثغر الإسكندرية - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا -. ولم يزل معتقلاً بها إلى أن حضر الناصر أحمد من الكرك، وجلس على كرسي الملك بقلعة الجبل، ثم إنه اتفق آراء الدولة على أن جهزوا الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندرية، فدخل إلى السجن، وخنق ألطنبغا وقوصون وغيرهما في شوال أو في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. ولما مات - رحمه الله، تعالى - خلف عدة بنين وبنات. وكان خيراً يعطي العشرة آلاف درهم والألف إردب قمحاً. وكان إذا انفرد عن السلطان وهو في الصيد وتوجه هو لنفسه يروح معه ثلث العسكر، وكان الناس يهرعون إلى بابه، ويركب قدامه في القاهرة مئة نقيب أو دون ذلك. وكان أخوه صوصون أميراً، وابن أخته الأمير سيف الدين بلجك أميراً. وكان قد وقع بينه أخيراً وبين تنكز، ولما أمسك تنكز وحمل إلى باب السلطان ما عامله قوصون إلا بالجميل، وخلصه من القتل وأشار بحبسه. وعمل النيابة جيداً، وأنعم على الأمراء والخاصكية، وفرق فيهم وفي عسكر مصر - على ما قيل - ست مئة ألف دينار، ولم يتم أمره مستقيماً في النيابة شهرين حتى خرج عليه طشتمر من حلب والفخري من الكرك، وكثرت البثوق عليه، وأعياه سدها، ونهب الناس والحرافيش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 شيئاً كثيراً إلى الغاية، حتى إن الدينار أبيع بعشرة دراهم كل مثقال وبأقل لكثرة ما نهب. وعلى الجملة فكان أمره في أول حاله وفي وسطه وفي آخره من أعاجيب الزمان وغرائب المقدورات. وقلت أنا في واقعته مع أيدغمش: قوصون قد كانت له رتبةً ... تسمو على بدر السما الزاهر فحطه في القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر ولم يجد من ذله حاجباً ... فأين عين الملك الناصر صار عجيباً أمره كله ... في أول الأمر وفي الآخر الألقاب والأنساب القلانسي جماعة، منهم: مفيد بغداد جمال الدين أحمد بن علي. ومنهم: جمال الدين وكيل بيت المال أحمد بن محمد. ومؤيد الدين أسعد ابن الصاحب عز الدين حمزة. وجلال الدين إبراهيم بن محمد. وأمين الدين بن الجلال حسن بن علي. وعلاء الدين وكيل بيت المال علي بن محمد. والصاحب عز الدين حمزة بن أسعد. عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وشرف الدين محمد بن علي. وشرف الدين محمد بن محمد. ومحيي الدين محمود بن محمد. ونجم الدين محمد بن أسعد. وأمين الدين كاتم السر محمد بن أحمد. قيران الأمير شرف الدين المنصوري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 كان في القاهرة أمير عشرة، يسكن بالحسينية، وينوب في الأستاذ دارية، وصحب ابن معضاد، ويحفظ شيئاً من كلامه. ثم إنه نقل إلى شد الديوان بدمشق، وأقام بها مدة. ثم إنه نكب مدةً، ثم نقل إلى حلب، ثم إنه قطع خبره. وقدم دمشق وكانت نيته أن يتوجه إلى مصر، فتوفي - رحمه الله، تعالى - بداره في درب تليد بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة. القيراطي: شرف الدين عبد الله بن محمد. الألقاب والأنساب بنو القيسراني جماعة: عماد الدين القيسراني إسماعيل بن محمد. وولده القاضي شهاب الدين يحيى. وشمس الدين إبراهيم بن عبد الرحيم. والصاحب فتح الدين عبد الله بن محمد. وعز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد الله. وشرف الدين محمد بن عبد الله. قيصر الحلاوي بالقاهرية. كان مشهوراً بجودة الحلوى يضرب به المثل في ذلك، مع المواظبة على الخير والصلوات في أوقاتها. توفي - رحمه الله، تعالى - في تاسع شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة. ابن قيم الجوزية: شمس الدين محمد بن أبي بكر. وولده عبد الله بن محمد. ابن القيم: علي بن عيسى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 حرف الكاف الألقاب والأنساب الكامل: شعبان بن محمد. والملك الكامل: محمد بن عبد الملك. الكازروني: علي بن محمد. الكاساني: محمد بن إبراهيم. كاوزكا الأمير سيف الدين المنصوري. كان من أكابر أمراء دمشق، ومن أكبر مماليك السلطان الملك المنصور. ورثه السلطان الملك الناصر محمد بالولاء لما توفي في ذي القعدة سنة ست وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون. ومما يحكى عنه أنه كان إذا استعمل الشراب وطاب وثمل وانتشى أمر مماليكه أن يخرجوا إلى مهتار الطبلخاناه ويأمروه بدقها، واشتهر ذلك عنه واستفاض، وإلى الآن بعض الناس يقول إذا سمع طبلخاناه في غير وقتها: سكر كاوزكا. 1392 - م - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 كبيس بن منصور بن جماز الشريف أمير المدينة الحسيني. تولى إمرة المدينة لما قتل والده منصور في رابع عشر شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ولم يزل بها إلى أن قتل أيضاً في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ابن الكتاني: الشيخ زين الدين عمر بن أبي الحرم. كتبغا الملك العادل زين الدين المنصوري المغلي. كان فيه دين وتعبد، وخير ومزايا له بها تفرد. عديم الشر لا يناوي من ناواه، ولا يقاوي من قاواه، منقاداً لأحداث دهره، مرتاداً لما يريده من خيره وشره، ولذلك سلمت له العاقبه، وأفادته الإنابة إلى الله والمراقبه. ولكن جاء الغلاء المفرط في أيامه، ونقص النيل زائداً عما عهد في قديم أعوامه، فتشاءم الناس بطلعته، ولم ينفق القدر له رديء سلعته، وكان إذا رأى ذلك زاد بكاؤه، وعظم ابتكاؤه، وقال: هذا بحظي وخطيئتي، وهذا جاء في قسمي وقدر في عطيتي: وغايتي أن ألوم حظي ... وحظي الحائط القصير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ثم إن أخصاءه خانوه، وشانوه بعدما زانوه، ولما فطن لما بطن، وعلم أن الشر قد خيم عنده بعدما قطن، فعل كما فعل الحارث بن هشام، ونجا برأس طمرة ولجام، وتحصن بقلعة دمشق فما أفاده، ثم إنه رجع بعد ذاك إلى الهواده، ونزل على حكم اليد الغالبه، ورضي بعد الموجبة بالسالبه، فأمسى في حالة بعين الرحمة مرموقه، وأصبح بعد أن كان ملكاً وهو في عداد السوقه، عبرة لمن تذكر، وتبصرة لمن تفكر. واضطر إلى قلعة صرخد بعد ملك مصر والشام، وقعد على مقالي النار بعد ذلك المقام، ثم بعد لأي لوى الزمان إليه عنانه، ورفع قليلاً مكانه، وتوجه إلى حماه، وأرشفه ثغر الزمان لماه، فأقام بها إلى أن زار الموت حماه، وأصابه بسهمه لما رماه. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم النحر نهار الجمعة سنة اثنتين وسبع مئة، ونقل تابوته إلى دمشق، ودفن بتربته بسفح قاسيون. وكان - رحمه الله، تعالى - أسمر قصيراً دقيق الصوت، لحيته صغيرة في حنكه، أسر حدثاً من عسكر هولاكو نوبة حمص الأولى في آخر سنة ثمان وخمسين وست مئة. وأمره أستاذه الملك المنصور، وكان من أمراء الألوف، ثم إنه عظم في دولة الأشرف، التف الخاصكية عليه، وحمل بهم على بيدرا وقتلوه. ولما حضر السلطان الملك الناصر من الكرك عقيب ذلك جعله نائبه، واستمر الحال سنة، ثم تحول الناصر إلى الكرك، وتسلطن كتبغا ولقب العادل، ونهض بأمره لاجين وقراسنقر وطائفة كان قد اصطنعهم في نوبة الأشرف، وتمكن. وكان جلوسه على الكرسي في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وقدم إلى دمشق يوم السبت منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وصلى بجامعها الأموي غير مرة. وسافر في الجيش إلى حمص، ثم رد وعاد إلى مصر، فلما كان بأرض بيسان وثب عليه حسام الدين لاجين وشد على مملوكيه بتخاص وبكتوت الأزرق، فقتلهما في الحال، وكانا عضدي كتبغا ، واختبط الجيش، وفر كتبغا على فرس النوبة. يقال: إن لاجين لحقه وضربه بطومار رماه به، وقال: انج بنفسك، وتبعه أربعة من مماليكه لا غير، وذلك في صفر سنة ست وتسعين وست مئة. وكانت دولته سنتين وبعض شهر. وساق كتبغا إلى دمشق، فتلقاه مملوكه نائبها في الأمراء وقدم القلعة، ففتح له نائبها أرجواش الباب، ودقت له البشائر، ولم يجتمع له أمر، واجتمع كجكن والأمراء، وحلفوا لصاحب مصر، وصرحوا لكتبغا بالحال، فقال: أنا ما مني خلاف، وخرج من قصر السلطنة إلى قاعة صغيرة، وبذل الطاعة للاجين، وقال: هو خوشداشي، فرسم له أن يقيم بقلعة صرخد، وأتاه بعض نسائه وغلمانه. وانطوى ذكره إلى بعد نوبة غازان، فأعطاه السلطان الملك الناصر حماة، فأقام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور. وكان السلطان الملك الناصر يكرهه وما يذكره بصالحة، ويقول: ما أنسى وقد أخرجني إلى الكرك، وفك حلقة من أذني فيها لؤلؤة، وأخذها وحطها في جيبه، وقل أن كان يرى له توقيعاً فيمضيه، وفيه يقول علاء الدين الوداعي لما خلع على أهل دمشق - ومن خطه نقلت -: أيها العادل سلطان الورى ... عندما جاد بتشريف الجميع مثل قطر صاب قطراً ماحلاً ... فكسا أعطافه زهر الربيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 كتبغا الأمير زين الدين أمير حاجب الشام. أظنه تولى نيابة شيزر في وقت. كان الأمير سيف الدين تنكز يعظمه، ويجلسه قدامه ويكرمه، ويرمل هو على يده، ويتوشح بما غلا من قلائده. وكان في نفسه رئيساً، وقدر المال عنده خسيسا، وكان يحضر السماعات، ويرقص في الجماعات، ويعمل في كل سنة مولداً للنبي - عليه الصلاة والسلام -، ويجمع فيه الخاص والعام، ويقف ويخدم بنفسه الفقراء، ويبالغ في ذلك ويعرض عن الأمراء. إلا أنه كانت فيه استحاله، وإعراض عما يثق به في الحاله. ولم يزل على حاله إلى أن انتهت مدته، وفرغت عدته. وتوفي - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الجمعة ثامن عشري شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربته في القبيبات. وكان تنكز يعظمه ويحترمه، ويحب حديثه ويصغي إليه، ويقبل شفاعاته، ويزوره في بيته. وأظنه في وقت مشى بالفقيري، ولبس زي الفقراء، وكان إذا دخل إليه إنسان في بيته في أمر قال: السمع والطاعة، من أحق منك بهذا الذي تطلبه؟! قف غداً لمولانا ملك الأمراء، وأنا أساعدك، وتبصر ما أقول، فإذا وقف ذلك المسكين قال: يا مولانا، أي حائك قام، وأي بيطار قام، قال يريد يبقى جندياً. فإذا سمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ذلك الأمير سيف الدين تنكز قال: نحه، فتتناول المسكين العصي من كل جانب، ولكن هذا في بعض الأحايين. ولكنه كثيراً ما يشكر الناس عند تنكز، ويثني على من يعرفه ومن لا يعرفه حتى تحقق منه ذلك. ورتبوا يوماً قصة بعلم تنكز باسم إنسان يطلب إقطاعاً، وقرئت يوم الخدمة وهو حاضر، فقال: نعم يا خوند، أعرفه وأعرف أباه، وهو مسكين بطال، وفي هذه الجمعة حضر من حلب، فقال تنكز: أبصر جيداً، فقال: سبحان الله، وجهز نقيباً إلى ذلك الشخص، وأحضره، وكان الأمر كما قال، فتعجب تنكز من ذلك، وأعطى ذلك إقطاعاً، وكانت هذه من الغرائب. وحج - رحمه الله، تعالى - غير مرة، وفرق في الحرمين مالاً وافراً. وكان قد ولي شد الدواوين بدمشق والأستاذ دارية عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا في ثالث عشري شوال سنة تسع وسبع مئة. وولي الحجوبية بالشام عوضاً في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة. كجك بن محمد بن قلاون السلطان الملك الأشرف علاء الدين ابن الملك الناصر ابن الملك المنصور. لما خلع قوصون الملك المنصور أبا بكر ولى هذا كجك الملك، وأجلسه على التخت، وحلف له، وحلف له العساكر بمصر والشام، وكان عمره يومئذ خمس سنين تقديراً، وذلك في أواخر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. واستقل الأمير سيف الدين قوصون بكفالة الممالك، وصار نائبه، وإذا حضرت العلامة أعطي قلماً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 في يده، وجاء فقيهه المغربي الذي يقرئ أولاد السلطان، ويكتب العلامة، والقلم في يد السلطان علاء الدين كجك. ثم إن الفخري خرج لمحاصرة الكرك، وكان ما كان، وجرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا والفخري - ولما توجه الناصر أحمد من الكرك إلى مصر في شهر رمضان جلس على كرسي الملك، وخلع الأشرف كجك، وانفصل من الملك. ثم تولى أخوه الصالح إسماعيل بعد خلع الناصر، ولما توفي الصالح تولى الكامل شعبان. وجاء الخبر إلى الشام بوفاة كجك - رحمه الله، تعالى - في سنة ست وأربعين وسبع مئة. كجكن الأمير سيف الدين المنصوري. كان من أكابر مقدمي الألوف بدمشق، قديم الهجرة في الإمره، كثير المعرفة بالصيد والخبره، كثير الخدم، غزير الحشم، عمر دهراً صالحاً، وقطع عيشاً ناجحا، وهو وافر الحرمه، ظاهر النعمه، معظم عند النواب، مفخم على مر السنين والأحقاب. ولم يزل على حاله أن ابتلعه فم القبر، وتعذر فيه على ذويه الصبر. وتوفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وسمى أولاده الثلاثة الذكور كلا منهم محمداً، وأظنه كان قد نزل عن إقطاعه قبل وفاته بقليل، وكان السلطان الملك الناصر ينتظر موته، ويسأل عنه كل من يصل إلى دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 أخبرني الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك قال: لما حضرت قدام السلطان عند حضوري من دمشق قال لي أشياء سأل مني عنها، ومنها قال لي: أيش حس كجكن، فقلت: طيب. وكان قد أمسك في دولة الناصر محمد في يوم الجمعة حادي عشري شهر رجب سنة ثمان وتسعين وست مئة. كراي الأمير الكبير سيف الدين المنصوري نائب صفد ودمشق. كان شديد المهابه، بطيء الرجوع إذا غضب والإنابة، أطيش من حبابه، وأطير من ذبابه، إذا غضب لا يقوم شيء لغضبه، ولا تهجم الأسود على سلبه، ولا تقدم الملوك على غلبه؛ يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف إلا أنه كان شديد الديانه، مديد الصيانه، عفيف الفرج مع القدره، عزوف النفس لا يتناول من مال غيره ذره. لا يقبل لأحد هدية، ولا يدع ما فيه شبهة يدخل نديه. وكان مغرى بالنكاح لا يكاد يفارقه، ولا يشغله عنه ولا يسارقه، ومع ذلك فكفه أندى من الغمام، وأجود من النسيم بالطيب إذا مر بالزهر وشق عنه الكمام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 يحب الطرب الدائم، وسماع النغم الملائم. وكان منهوماً في المآكل والمشارب، ملهوفاً في تفرقة طعامه لكل مستخف وسارب، وما رزق في نيابة دمشق سعادة، ولا وافقته المقادير على ما أراده، وأبغضه أهلها، ونفر منه حزنها وسهلها، فأمسك فيها بعد قليل، وخرج منها بعدما رشف كأس الذل ورسف في القيد الثقيل، وذلك في يوم الخميس ثاني عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة. أنشدني لنفسه الشيخ علاء الدين بن غانم: أنا راض بحالتي لا مزيد ... وبأن لا أزال عند الحميد إن في أمر كافل الملك بالشا ... م عظات للحازم المستفيد جاه بالتقليد أرغون بالأم ... س وولى وعاد بالتقييد كان أولاً نائباً في صفد بعد الأمير فارس الدين ألبكي، وأقام بها إلى أن توجه في واقعة غازان، وحصلت الكسرة، فحضر هو إلى صفد، وقصد القلعة لإيداع حريمه بها، وانجفل الناس، فلم يفتح له الباب، وسبه جماعة من مستخدمي القلعة، وآلموه بالكلام، فقال: أنا ما أدخل، ولكن افتحوا للحريم، فلم يسمعوا له، وبقيت هذه النكاية في خاطره. ولما توجه إلى مصر، طلب العودة إلى نيابة صفد، فعاد إليها، وقتل أولئك الذين جاهروه بالأذى ومنعوا حريمه بالمقارع، ونفاهم منها. ثم إنه توجه إلى مصر، وحضر بدله الأمير سيف الدين بتخاص، وأقام بمصر مدة، ثم إنه رمى إقطاعه وأقام بالقدس مدة يأكل من ريع أملاكه وهو بطال. ولم يزل إلى أن حضر السلطان من الكرك إلى دمشق، فحضر إليه وقال له: أي من ملك غزة ملك مصر، فقال له السلطان: أنت لها. وجهزه إلى غزة، فملكها، وأقام بها، وكان الأمر كما قال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وقلت أنا في ذلك: كرائي الذي أهدى الكرى لجفوننا ... وجمع شمل الملك بعد تنائي أشار على السلطان يحفظ غزةً ... فلم أر في عمري كرأي كرائي ودخل معه إلى القاهرة ثم إن السلطان جهزه في عسكر مصر إلى حمص، فأقام بها قليلاً، وساق في ليلة العيد بالعساكر من حمص إلى حلب، ولم ينفجر الصبح إلا وقد أحاط بالعساكر على دار النيابة بحلب، وأمسك أسندمر، وحضر إلى دمشق نائباً في يوم الخميس حادي عشر المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ووصل تقليده إلى دمشق على يد الأمير سيف الدين أرغون الدوادار في خامس عشري المحرم من السنة المذكورة. وحلف بالطلاق من زوجاته أنه ما يطلع على أحد سرق النصاب الشرعي إلا ويقطع يده، فضاق الناس منه، وبعث أحضر الناس المباشرين والكتاب من حمص إلى غزة لعمل الحساب في الزناجير، وضيق على الناس، وشدد واتكل في العلامة على الشيخ نجم الدين الصفدي لأنه كان يعرفه في صفد، وجعل دركها عليه، فكانت العلامة تحمل إليه، ويعتبرها شيئاً فشيئاً، فما رآه سائغاً وضعه في فوطة العلامة، ودخل به وما ارتاب فيه عزله عنها. ولما كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة، قرر على دمشق ألف وخمس مئة فارس، يقومون بها، لكل فارس خمس مئة درهم، وطلب الأكابر بالترسيم إلى دار الوالي، وتجمعوا لتقرير ذلك، وندب من يحضر، ويقف على الأملاك والأوقاف، وغلظ على الناس، وحلفوهم على مقدار الأجر، فضاق الناس، وتوجه الأعيان إلى الخطيب جلال الدين، فقام في ذلك، واجتمع بالحكام وقرر دفع القضية معهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 ليكون الكلام في يوم الاثنين مع الأمير سيف الدين كراي. وخرج الناس بكرة النهار، ومعهم المصحف الكريم والأثر النبوي والصناجق التي على المنبر، فلما كان النائب واقفاً في سوق الخيل، ورأى ذلك السواد الأعظم من بعد والأطفال وغيرهم، فقال: ما هذا؟! فقالوا له: أرباب الأوقاف والأملاك وأرباب الرواتب على الجامع جاؤوا بسبب هذا المقرر عليهم، فقال: ردوهم، وقل لهم: الشغل انقضى، فجاء الأمير سيف الدين قطلوبك بن الجاشنكير الحاجب، وهو يعرف خلق النائب، فقال لهم: بسم الله، ارجعوا، فقد انقضى شغلكم، فقالوا له: المصحف ما يرد، فقال: ارجعوا وإلا ما هو جيد لكم، فأبوا، فشال العصا بيده، يشير إلى أنه يضرب بها، وكان المصحف الكريم - فيما أظن - على رأس الخطيب، فهرول به، فوقع المصحف الكريم إلى الأرض، فلما رآه الناس قد وقع تناولوه بالحجارة، فرده الحاجب إلى النائب والحجارة في قفاه، ووقع بعضها قدام كراي، فاشتد غضبه ورد إلى القصر، وأخرق بقاضي القضاة ابن صصرى، وقال: كل هذا عملك، فأنكر ذلك، وحلف له، فسبه، وأخرق به وبالخطيب، فقال له الشيخ نجم الدين التونسي: اسكت، كفرت. فرماه إلى الأرض، وضربه ضرباً مؤلماً كثيراً، ورسم عليهم، ثم أطلقهم بضمان وكفلاء. ولم يكن بعد ذلك إلا دون العشرة أيام حتى حضر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار من مصر يوم الأربعاء، وأحضر له تشريفاً عظيماً، فلبسه ثاني يوم بكرة، وعمل الموكب، وحضر دار العدل، ومد السماط، فأخرج أرغون كتاباً عظيماً مطلقاً إلى الأمراء بدمشق بإمساك كراي، فأمسك في التاريخ المذكور، وقيد في الحال، وجهز إلى الكرك صحبة الأمير سيف الدين اغرلو العادلي والأمير ركن الدين بيبرس المجنون، وكان قد أمسك الصاحب عز الدين بن القلانسي، ورسم عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 ولما كان في مستهل جمادى الأولى حكم القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى ببطلان البيع الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة السلطان الملك المنصور في الرمثا والسبوخة والفضالية لكونه بدون قيمة المثل، وبعزل الوكيل الذي صدر منه البيع قبل عقد البيع، ولوجود ما يوفى منه الدين غير العقار، ونفذ الحكام ذلك. ثم إن القاضي تقي الدين الحنبلي نقض ذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة، وادعى قبل هذا على الصاحب عز الدين واعتقل، فلما كان في يوم إمساك كراي خرج الصاحب عز الدين بن القلانسي من الاعتقال من دار السعادة، وفرح الناس بخلاصه، وبإمساك كراي. ثم إن السلطان بعث إلى كراي وهو معتقل في الكرك من يخدمه، وجهز إليه جارية من حظاياه، وأقام كذلك إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وكان له أربع زوجات وثلاثون سرية، وكان إذا سافر إلى الصيد استصحب نساءه معه، لأنه لا يقدر على الصبر عن النكاح، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين قبجق وهو بدمشق. قال لي الشيخ: نجم الدين الصفدي - رحمه الله تعالى -: لما دخل على بستان ابنة قبجق غرم عليها حتى صارت عنده أربع مئة ألف درهم، وبعث إلى الأمير سيف الدين بهادر آص يقول: يا مسلمين يكون هذا، يكون هذا خوشداشي أنا وإياه مماليك بيت واحد وهو في مدينة أنا فيها، وهو نائب سلطان، ويدخل على زوجته، وما أقدم له شيئاً، والله ما أعرف قبول هذه البقج إلا منك، قال: فدخلت عليه، وقلت له: يا خوند أنا رجل غريب في هذه المدينة، وهذا الأمير سيف الدين بهادر آص أكبر من فيها وما بعدك أكبر منه، وقد قال: كذا وكذا، فقال: أين هذا الذي أحضره؟ فأحضرته، فقبله جميعه قطعة قطعة، ثم قال: قل له: أنت تعلم أخلاقه ومحبته لنسائه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وجواريه، وهو قد حلف بالطلاق منهن وبعتقهن أنه ما يقبل في هذه النيابة لأحد من خلق الله تعالى شيئاً قل ولا جل، فأنت رأيت يا خوشداش طلاق زوجاته وعتق جواريه فالأمر أمرك. قال: فأعدت ما قاله عليه، فقبل العذر في ذلك. وكان يحب الطرب، فأحضر ابن غرة العواد، وآخر يلعب بالكمنجا، وآخر دفياً، ورتب لهم معاليم على ديوانه، وقال لهم: أقسم بالله ما يتكلم أحد منكم في فضول، أو يحضر قصة، أو غير ذلك إلا كانت يده قبالة ذلك أو لسانه، وقد أكفيتكم، وهذا الطعام أنتم فيه وفي الفاكهة وفي الحلوى وفي المشروب ليلاً ونهاراً، فكلوا واشربوا وغنوا، ليس إلا. وكانت له قصعة تسع ثمانية أرؤس غنماً يحملها أربعة عتالين يملؤها يوماً حلوى سكرية، ويوماً طعام أرز مفلفلاً، ولا يزال ليله ونهاره في مشروب وأطعمة وفاكهة وحلوى، واعتذر للسلطان عن إمساكه، فقال: ماله عندي ذنب إلا أنه خوشداش بكتمر الجوكندار، ولما أمسكت هذا؛ خفت من ذاك لئلا يتغير فإن نفسه قوية. وراح في وقت إلى إقطاعه بالصعيد، واستغل من قرية ست مئة ألف درهم، فخطر له أن يدخل إلى بلاد السودان، ويفتحها، وقال لي - وأنا في الكرك -: أنا أقيم لك ست مئة جندي. كرت الأمير سيف الدين المنصوري نائب طرابلس. كان من الفرسان المذكورة والأبطال المشهورة. له دين متين، وسلطان في التقوى مبين، وفيه بر ومعروف، وجوده على الفقراء والصالحين معروف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 حمل على التتار في الواقعه، وبين الفروسية ذلك اليوم لما ضاقت الرقعه، وأبلى بلاءً حسناً وقتل منهم جماعه، وخاض فيهم، فملأ الموت بالمصاع صاعه، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة. كان هذا الأمير سيف الدين من مماليك الأمير ضياء الدين بن الخطير، وجعله السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين حاجباً في أيامه، ثم إنه تولى نيابة طرابلس، وأبلى في واقعة غازان، وقتل من التتار جماعة، ثم إنه خاض فيهم فاستشهد، رحمه الله تعالى. وكان فيه اعتناء بأهل الخير وأهل الحرمين، وله بالقدس رباط وعليه وقوف، وكان كثير الصدقة، متين الديانة. كرت الأمير سيف الدين الناصري، أخو الأمير سيف الدين طغاي الكبير المقدم ذكره. حضر إلى صفد بتبع واحد، وأقام بها مدة، ثم إنه نقل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز إلى دمشق، وبقي كذلك إلى أيام الفخري، فجهزه إلى البلاد الرومية إحضار سيف الدين طشتمر، وأنعم عليه. ثم إن الناصر أحمد أمره طبلخاناه، وأقام بدمشق مديدة، ثم إنه جهزه إلى جعبر نائباً، فأقام بها قليلاً. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 كرجي الأمير سيف الدين. كان جريئاً شجاعاً كثير التهور، شديد الإقدام ظالم النفس، هو الذي قتل السلطان حسام الدين لاجين - على ما سيأتي -. ثم إنه قتل لما قتل طغجي، وطيف برأسه في القاهرة سنة ثمان وتسعين وست ومئة، قتله كردي من الحسينية برا القاهرة بين الكيمان. اللقب والنسب ابن الكركري: الأمير سيف الدين بهادر. كرماس الأمير سيف الدين، أحد أمراء البلخانات بدمشق. توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. اللقب والنسب كريم الدين الكبير: عبد الكريم بن هبة الله. وكريم الدين الصغير: أكرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 كستاي بضم الكاف وسكون السين المهملة وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف ممدودة وياء، الأمير سيف الدين الناصري. كان من أحسن الأشكال وأتمها، وأجمعها للمحاسن وأعمها، يميل إلى الأفاضل، وذيله بالإحسان إليهم فاضل، وله دين، وفيه خير وإحسان وبر، يسقط على حبه الطير، وكان خطه كحظه زائد الحسن والقوه، فائق الرونق، كأنه في العلامة عروساً على البصائر مجلوه. تولى نيابة طرابلس، فأحسن فيها الولاية، وأظهر الاحتفال بعدله والعنايه. ولم يزل بها على حاله إلى أن كست كستاي أكفانه، وجرى عليه من الدمع غدرانه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة. كان في رفعة طغاي الكبير، وهو ثانيه في المنزلة، ثم إن السلطان الملك الناصر أخرجه إلى نيابة طرابلس في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة عوضاً عن تمر الساقي. كشتغذي الأمير الكبير المعمر علاء الدين أبو أحمد الخطائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 كان شيخاً معمراً، جاوز التسعين. وسمع من النجيب الحراني ومن بعض أصحاب البوصيري والخشوعي. توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة. اللقب والنسب الكفري: الشيخ شهاب الدين الحسين بن سليمان. ابن كسيرات: تاج الدين علي بن إسماعيل. ابن الكلاس: علاء الدين علي بن محمد. كماليه بفتح الكاف وبعدها ميم وألف ولام وياء مشددة وهاء. أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: كانت المذكورة أديبة شاعرة، ذكرها لي ناصر الدين شافع وقال: إنها كاتبت شعراء عصرها من أهل مصر. قال: وأخبرني فتح الدين البكري، وأنشدني قال: كتبت كماليه إلي: سمعت من شعرك سحراً غدا ... يخامر الألباب إذ ينفث أصبح كالخمرة في فعلها ... فهو بألباب الورى يعبث الكمالي: الأمير شمس الدين سنقر الحاجب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 كنجشكب بالكاف المضمومة والنون الساكنة والجيم والشين المعجمة الساكنة وبعدها كاف أخرى وباء ثانية الحروف، ابنة أبغا. كانت من الخواتين الكبار، وكان الأمير سيف الدين تنكز يبالغ في تعظيمها، ويكرم قصادها ومن يحضر من عندها أو يأتي بكتاب منها، وكانت تعلمه بأخبار القوم ومتجدداتهم، وما يدور بينهم، وكانت تجهز إليه في كل سنة من عندها كاملية طلسمو إما لون فاختي أو لون بنفسجي، أو غير ذلك من الألوان بطراز زركش، عمل الموصل، وداير باولي من أفخر ما يكون، وأصنعه بأزرار مرجان ملبسة ذهباً على فرو قاقم له داير سنجاب في عرض أصبع أزرق طري غض كشن من خيار ما يكون. وكان تنكز تعجبه هذه الكامليات، ويديم لبسها، لما فيها من الطرافة وحسن الصياغة، وكان هو يهدي إليها أضعاف ذلك. وعهدي بها في حياة تنكز في سنة أربعين وسبع مئة. الألقاب والأنساب الكنجي: نائب مصياف، اسمه: آقوش. والكنجي: محمد بن محمد بن أبي بكر. ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن. ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 كندغدي الأمير سيف الدين العمري. أعرفه وهو والي باب القلعة بالديار المصرية، أقام على ذلك مدة. وكان حسن الصوت والوجه، نقي الشيب، أحمر الوجنة. ثم إن السلطان الملك الناصر محمد بعثه إلى إلبيرة نائباً، فتوجه إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة - فيما أظن -، وأقام بها إلى أن حضرت مطالعة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب تتضمن الشكوى منه، ويذكر أنه وقعت فيه قصص كثيرة ومحاضر، فرسم السلطان الملك الصالح إسماعيل بإحضاره إلى حلب، ومحاققته على ذلك في محفة، وكان مريضاً، فوصل إليها، وأقام ساعة واحدة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وأربعين وسبع مئة. كهرداس الأمير سيف الدين الرزاق أحد الأمراء بدمشق. كان ذكياً فطناً حذقاً، له اعتناء بالمجلدات النفيسة والخطوط المنسوبة وغير ذلك من الأصناف الغريبة، وأنفق على ذلك أموالاً جمة، عمل له قدمةً بالبندق غرم عليها ثلاث آلاف درهم، وهي مليحة، رأيتها وهي ناقصة الغالقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 توفي - رحمه الله تعالى - بداره، وهي دار القيمري خلف المدرسة القيمرية بدمشق في سلخ شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة. كوجبا الأمير سعد الدين الناصري. كان نائباً بثغر الإسكندرية. روى للشيخ شمس الدين الذهبي أحاديث عن النجيب عبد اللطيف، وكان ختن ابن الظاهري. توفي - رحمه الله تعالى - بمصر سنة سبع وتسعين وست مئة، وهو من أبناء السبعين. كوكاي الأمير سيف الدين أحد الأمراء المشايخ بالقاهرة. تزوج ابنته ستيته - المقدم ذكرها - في حرف السين - الأمير سيف الدين تنكز - رحمهما الله تعالى. ولم يزل أميراً كبيراً مقدم ألف من الأيام الناصرية إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وخلف من الأموال على ما قيل ألف ألف ومئتي ألف درهم وسبعة وعشرين ألف دينار عيناً غير الخيل والبرك والعدة والبيوتات والقماش وغير الأملاك الكثيرة. كوكنجار الأمير سيف الدين المحمدي، أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق. كان يسكن إلى جوار الأمير صارم الدين صاروجا، قريباً من الشامية البرانية. توجه إلى الحج سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة منتصف القعدة سنة ثلاثين وسبع مئة. اللقب والنسب الكولمي: عز الدين عبد العزيز بن منصور. ابن الكويك: سراج الدين عبد اللطيف بن أحمد. وشمس الدين محمد بن محمود. كيتمر الأمير سيف الدين، بفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف وميم بعدها راء. كان من خوشداشية الحاج أرقطاي والأمير سيف الدين البشمقدار، أظنه أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 طبلخاناه في أيام نيابة الأمير سيف الدين أرقطاي بمصر، والظاهر أنه كان أميراً قبل ذلك، عينه الأمير سيف الدين أرغون شاه أمير الحج. فمات بالطاعون في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومات أيضاً جماعة من أولاده ومماليكه. وكان له ولدان هما في سماء الحسن فرقدان، ومات وصيه الأمير سيف الدين حاجي، الجميع في جمعة واحدة، وتأسف الناس على ولديه. الكيزاني: سديد الدين عبد الرحمن بن عبد الرحيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 حرف اللام لاجين السلطان الملك المنصور حسام الدين المنصور، مملوك السلطان الملك المنصور قلاوون. كان من خيار الملوك في الإسلام، وأفضل من خفقت على رأسه البنود والأعلام، شجاعاً معدوداً في الفرسان، بطلاً في وقت تمرح جياده في الأرسان، جواداً يخجل الغمام إذا هتن أو همى، كريماً أنسى جوده كرم حاتم الذي سما، له ذب عن الإسلام وبيضته، وحماية في جلوسه ونهضته، أحق الناس بقول أبي الطيب: فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد وكان صحيح الوداد لمن يصحبه، مليح الاعتقاد فيمن يألف به ويعجبه. تعجبه الفضائل ويعظم أهلها، ويذكر أنسها ويغض فضلها، ويجمع عليها شملها، ويتطفل على طفلها، ويوقر كهلها. شديد الغيرة على حريمه، لا يدع الأسد تقارب كناس ريمه. سن لما ملك أشياء حسنه، وأزاح من جفن الملك بها وسنه. أحبه أهل دمشق لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 كان عندهم نائبا، واستصحبوا ذلك لما كان عنهم غائبا، ولكن خان الزمان ملكه، وأوقف في وسط بحره فلكه، وجال الحسام في الحسام، وفصل أوصاله الجسام، وما راعى سميه، ولا حفظ وليه وسميه. وكانت قتلته - رحمه الله تعالى - ليلة الجمعة، وقد صام نهار الخميس عاشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة. أمره الملك المنصور أستاذه عندما ملك، وبعثه نائباً على قلعة دمشق، فلما تسلطن سنقر الأشقر، ودخل القلعة قبض عليه، ولما انكسر سنقر الأشقر أخرجه الأمير علم الدين سنجر الحلبي. ثم إنه رتب في نيابة السلطنة بمرسوم السلطان، ودخل في خدمته إلى دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة، وعمل النيابة إحدى عشرة سنة، وأحب أهل دمشق وأحبوه، وأحسن إليهم. ثم إن الأشرف عزله من نيابة دمشق بالشجاعي لما أمسكه على عكا، وأفرج عنه، وحضر معه إلى قلعة الروم، ولما كانوا بعدها بدمشق هرب يوم العيد مستهل شوال سنة إحدى وتسعين، وركب الأشرف والعسكر في طلبه، وكان قد توجه إلى بعض عرب صرخد، ليتوجه به إلى الحجاز، فأمسكه وجاء به للأشرف فقيده، وجهزه إلى مصر هو وسنقر الأشقر، ثم إنه أفرج عنه، وأعطي إمرة مئة بالقاهرة. وفي شوال سنة اثنتين وتسعين قطع الأشرف خبز الأفرم الكبير، وأعطاه للاجين المذكور، وكان عظيماً، وخنق بين يدي الأشرف ثم خلي عنه، فإذا فيه روح، فرق له السلطان، وأطلقه، ورده إلى رتبته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وقيل: إن السلطان الملك المنصور قال لولده الأشرف: هذا طرنطاي، لا تؤذه ولا تتعرض له أبداً، فإنه ما يؤذيك، وهذا لاجين، لا تمسكه، وإن أمسكته لا تبقيه، فإنه يحقد عليك، ويعمل على قتلك. فخالف والده في الجهتين، فأول ما تسلطن أمسك طرنطاي، وقتله وأمسك لاجين وأطلقه فقتله. وقيل إنه إنما قام على الأشرف لأنه تعرض لزوجته بنت طقصو فعز ذلك عليه. ولما قتل الأشرف هو وبيدرا، كان بيدرا الذي تقدم إلى الأشرف وضربه وهو على الأرض يحصل طيراً صاده، وكانت ضربة غير طائلة، فجاء بعده لاجين، وهو سائق فرسه، فرأى ضربة بيدرا، فقال: يا مأبون، هذه ضربة من يطلب الملك، ثم إنه ضربه ضربة حل منها كتفه، فقضى عليه. ولما قتله اختفى حسام الدين لاجين، وقيل: إنه هرب وقراسنقر، وعديا النيل، وجاءا إلى جامع ابن طولون، واختبأ في المئذنة، وبقيا فيها أكثر من يومين، ونذر لاجين إن سلم أنه يعمر الجامع المذكور، ووفى بنذره. وتنقل بعد ذلك في البيوت، وقاسى أهوالاً وشدائد من الجوع والعطش والخوف. ثم إن كتبغا أجاره وأجار قراسنقر، وأحسن إليه، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر وقرر معه أن يخلع عليه ويحسن إليه، ففعل به ذلك، وأعطاه خبزاً كان مع الأمير بدر الدين بكتوت العلائي بالديار المصرية وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 ولما ملك كتبغا جعله نائبه في مصر، فوثب عليه - كما تقدم في ترجمة كتبغا - وقتل مملوكيه الأزرق وبتخاص، وتغافل عنه لما عليه من الأيادي، وهرب كتبغا - كما تقدم - وساق لاجين والعساكر بين يديه من الغور، وما دخل غزة إلا وهو سلطان، وهو لم يختلف عليه اثنان. وتملك في أول صفر سنة ست وتسعين وست مئة، وخطب له بغزة وبلد الخليل عليه السلام والقدس. ولما دخل القاهرة جلس على سرير الملك، وبعث قبجق نائباً إلى دمشق؛ لأنه خوشداشه، وجعل قراسنقر نائبه بمصر إلى أن تمكن ثم قبض عليه، وأقام في النيابة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر، فحسن له القبض على الأمراء، فأمسك البيسري وقراسنقر وأيبك الحموي، وسقى جماعة السم، ولذلك هرب قبجق وألبكي وبكتمر السلاح دار وبزلار إلى التتار - كما تقدم في تراجمهم - ولم يخرج إلى الشام مدة ملكه. ولما كان يوم الخميس في التاريخ المذكور ركب موكبه وهو صائم، عمل عليه جماعة من الأشرفية، ودخلوا عليه بعد العشاء الآخرة، وهو مكب على الشطرنج وما عنده إلا القاضي حسام الدين الحنفي وعبد الله الأمير وبريد البدوي وإمامه محب الدين بن العسال، فأول من ضربه بالسيف كرجي - مقدم البرجية - وتوجه طغجي وكرجي إلى دار منكوتمر، ودقا عليه الباب، وقالا: السلطان يطلبك، فنكرهما، وقال: قد قتلتماه؟، فقال كرجي: نعم يا مأبون، وجئنا لنقتلك، فاستجار بطغجي، فأجاره، وحلف له، فخرج إليهما، فذهبا به الجب، وأنزلاه، فاغتنم كرجي الغفلة، وحضر إلى الجب، وأخرجه من الجب، وذبحه، وقال: نحن ما قتلنا أستاذه إلا من أجله فما في بقائه فائدة، ونهبوا داره في الحال، واتفقوا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 إعادة الملك الناصر ثانياً إلى الملك، واتفقوا على أن يكون طغجي نائباً، وحلفوا له على ذلك، وأرسلوا سلار - وهو إذ ذاك أمير صغير - إلى الكرك، لإحضار الناصر محمد، وعمل طغجي النيابة أربعة أيام. ولما حضر أمير سلاح من غزوة الشام؛ وطلعوا للقياه جرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة طغجي وأمير سلاح - وقتل طغجي وكرجي، وكان يعلم على الكتب إذ ذاك ثمانية أمراء: سلار والجاشنكير وبكتمر أمير جاندار وآقوش الأفرم والحسام أستاذ الدار وكرت وأيبك الخزندار والأمير عبد الله. وقتل لاجين وهو في عشر الخمسين: قدر عدت فيه الحوادث طورها ... وتجاوزت أقدارها الأيام لأنه كان سلطاناً جيداً، عادلاً خبيراً، درباً كريماً، جواداً شجاعاً، كان يسل سيفه، ويهزه في يده، ويقول: أشتهي أرى أبغا وهذا في يدي. ولمل ملك أخرج الخلفاء من الاعتقال، وأبطل تجهيز الثلج من بيروت وطرابلس، وقال: لا حاجة لي به، فإني كنت في دمشق، وأدري ما يجري على الرعايا في وسق الثلج في المراكب، وما يجدونه من التعب والمغارم والكلف. وكان ذكياً يقظاً: أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: حكى لي والدي أنه وصل إليه في بعض الأيام بريد من مصر على يده كتاب من طرنطاي، ومما فيه بخطه أن الخروف نطح كبشه قلبه، فقال لي: ما هذا يا محيي الدين؟! قلت: ما أعلم، فقال: هذا كلام معناه أن بيدرا قد وثب على عمه الشجاعي، وكذا كان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فإن الشجاعي كان زوج أم بيدرا، فعمل عليه عند المنصور، وأمسكه، وعزله، وصادره. وهذا في غاية الفهم من مثل هذه الإشارة. وحكى لي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر بك، قال: قال لي السلطان حسام الدين لاجين يوماً: يا حسين، رأيت البارحة أخاك مظفر الدين في النوم وهو يقول لي: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، فما كان بعد ثلاث ليال حتى قتل رحمه الله تعالى. وحكى عنه الشيخ علاء الدين بن غانم - رحمه الله تعالى - مكارم كثيرة ولطفاً زائداً وإحساناً جماً ومودة يرعاها لمن يعرفه. وكذلك حكى لي عنه شيخنا فتح الدين بن سيد الدين لما دخل إليه لم يدعه يبوس الأرض، وقال: أهل العلم ينزهون عن هذا وأجلسه عنده - أظنه قال لي: على المقعد -، ورتبه موقعاً في ديوان الإنشاء، فباشر ذلك أياماً، ثم استعفى فأعفاه، وجعل المعلوم له راتباً، فأقام يتناوله الشيخ إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود يوماً بين يديه، وهو بدمشق يكتب، فوقع شيء من الحبر على ثيابه، فأعلمه لاجين بذلك، قال لي: فنظمت في الحال بين يديه: ثياب مملوكك يا سيدي ... قد بيضت حالي بتسويدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ما وقع الحبر عليها بلى ... وقع منك بتجديدها قال: فأمر لي بتفصيلتين ومبلغ خمس مئة درهم، فقلت: يا خوند مماليكك الجماعة رفاقي يبقى ذلك في قلوبهم، فأمر لكل منهم بمثل ذلك، ثم صار ذلك راتباً لنا في كل سنة عليه. وندب الأمير علم الدين الدواداراي، وهو سلطان، فعمر جامع ابن طولون، واشترى له وقوفاً كثيرة، وجدد فيه وظائف كثيرة من التفسير والحديث والفقه والقراءات والطب وعمر بدمشق الخان المنسوب إليه تحت ثنية العقاب. وكان أشقر، في لحيته طول يسير، وخفه. وجهه رقيق معرق وعليه هيبه، وهو تام القامة، في قده رشاقة وهيف. وكان وهو سلطان يجهز البريدية، ويحملهم السلام إلى الموقعين الذين كان يعرفهم. وأنشدني شيخنا أبو الثناء محمود إجازة قصيدة مدحه بها وهي: أطاعك الدهر فأمر فهو ممتثل ... واحكم فأنت الذي تزهى به الدول واشرف فلو ملكت شمس النهار علاً ... ملكتها لم يزد في سعدها الحمل وانهض بعزمك فهو الجيش يقدمه ... من بأسك المنذران الرعب والوجل وسر به وحده لا بالجيوش وإن ... لم يحوها الأرحبان السهل والجبل تلقى الفتوح وقد جاءتك وافدةً ... يحثها المزعجان الشوق والأمل قد أرهف الملك المنصور منك على ... جيش الأعادي حساماً حده الأجل تهوى أسنته بيض النحور فمن ... آثارها الحمر في أجيادها قبل تدمي سطاه وتندى كفه كرماً ... كالغيث يهمي وفيه البرق يشتعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 سل يوم حمص جيوش المغل عنه وقد ... ضاق الفضاء بهم واستدت السبل والهام تسجد والأجسام راكعة ... والموت يقبل والأرواح تنتقل والبيض تغمد في الأبطال عاريةً ... وتنثني وعليها منهم حلل والخيل تحفى وتخفى في العجاج فإن ... بدت غدت وهي بالهامات تنتعل يخبرك جمعهم والفضل ما شهدت ... به العدا أنه ليث الشرى البطل وأنه خاض في هيجائها وجلا ... غمارها واصطلاها وهي تشتعل وصدهم وهم كالبحر إذ صدموا ... ببأسه وحمى الإسلام إذ حملوا فمزقتهم سطاه ذا يسير وذا ... عان أسير وذا في الترب منجدل كأن أسهمه والموت يبعثها ... بين المنايا وأرواح العدى رسل كأن هاربهم والخوف يطلبه ... يبدو لديه مثال منه أو مثل فإن تنبه يوماً راعه وإذا ... أغفى جلته عليه في الكرى المقل وعاد والنصر معقود برايته ... والمغل ما بين أيدي خيله خول قد جمع الله فيه مل مفترق ... في غيره فهو دون الناس مكتمل فعن ندى يده حدث ولا حرج ... اليم ثم وعم العارض الهطل أستغفر الله أين الغيث منفصلاً ... من بره وهو طول الدهر متصل عطاء من ليس يثني قط راحته ... عن الندى سأم يوماً ولا ملل من حاتم؟ عد عنه، واطرح فبه ... فيالجود لا بسواه يضرب المثل أين الذي بره الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممن جوده الإبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 لو مثل الجود سرحاً قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل أحاط بالناس سور من كفالته ... ظل لهم وعلى أعدائهم ظلل أضحوا به في مهاد الأرض يكلؤهم ... من رأفة بهم يقظان إن غفلوا يحنوا عليهم ويعفو عن مسيئهم ... حلماً ويصفح عنهم إن هم جهلوا وأعدل الناس أياماً بلا شطط ... في الحكم منه ولا حيف ولا ميل أطاع خالقه فيما تقلده ... فما عن الدين بالدنيا له شغل إن رام صيداً فما الكندي مفتخراً ... بالخيل في الصيد إلا مطرق خجل بكل طرف يفوت الطرف رؤيته ... لا يأخذ الصيد إلا وهو منفتل في فتية من كماة الترك ليس لهم ... إلا التعلم من إقدامه أمل إن يقتلوا الصيد في أيدي الجوارح ... جوارح اللحظ إن يرموا بها قتلوا عزاً وصوناً لمن دان الأنام له ... حتى السهام إلى أغراضه ذلل أو حاول اللعب المعهود بالكرة ال ... تي بها تستعين البيض والأسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 حيث السوابق تجري في أعنتها ... طوعاً وتعطف أحياناً فتمتثل كأنه وهو والبردي في يده ... على الجواد وكل نحوها عجل شمس على البرق حاز البدر يرفعه ... عن الهلال فيعلو ثم يستفل لا زال بالملك المنصور منتصراً ... ما قال بالدوح غصن البانة الثمل ولما تولى السلطنة جاء غيث عظيم، بعدما كان تأخر، فقال علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت -: يا أيها العالم بشراكم ... بدولة المنصور رب الفخار فالله بارك فيها لكم ... فأمطر الليل وأضحى النهار ولما أبطل المنكرات في أيامه؛ قال ابن دانيال: احذر نديمي أن تذوق المسكرا ... أو أن تحاول قط أمراً منكرا لا تشرب الصهباء صرفاً قرقفا ... وتزور من تهواه إلا في الكرى أنا ناصح لك إن قبلت نصيحتي ... اشرب متى ما رمت سكراً سكرا والرأي عندي ترك عقلك سالماً ... من أن تراه بالمدام تغيرا ذي دولة المنصور لاجين الذي ... قهر الملوك فكان سلطان الورى إياك تأكل أخضراً في عصره ... يا ذا الفقير يكون جنبك أحمرا والمزر يا مسعود دعه جانباً ... واشرب من اللبن المخيض مكررا وبنى حرام احفظوا أيديكم ... فالوقت سيف والمراقب قد درى توبوا وصلوا داعيين لملكه ... فبه تنالون النعيم الأكبرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 ولما كان بدمشق نائباً - رحمه الله تعالى -؛ أمسك نصراني في أوائل شهر رمضان سنة سبع وثمانين وست مئة عند امرأة مسلمة جميلة يشرب الخمر، فأمر بإحراقه ففدى النصراني نفسه بمال جزيل، فلم يقبله، وأمر بنار عظيمة، فأضرمت، وألقي النصراني فيها، فقال العلامة شهاب الدين محمود يمدحه، أنشدنيه لنفسه إجازة: يا من به وبرأيه وروائه ... بلغ المراد الدين من أعدائه أنت الذي لم يخش لومة لائم ... في الله فابشر فزت عند لقائه ما يومك الماضي لديك بضائع ... والله والأملاك من شهدائه يا كافل الإسلام قبلك لم يقم ... هذا المقام سواك من كفلائه بالسيف قام ولا اختلاف بأنه ... أنت الحسام وذاك من أسمائه أقسمت لو آلى امرؤ لك أنه ... أحد الفتوح لبر في آلائه أرسلتها في العدل أحسن سيرة ... بك يقتدي من كان في ألفائه وغضبت للإسلام غضبة ثائر ... لله غير مشارك في رائه وحميت سرح الدين من متخلس ... رجس يسر الغدر في استخفائه أخفى سراه إلى الحريم وما درى ... أن الإله وأنت من رقبائه جمع الخيانة والخنا في الأرض والإ ... شراك بالرحمن فوق سمائه فأمرت أمراً جازماً بحريقه ... ورأيت أن القتل دون جزائه أحرقت من أدنت عداوة كفره ... يده من الإسلام في استعلائه طهرت من دمه الثرى وقذفته ... في النار عن تنجيسه بدمائه ورفعت قدر السيف عنه وإنه ... ليجل عن تنجيسه بدمائه أرعبت أهل الشرك منك وكلهم ... يلقى خيالك واقفاً بإزائه وسلبتم طيب الرقاد فمن غفا ... ألفى دبيب النار في أعضائه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أو لو تخيل في المنام بحرمه ... خشي الحريق ومات في إغفائه راموا شفيعاً عنده ذنبهم ... كي يسخط الرحمن في إرضائه غابوا وهل في الأرض من يثنيه عن ... تنفيذ حكم الله في إمضائه ماض حكيم ثابت متمسك ... بالشروع في أحكامه وقضائه وكما البزاة أمن سطوة بأسه ... فكذا البغاة يئسن من إبقائه كالسيف يبدو في توقد حده ... في الناظرين إليه رونق مائه يا راعي الإسلام صنت السرب أن ... تدنو كلاب الشرك من ضعفائه عاملت ربك بالذي أسلفته ... في دينه فابشر بحسن وفائه ما غرت إلا للإله وخلقه ... من فتك شر عبيده بإمائه نزهت شرعة دينه فابشر بها ... هي خير ما أولاك من ألائه ولك الهناء إذ النبي محمد ... وافيته بالحوض تحت لوائه فاستشهد الشهر الشريف فإنه ... يثني بما أبديت في أثنائه أحييته بالعدل فارقد إن تشا ... فلقد بلغت القصد من إحيائه عظمت حرمته وأهلكت الذي ... لم يرع حق الله في آنائه فاسلم لهذا الدين تحرس سربه ... ويغض جفن الشرك منك بدائه واشكر إلهك بالذي ألهمته ... فيما فعلت فذاك من نعمائه لاجين الأمير حسام الدين الأستاذ الدار الرومي. كان من كبار الأمراء مقدمي الألوف بالديار المصرية. وكان مقدم الميسرة في يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 شقحب، ثبت هو ومن معه من أصحابه وكان معه ثمانية أمراء مقدمون أبلوا جميعهم بلاءً حسناً، وثبتوا لحملات التتار، فاستشهدوا جميعهم في الواقعة المذكورة - رحمهم الله تعالى - وذلك في شهر رمضان سنة اثنتين وسبع مئة. وقبره هو وحده هناك على جبل عليه قبة يراها المسافرون على يمين المار من دمشق إلى الصنمين. وكانت قتلته في عصر السبت ثاني شهر رمضان - رحمه الله تعالى. ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف الصفدي الطبيب بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة من مرثية كتب بها إلى الأمير ركن الدين عمر بن الأمير حسام الدين لاجين الرومي أولها: كأس الحمام على الأنام يدور ... والعمر ماض والزمان يسير أنفاسنا كرواحل لنفوسنا ... لمراحل فيها الأنام تصير يا من يسير على اليسير وحوله ... عبر وخلق في القبور عبور انظر إلى الدنيا وما فعلت بمن ... ترنو إليه بطرفها وتسير كم خولت فتحولت ولئن حلت ... قد أنحلت وأصابها التغيير منها: يا مرج صفر أصفرت بك أربع ... وجرت دموع نظمها منثور جاء التتار تدفقاً تترى له ... فترى ... والجبال تسير وردوا بمائة ألف مغلاً بعدها ... عشرون ألفاً بأسها محذور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 لله من فادى الأنام بنفسه ... لم يرهباه منكر ونكير في محضر شرع الأسنة شاهد ... إن الثناء لغيره محظور فالسيف يكتب والمثقف ناقط ... والسهم يشكل والطلا المسطور حضن السيوف به وهن ذكور ... وقدحن ناراً والأكف بحور هذا حسام الدين والدنيا فما ... يلقى له بين الأنام نظير كم خاض أهوال المعارك عاركاً ... والحرب تقدح والشرار يطير والخيل تعثر بالنواصي والقنا ... والأرض راجفةٌ تكاد تمور فرماحه مثل الرجوم نصالها ... شهب يراها في النحور تغور تبكي عليه محافل وجحافل ... ومناصل وذوابل وقصور وهي أربعة وستون بيتاً وهذا القدر منها كاف. لاجين الأمير حسام الدين الحموي. كان أولاً بحماة أستاذ دار الملك المؤيد صاحب حماة. ولما ولي الأمر الملك الأفضل وقع بينهما، فنزح عن حماة، وتوجه إلى مصر، وعاد إلى دمشق أميراً. وكان الأمير سيف الدين تنكز يكرمه، ولم يزل بدمشق إلى أن أمسك تنكز، وحضر بشتاك إلى دمشق، فولاه المهمندارية بدمشق. فأقام يويمات ثم ولي مدينة دمشق - فيما أظن -، فأقام قليلاً وطلب الإقالة. ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن توفي بدمشق في مستهل صفر سنة ست وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 لاجين الأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالصغير. كان أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق، وولي البر في وقت في المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة. ثم إنه قيد واعتقل بقلعة دمشق بعد قتل حسام الدين لاجين السلطان في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وأفرج عنه في جمادى الآخرة. وعزل وجهز إلى ولاية الولاة بالقبلية عوضاً عن الحاج بهادر في شوال سنة إحدى عشرة، وتوجه أمير الحج في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وولي غزة بعد الجاولي. ثم إنه توجه لنيابة إلبيرة، وأقام بها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وصل تابوته إلى دمشق في خامس صفر من السنة المذكورة وكان قد نقل أولاً إلى حلب ودفن بها ثم إن أستاذ داره نقله إلى دمشق، وكان قد أسند وصيته إلى الأمير سيف الدين تنكز، ولأجل ذلك لما اتفق ما اتفق لابنته أمر بخنقها، وكانت واقعة عجيبة. لاجين الشيخ الصالح حسام الدين الأزهري. كان شيخاً كبيراً تجاوز المئة بثلاث سنين، وجاور بالجامع الأزهر في القاهرة مدة سبعين سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، وكانت جنازته حافلةً، وصلي عليه غائباً بالجامع الأموي بدمشق. لاجين الأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالزيرباج. كان قد حبسه السلطان الملك الناصر محمد، فأقام في الحبس مدة سبع عشرة سنة، ثم إنه أفرج عنه وعن الأمير فرج بن قراسنقر وعن الأمير علم الدين وخلع عليهم في ليلة عرفة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. لاجين الأمير حسام الدين الإبراهيمي أمير جاندار. توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ودفن بالروضة تحت قلعة الجبل ظاهر القاهرة. كان أمير خمسين، وفيه دين ومروءة. لاجين الأمير حسام الدين الغتمي نائب الرحبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 كان من مماليك الغتمي نائب الرحبة، ولم يكن هو في نفسه غتمياً. وانتشا بالرحبة، وعمل بها ولاية البر مدة. ثم إنه أقام بدمشق وخدم القاضي محيي الدين بن فضل الله، فخلص له ولاية البقاع، فأظهر نهضة كافية وكفاية تامة، فنقله إلى ولاية نابلس، فأبان فيها عن سداد وشهامة، فأحبه الأمير تنكز، فقال له: يا خوند إن وليتني نيابة الرحبة، وفرت العسكر الدمشقي من التجريد إليها، فكتب له إلى السلطان، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه إمرة طبلخاناه، فتوجه إليها، ووفى بما التزمه من عدم تجريد العسكر إلى الرحبة. وفرح بذلك تنكز، وأحبه. وحضر العربان والناس ورافعوه، ولم يلتفت إليهم، وأمسك غرماءه ورماهم في الحبس، وتوجه العربان الكبار من آل مهنا وغيرهم، وشكوا منه إلى السلطان شكوى كبيرة، فطلبه السلطان إلى مصر، فتوجه إليها في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب تنكز على يده، فلم يسمع فيه كلاماً، وخلع عليه، وجهزه إليها مكرماً، وتوجهت أنا إليها موقعاً في آخر هذه السنة المذكورة، وكتبت إليه من قباقب على جناح الحمام بطاقة بوصولي، وفيها: هذي بطاقة خادم ... قد جاء يلهج بالمدح حملتها قلبي الذي ... قد طار نحوك بالفرح ولما قدمت إليها انجمع مني وانزوى عني مدة تزيد على شهرين، ثم إنه أقبل علي إقبالاً عظيماً، وأفضى إلي بأسراره، وأحسن إلي غاية الإحسان، وقال: يا مولانا، خوفوني منك، وقالوا: هذا واحد قد سيروه من مصر عيناً عليك، وزال ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 ولما انفصلت من الرحبة وعدت إلى دمشق زودني وأعطاني مبلغ ألف درهم وقماشاً وحجراً عربية ثمينة واستمر لي عليه راتب في دمشق من الشعير لخيلي ومن التبن في كل سنة. وتوجهت إلى مصر، وهو يخدمني ويحسن إلي بأنواع، ويطلب الناس مني الشفاعات إليه، فلا يردها، إلا أنه كان جباراً سفاكاً للدماء يعاقب عقاب المغل، ويتنوع في ذلك بأنواع العذاب. ولم يزل على حاله في الرحبة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. لاجين الأمير حسام. كان قد تزوج بأم المظفر حاجي، وجعله أمير آخور على حاله وقدم في أيام المظفر إلى دمشق أمير مئة مقدم ألف، ووصل معه الأمير سيف الدين بتخاص في تاسع شهر رجب سنة ثمان وأربعين. وكان أمير آخور في أيام الكامل أيضاً - فيما أظن -، ووصل طلبه بعده، ومعه الأمير ناصر الدين محمد على إقطاعه في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وطلب الأمير حسام الدين لاجين وولده إلى مصر، وأظنه أخرج بعد ذلك، ثم إلى مصر. ولم يزل بها مقيماً على طبلخاناه إلى أن توفي في شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة بالقاهرة في طاعون مصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 اللقب والنسب اللحياني: صاحب تونس: زكريا بن أحمد. ابن اللمطي: محب الدين عمر بن عيسى. ابن اللبان: محمد بن أحمد. لولو الأمير بدر الدين الحلبي المعروف بغلام فندش، بالفاء المفتوحة والنون الساطنة والدال المهملة المفتوحة والشين المعجمة. كان المسكين جباراً خواناً أثيماً خواراً خداعاً غداراً مكاراً غراراً، حقوداً حسودا، عنيداً مريدا، قصياً من الخير بعيدا. مبيراً مبيدا، لو عاصر الحجاج لم يدعه يفرح بإمرة الكوفه، ولا اشتهر دونه من قبح سجاياه الموصوفه، ولم يكن قدامه إلا جلوازا، أو ماراً في طريقه مجتازا، أو مشاءً بنميم همازا: مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق دخل إلى السلطان ورافع كتاب حلب، وجلب إليهم الويل والشوم فيما جلب، وسلمهم السلطان إليه، وعول في استصفاء أموالهم عليه، فمزق جلودهم بالسياط، وأهلك البريء والمتهم عملاً بالاحتياط، فباع بعض الناس موجودهم، وبعضهم باع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 مولوده. وكانت نوبة دون نوبة هولاكو وشراً منها، وواقعة تحدث الناس في سائر الأقطار عنها. ثم إنه نكب فيها، وطلب إلى مصر وأخذ منحوسا، وظن الناس أنه يكون فيها مرموسا، فنجا وليته لا نجا، ووجد بين الأسنة مخرجا. ثم إن السلطان ندبه لشد الجهات، فسد الجهات على من تنفس، ووصل شره حتى إلى الجواري الكنس، وأساء إلى من اصطنعه من تلك الورطه، وأخرجه من مصر بعد أي ضغطه، فولاه السلطان بمصر شد الدواوين بالقاهره، وتولى ذلك والناس أحياء " فإذا هم بالساهره " ونوع العذاب على المصادرين، وابتدع من العقاب ما لا مر بذهن الواردين ولا الصادرين، ثم إنه نكب بالقاهرة نكبة عظيمه، وانفرطت منها حبات سعادته النظيمه. إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوي إلى الهاوية وقعت فيا بردها في القلو ... ب، فيا ليتها كانت القاضية ثم إنه جهز إلى حلب، وقدر الله أنه منها انقلب، فذاق فيها وبال أمره، وأفاق من سكرة خمره، وقاء ما كان أكل واتخم، وشكا وهو تحت العقوبة شكوى الجريح إلى العقبان والرخم، ومنها قضى، وأسفر الوجود بموته من الظلم وأضا. وكان هلاكه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. أول ما عرفت من أمره أنني رأيته بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة وهو ضامن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 المدينة، وكان ضامنها من قبل بمدة، وطلع مرات إلى مصر ورافع الناس، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش يصده ويرده ويكذبه قدام السلطان، ولم يبلغ مرامه مدة حياته، فلما مات طلع إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ودخل إلى السلطان ورمى بين يديه ديناراً ودرهماً وفلساً، وقال: يا خوند الدينار في حلب للمباشرين، والدرهم للنائب، والفلس لك، فتأذى السلطان من ذلك واستشاط غضباً وطلب الجميع من حلب على البريد، وسلمهم إليه وكان يقعد في قاعة الوزارة ويستحضرهم ويقتلهم بالمقارع، وكان الناس قد طال عهدهم بالمقارع لأن القاضي كريم الدين - رحمه الله تعالى - كان قد أبطلها، واستمر إبطالها بعده إلى أن جاء هذا لولو فأعادها وبالغ في أذى أهل حلب، فأنكر أهل مصر ذلك، وساءت سمعته ذلك اليوم ورثى الناس لمباشري حلب، ووقف الناس له ليرجموه إذا نزل ذاك النهار من القلعة، فأحس بذلك، ودخل إلى السلطان وعرفه ذلك، فزاد غضب السلطان، ولم ينزل لولو من القلعة، وربما جعل معه أو شاقية يحفظونه من الناس. ولم يزل يعاقبهم بمصر حتى استصفى أموالهم وأخذهم معه، وتوجه بهم إلى حلب، وقد أمره السلطان وجعله مشد الدواوين بحلب. ولما وصل إليها صادر وعاقب وتنوع في ذلك حتى أباع الناس أولادهم، وزاد في الخيانة، فبلغ الخبر إلى السلطان، فسير السلطان للكشف عليه الأمير سيف الدين الأكز فصانعه وداراه وقدم له، فأخذه معه وطلع إلى مصر بما معه من التقادم العظيمة فقبلها السلطان منه، وجعله بين يدي الأكز مشد الجهات بمصرف القاهرة، فزاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 تسلطه على الناس، وكرهه الأكز، فأخذ العصا يوماً، وضربه إلى أن خرب عمامته، وخرج إلى برا وهو كذلك، فتوجه إلى القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، ودخل عليه واتفق معه، وعملا على الأكز، وأخرجاه إلى الشام، وولاه السلطان شد الدواوين بالقاهرة، فعمل ذلك بجبروت عظيم، وزاد طغيانه وعتوه. ثم إن السلطان غضب عليه، فأمسك لولو، وطلب الأمير علم الدين سنجر الحمصي من الشام وولاه شد الدواوين بالقاهرة، وسلم لولو إليه، فضربه بعض ضرب، وأقام مدة في الاعتقال ثم إنه خرج إلى حلب مشداً - والله أعلم -، فأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر نائب حلب، ومعه الأمير سيف الدين بهادر الكركري مشد الدواوين، فغضب على لولو، وسلمه إلى ابن الكركري فقتله بالمقارع إلى أن مات - رحمه الله تعالى - سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. حكى لي الشيخ شمس الدين بن الأكفاني قال: أعرف هذا لولو وهو عند فندش - أو قال: قبل وصوله إلى فندش - وهو يبيع أسقاط الغنم والأقصاب والتعاشير وغير ذلك في لقين بحماة على الطريق، وربما حمل ذلك على رأسه ودار به يبيعه. أنشدني لنفسه إجازة القاضي زين الدين عمر بن الوردي - رحمه الله تعالى -: أشكو إلى الرحمن لؤلؤ فندش ... أضحى يصادر سادة وصدورا نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤاً منثورا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 حرف الميم النسب والألقاب ابن الماسح: نجم الدين أحمد بن إبراهيم. مالك بن عبد الرحمن ابن علي بن عبد الرحمن، أبو الحكم بن المرحل الأديب الشاعر المغربي. أخذ عن الشلوبين، وابن الدباج، وعده. وروى عنه أبو القاسم بن عمران، ومحمد بن أحمد القيسي، وغيرهما. واستوطن سبتة. له الشعر الرائق، والنظم الفائق، لطف ألفاظه ورققها، وزخرف أبياته ونمقها. وكان من أفاضل شعراء المغرب وأدبائهم الذين يأخذون من كلامهم ب المرقص والمطرب. ولم يزل على حاله إلى أن رحل ابن المرحل إلى الآخرة، وأقام تحت الأرض إلى أن تنشر العظام الناخره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة بسبتة. وقيل: سنة سبع مئة بفاس - والله أعلم -. ومولده بمالقة سنة أربع وست مئة، فمات عن خمس وتسعين سنة. وكان قد نظم " التيسير " في قصيدة تزيد على ألفي بيت ورويها يلازم، وما أحسن قوله: يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشراً بعد سبعينا سكرت من أكؤس خمر الصبا ... فحدك الدهر ثمانينا وليته زادك من بعدها ... لأجل تخليطك عشرينا ووقع بينه وبين ابن أبي الربيع في مسألة " كان ماذا "؟ فنظم مالك بن المرحل: عاب قوم " كان ماذا " ... ليت شعري لم هذا وإذا عابوه جهلاً ... دون علم كان ماذا وجهله ابن أبي الربيع، وصنف في المنع من المسألة مصنفاً. وأنشدني العلامة شيخنا أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه: مذهبي تقبيل خد مذهب ... سيدي ماذا ترى في مذهبي لا تخالف مالكاً في رأيه ... فبه يأخذ أهل المغرب ومن شعر ابن المرحل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 يا راحلين ولي في قربهم أمل ... لو أغنت الحالتان القول والعمل سرتم فكان اشتياقي بعدكم مثلاً ... من دون السائران الشعر والمثل قد ذقت وصلكم دهراً فلا وأبي ... ما طاب لي الأسمران الخمر والعسل وقد هرمت أسى في حبكم وجوى ... وشب مني اثنتان الحرص والأمل غدرتم أو ملكتم يا ذوي ثقتي ... وبئست الخلتان الغدر والملل عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلا ... فما استوى التابعان العطف والبدل قالوا: كبرت ولم تبرح كذا غزلاً ... أودى بك الفاضحان الشيب والغزل لم أنس يوم تدانوا للرحيل ضحىً ... وقرب المركبان الطرف والجمل وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزينتان الحلي والحلل كم عفروا بين أيدي العيس من بطل ... أذابه المضنيان الغنج والكحل دارت عليهم كؤوس الحب مترعة ... وإنما المسكران الراح والمقل وآخرون اشتفوا منهم بضمهم ... يا حبذا الشافيان الضم والقبل وقال قبل وفاته وأمر أن يكتب ذلك على قبره: زر غريباً بمغرب ... نازحاً ما له ولي تركوه موسداً ... بين ترب وجندل ولتقل عند قبره ... بلسان التذليل رحم الله عبده ... مالك بن المرحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 اللقب والنسب ابن مالك: شمس الدين محمد بن محمد. وجمال الدين بن محمد بن محمد. المارستاني: محيي الدين محمد بن علي. المأمون: ناظر الكرك زكي الدين عبد الله بن عبد الكافي. مبارك بن نصير الفقيه الشافعي المعيد بالمشهد الجيوسي. كان من أهل قوص ومن الصالحين المتواضعين يخدم الطلبة بنفسه، ويعالج المرضى، ويطبخ لهم، ويقوم بالوظائف من الإعادة والإمامة والآذان، من غاب قام عنه بوظيفته. ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى الحج فغرق في سنة إحدى وسبع مئة. مبارك الأمير زين الدين المنصوري. كان أمير فارساً بدمشق. ثم إنه نقل إلى طرابلس، فعمي هناك، وقطع خبزه. ثم إنه قدح عينيه فأبصر، ولم يعد إليه خبزه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 اللقب والنسب المجير الخياط: أحمد بن حسن. ابن المحسني: شهاب الدين أحمد بن بيليك. ابن المحدث الكاتب: الشيخ بدر الدين حسن بن علي. ابن المحب: الشيخ محب الدين عبد الله بن أحمد. المحار: سراج الدين عمر بن مسعود. محفوظ ابن رشيد الدين العراقي الشاعر. قدم إلى دمشق بعد السبع مئة، وكان شاعراً مطيقا، متكلماً منطيقا، يغوص على المعاني البعيده، ويبرزها في الألفاظ السديده، له مقاطيع راقت، وأبيات ساقت النفوس إلى الطرب وشاقت، فكان شعر محفوظ محفوظا، وشعر من سواه ملفوظا. إلا أنه كان الهجو عليه غالبا، ولسانه للأعراض ثالبا، ومدحه للأموال سالبا. عاد إلى البلاد وانقطع خبره، وكأن الموت جبره لما زاد دبره. وكان لما دخل الشام ووصل حماة اتصل بابن قرناص وطلب إيصاله إلى الملك المظفر صاحب حماة، وكان ابن قرناص كاتب سره، فأطال الشرح عليه، فلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 يئس منه الرشيد عدل إلى كشتغدي الأستاذ دار وأنشده: ولقد ركبت هجين عزم ساقه ... مني الرجاء إلى الأغر الأبلج ملك توغره جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً بالعوسج فأنشدها كشتغدي للمظفر، فاستحضره وابن قرناص حاضر، فاستنشده البيتين فأنشدهما، وقال في الثاني: ملك تزان به جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً ببنفسج فقال له المظفر: ما هكذا قلت، فقال: كان ذاك قبل أن أحضر لديك، فأما الآن؛ فهو كما قلت، فأسنى عطاءه. ثم إن الرشيد وصل إلى حصن الأكراد، وعمل قصيدة في نائبها وأعطاها كاتبه ابن الذهبي، ليوصلها، فعاد إليه بعد مدة وزعم أنها ضاعت من حزره فقال: لا الذهبي اشترى المديح ولا ... أعذبه منهلاً وعذبه أهديت سراً مدحي إليه فما ... ذهبه بل علي أذهبه ومن شعره أيضاً: ركب الله في فتاء بنى فع ... لان معنى النيران والجنات أوجه القوم بالمكاره تحفى ... وفروج النساء بالشهوات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 ومنه: فرقت بيننا الحوادث لكن ... لي نفس إليكم أدنيها فكأني في الود فارة مسك ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها وقال وقد رأى مشجر الفسيفساء في الجامع الأموي بدمشق: ألم تر أشجاراً بجامع جلق ... حكت للورى لو أن صانعها باق نضارتها أن لا تدانى فروعها ... بشمس ولا سقي مغارسها ساقي ومنه هيج البرق لوعة المشتاق ... بوميض لقلبه الخفاق هذه مزنة إلي حدتها ... نسمة الصبح من نواحي العراق يا قساة القلوب رقوا فإني ... لا غرامي فإن ولا أنا باق هل لبؤس لاقيته من فراق ... ونعيم فارقته من تلاق قلت: هذا البيت الثاني من هذه القطعة ذكرت به ما اتفق لي نظمه بالديار المصرية، وقد توجهت إليها في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتركت أولادي بدمشق وهو: قلت إذ رق لي النسيم وقلبي ... يتلظى بالشوق في أرض مصرا هذه نفحة هدتها لبرئي ... وحدتها أنفاس سطرى ومقرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 محمد بن إبراهيم ابن علي فتح الدين القوصي، ابن الفهاد. كان فقيهاً حسناً مشكور السيرة، اشتغل بفقه الشافعي على أبيه وغيره، وتولى الحكم بسمهود، ثم إنه استوطن القاهرة، وجلس بحانوت الشهود، يعقد الأنكحة، وعرف بذلك، ومضى على جميل. توفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أبي نصر الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين أبو عبد الله بن النحاس النحوي شيخ العربية بالديار المصرية. سمع من ابن اللتي، والموفق بن يعيش النحوي، وابن رواحة، وابن خليل، ووالده. قرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي. وأخذ العربية عن الشيخ جمال الدين محمد بن عمرون. ودخل مصر لما خربت حلب، وقرأ القرآن على الكمال الضرير، وأخذ عن بقايا شيوخها، ثم جلس للإفادة. كان حسن الأخلاق، منبسطأ على الإطلاق، متسع النفس في حالتي الغنى والإملاق، ذكي الفطره، زكي المخالطة والعشره، مطرح التكلف مع أصحابه، عديم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 التخلف عن أشكاله وأضرابه، ومع ذلك فلم يرزق أحد سعادته في صدور الصدور، ولا فرح أحد بسيادته التي أربت على تمام البدور. وكان معروفاً بحل المشكلات، موصوفاً بإيضاح المعضلات، كثير التلاوة والأذكار، كثير الصلاة في نوافل الأسحار، موثوقاً بديانته، مقطوعاً بأمانته. وأما علمه بالعربية فإليهالرحلة من الأقطار، ومن فوائدها تدرك الأماني، وتنال الأوطار، قد أتقن النحو وتصريفه، وعلم حد ذلك ورسمه وتعريفه، ما أظن ابن يعيش مات إلا من حسده، ولا ابن عصفور لأجله طار ذكره إلا في بلده، ولا المرسي رست له معه قواعد، ولا لأبي البقاء العكبري معه ذكر خالد، بذهن نحى النحاس القديم عن مكانه، وجعل ابن بري برياً من فصاحة لسانه، وتحقيق ما اهتدى ابن جني إلى إظهار خباياه، ولا نسبت إلى السخاوي هباته ولا عطاياه. تخرج به الأفاضل، وتحرج منه كل مناظر ومناضل، وانتفع الناس به وبتعليمه، وصاروا فضلاء من توقيفه وتفهيمه، وكتب خطاً أزرى بالوشي إذا حبك، والذهب إذا سبك. ولم يزل على حاله إلى أن بلغ من الحياة أمدها، وأهدى الزمان إلى عينيه بفقده رمدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقاهرة. ومولده بحلب في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وست مئة. وكان من العلماء الأذكياء الشعراء، له خبرة بالمنطق، وخط من إقليدس، وكان على ما قيل يحفظ ثلث " صحاح " الجوهري وثلث " سيبويه "، وكان مطرحاً صغير العمامة، يمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية فقط، وربما ضجر من الاشتغال فأخذ الطلبة، ومشى بهم بين القصرين وألقى لهم الدروس. وكان متين الديانة، وله أبهة وجلالة في صدور الناس، وكان بعض القضاة إذا انفرد بشهادة حكمه فيها وثوقاً بديانته، واقتنى كتباً نفيسة. أخبرني الشيخ نجم الدين الصفدي، وكان ممن قرأ عليه، قال: قال الشيخ بهاء الدين: ما يزال عندي كتب بألف دينار، وأحضر سوق الكتب دائماً ولا بد أن يتجدد لي علم باسم كتاب ما سمعت به انتهى. ولم يتزوج قط، وكانت له أوراد من العبادة. وكان يسعى في حوائج الناس ويقضيها. وأخبرني القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسراني أنه لم يكن يأكل العنب، قال لأنه كان يحبه، فآثر أن يكون نصيبه في الجنة. وأخبرني الحافظ بن سيد الناس، قال: زكى بعض الفقهاء تزكية عند بعض القضاة ما زكاها أحد قط، لأنه أمسك بيد الذي زكاه، وقال للقاضي: يا مولاي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 الناس ما يقولون: ما يرمن على الذهب والفضة إلا حمار، قال: نعم، وهذا حمار، وانصرف فحكم القاضي بعدالة ذلك الفقيه. وأخبرني أيضاً أن الأمير علم الدين الشجاعي لما فرغت المدرسة المنصورية بين القصرين في أيام السلطان الملك المنصور قلاوون طلبه الأمير المذكور، فتوجه إليه وعمامته صغيرة بكراثة، على مصطلح أهل حلب، فلما جلس عنده، ولم يكن رآه، أخذ الأمير يتحدث بالتركي مع بعض مماليكه، فقال: يا أمير، المملوك يعرف بالتركي، فأعجب الأمير هذه الحركة منه، وقال له: السلطان قد فوض إليك تدريس التفسير بالقبة المنصورية، ونهار غد يحضر السلطان والأمراء والقضاة والناس، فغداً تحضر وتكبر عمامتك هذه قليلاً، فانصرف، ولما كان من الغد رآه الأمير علم الدين من بعيد، وهو جائز إلى المدرسة بتلك العمامة، فجهز إليه يقول له: ما قلت لك تكبر عمامتك قليلاً؟، فقال: يا مولانا، تعملوني مسخرة، وأراد أن يرجع، فقال الأمير علم الدين: دعوه يدخل، فلما جلس مع الناس؛ نظر الملك المنصور إلى الذين هناك، فقال: هذا ما هو الشيخ بهاء الدين بن النحاس؟، قالوا: نعم، فقال: هذا أعرفه، لما كنت ساكن في المدينة والناس يقرؤون عليه، وشكر الشجاعي على إحضاره، قال الشيخ فتح الدين: فلم يعرف السلطان غيره، ولا أثنى إلا عليه. وأخبرني عنه غير واحد أنه لم يزل عنده في بيته من أصحابه ومن الطلبة من يأكل على مائدته لا يدخر شيئاً، ولا يخبئه عنهم، وهنا أناس يلعبون الشطرنج، وهنا أناس يطالعون، وكل واحد في شأنه لا ينكر على أحد شيئاً. ولم تزل أخلاقه مرتاضةً حتى يكون وقت الاشتغال يتنكر، وكان لا يتكلم في حل النحو للطلبة إلا بلغة العوام لا يراعي الإعراب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وأخبرني الإمام أثير الدين، وعليه قرأ بالديار المصرية، قال: كان الشيخ بهاء الدين والشيخ محيي الدين محمد بن عبد العزيز المازوني المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحدا أكثر سماعاً منه لكتب الأدب، وانفرد بسماع " صحاح " الجوهري. وكان كثير العبادة والمروءة والترحم على من يعرفه من أصحابه، لا يكاد يأكل وحده، ينهى عن الخوض في العقائد، وله ترداد إلى من ينتمي إلى أهل الخير. ولي التدريس بجامع ابن طولون وبالقبة المنصورية، وله تصدير في الجامع الأقمر، وتصادير بمصر، ولم يصنف شيئاً إلا ما وجدناه من إملائه على الأمير سنان الدين الرومي شرحاً لكتاب " المقرب " لابن عصفور، وذلك من أول الكتاب إلى باب الوقف أو نحوه. قال: وكنت وإياه نمشي بين القصرين، فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعاً، فقال الشيخ بهاء الدين: لينظم كل منا في هذا المصارع، ونظم الشيخ بهاء الدين: مصارع تصرع الآساد شمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج قال أثير الدين: ونظمت أنا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دليل للملاحة واضح لئن عز منه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح قال: وسمع الشيخ شهاب الدين العزازي نظمنا، فنظم فيه، وأنشدنيه: هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشرى مذ فر عني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى أباح قتلي في الهوى عامداً ... وقال: كم لي عاشق في الورى رميته في أسر حبي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى قلت: أما قول الشيخ بهاء الدين - رحمه الله تعالى - فإنه منحط وما أتى فيه من مصطلح القوم إلا بلفظة " الراجح " لا غير. وأما قول شيخنا أثير الدين فإنه غاية لأنه أتى فيه بلفظ " المثل " و" الدون " و" الراجح ". وأما قول الشيخ شهاب الدين العزازي فبين بين، لم ينحط ولم يرتفع، لأنه أتى فيه بلفظة " حكى عليه " و" الإباحة " و" الرمي " و" أخذ الكرى " في أربعة أبيات وفيها عيب وهو التضمين وهو تعلق الثالث بالرابع، وقوله " الكرى " أخطأ فيه، لأن الكرى بمعنى النوم بفتح الكاف، والكرى بمعنى الأجرة بكسر الكاف فتنافيا وقد أشبعت القول في هذا في كتابي " فض الختام عن التورية والاستخدام ". وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدني الشيخ بهاء الدين لنفسه يخاطب الشيخ رضي الدين الشاطبي، وقد كلفه أن يشتري له قطراً: أيها الأوحد الرضي الذي طا ... ل علاء وطاب في الناس نشرا أنت بحر، لا غرو إن نحن وافي ... ناك راجين من نداك القطرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وأنشدني قال: أنشدني لنفسه يرثي الشيخ أحمد المصري النحوي: عزاؤك زين الدين في الفاضل الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا فهم فقدوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا وأنشدني قال: أنشدني لنفسه مما يكتب على منديل: ضاع مني خصر الحبيب نحولاً ... فلهذا أضحي عليه أدور لطفت خرقتي ودقت فجلت ... عن نظير لما حكتها الخصور أكتم السر عن رقيب لهذا ... بي يخفي دموعه المهجور وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: إني تركت لذا الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب وأنشدني شيخنا نجم الدين الصفدي من لفظه قال: أنشدنا الشيخ بهاء الدين لنفسه: قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق ليس بدعاً ما أتوا في فعله ... ستروا البدر بمحمر الشفق قلت: ذكرت أنا هنا ما نظمته في هذا: قلت إذ شرطوا الحبيب وقد ضا ... ق علي الغرام في كل مسلك قد ملكت الفؤاد من غير شرط ... قال: لكنني مع الشرط أملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وقلت أنا فيه أيضاً: تشرط من أحب فذبت خوفاً ... وقال وقد رأى جزعي عليه عقيق دم جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه وأخبرني شيخنا الذهبي قال: قرأت على الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - جزأين. قلت: وغالب روايات الشيخ أثير الدين كتب الأدب عنه - أعني الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى -. محمد بن إبراهيم بن علي ابن أحمد بن فضل الشيخ الموفق ابن الشيخ القدوة تقي الدين. كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وكان كثير التلاوة، قليل الاجتماع بالناس، لا يعرف له صاحب ولا عشير، وسمع كثيراً من الحديث على المشايخ الذين أدركهم بالصالحية. وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر المحرم سنة سبع مئة، ودفن عند والده. محمد بن إبراهيم بن يحيى ابن علي الأنصاري المروي الأصل، المصري المولد، جمال الدين الكتبي المعروف بالوطواط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 كان من كبار الأدباء، وأعيان الألباء، ألف وجمع، وصنف فأبرق ولمع. وكان نثره جيدا، وطبعه عن النظم متحيدا، لم يقدر ينظم البيت الواحد، ولو لحده اللاحد، وينثر جيداً ما شاء، ويتقن في هذا الفن الإنشاء. وكانت له معرفة بالكتب وقيمتها، ودربة بوجودها وعدمها، وله فهم وذوق ومعرفة، وفضل يد له في مجاميعه على ما يريد أن يورده أو يصرفه، تدل تواليفه على ذلك، وتشهد له بحسن السلوك في تلك المسالك، وكان يرتزق بالوراقه، ويجمع في أثنائه ما راقه. ولم يزل على ذلك إلى أن بلغت حياته غايتها، وتناولت وفاته رايتها. وتوفي - رحمه الله تعالى - ...... وسبع مئة. ومولده بمصر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة. أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: كان له معرفة بالكتب وقيمتها، وله نثر حسن، ومجاميع أدبية. وكان بينه وبين ابن الخويي قاضي القضاة مودة، لما كان بالمحلة، فلما تولى قضاء الديار المصرية، توهم جمال الدين أنه يحسن إليه، ويبره، وسأله فلم يجبه إلى شيء من مقصوده، فاستفتى عليه فضلاء الديار المصرية، فكتبوا له على فتياه بأجوبة مختلفة، وصير ذلك كتاباً، وقد راحت به نسخة إلى بلاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 المغرب. وكان قد سألني على أن أجيب على ذلك، فامتنعت لأن الإجابة اقتضت ذم المستفتى عليه، وكذلك أجاب جميع من كتب عليها. انتهى. قلت: أما هذه الفتيا فقد رأيتها، ونقلتها بخطي، وهي في الجزء الثاني عشر من " التذكرة " التي لي، وقد سماها " فتوى الفتوة ومرآة المروة ". وكتب له الشيخ بهاء الدين بن النحاس وناصر الدين حسن بن النقيب، ومحيي الدين بن عبد الظاهر كتب له جوابين أحدهما له والآخر عليه، وشرف الدين بن فضل الله والسراج الوراق، وناصر الدين شافع، وشرف الدين القدسي، وشرف الدين بن قاضي إخميم، ومكين الدين الجزري كتب له جوابين، والنصير الحمامي وكمال الدين بن القليوبي، وعلم الدين بن بنت العراقي، وشمس الدين الخطيب الجزري، وعلم الدين القمني، وبدر الدين الحلبيالموقع، وعماد الدين بن العفيف الكاتب، وشمس الدين بن مهنا، بدر الدين المنبجي، وأمين الدين بن الفارغ، وشمس الدين بن دانيال، والفقيه شعيب، وناصر الدين بن الإسكاف، ونور الدين المكي، وآخر لم يذكر اسمه لأنه عاهده على ذلك. ومن تصانيف جمال الدين المذكور كتاب " مناهج الفكر، ومناهج العبر " أربع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 مجلدات، تعب عليه، وجوده، وما قصر فيه، وكتاب " الدرر والغرر والدرر والعرر ". وملكت بخطه تاريخ " الكامل " لابن الأثير، قد ناقش المصنف في حواشيه، وغلطه، وواخذه. وفي جمال الدين هذا يقول شمس الدين بن دانيال وقد حصل للوطواط رمد: ولم أقطع الوطواط بخلاً بكحله ... ولا أنا من يعييه يوماً تردد ولكنه ينبو عن الشمس طرفه ... وكيف به لي قدرة وهو أرقد وأنشدني إجازة له ناصر الدين بن شافع: كم على درهم يلوح حراماً ... يا لئيم الطباع سراً تواطي دائماً في الظلام تمشي مع النا ... س، وهذي عوائد الوطواط وأنشدني له أيضاً: قالوا: ترى الوطواط في شدة ... من تعب الكد وفي ويل فقلت: هذا دأبه دائماً ... يسعى من الليل إلى الليل وكان المسكين جمال الدين لا يزال الواقع بينه وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فكتب تقليداً على سبيل المداعبة لشخص يعرف بابن غراب يعرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 فيه بالوطواط، وهو: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " إلى كل ذي جناح، وكل اجتراء من الطير واجتراح، وإلى كل ذي صيال منهم، وكل ذي صياح، وإلى كل ذي عفاف منهم، وكل ذي جماح. أما بعد: فإنه لما علمنا من الله كلام الطير وفهمناه من منطقه، وألزمناه من عهده وموثقه، فقال: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " ترى أن من برز لعجز من أولي المخالب وذوي المناسر، صار على ذي مسالمه، وإن غدا بعضها لبعض طعماً، ولا يتجاوز أحد منها مقامه المحمود في المكارمه، وإن اتفقت الأجناس واختلفت الأسماء للوضيع والأسمى، وأن يشكر للورق حسن شجعها وعفاف طبعها، مساعدتها للخلي بغنائها في دوحها، وللحزين بترجيع ندبها ونوحها، ولأنها متجملة بتخضيب الكف وتطويق الأعناق، ومتحملة من القدود إلى الغصون رسائل العشاق بالأشواق، حتى وسمت بأنها على تعانق القضب رقبا، وسمت حتى أصبحت على منابر الأشجار خطبا. ويؤثر أن يحمل لذوات الاصطياد من الجوارح تحصيل ما تقتات به النفوس، وتمتار منه الجوارح لأنها شرفت بنفوسها حتى علت على أيدي الملوك، وقيل لابنها: لله أبوك، وأن يصف بحسن اعتذاره في جيئته وذهابه، وأن ينثني على حسن خطبته وجميل خطابه، إلى غير ذلك من قطا لو ترك لهدأ ونام، وإلى بلابله الملوك من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 الحمام، وإلى غرانيق تهرب الثعابين من أصواتها، وإلى سباطر ترتج الأرض بأكلها لحياتها، وإلى لغالغ تنطق، وكأنما ألبست ملابس أهل الجنان من السندس والاستبرق، وإلى ما ينجلي من طواويس كأنما استعار منها قوس قزح أثواباً دبجتها الشمس بشعاعها، وأهلتها الأهلة لإيداع إبداعها، وإلى ديكة مباركه، يؤذن آذانها بمرور ملك من الملائكة، وإلى نسر عظيم التأمير، وإلى نعام كاد يطير. وإنا فكرنا في بعض ذوات الأجنحة خبيث حقير السمات، أسود الوجه والقفا والصفات، لا يألف إلا قبور الأموات، ولا يسعى إلا في الظلم والظلمات، ذو أذن ناتئة وما هذه الصفة من صفات الطيور، وإنه يولد والطير لا يعرف منها إلا أنها تحضن بيضها في أعشاشها والوكور، وإنه لا يقع في الشباك ولا في الفخوخ، وإنه يمني كما يمني الرجل وليس من الأنس، وإن كان شيطاناً فإنه شيطان ممسوخ، ولا يسمع منه هديل ولا هدير، ولا يصير مسرور حيث يصير، يغدو على الروضات متلصصا، ويغدو للثمار منقصا، مشؤوم الطلعه، مذموم النجعه، مرجوم البقعه سيئ الجوار قبيح الآثار، مؤذن بخراب الديار، أسود من قار، وأفسد من فار، لا يحسن به الانبساط، ولا يمكن معه الاحتياط، أخس مخلوقات الله تعالى، وهو المسمى بالوطواط. كم ضري وكم ضر، وكم ساء وما سر، وما أبرأ قط ولا أبر، ولا هو حيوان من بحر ينتفع به ولا من بر. وهذا كتابنا إلى كل ذي بسط وقبض، وإلى كل ذي انتهاس وانتهاش وعض، وكل رب مقبرة مظلمه، وكل ذي موحشة معتمه، وكل من إليه توغل الأعماق المقتمه، يتضمن إهلاك هذا الحيوان الخبيث وتطهير الأمكنة من رجسه، وسد المنافس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 على الكريهين من نفسه ونفسه، وأن لا ترعى له حرمه، ولا يرقب فيه إل ولا ذمه، بحكم أنه ليس من الطير ولا من الوحش، ولا ذو قوة ولا بطش، ولا فيما ينتفع به صائل ولا صائد ولا آكل، ولا هو معين ذي فرج ولا ثاكل، وإن ضرره للأحياء والأموات فاش. ولأنه إذا دعي بأحب الأسماء إليه قبل له: خفاش، لا يكرع في نهر النهار، ولا يحوم مع ذوات الجناح في مطار، وأكره شيء إليه الأنواء والأنوار، ولا يوصف بأنه الشهم، ولا هو ذو ريش ينتفع به بإراشة السهم، لا تحد له الصفائح، ولا يعد في جملة الذبائح، ولا ريح له في الشواء، ولا ريح له في الشرائح. ورسمنا أن يفوض أمره وحسبة الطير للإمام شرف الدين بن غراب، فليتق الله في كل ذات طوق وغير طوق، وليراقبه مراقبة أبيه إذا قنع من إيمانه بما اقتنع به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السوداء بأن قال لها: أين الله؟، فقالت: في السماء. وأبوه، فلا يزال يقول: الله فوق، وليحتسب على هذا الخبيث المشوه، وهذا الخسيس المنوه، فقد فوضنا ذلك إليه إذ هو كأبيه منطق مفوه، وليترك في أمره النعيق والنعيب، وليعلن بلغته إعلاماً فصيحاً يستوي فيه البعيد والقريب، ويتجاوز فيه في ذلك كل سمي بهذا الاسم المشؤوم، إذ لكل امرئ من نعته نصيب، وليقرأ هذا المرسوم على رؤوس الأشهاد وعند الآبار المعطلة والبراني والخراب واليباب، ويزيل من الترب المظلمة والقباب عند كل باب، والخاتم الشريف السليماني أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر، الإمام العالم قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله الكناني الحموي الشافعي قاضي قضاة الديار المصرية. سمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ الأنصاري بحماة وبمصر من الرضي بن البرهان والرشيد العطار وإسماعيل بن عزرون وعدة. وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وطائفة. وأجاز له عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وطائفة. وحدث " بالشاطبية " عن ابن عبد الوارث صاحب الشاطبي. وله إجازة في سنة ست وأربعين أجازه فيها الرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وإسماعيل العراقي، واليلداني، والصفي عمر بن عبد الوهاب الراذعي، وخطيب مردا، وغيرهم. وسمع من والده، وأحمد بن القاضي زين الدين الدمشقي، وابن علاق، وعثمان بن رشيق، والحافظ العطار، والنجيب عبد اللطيف الحراني، والرضي بن البرهان الواسطي، وشمس الدين إسحاق بن بلكويه الصوفي المعروف بالمشرف، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والقاضي شمس الدين بن عطا الحنفي، وكمال الدين عبد العزيز بن عبد، وشيخ الشيوخ شرف الدين، والشيخ ناصح الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 القسطلاني، وأخيه قطب الدين، والشيخ محب الدين بن دقيق العيد، والشيخ جمال الدين بن مالك، والشيخ جمال الدين الصيرفي، وجماعة غيرهم. وطلب الحديث بنفسه، وقرأ على الشيوخ وحدث ب " صحيح " البخاري بطريق البوصيري. وحدث بالشام ومصر والحجاز، وخرج له المحدثون عوالي ومشيخات بمصر وبدمشق، وخرج هو لنفسه أربعين حديثاً من الأحاديث التساعيات العوالي، وسمعت عليه مع جماعة بمنزله بمصر المجاور للجامع الناصري، وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وحدث بالكثير، وتفرد في وقته. كان إمام زمانه، وصدر أوانه، وانتهت إليه رياسة الدين والدنيا، رقى بسيادته في مراتب العليا، وجمع له من المناصب ما لم يجمع في وقته لسواه، وترك كل عدو له وحاسد ينطوي على نيران جواه، اشتغل بالعلم من صغره، واستمر على ذلك في مدة كبره. وصحب قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وانتفع به وقرأ عليه كثيراً من كتبه، ولازم طريق الخير وصحبة الصالحين، واتحد بالفقراء العاملين العالمين، واشتهر بهذه الطريقة، وعرف بهذا الخير الذي هو نعم الرفيق في كل فريق، فترشح بذلك للوظائف الكبار، والمناصب التي ما على حسنها غبار، ومع هذا كله لازم طريقة واحدة، وباشر القضاء والحكم وقد جعل الله فضله شاهده ورزق السعادة العظمى في كل ما تولاه، وزانه من محاسنه ما تحلاه، واتصف بصفات، وما يقول الناس في البدر إذا محا سواد الدجى وجلاه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وجلال لو كان للقمر البد ... ر جاز فيه حكم المحاق ثم إنه ضعف بصره واستعفى من المباشره، وترك الخلطة بالناس والمعاشره، وانقطع في منزله قريباً من ست سنين يزوره الناس للبركه، ويقصدونه للتملي بمحاسنه، والأخذ من فوائده المشتركه. ولم يزل على حاله إلى أن كسف بدره، وأزلف قبره، وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين بعد العشاء الآخرة الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده ليلة السبت عند مضي الثلث الأول من ليلة رابع شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وست مئة. وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب يوم الجمعة بعد الصلاة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة. وكان قد درس أولاً بدمشق في المدرسة القيمرية مضافاً إلى الخطابة في أول دولة لاجين. ثم إنه نقل إلى قضاء القدس مع الخطابة به في شوال سنة سبع وثمانين وست مئة عوضاً عن فخر الدين الزرعي. ثم إنه طلب لقضاء الديار المصرية، فتوجه إليها في شهر رمضان سنة تسعين بدل ابن بنت الأعز، وجمع له بين قضاء البلدين، فأحسن السيرة هناك، وأقام مدة، وتجمعت له هناك مناصب جليلة. أقام بالقاهرة على حاله، إلى أن قتل الأشرف، وأمسك الصاحب بن السلعوس، فصرف القاضي بدر الدين بن جماعة وأعيد قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز إلى ما كان عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 واستقر ابن جماعة هناك في تدريس وكفاية؛ إلى أن توفي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي، فنقل إلى قضاء الشام، ووصل إلى دمشق رابع عشر ذي الحجة من السنة قاضي قضاة الشام، وجمع له مع القضاء الخطابة - وليها بعد الشيخ شرف الدين المقدسي في شوال سنة أربع وتسعين وست مئة - ومشيخة الشيوخ، وأقام على ذلك مدة، ولم يتفق هذا لغيره، وازداد على ذلك التداريس الكبار ونظر الأوقاف وغير ذلك. ولم يزل على ذلك إلى أن طلب ثانياً لقضاء الديار المصرية في شعبان سنة اثنتين وسبع مئة عوضاً عن ابن دقيق العيد، فأقام على ذلك إلى أن حضر السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مئة، فعزله، وولى مكانه قاضي القضاة جمال الدين الزرعي في شهر ربيع الأول سنة عشر وسبع مئة مستهل الشهر. وعزل أيضاً شمس الدين السروجي قاضي القضاة الحنفي، وطلب ابن الحريري، فولاه مكانه، وتولى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في هذه العطلة تدريس المدرسة الناصرية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ثم إنه أعيد إلى منصبه قضاء القضاة بالديار المصرية عوضاً عن القاضي جمال الدين الزرعي في الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة واستقر له مع الحكم مشيخة الحديث بالكاملية وجامع ابن طولون، وتدريس الصالحية والناصرية. ولم يزل على حاله إلى أن استعفى من القضاء في جمادى الآخرة - فيما أظن - سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فاستمرت بيده الزاوية المنسوبة إلى الشافعي - رضي الله عنه - بجامع مصر، وقرر له السلطان الملك الناصر راتباً في الشهر مبلغ ألف درهم وعشرة أرادب قمحاً، وكان قد ترك تناول المعلوم قبل انفصاله عن القضاء بمدة. وحج ست مرات، أولها سنة ست وخمسين وست مئة، وجاوز التسعين سنة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وكان قد رزق القبول عند الخاصة والعامة، وصنف في التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو وعلم الميقات وغير ذلك، وقرئت عليه مصنفاته. وكان يخطب غالباً من إنشائه، ويؤدي الخطابة بفصاحة، ويقرأ في النهار طيباً. واجتمع له من الوجاهة والمناصب والعمر المديد في العز والعمل والتقدم ما لا اجتمع لغيره، وانقطع نظراؤه، وانقرضوا، وساد هو عليهم في حياتهم. ومن نظمه - رحمه الله تعالى - ما أنشدنيه له إجازة: يا لهف نفسي لو تدوم خطابتي ... بالجامع الأقصى وجامع جلق ما كان أهنأ عيشنا وألذه ... فيها وذاك طراز عمري لو بقي الدين فيه سالم من هفوة ... والرزق فوق كفاية المسترزق والناس كلهم صديق صاحب ... داع وطالب دعوة بترقق وأنشدني له أيضاً إجازة: لما تمكن من فؤادي حبه ... عاتبت قلبي في هواه ولمته فرثى له طرفي، وقال: أنا الذي ... قد كنت في شرك الهوى أوقعته عاينت حسناً باهراً فاقتادني ... سراً إليه عندما أبصرته وأنشدني لنفسه إجازة: أحن إلى زيارة حي ليلى ... وعهدي من زيارتها قريب وكنت أظن قرب العهد يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب قلت: ما أحسن قول القائل: وكلما زدتني دنواً ... زدت إلى وجهك اشتياقاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وأنشدني لنفسه إجازة: وإذا ما قصدت طيبة شوقاً ... صار سهلاً لدي كل عسير وإذا ما ثنيت عزمي عنها ... فعسير علي كل يسير قلت: ما أحسن القائل: يا ليل ما جئتكم زائراً ... إلا وجدت الأرض تطوى لي ولا انثنى عزمي عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي محمد بن إبراهيم بن محمد ابن طرخان، الصدر الشيخ بدر الدين بن الحكيم، العالم رئيس الأطباء عز الدين أبي إسحاق السويدي - من سويداء حوران - من أولاد سعد بن معاذ. سمع من جماعة فوق المئة منهم الرشيدي مسلمة، وابن علان، وإبراهيم بن خليل، والعراقي، وعبد الله بن الخشوعي، والصدر البكري، ومحمد بن عبد الهادي، وأخوه عبد الحميد، واليلداني، والكفر طابي، ومحمد بن سعد المقدسي، وخطيب مردا. وأجاز له من بغداد بعض أصحاب ابن شاتيل، وبعض أصحاب شهدة. وكان مستوفي الأوقاف، وخدم بديوان الجامع مدة، وسمع منه الطلبة. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 محمد بن إبراهيم ابن معضاد .... توفي - رحمه الله تعالى - ..... سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بمصر. ولما توفي - رحمه الله تعالى - قام أخوه عمر. قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين - رحمه الله -: هؤلاء أهل بيت لا يتكلم فيهم أحد حتى يموت واحد قبله. محمد بن إبراهيم بن غنايم الصالحي الحنفي المحدث العدل، شمس الدين بن المهندس الشروطي. سمع من ابن أبي عمر، وابن شيبان، والفخر، وطبقتهم. وكتب العالي والنازل، ورحل إلى مصر بابنه، ونسخ الكثير، وحصل الأصول، وخرج، وأفاد مع التصون والتواضع وطيب الخلق وصحة النقل. وخلف أولاداً وملكاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وكان رأسه يضطرب دائماً لا يفتر، وصى بوقفية أجزائه، وكتب شيخنا الذهبي عنه، وأجاز له. وتوفي - رحمه الله تعالى - في الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ست وخمسين وست مئة تقريباً. محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أحمد الفقيه المفيد الرحال أمين الدين الواني الدمشقي الحنفي، رئيس المؤذنين بدمشق وابن رئيسهم برهان الدين. وقد تقدم ذكر والده شرف الدين. كتب أمين الدين، وتعب، وحصل الأصول، وحدث بمصر ودمشق ومكة عن أبي الفضل بن عساكر، والتقي بن مؤمن، وجماعة. وتوفي - رحمه الله تعالى - بعد والده بشهر، ودفن إلى جانبه ... سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، عاش إحدى وخمسين سنة. قال شيخنا الذهبي: كان من خير الطلبة، وأجودهم نقلاً. محمد بن إبراهيم بن عبد الله الشيخ الجليل الفاضل القدوة أبو عبد الله بن الشيخ السيد القدوة ابن الشيخ السيد القدوة الأرموي. روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 كان من كبار الأدباء، وجلة العلماء، وسادة العارفين، وأئمة المصنفين، ديانته متينه، وصيانته مبينه، له فضائل، وفيه تودد ولطف شمائل، يكرم من يزوره، ويقبل عنده لكرم طباعه حقه وزوره. له وجاهة عند الأمراء والأكابر، وأرباب الطيالس والمحابر، وكلمته نافذة فيما يراه، وقوله يسمع فيما يأمر به ويراه. وشعره أرق من دموع العشاق وعتاب الأحباب إذا وصلوا بعد الصد والفراق، ونسيم الرياض إذا هب في وقت الاغتباط بالاعتباق: تسمع من شعره بيوتاً ... ألذ من غفلة الرقيب كأنما إذا صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب لم أر مثل نظمه العذب، وقريضه الذي هو في سلالة الماء وصقال العضب، يهزأ بسجع الحمام، ويهز عطفي بالطرب؛ حتى كأني ثملت من المدام. وقد أوردت منه جملة في الجزء والثامن والثلاثين من " التذكرة " لي. ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن رمي الأرموي بسهم الحمام، وبكى عليه يوم مات حتى جفون الغمام. وتوفي - رحمه الله تعالى - في عاشر شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، بزاويته بسفح قاسيون، وصلي عليه بالجامع المظفري، ودفن عند والده، وحضر جنازته خلق كثير من الأمراء والقضاة والفقهاء والصدور وعامة الناس. وغلق سوق الصالحية بأسره، وكان يوماً مطيراً كثير الوحل والطين. وكان فيه خير وتودد ومواظبة على المشيخة، وإكرام من يزوره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 ومولده في شهر رجب سنة خمس وأربعين وست مئة. جمع جزءاً في السماع وجزءاً في أخبار جده. ومن كلامه في السماع قال: افتقار السماع إلى الوجد افتقار الصلاة إلى النية، فكما لا تصح الصلاة إلا بالنية والقصد؛ كذلك لا يباح السماع إلا بالوجد، فمن كانت حركته في السماع طبيعيه؛ كانت نشوته به حيوانيه، ألا ترى أن كثيراً من الحيوانات ينشأ له حال غير المعتاد عند سماع المطربات، وقوة حركة لسماع النغمات، فمن كان هذا السماع الحيواني في ذلك أقصى أربه؛ كان مقصوراً فيه على لهوه ولعبه، وهو سماع الطبيعة لا سماع الأرواح، فجدير أن يجتنب، فإنه يستعمل الطبيعة فيه غير مباح، والسماع الذي اختلفت فيه الأقوال، إنما هو سماع أهل المقامات والأحوال، فمنهم من أباحه على حكم الاختصاص، ومنهم من جعله زلة الخواص، ومنهم من توقف، ولم يجد إلى إقامة الدليل على كلا أمريه نشاطا، ورأى الاستغفار منه إذا قدر له الحضور فيه احتياطا، فهو متردد في أمريه، فتركه لمثل ذلك أولى، ولم يدر على من حضره من السلف، ولكن لم ير نفسه لحضوره أهلاً، فهذه جملة إقناعية مما قيل فيه، ونبذة لعل من تأملها تكفيه: إذا حرك الوجد السماع إليكم ... يباح، وإلا فالسماع حرام ومن هزه طيب السماع حديثكم ... ومال من الأشواق ليس يلام ولا عجب إن شتت الحب جمعه ... فليس لأحوال المحب نظام غذي بلبان الحب قدماً وماله ... سواه إذا آن الفطام فطام يسير مع الأشواق أنى توجهت ... وليس له في الكائنات مقام ولا غرو إن ضلت مذاهب عقله ... فإن مقر العز ليس يسام حمى لا سبيل أن يباح مصونه ... وكل الورى طافوا عليه وحاموا وقاموا وقد جدوا لأول منزل ... فقاموا حيارى فيه حيث أقاموا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 ومن شعره أيضاً: وافى الربيع فعاد الروض مبتسماً ... وطالما انتحبت فيه سحائبه والغصن من فوقه الشحرور تحسبه ... يتلو الزبور بأعلى الدير راهبه وشاطئ النهر قد دبت عوارضه ... وافتر مبسمه واخضر شاربه فصفق الدوح لما أن رأى عجباً ... من أجل ذلك قد شابت ذوائبه ومنه: لم أنس ليلة بات البدر يخدمنا ... إلى الصباح ولم يشعر بنا الرقبا والنهر يجري لجيناً والدجى سيج ... فمذ بدا الصبح ياقوتاً جرى ذهبا ومنه: وافى النسيم أمام القطر فانثنت ال ... أغصان ترقص من تيه ومن مرح وأعين الروض تجري وهو مبتسم ... وقد تفيض دموع العين بالفرح ومنه: أصبحت أسجع من ورقاء فاقدة ... تنوح في الدوح طول الليل لم تنم بعد الأحبة لا تهوى المنام بلى ... إن سامحوها وزار الطيف في الحلم ومنه: رأيت الصبا لما استعنت بلطفها ... على حمل ما لاقيته تتعلل وقمت بحفظ العهد للنجم في الدجى ... فما باله في صحبتي يتنقل وقلب الدجى ما زال للسر كاتماً ... وها هو عما خلته يتحول ومنه: سكرت كما تهب صباً صباحاً ... فرق لأنه بر كريم فلا تعجب له إن مال عطفاً ... فإن الغصن يعطفه النسيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 ومنه: لطفت شمائله فعدن شمائلاً ... من أجلها عرف النسيم معطر لو لم ينم عبيره بعبوره ... كان الرقيب للطفه لا يشعر ومنه: أصافح الأغصان أبغي الحيا ... مستسقياً أكؤس جريالها وكيف لا يدركني جودها ... وقد تعلقت بأذيالها ومنه: يا معرضاً عني وفي إعراضه ... لطف يفي بفضائل القرب من دون سفك دمي بحبك عامداً ... معنى يقيك بواعث العتب ومنه: كأنما النهر في ظل الغصون وقد ... ألقى السحاب عليه حمرة الشفق خد تكنفه فرط الحياء وقد ... مد العذار عليه خضرة الورق ومنه: وربوع يكاد طيب شذاها ... يفضح المسك في نحور العذارى أشرقت شمس نورها فرأينا ... نحوها في الدجى نؤم نهارا وأتى القابسون نحو سناها ... فرأوا جل نارها جلنارا ومنه: أنا مستجير بالدجى ... من سل سيف صباحه فعساه يكلأ ذا هو ... كرماً بظل جناحه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ومنه: كأن سماءنا والبدر فيها ... وأنجمها محدقة إليه حديقة نرجس من حور عين ... تدفق ماؤها فطفا عليه ومنه: تبسم ثغر الروض بعد قطوبه ... سروراً بإقبال الربيع إليه ألم تر أن الغصن إذ رقت الصبا ... يصفق مسروراً لها بيديه وأن ثياب الورد وهي شقيقة ... يشققها حتى تمر عليه ومنه: خلت أن الغصون ترقص لما ... أن أتاها النسيم بالأمطار فلهذا ألقت له ما عليها ... فهي من شدة السرور عواري لبست في الثياب ثوب وقار ... ورأت في المشيب خلع عذاري محمد بن إبراهيم بن أبي بكر شمس الدين المؤرخ الجزري. لهج بالتاريخ، وجمعه، وسمع من إبراهيم بن أحمد بن كامل، والفخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 علي، وابن الواسطي، والأبرقوهي، وابن الشقاري، وغيرهم من الشعراء. وكان حسن المذاكرة، سليم الباطن صادقاً، وفي تاريخه عجائب وغرائب عامية. أجاز لي بخطه - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق، ودفن في مقابر الباب الصغير. وروى عنه الشيخ علم الدين البرزالي هذه الأبيات: إلهي قد أعطيتني ما أحبه ... وأطلبه من أمر دنياي والدين وأغنيتني بالقنع عن كل مطمع ... وألبستني عزاً يجل عن الهون وقطعت عن كل الأنام مطامعي ... فنعماك تكفيني إلى يوم تكفيني ومن دق باباً غير بابك طامعاً ... غدا راجعاً عنه بصفقة مغبون قلت: وأنا أستكثر هذه الأبيات عليه، وإن لم تكن في الذروة. محمد بن إبراهيم بن إبراهيم ابن داود بن حازم، الشيخ الإمام الصدر الكامل قاضي القضاة الأذرعي شمس الدين الحنفي. كان فاضلاً من أعيان مذهبه، يعرف الفقه والأصول والنحو، ودرس بالمدرسة الشلبية، وولي القضاء بدمشق سنة كاملة، وروى عن ابن عبد الدائم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه بدمشق وبتبوك. توجه إلى القاهرة متمرضاً، ونزل بخانقاه سعيد السعداء، فأقام خمسة أيام. وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة. وكان قد ولي القضاء بدمشق في ثاني عشر ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة عوضاً عن القاضي شمس الدين بن الحريري، ولما وصل توقيعه في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة غلط البريدي، وتوجه بالتوقيع إلى ابن الحريري، ولما قرئ علم أنه قد غلط، فعاد به إلى الأذرعي. محمد بن إبراهيم العدل الرئيس الفاضل صلاح الدين أبو عبد الله الطيب المعروف بابن البرهان. كان أبوه جرائحياً، وفي أبيه يقول القائل، وقد ظرف: كل من عالج الجراحة فدم ... وأقيم الدليل بالبرهان ولما نشأ صلاح الدين المذكور لأبيه أقرأه أبوه القرآن، فحفظ منه نحو النصف، وقرأ طرفاً من العربية على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وقرأ الطب على العماد النابلسي، ثم على الشيخ علاء الدين بن النفيس. وكان قد أجيز أولاً بالكحل، ثم بالتصرف في الطب، وكان فاضلاً في فروع الطب، مشاركاً في الحكمة، مائلاً إلى علم النجوم والكلام على طبائع الكواكب وأسرارها، وقرأ في آخر عمره على الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثيراً من الحكمة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وسمع بقراءة فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج كتاب " الشفاء " لابن سينا على الشيخ شمس الدين، وهو يشرحه لصلاح الدين ميعاداً فميعاداً إلى أن أكمله. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وسألت الشيخ شمس الدين عنه، فقال: اشتغاله أكثر من ذهنه، وكان علمه بالطب أكثر من معالجته. وقال لي شيخنا شمس الدين: إنه طلعت في أصبعه سلعة، فاستطب لها صلاح الدين، فبهت، ثم وصف أشياء لم تفده، فقال له فخر الدين عبد الوهاب: لو عملت كذا وكذا كان أنفع له، فعمله، فنفعه، وبرئ به. وكان صلاح الدين المذكور ذا مال ومتجر، وأكثره في إخميم، وكان من أعيان أطباء السلطان الذين يدخلون عليه، ويعرف له السلطان مكانته وفضله، وكان خصيصاً بالنائب الأمير سيف الدين أرغون. ثم إنه اختص بعده بالأمير سيف الدين طقزتمر، ويطلع معه في كل سنة إلى الصعيد، فيكون في خدمته، ويستعين بجاهه على استخراج أمواله وإنفاق متاجره. وصحب قاضي القضاة تاج الدين القزويني، وكان يسفر عنده لقضاة الصعيد، يقدم كتبهم، ويتنجز أجوبتهم. وكان لا يزال ضيف الذرع من تقدم القاضي جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء عليه، وسأل من السلطان الإعفاء من الطب، وأن يكون من تجار الخاص، فقال السلطان: نحن نعرف أنه إنما قال هذا لكون ابن المغربي هو الرئيس، وكونه هو أكبر وأفضل، فلا يأخذ في خاطره من هذا، فهو عندنا عزيز كريم، ولكن إبراهيم صاحبنا، ونعرف أنه ما يستحق التقدم عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 فطاب قلب صلاح الدين بهذا الكلام، وخطب بعد ذلك أخت ابن المغربي، وتزوج بها، واتحدا بعد مباينة البواطن. وكان صلاح الدين يثبت علم الكيمياء، ويقول إنه صحب ابن أمير كان اسمه ابن سنقر الرومي، وقال: عملها بحضوري غير مرة. وكان مغرى بالروحانيات، واعتقاد ما يقال من مخاطبات الكواكب، حدثني بهذا جميعه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وكان كثير التردد إليه والاجتماع به، وقد اجتمعت به أنا غير مرة، وسمعت كلامه، وكان يستحضر كليات " القانون "، وكان يلثغ بالراء لثغة مصرية، وعلى ذهنه شيء من الحماسة والمقامات وشعر أبي الطيب. وكان في ذهنه جمود، وكان يجتمع هو والشيخ ركن الدين بن القوبع - رحمه الله تعالى - في دكان الشهود التي على باب الصالحية، فيذكر صلاح الدين شيئاً من كلام الرئيس ابن شينا، إما من الإشارات أو من غيرها، ويشرح ذلك شرحاً غير مطابق، فما يصبر له الشيخ ركن الدين، ويقول: سبحان الله! من يكون ذهنه هكذا يشتغل فلسفة، هذا الكلام معناه كيت وكيت، فهو في واد وأنت في واد، وهذا الذي يفهم من كلام الشيخ هو المطابق للقواعد عند القوم. فيعود صلاح الدين في خجل كبير من الجلوس. وأظنه فارق الزوجة أخت ابن المغربي قبل وفاته. ولما مرض النائب أرغون بحلب أول مرة طلبه من السلطان، فجهزه إليه فحضر وعالجه، ثم توجه إلى القاهرة، ثم إنه مرض الثانية، فطلبه، فوصل إلى إربد، وبلغته وفاته، فعاد من إربد إلى القاهرة. وتوفي صلاح الدين - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 وكنت أراه دائماً يحمل " شرح الإشارات " للنصير الطوسي ويتوجه به إلى الشيخ شمس الدين الأصفهاني ليقرأه عليه. محمد بن إبراهيم بن يحيى الشيخ الإمام الفقيه العالم شمس الدين الصنهاجي المالكي، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي. كان فقيهاً فاضلاً من أهل العلم والصلاح وملازمة الاشتغال. توفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير. وتولى الإمامة بعده الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي. محمد بن إبراهيم بن ساعد الشيخ الإمام الفريد المحقق النحرير الفاضل الحكيم شمس الدين أبو عبد الله الأنصاري، السنجاري الأصل والمولد، المصري الدار والوفاة، المعروف بابن الأكفاني. كان فاضلاً قد برع في علوم الحكمه، وجمع شتات العلوم من غيرها بماله من الهمه، لو رآه الرئيس لكانت إليه إشاراته، وبه صح شفاؤه، وتمت نجاته، ولم يكن قانونه يطرب، ولا حكمته المشرقية مما يأتي بالفوائد فيغرب. ولو عاصره النصير الطوسي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 لما بنى الرصد، وكف من طول باعه في التصنيف واقتصد، ولم يعد الناس متوسطاته في المبادي، وعلم أنه ما ظفر بهيبة من الهيئة إلى يوم التنادي. ولو عاينه بطليموس لما وضع اسرلابا، ولم يدر مجس المجسطي، ولم يجد له فيه طلابا. ولو ناظره الخونجي لما أجلسه على خوانه، وعلم أن منطقه في " كشف الأسرار " هذر عند بيانه. هذا إلى توسع في علم الأدب على كثرة فنونها، واتساع بحرها لملاعب نونها، وفهم نكته ودقائقه، ومعرفة مجازاته وحقائقه. واستحضار كثير من وقائع العرب وأيامها وتواريخ الأعيان وأحكامها. اجتمعت به فكنت أرى العجائب، وأسير في فضاء غرائبه على متون الصبا والجنائب، أخذت عنه فوائد في الرياضي، وملأت بقطر علومه حياضي، ولم أر مثل عبارته، ولا لطف إشارته، فكنت أحق بقول أبي الطيب: من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا ولقيت كل العالمين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن اندرج ابن الأكفاني في الأكفان، وتحقق معنى قوله: " كل من عليها فان ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة، في طاعون مصر، تعجيزاً من الله تعالى لما يعرفه، وينفقه من حواصل علومه ويصرفه. كان هذا الشيخ شمس الدين، قد برع في علوم الحكمة، وتفرد بإتقان الرياضي، فإنه كان إماماً في الهندسة والحساب والهيئة، وله في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة، قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب إقليدس، وكان يحل لي ما أقرأه عليه بلا كلفة، كأنه ممثل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو يسرد باقي الكلام سرداً، وأخذ الميل، ووضع الشكل، وحروفه في الرمل على التخت، وعبر عنه بعبارة جزلة فصيحة بينة واضحة، كأنه ما يعرف شيئاً غير ذلك. وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق، فشرحها لي أحسن شرح، وقرأت عليه أول " الإشارات "، فكان يحل شرحه نصير الدين الطوسي بأجل عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات عما يتعلق بعلوم الحكمة من المنطق والطبيعي والرياضي والإلهي إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنه كان في بارحته يطالع في تلك المسألة طول الليل. وقرأت عليه " رسالة الاستبصار فيما يدرك بالأبصار "، وهو كتاب صغير في علم المناظر، تصنيف الشيخ شهاب الدين القرافي الأصولي المالكي، فحل كلامه، وواخذه في أشياء. وأما الطب فإنه كان فيه إمام عصره، وغالب طبه بخواص ومفردات يأتي بها إلى المريض، وما يعرفها أحد، لأنه يغير كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 وأما الأدب - وكان فيه فريداً، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع للناس قاطبةً جملة كبيرة - فحفظ من الشعر شيئاً كثيراً إلى الغاية للعرب والمولدين والمحدثين والمتأخرين والعصريين. لوه في الأدب تصانيف، وكان يعرف العروض والبديع جيداً، ولم أر مثل ذهنه يتوقد ذكاءً بسرعة ما لها روية، وما رأيت فيمن رأيت أصح ذهناً منه، ولا أذكى. وأما عبارته الفصيحة الموجزة الخالية من الفضول فما رأيت مثلها. قال لي شيخنا الحافظ فتح: ما رأيت من يعبر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله. انتهى. ولم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطلاعاً منه على أحوال الناس وتراجمهم ووقائعهم، ممن تقدم، وممن عاصره. وأما أحوال الشرق ومتجددات التتار في بلادهمفي أوقاتها فكأنها كانت القصاد تجيء إليه، والملطفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطلع عليه في ديوان الإنشاء عند كاتب السر. وأما الرقى والعزائم فيحفظ منها جملاً كثيرة، يسردها سرداً. وله اليد الطولى في الروحانيات والطلاسم وإخراج الخبايا، وما يدخل في هذا الباب، وله اليد الطولى والباع المديد في معرفة الأصناف من الجواهر والقماش والآلات وأنواع العقاقير والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان المنصوري لا يشترى شيء، ولا يدخل البيمارستان إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه؛ لم يشتر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 البتة، وهذا اطلاع كثير ومعرفة تامة، فإن البيمارستان يريد كل ما في الوجود، مما يدخل في الطب والكحل والجراح والترايق، وغير ذلك. وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري فإليه المآل في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون ما وقع لهم من الخلل في أثناء ذلك العمل، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد، ولم أر شيئاً يعوزه من كمال أدواته، إلا أن عربيته كانت ضعيفة، وخطه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة جيدة بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك وأنشدني من لفظه لنفسه: ولقد عجبت لعاكس للكيميا ... في طبه قد جاء بالشنعاء يلقي على العين النحاس يحيلها ... في لمحة كالفضة البيضاء وقرأت عليه من تصانيفه " إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد " عوداً على بدء، ومن هذا المصنف يعرف قدره، وكتبت عليه: لقد وضع الشيخ تصنيفه ... ولكن على زهرات النجوم جلا كل فضل بمرآته ... فيها تطالع كل العلوم وقرأت عليه " اللباب في الحساب "، وكتاب " نخب الذخائر في معرفة الجواهر "، وكتاب " غنية اللبيب عند غيبة الطبيب "، وقد جوده. ومما لم أقرأه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 عليه من تصانيفه، بل أجازه لي كتاب " كشف الرين في أمراض العين "، وتألمت لفقده لما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى -. وكان له تجمل زائد في بيته وفي ملبوسه ومركوبه من الخيول المنسوبة والبزة الفاخرة، ثم إنه اقتصر على الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطلب أحداً إلا إن جاءه إلى بيته أو في الطريق أو البيمارستان، وامتنع من التوجه إلى بيت أحد. وكان مرصداً لتركيب الترياق في كل سنة بالبيمارستان المنصوري، وله في كل سنة مبلغ ست مئة درهم، ولما باشر الأمير جمال الدين نائب الكرك نظر البيمارستان أعجبه كثيراً، وأضعف معلومه - لأنه كان ستين درهماً - فجعله مئة وعشرين درهماً، وكان يعطيه الذهب من عنده خارجاً عن الجامكية المقررة له، وكان من أطباء البيمارستان، ومن نصيبه فيه مداواة الممرورين، ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى -؛ قلت أنا فيه: من الطاعون قلبي في انقلاب ... فإن لكل من تلقاه فاني ولما مات شمس الدين نادى ... كفاني فقد الأكفاني كفاني وكنت قد كتبت أنا إليه من الرحبة: أمولاي شمس الدين قد كنت أولاً ... تحل محل النور في العين بالأمس فلا بدع أن يسود يومي وليلتي ... وقد حجبت عيناي عن طلعة الشمس فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: طبيبك في مصر مريض من الجوى ... وقد قص منه بالبعاد جناحه فيا من لذي سقم تمكن داؤه ... وأفسده مذ غاب عنه صلاحه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وكتبت أنا إليه أيضاً من الرحبة: سلام فض من مسك ختاماً ... وفتق زهره منه كماما ووصف محبة وحفاظ عهد ... وشوق سل في كبدي حساما وكم لي في النسيم إليك شكوى ... أضمنها اشتياقي والغراما وكم فيها تحيات لطاف ... حكت أنفاسها ريح الخزاما تجانس فعل أجفاني وقلبي ... فتلك همت، وهذا فيك هاما فنار القلب ليس لها خمود ... ودمع العين قد فاق الغماما وأما الحال لست أطيل فيها ... شروحاً مل سامعها الكلاما بليت بعكس آمالي وظني ... وحظ عنده تنسى الظلاما وعيش ضاق فاتسعت همومي ... وكان فراق مولانا تماما يقبل الأرض، وينهي بعد سلام اتسم برقه، وارتسم برقه، وشوق منع طرفه القريح لذة الهجوع، ووحشة علمت جفنه كيف تجري الدموع، وأسف خيم بين المنحنى من الضلوع، ووجد يشب له جمر الفؤاد، كلما أضاء له البرق اللموع، وورود المثال العالي فقبل كل حرف منه ألفا، وصاغ لجيده ورأسه وأذنه عقداً وتاجاً وشنفا، يا له من أفق فضل كلما غاب بدر أطلع شمسا، وبحر أدب إن أعطى سائله لؤلؤاً رطبا قذف بعده دراً نفيساً، وغادة فضح الغزالة نورها، وتحية فضح قلائد العقيان منثورها. غريبة تؤنس الآداب وحشتها ... فما تمر على سمع فترتحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 محمد بن إبراهيم بن يوسف ابن حامد الشيخ الإمام تاج الدين المراكشي الشافعي. كان فقيهاً، نبيهاً نبيلاً، نحوياً فاضلا، أصولياً مناظراً مناضلا، عنده غرائب ونكت، وفوائد لو سمعها الرازي ما وسعه إلا أن سكت. جيد الذهن والفهم، سريعاً إلى إدراك المعاني يكاد يسبق السهم، قوي النفس، لا يخضع لأحد، ولا يكون له دون السمو والرفعة ملتحد، ضيق العطن، لا يصبر على أذى، ولا يغضى جفونه من السلطان على قذى. أساء الأدب مرات على قاضي القضاة جلال الدين القزويني، واحتمله، ونشر له رداء الحلم واشتمله، ولما زاد عليه رصع التاج بالدره، وكسر دالها، فكانت في أيامه بلا نقطة غره. ثم إنه زاد في تسلط لسانه عليه، فشكاه إلى السلطان، فبقاه مصحفا، وأخرج إلى الشام، فنشر فيه من فضائله برداً مفوقا. ولم يزل بدمشق إلى أن ارتدى بالترب، وأصبح بعيداً عن العيان، وهو في غاية القرب. وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد العصر من يوم الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. ومولده بالقاهرة بعد الشبع مئة. تفقه بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين القونوي - رحمه الله تعالى -، ولازم الشيخ ركن الدين بن القوبع كثيراً، وأخذ عنه فوائد وإيرادات ومآخذ، وما يعظم أحداً مثله. وأعاد في القاهرة بقبة الشافعي، وتولى بدمشق تدريس المسرورية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وأقام على ذلك مدة، ثم إنه قبل موته بسنة نزل عنها، وقال: شرط المدرس أن يعرف الخلاف، وما أعرف أحق بهذا الشرط من قاضي القضاة تقي القضاة تقي الدين السبكي، وانقطع بدار الحديث بالأشرفية معتكفاً على طلب العلم، ولم أر أحرص منه على ذلك ليلاً ونهاراً، يدع طعامه وشرابه لأجل القراءة والاشتغال. وكان ضريراً، ليس له إلا بعض نظر من عين واحدة، وكان لا يفتر عن الطلب إلا إذا لم يجد من يقرأ له ما يريد. محمد بن إبراهيم بن عبد الله الإمام العالم الثقة الصالح عز الدين أبو عبد الله ابن الإمام عز الدين ابن شيخ الإسلام أبي عمر المقدسي الصالحي الحنبلي. حدث ب " صحيح " مسلم عن ابن عبد الدائم. ودرس بأماكن. وخطب بالجامع المظفري. وكان على سمت السلف، مواظباً على الجماعات، وتشييع الجنائز، وتلقين الموتى. طلق الوجه، حسن البشر. خرج له ابن المحب " مشيخة " في أربعة أجزاء، حدث بها غير مرة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 محمد بن إبراهيم الشيخ شمس الدين الكردي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي. حدث عن ابن الواسطي وغيره، وكان يحفظ " التنبيه "، ويفتى. وكان إماماً في صناعة الحساب. توفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وخمسين وسبع مئة. وكان عسراً في مباشرة الوظائف التي يليها. محمد بن أحمد ابن عثمان بن سياوش، الشيخ الإمام المقرئ الفقيه الصالح، بقية السلف، شمس الدين أبو عبد الله الخلاطي الدمشقي الشافعي الصوفي، إمام الكلاسة وابن إمامها. كان ديناً خيراً وقوراً، حسن الشكل، طيب الصوت إلى الغاية، جيد المشاركة في القراءات، والفقه مليح الكتابة. خطب بالجامع الأموي بدمشق بعد الشيخ شرف الدين. وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد سنة من ولايته في بكرة يوم الأربعاء ثامن شوال سنة ست وسبع مئة، وحضر الأفرم والأعيان جنازته. عاش اثنتين وستين سنة. وولي الخطابة بعده جلال الدين القزويني. وكان الناس يقبلون يده، ويتباركون به، وما تصل أيديهم إليه من الزحام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وهو ممن كان كاملاً في الإمامة والخطابة لورعه ودينه وصلفه وتواضعه وفضيلته وطيب نغمته وحسن أدائه ومعرفة الأنغام وفقهه، وكل ما كان فيه غاية. محمد بن أحمد الشيخ سعد الدين الكاساني، شيخ خانقاه الطاحون بدمشق. كان فاضلاً في فنه على رأي الصوفية، بصيراً بأقوالهم. قرأ هو والشيخ شمس الدين الأيكي على الشيخ صدر الدين القونوي. وهو قرأ على الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد شرح قصيدة ابن الفارض التائية في مجلدين. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة. محمد بن أحمد بن عبد العزيز ابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي، العدل الخطيب معين الدين أبو المعالي بن الصواف الإسكندري المالكي الشروطي. سمع " أربعين " السلفي من جده. قال شيخنا الذهبي: قرأتها عليه، وهو أخو شيخنا شرف الدين يحيى. وكان شيخاً صالحاً جليلاً حسن البزة، ينوب في خطابة الثغر، ويعقد الوثائق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 توفي - رحمه الله تعالى - في سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده في سنة اثنتين وعشرين وست مئة. محمد بن أحمد بن نوح ابن أحمد بن زيد بن محمد بن عصفور، الأديب الفاضل أبو عبد الله الإشبيلي ابن أخت الإمام ابن عصفور صاحب " المقرب ". كان شيخاً مطبوعاً حلو المجالسة، دمث الأخلاق، متفنناً في الآداب واللغة، وله نصيب من علوم القرآن والأثر والبلاغة والحساب، وله اليد الطولى في الشعر. وكانت فيه ديانة وعفاف، أخذ عن علماء المغرب، قال شيخنا الذهبي: جالسته مرات. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده، بإشبيلية سنة إحدى وثلاثين وست مئة. محمد بن أحمد بن صلاح شمس الدين السرواني الصوفي، شيخ الخانقاه الشهابية بدمشق. كان عارفاً بالنجوم والأرصاد والأحكام، ويقرئ الفلسفة، وله مشاركات جيدة في المعقولات. توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 محمد بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن محمد، الشيخ المقرئ العابد المسند أبو عبد الله الحراني القزاز أبوه، الحنبلي ابن أخت المحدث سراج الدين بن شحانة. سمع " صحيح " البخاري من ابن روزبة أو بعضه، وسمع من إبراهيم بن الخير، والمؤتمن بن قميرة، وأبي الوقت الركبدار، ومحمد بن أبي البدر بن المني، وعلي بن بكروس، ومحمد بن إسماعيل بن الطبال، وتفرد بأشياء. وسمع بمصر من ابن الجميزي، وسمع " الصحيح " من صالح المدلجي صاحب المأموني. وسمع من الضياء بن النعال، والشرف المرسي، وابن بنين، ومحمد بن إبراهيم المخزومي، وبحلب من ابن خليل. وكان زاهداً تالياً لكتاب الله تعالى، صاحب نوادر ودعابة. قال شيخنا الذهبي: حدثني أنه تلا بمكة أزيد من ألف ختمة، وأنه اتكأ في ميزاب الرحمة، فتلا فيه ختمة، فلعله قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً. حدث بدمشق والحجاز. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وسبع مئة. ومولده سنة ثماني عشرة بحران - فيما زعم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 محمد بن أحمد ابن قاضي الجماعة، أبو الوليد بن أبي عمر محمد بن عبد الله بن القاضي أبي جعفر بن الحاج التجيبي الأندلسي القرطبي الإشبيلي المالكي نزيل دمشق، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي. كان وقورا، ونصيبه من الديانة قد جعله موفورا، لم يزل عن الناس في انقباض، وبمعارفه في رياض، منور الشيبه، موفر الهيبه. كتب بخطه المليح الصحيح المغربي عدة كتب، وأتى بها وهي أضوأ من الشهب. وذكر لنيابة القضاء فما وافق، بل واقف في الإباء وحاقق. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أبو الوليد، وهو تحت الصعيد. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة وقت الآذان ثامن عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة. ومات أبوه وجده كلاهما في عام إحدى وأربعين وست مئة، وورث مالاً جزيلاً، فتمحق بمصادرة السلطان ابن الأحمر له، أخذ منه في وقت عشرين ألف دينار، وعدمت له كتب جليلة. ونشأ يتيماً في حجر أمه، وتحولوا إلى شريش ثم إلى غرناطة. ثم إنه شب، وقدم تونس، وسكنها خمس سنين. ثم إنه رحل بولديه إمامي المالكية إلى دمشق، وسكنوها، وسمعوا من الفخر بن البخاري، وكانت له جنازة حافلة مشهودة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 قال شيخنا الذهبي: سمعت عليه حديثاً واحداً، وملكت أنا بخطه الظريف " الأذكار " للشيخ محيي الدين، و" رياض الصالحين " له، وكتاب " المفصل " للزمخشري، ورأيت بخطه " شرح مسلم " و" شرح الموطأ " في عدة مجلدات، وكتاب " جامع الأصول " في عشرة وغير ذلك، وكتب بخطه نحو المئة مجلد. وكان منجمعاً عن الناس، وله عدة كاملة من السلاح والخيل، يعدها للغزاة من ماله. وكان له ورد من الليل، ورؤيت له المنامات الصالحة. محمد بن أحمد بن أبي نصر القدوة الزاهد شمس الدين بن الدباهي البغدادي الحنبلي. كان من أكابر التجار كأبيه، ثم إنه تزهد، وقوى نفسه على الوجود، فتفهد، ولبس العباءه، ورفض الملاءه، واللذة برفيع الملاءه. وجاوز بمكة مده، وتصوف ولقي من المشايخ عده، وكان ذا صدق وإنابه، وخضوع وكآبه، وله مواعظ نفع بها، وجر الخير بسببها. وكان بالحق قوالا، وعلى أولي اللعب صوالا، وصفاته حميده، وحركاته سديده. ولم يزل على حاله إلى أن حلت أم الدواهي بابن الدباهي. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة. وكان قد قدم دمشق وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي عز الدين الأميوطي. تفقه على ضياء الدين عبد الرحيم، والنصير بن الطباخ. وأخذ أيضاً مذهب مالك عن ابن الأبياري قاضي الثغر، وبحث " مختصر ابن الحاجب "، وقرأ بالسبع على النور الكفتي، والمكين الأسمر، وجماعة. وتصدر للإقراء، وتخرج به جماعة من الفقهاء، وكان فيه ورع. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الخميس سادس شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقد أكمل خمسة وسبعين عاماً. وكان حاكماً بالكرك ثلاثين سنة، وكان يروي كتاب " التنبيه " بالسند عن القسطلاني عن شيخ ابن سكينة، عن ابن عبد السلام، عن المؤلف. ويروي " مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه " عن شيخ له عن المصنف، كذا نقلته من خط شيخنا علم الدين البرزالي. وقال: اجتمعت به في سنة ثلاث وسبع مئة بالكرك، وأراني " التنبيه " و" المختصر " وعليهما طبقة السماع. محمد بن أحمد بن محمود ابن أسد بن سلامة بن سلمان بن فتيان الشيباني القاضي الصدر الرئيس بدر الدين بن العطار، تقدم ذكر والده القاضي كمال الدين في الأحمدين مكانه. حضر على الشيخ تقي الدين بن أبي اليسر في السنة الثالثة، وروى عنه. وسمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 من ابن الصيرفي، والقاضي ابن عطاء، وابن علان، وابن الصابوني، والمقداد، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، وغيرهم. قال شيخنا: علم الدين البرزالي، ورافقني في سماع " مسند أحمد " و" صحيح " البخاري وغير ذلك، كتب المنسوب، وأتى به آنق من تخارج العذار في خد المحبوب، ونظم القريض، وباهى به زهر الروض الأريض، وباشر نظر الجيش في أيام الأفرم، فخظي عنده، وصار عضده في ذلك الوقت وزنده، وسمر عنده ونادمه، وصد عنه الأذى وصادمه، واختص به كثيرا، وأحله من العز محلاً أثيرا، وما أحمد عقبى ذلك لما عاد الناصر من الكرك، ووقع من الردى في حبائل موبقة الشرك، فغودر، وقد صودر، ثم انتاشه الله من تلك الورطة، وأجاب الخلاص شرطه. ولم يزل بعد ذلك على حاله إلى أن لحق أباه، وسلب الموت قلبه، وسباه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة السبت رابع عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون. ومولده في ليلة الجمعة سادس جمادى الأولى سنة سبعين وست مئة. وكان في أيام الأفرم زائد الحظوة لديه، نادمه، وعاشره، وطلع يوماً إلى بستانه، فوجد الفعول يعملون في طين السطوح، فأخذ الأفرم الحبل بيده، ومتح به أسطال طين، ولما جاء الأمير سيف الدين تنكز في الرسلية إلى الأفرم من عند أستاذه الناصر إلى الكرك قام إليه، وفتش حتى تكة لباسه، لئلا يكون فيها كتب إلى الأمراء بدمشق. ولما توجه مع الناس صحبة السلطان إلى أن عوقه في مصر، وصادره، وأخذ منه مالاً، وعاد بعد الناس بمدة إلى دمشق، وكان قد ولي نظر الأشراف وكتابة الإنشاء بدمشق وغير ذلك. وكان حسن المباشرة، شديد التصرف، وشكره الناس عند موته، وتألموا، وتأسفوا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 محمد بن أحمد بن شبل الفقيه الإمام المفتي شمس الدين أبو عبد الله الحريري المعروف بالبغدادي المالكي. أسره التتار، وعمره اثنتا عشر سنة، ونشأ ببغداد وغيرها، وتفقه لمالك - رضي الله عنه -، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وأقام بدمشق مدة، وعرض عليه نيابة الحكم، فامتنع، وقال: الشهادة أسلم، وكان رجلاً مباركاً. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة. محمد بن أحمد الشيخ الصدر الرئيس الفاضل المسند تاج الدين أبو المكارم ابن الشيخ الجليل المسند الزاهد بقية المشايخ كمال الدين زين الدين محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي الحلبي. حضر على ابن قميرة، وسمع من يوسف بن خليل جملة من الأجزاء والكتب، وسمع من أبي طالب عبد الرحمن بن العجمي وجماعة. وولي وكالة بيت المال بحلب مع تدريس العصرونية. وولي نظر الأوقاف وكتابة الدرج. وجرت له نكبة في أيام طرنطاي في الأيام المنصورية، وقيد، وسجن بالقاهرة مدة. وكان من رؤساء حلب المعروفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 وتوفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وست مئة. محمد بن أحمد بن عيسى ابن رضوان القليوبي المحتد، القاضي الفاضل الأديب فتح الدين. اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي على أبيه وعلى غيره، وتأدب. له الشعر الجيد، والنظم الذي به السمع متقيد، يلهي الندامى عن الأوتار، ويغنيهم عن معاطاة كؤوس العقار. وكانت فطرته ذكيه، ونفسه فيها بقايا من لوذعيه، واسع الكرم والجود، لا يبقي على موجود، كثير التبذير، غزير التنديب والتنذير، واسع الخيال، زائد التوهم والاحتيال، إلا أنه تعب بخياله، وحصل له أنكاد منعته من طيف خياله. ولم يزل بذلك في نكد، وما يهب نسيم سعوده، حتى يراه وقد ركد. ولم يزل على حاله إلى أن انقلب القيلوبي في حفرته، وأورث أصحابه دوام حسرته. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 حضر هذا فتح الدين إلى صفد قاضي القضاة، بعدما عزل عنها القاضي شرف الدين محمد النهاوندي، وأقام بها قليلاً، وعاد إلى الديار المصرية. وكان كثير التخيل والتوهم، فتوهم شيئاً في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فحصلت الوحشة بينهما، فأعرض عنه بعد الإقبال عليه، وجفاه، وأعده، وألجأته الضرورة والحاجة إلى قيام الصورة، حتى ناب القاضي عز الدين عبد العزيز بن أحمد الأشمومي بمدينة المحلة. ثم إنه حصلت بينهما نفرة من خياله، فعاد إلى القاهرة، وأقام بها مدة لطيفة، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور. وله نوادر طريفة، منها: قال كمال الدين الأدفوي - رحمه الله تعالى -: حكى لي فتح الدين قال: كنت أجلس دائماً فوق الصدر سليمان المالكي، فجاء مرةً لمجلس قاضي القضاة ابن مخلوف المالكي، فجلس فوقي، فقلت لقاضي القضاة: قال ابن شاس: إن مالكاً - رضي الله عنه - كره طول اللحية جداً، - قوله " جداً " وصف للكراهة أو للحية - وكان الصدر طويل اللحية، فقام من المجلس. وقلت له مرة: من أي بلد أنت؟ فقال: من شبرا مريق، فقلت له: بلدة مليحة هي! فقال: ما فيها أكثر من الشعير، فقلت له: لأجل ذلك أخذت في وجهك مخلاة. وطلبوه مرة ليرسلوه إلى العراق، فجلس معي، يشكو إلي، فقلت: يا صدر الدين! ما أوقعك في هذه الحرية إلا هذه الذقن، فتوجه الصدر رسولاً، ثم حضر، فقال له فتح الدين: أي شيء غنمت في هذه السفرة؟ قال: كبرت لحيتي، قال: هذه الغنيمة الباردة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 وجمع فتح الدين من هذه الأشياء كراسة، وسماها " نتف الفضيلة في اللحية الطويلة ". قلت: لو قال: " نتف الفضيلة في نتف اللحية الطويلة "؛ لكان ذلك حسناً، وقد ذكرت هنا ما اتفق للشيخ تاج الدين الكندي والحافظ ابن دحية، وكان الشيخ تاج الدين جالساً إلى جانب الوزير - أظنه ابن شكر -، فجاء ابن دحية، فجلس من الجانب الآخر، فأورد ابن دحية حديث الشفاعة، فلما وصل إلى قول إبراهيم عليه السلام: " إنما كنت خليلاً من وراء وراء "، وفتح ابن دحية الهمزتين؛ فقال الكندي: وراء وراء بضم الهمزتين، فعز ذلك على ابن دحية، وقال للوزير: من ذا الشيخ؟! فقال: هذا الشيخ تاج الدين الكندي، فتسمح ابن دحية في حقه بكلمات، فلم يسمع الكندي إلا قوله: هو من كلب قبيح. وصنف ابن دحية في ذلك مصنفاً، وسماه " الصارم الهندي في الرد على الكندي "، وبلغ ذلك تاج الدين الكندي، فعمل مصنفاً، وسماه " نتف اللحية من ابن دحية ". قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: رأيت في " أمالي " أحمد بن يحيى ثعلب جواز الأمرين. انتهى. قلت: قال الأخفش: يقال من وراء، فترفعه على الغاية، إذا كان غير مضاف تجعله اسماً وهو غير متمكن. كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء هكذا أثبته بالرفع. رجع ما انقطع من بقية ترجمة القاضي فتح الدين القليوبي: وقال له يوماً فخر الدين الأحدب المعروف بابن القابلة: كان والدي يدعو الله تعالى أن يرزقه ولداً نجيباً، فقال فتح الدين: لا جرم أنك جئت بختياً، قال فتح الدين: كان بيني وبين الجلال الهوريني صحبة ورفقة، فولي قضاء منية بني خصيب، فأهدى إلى بسراً، فوجدت نواه كثيراً، فكتبت إليه: أرسلت لي بسراً حقيقته نوى ... عار فليس لجسمه جلباب ولئن تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب قلت: سبقه إلى هذا التضمين سراج الدين الوراق - رحمه الله تعالى -، ونقلته من خطه، قال: أهدى إلي الرشيد الماوردي قدور تمر كربس، فكتبت إليه من أبيات: يا من غدا لي واضعاً بقدوره ... قدراً له فوق السماء قباب جاءت بأنواع النوى، فمجلبب ... أدماً، وعار ماله جلباب وعلى النقير لتمرها أثر عفى ... فهدى إليه الحائرين ذباب أرجيع ما لاك الحجاز بعثته ... والرزق سد فما لديه باب أم خلت زجاجاً أخاك ومصر من ... شؤم النوى قفر الرحاب يباب وإذا تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وأنشدني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: أنشدني فتح الدين المذكور لنفسه: تظافر الموت والغلاء ... هذا لعمري هو البلاء والناس في غفلة وجهل ... لو فطن الناس ما أساؤوا وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني لنفسه: إني لأؤثر أن أرا ... ك، ولست أوثر أن تراني علماً بأني في السما ... ع أجل مني في العيان قلت: من قول الأول: أنا المعيدي، فاس ... مع بي، ولا تراني والأصل في هذا المثل المشهور: " يسمع بالمعيدي خير من أن تراه ". وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه: علقته محدثاً ... شرد من عيني الوسن حديثه ووجهه ... كلاهما عندي حسن قلت: ذكرت هنا ما قلته أنا في محدث: محدث ذو قوام ... قوامه في العوالي وطرفه ليس يغرى ... إلا بجرح الرجال وقلت فيه أيضاً: قال حبيبي لا تحدث بأو ... صافي من لا عنده معرفه فإنه لين قدي وإن ... حدثته عن ناظري ضعفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني في فتح الدين لنفسه: يا أيها المولى الوزير الذي ... إفضاله أوجب تفضيله أحسنت إجمالاً ولم ترض بال ... إجمال إذ أرسلت تفصيله قلت: وذكرت أنا هنا قولي: وقف القضيب لما مشى ... وجرت دموع العين في تحصيله رشأ كساه الحسن منه حلةً ... جاءت بجملتها على تفصيله قلت: ولفتح الدين المذكور موشحة مليحة أولها: قد حدثت ألسن التجارب ... بكل ما فيه معتبر وأنت يا حاضراً كغائب ... فلست تصغي إلى الخبر تعايش الناس منذ كانوا ... بالمكر والحقد والحسد وخلفوا ذكرهم وبانوا ... لم يصلحوا منه ما فسد إلا القليل الذين دانوا ... بالحق في المسلك الأسد والكل للترب في سباسب ... قد أودعوا ضيق الحفر قد عوملوا بالذي يناسب ... من كل خير وكل شر وقد ذكرتها كاملة في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وهي موشحة جيدة صنعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 محمد بن أحمد بن عبد الرحمن ابن علي، الشيخ الصالح المقريء أبو عبد الله البجدي - بالباء الموحدة والجيم المشددة والدال المهملة - الصالحي الحنبلي. سمع من المرسي، وخطيب مردا، وإبراهيم بن خليل، وأجاز له الكثير، منهم عبد اللطيف بن القبيطي، وعلي بن أبي الفخار، وكريمة القرشية. وطال عمره، وروى الكثير، وسمعوا منه قديماً في صباه ابن عبد الدائم ثلاثيات البخاري عن ابن الزبيدي، ثم إنهم ترددوا فيه. قال شيخنا الذهبي - رحمه الله -: سألته سنة ثلاث وسبع مئة بكفر بطنا عن جلية الأمر، فذكر ما يقتضي أن مولده سنة ست وثلاثين وست مئة، وأنه من أقران عبد الله بن الشيخ. وقال: كان لي أخ اسمه امسي، ذاك من أقران القاضي تقي الدين سليمان، ذاك مات صبياً. وكان البجدي ذا نصيب من صلاة وتأله وتواضع وقناعة. وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة فثنتين وعشرين وسبع مئة. وبجد: قرية قريبة من الزبداني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 محمد بن أحمد بن عبد الخالق ابن علي بن سالم بن مكي شيخ القراء ومسندهم تقي الدين أبو عبد الله المصري الشافعي، المشهور بالصائغ. تلا بعدة كتب على الكمال " الضرير والكمال " بن فارس، والتقي الناشري، وسمع من الرشيد العطار وجماعة. وأعاد بالطيبرسية وغيرها. وكان شاهداًَ عاقداً خيراً صالحاً متواضعاً صاحب فنون، صحب الرضي الشاطي مدة، وتضلع من اللغة، وسمع مسلم عن ابن البرهان. وكان يدري القراءات وعللها، وتفاصيل إعرابها وجملها، يبحث، ويناظر فيها، ويعرف غوامض تواجيهها وخوافيها. صنف خطباً للجمع، وأظهر فيه أنه تعب وجمع، وقرأ عليه الأئمة، وفضلاء الأمة، وقصد من أطراف الأرض، وقام بنفل الإتقان والفرض. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعاً، وأمسى نشر الثناء عليه ضائعاً. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد ثامن عشر صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بمصر. وتلا عليه أئمة مثل إبراهيم الحكري، وإسماعيل العجمي، وابن غدير، وبرهان الدين الرشيدي، وجمال الدين بن عوسجة، وتاج الدين بن مكتوم، وعلي الحلبي الضرير، وعوض السعدي، ومحمد بن الزمردي، وأبي العباس العكبري النحوي، والقاضي بهاء الدين بن عقيل، والشمس العزب، وخلق سواهم. وكتب الختمة في سبعة وعشرين يوماً، وصنف خطباً جمعية، وابتدأ كل خطبة بعلامة قاض. وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بعد الظهر بجامع مصر، وحضره خلق كثير، وحمل على الأيدي، ودفن بالقرافة، وكان آخر من بقي من مشايخ الإقراء. محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء الشيخ المسند الرحلة الصدوق شمس الدين أبو عبد الله الصالحي بن الزراد الحرير. سمع بعد الخمسين من البلخي، ومحمد بن عبد الهادي وأخيه، والعماد بن النحاس، واليلداني، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابن خليل، والفقيه اليونيني، وعدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وسمع من الكتب الكبار، وتفرد، وروى الكثير، وخرج له شيخنا الذهبي مشيخة. وكان ديناً متواضعاً، يتجر، ويرتفق، ثم ضعف حاله، وافتقر، وساء ذهنه قبل موته، وتبلغم. وكان له نظم. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وأربعين وست مئة. محمد بن أحمد الشيخ أبو عبد الله بن الشيخ المحدث كمال الدين عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، المعروف بالضياء السالك طريق الفقر. كان شيخاً يخالط الفقراء طول عمره، وحضر غزوات الظاهر مع المشايخ، وسمع من المزي حضوراً، ومن خطيب مردا، والبكري، وابن سعد، ومحمد بن عبد الدائم، وجماعة. وله إجازة بعض أصحاب السلفي، وشهدة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 محمد بن أحمد بن هبة الله ابن قدس تاج الدين الأرمنتي. كان مقرئاً فاضلاً، وكان يؤم بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة. توفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في حدود السبع مئة. ومن شعره: قد قلت إذ لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي خدك ذا الأشعري حنفي ... وكان من أحمد المذاهب لي حسنك ما زال شافعي أبداً ... يا مالكلي كيف صرت معتزلي قلت: سبقه إلى هذا الأول، فقال: وعطلت من وجهه ... تلك الخدود الصقلة يا أشعري خده ... إني من المعتزلة والآخر أيضاً فقال: وابن عجوز قال لي مرةً ... يا هاجري ظلماً ولم أهجر معتزلي صرت، فقلت اتئد ... واعتب على مبعرك الأشعري ولكن قول الشيخ تاج الدين الأرمنتي أجمع، وألطف، وأحسن من هذا كله قول القائل - وقد نسب إلى الشيخ صدر الدين بن الوكيل: قويت شيعي ومن حظي أنا سني ... لولا الذهب شافعي كان انتفى مني ظهر وسريجي وكنت أحسن به ظني ... صار مالكي أشعري قلت اعتزل عني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 ومن شعر تاج الدين الأرمنتي: احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ... فنصيحة تخفى على الجلاس وأعيد نفسي من هجائك فالذي ... يهجى يكون معظماً في الناس محمد بن أحمد بن فتوح المحدث العالم أبو الفضل المصغوني - بالميم المفتوحة والصاد المهملة الساكنة والغين المعجمة وبعدها واو ونون - الإسكندراني. قد دمشق، وطلب الحديث سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وقرأ الحديث، وسمع من القاضي تقي الدين، وطائفة، وقرأ الصحيح على بنت المنجا. قال شيخنا الذهبي: وعلقت عنه شيئاً. وكان ديناً عاقلاً فاضلاً، وحدث عن التاج الغرافي. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة. ومولده قبل الثمانين وست مئة. محمد بن أحمد بن منعة بالنون بعد الميم والعين المهملة - ابن مطرف بن طريف، شمس الدين أبو يوسف القنوي الصالحي، الشيخ الصالح المعمر. سمع من عبد الحق بن خلف جزء ابن عرفة حضوراً، وسمع من ابن قميرة - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 إن شاء الله - والمرسي، واليلداني، وأجز له ابن يعيش النحوي والحافظ الضياء، وإبراهيم بن الخشوعي. وحدث بالكثير. قال شيخنا الذهبي: كان خيراً أميناً. توفي - رحمه الله تعالى - في سابع المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله اثنتان وتسعون سنة. وكان يعرف مضيه للسماع من ابن قميرة بدرب السوسي، وإنما لم يجزم لأن له أخوين باسمه. قال شيخنا البرزالي: كان الأخوة الثلاثة يسمعون، ولكن يترجح هذا لأنه الأكبر. محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد بن محمود، الصدر الرئيس القاضي عز الدين بن القلانسي العقيلي، ناظر الخزانة بقلعة دمشق، ومحتسب البلد. سمع من ابن البخاري مشيخته. وحدث، وسمع منه بعض الطلبة. وكانت له ديانه، وفيه مسكة وصيانه، وعنده للخير محبة وإيثار، وعنه في حسن المباشرات أحاديث مروية وآثار. وكان كافياً فيما يتولاه من الوظائف، وله على العوام سائق من مهابته وظائف، شكرت سيرته، وظهرت لما ظهرت بالأمانة سريرته، لم يعهد الناس منه إلا عفافاً، ولم يباشر الحسبة إلا ودخل الناس منها جنات ألفافاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وما زال إلى أن لبى داعيه، وسمع الناس ناعيه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. وكان شكلاً ضخماً، عليه مهابة ووقار، يتحدث وهو مطرق، ولم يضرب أحداً من السوقية إلا دون العشرة ضرباً خفيفاً، وله في قلوبهم المهابة العظمى، باشر الحسبة مدة سنين، ووصل من مصر إلى دمشق في أوائل صفر مباشراً نظر الخزانة عوضاً عن نجم الدين البصروي بحكم ولايته الوزارة. ولما شهد جماعة من رؤساء دمشق بأن الصاحب شمس الدين غبريال، إنما عمر أملاكه من بيت المال، لأنه كان فقيراً طلب عز الدين المذكور ليشهد بذلك، فقال. كيف أشهد وهو في كل شهر يصرف له جامكية من بيت المال بمبلغ عشرة آلاف درهم؟ وله هذه المدة الطويلة يتناول ذلك، ومن كان كذلك لا يكون فقيراً، ولم يشهد. فقالوا له: تعزل من وظائفك، فلم يوافق. وعزل من الحسبة، وبقي بيده نظر الخزانة. وأعجب ذلك الأمير سبف الدين تنكز، وأثنى عليه، ولما بلغ السلطان أعجبه دينه، ولم يحل أملاك الصاحب شمس الدين. محمد بن أحمد بن محمد القاضي الرئيس الأصيل، بقية الرؤساء، عماد الدين بن الصاحب تاج الدين بن الشيرازي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 كان من الرؤساء بالشام، ومن أولي الحشمة الذين لهم فيها الوجوه الوسام والأيادي الجسام، عريق في الرئاسة، غريق في السيادة والمباشرة والسياسة، يخدم الناس، ويتقرب إلى القلوب بسائر أنواع المكارم والأجناس. يزته فاخره، ووجاهته من شكله ظاهره. بقية أولئك الرؤساء الأول، والأكابر الذين تجملت بهم الأيام والدول، باشر الجامع مرات، وأثر فيه من العمارة ما يجلب للنفس المسرات. وباشر الحسبة مرات عده، فما رأى الناس إلا كل خير أعده واستجده. ولم يزل على حاله متنقلاً فيما يتولاه، ويباشر أمره، فيملؤه ما جلاه وحلاه، إلى أن دارت عليه طاحون الطاعون، وراح مع أولئك القوم الذين هم إلى الساعة ساعون. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق. وكان قد تولى نظر الجامع الأموي بعد تقي الدين بن مراجل في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول. وفي هذا اليوم دخلت أنا في ديوان الإنشاء بدمشق. وأقام فيه مدة سنين. ثم إنه نقل إلى نظر الحسبة، وأقام بها مدة. ثم إنه جاء المرسوم في أيام الصالح بعزله، فأقام في المدرسة الطرخانية جوار داره تقدير شهرين، ووزن بعض شيء، ثم أعيد إلى الحسبة. وكتبت أنا له عدة تواقيع منها ما هو بنظر الحسبة، ومنها ما هو بنظر الجامع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 الأموي، فمن ذلك توقيع كتبت له بالحسبة مضافاً إلى نظر الجامع الأموي في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة ارتجالاً من رأس القلم، وهو: الحمد لله الذي جعل ولي هذه الدولة القاهرة عماداً، وملكه من الرئاسة التي امتاز بها من غيره قياداً، وثنى الجوزاء تحت يده لما ساد وساداً، وبلغ همته العلية من المفاخر السامية مراماً ومراداً. نحمده على نعمه التي حسنت مواقعها عند من ألفها معاجاً ومعاداً، ومنته التي فاقت جواهرها ازدواجاً وازدياداً، وعوارفه التي تجد النفوس لعرفها ارتياحاً وارتياداً، وأياديه التي تتخير الاقتراح محاسنها انتقاءً وانتقاداً. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزعم معاطس من أنكرها عناداً، وتخجل من تلفظ بها تقية وأضمر الباطل اعتقاداً، وتدحص حجج من أصر على البهتان، وتمالا ضلالاً وتمادى، وتنير وجوه قائلها بياضاً يوم تدلهم وجوه جاحديها سواداً. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي ارتقى شبعاً شدادا، وأبلى في أعداء الدين القيم لله جهادا، وجلى غياهب العجاج والأسنة تحكي النجوم اتقادا، وحمى سرح الحق فما ضره من عاد إلى الباطل وكاد وعادى. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تسابقوا في حلبة الهدى جياداً، واتحدوا في سبيل الله محبة وودادا، وتقلدوا لنصر دينه بيضاً صفاحا، واعتقلوا سمراً صعادا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 ونظمت جواهر معاليهم على جيد الزمان تؤاماً وفرادى صلاةً لا يمل طرف السهى من مراقبتها سهادا، ولا يعرف الأبد لأمدها ولا مددها نفادا، ما نزعت يد الصباح عن منكب الظلماء حدادا، ونفت نسمات الصبا عن عيون الأزهار رقادا، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وبعد: فإن نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس منصب جليل القدر، ومحل سامي الأفق، لا يطلع في أوجه إلا من تم تمام البدر، ومكان لا يستكن في ذراه إلا من رفض عش الغش، ولم يخض في غدير الغدر، من ولي أمره غدقت به الأمور، وعلقت به مصالح الجمهور، وساس الرعية سياسةً محبتها في القلوب ومحلتها في الصدور، لأنه ينظر فيما دق وجل، وكثر وقل، وانحصر بمقدار، وضبط بمثقال ورطل وقنطار، وكل ما ابتلعته فم كيل وامتد له باع ذراع، أو تحدث فيه لسان ميزان مما يجلب من تحف البلاد ونفائس البقاع، وكل ما يعمل من أنواع المعايش، وكل ما أمره محرر أو سهم تقديره طائش، وله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحديث فيما شأنه أن يشكى أو يشكر، فهو الآمر في كل ذلك أجمع، وشآبيب تأديبه تهمع، وبروق تهديده تلمع. وكان الجناب الكريم العالي المولوي القضائي العمادي محمد بن الشيرازي ممن قتل هذا المنصب خبرا، وقلبيته معرفته بطناً وظهرا، باشره مدة أمدها الله بالمحاسن الباهره، وجعل رياضها بالعدل زاهره، وأتى بيوت الرئاسة من أبوبها، وجنى ثمر السعادة من حدائق الإقبال متشابها، وجاذبته السيادة أهداب هدابها، ومدت له المعالي من المجرة طويل أطنابها، وذرب هذه الوظيفة فعرفها جيداً، كما أن أهل مكة أخبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 بشعابها، وتشوقت عوده إليها تشوق الروض إذا ذوى إلى صوب الغمام، وتشوقت إلى رجوعه تشوق المشتاق إلى نوح الحمام. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي السيفي - أعلاه الله تعالى - أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأنه أفضل من سكته التجارب ذهبا، وأولى من دربته المعارف، فأظهرته حساماً ماضي الشبا. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً ألفها الناس من سياسته، وعرفها الأنام من حميد رئاسته، وعهدها الرعية لما أنامهم الأمن في مهد حراسته، وشهدها البرية من جميل أصله ونفاسته، لأن آثار اعتماده في الجامع المعمور للعيون مشاهدة، وحسنات صنيعه في صحائف الأيام والليالي خالده، ومحاسن ما زخرفه في جدرانه على كل عامود حالة وعلى كل قاعدة قاعده. هذا إلى ما أنماه من أجوره، وأسماه من إدرار ما عليه من الرواتب، حتى شارك بها الواقف في أجوره، وأتعب من يأتي بعده حتى يسد مسده، أو يلبث مدة ما يمد قلمه من الدواة مدة. ووصايا هذه الحسبة الشريفة كثيرة إلى الغاية، عزيزة لا يقف القلم في سردها عند نهاية، شهيرة عند معارفه التي أصبح فيها آية، ولكن القلم يطرق عند مثله لائذاً بالصمت، ويجف ريق المداد في لهوات الدواة هيبةً لما يراه فيه من عظمة الوقار وحسن السمت. فاجر فيها على عادتك الحسنى، وأول الناس فيها أمناً ومنا، واستعمل البأس في موضعه الذي يليق به وضعا، والرفق ولكن عز مكانه، فإن الغدر والخيانة يكونان في أكثر الناس طبعا، وأمر نوابك - أعزك الله - أن يحذروا في العفة والأمانة حذوك، وأن يتلوا في حسن السياسة تلوك، وأن يصبروا على مر طريقك في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 المباشرة، إن أرادوا أن تسوغهم حلوك، ولا شيء يزين الإنسان مثل تقوى الله فإنه واسطة العقود في الصفات المحموده، وزينة الوجوه في السمات المشهوده، تصدق يوم القيامة، إذا كذبت الظنون، وتنفع " يوم لا ينفع مال ولا بنون "، وأنت بحمد الله لا ينوب فيها أحد منابك، ولا يزر عليها سواك ثيابك، وإنما الخطاب لك ظاهراً، وأردنا بباطنه نوابك، فلتكن خطوتهم كل خطوه، وجلوتهم في كل جلوه، والله يتولى إعانتك على ما ولاك ويزيدك مما أولاك، والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. محمد بن أحمد الإمام الفاضل الرئيس الأصيل الشيخ عز الدين ابن الشيخ شمس الدين بن المنجا التنوخي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق أخيراً. كان حسن الشكل والعمه، مليح الوجه، يحكي البدر وتمه، فيه مكارم وإحسان، ومحاسن قلما تجتمع في إنسان، غزير المروه، كثير الفتوه. حنبلي كثير الاختلاط بالشافعية، ظاهر الذكاء فيما يباشره والألمعيه، أثر في الجامع آثاراً حسنه، وجدد فيه الترخيم والزخرفة، وما أسهر له العيون الوسنه. وكان جماعة للكتب النظيفه، والمجلدات الطريفه، خلف منها أشياء نفائس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وكتباً عدة كالنجوم الزاهرة أو الكواعب العرائس، وبهضه ما تحمل من الديون، وكانت جملة لو صورت خارت لها القوى، وحارت العيون، ولكن لنيته الجميلة، قام ولده بحملتها الثقيله. ولم يزل على حاله في الحسبة إلى أن جاء ما لا أحتسب، وقدم على ما قدم واكتسب. وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشرين من جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة. ومولده ... وحدث عن زينب بنت مكي، وكان قد ولي نظر الجامع الأموي عوضاً عن عماد الدين بن الشيرازي في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وانتقل ابن الشيراوي إلى الحسبة. محمد بن أحمد بن محمد الإسكندراني الصوفي، شمس الدين المعروف بابن الفويه - بضم الفاء وتشديد الواو والياء آخر الحروف -. كان ظريفاً لطيفاً شاعراً، حسن المحاضره، جميل المذاكره، اجتمعت به غير مرة بالقاهره، وأنشدني من شعره كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر، وكان قد نسك آخر عمره، واقتصر. ومما أنشدني له قوله: لي أم من أصلح الناس تدعو ... لي رب السماء سراً وجهرا جعل الله كل يابسة يا نو ... ر عيني بين كفيك خضرا فاستجيب الدعاء في وما رد ... ت يداها من المواهب صفرا فلذا لا أفيق ظهراً وعصراً ... سكرةً لا ولا عشاءً وفجرا وأنشدني له أيضاً: أعجامنا قد أصبحت قلوبهم ... وجداً بحب الخاتقاه خافقه لا تعجبوا فكل كلب نابح ... ولا يحب الكلب إلا خانقه وأنشدني له أيضاً: وقالوا الشيخ مجد الدين ... شيخ الجهالة والبلاده فقلت وأوحد في ال ... لياط وفي القياده وزيدوا إن أردتم ... وشيخ النحس زاده وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً في نجم الدين وكيل الفخر، وكان أعور: يا ربنا لي صاحب ... بالذنب مدحو شقي غطيت منه عورةً ... يا خير رب مشفقي وسترت منه ما مضى ... يا رب فاستر ما بقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 ذكرت بهذا التهكم في الدعاء ما نقلته من خط السراج الوراق: طالت مسافة بيني ... بين الصفي وبيني فلا أموت إلى أن ... أرى الصفي بعيني قلت: هذه تورية، خدمت معه من ثلاثة وجوه: أحدها: وهو الظاهر في بادئ الرأي، من أنه يراه بعينه. والثاني: أن يراه ضعيفاً، " فعيلاً " بمعنى " مفعول ". والثالث: أن يراه بفرد عين أي أعور، وهكذا يكون النظم الذي يسمع. وكتب الشيخ جمال الدين بن نباتة إلى ابن الفويه: واحربا من سوالف الخشف ... والنواعس الوطف كم لك يا خشف من فتى وامق لنون صدغيك يعبد الخالق يا لكما من رشا ومن عاشق من ذا ومن نون صدغ ذا قل في ... عابد على حرف سكنت عندي بيتاً هو القلب وغبت عن ناظري فلا عتب يفديك يا بدر هائم صب بمنزل القلب منه تستكفي ... لا بمنزل الطرف جادت جفوني بالأدمع الحمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 جود ابن فضل الإله بالتبر لله منه جواد ذا الدهر يمسك جود الحيا عن الوكف ... وهو جائد الكف انظر لآثار مجده العالي وصنعه بالعدا وبالمال صنعة نحو بديعة الحال فالمال نحو العفاة للصرف ... والعداة للحدف ختام ذكر العلا به مسك وأن لفظي لفظه سلك وصفي وجدواه ليس ينفك فليس يخلي يدي من عرف ... أو علاه من وصف وأغيد زاره مخالفه وعاد بعد الجفا يساعفه وقال لما مشى يكاتفه أصبح بعد الجفاء والخلف ... كالطراز على كتفي فكتب شمس الدين بن الفويه الجواب: زهر أم الزهر يانع القطف ... من كمائم السجف رياض حسن قد راضها الدل من ورد خد فيه الحيا طل وآس صدغ فيه الحيا ظل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 كففت عن هصر كفي ... إذ رعيت بالطرف من لي ببدر حشاشتي أفقه يزيده حسن وجهه طلقه لو جال في سمع عاذلي نطقه لقال فيه بالصوت والحرف ... عاذلي بلا خلف قلت وصدغ في الخد قد عقرب ونمل ذاك العذار فيه دب وحسنه في طرازه المذهب يا واو صدغ من لين العطف ... هل أتيت للعطف قال وأبدى ابتسامة درا أعطيت نظم الجمال والنثرا ونطقه فاتخذتهم ثغرا وصنتهم في مواضع الرشف ... لا مواضع الشنف أشرف يا بني نباتة الأدب وقد نشا في القريض والخطب فهم ولو لم يضمهم نسب بينهم نسبة من الظرف ... والبيان واللطف وغادةً دون حسنها الوصف يثقلها عند خطوها الردف قالت وأمواج ردفها تطفو هذا الثقيل ردفي يعتمد خلفي ... أمشي ينقطع خلفي قلت: ما أبدع هذه الخرجة الداخلة والألفاظ الجادة، وهي هازلة، رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن حيدرة بن علي القاضي الإمام الفاضل شمس الدين أبو عبد الله المعروف بابن القماح المصري الشافعي. سمع من أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر " صحيح " مسلم إلا قليلاً، ومن النجيب عبد اللطيف والعز عبد العزيز ابني عبد المنعم بن علي بن الصيقل الحراني، وعبد الرحيم بن يوسف بن خطيب المزة، وقاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي في آخرين. وحدث، وتفقه، وبرع، وأجاد، وأفتى، وأفاد، وجاد بالعلم، فأجاد، وناب في الحكم بالقاهره، وشكرت سيرته الزاهره، وكانت فتاويه مسدده، ولياليه وأيامه بالعدل مجدده، وهو آية في الحفظ الذي لا يحكيه فيه نظير، ولا يضبطه فيه حوزة ولا حظير. ولم يزل إلى أن بان وباد، وسكن الأرض إلى يوم المعاد. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ست وخمسين وست مئة. وقد أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وكان متى سئل عن آية، ذكر ما قبلها، وكذلك يفعل في التنبيه، وهذه غاية لم يصل إليها أحد إلا من من الله عليه بها، ولعل الإنسان ما يقدر يفعل هذا في الفاتحة. ويحكى أن الحجاج بن يوسف ما كان يمتحن القراء إلا بذلك ما يسأل أحداً منهم إلا يقول له: إيش قبل الآية الفلانية، فيبهت ذلك المسكين. وكان ينوب في الحكم على باب الجامع الصالحي بظاهر القاهرة، ودرس بالمدرسة المجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقرافة - رضي الله عنه -، وناب عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في تدريس الكاملية مدة غيبته في الحجاز، وجمع مجاميع مفيدة، وكان على ذهنه تواريخ ووفيات وحكايات وفوائد، واختصر كتباً في الفقه، ولكن كان يتسامح في الأحكام حتى إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة كان يمنعه من إثبات كتب الأوقاف. ولما تولى ولده قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله القضاء، فانقطع للاشتغال، وقراءة القرآن. محمد بن أحمد بن عبد الرحمن ابن محمد تاج الدين بن الشيخ جلال الدين، الدشناوي محتداً، القوصي مولداً وداراً ووفاةً. قرأ القراءات على الشيخ نجم الدين عبد السلام بن حفاظ، وسمع على المنذري، والرشيد العطار، وتقي الدين بن دقيق العيد، وشرف الدين الدمياطي، وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، والشيخ عبد الكريم بن عبد النور، وفخر الدين النويري، وسراج الدين بن الكويك، وغيرهم. وأخذ الفقه عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، وعن والده جلال الدين، والشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي. ودرس بالفاضلية بالقاهرة نيابة عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، ودرس بالعزية بظاهر قوص، والمدرسة النجمية والمدرسة السراجية. وأفتى، وحدث، واستبقى الخيرات وما تلبث. وكان قوي الجنان، فصيح اللسان، طيب الأخلاق، كريم المعاشره، جميل الأوصاف فيما تولاه أو باشره، مقرئاً محدثاً أديباً، شاعراً لبيباً أريباً. لم يزل على حاله إلى أن فارق العيش واستوى عنده الحلم والطيش. وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وأربعين وست مئة. قال كمال الدين الأدفوي: أنشد شيخنا تاج الدين، قال: أنشدنا الشيخ شمس الدين التونسي: اصبر على حادثه أقبلت ... فهي سواء والتي ولت وأرهف العزم فليس الظبى ... تفري وتبري كالتي كلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 قال: فنظمت هذه الأبيات، وأنشدتها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فاستحسنها، وهي: ليت يداً صدت حبيباً أتى ... للوصل يشفي غلتي غلت قضيت قدماً معه عيشةً ... يا ليت فيها مدتي مدت لو لم أرض نفسي بصبرغدا ... ساعة صد جنتي جنت قلت: كذا رأيت البيتين الأولين قد ساقهما الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي، ولو أن فيهما حكماً، لقلت: " اصبر إذا ما حالة حلت "، فإنها أنسب من قوله: " حادثة أقبلت "، وأما بيتا الشيخ تاج الدين الدشناوي الأولان فإنهما في الحسن غاية، ولكن البيت الثالث في تركيبه قلق، وليس بأخ لما تقدمه، ولو كان لي فيه حكم؛ لقلت: أقبح بصد جاء لو لم يكن ... صبري لنفسي جنتي جنت على أن الأول أيضاً فيه قلق، وأما الأوسط فإنه في الذروة. وقد كنت نظمت قديماً، لما وقفت على البيتين الأولين، وهما مشهوران أبياتاً من جملتها: هذي التي نلت بها ذلتي ... وحلتي في الصبر قد حلت وأدمعي في وجنتي أطلقت ... وفي فؤادي غلتي غلت خلائقي وفق غرامي بها ... فاستخبروها ما التي ملت وقلت في جارية لي توفيت: دفنتها كالبدر تحت الثرى ... ومن شقائي مدتي مدت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 كانت إذا ما سيف أجفانها ال ... مرهف يدعو لبتي لبت ما سجعت في الأيك ورق الحمى ... لكنها في عزتي عزت قال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه: الشين في الشيخ من شرب غدا كدراً ... فلم تعفه نفوس الغانيات سدى والياء من يأس أن تصبو إليه وقد ... بدت لها لحمة من شيبه وسدى والخاء من خوف أن تقضي له فترى ... ما ابيض من شعره في جيدها مسدا قلت: شعر كمال الدين أخصر وأحسن وأفصح وأمتن. وقد نظمت أنا في هذا المعنى في أقصر وأخصر فقلت: الشين في الشيخ شين ... والياء يأس تبين والخاء خسران عمر ... والحين من ذا تعين ومن شعر تاج الدين الدشناوي: ولولا رجائي أن شملي بعدما ... تشتت بالبين المشت سيجمع لما بقيت مني بقايا حشاشة ... تحال على طيف الخيال فتقنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 قلت: لولا الزيادة التي ألحقها في آخر البيت الثاني؛ لكان معنى بيتيه في بيت واحد من قول الأول: ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى ... لما حملته بينهن الأضالع ومن شعر تاج الدين - وقد جوده -: عجزت عن قصة الطيب وعن ... قصة أخذ الشراب إن وصفه والحال أبدت لمن يميزها ... تعجباً ساء مصدراً وصفه قلت: جمع في هذا البيت الثاني الحال والتمييز والتعجب والمصدر والصفة بتركيب سهل عذب. محمد بن أحمد بن تمام ابن كيسان أبو عبد الله الصالحي الخياط، الشيخ البركة، أخو الشيخ تقي الدين بن تمام - وقد تقدم ذكره -. سمع من عمر بن غوة التاجر، وتمام السروري ومن ابن عبد الدايم، وعبد الوهاب بن محمد، ومن والده عن القزويني. كان رجلاً صالحاً، منجمعاً عمن يراه طالحاً، له أبهة في الصدور، وعلى وجهه لمحة من جمال البدور، هشاً بشاً بساما، لين الكلمة بالمعروف، قوالاً قواماً. صحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 الأخبار، وأسمع الأحاديث والأخبار، يرتزق من الخياطة، ومما يفتح عليه ممن يأتي رباطه. يؤثر من جمع ما يملك ويؤثر، ويصبر ولا يمنن بذاك ولا يستكثر. وكان قد تفقه قليلاً، واعتزل طويلاً. ولم يزل على حاله إلى أن التحق بالرحمن، وأدرج في الأكفان. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وشيعه خلق كثير، وموته في ثالث عشر شهر ربيع الأول من السنة المذكورة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. خرج له شيخنا الذهبي مشيخةً في جزء ضخم. وسمع منه خلق كثير، وطال عمره، وحدث أكثر من أربعين سنة، وصحب الأخبار، ورافق الإمام شمس الدين بن مسلم، والشيخ علي بن نفيس. وكان الأمير سيف الدين يكرمه ويزوره، ويذهب هو إليه، ويشفع عنده. ومتع بحواسه، وأبطأ شيبه، وروى عن المؤتمن بن قميرة. وأجاز لي بخطه في سنى تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق. محمد بن أحمد بن عبد الهادي ابن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، الشيخ الإمام الفاضل المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 سمع القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، وأبا بكر بن عبد الدايم، وعيسى المطعم، وأحمد الحجار. وأكثر عن محمد بن الزراد وسعد الدين بن سعد، وعدة. وتقفه بالقاضي شمس الدين بن مسلم، وتردد كثيراً إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية. وأخذ العربية عن أبي العباس الأندرشي، وعلق على " التسهيل "، مجلدين تأذى بذلك منه أبو العباس الأندرشي، وأخذ بعض القراءات تفقهاً عن ابن بصخان. وحفظ كتباً منها " أرجوزة " الخوبي في علم الحديث و" الشاطبية " و" الرائية " و" المقنع " و" مختصر ابن الحاجب ". وعلق على أحاديثه وعمل تراجم الحفاظ، وعمل " كتاب الأحكام " ولم يكمل. قيل لي بأنه مجلدات. وله غير ذلك. كان ذهنه صافياً. وفكره بالمعضلات وافياً، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث. صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد، قد أتقن العربيه، وغاص في لجتها على فوائدها ونكتها الأدبية، وتبحر في معرفة أسماء الرجال، وضيق على المزي فيها المجال. نزل أخيراً عما بيده من المدارس، وعدها من الأطلال الدوارس ليكون مفرغاً للإشغال، ويترك ما هو دون ويأخذ ما هو غال، ولو عمر لكان عجباً في علومه، ونقطه البدر طرباً منه بنجومه، ولكن اجتث يانعا، ولم يجد له من الحمام مانعا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأول من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ومولده سنة خمس وسبع مئة. كان من أفراد الزمان، رأيته يواقف شيخنا جمال الدين المزي، ويرد عليه في أسماء الرجال، واجتمعت به غير مرة، وكنت أسأله أسئلة أدبية وأسئلة عربية، فأجده فيها سيلاً يتحدر، ولو عاش كان عجباً. محمد بن أحمد بن بدر بن تبع الشيخ المقرئ صلاح الدين أبو الحسن البعلبكي القصير. روى عن ابن عبد الدائم. قال شيخنا البرزالي: وذكر لنا أنه حدث ببغداد لما سافر إليها لاستنفاذ ولده. وكان رجلاً جيداً فيه خير ودين ومعروف، وعنده مروءة، مواظب على قراءة القرآن. توفي - رحمه الله تعالى - بالمدرسة الرواحية سابع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. وشيعه جماعة. محمد بن أحمد بن سليمان الدلاصي الشيخ المعمر صدر الدين. حدث عن ابن خطيب المزة، تجاوز الثمانين. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سنة ست وخمسين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 محمد بن أحمد بن يعقوب كمال الدين أبو عبد الله الدمشقي الكاتب. باشر كتابة الإنشاء، وتنقل بها في حنايا بلاد وأحشاء، وكان يكتب سريعاً، ويجعل الطرس بقلمه روضاً مريعاً، إلا أنه لا ينشئ شيئاً، ولكنه يجعل له في التقييد ظلاً وفيئاً. وكان في خلقه حده، وفي ممارسته شده. لا يزال طالباً ما لا يمكنه، جالباً لنفسه من الشر والنكد ما يوهي جلده ويوهنه، يتخيل حتى من حبيبه، ويتخيل على من يكون من أنصاره ليجعله بمنزلة رقيبه، فمضى عمره في أنكاد، وقضى وفي القلوب منه أحقاد. ولم يزل على حاله إلى أن نقص كماله، وذهب في طلب المحال روحه وماله. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ومولده في نيف وسبع مئة. طلب الحديث في وقت، ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع من الحجار، والعفيف الآمدي. وكان قد توجه لتوقيع الرحبة، ووكالة بيت المال عوضاً عني في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام بها مدة ثم حضر إلى دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وتوجه لتوقيع جعبر، وأقام بها مديدة، وحضر إلى دمشق، وباشر ديوان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى -. ثم توجه إلى مصر، وباشر في ديوان الأسرى بدمشق، وبيده فقاهات في المدارس. ولما كان في أواخر أيام الأمير سيف الدين يلبغا نائب دمشق نزل له ابن البياعة عما باسمه على كتابة الإنشاء بدمشق، فدخل ديوان الإنشاء، ثم إنه توجه إلى الحجاز في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وعاد مع الركب المصري. فاتفق أنه مات في تلك الأيام شرف الدين موقع غزة، فاستخدمه القاضي علاء الدين بن فضل الله في توقيع غزة، فحضر إليها، وباشرها مدة بنفس قوية حتى على النواب. فنفرت القلوب منه، وكثرت الشكاوى عليه بباب السلطان، فرسم بعزله، ومع عناية القاضي علاء الدين معه خرج منها، وقد كاد يعطب. وكان قد نزل عن بعض جهاته لقاضي غزة من مباشرة الأسرى، وقام باسم أولاده على كتابة الإنشاء بدمشق، وأخذ من القاضي الخطابة بجامع الجاولي، والتدريس. حكى لي القاضي شرف الدين قاضي غزة أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله، وسكت ساعة، ثم قال: الحمد لله، وسكت ساعة، فعل ذلك مراراً! حتى إنه قال لي النائب: قم أنت اخطب، فخطبت عنه ذلك النهار، ولما حضر إلى دمشق رسم السلطان الملك الناصر حسن بإبطال من استجد بديوان الإنشاء بعد الشهيد، فبطل هو لأنه كان قد قايض قاضي غزة بماله على كتابة الإنشاء من الأيام الشهيدية، وأبقى له على ذلك ما استجد، فجرت بينه وبين القاضي مخاصمات ومحاورات ومحاكمات كادت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 تفضي إلى ملاكمات، ولم يثبت له شيء، فتوجه إلى مصر، فمرض مرضةً طويلة بالبيمارستان المنصوري، ثم إنه خرج في محارة مع العرب، فلما كان بين سرياقوس والقاهرة، أو بعد سرياقوس، توفي - رحمه الله تعالى - فحمله العرب إلى بلبيس، ودفن بها عفا الله عنه وسامحه. وكان أولاً يعرف بالزينبي، ثم إنه أخيراً كتب عن نفسه الجعفري. وكان إذا خاصم أحداً يقول: أنا ابن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: يا مولانا السيد كن، أعرف ما تقول إن كنت جعفرياً فهذه نسبة إلى جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر ما تزوج ببنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي تزوج بها أخوه علي بن أبي طالب، فإن أردت النسبة إلى بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقل أنا علوي، لأنك تكون من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهم. فأخجله هذا، ولم يرجع عن هذه الدعوى، سامحه الله وعفا عنه. وكان مبغضاً إلى كل من يرافقه من فقهاء المدارس، وكتاب الجامع الأموي وكتاب الإنشاء حتى أنشدني فيه بعض الناس: يا حب لي فيك واش ... بيني وبينك يوقع وماله من محب ... مثل الشريف الموقع وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن شرف الدين عيسى بن قاضي شهبة في ذلك: ولرب خل قال لي يهنيك قد ... عطف الحبيب وزار بعد تجنب وكستك أيدي الدهر ثوب شبيبة ... ما عشت عنك جديده لم يذهب وأنا لك الدهر الخؤون قياده ... وأمنت من صرف الردى المتغلب وصفت لك الدنيا ووسع رزقها ... فتمل بالمحبوب واشرب واطرب فأحببت قد أفرحت لكن لم تقل ... وكذاك قد مات الكمال الزينبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وأنشدني من لفظه لنفسه غير ذلك في هذا المعنى، والجميع مثبت في الجزء الثالث والثلاثين من " التذكرة " التي لي. الشيخ محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي الشيخ تقي الدين أبو حاتم ابن الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبي حامد ابن شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي. تقدم ذكر جده وذكر عمه في مكانيهما من حرف العين والحاء. شاب شب على الهدى، ودب إلى الندى، وحث في طلب العلم، ودب في حمى الكرم والحلم، فخطب ودرس، وسرى إلى المعالي وما عرس، ما وصل هلاله إلى الإبدار، ولا انفصل زلاله عن الإكدار حتى قصف غصنه المائل، وخسف بدره الكامل، وفجع به أبوه وعمه، ودفع إلى كل منهما فيه همه وغمه، فعطلت غصون المنابر من ورقائه، وخملت فنون المدارس من إلقائه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ... من شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة. ومولده في غالب الظن في شهر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبع مئة. كان هذا تقي الدين أبو حاتم قد نشأ أحسن نشأة، وربي خير مربى، اجتهد جده قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى لما كان عنده بدمشق، وحفظه القرآن، و" التنبيه "، و" العمدة " في الأحكام. وحفظ هو بالديار المصرية كتاب " جمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الجوامع " لعمه قاضي القضاة تاج الدين. وولاه السلطان مدارس والده وخطابة جامع ابن طولون، فقام بجميع ذلك أتم قيام، وسد وظائفه كلها على أحسن نظام، ولبس تشريفاً في دمشق وألقى به الدرس في العادلية في حياة جده سنة ست وخمسين وسبع مئة، وعمره يومئذ دون الاثنتي عشرة سنة. وعلى الجملة، فكان من نجباء الأبناء، ولكن جاءه أجله مبكراً. ولما مات توجه والده إلى الحجاز ولحق بالركب الرحبي، ولم يلق بعده قراراً، وضاقت رحاب القاهرة به، وهو معذور في هذا الولد إذا ضاقت به الأرض فضلاً عن البلد. وكتبت إلى عمه قاضي القضاة تاج الدين أعزيه بقصيدة هي: الموت ختم يا أبا حاتم ... وغير مستثنى بنو آدم وليس تنجو من ورود الردى ... لا نفس مخدوم ولا خادم وكل عمر فله عروة ... ولا بد أن تفضي إلى فاصم والموت يقظان لهذا الورى ... وكلنا في غفلة النائم كالذود في الرعي به غفلة ... عن ملتقى جزاره الغاشم وكلنا يسعى إلى غاية ... لا بد من إدراكها اللازم ونشرب الكأس التي ذقتها ... من كف ساق للمنى حاسم وقد تساوى الناس في شربها ... تأتي على المحسن والجارم لهفي على نجمك لما هوى ... وليل شعر للصبا فاحم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 لهفي على علمك ذاك الذي ... قد كنت فيه ندرة العالم ودرسك الفقه الذي قال في ... هـ الناسي ما دار على الدارمي كأن من جدك فيه غدا ... جدك يمليه على الراقم كذلك التفسير قالوا أبو ... حيان حي أو أبو حاتم كم منبر تحتك يهتز من ... بلاغة ما حازها الغانمي تملي عليه خطباً شجعها ... كالدر يزهى في يد الناظم فصاحة يعجب من لفظها ال ... جاحظ والراغب والحاتمي وأنت في أعلاه قمرية ... وذاك مثل الغصن الناعم فما لنا اليوم ولا للعلا ... ولا دروس العلم من راحم وكلنا بعدك في ضيعة ... كالذود إذ أمسى بلا سائم لهفي على الشيخ أبيك الذي ... تركته بعدك كالهائم قد كان على بلواه في غفلة ... بل كان في إغفاءة الحالم فاعتاقه صرف الردى دون ما ... أمله في ظنه الزاعم قد كنت منه مثل ما قال عب ... د الله في أمر ابنه سالم جلدة بين العين لكنه ... راح بأنف في الورى راغم هج إلى مكة من حزنه ... يعض كف النادم السادم وأم بيت الله مستصرخاً ... في الضر بالصفوة من هاشم رحت إلى الله خفيف المطا ... غير مسيء لا ولا آثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 تصافح الولدان والحور في ... جنات عدن برضى دائم فأين تلك الحركات التي ... أنحى عليها الموت بالجازم لهفي على نفسي فقد كنت لي ... ركناً محته صدمة الهادم أراك في الأنصار لي عدةً ... ولم أخل أن الردى فاطمي وكنت من شوق كطير قد ان ... قض إلى منهله حائم وكان ذاك البعد من قبل ذا ... دخان هذا الضرم الجاحم كم قلت لما أن سمعت الذي ... يسرني من خبر القادم ترى أرى الناشي وقد خصني ... بنظمه الزاهي على الناجم وهل أرى ذاك المحيا الذي ... بارقه راق لدى السائم والآن لا الصبر غدا نافعي ... وليس من بحر البكا عاصمي تعز يا مولاي عن ذاهب ... مضى به سيل ردى عارم وأنت في بيت دراريه أم ... ثال الذراري في الدجى العاتم قد زينوا الدهر الذي ضمهم ... فراح ذا ثغر بهم باسم واصبر لخطب قد عرا واحتسب ... تظفر بأجر الصائم القائم والله يسقي ترب من قد مضى ... صوب الحيا من جوده الساجم محمد بن أحمد بن بصخان بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، وبعدها خاء معجمة وألف ونون، ابن عين الدولة، شيخ القراء بدمشق، الشيخ الإمام بدر الدين أبو عبد الله بن السراج الدمشقي، المقرئ النحوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 سمع الكثير بعد الثمانين من أبي إسحاق اللمتوني، والعز بن الفراء، والإمام عز الدين الفاروثي، وطائفة. وعني بالقراءات سنة تسعين وبعدها، فقرأ للحرميين وأبي عمرو على رضي الدين بن دبوقا، ولابن عامر على جمال الدين الفاضلي، ولم يكمل عليه ختمة الجمع، ثم كمل على الدمياطي وبرهان الدين الإسكندري، وتلا لعاصم ختمة على الخطيب شرف الدين الفزاري، ولازمه مدةً، وقرأ عليه القصيدة لأبي شامة. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: وترددنا جميعاً إلى الشيخ المجد نبحث عليه في القصيد، ثم إنه حج غير مرة، وانجفل عام سبع مئة إلى مصر، وجلس في حانوت تاجر، وأقبل على العربية فأحكم كثيراً منها، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدى لإقراء القراءات والنحو، وقصده الطلبة، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام " الحمير لتركبوها "، وبابه ورآه سائغاً في العربية، والتزم إخراجه من القصيد، وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقل به أحد، وقال: أنا قد أذن لي في الإقراء بما في القصيد، وهذا يخرج منها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فقام عليه شيخنا المجد وابن الزملكاني وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة ابن صصرى بحضورهم، وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء بذلك، وأمره بموافقة الجمهور، وذلك في عشري شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبع مئة، فتألم وامتنع من الإقراء جملة. ثم إنه استخار الله تعالى في الإقراء بالجامع، وجلس للإفادة، وازدحم عليه المقرئون وأخذوا عنه، وأقرأ العربية. قال: وذهنه متوسط لا بأس به، ثم ولي بلا طلب مشيخة التربة الصالحية بعد مجد الدين التونسي بحكم أنه أقرأ من بدمشق في زمانه، انتهى. قلت: وكان بهي المحيا، يطوي السكون طيا، ظاهر الوقار، بادي التكبر على الناس والاحتقار، نظيف اللباس، طيب الرائحة في الانطلاق والاحتباس، ظريف العمامه، كأنه من بياض ثيابه حمامه، له قعدد في جلوسه، وتسدد في ناموسه، وكذا إذا مشى لا يلتفت ولو زحمه الليث والرشا. وإذا كان في حالة تصدره للقراءة يتلبس بالتوفر على التوقر والأناة، لا يتنحم ولا يتلفت لا يعير بصره وسمعه غير من يقرأ عليه إن عطس أو شمت، مشغولاً بمن قد أمه قدامه، مجموع الحواس على القارئ الذي جعله إمامه أمامه: ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل ولم يزل على حاله إلى مات به شاطبي عصره، وأنزل إلى قعر لحد من علو مجده في قصره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. واشتهر عنه أنه كان لا يأكل اللحم إلا مصلوقاً والحلاوة السكرية لا غير. وقيل إنه لم يأكل المشمش في عمره؛ ومن شعره في المشمش: قد كسر المشمش قلبي ولم ... أكسر له لما أتى قلبا لسعره الغالي وعسري معاً ... وأستحي أن ألقط الحبا وكان له ملك يرتفق بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهماً ولا طلب جهةً كمال أهليته. وكان يدخل الحمام وعلى رأسه قبع لباد غليظ إذا تغسل رفعه وإذا أبطل قلب الماء أعاده، فأفاده ذلك ضعفاً في بصره، وكان طيب النغمة. دخل يوماً هو والشيخ نجم الدين القحفازي في درب العجم وفيه ظروف زيت، فعثر في أحدها، فقال نجم الدين: تسعنا في ظرف المكان. فقال له الشيخ بدر الدين: لا بل تمشي بلا تمييز، فقال: إن ذا حال نحس. وقد أجاز لي رحمه الله تعالى جميع ما صنفه ونظمه بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وأنشدني شمس الدين محمد الخياط الشاعر، قال: أنشدني من لفظه لنفسه: كلما اخترت أن ترى يوسف الحس ... ن فخذ في يمينك المرآة وانظرن في صفائها تبصرنه ... واعذرن من لأجل ذا الحسن باتا لا يذوق الرقاد شوقاً إليه ... قلق القلب لا يطيق ثباتا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 قلت: كان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى لما سمع كلام الناس في كلامه هذه المادة مثل قول القائل: ما أخذ المرآة في كفه ... ينظر فيها للجمال المصون إلا رأى الشمس وبدر الدجى ... ووجهه في فلك يسبحون وقول أبي الحسن بن يونس بن عبد الأعلى: يجري النسيم على غلالة خده ... وأرق منه ما يمر عليه ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه وقول الآخر: وأهيف ظل بالمرآة مغرى ... يواظب رؤية الوجه المليح يقول طلبت معشوقاً مليحاً ... فلما لم أجده عشقت روحي وقول الآخر: أخذ المرآة بكفه كيما يرى ... فيها محاسن وجهه فتحيرا ما كان يدري ما جنت عيني على ... قلبي فحين رأى محاسنه درى وقول الآخر: عجبت لبدر التم أصبح عاشقاً ... هلالاً وأمسى مغرماً فيه قلبه ولو أخذ المرآة ينظر وجهه ... لأبصر ما يسليه عمن يحبه وقول ابن الساعاتي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 يقول ماذا ترى وفي يده ... مرآته وهو ناظر فيها قلت أرى البدر في السماء وقد ... أفاض نوراً على نواحيها وقلت أنا في هذه المادة: لو أخذت المرآة يا من سباني ... لترى طلعة سمت كل بدر وتحققت أن عذري باد ... في غرامي وفي تهتك ستري وللناس في هذا كثير، وهذا القدر كاف. وأراد الشيخ بدر الدين أن ينظم مثل ذلك في رقته وطلاوة تراكيبه فأتى بما أتى وزاد علواً في الثقالة وعتا. وأنشدني شمس الدين الخياط أيضاً، قال: أنشدني لنفسه في مليح دخل الحمام مع عمه، فلما جعل السدر في وجهه قلب الماء عليه عبد أسود كان هناك: وبروحي ظبي على زجهه السد ... ر وقد أغمض الجفون لذلك قائلاً عند ذاك حين أتاه ... يسكب الماء عليه أسود حالك من ترى ذا الذي يصب أعمي ... قلت بل ذا الذي يصب كخالك قلت: قد حقق الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى ما قيل عن شعر النحاة من الثقالة، على أنني ما أعتقد أن أحداً رضي لنفسه أن ينظم هكذا، والذي أظنه أنه تعمد هذه التراكيب القلقة وإلا فما في طباع أحد يعاني النظم هذا التعاظل، ولا هكذا التعسف ولا هذه الركة، ولكني المعاني جيدة، فهي عروس تجلى في ثياب حداد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، شيخنا الإمام حافظ الشام. كان في حفظه لا يجارى، وفي لفظه لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، عرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبه وانتماؤه. جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مونة التطويل في التأليف، وكتب بخطه ما لا يحصى، ولا يوقف له على حد يستقصر ولا يستقصى. ومنذ انتشا لم يضع له زمان، ولا ظفر الفراغ منه بأمان، أخذنا من فوائده الجليلة وفرائده الجميله، وأضحت دمشق بعده من فنه دمنةً والعيون كليله: أطل على الأخبار من كل وجهة ... وشارفها من كل شرق ومغرب وأضر قبل موته بسنوات، وحصل للناس بذلك في تلك الحال هفوات. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الذهبي وقد ذهب، ونهب الأجل من عمره ما وهب. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 ومولده سألته عنه فقال: في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وست مئة. وقلت أنا أرثيه: لما قضى شيخنا وعالمنا ... ومات فن التاريخ والنسب قلت عجيب وحق ذا عجب ... كيف تخطى البلى إلى الذهب وقلت فيه أيضاً: أشمس الدين غبت وكل شمس ... تغيب وزال عنا ظل فضلك وكم ورخت أنت وفاة شخص ... وما ورخت قط وفاة مثلك وارتحل وسمع بدمشق وبعلبك وحمص وحماة وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغيرها. سمع بدمشق من عمر بن القواس وغيره، وببعلبك من عبد الخالق بن علوان وغيره. وبالقاهرة من الحافظين ابن الظاهري والشيخ شرف الدين الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن أبي المعالي الأبرقوهي. وسمع بالإسكندرية من الغرافي وغيره. وسمع بمكة من التوزري وغيره، وسمع بنابلس من العماد بن بدران، وباشر تدريس الحديث بالتربة الصالحية بدمشق عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الشريشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 أخبرني شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة قال: عدته ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: في السياق. وكان قد أضر قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأن بصري لا زال ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه. اجتمعت بع غير مرة، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه. ولم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة والسلف وأرباب المقالات. وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواية وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده. ومن تصانيفه " تاريخ الإسلام "، وقد قرأت عليه منه المغازي والسيرة النبوية إلى آخر أيام الحسن، وجميع الحوادث إلى آخر سنة سبع مئة. وكانت القراءة في أصله بخطه، و" تاريخ النبلاء "، ونقل عني فيه أشياء، و" الدول الإسلامية " و" طبقات القراء " سماه: " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار "، تناولته منه، وأجازني روايته عنه، وكتبت أنا عليه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 عليك بهذه الطبقات فاصعد ... إليها بالثنا إن كنت راقي تجدها سبعةً من بعد عشر ... كنظم الدر في حسن اتساقي تجلي عنك ظلمة كل جهل ... به أضحى مقالك في وثاق فنور الشمس أحسن ما تراه ... إذا ما لاح في السبع الطباق و" طبقات الحفاظ " مجلدان، " ميزان الاعتدال في الرجال " في ثلاث أسفار، كتاب " المشتبه في الأسماء والأنساب "، " نبأ الدجال " مجلد، " تذهيب التهذيب "، " اختصار تهذيب الكمال " للحافظ شيخنا المزي، اختصار كتاب " الأطراف " أيضاً للمزي، " الكاشف "، " اختصار التذهيب "، " اختصار السنن الكبير " للبيهقي، تنقيح أحاديث " التعليق " لابن الجوزي، " المستحلى في اختصار المحلى "، المقتنى في الكنى "، " المغني في الضعفاء "، " العبر في خبر من غبر "، مجلدان، " اختصار المستدرك " للحاكم، " اختصار ابن عساكر " في عشرة أسفار، " اختصار تاريخ الخطيب " مجلدان، وملكتهما بخطه، " اختصار تاريخ نيسابور " مجلد، " الكبائر " جزءان، " تحريم الأدبار " جزءان، " أخبار السد "، " أحاديث مختصر ابن الحاجب " ملكته بخطه، " توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق "، " نعم السمر في سيرة عمر "، " التبيان في مناقب عثمان "، " فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب "، قرأتهعليه كاملاً، " معجم أشياخه "، وهم ألف وثلاث مئة شيخ، وملكته بخطه، " اختصار كتاب الجهاد " لبهاء الدين بن عساكر، " ما بعد الموت " مجلد، " اختصار كتاب القدر " للبيهقي ثلاث مجلدات، " هالة البدر في عدد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 أهل بدر "، " اختصار تقويم البلدان " لصاحب حماة، " نفض الجعبة في أخبار شعبة "، " قض نهارك في أخبار ابن المبارك "، " أخبار أبي مسلم الخراساني "، وله في تراجم الأعيان في كل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربعة، ومن جرى مجراهم، ولكنه أدخل الكل في " النبلاء "، ومن تكلم فيه، وهو موثق كتبته من خطه، وقرأته عليه، و" الثلاثين البلدية " كتبتها من خطه، وقرأتها عليه. وكتب بخطه من الأجزاء شيئاً كثيراً، وملكت منها جملة. أنشدني من لفظه لنفسه، وجود ما شاء: إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعاً لوفاة مثلي فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي فنظمت أنا وأنشدته: خليلك ما له في ذا مراد ... فدم كالشمس في عليا محل وحظي أن تعيش مدى الليالي ... وأنك لا تمل وأنت تملي وأنشدني من لفظه لنفسه: تولى شبابي كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلا المصلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 قلت: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول الأول: ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلا قطعت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى قلت: ولكن شيخنا العلامة رحمه الله تعالى زاد عليه المنحنى، وهي زيادة مليحة، زيادة من له ذوق، ولو كان لي في قوله حكم لقلت: " ومن وصل المنحنى والنقا " وهو أحسن، وكذا في قول الأول لكان في حكم لقلت: " ليقطع في المدى ". وكتب شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى إلى شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولعله آخر شعر نظمه: تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالك بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلو مدى كمالك ففي الأحكام أقضانا علي ... وفي الخدام مع أنس بن مالك وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتوى كسفيان ومالك وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك تشفع بي أناس في فراء ... لتكسوهم ولو من رأس مالك لتعطى في اليمين كتاب خير ... ولا تعطى كتابك في شمالك ثم إنه استطرد إلى مديح ولده قاضي القضاة تاج الدين، فقال بعد ذلك: والمذهبي إدلال الموالي ... على المولى لحلمك واحتمالك وأنشدني من لفظه لنفسه: لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسي الماضي نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وأنشدني من لفظه لنفسه: العلم: قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالةً ... بين الرسول وبين رأي فقيه وأنشدني من لفظه لنفسه: أفق يا معنى بجمع الحطام ... ودرس الكلام ومين يصاغ ولازم تلاوة خير الكلام ... وجانب أناساً عن الحق زاغوا ولا تخدعن عن صحيح الحدي ... ث فما في محق لرأي مساغ وما للتقي وللبحث في ... علوم الأوائل يوماً فراغ بلاغاً من الله فاسمع وعش ... قنوعاً فما العيش إلا بلاغ ولما توفي شيخنا علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - تولى الشيخ شمس الدين - رحمه الله تعالى - تدريس المدرسة النفيسية وإمامتها عوضاً عنه، فكتبت له توقيعاً بذلك، وهو: " رسم بالأمر العالي لا زالت أوامره المطاعة تطلع في أفق المدارس شمسا، وتذيل بمن توليه عن المشكلات لبسا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الشمس في كذا وكذا، علماً بأنه علامة، وحافظ متى أطلق هذا الوصف كان علماً عليه وعلامة، ومتبحر أشبه البحر إطلاعه والدر كلامه، ومترجم رفع لمن ذكره في تاريخ الإسلام أعلامه، فالبخاري طاب أرج ثنائه عليه، ومسلم أول مؤمن بأن هذا الفن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 انتهى إليه. وأبو داود يحمد آثاره في سلوك سنن السنن، والترمذي يخال أنه فداه بنور ناظره من آفات دار الفتن، والنسائي لو نسأ الله في أجله لرأى منه عجبا. وابن ماجه لو عاين ما جاء به ماج له طربا. فليباشر ما فوض إليه مباشرة تليق بمحاسنه وتدل طالبي السواد على مظانه وأماكنه، ويبين لهم طرق الرواية. فالفقه حلة وعلم الحديث علمها وطرازها، والرواية حقيقة، ومعرفة الرجال مجازها، ويتكلم على الأسانيد، ففي بعض الطرق ظلم وظلام، ويورد ما عنده كامن الجرح والتعديل إن بعض الكلام فيه كلام، ويوضح أحوال الرواة الذين سلفوا فليس ذاك بعيب. وما لجرح بميت إيلام، ويتم بما أطلع عليه من تدليسهم فما أحسن روضةً هو فيها تمام، ويسرد تراجم من مضى من القرون التي انقضت " فكأنها وكأنهم أحلام "، ويحرص على اتصال السند بالسماع ليكون له من الورق والمدار " رصدان ضوء الصبح والإظلام ". ولا يدع لفظة يوهم إشكالها، " فالشمس تمحو حندس الأوهام ". حتى يقول الناس إن شعبةً منك شعبه، وأبا زرعة لم يترك عنده من الفضل حبه، وابن حزم ترك الحزم وما تنبه، وابن عساكر توجس منك رغبه، وابن الجوزي عدم لبه وأكل الحسد قلبه. ولا تغفل عن إلزام الطلبة بالتكرار على المتون الصحيحة دون السقيمة فيما يستوي الطيب والخبيث. وذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 من حفظ على أمتي أربعين حديثاً "، وإن كان الحفظ بمعنى الجمع فالعمل بظاهر الحديث، فأنت ذو الصفات التي اشتهرت، والفضائل التي بهرت، والدربة التي اقتدرت على هذا الفن ومهرت، والفوائد التي ملأت الأمصار وظهرت، والحجج التي غلبت الخصوم وقهرت. لم تضع وقتاً من زمانك إما أن تسمع أو تلقي أو تنتقي، وإما أن تجتهد في نصرة مذهب الشافعي حتى كأنك البيهقي، وإما أن يصنف ما يود بقي بن مخلد لو عاش له وبقي. وأنت أدرى بشروط الواقف رحمه الله تعالى، فارعها وابتع أصلها وفرعها، وأهد الدعاء له عقيب الميعاد، وأشركه مع المسلمين في ذلك فآثار الرحمة تلمع على هذا السواد، واذكر من تقدمك فيها بخير ففضله الباهر كان مشهورا، واسأل له من الله الجنة ليسرك يوم القيامة أن تراه علماً منشورا. والوصايا كثيرة، ومثلك لا ينبه، ولا يقاس بغيره ولا يشبه، وملاك الأمور تقوى الله تعالى، وقد سلكت منها المحجه، وملكت بها الحجة، فلا تعطل منها جيدك الحالي، وارو ما عندك فيها فسندك فيها عالي، والله يمدك بالإعانة، ويوفقك للإنابة والإبانة، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 محمد بن أحمد بن عثمان ابن إبراهيم بن عدلان بن محمود بن لاحق بن داود، الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله الكناني المصري الشافعي، المعروف بابن عدلان. سمع من العز بن الصقيل الحراني، ومن النظام محمد بن الحسين بن الخليلي، مشيخة عمر بن طبرزد تخريج ابن الدبيثي بإجازتهما منه، ومن محمد بن إبراهيم بن ترجم، ومن الدمياطي أخيراً. وأجاز له عبد الله بن الواحد بن علاق، وعبد الرحيم بن خطيب المزة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وغيرهم. وتفقه على الشيخ وجيه الدين البهنسي. وقرأ في الأصول على الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني شارح " المحصول ". وقرأ " المفصل " على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وكان قد قرأ القرآن على الصفي خليل بن أبي بكر المراغي. وكان في الفقه بارعاً، وإلى استحضار الفروع ونقلها مسارعاً. لو عاصره المزني غرق قطره في بحره، أو الماوردي لاستطاب نفحة ذكره، أو الغزالي لسدى تحت طاقه، أو القاضي أبو الطيب لقضى أن المرارة ساعة فراقه. شرح " مختصر المزني " وما أظنه كمله، ولو أتمه طرز به المذهب وجمله، إلا أنه مع عظم قدره، وسمو بدره، كان الملك الناصر يكرهه، ويصده بالكلام المؤلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 ويجبهه، لأنه أفتى الجاشنكير في تلك المرة بما أفتاه من خلعه، وكان ذلك سبباً إلى صرم ثمره، وشرط طلعه. ولم يزل إلى أن تسجى، وعد فيما لا يرجى. وتوفي - رحمه الله تعالى - بين العيدين في سنة تسع وأربعين في طاعون القاهرة. ومولده سنة نيف وستين وست مئة. قال القاضي تاج الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي: أفتى ابن عدلان في واقف وقف مدرسة على الفقهاء ومدرس ومعيد وجماعة عينهم، قال: ومن شروط المذكورين أن لا يشتغلوا بمدرسة أخرى غير هذه المدرسة ولا يكون لواحد منهم تعلق بمدرسة أخرى ولا مباشرة تجارة ولا بزازة يعرف بها غير تجارة الكتب، ولا ولاية بأنه يجوز للمقرر في هذه المدرسة الجمع بينهما وبين إمامة مسجد قريب منها، ووافقه شيخ الحنفية في زمانه قاضي القضاة بالديار المصرية علاء الدين علي بن عثمان المارديني رحمه الله تعالى، وهذا فيه نظر؛ لنص الشافعي على أن الإمامة ولاية حيث يقول ولا أكره الإمامة إلا من جهة أنها ولاية، وأنا أكره سائر الولايات. قال: ومن محاسن ابن عدلان أنه سئل أيهما أفضل أبو بكر أو علي في مكان لا يمكنه التصريح بمذهب أهل السنة، فقال: علي أفضل القرابة وأبو بكر أفضل الصحابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 قلت أنا: جواب حسن، لكنه لا يرضي السائل من كل وجه، لأن علياً رضي الله عنه من الصحابة، وأحسن ما مر بي في ذلك قول ابن الجوزي وقد سئل من أفضل الخلق بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر ومماليك الخليفة واقفون فرقتين، فقال: من كانت ابنته تحته. فقالت كل فرقة قال بتفضيل من ذهبنا إليه، وتركهم في الخصام، ونزل عن المنبر حتى لا يستفسروه في الضمير إلى من يعود، وهذا في غاية الحسن، لأنها عبارة أوهمت كل فرقة نصرة مذهبها. قلت: وتوجه الشيخ شمس الدين رسولاً إلى اليمن في أيام سلار والجاشنكير، وباشر الوكالة لأمير موسى بن الصالح علي بن الملك المنصور، وهذه أيضاً من أسباب الجاشنكير، فنقم السلطان عليه هذا الأمر، وبقي إلى آخر أيامه، وهو عنده ممقوت. قرأ له في وقت القاضي شهاب الدين بن فضل الله قصةً على السلطان، فقال: قل له: الذين كانوا يعرفونك ماتوا، ثم إنه - رحمه الله تعالى - ولي قضاء العسكر في أيام الناصر أحمد لما حضر من الكرك إلى أن مات ودرس بعدة مدارس، وأفتى وولي نيابة القضاء للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسعردي الشيخ الإمام أبو عبد الله شمس الدين لمعروف بابن اللبان الدمشقي. سمع بدمشق من أبي حفص عمر بن عبد المنعم بن القواس، وانجفل إلى مصر، وسمع بها من الدمياطي، ومن عبد الرحمن بن عبد القوي بن عبد الحكيم الخثعمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 رطهرمس من الجيزية، وحدث بالديار المصرية، وسمع منه الطلبة، وخرج له شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي جزءاً من حديثه، وتفقه وبرع وأخذ في الإشغال وشرع، ولم يترك ابن اللبان لغيره في الفقه زبدة. وروى الحديث، وكان لحلاوة روايته كأنما أسند عن شهدة، ودرس بزاوية الشافعي في جامع عمرو بن العاص، وعقد مجالس الوعظ، فاشتمل عليه العام والخاص، واشتهر ولا شهرة ابن الجوزي في بغداد، وطارت سمعته كأنه ابن سمعون الأستاذ. ولم يزل على حاله إلى أن نقل ابن اللبان إلى الجبانه، وراح بفقره إلى الغني سبحانه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. ومولده في حدود سنة خمس وثمانين وست مئة. وكان قد قام عليه في وقت قاضي القضاة القزويني بالديار المصرية، وربما أنه كفره في سنة ست ثلاثين وسبع مئة وقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله وناصر الدين خزندار الأمير سيف الدين تنكز وغيرهما من أصحابه فسكت عنه وعمل في ذلك كمال الدين الأدفوي مقامةً. محمد بن أحمد بن علي الإمام المفتي شيخ القراء شمس الدين أبو عبد الله الرقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 سمع الحديث ورافق الطلبة، ودار على المشايخ، وتميز في الفقه والقراءات وغير ذلك. وتلا بالسبع على الفاروثي وابن مزهر وغيرهما. وأقرأ ودرس وأفتى، وروى الكثير عن ابن البخاري وطبقته. وتوفي - رحمه الله تعالى - في غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة سبع وستين وست مئة. محمد بن أحمد الإمام المفتي الشيخ بدر الدين بن الحبال الحنبلي، فاضل الحنابلة في عصره. سألت عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، فقال لي: فقيه فاضل، كان ينوب للقاضي تقي الدين الحنبلي. توفي - رحمه الله تعالى - في سلخ ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. محمد بن أحمد بن شويش الفيه نجم الدين محتسب قلعة الجبل بالقاهرة الحنفي. كان كثير التلاوة، وفيه مروءة وخير. توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن شوال سنة ثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 محمد بن أحمد بن عبد الرحيم الإمام شمس الدين أبو عبد الله المزي الموقت بالجامع الأموي بدمشق. كان قد حفظ " الشاطبيه "، وينقل القراءات، وعلى ذهنه عربيه، برع في وضع الإسطرلابات والأرباع، وتأنق فيها ودقق من حسن الرسوم والأوضاع، لم يلحقه أحد في زمانه في ذلك، ولم يسلك طريقه فيه سالك، وكان على ذهنه شيء من حيل بني موسى، ولديه صنائع لو يعيش بها لم يلق بوسا، قل أن رأيت مثله في ذكائه أو وصل أحد فيما يعانيه إلى مدى اعتنائه. ولم يزل على حاله إلى أن ذاق المزي طعم الموت خلا، وترك أقرانه على إثره وولى. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة خمسين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين فما فوقها. قرأ أولاً على الشيخ شمس الدين الأكفاني، وكان يشكر ذهنه وإتقانه لما يعلمه بيده، ثم انتقل عائداً إلى الشام، وسكن دمشق، وكان أولاً يوقت بالربوة، ثم انتقل إلى الجامع، وكان قد برع في وضع الاسطرلابات والربع، ولم أر أحسن من أوضاعه، ولا أظرف ولا أتقن ولا أكثر تحريراً، كان يباع اسطرلابه في حياته بمئتي درهم، وربعه بخمسين درهماً وأكثر، ولعله إذا تقادم زمانه غلا أكثر من ذلك. وبرع في دهن القسي، ومن ملازمته للشمس نزل في عينيه ماء، ثم أنه قدحه فأبصر بالواحدة، وله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 رسائل في الإسطرلاب ورسالة سماها " كشف الريب في العمل بالجيب "، وله نظم أيضاً. محمد بن أحمد بن يمن قاضي القضاة شمس الدين الحنفي الحاكم بطرابلس. هو أول من ولي قضاء الحنفية بطرابلس بعد السلطان الملك الناصر محمد. ولم يكن فيها في أيامه إلا حاكم واحد شافعي، وصل إليها في غالب ظني إما في أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مئة، أو في أواخر سنة ثلاثين وأربعين. ولم يزل على حاله إلى أن وجد في بيته مذبوحاً بطرابلس، وقد أخذ ما في بيته من المال، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن عمر بن إلياس الصدر عز الدين ابن العدل شهاب الدين الرهاوي. شاب بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، وكان كاتباً جيداً، باشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكانت له خصوصية بالصاحب أمين الدين، فلما أمسك الصاحب بمصر، اعتقل عز الدين بالمدرسة العذراوية. وتوفي بها في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 محمد بن أحمد بن مفضل ابن فضل الله المصري القاضي الرئيس علم الدين بن قطب الدين. تقدم ذكر والده في الأحمدين. وكان هذا علم الدين أخيراً ناظر الجيوش المنصورة بدمشق، وكان في نفسه رئيساً، قضى عمره في نعمى عجيبة، إلا أنها ما خلت من بوسى، يتأنق في المأكل والملابس. ويتخرق بالتجمل والمجالس، بنفس يتدفق بحرها، ويتألق وفرها، يبالغ في إكرام من يعاشره، ويهش لوفادته عليه ويكاشره. قد اشتهر بالتوسع في الأطعمة والمشارب، والتنقل في النزه والمسارب، قل من رئي في دمشق من يدانيه في سماطه، أو تنخرط لآلئ حشمته في أسماطه. من تعاطى تشبهاً بك أعيا ... هـ ومن دل في طريقك ضلا وكانت مساعيه دقيقه، ومجازاته في المناصب الكبار حقيقه، وثب من الثرى إلى الثريا، وطوى شقة المشقة طيا، وتنقل في الوظائف الكبار، وتوقل هضبات المجد من غير اعتناء ولا اعتبار، كأن له غصن الرياسة يجنى ويهتصر، أو كأن له طريقاً إلى العلياء تختصر. ولم يزل في سعاداته، وما ألفه في اللذات من عاداته، إلى أن دك علمه، وفك من التصرفات قلمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة ستين وسبع مئة. ودفن في تربة بني هلال بالصالحية. كان هذا القاضي علم الدين من بقايا رؤساء دمشق، رأى الناس وصحبهم وعاشرهم وخالطهم. وكان جميل الصورة، أنيق الشكل، مديد القامة، حسن البزة، نظيف اللباس، عاطر الرائحة، يتجمل في الملابس، ويتأنق في المآكل، ويتوسع في المطاعم والمشارب، يمد في كل يوم من الطعام ألواناً، وينفق على مخالطيه المال مجاناً. أول ما علمته من أمره أنه كان في خدمة عمه القاضي محيي الدين كاتب قبجق، وسيأتي ذكره في مكانه، وكان يميل إليه ويركن إلى تربيته له دون والده قطب الدين، وكان يتوجه معه إلى قسم النواحي، وينوبه في ديوان الأمير سيف الدين تنكز. ولما توفي قطب الدين رتب هو مكان والده في عمالة خانقاه الشميساطي. ثم إنه بعد ذلك بمدة رتبة الأمير سيف الدين تنكز في استيفاء ديوانه، وأضاف إليه عمالة الأشراف، وفي ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وكان مداخلاً سؤوساً، خبيراً بالمساعي عارفاً بالتوصل درباً بالتوسل، فداخل حمزة التركماني، وقد انفرد بالأمير سيف تنكز، وقد احتوى عليه، وكان يشكره للأمير سيف الدين تنكز ويرشحه عنده لكل وظيفة، ويستكتبه عنه في مكاتبات خاصة ما يرى أن كاتب السر يطلع عليها فيأتي فيها بالمراد فيعجبه ذلك. ولم يزل به إلى أن أحسن له أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 يوليه كتابة سر دمشق، فكتب فيه إلى السلطان وشكره وبالغ في أمره، فأجابه الملك الناصر محمد إلى ذلك، وجهز توقيعه بكتابة السر بدمشق في سنة ست وثلاثين وسبع مئة ثاني شعبان المكرم، وكان قد باشرها في هذا اليوم قبل وصول توقيعه الشريف، ووصل التوقيع والتشريف من مصر في حادي عشري الشهر المذكور. وتولاها عوضاً عن القاضي جمال الدين عبد الله بن الأثير، فوليها وعملها على القالب الجائر. وخضع الناس له، وتمكن من قلب الأمير سيف تنكز، وكان يعجبه شكله وكتابته وتأنيه. إلى أن لم يكن عنده في دمشق غيره، وسلم قياده إليه، وتوجه معه إلى مصر، وشكره للسلطان، وبالغ في وصفه، فعظمه السلطان وألبسه تشريفاً بطرحة ولم يكن ذلك لغيره، وحضر بريد من الشام، فدخل به القاضي شهاب الدين بن فضل الله ليقرأه، فطلب السلطان علم الدين هذا، وقرأه عليه، فما حمل القاضي شهاب الدين ذلك، وجرى له مع السلطان ما جرى، وقدم الدواة الأمير سيف الدين تنكز لعلم الدين هذا بين يدي السلطان، فزادت عظمته عند الناس. ولم يزل كذلك وهو في أوج سعده إلى أن تغير عليه في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فقبض عليه وضربه بالعصي ضرباً مبرحاً، واحتاط على موجوده، واعتقله مدة، ثم أفرج عنه وأمر أنه لا يخرج من داره، ولا يجتمع بأحد، فسكن عند حمام السلاري، وكان ليله ونهاره في تربة الكاملية المجاورة للجامع الأموي، وأقام على ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 مدة إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز. فقال السلطان للأمير بشتاك: إذا وصلت إلى دمشق، اطلب العلم بن القطب الذي كان مستوفي تنكز، فهو يدلك على جميع ماله. ولما وصل بشتاك إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، طلب القاضي علم الدين واستعان به على تطلب أموال تنكز، وتحكم علم الدين في تركة تنكز، وأخذ منها غالب ما وجده فيها من الأصناف التي أخذت منه، ودخل في الأمير بشتاك وخدمه، ودخل معه إلى مصر، فعينه السلطان لاستيفاء الصحبة بالديار المصرية، وأراد السلطان أن يمكنه ويتسلط على الكتاب، فأداه عقله إلى مصاحبة جمال الكفاة، ومن كان في ذلك الزمان، وداخلهم واتحد بهم، وصافوه. ويئس السلطان منه فتركه ولم يزل في استيفاء الصحبة إلى أن توفي السلطان، ودخل الفخري وطشتمر إلى القاهرة، فسعى معهما في أن يكون ناظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، فوصل إلى دمشق وباشر بها الوزارة، ولكنه تعب فيها تعباً كثيراً، فاستوخم مرعاها، وطلب النقلة من الأمير طقزتمر إلى نظر الجيوش بدمشق، فكتب له، فأجيب إلى ذلك، وحضر توقيعه، فباشر ذلك عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف، فحمد مسراه عند صباح هذه المباشرة، ورأى فيها ما رآه غيره، ودانت له الأيام، وطال عمره فيها، وطاب عرفه. وكان كثير الهدية للمصريين والخدمة لهم، وما جاءت دولة إلا وهو فيها عزيز مكرم لا يبالي بمن ناواه، ولا يعبأ بمن جاراه، يقهر خصومه ولا يدرون سره ولا مكتومه، وباشر هذه الوظائف الثلاث التي هي أكبر مناصب دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 ولم يزل على حاله إلى أن مرض بعلة الربو، فأقام على ذلك قريباً من خمسين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وكان يعتريه وجع المفاصل في كل سنة فأنهكه ذلك، وهرم به وانحنت قامته وضعف. وكنت قد كتبت له توقيعاً بعمالة ديوان الأشراف بدمشق في شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهو: " رسم بالأمر العالي، لا زال يتلقى برفع علمه، ويكسب المناصب فخراً بمن يوليه لكفاية هممه أن يرتب المجلس السامي القضائي علم الدين في كذا، ثقةً بكفايته التي شهدت بها مخائله، ودلت عليها حركاته السعيدة وشمائله، وتكفلت حركاته المباركة أن تبلغه من العليا ما يحاوله، إذ هو الكاتب الذي أضحت نظراؤه في المعدوم معدوده، والبارع الذي مخزومة فضله لا تبيت إلا وهي بالمحاسن مسدوده، والماجد الذي خرج سيادته عن سلفه، فكانت أبواب النقص فيها مردودة. أقلامه في كفه أنابيب يضمها منه خير عامل، وأعنة يصرفها في السيادة بأطراف الأنامل. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً يطلب بها من الله رضاه، ويدخر عمله فيها عنده، فيا حبذا ما يعتمده ويتوخاه، ويحمل لواء الشرف لهذا الديوان، تولى خدمته وتوالاه، وينفق في الفضل من سعة مجده فقد كفاه ما نالته منه كفاه، ويثق بالسعادة التي أظفرته حتى ببركة آل البيت، ويشكر الله على هذه النعمة التي أدخلته في حساب حسبهم الذي هو شرف الحي والميت، مجتهداً على رضا السادة الأشراف بإيصال كل منهم ما يخصه، على اختلاف القسمة، محققاً معرفة بيوتهم الشريفة التي بقاؤها ما بين هذه الأمة نعمه، وتقوى الله تعالى معقل حصين، فلا يلتجئ إلى غيره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وحبل متين فلا يتمسك بغير عروته التي هي سبب خيره، وليقابل هذه النعمة بشكر يوصله إلى ما تستحقه أهليته في ذمتها، وتبلغه الرتب العلية التي لا تنالها النفوس إلا بشرف همتها، والله يتولى عونه فيما ولاه، ويزيده فضلاً إلى فضله الذي أولاه، والاعتماد فيما رسم به على الخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى. وكتبت أنا إليه من القاهرة وهو بدمشق: من جود كفيك تخجل الديم ... ومن محياك تنجلي الظلم يا من سما وارتقى وطال علاً ... حتى غدا وهو في الورى علم ومن صفت للورى مكارمه ... وساعدتها الأخلاق والشيم ومن إذا خط طرسه خجلت ... منه رياض بالزهر تبتسم ومن إذا فاه بالكلام فما ... تراه إلا العقود تنتظم لست أطيل الكلام في صفة ... ترضى بها في علوك الكلم مثلك والله ما رأيت ولا ... يصلح إلا لمثلك الكرم عندي من الشوق والتطلع ما ... يعجز عن بعض وصفه القلم أوحشني وجهك الجميل فلم ... يلذ من بعده لي الحلم فالقلب من لوعة ومن حرق ... مضطرب دائماً ومضطرم والعين أفنى البكاء مدامعها ... فسال منها بعد الدموع دم والله ما سار في الطريق معي ... بعدك إلا البكاء والندم فليتني لا أطعت فيك نوىً ... ولا سعت لي الفرقة قدم وكتبت إليه من مصر أهنئه بكتابة السر بدمشق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 قد علمنا هذا الهناء الذي ... حديثه عند العلا مسند وهو من الأقلام والنفس قد ... حققه الأحمر والأسود يا سيداً كم لمساعيه من ... فضل بإبلاغ العلا يشهد نوديت مرفوعاً إلى رتبةٍ ... إذ أنت فيها علم مفرد محمد بن أحمد بن محمد القاضي الرئيس أمين الدين بن القلانسي التميمي، كاتب السر الشريف بدمشق. تقدم نسبه في ترجمة والده القاضي جمال الدين في الأحمدين. باشر وكالة بيت المال، ثم انتقل إلى كتابة السر في آخر الحال، وما لبث في ذلك إلا دون الثلاث سنين أو ما يزيد، وعزل منها عزلاً غير حميد. وله الأملاك التي تكاثر الأفلاك وتفاخر الدر المنظم في الأسلاك من البساتين المونقه، والأراضي التي تمسي النواظر إلى حدائقها محدقه، والقاعات التي تبهت العيون في زخرفها، وتجتلي محاسن ما رأتها صواحب المكر من يوسفها، وحوانيت لكل آجرة منه أجره، وفي كل ذرة منها لولا الغلو لقلت درة، ومن ذلك ما جره الإرث إليه، ومن ذلك ما أنشأه بما لديه ولكنه " ما أغنى عنه ماله " ولا كثرة ملكه ولا باطن الأرض لمواراته. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ومولده فيما أظن في سنة إحدى وسبع مئة. وله إجازةً من الحافظ شرف الدين الدمياطي وجماعة. وحدث عن ابن مكتوم، وعن عيسى المطعم وغيرهم. وكان قد دخل إلى الديوان في حياة والده، واختص بالقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود لما كان كاتب السر بدمشق، ولما مات والده أعطي من وظائفه نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، ووقع في الدست في أواخر أيام تنكز. ولم يزل يسد الغيبة عن كتابة السر في غيبة من يغيب. وتولى بيت المال مدة. وأخذها منه القاضي علاء الدين الزرعي، فما لبث فيها شهرين فيما دونها، حتى أعيدت إليه. ولما أخذ الزرعي منه الوكالة عوضوه عن ذلك بقضاء العسكر، ولما أعيد إلى الوكالة لم يزل فيها إلى أن رسم له بكتابة السر في دمشق عوضاً عن القاضي ناصر الدين، وذلك في أوائل صفر سنة ستين وسبع مئة. وتوجه القاضي ناصر الدين إلى كتابة سر حلب عوضاً عني، وحضرت أنا إلى دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين على وظيفته وكالة بيت المال، وتوقيع الدست. ولم يزل في كتابة السر إلى أن حضر السلطان الملك المنصور وصلاح الدين محمد بن حاجي في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر، فعزل منها بالقاضي ناصر الدين، ورسم عليه، وأخذ منه مبلغ مئة وخمسين ألف درهم وأكثر، فوزنها، وأباع ما بيده من الوظائف وغيرها، وطرح الرياسة، وصار يمشي بلا كلفة في ملبوس ولا غيره. ولم يبق على ذلك إلا دون السبعة أشهر حتى انقطع يومين. وتوفي - رحمه الله - في التاريخ المذكور. ولم تبق معه مدرسة ولا تصدير في الجامع الأموي، غير أنطار يسيرة نزل عنها لولده، ودفن في تربتهم عند حمام النحاس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 وبلغني أنه كان له أربعة جباة لأملاكه. ومن الغريب أنه هو وأبوه وعماه وجدهم كل منهم ما تعدى الاثنتين وستين سنة، وكان دائماً يقول: أنا ما أعدي أعمار أهلي، فكان الأمر كما قال. وكان - رحمه الله - خاتمة رؤساء بيته. وكان قد قرأ على شيخنا العلامة شهاب الدين أبي الثناء محمود كتابه " حسن التوسل " وكتابه " منح المدح " وغير ذلك. محمد بن أحمد الشيخ الإمام ناصر الدين الحنفي المعروف بالربوة، بضم الراء وسكون الباء الموحدة وبعد الواو المفتوحة هاء. كان من فضلاء الحنفية. وكان بيده تدريس المقدمية داخل باب الفراديس بدمشق، ونزل عنها لولده، واشتغل هو بخطابة جامع الأمير سيف الدين يلبغا - رحمه الله - بعد منازعات ومخاصمات. ولم يزل على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة. وتولي مكانه في الخطابة قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي. وكان الشيخ ناصر الدين المذكور يعرف بالقونوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 محمد بن إدريس بن محمد الشيخ الإمام الفاضل نجم الدين القمولي، بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو وبعدها لام. كان من الفقهاء النبلاء والأعيان الفضلاء، يكاد يستحضر " الروضة "، ويترع من سردها حوضه، وينقل من شرح مسلم كثيراً، ويكر على شرحه مغيراً، ويفعل كذلك في " وجيز " الواحدي في التفسير، ويأتي على ما فيه من تقرير فوائده بأحسن تقريب وتقرير، ويده في العربية والأصول طولى، وإذا تكلم في الفرائض والجبر والمقابلة بلغ المطالب مراماً وسولا. ولم يزل على حاله إلى أن التقم القمولي قبره، وطاب خبره، وعدم خبره. وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص في جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة. قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان لا يستغيب أصلا، ولا يستغاب بحضرته، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وملازماً للعبادة والإشغال، متقللاً من الدنيا، قليل النظر، وأظنه لو عاش ملأ الأرض علماًً. حج وزار وعاد، فتوفي في قوص رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 محمد بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولي بن جنكز خان المغلي، القان غياث الدين خدابندا، معناه بالعربي عبد الله وإنما الناس غيروه فقالوا خربندا، صاحب العراق وأذربيجان وخراسان. ملك بعد أخيه غازان، وتقدم ذكره، وكانت دولته ثلاث عشرة سنة. كان شاباً مليحاً، حسن الوجه صبيحاً، لكن شانه العور قليلاً، وما شان ذلك من حاز وجهاً جميلا. وكان جواداً لا يلحقه في حلبة الكرم جواد، سمحاً تمحو أياديه البيض ما في الدياجي من السواد، محباً للعماره، معرضاً عما يتعلق بالمملكة والإمارة، قد استغرق في اللعب، وأعرض عما يجده الجاد التعب، لعب بعقله الروافض فرفضوه، وأجابهم إلى ذلك لما دعوه إلى الضلالة وفاوضوه. فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل ولم يزل في عيشه لا يرد فيضه، إلى أن فارق الحياة بهيضه. وتوفي في شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسلطانية. وسلطانية بلده أنشأها ورسم بعمارتها، وتوفي بقوص من أبناء الأربعين. وكان قد حضر إلى الرحبة، وحاضرها في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وأخذها بالأمان، وعفا عن أهلها، ولم يسفك فيها دماً وبات بها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 فما أصبح ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان المذكور، وترك لأهل الرحبة أشياء كثيرة من أثقال مجانيق وغيرها. وكان معه يومئذ قراسنقر والأفرام وسليمان بن مهنا، وذكرت في ترجمة جوبان ما اعتمده في أهل الرحبة من الخير في هذه الوقعة، وكان أهل الرحبة، قد حلفوا لخربندا، فلما ارتحل عنها، واستقر الأمر، التمس قاضيها، ونائبها وطائفة حلفت له من السلطان عزلهم فعزلهم لمكان اليمين من خربندا. وكان مسلماً فما زال به الإمامية حتى رفضوه وغير شعار الخطبة، وأسقط منها ذكر الخلفاء سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصمم أهل باب الأزج عليه وخالفوه، فما أعجبه ذلك، وتنمر، ورسم بإباحة دمائهم وأموالهم، فعوجل بعد يومين بهيضة مزعجة، داواه فيها الرشيد بمسهل منظف فخارت قواه. وكان قبل موته قد رجع عن التشيع، وقال بقول أهل السنة. وفي رحيله عن الرحبة يقول علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت: ما فر خربندا عن الرحبة ال ... عظمى إلى أوطانه شوقا بل خاف من مالكها أنه ... يلبسه من سيفه طوقا ولما تشيع السلطان خربندا قال جمال الدين إبراهيم بن الحسام المقدم ذكره يمدحه: أهدي إلى ملك الملوك دعائي ... وأخصه بمدائحي وثنائي وإذا الورى والوا ملوكاً غيره ... جهلاً ففيه عقيدتي وولائي هذا خدابندا محمد الذي ... ساد الملوك بدولة غراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 ملك البسيطة والذي دانت له ... أكنافها طوعاً بغير غناء أغنتك هيبتك التي أعطيتها ... عن صارم أو صعدة سمراء ولقد لبست من الشجاعة حلةً ... تغنيك عن جيش ورفع لواء ملأ البسيطة رحبةً ومهابةً ... فالناس بين مخافة ورجاء من حوله عصب كآساد الشرى ... لا يرهبون الموت يوم لقاء وإذا ركبت سرى أمامك للعدى ... رعب يقلقل أنفس الأعداء ولقد نشرت العدل حتى إنه ... قد عم في الأموات والأحياء فليهن ديناً، أنت تنصرملكه ... وطبيبه الداري بحسم الداء نبهته بعد الخمول فأصبحت ... تعلو بهمته عن الجوزاء وبسطت فيه بذكر آل محمد ... فوق المنابر ألسن الخطباء وغدت دراهمك الشريفة نقشها ... باسم النبي وسيد الخلفاء ونقشت أسماء الأئمة بعده ... أحسن بذاك النقش والأسماء ولقد حفظت عن النبي وصيةً ... ورفعت قرباه على الغرباء فابشر بها يوم المعاد ذخيرةً ... يجزيكها الرحمن خير جزاء يابن الأكاسرة الملوك تقدموا ... وورثت ملكهم وكل علاء ولما رجع عن الترفض وتسنن، وكتب على الدراهم والدنانير الشهادتين وأسماء الصحابة، قال بعض الشعراء في ذلك: رأبت لخربندا اللعين دراهماً ... يشابهها في خفة الوزن عقله عليها اسم خير المرسلين وصحبه ... لقد رابني هذا التسنن كله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 محمد بن أرغون ابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون. كان والده نائب الديار المصرية، وكافل الممالك، وتوجه مع والده لما توجه إلى حلب نائباً، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أمره بالديار المصرية طبلخاناه وأمر معه جماعة منهم الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام والأمير سيف الدين بيدمر البدري نائب حلب وغيرهما، وكان السلطان يحبه ويعظمه ويقربه. وكان حسن الصورة، بديع الجمال، محاسنه للواصف غير محصورة، أخلاقه لطيفه، وحركاته ظريفة، أظن الشيخ أثير الدين أقرأه العربية، ودربه في النكت الأدبية، وله فيها أبيات نظمها غزلاً، وجودها عملاً، وكان يشكره ويوقره، وللمكارم يوفره: أفعال من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم كان يتأسى بأخلاق والده، ويتكسب من طارفه وتالده، وزاد عليها فبلغت بالإجادة، وأتى عليها والفرع فيه ما في الأصل وزيادة. ولم يزل بحلب على حاله إلى أن كسف الموت شمسه، وأطبق على دره المكنون رمسه. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن يوم السبت في تربة سودي خارج باب المقام. محمد بن إسحاق بن محمد ابن نصر بن صقر، شمس الدين الحلبي الحنبلي ناظر أوقاف حلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 كان قد باشر نظر الأوقاف وبيده جهات، يلبس لبس الفقراء، وهمته همة الأمراء، يمدحه الشعراء ويجيزهم، وينفلهم عن غيرهم في العطاء ويميزهم، وفيه كرم وسماحه، وعلى محياه قبول وصباحه، وهو مقيم بالخانقاه، والعز والجاه، قد أقاما معه وما فارقاه. وحضر إلى دمشق صحبة قراسنقر فما لاقى بها ولا لاقت به، لمن بها من الكتبة، وكان إذ ضاق عطنه بها قال: ما يحملني إلا تلك الخرية. وعاد إلى حلب وأحمد فيها المنقلب، وأقام بها إلى حلقت على ابن صقر من الموت عقابه الكاسر، ووقع بسياقه منها بين المخالب والمناسر. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده بحلب ثالث عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. كان يذكر أنه سمع من قرابته الضياء، ومن الحافظ يوسف بن خليل. قال شيخنا البرزالي: وما وجدنا شيئاً من ذلك، وإنما روى عن النجيب عبد اللطيف، سمع منه بالقاهرة مشيخة بن كليب، انتهى. قلت: وقد رأيته بحلب غير مرة في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو شيخ أبيض، أحمر الوجه، نقي الشيب، نظيف الثياب، ورأيت الحلبيين يشكون في شهاداته، وإنما كان فيه كرم وقيام بحقوق الواردين إلى حلب. وممن امتدحه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة، وأنشدني من لفظه لنفسه: ....................... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 والله لولا شمسها المجتبى لم يلق راجي حلب زبدةً ... ولم يصادف لبناً طيبا وأنشدني: حمى الله شمس المكرمات من الأذى ... ولا نظرت عيناي يوم مغيبه لقد أبقت الأيام منه لأهلها ... بقية صافي المزن غير مشوبه كأن سجاياه اللطيفة قهوة ... حباب حمياها بياض مشيبه وبلغني أنه كان يأخذ القصيدة من شاعرها، ويكتب في قفاها تاريخ إيصالها إليه، ويذكر الجائزة ما هي، ويدعها عنده. فإذا تقدم ذلك الشاعر في الزمان أو صارت له صورة في الدولة، أحضر للناس تلك القصيدة، وقال: هذه أتى بها إلي في الوقت الفلاني، وأجزته عليها بكذا، فعل ذلك بجماعة كبار، وحكي أنه كان تاج الدين بن النصيبي له حجرة شقراء يركبها دائماً. فاتفق أن ركب غيرها في بعض الأيام فرآه شمس الدين بن صقر فقال له: يا تاج الدين أين الشقراء: فقال ابن النصيبي: في استي. فضحك هو ومن سمعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 محمد بن إسحاق بن لولو الأمير جلال الدين بن الملك المجاهد سيف الدين بن السلطان بدر الدين الأتابكي، صاحب الموصل. سمع من النجيب عبد اللطيف " جزء ابن عرفة "، والحديث المسلسل، و" الثمانيات " و" المصافحات " المخرجة له، وسمع " الجمعة " للنسائي. محمد بن أسعد بن عبد الكريم ابن سليمان بن طحا القاياتي، الشيخ الإمام كمال الدين أبو بكر المنصوري. سمع من النجيب عبد اللطيف وأخيه العز عبد العزيز، وابن الحامض، وغيرهم. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. وقد أجاز لي رحمه الله تعالى. وكان معيداً بزاوية الشافعي وبالزاوية المجدية. محمد بن أسد الشيخ شمس الدين، الكاتب المجود، المعروف بابن النجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 كتب عليه جماعة بمدرسة القليجية بدمشق وبداره، وانقطع في آخر عمره مدة. وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة. محمد بن أسعد بن حمزة القاضي نجم الدين بن القاضي مؤيد الدين بن الصاحب عز الدين بن القلانسي التميمي، تقدم ذكر والده وجده. كان نجم الدين رحمه الله تعالى كثير الأدب، وافر الحشمة، قد تمسك فيها بأقوى سبب، زائد التواضع في الرغب والرهب، متيماً عشاقا، يشرب كأس الحب دهاقاً، لا يزال يهيم من المحبة في كل واد، ولا يصده عمن يألفه يد عواد. وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ثم جعل له إلى ديوان الجيش متحولاً، وبيده أوقاف وأنظار، وماله في سعادته أشباه ولا أنظار. وكان يؤدي الأمانة فيما يباشره من الوقوف، ولم يكن له تربص عن الخروج من الحق ولا وقوف، وكان يرجع إلى ديانه وتمسك بعصم الأمانة. إلى أن انكدر نجمه، وانضم عليه لما نزل رجمه. وكان لا يأكل إلا مما يدخله من وقف والدته دون أوقاف أبيه وجده. وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ولم يسمع له نظم ولا نثر، ويقول: أنا لا أدع الناس يضحكون علي. ولما جاء الفخري وملك دمشق خرج من ديوان الإنشاء وباشر صحابة ديوان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 الجيش بدمشق، وكانت بيده أنظار وأوقاف وغيرها يؤدي فيها الأمانة، ويتحرى في مصروفها، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يثني عليه في ذلك، ويقول: ما رأيت في دمشق مثله. وكان يدخله من ملكه ووقفه في كل سنة ما يقارب الأربعين ألف درهم، إلا أنه كان مبخلاً، وفي يده مسكة. ويكتب كتابة ضعيفة مرجوفة. وقف يوم الخميس لملك الأمراء، وسأله الإعفاء من الجامكية إلا الكسوة لا غير، فتعجب ملك الأمراء منه، وخرج من عنده، فمرض يوم السبت وما جاء الخميس الآخر إلا وهو تحت التراب. محمد بن إسماعيل السلطان الملك الأفضل ناصر الدين ابن السلطان الملك العالم الفاضل عماد الدين المؤيد بن الأفضل علي ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور ابن صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي. ملك ابن ملك، وذو نسب في البيت الأيوبي يضيء به الليل الحالك، يعطي عطاء الملوك، ويجود بما تخجل من نفاسته الشمس في الدلوك، ويغنم من الثناء عليه بالجواهر التي تنتظم في السلوك، إلا أنه لم يكن محظوظاً في جوده، ولو سمح بما في موجوده. كان والده رحمه الله تعالى في ذلك أسعد، وأرقى في درج الثناء وأصعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وكان الملك الأفضل سليم الباطن عديم الشر للنازح والقاطن، تنسك في وقت وجلس على لباد، ورفض سماع الشعر حتى نقائض الفرزدق وجرير. وما كان يخلو من ذوق، وعنده فضيلة تزين رب التاج والطوق، كثير التأدب مع من يخاطبه، غزير التعتب على من يقاطعه أو يجانبه، كبير التألب على من يستدعيه لجوده ولا يجاوبه. ورث السيادة كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب وقل أخيراً إلى دمشق من حماه، وترك ملكه فيها وحماه، فأكمده على ذلك الحزن، وطول الغم له الرسن، وحصل له قولنج أعقب بصرع، وألحق بالأصل الفرع. وجف من حياته الضرع، وضاق من أهله وخدمه الذرع، وأفضى الأفضل إلى ما قدم من عمل، وخاب ممن كان يقصده ويرجوه الأمل، ووضع في تابوت ونقل إلى حماه، ورشف العدو من السرور لماه، فعاد من وطنه إلى غير سكن، وناح عليه حتى ناعورة أم الحسن. وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. كان والده رحمه الله تعالى، قد سماه في حياته بالمنصور، فلما توفي والده في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة رسم له السلطان الملك الناصر محمد بمكان أبيه في حماة، وسماه بالأفضل باسم جده، ورسم السلطان للأمير سيف الدين تنكز ولسائر نواب الشام أن يجروه على عادة والده في جميع أحواله من المكاتبة وقبول الهدية وسماع الشفاعة وغير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وطلبه إلى مصر وأقبل عليه، وكتب تقليده بحماة على عادة والده، وأفاض عليه التشاريف الفاخرة، وكان يعطي الناس ويجود عليهم، ويخدم الأكابر وهو مذموم. وما زال في حماة مروعاً مدة حياته تارة من جهة السلطان، وتارة من جهة تنكز، وتارة من جهة العربان، يأخذون إقطاعاته، وتارة من جهة أقاربه يشكون عليه. وكان هو في حماة قد ولاني نظر المدرسة التقوية بدمشق نيابة عنه، وزاد معلوم النظر، ولما حضر إلى دمشق توجهت إلى خدمته، فتصدق وأحسن وأجمل، وترددت إليه، وسمعت كلامه غير مرة، وما كان يخلو من استشهاد على ما يقوله بشعر مطبوع، أو مثل مشهور. ولم يزل على حاله في حماة إلى أن تولى الأشرف كجك، فرسم له بحضوره إلى دمشق، وولي الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حماة، وأن يكون الأفضل بدمشق أمير مئة رأس الميسرة، وأن يطلق له من دخل حماة ألف ألف درهم ومئتا ألف في كل سنة، فوصل إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فلم يركب بها سوى مركبين، وحصل له قولنج أعقب بصرع، فتوفي في التاريخ المذكور. ومن الغريب أن زوجته كانت قد مرضت وأشرفت على الموت، فعمل لها تابوتاً ليضعها فيه إذا توفيت، ويحملها إلى حماة، فتوفي هو قبلها، فوضعته والدته هو فيه بعينه ونقلته إلى حماة. ثم إن زوجته المذكورة توفيت عشية ذلك النهار، وتوجه ابناه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 إلى مصر صحبة جدتهما، فأكرم نزلها إكراماً لقومها، وأعطي ابنه الأكبر سبعين فارساً، فمات في مصر قبل خروجهم. فسبحان من يقرب الآجال، ويقطع الآمال. وترك الملك الأفضل - رحمه الله تعالى - عليه من الدين على ما بلغني ممن له اطلاع على حاله فوق الألفي ألف درهم. وكان الأمير سيف الدين تنكز قد حنا عليه آخراً حنواً كثيراً، وأراد السلطان أن يعزله عن حماة فتوجه تنكز إلى مصر، وشفع فيه، ولما أمسك تنكز تعب بعده، ولزمته مغارم كثيرة، وكثرت الشكاوى عليه، وقل ناصره فتضعضعت أحواله، واختلت أموره، وكان الموت فجاءة آخر خموله - نعوذ بالله من الخمول -. وقال شاعره وشاعر أبيه جمال الدين محمد بن نباتة يرثيه وأنشدنيها من لفظه: تغرب عن مغنى حماة مليكها ... وأودى بها من بعد ذاك مماته وما مات حتى مات بعض نسائه ... بهم وكادت أن تموت حماته وقال فيه أيضاً قصيدة منها: بكى الشعر أيام المنى والمنائح ... ففي كل بيت للثنا صوت نائح ولما ادلهمت صفحة الأفق بالأسى ... علمنا بأن الشهب تحت الصفائح حيا المزن أسعدني على فقد سادتي ... بدمع كجدواهم على الخلق سافح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 أبعد بني شاد وقد سكنوا الثرى ... قريض لشاد أو سرور لفارح أبعد ملوك العلم والباس والندى ... تشب العلا نار القرى والقرائح لئن أوحشوا منهم بيوت مقامهم ... لقد أوحشوا منا بيوت المدائح منها: تلا فقد إسماعيل فقد محمد ... فيا للأسى من فادح بعد فادح وزالا فما إنسان عيني بممسك ... بكاه ولا إنسان عيني بكادح كأن لم يجد بعد المؤيد أفضل ... فمن جذع بذ الجياد وقارح كأن زناد الفضل لم يور منهما ... سنا شيم ما فيه قول لقادح منها: ووالله كانوا في صفات محمد ... إذا نحن أثنينا عليه بصالح سلام على جنات أجداثهم ولا ... سلام لنار الحزن بين الجوانح وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب علاء الدين علي بن مقاتل الحموي بحماة يرثي صاحبها الملك الأفضل ويعرض بمجيء طقزتمر لحماة نائباً بدله، وهو مملوك لأبيه: صاحب حماة ما عطي في الدست إلهامات ... بيدق تغرزن عقد بندو على الهامات دارت عليه رخاخ أفيال وهامامات ... لعب بنفسو على خيل ركبها مات وأنشدني أيضاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 يا أولاد الأفضل كسرتوا كسر ما لو جبر ... فقدتم ابن المؤيد نجل ذاك الحبر تصبروا واندبوا من قد حواه القبر ... فآل أيوب هم أهل البلا والصبر وأنشدني له أيضاً: بالأمس يا أولاد الأفضل صاح صايحكم ... على الملا بين غاديكم ورايحكم واليوم صارت مغانيكم نوايحكم ... وابتدلت بمراثيكم مدايحكم وأنشدني له أيضاً: محمد المصطفى المختار من منشاه ... من شرف الكون في سابع سما ممشاه أذاقه الموت من كل الورى تخشاه ... من هو ملك مصر أو من هو ابن شاهنشاه ولما مات والده الملك المؤيد - رحمه الله تعالى - حضر منه كتاب إلى الأمير سيف الدين تنكز يعلمه بذلك فكتبت أنا الجواب إليه: " جعله الله خير خلف، وهنأ البيت الأيوبي بما ورثه من المجد المؤثل والشرف، وسقى صوب الرحمه أصله الذي فرع دولته الطاهرة وسلف، تقبيل من صدع الهناء جبر قلبه، ومسح كف السرور غمام دمعه الذي كاد هيدبه يذهب بهديه، وينهي بعد الدعاء الذي أجيب بالقبول لإخلاصه رفعه، والولاء الذي لم يضق بالعبودية ربعه ولا ذرعه، والثناء الذي أخجل تغريد الحمام في الخمائل سجعه، أن مثاله الكريم ورد على يد فلان يتضمن ما قدره الله تعالى من وفاة المقام الشريف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 العمادي الواد مولاناه قدس الله روحه الكريمه، وسقى تربةً ضمته صوب كل ديمه. فوقف للمملوك على الخبر الذي روع العباد، وغدا كل قلب كأنما يجربه على شوك القتاد، ونظر إلى النجوم كأنها خرائد سافرات في حداد، فأرسل المملوك دمعة الصب على الحبيب الذاهب، وأخذ من قسمة الأحزان بين الأنام نصيبه الواجب، وكيف لا يعم الوجود هذا المصاب، وتبين الدموع بسحها شح السحاب، وقد كورت الشمس، ولا تقول انقض الشهاب، وغيض البحر، ولا نقول انقشع الرباب ووهى عماد الملك، ولا نقول انقصمت الأطناب، وفجع بمن أثقلت أياديه الأعناق قبل أن حمل على الرقاب: ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور وللوقت طالع المملوك العلوم الشريفة بذلك، وورد الجواب الشريف يتضمن شمول مولانا بالصدقات الشريفة، وإقامته مقام والده قدس الله روحه، فهنأ الله مولانا بهذه البشرى التي صدقت الرجا، والمسرة التي رقمت سطورها على كافور النهار بعنبر الدجى. وما أحق هذه البشرى أن تهتز لها أعطاف المنابر، وأن تنطق بحمدها ألسنة الأقلام من أفواه المحابر، وأن تعد نعمها أنامل الرايات إذا خفقت، وأن تتورد صفحات السيوف من دم الأعادي إذا امتشقت، والله يجمل الأيام بدولته الزاهره، ويجعل الأقدار على مراده ومرامه متظافره، بمنه وكرمه - إن شاء الله تعالى - ". فعاد جوابه يتضمن أنه واصل إلى دمشق ليتوجه منها إلى الديار المصرية، فكتبت أنا الجواب إليه: " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 أعز الله أنصار المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضلي، ولا زال مقامه الشريف بالتحف ملتحفا، ومجده المؤثل بأزاهر المحامد روضه أنفا، وركابه العالي إذا سار أخذت الأرض زينتها، ولبست زخرفاً تقبيلاً يكسب به ثغر الثريا شرفاً، ويغدو على شفة الهلال شفا، بعد أن كان من السقم على شفا. وينهي بعد أدعية رقمت على سرادق الإجابة أحرفا، وعبودية لم يجد الولاء عن إخلاصها مصرفا، وأثنية تنشر على الروض بروداً وتقرأ الحمائم من سجعها صحفا. ورد المثال العالي يتضمن حركة الركاب الكريم إلى الأبواب الشريفة، فكاد قلب المملوك لتلقيه يطير فرحا، ويميد عطف الزمان ومن فيه مرحا، ويكون يوم قدومه يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فالله تعالى يجعلها حركةً مقرونةً بالسعود، موصولةً بالميامن التي بها جمال الأيام والأنام والوجود ". وكتبت أنا إليه عن السلطان الملك الناصر محمد كتاباً ببشارة النيل عقيب وروده من الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة: " أعز الله أنصار المقام الشريف، وجعل رسل الهنا تتوارد على مقامه تترى، وأبهجه بكل نبأ من الخصب يتحرق له البرق حسداً في قلب السحاب ويتحرى، وسره بكل خبر يتفرق به محل المحل ويتفرى، ويعمه بكل وارد يقص عليه حديثاً جعل البر بحراً وملأ البحر برا. أصدرناها إلى مقامه الكريم تجد رعي عهوده، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وتفض سلاماً يتردد إليه تردد أمواج البحر في انحداره وصعوده، وتبث ثناء لا يزال بين خفق ألويته وبنوده، وتبدي إلى العلم الكريم أنه ورد ركابنا الشريف إلى محل ملكه، ومجرة فلكه، ومجرى فلكه، فوجدنا النيل المبارك قد جعل الأرض لجه، وأرخى نقاب تياره على وجه كل محجه، وارتفع إلى أن جعل على هضبات السحاب مقره، وزاد إلى أن كاد يمازج نهر المجره، وبعث سرايا مقدماته، فتحصنت في كل فج وفجوه، وانعطف حول أزرار الأهرام كالعروه، وشرب دم المحل فهو من تحت حباب القلوع كالقهوه، واتصف بصفات الأولياء، فبينا هو في أقصى الجنوب إذا هو في أقصى الشمال، والأرض للرجل الصالح خطوه، وأصبح في طلب تخليقه مجدا، وأعد للجدب من تياره سابغة وعداء علندى، ومرق كالسهم في خليجه من قسي قناطره، وخنق المحل بعبراته في محاجره، وبشر أن آلاف الأموال أضعاف ما فيه من الأمواج، وخبرت رقاعه أنه لم يبق فيها محتال ولا محتاج، فأكمل الستة عشرة ذراعاً. وكتبت إليه أجوبة كثيرة عن الأمير سيف الدين تنكز، منها ما هو جواب على مشمش كافوري أهداه في باكورة السنة، ومنها ما هو عن رخام ملون أهداه وغير ذلك، وهي في الجزء الثامن عشر من " التذكرة " التي لي. محمد بن إسماعيل بن أسعد وقيل: ابن أحمد بن علي بن منصور بن محمد بن الحسين الشيباني، الأمير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 شمس الدين بن الصاحب شرف الدين الآمدي، المعروف بابن التيتي، بتاء ثالثة الحروف مكسورة، وبعدها ياء آخر الحروف، وتاء ثانية وياء النسب. كان وزيراً بماردين، وحضر أخيراً في الرسلية من الملك أحمد صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي، ومات من أرسله وحبس رسله، ومات الشيخ عبد الرحمن، على ما ذكرته في ترجمته في " تاريخي الكبير "، وطلب شمس الدين هذا إلى مصر، وأعطي إقطاعات الحلقة، وترقى إلى أن صار نائب دار العدل في أيام السلطان حسام الدين لاجين. وجفل به فرس فوقع، فمات - رحمه الله تعالى - في ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة بمصر. روى عن الشيخ بهاء الدين بن بنت الجميزي، وأبي الحسن بن المقبر، وجماعة. وكانت له مشاركة في نحو ولغة. وروى عنه شيخنا الحافظ أبو الفتح، والشيخ قطب الدين عبد الكريم، وغيرهما. ومن شعره: إذا ما الدهر مال عليك يوماً ... وصال بصرفه وسطا وجارا فثق بالله معتمداً عليه ... يكن لك من صروف الدهر جارا وإن دارت دوائر ببغي ... عليك وعنك بالإقبال دارا وشط بك المزار فلا مزار ... وباعد عنك أحباباً ودارا فلا تجزع ودار وكن صبوراً ... فمن يرجو نجاةً منه دارى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 ولا تركن إلى الدنيا وبادر ... بفعل الخير واغتنم البدارا فإن أخا الجهالة من تولى ... ولم ينظر إلى الدنيا اعتبارا أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين؛ قال: قال الأمير شمس الدين ابن التيتي: أنشدني الزين خالد: قلت للزين: كيف لا تثبت البع ... ث وتنفي إنكارها للحشر قال: أثبت. قلت: ذقنك في استي ... قال: انف. فقلت: في وسط حجري قلت: أخذ هذا المأخذ من قول الأول: جاء سد يد الدين في وجهه ... أنف له كاد يواريه قلت له: ماذا القضا؟ قال لي: ... ذا منخري، قلت: أنا فيه محمد بن إسماعيل بن موسى الشريف تقي الدين الحسيني الأشقر. كان يتوكل للناس من الأمراء، وغيرهم وتوكل لأمير حسين بن جندر بك، وتوجه له إلى مصر، وعاد إلى دمشق. ثم أنه شنق روحه في بيته بحارة بلاطة، وكتب ورقة وعلقها في عنقه، يقول فيها: ما آذاني أحد من خلق الله تعالى، وما فعلت هذا بنفسي إلا بسبب الديون التي علي، وخشيت أن أضرب بمقارع الأمير علم الدين الطرقجي. وما كان قد استدان من جامع السلامي، ومن غيره عشرة آلاف درهم وأكلها، فراح ابن جامع وشكاه إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 أوران الحاجب، فرسم عليه وتهدده بالطرقجي، ففعل بنفسه ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. محمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيد القاضي الرئيس الكاتب كمال الدين بن الأثير، موقع الدست بالديار المصرية. كان فاضلاً في صناعته، كاملاً في براعته، فصيحاً في عبارته، مليحاً في إشارته وشارته. يكتب خطاً آنق منالحدائق، وأرشق من الأغيد الذي لطفت منه الخلائق، كتب المناشير الكبار والتواقيع، وأتى فيها بمقاصد الكتاب المطابيع، فكان كما قال الغزي: تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتباً ولم يزل على حاله في توقيع الدست بمصر إلى أن أصبح مسجى. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة النصف منه سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة بأرباب الدولة والعلماء والصوفية، وصلي عليه بالجامع الأموي بدمشق، يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة. ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود - رحمه الله تعالى - بقصيدة طنانة وهي .... ومن إنشاء القاضي كمال الدين بن الأثير - رحمه الله تعالى - نسخة تقليد للأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري بنيابة دمشق عقيب قدوم الملك الناصر من الكرك وهو: " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الحمد لله الذي أنجز من الألفة للإسلام ما وعد، وأطفأ لهب الخلف، وقد وقد، وأحسن عاقبة المسلمين فيما صدر من أمرهم وما ورد، جاعل الملك من هذا البيت الشريف منتقلاً في عقبه، آيلاً إلى من أصبح ومغناه أهل به لما حل في رتبه، وأضحى وهو مفروض الطاعة على الأولياء في تغير الدهر ومنقلبه. نحمده حمد من يعلم أنه يؤتي الملك من يشاء من عباده، وأن الأقدار جارية على مراده، غير معترض على مشيئته معرض نفسه لعناده. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من رضي بقسمه، وفوض الأمر إلى حكمه، ووقف في زمرة قوم يعلمون أن الله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه ". ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي وطأ للإسلام مهاده، وأزال عن جفن الإيمان غمض الشرك وسهاده، واستنفذ من يد الضلالة ربا الحق ووهاده. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أصحاب الحل والعقد ذوي الاجتهاد والجد، وأهل السعي المقترن بالسعد، صلاةً مستمرة الإيراد، متصلة الأوراد، موفيةً بالمراد مؤذنةً للرائد بخصب المراد، وسلم تسليماً. وبعد: فإن الممالك أولى من قام بنصرها، وقعد بالمصلحة في أمرها، وأقيمت به دعوتها وعزت بعزمه ذروتها، وفوض تدبيرها إلى نظره، وحسنت فيها مواقع أثره، واستقامت هضبة أسها على رايه، واستقلت بمهامها كفالة ولائه، من حمى سرحها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وبنى صرحها، وسدد أمورها، وسد ثغرها وثغورها، وحماها من الأيدي المتخطفه، وصانها من الأغراض المتحيفه، واستقل بأعبائها التي آدت، ونهض بحفظها، وقد كانت العزائم همت بأن تفل أو كادت، ووقف المواقف التي تهول، وثبت بحيث الأقدام تزل والأحلام تزول، واصطلى في مضائق الحروب جمرها، وكان فيها بحمد الله في الرأي قيسها، وفي الإقدام عمرها، وهو الجناب العالي الأميري الشمسي قراسنقر، ذو الصفات الكامله، والسيرة العادله، والأنا الجميلة والهمم الجليله، والمحاسن الجزيله، والطريقة المتبعه، والأفعال التي لا تخشى منها تبعه، والآراء الصائبه، والمساعي التي لم تشبها في نصرة الإسلام شائبه. طالما خاض الغمرات، واصطلى الجمرات، وأقدم إقدام الليث، وحرس الممالك من العيث، وأقام الأدلة على فضله، وأجلب إلى الأعداء بخيله ورجله. إليه تشد الرحال في صون الأمور وصلاح الجمهور، واستطلاع خبايا المقاصد، وأخذ الأعداء بالمراصد، وإقامة شعائر الدين، ونصرة حزب الموحدين. وقد اقتضى رأينا الشريف أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس من حدود العرائش إلى سلميه، وجعلنا كلمته في النفاذ باقيه، وعزمته في رتبة المضاء راقيه، واقتضينا في المهمات عقدة عزمه وحله، وأمضينا في مصلحة المملكة تصرفه كله، واستندنا من تدبيره إلى ركن شديد، وعطفنا إلى مضافرته كل جيد، إذ كان الملك بمثله يصان، وبمحاسنه يزان، وبتدبيره يستد ثلمه، وبتفويقه يستد سهمه. وقد قلدناه منا سيف اعتناء مطلق الحد، ومضافرة غير متناهية إلى حد، ومنحناه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 اهتماماً يكفيه ما أهم، ومعاضدةً لرأيه الذي يشرق في ليل الخطب إذ ادلهم، وقبولاً يبلغه من رفعة القدر ما يريد، واتحاداً أقرب إلى الداعي من حبل الوريد. فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زالت دولته مباركة على الإسلام وأيامه عائدةً بصلات الجميل التي لا تحصرها الأقلام، أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وأعمالها وعساكرها وممالكها وقلاعها وبلادها ورعاياها وذخائرها وأموالها، وثغورها ورجالها، وكبيرها وصغيرها، ومأمورها وأميرها، وكل ما يتعلق بها وينسب إليها، على عادة من تقدمه في ذلك كله، علماً منا بأنه أولى من فرع ذروتها، وقرع مروتها، وحلت له حباها، وحمي به حماها، واتسقت به عقودها، وحفظت به عهودها. فليمض على رسله فيما رتبناه فيها وقررنا، ويتحقق حسن النية فيما أعلنا من أمره وأسررنا، ويدأب في بسط المعدلة والسيرة المجملة، والعمل بالعدل فإنه الطريق المسلوك، وليشمل الرعايا بنظره فإنهم عند الملوك هذه وصيتنا له، وأما عداها من مصالح المسلمين، واعتماد كل ما يقتضي بنصرة المؤمنين، وجند تعرض، وأرزاق تفرض، وأموال تثمر، وبلاد تعمر، وثغور تسد، وعقود تشد، وسطوة تكف الأيدي عن الجور، ومهابة تزعزع كل جبار متعدي الطور، ونظر في المصلحة الخاصة والعامه، وقصد يدل على الخبرة التامه، وشرع يتبع حكمه، وأمر بالمعروف يجدد رسمه، وقلوب تؤلف على الطاعه، وخدم يبذل فيها جهد الاستطاعه، فهو أدرى بما يعاد منها وما يبدا، ولم يزل في طرق الخيرات ولله الحمد أهدى أن يهدى. وهو غني عن شرح فيها يطول، والعمدة في ذلك على الله تعالى ثم على تدبيره المعول. وسبيل كل من يقف على هذا التقليد الشريف من أمراء الدولة ونوابها ووزرائها ومتحفظي حصونها وولاة أمورها كافة أن يأتمروا بأمره، ويعرفوا له جلالة قدره، وينتهوا إلى إشارته في سر كل عمل وجهره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 والله يشد به قواعد الممالك ومبانيها، ويؤهل بجميل تدبيره معاهدها ومغانيها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. ؟ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الشيخ المسند المعمر أبو عبد الله ابن المحدث نجم الدين. كان خاتمة أصحاب ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبد وغيرهم. وكان قد بقي مسند الوقف. توفي رحمه الله تعالى في سنة ست وخمسين وسبع مئة عن تسعين سنة. محمد بن إسماعيل بن عبد المؤمن ابن عيسى بن أبي بكر بن أيوب الشيخ المسند المعمر الصوفي، المعروف بابن ملوك. حدث عن العز الحراني وابن الأنماطي، وابن خطيب المزة، وطائفة، وتفرد. وتوفي بالقاهرة في سنة ست وخمسين وسبع مئة وقد تجاوز الثمانين. محمد بن إسماعيل بن عمر ابن المسلم بن حسن بن نصر بن أبي الدم، القاضي الرئيس المعمر المسند عز الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 ابن القاضي الرئيس ضياء الدين ابن القاضي عز الدين أبي حفص الدمشقي، المعروف بابن الحموي. حفظ في صغره " التنبيه " و" الفضول " لابن معط. وسمع الحديث الكثير من الشيوخ. وأجاز له جماعة من شيوخ مكة والمدينة ومصر وحلب وبعلبك وغيرها. وروى عن والده، وتفرد في آخر عمره برواية " السنن الكبير " للبيهقي. ومن مروياته " الموطأ "، و" مسند " الإمام أحمد بن حنبل، و" صحيح " البخاري، و" صحيح " مسلم، و" سنن أبي داود "، و" جامع " الترمذي، و" سنن " النسائي وابن ماجه، و" مسند عبد "، و" مسند الدارمي "، و" مسند ابن الزبير "، و" مسند الطيالسي "، وكتاب " المغازي " للزهري، و" عمل يوم وليلة " لأبي بكر أحمد بن السني، و" مكارم الأخلاق " للخرائطي، و" خطب ابن نباتة "، و" فوائد " الرازي، و" شرح السنة " للبغوي، و" معالم التنزيل " له، و" الحجة على تارك المحجة " لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، و" الجعديات " و" الغيلانيات " و" الخلعيات "، و" مشيخة " ابن البخاري مع ما ذيله الحافظ المزي عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وحدث، وروى كثيراً. وترك ما بيده من الأوقاف، وأقبل على الرواية، وألحق الصغار بالكبار. ولم يزل على حاله وملازمة الجامع الأموي إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وست مئة. محمد بن إسماعيل ... الأمير ناصر الدين أخو الأمير صارم الدين حاجب صفد. تقدم ذكر أخيه مكانه. كان أحد أمراء العشرات بدمشق، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله يثق بعقله ودينه ومعرفته، فولاه نظر الأوقاف بدمشق في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن بدر الدين بن معيد، وولاه نظر الحرمين بالقدس، فتوجه إليها، وعزل، وعاد إليه. وكانت الولاية الأولى في المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن ناجح الشيخ الفقيه الإمام الزاهد الخطيب ناصر الدين أبو عبد الله الحموي، المعروف بابن القواس وابن النقيري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 نِشأ في خير واشتغال وتصوف بدمشق، ثم إنه انتقل إلى حلب، وتزوج بها، وولي خطابة جامع ألطنبغا نائب حلب، والنظر عليه وعلى أوقافه، وتقدم عنده وأحبه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. محمد بن أسندمر الأمير ناصر الدين بن الأمير سيف الدين الجوكندار. كان والده من أمراء الطبلخاناه، ثم إنه نقل من مصر إلى صفد، ومن صفد إلى دمشق، ومات بها. وولده هذا ناصر الدين كان أمير عشرة بدمشق. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وسبع مئة. محمد بن آقوش الأمير ناصر الدين ابن الأمير جمال الدين المطروحي. كان رجلاً جيداً، وعنده دراية. قال شيخنا علم الدين: وسمع من شيخنا ابن النجار، وحدث. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 محمد بن الآقوش الأمير ناصر الدين، أحد أخوته، وهم الأمير سيف الدين كجكن، والأمير زين الدين أمير حاج، وغرس الدين خليل، أولاد الآقوش. كان أبوهم أميراً بطرابلس، ولهم وصلة بالأمير سيف الدين قرطاي نائب طرابلس، كان وكانوا آخر الحال مقيمين في حلب، ولما حضر لنيابة دمشق حضر معه ناصر الدين محمد هذا، وحصل له إمرة عشرة، ثم انتقل إلى إمرة الطبلخاناه. ثم إنه تولى نيابة بعلبك فتوجه إليها، وأقام بها قليلاً، ثم إنه عاد إليها نائباً مرة ثانية، ثم أعطي نيابة حمص، فتوجه إليها وأقام بها، فلما أمسك الأمير صرغتمش رسم السلطان الملك الناصر حسن بمصادرته، ومصادرة إخوته وعزلهم من وظائفهم، فأخذ منهم تقدير ثلاث مئة ألف درهم، وأقاموا بدمشق بطالين. ثم رسم بتوجهه إلى حلب وتوجه أخيه سيف الدين كجكن إلى طرابلس، وبتوجه أخيه زين الدين أمير حاج إلى صفد، وأقاموا كذلك إلى أن خلع الناصر حسن، فرسم بإحضارهم إلى دمشق. ولما حضر السلطان الملك المنصور إلى دمشق في واقعة بيدمر أعطى الأمير ناصر الدين إمرة طبلخاناه. وحصل له مرض توفي منه في بكرة الاثنين عشري شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة. محمد بن أيبك الأمير صلاح الدين المعروف بابن أيبك الطويل. تنقل في المباشرات في أيام الأمير سيف الدين تنكز، فباشر شد الساحل وولاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 الولاة بالصفقة القبلية، ثم تنقل في نيابة الرحبة وجعبر مرات، وكاد في واقعة الأمير سيف الدين تنكز ينعطب، لأنه كان في جعبر نائباً، وكان قد أودع عنده زردخاناه، وطلب إلى مصر عقيب الواقعة، فأصلح أمره، ونجاه الله تعالى، وعاد. ولما كان في آخر الأمر جهز إلى صفد صحبة الأمراء الذين جهزوا إلى محل إقطاعاتهم، فأقام بها قريباً من نصف سنة. وتوفي في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد. وهو أخو الأمير علاء الدين علي بن أيبك الطويل. محمد بن أيوب بن علي ابن حازم الدمشقي الشافعي، المعروف بابن الطحان، نقيب السبع والشامية بدمشق. تفقه وقرأ بروايات، وأذن مدة بتربة أم الصالح. وكان فاضلاً مناظراً حسن الخلق، وفيه وسوسة في أمر المياه. سمع مع زوج خالته النجم بن الشاطبي، ومن عثمان خطيب القرافة جزءاً، ومن الزين خالد والكرماني ويوسف بن يعقوب الإربيلي، وعجز وانقطع بالشامية، وسمع منه جماعة الطلبة. قال شيخنا الذهبي: ورويت عنه " المعجم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 قلت أنا: وسمعت عليه بقراءة ابن طغريل الجزء الثاني من الأول من " فرائد " القاضي أبي الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق الحافظ بالمدرسة الرواحية. ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة في شهر ربيع الأول. محمد بن أيوب الفقيه العالم شمس الدين أبو عبد الله الأشقر الزرعي. سمع الكثير، ودار على الأشياخ في أيام ابن البخاري، ونظم الشعر وحدث. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده قبل الستين وست مئة. محمد بن أيوب بن عبد القاهر الإمام بدر الدين التاذفي شيه القراء بحماة، الحنفي الحلبي. تلا على الفاسي، وسمع من ابن علاق، وابن العديم، وجماعة. وقرأ بنفسه، وتميز وصنف. قال شيخنا الذهبي: أخذت عنه مباحث، وسمعنا منه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بحماة في شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن علاق " جزء " القدوري، وأقرأ الناس زماناً بدمشق، وكان معيداً في المدارس الحنفية، وكان عارفاً بالعربية والقراءات و" شرح قصيدة الصرصري " الطويلة في مجلدين، ونسخ كثيراً. وكان يكتب المصاحف على الرسم، وأقام إمام الربوة مدة بعد الثمانين، وكان يقرئ نائب السلطنة عز الدين الحموي، ثم إنه سكن حماة. محمد بن بادي بن أبي بكر ابن عثمان بن بادي، شمس الدين الطيبي نسبة إلى الطيب، لأنه كان يصنع فتائل العنبر، وكان يهدي إلي منها كل قليل. وكان يتطور أطواراً، مرة يكون معلم كتاب بدمشق، وتارة يسافر إلى طرابلس ويقيم بها، ثم ينتقل إلى حلب وغيرها. وفي آخر أمره، أقام في بيروت واتخذها سكناً، ثم إنه كان يقرأ فيها الحديث بالجامع ويحضر إلى دمشق في كل سنة، لما كان يباشر في فرع الحرير، ويعود إلى بيروت. وكان يحل التقويم، وعلى ذهنه أشعار وحكايات، وما تمل محاضرته. ولم يزل على حاله إلى أن بلغتني وفاته في ثغر بيروت في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وسألته عن مولده فذكر لي: أنه في سنة ثمان وثمانين وست مئة في شهر رمضان بالقاهرة. وأنشدني من لفظه لنفسه في العيون الزجاج التي يعانيها من ضعف بصره لرؤية الخط الدقيق، ويضعها على أنفه: لهفي على دولة التصابي ... وحق لي أن يزيد لهفي كانت عيوني من فوق خدي ... فاليوم أمست من فوق أنفي محمد بن بتخاص الأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين بتخاص المنصوري العادلي. كان قدم إلى الشام في خدمة الأمير سيف الدين سلار، ثم رجع معه وشوش ووصل إلى القاهرة مريضاً، وأقام عشرة أيام وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده في عاشوراء سنة سبع وسبعين وست مئة. وكان شاباً حسناً فصيح العبارة، كثير الحياء، حسن الهيئة محباً للعلوم، واشتغل وحصل وسمع الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 محمد بن بركات ابن أبي الفضل بن أبي علي الشيخ تقي الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الصالح البعلبكي. سمع من الفقيه محمد اليونينى، وحدث عنه. وسمع بدمشق من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشى، وشيخ الشيوخ، وهو سبط الشيخ إبراهيم بن محمود البطائحي البعلبكي، وكان شيخ الخانقاه الشبلية بظاهر دمشق. قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه " جزء ابن عرفة " و" جزء ابن جوصا ". وتوفي رحمه الله تعالى بحصن الأكراد في ثالث عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين ببعلبك. وقد تقدم ذكر أخيه إبراهيم وذكر أخيه الشيخ محيي الدين عبد القادر أيضاً. محمد بن بكتاش الأمير ناصر الدين متولي دمشق كنت أعرفه أولاً مشد غزة والساحل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز، وسرقت له عملة من بيته بدمشق، ولم يقع لها على خبر إلى آخر وقت، وقيل: إنها كانت بخمسين ألف درهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 ثم إنه بعد ذلك تولى مدينة دمشق، فعمل الولاية على أتم ما يكون من الصلف الزائد والعفة والأمانة، ثم إنه وقع في أيامه حريق دمشق الذي أمسك بسببه النصارى وجرى لهم ما جرى، وورد كتاب الملك الناصر محمد إلى تنكز يقول فيه: هذا فعل أهل دمشق كراهةً في ابن بكتاش: فلما أمسك تنكز رسم بعزله، فبقي بطالاً مدة. واحتيج إليه لأجل دربته ومهابته في الولاية، فأعيد إليها بلا انقطاع، ثم عزل عنها وبقي مدةً بطالاً. ثم إنه جهز إلى حماة مشد الدواوين بها، فأقام هناك سنة ونصفاً تقريباً، ثم إنه طلب هو وناظرها القاضي شرف الدين حسين بن ريان إلى مصر، فتوجها، وعاد القاضي شرف الدين وهو على حاله إلى حماة، وحضر الأمير ناصر الدين بن بكتاش نائب المرقب وأعطي طبلخاناه وخرجت عنه، وبقي في طرابلس أميراً، فلما كان طاعون طرابلس توفي ابنه الأصغر وجماعة من أهل بيته، فنزح عن طرابلس، فماتت ابنته في الطريق، فجاء إلى بعلبك ليدفنها، ونزل على رأس العين، فحضر إليه نائب بعلبك بطعام، وأقسم عليه أن يأكل، فأكل بعض شيء. وتوفي إلى رحمة الله تعالى عقيب ذلك في أواخر شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة ودفن رحمه الله تعالى إلى جانب ابنته. وكان قد ولي شد خاص داريا ودومة في أيام تنكز، وكان يهز رأسه دائماً، وكان مع هذه المعرفة والمهابة والدربة إذا أنشد الشعر لا يقيم وزنه، قال لي صلاح الدين محمد الكبتي الدمشقي وكان صاحبه كثيراً: كان ينشد: قد أقبل المنثور يا سيدي وأمير الناس كلهم ومخ من يشناك مثل اسمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 محمد بن بكتاش الأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين أمير سلاح. توفي في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة ودفن بتربة والده برا باب النصر بالقاهرة. محمد بن بكتمر الأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الجوكندار، كافل المملكة بالديار المصرية. كان من رشاقته كأنه غصن بان، ومن هيفه يكاد يعقده النسيم ألوان. ولم يكن في مصر والشام من يلعب بالكرة مثله، وكل طبجي في الإثليمين يعرف في ذلك فضله. ويقول ما عندي منه إلا فضله، كأنه على ظهر جواده عقرب أبو برق يتسرع والكرة أمامه كوكب. رأيته بصفد وهو يلعب مرات، وللكرات قدامه غدوات وكرات. وكان قد ربي هو والسلطان الملك الناصر محمد، وما يدعوه إلا بأخي، ولا يرى إلا وهو ينتخب له كل وقت وينتخي. ولما كان في الكرك كانت كتبه لا تنقطع عنه البتة، إما أن تجيء إلى ميعاد وإما أن تجيء بغته. ولما توجهوا إلى مصر بقيت له المكانة العليا، وضاقت بسعادته الدنيا، إلا أن المدة ما طالت، وما زارت حتى زالت، وكان كأنه كوكب السحر في قصر عمره، أو الزهر الذي أينع فاجتني لطيب نشره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وتجرع أبوه غصته. وما أمكنه أن يشرح قصته. كان الأمير علاء الدين بن الجوكندار طبجي الشام يجيء إلى صفد كل قليل ويلعب هو وناصر الدين فيرى الناس منهما أمراً عجيباً. محمد بن بكتوت ناصر الدين بن بدر الدين، الكاتب المجود، المعروف بالقرندلي، لأنه لبس زيهم في حلب. كان قادراً على الكتابة. وله فيها رأي، لا تفارقه الإصابة. كتب الأقلام السبعة، وكاد فيها يسمو على الثريا رفعة. يدعي أنه كتب على ابن الوحيد، وما قوله في ذلك بسديد، وإنما كتب في بعلبك على خطيبها، وفاز من طريقة ابن الوحيد بلذاتها وطيبها، ونسخ من المصاحف الكريمة والمجلدات كثيراً. وعلى الجملة فكان على الكتابة قديرا. ولم يزل يكتب إلى أن محي اسمه من المحيا، ونزل إلى قرار اللحد بعد العليا. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، في يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول. حكي له أنه لبس زي القرندلية بحلب ودخل بينهم وهو ينسخ فقالوا: ما هذا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 ما هو طريقنا. قال: فقلت لهم: أنتم تعلمون هذه القلائد الصوف، فقال له من بينهم واحد: أريد أن أنزل أنا وأنت في هذه البركة بالبلاس، فقال: فنزلت معه في يوم بارد في مثل حلب، فبقينا نغطس إلى أن عجز هو وطلع، فلما أعياهم قالوا له: فينا واحد يكاثرك في أكل الحشيش، فقلت: أحضروه قال: فأحضروه وجعلوا يلقموننا وأنا وهو نأكل إلى أن نزل الدم من منخريه، وأظنه قال: مات، فعند ذلك أخرجوه من بينهم. وكان الذي أغواه في الكتابة القاضي جمال الدين بن ريان - رحمه الله تعالى - فإنه رأى خط يده القابلة فلازمه، وجعل ينسخ له المجلدات، فنسخ له " الكشاف " وغيره، ورتب له الدراهم والطعام، وألزمه بالكتابة فأجاد، وكتب أولاده وغيرهم في حلب. وحكى لي جماعة عنه أنه كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكشاف على ونده ويكتب منه وهو يغني ما شاء اللهولا يغلط، وكان قليل اللحن فيما يكتبه، وأما أنا فرأيته غير مرة يكتب ويغني ولا يغلط. وكان قد أقام أولاً بحماة عند الملك المؤيد صاحبها ينسخ له، فأحب امرأة تعرف ببنت النصرانية، فكان كل ما يحصله ينفقه عليها، ويشتغل بها عن الكتابة، فشق أمره على الملك المؤيد، فنفاها إلى شيزر، فحكى لي أنه كان يكتب في حماة إلى المغرب، ويجري من حماة إلى شيزر، ويبيت عندها، ويقوم من آذان الفجر ويجري إلى حماة ويكتب، وأقام على ذلك سنة وكانت قد تعنتت عليه يوماً وقالت له: إن كنت تحبني فاكو لي في رأس صليباً. ورأيت أنا كي الصليب في يافوخه، وكتبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 أنا عليه أربعة عشر سطراً قلم الرقاع، ثم إنه امتنع من توقيفي، ولم أكتب بعده على غيره. وكان كاتباً مطيقاً كتب من الربعات والختم بقلم الفضاح والمحقق الكبير في قطع البغدادي كاملاً ومن الهياكل المدورة والمجلدات شيئاً كثيراً. محمد بن أبي بكر بن محمد الشيخ الإمام، العالم شمس الدين الأيكي، بهمزة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها كاف، كان قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول: هو بكسر الهمزة. وكان فاضلاً في المقولات، كاملاً في المنقولات، وكان يكشف أسرار " الكشاف " وهو لما فيه من أمراض الاعتزال كالشاف، يدري دقائقه، ويمري حقايقه، ويقرئه الطلبة ويقريه، ويفرق بذهنه ما فيه من الغمود في الغموض ويفريه. وكان في علم التصوف إماما، وفي فن التعريف لمن تقدم ختاما، لو عاصر المعري لأملى في وصف الأيكي أيكه وغصونه، أو سنان الراشدي لأنزله معاقله وحصونه. ولم يزل على حاله في الإفاده، والتفرد في فنونه بالإجاده، إلى أن خرست تلك الفصاحه، وكرر الحمام في الأيك عليه النياحه. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة قبل العصر ثالث شهر رمضان سنة سبع وتسعين وست مئة، بالمزة في دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وله شرح على أول " مختصر " ابن الحاجب، تكلم على منطقه. ودرس بالغزالية، وولي مشيخة الشميساطية، وولي مشيخة الصلاحية بالقاهرة، وتكلم فيه الصوفية، وحضر قاضي القضاة تقي الدين وقال: يا شيخ شهد عليك جماعة من الصوفية بكذا وكذا، فقال: أنت تنكل بي في هذا الجمع نكل الله بك. فقال قيموه: فأقيم وهو يقرأ: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " ولما قال: " فسبح بحمد ربك " ما قال: ادفع بحيلك وقوتك، وتوجه إلى الشام وأقرأ الجماعة " الكشاف ". وقيل إنه وصف للشيخ بدر الدين بن مالك ومعرفته " الكشاف "، فحضر ليلةً درسه وسمعه وهو يتكلم، فلما فرغ قال له: يا شيخ بدر الدين ما سمعتك تتكلم. قال: كيف أتكلم ومن وقت تكلمت إلى أن سكت، عددت عليك ثلاثين لحنة. وفيه يقول شيخنا العلامة شهاب الدين محمود: بنت فبات الطيف لي مؤنساً ... يبيحني جنة خديك وطالما أملتها يقظة ... فصد عنها سيف جفنيك ولم أخل أن حمام اللوى ... في الأيك يغني عن رقيبيك نفر نوماً كان مثل الصبا ... يعطف لي إن ملت عطفيك فلا رعى الله حمام اللوى ... ولعنة الله على الأيك وكان سبب نظمها أن الأيكي تكلم في حق الإمام أحمد رضي الله عنه وثار الحنابلة عليه. ولما بلغه قال: والله لقد تلطف في الهجو، وكان شيخنا أبو الثناء بعد موته لا ينشدها إلا ويقول: ورحمة الله على الأيك. وبعض الناس قال فيه: اسمه أحمد بن أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 قلت: واشتهرت هذه الأبيات كثيراً، وسلك هذه الطريقة جماعة ممن عاصره. فقال النصير الحمامي: مذ أحضرتني زوجتي حاكما ... أنكرت ما قد كان من حقي فأخرجت رق صداق لها ... رد كلام الكل في حلقي وكان ذاك الرق أصل البلا ... فلعنة الله على الرق وقال النور الإسعردي: ورب خل قلت إذ قدم لي ... خلاً وقباراً على سماط لا آكل القبار من بغضي له ... ولعنة الله على الخلاط محمد بن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ الصالح أبو عبد الله الكنجي. جاور بالجامع الأموي مدة طويلة أكثر من ستين سنة، وسمع كثيراً بعد الخمسين وست مئة على الزين خالد، والخطيب عماد الدين بن الحرستاني وغيرهم. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ربيع الآخر سنة سبع مئة، وحضر جنازته القضاة والعلماء والصلحاء، وكان قد بلغ التسعين سنة. وسيأتي ذكره ولده محمد بن محمد بن أبي بكر. محمد بن أبي بكر بن خليل ابن إبراهيم بن يحيى بن فارس، الإمام رضي الدين المعروف بابن خليل المكي الشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 كان فقيهاً عالماً، مفنناً، ذا فضائل ومعارف وعبادة وصلاح وحسن أخلاق، سمع منه شيخنا البرزالي وابن العطار، وأجاز لشيخنا الذهبي مروياته. وولد في أيام التشريق بمنى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. وكان يعرف " التنبيه " جيداً، وحفظ " المفصل " في النحو للزمخشري. محمد بن أبي بكر بن عبد السلام ابن إبراهيم الصالحي المقرئ الحفار، يعرف بابن الطبيل. كان شيخاً معمراً ذا جلادة وهمة وملازمة للجماعة. سمع " الصحيح " من ابن الزبيدي. وحدث عنه ابن الخباز في معجمه في حياة ابن عبد الدائم، وسمع منه ابن البرزالي، وأخذ شيخنا الذهبي عنه ثلاثيات البخاري وغير ذلك. وتوفي في سنة إحدى وسبع مئة - رحمه الله تعالى -. محمد بن أبي بكر بن إبراهيم ابن هبة الله بن طارق الأسدي الحلبي الصفار، الشيخ الصالح المعمر المسند أمين الدين، نزيل دمشق، المعروف بابن النحاس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 سمع لما حج مع إخوته من صفية القرشية، ومن شعيب الزعفراني بمكة، ومن يوسف الساوي وابن الجمزي بمصر، ومن ابن خليل بحلب، وأجاز له أبو إسحاق الكاشغري وطائفة. وأضر، وتفرد، وعجز وانحطم، وأبطل الحانوت. وكان ساكناً خيراً عامياً، وله دنيا، وفيه بر، وما تزوج قط ولا احتلم، ثم إنه قدح بعدما أضر فأبصر. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم شيخ الإمامية وعالمهم شمس الدين الهمداني الدمشقي السكاكيني الشيعي. قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: حفظ القرآن بالسبع، وتفقه وتأدب، وسمع في حداثته من الرشيد بن مسلمة، والرشيد العراقي، ومكي بن علان وجماعة، وخرج له ابن الفخر عنهم. وربي يتيماً فأقعد في صناعة السكاكين عند شيخين رافضيين، فأفسداه، وأخذ عن أبي صالح الحلبي، وصاحب الشريف محيي الدين بن عدنان. وله نظم وفضائل، ورد على التلمساني في الاتحاد. وأم بقرية جسرين مدة، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 أخرج منها. وأم بالسامرية، ثم إنه أخذه منصور بن جماز الحسيني معه إلى المدينة، لأنه صاحبها، واحترمه. وأقام بالحجاز سبعة أعوام، ثم رجع. وهو شيعي عاقل، لم يحفظ عنه سب، بل نظم في فضائل الصحابة. وكان حلو المجالسة، ذكياً عالماً فيه اعتزال، وينطوي على دين وإسلام، وتعبد، على بدعته، وترفض به ناس من أهل القرى. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى: هو ممن يتشيع به السني، ويتسنن به الرافضي. وكان يجتمع به كثيراً وقيل: إنه رجع آخر عمره عن أشياء. نسخ " صحيح " البخاري، وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر. وتوفي في سادس عشري صفر سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. قلت: لما كان يوم الاثنين حادي عشري ذي الحجة سنة خمسين وسبع مئة، أحضر صلاح الدين محمد بن شاكر الكبتي بدمشق إلى شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى كتاباً في عشرين كراساً قطع البلدي في ورق جيد، وخط مليح سماه مصنفه " الطرائف في معرفة الطوائف " افتتحه بالحمد لله وشهادة أن لا إله إلا الله فقط. وقال بعد ذلك: " أما بعد فإنني رجل من أهل الذمة ولي على الإسلام حرمة، فلا تعجلوا بسفك دمي قبل سماع ما عندي، ثم أخذ في نقض عرا الدين عروة بعد عروة، وأورد أحاديث وتكلم على متونها، وتكلم في جرح الرجال وطعن عليهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 كلام محدث عارف بما يقول، وذكر أموراً دلت على زندقته وتشيعه، وختم ذلك بأن قال: ولله القائل: فإن كنت أرضى ملةً غير ملتي ... فما أنا إلا مسلم أتشيع وشهد صلاح الدين المذكور وآخر من أهل الحديث المعروفين بأن هذا خط شمس الدين السكاكيني، فظهر من ذلك أنه تصنيفه، لأنه قال في فهرست الكتاب المذكور: تصنيف عبد المحمود بن داود المصري، وقال شيخنا عماد الدين بن كثير: الأبيات التي كتبت للشيخ تقي الدين، أولها: أيا معشر الإسلام ذمي دينكم ........................... وقد ذكرتها أنا في ترجمة الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي كاملة لهذا السكاكيني. فقطع شيخنا قاضي القضاة هذا الكتاب الملعون وغسله وحرقه، قال - رحمه الله تعالى: أخذته معي إلى بستان لأنظر فيه ونويت تقطيعه وغسله، ثم إنني انتبهت في الليل وقلت لنفسي: لعلك يا علي لا تصبح غداً، فقمت في الليل وقطعته وغسلته، قلت: والله أعلم لحقيقة حال هذا الرجل. ولكن الذي ظهر لنا أنه كان متزندقاً، غير مسلم. وقالوا: إن قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم رجع من جنازته. ونقلت من خط شيخنا علم الدين البرزالي، قال أنشدني لنفسه: أجزت لهم ما يسألون بشرطه ... أثابهم ربي ثواب أولي العلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 ووفقهم أن يعملوا بالذي رووا ... فعال أولي الإخلاص والجد والعزم وكاتبها العبد الفقير محمد ... هو ابن أبي بكر بن قاسم العجم ومولده في عام خمس وبعدها ... ثلاثون والست المئون لدى النجم ونقلت منه أيضاً ما خاطب به صاحب المدينة منصور ورميثة صاحب مكة: ألا يا ذوي الألباب أصغوا لناطق ... بحق وباغي الحق من ذا يدفعه إذا لم نسل النبي محمد ... نتابعه في الدين من ذا نتابعه فإن كان مسبوقاً وذو البعد سابقاً ... إلى المصطفى والدين من ذا يمانعه فكم من بعيد للشريف معلم ... طرائق آباء له وهو سامعه وهذا بديع في الزمان وأهله ... وما زال الدهر جم بدائعه ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين بن غانم، قال أنشدني الشيخ شمس الدين السكاكيني لنفسه: هي النفس بين العقل والطبع والهوى ... وما العقل إلا كالعقال يصونها فداعي الهوى يدعو إلى ما يشينها ... وداعي النهى يدعو إلى ما يزينها فإن أطلقت من غير قيد توثبت ... على حظها الأدنى وزاد جنونها وإن نظرت بالعقل ينبوع نوره ... أضاءت لها الظلمات طاب معينها وحنت إلى الذكر الحكيم تدبراً ... رياض معانيه وذاك يعينها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وفزت به منه إليه محققاً ... وعادت إلى الأكوان تزكو فنونها فأكرم بها نفساً زكت مطمئنةً ... بمجبوبها قرت لديه عيونها فياذا الذي ضيعت نفسك في الهوى ... تروم لها عزاً وأنت تهينها أجب إذا دعاك الحق طوعاً لأمره بطيب رضا نفس قوي يقينها ولا تبخلن بالنفس إذ هي ملكه ... إليه بها فارجع فأنت أمينها قال شيخنا علم الدين البرزالي: حدثني قاضي القضاة شمس الدين محمد بن مسلم الحنبلي، قال: كنت بالجامع بعد الجمعة وقد أحضرت جنازته، فقمت وصليت عليه ومشيت مع الجنازة إلى قريب المدرسة الركنية، فأخبرت أنها جنازته، فرجعت من هناك، ولم أشهد دفنه، وذلك لأنه كان رافضياً داعية إلى الرفض، أقام بعدة قرى فرفض أهلها وأخرج من الصالحية لهذا السبب. محمد بن أبي بكر بن عمر ابن محمد، قاضي الممالك القانية، برهان الدين، أبو عبد الله السمرقندي النوجاباذي الحنفي البخاري، قاضي المغل. كان صدراً معظما، وعالماً مفخما، كثير الكيس واللطافة، عزيز النفس التي تحف أخلاقه وأعطافه، حسن المذاكره، جميل المحاولة والمحاوره، يلازم الملوك والزراء، ووجوه الدول والأمراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 ولم يزل على حاله في وجاهته وعظم قدره ونباهته إلى أن سلب روحه، وعمر بجسده ضريحه. وتوفي - رحمه الله تعالى .... - سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة. قدم بغداد مراراً، وروى بالإجازة عن سيف الدين الباخرزي، يقال إنه سمع منه. قال شيخنا الذهبي: ولم يصح. ولما كمل من عمره ثمانين سنة عمل وليمة عظيمة، واتفق موته بعدها بجمعة، وكانت وفاته قريباً من تبريز. وأخذ عنه السراج القزويني ومحمد بن يوسف الزرندي وأجاز لأولد شيخنا الذهبي. محمد بن أبي بكر بن عيسى ابن بدران بن رحمة، الإمام قاضي القضاة، علم الدين الأخنائي، بهمزة وخاء معجمة ونون وألف ممدودة، السعدي المصري الشافعي، قاضي قضاة الشام. حدث عن أبي بكر الأنماطي، والأبرقوهي، وابن دقيق العيد، وتفقه، وشارك، وكان من عدول الخزانة بالديار المصرية. ثم إنه ندب لقضاء الإسكندرية. ولما توفي شيخ الشيوخ علاء الدين القونوي بدمشق رسم له السلطان بقضاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 الشام، وحضر صحبة الأمير سيف الدين تنكز من القاهرة، وكانت ولايته في الإصطبل السلطاني يوم السبت بعد العصر رابع المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ووصل إلى دمشق يوم الجمعة رابع عشري المحرم. كان عالماً، ساكناً صيناً، وافر الجلاله، سافر البساله، متوسطاً في العلم، كتبسطاً في الحلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، سلفي الطريقه، سلفي الحقيقة، يحب الروايه، ويعتني بها أتم عنايه. ولم يزل على حاله إلى أن أخنى على الأخناي دهره، وضمه بعد علو منصبه قبره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده عاشر شهر رجب سنة أربع وستين وست مئة. وتولى بعده قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة. وكان القاضي علم الدين قد لازم الدمياطي مدة. ومن أمداح الشيخ جمال الدين محمد ابن نباته فيه، قوله: قاضي القضاة بيمنى كفه القلم ... يا ساري القصد هذا البان والعلم هذا اليراع الذي تجني الفخار به ... يد الإمام الذي معروفه أمم معيي الأماثل في علم وفيض يد ... فالسحب باكية والبحر ملتطم وافى الشآم وما خلنا الغمام إذاً ... بالشام ينشأ من مصر وينسجم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 آهاً لمصر وقد شابت لفرقته ... فليس ينكر إذ يعزى لها الهرم وأوحش الثغر من رؤيا محاسنه ... فما يكاد بوجه الدهر يبتسم ينشي وينشد فيه الثغر من أسف ... بيتاً تكاد به الأحشاء تضطرم يا من يعر علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم يزهى الشآم بمن فارقت طلعته ... واحر قلباه ممن قلبه شبم محمد بن أبي بكر بن عيسى قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي الحاكم بالديار المصرية. أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة في شهر رمضان. تولى الحكم بالديار المصرية في ... وأقام على حاله إلى أن طلع القلعة ليحضر دار العدل، فرأى السلطان الملك الناصر من نظرة حاله فهم منها أنه يعمى، قال شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي: فأرسل إليه السلطان من قال له: انزل إليه فما تجده قد وصل إلى بيته إلا وهو أعمى، فلما وصل إليه الرسول وجده قد عمي بماء نزل في عينيه، فلما أخبره بذلك قال له: أشتهي من صدقات السلطان أنه كما فهم عني هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 الحال يكتمها علي ويدع منصبي علي إلى أن أعالج نفسي، فقبل السلطان ذلك، وترك منصبه عليه مدة ستة أشهر إلى أن قدح عينيه وأبصر وطلع القلعة ونزل، أو كما قال. واستمر على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وكان السلطان يعظمه ويرجع إلى أقواله في أشياء، ولما عزل القضاة بمصر عزل قاضي القضاة جلال الدين القزويني وقاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق الحنفي، وعزل قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وأما قاضي القضاة تقي الدين بن الأخنائي فلم يغير عليه شيئاً من حاله، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد قال في وقت يوم دار عدل للقضاة: أريد تبصرون لي رجلاً فاضلاً شافعياً يعرف عربية، ويكون ساكناً، لا يدخل في شيء غير التعليم، فأجمعوا كلهم على الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين، وانفصل الحال على ذلك ولم يجر شيء غير ما جرى، ولا طلب الشيخ برهان الدين، وسكن الحال حتى نقب قاضي القضاة جلال الدين القزويني عن السبب، فوجد أن القاضي تقي الدين الأخنائي قال للسلطان: مالك به حاجة، فإنه من أصحاب ابن تيمية، فسكت السلطان ولم يجر بعد ذلك شيء. وكان في نفس قاضي القضاة تقي الدين منه من أيام واقعة شهاب الدين بن مري لما كان يتكلم عنده في الجامع، وجرى ما ذكرته في ترجمة شهاب الدين بن مري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 محمد بن أبي بكر بن ظافر ابن عبد الوهاب، قاضي القضاة، شرف الدين الهمداني، بسكون الميم وبعدها دال مهملة، المالكي، ابن قاضي القضاة معين الدين أبي بكر ابن الشيخ ركن الدين أبي منصور. حضر من الديار المصرية إلى دمشق في خامس جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة. كان ساكناً، كثير الوقار، سعيد الحركات في المحافل الكبار، كثير التجمل في ملابسه، غزير الإطراق والصمت عند مجالسته، لا يرى من حاضره في دسته المكمل، غير أنه " كبير أناس في بجاد مزمل ". إلا أنه وادع السر ليس عنده أذى ولا يطبق أحد جفنه منه على قذى. وكان الأمير سيف الدين تنكز يجله ويضعه فوق النجوم ويحله. ولم يزل على حاله إلى أن قضى قاضي القضاة نحبه، وفارق أعزاءه وصحبه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الأحد ثالث المحرم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وصلى عليه الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب دمشق والأمراء والقضاة والحجاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 والأعيان بسوق الخيل، ودفن في تربته التي أنشأها بميدان الحصى، وفي يوم موته حررت قبلة الجامع الذي عمره يلبغا. وكان شكلاً طويلاً مهيباً يعظمه النواب كلهم ويحترمونه، وكان يعاني الآلات الكبار في جميع ما عنده من دواة وقنديل ومغرز وطاسة، وما يرى أحد مثل القماش الذي يكون عليه ولا أغرب، ولا يرى ألطف من شاشة وقماشه، ولا أطيب من ريحه. محمد بن أبي بكر بن محمد ابن طرخان بن أبي الحسن، العالم الفاضل الأديب شمس الدين. سمع حضوراً من إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف، وسمع الكثير من ابن عبد الدائم، وكتب المنسوب، وله نظم ونثر. وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وله حضور في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة، وهو في الثانية من عمره. وحضر على إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف الحراني، وأبي طالب بن السروري، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد الوهاب بن الناصح وجماعة وطلب بنفسه وكتب الطباق، وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد ومن بعده، وخرج له ابن خاله شمس الدين بن سعد " مشيخةً " في مجلدين وحدث بها غير مرة. وكان كاتباً مجيداً، وكان يصحب الأكابر ويخدمهم وله مرتبات جيدة بالشام على الديوان السلطاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن سعد بن حريز الزرعي، الشيخ الإمام الفاضل المفتن شمس الدين الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية. سمع على الشهاب العابر وجماعة كبيرة منهم سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وأبو نصر محمد بن عماد الدين الشيرازي، وابن مكتوم، والبهاء بن عساكر، وعلاء الدين الكندي الوداعي، ومحمد بن أبي الفتح البعلبكي، وأيوب بن نعمة الكحال، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وجماعة سواهم. وقرأ العربية على ابن أبي الفتح البعلي، قرأ عليه " الملخص " لأبي البقاء، ثم قرأ " الجرجانية "، ثم قرأ " ألفية ابن مالك "، وأكثر " الكافية الشافية " وبعض " التسهيل "، ثم قرأ على مجد الدين التونسي قطعة من " المقرب ". وأما الفقه فأخذه عن جماعة منهم الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، قرأ عليه " مختصر " أبي القاسم الخرقي و" المقنع " لابن قدامة، ومنهم ابن أبي الفتح البعلي، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحرر " تأليف جده، وأخوه الشيخ شرف الدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وأخذ الفرائض أولاً عن والده وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل بن محمد، قرأ عليه أكثر " الروضة " لابن قدامة، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحصول " ومن كتاب " الأحكام " للآمدي. وقرأ في أصول الدين على الهندي أكثر " الأربعين " و" المحصل "، وقرأ على الشيخ تقي الدين بن تيمية قطعة من الكتابين، وكثيراً من تصانيفه. وكان ذا ذهن سيال، وفكر إلى حل الغوامض ميال، قد أكب على الاشتغال، وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال، وناظر وجادل وجالد الخصوم وعادل، قد تبحر في العربية وأتقنها، وحرر قواعدها ومكنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنصول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكل من أخذ عنه. وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخارة كل فائدة مهمه، ومن كواكبه السيارة كل نير يجلو حنادس الظلمه. وأما الخلاف ومذاهب السلف فذاك عشه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه الخادر ودخل وخرج. وكان جريء الجنان ثابت الجأش لا يقعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 أقدام، وحظه موفور، وقبوله كل ذنب معه مغفور، وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين بن تيمية في جميع أحواله، ومقالاته التي تفرد بها والوقوف عند نص أقواله. وتوجه إلى الحجاز مرات، وحاز ما هناك من المبرات. ولم يزل على حاله إلى أن دخل تحت رزة الرزيه، وعدم الناس منه لذة الحلوى السكرية وإن كانت نسبته إلى الجوزيه. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى تسعين وست مئة. وكان محظوظاً عند المصريين من الأمراء، يعطونه الذهب والدراهم، وهبه الأمير بدر الدين بن البابا مبلغ اثني عشر ألف درهم، والأمير سيف الدين بشتاك أعطاه في الحجاز مئتي دينار. وكان قد اعتقل مع الشيخ تقي الدين بن تيمية في قلعة دمشق بسبب " مسألة الزيارة "، ولم يزل إلى أن توفي الشيخ تقي الدين، فأفرج عنه في ثالث عشري الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك. ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولاً كباراً جيدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فن ولا مذهب، بكل كتاب نسخ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات. وأقام أولاده شهوراً يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 واجتمعت به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصاً في العربية والأصول. وأنشدني من لفظه لنفسه: بني أبي بكر كثير ذنوبه ... فليس على من نال من عرضه إثم بني أبي بكر جهول بنفسه ... جهول بأمر الله أنى له العلم بني أبي بكر غدا متصدراً ... يعلم علماً وهو ليس له علم بني أبي بكر غدا متمنياً ... وصال المعالي والذنوب له هم بني أبي بكر يروم ترقياً ... إلى جنة المأوى وليس له عزم بني أبي بكر يرى الغنم في الذي ... يزول ويفنى والذي تركه غنم بني أبي بكر لقد خاب سعيه ... إذا لم يكن في الصالحات له سهم بني أبي بكر كما قال ربه ... هلوع كنود وصفه الجهل والظلم بني أبي بكر وأمثاله غدوا ... بفتواهم هذي الخليقة تأتم وليس لهم في العلم باع ولا التقى ... ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم فوالله لو أن الصحابة شاهدوا ... أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم ومن تصانيفه: " زاد المعاد في هدى خير العباد " أربعة أسفار، " مفتاح دار السعادة "، مجلد كبير، " تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته "، نحو ثلاثة أسفار، " سفر الهجرتين وطريق السعادتين " سفر كبير، كتاب " رفع اليدين في الصلاة "، سفر متوسط " معالم الموقعين عن رب العالمين "، سفر كبير، كتاب " الكافية الشافية لانتصار الفرقة الناجية "، وهو نظم نحو ستة آلاف بيت، وهذا الكتاب لما وقف عليه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أنكره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وتطلبه أياماً، " الرسالة الحلبية في الطريقة المحمدية "، " بيان الاستدلال على بطلان محلل السباق والنضال "، " التحبير بما يحل ويحرم لبسه من الحرير "، " الفروسية المحمدية "، " جلي الأفهام في أحكام الصلاة والسلام على خير الأنام "، " تفسير أسماء القرآن "، " تفسير الفاتحة "، مجلد كبير، " اقتضاء الذكر بحصول الخير ودفع الشر "، " كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء "، " الرسالة الشافية في أسرار المعوذتين "، " معاني الأدوات والحروف "، " بدائع الفوائد " مجلد. محمد بن أبي بكر بن إبراهيم ابن عبد الرحمن الدمشقي، الشيخ الإمام قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب الشافعي، قاضي حمص، وقاضي قضاة طرابلس، وقاضي قضاة حلب، ومدرس الشامية الكبرى بدمشق أخيراً. كان عالماً حبرا، وحاكماً برا، من قضاة العدل وأئمة الهدى، وحكام الحق الذين تساوى عندهم في القضاء الأحبة والعدا، مع لطف خلق كأنه نسيم، وتواضع يراه محادثه ألذ من كأس تنسيم، سالكاً طريق السلف والأخيار، ناهجاً سبيل السنة والآثار، لم يحك عنه ميل مذ حكمه ولا حيف، ولا جنف تزول به عن المظلوم لذة من قدوم ضيف الطيف، وكان من بقايا الأئمة، وخبايا هذه الأمه. ولم يزل على حاله بدمشق إلى أن طرق الموت لابن النقيب طريقه، وترك العيون بالدموع غريقه، والقلوب بالأحزان حريقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ومات عن بضع وثمانين سنة. وحدث عن ابن النحاس وطائفة. وكان قد تفقه على الشيخ محيي الدين النواوي - قدس الله روحه - وقال له يوماً: أهلاً بقاضي القضاة ومدرس الشامية، فما مات رحمه الله تعالى حتى نال ذلك أجمع ببشرى الشيخ له. وسمع من ابن البخاري وغيره، وكان عنده خمائر في الفقه من الشيخ محيي الدين، ويعرف " شرح العمدة " للأحكام الذي لابن دقيق العيد معرفة جيدة ويقرئها لما كان بدمشق للطلبة. ولما عزل القاضي فخر الدين ابن البارزي من حمص رسم الأمير سيف الدين تنكز للشيخ شمس الدين بالتوجه إلى قضاء حمص، فامتنع من ذلك، فتهدده، فما أمكنه إلا الرواح إليها، وتوجه إليها في يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وخرج الناس لوداعه واستناب في وظائفه. محمد بن أبي بكر بن أحمد ابن عبد الدائم المقدسي. سمع الكثير من جده، ومن محمد بن إسماعيل خطيب مردا، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 محمد بن بلبان الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين البدري. كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وكان قد زوج ابنته بركن الدين عمر بن الأمير ناصر الدين دوادار تنكز، ودخل بها في ليلة الجمعة عاشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، وكان عرس عظيم وزفة عظيمة، ثم إن تنكز ولاه الحجبة. محمد بن تميم شرف الدين أبو عبد الله الإسكندري، نزيل اليمن، أحد كتاب الدرج للملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن. نقلت من خط الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني. قال: نشأ المذكور في بلاد المعبر من بلاد الهند، وكان كاتب درج الملك الرحيم تقي الدين عبد الرحمن بن محمد الوساملي الطيبي، ثم لما مات مخدومه وفد إلى الملك المؤيد فاستكتبه. وكان ذا لفظ صنيع، ونظم بديع وله إنشاء حسن، وكان يعرف بالمقاماتي وحاولته على أن أرى تلك المقامات، وكان يجيب ما هي مقامات بل قمامات. اجتمعت به في عدن سنة ثلاث وسبع مئة وأنشدني قصيدة مدح بها عز الدين عبد العزيز بن منصور الحلبي عرف بالكويكي وقد جاء إلى عدن بمال عظيم لم ير مثله، وأول القصيدة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 أتذكر ليلى عهدنا المتقدما ... أم البين أنساها عهوداً على الحمى وأيامنا اللائي على الخيف قد مضت ... بمجلس أنس بالمسرة تمما وكنت أنا وإياه يوماً على باب البحر بثغر عدن فمر خادم هندي بديع الصورة فقال لي: أنظم في هذا بيتين فنظمت بديهاً: بأبي طبي من الهند حكى ... لحظه الهندي في أفعاله جوهري الثغر يدعى جوهرا ... وأراه الفرد في أمثاله فعجب من سرعة البديهة، قال: لكني أحكي لك حكاية اتفقت لي في بلاد الهند، اقترح علي بعض التجار الرعن اقتراحاً فيه قبح، وذاك أنه كان له خادم هندي يسمى جوهراً وكان مغرماً به، فقال لي تستطيع أن تنظم أبياتاً مضمونها أن فعلي لذلك الحال موجب لنفاسة هذا العلق عندي ومتى فعلت هذا أعطيك عشرين عيناً، فأنشدته أبياتاً من غير روية، وهي: أقول للخل عداك الردى ... إني أنا الماس فلا تعتجب في أصلي الحدة أسطو بها ... على أصم الجوهر المنتسب والجوهر الشفاف ما لم يكن ... يثقبه الثاقب لم ينتسب فلي على الجوهر فضل إذا ... صيرته بين الورى منثقب قال الشيخ تاج الدين: وكان مولعاً بأكل البر شعثا أكثر أوقاته، غائب الذهن منها، وكرهه السلطان لذلك. مات - رحمه الله تعالى - سنة خمس عشرة وسبع مئة وله موشحات بديعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 محمد بن تمر الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير سيف الدين الساقي نائب طرابلس. كان شاباً حسن الصورة، كريماً، شجاعاً، فيه خير ودين، قرئ في داره " صحيح " البخاري، وسمعه معه جماعة، وكان عمره يوم مات خمسة وثلاثين سنة. وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق تاسع صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتقدم ذكر والده في حرف التاء مكانه. محمد بن ثابت الفقيه شمس الدين الخبي الحنبلي الصالحي رفيق ابن سعد. قال شيخنا الذهبي: عاقل، سمع ودار على الشيوخ، وتنبه قليلاً، ثم أم بقرية بالمرج، سمع مني. وتوفي شاباً - رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. محمد بن جابر العالم المقرئ المحدث، الجليل، أبو عبد الله الأندلسي، الوادي آشي، ثم التونسي المالكي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 قرأ على والده، بالسبع على طائفة، وسمع من ابن هارون الطائي، وأبي العباس بن الغمار، وطائفة بتونس. قال شيخنا الذهبي: وقرأ عندنا " صحيح " البخاري، وسمع من البهاء بن عساكر، وبمكة من الرضي الإمام، انتقى العلائي عليه جزءاً، وكان حسن المشاركة في الفضائل، خرج " الأربعين البلدانية "، كتبها عنه شيخنا علم الدين البرزالي. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة. محمد بن جعفر بن ضوء البعلبكي الفقيه شمس الدين الشافعي. كان من فقهاء المدرسة القيمرية بدمشق، وكان له تردد إلى الناس واجتماع بهم، وله عليهم خدمة ومعرفة بقضاء حوائجهم وأشغالهم، على في نفوسهم، وهو مطبوع داخل. وكانت بينه وبين النجم هاشم البعلبكي مودة وصحبة واتحاد، وكان حسن الشكالة والصورة. توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس وأثنى الناس عليه وتأسفوا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 محمد بن جعفر بن محمد ابن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون الشيخ الإمام الشريف تقي الدين ابن الشيخ ضياء الدين القنائي، بالقاف والنون. كان فقيهاً، شاعراً، صالحاً، سمع من أبي محمد عبد الغني بن سليمان، وأبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن نصر بن فارس. وحدث بالقاهرة، وسمع منه الشيخ عبد الكريم بن عبد النور وجماعة، ودرس بالمدرسة المسرورية وتولى مشيخة خانقاه أرسلان الدوادار، وانقطع بها وتزوج بعلما أخت الشيخ تقي الدين، ورزق منها ابنين فقيهين، قال كمال الدين الأدفوي: كان خفيفاً، لطيفاً، وله شعر. أنشدني بعض أصحابنا بقوص مما نظمه سنة اثنتين وسبع مئة، عندما حصلت الزلزلة. مجاز حقيقتها فاعبروا ... ولا تعمروا هونوها تهن وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذ زلزلت لم يكن ومن شعره أيضاً: من بعد فراقكم جرت لي أشيا ... لا يمكن شرحها ليوم اللقيا كم قلت لقلبي بدلاً قال بمن ... والله ولا بكل من في الدنيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 قال: ووفاته بالقاهرة في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده بقوص ظناً سنة خمس وأربعين وست مئة. قلت: أخبرني من لفظه القاضي الرئيس الكاتب تاج الدين محمد بن محمد البارنباري. قال: قال لي الشيخ تقي الدين المذكور لما نظمت: " مجاز حقيقتها فاعبروا " البيتين بقي في نفسي شيء من كوني ذكرت في الشعر أسماء سور القرآن العظيم، فأتيت الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - وأنشدتهما له، فقال: لو قلت: " وما حسن كهف له زخرف " لكنت قد زدت سورة رابعة. قال: فقلت له يا سيدي: قد أفدتني وأفتيتني، أو كما قال. وأنشدني قال: أنشدني المذكور لغزاً في العين الباصرة: ومحبوبة عند المنام ضممتها ... أحس بها لكنني ما نظرتها لذيذة ضم لا أطيق فراقها ... وكم من ليال في هواها سهرتها قلت: وما أحسن قوله " في هواها سهرتها ". وقد ذكرت هنا لغزاً في العين للجهرمي وهو حسن: إن التي أودت فؤادي تلت ... حزناً عليه وهو ملسوعها جملتها واحد أجزائها ... طبيعة يعجب مطبوعها فالكل إذ يقرأ بعض لها ... والبعض إذ يذكر مجموعها عميتها في لحن قولي فمن ... يخرجها إذ كان يسطيعها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وقد رأيت لبعضهم ستة أسماء من سور القرآن العظيم في بيت واحد وهو قوله: أقول وقد هبت لنا نسمة الصبا ... ترى دارت بنا كأس قرقف وفاطر قلبي هل أتى نبأ الورى ... بتمل عذار جاء في صف يوسف وما أحسن ما نقلته من خط السراج الوراق: سامح بفضلك من أتى ... ذنباً ولقنه المعاذر وبزخرف من قوله ... كن أنت للزلات غافر وأنشدني قال: أنشدني لنفسه أيضاً: حياة المنازل سكانها ... هم روحها وهي جثمانها أضاءت بمن حلها بهجةً ... كما حل بالعين إنسانها وللظاعنين تحن الديا ... ر كأن الأحبة أوطانها قلت: ذكرت بهذا قول أبي الحسين الجزار، وهو: طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان يا سائلي عما تكابد مهجتي ... إعراب طرفي بالدموع بيان تبكي الجفون على الكرى فاعجب لمن ... تبكي عليه إذا نأى الأوطان وأنشدني قال أنشدني المذكور لنفسه في باذهنج: كأنما الباذهنج قلع ... علا على الفلك حين تسري لكن ذاك الرياح أجرت ... وذا غداً للرياح يجري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وذكر هنا قول شهاب الدين مسعود بن محمد بن مسعود السبكي المالكي: وباذهنج إذا حر المصيف أتى ... أهدى النسيم وقد رقت حواشيه مصغ إلى الجو ما ناجاه نافحة ... إلا ونم عليه فهو واشيه قلت: ومما قلته أنا في باذهنج: بنينا للتنسم باذهنجا ... غلا فعلى إلى جو السماء وراق به الهواء ورق لطفاً ... فسميناه راووق الهواء وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في شيخ منحن مطيلس: كالعين شيخ منحن ... مطيلس أعرفه تقويسها كظهره ... ورأسها رفرفه قلت: هذا تشبيه عجيب، وتخيل غريب إلى الغاية. وأنشدني قال أنشدني فيمن جهز إليه بوريه فايتة: دع الاضطراب عن الحيا ... ة وخل نفسك ثابتة وازرع فحبات القلو ... ب بها المحبة نابته وذكرت فايتةً فقم ... للفور واقض الفايته محمد بن جنكلي الأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا الحنبلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 تقدم ذكر والده في حرف الجيم مكانه. كان جمال المواكب، وثمال الكواكب، أحسن خلق الله وجهاً وقواما، كأنه غصن بان ركب الله في أعلاه قمراً تماما، مع أخلاق ما للنسيم لطفها، ولا لأزاهر الرياض اليانعة عرفها، ولا للغصون الناعمة لينها ولا عطفها، وسماح يتعلم السحاب سحه، ويظهر من البحر شحه، وكتابة إن وصفتها بالخمائل أخملتها، وإن قلت: هي كالعقود، فقد نقصت من قدرها وأهملتها، تصبح بها السطور وقد توشت، والعيون وقد تردت بالمحاسن وتغشت، وفقه ما لابن حزم حزمه، ولا لابن عبد البر نقله ولا جزمه، وحديث ما ترقى الخطيب درجه، ولا ألم به ابن عساكر ولا خرجه، وأسماء رجال يغرق فيها ابن نقطه، ويتحقق سامعه أنه ما عند السمعاني بعدها غبطه، وأدب ما وصل الحصري إلى أنماطه، ولا صاحب " الذخيرة " إلى التقاطه، ولا صاحب " القلائد " إلى تيجانه وأقراطه، وشعر راق نسجه، ولاق نهجه: شخص الأنام إلى جمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد ولم يزل على حاله إلى أن حل بحماه الحمام، وأبكى عليه حتى الحمام. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة. كان أولاً قد اشتغل بمذهب أبي حنيفة، ثم إنه تمذهب للإمام أحمد بن حنبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة: بك استجار الحنبلي ... محمد بن جنكلي فاغفر له ذنوبه ... فأنت ذو التفضل وكتب طبقة واشتغل في غير ما فن، ولم يزل مواظباً على سماع الحديث، واختلط بشيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تخرج، وعنه أخذ معرفة الناس وأيامهم وطبقاتهم وأسماء الرجال. وكان آية في معرفة فقه السلف ونقل مذاهبهم وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا أجود ما عرفه، مع مشاركة جيدة في العربية والطب والموسيقا. وكان في النظم متوسط الطبقة وربما تعذر عليه حيناً، لكن له ذوق في الأدب، يفهم لطائف المعاني ويدركها ويهتز للفظ السهل، ويطرب لنكت الشعراء المتأخرين كأبي الحسين الجزار والوراق وابن النقيب وابن دانيال وابن العفيف ومن جرى مجراهم، ويستحضر من مجون ابن حجاج جملة. وكان يلعب الشطرنج والنرد، وقل أن رأيت مجموعه في أحد. رأيته غير مرة واجتمعت به كثيراً، وقد شاركته في بعض سماعاته، وسمع بقراءتي على شيخنا الحافظ أبي الفتح كثيراً، ورد علي يوماً بعض الأسماء صحفته أنا ذهولاً مني، ولما فرغنا أنشدته: يرد علينا ما نقول أميرنا ... لئلا يرانا في النهى دون حدسه ويختار منا أن نكون كمثله ... ويطلب عند الناس ما عند نفسه فأعجبه هذا التضمين وطرب له. وكان فيه بر وإيثار لأهل العلم والفقراء، ويخير مجالسة أهل العلم على مجالسة الأمراء والأتراك، وكان كثير الميل إلى من يهواه، لا يزال متيماً، هائماً، يذوب صبابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 ويفنى وجداً، ويستحضر في هذه الحالة ما يناسبها من شعر الشريف الرضي ومهيار وابن المعلم، ومتيمي العرب جملة يترنم بها ويراسل بذلك، ويعاتب. وخرج له شهاب الدين أحمد الدمياطي أربعين حديثاً، وحدث بها قبل موته، وأثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه: " البدر السافر " ثناء كثيراً. ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - وأنا بدمشق قلت أرثيه، وضمنت القصيدة أعجاز أبيات قصيدة أبي الطيب: هي الأيام ليس لها ذمام ... وليس لها على عهد دوام نصبنا للردى غرضاً فأصمت ... حشانا من رزاياه السهام وما بعد الرضاع وذاك حق ... تبين عندنا إلا الفطام نسير على مطايا للمنايا ... وفي كف الزمان لها زمام إذا متنا تنبهنا لهول ... نرى أن الحياة هي المنام ألم تر كيف عاث الدهر فينا ... وأودى ناصر الدين الهمام فشق الرعد جيب السحب لما ... تلهب برقها وبكى الغمام فيا أسفاً لوجه كان يبدو ... فيستحيي له القمر التمام وبالشمائل كم هام فيها ... فؤاد ما يسليه المدام ويا لخلائق كالروض لما ... تفتح عن أزاهره الكمام ويا لفضائل قلنا لديها ... أفدنا أيها الحبر الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 ويا لكتابة كالدر لما ... يؤلفه على النحر انتظام وكان يرام في بذل العطايا ... وأما في الجدال فما يرام ولم نر في الزمان له شبيهاً ... وإن كثر التجمل والكلام أيا من في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام لئن عمت مصيبتك البرايا ... وصار بها على الدنيا ظلام فكم حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام ستندبك المواكب كل يوم ... ويبكيك المثقف والحسام لأنك ما شهدت الحرب إلا ... تعالى الجيش وانحط القتام فلو تفدى بذلنا كل نفس ... لأن حلال بقيانا حرام ولو رد الردى حرب لشبت ... وكان وقودها جثث وهام وكف الخطب عنك كفاة أهل ... هم في الروع أمجاد كرام أب وأخ هما ليثا عرين ... إذا ما كان للحرب اصطلام يعز عليهما أن بت فرداً ... وجالت في محاسنك الهوام وما تركاك رهن الترب عندا ... ولكن معدن الذهب الرغام فنم فلو افتقرت لفعل بر ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا وما تحتاج عند الله قربى ... مواهبه لنا أبداً جسام فللرحمن لطف واعتناء ... بمن بالعلم كان له اعتصام فكم أذريت خوف الله دمعاً ... غمائمه إذا انهلت سجام قضيتك بالوفا حقاً أكيداً ... لأن بصحبة يجب الذمام سأجعل طيب ذكرك لي سميراً ... ومن يعشق يلذ له الغرام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وأرجو الله أن يوليك رحمى ... ومن إحدى عطاياه الدوام فلا تبعد فنحن عليك وفد ... وغايتنا لهذا والسلام وأورد الكمال الأدفوي في آخر ترجمة الأمير ناصر الدين، وأظن ذلك في نظم كمال الدين المذكور فيه: أبكي عليك بدمعة كتبت على ... صفحات خد للكئيب سطورا تجري من العين التي أنشأتها ... ما زال من إحسانه مسرورا سالت عقيقاً فاستحالت عندما ... شابت فصارت لؤلؤاً منثورا قلت: العين وإنسانها لا يوصفان بسرور البتة، وإنما السرور من صفات القلب. وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - لما أخرج السلطان الملك الناصر محمد خليل بن بلغدار إلى الشام بسببه، وكان له إليه ميل عظيم: ومن حيثما غيبت عني ظاهراً ... وسرت على رغمي وفارقتني قسرا أقمت ولكني وعيشك آيس ... من الروح بعد الخل أن تسكن الصدرا فكم عبرة للعين أجريتها دماً ... وكم حرق في القلب أذكيتها جمرا لعل الذي أضحى له الأمر كله ... على طول ما ألقاه يحدث لي أمرا وأنشدني من لفظه لنفسه في المذكور، اهتدم قول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وحولي ... إذخر وجليل وهل أردن يوماً مناهل جلق ... ويبدو لعيني شامة وخليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وقال كمال الدين الأدفوني نقلت من خطه له: وإذا اعتبرت سني عمرك في الهوى ... ومرورها في أعصر الخسران وعلمت أن المرء منها راحل ... سقراً به للسخط أو رضوان أيقنت أن الفوز فيها للتقى ... ولمن يقوم بمحكم القرآن فاجهد لنفسك يا أخي مخلصاً ... فلقد نصحتك في جميل بيان وكتبت له وأنا بالقاهرة منشوراً بإمرة أحد وأربعين رمحاً في أيام السلطان الملك الناصر محمد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بمحمده، وجعل مفارق العدا من أغماد مهنده، وأطفأ بوبل نبله حر الوغى إذا زاد في توقده وجمع له بين فضل السيف والقلم، فكان هذا الجمع من مزايا تفرده. نحمده على نعم التي منحت دولتنا القاهرة ولياً تعقد عليه الخناصر، وخصت أيامنا الزاهرة بماجد طابت منه الأصول، كما طابت العناصر، وزانت مواكبنا الوافرة بفارس يصبح النجم عن مداه وهو قاص والبرق قاصر، واعتزت جيوشنا الباهرة منه ببطل من لم يكن له وسمه واسمه " فماله من قوة ولا ناصر ". ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترغم معاطس الكفر والضلال ونعلي بها كلمة الإيمان بصدور البيض البتر وكعوب السمر الطوال، ونطلع بها في ليل العجاج المظلم أسنة الذوابل تتقد كالذبال، وننال بإخلاصها النصر إذا تبت يد الكافر يوم الفتح في القتال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده ونصر الدين الحنيف بأنواع أعوانه وأجياد جياده وأتعب السيوف في راحته حتى لقي الشرك وألوفه بالتوحيد وآحاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعاهم إلى هداهم فثنوا إليه الأعنة ورأوا أفعاله فرووا عنه السنة وجالدوا عداه، فرووا منهم الأسنة واستبشروا ببيعهم الذي بايعهم بأن لهم الجنة، صلاة تتبلج بها نجوم الظلم، وتتأرج بها نسمات الضال والسلم ما خفقت عذبات علم وثل الإيمان عرش البهتان وثلم، وسلم تسليماً كبيراً إلى يوم الدين. وبعد: فإن أحق الأولياء بموالاة النعم ومغالاة القيم ومضاعفة الآلاء عليه حتى تخجل الديم، من تزاحم النجوم علياه بالمناكب، ويغدو بدر الجيوش في هالة المواكب، ويمتشق الصوارم بيمناه ويركب من شوق إلى كل راكب، ويعتقل الذوابل فتلج في علو " كأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب ". وكان المجلس السامي الأميري وألقابه الناصري ونعوته محمد بن الجناب العالي الأميري البدري محمد بن جنكلي بن البابا الناصري من قوم ندعوهم فيلبون إلى طاعتنا مسرعين، ونرجو لفتاهم كمال المئة، فإنه قد تجاوز حد الأربعين، فهم أبطال تفرق الأسود الغلب من وثباتها وثباتها، وفرسان قوائم خيلهم صوالج تلعب من رؤوس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 العدى بكراتها في كراتها، وشجعان ألفوا مقاعد الخيل فكأنهم ولدوا على صهواتها، وأمراء زانوا مواكبنا السعيدة التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، قد احتكم إلى يمينه السيف والقلم، وانطوى على نشر العلم والعلم، ونقص عند أقوامه زيد الخيل، وشاب من شجاعته عامر بن الطفيل، وعجز ابن عساكر عن حفظه، وغرق ابن نقطة في بحر لفظه، فهو من المناضلة إلى المفاصلة، ومن تدبير العوالي إلى تسطير الأمالي، ومن جلاد الفوارس إلى جدال المدارس، ومن ظهور السابقة العراب، إلى بطون الناطقة بالصواب عملاً بقول القائل: أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب لأنه نجل والده الذي ما رفعنا راية رأيه في أمر ففسد، وفرع أصله الذي نشأ في خدمتنا الشريفة، والشبل في المخبر مثل الأسد، كم لوالده من يوم حرب أذكر الناس بيوم بدر، وكم له من ليلة علا فيها قدره " وما أدراك ما ليلة القدر ". وقد اقتضت آراؤنا الشريفة تغيير إقطاعه ليقوى حزبه على الحرب وينتقي من يكون أمامه من أبناء الطعن والضرب، وتمرح به كمت الجياد في الأرسان وتشاهد في مقامات حربه مقاتل الفرسان وينظم في صفاته " صحاح " الجوهري إذا نثر من الدماء " قلائد العقيان "، فالفتوح تيسر للدين القيم بالحتوف، والجنة كمال قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت ظلال السيوف: وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 يفوق الألوف فلذلك خرج الأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى وشرفه أن يجرى في إقطاعه. فلما جهز المنشور إليه كتب هو إلي قرين تشريف جهزه والده رحمهما الله تعالى إلي: " يا مولانا ما هذا منشور إن هذا إلا لؤلؤ منثور، كل سطر منه جنة قد حفت بالثمار، وكل شطر من سطره لو يباع اشتري بألف دينار، تلعب فيه قلم مولانا بالعقول، وأدار بكلامه على الأسماع كأس الشمول، فعلم كل بليغ ما يقول، وتصدق على المملوك بأوصاف استعارها له بيانه، ورصع جواهرها بنانه، وقد وقف عليه محبكم الوالد وقال: بمثل هذا الفضل يحيى الذكر الخالد، وقد سير إليكم شيئاً من تمام الإحسان قبوله، وهو يعتذر بما إذا حضر المملوك يذكره ويقوله، والله تعالى يعلي لمولانا المكانة، ويديم لهذه الدولة الشريفة بيانه بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. وكنت قد كتبت أنا إليه وأنا بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة: لي في الجوانح من حزني حرارات ... كما لبرد اللمى فيها حرارات وللبوارق إن لاحت أو اعترضت ... في الضوء من ثغرك الضاحي إشارات وللغصون إذا ورق الحمام تلت ... أيات عطفيك في الأسحار سجدات أشكو ظلام ذؤابات دجت فغدت ... وما لها غير نور الفرق مشكاة خيالك البدر في جو السماء إذا ... نظرت فيها لأن الأفق مرآة ومن يسق نفسه للوجد فيك ففي ... لعب الغرام على خديك شامات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 يا بدر حسن له دون البرية في ... أهلة اللثم لا في السحب هالات دينار خدك واف في الجمال فلم ... زيدت به من سواد القلب حبات لولا تجنيك لم يعذب جناك ولا ... طابت عليك لذات الصب لذات لم لا سمعت دعاوى الصب فيك على ... هواك إن دعاويه صحيحات وأنت يا من أداجيه على شغفي ... به وهيهات أن تخفى الصبابات لا تقبلن شهادات الدموع ومن ... تعديل عطفيه في جفني جراحات حلبت شطري زماني وارتضيت بها ... لي وحشة عن أنيس فيه إعنات فكم مجالس لهو خمرها غزلي ... وشمعتي فكرة فيها شرارات وليس لي طرب إلا إذا تليت ... عن ناصر الدين أخبار وآيات فتى إذا فكرتي صاغت له مدحاً ... شنت على الوصف في علياه غارات وسابق اللفظ في نظمي مدائحه ... الدر والزهر والزهر المنيرات حوى الفضائل من سيف ومن قلم ... فليس عند الورى إلا فضالات له محاريب حرب كلما ركعت ... سيوفه سجدت إذ ذاك هامات فالأرض طرس وغى والخيل أسطره ... والسمهري ألف واللام لامات وكم أدار كؤوس الموت حين شد ال ... حسام وارتقصت للسمر قامات ليث فرائسه الفرسان يوم وغى ... وما البراثن إلا المشرفيات إن أظلم الجو من جون العجاج فمن ... خرصان ذبله فيه ذبالات وإن دجا البحث في تحقيق مسألة ... جلت حنادسه منه الدلالات وأوضح الحق بالبرهان وازدحمت ... فيما يرى نصره منه العبارات وإن أتاك بنقل فالبحور طمت ... ويعضد الرأي ما تهدي الروايات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 وإن تمسك في قول بظاهره ... تخضع له الشهبات الفلسفيات نقول إلا إذا ما كان حاضرنا ... فهو الخطيب ومنا نحن إنصات وإن أدار على قرطاسه قلماً ... فباطن الطرس أنهار وجنات عن كل همز سما في سطره ألفاً ... فقل غصون بأعلاها حمامات يكاد من عبارات يسطرها ... تبدو لها من حمام الهمز رنات نظم يروق ومعناه يرق لنا ... فاللفظ كأس له المعنى سلافات يا شاكي الزمن الجاني استجر كرماً ... به فللدهر من نعماه ردات وسوف يغفر للأيام زلتها ... وتنجلي ظلمات أو ظلامات فما سمي النبي الهاشمي له ... بدع إذا انكشفت عنك الغيابات لقد سما والورى من دون رتبته ... ولم تزل تفضل الأرض السماوات خلائق مثل أنفاس الرياض إذا ... مرت بأزهارها ليلاً نسيمات وجود كف كأن الفقر قفر فلاً ... تهمي على عطش منه غمامات من معشر قد سها طرف السهى لهم ... عليه من مجدهم ترخى الذؤابات لا زال في نعم أنفاس لذتها ... في كل ناد لها بالند نفحات فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: أوراق نظمك للأبصار روضات ... فيها لغر المعاني منك زهرات يا ناظماً نزلت زهر السماء له ... كانت بروجاً فأضحت وهي أبيات وفاضلاً لا يفض الله خالقنا ... له فما منه للدنيا كمالات ترجلت لك فرسان القريض وولوا منك خوفاً كأن القوم أموات كل بفضلك أمسى وهو معترف ... وليس يقوى لعصف الريح نسمات يروي الأنام حديث الفضل عنك وقد ... علت لهم منك في ذاك الإجازات ومن يعاند فيما رحت أذكره ... عما حويت من العليا فقل هاتوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 وكتبت أنا إليه أهنئه بقدومه من الحجاز في شهر الله المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة: قدمت قدوم البدر والليل قد دجا ... فأشرقت الآفاق من سائر الأرجا وكانت ربا مصر رياضياً تصوحت ... فجئت إليها كالغمام إذا ثجا إذا النوق أعياها المسير فإنها ... بطيب الثنا والذكر عنك غدت تزجى أيا من سرى والأنجم الزهر في الدجى ... ليهدى بها في القفر قد علقت سرجا وأمسى هلال الأفق كوراً لنجبه ... وإلا على ظهر الجياد له سرجا قطعت الفيافي نحو مكة محرما ... ولم تتخذ إلا التقى والفلا منجا وجردت من ثوب مخيط ولم تزل ... برود الندى والبأس تحكمها نسجا ولبيت لباك الإله لأنه ... رأى خير من لبى بركبك أو عجا وطفت ببيت لم تر الباب مرتجاً ... متى جئته تدعو ولا الركن مرتجا ترى الحجر المسود أحسن موقعاً ... بقلبك من خال على وجنة بلجا فتوسعه لثماً بأبيض واضح ... إذا قال قلنا السحر من لفظه مجا وفي عرفات كان عرفك ذائعاً ... تضوع عرفاً نشره ملأ الفجا وحلقت حتى لا تكون مقصراً ... وذلك أنجى في العبادات بل أرجى وسقت مطايا الهدي تنحر كومها ... وقد نضجت أكبادها بالسرى نضجا فبخلت حتى السحب في جود وبلها ... وزدت إلى أن كدت أن تغرق اللجا وجئت إلى قبر حوى خير مرسل ... ومن حبه الذخر المؤمل والملجا تجادل عنه أو تجالد من غدا ... يعالج منه المسلمون فتىً علجا إذا أنت رفعت الرماح مراوداً ... تشق بها من نقعه مقلةً دعجا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وإن ظمئت يوم الوغى أنفس العدا ... سللت لها في الروع بيض الظبا خلجا أيا من غدت أعلامه وعلومه ... تنير لنا مثل الشهاب إذا أجا قطعت الورى بحثاً وطفت بمكة ... فأصبحت في الحالين أفضل من حجا بقيت مليكاً في الفضائل والعلا ... متى هاج خطب والتفت له هجا ولا زلت محروس الجناب من العدا ... يسل لها غمد الدجا فجره نمجا وكتب هو إلي من القاهرة بعد خروجي منها إلى صفد في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد: يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق ما أنصفتك دموعي وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق يا مولانا تذكر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما قضى الله لامرئ مؤمن من قضاء إلا وكان الخيرة له فيما قضى من ذلك، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس إلا للمؤمن. وفي الأثر: المؤمن ملقى، وفي حديث سويد الأزدي وقومه حين قدومهم على سيد البشر أنه فسر إيمانهم بخمس عشرة خصلة وعد منها الصبر عند البلاء، والرضا بمواقع القضاء. وبالجملة الحمد والشكر لله أولاً وآخراً، والله معك حيث كنت، والسلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 أوحشت مصراً فادلهم ربعها ... شوقاً إلى ذلك المحيا الزاهر أفضت من فضائلها فضائلاً ... من بحر علم قد حويت زاخر نثر إذا نظرته كأنه المنثور لاح وسط روض ناضر ونظم شعر راق في تأليفه ... فأخجل العقود في الجواهر وحسن خط قد جعلت طرسه ... مدبجاً كالروض بالأزاهر يا فخر دهر أنت من كتابه ... تخجل كل ناظم وناشر وعز ملك كنت في ديوانه ... تنشئ ما يلعب بالضمائر إذا ترسلت إلى أعدائه ... أغنيته عن الحسام الباتر يا فاضلاً أخنى عليه دهره ... لا تخضعن لنكبة في الظاهر فاصبر ولا تقلق لأهوال الردى ... فإن ثبت نلت أجر الصابر أرجو لك العود لمصر سرعةً ... مظفراً كما يظن خاطري فكتبت أنا الجواب إليه، رحمه اللهتعالى: يا برق هل ترثي لصب ساهر ... وهل ترى لكسره من جابر وهل لما قد نابه من راحم ... أو لم يكن فهل له من عاذر أبيت لا أنيس لي إلا الذي ... يدور من شكواي في ضمائري أخرجني كالسهم من كنانة ... حكم زمان في القضاء جائر وابتزني صبري وما أرى الورى ... على الذي قد نالني من صابر فأضلعي تحنى على جمر الفضى ... وما الشرار غير قلبي الطائر ومن غدا باطنه مشتعلاً ... لم يفنه تجلد في الظاهر ومقلتي تعثرت دموعها ... لأنها تجري على محاجري والنوم لا أعرف منه سنة ... في سنة إلا بحكم النادر يا دهر قد رميتني بنكبة ... عدمت فيها قوتي وناصري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 القاتل المحل يجود كفه ... وصاحب الإبداع في المفاخر كم حدثتني راحتاه عن عطا ... وكم روى إحسانه عن جابر يا قاطع البيد إلى أبوابه ... ظفرت من جدواه بالجواهر لا تشك في القفر ظماً فكفه ... أطبقها على الخضم الزاخر ويا مجاريه لغايات العلا ... قف واسترح من هذه الخواطر كم قد جرى البرق على آثاره ... فلم يفز إلا بجد عاثر ويا مناوي بأسه إلى الوغى ... جهلت ما تبغي فلا تخاطر أما ترى ما حاز من فضائل ... فاقت على قطر الغمام الماطر والسيف واليراع في بنانه ... ما اجتمعا إلا على المآثر سيادة في بيته مشهورة ... يعدها في كابر عن كابر آه على ما فات من نواله ... وفضله وجبره لخاطري ولطفه ذاك الذي إذا بدا ... تعرفه في كل روض زاهر أبعدني دهري عن أبوابه ... يا ويح دهر بالفراق ضائري وربما يسمح لي بعودة ... فيغفر الأول عند الآخر وكنت كتبت إليه من الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة: لي حالة بعد الأمير ناصر ال ... دين لها كل الأنام عاذر ضنيت بالبعد فما لي قوة ... وغاب عن عيني فما لي ناصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وكتبت أيضاً إليه: يا غائباً عني بحكم النوى ... وذكره ما زال في خاطري قد جار في الحكم زماني ولا ... بدع إذا اشتقت إلى ناصري محمد بن جوهر بن محمد أبو عبد الله التلعفري المقرئ المجود الصوفي. قرأ علي أبي إسحاق بن وثيق لأبي عمرو، وأخذ عنه التجويد ومخارج الحروف. وسمع بحلب عن ابن رواحة، وابن خليل، والصلاح موسى بن راجح، وغيرهم. قال شيخنا الذهبي: قدم علينا دمشق، وقرأت عليه مقدمته في التجويد وجزءاً من الحديث. وكان شيخاً ظريفاً فيه دعابة وحسن محاضرة. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين. ومولده بتلعفر سنة خمس وست مئة. محمد بن حازم بن حامد ابن حسن الشيخ الإمام الصالح شمس الدين أبو عبد الله بن القدوة المقدسي، إمام دار الحديث الأشرفية بالجبل. كان شيخاً صالحاً بهي المنظر، حسن الهيئة، كثير الخير، مشكور السيرة، حدث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 ب " صحيح " البخاري وغيره، وسمع عن ابن اللتي، والحسين بن صصرى، والناصح الحنبلي، وابن غسان، والفخر الإربلي، وغيرهم. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة عشرين وست مئة أو بعدها بقليل. ووجد سماعه في أول سنة خمس وعشرين وست مئة حضوراً. محمد بن الحراني ناصر الدين التاجر الشرابيشي. كان للأمير سيف الدين تنكز به اعتناء، وإذا توجه للقاهرة يقف حوله ويشتري له ما يريد، وما يخرج من القاهرة حتى يقترض منه مبلغاً كبيراً من المئة ألف وما فوقها وما دونها، وما كان القاضي شرف الدين النشو يعارضه لأجل تنكز. توفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربعين وسبع مئة، وخلف ستة عشرة ألف ومئتين وستين ديناراً، ومئة وخمسة وثلاثين ألف درههم، وحججاً على أناس بمئة وخمسين ألف درهم، وخلعاً وقماشاً بسبعين ألف درهم، ولم يخلف وارثاً، وكان عند موته يقول: مالي.. مالي.. مالي.. إلى أن مات. محمد بن الحسن بن إبراهيم فتح الدين الأنصاري المعروف بالقمني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 سمعت عليه بثغر الإسكندرية في صفر سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة جميع الحديث المسلسل بروايته عن النجيب عبد اللطيف الحراني، وأجاز لي جميع ما يجوز له روايته، وكتب بذلك بخطه. محمد بن الحسن بن سباع الشيخ الإمام العروضي، شمس الدين الصائغ الدمشقي. كان من مشيخة الأدب، والناس ينسلون إليه من كل حدب، أقرأ الناس في دكانه بالصاغة زمانا، وأخذوا عنه لشعرهم ميزانا، والعروض أول ما كان يعرف، وينفق من حاصله لمن يقصد ويصرف. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعا، وصوح روض الأدب منه، وكان به ضائعا. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء ثالث شهر رمضان المعظم سنة عشرين وسبع مئة. والصحيح أنه مات في ثالث شعبان. ومولده في صفر سنة خمس وأربعين وست مئة. رأيته غير مرة وكان يتردد إلى القاضي قطب الدين بن شيخ السلامية، وينفق آدابه عليه، وله نظم كثير، ونثر كثير، وشرح " ملحة الإعراب "، و" اختصر صحاح " الجوهري، فجرده من الشواهد، وله قصيدة عارض بها " القصيدة الهيتية " التي لشيطان العراق، فما داناها وشرحها على هوامشها، وملكتها بخطه وأخرجتها عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 يدي، " وشرح الدريدية " في مجلدين من أربعة، ملكتها بخطه، وقد أخرجتها عن يدي لما وقعت على أشياء في الشواهد ضبطها بخطه على غير الصواب، وله " المقامة الشهابية " وضعها للقاضي شهاب الدين بن الخويبي، ملكتها بخطه مشروحة. ومن شعره: إن جزت بالموكب يوماً فلا ... تسأل عن السيارة الكنس فثم آرام على ضمر ... لله ما تفعل بالأنفس بأحمر هذا وذا أصفر ... وأخضر هذا وذا سندسي فقل لذي الهيئة يا ذا الذي ... ينقل ما ينقل عن هرمسي قولك هذا خطأ باطل ... أما ترى الأقمار في الأطلس قلت: أخذه من سيف الدين بن قزل المشد ونقصه، لأنه قال: زعم الأوائل أنما ... تبدو الذوائب للكواكب وتوهموا الفلك المعظ ... م أطلساً ما فيه ثاقب أتراهم لم ينظروا ... ما في الزمان من العجائب كم من هلال قد غدا ... في أطلس وله ذوائب وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين أحمد بن عز الدين الفارقي الموقع قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين الصائغ ملغزاً: ما اسم إذا عكسته ... رأيته بنفسه كذاك إن ضاعفته ... لم يختلف بعكسه قلت: هو في سدس وضعفه ثلث، وهذا في اللغز البديع. وقال الشيخ شمس الدين الصائغ وهو بمصر يتشوق إلى دمشق: لي نحو ربعك دائماً يا جلق ... شوق أكاد به جوى أتمزق وهمول دمع من جوى بأضالعي ... ذا مغرق طرفي وهذا محرق أشتاق منك منازلاً لم أنسها ... أنى وقلبي في ربوعك موثق طلل به خلقي تكون أولاً ... وبه عرفت بكل ما أتخلق وقف عليك لذا التأسف والبكا ... قلبي الأسير ودمع عيني المطلق أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى ... أبداً إليك بكله يتشوق أنفقت في ناديك أيام الصبا ... حباً وذاك أعز شيء ينفق ورحلت عنك ولي إليك تلفت ... ولكل جمع صدعة وتفرق فاعتضت عن أنسي بظلك وحشةً ... منها وهي جلدي وشاب المفرق فلبست ثوب الشيب وهو مشهر ... ونزعت ثوب الشرخ وهو معتق ولكم أسكن عنك قلباً طامعاً ... بوعود قربك وهو شوقاً يخفق منها: والريح تكتب في الجداول أسطراً ... خط له نسخ النسيم محقق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 والطير يقرأ والنسيم مردد ... والغصن يرقص والغدير يصفق ومعاطف الأغصان غنتها الصبا ... طرباً فذا عار وهذا مورق وكان زهر اللوز أحداق إلى الزوار من خلل الغصون تحدق وكأن أشجار الغياض سرادق ... في ظلها من كل لون نمرق والورد باللون يجلو منظراً ... ونسيمه عطر كمسك يعبق فبلابل منها تهيج بلابلي ... ولذاك أثواب الشقيق تشقق وهزاره يصبو إلى شحروره ... ويجاوب القمري فيه مطوق فكأنما في كل عود صارخ ... عود حلا مزمومه والمطلق والورق في الأوراق يشبه شجوها ... شجوي وأين من الطليق الموثق قلت: وهي طويلة جداً، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي. محمد بن الحسن بن محمد الخطيب كمال الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي محمد ابن الشيخ كمال الدين القرشي الأموي القرطبي الأصل الصفدي الخطيب بن الخطيب بن الخطيب، الدمشقي المولد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 كان خطيباً مصقعا، وأديباً ترك ربع البلاغة بعده بلقعا، كم أسال الدموع وفضها على الخدود من الخشوع، وكم علا ذروة المنبر واستقبل الناس فقالوا: هذا بدر قد بدا في سماء من العنبر. ليس للحمائم مثل أسجاعه إذا غردت، ولا للفصحاء مثل عبارته التي جمعت أنواع البيان فتفردت. وكان ممن ينظم وينثر، ويجري قلمه في ميدان البلاغة ولا يعثر، يأتي فكره بقصائد كأنها قلائد، ونثره برسائل كلها فرائد: لا تطلبن كلامه متشبهاً ... فالدر ممتنع على طلابه كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه خطب في حياة والده، وهو خالي الوجنة من النبات، وحير العقول بماله من الإقدام والثبات، وكان وهو أمرد يفتن القلوب بنظره، ويقسم الأفق أنه أحسن من قمره. ومات والده وهو عار من حلي الآداب سار في ميعة الصبا والشباب، فلما مات والده - رحمه الله تعالى اجتهد ودأب، وتمسك بعرا الفضل والأدب، فنظم ونثر وكتب. ولم يزل على حاله إلى أن خاطبه الخطب فجاءه، ولم يدفع الطبيب داءه. وتوفي رحمه الله تعالى - يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة. ومولده بدمشق، تقريباً سنة تسع وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 صلى الظهر بالناس يوم الاثنين، وجاء إليه المؤقت فقال له: إن بعض المؤذنين ما يلازم التأذين، فأحضره وأنكر عليه، وحصل له منه غيظ، دخل بعد ذلك إلى بيته ونام فجأة على فراشه. وكذلك توفي والده رحمه الله تعالى - فجأة بصفد أيضاً، وقد تقدم ذكره في حرف الحاء مكانه. وكان الخطيب كمال الدين يكتب خطاً حسناً وهو من بيت بلاغة وكتابة، وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات، ذكرت أكثرها في كتابي " ألحان السواجع بين البادي والمراجع "، وكنت أود ما يوده، وأختار ما يختاره من مسكنه دمشق - رحمه الله تعالى - وما اتفق له ذلك. وكان قد كتب هو إلي من صفد في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة: سلام كنشر المسك يسري ويعبق ... على معهد كالبدر يعلو فيشرق ومشهد أنس حله من أحبتي ... موال لهم في شاهد المجد مشرق وسادات عز قيدوا القلب في الهوى ... على حبهم والدمع في الخد أطلقوا يذكرنيهم كل شيء يروقني ... فلي بهم مع كل حسن تعلق ويذكي فؤادي هجرهم وبعادهم ... ولي نحوهم في كل حين تشوق يردده سار ينم به الشذا ... ويخبر عن جار من الدمع يسبق ويتلو على سمع التعطف منهم ... حديثي عسى يوماً يرق ويشفق ويرفع حالاً نكرت وصف لمتى ... بعطف ابتداء لي على الود ينسق وينسخ أشواقي بريحان قربه ... ويرقمه حقاً دنوي المحقق أأحبابنا إن لم أفز بلقائكم ... فمنوا بطيف في الكرى وتصدقوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 فقد طال هذا البعد والزمن انقضى ... بأحلام قرب لا تتم فتصدق وإن كان مع بعدي صحيحاً ودادكم ... أكيد ولكن التداني أوفق سقى دوحةً كنا نلوذ بظلها ... من القرب سحاح الندى متدفق وحيا زماناً كان فيه بوصلكم ... لسان حبوري بالمسرات ينطق فما كان أهنا عيشنا وألذه ... وما راعنا بعد ولا شاب مفرق ولا فرقت أيدي الحوادي شملنا ... ولا بات قلبي من لقا البين مورق فواهاً على أوقات قرب قطعتها ... بكم وشبابي مائس الغصن مورق ووصلكم داني الجنى في ربا المنى ... وصافي التصافي بيننا يترقرق مضت بسلام ثم أعقبت الأسى ... فؤاداً سوى إعراضكم ليس يفرق فما ذات طوق راعها فقد إلفها ... وأشجى حشاها بينه والتفرق وأنطقها بالنوح في الدوح والبكا ... غريم غرام شفها والتحرق بأشجى فؤاداً أو أشد تشوقاً ... وأحرى لعبرات بها العين تشرق وأبرح مني أو بأذكى تلهباً ... على قرب إلف أو على الطيف يطرق لعمري لقد كنت البعيد مزاره ... فحبك في سوداء قلبي ملصق وإن تنكر الأيام ما لي عندها ... فأنت على دعوى ودادي مصدق فديتك كن لي في ودادي معاضداً ... فأنت بإسعادي أحق وأخلق ورأيك مسعود فكن لي مساعداً ... فإنك ذو الرأي السعيد الموفق وإن أنت لم تسمع لقول شكايتي ... فعش سالماً مما يسوء ويرهق فشكري أياديك الجميلة واجب ... أقوم به ما دمت أحيا وأرزق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 وأسجع من مدحي بكل غريبة ... لأني بعقد المن منك مطوق فدم في بقاء ينبت العز والغنى ... فأنت لنا الكنز الذي منه ننفق يقبل الأرض التي يسأل الله تعالى أن يحمي حماها من الغير، ويجعلها كعبة تطوف بها الآمال والفكر، وأن يمنح ربها من مزيد النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وينهي أشواقه التي أصبح من حرها على خطر، ويذكره الذي كم له فيه من وطر، فلا يخلو منه أين كان ولا أنى نظر، وصحيح وده الذي هو بنقل الثقات معتبر، وحديث حبه المستطر، وقديم ولائه الذي هو للسان الملأ سمر. وتلك نسبة رق قد عرفت بها ... حفظ الولا منكم حق لها يجب يا مالكي أين إسعافي بما طمعت ... نفسي به من بعيد الدار يقترب فقد سئمت حياتي مع بعادكم ... وقد خشيت الردى تأتي به النوب وإن قضيت ولم يقض اللقاء لنا ... فكم مضى بحزازات الحشا وصب فلا تعينوا على قلبي بقسوتكم ... فقد كفاه الجفا والشوق والنصب وإن تباخل أحبابي بقربهم ... فالرسل والطيف يكفي الصب والكتب وإن تجنوا برفع الود من خبر ... فالعبد للحب في الحالين ينتصب فكتبت أنا الجواب إليه من رأس القلم ارتجالاً: تحية ذي ود براه التشوق ... وأضناه بل أفناه وجد مؤرق تروق كم راقت معاني حديقة ... إليها عيون الناظرين تحدق وتأتي بلطف من تخص ربوعه ... كدمعة صب ودقها يترقرق إلى مجدك السامي البنا الغامر الثنا ... تروح وتغدو دائماً تتأنق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 بعثت كمال الدين نحوي مشرفاً ... عقود لآليه لجيدي تطوق تنزهت منه في رياض بلاغة ... بها أدب أنهاره تتدفق كأن قوافيه كؤوس يديرها ... على السمع مني البابلي المعتق قوى في قوافيه التي قد تمكنت ... يخور لها عند البيان الخورنق به ألفات كالغصون تقومت ... من الهمز يعلوها الحمام المطوق ولا عين إلا مثل عين مريضة ... يهيم بها في الناس من يتعشق ولا ميم إلا مبسم من رضابه ... رضاب يحاكيه المدام المروق وأين البها أعني زهيراً فلو رأى ... أزاهر هذا كان في الحال يطرق وذلك شعر ليس للناس مثله ... ولكن ذا أندى وأحلى وأرشق وذاك قريض قد سما للسما وذا ... على أذن الجوزاء قرط معلق وذاك إمام في البلاغة شامل ... وهذا موشى بالبديع موشق فأذكرتني عهد الصبا بقدومه ... وذلك عهد الصبا معرق إذا ذكرت نفسي زماناً قطعته ... وغصن الصبا ريان باللهو مورق تصوب على خدب سحائب أدمع ... فلولا زفيري كنت بالدمع أغرق ولو كان لي صبر لقيت به الأسى ... ولكن ثوب الصبر عني ممزق فيازمني بالغت في عكس مقصدي ... فما لي بالحرمان أرزى وأرزق فلا وطني يدنو ولا وطري أرى ... ومن دون ما أبغيه هام تفلق أمولاي مدت بيننا حجب النوى ... وما رفعت والعمر من ذاك أضيق فإن كان مولانا صفد صفت ... فإنك قد جلت بقربك جلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وهبك خطيباً قد علا فوق منبر ... أما في دمشق منبر بك أليق أدم شق لج البين في عرصاتها ... فكم من أناس أفلحوا مذ تدمشقوا وجدد لباس العز في غير ربعها ... فطول مقام المرء في الحي مخلق وضم بنا شمل التآلف واللقا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق فكل مكان ينبت العز طيب ... وفي كل أفق للسعادة مشرق فلو وضحت لي من مرادك لمحة ... لكنت لوفد الريح والبرق أسبق فما أنا في حفظ الوفا متاصنعاً ... ولا أنا للزور القبيح منمق وأنت فتدري ما قضته جبلتي ... فما أدعي إلا وأنت تصدق ولكن دهراً قد بلينا بأهله ... أباعوا به ثوب النفاق ونفقوا أناس تنازلنا إلى أن ترفعوا ... علينا ألا يا ليتهم لو ترفقوا فكانوا أصولاً في صحائف عزهم ... ونحن على بعض الهوامش ملحق فثق بقضاء الله وارض بحكمه ... فلي أمل لا بد فيك يحقق يقبل الأرض وينهي ورود المثال الكريم الذي فضح كماله القمر، وسلب بسحره الألباب وقمر، وأحيا رسم البلاغة، فساد بما شاد وعمر، وهمى غمام فضله وسقى رياض الفصاحة وهمر، وقسم نظمه ونثره فهذا للندامى غناء، وهذا للمحدثين سمر، وخالف العادة لأنه جاء بستاناً في ورقه، إلا أن جميعه زهر وثمر، وأمر ونهى في سلطان فضله، فأذعن الفصحاء له وقالوا له: السمع والطاعة فيما نهى وأمر، وأطرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 المسامع فعلم أن من أنشأه لو شاء بالطرس طبل وزمر، فوقف المملوك على أبياته وآمن بآياته وعلم أنه يقصر عن مباراة مباديه وهو في غاياته، وتصور عتبه فتضور وتفكر في أمره الأمر فتكفر، وتربض لما يدبره في معناه فما تصبر، وترفق للحيلة فما رأى لها دليلاً تقرر، وتحرى فيما يعتمده فما وجد فيه بحثاً تحرر: سوى حضورك في أمن وفي دعة ... ليقضي الله ما نرجو ونرتقب أو فالتصبر أولى ما ادرعت له ... فالسول يقضى به والقصد والأرب فلي أماني خير فيك أرقبها ... أرى بعيد مداها وهو مقترب فلا يضيق لك صدر من أذى زمن ... أيامه تمنح الحسنى وتستلب وربما كان مكروه الأمور إلي ... معروفها سبباً ما مثله سبب وكنت قد كتبت له توقيعاً من الفخري لما كان بدمشق، على أن يكون موقعاً بصفد في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، ونسخته: رسم بالأمر العالي، لا زال يزيد بدور أوليائه كمالا، ويفيد سفور نعمائه جمالاً، ويعيد وفور آلائه على من بهر بفوائده التي غدا سحر بيانها حلالا، أن يرتب المجلس السامي القضائي الكمالي في كذا، لأنه الأصيل الذي ثبت في البيت الأموي ركنه، وتفرع في الدوحة العثمانية غصنه، وكمل قبل بلوغ الحلم حلمه، فلم يكن في هضبات الأبرقين وزنه، وألف حين أشبل غاب المجد حتى كأنه كنه، والبليغ الذي تساوى في البديع نظمه ونثره، وخلب العقول من كلامه سحره، وفاق زهر الليالي لآليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 ودراريها دره، والفاضل الذي ألقى إليه العلم فضل الرسن ومج السهاد فم جفنه وغيره قد ذر الكسل فيها فترة الوسن، وبهر في مذهبه فللشافعية به كما للحنفية محمد بن الحسن ، والخطيب الذي يعلو صهوة المنبر فيعرفه وإن لم يضع العمامة، ويطمئن له مطاه حتى كأنه بينه وبين علميه علامه، ويبرز في سواد شعاره بوجه يخجل البدر إذا بدا في الغمامة، ويود السمع إذا أطاب لو أطال، فإنه ما سامه منه سآمه، ويغسل دون الذنوب إذا أيه بالناس وذكر أهوال القيامة، ويتحقق الناس أن كلامه روض ومنبره غصن، وهو في أعلاه حمامه. فليباشر ذلك مباشرةً هي في كفالة مخائله، وملامح شمائله، ومطامح الآمال في نتيجة المقدمات من أوائله، وليدبج المهارق بأقلامه التي تنفث السحر في العقد، وتشب برق الإسراع حتى يقال: هذا الجمر قد وقد، وتنبه على قدر هذا الفن فإنه من عهد والده خمل وخمد، وتنبهه فإن ما رقى لما رقد، ليسر ذلك الليث الذي شب له منه شبله، وذلك الغيث الذي فض له منه فضله، والوصايا كثيرة وهو غني عن شرحها. ملي بحراسة سرحها، فلا يهدى إلى هجره منها تمره، ولا يلقن إلى بحره منها دره، ولكن تقوى الله تعالى أعم الوصايا وأهم نفعاً مما في حنايا الزوايا من الخبايا، وهو بها يأمر الناس على المنابر، والآن تنطق بها ألسنة أقلامه من أفواه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 المحابر، فليكن بها أول مأمور، وأول متصف أسفر له صبحها من سواد الديجور. والله يزيده فضلا، ويزيده من القول المحكم فصلا. والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة ثبوته، والعمل بمقتضاه إن شاء الله تعالى. محمد بن الحسن الأمير ناصر الدين ابن الأمير عماد الدين بن النشائي. كان أمير عشرة مقدماً على خمسين بدمشق، وأحد الحجبة بين يدي النواب وأخذ حكومة البندق بعد الأمير سيف الدين بلغاق المقدم ذكره في حرف الباء. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي ودفن بسفح قاسيون. محمد بن الحسن بن يوسف الأرموي الفقيه المحدث الصالح، صدر الدين الشافعي نزيل دمشق. قدم دمشق ولزم ابن الصلاح، وحدث عنه، وعن كريمة، والتاج بن حموية، وابن قميرة، وعدة، وتفقه وحصل وتعبد. قال شيخنا الذهبي: كتبت أنا عنه وسائر الرفاق. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة. ومولده سنة عشر وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 محمد بن الحسن الأمير صلاح الدين أبو الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين ابن السلطان الملك الناصر داود ابن السلطان الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب. سمع حضوراً من والده، وروى عنه، وسمع من ابن البخاري والفاروثي وجماعة. وكانت له ديون كثيرة. ولم يزل في تعب إلى أن توفي - رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده في رابع عشري القعدة سنة أربع وستين وست مئة. محمد بن الحسين بن محمد ابن يحيى الأرمنتي، جمال الدين. كان فقيهاً ذكيا، كريم النفس أبيا، لطيف الذات، ظريف الصفات، نهايةً في السماح، لا يلحقه البرق في ذلك ولا عاصف الرياح، حتى أفضى به ذلك إلى الفقر، وأدى بحاله إلى العقر. وكان أديباً ناظماً ناثرا، إذا جرى في فن الإنشاء لم يكن عاثرا. ولم يزل على حاله إلى أن حضرت منيته، وانقطعت من الحياة أمنيته. وتوفي - رحمه الله تعالى - بأرمنت سنة إحدى عشرة وسبع مئة. كان قد أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين القفظي، والشيخ جلال الدين أحمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 الدشناوي، والأصول عن الشيخ شهاب الدين القرافي والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الخطيب، وأصول الدين والمنطق عن بعض العجم، وذكر للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فقال: الفقيه ابن يحيى ذكي جداً، فاضل جداً. وتولى الحكم بأدفو، ناب في الحكم بقوص وبنى بأرمنت مدرسةً ودرس بها. ومن شعره: عريب النقى قلبي بنار الجوى يكوى ... وجيدي عنكم دائم الدهر لا يلوى ولي مقلة تبكي اشتياقاً إليكم ... ولي مهجة ليست على هجركم تقوى نشرتم بساط البعد بيني وبينكم ... ألا يا بساط البعد قل لي متى تطوى بعادكم والله مر مذاقه ... وقربكم أحلى من المن والسلوى محمد بن الحسين بن تغلب موفق الدين الأدفوي خطيب أدفو. كان فيه كرم وجود وسماح، شاع خبره في الوجود، وله في الطب يد باسطه، وقوة في العلاج ناشطة، وينظم وينثر، ويخطو لما يخطب فلا يعثر. ومعرفته بالوثائق جيدة وكتابته. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فلم يجد لعلته علاجا، وأمسى وقد اتخذ إلى المعاد معاجا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة سبع وتسعين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 قال الفاضل كما الدين الأدفوي: رأيته مرات، وكان يأتي الجماعة أصحابنا أقاربه فيسمعهم يشتمونه، فيرجع ويأتي من طريق أخرى حتى لا يتوهموا أنه سمعهم. ووقفت له على كتاب لطيف تكلم فيه على تصوف وفلسفة. وكان وصياً على ابن عمه وعليه ثمر للديوان وقف، عليه منه خمسة وعشرين أردباً، فشدد الطلب عليه، فتقدم الخطيب إلى الأمير وأنشده: وقفت علي من المقرر خمسة ... مضروبة في خمسة لا تنكر من ثمر ساقية اليتيم حقيقةً ... ليت السواقي بعدها لا تثمر حمت النصارى بينهم رهبانهم ... وأنا الخطيب وذمتي لا تخفر واجتمع يوماً بالجامع جماعة وعملوا طعاماً وطلبوا جعفر المؤذن ولم يطلبوا الخطيب، فبلغه ذلك، فكتب إليهم أبياتاً منها: وكيف رضيتم بما قد جرى ... صحبتوا المؤذن دون الخطيب أمنتم من الأكل أن تمرضوا ... ويحتاج مرضاكم للطبيب قال: وكان يمشي للضعفاء والرؤوساء ويطبهم - رحمه الله تعالى -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 محمد بن الحسين الشيخ شمس الدين الغوري، بضم الغين المعجمة وسكون الواو بعد راء، الحنفي المدرس. كان فاضلاً، وكان في لسانه عجمة، وكتب بخطه كتباً في العربية، ووقع المسكين في لسان الفخر عثمان النصيبي، فجعل يمسخر به في حكاياته، ويذكر وقائعه ويزيد في بعضها من مضحكاته. ولقد حكي عنه مرة حكاية تنمر فيها تنكز نائب الشام ورسم بقتل الشيخ شمس الدين بالمقارع، وما خلص من ذلك إلا بالجهد. وأهل دمشق يحكون عنه حكايات مشهورة بينهم. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. محمد بن الحسين بن القاسم ابن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، الصدر الأصيل بدر الدين ابن العدل عماد الدين ابن الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر. كان رجلاً حسناً. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن أبي اليسر، وسمع على جماعة، وشهد على الحكام بدمشق، وولي الولايات من جهة الكتابة، وحج وأقام باليمن مدة، وكان له ثلاثة أولاد نجباء قدمهم بين يديه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 محمد بن الحسين بن عبد الله ابن الحسين، زين الدين أبو عبد الله القرشي ابن الفويي. روى " الخلعيات " كاملة عن ابن العماد، وكان من الفقهاء بمصر. وكان عدلاً خيراً، عمر وتفرد في وقته، وأخذ الناس عنه. وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشري المحرم سنة ثلاث وسبع مئة. ومولده سنة أربع عشرة وست مئة. وأجاز شيخنا البرزالي. محمد بن الحسين بن عتيق ابن رشيق، الشيخ الإمام علم الدين المصري المالكي. سمع " الأربعين المخرجة " لابن الجميزي عليه، وسمع " صحيح " مسلم من ابن البرهان. وكان فقيهاً عارفاً بالمذهب مفتياً، ولي نيابة القضاء بالإسكندرية نحو اثنتي عشرة سنة، وليها قبل شرف القضاة ابن الربعي نحو سنة وأكثر، ثم وليها بعده بقية المدة، ثم عزل واستمر إلى أن مات. وكان متعيناً للقضاء، وعينه بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق، وكان يقول: ما عندي مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 وتوفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. وكان يكتب في الإجازات: أجزت لهم أبقاهم الله كل ما ... رويت عن الأشياخ في سلف الدهر وما سمعت أذناي من كل عالك ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... برياً من التصحيف عار من النكر وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالين والعسر واليسر محمد بن الحسين السيد الشريف شمس الدين ابن السيد شهاب الدين الحسيني الموقع، تقدم نسبه في ترجمة والده رحمهما الله تعالى. كان يكتب خطاً حسناً، ويجعل الطروس بسطوره تختال بين سناء وسنى، كأن المهارق تحت خطه خمائل، وألفاته فيها غصون تتمايل، وكان والده ينشئ وهو يكتب، فما ترى أحداً يتعنت ولا يعتب. ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه قريبا، وما خلص من شرك المنية من كان الأجل لأجله رقيبا. وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة. ومولده ... وكان قد دخل إلى توقيع الدست الشريف بالديار المصرية لما توجه والده لكتابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 السر بحلب، واستمر على ذلك، وحضر صحبة ركاب السلطان الملك الصالح في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وحضر صحبة ركاب السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي إلى دمشق، وعاد إلى مصر. وكان قد اختص بالكتابة عند الأمير سيف الدين الداودار، وما سمعت له بنظم ولا نثر، وإنما كان عنده من إنشاء والده شيء كثير إلى الغاية. محمد بن حسينا الأمير كان قد حكم في مملكة التتار بأذربيجان، أعطاه يوماً النوين جوبان قدحاً ليشربه، وذلك في سنة أربع وعشرين وسبع مئة فقال: إن لم تشربه تؤدي ثلاثين توماناً من المال، فقال: أنا أؤدي ذلك ولا أشربه، فأشار جوبان إلى جماعة بأن يلازموه على المبلغ، فخرج محمد حسينا من عنده، ومضى إلى الأمير نكباي وهو ذو مال عظيم، فقال له: أعطني ثلاثين توماناً، فقال له: بربح عشرة توامين، فقال: نعم، وكتب عليه حجة بأربعين توماناً وسلمها إليها، فقال الأمير نكباي للجماعة الذين هم مع حسينا: اذهبوا إلى النوين جوبان وقولوا له: إن المال عندي، فهل أحمله إلى خزانته أو أسلمه إلى العسكر، وأي شيء تريد من النقود. فحضروا إلى جوبان وعرفوه ذلك، فطلب محمد حسينا، وقال له: تعطي أربعين توماناً من الذهب ولا تشرب قدحاً من الخمر؟! قال: نعم. فأعجب جوبان ذلك، وخلع عليه ملبوسه، ومزق الحجة، وحكمه حكماً قوياً، وصار عنده مقرباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 محمد بن الحشيشي الشمس الرافضي الموصلي. قال شيخنا الذهبي، ومن خطه نقلت: حدثني الإمام محمد بن منتاب أن عز الدين يوسف الموصلي، كتب إليه وأراني كتابه قال: كان رفيق معنا في سوق الطعام، يقال له الشمس بن الحشيشي، كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويبالغ، فلما ورد شأن تغيير الخطبة إذ ترفض القان خربندا، افترى وسب. فقلت له: يا شمس، قبيح عليك أن تسب هؤلاء، وقد شبت. مالك ولهم وقد درجوا من سبع مئة، والله تعالى يقول: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " فكان جوابه: والله إن أبا بكر وعمر وعثمان في النار، قال ذلك في ملأ من الناس، فقام شعر جسدي، فرفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم يا قاهر فوق عباده يا من لا يخفى عليه شيء، أسألك بنبيك إن كان هذا الكلب على الحق فأنزل بي آية، وإن كان ظالماً فأنزل به ما يعلم هؤلاء الجماعة أنه على الباطل في الحال. فورمت عيناه حتى كادت تخرج من وجهه، واسود وجهه وجسمه حتى بقي كالقير، وخرج من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 حلقه شيء يصرع الطيور، فحمل إلى بيته، فما جاوز ثلاثة أيام حتى مات، ولم يتمكن أحد من غسله مما يجري من جسمه وعينيه. ودفن. قال ابن منتاب: جاء إلى بغداد أصحابنا وحدثوا بهذه الواقعة، وهي صحيحة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة. محمد بن حمزة بن أحمد بن عمر القدوة الشيخ الصالح شمس الدين أبو عبد الله المقدسي الحنبلي. سمع حضوراً من ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وسمع من كريمة، والضياء، وجماعة. وتفقه ودرس وأفتى وأتقن المذهب. قرأ الحديث بالصالحية التي بالسفح وكتب الخط المليح. وكان صالحاً خيراً إمام أماراً بالمعروف، داعية إلى ما يعتقده، يحط على من خالفه. ناب في القضاء عن أخيه مديدة قبل موته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 محمد بن حمزة بن عبد المؤمن أمين الدين الأصفوني الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً متديناً، تولى الحكم بأبوتيج، وتولى إسنا، وأعاد بمدرسة سيوط. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده بسيوط. محمد بن حمزة بن معد الفرجوطي، مجد الدين. كان له أدب ونظم. قال كمال الدين الأدفوي: أنشدني ابن أخيه أبو عبد الله محمد قال: أنشدني عمي لنفسه: يا سيداً أسند في جاهه ... بجانب عز به جانبي عساك أن تنظر في قصة ... واجبة تطلق لي واجبي أوصلك الله إلى مطلب ... مؤيد بالطالب الغالب وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 محمد بن الخضر بن عبد الرحمن ابن سليمان بن علي، القاضي تاج الدين بن زين الدين، المعروف بابن الزين خضر. كان من جملة كتاب الدرج بباب السلطان، ثم إنه كتب قدام الوزير الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وكان حظياً عنده، وكان يجلس في دار العدل هو وشمس الدين بن اللبان خلف موقعي الدست على عادة كتاب الدرج للوزير. ثم إن السلطان الملك الناصر محمد جهزه إلى حلب كاتب سرها لما عزل القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود. فتوجهه إليها في أوائل سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فباشرها إلى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة فحضر أو أوائلها صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب إلى باب السلطان، فهزلهما معاً، وجهز بدلهما الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائباً والقاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب سر، فأقام القاضي تاج الدين بمصر بطالاً مدة. وكان الأمير سيف الدين طاجار يعتني به كثيراً، فسعى له حتى رتب من موقعي الدست بين يدي السلطان، فأقام على ذلك مدة. فلما توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب سر دمشق، رسم السلطان الملك الكامل للقاضي تاج الدين بكتابه سر دمشق عوضاً عنه، فحضر إليها في سلخ شعبان سنة ست وأربعين وسبع مئة، وأقام بها إلى ثامن شهر ربيع الآخر من السنة الثانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 وتوفي ليلة الجمعة من الشهر سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون وصلى الناس عليه والقضاة والأعيان، وكان مرضه بدوسنطاريا انقطع به ثمانية أيام. محمد بن خلف بن محمد بن عقيل الشيخ بدر الدين المنبجي التاجر السفار. كان رئيساً متمولاً معروفاً بالدين والعقل والثقة، يحضر بمجالس الحديث، ويسمع لأولاد ابنه. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. محمد بن خليل الشيخ شمس الدين الصوفي. سمع من الشيخ شمس الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم المقدسي، وأبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن الحلاوي، وغيرهما. حدث مراراً. أجاز لي ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 محمد بن دانيال بن يوسف الخزاعي الموصلي، الحكيم الفاضل الشاعر الأديب شمس الدين. صاحب النظم الحلو، والقريض الذي ليس فيه بيت من النكت خلو، والنثر العذب الرائق، والكلام الذي أصبح وهو على زهر الرياض فائق، والطباع الداخله، والمخيلة التي هي بالصواب غير باخله. كان ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره. لو كانا حيين لقلداه المجون. وعلما أن نكته تفعل بالألباب ما لا تفعله ابنة الزرجون. قد لطف كلامه، وظرف نظامه، يأتي بمضحكات تعجب منها الثكالى، وتنشط الكسالى، لو رآه أبو نواس لما قال: " أما ترى الشمس حلت الحمل ". أو ابن الهبارية لما نظم " حي على خير عمل ". وكان لا يبالي بما يقول من سخفه، ولا يستحي في المجون إذا رفع مرخى سجفه: لو عابه سيبويه قال له: ... خرا الكسائي في لحية الفراء ولم يزل على حاله إلى أن استجن حشا ضريحه، وأوحش الزمان وأهله خفة روحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ليلة الأحد ثاني عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة. وكان ابن دانيال رحمه الله تعالى طبيباً كحالاً، أديباً شاعراً مطبوعاً على الدخول في أقواله وأفعاله. توجه صحبة الأمير سيف الدين سلار إلى قوص ومع الأمير سلار حسن الحليق، وكان من جملة مماليك سلار غلام جميل الصورة، له صورة عند أستاذه، فتمشى الحليق ومعه الخادم، فوجدا ظل جميز وجدولاً يجري، فرقد الحليق هناك، ونام الخادم عنده، فطلبه أستاذه فلم يجده، ففرق المماليك في طلبه، فوجدهما على تلك الحالة، فأحضروا وقد اشتد غضب سلار، فلما رأى ابن دانيال ذلك تقدم وقال: يا خوند، أقول لك ما تفعل بهذين، فقال: قل. قال: احلق ذقن هذا القواد حسن، واخص هذا الخادم. فضحك سلار وسكن غضبه. حكى لنا شيخنا الحافظ فتح الدين قال: اجتزنا جماعة به وهو في دكان داخل باب الفتوح والناس عليه مجتمعون، فقالوا: تعالوا نخايل على الحكيم، فقلت لهم: ما أنتم وزنه فلا تشاكلوه فقالوا: لا بد وهو يكحل الناس. فقال بعضنا: يا حكيم تحتاج إلى عصيات؟ فقال: لا والله، إلا ... أي من كان منكم يشتهي يقود فليتقدم قال: فقلت لهم: قلت لكم: لا تشاكلوه فما قبلتم قولي، أو كما قال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 وله نوادر كثيرة من هذا النمط. يقال إن الملك الأشرف أعطاه قبل أن يلي فرساً، وقال له: هذا اركبه إذا طلعت القلعة أو سافرت معنا إلى الصيد، لأنه كان في خدمته، فلما كان بعد أيام رآه وهو راكب على حمار مكسح، فقال له: يا حكيم أين الفرس الذي أعطيناك؟ فقال: بعتها وزدت عليها واشتريت هذا الحمار، فضحك منه. وكان له راتب لحم على ديوان السلطان فعمل في وقت استيمار، وقطع هو وغيره، فدخل على الأمير سيف الدين سلار وهو يعرج فقال له: ما بك يا حكيم؟ قال: بي قطع لحم، فضحك منه، وأمر له بإعادة مرتبه من اللحم. وله من التصانيف كتاب " طيف الخيال " أبدع فيه وقيل: إنه أخرجه من القوة إلى الفعل، ولبس ثيابه ورقص بآلاته جميعها، وله أيضاً أرجوزة سماها: " عقود النظام في من ولي مصر من الحكام ". ومن شعره يستهدي قطراً: نعم أنت أولى من نؤمله قدراً ... وأكرم من نهدي المديح له درا وما أنت إلا ديمة أي ديمة ... تسح فيحيي سحها البلد القفرا ولو لم تكن يا ابن المكارم ديمةً ... تجود لما استهديت من جودك القطرا فجد لي به من ساعتي إنني امرؤ ... أخاف إذا جرعت في عسل صبرا ودعني من رفع النحاة ونصبهم ... وجرهم أن يملأوا جرتي جرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 فقد لهبت عندي القطائف غلة ... عليه وأبدت ألسناً للظما حرا وشقت له أيدي الكنافة جيبها ... وقد شيقت من طول وحشتها الصدرا وقد صدع البين المشت لبعده ... قلوباً، فقلب اللوز منكسر كسرا وإن جاءني مع ذلك القطر سكر ... أنقطه حتى يكون لكم شكرا ومنه في الثقة عامل الملقة بالجيزة: ما لي وللمنخرقه ... والعطف والمنزلقه وغله الخالص في ... تحصيلها والملقه ورحلتي في مركب ... بكل فدم موسقه أرجاؤها علي من ... زحامهم مضيقه بت بها لضيقها ... وضنكها في بوتقه ترقص في البحر لدى ... أمواجه المصفقه والريح لا تجري على ... طريقة متفقه تهب غرباً وتهب ... ب تارةً مشرقه كأنها من هوج ... رفيقنا اللص الثقه أقبحنا خلقاً فسب ... حان الذي قد خلقه بصورة القر فلو ... لا، ذقنه والعنفقه وأنه الكلب لمن ... عاينه أو حققه والكلب لو جاراه في ... خساسة ما لحقه شيخ لنقصه وإن ... كان ثقيلاً طبقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 رافقته ولم تكن ... رفاقيته رفقه حتى إذا ما غيب الأ ... فق لدينا شفقه وهوم الناس فلا ... عين امرئ مؤرقة نام فكان نائماً ... كالحية المطوقه وقام في الليل كمث ... ل من يريد السرقه يسعى إلى عبد له ... وجه شبيه الدرقه عبل الذراع أسود ... بشفة مشتقه لو جاز رأس أيره ... في كم قاض فتقه أولجه في سرمه ... ثم عليه طبقه وفك سندان استه ... بفيشة كالمطرقه ولم يزل حتى رمى ... بيض المخاصي زنبقه فقلت في نفسي ترى ... خيطه أم فتقه وعاد نحوي قائلاً ... وجحره مبصقه ما أطيب الأير سج ... قا والخصي مدققه ولو أتاني نكته ... على سبيل الصدقه أحسن من ذاك وذا ... جارية معشقه جديدة في حسنها ... وقهوة معتقه ذات حر يضيق بالأي ... ر إلى أن يخنقه حر رميت طيره ... من خصيتي بندقه فخر مصروعاً ولم ... يقطع سواي سبقه غنت فأغنت عن شدا ال ... حمامة المطوقه لله صب لا يضي ... ع عهده وموثقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 أو شادن عليه أك ... باد الورى محترقه علق نفيس كل كه ... جة به معتلقه يموج عند نيكه ... تحتك مثل العلقه يكاد موج ردفه ... للصب أن يغرقه كم ليلة ركبني ... من خلفه في الحلقه لما استجاد عدتي ... في العرض يوم النفقه وجونة زاهية ... بظلمة وبرزقه ذات شواء قد غدا ... مشتملاً بجردقه وافى ونفسي لم تزل ... إلى لقاء شيقه لولا خلوق ثوبه ... لكدت أن أخلقه في إثره دجاجة ... مصلوقة في مرقه تتبع بوارانيةً ... في دهنها معرقه فمن حبته هذه ... سبحان رب رزقه وقال يوم كتب كتابه: قد تجاسرت إذ كتبت كتابي ... طمعاً في مكارم الأصحاب وهي طويلة وقد أوردتها في الجزء الأول من " التذكرة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وقال وقد أبطلوا المنكرات في أيام الملك المنصور حسام الدين لاجين. رأيت في النوم أبا مره ... وهو حزين القلب في مره وعينه العوراء مقروحةً ... تقطر دمعاً قطرةً قطره يصيح واويلاه من حسرتي ... تلك التي ما مثلها حسره وحوله من رهطه عصبةً ... فيهم على قلتهم كثره من كل علق مثل بدر الدجى ... قيمته في واحد بدره مظفر اللحظ بعشاقه ... وإنما في جفنه كسره شمس ضحى غصن نقىً قدره ... وظله من خلفه الشعره تجميشه نقل لمن ضمه ... وجوز التينة بالتمره يهون وزن المال في وصفه ... طالعه الميزان والزهره ومن سحور العين فتانةٍ ... خود لها شمس الضحى ضره تقول للعشاق من معصمي ... تنزهوا في الماء والخضره إذا رأى عاشقها كسها ... يود لو ترضعه بظره وكل قواد له ضرطة ... من شدقه يتبعها شخره يسطو على العاشق في سومه ... مغالباً لما اقتضى حذره يقول والكيفاح من خلفه ... وعنده في قوله شمره زن ألف دينار إذا رمتها ... إن كنت ما ترضى بها بعره سبحان من ولد في خدها الن ... قي بياضاً فوقه حمره هيا تمتع دي بحق الوفا ... لا تترك القصف على فشره وكل لوطي له نهمةً ... على سميط اللحم في السفره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 إن وسوست في وجهه فسوة ... يقل لها يا طيبها نخره وكل زناء يرى بولة ال ... قحبة في صبحته نشره وكل بنت ما لها عذرةً ... لكن هواها من بني عذره سحاقةً قد كلكلت بظرها ... وما لها في دلكها شعره وكل خمار وفي كفه ... كأس على عاتقه جره ومن حشيشي سطيل على ... شاربه قد بقلت خضره ومن بني حام له مزرة ... صفى لها صاحبه المزره وكل بغاء به أبنة ... مبادل أبغى من الإبره وكل جلاد على خلوة ... عمرةً هاجت به عميره ومن خيالي ومن مطرب ... وزامر قد جاء في الزمره فقلت يا إبليس ماذا الذي ... أسال من مقلتك العبره وما الذي أزعج أشياعك النو ... كى وإن كانوا ذوي شره فقال لي: يا بأبي أنت قد ... وقعت في مس أخت ما أكره قلت جيوشي ووهى منصبي ... وعدت لا أمر ولا إمره وأصبح الخمار لا يلتقي ... في بيته كوزاً ولا جره ومنزل المزار صفر وقد ... علته من ذلته صفره وبات قلي الفار في حسرة ... وقلبه يقلى على جمره وكاد أن يسطو الحشيشي وأن ... يجرح بالخنجر والشفره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 وسائر الستات من قحبنا ... أكثرهن اليوم في الحجره يطلبن أزواجاً فلا قحبة ... منهن إلا أصبحت حره وكل سالوس قمار وقد ... أجاد بالعفق بها مهره كم جهد ما أغوي وأعوي وكم ... أصفف المقصوص والطره وكم أرى العينين مكحولة ... لمن رمي بالعين والنظره وكم وكم أشهر في خدمة ال ... عشاق في الليل إلى بكره وما أرى اليوم ولا عاشقاً ... إلا الذي أغويه في الندره قد كسدت سوق المعاصي فلا ... شرب ولا قصف ولا عشره هذا على أني ومن غيتي ... أقود لا أجر ولا أجره فقلت: يا إبليس سافر بنا ... وطول الغيبة والسفره إياك أن تسكن مصراً وأن ... تقربها إن كنت ذا خبره فإن فيها صاحباً عادلاً ... مبارك الطلعة والغره قد علم السلطان في نصحه ... لملكه ما شاع بالشهره جزاء من خالف مرسومه ... تجريسه والضرب بالدره وقال على لسام المشاعلة: لا ودخان المشعل ... وضوئه المشتعل وعرفه الذي غدا ... يزري بعرف المندل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 وقد جودها وهي طويلة، وقد أوردتها في الجزء الثالث من " التذكرة ". وقال: قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق كل من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً عند قسمة الأرزاق وقال: بي من أمير شكار ... وجد يذيب الجوانح لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح وقال: ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ولا بختي قد بعت عبدي وحماري معاً ... وصرت لا فوقي ولا تحتي وقال: يا سائلي عن صنعتي في الورى ... وحرفتي فيهم وإفلاسي ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس وقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 إذا ما كنت متخوماً ... فكن ضيفاً على شير فما يخرج منه الخب ... ز إلا بالمناشير وقال: يا رشاً لحظه الصحيح عليل ... كل صب بسيفه مقتول لك ردف غادرته رهن خصر ... وهو رهن كما علمت ثقيل وقال: وأقطع قلت له ... أنت لص أوحد فقال هذي صنعة ... لم يبق لي فيها يد وقال: كم قيل لي: إذ دعيت شمساً ... لا بد للشمس من طلوع فكان ذاك الطلوع داءً ... يرقى إلى السطح من ضلوعي وقال قد صلبوا ابن الكازروني، وفي عنقه جرة خمر في أيام الظاهر: لقد كان حد الخمر من قبل صلبه ... خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جلدا فلما بدا المصلوب قلت لصاحبي ... ألا تب فإن الحد قد جاوز الحدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 وقال أيضاً: لقد منع الإمام الخمر فينا ... وصير حدها حد اليماني فما جسرت ملوك الجن خوفاً ... لأجل الحد تدخل في القناني وقال أيضاً: يقولون الحكيم أبو فلان ... حوى كرماً وجوداً في اليدين فقلت علمت ذلك وهو سمح يضيع كل يوم ألف عين وقال أيضاً: قطعت من يومين بطيخةً ... وجدت فيها جعس مصمودي قالوا خرى الخولي في أصلها ... من يوم جري الماء في العود قال في مكارم اليهودي: مكارم ما زال في طبه ... مكارهاً واللفظ فيه اشتباه أعني به الغارق في ذقنه ... ولست أعني غارقاً في خراه قلت: وقد اخترت أنا " ديوانه " بالديار المصرية وهو أجمعه في الجزء الرابع عشرين من التذكرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 وللحكيم شمس الدين بن دانيال موشحة ظريفة وهي: غصن من البان مثمر قمرا ... يكاد من لينه إذا خطرا يعقد أسمر مثل القناة معتدل ولحظه كالسنان منصقل نشوان من خمرة الصبا ثمل عربد سكراً علي إذ خطرا ... كذاك في الناس كل من سكرا عربد يا بأبي شادن فتنت به يهواه قلبي على تقلبه مذ زاد في التيه من تجنبه أحرمني النوم عندما نفرا ... حتى لطيف الخيال حين سرى شرد عيناه مثوى الفتور والسقم قد زلزلا من سطاهما قدمي سيفان قد جردا لسفك دمي إن كان في الحب قتلتي نكرا ... فها دمي فوق خده ظهرا يشهد لا تلحني بالملام يا عذلي فإنني في هواه في شغل وانظر لماذا المحب به بلي لو عبد الناس قبله بشراً ... لكان من حسنه بغير مرا يعبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 حملت وجداً كردفه عظماً وصرت نضواً كخصره سقماً لو أن ما بي بالصخر لأنهدما فالحب داء لو حمل الحجرا ... لذاب من هول ذاك وانفطرا وانهد جوى أذاب الحشا فحرقني ونيل دمع جرى فغرقني لكنه بالدموع خلفني فبت أجري في الدمع منحدرا ... ذاك لأني غدوت منكسرا مفرد بديع حسن سبحان خالقه أحمر خد يبدي لعاشقه مسكاً ذكي الشذا لناشقه نمل عذار يحير الشعرا ... وفود شعر يستوقف الزمرا أسود وقد عارض ابن دانيال بهذه الموشحة موشحة لأحمد بن حسن الموصلي الوشاح وهي: بي رشاً عندما رنا وسرا ... باللحظ للعاشقين إذ أسرا قيد السحر من لفظه ومقلته والرشد من فرقه وغرته والغي من صدغه وطرته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 بدر بصبح الجبين قد سترا ... بليل شعر وانظر له سترا أسود إن قلت بدر فالبدر ينخسف أو قلت شمس فالشمس تنكسف أو قلت غصن فالغصن ينقصف وسنان جفن سما عن النظرا ... وكل طرف إليه قد نظرا سهد حاجبه مشرف على شغفي عارضه شاهد على أسفي ناظره عامل على تلفي به غرامي قد شاع واشتهرا ... وسيفه في الحشا إذا اشهرا يغمد زها بثغر كالدر والشنب وأطلع الأقحوان كالحبب رصع شبه اللجين في الذهب حوى الثريا من نوره أثرا ... له أدمعي الذي نثرا نضد عذاره النمل في القلوب سعى والنحل من ثغره الأقاح رعى ويوسف أيدي النسا قطعا بالنور من وجهه سبا الشعرا ... وردني بالجفا وما شعرا مكمد بما بأجفانه من الوطف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 وما بأعطافه من الهيف وما بأردافه من الترف ذا الأسمر اللون ردني سمرا ... وفي فؤادي من قده سمرا أملد خلد طول الحياة في خلدي وكابدت لاعج الجوى كبدي ضعيف خصر يوهي قوى جلدي فخصره حالتي قد اعتبرا ... وعن سقامي فقد روى خبرا مسند قلت: وسيأتي في ترجمة شمس الدين محمد بن علي الدهان عدة موشحات في هذا الوزن وهي جيدة. محمد بن داود بن محمد بن منتاب بضم الميم وسكون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وباء موحدة، التقي المأمون شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر. حضر غزاة عكا، وحفظ " التنبيه " و" الشاطبية " وسمع من أبي جعفر بن الموازيني، وببغداد من أبي القاسم وغيره. وسافر للتجارة وغاب عن دمشق زماناً، ثم إنه عاد إليها وسكنها بعد العشرين وسبع مئة. وكان مليح الشكل مهيباً جميل اللباس حسن البشر، دائم البذل والصدقة، خبيراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 بالأمتعة، ذا خط من أوراد وتهجد ومروة، مجوداً لكتاب الله. وكان التجار يخضعون له ويحتكمون إليه وثوقاً بعلمه وورعه. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة رابع عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة نيف وسبعين وست مئة. وصلي عليه بعد الجمعة، وشيعه أمم من الناس. محمد بن داود المسند الجليل شرف الدين أبو الفضائل بن الخطيب عماد الدين بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن خطيب بيت الأبار. روى عن السخاوي، وشيخ الشيوخ تاج الدين بن حويه، وإبراهيم الخشوعي، وعز الدين بن عساكر، وعتيق السلماني، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، وإسحق بن طرخان الشاغوري، والمرجا بن شقيرة، والحافظ ضياء الدين المقدسي، وابن الصلاح، وجماعة. وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. محمد بن داود مجير الدين بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن عمر بن قزل المشد التركماني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 الأصل، سبط الملك الحافظ ابن السعيد بن الأمجد صاحب بعلبك، القاضي شمس الدين بن الحافظ. كان فقيهاً حنفيا، شاعراً ذكياً يقع بقوة ذهنه على المعنى إذا كان خفيا، ويرى غوامض المواقيت وكيف لا وقد كان للشمس سميا، وله مشاركة في العربيه، ومداخلة في النكت الأدبيه. ونثره غير طائل، وخطه ليس بهائل. يعرف الرياضي جيداً، أعني فيما يتعلق بالحساب، وآلات المواقيت من الربع والاصطرلاب، ويضع الآلات بيده ولكن وضعاً عفشا، ويكتب رسومها رسماً وحشا. وكان يضع من حيل بني موسى جمله، ويحمل نفسه من تجارب أعمالها ما لا يطيق حمله. قد أفنى عمره في ذلك وسلك طرائقها الموحشة وليله حالك. إلا أنه كان في حل المترجم آيه، وذهنه في حله بلا فاصلة غايه، وهو أول من كتب لي مترجماً وحللته، وهززت له حسامه وسللته. ولم يزل على حاله إلى أن ضاع من ابن الحافظ حساب عمره، وأذهل ذويه مبهم أمره. وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس فيما أظن سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في تاسع عشر المحرم، ودفن هناك، وكان وصى بأن ينقل إلى دمشق. وكان أولاً بصفد ناظر الجيش، فأقام بها زماناً، ثم إنه نقل إلى نظر جيش طرابلس. وكان قد سمع من ابن شيبان " ثلاثيات المسند "، ومن ابن البخاري " كتاب الترمذي "، وسمع بمصر والإسكندرية، وحدث. ولما توجه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب من صفد والأمير علم الدين الجاولي لحصار سلع، عمل رسالة في ذلك نظماً ونثراً، وسمعتها من لفظة غير مرة، ومما جاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 فيها نظماً: دعت قلعة السلع من مضى ... بلطف إلى حبها القاتل وغرتهم حين أبدت لهم ... محياً كبدر دجى كامل ولما استجابوا لها أعرضت ... دلالاً وقالت إلى قابل تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل وقرأت عليه بصفد " رسالة الإصطرلاب " لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأخبرني أنه قرأها على المصنف. وحكى لي أن القاضي بدر الدين حكى له أن إنساناً من المغاربة جاء إليه وهو بمنزله دار الخطابة بالجامع الأموي، وكان إذ ذاك قاضي القضاة وخطيباً، وقال: يا سيدنا رأيت اليوم في الجامع إنساناً وفي كمه آلة الزندقة، فاستفهمت كلامه واستوضحته إلى أن ظهر لي أنه رآه وفي كمه إصطرلاب، قال: فقال لي: إذا جئت لتقرأ علي شيئاً تحيل في إخفاء ذلك ما أمكن. ووصف لي يوماً حل المترجم وحببه وزينه، وقال لي: يعوزك أن تكون تحل المترجم، فقلت له: اكتب لي شيئاً منه، فكتبه لي وأخذته من عنده، وبت بعض ليلتي أفكر فيه، وفتح الله علي بفكه من غير شيخ ولا موقف، فحللته وكتبت جواب ما كتبه لي، وكتبت فيه: سلكت المترجم في ليلة ... ولولاك ما كنت ممن سلك وما كان ليلي به ذا حياً ... لأنك شمس تضيء الحلك وكتب إلي يوماً، وقد بلغه عني كلام لم أقله، واستقالني من العتب فلم أقله: أعيذك من ضمير غير صاف ... وأنت كما نراك أبو الصفاء وغرس الدين لا يذوي ثراه ... فمحتاج لشمس الاستواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 فكيف يرى بعاداً عن سناها ... ويعمل فكره طلب الخفاء أحاشي ذهنك الوقاد يسطو ... عليه ظلمه الخل المراء وأن تصغي إلى الواشي وأنت ال ... عليم بصدق ودي وانتمائي فلا بالله لا تسمع حديثاً ... ينمقه الحواسد بافتراء فإني قد جعلتك في مماتي ... خليلاً أصطفيه وفي بقائي فكتبت أنا الجواب إليه: أيا شمس العلوم لمجتليها ... ويا من فضله بادي السناء ومن قد ظل منه الفضل فينا ... ولولاه نبذنا بالعراء ألست إذ ادلهمت مشكلات ... جلاها بالتروي والذكاء فما يخفى عليه مقال غش ... لأن الغش يظهر في الصفاء أعيذك أن تصدق قول واش ... وأن تمشي على غير استواء أتحسبني أفوه بغير شكر ... لفضلك لا وخلاق السماء وبابك منذ كنت عرفت نفسي ... عقدت عليه ألوية الولاء وما أهدى النسيم إليك طيباً ... وكان شذاه إلا من ثناء وودي أنت تعلمه يقيناً ... صحيح لا يكدر بالجفاء فلا تسمع لما نقل الأعادي ... وما قد نمقوه من افتراء فأصلك طيب حاشاه يجفو ... خليلاً دأبه رفع الدعاء وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وأنشدني من لفظه لنفسه: لله در الخليج إن له ... تفضلاً لا نطيق نشكره حسبك منه بأن عادته ... يجبر من لا يزال يكسره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 قلت: أخذه من قول الأول وفيه زيادة: سد الخليج بكسره جبر الورى ... طراً فكل قد غدا مسرورا الباء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا وأنشدني من لفظه لنفسه: وذي شنب مالت إلى فيه شمعة ... فردت لإشفاق القلوب عليه فمالت إلى قدامه شغفاً به ... فقبلت البطحاء بين يديه وقالت بدا من فيه شهد فهزني ... تذكر أوطاني فملت إليه فحالت يد الأيام بيني وبينه ... فعفرت أجفاني على قدميه قلت: أخذ قول الأول، وزاد هو عليه: أتدرون شمعتنا لم هوت ... لتقبيل ذا الرشأ الأكحل درت أن ريقته شهدة ... فحنت إلى إلفها الأول محمد بن داود الأمير ناصر الدين ابن الأمير نجم الدين بن الزيبق. كان أولاً أمير عشرة بعد وفاة والده، ثم أعطي نيابة الرحبة في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، فأقام تقدير سنتين أو أقل، ثم عزل منها وأقام في دمشق وهو أمير طلبلخاناه، فولاه الأمير سيف الدين أغون الكاملي ولاية مدينة دمشق، فباشرها إلى أن أتى الأمير علاء الدين أمير المارداني إلى دمشق نائباً، فجعله والي الولاة بالصفقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 القبلية، فسفك فيها الدماء، واستخرج الأموال، ولكن اطمأنت به البلاد من العشران والفتن. ولم يزل بها أن مرض مدة، وتوفي رحمه الله تعالى، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أول شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ونقل إلى دمشق. محمد بن رضوان ابن إبراهيم بن عبد الرحمن، زين الدين العذري، المعروف بابن الرعاد، براء وعين مهملة مشددة وبعدها ألف ودال مهملة. أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: كان المذكور خياطاً بالمحلة من الغربية وله مشاركة في العربية وأدب لا بأس به، وكان في غاية الصيانة والترفع عن الدنيا والتردد إليهم، واقتنى من صناعة الخياطة من الكتب كثيراً، وابتنى بها داراً حسنة، ورأيته بالمحلة مراراً. وأنشدني لنفسه قال: أنشدني للشيخ بهاء الدين بن النحاس: سلم على المولى البهاء وقل له: ... شوقي إليه وإنني مملوكه أبداً يحركني إليه تشوق ... جسمي به مشطوره منهوكه لكن نحلت لبعده فكأنني ... ألف وليس بممكن تحريكه وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا وقد جاء لي من بعد هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: نار قلبي لا تقري لهباً ... وامنعي أجفان عيني أن تناما فإذا نحن اعتنقنا فارجعي ... نار إبراهيم برداً وسلاما وأنشدني قال أنشدني لنفسه: قالوا وقد عاينوا نحولي ... إلام في ذا الغرام تشقى ضنيت أو كدت فيه تفنى ... وأنت لا تستفيق عشقا فقلت: لا تعجبوا لهذا ... ما كان لله فهو يبقى قلت: شعر عذب منسجم. وتوفي رحمه الله تعالى بالمحلة سنة سبع مئة. وكان قد أخذ النحو عن العلامة أبي عمرو ابن الحاجب. ومن شعر ابن الرعاد أيضاً: أشكو إلى الله قصاصاً يجرعني ... بالصد والهجر أنواعاً من الغصص إن تحسن القص يمناه فمقلته ... أيضاً تقص علينا أحسن القصص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 قال كمال الدين الأدفوي: أخبرني شيخنا أثير الدين قال: قال لي زين الدين المذكور: أرسل إلي شهاب الدين الخوبي حين كان قاضياً بالغربية أن أرسل إلي بالكتاب الذي استعرته مني، فقلت له: ما استعرت في دهري من أحد شيئاً فأعاد الرسالة، فكتبت إليه هذه الأبيات: غنيتم فأطغاكم غناكم فأغنتنا ... قناعتنا عنكم ومن قنع استغنى ألا مالكم سدتم فساءت ظنونكم ... ومن عادة السادات أن يحسنوا الظنا عسى سفرة شرقية حلبية ... تروح بكم منا وتغدو بكم عنا وأرسلها إليه، فما فرغ من قراءته إلا بريدي وصل إليه أن يتوجه إلى حلب قاضياً. ومن شعر ابن الرعاد أيضاً قوله: أعد نظراً فما في الخد نبت ... حماه الله من ريب المنون ولكن رق ماء الوجه حتى ... أراك خيال أهداب الجفون قلت: مأخوذ من قول الأول: ولما استقلت أعين الناس حوله ... تراقبه حيث استقل وسارا تمثلت الأهداب في صفو خده ... خيالاً فخالوا الشعر فيه عذارا ولعل هذا وما قبله منقول من قول ابن سناء الملك: لم يهني إلا هواه ولا دل ... ل على السقام إلا دلاله ما خلا خده الصقيل من الخا ... ل ولكن سواد عيني خاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 وزاده تصريحاً نجم الدين بن صابر المنجنيقي حيث قال: أهلاً بوجه كالبدر حسنا ... صيرني حبه هلالا قد رق حتى لحظت فيه ... سواد عيني فخلت خالا وقال تاج الدين مظفر الذهبي: لاح هلالاً وانثنى مثقفاً ... وصال ليناً ورنا غزالاً لو لم تكن وجنته ماء لما ... خلت سواد العين فيه خالا وكلهم أخذه من الشريف البياضي حيث قال: بوجه شف ماء الحسن فيه ... فلو لثمت صحيفته لسالا يؤثر فيه لحظ العين حتى ... رأيت سوادها في الخد خالا محمد بن سالم ابن نصر الله بن سالم بن واصل، القاضي الإمام العلامة جمال الدين بن واصل الحموي الشافعي، قاضي القضاة بحماة. كان أحد الأئمة الأعلام، والقائمين بجمع العلوم الخافقة الذوائب والأعلام. برع في العلوم الشرعية وطلع كالشمس في الفنون العقليه، وجمع شمل ما تفرق في العلوم الأدبيه. صنف وجمع وألف، ودخل في كل فن وما تخلى عنه ولا تخلف. وأفتى واشتغل ودرس، وقضى وحكم وفصل لما علم وتفرس. وبعد صيته واشتهر، وبرز على الأقران في الجدال ومهر. وغلب عليه الفكر إلى أن صار يذهل عن جليسه، ويغيب عن وجوده في حضرة أنيسه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وأديم نحو محدثي نظري ... أن قد فهمت وعندكم عقلي ولي القضاء مدة مديده، وفاز منها بالسيرة الحميده، وأضر أخيراً، وحاز بذلك أجراً كبيرا. ولم يزل على حاله إلى أن قطع عمر ابن واصل، ولم يبق في حياته حاصل. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة ثاني عشري شوال سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده بحماة في ثاني شوال سنة أربع وست مئة. ودفن بتربته بعقبة بيرين. وقيل إنه كان يشغل في حلقته في ثلاثين علماً وأكثر، وحضر حلقته نجم الدين دبيران المنطقي، وأورد عليه إشكالاً في المنطق. وكان قد جهز عن صاحب مصر رسولاً إلى الأنبرور، فتوجه، فأعظمه الأنبرور، وسأله عن مسائل تتعلق بعلم المناظر وغيرها، فأخذها وبات بها، وأصبح وقد أملى الجواب عليها في مجلد صغير، فعظم في عين الأنبرور وقال: يا قاضي ما سألناك عن حلال ولا حرام في دينك الذي أنت فيه قاض، وإنما سألناك عن أشياء لا يعرفها إلا الفلاسفة الأقدمون، فأجبت عنها، وليس معك كتب ولا ما تستعين به، مثلك يكون قسيساً، وحسد المسلمين عليه، وزاد في تعظيمه وإكرامه، وأحضر له الأرغل وهو الآلة عندهم في الطرب، ولا يضرب به إلا في أيام أعيادهم، فقيل: إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 ما اهتز له ولا تحرك، وعندهم إن أحداً ما يسمعه فيملك نفسه من الطرب، إلا أنه لما قام وجدوا كعابه مما حكها في البساط قد أدماها الحك، وبقي أثر الدم في البساط، فزاد تعجب الأنبرور منه أيضاً وأعطاه شيئاً كثيراً. وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني غرائب من حفظه وذكائه، وحكى الحكيم السديد الدمياطي عنه أنه تعشى ليلة عند الشيخ علاء الدين بن النفيس، وصلينا العشاء الآخرة. قال: إلا أن القاضي جمال الدين كان يحتد في البحث ويحمار وجهه، والشيخ علاء الدين في غاية الرياضة، ثم إن القاضي آخراً قال: والله يا شيخ علاء الدين أما نحن فعندنا نكيتات ومواخذات وإيرادات وأجوبة، وأما أنت فهكذا خزائن علوم، هذا أمر بارع. أو كما قال. وأخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: قدم المذكور علينا القاهرة مع الملك المظفر صاحب حماة، فسمعت منه، وأجاز لي جميع مروياته ومصنفاته، وذلك بالكبش من القاهرة في يوم الخميس التاسع والعشرين من المحرم سنة تسعين وست مئة. وهو من بقايا من رأيناه من أهل العلم الذين ختمت بهم المئة السابعة. وأنشدني لنفسه مما كتب به لصاحب حماة الملك المنصور محمد بن مظفر: يا سيداً ما زال نجم سعده ... في فلك العلياء يعلو الأنجما إحسانك الغمر ربيع دائم ... فلا نرى في صفر محرما ومن شعر قاضي القضاة جمال الدين بن واصل أيضاً: وأعيذ مصقول العذار صحبته ... وربع سروري بالتأهل عامر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 وفارقته حيناً فجاء بلحية ... تروع وقد دارت عليه الدوائر فكررت طرفي في رسوم جماله ... وأنشدت بيتاً قاله قبل شاعر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فقال مجيباً والفؤاد كأنما ... يقلقه في القلب مني طائر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر قلت: ومن مصنفاته " التاريخ " الذي له، وكان مفرج الكروب في دولة بني أيوب وله " مختصر الأربعين في أصول الدين "، " وشرح الموجز في المنطق " لأفضل الدين الخونجي، و" شرح الجمل " له أيضاً، و" شرح قصيدة ابن الحاجب " في العروض والقوافي، و" التاريخ الصالحي "، و" مختصر الأدوية المفردة " لابن البيطار، واختصر " الأغاني الكبير "، وملكت به نسخة عظمى. وكان خطه عليها بعدما أضر، وكتاب " نخبة الأملاك في هيئة الأفلاك ". محمد بن سعد الله ابن مروان بن عبد الله القاضي الرئيس عز الدين ابن القاضي سعد الدين أبي الفضل ابن الشيخ الفقيه العدل بدر الدين الفارقي. كان جيد الكتابة يكتب المطالعة بديوان الإنشاء بدمشق، وهو مرشح لكتابة السر، مشاراً إليه معظماً. ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة سابع عشري، شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره اثنان وخمسون سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 وهو والد القاضيين محيي الدين محمد، وشهاب الدين أحمد، كاتبي الإنشاء بدمشق. محمد بن سعيد بن أبي المنى الإمام الفقيه بدر الدين الحلبي الحنبلي نزيل القاهرة. سمع من التقي بن مؤمن، والعز بن الفراء، والأبرقوهي. ونسخ كثيراً، وحصل وأفاد. وكانت فيه صفات حميدة. قال شيخنا الذهبي: انتقيت له جزءاً حدث به. وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة. محمد بن سعيد بن عبد الله تقي الدين المدني الحجازي، قارئ الحديث بالمدينة النبوية. كان أسود اللون، فاضلاً في الأدب. ورد إلى دمشق، ثم توجه منها إلى القاهرة، ليعود إلى المدينة. فتوفي رحمه الله بالقاهرة في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. وسمع بالشام ومصر وكتب عنه من شعره شيخنا البرزالي. ومولده في أحد الربيعين سنة ثلاث وخمسين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 محمد بن سعيد بن محمد بن سعيد الصدر الرئيس الفاضل شرف الدين ابن الصدر شمس الدين بن الأثير الكاتب، تقدم ذكر والده. كان شاباً حسناً عاقلاً وقوراً، كان قد أسره التتار في واقعة غازان فيمن أسروه، ومن الله عليه بالرجوع إلى وطنه، وكان وصوله إلى دمشق في تاسع عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة، فأصيب بوالده، وترك له ميراثاً جيداً، فلم يتمتع به. وتوفي رحمه الله تعالى سابع ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، وكان على طريق حميدة ودفن عند والده. محمد بن سعيد بن ريان الطائي، القاضي، تاج الدين ابن الرئيس عماد الدين. أول ما عرفت من أمره أنه كان كاتب إنشاء بحلب، ثم إنه حضر إلى القاضي كريم الدين الكبير لما جاء لزيارة بيت المقدس في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وأخذ كتابه إلى الأمير سيف الدين تنكز بأن يكون مباشراً بدمشق، فتولى نظر بعلبك وأقام بها مدة، ثم إنه توجه إلى حلب صاحب الديوان، ثم إنه خرج منها في واقعة لؤلؤ وعاد إلى دمشق وأقام بها على نظر البيوت وصحابة ديوان الجامع الأموي. ودام على ذلك مدة، ثم أصابه فالج فأقعده في بيته بقدر أربع سنين أو أكثر، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الاثنين ثاني عشري جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وكان - رحمه الله تعالى - شكلاً حسناً، فيه رئاسة وسؤدد، حسن الأخلاق كريماً، يتجمل في ملبسه ومأكله، ويكتب خطاً جيداً. ورأيته يكتب الكتاب مقلوباً من الحسبلة إلى البسملة في أي معنى اقترح عليه. وبرع في كتابة الحساب والإنشاء. ومات - رحمه الله تعالى - وقد تجاوز الستين قليلاً. محمد بن سلمان بن حمائل بن علي الصدر الرئيس الفاضل شمس الدين المقدسي، عرف بابن غانم. وقد تقدم ذكر أولاده شهاب الدين أحمد، وعلاء الدين علي، وبهاء الدين أبو بكر. قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن حمويه وابن الصلاح. وكان من أعيان الناس، معروفاً بالكتابة والكفاية والمعرفة والتقدم وحسن المحاضرة، وحصل كتباً نفيسة. ولي التدريس بالعصرونية. وسمع أيضاً في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة من الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم بنابلس، وسمع بدمشق من القرطبي وابن مسلمة وجماعة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة سبع عشرة وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين العلامة الزاهد جمال الدين أبو عبد الله البلخي الأصل، المقدسي، الحنفي المفسر، المعروف بابن النقيب، أحد الأئمة. دخل القاهرة، ودرس بالعاشورية، ثم تركها وأقام بالجامع الأزهر مدة. وكان صالحاً زاهداً متواضعاً عديم التكلف، أنكر على الشجاعي إنكاراً تاماً، بحيث إنه هابه وطلب رضاه. وكان الأكابر يترددون إليه ويلتمسون منه الدعاء. صرف همته أكثر دهره إلى التفسير، وجمع تفسيراً حافلاً، جمع فيه خمسين مصنفاً. وذكر فيه أسباب النزول والقراءات والإعراب واللغات والحقائق في علم الباطن. قيل: إنه في ثمانين مجلدة. ولهذا التفسير نسخة في جامع الحاكم بالقاهرة. قال شيخنا الذهبي: سمعت منه حديث علي بن حرب. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في شهر الله المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة. وقال الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه " البدر السافر " في ترجمة ابن النقيب هذا: وله نظم، منه يمدح الشيخ قطب الدين القسطلاني وهو قوله: سألت أخاك البحر عنك فقال لي ... شقيقي إلا أنه الساكن العذب لنا ديمتا ماء ومال، فديمتي ... تماسك أحياناً وديمته سكب إذا نشأت تبريه فله الندى ... وإن نشأت بحرية فلي السحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 أقل عليه من سماح صفاته ... فإني أخشى أن يداخله العجب قلت: كذا قال كمال الدين الأفودي، ونسب هذه الأبيات إلى ابن النقيب المفسر، وليس الأمر كذلك، وإنما هذه من قصيدة لابن اللبانة مدح بها المعتمد بن عباد وأولها: بكت عند توديعي فما علم الركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب وتابعها سرب وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب وأظن ابن النقيب كتب بها إلى ابن القسطلاني مستشهداً بها على عادة الناس. وأورد لابن النقيب أيضاً: نسيم الصبا هيجت من قلبي المضنى ... فنوناً من الأشواق نفنى ولا تفنى وعهدي بأنفاس الصبا تبرد الجوى ... وتهدي من الأرواح راحاً لمن أنا فما لي إذا هبت سحيراً يهزني ... غرام كما هزت جنوبية غصنا وما لي إذا هبت صبا شام بارق ... من الحزن أنساني صميم الحشا حزنا قلت: نعم هذا شعر ابن النقيب، وإلا فأين هذه الطبقة من تلك الطبقة الأولى، أين الثريا من الثرى. محمد بن سليمان بن أبي العز بن وهيب الإمام المفتي شمس الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي مدرس النورية والعذراوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 كان من كبار الحنفية مقصوداً بالفتوى، أفتى نيفاً وثلاثين سنة، وناب في القضاء عن والده، وكان منقبضاً عن الناس. توفي - رحمه الله تعالى - نهار الجمعة سادس عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة. وكانت له إجازة بعد سنة خمسين وست مئة، ولم يحدث. محمد بن سلمان الإمام المفتي وجيه الدين الرومي القونوي الحنفي، إمام الربوة. كان شيخاً فاضلاً متواضعاً، ولي تدريس العزية التي بالميدان، وأعاد وأفتى. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة. محمد بن سليمان بن عمر بن سالم الصدر الرئيس بدر الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين الأذرعي المعروف بالزرعي. كان رئيساً محتشماً قد باشر عدة أنظار بالديار المصرية، وكان من أصحاب القاضي كريم الدين الكبير، وكان قد سمع من ابن البخاري وزينب بنت مكي وجماعة، وحدث بالقاهرة وبمنفلوط. وآخر ما تولى نظر الفيوم. فتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في آخر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 محمد بن سليمان بن سومر البربري الزواوي قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله المالكي. قدم الإسكندرية حدثاً، وتفقه بها، وبرع في المذهب، وفرط في السماع من ابن رواج والسبط. ثم إنه سمع من أبي عبد الله المرسي، وأبي العباس القرطبي، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، والسيخ أبي محمد بن برطلة. وعالج الشروط، وناب في الحكم بالقاهرة، وحكم بالشرقية وغير مكان. ثم إنه قدم على قضاء دمشق فحكم بها ثلاثين سنة، وكان حاكماً ذا صرامه، قاضياً يبلغ بها الضعيف مرامه، ماضي الأحكام بتاتاً، أراق دم جماعة تعرضوا لجناب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عارفاً بمذهبه، عالماً بمقدمه ومنقلبه، لو رآه مالك رضي الله عنه لسره وأشهب لما ركب في إثره إلا المجره. حصل له في آخر عمره فالج ورعشه، وبقي على نطقه من العجز وحشه، وكان لا ينطق إلا بمشقة، ولا يأتي بالكلمة إلا حسيت شفته منشقه، وعجز عن العلامه، واستناب من يكتب عنه من برئ عنده من الملامه. وعزل قبل موته بقليل، وبقي إلى أن سلك تلك السبيل، ومضى إلى ربه ذي المن والفضل الجزيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة. عزل قبل موته بنحو عشرين يوماً بالقاضي فخر الدين بن سلامة المالكي. ومولد القاضي جمال الدين الزواوي في حدود سنة ثلاثين وست مئة، ومات ولم يسرع إليه الشبهات. وكان بمصر من أعيان العدول، وناب في الشرقية والغربية، وناب في القاهرة، وترجح لولاية القضاء بالقاهرة عقيب وفاة ابن شاش، وتولي ابن مخلوف، ثم إنه تولى قضاء دمشق ووصل إليها في عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وست مئة، واستمر بها قاضيا نحو ثلاثين سنة. وظهر في أيامه ما لم يكن معروفاً من مذهب مالك، وعمر المدرسة النورية والصمصامية، وحصلت له رعشة في وسط ولايته وكان يجد له مشقة، وثقل لسانه عن الكلام أخيراً. وحدث " بصحيح " مسلم و" الموطأ " رواية يحيى بن يحيى، و" بالشفا " لعياض وغير ذلك. محمد بن سليمان بن أحمد بن يوسف الشيخ الصالح المقرئ الصنهاجي المراكشي الإسكندري، إمام مسجد قداح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 سمع عبد الوهاب بن رواج، ومظفر بن الفوي. أخذ عنه الرحالون، وكتب في الإجازات. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع عشرة وسبع مئة. محمد بن سليمان بن حمزة ابن أحمد بن عمر، ابن الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، قاضي القضاة عز الدين أبو عبد الله بن قاضي القضاة تقي الدين المقدسي الحنبلي. وسمع الحديث من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، منهم الشيخ شمس الدين، وابن البخاري، وأبو بكر الهروي. وجدته خديجة بنت خلف، وحبيبة بنت الشيخ أبي عمرو، ومن جماعة غيرهم. وخرج له شمس الدين بن سعد " مشيخة " عن أكثر من خمسين شيخاً. وأجاز له ابن عبد الدائم وجماعة. واشتغل وحصل، وقرأ الفقه على والده وغيره. وكان له محفوظ في الحديث. واستنابه والده في الحكم. وترك تدريس المدرسة الجوزية، وكتب في الفتوى. وكان فيه عقل وحسن تودد. ولما مات والده باشر تدريس دار الحديث الأشرفية بالصالحية، وانقطع في بيته مدة ولاية قاضي القضاة شمس الدين ابن مسلم الحنبلي، ولما توفي ولوه مستقلاً، ووصل توقيعه بذلك إلى دمشق في ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 وسبع مئة، فباشره واختاره الناس لما تقدم لوالده من الحقوق، ولحسن خلقه وتودده، وقضاء حوائج الناس. وحج ثلاث مرات، وحدث في كل حجة منها، وزار القدس مرات، وحضر بعض الغزوات، وتولى القضاء مستقلاً أربع سنين ولم يكملها. وكان له ورد من التلاوة، ومن الصلاة في الليل. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء تاسع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثيرة، وكان يوماً كثير المطر والوحل، ودفن بتربة الشيخ أبي عمر. ومولده في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وست مئة. وولي المنصب بعده قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الله بن الحافظ. محمد بن سليمان بن أحمد تاج الدين بن الفخر. سمع من أبي عبد الله محمد بن غالب الجياني بمكة، ومن تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، ومن غيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وحدث بقوص وغيرها. واشتغل بالعلم. وكان متعبداً ممتنعاً عن الغيبة وسماعها. له في السماع حال حسنة، وكتب الخط الجيد، وكتب كثيراً من الحديث والفقه وغير ذلك. قال كمال الدين جعفر الأدفوي: لما عدل بعض الجماعة بقوص في أيام ابن السديد قام في ذلك وقصد أن لا يقع، وتوجه إلى مصر وقال قصيدة سمعتها منه أولها: شريعتنا قد انحلت عراها ... فحي على البكاء لما عراها وأقام بمصر. وتوفي فيها - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. قلت: أنشدت بالقاهرة وقد تعدل جماعة سقاط: تعدل كل جمري بمصر ... وشاف إلى العدالة كل جمري فقل للفاسقين ازنوا تزكوا ... ولا تتأخروا فالوقت بدري محمد بن سليمان بن همام بن مرتضى الصدر القاضي جلال الدين ابن العدل وجيه الدين، المعروف بابن البياعة، أحد كتاب الإنشاء بدمشق، وناظر ديوان الرباع. كان أبوه من عدول القاهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 روى عن جعفر الهمذاني وغيره، وسمع منه علاء الدين الوداعي وغيره. كان يمني نفسه بالوزاره، ويزعم أن طيفها جاءه في النوم وزاره، ويعد أصحابه بوظائف، ويجعلهم في الذهن كباراً وهم ما بين حارس وطائف، وله في ذلك آثار، وعند رفاقه الموقعين أخبار. ولم يزل على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وانقطع عواده وعدم تلافيها، وانفلج أخيرا، ولم يجد له في ذلك أجرة ولا أجيرا، ثم إنه أصبح ثالث التراب والمدر، وانقبض عن الأحياء وانقبر. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمسين وست مئة. وكان شيخاً طوالاً، مسترسل الذقن خفيفها، وكانت له معرفة بابن الخليلي الوزير، وصحبه، فمن هنا كان يحدث نفسه الأمارة بالوزارة، وبلغت هذه الأماني شمس الدين غبريال وكان يضحك منه ويهزو به، وما ترتب على ذلك إلا مصلحة من خلاص جامكيته وماله على الديوان. جاء الأمير علاء الدين ألطنبغا من مصر متوجهاً رسولاً إلى مهنا عن السلطان قبل أن يلي نيابة حلب، فلما وصل إلى دمشق توجه إليه الصاحب شمس الدين وسلم عليه، وقال: يا مولانا الساعة يجيء إليك شيخ طوال صفته كذا وكذا، ونشتهي توهمه أنك سمعت هناك أنه يكون وزير الشام، وجاء الصاحب شمس الدين، وطلب جلال الدين وقال له: يا مولانا كنا عند هذا الأمير ورأيناه يسأل عنك كثيراً، وقال: لي معه كلام وأريد أجتمع به، رح إليه وعرفني أي شيء يقول لك، فتوجه إلى ألطنبغا، فحالما رآه عرفه بالصفة التي قررها عنده الصاحب شمس الدين، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه وتلقاه، وقال: توقيع مولانا بوزارة دمشق قد كتب في مصر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 وكان السلطان رسم بأن أحضره إليك ولكن تعوق ليكون التشريف قرينه، وفي هذه الأيام يصل إليك. ويا مولانا أنا والله قد بشرتك والحلاوة أنك لا تنسانا، فقال: بسم الله، وبينما هم في هذا الحديث دخل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ولم يعلم القضية، فجلس فوقه إلى جانب الأمير، فتأذى جمال الدين وقال: هذا قلة أدب، فقال له الشيخ كمال الدين: إيش جرى؟ فذكروا له طرفاً من ذلك وأن تقليده بالوزارة واصل في هذه الأيام. فقال له الشيخ كمال الدين: يا شيخ مسكين هؤلاء يضحكون عليك. فقام وخرج مغضباً. وقال يوماً للشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم: بلغني أنك لما كنت في مصر سعيت عند فخر الدين ناظر الجيش حتى أبطل كتابة تقليدي، فقال: والله يا مولانا ما دولة أكون أنا مشيرها وأنت وزيرها إلا دولة خرا. وكان قد أنزل عليه الشيخ تاج الدين اليمني، وكان في زمن الأفرم بدمشق، وكان ينشئ له ما يحتاج إليه في الديوان. محمد بن سليمان بن عبد الله بن سليمان المحدث الفقيه الفاضل تقي الدين الجعبري، الشاهد. سمع من الحجار وطبقته، وقرأ عليه كثيراً، وتخرج بوالد حميه شيخنا الحافظ جمال الدين المزي، وقرأ على العامة، وهو رفيقي في أكثر مسموعاتي بالشام، وقد كنت أجزت له ولأولاده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ست وسبع مئة. محمد بن سليمان بن أحمد القاضي شمس الدين القفصي، بالقاف المفتوحة والفاء الساكنة، وبعدها صاد مهملة، نائب الحكم العزيز المالكي بدمشق. ناب لقاضي القضاة شرف الدين المالكي، ومن بعده لقاضي القضاة جمال الدين المسلاتي. كان فهماً بمذهب مالك رضي الله عنه، خبيراً بالأحكام، وفي لسانه عجمة المغاربة، يجعل الثاء سيناً والجيم زاياً. وكان يسكن المنيحة، ويدخل المدينة كل يوم ويخرج منها. وكان إذا رأى في مجلس حكمه ما لا يعجبه قال بفمه، وأشار بيده بالفحش، ويقول للمرأة التي يتأذى منها: واللك يا مومس. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شوال يوم الأحد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. وكانت له مشاركة في العربية والأصول، عفا الله عنه وسامحه. وكان قد ولي نيابة الحكم في صفر سنة عشرين وسبع مئة. محمد بن شرشيق بكسر الشين المعجمة وبعدها راء ساكنة وسين ثانية معجمة وبعدها ياء آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الحروف ساكنة وقاف، ابن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر بن صالح بن دوست بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله الجون بن عبد الله المحسن بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشيخ الإمام العارف الكامل شمس الدين أبو الكرم ابن الشيخ الإمام القدوة حسام الدين أبي الفضل ابن الشيخ الإمام القدوة جمال الدين أبي عبد الله ابن الشيخ الإمام علم الدين الزهاد شمس الدين أبي المعالي ابن الشيخ الإمام قطب العارفين أبي محمد الجيلي الحسني الحنبلي المعروف بالحيالي، بكسر الحاء المهملة والياء آخر الحروف وألف بعدها لام، والحيال: بلدة من أعمال سنجار. حفظ القرآن العظيم في صباه، والفقه للإمام أحمد، وسمع الحديث وهو كثير من جماعة منهم الإمام فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد البخاري المقدسي بدمشق، وأبو العباس أحمد بن محمد النصيبي بحلب، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن الزجاج بمكة، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن كزروع المصري البصري بالمدينة الشريفة. ورحل وحدث ببغداد ودمشق والحيال وغيرها من البلاد. وروى عنه جماعة منهم أولاده المشايخ حسام الدين عبد العزيز، وبدر الدين حسن، وعز الدين الحسين، وظهير الدين أحمد، ومحدث العراق تقي الدين أبو الثناء محمود بن علي بن محمود الدقوقي الحنبلي، والشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 الحسين بن شيخ العوينة الموصلي الشافعي، والإمام بدر الدين محمد بن الخطيب الإربلي الشافعي، وخلق. كان مشهوراً بالصلاح والعبادة والزهد والسماح، يكاثر الغمام إذا سح، ويتحقق البحر الزاخر معه أنه شح. وله هيبة في النفوس وعليه وقار وناموس، يعظمه الناس وهو لا يعبأ بأمرهم، ولا يلتفت إلى شواظ نارهم ولهيب جمرهم، وكان ملوك دار بكر يحبونه ويخدمونه ويحيونه ويقبلون إشاراته ويقبلون على رسائله وإماراته، ولهم فيه اعتقاد وانتفاء لما يؤثره منهم وانتقاد، ومع ذلك مليح الخلق، صبيح الخلق، زائد الحشمه، كثير الإحسان للناس والخدمه. ولم يزل على حاله إلى أن حالت حياة الحيالي وأبلت جدته الأيام والليالي. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وست مئة بالحيال. وبيته بيت رياسة وحشمة وسؤدد ومروءة. والخير والإحسان معروف بهم، ولم تمس يد هذا الشيخ شمس الدين من نشأته إلى موته فضة ولا ذهباً، وجوده في تلك البلاد مشهور، وكان له كشف وأحوال وحلم وتجمل، وهو وأهل بيته معروفون بمناصحة الإسلام، ويكاتبون ملوك مصر ونواب أطراف بلاد الشام. ولما كنت في الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة وما بعدها أهديت إليه قماشاً إسكندرياً وأهدى إلي أشياء من طرائف سنجار، ولم تزل رسله مدة مقامي بالرحبة تتردد إلى الرحبة وأخدمهم وأقوم بما يجب لأجله. رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 محمد بن شريف بن يوسف الفاضل الكاتب المجيد صاحب الخط الفائق، شرف الدين ابن الوحيد الزرعي. سافر إلى الحجاز والعراق، واجتمع بياقوت المجود. كان تام الشكل، متأنقاً في اللبس والأكل، حسن الزه، لدن المهزه، موصوفاً بالشجاعه، وبالعبارة السادة والبراعه، يتكلم بعدة ألسن، ويأتي فيها بما يروق ويحسن، وقد ضرب بحسن كتابة المثل، وسار ذكرها في السهل والجبل، لأنها أخملت زهرات الخمائل، وفاقت على من تقدمه الأوائل، فلو رآه ابن البواب لجود تحت مثاله، وعلم أن بدر هذا فاق على هلاله، أو ابن مقلة شخص إليه إنسانه، وعلم أنه ما تلحق إجادته ولا حسانه، أو الولي التبريزي لتحقق أنه قد برز وسبقه، وأنه ما يشم ريحانه ولا محققه. وكان قد فضح الأوائل والأواخر بفصاح نشخه، وتفرد هو بكمال الخط وترك غيره يخبط في مسخه، فما أحقه بقول البستي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له أما أنا فلا أرى أحداً مثله كتب في المحقق والريحان وفصاح النسخ، لأنه أتى في ذلك بالإبداع. وكان في حياته يبيع المصحف نسخاً بلا تجليد ولا تذهيب بألف درهم. وكان ابن تمام قد كتب عليه وحكى طريقه، وكان يكتب المصاحف فيقول له: اكتب أنت المصحف وهاته إلي. فإذا أتى به يزن له أربع مئة درهم، ويأخذ الشيخ شرف الدين فيكتب في آخره: كتبه محمد بن الوحبد، ويبيعه هو بألف درهم. وروى عنه البرزالي وقاضي القضاة جلال الدين القزويني. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن الوحيد في قبره وحيدا، وفقد الناس منه كاتباً فريدا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في البيمارستان المنصوري بالقاهرة في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده بدمشق سنة سبع وأربعين وست مئة. وكان يتكلم بعدة ألسن، وكان يتهم في دينه. قيل: إنه وضع الخمر في دواته وكتب منها المصحف. وأخوه علاء الدين مدرس البادرائية كان ممن يحط عليه ويذكره بكل سوء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 وكان قد اتصل بخدمة الجاشنكير قبل السلطنة وأعجبه خطه. فكتب له ختمة في سبعة أجزاء في ورق بغدادي قطع النصف بليقة ذهب، قلم الأشعار، دخل فيها ألف وست مئة دينار ليقة، فدخل في الختمة ستة مئة دينار وأخذ هو الباقي، فقيل له في ذلك، فقال: متى يعود آخر مثل هذا يكتب علي مثل هذه الختمة، وزمكها صندل، ورأيتها أنا وهي وقف بجامع الحاكم بالقاهرة وما أظنها يكون لها ثان من حسنها، ولما فرغت أدخله الجاشنكير ديوان الإنشاء، فما أنجب في الديوان، فكانت الكتب التي تدفع إليه ليكتبها في أشغال الناس على القصص تبيت عنده وما تتنجز، وهذا تعجيز من الله تعالى لمثل هذا الكاتب العظيم. كما يحكى عن الحريري صاحب " المقامات " وأنه بعد عمل المقامات طلب إلى ديوان الإنشاء ببغداد فأعطاه صاحب الديوان كتاباً فمكث فيه من بكرة النهار إلى الظهر وهو ينتف عثنونه، ولم يفتح الله عليه بشيء حتى قال فيه ابن حكينا: شيخ لنا من ربيعة الغرس ... ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس هذا وقد كان يوماً في بعض مجالس الأكابر، فجرى ذكر البستي وقوله في رجل بخيل شرير: إن لم يكن لنا طمع في درك فاعفنا من شرك شرك، فلم يبق أحد حتى استحسنها، وأقر بالعجز عن الإتيان بمثلها، فقال الحريري في الحال: وإن لم تدننا من مبارك فأبعدنا عن معارك معارك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 قلت: وما لابن الوحيد والحريري إلا قول أبي الطيب: وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان ولهذا، إنه لما دخل ابن الوحيد ديوان الإنشاء بلغ القاضي شرف الدين بن فضل الله صاحب الديوان عنه كلام يفهم منه أنه ينقص به، فطلبه وقال: اقعد. أعطوه درجين قطع الثلاثين، وقال: أوصل أحدهما بالآخر وعجل، فوصلهما. فقال: اكتب وعجل إلى صاحب اليمن وهد قوائمه، وزعزع أركانه فيه، وتوعده وهدده، ثم لطف القول حتى لا ييأس، ثم عد ببعض تلك الغلطة الأولى وعرفه أن العساكر التي نجهزها إليه يكون أولها عنده وآخرها عندنا، وذكره باصطناعنا لوالده قبله، وأنه لو شئنا ما تركناه جالساً على سرير مملكته، ولكن نحن نرعى هذا البيت الأيوبي، ومن هذا وأشباهه. وعجل بكتابة هذا لأدخل وأقرأه على السلطان، فبهت شرف الدين وأسقط في يده وأرعدت فرائصه، ولم يدر ما يقول ولا ما يكتب، ثم إنه اعترف وقال: يا مولانا والله ما أنا قدر هذا، والعفو. فقال له: إذا كنت كذا فلا تكن بعدها تكثر فضولك. فاستغفر الله وخرج. وكان الشيخ شرف الدين شيخ خطيب بعلبك وغيره ممن كتب عليه. ونظمه فيه يبس قليل، إلا أنه كان جيد العربية، عارفاً باللغة، وله رسائل كثيرة وقصيدة لامية سماها " سرد اللام في مادة لامية العجم ". وكان الله قد رمى بينه وبين محيي الدين البغدادي حتى عمل له ذلك المنشور المشهور الذي أقطعه فيه قائم الهرمل وأبو عروق وما أشبه هذه الأماكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 ولقد وقفت أنا بالديار المصرية على كتاب " خواص الحيوان " وفي بعضه ذكر الضبع، ومن خواص شعره أنه من تحمل بشيء منه حدث به البغاء، وقد كتب ابن البغدادي على الهامس: أخبرني الثقة شرف الدين بن الوحيد أنه جرب ذلك فصح معه، أو كما قال. ومما ينسب إلى ابن الوحيد، ورأيته لغيره: وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات في الحشا وثبات تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة ... وتبدي مرير الطعم وهي نبات ومن شعر ابن الوحيد: الله باري قوس حاجبه التي ... مدت وإنسان العيون النابل ولحاظه نبل لها من هدبه ... ريش وأفئدة الأنام مقاتل ومنه: جهد المغفل في الزمان مضيع ... وإن ارتضى أستاذه وزمانه كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدري الطريق ولا يزال مكانه وكان السراج الوراق قد مرض في وقت، فجهز إليه شرف الدين بن الوحيد أبلوجة سكر ومعها رقعة بخطه المليح، فكتب إليه السراج ومن خطه نقلت: أرسل لي ابن الوحيد لما ... مرضت بالأمس جام سكر ومدحةً لي بخطه لي ... فقلت ذا سكر مكرر حلى وحلى فمي وجيدي ... عقد شراب وعقد جوهر ووقف يوماً شيخنا ناصر الدين شافع على شيء من نظم ابن الوحيد فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 أرانا يراع ابن الوحيد بدائعا ... تشوق بما قد أنهجته من الطرق بها فات كل الناس سبقاً فحبذا ... يمين له قد أحرزت قصب السبق فقال ابن الوحيد: يا شافعاً شفع العليا بحكمته ... فساد من راح ذا علم وذا حسب بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب فجاءني منه مدح صيغ من ذهب ... مرصعاً بل أتى أبهى من الذهب فكدت أنشد لولا نور باطنه ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي فلما بلغت هذه الأبيات ناصر الدين شافعاً قال: نعم نظرت ولكن لم أجد أحداً ... يا من غدا أوحداً في قلة الأدب جازيت مدحي وتقريظي بمعيرة ... والعيب في الرأس دون العيب في الذنب وزدت في الفخر حتى قلت منتسباً ... بخطك اليابس المرئي كالحطب بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب كذبت والله لن أرضاه في عمري ... يا بن الوحيد وكم صنفت من كذب جازيت نظمي وقد نضدته درراً ... يروق سمع الورى دراً بمحتلب وما فهمت مرادي في المديح ولو ... فهمته لم توجهه إلى الأدب سأتبع القاف إذا جاوبت مفتخراً ... بالزاي يا غافلاً عن سورة الغضب خالفت وزني عجزاً والروي معاً ... وذاك أقبح ما يروى عن العرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 قلت: ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - معذور في العدول عن الوزن والقافية لأنه ما كان يجد في ذلك الوزن والقافية مثل قول أبي الطيب: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، فإن ناصر الدين كان ذلك الوقت قد أضر، وقد احترز ابن الوحيد بقوله: " لولا نور باطنه " احترازاً، لكنه ما أفاده مع تسرع ناصر الدين شافع، ورحم الله كلا منهما. وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليعمري - رحمه الله تعالى - قال: كان شرف الدين بن الوحيد الكاتب يقول في قول القائل: " النبيذ بغير الدسم سم، وبغير النغم غم ": هاتان السجعتان ما وقع لهما ثالث، وهو قولي: " وبغير المليح قبيح ". قلت أنا: ما كان ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - لمح فيهما من الجناس المرقص والمطرب، ولو أن الأمر راجع إلى السجع فقط أو إلى الوزن فقط عمل الناس مجلدات من هذا النوع، ولكن أنا تكلفت لهما ثالثاً: " وبغير النهم هم " أعني أن الإكثار من الشراب سبب الانشراح والسرور، على العادة من كلام أولعوا بالشراب وبالغوا في الإكثار وحثوا على معاقرته. محمد بن شكر الشيخ الإمام الفاضل شمس الدين الديري الشافعي الناسخ. كتب ما لا يحصى كثرة، وكان مقرئاً بالسبع، وكان يعرف علم الحرف ويتكلم عليه جيداً إلى الغاية، وله مشاركة في علوم كثيرة، وأظنه كتب في المصطبة في وقت. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وكانت له عناية بتصانيفي، لا يسمع بشيء منها إلا ويكتبه لنفسه أولاً وللناس ثانياُ، وكتب من الكتب الستة الصحاح كثيراً، ومن كتب الفقه المطولة كثيراً. ثم إنه آخر الحال أقام بدار الحديث الأشرفية يرتزق بالنسخ إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة وقد قارب التسعين عفا الله عنه. محمد بن الشنبكي بالشين المعجمة والنون الساكنة وبعدها باء موحدة وكاف، ناصر الدين. كان من ظرفاء القاهرة، ساكناً خيراً، يلعب بالعود ويلوذ بالقاضي جمال الدين رئيس الأطباء، ورأيته بسوق الكتب مرات وكتب إلي يوماً: أيا صلاح الدين يا فاضلاً ... لفظك ما أسمى وأسناه كالدر منظوماً وإن كان منثوراً فما أغلى وأعلاه إن دار بين الشرب في أكؤس ال ... أفواه ما أجلا وأحلاه ما الزهر ما الزهر إذا استمتعوا ... منه برؤياه ورياه فيطرب السمع لألفاظه ... ويرقص القلب لمغناه فكتبت أنا الجواب إليه: يا ناصر الدين الذي نظمه ... قد زان مغناه ومعناه أتحفتني منه بشعر غدا ... كالزهر مرآه ورياه فلفظه إن حال في منطق ... حلاه أو في السمع حلاه يحكي محياك الكريم الذي ... حياه لي الله وحياه كذا يكون الشعر يا مالكي ... ما كل من أنشاه وشاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 محمد بن شهري الأمير شجاع الدين متولي بعلبك. توفي يوم الأحد خامس شهر رجب سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن بمقبرة اللوزة يوم الاثنين. محمد بن صالح بن حسن شمس الدين بن البنا القفطي الشافعي. كان فقيهاً أديباً شاعراً، أخذ الفقه والأصول عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد وتلميذه بهاء الدين القفطي، وتولى الحكم بسمهود والبلينا وجرجا وطوخ. وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يكرمه، وتوجه صحبته إلى دمشق، وسمع منه. قال ابن الوالي: قد سمع منه بقوص. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وتسعين وست مئة. محمد بن صبيح بن عبد الله بدر الدين، رئيس المؤذنين بالجامع الأموي بدمشق المعروف بالتفليسي، لأن والده كان عتيق امرأة كانت ابنة كمال الدين التفليسي التاجر، وتارة كان ينتسب إلى الكرخي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 سمع على أبيك الجمالي سنة سبع وخمسين وهو حاضر في الخامسة، وسمع بعد ذلك على ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وأبي بكر بن النشبي، وأحمد بن نعمة المقدسي، وغيرهم. وقرأ القرآن على الشيخ يحيى المنبجي. وكان حسن الصوت في القراءة والأذان والتسبيح موصوفاً بذلك مشهوراً في البلاد، سمع منه الطلبة وأم بنائب السلطنة مدة، وولي حسبة الصالحية والإشراف على الجامع الأموي. وكان يقرأ في المصحف على الكرسي عقيب صلاة الصبح ويخرج أمام الخطيب يوم الجمعة بالسواد. توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة بخانقاه الطواويس. ومولده تقريباً سنة اثنتين وخمسين وست مئة. محمد بن أبي طالب الأنصاري الصوفي شمس الدين المعروف بشيخ حطين أولاً، ثم أخيراً بشيخ الربوة. رأيته بصفد مرات، واجتمعت به مدة مديدة. كان من أذكياء العالم وأقوياء الفهم الذي من رزقه فقد سلم وسالم. له قدرة على الدخول في كل فن، وجرأة على التصدي لكل ما سنح في الأذهان وعن، رأيت له عدة من التصانيف في كل علم حتى في الأطعمه، وكل ما يعمل على النار المضرمه، وفي أصول الدين على غير طريق الأشاعره، ولا طريق الاعتزال ولا الحشوية المتظاهره، لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 لم يكن له علم. وإنما كان ذكيا، وعقله بفهم الغرائب زكيا، فكنت يوماً أراه أشعرياً، ويوماً أراه معتزليا، ويوماً أراه حشويا، ويوماً أراه يرى رأي ابن سبعين وقد نحا طريقه، وتكلم على العرفان والحقيقه. نعم كان يتكلم على الأوفاق ووضعها، وحفظها فيما يستعمله ورفعها، ويتكلم على أسرار الحروف كلاماً مناسبا، ويدعي أنه لا يرى دونه في ذلك حاجبا، ويعرف الرمل ويتقنه ضربا، ويدريه جنساً ونوعاً وضربا. وكان ينظم نظماً ليس بطائل، ويستعير فيه ما يريده من جميع القبائل، وكان قد لحقه الصم، وحصل به له ولمن يعرفه ألم، ثم أضر بأخرة من عينه الواحده، وبقي رحمه لمن يراه عدواً أو عنده له معانده. ولم يزل على حاله إلى أن رأى عين اليقين، وعلم أن معارات الدنيا لا يحمين من الموت ولا يقين. وتوفي - رحمه الله تعالى - فيما أظن في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة بصفد. ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة. نقلته من خط شيخنا البرزالي. كان ذكياً وعبارته حلوة، ما تمل محاضرته، وكان يدعي عمل الكيمياء، ودخل على الأفرم وأوهمه شيئاً من ذلك، فولاه مشيخة الربوة، والظاهر أنه كان يعلم منها ما يخدع به العقول، ويتلعب بالألباب الأغمار، ولما جاء إلى صفد ورأيته بها كان شيخ قرية علمين الفقراء، وهي قرية عند قرية مغران بالقرب من الشريعة عند جسر يعقوب، وقف السلطان صلاح الدين يوسف تغمده الله تعالى برحمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 قال شيخنا علم الدين البرزالي: ومولده بزاوية جده الشيخ أبي طالب بقصر حجاج بدمشق. قال الشيخ علم الدين البرزالي: وأعرف جده أبا طالب، وكان صالحاً يصلي الجمعة دائماً تحت النسر، انتهى. قلت أنا: وهو شيخ النجم الحطيني المعروف بنجيم الذي سمره السلطان الملك الناصر بالقاهرة وجهزه إلى دمشق مسمراً على جمل، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون مكانه، وكان هذا النجم يخدمه، وهو شيخ الخانقاه بحطين من بلاد صفد، وورد عليهم إنسان في تلك المدة أضافوه على العادة، وكان هذا النجم رأى مع الضيف ذهباً، فاتبعه لما سرى من الخانقاه، وقتله في الطريق وأخذ ذهبه، وبلغت القضية نائب صفد الأمير سيف الدين كراي، فأحضر الشيخ شمس الدين وضربه ألف مقرعة، على ما قيل، وعوقب زماناً، ثم أفرج عنه، ثم إن هذا النجيم كان بعد ذلك يؤذي الشيخ. حكى لنا الشيخ شمس الدين قال: كنت أخافه على نفسي، فأنام في الربوة وأغلق باب المكان وهو محدود، وأستوثق من الأقفال وغيرها، وأكون نائماً آمناً، وما أشعر به إلا وقد أيقظني فأفتح فأرى السكين في يده مجردة، ويقول: يا أفخاذ الغنمة، ما تريد أن أفعل بك؟ قال: فأدخل بكل طريق من ضروب الخداع والتلطف أنه أي فائدة في قتلي، وفرضنا أني قتلت، فهل في هذا فائدة تحصل، ولا أزل أخدعه حتى يمضي ويتركني. وأنشدني لنفسه ومن خطه نقلت: الله أكبر يا الله من قدر ... حارت عقول أولي الألباب في صدره نجم به كسفت شمس وذا عجب ... أن يكسف الشمس جرم النجم مع صغره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 ولم يزل الشيخ شمس الدين مروعاً من هذا النجم إلى أن سمر. وكان ما يسميه بعد ذلك إلا الهالك، ويكني عن نفسه بالشخص. فيقول: جرى للشخص مع الهالك كيت وكيت، وما كانت حكاياته عنه تمل، لأنه يؤديها بعبارة فصحى وينمقها ويزمكها. وجمع هذا الشيخ كتاباً في علم الفراسة سماه " كتاب السياسة في علم الفراسة " كتبته بخطي من خطه، وتناولته منه بصفد، ولم أر في كتب الفراسة مثله، وقد نقله مني جماعة أفاضل بمصر والشام منهم الشيخ شمس الدين الأكفاني، لأنه جمع فيه كلام الشافعي رضي الله عنه وكلام ابن عربي وكلام صاحب المنصوري وكلام أفلاطون وكلام أرسطو، فجاء حسناً إلى الغاية. ولحقه صم زائد قبل موته بعشرة أعوام، أضرت عينه الواحدة. وتوفي بمارستان الأمير سيف الدين تنكز بصفد رحمه الله تعالى. كان من أفراد العالم وله في كل شيء يتحدث فيه مصنف. وأنشدني من لفظه لنفسه، ومن خطه نقلت، في مليح كان يميل إليه، وتوكل بقرية فرادية من عمل صفد، ولاه الحاكم بصفد هذه الوكالة: قل للمقيمين بفراديه ... من ذا الذي أفتى بإفراديه ومن لحيني في الهوى عامداً ... أصدرني من قبل إفراديه وما الذي أوجب هجري وأن ... تقصد الأتراك أكراديه فقيل مت في حبهم أو فعش ... فما لمقتول الهوى من ديه وهجرك الحكم العزيز اقتضى ... من غير ما ذنب ولا عاديه وإنما سنة أهل الهوى ... تغاير الحضار والباديه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 ونقلت من خطه له: للنفس وجهان لا تنفك قابلةً ... مما تقابل من عال ومستفل كنحلة طرفاها في مقابلة ... فيها من اللسع ما فيها من العسل ونقلت من خطه وأنشدنيه: نظر الهلال إليه أول ليلة ... فرآه أحسن منظراً فتزيدا ورآه أحسن وهو بدر فهو من ... غم يذوب ويضمحل كما بدا ونقلت من خطه له: يا من تعالى أن يجوز بذاته ... وصفاته التلويح والتصريح أنت العلي عن الصفات بأسرها ... لكن تنزيلك اللطيف يبوح والقول منا عند كل تعقل ... وتخيل وتوهم سبوح ونقلت من خطه له، يعني نفسه: تأدب حتى لم يجد من يناظره ... وحتى قلته كتبه ودفاتره ودارس ما فيها فلم ير ذا حجى ... وذا أدب مما يراه يحاوره وطاب به الحرمان من كل جانب ... وظل إليه الفقر تسعى بوادره فلو رام بحراً زاخراً وهو ظامي ... يحاول منه شربة غاص زاخره وكان يعرض شعراً كثيراً علي وأغير منه كثيراً. وكان صبوراً على القلة والفقر والوحدة، كثير الآلام والأوجاع. وكان به انفتاق في أنثييه يثور به كل قليل ويقاسي منه شدة، وكان قد كبر سنه وأنقى شيبه. والذين رأيتهم يقومون بعلم الفراسة ثلاثة: شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي الخطيب رحمه الله تعالى، وهذا الشيخ شمس الدين، والحكيم أسد اليهودي، وكان أصدقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 فراسة أسد اليهودي، ولكنه لما رأى هذا المصنف الذي ذكرته لشيخ الربوة معي بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وطلبه مني لينسخه، فأبيت، ثم طلبه بدمشق، ثم طلبه بالقاهرة وما اتفق إعطاؤه. محمد بن طرنطاي الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير حسام الدين، أمير مئة مقدم ألف بالديار المصرية. وكان قد اتصل ببستان ابنة الأمير سيف الدين قبجق نائب الشام، أظنها كانت أولاً زوجة الأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب الشام. كان جيداً خيراً، سليم الباطن، وعنده ثلاثة مماليك اسم أحدهم " حلب " والآخر " مصر " والآخر " دمشق "، وهو ابن الأمير حسام الدين طرنطاي نائب الديار المصر لأستاذه الملك الناصر. وحج الأمير ناصر الدين أربع مرات. وكان قد أجاز له ولأخوته سنة سبع مئة الحافظ شرف الدين الدمياطي، والأبرقوهي. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الخميس تاسع شهر رجب الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمدرسة والده داخل القاهرة. محمد بن طغريل الصيرفي المحدث، المخرج، مفيد الطلبة، ناصر الدين الدمشقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 روى عن أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم. وقرأ الكثير. وسمعت بقراءته " صحيح " مسلم على البندينجي الصوفي وغير ذلك. وكان سريع القراءة فصيحها يأتي فيها إتيان السيل إذا تحدر، لا يكترث ولا يدأب فيها. توفي - رحمه الله تعالى - غريباً في حماة سنة سبع وثلاثين وسبع مئة ولم يتكهل أو بلغ الأربعين. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: جيد التحصيل، مليح التصريح، كثير الشيوخ، حسن القراءة، ضعفوه من قبل العدالة، ثم ترددنا في ذلك وتوقفنا، فالله يصلحه، ولو قبل النصح لأفلح. قلت: لم يطعنوا عليه إلا لأنه إذا قرأ قلب الورقتين والثلاث، والله أعلم. محمد بن طغلق شاه السلطان الأعظم العادل الفاضل أبو المجاهد، صاحب دهلي وسائر مملكة الهند والسند ومكران والمعبر، وكان يخطب له بمقدشوة وسرنديب وكثير من الجزر البحرية. ورث الملك عن أبيه طغلق شاه، ملك هو إسكندر زمانه، وحاكم الأرض في عصره وأوانه، قد دوخ البلاد، ودخل في طاعته العباد، يحكم على بلاد الهند، وما دخل في مسمى السند، ليس في ملوك الأرض من يدانيه في اتساع ملكه، ولا من ينخرط در بلاده في سلكه، تكاثر الرمال عساكره، وتفاخر النجوم جواهره، وتغامر البحار الزاخرة ذخائره، وتحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره إذا تغلغل طرف المرء في طرف من ملكه غرقت فيه خواطره، كريم بخل الغمام، وجواد أضحت هباته هي الأطواق والناس الحمام، تغرق البحار في فضاء كرمه، وتستحي السيول أن تطأ مواطئ حرمه، قد وسع الناس طوله، وشملهم بالإحسان فعله وقوله، ما أمه عاف إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 وتلقاه الغنى، وسرى الفقر عنه والعنا، ونوله في مبادي جوده غايات المنى: وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكاً للعراقين واليا وأما تواضعه لله تعالى مع هذه العظمة فأمر عجيب، وفعل لا يصدر إلا ممن إذا دعاه الهدى يجيب. وأما محبته لأهل العلم فشيء زاد على الصفة، وعجزت عن إدراك كنهها بنت كل شفة، يجعلهم ندماءه الخواص وجلساءه الذين هم في بحر كرمه غواص، يتقرب إليهم بالمكارم، ويحكمهم في أمواله كما يحكم في فريسته الليث الضبارم. لم يزل على حاله إلى أن أوحش منه إيوانه، وما أغنى عنه ماله وهلك عنه سلطانه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة تقريباً. مما يستدل به على عظمة هذا السلطان أنه ورد في وقت كتابه إلى سلطاننا الأعظم محمد في مقلمة ذهب وزنها ألفا دينار، وهي مرصعة بجوهر قوم بثلاث آلاف دينار. وكنت يوماً عند الأمير عز الدين أيدمر الخطيري وقد جاء إنسان في زي فقير، فقال: يا خوند أنا جئت في جملة من أرسله السلطان صاحب الهند محمد بن طغلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 شاه، وسبب الرسالة أن السلطان فتح تسعة آلاف مدينة وقرية أو قال: تسعة عشر ألف، وأخذ من ذلك ذهباً عظيماً يتجاوز الحد والوصف، وانتعل من مدينة دهلي كرسي ملكه إلى وسط هذه البلاد التي فتحها ليكون قريباً من الأطراف، وأنه أجري يوماً عنده ذكر مكة والمدينة. فقال: أريد أن يتوجه من عندنا ركب يحج في كل سنة، فقيل له: إن ذلك في مملكة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فقال: نجهز إليه هدية، ونطلب منه الإذن في ذلك. وأنه جهز إليه مركباً قد ملئ من التفاصيل الهندية الفائقة خيار ما يوجد، وعشرة بزاة بيض وخدم وجواري، وأربعة عشر حقاً قد ملئت من فصوص الماس، وكنت أنا في جملة المسفرين. وأننا لما وصلنا إلى اليمن أحضر صاحب اليمن المماليك الذين في خدمة الرسول، وقال لهم: أي شيء يعطيكم صاحب مصر، اقتلوا أستاذكم وأنا أجعلكم أمراء عندي، فلما قتلوه شنق الجميع وأخذ المركب بما فيه، وأريد أن تحضرني عند السلطان فأدخله الأمير عز الدين الحظيري إلى السلطان وحكى له الواقعة. وكتب القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في ذلك الوقت كتاباً إلى صاحب اليمن جاء فيه عند ذكر ذلك: وبعد أن كان في عداد الملوك أصبح وهو من قطاع الطريق. ومن الأدلة على سعة ملكه وكثرة الذهب عنده أنه أقل ما يوجد الدينار عنده مثقالين وثلاثة كثيراً، ويوجد الدينار خمسين مثقالاً، وأنا رأيت في الرحبة ديناراً زنته تسعون مثقالاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وكان طغلق شاه رجلاً تركياً من مماليك ملوك الهند، ويقال إنه الذي عمل أبيه فقتله. قالوا: صورة قتله أنه تركه في خركاه وقد بدت به علة، ثم إنه هيج عليه الفيلة حتى أتى فيل منها على الخركاه وحطمها وألقاها عليه، وتمادوا في إخراجه حتى أخرجوه ميتاً لا روح فيه. قال: وكان محمد هذا عنيناً لكي كوي على صلبه أيام الحداثة لعلة حصلت له، وهو متمذهب بمذهب أبي حنيفة، يحفظ في المذهب كتاب " الهداية ". وقد شدا طرفاً جيداً من الحكمة، ويحضر مجلسه الفقهاء للمناظرة بين يديه، ويجيز الجوائز السنية، وملكه ملك متسع جداً، وعسكره كثير. قال: ذكر الافتخار عبد الله دفتر خوان الواصل في الرسلية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن عسكره مبلغ تسع مئة ألف فارس، قال: وفي ذلك نظر، إنما الشائر الذائع أنه يقارب الست مئة ألف يجري على كلهم ديوانه، منهم الفارس والراجل، والراجل أكثر لقلة الخيل عندهم، لأن بلادهم لا تنتج الخيل وتفسد ما يجلب إليها من الخيل. وذكر أن عنده ألفاً وسبع مئة فيل وأن عنده عدداً كثيراً من الأطباء والندماء والشعراء بالعربية وبالفارسية وبالهندية، وعدداً كثيراً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 المغاني رجال وجواري قال: ونعته في بلاده: " سلطان العالم، إسكندر الزمان الثاني، خليفة الله في أرضه "، ولهذا يدعو له الخطباء على المنابر في ممالكه والدعاة. وفي بلاده معادن كثيرة وتجاوره كوة قراجل، بالقاف والراء والألف والجيم واللام، وهو جبل يقارب البحر المحيط الشرقي، وهي بلادكفار، وفيها معادن الذهب، وله عليها أتاوة جزيلة إلى غير ذلك. ومما يوجد في بعض بلاده من نفائس الياقوت والماس عين الهر والمسمى بالماذنبي. قلت: هو البنفش الماذنبي، يعنون أنه يقول: ما ذنبي كوني لم أكن بسعر البلخش. قال: وذكر لي الشيخ مبارك الأنباتي، وكان من كبار دولته ثم تزهد: أن ابن قاضي شيراز أتاه بكتب حكمية منها كتاب " الشفاء " لابن سينا بخط ياقوت في مجلدة، فأجازه عن ذلك جائزة عظيمة، ثم إنه أمر بإدخاله إلى خزائنه ليأخذ منها ما يريد، فأخذ منها ديناراً واحداً وضعه في فمه فلما خرج ليقبل يده قيل له: ما فعل شيئاً، وأنه لم يتعرض إلا لدينار واحد فسأله عن ذلك. فقال: أخذت حتى امتلأ بطني، وطلع هذا الدينار من فمي، فأعجبه ذلك وضحك منه وأمر له بلك من الذهب، واللك عبارة عما يقارب المئتي ألف مثقال وسبعين ألف مثقال بالمصري. قال: ولحقه يبس مزاج من قبيل السوداء، انتهى. قلت: ومما يؤكد كرمه المفرط ما ذكرته في ترجمة الشريف عضد المذكور في حرف العين مكانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 محمد بن طولو بغا المحدث ناصر الدين أنو نصر التركي. شاب ساكن دين، كتب الأجزاء، ودار على الشيوخ وحصل. أجزت أنا له. وكان قد سمع من الحجار بعض " الصحيح "، وسمع من ابن أبي التائب، وبنت صصرى، وخلق بنفسه. وكتب، وتخرج. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ...... ومولده سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. محمد بن طينال الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين نائب طرابلس وغزة وصفد. كان الأمير ناصر الدين المذكور من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق. وكان ذا صورة بديعة ومحيا جعله البدر طلعته في الكمال طليعة، ووجنات يقطف الورد من جناتها الغضة، ويخال أنها خليطا عقيق أحمر وبلور أو مرجان وفضة، بحيث إنه ظهر للنساء في دمشق قماش يعرف بخدود ابن طينال، وبذل الناس في ذلك جملة من الأموال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وكان في مرح الشبيبة يجري مرخى الرسن، ويملأ عينيه في غفلة الزمان عنه من الوسن، وورثه والده جملة من الأملاك والعين، ورخت الإمرة الذي هو من النعمة الطائلة أحد النصفين، فأذهب الجميع وتحمل ما يقاربه من الدين. ولم يزل على حاله إلى أن خسف الموت بدره في الكمال، وأودع في بطن الأرض منه جملة من الجمال. وتوفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الأربعاء تاسع عشري شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة. محمد بن عالي بن نجم الشيخ شمس الدين الدمياطي. سمع من النجيب، والمعين الدمشقي. وأجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ... ومولده سنة خمسين وست مئة. محمد بن عبد الجبار معين الدين الأرمنتي الفلكي المعروف بابن الدويك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان ينظم، وأنشدني من نظمه، وكان يعمل التقاويم، وأخبرني في بعض السنين أن النيل يقصر فجاء نيلاً جيداً، فعمل فيه بعض الشعراء أبياتاً منها قوله: أخرم تقويمك يابن الدويك ... من أين علم الغيب يوحى إليك وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربعين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن محمد الإمام المفتي البارع شمس الدين أبو عبد الله ابن الشيخ المفتي الزاهد فخر الدين البعلبكي الحنبلي. سمع من خطيب مردا، وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، والفقيه محمد الونيني، والزين بن عبد الدائم، والرضي بن البرهان، والنجم البادرائي، وجماعة، وتفقه على والده على الشيخ شمس الدين بن قدامة، وجمال الدين بن البغدادي، ونجم الدين بن حمدان. وقرأ الأصول على مجد الدين الرووراوري، وبرهان الدين المراغي. وقرأ الأدب على الشيخ جمال الدين بن مالك. وحفظ القرآن وصلى بالناس وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 ابن تسع، وحفظ " المقنع " و" منتهى السول "، و" مقدمتي " أبي البقاء، وقرأ معظم " الشافية " لابن مالك. وكان أحد الأذكياء المناظرين العارفين بالمذهب وأصوله، والنحو وشواهده، وله معرفة حسنة بالحديث والأسماء غير ذلك وعناية بالرواية. وأسمع أولاده الحديث. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وأربعين. قال شيخنا الذهبي: سمع بقراءتي " معجم " الشيخ علي بن العطار، ولي منه إجازة. وكان يبحث مع الشيخ تقي الدين بن تيمية. محمد بن عبد الرحمن بن سامة ابن كوكب بن عز بن حميد الطائي السوادي، الدمشقي الصالحي الحنبلي، الحافظ المتقن المحدث الصالح شمس الدين أبو عبد الله، نزيل القاهرة. سمعوه من ابن عبد الدائم. وطلب بنفسه فسمع من ابن أبي عمر، وابن الدرجي، والكمال عبد الرحيم، وأصحاب حنبل والكندي. وارتحل فسمع بمصر من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وببغداد من الكمال الفويرة وعدة بواسط وحلب والثغر، وانتهى إلى أصبهان. قال شيخنا الذهبي: وما أظنه ظفر بها برواية. وقرأ الكثير من الأمهات، وانتفع به الطلبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 وكان فصيحاً سريع القراءة حسن الخط، له مشاركة في أشياء، وفيه كيس وتواضع ودين وتلاوة، وله أوراد، وتزوج بأخرة. وكان عمه شهاب الدين بن سامه محدثاً عدلاً شروطياً، نسخ الأجزاء وحمل عن ابن عبد الدائم وعدة. وتوفي - رحمه الله تعالى - رابع عشري ذي القعدة يوم الثلاثاء سنة ثمان وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة. وكانت وفاته بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي. محمد بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بهاء الدين الأسنائي. كان فقيهاً فرضياً فاضلاً، تفقه على الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وقرأ عليه الأصول والفرائض والجبر والمقابلة، وكان يقول له: إن اشتغلت ما يقال لك إلا الإمام. وكان حسن العبارة، ثاقب الذهن، ذكياً، فيه مروة، بسببها يقتحم الأهوال، ويسافر في حاجة صاحبه الليل والنهار. قال كمال الدين جعفر: ثم ترك الاشتغال بالعلم وتوجه لتحصيل المال فما حصل عليه ولا وصل إليه. وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص ليلة الأضحى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن زيد البقراط الدندري، بدالين مهملتين بينهما نون ساكنة وبعد الدال راء. قرأ القرآن على أبي الربيع سليمان الضرير البوتيجي، وقرأ أبو الربيع على الكمال الضرير، وتصدر للإقراء، وقرأ عليه جماعة بدندرا، واستوطن مصر مدة واشتغل بالنحو مدة، واختصر " اللمحة " نظماً، وقال في أول اختصاره: وها أنا اخترت اختصار اللمحة ... أمنحه الطلاب فهو منحه وفي الذي اختصرته الحشو سقط ... ليقرب الحفظ ويبعد الغلط وفيه أيضاً بما أريد ... فائدة يحتاجها المريد قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وهو الآن حي. قلت: .... محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن عمر بن عبد الرحيم، الصدر الرئيس الكاتب شهاب الدين، أبو عبد الله بن العجمي كاتب الدرج بحلب، وهو أخو الشيخ عز الدين عبد المؤمن، وأخو الخطيب شمس الدين أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 وقد تقدم ذكرهما في مكانيهما، وكانوا قد سمعوا على الشيخ كمال الدين بن النصيبي " الشمائل " للترمذي في سنة ثمان وثمانين وست مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربتهم. محمد بن عبد الرحمن بن عمر الشيخ الإمام العلامة، ذو الفنون، قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله القزويني الشافعي الأشعري. سمع من الشيخ عز الدين الفاروثي وطائفة. وأخذ المعقول عن شمس الدين الأيكي. كان قاضي القضاة جلال الدين شريف الخلال، منيف الجلال، وارف الظلال، صارف الملال، طود حلم، وبحر علم، يتموج فضائل، ويتبرج براهين ودلائل، بذهن يتوقد، ويدور على قطب الصواب كالفرقد، قد ملأ الزمان جودا، وجعل أقلام الثناء عليه ركعاً وسجودا. ولم ير قاض أشبه منه بوزير، ولا إنسان كأنه وفي أثوابه أسد يزير، يجلس إلى جانب السلطان في دار عدله، ويغدو كالشمس بين أهلة وأهله، مهما أشار به هو الذي يكون، ومهما حركه فهو الذي لا يعتريه سكون. يرمل على يد السلطان لا يفعل ذلك غيره إذا حضر، ولا يتقدم عليه سواه من أشراف ربيعة أو مضر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 فالأمر مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد جمع بين قضاء الشام والخطابة، وفاز في كل المنصبين بالإصابة، وطلب إلى قضاء الديار المصرية فسد ما فسد، وعوذته مكارمه " من شر حاسد إذا حسد "، وأقام هناك مدة ينشر ألوية علومه، ويفيض على الناس سواكب غيومه. ثم إنه عاد إلى الشام عود الغمام إلى الروض إذا ذوى، والبدر التمام إلى الأفق الذي زل نجمه وهوى، فجدد معاهد الفضل والإفضال، وعمر غابه بالليث الخادر أبي الأشبال. ولم يزل على حاله إلى أن زال ذلك الطود، وزل وتقشع ذلك المطر الجود. وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وشيع جنازته خلق عظيم، ودفن في مقابر الصوفية. ومولده بالموصل سنة ست وستين وست مئة. وسكن الروم مع والده وأخيه، وولي بها قضاء ناحية وله من العمر نحو ثلاثين سنة، وتفقه وناظر واشتغل، وتخرج به الأصحاب، وناب في قضاء لأخيه قاضي القضاة سنة ست وتسعين، وناب في ما أظن لقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى في أول المحرم سنة خمس وسبع مئة. وولي خطابة الجامع الأموي مدة. وطلبه السلطان إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وشافهه بولاية قضاء الشام، ووصله بذهب كثير ولما طلبه دافع عنه تنكز، فقال: هذا عليه ديون كثيرة، وابنه نحس ما يجمل أن يكون أبوه قاضي القضاة. فقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 السلطان: أنا أوفي دينه، وولده أنا أدعه يقيم في الديار المصرية. فجهزه في نصف جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. صلى بالناس صلاة الخسوف لأن القمر خسف تلك الليلة. ثم إنه صلى الصبح يوم الخميس وسافر إلى القاهرة. وعاد إلى دمشق في خامس شهر رجب يوم الخميس، وباشر المنصب على أتم ما يكون وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وراك المدارس، واستناب الشيخ جمال الدين بن جملة والشيخ فخر الدين المصري. ولما كان في يوم الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة وصل البريد إلى دمشق فطلبه إلى مصر وولاه السلطان قضاء الديار المصرية، وعظمه ورفع شأنه، ورأى من العز والوجاهة ما لا رآه غيره. وكان يرمل على يد السلطان في دار العدل. قال لي القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وقد كان كاتب السر بمصر، وقد خرج من يوم اثنين نهار دار عدل: اليوم أخرج قاضي القضاة جلال الدين من كمه ست عشرة قصة غير ما شفع فيه وأشار به وشكر منه، والجميع يقضيه السلطان وما يرده. وحج مع السلطان، ورتب له ما يكفيه بزيادات، وأحسن في مصر إلى أهلها وإلى الشاميين، وكان في باب السلطان ذخراً وملجأ لمن يقصده من الشاميين يشفع له ويساعده على مقاصده، ويصله عند قدومه وعند سفره وما بين ذلك. وأحبه المصريون، وفتح لهم باب الاشتغال في الأصول. كنت يوماً عنده وقد جاء إليه محضر فيه شهود، فوقف على أسماء الشهود اسماً اسماً، والتفت وقال: من هو فلان؟ فقال أحد الواقفين: أنا يا مولانا، فقال له: ما أنت الذي كان يعمل الدوادارية لقبجق؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 قال: نعم. قال: ما هذه الحالة؟ فشكا بطالة وقلة. فقال له: اصعد إلى فوق، وأجلسه. ولما انقضى ذلك الشغل وخف المجلس ولم يبق إلا من هو به خاص أخرج كيس النفقة ونفضه فنزل منه ما يقارب المئة. فقال: خذ هذه ارتفق بها في هذا الوقت وعد إذا فرغت، ولما كان في ... رسم له السلطان بالعود إلى دمشق قاضي القضاة كما كان أولاً، فحضر إليها وصحبه، وصحب أولاده من المجلدات النظيفة النفيسة ما يزيد على خمسة آلاف مجلد، وفرح الناس به. فأقام قليلاً وتعلل، وأصابه فالج إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وتأسف الناس عليه لما كان فيه من الحلم والمكارم وعدم الشر وعدم المجازاة لمن أساء إليه بالإحسان. وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي وكرمه بصدق هذه الدعوى. وكان فصيحاً بليغاً في وقت البحث والجدل، منطقياً إلا إذا علا صهوة المنبر فإنه ليس ذلك، لغلبة الحياء. وكان مليح الصورة، حلو العبارة، كبير الذقن رسلها، موطأ الأكناف، سمحاً، جواداً حليماً، جم الفضائل، حاد الذهن، يراعي قواعد البحث. وكان يحب الأدب ويحاضر به، وله فيه ذوق كثير يستحضر نكته، ويكتب خطاً جيداً حسناً. وصنف في المعاني والبيان مصنفاً وسماه " تلخيص المفتاح " وشرحه وسماه " الإيضاح "، وقرأ عليه جماعة بمصر والشام، وكان يعظم الأرجاني الشاعر، يرى أنه من مفاخر العجم، واختار شعره وسماه " الشذر المرجاني من شعر الأرجاني ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 وعلى الجملة فكان من أفراد الزمان في مجموعه علماً وعقلاً وأخلاقاً. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين بالقاهرة. وكتبت أنا إليه أهنيه في الديار المصرية لما قدم من الحج سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بقصيدة فائية وهي: من خص ذاك البنان الغض بالترف ... وزان ذاك القوام اللدن بالهيف وضم في شفتيها در مبسمها ... فراح من أحمر المرجان في صدف وحلل الفرق فرعاً من ذوائبها ... والبدر أحسن ما تلقاه في السدف علقتها من بنات الترك قد غنيت ... بدمع عاشقها عن منة الشنف يلقى المتيم من تثقيف قامتها ... ما لا يلاقيه كوفي من الثقفي ومنها: في حفظ سالفها للحسن ترجمة ... فاقت وما اتفقت للحافظ السلفي يا للهوى عينها عين؛ وحاجبها ... نون وتم العنا من قدها الألفي يا هذه إن للأشعار معجزةً ... تبقى عن السلف الماضين للخلف ضعي بنانك مخضوباً على جسدي ال ... بالي ليجتمع العناب بالحشف يا عاذلي في هوى عيني محجبة ... خف شر ناظرها، فالسر فيه خفي ودع فؤادي ودعه نصب ناظرها ... لا ترم نفسك بين السهم والهدف إني لأعجب للعذال كيف رأوا ... شخص وقد رحت ذا روح تردد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 أليس يشغلهم طيب الثناء على ... قاضي القضاة جلال الدين عن شغفي ويستفزهم أفراح مقدمه ... من حجه وهو مثل الشمس في الشرف حج غدا حجة في الدهر ثابتة ... إن ينكسف نورها للشمس تنكسف كم جاب في سيره والعيس قد سئمت ... جذب البرى والسرى في مهمه قذف والركب من فضله أو من فضائله ... ما بين مغترف منه ومعترف حتى نضا الإحرام ملبسه ... عن الهدى والندى والعلم والصلف وراح ذا جسد قد طاب عنصره ... عار من العار بالإحسان ملتحف ما مس طيباً وإن كان الحجيج بما ... أثنوا عليه غدوا في روضة أنف وأم أم القرى ذات القرار ومن ... يطلب رضى الله في تلك الديار كفي وطاف بالبيت فارتاح المقام له ... لما تمسك بالأستار والسجف فكل ركن إذا حاذاه منكبه ... يود لو كان عنه غير منعطف وراح في عرفات واقفاً وله ... عرف يسير به عرق ولم يقف وفي منى كم أنال الطالبين منى ... أمسوا بها عن سطا الأعداء في كنف وجاء طيبة يقضي حق ساكنها ... ومثل ذمته ترعى له وتفي وزار من لم يزل في نصر ملته ... وشرعه بالقضا يا خير معتكف هذا الإمام الذي ترضى حكومته ... خلاف ما قاله النحوي في الصحف حبر متى جال في بحث وجاد فلا ... تسأل عن البحر والهطالة الوكف له على كل قول بات ينصره ... وجه يصان عن التكليف بالكلف قد دب عن ملة الإسلام ذب فتى ... يحمي الحمى بالعوالي السمر والزعف ومذهب السنة الغراء قام به ... وثقف الحق من حيف ومن جنف يأتي بكل دليل قد جلا جبلاً ... فليس ينسفه ما مغلط النسفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 وقد شفى العي لما بات منتصراً ... للشافعي بزعم المذهب الحنفي تحمي دروس ابن إدريس مباحثه ... فحبذا خلف منه عن السلف فما رأى ابن سريج إذ يناظره ... من خيل ميدانه فليمض أو يقف ولو أتى مزني الوقت أغرقه ... ولم يعد قطرةً في سحبه الذرف وقد أقام شعار الأشعري فما ... يشك يوماً ولا يشكو من الدنف وليس للسيف حد يستقيم له ... ولو تصدى له ألقاه في التلف والكاتبي غدا في عينه سقم ... إذ راح ينظر من طرف إليه خفي من معشر فخرهم أبقاه شاعرهم ... في قوله: " إنما الدنيا أبو دلف " هو الحفي بما يوليه من كرم ... فما جرى قلم في مدحه فحفي لو شاء في رفعة من مجده وغلا ... لمد نحو الثريا كف مقتطف قد زان أيامه عدل ومعرفة ... فسعده في دوام غير منصرف يغدو الضعيف على الباغين منتصراً ... ولم يكن قبله منهم بمنتصف لو يشتكي النهر مثل الغصن عنه مع الصبا إليه رمى عطفيه بالقصف بل لو شكى الدهر خصم من بنيه غدا ... من خوفه بين مرتج ومرتجف دامت مآثره اللاتي أنظمها ... تهدي لسمع المعالي أحسن التحف ما رسخت عذبات البان سافحةً ... من الصبا وشفت صباً من الأسف فكتب هو إلي قرين ما بعث به: يا مولانا هذه الأبيات التي تفضلت بإرسالها، وأنبطت معين زلالها، ما أقول فيها إلا أنها ذهب مسبوك، أو وشي محبوك، أو ستر ظلام عن الذراري مهتوك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 أو دمع مسفوح من صب دمه في الحب مسفوك، قد رق وراق وراع، وأمال الأعطاف وشنف الأسماع، وتألق في دياجي سطوره برق معناه اللماع. كم قد تلعبت فيه بضروب الفنون، وخضت من أنواع العلوم في شجون، أخملت أرج الخمائل من الأرجاني، وأهنت ما عز من أبكار ابن هاني: وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... قولاً يقال ولا بديعاً يدعى فكذا فليكن كلام الأفاضل، وكذا فليكن من يناصر أو يناضل. لقد تفضل مولانا بأوصاف هو أحق بها ممن وصفه، وأولى بأن يجعل إليه مرجعه ومصرفه، ومن تمام الإحسان العميم والبر الجسيم، قبول ما جهزه المملوك صحبة محكم القاضي ضياء الدين فإنه نزر، وما يقابل من هذا مده بهذا الجزر، والله تعالى يمتع الزمان وأهله بهذه الكلمات، ويمد بعونه في الحركات والسكنات، إن شاء الله تعالى. محمد بن عبد الرحمن الصدر الرئيس الكبير، القاضي شرف الدين ابن القاضي الكبير ابن العدل أمين الدين سالم ابن الحافظ بهاء الدين أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي. سمع كثيراً من الحديث. وسمع رضيعاً بقراءة شيخنا البرزالي على والديه وجدته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 وخاله، ثم سمع على الشيخ فخر الدين بن البخاري " مشيخة " بكمالها. وكان صدراً يملأ العين والصدر، ويجعل لمحاسنه البدر، يستحيي الغمام من جوده، ويهب كل ما هو في موجوده، ساد على الدماشقة، بكثرة المكارم، وعلم الناس السماح حتى الغمائم: ولهذا أثنت عليه الليالي ... ومشت دون سعيه الأيام ولم يزل في المعالي يترقى ويحاذر الملام ويتوقى إلى أن فاضت نفسه وهو محرم يلبي، وختم الله له بخير فهو يخبأ له عمله ويربي. وتوفي - رحمه الله تعالى - سابع ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره خمسة وثلاثون سنة، ودفن ضحوة يوم التروية بمقبرة الحجون على باب مكة. وكان له همة وعزمة ومعرفة وكفاية. باشر بدمشق نظر الأشراف، ونظر الجامع الأموي، ولبس خلعة بصحابة الديوان في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولبس الصاحب غبريال أيضاً لنظر الدواوين، وكان هو قد وصل من حماة إلى دمشق في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة، وكان لها ناظراً لما أقطعت حماة للأمير سيف الدين قبجق، وولي عوضه بهاء الدين عبد الصمد بن المغيزل وباشر نظر الجامع الأموي في ذي القعدة من السنة المذكورة. ومن مكارمه ما حكاه لي عنه القاضي الرئيس ضياء الدين أبو بكر بن خطيب بيت الآبار بالقاهرة، قال: كنا عنده ليلة وقد أحضر حلوى ليجهزها لبعض أصحابه الذين يقدمون من الحجاز، قال: فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر عوضها مرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 أخرى، فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر الثالثة، وأنا في شك هل قال: فأكلناها، وأحضر الرابعة أو لا، وأهل دمشق يحكون عن كرمه غرائب - رحمه الله تعالى -. وكان قد تولى صحابة الديوان بدمشق في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وخلع عليه وعلى الصاحب شمس الدين غبريال. محمد بن عبد الرحيم بن الطيب القيسي الأندلسي الضرير العلامة الضرير المقرئ أبو القاسم. تلا بالسبع على جماعة، وسكن سبتة، أراده الأمير العزفي أن يقرأ في شهر رمضان " السيرة " فبقي يدرس في كل يوم ميعاداً ويورده، فحفظها في شهر رمضان. وكان طيب الصوت صاحب فنون، يروي عن أبي عبد الله الأزدي، وأخذ عنه أئمة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في رمضان سنة إحدى وسبع مئة. ومولده سنة ثلاثين وست مئة أو نحوها. محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي الشيخ الإمام العلامة المحقق صفي الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بالهندي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 كان قيماً لفن الكلام، عارفاً بغوامضه التي خفيت عن السيف والإمام، لو رآه ابن فورك لانفرك، أو الباقلاني لقلا معرفته، ووقع معه في الدرك، أو أمام الحرمين لتأخر عن مقامه، أو الغزالي لما نسج " المستصفى " إلا على منواله ولا رصفه إلا على نظامه، أو ابن الحاجب لحمل العصا أمامه، وجعله دون الناس إمامه. مع سلامة باطن تنعته يوم حشره، وديانة طواها الحافظان له إلى يوم نشره، ومودة لا تنسى عهودها، ولا تجفو على كبره مهودها، وانعطاف على الفقراء وحنو، وبراءة من الكبرياء والعتو. أقرأ الكبار وأفادهم، وأفاض عليهم فضلة فضله وزادهم. ولم يزل على حاله إلى أن تكدر للصفي مورد حياته، وناداه الموت بإغفال شياته، فبات الدين وقد ثلم هنديه، وثل عرش الأصول بل هد نديه. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء تاسع عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بمنزله بالمدرسة الظاهرية بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية. ومولده في ليلة الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وست مئة بالهند. وكان له جد لأمه فاضل من أهل العلم هو شيخه، قرأ عليه ومات سنة ستين وست مئة، وخرج من دهلي البلد المشهور بالهند في شهر رجب سنة سبع وستين وست مئة، ودخل اليمن، وأقام بمكة نحواً من ثلاثة أشهر، واجتمع بابن سبعين. ولما كان باليمن أكرمه المظفر وأعطاه أربع مئة دينار. ثم إنه ركب البحر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 ودخل الديار المصرية في سنة سبعين، وخرج منها، ودخل البلاد الرومية وأقام بها إحدى عشرة سنة، منها خمسة بقونية، وخمسة بسيواس، وسنة بقيصرية. ودرس بقونية وسيواس، واجتمع بالقاضي سراج الدين الأرموي وأكرمه وأخذ عنه المعقول. وخرج من الروم سنة خمس وثمانين وست مئة، وقدم دمشق وأقام بها واستوطنها وعقد حلقة الإشغال بالجامع الأموي وقرأ عليه الأعيان وفضلاء الناس، ودرس في دمشق بالروحانية والدولعية والأتابكية والظاهرية. وكان مقصوداً بالاستفتاء، ويكتب كثيراً في الفتاوى. وكان فيه خير وديانة وبر للفقراء يفطر في شهر رمضان عشرة من الفقراء الضعفاء. وصنف في أصول الدين كتاب " الفائق "، وكان يقوم في الليل فيتوضأ ويلبس أفخر ثيابه، وعلى ما قيل حتى الخف والمهماز، ويصلي ورده في جوف الليل، وكان يحفظ ربع القرآن لا غير. قيل عنه إنه قرأ يوماً في الدرس: " المص "، مصدر يمص مصاً، ولم ينطق بها حروفاً مقطعة كما هو لفظ التلاوة. وممن تخرج عليه الشيخ صدر الدين بن الوكيل وغيره، وأظن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أيضاً، وكان في بعض مدارسه ناظر لا ينصفه، فقال: هذه المدرسة يعمل فيها بآيتين من كتاب الله تعالى، المدرس: " ليس لك من الأمر شيء "، والناظر: " لا يسأل عما يفعل ". ولما عقد بعض المجالس للعلامة تقي الدين بن تيمية عين صفي الدين الهندي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 لمناظرته، فلما وقع الكلام قال لابن تيمية: أنت مثل العصفور تنط من هنا إلى هناك. وقيل: إن الشيخ تقي الدين ذكر ما هو المشهور في سبب تسمية المعتزلة بهذا الاسم، وهو أن واصل بن عطاء لما اعتزل حلقة الحسن البصري سمي بذلك معتزلاً، فيقال إن الشيخ صفي الدين قال: لا نسلم. فقال الحاضرون: ما يقال في نقل التاريخ لا نسلم، وكان ذلك سبب نصرة ابن تيمية. ومنها أن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى قال لابن تيمية: هذا الكلام الذي يثلج الصدر. فقال له الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: والله تسخر وجه الشافعية بتلك الحاجة لما كنت أنت حاكمهم، فقال لابن صصرى: لي يقال هذا الكلام؟ اشهدوا علي أني عزلت نفسي من القضاء، فانفصل المجلس على غضب ابن صصرى. قلت: وما أنصف تقي الدين الهندي في قوله، لعله كان عنده سبب آخر لتسمية المعتزلة غير ذلك، إذ هو ممكن. وما رأيت أضعف ولا أوحش من خطه ومن خط الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وقد تقدم ذكره. وقيل إنه أجري بين يديه ذكر خطه، فقال له بعض الطلبة: والله يا سيدي ما رأينا أوحش من خطك. فقال: والله البارحة رأيت كراساً أوحش من خطي. فقالوا له: هذا يمكن. فقام وأتى بالكراسة فإذا بها أوحش من خطه، واعترفوا بذلك، ثم إن ذلك الطالب تتبع الكلام إلى آخره فوجد آخره: وكتب محمد بن عبد الرحيم الأرموي. فقالوا: هذه بخطك، فأعجبه ذلك، وضحك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 وكان قد جاءه يوماً حمل دبس هدية من بعلبك، فأخذه الردادون الذين يقفون في الطريق لأجل المكس. فقالوا: هذا للشيخ تقي الدين الهندي. فقالوا: هاتوا خطه، فحضروا إليه وأخذوا خطه. وقد كتب: صفي الدين هندي في حمل دبس، إن يكن هو هو فهو هو وإلا فليس به، وكانت في لسانه عجمة الهنود. محمد بن عبد الرحيم بن إبراهيم ابن هبة الله البارزي، القاضي كمال الدين أبو عبد الله بن البارزي الجهني الحموي. قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً موصوفاً بالخير، عنده مروة وانقطاع، وكان من الفقهاء المدرسين، روى لنا عن جده، وسمع حضوراً من صفية القرشية. توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة. ومولده في ثالث صفر سنة إحدى وأربعين وست مئة. محمد بن عبد الرحيم بن عمر الجزري الباجربقي، بالباء الموحدة، وبعدها ألف وجيم وراء ساكنة وباء موحدة وقاف. الشيخ الزاهد ابن المفتي الكبير جمال الدين الشافعي. وقد ذكرت والده في " التاريخ الكبير ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 كان أمره عجيبا، وحاله تجعل الولدان شيبا، خلب عقول الكبار من الفضلاء، وسحر بحاله السادة النبهاء النبلاء. لم نسمع عن أحد ما بلغنا عنه من الأمور الخارقه، والأحوال التي هي للعوائد مفارقه. حكى عنه جماعة فضلاء لا أتهم علومهم، ولا أستنزل حلومهم، حكايات ما أدري ما هي، ولا أعرف ما تضاهي، إلا أنها بعيدة عن تصديق عقلي بها، نائبة عن انفعال نفسي لصحتها عند تقليبها. ولكن شاع هذا عند كثير من أهل عصري، وأخذ كل منهم على ذلك إصري، فما أدري ما أقول، إلا أن جماعة كفروه وأخرجوه عن حمى الإسلام ونفروه، والله يعلم السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وحكم بإراقة دمه من دمشق. وكان يكون ذلك درية للسيوف عند المشق. وضاقت خطة فخلصت منها ... خلوص الخمر من نسج الفدام وفر إلى الديار المصرية، وانقطع بالجامع الأزهر. وأتى هناك بأشياء مما أتى به في دمشق وأشهر، ثم إنه عاد إلى دمشق بعد مدة مديدة، وأقام بالقابون. واستمر الناس يترددون إليه وينتابون. ولم يزل على حاله إلى أن جاءه ما أعجز الأوائل والأواخر رده، وفصل أوصاله الذي لا يلف على طول المدى خده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. كان والده الفقيه قد تحول بولديه بعد الثمانين إلى دمشق، وسمعا من ابن البخاري، وجلس أبوهما للإفتاء. ودرس ومات وقد شاخ، فتزهد محمد هذا. وحصل له حال وكشف وانقطع، وصحبه جماعة فهون لهم الشرائع، وأراهم بوارق شيطانية، وكانت له قوة نفسانية فعالة مؤثرة، فقصده الشيخ صدر الدين بن الوكيل وقلده جماعة في تعظيمه، وكان ممن قصده الشيخ مجد الدين التونسي النحوي، فسلكه على عادته، فجاء إليه في اليوم الثالث في الوقت الذي قال له يعود فيه، وقال له: ما رأيت؟ وقال: وصلت في سلوكي إلى السماء الرابعة. فقال له: هذا مقام موسى بن عمران بلغته في ثلاثة أيام، فرجع الشيخ مجد الدين إلى نفسه وتوجه إلى القاضي المالكي وحكى له ما جرى وجدد إسلامه. وطلب الباجربقي وحكم بإراقة دمه القاضي جمال الدين المالكي قاضي القضاة بمحضر جماعة من العلماء في يوم الخميس ثاني ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة. وفي سابع عشر رمضان حكم قاضي القضاة تقي الدين الجنبلي بحقن دمه بحكم عداوة الشهود، وذلك في سنة ست وسبع مئة، وكان الشهود عليه مجد الدين التونسي وعماد الدين محمد بن مزهر، والشيخ أبو بكر شرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 الصالحي، وجلال الدين بن النجاري خطيب الزنجلية، ومحيي الدين بن الفارغي، والجمال إبراهيم بن الشيخ إسماعيل اللبناني. والذين شهدوا بالعداوة ناصر الدين بن عبد السلام، والشريف زين الدين بن عدنان، وأخوه، والقاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية، وشهاب الدين الرومي، وشرف الدين قيروان الشمسي، فاختفى وتوجه إلى مصر وانقطع بالجامع الأزهر، وتردد إليه جماعة. وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة وأموراً غريبة، وحكى لي غيره من مادتها أشياء ليس للعقل فيها مجال. وحكى لي عنه القاضي شهاب الدين بن فضل الله أن أمين الدين سليمان رئيس الأطباء حكى له عنه، قال: كنت يوماً عنده في البستان الذي كان فيه، فجاء البستاني وهو من أهل الصحراء العوام، فقال له ابن الباجربقي: اقعد. فقعد ورمق الشيخ وقال للفلاح: تحدث مع الريس أمين الدين، قال: فأخذ ذلك الفلاح يتحدث معي في كليات الطب وجزيئاته وأنواع العلاج وخواص المفردات إلى أن أذهل عقلي، ثم بعد ساعة شال الشيخ رأسه من عبه فبطل ذلك الكلام، وسألت الفلاح فقال: والله ما أردي ما قلت، ولكن شيء جرى على لساني ما أدري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 وقد حكي عنه عجائب من هذا. وكان الشيخ صدر الدين يتردد إليه كثيراً، ويجلس بين يديه ويحصل له بهت في وجهه ويضع كفه على ضقنه ويخللها بأصابعه: عجب من عجائب البر والبح ... ر وشكل فرد ونوع غريب وشهد عليه مجد الدين التونسي، وخطيب الزنجلية، ومحيي الدين ابن الفارغي، والشيخ أبو بكر بن مشرف بما أبيح به دمه، وجن أبو بكر هذا أياماً ثم عقل. وحكي عنه التهاون في الصلوات وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمه من غير تعظيم ولا صلاة عليه، يقول: ومن هذا محمدكم؟! فحكم القاضي جمال الدين الزواوي المالكي بإراقة دمه، فاختفى وسافر. وسعى أخوه بجاه بيبرس العلائي إلى القاضي الحنبلي، فشهد نحو العشرين أن الستة بينهم وبينه عداوة، فعصم الحنبلي دمه، وغضب المالكي، وجدد الحكم بقتله. ثم إنه جاء بعد مدة ونزل بالقابون، وأقام به إلى أن مات وله ستون سنة. ومما قيل عنه إنه قال: إن الرسل طولت على الأمم الطريق إلى الله تعالى. قلت: بدون هذا يباع الحمار، بدون هذا يسفك ألف دم من هذا وأمثاله. محمد بن عبد الرحيم الخطيب محيي الدين شيخ بعلبك، ومسندها، وشيخ الكتابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 حدث عن ابن عبد الدائم، والقاسم الإربلي، والرشيد العامري، وابن هامل، وطائفة. وسمع الكثير، وكتب المنسوب. وكان مليح الشكل عاقلاً صيناً. توفي - رحمه الله تعالى - في تاسع شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة. محمد بن عبد الرحيم بن علي القاضي شرف الدين الأرمتني. قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان فقيهاً ذا ورع ونزاهة ومكارم، وتولى الجكم بقنا، ثم ارتحل إلى مصر، وتولى الحكم بإطفيح، ثم بمنية بني خصيب وأبيارفوة ودمياط والفيوم وسيوط. قال: وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة يرعاه ويكرمه لما اتصف به من النزاهة، ولا يأكل لأحد شيئاً مطلقاً سواء كان من أهل ولايته أو غيرهم، غير أنه كان يقف مع حظ نفسه ويحب التعظيم وأن يقال عنه رجل صالح، وإذا فهم من أحد أنه لا يعتقده يحقد عليه ويقصد ضرره، ويرى أنه إذا عزل عن ولاية لا يتولى أصغر منها ويعالج الفقر الشديد، وعزله قاضي القضاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 جلال الدين القزويني من سيوط ثم عرض عليه دونها فلم يوافق مع شدة ضرورته، واستمر بطالاً. قلت: ما أحقه بقول الأول: لإاصبحت بعد ذاك تفسو ... فما سوى عطرها فساها قال: وكان يحفظ " التنبيه " حفظاً متقناً معرباً. وكان قليل النقل والفهم، وله في الحكم حرمة وقوة جنان. وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة فيما يغلب على الظن. محمد بن عبد الرحيم بن عباس ابن أبي الفتح بن عبد الغني بن أبي محمد بن خلف بن إسماعيل القرشي، الشيخ شرف الدين أبو الفتح المعروف بابن النشو. كان حسن الشكل، فيه أمانة ومعرفة. وسافر في التجارة إلى بغداد وديار مصر. وكان له ملك. أسمعه خاله الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الغني القرشي ابن النشو بالقاهرة من ابن رواج، ويوسف الساوي، وفخر القضاة ابن الجباب، وابن الجميزي بهاء الدين، وغيرهم. وسمع أيضاً بدمشق. وخرج له فخر الدين البعلبكي " مشيخة " في أربعة أجزاء عن نحو عشرين شيخاً. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأتها عليه، ومن الأجزاء التي تفرد بها بدمشق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 وقرأتها عليه مراراً كتاب " المحدث الفاصل " الذي للرامهرمزي سبعة أجزاء، و" مشيخة وكيع ابن الجراح "، وحديث إسماعيل الصفار عن الصغاني والدوري، و" مسند عائشة " للمروزي، والأجزاء الثلاثة من " المحامليات ": السادس والسابع والتاسع من المركبات وغير ذلك. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث شوال سنة عشرين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير. ومولده في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وست مئة. محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي قطب الدين، الفقيه الشافعي. سمع من الحافظ الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وغيرهما. وتفقه على ظهير الدين التومنتي، وتقي الدين بن رزين. وبرع في مذهب الشافعي. وأفتى، ودرس، وتصدر للإشغال، وانتفع به الطلبة. وكان كثير النقل حافظاً للفروع ساكناً متديناً. وناب في الحكم في القاهرة، وولي الوكالة بالديار المصرية، ودرس بالفاضلية والحامية، وأعاد بالصالحية، وصنف تصحيحاً لكتاب " التعجيز " و" أحكام المبغض ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده بشبرا من الغربية سنة ثلاث وخمسين وست مئة. قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إن الراهن والمرتهن إذا تشاحا في الرهن يكون عند من يسلمه الحاكم إلى عدل صورة التشاحح مما يسأل عنه. فإنه إن كان قبل القبض فالتسليم غير واجب، وإن كان بعد القبض فلا يجوز نزعه ممن هو في يده. وكان الشيخ قطب الدين السنباطي - رحمه الله تعالى - يصور ذلك فيما إذا وضعاه عند عدل ففسق، فإن يده تزال والرهن لازم، فإذا تشاحا حينئذ فمن يكون تحت يده اتجه اختيار الحاكم وكذلك لو رضيا بيد المرتهن لعدالته حين القبض ثم فسق ينبغي أن يكون كذلك. قلت: هذه الكذلكة الثانية لا فائدة فيها فإنها هي الأولى بعينها. محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم جمال الدين بن السقطي القاضي الشافعي. كان رئيساً عاقلاً لبيباً وقوراً، من قضاة العدل، تولى نيابة الحكم بمصر والجيزة والقاهرة والقليوبية سنين كثيرة، ولم يؤخذ عليه في حكم حكم به، ولا نقص عليه أمر أبرمه. شهد عنده جماعة في قضية فتثبت فيها وركب إلى القرافة وقرأ تاريخ الوفاة من المشهود عليه، ورجع الجماعة إليه، فقال لهم: امضوا إلى قبره، واقرؤوا تاريخ الوفاة، فوجموا لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 وله حكايات في التوقف وعدم التسامح في الأحكام. ودرس بالطيرسية بمصر وبالجامع الأقمر. وسمع الحديث من ابن الصابوني، وأجز له ابن باقا. وترك القضاء مدة. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين حادي عشر شعبان سنة سبع وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وستين وست مئة. ومن تشدده - رحمه الله تعالى - ما حكاه الفاضل كمال الدين الأدفوي قال: حكى لي العالم الفقيه أبو إسحاق إبراهيم الإسنائي قاضي قوص قال: وقعت لشخص عنده قضية احتيج فيها إلى التعريف، فقال له: أحضر من يعرف بك. فأحضر الشيخ علاء الدين الباجي، فقام إليه وأجلسه معه وبجله، فقال ذلك الشخص: سيدي علاء الدين يعرف بي، فقال القاضي: سيدي علاء الدين أكبر من ذلك، امض وأت بمن يعرف بك. قال: وقال لي صاحبنا أبو عبد الله محمد الإخميمي الشهير بابن القاسح: طلبت من قاضي القضاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ولاية العقود بالقاهرة وسألته أن يفوض ذلك إلى ابن السقطي فقال: ما يفعل، قلت: بلى يفعل. فقال: أنا أقرب في ذلك منه. وله حكايات في التثبت والاحتياط والاحتراز معروفة مشهورة بين المصريين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 محمد بن عبد الغني بن عبد الكافي ابن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفضائل، الشيخ زين الدين الأنصاري بن الحرستاني. سمع من ابن صباح، وابن اللتي، وغيرهما. وحدث بالدارمي، قرأه عليه بن حسيب، وكان ذهبياً بقيسارية المد، وله حرمة ووجاهة ببلده لدينه ومكارمه، وكان حافظاً للحكايات والأشعار يوردها إيراداً جيداً، وكان يلقب بالنحوي. توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. محمد بن عبد الغني بن محمد ابن يعقوب بن إلياس، الشيخ شمس الدين بن عز الدين ابن قاضي حران، الحموي النحوي. كان متصدراً بجامع حماة الأعلى لللإقراء، وفقيهاً في المدارس، وله خصوصية بالأمير بدر الدين حسن بن الأفضل، وله عنده منزلة. توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن صفر سنة ثمان عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 محمد بن عبد القادر ابن عثمان بن منهال المصري، الصدر عز الدين. كان رجلاً جيداً عارفاً، ولم يكن رأى دمشق، فنزل بالمدرسة الإقبالية الحنفية. قال شيخنا البرزالي: فاجتمعت به وذاكرني في مروياته ومسموعاته، وكان له ميل إلى أن يخرج له شيء، وكان له شعر، وتولى إمامة الجامع الحاكمي بالقاهرة. وسمع من الحراني، وشامية، والصفي خليل، وطبقتهم. وأجاز له جماعة من المتأخرين من أصحاب البوصيري، وجمع شيوخه بالإجازة، ورتبهم فزادوا على الألف. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في تربة ابن الجوخي. ومولده سنة إحدى وستين وست مئة. محمد بن عبد القوي بن بدران الإمام المفتي النحوي شمس الدين أبو عبد الله المقدسي المرداوي الحنبلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 قدم الصالحية، وتفقه على الشيخ شمس الدين وغيره. وبرع في العربية واللغة، وأقرأ ودرس وأفتى وصنف، وكان حسن الديانة، دمث الأخلاق. ولي تدريس الصاحبية، وكان يحضر دار الحديث ويشغل بها وبالجبل. وسمع من خطيب مردا، ومن محمد بن عبد الهادي، وعثمان بن خطيب القرافة، ومظفر بن الشيرجي، وإبراهيم بن خليل، وابن عساكر تاج الدين. وله قصيدة دالية في الفقه، وكان على ذهنه حكايات ونوادر. وقرأ النحو على الشيخ جمال الدين بن مالك وغيره. وأخذ عنه القاضيان شمس الدين بن مسلم، وجمال الدين بن جملة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده بمردا سنة ثلاثين وست مئة. محمد بن عبد الكريم بن علي التبريزي المقرئ المعمر نظام الدين. سافر مع أبيه للتجارة وأقام بحلب، وسمع من ابن رواحة، وقال: سمعت بها من بهاء الدين بن شداد. وكمل القراءات سنة خمس وثلاثين وست مئة على السخاوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 إفراداً وجمعاً، وتلا بحرف أبي عمرو بالثغر على أبي القاسم الصفراوي، وبمصر على ابن الرماح. وتلا به ختماً على المنتخب الهمذاني. ثم استوطن دمشق وأم بمسجد وأقرأ بحلقة، وكان ساكناً متواضعاً كثير التلاوة. قرأ عليه شيخنا الذهبي لأبي عمرو، وسمع منه " حرز الأماني " بقراءة ابن منتاب. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة. ومولده بتبريز سنة ثلاث عشرة وست مئة. محمد بن عبد الكريم بن محمد بن محمد الصدر مجير الدين بن المغيزل. كان قد تولى نظر الدواوين بحماة. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة. وقد تقدم ذكر والده شرف الدين في حرف العين مكانه. محمد بن عبد الكريم بن محمد بن علي الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شمس الدين أبو عبد الله القرشي بن الشماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 كان فاضلاً، من أعيان الفقهاء، وله مشاركة في القراءات والحديث والأصول والنحو، سمع من أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وحصل النسخ، وقرأ وحدث وتزهد مدة. أقام بصفد في أواخر عمره إلى أن مات بها - رحمه الله تعالى - في مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة. محمد بن عبد اللطيف بن يحيى ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن تميم بن حامد، أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح بن أبي البركات بن أبي زكريا الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي. أجاز له لما ولد جماعة من المسندين منهم الحافظ شرف الدين الدمياطي، وفي تلك السنة توفي. وأحضره أبوه علي أبي العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، وأبي الحسن علي بن محمد بن هارون الثعلبي، وأبي المحاسن يوسف بن المظفر بن كوركيك الكحال، وأبي الحسن علي بن عيسى بن سليمان بن القيم، وغيرهم. وأجاز له في سنة سبع وسبع مئة خلق من أعيان المشايخ بالديار المصرية والشامية يطول ذكرهم. ثم سمع بنفسه من خلق بالقاهرة ومصر وأعمالها ومكة والمدينة ودمشق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 بقراءته وقراءة غيره كأبي علي الحسن بن عيسى بن خليل الهكاري وأبي الحسن علي بن عمر بن أبي بكر الواني وأبي الهدى أحمد بن محمد بن علي بن شجاع العباسي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ومحمد بن عبد الحميد بن محمد الهمذاني، وعبد الله بن علي بن عمر بن شبل الحميري، ويوسف بن عمر بن حسين الختني، وأحمد بن أبي طالب الصالحي، ويحيى بن يوسف المقدسي، ومحيي الدين بن فضل الله، وعلي بن إسماعيل المخزومي، ومحمد بن عبد المنعم الصواف، وأبي بكر بن يوسف بن عبد العظيم المصري، وخلائق يطول ذكرهم. وسمع العالي والنازل، وكتب بنفسه وخرج وانتقى وحصل. وقرأ القرآن بالسبع في ختمات على شيخنا العلامة أبي حيان، وأجاز له بإقرائه حيث شاء متى شاء، وكتب له خطه بذلك. وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وغيره من العلوم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقرأ الفقه أيضاً على جدهيحيى بن علي وعلى الشيخ قطب الدين السنباطي. وقرأ الفقه أيضاً على ذي الفنون أبي علي الحسين بن علي الأسواني، ولازمه مدة طويلة، واشتغل بأصول الفقه على جده يحيى. وقرأ النحو على شيخنا العلامة أثير الدين، لازمه نحواً من سبعة عشر عاماً، وشرح عليه " تقريب المقرب " تصنيفه، وكتاب " التسهيل " لابن مالك، وأجازه بإقرائهما، وسمع عليه كثيراً من " شرحه للتسهيل "، وكثيراً من " كتاب سيبويه " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 سماعاً وشرحاً، وسمع عليه كثيراً من شعره بقراءتي أنا، وسمع عليه من شعر غيره، وكثيراً من المرويات الأدبية. وسمع عليه " مقامات " الحريري بقراءتي أنا، وقرأ كتاب " لباب الأربعين " وكثيراً من علم الخلاف على شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. وقرأ كتاب " مطالع الأنوار " مرتين على الشيخ تاج الدين التبريزي، وسمع عنده كثيراً من الكتب المنطقية والخلافية والأصولية. وجالس في الأدب شيخنا العلامة ناصر الدين شافع بن علي وسمع عليه من شعره وتصانيفه، ومدحه بأبيات منها: رأت العدا عباس جدك طاهراً ... فأتوا إلى عليا نداك بشافع كان هذا أقضى القضاة تقي الدين من أصح الناس ذهناً وأذكاهم فطرة كما سفر البدر وهناً. شارك في فنون، وعارك في عدة علوم خاض منها في شجون، عمل في القراءات عملاً بخل الزمان به على السخاوي، وكسر له ابن جبارة فما يقاومه ولا يقاوي. وجد في سماع الحديث، وقرأ بنفسه، فما عند السلفي منه نقده، ولا ابن عساكر لو لاقاه لولى فراراً وهو وحده. واشتغل بالفقه فلو أن الماوردي في زمانه ما تسمى أقضى القضاه، أو رآه الروياني نشف بحره في فضاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 ودأب في الأصول فما للآمدي في مداه خطوه، ولا لابن خطيب الري ري إذا رقا من المنبر على ذروه. وأكب على العربية حتى أطار ابن عصفور عن هذا الفن، وغدا الزجاجي يكسر قواريره على ضنه بما ظن. وحضر مآدب الأدب حتى افتقر صاحب الذخيرة وجعل صاحب " القلائد " مع الحصيري على حصيره. وكتب فروض المهارق، وأخمل بخطه الخمائل، وقد أحدقت بها زهر الحدائق. ونظم الشعر الذي ترقرق وانسجم. ولام الناس صاحب " لامية العرب " و" لامية العجم ": لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق إذا ترنم شاد لليراع به ... لاقى المنايا بلا خوف ولا حرق وأما الدين فإنه تمسك منه بالحبل المتين، وأما الورع فكان معلقاً منه في الوتين، له في ذلك عجائب، وأخبار تحملها الصبا والجنائب، قدم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام وهو مقيم بالشام وعاد إلى القاهرة ثم زاره ثانياً فأمسكه إمساك غريم ألد، وألزمه بنيابته فسلك فيها الطريق الأسد بالأمر الأشد. ولم يكن يزل على حاله إلى أن جر أبو الفتح إلى لحده، وطوت شقة الأيام منه نسيج وحده. وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وكان قد نزل بالمدارس بالقاهرة وتولى الإعادة للفقهاء بالمشهد الحسيني والمدرسة السيفية في حدود سنة عشرين وسبع مئة. ودرس بالمدرسة السيفية المذكورة سنة أربع وعشرين وسبع مئة نيابة عن جده أبي زكريا يحيى، واستقر التدريس بها باسمه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 ولم يزل بها مدرساً مع ما أضيف إليه من الوظائف إلى أن باشر التصدير بالجامع الطولوني وغيره لما توجه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى الشام وولي القضاء بالمقسم ظاهر القاهرة. ثم إنه ورد الشام وتولى تدريس المدرسة الركنية الجوانية وخلافة الحكم العزيز بالشام والتصدير بالجامع الأموي. وكان - رحمه الله تعالى - شديد الورع متحرزاً في دينه محتاطاً لنفسه، درس بالركنية فحكى لي بعض الفقهاء أنه كان لا يتناول منها ما فيها من الجراية ويقول: تركي لهذا في مقابلة أني ما يتهيأ لي فيها الصلوات الخمس. وكان سديد الأحكام بصيراً بمواقع الصواب فيها. وكتب إلى شيخنا العلامة أبي حيان مع خشكنانج جهزه إليه بعد عيد الفطر: أهنيك بالعيد الذي حل عندنا ... خلعت عليه من علاك جلال وحاولت تعجيل البشارة والهنا ... فأرسلت من قبل الهلال هلال ومن شعره - رحمه الله تعالى -: والله لم أذهب لبحر سلوةً ... لكم ولا تفريج قلب موجع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 لكنه لما تأخر مدةً ... أحببت تعجيل الوفاء بأدمعي ومنه: منذ بعدتم فسروري بعيد ... وبعدكم لم أتمتع بسعيد وكيف يهوى العيد أو نزهة ... شهيد وجد ودموع تزيد فالبحر من تيار دمعي له ... يبكي به والعيد عيد الشهيد وكنت قد كتبت إليه في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة: تقي الدين يا أقضى البرايا ... ويا رب النهى والألمعية ويا من راح أثنيتي عليه ... تضوع كمسك فطرته الذكية أهز إلي منك بجذع علم ... فوائده تساقط لي جنية لأنك لا تسامى في علوم ... نزلت بها منازلك العلية ونظمك نظم مصري طباعاً ... حلاوته لذلك قاهرية ودأبك فتح باب النصر حقاً ... وغيرك شغله بالباطلية أفدنا إننا فقراء فهم ... لما تملي فضائلك الغنية تقرر أن فعالاً فعولاً ... مبالغتان في اسم الفاعلية فكيف تقول فيما صح منه ... وما الله بظلام البرية أيعطي القول إن فكرت فيه ... سوى نفي المبالغة القوية وكيف إذا توضأنا بماء ... طهور وهو رأي الشافعية أزلنا الوصف عنه بفرد فعل ... وذاك خلاف رأي المالكية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 فأوضح ما ادلهم علي حتى ... تغادرني على بيضا نقية فإن يدنو ظلام الشك مني ... فإنك ذو قناديل مضية ودم للمشكلات تميط عنها ... أذى فهم لأذهان مدية فكتب الجواب إلي عن ذلك، وأجاد: جلوت علي ألفاظاً جلية ... وسقت إلي أبكاراً سنية ونظمت الجواهر في عقود ... فأزرت بالعقود الجوهرية وأبدعت المسير من نظام ... فما لمسير عندي مزية لآل مثل بدر التم نوراً ... ولكن في النهار لنا مضية حلاوتها تخالط كل قلب ... ومن حشو وحوشي نقية أتت من حافظ الآداب طراً ... وقلبي مغرم بالحافظية وتعزى للخليل فما فؤادي ... يميل هوى لغير السكرية فهمت بما فهمت من المعاني ... ولم أظفر بنكتتها الخفية لأن العجز مني غير خاف ... ومالي في العلوم يد قوية تأفف صاغة الآداب مني ... ومالي للإجابة صالحية ومن جاء الحروب بلا سلاح ... كمن عقد الصلاة بغير نية فخذ ما قد ظفرت به جواباً ... فما أنا قدر فطرتك الذكية فظلام كبزاز وأيضاً ... فقد يأتي بمعنى الظالمية وقد ينفى القليل لعلة في ... فوائده بنفي الأكثرية وقد ينحى به التكثير قصداً ... لكثرة من يضام من البرية وأما قوله ماء طهور ... ونصرته لقول المالكية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 فجاء على مبالغة فعول ... وشاع مجيئه للفاعلية وقد ينوى به التكثير قصداً ... لكثرة من يروم الطاهرية وأيضاً فهو يغسل كل جزء ... ولاء وهو رأي الشافعية فخذها من محب ذي دعاء ... أتى منه الروي بلا روية له فيكم موالاة حلت إذ ... أصول الود منه قاهرية فإن مرت إذا مرت فعفواً ... فإن الستر شيمتك العلية فمرسل شعره ما فيه طعم ... تجاب به القوافي السكرية وأورد له قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي في " الطبقات الصغرى " له، قال: وأنشدني أبو الفتح لنفسه بقراءتي عليه: إذا رمت تعداد الخلائف عدهم ... كما قلته تدعى اللبيب المحصلا عتيق وفاروق وعثمان بعده ... علي الرضى من بعده حسن تلا معاوية ثم ابنه وحفيده ... معاوية وابن الزبير أخو العلا ومروان يتلوه ابنه ووليده ... سليمان وافى بعده عمر ولا يزيد هشام والوليد يزيدهم ... سناهم وإبراهيم مروان قد علا بسفاح المنصور مهدي ابتدي ... وهاد رشيد للأمين تكفلا وأعقب بالمأمون معتصم غدا ... بواثقه يستتبع المتوكلا ومنتصر والمستعين وبعده ... لمعتز المتلو بالمهتدي انقلا ومعتمد يقفوه معتضد وعن ... سنا المكتفي يتلوه مقتدر سلا وبالقاهر الراضي تعوض متق ... وبالله مستكف مطيع تفضلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 وطائعهم لله بالله قادر ... وقائمهم بالمقتدي استظهر العلا ومسترشد والراشد المقتفى به ... ومستنجد والمستضي ناصر تلا وظاهرهم مستنصر قد تكلموا ... بمستعصم في وقته ظهر البلا ومستنصر وحاكم وابنه ولم ... يقم واثق حتى أتى حاكم الملا فدونكها مني بديهاً نظمته ... فإن آت تقصيراً فكن متطولا وكتب له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: أجدت تقي الدين نظماً ومقولاً ... ولم تبق شأواً للفضائل والعلا فمن رام نظماً للأئمة بعدها ... يؤم محالاً خاسئاً ومجهلا قلت: لم يذكر تقي الدين - رحمه الله تعالى - إبراهيم بن المهدي، وكان قد تولى بعد الأمين، ولا ابن المعتز في خلفاء بني العباس، لأنه بويع له في حياة المقتدر بعدما خلع، وكانت بيعة ابن المعتز يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومئتين، وأقعد في دار الداية، وسلم عليه بإمرة المؤمنين، لأن أولياء الأمر قالوا: المقتدر غير بالغ، ثم كان أمر ابن المعتز يوم السبت وبعض يوم الأحد، ثم فسد أمره وبطل لأن غلمان المقتدر صعدوا في الطيارات في الماء وصاحوا من دجلة، فخاف أصحاب ابن المعتز وتفرقوا، وأخذ وقتل وأعيد المقتدر. وفي ابن المعتز قال القائل: لله درك من ملك بمضيعة ... واف من العلم والعلياء والحسب ما فيه لو ولا لولا تنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 وفي قوله - رحمه الله تعالى -: " ووليده سليمان " تجوز يوهم من لا علم له أو وليده سليمان واحد، ومراده اثنان لأنه قال: " ومروان يتلوه ابنه "، يعني به عبد الملك، وولي بعد عبد الملك ابنه الوليد الذي عمر الجامع الأموي، ثم تولى بعده سليمان، فقوله: " ووليده سليمان " كان ينبغي أن يأتي بينهما بفيصل، لأن لفظة الوليد مشتركة بين الولد والعلم. وقد نظم الشيخ برهان الدين الجعبري - رحمه الله تعالى - قصيدة في هذه المادة مليحة ذكر الخلفاء إلى آخر وقت كلا منهم بلقبه وعمره ومدة خلافته، لكنها بخلاف بحروف الجمل، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الرابع عشر من " التذكرة " التي لي. وله قصيدة أخرى نونية مردفة بألف، ذكر ذلك بعد حروف الجمل، بل ذكره تصريحاً. ولشيخنا الذهبي أبيات قليلة ضمنها أسماء الخلفاء أيضاً في ثمانية أبيات ذكرتها أيضاً في هذا الجزء، وللرشيد الكاتب قصيدة رجز في ذكر الخلفاء، وقد أودعتها في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وبعضهم نظم الخلفاء المصريين وما رأيت من نظمهم غيره، وهي: الأول المهدي ثم القائم ... وبعده المنصور ذاك العالم ثم المعز بعده العزيز ... والحاكم المبرز الإبريز والظاهر المشهور والمستنصر ... في عهده شخص الهدى مستبصر والمصطفى للدين والمستعلي ... وآمر والحافظ المستتلي والظاهر المذكور ثم الفائز ... والعاضد الأخير ذاك الفائز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 ونظم أبو الحسين الجزار أرجوزة سماها: " العقود الدرية في الأمراء المصرية "، ذكر فيها من حكم في مصر من أول الإسلام إلى آخر أيام السعيد بن الظاهر، ثم كمل على ذلك فيما أظن الشيخ علاء الدين بن غانم إلى آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في الدولة الثانية، ثم كمل عليها القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى آخر أيام الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد، ثم إنني أنا كملت عليها إلى آخر وقت، وهي جميعها في الجزء الرابع من " التذكرة " التي لي. محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي شرف الدين بن الصاحب فتح الدين القيسراني المخزومي. روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم، وسمع من الفقيه اليونيني، وإبراهيم بن خليل، وجماعة. ولد بحلب سنة ثمان وأربعين وست مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة مستهل شعبان سنة سبع وسبع مئة. وكان من بيت حشمة وصداره، وكتابة ووجاهة وعباره، وسيادة تسفل عن مراقي مراتبهم النجوم السياره. جملوا الممالك وصانوها، وزادوا الدول بهجة بألفاظهم وزانوها. وكان القاضي شرف الدين هذا إذا كتب أخذ أرض الطرس ظخرفها وازينت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 وعدت من الخيرات اليمانية وتعينت. نظم كأنه القلائد، ونظم يشبه الدر على لبات الخرائد، كله منتخب، وكله وجه غانية كأنه بالحسن البارع قد انتقب: كأن طروسه روض نضير ... وأزهار المعاني فيه غضه فكم نال الأديب بها غناه ... لأن كلامه ذهب وفضه وكان متين الديانة، متوشحاً بالصيانه، معروفاً بالعفة والأمانه، وكان يلازم تلاوة القرآن، لا يخل بذلك في ولا أوان. يقرأ القصص، وإذا فرغ منها عاد إلى التلاوة على الراتب. وإذا مر بآية سجدة دار إلى القبلة وسجد وظهره إلى النائب. وتبرم منه النائب وشكاه، وذكر للسلطان وغيره وحكاه، فما رجع عن عادته، ولا ترك ذلك من سعادته. ولم يزل على حاله إلى أن سكن نبضه وبطل من بيت المال قبضه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور. أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس قال: كان القاضي شرف الدين قد توجه صحبة السلطان إلى غزوة، فرأيته في المنام كأنه منصرف عن الواقعة، وقد نصر الله المسلمين فيها على التتار، فأخبرني بما فتح الله به، فنظمت في المنام بيتين، واستيقظت ذاكراً للأول منهما وهو: الحمد لله جاء النصر والظفر ... واستبشر النيران: الشمس والقمر فكتبت إليه أعلمه بذلك، فكتب إلي الجواب عن ذلك: أيا فاضلاً تلهي معاني صفاته ... فكل بليغ فاضل من رواته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 ومن يستبين الفهم من لحظاته ... له أمر بالرشد في يقظاته وفي النوم يهديه لخير الطرائق ومن قربه غايات كل فضيلة ... وأشطره تزهى بزهر خميلة وجملته في الناس أي جميلة ... فإن قام لم يدأب لغير فضيلة وإن نام لم يدأب لغير الحقائق يقبل اليد العالية الفتحية فتح الله أبواب الجنة بها ولها، وأسعد خاطره الذي ما اشتغل عن الصواب ولا لها، ومشتهى خلقه الذي لا أعرف لحسنه مشبهاً، تقبيل مشتاق إلى روايته ورؤيته، ونتائج بديهته ورويته، كتعطش إلى روائه وإروائه والتيمن بعالي آرائه، والتحلي به في هذه السفرة المسفرة بمشيئة الله تعالى عن الفلاح والنجاح، والغزوة التي لها الملائكة الكرام النجدة، والرايات النبوية السلاح، والحركة التي أخلص المسلمون لله تعالى رواحهم، وغدوهم، وتعلقت آمالهم بأنه سبحانه وتعالى يهلك عدوهم، فإنهم قد بغوا والبغي وخيم المصرع، وابتغوا الفتنة والفتنة لمثيرها تصرع. وقد تكفل الله تعالى بالملة المحمدية أن يديل دولتها، وأخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله لا يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها، فلهذا ما أمضينا في السهر ليلا، ولا أنضينا في السفر خيلا، ولا رجونا إلا أن " نحمد السرى عن الصباح "، وكدنا أن " نطير إلى الهيجاء زرافات ووحداناً " بغير جناح ولا جناح. وسمحنا بنفوس نفائس في طلب الجنة والسماح رباح، وينهي أن المشرف العالي ورد إليه فتنسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب تعبير رؤياه، فرأى خطه وشياً مرقوما، ولفظه رحيقاً مختوما، ووجده محتوياً على درر كلامية وبشر مناميه، وحديث نفس عصاميه. نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأبنائه حفاظا. وهو كتاب طويل. وأجاب عنه شيخنا فتح الدين، وقد أثبتهما في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي. محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيم الشيخ الكبير المشهور الصالح المرشدي. قرأ على ضياء الدين بن عبد الرحيم، وتلا على الصائغ. وكان فقيهاً شافعي المذهب. وكانت له أحوال وهمة عظيمة، في خدمة الناس على مر السنين والأحوال، يطعم الناس الذين يردون عليه، ويأتي لكل واحد بما في خاطره ويقدمه بين يديه، اشتهر هذا الأمر عنه وذاع، وامتلأت به النواحي والبقاع. ولو ورد عليه من الألف نفس فما دونها أو جاؤوه في أي وقت كان من غير هدية يهدونها وجدوا ما يكفيهم ويكفي دوابهم وشيوخهم وشوابهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 ولم يكن يقبل لأحد شيئاً البته. وتحيل الناس عليه في مثل هذا فحالما علم به رده بغته. ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى خالقه على سداد، وسكن لحده إلى يوم المعاد. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. كان يحكي عجائب يحار لها السامع من إحضاره الأطعمة الكثيرة للواردين وكل من حضر وخطر بباله في الطريق قبل وصوله إليه شيء من المآكل الغريبة أحضره إليه ووضعه قدامه على الخصوص، وكان مقامه بقرية منية مرشد بالقرب من بلد فوه بالديار المصرية. تحيل السلطان الملك الناصر محمد وجهز له مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي جملة من الذهب، فغالطه في قبولها ودسها معه في مأكول جهزه معه إلى السلطان. وحج في هيئة كبيرة وتلامذة. أنفق في ليلة ما قيمته ألفان وخمس مئة درهم، وقيل: إنه أنفق في ثلاث ليال ما قيمته ألف دينار، وكان يأتيه الأمراء الكبار ومن دونهم من الفقراء، فيقوم بخدمتهم على أتم ما يكون، وقل من أنكر عليه، فاجتمع به إلا وزال ذلك من خاطره. وكان شيخنا فتح الدين بن سيد الناس ممن ينكر حاله ويشنع عليه، فما كان إلا أن اجتمع به، فسألته عنه، فقال: هو إنسان حسن. ثم إنه اجتمع به مرة ومرة، وكذلك الأمر ناصر الدين بن جنكلي كان ينكر عليه واجتمع به، وجرى بينهما تنافس في الكلام، ولم يجئ من عنده إلا وقد رضي به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 وأخبرني جماعة ممن توجه إليه وأقام عنده أن في مكانه مسجداً ومنبراً للخطيب يوم الجمعة، وكان يأمر الناس بالصلاة، ولم يصل مع أحد، وصلاة الجماعة لا يعدلها شيء. وأمره غريب والسلام، يتولى الله سريرته. وكان قد عظم شأنه، ويكتب الأوراق إلى دوادار السلطان، وإلى كاتب السر، وإلى من يتحدث في الدولة بقضاء أشغال الناس بعبارة ملخصة موجزة على يد من يتقاضاه ذلك، ويقضي جميع ما يشير به، وما عظم واشتهر في الديار المصرية إلا بتردد القاضي فخر الدين ناظر الجيش إليه، فإنه كان يزوره كثيراً، فعظم لذلك محله في النفوس. وبات في عافية، وأرسل إلى الذين من حوله ليحضروا إليه فقد عرض أمر مهم، فأتوه، فدخل خلوته وأبطأ، فطلبوه فوجدوه ميتاً في التاريخ المذكور. والحكايات في شأنه تزيد وتنقص إلا أنه لا يدعي شيئاً، ولم يحفظ عنه شطح، حسن العقيدة، شافعي المذهب، وكان يخرج إلى الواردين أطعمة كثيرة من داخل مكانه، ولا يدخل إلى ذلك المكان أحد سواه. قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي رحمه الله تعالى، قال: توجهت إلى زيارة الشيخ محمد المرشدي، فلما قربت منه اشتهيت قمحية بلبن حليب بلحم رميس، فلما وصلنا جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم رميس، وقال لي: كل. ثم بقي يغيب ويأتي بأشياء أخر ويضعها قدام مماليكي، وكلما أتى بشيء إلى واحد منهم تعجب منه ويقول: أنا والله كنت اشتهيه، وأحضر أكثر من عشرين لوناً ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 قال: وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الإسكندري بالإسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي. وقلت: لعلي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها. فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان، فعاقني عما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك وقد بعث لك هذا السمن والعسل ليعمل لك هيطلية وتأكل بهما، ولو كانت تحمل إليك لبعث بها. قال: وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوه فإنهما كانا روحين في جسد، وكان قد تحصن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما لاعتقاد في الشيخ أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة. فنمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، ولم يبق له دأب إلا يلقى من يصل من ذوي الأقدار قاصداً زيارة الشيخ، لأن فوه طريق منية مرشد، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه وشرع في محادثته ومحادثة من معه حتى يقف على ما في خواطرهم وما يقترحونه، ثم إنه يبعث إلى الشيخ بذلك على دواب مركزة في الطريق بينهما ويمده من الأصناف بما لعله لا يكون عنده، ويعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه. قلت: هذا فيه بعد إلى الغاية، وهذا يريد أموالاً كثيرة ينفقها القاضي أولاً على الزائرين، ثم إنه يجهز إلى الشيخ بما يطعم به زواره ثانياً. ولعل الذي كان يشتهي المأكول أو المشروب يشتهيه بعد فراق القاضي في نفسه، فمن أين يعلم الشيخ بذلك أيضاً؟ فما كل من قصد الشيخ يعمل طريقه على فوه ويجتمع بالقاضي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 واستفاض أنه ما راح أحد وتمنى شيئاً يأكله أو يشربه إلا وجاءه الشيخ به. وكان الشيخ - رحمه الله تعالى - أسمر مبدناً ربعة من الرجال، حسن الشكل، منور الصورة، جميل الهيئة، حسن الأخلاق. ومات - رحمه الله تعالى - وقد قارب الستين. وكان يفتي من يسأله من غير أن يكتب خطه. محمد بن عبد الله بن الحسين ابن علي بن عبد الله الزرزاري الإربلي الدمشقي، قاضي القضاة العلامة شهاب الدين أبو الفرج وأبو عبد الله بن الإمام مجد الدين. سمع من ابن أبي اليسر، ومظفر بن عبد الصمد الصائغ، والفخر علي، وابن أبي عمر، وأبي بكر بن الأنماطي، وابن الصابوني، وعبد الواسع الأبهري، والنجم بن المجاور، وابن الواسطي، وابن الزين، وابن بلبان، وغيرهم. وكتب الطباق، وسمع كثيراً، وأفتى، ودرس، وجود العربية والفقه. وكان في الشروط آية، وفي معرفة الأحكام ونقضها وإبرامها غاية. وكان في المكارم لا يجارى، وفي الجود لا يبارى، وله على الناس خدم، وفي المروة رسوخ قدم. ينظر في المكتوب نظرة واحدة فيعرف فساده من صلاحه، ويزيل منه واواً أو يزيده ألفاً فيأتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 بالمراد على اصطلاحه. ولي قضاء القضاة بدمشق بعد ابن جملة فلم يحمد، وعاد طرف الدين به وهو أمد. ولم يزل على حاله إلى أن انهدم ابن المجد، وأهلك نفوس ذويه عليه من الألم والوجد. كان أولاً ينوب في وكالة بيت المال عن القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ابن القلانسي، ثم إنه انفرد بالوكالة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ثم ولي قضاء القضاة بعد ابن جملة، ولبس تشريفه لذلك اليوم في يوم الأحد ثامن عشري القعدة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل به إلى أن عزل من باب السلطان بقاضي القضاة جلال الدين القزويني، ولم يعلم، ثم إنه توجه إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني يهنئه بكتابة السر، فنفرت به البغلة عن حمام الخضراء فرض دماغه، فحمل في محفة إلى العادلية. ومات بعد أسبوع في آخر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، ولم يعمل له عزاء. وأوذي أصهاره. أنشدني من لفظه لنفسه شمس الدين محمد الخياط الشاعر: بغلة قاضينا إذا زلزلت ... كانت له من فوقها الواقعة تكاثر ألهاه من عجبه ... حتى غدا ملقى على القارعة فأظهرت زوجته عندها ... تضايقاً بالرحمة الواسعة وكتب إليه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 قاضي القضاة ابق في سماء علاً ... مقتبل السعد نافذ الحكم كم من صديق قد جاء يسألني ... في البر والمكرمات والحلم عن ابن صصرى وعنك. قلت له: ... لا فرق بين الشهاب والنجم محمد بن عبد الله بن عمر الشيخ الإمام العلامة الخير الورع زين الدين بن علم الدين ابن الشيخ زين الدين بن المرحل الشافعي. هو ابن أخي الشيخ صدر الدين بن الوكيل. ربي على طريق خير وسلامه، ونشأ في صون وعفاف لم يلحقه في ذلك سآمه، يلازم الاشتغال ليلاً ونهارا، ويكرر دروسه في كل وقت مرارا. وكان من أحسن الناس شكلا، وأبهجهم وجهاً، كأن البدر منه تجلى. وكان قد جود الفقه والأصول وتوفر عنده منهما المحصول. وأما العربية فكان فيها ضعيفا، ولم يسمع الناس له فيها صريفا. وناب في الحكم بدمشق فحمدت سيرته، وود الناس، لو دامت على ذلك جيرته. ولم يزل على ذلك إلى أن رحل ابن المرحل إلى المقابر وعد بعد أن كان موجوداً في الغوابر. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 وكان عمه الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى يحسده، ويقول: لا إله إلا الله ابن الجاهل طلع فاضلاً وابن الفاضل طلع جاهلاً يعني بذاك ابنه. وكان قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري عينه للقضاء وأشار به على السلطان إما لقضاء مصر أو لقضاء الشام، ولم يكن فيه ما يمنعه عن ذلك غير صغر سنه. وجهزه السلطان على البريد إلى دمشق وولاه تدريس الشامية البرانية عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فوصل إليها يوم الثلاثاء تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان الناس قد أوهموا الأمير سيف الدين تنكز ووصفوه بالدين المتين، فلما جاء كان في الميدان، فلما رآه ترجل له وجاء وقبل يده، فنزل بذلك من عينه. وأخبرني جماعة أن دروسه لم تكن بعيدة عن دروس الشيخ كمال الدين لفصاحته وعذوبة ألفاظه. وباشر نيابة الحكم عن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي بدمشق في الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاثين وسبع مئة. محمد بن عبد الله بن محمد الأموي المروي الشيخ الأديب محب الدين أبو عبد الله المغربي المعروف بابن الصائغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 رأيته بالقاهرة مرات، واجتمعت به في دروس شيخنا العلامة أثير الدين وغيرها. وسمعت أنا وهو " صحيح " البخاري بقراءة الشيخ شهاب الدين بن المرحل النحوي على الشيخ فتح الدين وأخيه بالقاهرة أبي القاسم بالظاهرية بين القصرين، فكان هذا الشيخ محب الدين يأتي بفرائد في أثناء السماع مما يتعلق بالعربية الغريبة واللغة. وكان يعرف العروض معرفة تامه، ويجيد الكلام على غوامضها الخاصة والعامه. وأما العربية فكان عنده لبابها، ولديه تجتمع أبوابها، ذهنه الخارق فيها كالنار إذا توقدت، وحلها بيده إذا تعقدت. وشعره فائق جزل، يسلك به طريق الجد لا الهزل، أنشدني منه كثيرا، وحباني منه لؤلؤاً نظيماً ونثيرا. وكان يعاني اللعب بالعود، ويطيب وقته بالأماني والوعود. ولم يزل على حاله إلى أن سكت المحب فما نبس، وصح عنده من أمر الموت ما التبس. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وكان قد كتب إلي وأنا بالقاهرة: صلاح الدين يا رب المقال ... ويا ترب المعاني والمعالي تصدق لي بصرف زكاة جاه ... ففيها إن أردت صلاح حالي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 فكتبت جوابه مع شيء أهديته إليه: محب الدين في الآداب شيخ ... نوى لي أن يعرض بالنوال إذا ما الجاه لم أك فيه وجهاً ... فما لي لا أجود بفضل مالي وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح القاضي نجم الدين محمد بن محمد الطبري قاضي مكة، وقد أنشده القاضي خمسة أبيات على هذا الوزن والروي، وستأتي في ترجمة المذكور إن شاء الله تعالى: شرع الهوى هوني لعزة جاهك ... فارثي لذلة موقفي بجاهك رقي لجسم رق من دنف الهوى ... وشفاه ما تحويه حو شفاهك لا تعجبي إن ذبت شوقاً واعجبي ... أن ليس إلا سقم طرفك ناهك وسن نفى وسني فنمت ولم أنم ... ما ليلة الساهي كليل الساهك بطحاء وادي الأثل لولا تيهها ... ونفارها ما حمت في أتياهك ولما وخدت بها شوازب ضمراً ... أوردتها عشراً ثغاب مياهك بدلت سدرك بالسدير وما حوى ... ونفائح النسرين فيح عضاهك وهجرت طيب كرى وواصلت السرى ... بمشقة التهجير في إدماهك أدعوا بسعدى أين يمن سراي إذ ... أكرهتم وعففت عن إكراهك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 نصبوا علي رحاضهم لكنهم ... شاهت وجوههم لصولة شاهك جبت الشعاب وآل شعبة عندما ... سدل الظلام رداءه برداهك أعشو إلى حلي الترائب خفيةً ... إذا غمض الأتراب عن أفكاهك ادني اللجين لعسجدي شاحب ... صدئ الإهاب بما اكتساه ساهك اسقي عهاد الدمع عهداً باللوى ... أنسيته لشفاي لا لشفاهك زمناً أردد آهة المشغوف من ... حرقي فيحيكيني ترجع آهك أنضارتي اشتعل المشيب فأنضبت ... شعل الحشا ما راق من أمواهك ينهى وينهكني مشيب صنته ... ولما عرفت بصون ناه ناهك حللك المفارق قد تنفس صبحه ... يا نفس هبي من كرى استعماهك يستبد هونك للنسيب فشرفي ... بشريف مكة منتج استبداهك قاضي الشريعة والمقيم منارها ... حيث المقام وحيث بيت إلهك بلدت في جوب البلاد ومدحه ... يشفي فينفي تهمة استبلاهك لولاه أوشكت الخمول فلازمني ... شكر الذي سنى لقاه لقاهك يا خير أرض الله قد رضي النوى ... رجل ثوى فأوى إلى أواهك القطب نجم الدين إشراق الدنا ... معنى العلا أسنى وجوه وجاهك من إن تشابهت الوجوه أقل لها ... من بعد هذا الذهن لاستشباهك إن يخف معناك السقيم فعامل ... بصحيح حكمته على أفقاهك روى الحديث فرويت ساحاتها ... يا سحب إذا حلت عرا أفواهك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 غيثاً أغاثك يا حجاز بدره ... وجلا هوامد أغبرت بجلاهك فاخضر مرعاك المبارك ممرعاً ... والتفت البهمى بغض شباهك جودي سماء يمن دعوة من سما ... رتبا يقل لها انتعال جباهك يا نفس إنك قد نقهت من الغنى ... ولقد غنيت اليوم في استنقاهك هذا الجواد لما حوى يمناه في ... إفقار كيس المال أم إرفاهك يسخو بما يوعى ويطبي ما يعي ... كم بين كنز نفيسة ونفاهك دارت رحى الأيام تبغي جاره ... فأجاره من كل داء داهك أم القرى قد جار من أم القرى ... بفناء بدنك كلها وشاهك ناسبت غرته وبيت نسيبه ... فأعدت ليس البدر من أشباهك يا همةً عن كل هم نزهت ... إلا العلا دومي على استنزاهك لسموت حين سمهت في شأو العلا ... أفردت فالأسماء في أسماهك يا فكرة بدهت بأبدع ملحة ... ما أقرب الإبداع من إبداهك عرضتها لمعارض لم يحكها ... أنى وقد لزمت قوافيها هك محمد بن عبد الله بن الحسين ابن علي بن عبد الله بن عمر بن عيسى ابن أحمد بن حسن، الشيخ الفقيه الصالح الزاهد عفيف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام مجد الدين أبي محمد الزرزاري الإربلي الدمشقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 سمع من شيخ الشيوخ الأنصاري، وإبراهيم بن خليل، وجماعة. حفظ " التنبيه "، ولما مات والده ولي تدريس الكلاسة مدة بعده. وكان إماماً بالقيمرية، ثم انتقل عنها إلى الظاهرية. حدث بالقاهرة ودمشق وبطريق الحجاز. توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده بحلب سنة خمسين وسبع مئة، وأثنى الناس عليه عند موته كثيراً. محمد بن عبد المجيد بن عبد الله القاضي سعد الدين بن فخر الدين بن صفي الدين ابن الأقفاصي. كان قد ولي نظر الخزانة بمصر، ولما توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك في سنة ثمان وسبع مئة توجه صحبته، وأظهر هناك شراً كثيراً وعسفاً. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة أربع عشرة وسبع مئة في ثامن عشري ذي الحجة. كذلك يقال في ألسنة العوام: " الأقفاصي "، وإنما هو الأقفهسي، بهمزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 مفتوحة وقاف ساكنة وفاء مفتوحة وبعدها سين مهملة، نسبة إلى أقفهس، وهي قرية من قرى مصر. محمد بن عبد المجيد بن أبي الفضل ابن عبد الرحمن بن زيد الحنبلي، الشيخ الفقيه الإمام المفتي بدر الدين أبو عبد الله. كان فاضلاً صالحاً مسجلاً، ليس في بلده له نظير، وكان يكتب الإسجالات والشروط كتابة مليحة خطاً ولفظاً. ويفتي الناس ويقرئهم. توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. محمد بن عبد المحسن بن الحسن شرف الدين الأرمنتي، قاضي البهنسا. كان فقيهاً نحوياً شاعراً ذكياً كثير الاحتمال، أريباً باذلاً للنوال. بنى مدرسة ورباطاً ومسجداً بالبهنسا. ورسخ بذلك قدمه في الخير ورسا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 ولم يزل على حاله إلى أن جاءه حتفه، ورغم بالموت أنفه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وسبعين وست مئة. وكان قد قرأ الفقه بالصعيد على خاله سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي، وتأدب به ولازمه، وأقام بمصر سنين يشتغل بها مع خاله، إلى أن ولي خاله فسار معه وتزوج ابنته، وكان ينوب عنه حيث كان، وكان قد عين شرف الدين المذكور لقضاء الإسكندرية، وطلب إلى القاهرة فحضر جمع كبير من أهل البهنسا وأظهروا الألم لفراقه، وسألوا القاضي جلال الدين القزويني ألا يغيره، فأعفاه، ورجع إلى البهنسا. ثم إنه عين لقوص، فلم يوافق، ومات رحمه الله تعالى ولم يعقب. وقال القاضي كمال الدين الأدفوي: أنشدني كثيراً من شعره ومنه: جز بسفح العقيق وانشق خزامه ... وفؤادي سل عنه إن رمت رامه وإذا ما شهدت أعلام نجد ... وزرود وحاجر وتهامه صف لجيرانها الكرام بيوتاً ... حالة الصب بعدهم وغرامه وترقق لهم وسلهم وصالا ... وقل الهجر والصدود علامه؟ عبدكم بعدكم على الود باق ... لم يغير طول البعاد ذمامه يا كرام النصاب إنا نراكم ... حيث كنتم بكل حي كرامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 قال: أنشدني لنفسه يجمع " العبادلة ": إن العبادلة الأخيار أربعة ... مناهج العلم في الإسلام للناس ابن الزبير وابن العاص وابن أبي ... حفص الخليفة والحبر ابن عباس وقد يضاف ابن مسعود لهم بدلاً ... عن ابن عمرو لوهم أو لإلباس وقال: حكى لي أن بعض عدول البهنسا حكى له أن امرأة حضرت مع زوجها إلينا لنوقع بينهما الطلاق، فرأيناه لا يشتهي ذلك، فكلمناها، فلم تقبل، فاوقعناه، فالتفت إلينا وأنشدت: لما غدا لأكيد عهدي ناقضاً ... وأراد ثوب الوصل أن يتمزقا فارقته وخلعت من يده يدي ... وتلوت لي وله " وإن يتفرقا " 1638 - ... محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن ابن عبد الغفار، الشيخ الفاضل الواعظ المسند المعمر، مسند الوقت، عفيف الدين أبو عبد الله الأزجي البغدادي الحنبلي الخراط، والده الدواليبي شيخ الحديث بالمستنصرية. سمع سنة أربع وأربعين من ابن الخير إبراهيم، وابن العليق، وابن قميرة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 وأخيه يحيى، وبعد الملك بن قينا، وأحمد بن عمر الباذبيني، وعجيبة الباقدارية، وطائفة أخرى، وسمع " المسند " كله بفوت، و" صحيح مسلم "، وانتهى علو الإسناد إليه. كان يقول: حفظت " اللمع " في النحو و" مختصر الخرقي ". وحج غير مرة. ووعظ بكلاسة دمشق، وسمع منه شيخنا الذهبي بالعلا وغيرها، وكان حسن المحاضرة، طيب الأخلاق، أخذ عنه الفرضي وابن الفوطي، وشيخنا البرزالي، وصفي الدين بن الخطيب، وسراج الدين القزويني، وشمس الدين بن خلف، وأخوه منصور، وعفيف الدين المطري، وخلق سواهم. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس، ودفن يوم الجمعة خامس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة ببغداد. ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. ومن شعره: كم قد صفت لقلوب القوم أوقات ... وكم تقضت لهم بالليل لذات فالليل دسكرة العشاق يجمعهم ... ذكر الحبيب وصرف الدمع كاسات ماتوا فأحياهم إحياء ليلهم ... ومن سواهم أناس بالكرى ماتوا لما تجلى لهم والحجب قد رمغت ... تهتكوا وصبت منهم صبابات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 وغيبتهم عن الأكوان في حجب ... وأظهرت سر معناهم إشارات شافي القلوب هو المحبوب يشهده ... صب له بقيام الليل عادات إذا صفا الوقت خافوا من تكدره ... وللوصال من الهجران آفات وكان ينظم المواليا والكان وكان. محمد بن عبد المحسن القاضي قطب الدين أبو عبد الله بن مجد الدين بن تقي الدين السبكي، قاضي حمص. مولده سنة أربع وثمانين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق بعدما نزل عن القضاء بحمص، وكان قد وليها في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل إلى أن ولي بعلبك في سنة ثلاث وستين وسبع مئة فأقام بها مديدة يسيرة، ثم عاد إلى حمص، وحضر إلى دمشق في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وسبع مئة وحصل له ضعف انقطع به إلى أن توفي في بكرة الجمعة مستهل جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة، ودفن بالصالحية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 وكان كثير السكون والميل إلى الموادعة والركون، لا يتحدث فيما لا يعنيه، ولا يؤسس الشر ولا يبنيه. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يركن إليه ويعتمد عليه. وروى عن ابن الحبوبي، وعلي بن محمد بن هارون الثعلبي وطائفة. وكان قد تفقه على الشيخ صدر الدين السبكي، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي أنه كان يستحضر من " الحاوي " جملة كبيرة، وكان كثير التلاوة رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الملك بن عمر الشيخ الإمام الزاهد القدوة شرف الدين الأرزوني. كان شيخاً مشهوراً بالصلاح، تام الشكل، أسمر، مهيباً جليلاً قليل الشيب مليح الهمة والعمة والشيبة والبزة، صاحب سمت وهدى ووقار. صحب الكبار وتعبد وانقطع سنة ست وتسعين وست مئة. محمد بن عبد الملك بن إسماعيل الأمير الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك السعيد بن السلطان الملك الصالح ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 العادل الأيوبي سبط الكامل وابن خالة صاحب الشام الناصر يوسف وابن خالة صاحب حماة. حدث عن ابن عبد الدائم. كان من أمراء دمشق الأكابر في الطبلخاناة، وكان ذكياً خبيراً، بصيراً بالورود في القضايا والصدور يعد في رؤساء الأمراء وسادة الصدور، ويجلس من المحافل الكبار في الصدور، ينبسط كثيراً مع لطافه، وينخرط في التنديب إلى سلك يزين عقوده من الزمان أعطافه، ونوادره عديده، وبوادره فيها عتيده، لو عاصره أبو العيناء لقال هذا هو الإمام، أو الجماز قفز وناوله هذا الزمام. أو أبو العبر لعثر، أو أشعب الطمع لسلا عما رأى وسمع. كانت تقع له نكت حاره، وتناديب إلى القلوب ساره، هزازة، خلابه، بزازة سلابه. ولم يزل يستدين وينفق ويستعين ممن لا يرفق إلى أن بهضه حمل الدين، وصار منه بمنزلة القذى في العين، وصار كلما نهض بهض. وكلما نسخ رسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 كخائض الوحل إذا طال العناء به ... فكلما قلقلته نهضة رسبا وأنجده الله أخيراً بالأمير سيف الدين تنكز فحجز عليه في إقطاعه، وترم الصاحب شمس الدين يتحدث له في مشتراه وابتياعه ووفاء ديونه وانتفاء غبونه. فصلحت حاله بعض الصلاح. وما تقدر على الإمساك كف تعودت البذل والسماح. وبقي على حاله حتى فقده الوجود، وترك العيون عليه بالدموع تجود. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة. وأوصى أن يدفن عند أبيه بتربة الكامل فما مكن، ودفن بتربة جدتهم أم الصالح، ووالدته وهي ربيعة خاتون بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبي بكر. وكان الملك المنصور صاحب حماة ابن خالته، وكان الملك العزيز صاحب حلب مزوجاً بخالته الأخرى. كان أولاً من أمراء دمشق، ثم نقل إلى حماة، ثم أعيد إلى دمشق، ولما حضر إليها اجتمع بأصحابه، فسألوه عن حماة، فقال: أنا ما كنت في حماة بل كنت في الأردو، يعني بذلك أن الملك المؤيد ابن خالته صاحب حماة يتكلم بالتركي. وعاشر الأفرم ونادمه وأحبه كثيراً وقربه، وكان لا يصبر عنه، وكان يوما هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل عند الأمير جمال الدين الأفرم وقد أحضر لهم على بكرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 سخاتير صنعها لهم وتأنق الطباخون بها، فقال الملك الكامل: يا شيخ أنا أحب السخاتير فقال صدر الدين: " حب الوطن من الإيمان " فانتكى الكامل منها، وكان قد تقرر بينهم أنه من سبق وحضر إلى حضرة الأفرم يركب الذي يجيء بعده ويدور في المجلس فتأخر الملك الكامل تلك الليلة إلى أن تحقق أن صدر الدين قد سبقه وجاء بعده، فقال الأفرم: أيش أخرك إلى هذا الوقت، قم يا شيخ اركبه، فقال: والله طيب إن غبنا ما تذكرونا، وإن جئنا تحملون علينا الكلاب! فقال صدر الدين: يا خوند ما يضيع له شي، استوفاها. قلت: والشيخ صدر الدين أخذ تنديبته من قول نصير الدين الحمامي، أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين اليعمري، قال: أنشدني من لفظه لنفسه النصير الحمامي: رأيت شخصاً آكلاً كرشةً ... وهو أخو ذوق وفيه فطن وقال ما زلت محباً لها ... فقلت من الإيمان حب الوطن ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، وأنشد فيه إجازةً: أيها اللائمي لأكلي كروشا ... أتقنوها في غاية الإتقان لا تلمني على الروش فحبي ... وطني من دلائل الإيمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 وقيل له: إن هلال رمضان ثبت البارحة، فقال: من رآه؟ فقالوا: مجد الدين الميت، فقال: هذا ميت وفضولي، ويخلط شعبان في رمضان. وحضر عند الصاحب شمس الدين ليلة، فلما أحضرت الحلوى وجاء البابا بالفوطة والماوردية ورش على يده، فأخذ الماورد ومسح به عينيه وقال: الحلوى رأيتها بعيني، وأما بيدي فما لمستها، لأن الصاحب كان قد أشغله بالحديث عنه حتى فرغت، فضحك الصاحب وأحضر له حلوى تخصه. وحكى لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر قال: جرى الحديث بيننا يوماً في حضرة الأفرم، فقلت المثل المشهور: " فقلت اصفعوني وردوا شبابي "، فقال: والله الأولى نقدر عليها الساعة والأخرى ما يقدر عليها إلا الله تعالى. ونظر ولده يوماً في حضرة الأفرم وهو واقف قدامه إلى بعض الفقهاء وقد لبس بابوجاً أزرق، فتعجب ولده من ذلك فقال: لا تعجب منه، هذا نصراني مقلوب. ووجدوه يوماً في الصيف وعليه فروة سنجاب، فقالوا: يا ملك في الصيف بفروة؟ فقال: أنا ما ألبس بالفصول، إلا إذا بردت لبست الفروة. وكان من أخص الناس بالشيخ كمال الدين الزملكاني، وكان إذا وقع بينه وبينه ركب فرسه ودار على أصحابه ومعارفه وقال: قد وقع بيني وبين ابن الزملكاني فلا تسمع في ما يقول، وكذلك يفعل الآخر. ودخل إليه الأمير شرف الدين حسين بن جندر يعوده في مرضه، وكان قد طلب إلى الديار المصرية وأخذ معه ثلاث مئة درهم فقال: هذه برسم الطبيب، فقال: بالله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 دعها تحت الطراحة لئلا يبصرها أرباب الدين، وقال له يوماً: أمير شرف الدين ما نحن كلنا أولاد ناس، فما أعلم من أين داخلت هؤلاء التتر وصرت منهم، وما أعلم وجه المناسبة بينكم، نعم دينك هو الذي يجمع بينكم. وقلت أنا فيه: الملك الكامل في سعده ... نقص وفي تنديبه قد كمل كبيت شعر نصفه سائر ... حسناً وباقي لفظه قد خمل وكان الملك الكامل قد باشر شد الأوقاف بدمشق وصار يولي ويعزل، فغضب ابن صصرى لذلك، وترك الكلام في الأوقاف، فصار الملك الكامل يصرف مال الأوقاف الحكمية بقلمه إلى أن وصل كتاب السلطان لقاضي القضاة ابن صصرى في أواخر شهر رجب الفرد سنة تسع وسبع مئة باستمراره على نظر الأوقاف، فانشرح لذلك وتكلم على عادته في الأوقاف. ولم يزل الكامل في شد الأوقاف إلى أن عزل بالأمير سيف الدين بكتمر المنصوري لما وصل الناصر من الكرك، وكان الملك العادل كتبغا قد أمره في المحرم سنة تسع وتسعين وست مئة لما كان بدمشق. محمد بن عبد المنعم شرف الدين بن المعين المنفلوطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 كان فقيهاً شافعياً، أديباً شاعراً تفقه بالشيخ نجم الدين البالسي وغيره، وقرأ الأصول على الشمس المحوجب. وكان مقبولاً عند الحكام، واختصر " الروضة "، وتكلم على أحاديث " المهذب " وسماه " الطراز المذهب ". وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومن شعره: ما للمليحة ما رعت حق الإخا ... لمحبها يوماً ولم تدر السخا أضحت رياح صدودها لمحبها ... نكداً عواصف بعدما كانت رخا وعزيزة بالدل ظلت لعزها ... متذللاً أبغي لديها منتخا سفكت دمي عمداً وآية سفكها ... في الخد إذ أضحى به متضمخا كم أثبتت للصب آية صدها ... منها أبت لثبوتها أن تنسخا محمد بن عبد الوهاب بن عطية الفقيه المحدث ناصر الدين الإسكندراني. قال شيخنا الذهبي: صحبته بالثغر، وسمعت بقراءته على الغرافي، وكان قارئ الحديث عنده بالأبزارية ويؤم بمسجد، وكان دينا عاقلاً، مليح الخط. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده في حدود الستين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 محمد بن عبد الوهاب بن عبد العزيز ابن الحسين بن الحباب، القاضي نجم الدين المصري، وكيل بيت المال بالقاهرة. روى " جزء الحفار " عن علي ابن مختار بن الجمل، وسمع أيضاً من جده وابن الجميزي. توفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده في شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وست مئة. وكان موصوفاً بالأمانة والنزاهة، وهو من بيت رئاسة في مصر. محمد بن عبد الوهاب بن علي القاضي جمال الدين بن السديد الإسنائي. نشأ في سعادة ورئاسة، وسيادة ونفاسه. وكان له خدم، وأتباع وحشم، وكانت فيه صداره، وعليه رونق من السعادة والنضاره. وتوفي رحمه الله تعالى ... وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 ومولده سنة ثمان وسبعين وست مئة. اشتغل بالعلم، وقرأ الفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وأجازه بالفتوى. وتوجه إلى القاهرة، وسمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وقرأ على شيخنا أثير الدين " الفصول في النحو "، وعلى الخطيب الجزري " الأصول " وأجازه بالفتوى، وأجازه الشيخ فخر الدين عثمان بن بنت أبي سعد. وتعدل وجلس بالقاهرة وقوص، وتولى العقود، واستنابه زين الدين إسماعيل السفطي في الحكم بأرمنت، وتولى الخطابة بإسنا، وتولى الحكم بقمولا وقنا وقفط وأصغون، ثم ولي النيابة بقوص ثم إن قاضي القضاة جلال الدين القزويني قسم على قوص بينه وبين شهاب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن حرمي القمولي، فتولى جمال الدين قوص والبر الشرقي وذاك في البر الغربي، وتزوج ببنت ابن حرمي للائتلاف، وأقبل جمال الدين على المتجر بجملته، واستمال ابن حرمي الوالي بالهدايا. فاتفق أن وقع الغلاء في قوص سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وكان عند جمال الدين تقدير ألفي إردب وخمس مئة إردب، فقال الوالي لجمال الدين: إنه يبيع بالسعر المعروف، فأراد التأخير لغلاء السعر، فكتب الوالي إلى السلطان، فبرز مرسومه بالحوطة عليه وإحضاره، وصرف عن القضاء. ثم إن جمال الدين تولى النيابة خارج باب النصر بالقاهرة بعد سنتين وشهرين مديدة لطيفة، فلما تولى قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 محمد بن عثمان بن أبي الوفاء القاضي بدر الديم بن فخر الدين العزازي، أحد كتاب الدرج بدمشق. كان حسن البزة والسمت، كثير الوقار يلزم الصمت، عديم الشر، حافظ السر، يكتب خطاً حسنا، يطلع به في روض الطرس ورداً وسوسنا. لم يزل على حاله إلى أن غاب بدره فما طلع، وسار على النعش وما رجع. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ست وسبعين وست مئة. حج واستصحب معه الشيخ إبراهيم الصياح، وعادله في المحمل. وكان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان. قال شيخنا البرزالي: وسمع معنا على الشيخ تقي الدين الواسطي عدة أجزاء. قلت: وكان كثير الملازمة بسوق الكتب بحسر اللبادين يوم الجمعة، ويقتني الكتب النفيسة، وملك منها ومن الكرند شيئاً كثيراً، وكان عنده من والده - وقد تقدم ذكره في حرف العين - أشياء نفيسة مثل السرطان البحري والكحل الأصبهاني والنصفية في داخل قصبة، إلى غير ذلك. إلا أنه كان إذا أنشأ شيئاً يأتي بما يضحك منه. ولما توفي رحمه الله تعالى طلبت أنا من الرحبة ورتبت مكانه، وكان في آخر أمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 قد حنا عليه الأمير سيف الدين ألجاي الناصري الدوادار ووعده أن يكون من جملة موقعي الدست فعاجلته المنية ولم تبلغه الأمنية. محمد بن عثمان الصاحب الأمير نجم الدين البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي. كان فيه كرم زائد، وجود يأتي لعافيه بالصلة والعائد، وعنده شهامه، ولديه همة وصرامه. ودرس أولاً ببصرى، وأتى بفوائد في دروسه تترى، وخدم السلطان الملك الناصر وهو في الكرك، ونقل إليه ما أراد فما بقى ولا ترك، وسعى له في الباطن مع أمراء دمشق بملطفات إلى أن انبرم له الأمر، وصار لهباً ذلك الجمر، فرعى له حقه، وملكه من السؤدد رقه. فولي الحسبة، ثم نظر الخزانة، ثم الوزارة، وانتقل بعد ذلك إلى الإمارة، فأعطي طبلخاناه، ولم يلبس زي الأمراء، وأنف منه للازدراء. ولم يزل على حاله إلى أن انبثق نجمه وضمه رجمه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 ووصل من مصر إلى دمشق في سابع صفر سنة عشر وسبع مئة متولياً وزارة دمشق، وترك الحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، وأظنه استمر في الوزارة إلى أن تولاها الصاحب عز الدين بن القلانسي ثالث ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة، ولبس هو للإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة ولم يغير ملبوسه، وكان قد وصل من مصر إلى دمشق في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة. وقد تولى الحسبة عوضاً عن أمين الدين يوسف العجمي، ثم إنه وصل من مصر أيضاً متولياً نظر الخزانة عوضاً عن شمس الدين بن الخطيري مضافاً إلى الحسبة في أواخر شهر رمضان سنة سبع وسبع مئة. ثم إنه عزل من الحسبة في عشري جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة بالشيخ عز الدين بن القلانسي. وقد تقدم ذكر أخيه الشيخ صفي الدين أبي القاسم بن عثمان في مكانه، وذكر أختهما أم يوسف فخرية الصالحة في مكانه من حرف الفاء. محمد بن عثمان بن يوسف الصدر الكبير القاضي بدر الدين أبو عبد الله الآمدي ثم المصري الحنبلي، المعروف بابن الحداد. تفقه بمصر، وحفظ " المحرر " وتميز، ثم دخل في الكتابة، واتصل بالأمير قراسنقر، ودخل معه إلى حلب وولي نظر ديوانه والأوقاف والخطابة. ولما تولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 دمشق ولى ابنه خطابة دمشق، انتزعها من الخطيب جلال الدين القزويني، ثم وصل توقيع جلال الدين بعد أيام من مصر بإعادته. ثم ولي الحسبة عوضاً عن فخر الدين البصروي. ووصل إلى دمشق من مصر في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، ثم إنه عزل بابن مبشر، ثم أعيد إليها في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. وتولى نظر البيمارستان النوري، ثم نظر الجامع الأموي. وكان له سماع من القاضي شمس الدين بن العماد، وذكر لقضاء دمشق في وقت. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. محمد بن عثمان الصدر المقرئ صلاح الدين ابن الشيخ المقرئ شمس الدين بن محمد بن منيع بن عثمان بن شاد البشطاري. كان مقرئاً، رئيس المؤذنين بالجامع الصالحي خارج باب زويلة بالقاهرة، كانت له قراءات في عدة أماكن، وفيه مروءة وعصبية، وله مكانة عند الناس. توفي رحمه الله تعالى ليلة عبد الأكبر سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن ثاني يوم بالقرافة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 محمد بن عثمان بن أبي الحسن ابن عبد الوهاب الأنصاري، قاضي القضاة، شمس الدين بن الحريري، قاضي القضاة بدمشق وبالقاهرة. سمع من ابن أبي اليسر، وابن عطاء، والجمال بن الصيرفي، والقطب بن أبي عصرون، وجماعة. وتفقه فبرع في الفقه، وحفظ " الهداية " وغيرها، وأفتى ودرس وتميز. وكان من قضاة العدل، والحكام الذين خص ستر وقارهم بالهدل، نظيف البزه، صلب القناة في الحق عند الغمز والهزه، عليه مهابة ووقار، وسمت ترمى النجوم عنده بالاحتقار، وله عباره، وشارة وإشاره، وكان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، حميد الأحكام، صارماً على الخاص والعام، متين الديانه، وصين الصيانه، له أوراد يقوم بأوقاتها، ويعد ذلك لنفسه من أقواتها. وكان يراعي الإعراب في كلامه، وفي فصله القضاء عند أحكامه، ومع نسائه وخدامه، إلا أنه كان مفرطاً في تعظيم نفسه، ورؤية الناس من أبناء جنسه. وبهذا لا غير نقم عليه، وبه يشار عند الذم إليه. ولم يزل على حاله إلى أن لبس الحريري قطن أكفانه، وأطبق القبر على إنسانه ما يطول من غمض أجفانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة يوم السبت رابع جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وفي شهر ربيع الأول ورد البريد يطلبه إلى مصر متولياً قضاء القضاة بها عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين السروجي، وولاه السلطان أيضاً تدريس الناصرية والصالحية وجامع الحاكم. وكان وهو بدمشق قد عزل بقاضي القضاة شمس الدين الأذرعي، وطلب للأذرعي توقيع شريف من الشام، فلما كان في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة وصل البريد من مصر ومعه توقيع فتوهم البريدي أنه لقاضي القضاة ابن الحريري، فتوجه به إليه، وحضر أصحابه إليه للهناء به، ففتح التوقيع وقرئ، ولما وصل القارئ إلى الاسم وجده غير فطوى التوقيع، وحصل لقاضي القضاة خجل من هذا الأمر، وكانت هذه واقعة غريبة. ولما أقام بمصر قاضياً كان لبكتمر الساقي إصطبل بأرض بركة الفيل لورثة الملك الظاهر وقفاً، فتعرض إليهم وقال: هذه الأرض زادت معكم، فتوجه وكيل بيت المال ونائب الحكم لقياس الأرض فما زادت شيئاً، ثم أرسلوهم مرة أخرى وتحيلوا على الزيادة وقالوا: أعطونا أرض الإصطبل بالزيادة، فقالوا: نحن نشهد علينا بقبض الأجرة ونعوض، فقيل للسلطان: في مذهب أبي حنيفة يجوز التعويض، فقال لابن الحرير عن ذلك، فقال: هذا رواية عن أبي يوسف وحده، وما أعمل بها، فولى السلطان القاضي سراج الدين عمر صهر القاضي السروجي قاضياً وعزل ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 الحريري، وحكم سراج الدين بذلك وبقي على القضاء مدة يسيرة، ثم مات، وأعيد ابن الحريري، وعظمت مكانته. وكان فقيهاً جيداً، له محفوظات جيدة، ودرس بعدة مدارس، وأفتى وشغل الطلبة وولي قضاء دمشق مدة سنتين، وانفصل منه، ثم طلب لقضاء مصر، وكان موصوفاً بالنزاهة لا يقبل لأحد هدية، وكان له حرص على خلاص الحقوق وفصل القضايا، وصحبته جيدة، ومودته أكيدة، ينفع أصحابه ومعارفه. وكانت جنازته حافلة، وعمل عزاؤه بالجامع الأموي، وكان قد سمع الحديث على النجيب المقداد، وابن علان، وغيرهم. وحدث بدمشق والقاهرة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن عشرة من الشيوخ، قرئ عليه غير مرة. وفي قاضي القضاة شمس الدين الحريري يقول شمس الدين الباذرائي: مذ أسلمتني عين أم سالم ... إلى الردى يئست من مسالمي وكلما قل نصيبي عندها ... تكاثرت في حبها لوائمي يا مقلتي أنتما نعمتما ... والقلب يشقى وهو غير جارم جنيتما الذنب فلا أقل من ... أن تبكيا قلبي بدمع ساجم عيناي عونان علي وهما ... مني وهل بعدهما من راحم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 قلبي غمر في اتباع غيه ... يا ليتني بدلته بحازم منها في المديح: قد ختم الدهر به أجواده ... وإنما الأعمال بالخواتم وقال يمدحه أيضاً: أشكو إلى عثمان جود ابنه ... فقد رماني في الطويل العريض قد صيد الباخل بحر الندى ... وعلم المفحم نظم القريض والشيء لا يظهر تمييزه ... للناس إلا بوجود النقيض له يد فياضة بالندى ... كالبحر إلا أنها لا تغيض عجبت من حاسده كيف لا ... يقضي أسى وهو المعنى المريض قلت: البيتان الأولان من هذه القصيدة مأخوذان من قول الأول: ما رأينا من جود فضل ابن يحيى ... ترك الناس كلهم شعراء محمد بن عثمان بن أسعد ابن المنجا بن بركات بن المؤمل، الرئيس الإمام، شيخ الجماعة من الحنابلة، وجيه الدين أبو المعالي بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي. سمع من ابن اللتي حضوراً، ومن جعفر الهمداني، ومكرم، وسالم بن صصرى، وخضر بن المقير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 ودرس بالمسمارية، وكان صدراً مبجلا، وجواداً يذر الغمام مبخلا، ديناً محترما، صيناً لا يرى منه وقت من البر محترما، محباً للأخيار، مجانباً للأغيار، له تسرع في الخير، وهمة تسابق البرق فضلاً عن الطير. ولم يزل على حاله إلى أن هلك ابن المنجا، وأصبح على فراشه مسجى. وتوفي رحمه الله تعالى بدار القرآن في شهر شعبان سابعه سنة إحدى وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وكانت له أملاك ومتاجر، وله بر وأوقاف، أنشأ داراً للقرآن بدمشق ورباطاً بالقدس، وباشر نظر الجامع الأموي تبرعاً، وكان من أولي الاقتصاد في ملبسه مع سعة دائرته وسعادته. محمد بن عثمان بن عبد الله سراج الدين أبو بكر الدرندي، الفقيه الشافعي. قرأ القراءات على نجم الدين عبد السلام بن حفاظ صهره، وتصدر للإقراء بقوص سنين كثيرة، وانتفع به جمع كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 وكان متقناً ثقة، وسمع من الحافظ ابن الكومي، وتقي الدين بن دقيق العيد، ومحمد بن أبي بكر النصيبي، وعبد النصير بن عامر بن مصلح الإسكندري وغيرهم، وحدث بقوص. وقرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وسراج الدين بن دقيق العيد ودرس، وناب في الحكم بقفط وقنا وقوص. واستمر في النيابة إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. وكان يستحضر متوناً كثيرة من الحديث والتفسير والإعراب، واختلط في آخر عمره. محمد بن عثمان بن محمد ابن علي بن وهب بن مطيع، جلال الدين ابن علم الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. سمع جده، والحافظ الدمياطي، والفقيه المقرئ تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصائغ، ومن أحمد بن إسحاق الأبرقوهي، وغيرهم. واشتغل بالمذهبين المالكي والشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 وقرأ " مختصر المحصول " لجد والده الشيخ مجد الدين وكان يذكر بخير وينسب إلى دين. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وكان قاضي القضاة ابن جماعة يؤثره ويبره، ودعه مرةً فأعطاه ذهباً وفضة من ماله، وكتب له بتدريس دار الحديث بقوص، فأقام بها مدة. وتوفي بالقاهرة سنة ست أو سبع وعشرين وسبع مئة. محمد بن عثمان بن أبي بكر قاضي القضاة شرف الدين النهاوندي، قاضي صفد وغيرها. كان من أعرف الناس بالمداراه، وأخلبهم في المحادثة والمجاراه، له دربة بسياسة الخصوم ومصالحهم، وقودهم إلى تراضيهم بعد تشاحيهم ومشاحتهم، وله قدرة على مداخلة النواب، والعبور إلى رضاهم من كل باب، وكان ممتع المحاضره، شهي المسامره، لطيف الأخلاق، ذا كرم دفاق، تنقل في البلاد كثيرا، وقاسى في آخر عمره قلةً وفقراً كبيرا. ولم يزل على حاله إلى أن ضمه ترابه وفارقه أحبابه وأترابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة أربعين وسبع مئة بالقاهرة. كان أولاً قد تولى قضاء صفد بعد والده المقدم ذكره في مكانه من حرف العين، وأقام بها إلى أن طلب إلى مصر، وانحرف عليه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وعزله بالقاضي فتح الدين القليوني، ثم إن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى حنا عليه وولاه قضاء عجلون، ثم قضاء نابلس، ثم ولاه قضاء القضاة بطرابلس، ثم إنه أعيد إلى صفد بعد القاضي حسام الدين القرمي، ثم إنه نقل إلى قضاء طرابلس، ثم أعيد إلى صفد بعد القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي فيما أظن وأقام بها إلى أن تغير عليه الأمير سيف الدين تنكر، فعزله بالقاضي شمس الدين الخضري، فأقام في بيته بصفد بطالاً نحواً من أربع سنين، ثم إنه توجه إلى القاهرة ونزل عند الأمير سيف الدين أرقطاي لما بينهما من الصحبة، فمات هناك في التاريخ. محمد بن عثمان بن حمدان شمس الدين الثعلبي المعروف بابن البياعة. كان شاعراً، مدح الأمير علم الدين الدوادار وغيره، وكان مشد الرقيق، يخدم في الجهات السلطانية. توفي رحمه الله تعالى حادي عشر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 ومن شعره: نعم غرامي بنجد فوق ما زعموا ... أفنى وأبقى وهذا بعض ما علموا حدث فديتك عن ذاك الحمى وأعد ... ففي حديثك ما يشفى به الألم ليس الحمى غير قلبي والذي به ... ففيه ثأرهم بالشوق يضطرم بانوا فبان الغضى ذاو ومنهله ... غور وأنواره من بعدهم ظلم خيمت يا وجد في قلبي لفقدهم ... فلا رأت وحشةً من أهلها الخيم ولا تغير واديهم ولا أفلت ... بدوره وسقت أكنافه الديم فالقلب في حرق والطرف في غرق ... والصبر منثلم والدمع منسجم محمد بن عثمان بن أحمد ابن عثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل، الصدر الفاضل الحكيم فتح الدين أبو عبد الله الشيخ جمال الدين بن أبي الحوافر القيسي. سمع من النجيب الحراني " مشيخة " ابن كليب، و" مجالس " ابن مسلمة، و" مجالس " الخلال، وحدث، وكان طبيباً معروفاً بالقاهرة. توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة. محمد بن عثمان بن محمد الفقيه الإمام شمس الدين الأصبهاني المعروف بابن العجمي الحنفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 كان مدرساً بالإقبالية للحنفية، وفيها توفي رحمه الله تعالى في نصف شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ودرس أيضاً بالمدينة النبوية. سمع من ابن البخاري " مشيخته "، وكان فيه وسواس في الطهارة وديانة وانجماع عن الناس، وجمع منسكاً على مذهبه، وولي تدريس الإقبالية بعده قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي، وأثنى الناس على درسه وفصاحته. محمد بن عدنان بن حسن الشيخ الإمام العابد الشريف السيد محيي الدين العلوي الحسيني الدمشقي الشيعي، شيخ الإمامية وكبيرهم. ولي مرةً نظر السبع، مات ولداه زين الدين حسين وأمين الدين جعفر وهما من جلة رؤساء دمشق، باشر الأنظار ونقابة الأشراف، وتقدم ذكرهما في مكانهما، فاحتسبهما عند الله تعالى. وأخبرني غير واحد أنه لما مات كل منهما كان يسجيه قدامه وهو قاعد يتلو القرآن ولم تنزل له دمعة، وولي النقابة في حالة حياته ابن ابنه شرف الدين عدنان بن جعفر إكراماً لجده. وكان محيي الدين ذا تعبد زائد وولاية وتلاوة دائمة وتأله، وانقطع بالمزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 وكان يترضى عن عثمان وعن غيره من الصحابة، ويتلو القرآن ليلاً ونهاراً، ويناظر منتصرا للاعتزال متظاهراً بذلك. توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. محمد بن أبي العز بن مشرف ابن بيان الأنصاري الدمشقي، الشيخ الجليل، المسند المعمر شهاب الدين البزاز، شيخ الرواية بالدار الأشرفية. روى الصحيح غير مرة عن ابن الزبيدي، وحدث أيضاً عن ابن صباح والناصح وابن المقير، ومكرم، وابن ماسويه، وتفرد في وقته. وكان حسن الإصغاء جيد الخط. أخذوا عنه ببعلبك ودمشق وطرابلس وأماكن، وعاش سبعاً وثمانين سنة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سابع ذي الحجة. وهو أخو نجم الدين أبي بكر بن العز بن مشرف الكاتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 محمد بن عقيل بن أبي الحسن ابن عقيل نجم الدين البالسي، أحد أعيان الشافعية وفضلائها بالديار المصرية. سمع من الفخر بن البخاري وغيره بدمشق، وسمع ببلبيس من علي بن عبد الكريم، والفضل بن رواحة وغيرهما. وبالقاهرة من ابن دقيق العيد، وناب في الحكم بمصر عن ابن دقيق العيد، وولي قضاء بلبيس ودمياط عن قاضي القضاة ابن جماعة، وولي نيابة الحكم ظاهر القاهرة بالحسينية. ودرس بالمدرسة الطيبرسية بمصر وبالمدرسة المعزية، وبزاوية الدوري بالجامع العتيق وبالمسجد بالشارع خارج القاهرة. وصنف في الفقه مختصراً حسنا لخص فيه كتاب " المعين "، وشرح " التنبيه " شرحاً جيداً، ولم يكمله، واختصر " كتاب الترمذي في الحديث ". وكان قوي النفس، حصل بينه وبين فخر الدين ناظر الجيش بسبب أنه ركب لرؤيا الهلال لشهر رمضان ورجع والمديرون أمامه يصيحون على العادة، فمروا على دار فخر الدين، فأهان المديرين، وشق ذلك عليه وانزعج، وتكلم في ذلك، وكتب محضراً، وجرى في ذلك كلام، ولوطف وسئل على أن يجتمع بفخر الدين فلم يفعل. وطلب منه قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضية فتوقف فيها وصرف نفسه، وكان ينوب عنه بمصر، ثم استرضي وعاد. قال كمال الدين الأدفوي: جئته مرة وهو راكب، وطلبت منه كتاباً من وقف المدرسة المعزية، فرجع إلى المعزية من دار النحاس بمصر فأخرج الكتاب وأرسله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 إلي، وكان يؤثر مع ضعف حاله، قانعاً باليسير، مقللاً من المأكل والملبس. دارت الفيتا عليه بمصر، واشتغل طلبة مصر عليه. وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ستين وست مئة. قلت: وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. محمد بن علي بن محمد بن الملاق بالتخفيف في اللام، القاضي بدر الدين الرقي، الفقيه الحنفي. سمع من بكبرس الخليفتي " الأربعين الودعانية " وسمعها منه الدواداري، وأجز للدماشقة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. ومولده سنة تسع عشرة وست مئة. محمد بن علي الأمير شهاب الدين العقيلي، نائب الدواداري في شد الدواوين بالشام. قتل في أواخر سنة سبع وتسعين وست مئة، وكان قد شاخ وأسن وسمر قاتله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 محمد بن علي بن محمد بن علي ابن منصور المؤمل بن محمود البالسي، المسند عماد الدين أبو المعالي. كان يشهد على الحكام مدة طويلة، وأسمعه أبوه حضوراً وسماعاً واستجاز له من جماعة ببغداد ومصر ودمشق، وانتفع به الناس، وحدث بالقاهرة ودمشق. ومن شيوخه حضوراً السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة القرشية، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، والضياء المقدسي الحافظ، وسالم خطيب عقربا، وعمر بن المنجا، وإبراهيم الخشوعي، وإسحاق بن طرخان الشاغوري، وعتيق السلماني، وعبد الحق بن خلف وعبد الملك بن الحنبلي، وعلي بن عبد الصمد الرازي، وعيسى الداركي، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً جمع فيه شيوخه بالسماع والحضور والإجازة على حروف المعجم، وحدث به. وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده في صفر سنة ثمان وثلاثين وست مئة بدمشق. محمد بن علي بن وهب بن مطيع الإمام العلامة شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ الإمام مجد الدين المعروف بابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي. سمع من ابن المقير، وابن الجميزي، وابن رواج، والسبط، وعدة. وسمع من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 ابن عبد الدائم، والزين خالد بدمشق وخرج لنفسه " أربعين تساعيات " ولم يحدث عن ابن المقير وابن رواج، لأنه داخله شك في كيفية التحمل عنهما. كان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى إماماً في فنونه، غماماً فيما يرسله من الفوائد في كلامه وعيونه، مفسراً، محدثا، سبق في هذين من كان عجلاً أو متلبثاً، فقيهاً مدققا، قام بفروع المذهبين محققا، أصولياً أشعريا، حقيقاً بانفراده في ذلك حريا، نحوياً أديبا، ناظماً ناثراً عجيبا، لا يباريه في كل فنونه مبار، ولا يجاريه في مضمارها مجار، ولا تعلق له الريح إذا أم غايةً بغبار. وإذا خطاب القوم في البحث اعتلى ... فصل القضية في ثلاثة أحرف وكان ذكياً غواصاً على المعاني، قناصاً لشوارد ما يحاوله من العلوم ويعاني، وافر العقل، سافر الحجب عن وجوه النقل، كثير السكينه، لازم الوقار والأبهة الركينه، بخيلاً بالكلام، قل أن يسمع منه غير رد السلام، شديد الورع، مديد الباع إذا قام في أمر شرعي وشرع، ملازم السهر والسهاد، مداوم المطالعة في استخراج ما ينتفع به في العبادة العباد، وكانت كفه تتخرق، وتدع الغمام حسداً لجوده بنار البرق يتحرق، عديم الدعاوى، كثير الشكر قليل الشكاوى، بصيراً بعلل المنقول، خبيراً بغلل المعقول: يروي فيرى كل ذي ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام ببديهة في العلم يقسم من رأى ... ذاك التسرع أنه السهام وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها. وهؤلاء الذين أشار إليهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " يبعث الله على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها ". كان الأول على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المئة الثانية الشافعي رضي الله عنه، وعلى رأس المئة الثالثة ابن سريج، وقيل: أبو الحسن الأشعري، ويمكن الجمع بينهما، فإن الأشعري جاء لأصول الدين، لأن المعتزلة كانوا قد طبقوا الأرض فحجزهم رضي الله عنه في قموع السمسم، وابن سريج جاء لتقرير الفروع. وعلى رأس المئة الرابعة أبو حامد الإسفراييني، وقيل: سهل بن أبي سهل محمد المقول فيه النجيب بن النجيب، كان أحد عظماء الشافعية الراسخين في الفقه والأصول والحديث والتصوف. وعلى رأس المئة الخامسة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. وعلى رأس المئة السادسة الإمام فخر الدين الرازي. وعلى رأس المئة السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. ومن سعادة الشافعية أن الجميع شافعيون. فإن قلت: فكيف تعمل في عمر بن عبد العزيز؟ قلت: ما كانت المذاهب الأربعة ظهرت ذلك الزمان. وقد أنشد شيخ من أهل العلم في مجلس ابن سريج: اثنان قد مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السؤدد الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقياً لتربة أحمد فصاح ابن سريج وبكى، وقال: لقد نعى إلي نفسي، ومات في تلك السنة رحمه الله تعالى. وزاد على ذلك بعض الفقهاء فقال: والرابع المشهور سهل محمد ... أضحى عظيماً عند كل موحد يأوي إليه المسلمون بأسرهم ... في العلم إن جاؤوا بخطب مؤبد لا زال فيما بيننا خير الورى ... للمذهب المختار خير مجدد وأنشد من لفظه لنفسه مولانا قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب الأنصاري السبكي الشافعي مكملاً على الأبيات الأولى التي في ابن سريج: ويقال إن الأشعري الثالث ال ... مبعوث للدين القويم الأملد والحق ليس بمنكر هذا ولا ... هذا وعلمهما اقرأن فعدد هذا لنصرة أصل دين محمد ... لنظير ذلك في فروع محمد وضرورة الإسلام داعية إلى ... هذا وذاك ليهتدي من يهتدي وقضى أناس أن أحمد الأسفرا ... ييني رابعهم فلا تستبعد فكلاهما فرد الورى المعدود من ... حزب الإمام الشافعي محمد والخامس الحبر الإمام محمد ... هو حجة الإسلام دون تردد وابن الخطيب السادس المبعوث إذ ... هو في أصول الدين أي مؤيد والسابع ابن دقيق عيد فاستمع ... فالقوم بين محمد أو أحمد وانظر لسر الله أن الكل من ... أصحابنا فافهم وأنصف ترشد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 هذا على أن المصيب إمامنا ... أجلى دليل واضح للمهتدي يا أيها الرجل المريد نجاته ... دع ذا التعصب والمراء وقلد هذا ابن عم المصطفى وسميه ... والعالم المبعوث خير مجدد وضح الهدى بكلامه وبهديه ... يا أيها المسكين لم لا تقتدي ولم يزل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إلى أن طفئ سراجه الوهاج، وأثار عليه لواعج الأحزان وهاج. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده في البحر الملح وكان والده رحمه الله تعالى متوجهاً إلى مكة في البحر، فولد له عند الينبع في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة، ولذلك ربما كتب بخطه: " السجي ". ثم إن والده أخذه على يده فطاف به وجعل يدعو الله أن يجعله عالماً عاملاً. وقلت أنا فيه: ومن عند الطواف بخير بيت ... غدا يدعو أبوه له هنالك بأن يمتاز في عمل وعلم ... فقل لي كيف لا يأتي كذلك وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى قد تفقه بأبيه الشيخ مجد الدين بقوص، وبالشيخ عز الدين بن عبد السلام بالقاهرة وبطائفة، واشتهر اسمه في حياته وحياة مشايخه، وتخرج به أئمة. وكان لا يسلك المراء في بحثه، بل يتكلم بسكينة كلمات يسيرة، فلا يراد ولا يراجع. وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 قال: وافق اجتهادي اجتهاد الشافعي إلا في مسألتين أحدهما أن الابن لا يزوج أمه والأخرى ... ، وحسبك بمن يتنزل ذهنه على ذهن الشافعي. قلت: أما مسألة الابن وعدم تزويجه لأمه فلأنه متفرع عن أصلين: أحدهما: أبوه، ولا ولاية له في تزويج أمه، والثاني: أمه، وما لها أن تزوج ابنها، فبطل أن يكون للابن ولاية في تزويج أمه. وامتدحه شيخنا الإمام العلامة المحقق النظار ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بقصيدة طنانة جاء منها في مدحه: صبا للعلم صباً في صباه ... فاعل بهمة الصب الصبي وأتقن والشباب له لباس ... أدلة مالك والشافعي وستأتي بقية الأبيات في ترجمة الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن. وكانت ولايته قضاء القضاة بالديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مئة. وكان الشيخ تقي الدين لا ينام الليل إلا قليلاً ولا يقطعه إلا بمطالعة وذكر وتهجد، أوقاته كلها معمورة. وله التصانيف البديعة ك " الإلمام والإمام " شرحه ولم يكمله، ولو كمل لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 للإسلام مثله، وكان يجيء في خمس وعشرين مجلدة، وله " علوم الحديث " و" شرح العمدة " في الأحكام الذي أملاه على ابن الأثير فاضل العصر الذي تعرفه وهو إملاء، وشرح " مقدمة " المطرزي في أصول الفقه. وألف " الأربعين في الرواية عن رب العالمين " وشرح بعض " مختصر ابن الحاجب "، و" شرح ابن الحاجب " في فروع المالكية، وشرح " مختصر التبريزي " في فروع الشافعية. وكان رحمه الله تعالى قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك وقائع وحكايات عجيبة. وكان كثير التسري، وله عدة أولاد سماهم بأسماء الصحابة العشرة. ولما طلع إلى السلطان حسام الدين لاجين قام له وخطا عن مرتبته. وعزل نفسه عن القضاء مرات، ثم يسأل ويعاد. وكان شفوقاً على المشتغلين، كثير البر لهم. قال قطب الدين عبد الكريم: أتيت إليه بجزء سمعه من ابن رواج والطبقة بخطه، فقال: حتى أنظر في هذا، ثم عاد إليه فقال: هو خطي، ولكن ما أحقق سماعي له ولا أذكره. أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: حكى لي الشيخ قطب الدين السنباطي قال: بلغني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال: لكاتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 الشمال عشرين سنة. أو قال: " سنين "، الشك مني أنا في روايتي عن شيخنا تقي الدين - لم يكتب علي شيئاً، قال السنباطي: فاجتمعت به وقلت له: قال فلان عن مولانا كذا وكذا، فقال: أظن ذلك أو كذلك يكون المسلم، أو كما قال. وكان يقول: ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله تعالى. ولما جاءت التتار ورد مرسوم السلطان إلى مصر بجمع العلماء وقراءة البخاري، فقرؤوا البخاري إلى أن بقي ميعاد أخروه ليختم يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رئي الشيخ تقي الدين في الجامع فقال: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد ليكمل اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك؟ قال: نعم، فجاء الخبر بعد أيام بذلك، وذلك في سنة ثمانين وست مئة على حمص، ومقدم التتار منكوتمر. وقال عن بعض الأمراء وقد خرج من القاهرة إنه ما يرجع، فما رجع. وأساء شخص عليه الأدب فقال الشيخ: نعيت لي في هذا المجلس ثلاث مرات، فمات بعد ثلاثة أيام. واستمع له بعض أصحابه ليلةً وهو يقرأ، قال: فوصل إلى قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ". قال: فما زال يكررها حتى طلع الفجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 قلت: ويدل على ذلك تحريه في عدم الكلام، وأنه كان بخيلاً، وشعره فيه أيضاً ما يدل على ذلك. أنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته المصري من لفظه، قال: أنشدني الشيخ تقي الدين لنفسه: الجسم تذيبه حقوق الخدمه ... والنفس هلاكها علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة ومن العجيب ما نقلته أنا من بعض التعاليق أن هذين البيتين حفظهما تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، وكان فارضاً عاقداً بالحسينية، فاتفق أنه قال في وقت في الهاجرة بمسجد الجوادي، فرأى في النوم والدهما الشيخ مجد الدين، رحمه الله تعالى، فسلم عليه، وسأله عن حاله، فقال: يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ قال: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني هذين البيتين. وأنشدهما، فقال: سلم عليه وقل له: الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت والقلب معذب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت ونقلت أنا من خطه رحمه الله تعالى لنفسه: أفكر في حالي وقرب منيتي ... وسيري حثيثا في مصيري إلى القبر فينشئ لي فكري سحائب للأسى ... تسح دموعا دونها وابل القطر إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدأ العمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدره والموت خاتمة الأمر ونقلت من خطه له أيضاً: سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راجلا قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهينا جاهلا قلت: جاء في كلام أرسطو: تعبت بعرفاني فليتني خلقت لا أعرف. وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نباتة المصري قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أتعب نفسك بين ذلة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن ... حصلت فيه ولا وقار مبجل وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ال ... أخرى ورحت عن الجميع بمعزل ولقد وقفت له على جواب طويل كتبه بخط يده في درج إلى الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، وكان عند أستاذه الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كتب فيه بعد البسملة. " ورد على العبد الفقير محمد بن علي مخاطبة الأمير الكبير سيف الدين، ووقف عليها وعجب منها لأمرين، ثم إنه ذكر كل فصل ويجيبه عنه، إلى أن قال في آخر ذلك: فكتب الأمير إلي كتاباً يكتب إلى من ليس عنده من الدين شيء، ولو كان الأمير عرف مني ارتكاب الكبائر الموبقات ما زاد على ما فعل، وبالجملة فإن الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 أمر نبيه بالمباهلة والملاعنة في الدين، فقال لأهل الكتاب: " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فنتمثل أمر الله لرسوله ونقول: اللهم يا شديد البطش، يا جبار، يا قهار، يا حكيم، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، نسب إلي أكل الحرام من المدارس الغائبة، وإلى أمور أنت أعلم بسرها، فإن كان ذلك في علمك صحيحاً فاجعل لعنتك ولعنة ملائكتك والناس أجمعين علي، وإن لم يكن صحيحاً فاجعلها على من افترى علي بها، وإن كان الولد قد فعل ما قيل من أخذ البراطيل فاجعلها عليه، وإن لم يكن فاجعلها على من افترى عليه، فهذا إنصاف وامتثال لما أمر الله به رسوله، وربك بالمرصاد، والشكوى إلى الله الحكم العدل ". فلم يلبث إلا أسبوعاً أو أقل أو أكثر حتى قتل السلطان وحبس منكوتمر، ثم أخرج من محبسه وذبح. وكان من شدة وسواسه ما يجلس على جوخ ولا يقربه. وكان في بعض الأيام طلع إلى السلطان حسام الدين وهو جالس على طراحة جوخ، فجلس معه عليها وقضى شغله، وعاد إلى بيته، ونزع كل ما عليه وغسله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 586 فقالوا له: يا سيدي لا كنت جلست عليها، فقال فكرت إن جلست دونه أكن قد أهنت منصب الشرع، وهو أمر ما يزول، فجلست معه وغسلت ما علي فزال. وقيل: إنه امتنع من أكل الحلوى فقيل له في ذلك، فقال: لأني رأيت يوماً بعض الصناع يحرك دست حلوى ثم إنه أراق ماءً ولم يستنج. وقيل: كان يغسل الحلوى ويأكلها. وكان قد عزل نفسه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم إنه أعيد إلى القضاء وخلع عليه، ورسم له أن لا يستنيب ولده محب الدين. وعلى الجملة فكان امرأ غريباً قل أن ترى العيون مثله زهداً وورعاً وتصميماً وتحرياً واجتهاداً وعبادة وتوسعاً في العلوم. فهو الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأشعار وأما ما كان يقع في حقه من شيخنا العلامة أثير الدين فله سبب، أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده، أنسيت أنا اسم المدرسة واسم ابنه، فلما حضر الشيخ أثير الدين درس قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز قرأ آيةً يدرس بها ذلك اليوم وهي " قد خسر الذين قتلوا أولادهم " الآية، فبرز أبو حيان من الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة " قدموا أولادهم "، يكرر ذلك، فقال قاضي القضاة: ما معنى هذا؟ فقال: ابن دقيق العيد نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلى الشيخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 تقي الدين بن دقيق العيد فقال: أما أبو حيان ففيه دعابة من أهل الأندلس ومجونهم، وأما أنت يا قاضي القضاة يبدل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر. فما كان إلا قليل حتى عزل ابن بنت الأعز عن القضاء بابن دقيق العيد. وكان إذا خلا شيء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثير الدين يقول الناس: هذه لأبي حيان، فتخرج عنه لغيره. فهذا هو السبب الموجب لحطه عليه وشناعته. والصحيح أن أهل العصر لا يرجع إلى جرح بعضهم بعضا بهذه الواقعة وأمثالها: إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا وبعد هذا ما خلص ابن بنت الأعز من ضرب العنق إلا ابن دقيق العيد، لأن الوزير شمس الدين بن السلعوس لما عمل على ابن بنت الأعز وعزله، وعمل محاضر بكفره، وأخذ خط الجماعة على المحاضر، ولم يبق إلا خط ابن دقيق العيد، أرسل إليه المحاضر مع النقباء وقال: يا مولانا الساعة تضع خطك على هذه المحاضر، فأخذها وشرع يتأملها واحداً وحداً، والنقباء من القلعة يتواترون بالحث والطلب والإزعاج، وأن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ محضراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 دفعه إلى الآخر وقال: ما أكتب فيها شيئاً. قال الشيخ فتح الدين: فقلت أنا: يا سيدي لأجل السلطان والوزير، فقال: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم، قال: فقلت: فكيف كنت تكتب خطك بذلك، وبما يخلص فيه؟ فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون: قد كتب فلان بما يخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله، قال: فأبطل ذلك عملهم، وسكن سورتهم، وأطفأ شواظ نارهم. قال شيخنا أبو الفتح: وما كان الشيخ تقي الدين يعجبه من يقول: قاضي القضاة الشافعي، فإذا قلنا: قاضي القضاة الشافعية قال: إيه هذا. وأخبرني شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين: قول أبي الطيب: أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى في هذا شيء غير إساءة الأدب، ففكرت ساعة، ثم قلت: نعم، كون الموت ما يتفاوت إن كان بالسيف أو بغيره، فالإحياء من الموت سبيل واحدة، فقال: أحسنت يا فقيه. أو كما قال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 وهذه المؤاخذة دقيقة لا تصدر إلا من أديب كبير كالجاحظ أو غيره. قال لي شيخنا شهاب الدين: ما رأيت في أهل الأدب مثله، وناهيك بمن يقول مثل الشهاب محمود في حقه مثل هذا، وقد كان شيخ الأدب في زمانه، ووقفت أنا له على كتاب كتبه إلى قاضي القضاة شهاب الدين الخويي شافعاً ومتشوقاً: " يخدم المجلس لا زال حافظاً لأحكام الجود، محفوظاً بضمان الله في ضمن السعود، محروس العزم من دواعي الهوى والعز من دعاوي الحسود، مقابل وجه الرأي بمرآة الحق، مولي جناب الباطل جانب الصدود، ولا برح على العفاة سحائب كرمه، ويروي الرواة من بحار علوم تمد من قلمه، ويجلو أبكار الأفكار مقلدة بما نظم السحر من حلي كلمه، ويبرز خفيات المعاني منقادةً بأيد ذهنه وأيدي حكمه، ويسمو إلى غايات المعالي حتى يقال: أين سمو النجم من هممه، ويسبغ من جمال فضله وجميله ما يبصره الجاهل على عماه، ويسمعه الحاسد على صممه، وينهي من ولائه ما يشهد به ضميره الكريم، ومن ثنائه ما هو أطيب من ودائع الروض في طي النسيم. ومن دعائه ما يقوم منه بوظيفة لا تهمل، ويشيعه برجاء يطمع معه بكرم الله أن يقبل ويقبل، ويجري منه على عادة إذا انقضى منها ماض تبعه الفعل في الحال والعزم في المستقبل، غير خاف أنه " لكل أجل كتاب "، ولكل مقصود أسباب، ولم يزل يهم بالكتابة والأيام تدافع، ويعزم على المخاطبة فتدفع في صدر عزمه الموانع، حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 590 طلع بهذا الوقت فجر حظه، واستناب منافثة قلمه عن مشافهة لفظه، وقال لخدمته هذه: ردي مورداً غير آسن، وتهني بمحاسن لا تشبهها المحاسن، وتوطني المحلة المسعودة فكما يسعد الناس، فكذلك تسعد الأماكن، وشاهدي من ذلك السيد صدراً بشره بالنجح ضامن، وشهاباً ما زلنا نعد السيادة سبعاً حتى عززت لنا منه بثامن، وكان السبب في ذلك أن القاضي نجم الدين بمحلة منف لما قدم القاهرة أقام بحيث نقيم، وحاضرنا محاضرة الرجل الكريم، ونافث منافثةً " لا لغو فيها ولا تأثيم "، ولازم الدروس ملازمةً لولا أنها محبوبة لقلنا ملازمة غريم، وتلك حقوق له مرعيه، ومعرفة أنسابها مراضعة العلوم الشرعيه، وقصد هذه الخدمة إلى المجلس، فكان ذلك من واجب حقه، وذكر ثناءً فقلنا: رأيت الحق لمستحقه وسيدنا حرسه الله تعالى أهل لتقليد المنن، ومحل لأن يظن به كل حسن، والعلم بمروءته لا يقبل تشكيك المشكك، وأبوة يقتضي أن يرتقي من بعروة وده يستمسك. والله تعالى يرفع شانه، ويعلي برهانه، ويكتب له يوم إحسانه، ويطوي على المعارف اليقينية جنايه، ويطلق بكل صالحة يده ولسانه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى ". قلت: ما أعرف من كتب الإنشاء بعد القاضي الفاضل رحمه الله تعالى مثل القاضي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 591 محيي الدين ابن عبد الظاهر، وماله مثل هذه المكاتبة إذا لم تعتبر التورية علم ذلك من علمه وجهله من جهله. وأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدني من لفظه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه: أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طول الزمان تعلقي لئن غاب عن عيني بديع جمالكم ... وجار على الأبدان حكم التفرق فما ضرنا بعد المسافة بيننا ... سرائرنا تسري إليكم فنلتقي وبالسند المذكور له أيضاً: قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثل ما يرتضي فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي ومن شعر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح قد كلت العيس فجد الهوى ... واتسع الكرب فضاق الفسيح وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأرواح منها تطيح واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 592 فقيل تعريسهم ساعةً ... وقيل بل ذكراك وهو الصحيح قلت: لا أعرف لأحد من المتقدمين ولا من المتأخرين حسن هذا المخلص ثم إنه نص على الصحيح بعد ذلك. ومن شعره: يا معرضاً عني ولست بمعرض ... بل ناقضاً عهدي ولست بناقض أتعبتني فخلائق لك لم يفد ... فيها وقد جمحت رياضة رائض أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... ويشنع الأعداء أنك رافضي ومنه: قد جرحتنا يد أيامنا ... وليس غير الله من آس فلا ترج الخلق في حاجة ... ليسوا بأهل لسوى الياس ولا تزد شكوى إليهم فلا ... معنى لشكواك إلى قاشي وإن تخالط منهم معشرا ... هويت في الدين على الراس يأكل بعض لحم بعض ولا ... يحسب في الغيبة من باس لا ورع في الدين يحميهم ... عنها ولا حشمة جلاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 593 لا يعدم الآتي إلى بابهم ... من ذلة الكلب سوى الخاسي فاهرب من الناس إلى ربهم ... لا خير في الخلطة بالناس ومن شعره رحمه الله تعالى: وقائلة مات الكرام فمن لنا ... إذ عضنا الدهر الشديد بنابه فقلت لها: من كان غاية قصده ... سؤالاً لمخلوق فليس بنابه لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي ... يرجونه باق فلوذي ببابه ومنه: ومستعبد قلب المحب وطرفه ... بسلطان حكم لا ينازع في الحكم متين التقى عف الضمير عن الخنا ... رقيق حواشي الطرف والحسن والفهم يناولني مسواكه فأظنه ... تحيل في رشفي الرضاب بلا إثم ومنه: إذا كنت في نجد وطيب نسيمها ... تذكرت أهلي باللوى فمحجر وإن كنت فيهم ذبت شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري وقد طال ما بين الفريقين قصتي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري ومنه، وقيل إنه في ابن الجوزي: دققت في الفطنة حتى لقد ... أبديت ما يسحر أو يسبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 594 وصرت في أعلى مقاماتها ... حيث يراك الناس كالشهب وسار ما صيرت من جوهر ال ... حكمة في الشرق والغرب ثم تنازلت إلى حيث لا ... ينزل ذو فهم وذو لب تثبت ما تجحده فطرة ال ... عقل ولا تشعر بالخطب أنت دليل لي على أنه ... يحال بين المرء والقلب ومنه ما نظمه في بعض الوزراء: مقبل مدبر بعيد قريب ... محسن مذنب عدو حبيب عجب من عجائب البر والبح ... ر ونوع فرد وشكل غريب ومن شعره: يا هل أقضى حاجتي من منى ... وأنحر البزل المهاريا وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا يهيم قلبي طرباً كلما ... أستلمح البرق الحجازيا ويستخف الوجد عقلي وقد ... لبست أثواب الحجى زيا ومنه: تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 595 لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره ومنه: يا شبابي أفسدت صالح ديني ... يا مشيبي نغصت طيب عيشي فعدوان أنتما لا صديقا ... ن تلعبتما بحلمي وطيشي ومنه: لم يبق لي أمل سواك فإن يفت ... ودعت أيام الحياة وداعا لا أستلذ لغير وجهك منظراً ... وسوى حديثك لا أريد سماعا وأنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته قال: أنشدني له: لعمري لقد قاسيت بالفقر شدةً ... وقعت بها في حيرة وشتات فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي فأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي وأنشدني من لفظه شيخنا فتح الدين قال: أنشدني من لفظه له: الحمد لله كم أسعى بعزمي في ... نيل العلا وقضاء الله ينكسه كأنني البدر أبغي الشرق والفلك ال ... أعلى يعارض مسعاه فيعكسه قلت: هذا مثل قول الأرجاني: سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي أنحوكم ويرد وجهي القهقرى ... دهري فسيري مثل سير الكوكب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 596 فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسير رأي العين نحو المغرب قلت: إلا أن هذا المعنى الذي أتى به الشيخ تقي الدين في بيتين فهو أخصر. وقد تكلمت في " شرح لامية العجم " على معنى الأرجاني وأوضحته. وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين قال: كان الشيخ مغرىً بالكيمياء، معتقداً صحتها، قال: لأنه اتفق لي في مدينة قوص من صنعها بحضوره وحكى لي الواقعة بطولها في ذلك. وممن روى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، وقطب الدين بن منير، وقاضي القضاة علاء الدين القونوي، وقاضي القضاة علم الدين الأخنائي، وآخرون، وحدث شيخنا الذهبي إملاءً. وقال كمال الدين الأدفوي: حكى القاضي شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي رحمه الله تعالى، قال: اجتمعت به مرةً واحدة، فرأيته في ضرورة، فقلت: يا سيدنا ما تكتب ورقة لصاحب اليمن؟ اكتبها وأنا أقضي فيها الشغل، فكتب ورقة لطيفة فيها: تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظ في الثمن وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً ... ولا من له في مثلها نظر حسن ولم يبق إلا رفضها واطراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن وأرسلها إليه فأرسل له مئتي دينار، واستمر يرسلها صاحب اليمن إلى أن مات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 597 وقال كمال الدين أيضاً: قال لي عبد اللطيف بن القفصي: هجوته مرة فبلغه، فلقيته في الكاملية فقال: بلغني أنك هجوتني، أنشدني، فأنشدته بليقةً أولها: قاضي القضاة أعزل نفسو ... لما ظهر للناس نحسو إلى آخرها فقال: هجوت جيداً. وقال قال لي صاحبنا الفقيه الفاضل الثقة مجير الدين عمر بن اللمطي، قال: كنت مرةً بمصر، وطلعت إلى القاهرة، فقالوا لي: الشيخ طلبك مرات، فجئت إليه، فقال أين كنت؟ قلت: بمصر في حاجة، قال: طلبتك في حاجة، سمعت إنساناً ينشد خارج الكاملية: بكيت قالوا عاشق ... سكت قالوا قد سلا صليت قالوا زوكر ... ما أكثر فضول الناس وقال: حكى لي صاحبنا فتح الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن عيسى القليوبي قال: دخلت مرةً عليه وفي يده ورقة ينظر فيها زماناً، ثم ناولني الورقة وقال: اكتب من هذه نسخة، فأخذتها فوجدت فيها " بليقة " أولها: كيف أقدر أتوب ... وراس إيري مثقوب وقال: قال لي شيخنا تاج الدين محمد بن أحمد الدشناوي: سمعته ينشد هذه " البليقة " أولها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 598 جلد عميرة بالزجاج ... ولا الزواج ويقول: بالزجاج يا فقيه ... ! وقال: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قاضي قوص قال: جئت إليه مرة، وأردت الدخول، فمنعني الحاجب وجاء الجلال العسلوجي فأدخله وغيره، فتألمت، وأخذت ورقة وكتبت فيها: قل للتقي الذي رعيته ... راضون عن علمه وعن عمله انظر إلى بابك ............ يلوح من خلله باطنه رحمة وظاهره ... يأتي إليك العذاب من قبله ثم دخلت وجعلت الورقة في الدواة، وظننت أنه ما رآني، فقال: أجلس، ما في هذه الورقة؟ قلت: يقرأها سيدنا، فقال: أقرأها أنت، فكررت عليه، وهو يرد علي فقرأتها، فقال: ما حملك على هذا؟ فحكيت له، فقال: وقف عليها أحد؟ فقلت: لا، فقال قطعها. قال: وأخبرني برهان الدين إبراهيم المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين، قال: كنت أباشر وقفاً، فأخذه مني شمس الدين محمد ابن أخي الشيخ، وولاه لآخر، فعز علي، فنظمت أبياتاً في الشيخ، فبلغته، فأنا أمشي خلفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 599 مرة فإذا به قد التفت إلي وقال: يا فقيه، بلغني أنك قد هجوتني، فسكت فقال: أنشدني، فألح علي فأنشدته: وليت فولى الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تظهر ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها ... ولو كان عن جد لقد كنت تعذر فسكت زمانا وقال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان، فقال: ما علمت هذا، أنت على حالك، فباشرت الوقف مدةً، وخطر لي الحج، فجئت إليه استأذنه، فدخلت خلفه، فالتفت إلي وقال: أمعك هجو آخر؟ فقلت: لا، ولكني قصدت الحج، وجئت أستأذن سيدي، فقال: مع السلامة ما نغير عليك. وقال ناصر الدين شافع: من شعر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قوله: تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستبقيتهم في المعاوز وخضت بحاراً ليس يعرف قدرها ... وألقيت نفسي في فسيح المفاوز ولججت في الأفكار ثم تراجع اخ ... تياري إلى استحسان دين العجائز وكتب إليه ناصر الدين حسن بن النقيب الفقيسي لما قدم الديار المصرية في سنة أربع وسبعين وست مئة: أأنت كالشافعي إذ حل مصراً ... فهو فيها علماً وإن فات عصرا قد رأيناه مذ قدمت علينا ... وسمعناه بعد ما حل قبرا وارتضيناك مالكاً وإماماً ... فامض فينا الأحكام نهياً وأمرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 600 وهي ثلاثون بيتاً، فأجاب الشيخ عنها بأبيات أولها: قد تأملت ما بعثت به لا ... زلت تهدي لمن يواليك برا فرأيت الجمال كمل والإج ... مال فاستجمعا وسمي شعرا وتنزهت في رياض بديع ... من صنيع اليبان أطلعن زهرا يا أمير حتى على النظم والنث ... ر لقد زدت في الإمارة قدرا وهي خمسة عشر بيتاً، وكتب الجواب ابن النقيب أيضاً وأوله: أرسلت أبياتاً إلي بنشرها ... غرف الجنان تزخرفت وقصورها وبها عيون الشعر إلا أنها ... ولدان هاتيك الجنان وحورها ورأيت ألفافا من الجنات إلا ... أنهن حروفها وسطورها وهي أحد عشر بيتاً، وقد أثبت الجميع في الجزء التاسع والعشرين من " التذكرة " التي لي. وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صحح حديث القلتين، واختار ترك العمل به لا لمعارض أرجح بل، لأنه لم يثبت عنده بطريق يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين لمقدار القلتين. وقال رحمه الله تعالى: ذكر بعضهم المسألة السريجية وقال: إذا انعكست انحلت وتقريره أن صورة المسألة: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً، أو متى طلقتك، فوجه الدور أنه متى طلقها الآن وقع قبله ثلاثاً ومتى وقع قبله ثلاثاً لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 601 يقع، فيؤدي إثباته إلى نفيه، فانتفى، وعكس هذا أن يقول: متى طلقتك، أو متى وقع عليك طلاقي فلم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، فحينئذ متى طلقها وجب أن تقع الثلاث القبلية، لأنه حينئذ يكون الطلاق القبلي ثابتاً على النقيضين، أعني المنجز وعدم وقوعه، وما ثبت على النقيضين فهو ثابت في الواقع قطعاً، لأن أحدهما واقع قطعاً، فالمعلق به واقع قطعاً. وهذه مقدمة ضرورية عقلية لا تقبل المنع بوجه من الوجوه، وأصل المسألة الوكالة. وكان شيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: إن طلقتك فوقع عليك طلاقي أو لم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم يقول لها: أنت طالق، فحينئذ يحكم بأنها طلقت قبل ذلك التطليق ثلاثاً عملاً بالشرط الثاني، وهو عدم الوقوع، لأن الطلاق المعلق مشروط بأحد أمرين: إما الوقوع وإما عدمه في زمن واحد مستند إلى زمن واحد قبلي، ولا يمكن الحكم بالوقوع القبلي مستنداً إلى عدم الوقوع فلا مجال فيه، لأنه لا يمكن أن يقال: لو وقع فيه لوقع قبله، لأنه إما أن يحتمل القبلية على المتسعة التي أولها عقب التعليق، أو على القبلية التي تستعقب التطليق، فإن التعليق لا يسبقه، وهذا فائدة فرضنا التعليق على التطليق ونفيه بكلمة واحدة، وإن كان الثاني لم يتمكن القول أيضاً بالوقوع قبله استناداً إلى الشرط الأول، لأنه كما تتقيد القبلية القريبة بالنسبة إلى الشرط الثاني كذلك تتقيد بالنسبة إلى الشرط الأول، فلا يكون على تقدم الوقوع على ذلك الزمان دليل، ولا له موجب، هذا كله إذا كان التعليق بالنقيضين بكلمة واحدة، كما فرضناه، وبان لك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 602 بهذا أن الحكم بالوقوع ليس لكونه معلقاً بالنقيضين وأن ما تعلق بالنقيضين واقع، كما توهمه القائل لأن التعليق بالعدم، وأنه لا مانع منه ولا استحالة فيه حتى لو انفرد التعليق بالعدم، وكان كذلك فلا أثر للتعليق معه على الوجود وإن وقع في فرض المسألة. محمد بن علي بن أحمد ابن فضل، المسند المبارك شمس الدين أبو عبد الله، أخو الإمام القدوة تقي الدين الواسطي. حضر على الشيخ الموفق، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وسمع عن ابن أبي لقمة، والقزويني، وابن البن، وابن صصرى، والبهاء، وابن صباح الكاشغري، وابن غسان، والزبيدي، وعمر بن شافع، وطائفة. خرج له شيخنا الذهبي عوالي في جزء ضخم، وخرج له ابن النابلسي " مشيخةً " في جزأين، وسمع منه شيخنا المزي، وشيخنا البرزالي، وشيخنا ابن سيد الناس، والمقاتلي، وابن المهندس، ونجم الدين القحفازي، وشمس الدين بن المهيني، وغيرهم. وتوفي رحمه الله تعالى في منتصف شهر رجب الفرد سنة سبع مئة. ومولده سنة خمس عشرة وست مئة تقريباً. محمد بن علي الوزير الكبير سعد الدين الساوجي العجمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 603 كان من جملة وزراء خربندا، كان جباراً ظالماً، إلا أنه كان عمر ببغداد جامعاً أنفق عليه ألف ألف درهم، رافعوه، فقتله خربندا، وذبح ابناه قبله. صلى ركعتين قبل قتله وودع أهله وثبت للقتل، وخلع فرجيته على قاتله، فباس يده واستعجل منه في حل، ثم إنه أطار رأسه وقتل معه الوزير مبارك شاه، وصاحب الديوان المانشتري، وتاج الدين الآوي كبير الأشراف، والملك ناصر الدين يحيى بن إبراهيم صاحب سنجار، وذلك في سنة إحدى عشرة وسبع مئة. محمد بن علي بن يحيى بن علي الشيخ العلامة الغرناطي المالكي المقرئ بالمدينة، أبو محمد. كان فقيهاً نحوياً مشاركا في عدة فنون، أديباً شاعراً، سمع بالمغرب " الموطأ " من أبي محمد بن هارون، وسمع بالحجاز من جماعة، وشرح " الجمل " في النحو وحدث. سمع منه شيخنا البرزالي وجماعة، وجاور بمكة والمدينة مدة، وله نظم كثير في المديح النبوي أكثر من ألفي بيت. وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة في يوم الاثنين سادس صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده بأجوار غرناظة سنة إحدى وسبعين وست مئة. محمد بن علي بن عمر المازني الدهان شمس الدين الدمشقي الشاعر المشهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 604 كان يعرف " مقامات " الحريري، وربما يحفظها، ويدري الموسيقى، ويرى محاسنها ويلحظها، فينظم الشعر الرقيق ويلحنه، ويروجه بذلك على الأسماع ويملأه بهجة ويشجنه. وكان يلعب بالقانون، ويرى أنه يصلح لمنادمة المأمون. وكان له مكان قد عمره في الربوه، واعتنى به، وجعله بالزخرفة حظوه، يجمع به أحبابه وأترابه وأصحابه، ويأخذ أرباب الملاهي عنه الألحان، ويرون أنهم أشواق إليها من بنت الحان. ولم يزل على حاله إلى أن دهي الدهان، وأمسى تحت الأرض إلى أن تصير السماء وردة كالدهان. وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر رجب يوم السبت سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. أنشدني من لفظه لنفسه القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كتبت إليه مضمنا: رأيتك أيها الدهان تبغى ... مزيدا في التودد بالمساعي فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وذكرت أنا هنا ما نظمته في مليح دهان: ودهان أقول له ونفسي ... من الوجد المبرح لم أجدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 605 ملكت جميع حسن في البرايا ... فلو صورت نفسك لم تزدها وكان قد اشترى مملوكاً وأحبه ورباه وهذبه وخرجه، فمات، فحزن عليه حزناً عظيماً، وأسف عليه أسفاً كبيراً، ورثاه بأشعار كثيرة، ولحنها وغنى بها على قانونه، ونقلها المغنون عنه وتداولها الناس مدة مديدة. وأنشدني من لفظه لنفسه جمال الدين يوسف الشاعر الصوفي في ذلك: لئن مات يا دهان مملوكك الذي ... بلغت به في الفسق ما كنت ترتجي فمثله بالأصباغ وجهاً وقامةً ... وخصراً وردفاً ثم عاينه واصلج ومن شعر شمس الدين الدهان مما رثى به مملوكه: مصيبة فقد أيقظت كل هاجع ... ووثبة حتف فاجأت بالفواجع ولوعة حزن فاجأت لاعج الأسى ... فصدمتها الشنعاء بين الأضالع ووقعة رزء لم تدع حين هدمت ... قوى الصبر قلباً وقعها غير واقع إذا ما دعا داعي التذكر باسمها ... أجابت حنيناً هاطلات المدامع لقد ضل من يبغي اجتماعاً وألفةً ... من الدهر والأيام ذات القوارع وما الدهر إلا ظالم غير منصف ... وموجد تفريق لنا غير جامع وما هذه الأجساد إلا منازل ... وأرواحنا فيهن غير ودائع ومنها: ألا سبيل الله شخص رزئته ... على غرة والدهر جم الفحائع فجعت به كالبدر في السن والسنا ... وكالشمس في إشراقها والمنافع سريع إلى داعي الجميل مبرأ ... من العيب عف طرفه في المجامع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 606 جميل المحيا فيه تلمح صادقا ... رزانة كهل وهو في سن يافع وهي طويلة تزيد على الخمسين بيتاً. وقال فيه أيضاً: سلو طول هذا الليل يخبركم عني ... بأني لم يغمض لفقدكم جفني رحلتم بصبري واستمر مريركم ... وأسلمتم قلبي إلى لوعة الحزن وعوضتموني عن سروري بالأسى ... وبالبعد عن قربي وبالخوف عن أمني وقد كان ظني أن يدوم وصالكم ... فأخلفت الأيام في وصلكم ظني ومن شعره فيه ما أنشدنيه عنه الصارم إبراهيم بن عبد الرحمن العواد: ما سيج الورد في خديك ريحان ... إلا ووجهك في التحقيق بستان ولا تعطف منك العطف من صلف ... إلا وريقك خمر وهو نشوان لله فتنة ذاك الطرف منك لقد ... سبى المحبين لحظ منه فتان لو لم يكن سلب العشاق نومهم ... ما راح من غير سهد وهو وسنان قلت: البيت الرابع أخذه من قول مهذب الدين بن القيسراني: هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن وما أحسن ما أتى بهذا تضميناً شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى، أنشدنيه لنفسه إجازة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 607 قالوا وقد عاينوا عيني ساهرة ... من الكرى وأطالوا في لومهم فقلت: عهدي به من يوم فارقني ... هذا الذي سلب العشاق نومهم وبه قال: أنشدني له: عند قلبي منك وجد لا يحد ... وغرام هزله في القول جد واشتياق ناره لا تنطفي ... وله بين شغاف القلب وقد أيها البدر الذي تيمني ... منه وجه يشبه البدر وخد وسباني جوهر من ثغره ... فوقه من ريقه خمر وشهد وبه قال: أنشدني له: دلائل الوجد لا تخفى على الفطن ... والحب أقصاه ما أفضى إلى الفتن كم ذا التستر والأشواق تعرب عن ... سر الهوى بلسان المدمع الهتن دع التكتم فالكتمان نار جوى ... بين الجوانح تذكيها يد المحن وبح فليس بعار أن تبوح فما ... في ساحة الحي إلا كل ذي شجن قلت: الرابع أخذه من قول الأول. لا تخف ما صنعت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق وبه قال: أنشدني له: ألا حبذا الوادي وروض البنفسج ... وطيب شذى من عرفه المتأرج وأغصان بان في نواحيه ميد ... وكل قويم القد غير معوج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 608 وأنهار ماء في صفاء ورقة ... تسيل بها ما بين روض مدبج فإن جعدته خطرة من نسيمه ... فيا حسن مرآى مائه المتموج ومن شعره ملغزاً في الجوز: ومجلود له جرم ... بلا جرم ولا ذنب يعاقب وهو من كرم السجية طيب القلب وكتب إليه المجير أحمد الخياط، نقلته من خطه: بات بعيد الدار عن سكنه ... صب قريب المزار من شجنه متيم يذرف الدموع دما ... في الربع بعد الدما على دمنه لم يبق فيه بلى الرسوم سوى ... وسم خيال يلوح من بدنه رام اكتتام الغرام مستتراً ... بالصبر والصبر ليس من جننه وكيف يخفي الهوى وعبرته ... تنقل من سره إلى علنه رق له الشامتون حين رأوا ... فرط اكتئاب علاه من حزنه مد له لا يعي الملام ولا ... يدخل عذل العذول في أذنه أقسمت بالبيت ذي الستور وبال ... حجيج والراقصات من بدنه ويوم جمع والمشعرين ومن ... وفى فروض الميقات مع سننه إن أبا عبد الله نادرة ... أحسن ما في الزمان من حسنه ليس يوازى بمن يشاكله ... في سائر الناس من بني زمنه لا في نهاه ولا فضائله ... ولا ذكاه كلا ولا فطنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 609 غذي لبان الآداب في حكم ال ... علوم قبل الفصال من لبنه وفاق في الموسيقا ومعبد في ... دخوله والغريض في غننه وفي القريض الجزل الرقيق شأى ... وفات نجل الحسين مع حسنه هو الحبيب الذي يداهنني ... والدهن من فنه ومن فننه واعدني ذورة وقد علقت ... ذاتي بحب الوعود في رهنه فإن يبادر إنجازها عدةً ... عددتها ما حييت من مننه وللمحب الداعي إليه هوىً ... يجذب من ضبعه ومن رسنه سن له شوقه تباعده ... فلم يزل جارياً على سننه وهو مقيم على ودادك ما عا ... ش إلى أن يلف في كفنه قلت: قد حذفت منها كثيراً لما فيه من اللحن والزحاف وفساد التركيب. وكتب شمس الدين الدهان إليه الجواب عن ذلك: شف المعنى وزاد في شجنه ... هاتف أيك أوفى على فننه دعا هديلاً شطت به غربة ال ... بين فأمسى يبكيه من شجنه فاهتجن من دائه الدوي عقا ... بيل غرام له إلى سكنه أذكره طيب عيشة سلفت ... وانصرمت بالقيان مع فتنه فبات يجري دمعاً يشاركه ال ... غيث إذ الغيث ارفض عن مزنه واصطلم البين صبره ونفى ... عن جفنه المستلذ من وسنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 610 فياله من فتى أخي حرق ... حافظ عهد المغيب مؤتمنه ما ترك الحب حين جد به ... سوى خيال يلوح من بدنه فقال للاحيه في الغرام دع اللو ... م ودعه إن كنت لم تعنه لا تبغ بالعدل أن تقاد فقد ... مكن كف الغرام من رسنه وللهوى المستلذ مهجته ... قد خضعت فانضوت إلي محنه كما لعبد المجير قد خضعت ... غر القوافي فاتضعن في قرنه أي بليغ أعيت بلاغته ... مسا وفاقت إياس في لسنه صريح ود من أن يشاب نقي ال ... عرض صافي الأديم من درنه كاتبتني محسناً بمحكمة ... ذات بيان دلت على فطنه رقت وراقت فراح سامعها ... يخال سحراً قد صب في أذنه لم يجر سبقا لمثلها ابن أبي الصل ... ت بغمدانه ولا عدنه أربى على جرول بها وشأى ... حسان وابن الحباب من حسنه يفديك عبد المجير مضطغن ال ... ضغنة أمسى يطوي على ضغنه فاسلم على رغمه تصرف في ال ... كلام منثوره ومتزنه ما انعطف البان بالنسيم وما ... رجعت الساجعات في غصنه قلت: قوله: " فقل للاحيه في الغرام " البيت قافيته ملحونه، لأنه قال: " إن كنت لم تعنه " لأن النون ساكنة ووقع له قبلها أخرى في بيت حذفته، وهو معذور لأن المجير وقع له مثل ذلك، وحذفته، فقلده الدهان، وكلاهما اغتر بقول النحاة: الساكن إذا تحرك كسر، ذاك إذا كان الساكن متطرفاً، أما وبعده ضمير أو غيره فلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 611 ولشمس الدين الدهان رحمه الله تعالى: يا بأبي غصن بانة حملابدر دجى بالجمال قد كملاأهيف فريد حسن ما ماس أو سفرا إلا أغار القضيب والقمرا يبدي لنا بابتسامه دررا وفي شهد لذ طعمه وحلاكأن أنفاسه نسيم طلاقرقف مورد الخد فاتر المقل يفوق ظبي الكناس بالحمل وينثني كالقضيب في الميل من حمل ردف مثل الكثيب علانيط بخصر كأضلعي نحلامخطف ظبي من الترك يقنص الأسدا مقرطق قد أذابني كمدا حاز بديع الجمال فانفردا واهاً له لو أجار أو عدلالمستهام بهجره نحلامدنف غزال سرب جماله شرك ستر اصطباري عليه منتهك لكل قلب هواه منتهك علم قلبي الولوع والغزالاطرف له بالفتور قد كحلاأوطف لله يوم به الزمان وفى إذ من بالوصل بعد طول جفا حتى إذا ما اطمأن وانعطفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 612 أسفر عنه اللثام ثم جلاورداً بغير اللحاظ منه فلايقطف فظلت من فرط شدة الترح إذ زارني والرقيب لم يلح ألثم أقدامه من الفرح وقلت إذ عن صدوده عدلاأهلاً من بعد جفوة وقلىأسعف قلت: والأصل في هذا التوشيخ أن بعضهم أخذ قول أبي نواس الحسن بن هانئ: أما ترى الشمس حلت الحملا ... وطاب وقت الزمان واعتدلا فجاء إلى آخره وزاده توشيحة فقال: " فاشرب "، ولما فتح هذا الباب لأهل النظم طاروا إليه زرافات ووحدانا ودخلوا أرسالاً لخفته وعذوبته، وغالب من نظم فيه لزم الباء في التوشيخة، وبعضهم عملها دالاً، وبعضهم عملها فاء مثل الدهان. فأول من علمته نظم في هذا ولزم الباء إبراهيم بن سهل المغربي فقال: روض نضير وشادن وطلافاجتن زهر الربيع والقبلاواشرب يا ساقياً ما وقيت فتنته حكت كؤوس الرحيق صورته فمثلت ثغره ووجنته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 613 هذا حباب كالسلك معتدلاوذا رحيق لذا الزجاج علاكوكب أقمت حرب الهوى على ساق وبعت عقلي بالخمر من ساق أسهر جفني بنوم أحداق تمثل السحر وسطها كحلامعتلة وهي تبري العلافاعجب قلبك صخر والجسم من ذهب أيا سمي النبي يا ذهبي جاورت من مهجتي أبا لهب يا باخلاً لا أذم ما فعلاصيرت عندي محبة النجلامذهب يا منيتي والمنى من الخدع ما نلت سولي ولا الفؤاد معي هل عنك صبر وفيك من طمع أفنيت فيك الدموع والحيلافلا سلوي في الحب نلتولا مأرب أتيت اشكوه لوعتي عجبا فصد عني بوجهه غضبا فعند هذا ناديت يا حربا تصد عني يا منيتي مللاوأشتكي من صدودك العللاتغضب قلت: ولما علقت هذه الموشحة راق لي وزنها فنظمت فيه مع علمي بأنني ما أوفيه، وهو: لا تحسب القلب عن هواك سلاوإنما حاسدي الذي نقلاحرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 614 أسلو ولا صبر لي ولا جلد ونار شوقي وسط الحشا تقد وكل وجد دون الذي أجد ما وصل القلب في هواك إلىهذا وإن شئت أن يرى بدلاسوف لي بدر تم للعقل قد قمرا وفاق شمس النهار والقمرا وطرفه للأنام قد سحرا والريق خمر قد حل لي وحلالأنه بالمنى إذا بخلايرشف وجفنه صح سكره وصحا كم بات حتف لصبه فتحا وعذر ذاك العذار قد وضحا سعى إلى فيه يرشف القبلا والنمل سار إلى أن رأى العسلا يا شادناً سل سيف مقلته وهز قد القنا بخطرته وأخجل البدر حسن صورته وجهك يزداد بالجمال علا والبدر في تمة إذا كملا تبدو فترمي الغصون بالخجل فلم يمس عطفها من الكسل وأنت مغرى الأعطاف بالميل وقدك اللدن كلما اعتدلا أخشى عليه إن مال وانفتلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 615 شعرك ليل ووجهك القمر والريق حلو وحشوه درر والقد غصن ووجهك الزهر خد زها الورد فيه واشتعلا وعقرب الصدغ فيه قد نزلا وأنشدني لنفسه إجازة صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى: زار وصبغ الظلام قد نصلا بدر جلا الشمس في الظلام ألا ... فاعجب جاء وسجف الظلام قد فتقا والصبح لم يبق في الدجا رمقا وقد جلا نور وجهه الغسقا وأدهم الليل منه قد جفلا وقد أتى رائد الظلام على ... أشهب أفديه بدراً في قالب البشر قد جاء في حسنه على قدر يرتع في روض خده نظري خد بلطف النعيم قد صقلاكأنه من دمي إذا خجلايخضب يا من غدا ظل حسنه حرما لما حوى ما به الجمال حمى فرعاً وصدغا مذ حكما ظلما فأرقم الجعد يحرس الكفلاوحارس الخد منه قد جعلاعقرب هلا تعلمت بذل ودك لي من المليك المؤيد بن علي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 616 سلطان عصر سما على الأول لولا أياد بها الورى شملالأصبح الناس كالسماء بلاكوكب وقال شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني: بدر عن الوصل في الهوى عدلاما لي عنه إن جار أو عدلامذهب مترك اللحظ لفظه خنث إليه يصبو الحشا وينبعث أشكو إليه وليس يكترث دعا فؤادي لأن يذوب قلىوالموت والله من مقالي لاأقرب لم يبق لي مقلة ولا كبد والقلب فيه أودى به الكمد وليس يلفى لهجره أمد لا تعجبوا إن غدوت محتملالكن قلبي إن كان عنه سلاأعجب بالحسن كل العقول قد نهبا والحزن كل القلوب قد وهبا شمس ولكنني لديه هبا فانظر لذاك القوام كيف حلاغصتنا وكم منه بالجمال جلاغيهب محمد بن علي بن عبد القوي ابن عبد الباقي محيي الدين التنوخي المعري ثم الدمشقي، ابن المارستاني الحنفي، نزيل القاهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 617 سمع من عثمان بن علي، وإبراهيم بن خليل، وفرج الخادم، وعبد الله بن الخشوعي، وعدة. وخرج له الدمياطي " مشيخة "، وسمعها منه قديماً. وكان مديماً للاشتغال، ورعاً زاهداً متواضعاً مفسراً، من كبار الحنفية، أعاد بالمنصورية والناصرية والظاهرية والصالحية، وحمل عنه الطلبة من سماعاته " جزء " الذهلي على ابن خطيب القرافة سنة اثنتين وخمسين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة. محمد بن علي بن الحسين بن سالم الشيخ المقرئ الصالح الحاج، بقية المسندين، شمس الدين، أبو جعفر السلمي المرداسي بن الموازيني. سماعه سنة اثنتين وعشرين وبعدها، إذ كان عند الملقن. سمع أبا القاسم بن صصرى، والبهاء عبد الرحمن، وتفرد بالرواية عنهما، وسمع من إسماعيل بن ظفر، وأبي سليمان بن الحافظ، والشيخ الضياء. وورث من أبيه ثروةً وعقاراً، وجاور مدة، وأنفق في البر والقرب، ثم أعطى ملكه لابنته، وبقى لنفسه كل يوم درهمين، ولبس العسلي وتزهد، وحدث بالحرم، وانحطم بالهرم، وثقل سمعه وضعف بصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 618 وحدث عنه ابن الخباز وباقي الطلبة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين منتصف ذي الحجة سنة ثمان وسبع مئة. ومولده سنة خمس عشرة تقريباً. محمد بن علي الإمام الفاضل الفقيه النحوي الأصولي تاج الدين البارنباري الشافعي. أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: قرأ المذكور على الشيخ حسن الراشدي القراءات السبع بالفاضلية، وقرأ المعقول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وحفظ " التعجيز "، وكان يستحضره إلى آخر وقت، ويعرفه جيداً، وحفظ " الجزولية "، واستمر على حفظ القرآن إلى أن مات. وكان جيد المناظرة، متوقد الذهن في الفقه والأصولين والعربية والمنطق، وكان عديم التكلف في ملبسه، ولم يكن بيده غير فقاهات بالمدارس، كان يلقب بطوير الليل. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة. وقال لي شيخنا قاضي القضاة تقي الدين، قال لي ابن الرفعة: من عندكم من الفضلاء في درس الظاهرية؟ فقلت له: قطب الدين السنباطي، وفلان، وفلان، وعددت حتى انتهيت إلى ذكر البارنباري، فقال: ما في من ذكرت مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 619 ومن مباحثه في السؤال الذي يورد في قوله تعالى: " لا تأخذه سنة ولا نوم " وتقديره أن السنة أعم من النوم، ويلزم من نفي العام نفي الخاص، فكيف قال " ولا نوم " بعد قوله " لا تأخذه سنة "؟ وقد أجاب الناس على هذا بأجوبة كثيرة، ومن أحسنها ما قاله البارنباري هذا، قال: الأمر في الآية على خلاف ما فهم، والمنفي أولاً إنما هو الخاص وثانياً العام ويعرف ذلك من قوله " لا تأخذه " أي لا تغلبه، ولا يلزم من أخذ السنة التي هي قليل من النوم أو النعاس عدم أخذ النوم له، فقال " ولا نوم " فعلى هذا فالسؤال منتف، وإنما يصح إيراده أن لو قيل لا يحصل له سنة ولا نوم. وهو جواب بليغ، قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: إلا أن لك أن تقول: فلم لا اكتفي بنفي أخذ النوم على هذا التقدير الذي قررت، وما الفائدة في السنة. ومن سؤالات تاج الدين طوير الليل: سوى الأصحاب بين المانع الحسي والمانع الشرعي فيما إذا باع جاريةً حاملاً بحر أو باع جارية إلا حملها، فإن الصحيح فيهما البطلان، ولم يفعلوا ذلك فيما إذا باع داراً مستأجرة، فإن الصحيح فيها الصحة، والبطلان فيما إذا باع داراً واستثنى منفعتها شهراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 620 وأجاب، وقد سئل: كيف يقول الغزالي إن النية في الصلاة بالشروط أشبه وهي بشرط أن تكون مقارنة للتكبير، والتكبير ركن، فيتحد زمان الركن والشرط مع كون الركن لا بد أن يكون داخل النية والشرط خارجاً؟ بأن المراد بالداخل ما تتقوم به الماهية ولا تصدق بدونه وبالخارج ما ليس كذلك سواء أقارن الداخل في الزمان أم لا، فالترتيب ليس في الزمان، والنية لا تتقوم بها الصلاة، لجواز أن توجد بلا نية، وتكون صلاة فاسدة، وكذلك ترك الأفعال الكثيرة في الصلاة فإنه شرط مع أنه لا يوجد إلا داخل الصلاة. قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: هذا جوابه، وهو على حسنه قد يقال عليه: هذا يتم إذا قلنا: إن الصلاة موضوعة لما هو أعم من الصحيح والفاسد لتصدق صلاة صحيحة وصلاة فاسدة، أما إذا قلنا: إنما هي موضوعة للصحيح فقط، فحيث انتقى شرطها لا تكون موجودة. وقد حكى الرافعي الخلاف في أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد أو هو مختص بالصحيح حيث قال في كتاب الإيمان: وسيأتي خلاف أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد، أو مختص بالصحيح؟ وإن كان لم يف بما وعد إذ لم يحكه بعد، على ما رأيناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 621 محمد بن علي بن محمد بن غانم الشيخ الفاضل القاضي بدر الدين ابن الشيخ علاء الدين بن غانم، تقدم ذكر أبيه وعمه وأخيه وابن عمه. كان من جملة كتاب الإنشاء، كان على الاشتغال مكباً وإلى التفهم منصباً لا يثنيه عن ذلك ثان، ولا له من بيته في هذا ثان، يكون في ديوان الإنشاء جالسا، وتراه في مختصر ابن الحاجب دارسا، كثير الصمت، عليه وقار وسمت، يفيض جماعة الإنشاء فيما يفيضون فيه، وهو مشغول بنفسه وصلاح حاله وتلافيه. يتشدد في الكتابة فلا يكتب إلا ما وافق الشريعه، وكان مضمونه إلى الحق ذريعه. وكتب كثيراً وعلق تراجم والتقط ذلك من التواريخ والمعاجم، وكان غاوياً باقتناء الكتب، رافعاً عن البذل فيها أذيال الحجب، على مسكة كانت في يده، وشح سكن في خلده. وكان جميل الصورة في صباه، مصونا في مرباه. ثم إنه سأل الإعفاء من ديوان الإنشاء، فأجيب إلى ما قصده، وتناول ما رصده. ولم يزل على ذلك إلى أن سلك سبيل من مضى من الأمم، وأصبح وقد عد في الرمم. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة أربعين وسبع مئة. وكان منجمعاً عن الناس لا يتكلم فيما لا يعنيه، يكرر على محافظه الليل والنهار. وكان قد حفظ القرآن و" المنهاج " و" مختصر " ابن الحاجب و" الحاجبية " و" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 622 الملحة "، وعرض ذلك على الشيخ كمال الدين، وعلى الشيخ برهان وعليه تفقه. ولما توجه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى قضاء حلب وصار بها كتب له إذناً بالإفتاء، وجهزه إليه إلى دمشق، وفي آخر أمره سأل الإعفاء من كتابه الإنشاء وأن يكون له نظير معلومه على الجامع الأموي، فأجيب إلى ذلك. وكان بيده تدريس القليجية الشافعية والشريفية عوضاً عن القاضي نجم الدين الدمشقي، وباشر العمادية والدماغية عوضاً عن الشيخ بدر الدين بن أبي اليسر ابن الصائغ لما توجه لخطابة القدس، وكان يحمل المعلوم إلى أقارب الشيخ بدر الدين، ولما عاد ابن الصائغ إلى دمشق استمر بدر الدين في تدريسهما، فوشى به الأمير حسام الدين بن النجيبي مشد الأوقاف إلى الأمير سيف الدين تنكز، فأمر بإعادة المدرستين المذكورتين إلى ابن الصائغ، وكان قد عين لخطابة القدس عوضاً عن ابن الصائغ فغض ذلك منه. ولما توجه الشيخ برهان الدين إلى الحجاز ألقى عنه الدرس بالباذرائية، وكان معه عدة وظائف من قراءات على الكراسي وغير ذلك مما يقارب الألف درهم في كل شهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 623 وكان جماعة للكتب، أبيع له لما مات قريب الألفي مجلدة، وعلق على " المنهاج " تعليقه، وكان يحب الصالحين. محمد بن علي بن محمد بن سعيد ابن حمزة الشيخ الصدر الرئيس شرف الدين بن الصدر علاء الدين التميمي، ابن القلانسي. من بيت كبير، وكان صاحب ثروة، تزوج في شبابه بابنة قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة، وهو صاحب حمام الزهور بالصالحية، وهو خال عز الدين بن القلانسي. كان محباً للفقراء والصالحين، وسمع من السخاوي والقرطبي، والعز بن عساكر، وابن مسلمة، غيرهم. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادى الأول سنة أربع وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بدمشق. محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري السماكي الدمشقي الزملكاني، الشيخ، الإمام، العالم العلامة، ذو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 624 الفنون، الذكي النحرير، شيخ الشافعية في عصره، كمال الدين أبو المعالي قاضي القضاة بحلب. سمع من أبي الغنائم بن علان، والفخر علي، وابن الواسطي، وابن القواس، ويوسف بن المجاور، وعدة، وطلب الحديث. وكان فصيحاً في قراءته متسرعاً. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: له خبرة بالمتون، تفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري وأفتى وله نيف وعشرون سنة، وسمي بالشيخ وعمره عشرون سنة. وقرأ العربية على الشيخ بدر الدين بن مالك، وقرأ على قاضي القضاة شهاب الدين الخوييي وشمس الدين الأيكي. وقرأ الأصول على الشيخ صفي الدين الهندي أول قدومه البلاد، أما لما عاد لم يقرأ عليه، وقرأ على قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي. وأخبرني شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، قال: قلت له: فرطت في المنطق، قال: كان في طلبي له تلك الأيام شخص يعرف بالإفسنجي، وكنت قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 625 درست وتميزت، أو قال، فكنت أتردد إليه على كره مني، والعلم في نفسه صعب، وعبارة الأفسنجي فيها عجمة، فإذا أردت منه زيادة بيان، أو قلت له: ما ظهر لي، جثا وأدار وجهه عني، فأنفت من تلك الحالة، وبطلت الاشتغال، أو كما قال. قلت: أغناه فكره الصائب وذهنه الثاقب عن ذلك، لأن المنطق علم عقل لا نقل، على أنه كان يعرف منه ما يحتاج إليه في أصول الدين وأصول الفقه، فالمنطق نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، وابن الزملكاني كان يعرف المنطق على وجه كلي، كما أن امرأ القيس وغيره من فصحاء قريش يعرفون النحو على وجه كلي، وقال ابن سينا: واضع النحو والعروض في اللغة العربية يشبه واضع المنطق والموسيقا في اللغة اليونانية. قلت: لعمري هذا تشبيه من عرف حقيقة هذه العلوم الأربعة، ولقد أورد بعض الأفاضل على تعلق المنطق: إن كانت هذه الآلات من الفطريات فليستغن عن تعلمها، وإلا افتقرت إلى آلة أخرى، ودار وتسلسل، وأجابه المنتصرون بأن بعضها فطري وبعضها كسبي، فاندفع الإشكال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 626 قلت: بل الإشكال باق على حاله، فنقول فيما هو فطري ما قلناه أولاً، وفيما هو كسبي ما قلناه أولاً، وما كان الشيخ في ذلك بحيث إنه يجهل معرفة التصور والتصديق، ودلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، والضرب من الشكل المنتج والكاذب، ومواد البرهان، والمقدم والتالي، وقياس الخلف، وغير ذلك مما يدخل في الأصولين، بل كان يعرف ذلك معرفةً جيدة تامة يتسلط بها على باقي الفن، أما أنه كان يطلب منه أن يشغل في مختلطات كشف الأسرار للخونجي فلا، وقلت أنا في مقتضى حال الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى: أغناه ثاقب ذهنه وذكاؤه ... عن أن يقلد في الأنام سواه من كان كالشمس المنيرة ذهنه ... فجميع ما تحوي العلوم يراه وقال: وكان الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى علامة الزمان وثلامة البهتان، قائماً بالفقه ودقائقه وغوامضه وحقائقه، لو رآه الروياني لأغرقه في بحره، أو المتولي لعزل عما أكسبه نهاية فخره، أو القفال لفتح له أبواب نصره، أو الرافعي لانحط إلى حفضه وجره. قاعداً بالأصول فقهاً وديناً، ناهداً كالأسد وقد جعلت له الأقلام عرينا، فلو رآه الحليمي لسفه رأيه، أو الباقلاني لكان باقلاً في الرواية والدراية، كأنما عناه الغزي بقوله، واقتصر به على طوله، حيث قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 627 لم يبرح الفقه روضاً فاق فيك له ... سحابة ورده منها وعبهره ذو الدرس سهل المعاني في عبارته ... يكاد يحفظه من لا يكرره أما الجدال فميدان فوارسه ... تقر أنك دون الناس عنتره لا يرى الناس أفصح من عبارته، ولا أملح من إشارته، لو سمعه الأصمعي لم ينقل عربيه عن أعرابه، أو يونس بن حبيب لما قلده سيبويه في إعرابه، كأن عبارته السكر المذاب، أو رشف الثنايا العذاب، تدخل الأذن بلا إذن لفصاحتها، ويرشفها الذهن لصناعتها ونصاعتها. وكان شكله يرى وهو من أحسن الأشكال، ومثله لا يرى وليه معه إلا أن يذل له الأنذال، وعدوه سوى إن كال له الأنكال، بعمة لا يحسن أحد أن يديرها ولا يصدق تصويرها، وطلعة يستحيي القمر أن يقابلها، والشمس أن تشاكلها، وشيبة عليها نور الإيمان، ورفق الإيقان، وكرم نفس لا يذكر معه صوب الغوادي، ولا النيل ذو الأصابع ولا البحر ذو الأيادي. وأما خطه فلم يكتب أحد في زمانه مثل تعليقه، ولا يصل معه كاتب إلى تغليقه، كأن طروسه رياض دبجها الغمام، سطوره حدائق ألفاتها غصون، والهمزات عليها حمام، كأنما: تناول من لطافته نهاراً ... وفرق فوقه ليلاً بهيما هذا إلى معارف حواها من سائر الفنون. وأخذ من كل منها محاسن النكت وفوائد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 628 العيون، فما باشر شيئاً إلا وزانه، ونفى عنه ما شابه وشانه، تنقل في مباشرات الدوله، ونال فيها الوجاهة والعز والصون والصوله، وولي في آخر عمره قضاء قضاة حلب غصبا، ولقي فيها نصبا، وإن كان قد وجد فيها رفعا ونصبا، ثم إنه عزل منها وطلب إلى باب السلطان فما وصل، ونزع خضاب سعده ونصل، ومرض في طريق الرمل. وانبت من حياته الشمل، فعدم الوجود كماله، وما وصل جرح حياته اندماله. وأدركه أجله في بلبيس سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله من العمر ستون سنة. كان مولده في شوال سنة سبع وستين وست مئة. وحمله ولده عبد الرحمن إلى القاهرة ودفنه بالقرافة عند الشافعي رضي الله عنه. وكان قد حفظ " التنبيه " فيما أظن و" المنتخب " في أصول الفقه، و" المحصل " في أصول الدين. وكتب المنسوب الفائق، كان يقال إنه ما كتب على نجم الدين بن البصيص أحسن منه ومن الشيخ بدر الدين حسن بن المحدث، وخطه هو أحسن، وقيل: إنه كان يكتب الكوفي طبقة. وذكره شيخنا الذهبي في " معجمه " المختص فقال فيه: شيخنا عالم العصر، انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 629 وكان الشيخ من بقايا المجتهدين ومن أذكياء أهل زمانه، تخرج به الأصحاب، وانتفع به الأئمة. لم ير مثل كرم نفسه وعلو همته وتجمله في ملبسه ومأكله، لم تزل تلاميذه الخواص على مائدته، يحب الطالب الذكي ويجذب بضبعه من ورطة الخمول ويكبره. ويعظمه ويزهزه له، ويسير إليه في البحوث ويصوب ما يقول ويحسنه ويعجب الحاضرين منه. فعل ذلك بجماعة، ونزل للقاضي فخر الدين المصري من تدريس العادلية الصغيرة، وما رأى أحد أسعد منه في علمه وقوله، كان إذا دوغ أحداً بكلمة سوء لبسته من فرقه إلى قدمه، وكذا في الخير غضب مرة على فخر الدين المصري فقال: من أرادني وأحبني فلا يكلمه، وكان المسكين يراه الناس في الجامع فما يجسر أحد يسلم عليه، وعمل خطبة افتتحها بقوله: الحمد لله الذي جعل " التائب من الذنب كمن لا ذنب له "، وكان لا يتعب التلميذ، بل إذا رأى الطالب في دروسه وذهنه جيد وقد تعب على نفسه اجتذبه إليه ونوه به وعرف بقدره، فيعرف به وينسب إليه، وإذا جاءه مبتدئ ليقرأ عليه يقل له: رح الآن إلى الشيخ كمال الدين بن قاضي شهبة وإلى الشيخ شمس الدين بن النقيب وإلى مجد الدين التونسي وإلى نجم الدين القحفازي، فإذا تنبهت عد إلي. واشتهر في زمن أشياخه وتقدم عليهم إلى أن سادهم ورأس وساد في الدولة، وطار ذكره. وصنف رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في الطلاق، ورسالة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 630 الرد عليه في مسألة الزيارة، وصنف مصنفين في تفضيل البشر، أحدهما سماه " تحقيق الأولى في الرفيق الأعلى "، وجوده ما شاء، وشرح من " منهاج " النووي قطعاً مفرقه، وكان يلقي الدروس من " نهاية المطلب ". وله رسالة سماها " رابع أربعة " نظماً ونثراً، وشرح في " عمدة الأحكام " قطعة. ودرس بالشامية البرانية. والظاهرية الجوانية والرواحية، وباشر في وقت دار الحديث الأشرفية تحت القلعة عوضاً عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، تقدير نصف شهر، ثم أخذها منه كمال الدين بن الشريشي في شعبان سنة عشر وسبع مئة. وولي نظر ديوان الأفرم، ثم بطله، وولي نظر الخزانة ووكالة بيت المال، وكتب في ديوان الإنشاء مدة ووقع في الدست قدام الأفرم وغيره، فكان لا يدع أحداً يتكلم لا من وزير ولا من قاض ولا من ناظر جيش ولا من حاجب ولا من كاتب سر، ولا من مشد أوقاف ولا من والي المدينة ولا أحد له وظيفة، وكلامه في جميع ذلك ساد واف بالمقاصد، وكل ذلك لمعارفه وسعة علمه وخبرته ودربته ومعرفته بتراجم أهل العصر. وله الإنشاء الجيد، ونثره خير من نظمه. وله التواقيع الجيدة المليحة، وكتب عن الأفرم في فتح جبل كسروان بعد البسملة: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 631 ولما كان في شهر شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة رسم له السلطان بقضاء حلب، فامتنع، ودخل على الأمير سيف الدين تنكز وسأله الإعفاء، فكتب له إلى السلطان، فجاء الجواب بالتشديد في أمره وتجهيزه قولاً واحداً، فتوجه بعد ما قضى أشغاله من دمشق في رابع عشر شوال من السنة المذكورة، وتأسف الناس على فراقه. ولما دخل إلى حلب يوم الثلاثاء سادس عشري شعبان قال له نائب حلب كانت قلوبنا قد انكسرت فجبرتها، وقال: يا حلبيين لقد سعدتم وأراد الله بكم الخير، والآن عظمت حلب بهذا الرجل. ولما وصل إلى حلب نزل بمكان يعرف بالفردوس، وكان قد توجه معه شمس الدين محمد الخياط الشاعر، فأنشده وأنشدنيه من لفظه غير مرة: يا حاكم الحكام يا من به ... قد شرفت رتبته الفاخره ومن سقى الشهباء إذ حلها ... بحار علم وندىً زاخره نزلت في الفردوس فابشر به ... دارك في الدنيا وفي الآخره وتألم أهل دمشق لفراقه وتأسفوا على بعده، لأنه كان للشافعية واسطة قلادتهم وشمس سيادتهم، وأقام في حلب مدةً وما رزق فيها سعادة، وتعكس في أيام الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وكان أصحب الناس إليه، وذلك لأنه عبث باليهود عبثاً عظيما وأخذ منهم كنيسة كانت لهم وفتحها مدرسةً، فتسلطوا عليه وبرطلوا وبذلوا، فنودي عليه في الجامع بعد صلاة الجمعة على رؤوس الأشهاد، وقاسى من ذلك شدة وتألم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 632 وطلبه السلطان بعد ذلك إلى الديار المصرية بعد ما وصل من حلب إلى دمشق في عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأقام بدمشق أربعة أيام، وتوجه على البريد إلى القاهرة ليوليه قضاء الشام أو كتابة السر بمصر، فقيل: إنه مات وهو مسموم، وعند الله تجتمع الخصوم. على أن القاضي شهاب الدين بن فضل الله حكى لي عن ولده تقي الدين أن والده الشيخ كمال الدين قال له وقد بدا في المرض في الرمل: والله يا ولدي أنا ميت ولا أتولى لا مصر ولا دمشق وما بقي بعد حلب ولاية أخرى، لأنه في الوقت الفلاني حضر إلى الجامع الأموي فلان الصالح فترددت إليه وخدمته وطلبت منه التسليك، فأمرني بالصوم مدة، ثم أمرني بصيام ثلاثة أيام، أظنه، قال لي: أفطر فيها على الماء واللبان الذكر، وكان آخر ليلة في الثلاث ليلة النصف من شعبان، فقال لي: الليلة تجيء إلى الجامع تتفرج أو تخلو بنفسك فقلت: بل أخلو بنفسي، فقال: جيد، ولا تزال تصلي حتى أجيء إليك، قال: فخلوت بنفسي أصلي كما وقفني ساعة جيدة، فلما كنت في الصلاة إذا به قد أقبل، فلم أبطل، ثم إنني خيل لي قبة عظيمة بين السماء والأرض، وظاهرها معارج ومراقي، والناس يصعدون فيها من الأرض إلى السماء، فصعدت معهم، فكنت أرى على كل مرقاة مكتوباً: نظر الخزانة، وكالة بيت المال، نظر المارستان النووي، التوقيع، المدرسة الفلانية، المدرسة العلانية، قضاء حلب، هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 633 أعلى المراقي المفرقة، ولما وصلت إلى هذه المرقاة أشفقت من هذه الحالة ورجعت إلى حسي وبت ليلتي. فلما اجتمعت بالشيخ قال لي: كيف كانت ليلتك؟ جئت إليك وما قصرت، لأنك ما اشتغلت بي، والقبة التي رأيتها هي الدنيا، والمراقي هي المراتب والوظائف والأرزاق، وهذا الذي رأيته تناله كله. والله يا عبد الرحمن وكل شيء رأيته قد نلته، وكان آخر الكل قضاء حلب، وقد قرب الأجل. أو كما قال. وكان الشيخ كمال الدين - رحمه الله تعالى - كثير التخيل، شديد الاحتراز، يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها، وتعب بذلك، وعادى أصحابه، وحسد، وعمل عليه مرات، ونجاه الله ببركات العلم. وطار ذكره، ورماه الناس أنه يؤذي أصحابه، حتى قال فيه صدر الدين بن الوكيل ما أنشدنيه من لفظه القاضي علم الدين إبراهيم بن سليمان المستوفي، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ صدر الدين بن الوكيل: طباع الزملكي لها مثال ... كعقرب أخفيت في البيت معنا فما مرت بشيء قط إلا ... وتضربيه سريعاً لا لمعنى ولقد رأيته مرةً في الظاهرية وفي يده قائمة الحساب وهو يساوق المباشرين على المصروف فيسبقهم إلى الجمع وعقد الجملة، ويبقى ساعةً ينتظرهم إلى أن يفرغوا، فيقول: كم جاء معكم؟ فيقولون: كذ وكذا، فيقول: لا، فيعيدون الجمع، إلى أن يصح. ومرض مرة بالماشرا، وكان يعوده لعلاجه من جملة الأطباء أمين الدين رئيس الأطباء، فخرج يوماً من عنده وقال: الله لا يعافي هذا الشيخ كمال الدين، قالوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 634 له: لأي شيء؟ قال: حتى يطول علاجنا له واجتماعنا به، لأننا نسمع منه أسماء أعضاء ما كنا نحققها وأمراض ما نصححها، فاستفدنا منه تصحيح ألفاظ ذلك كله. وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي عوالي وأربعين، وقرأها شيخنا الذهبي عليه. ومن نظمه ما كتبه إلى قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي يطلب منه " تيسير الفتاوي في توضيح الحاوي ": يا واحد العصر ثاني البدر في شرف ... وثالث العمرين السالفين هدى تيسيرك الشامل الحاوي الوجيز له ... نهاية لم تنلها غاية أبدا محرر خص بالفتح العزيز ففي ... تهذيبه المقصد الأسنى لمن قصدا وقد سمت همتي أن أصطفيه بها ... وأن أعلمه الأهلين والولدا فانعم به نسخةً مقابلةً ... ولاح نورك في أثنائها أبدا لا زلت بحر علوم طاب مورده ... وكل ظمآن علم منه قد وردا ومن نظمه رحمه الله تعالى: أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك وأعمل العيس والأشواق ترشدني ... عسى يشاهد معناك معناك تهوي بها البيد لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغر مضناك تشوقها نسمات الصبح ساريةً ... تسوقها نحو رؤياك برياك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 635 يا ربة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك إن شبهوا الخال بالمسك الذكي فه ... ذا الخال من رؤية المحكي والحاكي أفدي بأسود قلبي نور أسوده ... من لي بتقبيله من بعد يمناك إني قصدتك لا ألوي على بشر ... ترمي النوى لي سريعاً نحو مرماك وقد حططت رحالي في حماك عسى ... تحط أثقال أوزاري بلقياك كما حططت بباب المصطفى أملي ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك محمد خير خلق الله كلهم ... وفاتح الخير ماحي كل إشراك سما بأخمصه فوق السماء فكم ... أوطا أسافلها من علو أفلاك ونال مرتبةً ما نالها أحد ... من أنبياء ذوي فضل وأملاك يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما ود جاهك إلا كل أفاك أنت الوجيه على رغم العدا أبدا ... أنت الشفيع لفتاك ونساك يا فرقة الزيغ لا لقيت صالحةً ... ولا شفى الله يوماً قلب مرضاك ولا حظيت بجاه المصطفى أبداً ... ومن أعانك في الدنيا ووالاك يا أفضل الرسل يا مولى الأنام ويا ... خير الخلائق من إنس وأملاك ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت ... في الذنوب وهذا ملجأ الشاكي قد قيدتني ذنوبي عن بلوغ مدى ... قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي فاستغفر الله لي واسأله عصمته ... فيما بقي وغنى من غير إمساك عليك من ربك الله الصلاة كما ... منا عليك السلام الطيب الزاكي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 636 قلت: ولم أقف للشيخ رحمه الله تعالى على نظم هو خير من هذه القصيدة لقصدها الصالح، وقد أشبع فيها الكاف كسرة في خطاب المؤنث في ثلاثة أماكن حتى نشأت ياءً، لكنه جائز. وعمل على هذه القصيدة، أو على قصيدة ميمية مديح في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عليهما، كراريس سماها " عجالة الراكب ". ومن شعره: يا سائق الظعن قف بي هذه الكثب ... عساي أقضي بها ما للهوى يجب وارفق قليلاً لكي تروي الثرى سحب ... من ناظري بمزن منه تنسكب فثم حي حياتي في خيامهم ... فالموت إن بعدوا والعيش إن قربوا لي فيهم قمر والقلب منزله ... لكن طرفي له بالبعد يرتقب لدن القوام رشيق القد ذو هيف ... تغار من لينه الأعطاف والقضب حلو المقبل معسول مراشفه ... يجول فيها رضاب طعمه الضرب لا غرو إن راح نشواناً ففي فمه ... خمر ودر ثناياه لها حبب ولائم لا مني في البعد عنه وفي ... قلبي من الشوق نيران لها لهب فقلت: إن صروف الدهر تصرفني ... عما أروم فما لي في النوى سبب ومذ رماني زماني بالبعاد ولم ... يرحم خضوعي ولم يبق لي نشب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 637 ولما توفي رحمه الله تعالى نظم فيه المولى جمال الدين محمد بن نباته قصيدة مليحة يرثيه بها، أولها: بلغا القاصدين أن الليالي ... قبضت جملة العلا بالكمال وقفا في مدارس العقل والنق ... ل ونوحا معي على الأطلال سائلاها عسى يجيب صداها ... أين ولى مجيب أهل السؤال أين ولى بحر العلوم وأبقى ... بين أجفاننا الدموع لآلي أين ذاك الذهن الذي قد ورثنا ... عنه ما في الحشا من الاشتعال أين تلك الأقلام يوم انتصار ... كعوالي الرماح يوم النزال ينقل الناس عن طريق هداها ... طرق العلم عن متون العوالي وتفيد الجنا من اللفظ حلوا ... حين كانت نوعاً من العسال وكنت قد اختلفت أنا والمولى شرف الدين حسين بن ريان في وقت بصفد في قول الحريري في بعض " مقاماته ": فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب فذهب هو في إعراب قوله: " ما فيه " إلى أن هذا في موضع نصب على أنه مفعول ثان، وذهبت أنا إلى أنه بدل اشتمال من الهاء في قوله: " يبتزه "، فكتب شرف الدين فتوى من صفد وجهزها إلى الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى، ونقلتها من خطه وهي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 638 ما تقول السادة علماء الدهر، وفضلاء هذا العصر، لا برحوا لطالبي هذا العلم الشريف قبلة، وموطن السؤال ومحله، في رجلين تجادلا في مسألة نحوية، وهي في بيت من " المقامات الحريرية " وهو: فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب وذهبا إلى أن معنى " يبتزه " يسلبه، وكل منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه، وأصل سؤالهما الغريب إعراب قوله: " ما فيه من بطش وعود صليب ". لم يختلفا في نصبه، بل خلفهما فيما انتصبت به، فذهب أحدهما إلى أنه بدل اشتمال من الهاء المنصوبة في " يبتزه "، وله على ذلك استدلال، وذهب الآخر إلى أنه مفعول ثان " ليبتزه " وجعل المفعول الهاء، واختلفا في ذلك وقاصديكم جاءا وقد سألا الإجابة عن هذه المسألة. فكتب الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى الجواب، ونقلته من خطه وهو: الله يهدي للحق، كل من المختلفين المذكورين قد نهج نهج الصواب، وأتى بحكمة وفصل خطاب، ولكل من القولين مساغ في النظر الصحيح، ولكن النظر إنما هو الترجيح، وجعل ذلك مفعولاً أقوى توجيها في الإعراب، وأدق بحثا عند ذوي الأدب. أما من جهة المعنى فإن المقام مقام تشك وأخذ بالقلوب، وتمكين، هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 639 المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب، منه مع بيان المسلوب، فذكر المسلوب مقصود كذكر ما سلب، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الألباب، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة، والله أعلم. كتبه محمد بن علي. قلت: لا أعلم في ذلك العصر أحداً يأتي بهذا الجواب غيره، لمعرفته بدقائق النحو وبغوامض علمي المعاني والبيان ودربته بصناعة الإنشاء. وأما صورة الخط الذي نقلت منه هذه الفتوى فما كانت إلا قطعة روض تدبجت، أو هوامش عذار على طرس الخد تخرجت، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الجنة منقلبه وعقباه. ونقلت من كلامه تعليقاً على قوله تعالى: " التائبون العابدون " الآية: فإن قيل: كيف ترك العطف في جميع الصفات وعطف " النهي عن المنكر " على " الأمر بالمعروف " بالواو؟ قلت: للمفسرين والعلماء في الجواب عن هذا السؤال أقول، فمنها قولهم لأنها الصفة الثامنة، فهي واو الثمانية، وهذا في غاية السخافة، منها أن هذا من التفنن في الكلام، وهو جواب إقناعي، ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا بعيد في الإعراب ومقصود الكلام، ومنها أن هاتين الصفتين متعلقتان بالغير فاحتاجت إلى مزية، وهو كالأجوبة التي قبله. قال: وعندي في هذا وجه حسن، وهو أن الصفات تارة تنسق بحرف العطف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 640 وتارة تذكر بغيره، لكل مقام معنى يناسبه، فإذا كان المقام مقام تعداد صفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف، فإن أريد الجمع بين الصفتين أو التنبيه على تغايرهما عطف بالحرف أيضاً، وفي القرآن أمثلة تبين ذلك، قال الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " الآية، فأتى بالواو بين الوصفين لأن المقصود بالصفات الأول ذكرها مجتمعة، والواو قد توهم التنويع، فحذف، وأما الأبكار فلا يكن ثيبات والثيبات لا يكن أبكارا، فأتي بالواو لتضاد النوعين، وقال تعالى: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول "، فأتى بالواو في الوصفين الأولين، وحذفهما في الوصفين الآخرين، لأن غفران الذنب قبل التوبة، وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب، فبين الله تعالى بعطف أحدهما على الآخر أنهما مفهومان متغايران ووصفان مختلفان يجب أن يعطى كل واحد حكمه، وذلك مع العطف أبين وأرجح وأوضح، وأما شديد العقاب، وذو الطول فهما كالمتضادين، فإن شدة العقاب تقتضي اتصال الضرر، والاتصاف بالطول يقتضي اتصال النفع، فحذف ليعرف أنهما مجتمعان في ذاته المقدسة موصوفاً بهما على الاجتماع. فهو في حال اتصافه بشديد العقاب ذو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 641 الطول، فحسن ترك العطف لهذا المعنى. وفي هذه الآية التي نحن فيها يتضح معنى العطف وتركه مما ذكرناه، لأن كل صفة مما لم ينسق بالواو مغايرة للأخرى، والغرض أنهما في اجتماعهما كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمان أو كالمتلازمين مستمدان من مادة واحدة كغفران الذنب وقبول التوب، حسن العطف ليبين أن كل واحد معتد به على حدة، فإنه بذاته لا يكفي منه ما يحصل في ضمن الآخر، بل لا بد من أن يظهر أمره بالمعروف بصريح الأمر، ونهيه عن المنكر بصريح النهي، فاحتاج إلى العطف، وأيضاً فلما كان الأمر والنهي ضدين أحدهما طلب الاتحاد والآخر طلب الإعدام كالنوعين المتغايرين في قوله تعالى: " ثيبات وأبكاراً " فحسن العطف بالواو، فهذا ما ظهر من الجواب. والله أعلم. قلت: وكنت أنا في زمن الصبا والإشغال قد جمعت في هذه الواو كراسة وفيها فوائد. محمد بن علي بن أبي بكر الرقي الشيخ الصالح الواعظ المحدث شهاب الدين بن تاج الدين المعروف ب ابن العديسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 642 كان شيخ الخانقاه المجاهدية ظاهر دمشق، وله مواعيد حديث يقرأ فيها في الجامع الأموي والجامع السيفي وأماكن أخر، وكان يعاني شيئاً من المواعظ في كلامه، وكان فيه تعبد وانقطاع وكرم وسخاء، وحج مرات وجاور، سمع على عمر بن القواس، ويوسف الغسولي وغيرهما، وسمع ببعلبك من الشيخ تاج الدين عبد الخالق، وحدث. وتوفي رحمه الله تعالى بوادي الأخضر في يوم الخميس عاشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين. ومولده ... وأظن المجير الخياط فيه يقول: في الدهر شيء عجيب ... مرآه يقذي اللواحظ ابن الرزير خطيب ... وابن العديسة واعظ محمد بن علي بن سعيد الأنصاري الشيخ الإمام الفاضل المفنن بهاء الدين أبو محمد المعروف بابن إمام المشهد. قرأ القرآن العظيم وأتقنه بالروايات السبع على الكفري، واشتغل بالعربية على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 643 الشيخ محمد التونسي ولازم الشيخ نجم الدين القحفازي كثيراً، وقرأ الفقه على الشيخ برهان الدين بن تاج الدين. وسمع بمصر والإسكندرية وحلب، وبدمشق من أشياخ عصره. وكان حسناً شكله بيناً فضله، كثير التبسم، غزير الارتياح للسيادة والتسنم. جاب البلاد وما هاب الجدال والجلاد، وقطع المفاوز بحظ هابط وعزم صاعد. وشام كل بارق، وانتجع كل راعد، إلى أن أقمر ليل حظه الدجوجي بعدما تطور في أطوار أبي زيد السروجي. وكان قد جود الفقه والعربيه، وعلق التعاليق الأدبيه، وبلغ ما أراد من الوصول إلى الأصول، واستنفد الحاصل واستغرق المحصول. وكتب المنسوب الفائق، وقطع في حسنه الدرج والدقائق، ونظم جيداً ونثر. ورقا درج منبره، وكان كأنه في أعلاه حمام هدر: ينمنم الخط لا يجتاب أحرفه ... والوشي مهما حكاها منه يجتاب إلى تصانيف في أكمامها ثمر ... تجنيه بالفهم دون الكف ألباب ولم يزل على حاله إلى أن نزلت به دؤلول بنة الرقم، وأصبح كف الموت من شخصه ينتقم. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في بكرة الأربعاء ثامن عشري شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 644 ومولده في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة. وجمع كتاب " الأحكام " في ست مجلدات وجوده، وتناولته منه، وأجازني رواية ماله تسميعه بديوان الإنشاء في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة بدمشق. وكان قد أم بدار الحديث ثم بمسجد الكنيسة، ودرس بالقوصية، وأقام بحلب مدة، وتردد إليها مرات، ثم أقام بطرابلس مدة، وتوجه إلى صفد وأهلها على عطش، ومعه أشياء بخطه فأباعها بأوفر الأثمان، وتوجه إلى مصر مرات، وحضر سنة ست وثلاثين بين يدي السلطان الملك الناصر، وساعده القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فولاه المدرسة الأمينية بدمشق عوضاً عن القاضي علاء الدين بن القلانسي، وحضر إلى دمشق على البريد، وذكر الدرس بها في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وحضره الأعيان. ثم إنه سعى وأخذ نظرها أيضاً من الخطيب بدر الدين، ومشت بذلك حاله قليلاً، وهو من وراء السعي والطلب. ثم إنه سعى وتولى الحسبة بدمشق بعد موت القاضي عماد الدين الشيرازي في أيام سيف الدين أرغون شاه. وكتبت أنا توقيعاً له بذلك وهو " الحمد لله الذي زاد الدين بهاء بمحمده، وزان العلم الشريف بكل حبر جمل مغيبه حسن مشهده، وكمل الفضل بكل عالم يشهد من يومه مخائل الزيادة في غده. فحمده على نعمه التي أعلت الرتب، ونفت الشبه وكشفت الريب، وكفت المؤونة في رفعة قدر من توكل على الله واحتسب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 645 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لا يدخل الشك إقرارها، ولا يمحو الإفك أنوارها، ولا يبهرج الحك دينارها. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، والجود الذي اختص به وهو للخلق عميم، والفضل الذي أوتيه " من لدن حكيم عليم " صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتبعوا أوامره، وسمعوا زواجره، ووضعوا على هامة الثريا مناقبه، ورفعوا على فرق الفرقد مفاخره. صلاة تشرف بحفظها كل جمع، وتشنف بلؤلؤ لفظها كل سمع، ما عم نظر في المصالح فأنعم، وملأ إناء الأنى قطر الإحسان فأفعم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وبعد: فإن النظر في مصالح الجمهور، والفكر في المنافع العامة الوافية الأجور من الأمور التي تتجمل بها الدول، وتفخر بها الأيام المختصة بمحاسنها على الليالي الأول، والنظر في أمر الحسبة الشريفة سلك ينخرط فيه هذا الجوهر الفاخر القيم، وملك تتنافس في ادخاره الأخلاق الطاهرة الشيم. كم باطل أقام به الحق منه الأود، وقوم الميل، وكم نجس أزاله به من الذراع والميزان والكيل، وكم غش أخرب الله به عشه في معايش النهار والليل، وكم زغل طهر به الكم فولى وقد شمر الذيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 646 وكان الجناب العالي الشيخي البهائي ممن اشتهر فضله، ونزع في قوس الإحسان فأصاب الصواب نبله الذي أرسله نبله، وخدم العلم الشريف حتى عز في عصره أن يوجد في فنونه مثله، وتفرع عن أصل زكا فكان والده رحمه الله تعالى ليثاً وقد شب له منه شبله. أما القراءات فباع صاحب القصيدة معه فيها قصير، ومسلك مصنف " التيسير " أصبح وهو عسير. وأما العربية فأين صاحب " الجمل " من هذا التفصيل. وأين صاحب " الحجة " من هذا التعليل. وأما الفقه فلو رآه الروياني علم أن بحره في حوضه قطره، ولو سمعه النووي لأطلع من كلامه بروضته في كل شطر سطر زهره. وأما الأصول فالإمام يتأخر عن محراب فخره، والسيف لا يثبت له عند هزه. وأما الخطابة فهو من فرسان منابرها، وأبطال محاربيها ومحابرها. كم أذاب حصاة قلب تحت منبره، وأذرى بها دمعاً إذا جرى تعثر في محجره. وأما الكتابة فما فتح ابن البواب لغيره فيها بابا، ولا رفع ابن مقلة فيها لغيره أهدابا، فشهدة شهدت له بالحلاوة نصاً. وياقوت أصبح في خاتمه فصا، هذا إلى سياسة حلب بها أشطر الأمور، وعلم بها مصالح الجمهور، وملك بعرفانها أزمةً تسقط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 647 على حبها طير المصالح. ويصبح راجي العدل بها وميزانه راجح، وتصدق بتوخيها المنى والمناجح. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني أن يرتب في الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأن هذا العقد بجيده لائق، وهذا التاج لا يعوقه عن مفرقه عائق، وهذا الميدان لا يجري معه فيه سابق ولا سائق. فليباشر ذلك مباشرة من هذبته العلوم، وتدرب بالقواعد الشرعية فاستدل بالمنطوق على المفهوم، وساد بنفسه العصامية، فكان له من الرياسة سرب معلوم، وملك من السياسة ما يعرف به وجه الظالم من المظلوم، فقد وليناك هذه الوظيفة وأنت ملء قالبها، وعذقنا أمرها بك، وأنت أولى من قالبها وقال بها. فتمم نقصها بكمالك، ومش الناس فيها على أقوام المسالك. وأقم المهابة فإنها ترعى هؤلاء الرعاع، ومالك فيها إلا مذهب مالك، وافعل ما تقتضيه معرفتك من احتكار ومنع، وانخفاض سعر ورفع، وتحرير ما يخرج من دار الضرب من النقود وتصحيح العيار، فكم درهم ودينار هو في المعدوم معدوم، وقد يتغطى الزين بالرين ويشتبه الشيء الحسن بالشين، وضبط ما يمتد فيه باع الذراع، ويتحرك به لسان الميزان ويبتلعه فم الصاع، ومنع العطارين من بيع العقاقير الغريبة لمن هو مجهول، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 648 والأصناف التي لا يلتئم اجتماعها وريعها بالهلاك مأهول، وأهم ما عندك خبر الخبز فأمتع العيون ببدور رغفانه ووجوه لجين عجينه الذي تتلون في النار خدود عقيانه، وانظر في جليل أمره ودقيقه، وقف على مبتدأ حبه وخبز دقيقه. وانته إلى غاية أمره إذا خرج من النار المسعره، واقصد العدل كمن عمل معدلة وسعره، وغش البواطن فاستعن بالله على إزالته، وصلاح فساده وإحالته، لأن ما أمره مغيب يتوقف في أمره ويستراب، والداء القاتل أكثر ما يكون من الطعام والشراب. إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويضيق هذا المقام فلا يتوسع فيه سرحه. وأنت بتفصيل الوصايا جد بصير ولو قيل لك قليل كان عندك منه علم كثير. وتقوى الله تعالى حلية لكل راع، وزينة لكل فاضل انعقد عليه الإجماع. فلتكن عين جمالك وحاجب جلالك، والله يوفق مسعاك. ويحفظك ويرعاك. والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. ثم إنه أقام في الحسبة إلى أن وصل القاضي عماد الدين بن الفرفور على الوظيفة في أوائل سنة إحدى وخمسين، فتوجه ابن إمام المشهد إلى الديار المصرية، ومعه زوجته الحموية، وكان قد غرم عليها جملةً إلى أن مات ما يقارب المئتي ألف درهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 649 وأنشد بدر الدين حسن بن علي الغزي فيه، واشتهر بذلك عنه في الشام ومصر: قلت لما سار البهاء لمصر ... وسرى نحوها بعرس ظريفه أنت لا شك أن تعود ولكن ... لا بها يا بها ولا بالوظيفه فتوصل هناك إلى أن وصل للأمير سيف الدين شيخو، وسعى، وتولى الوظيفة ثانياً، ثم أخذت منه للقاضي جمال الدين الفاقوسي في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، ثم إنه سعى وأخذها، ولما حضر الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى دمشق أخذها منه وأعطاها للقاضي بدر الدين ابن وهيبة قاضي بعلبك، فأقام بها قليلاً، ولم تمض الولاية من مصر وأعيدت إليه. ولم يزل فيها إلى أن مرض مرضة طويلة قريباً من سنة إلى أن مات في التاريخ. وكان بيده أيضاً خطابة جامع العقيبة. وأنشدني له إجازة: ولولا ما أخاف من الأعادي ... وأن حديثنا فيهم يسير جننت بكم كما مجنون ليلى ... وإن طال المدى فكذا نصير وأنشدني له في ناعورة: كنت في دوحة الرياض مهنا ... أنهل الطل بين تلك الغصون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 650 فلنوح الحمام فوقي طويلاً ... غرقتني كما تراني عيوني قلت: تقدم لي في ترجمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وله عدة مقاطيع في الناعورة، ومما قلته أنا فيما يشبه هذا ... وأنشدني ابن إمام المشهد له إجازة: أنتم بلائي وأصل بلبالي ... وغيركم ما يمر في بالي يا جيرة في الغوير قد نزلوا ... لله من جيرة ونزال ما عطل الطرف بعد بعدكم ... عن دمعه واسألوا عن الحال فلو زعمتم أني سلوتكم ... ويعلم الله أينا السالي لا تتلفوا مهجة لكم خلقت ... فقد نهي عن إضاعة المال قلت: أحسن ما رأيت في هذه المادة، أعني البيت الرابع قول السراج الوراق رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت: قال صديقي ولم يعدني ... وعارض السقم في أثر لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير محمد بن علي بن أيبك الشيخ المحدث الإمام شمس الدين أبو عبد الله السروجي. عرض القرآن وهو ابن تسع سنين، وارتحل إلى حلب ودمشق وغيرهما من البلاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 651 الشامية مرات، وأخذ عن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس ومن عاصره من أشياخ العلم، وصار من الحفاظ، أتقن المتون وأسماء الرجال وطبقات الناس والوقائع والحوادث، وضبط الوفيات والمواليد. ومال إلى فن الأدب، وحفظ من الشعر القديم والمحدث جملة، وكتب الطباق والأجزاء، وحصل ما يرويه عن أهل عصره في البلاد التي ارتحل إليها. ولم أر بعد شيخنا الحافظ أبي الفتح من يقرأ أسرع منه ولا أفصح، وسألته عن أشياء من تراجم الناس ووفياتهم وأعصارهم وتصانيفهم، فوجدته حفظة لا يغيب عنه ما حصله، وهذا الذي رأيته منه في هذه السن القريبة كبير على من غلب سنه من كبار العلماء، ومع ذلك فله ذوق الأدباء وفهم الشعراء، وخفة روح الظرفاء. وكان قد خرج لنفسه تسعين حديثاً متباينة الإسناد. قال شيخنا الذهبي: سمعناها منه، ثم إنه كملها مئة. وتوفي رحمه الله تعالى بحلب ثامن شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع ومئة، ودفن ثاني يوم الجمعة بكرة. وسألته عن مولده فقال: في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. محمد بن علي بن محمد ابن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد بن قطرال الأنصاري الخزرجي الحارثي، القرطبي الأصل، ثم المراكشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 652 كان رجلاً فاضلاً صالحاً له نظم ونثر، وعنده صلاح وانقطاع وديانة. سمع كثيراً بالمغرب، ودخل مصر والشام، وسمع، وحج غير مرة، وجاور. وتوفي رحمه الله تعالى بمكة برباط الجزري عند باب إبراهيم عليه السلام في رابع جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، غسل ثوبه وطلع إلى سطح الرباط لينشره فوقع من أعلاه فمات، ودفن بباب المعلى. ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة. محمد بن علي بن أبي طالب ابن أبي عبد الله، الشريف شمس الدين بن الشريف علاء الدين الحسيني الموسوي العطار المعروف بالشريف عطوف. كان يروي صحيح مسلم عن المشايخ الاثني عشر. وسمع من جده لأمه محمد بن أبي بكر النيسابوري، وسمع من ابن مسلمة، وسمع جزء الأنصاري من المشايخ الأربعة والأربعين مجتمعين، وحدث. وله إجازات من بغداد سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أجازه ابن القطيعي، ونصر بن عبد الرزاق، وابن اللتي، وابن روزبة، وزهره بنت حاضر وجماعة. وأجازه بمصر أبو الخطاب بن دحية، ومرتضى، وابن الصفراوي. ومن دمشق ابن الشيرازي، وابن ماسويه، والفخر الإربلي، وابن صباح، ومكرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 653 وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة. محمد بن علي بن عبد الكريم الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون أقضى القضاة، فخر الدين، أبو الفضائل وأبو عبد الله المصري الشافعي الأشعري المعروف بابن كاتب قطلوبك. تقدم ذكر والده في مكانه. قرأ القرآن على جماعة منهم الشيخ موسى العجمي. وقرأ العربية والفقه أولاً على الشيخ كمال الدين بن قاضي شبهه، ثم قرأ الفقه على الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين، وقرأ بقية العلوم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وهو أكثرهم إفادة له، وكان معجباً به وبذهنه وبحافظته، يشير إليه في المحافل والدروس وينوه بقدره ويثني عليه، ونزل له عن تدريس العادلية الصغيرة. وقرأ على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وبحث على الشيخ مجد الدين التونسي، وعلى الشيخ نجم الدين القحفازي. كتاب " المقرب " في النحو، وحفظ " الجزولية "، وبحث منها جانباً على شيخنا نجم الدين الخطيب وقرأ الجست على النعمان، والمنطق على جماعة أشهرهم الشيخ رضي الدين المنطقي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي بمصر. وحفظ " التنبيه " و" المنتخب " في أصول الفقه، وحفظ " مختصر " ابن الحاجب في مدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 654 تسعة عشر يوماً، وهذا أمر عجيب باهر إلى الغاية، فإن ألفاظ " المختصر " غلقة عقدة ما يرتسم معناها في الذهن ليساعد على الحفظ، وحفظ " المحصل " في أصول الدين وهو قريب من ألفاظ " المختصر " وحفظ " المنتقى " في الأحكام، وقال: أحفظ منه في كل يوم خمس مئة سطر. وشرع في حفظ أشياء لم تكمل مثل " مطلع النيرين " و" المنهاج " للنووي، و" تصريف " ابن الحاجب. وأذن له بالإفتاء وعمره ست وعشرون سنة، وولي تدريس العادلية الصغيرة في سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وفيها أذن له بالإفتاء، ولما توفي شيخنا الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين جلس بعده بالجامع الأموي وحلقة الإشغال في المذهب عند الرخامة، وتأدب مع شيخه، فأخلى مكانه وجلس إلى جانب منها. وأنشدني شيخنا العلامة مفتي الإسلام وشيخهم قاضي القضاء تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يذكر أول من جلس إلى هذه الرخامة إلى آخر وقت من المصدرين. للإشغال، ومن خطه نقلت وهو: الجامع المعمور فيه رخامة ... يأوي لها من للفضائل يطلب الشيخ فخر الدين ابن عساكر ... والشيخ عز الدين عنه ينسب والشيخ تاج الدين نجل فزارة ... عنه تلقاها يفيد ويدأب ثم ابنه أكرم به من سيد ... ورع له كل المنابر تخطب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 655 وتلاه فخر الدين واحد مصره ... بذكائه كالنار حين تلهب وابني يليهم زادهم رب السما ... علماً وفهماً ليس فيه ينصب وأقدم من سمع عليه الحديث هدبة بنت عسكر، وأحمد بن مشرف. وحج إلى أن مات تسع حجات فيما أظن أو ثمانية، وجاور في بعضها مرات بمكة والمدينة. وكان رحمه الله تعالى في الذكاء والحفظ أعجوبه، لم يكن في زمانه من يلحق أسلوبه، قد صار الفقه والأصول له طباعا، ونقل فروع المذهب هوى مطاعا، متى دعاه لباه وجاءه مسرعاً ولا يأباه، فلو رآه أبو ثور لزم التسلسل في التعجب أو الدور، وما قال بتقديم الوصية على الدين، وهو في المذهب أغرب من بياض غراب البين، أو الزعفراني لخلق ثيابه بها فرحا، وفتح دربه ببغداد مرحا، أو عاصره المزني لغرق في قطره وتحقق أن الفخر لمصره، أو ابن سريج لعلم أنه لم يكن من خيل هذه الحلبة، ووصى للماوردي أن يكون صاحب الثناء عليه ونبه. وما أحقه بقول الأرجاني: غبرت في غرر الذين تقدموا ... في الدهر من أهل الفضائل والعلا وسبقتهم ولرب آخر حلبة ... بسط العنان له فصار الأولا وكان يتجر ويقتني الأصناف ويدخر إلى أن ثور نعمة طائله، وحصل جملة هائله، إلا أنه كان يخرج الزكاه. أخبرني بذلك من صدقته لما حكاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 656 ولم يزل على حاله إلى أن نزلت بشهاب حياته شعوب، ولبست الدنيا من الأصيل عليه ثوب شحوب. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن في مقابر الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة. وتوفي بدمشق بداره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي منها ثم انتكس. وسألته عن مولده فقال: في سنة إحدى وتسعين وست مئة. واجتمعت به غير مرة. وكان ظريفاً ولطيفا، وكان قد حج بعض حجاته وجاور، ولما حضر كتبت له توقيعاً بإعادة نظر الدولعية وتدريسها إليه، وهو: " رسم بالأمر العالي أعلاه تعالى، لا زال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره، ويعيده إلى خير حبر تقبس الفوائد من نوره وتغترف من بحره ويجمل الزمان بمن هو علم عصره وفخر مصره أن يعاد المجلس العالي القضائي الشيخي الفخري إلى كذا وكذا، وضعاً للشيء في محله، ورفعاً للوبل على طله، ودفعاً لسيف النظر إلى يد هي مألف هزه وسله، ومنعاً لشعب مكة أن ينزله غير أهله، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله عنه حجه، ولبحر مذهبه الزاخر لجه، ولأهل فضله الذين يقطعون مفاوزه بالسرى صبح وبالمسير محجه، طالما ناظر الأقران فعدلهم، وجادل الخصوم في حومة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 657 البحث فجد لهم وجدلهم. كم قطع الشبهات بحجج لا يعرفها السيف، وأتى بوجه ما رأى الروياني أحلى منه في أحلام الطيف، ودخل باب علم فتحه القفال لطالب " نهاية المطلب " التبري، وارتوى من معين ورد عين حياته الخضري. وتمسك بفروع صح سبكها فقال ابن الحداد: هذا هو الذهب المصري، وأوضح المغالط بما نسف به جبال النسفي، وروى أقوال أصحاب المذهب بحافظة يتمناها الحافظ السلفي. كما جاور بين زمزم والمقام، وألقى عصا سفره لما رحل الحجيج وأقام، وكم طاب له القرار بطيبه. وعطر بالإذخر والجليل ردنه وجيبه. وكم استروح بظل نخلها والسمرات. وتملى بمشاهد الحجرة الشريفة، وغيره يسفح على قرب تربها العبرات، وكم كتب له بالوصول وصول، وبث شكواه فلم يكن بينه وبين الرسول رسول، لا جرم إنه عاد وقد زاد وقارا، وآب بعد ما غاب ليلاً فتوضح شيبه نهارا. فليباشر ما فوض إليه جرياً على ما ألف من إفادته، وعهد من رياسته لهذا العصابة وسيادته، وعرف من زيادة يومه على أمسه، فكانت كنيل بلاده، لا يتعجب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 658 زيادته، حتى يحيي بدرسه ما درس، ويثمر عود الفروع، فهو الذي أنبته بهذه المدرسة وغرس، مجتهداً في نظر وقفها، معتمداً على تتبع ورقات حسابها وصحفها، عاملاً بشروط الواقف فيما شرط، قابضاً ما قبضه باسطاً ما بسط، وتقوى الله جنة يرتع فيها خاطره، ويسرح في رياضها الناضرة ناظره. ومثله لا ينبه عليها. ولا يومأ له بالإشارات إليها، فلا ينزع ما لبس من حلاها، ولا يسر في مهمه فهمإلا بسناها. والله يديم فوائده لأهل العلم الشريف، ويجدد له سعداً يشكر منه التالد والطريف. والخط الكريم أعلاه حجة بثبوت مقتضاه، إن شاء الله تعالى ". وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني قد استنابه واستناب جمال الدين يوسف بن جملة، واستمرا على ذلك، ولما جاء القاضي علاء الدين القونوي باشر النيابة في أيامه، ثم إن القاضي فخر الدين استعفى في شهر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكان يعتكف في بعض السنين في شهر رمضان بمقصورة الخطابة رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن محمود ابن الدقوقي البغدادي المعمر. توفي رحمه الله تعالى ببغداد في سنة أربعين وسبع مئة عن خمس وسبعين سنة. سمع من ابن أبي الدينة " مسند " الإمام أحمد، وحدث عن أبي محمد بن ورخز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 659 محمد بن علي بن حرمي الشيخ الإمام الفاضل الفرضي المحدث عماد الدين أبو عبد الله الدمياطي. سمع من الدمياطي، والأبرقوهي، وبنت الإسعردي وطائفة بمصر، وبدمشق من الموازيني، وابن مشرف. وسمع بقراءتي " المقامات الحريرية " وغيرها على شيخنا العلامة أثير الدين، وعلق عني أشياء. وكان حلو المحادثة، كثير التودد، غزير المحاسن، وله خصوصية زائدة عن الحد بقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ولي مشيخة الكاملية. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة بطاعون مصر. محمد بن علي بن أحمد ابن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، ابن الشيخ الإمام المسند فخر الدين أبي الحسن الصالحي الحنبلي، المعروف بابن البخاري. سمع من إبراهيم بن خليل، وعبد الله الخشوعي، وعلي بن إسماعيل بن إبراهيم بن طلحة المقدسي، وابن عبد الدائم، وغيرهم. وأجاز له جماعة من بغداد منهم إبراهيم الرعيني، ومحمد بن الحصري وهما من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 660 أصحاب ابن شاتيل. وسافر إلى العراق بسبب الأسرى، وحدث بدمشق والقاهرة، وكان شيخ الحديث بالمدرسة الضيائية، وليها بعد موت سعد الدين سعد، وخرج له ابن المحب جزءاً من عواليه فيه خمسة عشر شيخاً بالسماع. وكان فيه همة وشجاعة وقوة نفس وكرم، وعنده عبادة وقيام ليل. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة. محمد بن علي بن أبي القاسم المقرئ الإمام الكبير، بقية السلف، أبو عبد الله الموصلي الحنبلي ابن خروف، ويعرف بابن الوراق. ارتحل إلى بغداد في طلب العلم سنة اثنتين وستين وست مئة، وتلا بعدة كتب على الشيخ عبد الصمد، وسمع من جماعة، وقرأ كتباً كباراً، وقرأ " تفسير الكواشي " على المصنف و" جامع أبي عيسى " على ابن العجمي. قال شيخنا الذهبي: قدم علينا وسمعنا منه. وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة أربعين وست مئة. محمد بن علي بن مخلوف بن ناهض قاضي القضاء محيي الدين ابن قاضي القضاة زين الدين المالكي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 661 كان مشكور السيرة عاقلاً ديناً كثير السكون، يفضله الناس على والده، وناب عن والده مدة في الحكم. وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان من أبناء الأربعين. وقد تقدم ذكر والده. محمد بن علي الكاتب المجود البارع أمين الدين ابن المهتار الصفدي، كان يعرف عند بعض الناس بدرويش، بفتح الدال المهملة وسكون الراء وكسر الواو وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وشين معجمة. كتب المنسوب الفائق، وأبرزه للعيون في المنظر اللائق الرائق، ووضع سطوره في طروسه فحكى نظرات الأحداث ونضارة الحدائق، وفاق كتاب العصر، إلا أن خطه كان لحظه من أكبر العوائق، لم أر ولا غيري مثل الصفاء الذي كان في خطه في سائر الأقلام، والقوة التي يشهد بها أرباب العلوم والأعلام، والتحرير الذي لم تشاهد العيون مثله في اليقظة والأحلام، فيا لها من كتابة: ذهبت كما ذهبت بساطع نورها ... شمس النهار وأعقب الإظلام مولده تقريباً في سنة سبع وسبع مئة. وأظن وفاته كانت بالقاهرة في طاعون مصر، سنة تسع وأربعين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 662 وكان والده ركابياً عند الأمير علاء الدين أقطوان أمير حاجب بصفد، ونشأ هو بصفد ويده قابلة يكتب خطاً قوياً إلى الغاية، لكن خطه غير منسوب، فنزل إلى دمشق، ونزل عند الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني بواباً في المدرسة الرواحية، فحنا عليه لحسن كتابته. وكتب على الأشياخ المجودين، ومهر، ثم عاد إلى صفد، وأقام قليلاً، ثم توجه إلى بغداد، وكتب هناك على طريقة ياقوت المستعصي، وجود النسخ الفضاح، ثم إنه دخل إلى الهند ولبس زي الفقراء، وجاء إلى اليمن، ثم قدم إلى القاهرة، فرأيته بها في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ثم عدت رأيته بها في سنة ست وثلاثين إلى سنة تسع وثلاثين. وقد اتصل بالقاضي الرئيس ضياء الدين بن الخطيب، وقد أحبه وحنا عليه وجعله نائبه في الفروع من الحسبة، ثم إني رأيته بدمشق سنة ست وأربعين وسبع مئة، وعاد منها إلى الديار المصرية، وكان ذلك آخر عهدي به. وكان ينظم متوسطاً، إلا أنه كان منحرف المزاج، في أخلاقه زعارة، وعنده طيش، وفيه سلس، فكان ذلك سبب تأخيره وعدم تقدمه. كتب إلي في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة وأنا بالقاهرة: تصوم بخير في سرور وغبطة ... وضدك في عكس القضية خامل وحكمك ماض في البرية نافذ ... وأمرك في أقصى الأقاليم واصل لأنت صلاح الدين أفضل من وشى ... وأنشا إذا التفت عليه المحافل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 663 وكنت قد كتبت إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء الشريف قصيدة على وزن قصيدة ابن بابك التي أولها: علقته أسود العينين والشعره ولهج بها المصريون، ونظم جماعة كثيرة على وزنها، فكتب هو إلي في ذلك الوزن، والجميع هو في الجزء الرابع والعشرين من " التذكرة ": سرت نسيم الصبار في روضة حبره ... فرنحتنا بأنفاس لها عطره وغنت الورق في الأغصان من طرب ... على رياض ببانات الحمى عطره وزمجر الرعد في أكناف سارية ... وأومض البرق عاينا إذاً مطره وصفق الماء في الغدران من فرح ... والغصن أهدى لنا يا صاحبي ثمره ونحن في مجلس اللذات نكرعها ... من كل صافية صفراء معتصره ونغمة الشيزفي راحات غانية ... أغنت بمبسمها عن أن ترى قمره وحسن ساق سقى صرفاً فأسكرني ... فما رأيت له عيناً ولا أثره دع عنك ذلك وانظر في فضائله ... وافت وحقك في المنظوم منتثره صلاح ديوان إنشاء الشام به ... فما على الحق ما محمود من غبره قدمته وفق أبيات نظرت لها ... فما تلعثمت أن وافيت بالعشره وكتب إلي كثيراً، وهذا القدر يكفي من أنموذجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 664 محمد بن علي بن حسن الأمير ناصر الدين ابن الأمير علاء الدين بن المرواني. كان هذا الأمير ناصر الدين أحد أمراء العشرات، ولما كان والده والي القاهرة كان هو والي مصر، ولما توفي والده توفي السلطان الملك الناصر محمد حضر هو إلى الشام، وتعكس، وتوجه إلى حلب، ثم إنه عاد مع الأمير يلبغا اليحيوي لما حضر إلى دمشق نائباً، فولاه بر دمشق، وأقام به مدة، ثم انفصل وبقي بطالاً مدة. ثم إنه تولى بيروت وأقام به مدة، ثم إنه حضر إلى دمشق وأقام مديدة. وتوفي رحمه الله تعالى، وكان فيه حشمة وخدمة للناس ورعاية وتودد، وتولى ولاية المدينة بدمشق أيضاً وكانت وفاته في ... محمد بن علي بن محمد الفاضل الأديب المنجم شمس الدين أبو عبد الله، المصري مولداً الغزي منشأ، المعروف بابن أبي طرطور. أقام بغزة مدة، وكابد فيها من الإقلال شدة. وورد إلى دمشق وسكنها، وأزاح بآدابه لكنها. وكان يجتمع بالصاحب شمس الدين وبناصر الدين الدوادار. وكلف به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 665 ناصر الدين، لأنه على مثله طوف وسعى ودار. وامتزج برؤساء الشام، حصل على مراده لما انتجع برقهم وشام، ثم توجه إلى حماة أيام الملك الأفضل، فصانه وحماه. وأنزله من جوده الغامر في ربعه العامر وحماه، فأجرى عليه راتباً يكفيه، ولم يدع نوعاً من البر إلا ويجزل قسمه منه ويوفيه. فتخيرها مقاما، وشفى من داء فقره سقاما. وغرد بمدائحه لما أصبح بإحسانه وهو مطوق، وناضل الفقر بسهامه فأصاب مقاتله لما سددها إليه وفوق. ولما مات الأفضل رحمه الله تعالى لم يتخذ غير حماة سكنا، وألفه أهلها وألفهم، فصرح بشكرهم وكنى. وكان يعرف النجامة، ويقول لمن سأله منها النجامه؟ ويعرف ما يتعلق بالإسطرلاب، ويتكلم على ما فيه من بروج الاستواء والانقلاب، وكتب الخط الفائق ورقا فيه درجاً، يعز على غيره أن ينال ما فيها من الدقائق. ونظم فنوناً من الشعر وغيره. وأمال الأعطاف بأسجاع طيره. ولم يزل على حاله بحماة إلى أن أصابه الحمام بسهم رماه، فأصبح الغزي مغزوا، ووجوده إلى العدم معزوا. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من ذي القعدة في سابع عشر سنة إحدى وستين وسبع مئة. ومولده في سنة خمس وثمانين وست مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 666 ووجد في بيته بخان الخطيب بحماة، وهو سكنه، ميتاً بعد ثلاثة أيام وهو جالس، ووجد له خمسة وسبعون ديناراً مصرية هرجة، وثلاث مئة درهم، وقماش بدنه بيع بخمس مئة درهم، وكتبه مجلدات بيعت بست مئة درهم. واجتمعت به غير مرة بالقاهرة ودمشق وصفد وحماة، وكان خفيفاً على القلوب حسن العشرة، كثير النادرة، حلو التنديب، قد برته الأيام في صحبة الناس ومخالطة الأكياس. وكان حسن الشكل ظريف الملبس يتأنق في مأكله ومشاربه، ولكنه ما كان يجلس في بيته إلا وحوله عفاش كثير من الزبادي والأواني، وكان يطبخ قدامه، فلهذا كان كثير العفاش. وأما محاضرته فلا تمل، وكانت له بديهة عظيمة وعنده جرأة وقوة عين زائدة، مع النظم الحلو والكتابة الحسنة. وما أحقه بقول الشريف الرضي في ابن حجاج رحمهم الله تعالى أجمعين وهي: وما كنت أحسب أن الزما ... ن يغل مضارب ذاك اللسان ليبك الزمان طويلاً علي ... ك فقد كنت خفة روح الزمان أنشدته لنفسي بصفد سنة أربع وثلاثين وسبع مئة: يا حسنه رشأ تخلى الليث عن ... وثباته وثباته في حربه تروي السقام جفونه عن خصره ... عن عهده وعن الصبا عن صبه فأنشدني هو رحمه الله تعالى لنفسه: بأبي غزال غزل هدب جفونه ... يكسو الضنا صباً أذيب بصده يروى حديث السقم جسم محبه ... عن جفنه عن خصره عن عهده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 667 وأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى في التاريخ: مر في الفستقي يجلو علينا ... طلعة حلوة الرضاب شهيه قلت: من للفقير لو ذاق في السط ... لة من ذي الحلاوة الفستقيه فأنشدت أنا لنفسي: في فستقي اللون لما بدا ... يميس مثل الغصن المورق من وقد مر على صبه ... وما ألذ المن بالفستق وأنشدته أيضاً لنفسي: لما بدا في الفستقي معذبي ... ناديت من وجدي وفرط تحرقي كانت لوجهك في الفؤاد حلاوة ... كملت لذتها بهذا الفستقي وأنشدته أنا لنفسي أيضاً: لا تقيسوا إلى الحمامة حزني ... إن فضلي تدري به العشاق أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق فأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى: أتشكى مع البعاد إليكم ... برقيق العتاب فرط اشتياقي وكأني الورقاء من فرقة الإل ... ف تلهت بالسجع في الأوراق وكتب هو إلي وقد قدمت إلى حماة لتلقي النائب الجديد لحلب في المحرم سنة ستين وسبع مئة: مملكة الشهبا على الشهب علت ... فاستبشرت بالخير والفلاح لما شكت سراً فساد حالها ... أعانها السلطان بالصلاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 668 يقبل الأرض التي ابتهلت أول أمرها بعلو قدرها، وابتهجت في سرها بمقدم كاتب سرها، فلله درها دولة اقتضت آراؤها الشريفة لمملكتها الحلبية بمن صانها وزانها، وارتضت آلاؤها المنيفة من أصلح شانها الذي شانها، فجانست أوامرها العالية بين مقام أعلم خليل، وبين مقام أكرم خليل، وآنسته رشدا بتقدم فاضل زمانه، وإن كان اللائق بالتقديم والتفضيل، فأقرت عيناً بآيات الفضائل السجية الصلاحية، وأقرت وألقت في ساحتها من ساعتها عصاها واستقرت، ومدت وارف ظلها عليها الرياسة والسيادة فما ساءت حين سرت. وينهي أن المملوك ممن سرته هذه البشرى التي ردت شوارد الأدب بعد مفرها إلى مقرها، وأسبغت ظلالها على سر الصناعتين بعد هجير هجرها، فلقد دلت على الهدى، وجلت صدأ الصدا بأنوارها وأنوائها، وجلت في حلبة المعالي على أبلقها وشقرائها بشهبائها، فلله الحمد على منة لا ترد إلا منه، وله الشكر على نعمة لا تصد إلا عنه. زنتم رغم الحسود محلها ... كنتم أحق بها وكنتم أهلها والقصد أن مولانا يعفي خطأها وخطلها، ويسامح بحلمه جهلها، ويسبل عليها ستر معروفه لأنه مالك الحل والعقد، وإليه مرجع النقل والنقد، لا زال جابراً بقبوله وإقباله، ساتراً بخلاله الكريمة ما خفي عن المملوك من إخلاله بمحمد وآله إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 669 محمد بن علي بن عبد الواحد ابن يحيى بن عبد الرحيم، الشيخ الإمام العالم الفاضل المفسر المحدث شمس الدين أبو أمامة الدكالي، بالدال المهملة المضمومة وكاف بعدها ألف ولام وياء النسبة، ودكال: قلعة بالمغرب، المعروف بابن النقاش. كان شكلاً حسنا، راق سناء وسنا، حلو الصورة والشكالة، يريح بمحاضرته ألم من شكا له، يستحضر من التفسير كثيراً، ويحل من غرائبه محلاً أثيراً. وكانت طريقه في التفسير غريبة، يأتي فيها بكل عجيبة، ما رأيت له في ذلك نظيراً، ولا توهمت أن غيره من أبناء جنسه يكون على ما يأتي به قديرا. حصل من الدنيا جانبا، وأكب على السعي فيها فما كل اجتهاده ولا نبا. وكان يدخل إلى الملك الناصر حسن، وقاده الله إليه بغير رسن، وعمل على شيخه قطب الدين الهرماس، فأبعده عنه حتى كأنه ما خطر بين يديه ولا ماس. وكان يصحب أمراء الدولة، حتى صار له في كل جو جولة. فنال مرامه وتعدى أقرانه، وتجاوز الغاية في علو المكانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 670 يكاد من صحة العزيمة ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل ولم يزل على حاله إلى أن محيت من الحياة سكة ابن النقاش، وتلقاها الدهر بعد البشر بالتقطيب والإيحاش. وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة. وكنت سألته عن مولده فقال: في نصف شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة. أخبرني أنه قرأ القرآن على الشيخ برهان الدين الرشيدي كاملاً، وقرأ العربية عليه وعلى الشيخ محب الدين أبي عبد الله بن الصائع الأندلسي، وعلى العلامة أثير الدين، قال: وقرأت " ألفية ابن مالك " على ابن معاوية، وسمعت في شرح " التسهيل " وغيره على أثير الدين، قال: وحفظت " الحاوي " في الفقه، وأنا أول من حفظه بالقاهرة، و" منهاج الأصول " للبيضاوي على العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي وعلى الشيخ شهاب الدين الأنصاري وعلى غيرهما، قال: وعلقت مثلاً على " التسهيل "، وقرأت " العمدة في الأحكام " وألفت " شرحاً " لها يجيء في ثماني مجلدات، قال: وألفت كتاباً سميته " كاشف الغمة عن شافعية الأمة في أحاديث الرافعي " قال: وسميته " توضح الألفية وإلحاقها بالجرجانية "، وكتاب " النظائر وفروق المذهب " و" تفسير آيات وسور ". وكان قد قدم إلى دمشق، واجتمعت به في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة، ونزل لما جاء إلى دمشق عند العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي، وكانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 671 بينه وبين النائب علاء الدين أمير علي المادريني نائب الشام معرفة من مصر، فأكرمه وأقبل عليه وأحسن رعايته، وتوجه إلى حماة لمعرفة بينه وبين الأمير سيف الدين طازيرق نائب حماة، وقامت له سوق بدمشق، ورزق منها الحظ والحظوة، وعمل مجلساً بالجامع الأموي في التفسير، وتكلم فيها كلاماً كثيراً، واستحضر أحكاماً وأقوالاً ومذاهب ورقائق وتصوفاً بجنان ثابت ولسان فصيح من غير توقف، ووسع فيه المجال، وأبدع فيه الجمال، ولما فرغ منه كتبت أنا إليه: أتينا المجلس حبر الورى ... فسر القلوب بما فسرا وحرك أعطافنا نشوة ... ولا تسأل عما جرى فشبهتها بغصون سمت ... وشبهته بنسيم سرى وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح قاضي القضاة تقي الدين السبكي لما كان بالقاهرة: طرقت وقد نامت عيون الحسد ... وتوارت الرقباء غير الغرقد والعسكر الزنجي رمح سماكه ... قان وعضب الفجر لم يتجرد والليل قد نشرت غلائل مسكه ... لما طوى الإمساء حلة عسجد وسرى يجر على المجرة ذيله ... إذ طوقت من شهبها بمقلد ربعية حلت بأكناف الحشا ... ودموعها بين النقا والأنجد غراء يفضح خدها ولحاظها ... مرأى الغرالة والغزال الأغيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 672 خلصت إلي ودون ربعي حاجز ... من سيل أجفاني ونار توقدي وأتت ولم تضرب لوصل موعدا ... أحلى المنى ما لم يكن عن موعد تهفو بمعطفها الشمول كما هفت ... أيدي الشمائل بالقضيب الأملد أرجت بقاع الرقمتين وشعبها ... وتشرفت أعلام ذاك المعهد شرف المجالس شيخنا علم الفخا ... ر الأوحدي الألمعي الأمجدي ياقوت سلك البحر أحكم نظمه ... فالدر بين مرصع ومنضد عين السيادة حل منها رتبة ... كيوان يرصدها بعين الأرمد وهي طويلة وقد أوردتها في ترجمته في " تاريخي الكبير ". وكتبت أنا إليه ملغزاً في فيل، وهو: يا إمام الأنام في كل علم ... وإليه الورى ترى منتهاه وهو شمس التحقيق في كل فن ... وسواه يكون فيه سهاه أيما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه فيك تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون لي ثلثاه فأبنه لا زلت في ظل سعد ... ما تملى طرف بطيب كراه فكت هو الجواب عن ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 673 يا إماماً قد حاز علماً وفضلاً ... وسمواً على الورى بنداه وهو للدين والعلوم صلاح ... جل رب بكل حسن حباه إن لغزاً أبدعت فيه لعمري ... يقصر الفهم عن بلوغ مداه قلبه بالعراق في النخل باد ... وهو بالهند كل عين تراه ما أحب الشطرنج إلا بدا لي ... منه خصم داع لحربي أخاه هو عني باد فإنه راح منه ... آخر عدت جهراً أراه دمت لي مهديا جواهر علم ... لك كل الورى ترى منتهاه محمد بن علي بن عبد الرحيم الشيخ علم الدين بن بهاء الدين بن الإمام محيي الدين، عرف بابن الدميري. أجاز لي رحمه الله تعالى في سنة ... ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة بدار الزعفران بزقاق القناديل بمصر. وتوفي رحمه الله تعالى ... محمد بن علي الأمير ناصر الدين بن الأمير علاء الدين بن الفراء. كان والده علاء الدين بن الفراء أمير طبلخاناه، وهو مقدم البريدية، وكان هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 674 ناصر الدين ولده أمير عشرة بدمشق، وكان صورة جميلة ظريفاً لطيفاً، فيه حياء وحشمة، وفيه كرم وهمة. ولم يزل حاله يقوم في ديونه ويقع إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة، وقد تقدم ذكر والده في حرف العين مكانه. محمد بن عمر بن أبي بكر البانياسي كان شاباً ذكياً متيقظاً، قرأ القراءات وبرع فيها، وقرأ الفقه والعربية والأصول، وأفاء في القراءات، وله نظم. ومات سنة تسع وتسعين وست مئة. محمد بن عمر بن عبد الله بن عمر الخطيب الأمين الصالح الفاضل موفق الدين عبد الله ابن الخطيب الزاهد نجيب الدين الخطيب بقرية بيت الآبار وابن خطبائها، وهو أخو علاء الدين علي بن عمر المقدم ذكره في حرف العين مكانه، بينهما في الوفاة أربعة أيام. سمع الخطيب موفق الدين من الضياء يوسف، والموفق محمد. وحدث وحج غير مرة. وروى بالعلا وبدر من منازل الحجيج. وأقام خطيباً بالقرية نحو أربعين سنة، وليها بعد والده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 675 كان اشتغل على تاج الدين، وكتب بخطه الحسن جملة من المجلدات، وكان له خلق حسن، وفيه تواضع. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء عاشر شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وست مئة. محمد بن عمر بن محمد ابن عمر بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن محمد بن رشيد، أبو عبد الله الفهري السبتي. أخذ العربي عن ابن أبي الربيع ونظرائه، واحتفل في صغره بالأدبيات وبرع فيها، وروى " البخاري " عن عبد العزيز الغافقي قراءة من لفظه. وارتحل إلى فاس، واشتغل بالمذهب، ورحل إلى سبتة، وتصدر لإقراء الفقه خاصة، وتأدب مع أشياخه، فما أقرأ غير الفقه، وارتحل إلى تونس واشتغل بالأصلين على ابن زيتون، ثم رجل إلى الإسكندرية، وحج سنة ثمان وثمانين وست مئة، وجاور بمكة والمدينة ونزل بمصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 676 وكان رحمه الله تعالى صاحب همة، وله عز في الطلب وعزمة، صنف تصانيف مفيدة، وألف تواليف في الإفادة عتيدة، وباشر الخطابة فصدحت على غصن المنبر حمامته، واستجن في حشا المحراب فجملته إمامته، وبث في غرناطة علومه وسفحت بها غمامته. ثم إنه أخرج منها وزحزح عنها، أحسن إليه ملك العدوة، ونوله إحسانه مساء وغدوة. ولم يزل إلى أن توسد بطن اللحد واستوى منه الاعتراف والجحد. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أبو حيان قال: قدم المذكور علينا القاهرة حاجاً وسمع معنا الحديث، وعني به، وكان قد بحث " سيبويه " على أبي الحسين بن أبي الربيع، ولما توجه من الحج صحبة أبي عبد الله بن الحكيم اتفق أن السلطان أبا عبد الله ابن السلطان أبي عبد الله بن الأحمر، استوزر ابن الحكيم، فولى ابن رشيد الإمامة والخطابة بجامع غرناطة، ولما قتل الوزير أخرج أهل غرناطة ابن رشيد إلى العدوة، فأحسن إليه ملك العدوة أبو سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن عبد الحق المريني، وبقي في إيالته إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وكان فاضلاً. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 677 قلت: وله من التصانيف " الرحلة المشرقية " أربع مجلدات، " فهرست مشايخه "، " المقدمة المعرفة في علو المسافة والصفة "، " الصراط السوي في اتصال سماع جامع الترمذي "، " إفادة النصيح في مشهور رواه الصحيح "، " جزء فيه مسألة العنعنة "، و" المحاكمة بين الإمامين "، " إيضاح المذاهب في تعيين من ينطلق عليه اسم الصاحب "، " جزء فيه حكم رؤية هلال شهر رمضان وشوال "، " تلخيص كتاب القوانين في النحو "، " شرح جزء التجنيس " لحازم بن حازم الإشبيلي، و" حكم الاستعارة "، وغير ذلك. وله خطب وقصائد نبوية مطولة، ومقطعات بديعة. قال شيخنا أثير الدين: كان سرياً حسن الأخلاق. وسألته أن يكتب لي شيئاً من شعره، وكان ممن ينظم بالعروض إذ لم يكن الوزن في طبعه، فكتب لي بخطه: يا من يفوق النجم موطنه ... كلفتني ما ليس أحسنه ولتغض عما فيه من خلل ... خلدت في عز تزينه وله أبيت كتبها على حذو نعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدار الحديث الأشرفية: هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي وقبلته أشفي الغليل فزادني ... فيا عجباً زاد الظما عند موردي ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً ... بمطلعه أرخت مولد أسعد عليه صلاة نشرها طيب كما ... يحب ويرض ربنا لمحمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 678 محمد بن عمر بن محمود الشيخ الإمام بدر الدين البابي الحلبي، المعروف بابن جحفل الشافعي معيد الباذرائية. وكان رجلاً جيداً فاضلاً، عنده معرفة بالنحو، وفيه سكون كثير، وانقطاع وملازمة لبيته. توفي بالباذرائية رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادة الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، وكان قد بلغ السبعين أو قاربها. محمد بن عمر بن أحمد بن المثنى بدر الدين المنبجي الشافعي. سمع من ابن عبد الدائم بدمشق، ومن النجيب بمصر، وتخرج في الأدب بمجد الدين بن الظهير الإربلي رحمه الله. توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده بمنبج قبل الخمسين وست مئة. أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين إجازة، قال: أنشدني المنبجي لنفسه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 679 ومهفهف ناديته ومحاجري ... تذري دموعاً كالجمان مبددا يا من أراه على الملاح مؤمراً ... بالله قل لي هل أراك مجردا ومنه أيضاً: وبدر دجى وافى إلي بوردة ... وما حان من ورد الربيع أوانه فقال وقد أبديت منه تعجباًرويدك لا تعجب وعندي بيانه هو الورد من روض بخدي جنيته ... وورد خدودي كل وقت أوانه ومنه أيضاً: ومن عجب سيف بلحظك ينتضى ... فيفتك في العشاق وهو كليل وأعجب من ذا لحظ طرفك في الورى ... يداوي من الأسقام وهو عليل ومنه أيضاً: وكأن زهر اللوز صب عاشق ... قد هزه شوق إلى أحبابه وأظنه من هول يوم فراقهم ... وبعادهم قد شاب قبل شبابه وذكرت أنا هاهنا ما قلته في زهر اللوز: عجباً لزهر اللوز حين يلوح في ال ... أوراق إذا تجلى على نظاره عكس القضية في الورى، فمشيته ... يبيض من قبل اخضرار عذاره وأورد له كمال الدين الأدفوي في " البدر السافر " قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 680 وبدر دجى زارنا موهناً ... فأمسى به الهم في معزل الأبيات المشهورة: وأورد له أيضاً: صل الراح بالراحات واقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب ولا تخش أوزاراً فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب قلت: وهذان البيتان مشهوراً موجودان في المجاميع الأدبية، ورأيت بعضهم نسبها إلى ديك الجن، وهما من أنفاس المتأخرين. وقد ذكرت أنا لي هاهنا أبياتاً جاء فيها ذكر أوراق الكرم، وهي: وكم روضة يحكي الزواهر زهرها ... فلا عجب إن قلت أفق مكوكب تخال خيال النجم في زهرها إذا ... تموج إن الدر يطفو ويرسب وتحسب أن النرجس الغض أعين ... لتدبير هذا الكون تسهو وتسهب وطل على ورد حكى خد غادة ... به عرق من خجلة يتصبب وأوراق كرم قد حكت كف سائل ... لمن كان في نعمائه يتقلب محمد بن عمر بن أبي بكر ابن قوام البالسي، الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة. روى للجماعة من أصحاب ابن طبرزد. وكان يحب الحديث ويسمع أولاده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 681 كان فيه تواضع وعليه وقار، وعنده تمسك بأرباب السنة والآثار، وعليه مهابة، وعنده تفرس وإصابة، وفيه صدق وإخلاص وقبول عظيم من العامة والخاص، تحبه القلوب وتميل إليه، وتترامى بالتودد والموالاة عليه. وكان فيه جود وكرم، وسماح له التهاب وضرم، وله تهجد في الليل وعبادة، ومعاملة وجد بها عند الله الحسنى وزيادة، قل أن ترى العيون مثله في بابه، أو تشاهد له عديلاً في أنواعه وأضرابه. ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في كفنه مدرجاً، ووجد له من ضيق الدنيا مخرجاً. وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وله من العمر ثمان وثمانون سنة، ودفن بزاويته بسفح قاسيون. وعرض عليه أرباب الدولة راتباً يكون على زاويته، فامتنع ووقف عليها بعض التجار بعض قرية، وكان قد جمع " سيره " لجده رحمه الله تعالى. محمد بن عمر بن الفضل الفضلي، قاضي القضاة، قطب الدين البريزي الشافعي، قاضي بغداد، الملقب بأخوين، كان صاحب مشاركة في فنون، وقد أتقن علمي المعاني والبيان، ونسخ كتباً كثيراً، ولم يكن من قضاة العدل. توفي ببغداد في سادس عشري شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 682 ومولده سنة ثمان وستين وست مئة. وكان فيه تؤدة وحلم ومروءة وكرم، رحمه الله تعالى، وكان يكتب خطاً حسناً، وفيه شفقة وحنو على الفقراء والضعفاء وتواضع وحسن خلق. وقال الشيخ سراج الدين القزويني: كان فقيهاً أصولياً مفسراً نحوياً كاتباً بارعاً وحيداً فريداً من أعيان أفاضل الزمان. محمد بن عمر بن حماد شمس الدين الظفاري اليمني الواعظ المعروف بالأبلوج، لأنه كان يعتم بعمامة كأنه أبلوج السكر، فاشتهر بذلك. وتوفي بالقاهرة في تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن في يومه خارج باب النصر. وكان قد أقام بدمشق مدة، ووعظ بمسجد أبي اليمن. محمد بن عمر بن أبي بكر ابن ظافر بن أبي سعيد، ناصر الدين أبو الفضل البصري الأصل، الحنبلي. روى عن ابن الجميزي، وابن الجباب، وسبط السلفي، والساوي، والمرجى بن شقيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 683 وكان إمام مسجد، ويلقن القرآن ويحضر الختم، وهو فقيه بالمدرسة الصالحية. وحدث " بصحيح مسلم " عن ابن الحباب، سنة سبع وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى سابع صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وست مئة. قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه المجلس الرابع من " أمالي أبي مطيع " بسماعه من ابن الجباب. محمد بن عمر بن أبي القاسم القاضي الصدر الرئيس نجم الدين ابن الشيخ نجم الدين بن أبي الطيب وكيل بيت المال بدمشق وابن وكيل بيت المال بها. كان صدراً رئيساً وماجداً جعل الخلق الطلق عليه حبيساً، له معرفة تامة بتراجم أهل عصره ووقائعهم وما جرياتهم في وظائفهم وصنائعهم، إذا فتح له هذا الباب دخل عليه وحده، وسرد ما عنده. وباشر وظائف كباراً جاداً له الدهر فيها بأمانه، وتقدم في آخر زمانه. وكان مع ذلك عديم الشر وادعاً، قائلاً بالحق صادعاً. ولم يزل على حاله إلى أن غاب نجمه في الثرى، وسلك الطريق التي ما يتخلف عنها أحد من الورى. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شعبان سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، توفي من جمرة ظهرت في وجهه، أقام معها يومين، ومات - رحمه الله تعالى -. وكان شافعي المذهب. حسن الشكل، تام الخلق له تودد وملقى وملق. وكان قد تزوج ابنة القاضي محيي الدين بن فضل الله، ولم يزل على حاله الناقص إلى أن توجه محيي الدين إلى مصر كاتب سر، فتولى بواسطته نظر الخزانة، ووكالة بيت المال، وكان بيده أولاً نظر الرباع وتدريس المدرسة الكروسية، وتولى الوكالة بعد القاضي شهاب الدين بن المجد لما صار قاضي القضاة في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكان ابن المجد قد وليها بعد القاضي علاء الدين بن القلانسي، وكان علاء الدين قد وليها بعد أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن القلانسي، وكان قد وليها بعد كمال الدين بن الشريشي، وكان ابن الشريشي قد وليها بعد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وكان قد وليها بعد نجم الدين بن أبي الطيب والد صاحب هذه الترجمة. وقد تقدم الكلام في ترجمة والده لأي شيء سمي هذا البيت بابن أبي الطيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 684 الجزء الخامس بسم الله الرحمن الرحيم بقية حرف الميم محمد بن عمر بن مكي ابن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، القرشي الأموي العثماني، الشيخ الإمام المفسر المحدث الأصولي النحوي الأديب الفاضل المفتن: علامة العلماء واللّج الذي ... لا ينتهي ولكل بحر ساحلُ صدر الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بابن الوكيل وبابن المرحّل وبابن الخطيب. أفتى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي، وبالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وقرأ الأصولين على الشيخ صفي الدين الهندي، والنحو على بدر الدين بن مالك. وكان له عدّة محافيظ، وحفظ المُفصّل في مئة يوم، وكتب له عليه الشيخ شرف الدين: قرأه في مئةٍ لا أراني الله له يوماً، وحفظ ديوان المتنبي في جمعة، والمقامات في خمسين يوماً، وكان لا يمر بشاهد من كلام العرب إلا حفظ القصيدة التي ذلك البيت منها. وسمع الحديث من القاسم الإربلي، والمسلّم بن علان. وسمع الكتب الستة على أشياخ عصره. ولما باشر مشيخة دار الحديث روى قطعة كبيرة من صحيح مسلم عن الأمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 الإربلي والعامري والمزي. وكان ذكياً نظّاراً حافظاً، يسرد في كل فن أسفاراً، لا يقوم أحد لجداله، ولا يُرى في عصره أحد من رجاله، مكثراً من جميع الفنون، يستحضر الأسانيد والمتون. ولم يكن يقوم بمناظرة العلامة تقي الدين بن تيمية سواه، ولا يعترض كالشجى في حلقه فيما أورده ورواه، ولما بلغته وفاته قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. وتناظرا يوماً بالكلاّسة خلف العزيزية، فأخذ الشيخ تقي الدين يستشهد ببعض الحاضرين، فقال الشيخ صدر الدين: إن انتصارك بالأجفان من عجب ... وهل رأى الناس منصوراً بمنكسر ولم يقم أحد بمناظرته، ولا قام الى منافرته. أما التفسير: فابن عطية عنده مُبخّل، والواحدي شارك العيّ لفظه فتميّل. وأما الحديث: فلو رآه ابن عساكر لانهزم وانضم في زوايا تاريخه وانجزم، أو ابن الجوزي لبس من الغيرة غياراً، وانكسر قلبه لمّا خرج من قشوره ولم يجد لله عياراً. وأما الفقه: فلو أبصره المحاملي محا ما تحمل من غرائب فاض النقلُ عنه وما نضب، ورجع عما قال به من استحباب الوضوء من الغيبة وعند الغضب، أو القفّال لما فُتح له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 من الفقه باب، ولرجع من أول الأمر الى الاعتدال عن الاعتزال وتاب، أو الروياني لما عبر له رؤيا، ورأى أن بحره قد صار وشلا واستحيا: كم مُقْفَلٍ ضلّ فيه العَقلُ فانفرجتْ ... أرجاؤه لحجاه عن معانيهِ يفتي فيروي غليل الدين من حصَرٍ ... أدناه نقلاً وقد شطت مراميه ومونقٍ قد سقاه غيث فطنته ... مُزناً أيادي رياح الفكر تَمْريه وأما الأصول: فلو رآه ابن فُوْرك لفرك عن طريقته، وقال بعدم المجاز الى حقيقته، وإمام الحرمين لتأخر عن مقامه، ورأى الرجوع عن الإرشاد من كلامه. وأما النحو: فلو عاصره عنبسة الفيل لكان مثل ابن عصفور، أو أبو الأسود لكان ظالماً، وذنبه غير مغفور. وأما الأدب: فلو رآه الجاحظ لأمسى لهذا الفن وهو جاحد، أو الثعالبي لراغ عن تصانيفه، وما اعترف منها بواحد. وأما الطب: فلو شاهده ابن سينا لما أطرب قانونه، أو ابن النفيس لعاد نفيساً قد ذهب نونه. وأما الحكمة: فالنّصير الطوسي عنه مخذول، والكاتبي دبيران أدبر عنه وحدّه مفلول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وأما الشعر: فلو جاراه ابن سناء الملك فنيتْ ذخيرة مجاراته وحقائقه، أو ابن الساعاتي ما وصل الى درجه، وانتهى الى دقائقه. وأما الموشحات: فلو وصل خبره الى الموصلي لأصبح مقطوع الذّنب، أو ابن زهر لما رأى له في السماء نجماً إلا هوى، ولا برجاً إلا انقلب. وأما البلاليق: فابن كلفة عنده يتكلّف، وابن مُدَغليس يغلس للسعي في ركابه وما يتخلّف. هذا الى غير ذلك من معارف وفنون كان لحواصلها عنده مصارف. وكان رحمه الله تعالى محظوظاً، وبعين المحبة ملحوظاً، قلّ أن وقع بينه وبين أحد وما عاد له ولياً، وأصبح لمسامرته نجياً. وقع بينه وبين الأعسر، وكان إذا رآه ينسر، ووقع بينه وبين الأفرم، ثم أصبح عنده وهو الأعز الأكرم، وغضب السلطان الملك الناصر محمد عليه غضباً لا يقوم له غير سفك دمه، ثم أصبح عند رؤيته وهو لا يمشي إلا على قدمه. ولم يزل على حاله الى أن رحل ابن المرَحّل الى دار القرار، وأصبح سيف لسانه وهو مفلول الغرار. وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة نهار الأربعاء رابع عشري ذي الحجة سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بالقرب من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش بالقرافة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 ومولده في شوال سنة خمس وستين وست مئة بدمياط، وقيل: بأشموم. ورثاه جماعة من الأفاضل، وتأسف الناس عليه. وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن داود ابن الحافظ ناظر جيش صفد يرثيه: ما مات صدرُ الدين لكنه ... لما غدا جوهرةً فاخره لم تعرفِ الدنيا له قيمةً ... فعجّل السير الى الآخره قلت: وهو مأخوذ من قول الأول: قد كان صاحبُ هذا القبر جوهرةً ... غرّاء قد صاغها الباري من النُطَف عزّت فلم تعرف الأيامُ قيمتها ... فردّها غيرةً منه الى الصَّدف ونشأ الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى بدمشق، ونبغ وظهر واشتهرت فضائله ومناظراته، ودرّس بالمدارس الكبار، واشتهر صيته. ولما دخل الناس في الجفل أيام غازان وعلماء الشام كبارهم وصغارهم، فلم يقعد صدر الدين ثلاثة أيام حتى أعطي تدريس المشهد فيما أظن. وكانت له وجاهة وتقدّم عند الدولة، ونادم الأفرم وغيره، وركب البريد الى مصر في أيام الجاشنكير، واجتمع هو وابن عدلان وأفتوا بأن الملك الناصر محمد لا يصلح للملك، ورُمي بأنه نظم قصيدة هجا بها السلطان، ومن جملتها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 ما للصبي وما للملك يطلبه ... إن المراد من الصبيان معلوم وعمل أعداؤه الى أن أوصلوا القصيدة الى السلطان، فكانت في سولفه يخرجها كل يوم، ويقرؤها، وأراد الصاحب فخر الدين بن الخليلي القبض عليه تقرّباً الى الملك الناصر، فلما أحسّ بذلك هرب هو الى السلطان، وجاء إليه وهو على غزة، حكى قاضي القضاة جلال الدين القزويني، قال: بينما أنا جالس عند السلطان بغزة فإذا بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب قد دخل، وقال: يا خوند صدر الدين بن الوكيل فقال: يحضر فلما دخل به بكتمر الحاجب قال له: بُس الأرض، فقال: مثلي ما يبوس الأرض إلا لله تعالى. فقال: فجمعت ثيابي لئلا تلحقني طراطيش دمه، لما نعلمه من أنفاس السلطان فيه، فقال له: والك، أنت فقيه تركب على البريد، وتروح من دمشق الى مصر لتدخل بين الملوك وتغير الدول وتهجوني؟ فقال: حاشى لله يا خوند، وإنما أعدائي وحسّادي نظموا ما أرادوا على لساني، ولكن هذا الذي قلته أنا، وأخرج قصيدة تجيء مئة بيت، وأنشدها في وزن تلك ورويّها، فأعجب السلطان وعفا عنه. قال جلال الدين: ولما أصبحنا وسارت العساكر والجيوش والسلطان رايح والى جانبه صدر الدين بن الوكيل، فتعجبنا من ذلك، ولما عاد الى مصر، وطلبه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 حلب، عظّمه السلطان، كان إذا رآه وعليه الخلعة يقول: الله، إن هذا صدر الدين إلا شكل مليح مُجمّل التشاريف التي يلبسها. وقد جرى له مع السلطان في قضية البكري ما جرى، وخلصه منه بعدما أمر بقطع لسانه. وقد ذكرت ذلك في ترجمة البكري. وباشر بدمشق مدارسها الكبار، ودار الحديث الأشرفية والشامية البرّانية والجوانية والعذراوية، والخطابة بالجامع الأموي، ولكنه لم يصلّ في المحراب إلا يومين، حتى قام الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره من المتعصبين عليه حتى عزل، وأثبت قاضي القضاة شمس الدين الحريري محضراً بعدم أهليته للخطابة. وكان الشيخ صدر الدين في القاهرة لما توفي زين الدين الفارقي خطيب الجامع الأموي في تاريخ وفاته على ما يأتي في ترجمته، وكان الأفرم غائباً في الصيد، فلما عاد عيّن الشامية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وعيّن الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضاً عن ابن الشريشي، وعيّن الخطابة للشيخ شرف الدين الفزاري، وأمره بالإمامة والخطابة، فباشر وخطب جمعتين، ولازم الإمامة عشرة أيام، فوصل البريد يوم الإثنين منتصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة ومعه توقيع بجميع جهات الشيخ زين الدين للشيخ صدر الدين بن الوكيل مضافاً الى ما بيده من المدرستين، فشق على الناس خروج الشيخ شرف الدين من الخطابة بعد مباشرته وكماله وصلاحه وجودة قراءته وحُسن أدائه، ووصل الشيخ صدر الدين بعد ذلك على البريد، وسلّم على الأفرم بالقصر، وحضر الى الجامع، ودخل الى دار الخطابة، وهنأه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 الناس على العادة، وصلى بالناس العصر، وبقي يومين يباشر الإمامة، فأظهر جماعة التألم من خطابته، واجتمعوا بالأفرم، فمنعه من الخطابة، وأقرّه على المدارس الثلاث. ثم إنه وصل توقيع بالخطابة للشيخ شرف الدين من القاهرة. ثم إن الشامية البرانية انتُزعت منه أيضاً للشيخ كمال الدين ابن الزملكاني. وفي أيام قراسنقر ونيابته على دمشق قام على صدر الدين جماعة من الفقهاء، ونازعوه في المدارس التي بيده، وحصل له من قراسنقر أذى كثير، وخاف على نفسه منه، فتوجه الى قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وطلب منه الحكم بإسلامه، وحقن دمه، وإسقاط التعزيز عنه، والحكم بعدالته واستحقاقه المناصب فحكم له بذلك، ثم ورد المرسوم من مصر بعزله من سائر جهاته، وبقي بطالاً. ولما فرغ شهر رمضان سنة عشر توجّه الى حلب، وأقبل عليه أسندمر نائب حلب إقبالاً زائداً، وطلبه يوماً قبل صلاة الجمعة، وسأله عن تفسير قوله تعالى: " والنّجم إذا هَوى " فقال: الوقت يضيق عن هذا، لأن هذه الآية يحتمل تفسيرها ثلاثة أيام، فوهبه نسخة مليحة بأسد الغاب في ذكر الصحاب لابن الأثير، وأقام بحلب عشرة أشهر فقال: الذي حصل لي من مكارمات الحلبيين في هذه المدّة أربعون ألف درهم. ولما جاء أرغون الدوادار الى حلب كان عنده ربعة مليحة الى الغاية فقدّمها له، فقال أرغون: يا شيخ هذه ما تصلح إلا للسلطان، وإذا عدتُ الى مصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 ذكرتُها للسلطان الملك الناصر، وطلبتك فوفي له بما وعده، ودرّس بمصر بالمشهد الحسيني وبالزاوية المعروفة بابن الجميزي، ولما قدم مصر في الجفل أفهم أمراء الدولة أنه ليس في مصر مثله، وادّعى علماً كبيراً، وطلب المناظرة، وحضر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وكان صدر الدين قد رتب شيئاً، فلما شرع فيه قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا كلامٌ معبّأ، وقال: يقرأ شخص آية فقرأ شخص آية، وذكر الشيخ سؤالاً، فشرع صدر الدين يتكلم، فانتدب له عز الدين النمراوي، فقال له الشيخ تقي الدين: التزم هذا يا غرّ، هذا جيد. وانفصل المجلس، والشيخ صدر الدين مغلوب. ولما عاد الى القاهرة بعد مجيء الناصر من الكرك ولاه السلطان الملك الناصر تدريس الناصرية بين القصرين، وهو أول من درّس بها، وجهّزه السلطان الملك الناصر رسولاً الى مهنّا، فقال: حصل لي في هذه السفرة ثلاثون ألف درهم. وأظنه توجه إليه مرتين في سنة ثلاث عشرة، وجمع كتاب الأشباه والنظائر ومات ولم يحرره، فلذلك ربما وقعت فيه أغلاط. قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي مثل حكايته عن بعض الأئمة وجهين فيما إذا كشف عورته في الخلاء زائداً على القدر المحتاج هل يأثم على كشف الجميع أو على القدر الزائد. وهذا لم نره في كتاب ويشبه أن تكون زلة قلم الى غير ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى يثني عليه ويقول: فاضل عصره. قال: دخلت عليه في المرض الذي توفي فيه رحمه الله تعالى، فقلت له: كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فأنشدني: ورجعت لا أدري الطريق من البكا ... رجعتْ عداك المبغضون كمرجعي وكان ذلك آخر عهدي به. وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: كان ابن الوكيل عارفاً بالطب علماً لا علاجاً، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم، فركّب له سفوفاً، وأحضره، فلما استعمله أفرط به الإسهال جداً، فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه، فأُحضر أمين الدين سليمان الحكم لمعالجة الأفرم، فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت، وحركها الشيخ صدر الدين، وأعطاه أمراق الفراريج، ثم أعطاه المُقبّضات حتى صلحت حاله. ولما عاد الأفرم الى وعيه سأل عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فأخبره المماليك ما فعلوه به، فأنكر ذلك عليهم، وقال: أحضروه، فلما حضر قال: يا شيخ صدر الدين جئت أروح معك غلطاً، وهو يضحك. فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك، ودع الطب فغلط المفتي يُستدرك، وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال الأفرم: صدقٌ لك لا تخاطر. ثم قال لمماليكه: مثلُ صدر الدين ما يُتهم: والله الذي جرى عليه منكم أصعب من الذي جرى عليّ، وما أراد والله إلا الخير. فقبّل يده، وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من القماش والدراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وأخبرني أيضاً قال: كان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول عنه: ابن الوكيل ما يرضى لنفسه أن يكون في شيء إلا غاية، ثم يُعدد أنواعاً من الخير والشر فيقول: كان في كذا غاية، وفي كذا غاية. انتهى. قلت: وكان فيه لعب ولهو، ومع ذلك فحكى لي عنه جماعة ممن صحبه ونادمه في خلواته أنهم إذا فرغوا من حالهم قام وتوضأ ولبس قماشاً نظيفاً وصلى وبكى ومرّغ وجهه على الأرض والتراب، وبكى حتى بلّ لحيته بدموعه، واستغفر وسأل الله التوبة والمغرفة، حتى قال بعضهم: لقد رأيته قد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه أسطوانة ملصقة. وكان إذا مرض غسل ديوانه. وكان قادراً على النظم من القريض والموشح والزجل والبلّيق والدوبيت والمواليّا والكان وكان، لا يفوته شيء ولا يعجزه، وهو في جميع هذه الأنواع مطبوع، له غوص على المعاني، ومع ذلك فكان ينتحل أشياء ويدّعيها. حكى لي شيخنا الحافظ ابن سيد الناس، أنشدني مرة قصيدةً عينية منها قوله: يا ربّ جفني قد هجاه هجوعه ومنها: يا ربِّ بدرُ الدين غاب عن الحمى ... فمتى يكون على الخيام طلوعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 قال: ثم إني اجتمعت بالشهاب العزازي، وأنشدته إياها، فقال: هذه لي، وأنشدني إياها من أولها الى آخرها. انتهى. قلت: ولما عمّر السلطان الملك الناصر محمد القصر الأبلق بقلعة الجبل دخل إليه الشيخ صدر الدين، وأنشده: لولاك يا خير من يمشي على قدم ... خاب الرجاء وماتت سُنّةُ الكرم منها: بنيتَ قصراً قضى بالسعد طالعه ... فقامت لهيبته الدنيا على قدم وهذه القصيدة بمجموعها لابن التعاويذي، وهي في ديوانه، وإنما ابن التعاويذي قال: بنيت داراً، فغيّره ابن الوكيل، وقال: بنيت قصراً. وشاع عنه أنه كان ينظم الشاهد على ما يدّعيه في الوقت وينشده، من ذلك قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عمّن أخبره قال: ادعى ابن الوكيل يوماً في الطائفة المنسوبة الى ابن كرّام أنهم الكرامية - بتخفيف الراء - فقال الحاضرون: المعروف فيهم بتشديد الراء، فقال: التخفيف، والدليل عليه قول الشاعر: الفقه فقه أبي حنيفة وحده ... والدين دين محمد بن كرام واستمرت هذه الحكاية في ذهني، وأنا لا أشك في أنه وضعه، فما كان بعد مدة ظفرت ببيتين من شعر المتقدمين وأولهما: إن الذين بجهلهم لم يقتدوا ... في الدين بابن كرام غير كرام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 فاستغفرت الله تعالى من ذلك الخاطر، وسألت الله تعالى له المغفرة والرحمة، وكان ظفري بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وما يبعد أنه كان يجازف في النقل وأخذه. قيل: إنه دخل الى الأفرم يوماً، وقال: يا خُوند أنا أنقل للأسد ثلاثة آلاف اسم. قلت: وهذا مبالغة عظيمة، والذي وقفت عليه في مجموع للأسد خمس مئة اسم، ولولده الشبل ثلاث مئة اسم الجملة ثمان مئة اسم. والجيّد من شعره طبقة عليا، على أن شعره يقع في اللحن الخفي، على أنه بلغني عن مجد الدين التونسي أنه قال يوماً: ما اجتمعت بالشيخ صدر الدين إلا واستفدت منه فائدة في العربية، ولما توجه الى حلب وجد شيخنا علم الدين طلحة مستحضراً للعربية جيداً، لكنه كان يعرف الحاجبية وشروحها، وهي دائرة ضيّقة، فأخذ الشيخ صدر الدين شرح السيرافي لكتاب سيبويه، وأخذ يطالعه وينقل منه ما طمّ طلحة، وغطاه. وسبب اللحن الخفي الذي كان يقع له إنما اشتغل بالنحو وهو كبير السن، والنحو علم صغر يحتاج الى أن يمتزج باللحم والدم، وأنشدني كثيراً من شعره الشيخ شهاب الدين العسجدي، وقال: كنت معه. وكانت ليلة عيد، فوقف له فقير، وقال: شيء لله؟ فالتفت إليّ وقال: إيش معك؟ فقلت: مئتا درهم. فقال ادفعها الى هذا الفقير. فقلت له: يا سيدي الليلة العيد، وما معنا ما ننفقه غداً. فقال لي: امض الى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يهنئك بهذا العيد. فدفع إليّ ألفي درهم، وقال: هذه للشيخ، وكأنه يعوز نفقة في هذا العيد، ولك أنت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 ثلاث مئة درهم، فلما حضرت بالدراهم من عند كريم الدين الى الشيخ، قال: صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحسنة بعشرة، هذه مئتان بألفين. وكان هذا شهاب الدين العسجدي والقاضي علم الدين سليمان بن ابراهيم المستوفي، وكانا به خصيصين، وحكيا لي عن مكارمه وعن صدقاته وبره للفقراء والصالحين أمراً عظيماً، وحكى لي عن أوائل عشرته أنها تكون في غاية اللطف والإقبال الزائد على صاحبه، ثم إذا طالت استحال، ولهذا قال فيه بعضهم: وداد ابن الوكيل له مثال ... كلبا دين جُلّق في المسالك فأوّله حلي ثم طيبٌ ... وآخره زجاج مع لوالك وجميع موشحاته، وسماه طراز الدار، وهذه تسمية بديعة، قلب فيها تسمية موشحات ابن سناء الملك، لأنه سمي ديوانه دار الطراز: ومن شعره - وهي من غرر قصائده: ليذهبوا في ملامي أيةً ذهبوا ... في الخمر لا فضةً تبقى ولا ذهب والمال أجمل وجه فيه تصرفه ... وجهٌ جميل وراحٌ في الدجى لهب لا تأسفن على مال تمزقه ... أيدي سقاةِ الطلا والخرَّد العرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 فما كسَوا راحتي من راحها حللاً ... إلا وعرّوا فؤادي الهمَّ واستلبوا راح بها راحتي في راحتي حصلت ... فتمّ عُجْبي لها وازداد لي العجب أن ينبع الدر من حلوٍ مذاقته ... والتبر منسبك في الكأس ينسكب وليست الكيميا في غيرها وُجدت ... وكل ما قيل في أوصافها كذب قيراط خمرٍ على القنطار من حزن ... يعود في الحال أفراحاً وينقلب عناصر أربع في الكأس قد جُليَت ... وفوقها الفلك السيّار والشهب ماءٌ ونار هواء أرضها قدح ... وطوفها فلك والأنجم الحبَب ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل ... بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب شَجَجْتُ بالماء منها الرأس موضحةً ... فحين أعقلها بالخمس لا عجب قلت: لو لم يقل الشيخ صدر الدين من الشعر إلا هذا البيت لكان قد أتى بشيء غريب نهاية في البديع، لقد غاص فيه على المعنى، ودق تخيّله فيه، وهذا شعرُ فقيه. وما تركت بها الخمس التي وجبت ... وإن رأوا تركها من بعض ما يجب وإن أقطب وجهي حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحفظ الأدب قلت: وهذا البيت أيضاً بديع المعنى دقيقه، وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر، وأوضحه، وقد أشار الى ذلك الشعراء وقبحوا فعله قال ابن أبي الحديد: بالراح رح فهي المنى ... وعلى جماع الكاس كسْ لا تلْقَها إلا ببش ... رِكَ، فالقطوب من الدَّنس ما أنصف الصهباء من ... ضحكت إليه وقد عبس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 وإذا سكرت فغنّ لي ... ذهب الرّقاد فما يُحَسّ وما أحسن قول ابن رشيق: أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي ولي في وجهه تقطيب راضٍ ... كما قطبتُ في وجه المُدام رجع القول الى تتمة أبيات ابن الوكيل: عاطيتها من بنات الترك عاطية ... لحاظها للأسود الغُلب قد غلبوا هيفاء جارية للراح ساقية ... من فوق ساقيةٍ تجري وتنسكب من وجهها وتَثنيها وقامتها ... تُخشى الأهلّة والقضبان والكثب يا قَلب أردافها مهما مررت بها ... قف لي عليها، وقل لي هذه الكثب تريك وجنتها ما في زجاجتها ... لكنْ مذاقته للريق تنْتسب تحكى الثنايا الذي أبدته من حَبَبٍ ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب قلت: في هذه الأبيات تضمين أعجاز أبيات من القصيدة البائية التي لابن الخيمي، وأولهما: يا مَطلباً لي في غيره أرب ... إليك آل التقصّي، وانتهى الطلب وقد ذكرت القصيدة وما قيل في وزنها، وواقعتها بين ابن الخيمي وابن إسرائيل في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير. ومن شعره صدر الدين رحمه الله تعالى: سرى وسُتور الهمّ بالكاس تُهتكُ ... وساكن وجدي بالغِناء يحرك فعاطيته كاساً، فحيّا بفضلها ... ومازج ذاك الفضل ريق مُمَسّك أرقتُ دم الراووق حِلاً لأنني ... رأيت صليباً فوقه، فهو مشرك وسالت دموع العين منه وكلما ... بكى بالدّما مما جرى منه أضحك وزوّجت بنت الكرم بابن غَمامة ... فصحّ على التعليق والشرط أملك وهذه القصيدة طويلة، ولكن هذا أحسن ما فيها. وقال أيضاً: يا ليلة فيها الأمان والمنى ... وكلما أطلبه تهيّا لا تقصري فالصبح قد شربته ... مدامة عنقودها الثريّا وقال أيضاً: غازِلْ وخُذ من نرجسٍ من لحظه ... منشور دمع كلهنّ نظامُ واحذرْ إذا بعث السلام إليك من ... نبت العِذار فإنه نمّامُ قلت: أخذه من قول الأول: لافتضاحي في عوارضه ... سببٌ والناس لُوّام كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 وقال دوبيت: كم قال معاطفي حكتها الأسلُ ... والبيض سرقن ما حوته المقل الآن أوامري عليها حكمت ... البيض تُحسد والقنا تُعتقل وقال أيضاً: عانقت وبالعناق يُشفى الوجد ... حتى شُفي الصبّ ومات الصّدُ من أخمصه لثما الى وجنته ... حتى اشتكت القضب وضجّ الورد وقال أيضاً: بكفّ الثّريا وهي جَذْما تقاس لي ... شقاق دجًى مُدت من الشرق للغرب ولو ذرعوها بالذراع لما انتهت ... فما تنقضي يا ليل أو ينقضي نحبي قلت: أخذه من قول الأول: كأن الثريا راحة تشبُر الدجي ... ليعلم طال الليل أم قد تعرّضا فليلٌ تراه بين شرق ومغرب ... يُقاس بشبرٍ كيف يُرجى له انقضا وقال: راحٌ بها الأعمى يرى مع العمى ... وهاك بُرهاناً على هذي المنَح الخمر للأقداح قلب دائماً ... والحدَق انظرها تجد قُلْبَ القدح وقال: كأنما البدر خلال السما ... من فوق غيم ليس بالكاب طراز تِبْر في قبا أزرق ... من تحته فروة سنجاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وقال: وعارضٌ قد لام في عارض ... وطاعن يطعن في سنّه وقائل قد كبرت ذقنه ... فقلت: لا أفكر في ذقنه وقال: شب وجدي بشائب ... من سنا البدر أوجَهُ كلما شاب ينحني ... بيّض الله وجهه وقال في مليح به يرقان: رأيت في طَرفه اصفراراً ... سَبى فؤادي فقلت: مهلا أيا مليك الملاح حسناً ... العفو من سيفك المحلا قلت: هو مثل قول الوَداعي، وفيه زيادة: قال قوم: قد شانه يرقان ... قلت: أخطأتم وحاشى وكلا إنما الخدّ واللواحظ منه ... مصحف مُذهب، وسيف محلّى ذكرت أنا هنا باليرقان ما قلته، وقد حصل لي يرقان، وطوّل في مدته في سنة خمس وخمسين وسبع مئة: يا يرقاناً زاد في مكثه ... أمرضْتَ مني الجسم والنفسا أبدلتني بالدال سيناً وما ... أقبح ورداً قد غدا ورسا وقلت أيضاً: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 صفّرني ذا اليرقان الذي ... بمثله الأسقام لم تظهر ينفر من يبصرني مُقبلاً ... حتى كأني من بني الأصفر وقلت: تصدّق خلاني عليّ بصحة ... تسر وأعفاني زماناً وعافاني ومرّ على غيري سقامٌ وصحة ... ولم يُر قان مثل ذا يرقاني وقلت من أبيات: ما ترى علّتي التي قد عرتني ... وبرتني بري المُدى القاطعات فصفاري هذا وأبيض شيبي ... نرجس للنفوس غير موات ثم عندي تشبيه شيبي بتمٍ ... قد غدا ناظراً بعين البُزاةِ ومن شعر الشيخ صدر الدين - وهو عجيب: وبي مَن قسا قلباً ولان معاطفاً ... إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي أقرّ برقٍّ أقول أنا لهُ ... وكم قالها أيضاً ولكن لتهديدي قلت: من أعجب ما مر بي أنا الباخرزي في دمية لقصر لما ذكر في ترجمة الفقير أبي نصر عبد الوهاب المالكي أورد فيها قول الشيخ أبي عامر الجرجاني: عذيري من شادن أغضبوه ... فجرّد لي مُرهفاً فاتكا وقال أنا لك يا بن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا أيها الواقف أنعم النظر فيما أوردته، وتعجب من هذا الاتفاق، كون صدر الدين بن الوكيل أخذ هذا المعنى الذي له من قول الجرجاني، والجرجاني أتى بالقول الموجب في بيتيه خفياً، لأنه قال: غضب، وجرّد المرهف، وقال: أنا لك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 يا بن الوكيل، وهذا بقرينة تجريد المرهف تهديد، فقلب الجرجاني، وقال بموجبه، ونقله الى التمليك، فأخذه صدر الدين، وأتى به واضحاً جلياً صريحاً ظاهراً، ومحل التعجّب قوله: أنا لك يا بن الوكيل، كأن هذا المعنى قال: أنا لك يا بن الوكيل تنظمني فتجيء أحسن وأبين، وتكون أنت أحق بي من الجرجاني، وهذا اتفاق غريب الى الغاية، ما مر بي مثله، والظاهر أن الشيخ صدر الدين لما وقف على هذا المعنى تنبّه له فكان له، وهو به أحق، وهذا المعنى قد ابتكره الجرجاني أبو عامر، وترك فيه فضلة، فجاء الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى، وأخذه وجوّده، ولم يبق لأحد معه مطمع الى زيادة، ولا مطمح في إفادة، وما بقي إلا الاختصار فقط، فلهذا قلت أنا فيه مختصراً: قال حبي أنا له ... ولكم قلتُ سرمدا أنا للملك قلتها ... وهو للغيظ هدّدا وقال الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى: معطّف على مهجة ظاميه ... وتقذفها عَبْرة هاميه فقد طال سقمي، فقل لي متى ... تجيء الى عبدك العافيه وأرخصتَ دمعي يوم النوى ... لأجل سوالفك الغاليه فصبراً على ما قضى لم أقل ... فيا ليتها كانت القاضيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 ونحن عبيدك ذُبنا أسىً ... فرفقاً على رقة الحاشيه فقال: بعيني أقيك الردى ... فقلت: على عينك الواقيه فشنّف سمعي بهذا الحدي ... ث فما ذكرت قرطها ماريه فيا عاذلي لو دعاك الهوى ... لقد كنت تسمع يا ساريه واشتهر شعر الشيخ صدر الدين في حياته كثيراً، وتناقله الناس، وتداولوه، ومما اشتهر له من الموشحات قوله يعارض السرّاج المحّار، وهو: ما أخجل قدّه غُصون البانْبين الورقإلا سلب المها مع الغزلانسود الحدق قاسوا غلطاً من حاز حُسن البشر بالبدر يلوح في دياجي الشَّعر لا كيد ولا كرامة للقمر الحبّ جمالُه مدى الأزمانمعناه بقيوازداد سناً وخُصّ بالنقصانبدر الأفق الصحة والسقام من مقلته والجنة والجحيم في وجنته مَن شاهده يقول من دهشته: هذا وأبيك فرّ من رضوانتحت الغسقللأرض يُعيذه من الشيطانربُّ الفلق قد أنبته الله نباتاً حسنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وازداد على المدى سناء وسنا من جادلَه بروحه ما غُبِنا قد زيّن حسنه مع الإحسانحسن الخلقلو رمت لحسنه مليحاً ثانيلم يتّفق في نرجس لحظه وزهر الثغر روض نضر قطافه بالنظر قد دبّج خده نبات الشعر فالورد حماه ناعم الريحانبالطل سُقيوالقد يميل ميلة الأغصانللمُعتَنق أحيا وأموت في هواه كمدا من مات جوىً في حبه قد سُعدا يا عاذلُ لا أترك وجدي أبدا لا تعذلي فكلما تلحانيزادت حُرقييستأهل من يهمّ بالسلوانضرب العنق القدّ وطرفه قناة وحسام والحاجب واللحاظ قسي وسهام والثغر مع الرضاب كاس ومُدام والدر منظّم مع المرجانفي فيه نقيقد رُصّع فوقه عقيق قانينظم النسق قلت: لا يخفى على الفطن ما فيه من اللحن الخفي والألفاظ النازلة، وقد تكررت من لفظة ثان. ولمّا وقف الشيخ تقي الدين بن تيمية على هذا الموشح وانتهى الى قوله: يستأهل من يهم بالسلوان ضرب العنق قال: لا يا شيخ صدر الدين، يستأهل من يقول بالصبيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 وأما موشحة السراج المحّار فهي: مذ شِمت سنا البروق من نعمانباتت حدقيتذكي بمسيل دمعها الهتاننار الحرق ما أومض بارق الحمى أو خفَقا إلا وأهاج لي البُكا والأرقا هذا سبب لمحنتي قد خُلقا أمسي لوميضه بقلبي العانبادي القلقلا أعرف في الظلام ما يغشانغير الأرق أضنى جسدي فراقُ إلفٍ نزحا أفنى جلدي ودمع عيني نزَحا كم صِحتُ وزند لوعتي قد قدحا لم تُبق يد السقام من جثمانيغير الرمقما أصنع والسلوّ مني فانوالصبر بقي أهوى قمراً حلو مذاق القُبل لا يُكحل طرفه بغير الكحل تركيّ اللحظ بابلي المقل زاهي الوجنات زائد الإحسانحلو الخُلقعذبُ الرشفات ساحرُ الأجفانساجي الحدق ما حط لثامه وأرخى شعرَه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 أو هز معاطفاً رشاقاً نضره إلا ويقول كل راءٍ نظره هذا قمر بدا بلا نقصانتحت الغَسقأو شمس ضحى في غُصنٍ فَيْنانغض الورق ما أبدع معنىً لاحَ في صورته إيناع عذاره على وجنته لما سُقي الحياة من ريقته فاعجب لبنات خدّه الرّيحانيمن حيث سُقييضحى ويبيت وهو في النيرانلم يحترق قلت: لا يخفى على الناظم أن هذا أجزلُ ألفاظاً، وأحكم من موشحة صدر الدين. والسرّاجُ المحّار عارض بموشحته موشحة أحمد بن حسن الموصلي صاحب الموشحات المشهورة، وهي: مُذ غرّدت الوُرق على الأغصانبين الورقأجرت دمعي وفي فؤادي العانيأذكت حرقي لما برزت في الدوح تشدو وتنوح أضحى دمعي بساحة السفح سفوح والفكر نديمي في غُبوق وصبوح قد هيّجت الذي به أضنانيمنه قلقيوالقلب له من بعد صبري الفانيوالوجد بقي ما لاح بريق رامةٍ أو لمعا إلا وسحاب عبرتي قد هَمَعا والجسم على المزمع هجري زَمَعا بالنازح والنازح عن أوطانيضاقت طوقيما أصنع قد حملتُ من أحزانيما لم أطق قلبي لهوى ساكنه قد خفقا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 والوجد حبيسٌ واصطباري طلقا والصامت من سري بدمعي نطقا في عشق منعّم من الولدانأصبحت شقيمن جفوته ولم يَزُر أجفانيغيرُ الأرق فالورد مع الشقيق من خدّيه قد صانهما النرجس من عينيه والآس هو السياج من صدغيه واللفظ وريق الأغيد الروحانيعند الحدقحلوان على غصن من المرانغضٍّ رشِقِ الصّاد من المقلة من حققه والنون من الحاجب من عَرّقه واللام من العارض من علقه قد سطّره بالقلم الريحانيربّ الفلقبالمسك على الكافور كالعنوانفوق الورق الملحة لمع الصلت بالإيضاح والغُرّة بالتبيان كالمصباح والمنطق نثر الدرّ بالإصلاح والثغر هو الصحاح كالعقبانكالعقد بقيوالرّد مع الخلاف كالسلوانعنه خُلقي ما أبدع وضع الخال في وجنته خطّ الشكل الرفيع من نقطته قد حيّر إقليدس في هيئته كالعنبر في نار الأسيل الفانِللمنتشقفاعجب لعبير وهو في النيرانلم يحترق قلت: في هذه الموشحة ألفاظ تحتاج معانيها الى مشاحّة، وموشحة الشيخ صدر الدين على كل حال خير منها، وموشحة المحّار خير من الاثنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 وقد خطر لي أنا نظم موشحة في هذه المادة، وقد زدت الحشوات توشيحاً، وهي: ما هزّ قضيب قدّه الريّانللمُعتَنِقإلا استترت معاطف الأغصانبين الورق أفدي قمراً لم يُبق عندي رَمَقاً ... لما رَمَقا قد زاد صبابتي به والحُرَقا ... شوقاً وشَقا لو فوّق سهم جفنه أو رشقا ... في يوم لُقا أبطال وغىً تميس في غُدْراننسج الحَلَقأبصرتهم في مَعرَك الفرسانصرعى الحدق بدر منعتهُ قسوةُ الأتراك ... رُحمى الشاكي من ناظره حبائل الأشراك ... والإشراك كم ضلّ بها قبلي من النُسّاك ... والفتّاك قاني الوجنات ينتمي للقانِصعب الخُلقإن قلت أموت في الهوى نادانيهذا يَسَقي كم جا جبينه الدجا فاقترضا ... صُبحاً فأضا كم جرّد جفنُه حساماً ونضى ... والصبّ قضى كم أودع ريقه فؤاداً مَرِضاً ... من جمر غضا فاعجب لرُضابه شفا الظمآنيذكي حرقيوالخدّ به الخال على النيرانلم يحترق يا خجلةَ خدّ الورد في جنته ... من وجنته يا كسرة غصن البان في حضرته ... من خطرته يا حيرة بدر التمّ من عزّته ... في طُرّته لا تعتقد الأقمار بالبهتانوسط الأفقأن تشبهه فليس في الإمكانما لم تُطِق ما أسعد من أصابه بالحَوَر ... سهم النظر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 ما أنعم من يصليه نار الفكر ... طول العُمرِ أو قيّده الحب بقيد الشَّعَر ... عند السَّحَر أو طوقه بذلك الثعبانفوق العنقأو بات بقفل صُدغه الريحانيتحت الغَلق قلت: والشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى قد عارض المحّار في أكثر موشحاته، فيندر له المطلع أو حشوه، ثم إنه يسقط من الثريا الى الثرى كقوله: قالوا: سلا واستردّ مضناهقلباً أخذالا والذي لا إله إلا هوما كان كذا عشقته كوكباً من الصّغر أأترك الوجد وهو كالقمر ديباج ديباجته بالشعر زيدت طرازاً كالرقم الإبر لا والذي زانه وأعطاهحسناً وشذىعلى البرايا وإنه اللهما كان كذا ولو تقاس الكؤوس بالثغر وبالثنايا الحباب كالدّرر لفضّل الثغر صحة النظر والصّرف في مطعم وفي عطر لو قيس ما فاق من حُميّاهأو ما نُبذاالى رُضابٍ حوته عيناهما كان كذا كل دمّ الناس فوق وجنته قد سفكتها سهام مُقلته العفو من نبلها وحدّته لو صبّ بهرامُ كل جعبته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 واختار من نبلها ونقّاهسهماً نفذافي الأرض من خرقه رَماياهما كان كذا وسُودَها يا حكيم خذ بيدي أمضى من البيض مع بني أسد لو قيس ما فكّ مُحكم الزَرَد من كل ماضي الغروب غير صَد الى حسام نضته عيناهماضٍ شحذاعلى مسَنٍّ أبدته صدغاهما كان كذا قد سلب الظبي حسن لفتته كما سبى الغصن حسن خطرته والشمس خجلى من نور طلعته والبدر في حسنه وبهجته لو قيس أيضاً الى محيّاهفي الحسن إذاحُفت به هالة عذاراهما كان كذا محمد بن عمر بن إلياس شمس الدين أبو العز الرّهاوي، ثم الدمشقي الكاتب. سمع بمصر صحيح مسلم، بفَوْت من ابن البرهان، وسمع من النجيب، ومن ابن أبي اليسر، وابن الأوحد، وطائفة. ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع الكتب وروى عنه شيخنا الذهبي في المعجم. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحضر جنازته قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من الأعيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 محمد بن عمر بن سالم العدل الفاضل ناصر الدين بن المشهدي المصري. سمع من غازي الحلاوي، وخلق، وعُني بذلك، وكتب الطباق، وبرع في كتابة السجلات، وحصّل منها جملة، وأقام بدمشق مدة. قال شيخنا الذهبي: وقد تكلموا في عدالته. وتوفي رحمه الله تعالى كهلاً سنة بضع وعشرين وسبع مئة. محمد بن عمر بن محمد الشيخ الإمام المفنن شمس الدين بن الخباز. قرأ بدمشق قليلاً على الشيخ مجد الدين التونسي، ثم قرأ على القحفازي وعلى ابن قاضي شهبة. وعلى الشيخ برهان الدين، ثم توجه الى حلب، وقرأ على الشيخ فخر الدين قاضي القضاة بن خطيب جبرين شيخنا، وعلى شيخنا علم الدين طلحة، ثم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وحفظ التنبيه والمختصر وألفية ابن مالك والجرجانية، وباحث وناظر، وأذن له ابن خطيب جبرين في الإفتاء. كان جيد المناظرة، فكه المحاضرة، يستحضر كثيراً من المعقول، ويورد جملة من المنقول، وبحوثه متقنة محررة، ونقوله بالأصول رياضها مزهرة. وكان والده بدمشق خبازاً فسمت همته، وعلت عزمته الى أن دخل في عداد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 الفضلاء، وحشر في زمرة النبلاء، وكانت يده شلاّء، وعن البطش زلاّء. ولم يزل مصفّراً من أفواه العروق، ووجهه كأنه الأصيل عند الغروب لا الضحى عند الشروق، وكانت له قدرة على المحاكاة وقوة على التكيف بمن خاصمه أو شاكاه. ولم يزل على حاله الى أن جاء سيل المنيّة على أفواه عروقه، وسدّ منه مجاري خروقه. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثاني عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وتسعين وست مئة. وكان يُعرف في دمشق بالحلبي، وفي حلب بالدمشقي، اجتمعت به غير مرة بدمشق وحلب، وجرت بيني وبينه مباحث عديدة، وهو رفيقي في الاشتغال رحمه الله تعالى. محمد بن عمر بن محمد بن عمر ابن الحسن، الشيخ الجليل الفاضل الصدر العدل إمام الدين أبو عبد الله ابن الشيخ شرف الدين أبي حفص بن خواجا إمام، الفارسي الأصل، الدمشقي. سمع من جده وعمّ والده أبي بكر بن عمر، والرضي بن البرهان التاجر الواسطي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن أبي اليسر، وشمس الدين بن أبي عمر، وجماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وحدث بصحيح مسلم وموطأ مالك رواية أبي مصعب عن ابن البرهان. وكان معروفاً بالكفاءة والخبرة، وخدم في عدة جهات، وكان كثير التلاوة. توفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مائة. ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة. محمد بن عمر بن عبد العزيز ابن ... الصدر النبيل الرئيس قاضي القضاة ناصر الدين ابن قاضي القضاة كمال الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن العديم الحنفي. كان أولاً بحماة قاضي القضاة، ثم إنه نقل الى حلب، وتولى حماة في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة عوضاً عن جدّه. وكان صدراً واسع الصدر، ورئيساً يجلس من سيادته في هالة البدر، قد وسع الناس بإحسانه، وملك قلوبهم بلسانه، يخدم الأكابر والأصاغر، ولا يزال فوه بالشكر لهم يُرى وهو فاغر، يكارم الزائرين بأنواع القماش والحلوى، ويغدق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 عليهم، فلا يرون لمنّه سلوى، وطالت مدّته في حلب، وساق إليه كل شاعر نفائس أمداحه وجلب. ولم يزل على حاله الى أن دخل ابن العديم في العدم، وانهدّ طَوْد حياته وانهدم. وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وثمانين وست مئة. وكان قد طلب الى مصر ليجعل بها قاضي القضاة عندما أُخرج القاضي حسام الدين الغوري، فوصل الى دمشق، ثم إنه جاء المرسوم بعوده الى حلب على حاله. وحدّث عن الأبرقوهي وغيره. وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر الوادي آشي الحنفي، ومن خطه نقلت: فذاك قاضي القضاة عبدُ ... قريضُه مثله رقيقُ يكابدُ البرد في قماش ... أشبهه ببيته العتيقُ له إذا ما الرياح هبّت ... عطف كغصن النقا رشيقُ غزا ابن ماء السماء منه ... نضواً سوى السلم لا يطيق ليس يرد الشتاء عنه ... بيتٌ مع القبح فيه ضيق والصبر مع أنه بعيدُ ... قد سُدّ من دونه الطريق فانظر إليه بعين مولّى ... من غُرّ أوصافه الشفيق واعطف عليه فأنت فرع ... من دوحةِ غُصنُها وريق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 لا زلت ما عشت في نعيم ... أنت بإنعامه حقيق مجمّلاً مذهباً أتانا ... منك لنُعْمانه شقيق محمد بن عمر الأمير ناصر الدين ابن الأمير ركن الدين البُتْخاصي الصفدي. كان أميراً بطبلخاناه في الديار المصرية، وله مكارم ومروءة، وفي طباعه حرية. يخدم أصحابه، ويعرف حق من لازم بابه، يخدم الوُرّاد، ويكرم الرّواد، ويتجمل بين الناس، ويُرضي من يُقدم عليه، ويبسط له الإيناس. تنقل في الممالك، وصرّفه الدهر بين صُبحه النيّر، ودُجاه الحالك، وقبض وسجن وامتلأ قلب الدهر عليه وشحن، وهو صابرٌ للأقدار فيما تنوبه، عالمٌ أن الزمان لا تدوم حروبه. ولم يزل بالديار المصرية في آخر أمره، الى أن انصرمت مدّة عمره. وتوفي رحمه الله تعالى بالديار المصرية، وجاء الخبر بوفاته الى دمشق في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وعمره ما يقارب الخمسين سنة. كان الأمير ناصر الدين قد نشأ بصفد في حياة والده وكان والده ركن الدين يتصرف في المباشرات السلطانية من الولايات والشد وغير ذلك، وكان من أعيان أهل صفد، وفي آخر عمره ولي الحجبة الصغرى بصفد بإمرة عشرة، فلما خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نائب صفد هارباً منها طالباً دمشق تبعه عسكرها وركن الدين معهم، فناوشوهم القتال، فجاءته طعنة حمل منها الى صفد، ومات بها. وتقلّبت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 الأيام بولده هذا الأمير ناصر الدين، وترقى الى أن تولى الحجبة بصفد، ثم إنه أُمسك واعتقل بإسكندرية، في واقعة بيبغاروس لما كان صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا برناق نائب صفد، ثم إنه أفرج عنه، وأخرج الى طرابلس، ثم طُلب الى مصر، وجُعل حاجباً صغيراً بحلب، وفوض إليه الأمير سيف الدين شيخو نيابة ديوانه بحلب، فاجتهد في خدمته، وعمّر الخان المليح والحمّام بجبّ السقّايين بين المعرة وحماة، ثم أضيف إليه شد الخاص وشد الأوقاف بحلب. ثم إنه رسم له بإمرة الحجبة الكبرى عوضاً عن الأمير ناصر الدين بن شهري، وأقام على ذلك الى أن طُلب الى مصر صحبة علاء الدين علي البشيري، فأعطاه السلطان بمصر إمرة طبلخاناه، وجعله مشدّاً في العمائر السلطانية بالقاهرة، ثم إنه جهّزه في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى منفلوط لقبض مغلها، فقبضه وعاد الى القاهرة على شد العمائر. ثم إنه مرض مرضة طويلة في ذلك الوباء العام، ووصل الخبر الى دمشق بموته رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله بارّاً بوالدته وإخوته وأخواته، عفيفاً أميناً في مباشراته، عارفاً درباً بما يتحدث فيه، فيه كرم ومروءة زائدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 محمد بن عمران بن عامر القطناني المقرئ الحرّاني البغدادي، الشيخ الصالح الملقّن عند البرادة بالجامع الأموي بدمشق. كان مقرئاً فاضلاً عارفاً بالتجويد، حسن الأداء، حفظ التيسير والشاطبية وبعض المقنع. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة. محمد بن عنبرجي القان المغلي بن النوين عنبرجي المذكور. كان صبياً من أبناء العشرين، من أهل توريز، لما قتل القان بوسعيد عنبرجي زعمت سريته أنها حبلى منه. فولدت محمداً هذا، فلما أقبل النوين الشيخ حسن الكبير من البلاد، وهزم جمع الملك موسى قان، وقتل موسى، عمد الشيخ حسن الى محمد هذا وأقامه في الملك، وناب له هو وابن جوبان وزوجة جوبان ساطي بك، وهي ابنة القان خربندا، وتماسك الأمر أشهراً. ثم أقبل من الروم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 ولدا تمرتاش، وأوهما أن أباهما حيّ معهما، وجعلاه في خركاة، فهرب الشيخ حسن الكبير الى خراسان، ثم أهلك هذا محمد. وماج الناس واشتد البلاء والظلم والنهب ببلاد أذربيجان وافتقر من الجَوْر جماعة، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. محمد بن عيسى بن مهنّا الأمير أخو مهنّا. كان من أعيان أمراء آل فضل. وكان حسن الشكل، له معرفة ودُرْبة. توفي رحمه الله تعالى بسلمية في يوم السبت سابع شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وصلى عليه قاضيها. ولما كان قراسُنقر قد وصل الى بيوت أخيه مهنا، كان محمد هذا غائباً، فلما جاء وبصر به قال لمهنا: أبشر يا مهنا بالإنعامات والإقطاعات من السلطان، ففهم قراسُنقر الغدر منهم، فقام الى كاملة زوج مهنا وشال ذيلها ودخل تحته، فقالت: يا أبا محمد إن الله قد أجارك وجاءت الى مهنا. فقالت له: إيش يتحدث عنك العربان؟ إن هؤلاء الملوك جاؤوا إليك ونزلوا عليك، وإنك غدرت بهم لأجل الدنيا، فقال: الله الأحد إن الله قد أجارهم فقال محمد لأخيه مهنا: الله بيننا وبينك حرمتنا هواء الشام وطيبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 محمد بن عيسى بن عيسى ابن محمد بن عبد الوهاب بن ذؤيب بن مُشرّف الأسدي الغاضري الرياني، القاضي البليغ الناظم الناثر المفوّه شمس الدين ابن القاضي شرف الدين ابن قاضي شهبة. رجل انقاد له الكلام، ونزل على حكم نثاره والنظام، له النظم المطبوع والنثر الغزير الينبوع، كتب الإنشاء وترسّل، وتوصل الى مآربه بذلك وتوسّل، إلا أن خطّه كان مرجوفاً، ولم يُعبه ذلك لأنه كان يودعه من إنشائه قلائد وشنوفاً. كتب للسرّ بحمص وغزّة، ونال فيهما شرفاً وعزة، وتولى الخطابة في غزة، فصدح على منبرها حمامة، وأقام بمواعظة المبكيات على الناس القيامة. ولم يزل على حاله الى أن توارت شمسه بالحجاب، ودعا الحركة بعدما سكن فسكت وما أجاب. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة عن ثلاث وخمسين سنة في طاعون غزة. حرص عليه أهله، وشغّلوه بالعلم، فرأى أن رزق الفقهاء ضعيف، فرجع الى صناعة الكتابة، وقال لي: أخذت كتاب التنبيه والعمدة في الأحكام وكتاباً في النحو وألقيتهما في قدر والماء يغلي، وهجرت الاشتغال بالعلم، واشتغلت بصناعة الحساب، وكان موجب ذلك أني حضرت العزيزية سنةً فحصل لي منها خمسة دراهم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 تلك السنة. وباشر في جهات، ثم إنه تعلّق بالإنشاء، وكان النظم والنثر فيه طباعاً، فتوجه الى مصر، وسعى في توقيع حمص، فتولاه من مصر، وباشره مع نيابة الأمير سيف الدين قلاوون في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً، وانفصل منها، وعاد الى مباشرة الحساب، فتولى نظر نابلس، ولما توجه الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام الى القدس خدمه هناك، وبقي أمره على ذهنه، وحضر الى دمشق، وامتدحه وامتدح عز الدين طقطاي الدوادار، فقال يلبغا: ما تريد؟ فقال: يا خوند أكون كاتب إنشاء في دمشق بمعلومي الذي على نظر نابلس، وتوفر معلوم ناظر نابلس، فرسم له بذلك. ولم يزل يكتب بديوان الإنشاء الى آخر وقت، ثم إنه جُهز في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى غزة موقّعاً في أيام الأمير سيف الدين أسندمر الزيني، عيّنه لذلك القاضي أمين الدين بن القلانسي كاتب السر بالشام لما عزل الشريف كمال الدين موقّع غزة، ولما كتب الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في معنى أولاد رزق الله وعُزلوا من صفد، رُسم بأن يكون كاتب سر بصفد في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام قليلاً، وأعيد الى غزة. فأقام على كتابة سرها والخطابة بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة في التاريخ المذكور. وكان قادراً على الهجو المقذع، وبيني وبينه مكاتبات كثيرة، وهي مُودعة في التذكرة التي لي في أماكنها، ومنها شيء في كتابي ألحان السواجع. كتب إلي وهو بدمشق قرين جبن صرخدي أهداه لي: يا شجاع الوجود في العلم والفض ... ل وشيخ الأنام في كل فن قد تجاسرت في الهدية فاسمح ... بالتغاضي واستر بحلمك جُبني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فكتبت أنا الجواب إليه: حاش لله أن يُرى منك جبن ... ومعاليك قد حَوَت كل حُسن وكريم الأقوام فهو شجاع ... والبخيل الذي تردّى لجبن وكتبت إلي قرين ماء وردٍ أهداه: يا سيداً تجلو ثنايا لفظه ... لظامئ الأكباد برداً من بَرَدْ ومَنْ إذا ما لمَست يمينُه ... جمر الغضا من الندى الغمر برد كان لكم عندي فيما قد مضى ... وعدّ بماء الورد، لكن ما ورد والآن قد وافى فقابل كسره ... بالجبر لا يخجل إن جاء ورد وعش مدى الدهر صلاحاً في الورى ... تصلح من حال الأنام ما فسد في نعمة وافرة مديدة ... تكتب فيها بالبقاء من حسد يا خير روح للعلا طاهرةٍ ... كم أنعشت للمكرمات من جسد وكتب إلي، وقد نظمت قصيدة في مديح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا إماماً قد أتى العزَّ الى ... بابه ينقاد في أرسانه لو رآك المصطفى في عصره ... مثبتاً فُقتِ على حسّانه بمديحٍ فيه قد جئت به ... بعد ما جاء فتى غسّانِه إن دهراً سُدت فيه سيدي ... ناظر أنت ضِيا إنسانه عبدك الشاكر وافى سائلاً ... كيف مولانا على إحسانه وكتب إليّ ملغزاً: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 أيها الفاضل الذي هو في الفض ... ل إمامٌ والناس جمعاً وراء والبليغ الذي له لطف معنًى ... عجزت عن مثاله الفصحاء والإمام الذي له لطف خطّ ... لم تطق وصف نوره الشعراء ما اسم ثاوٍ في الأرض بين البرايا ... وله صاحبٌ حوته السماء وهو عارٍ ومكتسٍ ثوب حُسن ... عنده الصيف والشتاء سواء لم تحكْ ثوبَهُ يدٌ ولم تَحْ ... وِ نَظيراً لنسجه صنعاء قام بالعُرفِ آمراً وعلى العا ... دة يجري وليس فيه رياء فأبنه يا ذا الرئيس المفدّى ... لا نأتْ عن مقرك النعماء وابقَ ما غنّت الصوادح في الصب ... ح ولاح الضحى وولى المساء فكتبت أنا الجواب عن ذلك، وهو في ديك: يا فصيحاً عنت له البلغاء ... وبليغاً ونَت له الفصحاءُ والبليغ الذي إذا ما بدا البَد ... رُ لديه اعتراه منه حياء نظمك المستَلذّ في كل سمعٍ ... هو والدرّ والأغاني سواء أنت ألغزْتَ في مسمى عجيبٍ ... طائر ما حواه قطّ الهواء وهو يمشي مثل الملوك بتاجٍ ... وعلى رأسه يشالُ لواء ليس تُحصى أشخاصه وهو يُحصى ... فعجيب لما يراه القضاء وتحاشى من عِكسِهِ فهو أمر ... يتبرّا من فعله الكرماء وإذا ما صحّفته يتبدّى ... حيواناً وقد حواه المساء فابق واسْلم لكل لغز بديع ... فهو فنّ تحبه الأدباء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وكتب هو إلي من غزة: ذكرتك والجوّ في حُلةٍ ... مكللةٍ بلآلي النجوم وبرق الدجى خافقٌ ومضهُ ... كقلبٍ مُعنىً عديم الهجومِ وعرفُ الصَّبا كزمان الصِّبا ... رقيق الحواشي نديّ النسيم وللبحر أفواج موج حَكَت ... تزاحُمَ خيل الكفاح العقيم ورمل الكثيب بتمويجه ... يحاكي البُرود حسان الرقوم وكأس المدام مدام الصفا ... كودّك لو كنتَ فيها نديمي فهاج لذكراك عندي هوًى ... رمى نار حرّ الأسى في صميمي وأضعف من همتي قوةً ... لفقدك تُغزى بجيش الهموم وبات حديثك لي مُؤنساً ... يعلّلني بالرحيق القديم فجادَك صوبُ سلام امرئٍ ... مقيم على ودّه المُستقيم سقيم إذا شافَ ريّاكم ... رجا بالعليل شفاء السقيم يقبّل الأرض ويُنهي ما لم يَخفَ من العلوم الكريمة من مضاعفة شوقه، ومضاعفة أسفه الذي أحاط به من تحته وفوقه، وما يجده من التألم لانقطاع مراسيم مولانا التي تفُل حدّ الغربة بغَربها، وتحجب عن الأنفس المكروبة والمحزونة كرّب كربها: وقد غضبت حتى كأني مذنب ... أروم الرضا منها ويا ليتها ترضى أنهي ذلك إن شاء الله تعالى. فكتبت أنا الجواب عن ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 أتاني كتابُك والجو قد ... توشّع من بارقات الغُيوم فهذا يجود بدُرّ الحيا ... وهذا يجود بدرّ العُلوم وما الدّر كالدّر بين الورى ... ولا الزّهر فيهم كزهر النجومِ ويا حُسنه وافداً قد غدا ... ينفّس عني خناق الهمومِ ويوقفني اللفظ منه على ... نديم لكلّ سرور مُديم بخطٍ ترفّع في وَضْعه ... أويْتَ الى كهفه والرقيم وولّى الوليّ لإقباله ... كما ابنُ هلالٍ غدا في النجوم وأنستْ حلاوتُه شُهدةً ... ورقّت حواشيه لابن العديم أيا عربيّ القريض افتخرْ ... فكم في معانيك من ابن رومي ومثلك ما دار في دارم ... ولا تمّ ما قلته في تميم يهز نظامك أعطافنا ... كأن قوافيك بنت الكروم وتحكي الرياض بأسطارها ... نسيبك فيها نسيب النسيم وبعد فإني في وحشة ... سميري أذكاري وصبري حميم يقبل الأرض وينهي ورود المشرّف الكريم، فوقف الملوك لوروده، وقبّل من سطره وطرسه عِذار آسِه ووجنة وروده، ومتع ناظره من جنته الناضرة بحدائق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 ذات بهجة، وفداه لما رآه بسواد العين وسُويداء المهجة، وتحقّق أن أبا ذر حديثه أصدق لهجة، فلم يرتب فيما ادّعاه من المحبة، وقال لا شُبهة في وداد ابن قاضي شهبة: قلبي لديك أظنّهُ ... يُملي عليك وتكتب فكتب هو الجواب عن ذلك: ساق الحمامُ الى لقائك نائحاً ... صبّ تذكّر نازحاً أوطانَه فاهتزّ قلبي باهتزاز أراكه ... طرباً، وهيّج شجوه أشجانه ودعا وقد بلّ الندى أذياله ... صُبحاً، ورصفت الصّبا أفنانه وشكا كما أشكو الحمام وإنما ... لم يُجْرِ مثلي بالبكا أجفانه لكنْ أعان على الجوى وأخو الهوى ... إن عاين العاني الكئيب أعانه ومع الإعانة أذكر العيش الذي ... ما زلت أفدي بالحياة زمانه حتى إذا حسر الصباحُ قناعه ... وجد النهار سوره وأبانه غنى وصفّق طائراً بقوادم ... تدنيه إن أنأتْ نوىً جيرانه فبكيت محزوناً، وقلت تعلُّلاً ... ليت الحمام أتم لي إحسانه يقبّل الأرض وينهي ورود الجواب الجريم عما كان تهجّم الملوك من العبودية، والأبيات التي بان بتلك المراجعة قصورها، وتضعضع بتلاوة سور تلك العوذ الصلاحية سورها وصُورها، فقابل العبد ذلك الفضل الخليلي مسلماً إليه وعليه، ووقف سيف ذهنه الكالّ عنده، فإنه ينفق مستجدياً، ومولانا ينفق مما أفاه الله وأفاض من سعة فضله عليه، يا أُلْفَ مولاي قد تجاسر العبد، ولكن والله مقتبساً من أنوار فضائلك، وتهجّم ولكن ملتبساً من مبارّ شمائلك، ومع هذا فعين الله على ميم منطقك، وحاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 حمايته على راء رونقك، فإنك، فداك الأعداء، حُر غمر بالجود، ومولى بمزيّه مزيدٌ شانه الحسود، ومازال الملوك من ورود ذلك المثال العالي يتحلى بألفاظ شهدته، ويتأنّس بمعاينة الوارد عن وحيد العصر. فما يشكو ألم وحدته، يا مخدومي، من أين للقائل سواك أن يقول: وأنست حلاوته شهدةً ... ورقت حواشيه لابن العديم وأن يقول: أيا عربيّ القريض افتخر ... فكم من معانيك من ابن رومي وإنما سبحان من جعل مفاتيح كنوز الأدب بيديك، وصرّفك فيما صرفك عن قبول ما أنعم به عليك، وسؤال المملوك من الصدقات إدامة الجبر الكريم، فإن المملوك إذا رأى كتاب سيد شاهد معانيه من مثاله، وتذكر مواصلة الخيرات الحِسان بين يديه بالنشر الفائح من طي أوصاله. فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: وافى قريضك فاستمال أخال الهوى ... وثنى الى ذكرى صباه عيانه هاجت بلابلُه بلابل صبوتي ... قدْماً وذكّرني العقيق وبانَه فكأن رقم سطوره روضٌ غدت ... تثني نسيمات الحمى أغصانه أخملت منه خمائل الشعراء وال ... كتّاب لما عاينوا عنوانه أما السّراج فما لشعلة نظمه ... نور وسود في الطروس دخانه وابن النقيب عصت عصاه فلم تسق ... جُند القريض وعطّلت ميدانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وكذلك الجزار ليس لشعره ... شعرٌ وأغلق في الورى دكانه والفاضل المشهور أصبح خاملاً ... في نثره ورأى الورى نقصانه وكذلك الجزري أنبت نثره ... روضاً فلم يرض الورى بستانه وكذلك ابن الصيرفي لم ينتقد ... شيئاً، وعطل بعدها ميزانه يا من قطعتُ به زماناً بالحمى ... سُقي الحمى ورعى الإله زمانه عصرٌ متى أملى النسيم حديثه ... في الروض فتّح زهرُه آذانه سجْعُ الحمام يلذ لي لا سيّما ... إن حركت أيدي الصبا عيدانه فيجد لي ذكراك في تغريده ... وأروح ريان الحشا نشوانه يا حسرتا ليت الحمام أعاد لي ... إحسانه فأعارني طيرانه يقبّل الأرض، وينهي ورود الجواب الكريم على من ورَد، الجسيم الفضل الذي دخل باب الأعجاز وردّ، العميم الإحسان الذي يروي صدى من صدر عنه أو ورَد، فتلقاه بكلتا يديه، وضمه وشمّ أنفاسه، ووضعه على رأسه لا بل أتحف بالتاج رأسه، وفضه عن فضل نظم رأى ملائكة البلاغة حرّاسه، واستجلى من طرسه ياسمينة ومن سطره آسه، وبهت لرقم طروسه، الى أن قاس بالمسك الأذفر أنفاسه، ونظره فإذا هو قد اختبا له في اختباله، وما احتمى له احتماله، وخلط جسده بجسده، وعقل لسانه بحبلٍ من مسده، وصرفني عن معارضته بالجواب، وقال: الاعتراف بالقصور أولى وأليق بالصواب، فما أنت ومكاثرة الغمائم ومكابرة هذه السمائم ومنافحة هذه الكمائم، ومناوحة هذه الحمائم، أُدخل تحت ذيل الاعتراف وقل تبختري يا ديباجة البحتري، وفُوقي النظّارة يا نضارة المشتري، واخلبي القلوب يا أقلامه التي نفثت السحر في العُقد، وصولي على كتّاب هذا الزمان فقد نبّهت من هذا الفن ما أغفى ورقَد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 والمملوك فقد اعترف، ووقف على الشاطئ ولو أمكنه لاغترف، ولكنه يدعو ببقاء هذه الفضائل، ودوام هذه التحف التي أمسى بها فنّ الأقدمين وهو متضائل، إن شاء الله تعالى. وفي التذكرة التي لي في أماكن متفرقة أشياء كثيرة مما دار بيني وبينه. محمد بن غالب بن سعيد الشيخ الإمام الزاهد الصالح البركة المحدث شمس الدين أبو عبد الله الأندلسي الجيّاني. ارتحل في طلب الحديث، وسمع من الرضي بن البرهان، وابن عبد الدائم، وطبقتهما. وجاور بمكة، الى أن توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة. ومولده بعد العشرين وست مئة. محمد بن أبي الفتح ابن أبي الفضل بن بركات، الإمام المفتي المحدث المتقن النحوي البارع شمس الدين أبو عبد الله شيخ العربية البعلبكي الحنبلي. سمع من الفقيه محمد اليونيني، وابن عبد الدائم، والعز حسن بن المُهَير، وابن أبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 اليسر، ومن بعدهم. وعني بالرواية، وحصّل الأصول. وجمع وخرّج، وأتقن الفقه، وبرع في العربية، وصنف شرحاً كبيراً للجرجانية، وجوّده، وأخذ عن ابن مالك ولازمه. وحدث بدمشق وطرابلس وبعلبك، وتخرج به جماعة، وكان إماماً متواضعاً متزهداً، ريّض الأخلاق حسن الشمائل على الإطلاق، جيّد الخبرة بألفاظ الحديث، مشاركاً في رجاله أهل القديم والحديث. ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القاهرة، وانتقل منها الى الآخرة. وتوفي رحمه الله تعالى بالمنصورية ليلة السبت ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبع مئة، ودفن بمقبرة عبد الغني. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. وكان قد توجه من دمشق الى القدس، ومن هناك توجه الى الديار المصرية، فمرض أياماً يسيرة، ومات رحمه الله تعالى. محمد بن فضل الله القاضي بدر الدين الموقع، أحد الإخوة، شرف الدين عبد الوهاب ومحيي الدين بن يحيى. كان قد أسره التتار في أيام غازان، ودخل معهم البلاد، ومنّ الله عليه بالخلاص من أسرهم، ووصل الى دمشق في يوم الأربعاء ثالث عشري جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا الأربعين الثقفية عن العراقي بإجازته من السِّلفي، وسمع أيضاً من فرج الحبشي والشرف الإربلي. وكان ليّن الكلمة، لطيف الجانب، من أعيان الكُتّاب المتصرّفين. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة. ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة بطبرية. محمد بن فضل الله القاضي الكبير الرئيس الشهير فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية. كان عند أستاذه وجيهاً الى الغاية، ومكيناً من خاطره الى النهاية، لا يمكّن السلطان في الغالب من فعل ما يريد، ولا يدع أحداً يجتمع به من أهل السّر السريد، ومن اجتمع به بغير علمه راحت روحه، وأثخنت جروحه، فكان للناس رحمة، وبه كانت كلُ بيضاء شحمة، والناس في أمان على أموالهم وأرواحهم، وسمات القبول والإقبال تهبّ عليهم في غُدوّهم ورواحهم، نصَل عنده خضاب ابن حنّا، والوزيرُ الفائزي ما فاز مثله بما تمنى، وابن السَلعوس ما بلغ وجاهته، ولا رأى طول مدته ولا حصّل تفرّجه ونزاهته: جمال وزارة وشهاب دَسْتٍ ... وسائس دولةٍ وسعيد قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 تحمّل للممالك كلَّ عبءٍ ... فقام له قدَم الكمال فأخصَبَتِ الممالك بعد جدبٍ ... وأُنشطت الممالك من عقال فإن يك آخر الوزراء عصراً ... فقد خُتمت به الرتبُ العوالي وما برح الحيا قطراً ووبلاً ... أواخرُه تنيف على الأوالي ولم يزل في نصرة مظلوم وإنالة محروم، الى أن حوّمت عليه المنية، وعَظُمت فيه الزريّة. وتوفي رحمه الله تعالى في نصف شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة. وكان قد سمع من الأبرقوهي، وانتفع به خلق كثير في الدولة الناصرية من الأمراء والنوّاب والعلماء والقضاة والفقراء والأجناد وغيرهم من أهل الشام ومصر لوجاهته عند مخدومه، وإقدامه عليه، لم يكن لأحد من الترك ولا من المتعمّمين مثل إقدامه عليه. حكى لي القاضي عماد الدين بن القيسراني أنه قال له يوم خدمة ونحن جلوس في دار العدل: يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش. فقال: ما قلت لك إنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 عجوز نحس وتكذب. قال عماد الدين: يريد بذلك بنت كوكاي زوج السلطان، لأنها كانت ادّعت أنها حُبلى. وأما أنا فسمعت السلطان الملك الناصر يقول يوماً في خانقاه سرياقوس لجندي وقف بين يدي يطلب إقطاعاً: لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدين خبزاً يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم. وكان قد غضب عليه في وقت عندما حضر من الكرك في المرة الثانية، وطلب القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية من الشام، وولاه مكانه، وأخذ منه أربع مئة ألف درهم، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فأفرج عنه، وأعيد الى نظر الجيش شريكاً لقطب الدين في جمادى الأولى من السنة المذكورة. ولما رضي بعد قليل عليه أمر بإعادتها عليه، قال: يا خوند أنا خرجت عنها لك، فابنِ بها جامعاً، فبنى بها الجامع الذي في موردة الحَلفاء. وكان في آخر عهده يباشر بلا معلوم، وأعرض عن الجميع، وترك الكُماجة الحمراء تحضر إليه من المخابز السلطانية، ويقول: أتبرّك بها. وحكي عنه أنه من يوم إسلامه تسمّى بمحمد، وأعرض عن النصارى جملة كافية، فلا يقربه نصراني ولا تحوي داره نصرانياً. وحكى لي شيخنا الحافظ فتح الدين قال: قال القاضي شرف الدين بن زنبور - وكان خال القاضي فخر الدين هذا: ابنُ أختي عمره متعبّد متألّه لأننا كنا نجتمع على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 الشراب في ذلك الدّين، فيتركنا وينصرف ونفتقده إذا طالت غيبته، فنجده واقفاً يصلّي، ولما ألزموه بالإسلام امتنع، وهمّ بقتل نفسه بالسيف، وتغيّب أياماً، ثم إنه أسلم وحَسُن إسلامه الى الغاية. وحجّ غير مرة، وزار القدس غير مرة، وفي بعض المرات أحرم من القدس، وتوجّه الى مكة مُحرماً من هناك، وبنى مساجد كثيرة بالديار المصرية وعمّر أحواضاً كثيرة في الطرق، وبنى بنابلس مدرسة، وبنى بالرملة بيمارستاناً، وأكثر من أفعال البر. وقال لي القاضي شهاب الدين: إنه كان حنفي المذهب. وكان إذا خدَمه الإنسان في العُمر مرة واحدة كفاه مؤونة أمره، وصحبه الى آخر الدهر، وقضى أشغاله، ونقله الى وظائف أكبر مما في يده، فكانت فيه عصبية شديدة لأصحابه. وقيل: إنه كان يتصدق في كل شهر بثلاثة ألف درهم. وكان في أول أمره كاتب المماليك الى أن توفي القاضي بهاء الدين بن الحلي، فولاه السلطان مكانه في نظر الجيوش، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب يكرهه كثيراً، وإذا قعد للحكم أعرض عنه، وأدار كتفه إليه، ولم يزل فخر الدين يعمل عليه الى أن توجّه الى الحجاز، فقيل: إنه أتى يوماً بذكره، وقال له: يا خُوند، ما يقتل الملوكَ إلا نوابهم، هذا بيْدَرا قتل أخاك الأشرف، ولاجين قُتل بسبب نائبه منكوتمر، فتخيّل السلطان من أرغون، ولما جاء من الحجاز جهزه الى حلب نائباً. وهو الذي حسّن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 للسلطان أن لا يكون له وزير بعد الجمالي، ولذلك بقيت أمور المملكة ترجع إليه، وهي متعلقة به من الجيش والأموال والعزل والولاية. وسمعت أنا من قرمان شخص كان كاتباً بصفد، أنه جاء مرة الى القدس وكتب هناك وتوجه الى قمامة، وكنتُ خلفه، وهو لا يراني، وهو يمش وينظر الى تلك الآثار والمعابد، ويقول: " ربَّنا لا اُزِغ قلوبَنا بعد إذْ هدَيْتَنا ". وعلى الجملة فكان للزمان جمال ورونق، ولما قيل للسلطان إنه مات لعنه وسبّه، وقال: له خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد. ومن بعده تسلّط السلطان على الناس، وصادر وعاقب وتجرأ على كل شيء. وأوصى عند موته للسلطان بأربع مئة ألف درهم، فأخذ منه ما يزيد على الألف ألف درهم. وكتب إليه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود ما أنشدنيه إجازة: في دعاء الإله في كل عام ... لك فخر تسمو به في الأنامِ وحجيج البيت المُحرَّم أنّى ... شئته من أسنى المزايا الجسام كل حول تعود عن كعبة الل ... هـ نقياً من سائر الآثامِ عارياً من ملابس الذنب قدما ... رافلاً في حُلى القبول الوشام مع ما تبتنيه ثم من الطا ... عات ما بين زمزم والمقام قد ألفْت السرى فلو رمت في اليق ... ظة مثوىً لسرت في الأحلام هويتك المشاعر الزهر تختا ... ل بها في ملابس الإحرام فهي تشتاقك اشتياقك إيّا ... ها فسيّان أنتما في الغَرامِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 لك وجدٌ بالبيت والعروة الوث ... قى ولا وجَد عُروة بن حزام فجزاك الإله عن سعيك المب ... رور خيراً جمّاً عن الإسلام فلكم قد سهرت في حرَم الها ... دي عليه السلام ليل التّمام في حمى لو يُسعى إليه على الرا ... س لقدّمته على الأقدام حيث تُغني عبارةُ العبرات الب ... كم في الشوق عن فصيح الكلام وتُراح الشكوى ويستمطر البرْ ... ر ويعنى العانية ويُروى الظامي وتجازى عن بذلك الرِّفدَ للوف ... د وإكرامهم جزاء الكرام وإذا عدت عنه عدت خفيف ال ... حاد إلا من الأجور العظام فلك الله حافظٌ ومثيب ... ومعين في رحلة ومقام ومجازٍ بالعز في دار دنيا ... ك وعز الأخرى بدار السلام محمد بن فضل الله بن أبي الخير ابن غالي، الوزير الكبير غياث الدين خواجا ابن الوزير رشيد الدولة الهمذاني. كان من أجمل الناس صورة، وصفاتُ الخير فيه محصورة، والمحاسن على ذاته مقصورة، لم ينَلْ أحد رتبته في الممالك القانية، ولا وصل الى محلّه من قلب مخدومه في تدبير الأمور السلطانية، وكان له عقلٌ وافر، وذهنٌ في تدبير الأمور متضافر، وفكرُ صُبح عقباه الى النجاة والنجاح سافر، داهية ذا غَور، يتطور في بلوغ مقاصده طوراً بعد طور، مع حسن إسلام وكرم يخجل منه الغمام، ويسجع بوصفه الحمام، أثّر الآثار الجميلة، وخرّب كنائس بغداد، وجعلها دِمنة، والعيون من أهلها كليلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وهو كان السبب في صلح الإسلام مع التتار، وبه صارت سُنة باقية إن شاء الله الى يوم تُكشف فيه الأستار: هو العارض الثجّاجُ أخضل جَودُه ... وطارت حواشي برقه فتلهّبا إذا ما تلقّى في الوغى أصعق العدى ... وإن فاض في أكرومة غمر الرُبا ولم يزل على حاله الى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى، فأخذ سعده، وما طال بعده أمره الى أن سكن لحدَه. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة. وكان هذا الوزير غياث الدين قد ولد في الإسلام، ولما نُكب والده وقتل سلِم هو، وقد تقدم ذكر والده في حرف الفاء مكانه، واشتغل مدّة، وصحب أهل الخير. ولما توفي الوزير علي شاه طلبه السلطان بوسعيد، وفوّض إليه الوزارة، ومكّنه وردّ الأمور إليه، وألقى إليه مقاليد الممالك، وحصل له من الارتقاء والملك ما لم يبلغه وزير غيره في هذه الأزمان، وكانت رتبته من رتبة نظام الملك. وكان جميل الصورة، وأمه تركية، وله عقل ودهاء وغَور، وكان خيراً من والده، خرّب كنائس بغداد، ورّد أمر المواريث الى مذهب أبي حنيفة، فورّث ذوي الأرحام، وكان إليه تولية نيابة الممالك وعزلهم لا يخالفه القان في ذلك. وخدم السلطان الملك الناصر محمداً صاحب مصر كثيراً، وراعى مصالحه وحقن دماء الإسلام، وقرر الصلح، ومشّى الأمور على أجمل ما يكون. ولما توفي القان بوسعيد رحمه الله تعالى نهض الوزير غياث الدين الى شابّ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 بقايا النسل يقال له: أربكوون وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة، فسلطنه، وأخذ له البيعة على الأمراء واستوسق له الأمر، فخرج عليهما علي باشا خال بوسعيد وابن بَيدو فانْفلّ الجمع، وقُتل أرباكوون والوزير في التاريخ المذكور. محمد بن فضل الله بن أبي نصر ابن أبي الرضا السديد المعروف بابن كاتب المرج. قرأ النحو والأدب والأصول على نجم الدين بن الطوفي البغدادي الحنبلي بقوص، ثم قرأ التقريب على مؤلفه الشيخ العلامة أثير الدين، وتأدّب على تاج الدين أبي الفتح محمد بن الدّشناوي، والأمير مجير الدين عمر بن اللّمطي، وشرف الدين محمد النصيبي بقوص، وغيرهم. أديب كامل، ولبيبٌ لأنواع اللطف شامل، كأنما خلق من نسمات السحر، أو تكوّن من شمائل أغيد إن نطق سلب، وإن رنا سحر. حسن الصورة، عليه ملامح الجمال مقصورة، مع فصاحة لسان وسماحة بنان، وحسن كتابة، وكثرة وقوع على الإصابة، وصدق لهجة، وسير سيرة سلك فيها أوضح محجة، ونظم ما للسراج معه إضاءة، ولا للجزار به لحاق، ولو قطع أعضاءه، ولا للبوصيري ولو صار في سكّر دانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 صيرا، ولا للنصير الحمّامي ولو كان ابن النقيب له نصيراً، وهيهات، هذا في علوّ ورفعة، يضيء وأين النجم ممن يحاوله. ولم يزل في بلاد الصعيد يتنقل، ويقرع هضبات الولايات ويتوقّل، الى أن فُتح سدّ المنايا على ابن السّديد، وأصبح في الصعيد من تحت الصعيد. وتوفي رحمه الله تعالى في ... وتقلب في الولايات السلطانية، وهو في كلها محمود السيرة. وتولى وكالة بيت المال بقوص، وجلس بالورّاقين بقوص. وقال الفاضل كمال الدين الأفودي: كان والده قد أعطى في سعة العطاء ما يعزّ الآن وجوده، فجازاه الله بما أسلف من خير، إسلام أبنائه أجمعين، وهداهم الى اتّباع سيد المرسلين، وانتقلوا من شريعة عيسى الى شريعة محمد المختار " وربُّك يخلقُ ما يشاءُ ويختار ". وله مشاركة في النحو والأصول والحكمة والطب وغير ذلك، وجرى على مذهب أهل الآداب في أنهم يستجلون محاسن الشباب، ويستحلّون التشبب في الشراب ووصف الحباب. انتهى. أنشدني من لفظه القاضي صدر الدين سليمان بن داود بن عبد الحق قال: أنشدني من لفظه القاضي سديد الدين ابن كاتب المسرج: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 تحاول عيني جهدَها أن تراكمُ ... وكيف وفيها للدموع تراكم؟ أيا جيرة الوادي ولم أدر طيبه ... أمِن شجرات فيه أم شذاكم فبالمسك مالي حاجة إن أتيتكم ... ولا لكم إن طيبُ ذكري أتاكم وما بي فقرٌ إن وقفت بأرضكم ... لأن ثرائي وقفة في ثراكم أسير إليكم والسقام مسايري ... فإما حمامي دونكم أو حماكم وإن فات تفديكم من السوء مهجتي ... وما مهجتي حتى تكون فداكم؟ هويتكم والناس طرّا فما الذي ... خُصصت به حتى ولاء هواكم وفيم يعاديني الأنام عليكمُ ... وكلهم أحبابكم لا عداكم كفاني إليكم أن مالي وسيلة ... ولو شئتم أن تحسنوا لكفاكم وكان شبابي إن غضبتم تجنّباً ... شفيعاً الى ما أرتضي من رضاكم وكنت أظن الشيب ينهى عن الهوى ... فلم ينهني عنكم، ولكن نهاكم قلت: البيت الأول مأخوذ من قول شمس الدين محمد بن العفيف: في دمع عيني تراكم ... لعلها أن تراكم وبه قال: أنشدني لنفسه: وقالوا: لم صحبت شرار قوم ... ولاموني ولومهم حماقهْ وكيف أميّز الشرير منهم ... ولم أعرفه إلا بالصداقه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 قلت: أبو الطيب كان أحكم بقوله: أخالط نفسَ المرء من قبل جسمه ... وأعوفها من فعله والتكلم وبه قال: أنشدني لنفسه: ولي في الهوى العذريّ عذرٌ وإنما ... عذار الذي أهواه لي فيه أعذارُ أيحسن أن أسلو وخدّاه جنة ... وقد كنت لا أسلوهما وهما نارُ قلت: وقد لهج الناس بهذا المعنى كثيراً، ومن أحسن قوله وبه قال: أنشدني لنفسه: أوصيكَ يا مُرتَحلاً ... بقَلب مَن قَد ودّعَك إن عاش أو ماتَ فلا ... تُفِض عليه أدمُعَك وارْدُدْه ليَ مُصَبّراً ... فالقلبُ والصّبرُ معَك ومن شعر ابن كاتب المَرج: إذا حملتْ طيبَ الشّذا نسمةُ الصَّبا ... فذاكَ سلامي والنّسيمُ فمِنْ رُسْلي وإن طلعت شمسُ النهار ذكرتُكم ... بصالحةٍ والشيُ يُذكرُ بالمثلِ قلت يريد: طيب الشذا: سلامَه، والنسيم نفسه رسول، فلا يُتوهّم أن الاثنين واحد، والثاني والأول مأخوذ من قول: إذا طلعت شمسُ النهار فسلّمي ... فآيةُ تَسليمي عليكِ طلوعُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وقوله: والشيء يذكر بالمثل أصلُ المَثَل: والشيخ بالشيء يُذكرُ. ولو قال: والمثلُ يُذكر بالمثل لكان أحسن. ومنه: أقولُ لجُنح الليل لا تَحكِ شعر مَن ... هويت وهذا القولُ من جهتي نُصحُ فقد رامَ ضوءُ الصّبحِ يَحكي جبينَه ... مِراراً فما حاكاهُ وافتضحَ الصّبحُ ومنه: برقٌ بَدا من دار عَلوهْ ... أو قلبُ صَبٍّ صار جذوه فيها قلوبُ العاشقي ... نَ تضرّمتْ صدّاً وجَفوه إني اجتهدتُ فصرتُ في العُش ... اقِ قُدوة كل قُدوه لو أنّ قَيساً مُدركي ... لمشى على نهجي وعُروه لا عيشَ من بعدِ الصّبا ... يَحلو سوى بجنون صَبوه بمُهَفْهَف يسبي العقو ... لَ كأنّ في جَفْنَيه قهوه أبداً قضيبُ القدّ من ... هـ يميلُ من لينٍ ونَشوه قد أسْكَرَتْ رشَفاتُه ... لكنها كالشّهدِ حُلوه ومنه: ورد الكاسَ فهي نارٌ إذا كا ... نَ ولابدّ من دخول النارِ وتحدّ الذين لم يردوها ... بضُروبٍ من معجزاتِ الكبار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 فاجْلُ في الليلِ من سَناها شموساً ... وأدِرْ في النّهارِ منها الدَّراري وأرِ الدّرّ مَن يغوصُ عليه ... عائماً من حبابها في النّضارِ إنما لذّةُ المُدامةِ مِلكٌ ... لكَ فاشْرَبْ وما سواها عَواري قلت: قوله: وأدِرْ في النهار منها الدّراري استعمل هذا المعنى مجير الدين بن تميم أحسن من هذا، ومن خطه نقلت: أمولاي أشكو إليكَ الخُمّار ... وما فعَلته كؤوسُ العُقار وجَور السُّقاة التي لم تزل ... تريني الكواكبَ وسطَ النهار ومن شعر ابن كاتب المَرج: لمَن أشتكي البرغوثَ يا قومِ إنه ... أراق دمي ظُلماً وأرّق أجفاني ومازال بي كالليث في وَثباته ... الى أن رَماني كالقتيل وعرّاني إذا هو آذاني صبرتُ تجلّداً ... ويخرُج عقلي حين يدخلُ آذاني قلت: ذكر أصحاب الخواص أن البرغوث إذا دخل في أذن أحد ووضع الإنسان يده على سرّته أو أصبعه في سرته وقال: سبقْتك فإن البرغوث يخرج منها. وقال علاء الدين الوداعي في البَراغيث، ومن خطّه نقلتُ: براغيثُنا فيهم جَراءَة ... فبالأسرِ والقتل لا يَرجِعونا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 كَثيرو الأساةِ مع أنهم ... قليلاً من الليلِ ما يَهجَعونا ونقلت من خطّه له مضمّناً: براغيث تَسري في الظّلام كأنّها ... حراميّة من بيضها يُسفكُ الدّمُ قوارضُ تأتيني فيحتقرونها ... وقد يملأ القَطرُ الإناءَ فيُفعَمُ ونقلتُ منه أيضاً له: براغيث فيها كثرة فكأنها ... علينا من الآكامِ يحتفرونها تقولون لي صِفْها فقلتُ أُعينكم ... قوارض تأتيني فيحتقرونها وما أحسن قول الصّاحب جمال الدين بن مطروح: رُبّ برغوث ليلة بتُّ منه ... وفؤادي في قبضة التسعين أمكنتْ قبضة الثّلاثين منه ... فسقتُه الحِمامَ في سبعين وقال آخر: للبراغيث صارَ جسمي مَقيلاً ... ففؤادي من شرّهم في عَذاب طفَح السُّكر والشّراب عليهم ... فتقايَوا دَمي على أثوابي ومن شعر ابن كاتب المرج: أما وطيب عشيّات وأسحارِ ... من بعدِها أفَلَتْ شمسي وأقماري بها أذكّرُ دهري كي يَجودَ بها ... فلا يَجودُ ولا يأتي بأعذار لو أن تلك من الأيّام عُدْتُ بها ... أو الليالي ولم تَحْتجْ لتِذْكارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 لله ليلاتها البيض القِصار فكم ... سطَوتُ منها على دهري ببتّار أنكرتُ إفْشاءَ سرٍّ كنتُ أكتُمُه ... فيها ولكنني أنكرتُ إنكاري يا للعجائب ليل ما هجَعْتُ به ... لنوره كيفَ تُخفى فيه أسراري إن الضنى عن جميعِ الناس ميّزني ... فكان علّة إخفائي وإظهاري فلا تقولوا إذا اسْتبطأتُم خَبَري ... أما النّسيمُ عليه سائر ساري فلو يمرُّ نسيمٌ بي لَسارَ الى ... مغناكُم بي كما يَسْري بإخباري ومن نظم ابن كاتب المَرج موشح كتب به الى كما الدين الأدفوي: لي مَربعٌ قد خلامن أهله في السَّبْسَبعمران فإنْ يكُن أمَحَلافمَدْمَعي كالسّحبهتّانُ سَرَوا فَطابَ النّسيمْ ... وكل وادٍ عاطرُ ولي فؤادٌ يَهيمْ ... بالعِشْقِ وهو شاعِرُ حكَوْ ظِباءَ الصّريمْ ... لو صِيد منهم نافرُ حذِرتُ أن لا يريمْ ... فَرامَ ما أُحاذرُ فإن سرى في بَهيمْ ... ليل فبدرٌ سافرُ وإن يَسْرِ عَجِلافالظّبي عند الهربعجلان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 أو حلّ وسط الفلافقومه من عَربٍغزلان يقول خلِّ انطِلاقْ ... الدّمع قَصد السُمعةِ فما لأهلِ النِّفاقْ ... ووجنةٍ كالجنّةِ فقلتُ دمعٌ يُراقْ ... هل ردُّهُ في الحيلةِ كُلِّفْتُ ما لا يُطاقْ ... في شرعةِ المحبّةِ ولا وعدتُ العناق ... وقهوة الرّيق التي من حاسديها الطّلاوحسن نظم الحَبَبِخَجْلان لا لَغوَ فيها ولايحرسُها من شَنبرضوان ليست كراحٍ يُطافْ ... بها حَراماً لا حلال تدقّ عند اختِطافْ ... عُقولَ قومٍ كالجبالِ كم أمّنتْ من يخاف ... إما بحقٍ أو مُحال وهوّنتْ من تَلافِ ... عرضٍ ودينٍ بعدَ مالِ فدَعْ كؤوسَ السُلاف ... واستَجْلِ أوصافَ الكمال فإنما يُجتلىعلى الكِرام النُجُبِإحسان مَن عنده بالغَلايُستعبَد الحرّ الأبيإيمان أثنَت عليه العِدا ... وعدّدت مآثرَه مَركز بذلِ الجدى ... ومَن سِواهُ الدائره بلا حُروف النّدا ... لبّت لَهاهُ الغامره أسلفَ كلاً يَدا ... حتى السّحابَ الهامرَه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وقد مَلا بالنّدا ... كلَّ بقاع القاهره حتى رأينا المَلالفَضله والأدبقد دانوا إذ هم رعايا العُلاوجعفَر بنُ تَغلبسلطان منه يُفادُ الكلامْ ... فما يقولُ الناظمْ في العلم حَبْر إمام ... وفي السّخاءِ حاتِمْ فيا أبا الفضلِ دامْ ... لي ببقاكَ العالمْ فأنت عينُ الأنامْ ... يَقْظى وكلٌ نائم بك الجدودُ الكِرامْ ... تسرُّ حتى آدم أنت لمن قَد تَلاعلى صميم النسبعنوان يا آخِراً وأولاًكأنه في الكتبِقُرآن وغادةٌ تنجلي ... فينجلي القلب الحزينْ بها تُحلّى الحُلي ... ويُسحَر السحر المبينْ قلت لها والخلي ... لم يَدرِ ما الدّاءُ الدّفينْ بالله مَنْ ينطلي ... عليك أو تألَفينْ ابنَ علي بَعلي ... قالت نعم يا مُسلمين لولا عليَّ انطَلاتركتُ أمي وأبيمن شانو كفاية الله البلايَبيت سوى ذا الصبيفي أحضانو ومن موشحاته أيضاً: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 أفتِكْ بنا في السّقم ... والهمّ كل فَتكِ بخمرة كالعنْدَمِ ... أو مَرشَف بن تُركي فلونُها لونُ الدّمِ ... والريح ريحُ المِسْكِ كم صيّرت ذا ألم ... من كَدَرٍ وضَنكِ والعيش منه يَصفووالطّيش يُستخفُّوللسرور زَحْف منه الهموم تهربُولو أتَتْفي ألْفِ ومنه في الخرجة: يا مَرحباً بالغائِبِ ... إذ جاء في العِذارِ يَزري بكلِّ كاعِبِ ... تزورُ في الإزارِ فلم أكُن بخائِبِ ... عليه في انتظارِ ولم أقلْ كالعاتِبِ ... أبطأتَ في مَزاري إلا التفتْ لَخَلْفووقال يُشير بكفّووحاجبُو لردفو هذا الثقيل حقاً اعتبواعلى انقطاعوخلفي محمد بن أبي القاسم بن جميل الشيخ الإمام العالم الفاضل المفتي شمس الدين أبو عبد الله الربعي المالكي التونسي. سمع بدمشق سنة ثلاث وسبعين وست مئة وبعدها من ابن جعوان، والحارثي، وغيرهما، وحدّث، وكان من الفضلاء المشهورين. وولي القَضاء بالإسكندرية مدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بالقاهرة. ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة. وكان فاضلاً في فنون النحو والأصول، واللغة، ودرّس وأفتى وصنّف واختصر تفسير ابن الخطيب، ودرّس بالمنكوتمرية، وناب في الحكم بالحُسينية، ولم تحمَد سيرته في الإسكندرية. قال كمال الدين الأدفوي: ذكروا عنه أنه كان يأخذ الدراهم في قضاء الحاجات ويقول: أنا أعرف كيف آخذ. وتُكلِّم فيه وصُرِف، وكان قبل القضاء يظن به الخير، وكانت دروسه فصيحة في غاية الجودة، وكان إماماً بالمدرسة الصالحية في إيوان المالكية. محمد بن أبي القاسم بن محمد ابن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد، بهاء الدين أبو الفضل ابن شيخنا علم الدين البرزالي. قال شيخنا والده: ختم القرآن العظيم في السنة الثامنة، وصلى به التراويح سنتين، وجوّد قراءته، وقرأ بالسّبع، وحفظ الشاطبية والرائية وكتاب التنبيه في الفقه والجرجانية ومختصر النووي في علوم الحديث. ولازم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 زكيّ الدين زكريا مدة سنتين، وقرأ الفقه عليه، ولازم كمال الدين بن قاضي شهبة مدة وقرأ عليه في النحو، وجوّد الخط مدة على الشهاب غازي، ثم بعده على النجم الكاتب. وجاد خطه ونسخ الشاطبية وقطعة من أول تفسير البغوي الى قوله تعالى: " فتقبّلَها ربُّها بقَبول حسنٍ "، وعلوم الحديث للنووي. وسمع على خلق كثير عدّتهم تسع مئة شيخ وسبع من الرِّجال والنساء. وزار بيت المقدس، وحجّ مع والده سنة عشر وسبع مئة، وسمع بالحرمَيْن، وتزوّج بعد ذلك. وتوفي - رحمه الله تعالى " ليلة السبت ثامن شهر الله المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، ودُفن بتربتهم بمقبرة الباب الشرقي. ومولده العشرون من المحرّم سنة خمس وتسعين وست مئة، عاش ثماني عشرة سنة. محمد بن قايماز بن عبد الله الشيخ الصالح المسند شمسُ الدين ابن الصّارم. شيخ مبارك قرأ القراءات السبعة على السخاوي، وسمع من ابن الزبيدي، وابن اللّتي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وغيرهم. وتفرّد بالسّماع من ابن ماسويه المقرئ ومحمد بن نصر بن ناصر بن قوام الرصافي، وحدّث بصحيح البخاري كاملاً عن ابن الزبيدي بسنده، قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه. توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة في أوائل سنة اثنتين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 ومولده سنة عشرين وست مئة بدمشق. وكان أبوه طحاناً بدمشق. محمد بن قطلوبك بن قراسُنقر الأمير الكبير بدر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين المعروف بابن الجاشنكير. كان شاباً ظريفاً لطيفاً، تأمّر بعد والده وتقرّب بالخدمة الى الأمير سيف الدين تنكز، فولاه ولاية البر في ثامن عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولبس تشريفة، وباشر الوظيفة وكان عنده مكرَّماً معظّماً. ثم إنه في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا حصّل تقدمة، وتوجّه الى باب السلطان وكاتب بجملة، وسعى في الحجوبية، فرسم له بها، وكان في نفسه منها أمر عظيم، وحضر الى دمشق مريضاً. توفي - رحمه الله تعالى - يوم الأضحى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة ولم يُباشر الوظيفة، ولعله كان لم يصل الى الأربعين، وأظنه تولى نيابة جعبر في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى. محمد بن قلاوون السلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين الصالحي. من أعظم ملوك الأتراك، ومَن دانت له الأقدار ودارت بسعوده الأفلاك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 لم يرَ الناس مثل أيامه، ولا أسعد من حركاته، في رحيله ومُقامه، تجرّع في مبادئ أمره كؤوس الصّبر، وتجلّد الى أن وارى أعاديه القبر. ولي الملك ثلاث مرات، وخرج الى الكرك وعاد الى مصر كرّات، وفي الثالثة صفا له الوقت، واختصّ بالمِقة من رعاياه كما اختصّ عِداه بالمقْت، فحصد من كان حسده، وأراح قلبه وجسده، وخلت له الأرض من المُعارض، وأكلتهم القوارع والقوارض، وضمّن بعضهم لُحودَ السجون، ووقعوا في سطواته في الحدّ وكانوا يظنون أنه مجنون، ولما استوسق له الملك وفاز أولياؤه بالنجاة، وحاز أعداؤه الهلك، صفت له الأيام من الكدر وسابق السَّعد مرادَه وبَدرْ، وضاق بعدوه السهل والجبل، وحلّ به من الخذلان ما لم يكن له به قِبَل: وقد سار في مَسراه قبل رسوله ... فما سار إلا فوقَ هامٍ مفلّقِ ولما دنا أخفى عليه مكانهُ ... شُعاعُ الحديدِ البارِقِ المتألّق وأقبل يمشي في البِساط فما دَرى ... الى البحر يمشي أم الى البدر يرتقي واقتصّ بما اغتصّ، وانفرد بالملك فيما اختلّ عليه فما اختص، وقالت السعود المخبوءة: خُذ، وقالت الأقدار: تحصّن بألطاف الله وعُذْ. ودانت له ملوك الأرض، وأصبح كلٌ من مهابته يرمق العيش على برْض. وهادنه الفرنج والتتار، وساطَه حتى زنج الليل وروم النهار، وأصبح سيفه: على عاتق الملك الأغرّ نِجادُهُ ... وفي يد جبّار السمواتِ قائمُهْ تقبّل أفواه الملوكِ بساطَه ... ويكبُرُ عنها كمّه وبراجمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 تحولُ رماح الخطّ دون محلّه ... وتُسبى له من كل حيٍّ كرائمه له عَسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكراً لم يبق إلا جماجمه تحاربه الأعداء وهي عبادهُ ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه ويستكبرون الدّهر والدهرُ دونه ... ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمه وأصبح النيل على إثر النيل، والخصب يسير على إثر الخصبْ ويسيل، ورُخاء الرخاءِ تهبُّ نسيماً، ووجه الأمن قد أسفر وسيماً، ومحيا الدَّعة والسكون عليه من الإقبال طلاوة وسيما، والغنى أصبح للناس غناءً، ولكن زيد ياء وميماً، والإنعامات تُفاض فتخجل البحار الزّخّارة، وبدرها إذا فُضَّت استحيا منها البدر، ولم يخرج عن الدارة، أغرق خواصّه بالجوائز وعمهم بالهبات التي يتحدث بشأنها على المغازل الأبكار والعجائز. لم نسمع لملك بمثل عطاياه، ولا لجواد غيره بما وهب حتى أثقل جياده وكلّت مطاياه: تمشي خزائنهُ من جودِ راحته ... بَيداءَ لا ذهبٌ فيها ولا ورقُ وتحسبُ الوفْزَ غيماً والعُلا أفُقاً ... إذا انجلى الغيمُ أبدى حُليهُ الأفُقُ ولم يزل في سعادة ملكه وريحُ السعود تجري بها مواخر فُلكه، الى أن هلك عنه سلطانه، وما أغنى عنه أنصاره ولا أعوانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده في صفر أو في ربيع الأول سنة أربع وثمانين وست مئة. كان والده المنصور إذ ذاك على المرقب محاصراً، ودفن ليلة الخميس بالمنصورية. تولى دفنه بعد عشاء الآخرة الأمير علم الدين الجاولي، وكان لما قتل أخوه الأشرف خليل في عاشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وست مئة وقُتِل من قُتل من قاتليه وقّع الاتفاق بعد قتلة بَيدرا على أن يكون الملك الناصر محمد أخو الأشرف هو السلطان، وأن يكون زين الدين كتبغا نائباً، وعلم الدين الشجاعي وزيره استادار، واستقر ذلك ووصل الى دمشق الأمير سيف الدين ساطلمش والأمير سيف الدين بهادر التتري على البريد في رابع عشري المحرم ومعهما كتابٌ عن الأشرف أننا قد استنبْنا أخانا الملك الناصر محمداً وجعلناه وليَّ عهدنا، حتى إذا توجّهنا للقاء العدو يكون لنا من يخلفنا، فحلف الناس على ذلك وخطب الخطيب به، ودعا للأشرف ثم لولي عهده الناصر، وكان ذلك تدبير الشجاعي. وفي ثاني يوم ورد مرسوم بالحَوطة على موجود بيدَرا ولاجين وقراسنقر وطُرُنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبه، وظهر الخبر بقتل الأشرف واتفاق الكلمة على أخيه الناصر محمد، واستقلّ كتبغا نائباً والشجاعي مدبّر الدولة، وقبض على جماعة من الذين اتفقوا على قتل الأشرف وهم الأمير سيف الدين نوغاي، وسيف الدين الناق، وألطنبغا الجمدار، وآقسنقر مملوك لاجين، وطرنطاي الساقي، وآروس، وذلك في خامس صفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 فأمر السلطان الناصر بقطع أيديهم وتسميرهم أجمع، وطِيفَ بهم مع رأس بيدَرا ثم ماتوا. ولما كان في عشري صفر بلغ كتبعا أن الشجاعي قد عاملَ جماعة في الباطن على قتله، ولما كان في خامس عشري صفر ركب كتبغا في سوق الخيل وقتل في سوق الخيل أمير يقال له البندقداري لأنه جاء الى كتبغا وقال له: أين حسام الدين لاجين أحضِرْه؟ فقال ما هو عندي، فقال: بل هو عندك، ومدّ يده الى سيفه ليسلّه فضربه الأزرق مملوك كتبغا بالسيف حلّ كتفه، ونزل مماليك كتبغا فأنزلوه وذبحوه، ومال العسكر من الأمراء والمُقدّمين والتتار والأكراد الى كتبغا ومال البرجية وبعض الخاصكية الى الشجاعي، لأنه أنفق فيهم في يوم ثمانين ألف دينار، وقرر أن كلَّ من أحضر رأس أمير فإقطاعه له، وحاصر كتبغا القلعة وقطع عنها الماء، فنزل البرجية ثاني يوم من القلعة الى كتبغا على حميّة وقاتلوه وهزموه الى بئر البيضاء، فركب الأمير بدر الدين بيسَري والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح وبقية العسكر نصرةً لكتبغا وردّوهم وكسروهم الى أن أدخلوهم القلعة، وجدّوا في حِصارها، فطلعت الستّ والدة السلطان الملك الناصر الى أعلى السور وقالت: إيش المراد؟ قالوا: ما لنا غرض غير الشجاعي، فاتّفقت مع الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وأغلقوا باب القلّة، وبقي الشجاعي محصوراً في داره. وتسرّب الأمراء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 الذين معه واحداً بعد واحد ونزلوا الى كتبغا، فطلب الشجاعي الأمان، فطلبوه الى الستّ والى لاجين استادار ليستشيروه فيما يفعلونه، فلما توجّه إليهم ضربه الآقوش المنصوري بالسيف قطع يده، ثم ضربه أخرى بَرى رأسه، ونزلوا برأسه الى كتبغا، وجرتْ أمور، وغلِّقت أبواب القاهرة خمسة أيام. ثم طلع كتبغا الى القلعة سابع عشري صفر ودُقَّت البشائر وفُتحت الأبواب وجُدِّدت الأيمان والعهود للسلطان الملك الناصر، وأُمسك جماعة من البرجية كانوا مع الشجاعي، وجاءت الحَوطة الى دمشق على ما يتعلّق به، وخطب الخطيب في يوم الجمعة حادي عشري شهر ربيع الأول للسلطان الملك الناصر استقلالاً، وترحّم على والده المنصور وأخيه الأشرف. وفي عشري شهر رجب ورد البريد بالحَلْفِ للناصر وولي عهد كتبغا. وفي سلخ رجب ورد البريد أن السلطان ركب في شعار الملك وأبّهة السلطنة وشقّ القاهرة، دخل من باب النصر وخرج من باب زويلة عائداً الى القلعة، والأمراء وكتبغا يمشون في ركابه، وفرح الناس بذلك ودُقّت البشائر. ولم يزل مستمراً في الملك الى حادي عشر المُحرّم سنة أربع وتسعين وست مئة، فتسلطن كتبغا وتسمّى بالعادل، وحلف له الأمراء بمصر والشام، ودُقت البشائر وزُينت البلاد، وجعل أتابكه الأمير حسام الدين لاجين، وتولى الوزارة الصاحب فخر الدين ابن الخليلي، وصرف تاج الدين بن حنّا، وحصل الغلاء الزائد المُفرط في أيامه حتى بلغ الإردب بمصر الى مئة وعشرين، ورطل اللحم بالدمشقي الى سبعة دراهم، ورطل اللبن بدرهمين، والبيض ستاً بدرهم، ورطل الزيت بثمانية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 ولم يكن الشام مرخصاً، وتوقفت الأمطار، وفزع الناس، وذلك في سنة خمس وتسعين وست مئة. وتبع ذلك وباء عظيم، وفناء كثير، ثم إن الغلاء وقع بالشام وبلغت الغَرارة مئة وثمانين. وقد كتبغا بالعساكر الى الشام في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، ولما عاد الى مصر من نوبة حمص في سلخ المحرّم سنة ست وتسعين وست مئة ووصل الى اللّجون جرى له ما جرى مما تقدّم ذكره في ترجمة كتبغا، وهرب كتبغا الى دمشق، ودخل لاجين بالخزائن وتسلطن بالقاهرة وتسمّى بالمنصور، ولم يختلف عليه اثنان، كما تقدم في ترجمة لاجين. واستناب قراسنقر بمصر مدة، ثم إنه قبض عليه واستناب منكوتمر مملوكه، على ما تقدم، وجعل قبجق نائب دمشق، وجهز الملك الناصر الى الكرك، وقال: لو علمت أنهم يخلون الملك لك والله تركته، ولكنهم ما يخلونه، وأنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لك الملك، فأنت تروح الى الكرك الى أن تترعرع وترتجل وتتخرّج وتدرب الأمور وتعود الى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة، فقال له السلطان: فاحلف لي إنك تبقي عليّ نفسي وأنا أروح، فحلف كلٌ منهما على ذلك، وتوجه السلطان وأقام بالكرك الى أن قُتل لاجين، على ما تقدم في ترجمته، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة، فحلف للسلطان الملك الناصر جميع الأمراء وأحضروه من الكرك وملّكوه. وهذه سلطنته الثانية. وجعل سلاّر نائباً بمصر، وحسام الدين أستادار أتابكاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة ركب السلطان بأبّهة الملك وشعار السلطنة والتقليد الحاكمي أمامه، وعمره يومئذ خمس عشرة، ورُتِّب الأفرم نائباً بدمشق. وفي عَود السلطنة الى الملك الناصر قال علاء الدين الوداعي، ومن خطّه نقلت: الملكُ الناصرُ قد أقبلتْ ... دولته مشرقةَ الشمسِ عاد الى كرسيّه مثلما ... عاد سليمانُ الى الكرسي ولم يزل بمصر الى أن حضر غازان الى الشام، فخرج بالعساكر في أوائل سنة تسع وتسعين وست مئة، ودخل دمشق في ثامن شهر ربيع الأول بعدما طوّل الإقامة على غزة، وأقام في قلعة دمشق تسعة أيام، وعدّى التتار الفرات، فخرج السلطان وساق الى حمص، وركب بكرة الأربعاء سابع عشري الشهر المذكور، وساق الى وادي الخزندار، وكانت الوقعة، والتحم الحرب، واستحرّ القتل، ولاحت أمارات النصر للمسلمين، وثبتوا الى العصر، وثبت السلطان والخاصكية ثباتاً كلياً، فانكسرت ميمنة المسلمين، وجاءهم ما لا قبل لهم به، لأن الجيش لم يكن بكامل يومئذ، وكان جيش الإسلام بضعة وعشرين ألفاً، وكان جيشُ التتار يقارب المئة ألف، فيما قيل، وشرع المسلمون في الهزيمة، وأخذ الأمراء السلطان وتحيّزوا به، وحموا ظهورهم وساروا على درب بعلبك والبقاع، وبعض العسكر المكسور دخل الى دمشق، واستشهد جماعة من الأمراء، وخُطبَ بدمشق للملك المظفر غازان محمود، ورفع في ألقابه، وتولى قبجق النيابة عن التتار، وملك غازان دمشق خلا القلعة فإن قبجق في الباطن لاحظ أميرَها مع أرجواش وأبان أرجواش عن همة عظيمة في حفظها، على ما تقدّم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 ترجمته، وجبى التتار الأموال من الدماشقة، وقيل: إن الذي حُمل الى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف ألف وست مئة ألف درهم، والذي أطلقه لمقدّمي المغل نحو آلات على الناس بوصولات وأخذوا أكثر مما كُتب لهم فهو أكثر من ذلك. وأخذ شيخ الشيوخ لنفسه مبلغ ست مئة ألف درهم. وأخذ قبجق أكثر م نذلك، وأخذ يحيى وإسماعيل أكثر من ذلك، وعزم الناس أكثر من ذلك، وجبوا على الرؤوس أكثر من ذلك، وجبوا على البيوت أكثر من ذلك، وجبوا على الأوقاف أكثر من ذلك، وأخذوا جميع ما وجدوه من الخيل والبغال والجمال والدواب. وأحرقوا جامع التوبة بالعقيبة، وجميع ما حول البلد وخيار منتزهاتها، وأجود عماراتها مثل الدهشة، وصُفّة أبقراط، العافية، وناصرية الجبل، وبيمارستان الصالحية، وترب كثيرة، وغالب الجواسق التي بالبساتين، وغالب ما حول القلعة. وأما شبابيك الصالحية وما قدروا عليه من الرخام فإنهم أخذوه وأفسدوه. وقتلوا من أهل الصالحية أربعة آلاف نفس، وأسروا ما شاء الله. وأما الذي قتلوه من الضياع البرّانية وأسروه فشيء لا يعلمه إلا الله تعالى. وكانوا إذا قرروا على الإنسان عشرة آلاف درهم ينوبه ترسيم للمُغل ألفان. ولم يزل وجيه الدين ابن المنجّا يجبي من الناس الى أن كمّل المبلغ وحمله الى غازان، وجُملته ما تقدّم ذكره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وأقام غازان بالغوطة نازلاً الى ثاني عشر جمادى الأولى، ورحل طالباً بلادَه وخلّف نائبه خطلو شاه بالقصير في فرقة من المُغل. وفي شهر رجب جمع قبجق الأعيان والقضاة الى داره وحلّفهم للدولة الغازانية بالنُّصح وعدم المداجاة، ثم إن قبجق توجه هو والصاحب عز الدين ابن القلانسي الى مصر في نصف رجب، وقام بحفظ المدينة وأمر الناس أرجواش. وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة للسلطان الملك الناصر، وكان مدة إبطال ذلك مئة يوم. وأما السلطان الملك الناصر فإنه دخل الى مصر بعد الكسرة وتلاحق به الجيش، وأنفق في العساكر، واشتُريت الخيلُ وآلات السلاح بالأثمان الغالية. وفي يوم عاشر شعبان قدِم الأفرم نائب دمشق بعسكر دمشق، وقدم أمير سلاح بالميسرة المصرية، ثم دخلت الميمنة، ثم دخل القلب وفيه سلاّر بالجيوش الى القاهرة، وكثرت الأراجيف بمجيء التتار، وانجفل الناس الى مصر والى الحصون، وبلغ أجرة المحارة الى مصر خمس مئة درهم، ثم فترت أخبار التتار في شهر ربيع الأول سنة سبع مئة. ثم دخل التتار الى حلب وشرع الناس في قراءة البخاري، وقال الوداعي في ذلك، ومن خطّة نقلت: بعثنا على جيش العدو كتائباً ... بُخاريةً فيها النبيّ مُقدّمُ فرُدوا الى الأُردو وبغيظٍ وخيبةٍ ... وأُردُوا وجيشُ المسلمين مسلّمُ فقولوا لهم: عودوا نَعُدْ، ووراءكم ... إذا ما أتيتُم أو أبيتُم جهنّمُ ووصل السلطان الى العريش ووصل التتار الى حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 ودخل شهر جمادى الأولى والناس في أمر مريج، ووصل بكتمر السلاح دار بألف فارس، وعاد السلطان الى مصر، فانجفل الناس غنيُّهم وفقيرهم، ونودي في الأسواق بالرحيل، وضجّ النساء والأطفال، وغُلّقت أبواب دمشق، واقتسم الناس قلعة دمشق بالشبر، ووقع على غيّارة التتار عسكرُ حمص فكسروهم وقتلوا منهم نحو مئة، وصحّت الأخبار برجوع غازان نحو حلب، فبلغ الناس ريقهم، وأطفأ السكون حريقهم، وهلك كثير من التتار تحت الثلج بحلب، وعمّ الغلاء، وعزّ اللحم بدمشق وبيع الرطل بتسعة دراهم، ثم دخل الأفرم والأمراء من المرج بعدما أقاموا به أربعة أشهر، واستقرّ حال الناس بعد ذلك. وفي شهر شعبان أُلبس النّصارى الأزرق واليهود الأصفر والسامرة الأحمر، وسبب ذلك أن مغربياً كان جالساً بباب القلعة عند سُلاّر والجاشنكير، فحضر بعض الكتّاب النصارى بعمامة بيضاء، فقام له المغربي يتوهّم أنه مسلم، ثم ظهر له أنه نصراني، فدخل الى السلطان وفاوضه في تغيير زي أهل الذمّة ليمتاز المُسلمون عنهم. وفي ذلك يقول علاء الدين الوَداعي، ومن خطه نقلت: لقد أُلزم الكُفّار شاشاتِ ذلّةٍ ... تَزيدُهم من لعنةِ الله تَشويشا فقلت لهم: ما ألبَسوكُم عَمائماً ... ولكنهم قد ألبَسوكم بَراطيشا ونقلت منه له: غيَّروا زيّهُم بما غيّروه ... منْ صفاتِ النبيّ ربِّ المكارِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 فعليهم كما ترون براطي ... شُ ولكنها تُسمى عمائمْ ونقلت منه له: لقد ألبسوا أهل الكِتابين ذلّةً ... ليظهر منهم كلُّ من كان كامنا فقلت لهم ما ألبسوكم عمائماً ... ولكنهم قد ألبسوكم لَعائنا وفي ذلك يقول شمس الدين الطيبي: تعجّبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريّين لما عُمّموا الخرَقا كأنما باتَ بالأصباغِ مُنْسَهِلاً ... نسرُ السماء فأضحى فوقهم ذَرقا وفي جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة توفي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد ودُفن عند السيدة نفيسة، كما تقدّم في ذكره، وتولى الخلافة ولده أمير المؤمنين المستكفي بالله أو بالربيع سليمان، وقرئ تقليده بولاية العهد بعد العزاء. وفي سنة اثنتين وسبع مئة فتحت جزيرة أرواد وهي بقرب انطرسوس وقُتل بها عدة من الفرنج، ودخل الأسرى الى دمشق وهم قريبٌ من المئة وخمسين. وفي شعبان من السنة عدّى التتار الفرات وانجفل الناس، وخرج السلطان بجيوشه من مصر. وفي عاشر شعبان كان المصاف بين المسلمين والتتار بعُرض، كان المسلمون ألفاً وخمس مئة، وعليهم أسندمر وأغرلو العادلي وبهادر آص، وكان التتار نحواً من أربعة آلاف، فانكسر التتار، وأسر مقدّمُهُم وقُتل منهم خلق كثير. ثم دخل دمشق من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 جيش مصر خمس تقدام وعليهم الجانكشير، والحسام أستاذ الدار، ثم دخل بعدهم ثلاثة آلاف مقدمهم أمير سلاح وبعقوبا وأيبك الخزاندار، ثم أتى عسكر حلب وحماة متقهقراً من التتار، وتجمّعت العساكر الى الجُسورة بدمشق، واختبط الناس، واختنق في أبواب دمشق من الزحام غيرُ واحد، وهرب الناس " وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ "، ووصل السلطان الى الغَور، وغُلّقت أبواب دمشق، وضجّ الخلق الى الله تعالى، ويئس الناس من الحياة. ودخل شهر رمضان، وتعلّقت آمال الناس ببركاته، ووصل التتار الى المرج، وساروا الى جهة الكسوة، وبعَدوا عن دمشق بكرة السبت ثاني شهر رمضان المعظّم، وصعد النساء والأطفال الى الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضجّوا وجأروا الى الله تعالى، ووقع مطر عظيم، ووقّعت الظهر بطاقة بوصول الدعاء وحفظ أسوار البلد، وبعد الظهر وقع المصاف والتحم الحرب، فحمل التتار على الميمنة من المسلمين فكسروها، وقُتل مقدّمُها الحُسام أستادار ومعه جماعة من الأمراء المقدمين، وثبت السلطان ذلك اليوم ثباتاً زائداً عن الحد، واستمر القتال من العصر الى الليل، ورُدّ التتار من حملتهم على الميمنة بغلَس وقد كَلَّ حدّهم فتعلّقوا بالجبل المانع. وطلع الضوء بكرة يوم الأحد والمسلمون مُحدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة من النهار إلا وقد ركن التتار الى الفرار وولّوا الأدبار، ونزل النصر، ودُقّت البشائر، وزُيّن البلد، وكان التتار نحواً من خمسين ألفاً وعليهم خطلوا شاه نائب غازان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 ورجع غازان من حلب ضيّقَ الصدر من كسر أصحابه يوم عُرْض، وبهذه الكسرة سقطت قواه، لأنه لم يعد إليه من أصحابه غير الثلث، وتخطّفهم أهل الحصون، وساق سلار وقبجق وراء المنهزمين الى القريتين، ولم ينكسر التتار هذه المرة. حكى لي جماعة من دير بشير أنهم كانوا يأتون إلينا عشرين عشرين وأكثر وأقل، ويطلبون أن نعدّي بهم الفرات في الزواريق الى ذلك البر، فما نعدّي بمركب إلا ونقتل كلَّ من كان فيه، حتى إن النساء كنّ يضربن بالفؤوس ونحن نذبحهم في إثر ذلك، فما تركنا أحداً منهم يعيش. وهذه الواقعة الى الآن في قلوبهم، وكان قد جاء كتاب غازان يقول فيه: ما جئنا هذه المرة إلا للفُرجة في الشام، فقال علاء الدين الوداعي في ذلك، ومن خطه نقلت: قولوا لغازان بأن جيوشَهُ ... جاؤوا ففرّجناهم بالشام في سرحةِ المرجِ التي هاماتُهم ... منشورها وشقائق الأجسام ما كان أشأمَها عليهم فُرجةً ... غمّت وأبركها على الإسلام وقال لما انهزم: أتى غازان عدواً في جُنودٍ ... على أخذ البلاد غَدَوا حِراصا فما كسَبوا سِوى قتلٍ وأسرٍ ... وأعطوهُ بحصّته حُصاصا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وقد نظم الناس في هذه الواقعة كثيراً، ومن أحسن ما وقفتُ عليه قول شمس الدين الطيبي - رحمه الله تعالى - وهو يقارب المئة بيت، وهذا الذي وقع لي منها وهو: برقُ الصوارم للأبصار يختطِفُ ... والنّقعُ يحكي سَحاباً بالدِّما يكفُ أحلى وأعلى وأغلى قيمةً وسنا ... من ريقِ ثغر الغَواني حينَ يُرتَشَفُ وفي قدود القنا معنىً شُغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيَفُ ومن غدا بالخُدود الحُمر ذا كلف ... فإنني بخدود البيض لي كلَفُ ولامةُ الحرب في عينيّ أحسن من ... لامِ العذارِ التي في الخد تنعطف كلاهما زردٌ هذا يُفيد وذا ... يُردي فشأنهما في الفعل يختلف والخيل في طلب الأوتار صاهلةً ... ألذُّ لحناً من الأوتار تأتلف ما مجلس الشّرب والأرطال دائرةٌ ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف والرّزقُ من تحت ظل الرمحِ مقترنٌ ... بالعزّ، والذلّ يأباهُ الفتى الصَّلف لا عيشَ إلا لفتيانٍ إذا انتُدبوا ... ثاروا وإن نهضوا في غمةٍ كشفوا يَقي بهم ملةَ الإسلام ناصرُها ... كما يقي الدرّة المكنونة الصّدف قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعُفوا وجاهدوا في سبيل الله فانتصروا ... من بعد ظُلمٍ ومما ساءَهم أنِفوا لما أتَتْهُم جيوشُ الكُفر يَقدُمهم ... رأسُ الضّلال الذي في عقله جنَفُ جاؤوا وكل مقامٍ ظلّ مُضطَرباً ... منهم وكل مَقامٍ بات يرتجفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فشاهدوا علمَ الإسلام مرتفعاً ... بالعدلِ فاسْتَيقنوا أن ليسَ ينصرف لاقاهُمُ الفيلقُ الجرّارُ فانكسروا ... خوفَ العوامل بالتأنيث فانصرفوا يا مرجَ صُفّر بيّضْت الوجوه كما ... فعلت من قبلُ بالإسلام يُؤتنف أزَهْرُ روضِكَ أزهى عند نفحته ... أم يانعاتُ رؤوس فيكَ تُقتطَف غدرانُ أرضك قد أضحَتْ لوارِدِها ... ممزوجةً بدماءِ المغلِ تُرتشف زلّت على كتف المصري أرجلُهم ... فليس يدرون أنّى تؤكل الكتف أوَوْا الى جبلٍ لو كان يعصمُهم ... من موج فوج المَنايا حين يختطف دارت عليهم من الشُجعان دائرة ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهُم على الأعقاب فانقصَفوا ففي جماجمهم بيضُ الظّبي زُبَر ... وفي كلاكلهم سُمر القنا قِصَف فرّوا من السيف ملعونينَ حيث سَرَوا ... وقُتّلوا في البَراري حيثما ثُقِفوا فما استقامَ لهم في أعوجٍ نهَجٌ ... ولا أجار لهم من مانع كتف وملّت الأرض قتلاهم بما قذَفَتْ ... منهم وقد ضاقَ منها المهمهْ القذف والطير والوحش قد عافت لحومَهُم ... ففي مزاج الضواري منهم قرف رُدّوا فكل طريق نحو أرضهِمُ ... تدلّ جاهلَها الأشلاءُ والجيف وأدبَروا فتولّى قطعَ دابرهُم ... والحمد لله قومٌ للوغى ألِفوا ساقوهم فسقَوا شطّ الفراتِ دماً ... وطمّهم بعُباب السّيل فانحرفوا وأصبحوا بعدُ لا عينٌ ولا أثر ... غير القلاع عليها منهم شعف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 يا برقُ بلّغ الى غازان قصّتهم ... وصِفْ فقصّتهم من فوق ما تصف بشّر بهلكهم ملكَ العِراقِ لكي ... تُعطيكَ حلوانها حُلوانُ والنّجف وإن تُسَل عنهم قُل قد تركتهم ... كالنّخل صرعى فلا تمرٌ ولا سعفُ ما أنت كفؤ عروس الشام تخطبُها ... جهلاً وأنت إليها الهائمُ الدّنف قد مات قبلك آباءٌ بحسرتها ... وكلهم مغرمٌ مُغزىً بها كلِفُ إن الذي في جحيم النار مسكنهُ ... لا تُستباح له الجنات والغُرف وإن تعودوا تُعد أسيافُنا لكم ... ضَرباً إذا قابلتَها رُضّت الحجَفُ ذوقوا وبال تعدّيكُم وبغيكم ... في أمركم ولكأس الخُزي فارتشفوا فالحمد لله مُعطي النّصر ناصره ... وكاشفُ الضُرّ حيث الحال ينكشفُ وفي ذي الحجة من السنة المذكورة كانت الزلزلة العظمى، بمصر والشام، وكان تأثيرها بالإسكندرية أعظم، ذهب تحت الرّدم عدد كثير، وطلع البحر الى نصف البلد وأخذ الجمال والرجال وغرقت المراكب وسقطت بمصر دورٌ لا تحصى، وهُدمت جوامع ومآذن وانتدب سلار والجاسنكير وغيرهما من الأمراء، وأخذ كل واحد منهما جامعاً وعمّره وجدّد له وقوفاً. وفي سنة ثلاث وسبع مئة توجّه أمير سلاح وعسكر من دمشق وقبجق في عسكر من حماة وأسندمُر في عسكر الساحل وقراسنقر في عسكر حلب، ونازلوا تل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 حدون وأخذوه، ودخل بعض العسكر الدربند وأغاروا ونهبوا وأسروا خلقاً، ودقت البشائر. وفي هذه السنة توفي غازان ملك التتار، وملك بعده أخوه الملقب خربندا. وفي سنة خمس وسبع مئة نازل الأفرم بعساكر دمشق جبل الجُرد، وكسر الكسروانيين لأنهم كانوا روافض، وكانوا قد آذوا المسلمين وقتلوا المنهزمين من العساكر المصرية في نوبة غازان الأولى الكائنة في سنة تسع وتسعين وست مئة. وفي سة ثمان وسبع مئة في سادس عشري شهر رمضان توجّه السلطان الملك الناصر الى الحجاز وأقام بالكرك متبرّما من سلار والجاشنكير وحجرهما عليه ومنعهما له من التصرف، قيل: إنه طلب يوماً خروفاً رميساً فمنع منه، أو قيل: يجيء كريم الدين، لأنه كاتب الجاشنكير، وأمر نائب الكرك بالتحوّل الى مصر، وعند دخوله القلعة انكسر به الجسر فوقع نحو خمسين مملوكاً، ومات منهم أربعة وتهشّم منهم جماعة وأعرض السلطان عن أمر مصر، فوثب للسلطنة بعد أيام الجاشنكير وتسلطن، وخُطب له، وركب بخلعة الخلافة، وذلك عندما جاءتهم كتبُ السلطان من الكرك باجتماع الكلمة فإنه ترك لهم الملك. وفي سنة تسع وسبع مئة في شهر رجب خرج السلطان من الكرك قاصداً دمشق، وكان قد ساق إليه من مصر مئة وسبعون فارساً فيهم أمراء وأبطال، وجاء مملوك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 السلطان الى الأفرم يخبره بأن السلطان وصل الى الخان، فتوجه الى السلطان بيبرس المجنون وبيبرس العلائي، ثم ذهب بهادر آص لكشف القضية، فوجد السلطان قد رُدّ الى الكرك، ثم بعد أيام ركب السلطان وقصد دمشق بعدما ذهب إليه قطلوبك الكبير والحاج بهادر، وقفز سائر الأمراء إليه، فقلق الأفرم لذلك ونزح من دمشق بمماليكه مع الأمير علاء الدين بن صُبح الى الشقيف، فبادر بيبرس العلائي وآقجبا المُشد وأمير علم في إصلاح الجتر والعصائب وأبهة الملك، ودخل السلطان قبل الظهر الى دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة تسع وسبع مئة، وفتح له باب القلعة باب السرّ، ونزل نائبها قبّل الأرض، فلوى هناك فرسه الى القصر ونزل به. ثم إن الأفرم حضر إليه بعد أربعة أيام واستمر به في نيابه الشام، وبعد يومين وصل قبجق نائب حماة وأستدمر نائب طرابلس وتلقاهما السلطان. وفي ثامن عشري الشهر وصل قراسُنقر نائب حلب. ثم إن السلطان خرج لمصر في تاسع شهر رمضان ومعه العساكر والنواب والقضاة، ووصل غزة، وجاءه الخبر بنزول الجاشنكير عن الملك وأنه طلب مكاناً يأوي إليه وهرب من مصر مغرّباً وهرب معه سلار مشرّقاً، فلما كان بالرّيدانية ليلة العيد اتفق الأمراء عليه وهمّوا بقتله، فجاء إليه بهاء الدين أرسَلان دوادار سلار وقال: قُم الآن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 واخرج من جانب الدهليز واطلع الى القلعة، فرعاها له، ولم يشعر الناس بالسلطان إلا وقد خرج راكباً فتلاحقوا به وركبوا في خدمته وصعد القلعة، وكان الاتفاق قد حصل أن قراسنقر يكون نائباً بمصر وقطلوبك الكبير نائب دمشق، فلما استقر جلوس السلطان بقلعة الجبل، وهذه المرة الثالثة من عوده الى الملك قبض في يوم واحد على اثنين وثلاثين أميراً من السِّماط، ولم ينتطح فيها عنزان، ورسّم للأفرم بصرخد ولقراسنقر بالشام، وجعل قبجق نائب حلب والحاج بهادر نائب طرابلس وقطلوبك الكبير نائب صفد، وجعل بكتمر الجوكَندار نائب مصر. وفي سنة عشر وسبع مئة وصل أسندمر الى دمشق متوجهاً الى حماة نائباً، ومنها عزل القاضي بدر الدين ابن جماعة، وولي القضاء جمال الدين الزرعي عوضه، وصرف السروجي عن قضاء الحنفية، وطلب شمس الدين بن الحريري وولاه مكانه. وبعد أيام قلائل توفي الحاج بهادر نائب طرابلس، ومات بحلب نائبها قبجق، فرسم للأفرم بنيابة طرابلس، وأمره أن لا يدخل بدمشق، على ما تقدم في ترجمته، ورسّم لأسندمر بنيابة حلب. وفي هذه السنة أمر لعماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بحماة. وفي سنة إحدى عشرة وسبع مئة نقل قراسُنقر من نيابة دمشق الى نيابة حلب بعدما أمسك أسندمر وتولّى كراي نيابة دمشق. وفي شهر ربيع الآخر أعاد ابن جماعة الى مكانه، وتقرر القاضي جمال الدين الزرعي في قضاء العسكر مع مدارس أُخَر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 وفي جمادى الأولى أُمسك كراي نائب دمشق وقيّد وجُهّز الى الباب بعدما أُمسك الجوكندار نائب مصر، وأُمسك قطلوبك الكبير بصفد وحُبس هو وكراي بالكرك وجاء الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى دمشق نائباً. وفي سنة اثنتي عشرة وسبع مئة تسحّب الأمير عز الدين الزردكاش والأفرم وتوجّها الى قراسُنقر، وساق الجميع الى عند مهنا فأجارهم، وعدّوا الفرات وطلبوا خربندا، على ما تقدّم في تراجمهم. وفي شهر ربيع الأول طُلب نائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى مصر، وفيها أمسك العلائي بيبرس نائب حمص، وبيبرس المجنون، وبيبرس التاجي، وكجلي، والبرواني، وحُبسوا في الكرك، وأمسك بمصر جماعة أيضاً. وفي ربيع الأول قدم الأمير سيف الدين تنكز الى دمشق نائباً، على ما تقدم في ترجمته، وسودي الى حلب نائباً على ما تقدم. وفي أوائل شهر رمضان قويت الأراجيف بمجيء خربندا ومنازلته الرحبة، على ما تقدم، ثم إنه رحل عنها، على ما تقدم في ترجمته. وعيّد السلطان بمصر وخرج الى الشام، ووصل في ثالث عشري شوال وصلى بالجامع الأموي، وعمل دار عدل، وتوجه من دمشق الى الحجاز، وعاد الى دمشق، ثم توجه الى مصر. وفي صفر سنة أربع عشرة توفي سودي نائب حلب وجاء عوضه نائباً الأمير علاء الدين ألطنبغا. وفي سنة خمس عشرة وسبع مئة توجه الأمير سيف الدين تنكز بعساكر الشام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وستة آلاف من الجيش المصري الى ملطية ففتحها وسبى ونهب وألقى النار في جوانبها، وقتل جماعة من النصارى. وفي سنة ست عشرة توفي خربندا ملك التتار، وتولى بعده ولده بوسعيد على ما تقدم. وفي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة وقع الحريق بمصر واحترق دور كثيرة للأمراء وغيرهم، ثم ظهر أن ذلك من كيد النصارى، لأنه وجد مع بعض آلات الإحراق من النفط وغيره، وقتل منهم جماعة وأسلم عدة، ورجم العامة والحرافيش كريم الدين الكبير، فأنكر السلطان ذلك وقطع أيدي أربعة وقيّد جماعة. وفيها جرى الصلح بين السلطان وبين بوسعيد، سعى في ذلك مجد الدين السلامي مع النوين جوبان ومع الوزير غياث الدين محمد بن الشيد. وفي جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة أمر السلطان بحفر الخليج من رأس الخور الى أن ينتهي الى سرياقوس، تولى ذلك الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وفرغ في أقرب مدة، ودام العمل الى آخر شعبان من السنة المذكورة، وما يعلم ما أنفق فيه من الأموال إلا الله تعالى. وفي سنة خمس وعشرين وسبع مئة جهز السلطان من عسكر مصر ألفي فارس نجدةً لصاحب اليمن، وقدّم عليهم الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب والأمير سيف الدين طينال، فدخلوا زبيد، وألبسوا الملك المجاهد خلع السّلطنة وعادوا. وبلغ السلطان أمور نقمها، فاعتقل بيبرس الحاجب. وفي هذه السنة فتحت الخانقاه التي أنشأها بسرياقوش، وكان يوماً عظيماً، وحضر القضاة والعلماء ووجوه الدولة، وخلع على القضاة وعلى المشايخ، وفرّق قريباً من ثلاثين ألف درهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وفي سنة ست وعشرين حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، ولما حضر أمسكه وجهّزه الى حلب نائباً، على ما تقدّم. وفي سنة سبع وعشرين وسبع مئة طُلب أمير حسين بن جندر من دمشق الى مصر ليقيم بها أميراً، وطلب قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وجعله قاضي القضاة بمصر، على ما تقدّم، وفيها كان عرس ابنة السلطان على الأمير سيف الدين قوصون، وكان عرساً عظيماً على ما تقدم، وفيها كانت الكائنة بإسكندرية، وتوجه الجمالي الوزير إليها وصادر الكارم والحاكم، وضرب القاضي، ووضع الزنجير في رقبته، وجعل قاضيها شافعياً، وكانت واقعة فظيعة. وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة دخل ابن السلطان آنوك على بنت بكتمر الساقي وكان عرْساً عظيماً حضره تنكز وطينال، على ما تقدّم في ترجمته. وفيها حجّ السلطان واحتفل بأمر الحجاز، وفي العَود مات سيف الدين بكتمر الساقي وولده أحمد قبله، على ما تقدّم. وفيها أمسك الصاحب شمس الدين غبريال وأخذ خطه بألفي ألف درهم، على ما تقدّم. وفي سنة ثلاث وثلاثين عمّر الأمير سيف الدين تنكز ثغر جعبر وصارت من ثغور المسلمين. وفي سنة خمس وثلاثين وسبع مئة جُهّز مهنا وداس بساط السلطان بعد عناء عظيم وتسويف كثير فأقبل عليه وأعطاه شيئاً كثيراً، على ما سيأتي في ترجمته. وفيها أخرج من السّجن ثلاثة عشر أميراً منهم تمر السّاقي وبيبرس الحاجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وفي سنة ست وثلاثين وسبع مئة توفي القان بوسعيد، على ما تقدم. وفي سنة أربعين أمسك السلطان الأمير سيف الدين تنكز في ثالث عشري ذي الحجة، على ما تقدّم. وفي سنة إحدى وأربعين وسبع مئة توفي ابن السلطان آنوك. وفيها توفي الملك الناصر رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وقام في الملك بعده ولده المنصور أبو بكر على ما تقدّم في ترجمته. وكان الملك الناصر رحمه الله تعالى ملكاً عظيماً مُطاعاً محظوظاً مهيباً ذا بطش ودهاء، وأيْد وكيْد، وحزم وحلم، قلما حاول أمراً، فانجذم عليه فيه شيء يحاوله، لأنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط، أمسك الى أن مات مئة وخمسين أميراً، وكان يلبس الناس على علاتهم، ويصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه. تحدّث مع أرغون النائب في إمساك كريم الدين الكبير قبل إمساكه بأربع سنين، وهمّ بإمساك تنكز في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بعد بكتمر الساقي ثم أمهله ثماني سنين. وكان الملوك الكبار يهادونه ويراسلونه، وكانت ترد إليه رسل ملك الهند، ورسل القان أزبك، وتزوّج ابنته، وملوك الحبشة، وملوك الفرنج، وملوك الغَرْب، وبلاد الأشكري، وصاحب اليمن، وأما بوسعيد ملك التتار فكانت الرسل لا تنقطع بينهما، وكل منهما يسمي الآخر أخاً، وصارت الكلمتان واحدة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 والمملكتان واحدة، ومراسيم السلطان تنفّذ في بلاد بوسعيد، ورسله تدخل البلاد بالأطلاب والطبلخانات والأعلام المنشورة، وكلما بعد الإنسان عن مملكته وجد ذكره وعظمته ومهابته أعظم، ومكانته في القلوب أوقع. وكان سمحاً جواداً على مَن يقرّبه ويؤثره، لا يبخل عليه بشيء كائناً ما كان. سألت أنا القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قلت: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم. كثير. وفي يوم واحد، أنعم على الأمير سيف الدين بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية يُبنى التي بها قبر أبي هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين، وأراني القاضي شرف الدين أوراقاً فيها ما ابتاعه فيها من الرقيق، وكان ذلك لمدة أولها شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة الى سنة سبع وثلاثين، وكان جملته أربع مئة ألف وسبعين ألف دينار. كذا قال. وكان ينعم على الأمير سيف الدين تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على الألف ألف درهم، وأنعم يوماً على الأمير سيف الدين قوصون بزردخاه بكتمر الساقي، قال المهذب كاتب بكتمر: فيها شيء بمبلغ ست مئة ألف دينار، وأخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً، ولما تزوج قوصون بابنته حمل الأمراء إليه شيئاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 كثيراً، ثم بعد ذلك زوّج ابنته الأخرى الأمير سيف الدين طغاي تمر، وقال السلطان ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون: هذه مصادرة بحسن عبارة، ونظر الى طغاي تمر فرآه قد تغيّر، فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجُملة؟ فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعطِ نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا خارجاً عمّا دخل مع الزوجة من الجهاز. وحكي لي الحاج حسين أستادار الأمير سيف الدين يلبُغا اليحيوي قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال الأمير: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النّشو وقال: احمل الساعة الى يلبغا خمسة وعشرين ألف دينار، وجهّزها مع الخزندارية، وجهّز خمسة تشاريف أطلس أحمر بكلوتات زركش، وطرز زركش، وحوائص ذهب، ليخلع ذلك عليهم. وأما عطاؤه العُربان فأمر مشهور زائد عن الحد، وكان راتب مطبخه ورواتب الأمراء الكبار والكتاب الذين هم على مطبخه في كل يوم بالمصري ستة وثلاثين ألف رطل لحماً، وأما النفقات في العمائر فكان الرواتب لها في كل يوم شيئاً كثيراً، أظنه في كل يوم ألفي درهم، غير ما يطرأ مما يستدعي به. وبالغ في مشترى الخيول بالأثمان العظيمة، فاشترى بنت الكردا بمئتي ألف درهم، وبالغ أخيراً في مشترى الماليك فاشترى الأمير سيف الدين صرغتمش بخمسة وثمانين ألف درهم غير تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة. وأما العشرة والعشرون والثلاثون ألفاً فكثير، وغلا الجوهر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 أيامه واللؤلؤ وما رأى الناس مثل سعادة ملكه ومسالمة الأيام له وسكون الأعادي من بعد شقحب والى أن مات لم يتحرك عليه عدو في البر ولا في البحر. وخلّف من الأولاد جماعة، منهم البنون والبنات، فأما البنون: فمات له ولده علاء الدين علي بعد حضوره من الكرك في المرة الأخيرة، ومنهم الناصر أحمد وقتل بالكرك، وابراهيم وتوفي أميراً في حياة أبيه، والمنصور أبو بكر وقُتل في قوص بعدما خلع، والأشرف كجك وقتله أخوه الكامل شعبان والله أعلم. وآنوك وهو ابن الخوندة طغاي، مات في حياة أبيه، ولم يكن في الأتراك أحسن شكلاً منه، والصالح إسماعيل وتوفي بعد ملكه مصر والشام ثلاثة أعوام، والكامل شعبان وخلع وقُتل، والمظفر حاجي وخلع وقتل، ويوسف ورمضان، وتوفيا في حياة أخيهما الصالح إسماعيل، والناصر حسن وخُلع أولاً ثم أعيد ثانياً ثم خُلع وقُتل في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، والصالح صالح وخُلع، وحسين. نوابه بمصر جماعة، وهم: زين الدين كتبغا العادل، والأمير سيف الدين سلار، الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، الأمير سيف الدين أرغون الدوادار مملوكه، ولم يكن له بعده نائب. نوابه بدمشق: الأمير عز الدين أيبك الحموي، الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، الأمير شمس الدين قراسنقر، الأمير سيف الدين كراي، الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الأشرفي، الأمير سيف الدين تنكز، الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب. وزراؤه من أرباب السيوف والأقلام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، الصاحب تاج الدين بن حنا، الصاحب فخر الدين بن الخليلي مرتين، الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، الأمير سيف الدين البغدادي، الأمير ناصر الدين الشيخي، أيبك الأشقر وسمي المدبر، ابن عطايا، القاضي ضياء الدين بن النشّائي ابن التركماني وسمي مدبراً، الصاحب أمين الدين، أمين الملك ثلاث مرات، الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، ولم يكن له بعده وزير. قضاة الشافعية بمصر: الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، القاضي بدر الدين بن جماعة ثلاث مرات، القاضي جلال الدين القزويني، القاضي عز الدين بن جماعة. قضاة الشافعية بدمشق: القاضي إمام الدين القزويني، القاضي بدر الدين بن جماعة مرتين، القاضي ابن صصرى، القاضي جمال الدين الزرعي، القاضي جلال الدين القزويني مرتين، الشيخ علاء الدين القونوي، القاضي علم الدين الأخنائي، القاضي جمال الدين بن جملة، القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله، القاضي تقي الدين السّبكي. كُتّاب سرّه بمصر: القاضي شرف الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن الأثير، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن فضل الله. كتّاب سره بدمشق: القاضي محيي الدين بن فضل الله، أخوه القاضي شرف الدين بن فضل الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 القاضي شهاب الدين محمود، ولده القاضي شمس الدين محمد، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي جمال الدين بن الأثير، القاضي علم الدين بن القطب، القاضي شهاب الدّين يحيى بن القيسراني، القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله. دواداريّته: الأمير عز الدين أيدمر مملوكه، الأمير بهاء الدين أرسلان، الأمير سيف الدين ألجاي مملوكه، الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد، الأمير سيف الدين بغا، ولم يؤمَّر طبلخاناه، الأمير سيف الدين طاجار الدوادار المارداني. نُظّار جيشه بمصر: القاضي بهاء الدين بن الحلّي، القاضي فخر الدين، مرتين، القاضي قطب الدين بن شيخ السلاميّة، القاضي شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، القاضي مَكين الدين بن قروينة، القاضي جمال الدين جمال الكفاة. نظار خاصّه، هذه وظيفة أحدثها القاضي كريم الدين الكبير: القاضي تاج الدين إسحاق، القاضي شمس الدين ولده، القاضي شرف الدين النشو، القاضي جمال الدين جمال الكُفاة. الذين درَجوا بالوفاة في أيامه من الخلفاء: الحاكم بالله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد، ولده المستكفي بالله أبو الربيع سليمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 ومن الملوك: كيختو بن هولاكو، المستنصر بالله محيي الدين بن عبد الواحد صاحب إفريقية، المظفّر يوسف صاحب اليمن، السعيد إيلغازي صاحب ماردين، المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، المنصور حسام الدين لاجين، أبو عبد الله بن الأحمر محمد بن محمد بن يوسف صاحب الأندلس، أبو نميّ صاحب مكة، العادل زين الدين كتبغا المنصوري، غازان محمود بن أرغون ملك التتار، أبو يعقوب المريني صاحب الغرب، المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، أبو عصيدة صاحب تونس، المنصور غازي صاحب ماردين، طقطاي صاحب القبجاق، دوباج صاحب جيلان، علاء الدين محمود صاحب الهند، خربندا بن أرغون ملك التتار، دون بطرو الفرنجي، حميضة صاحب مكة، المؤيّد داود صاحب اليمن، ابن الأحمر أبو الجيوش نصر بن محمد اللحياني صاحب تونس، منصور بن جمّاز صاحب المدينة، الغالب بالله إسماعيل صاحب الأندلس، أبو سعيد عثمان صاحب فاس وغيرها، المؤيَّد صاحب حماة، ابن الأحمر محمّد بن أبي الوليد صاحب الأندلس، ترْمشين صاحب بلخ وسمرقند وبخارى ومرو، بوسعيد ملك التتار، أربكوون ملك التتار، صاحب تلمسان عبد الرحمن أبو تاشفين، موسى ملك التتار، مهنا بن عيسى. ولما كنتُ بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة قال لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك رحمه الله تعالى: لو نظمت أبياتاً مديحاً في السلطان لقدمتُها أنا من يدي، وكان يحصل لك ما تريده، فنظمت أبياتاً، وكتبتها بالذهب وزمّكتها، وتوفي الأمير شرف الدين رحمه الله تعالى وما اتفق وصولها، وهي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 بعزّ نصرك أضحى الدهرُ يبتسمُ ... وعن رعاياكَ ولّى الظلم والظُلَمُ يا ناصر الدين والدنيا ويا ملكاً ... ذلّت لعزته في أرضها الأمم أصبحت سلطان أهل الأرض قاطبة ... سارت بأنبائك الوخّاذة الرُسُم تخاف بأسَك أملاك الأنام فما ... تسعى لهم في سوى طاعاتك القدم يبادرون الى ما كُنت تأمرهم ... كأنهم عندما تختاره خدم متى يخف ملك منهم فليس له ... إلا ظلالك في هذا الورى حرم فالأُسدُ تخشاكَ في سرٍ وفي علن ... فليس يعصمها غابٌ ولا أجم تغزو سراياك أملاك البلاد فما ... يحمي العِدا منهم قاعٌ ولا أكم ويبلغون الأماني من عدوّهم ... لأنهم باسمك المنصور قد قدموا فإن تصُل في جيوش الكُفر وغًى ... وأبحُر الحرب بالأبطال تزدحم تفرّج الضيقَ في يوم الكريهة إذ ... أضحت سيوفكَ من أغمادها القمم وما هباتك في يوم النّوال ندًى ... لكنها سحبٌ تهمي وتنسجم تجود بالصدقات الوافرات فكمْ ... أحيت عطاياك من أودى به العدم وفضل حلمك مشهورٌ لطالبه ... ونفحةُ المِسك فينا كيف تنكتم مناقبُ شرفتْ قدراً فقد رجعت ... درّاً على جهة الأيام تنتظم فالله يجعل هذا الملك متّصلاً ... بالسّعد ما ابتسمت عن صُبحها الظلَمُ ولا برحْتَ على الأعداء منتصراً ... مؤيّداً ما جرى في مهرَق قلمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 محمد بن كجكن الأمير شمس الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، تقدم ذكر والده في مكانه. كان الأمير ناصر الدين أمير شكار السّلطنة بدمشق يربّي الغزلان وغيرها، وله حوش في بلاد حوران، وفي كل سنة يجهز من ذلك تقدمة الى باب السّلطان، ويُحضَر له من مصر تشريف يجهزه الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام الى ولاية الولاة بعد الأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي، وذلك في أواخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أو أوائلها، فأقام بها مدة الى أن طلب الإقالة من الأمير علاء الدين أمير علي المارديني نائب الشام، فأعفاه منها في أوائل قدومه سة أربع وخمسين وسبع مئة، ثم إنه ولاّه نيابة حمص فتوجّه إليها بعد وفاة الأمير سيف الدين تلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة. ولم يزل بها مُقيماً الى أن توفي رحمه الله تعالى في العشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وسبع مئة وهو من أبناء الستين، ونقل تابوته من حمص الى دمشق ودُفن بتربة والده بالصالحية. وكان وقوراً محتشماً يخدم الناس ويرعاهم ويعرف حقوقهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 محمد بن كشتغدي الأمير ناصر الدين العزّي المصري الصّيرفي. سمع من النجيب والمُعين الدمشقي. أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وستين وست مئة. محمد بن كوندك ناصر الدين دوادار الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى. ما رأى الناس مثله دواداراً، ولا بلغ عظمته في أيامه كسرى ولا داراً. بلغ الغاية القصوى من الوجاهة، وتفرّد مع ذلك بالعفّة عن أموال الرّعايا والنزاهة، يتطفل نواب الشام على مكاتباته، ويفرحون إذا ظفروا بما يرد عليهم من جواباته، لأنه كان قد تمكن من أستاذه، وملك أمره باشتماله عليه واستحواذه، لا يقدر أحد من القضاة ولا الحاجب ولا أرباب المباشرات من المتولي والصاحب، ولا ناظر الجيوش ولا كاتب الأسرار، ولا مَن له حديث في هذه الدولة من الأخيار والأشرار أن ينفرد بأمر في عزل ولا ولاية ولا حكم ولا عناية دون أن يكون ذلك بأمره، أو موافقاً لما في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 باطنه وسرّه. فمشت الأمور وأصلح الجمهور، وساس فأحسن السياسة. وبالغ في العظمة والرياسة، وكأن الأمر مردود الى أمره، وأمره ليس له ردٌ. وكان في وقت يوقّع على القصص ويتجرّع الموقعون وغيرهم من ذلك الغُصَص، ودام على ذلك مدة مديدة. ثم بطل ذلك ولا فُلَّ حدّه ولا نقص عديده، الى أن أولع به حمزة التركماني فخرّب دياره، ونقّص عياره، ونفض غباره، وكسف بدره التّمام، ونكّس قامة غصنه حتى ناح عليه الحمام، فتغيّر عليه أستاذه تغيّراً شديداً، وحوّل عنه رأياً كان فيه رشيداً، فضربه بين يديه بالسّياط، ولم يعمل فيه بالاحتياط، وأخذ منه جُملة من الدّنانير، ورُدّ بعد تلك المنعة والقوة يتجشّأ بين التنانير. فأصبح تحت الثّرى بعد أن كان على الثّريا، وولاه الزمان قفاه بعدما كان قابله بالمحيّا. فذلّ من بعد تلك العزة، وسلبه الدهر ما قلّده وبزّه، وراح بعد علو المرتبة، وهو من ذوي المرتبة: وكم حالم سرّه حِلمُهُ ... وأدركه الروع لمّا انتبه ولم يزل على الحال المذكور الى أن استجنّ ضريحه، وأسمعه الفناء صريخه، وعلّم منه ضريحه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة. وكان قد ورد مع أستاذه من مصر هو وناصر الدين الخزندار، وضبطا بابه على أحسن ما يكون. أما هذا ناصر الدين فكان أمره خارجاً عن الحدّ، وكان عنده خبرة ومعرفة وتنفيذ للمهمات وما يتعلّق بالدولة والمباشرات والوظائف وغيرها. عرف خُلُق أستاذه ومشى عليه، فلم يكن يجتمع على أحد في بيته إلا بأناس قلائل من الصوفية وغيرهم، ولا يعرف أحد بابه ولا يقربُه، فإن كان له شغل اجتمع به في دار السعادة، ولم يُشبع أحداً منه كلاماً، وأنشأ جماعة من الأمراء والقضاة والكتّاب والدواوين والأجناد وغيرهم من سائر الطوائف، ولم يأخذ على أحد من ذلك شيئاً. ولما غضب عليه أستاذه ضربه قدّامه بالمقارع، وأخذ منه للسلطان ثمانية عشر ألف دينار، وأخذ منه لنفسه مثلها وأكثر منها، وباع موجوده وغالب أملاكه، ومع ذلك لم يشكُ أحد عليه، ولا قال أحد إنه أخذ منه درهماً فما زاد عليه. ولما أُُفرج عنه كان يُلزمه بالركوب والنزول في أيام المواكب، وكان يقول: قصدي بذلك حتى يرى مكانه وما كان فيه من العظمة أولاً وكيف أصبح الآن، ثم إنه جهّزه الى القدس فأقام هناك مدّة، ثم إنه أحضره الى دمشق. ولم يزل غضباناً عليه من سنة أربع وثلاثين الى أواخر سنة أربعين وسبع مئة، فأحضره ورضي عليه وخلع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 عليه، وكان يركب معه في غير المواكب ويُسايره ويحادثه. ولم نرَ هذا الحال حصل لغيره، لأنه ما غضب على أحد قطّ ورضي عنه، وكان هذا الحال في حق الدّوادار مضرّاً له، لأن السلطان لما أمسك الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى شمل غضبه كلَّ من كان من جهته، واستخدم كل من كان بطالاً، وقد غضب عليه فناله بهذا أذًى، وأراد السلطان أن يعطيه إمرة عشرة فلم يقبل خوفاً من أستاذه. وكان يتوجه في كل سنة مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق له الى باب السلطان في البريد، فيعامله السلطان بالإكرام الزائد والتعظيم. وكان بيده في حلقة الشام إقطاع يعمل أربعين ألف درهم، وأربعة إقطاعات أو خمسة جياد بأيدي أولاده ومماليكه، وكان له على أستاذه مرتب خبز ولحم وعليق، ويعطيه وينعم عليه في كل قليل، فأقام على هذا الحال من سنة اثنتي عشرة وسبع مئة الى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكل ماله في عظمة ووجاهة، وكان إذا توجّه الى مصر وعاد يتعذر على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وأمثاله السّلام عليه في بيته، بل يقفون له في الطريق إذا توجّه الى دار السعادة ويسلّمون عليه. وعلى الجُملة ما رأيت أنا ولا غيري عظمةً نالها هذا ناصر الدين في دواداريته لا من قبله ولا من بعده، وبعد هذا كنت أراه يشتري اللحم ويربطه خلفه على الفرس ويتوجّه به الى بيته، فما كنت أقضّي العجب من أمره، سبحان من بيده تصاريف الأمور لا إله إلا هو، وكنتُ أرى ذلك لأنه غير بارٍ بأبيه، وكان يُؤثر إيحاش الأكابر ويشتهي إذلالَهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 محمد بن ليث العِدى الحاج شمس الدين ابن الحاج زين الدين التاجر بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام. توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون، ووصّى بأن يُصرف من تركته لعمارة مكة وحرم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرم القدس وحرم الخليل عليه السّلام، لكل مكان منها مبلغ ثماني مئة دينار، فقال له شهابُ الدين أبو العباس أحمد خطيب الحرم: إن هذه الوصية إنما تنفذ من الثلث. فقال: أعرف ذلك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لسعد: الثّلث، والثلث كثير، وثلث مالي يزيد على ذلك، وكُتب محضر، وجهز الى دمشق في أيام أرغون شاه. محمد بن مجاهد بن أبي الفوارس القاضي الصدر الكبير بدر الدين النابلسي. لبس خلعة نظر الدواوين شريكاً للشريف أمين الدين بن عدنان في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام على ذلك الى أن تولّى الصاحب شمس الدين غبريال نظر الدواوين عوضاً عن ابن أبي الفوارس وعن الشريف أمين الدين في سادس عشر المحرّم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 ولما عزل من نظر الدواوين بدمشق بقي بطّالاً خاملاً الى أن مات رحمه الله تعالى. محمد بن محمد بن أحمد بن علي ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن الميمون. الشيخ الإمام أمين الدين أبو المعالي ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر بن القسطلاني المكي، شيخ الحديث بالحرم. كان من بيت صلاح وله فضيلة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه أحاديث من الثقفيات عن ابن الجمّيزي وهو مريض بالإسهال، ولم يمكنه حضور الموقف، واستمرّ مرضه بعدما رحلنا أياماً. ومات في مستهل المحرم سنة أربع وسبع مئة. محمد بن محمد بن بهرام العالم العلامة قاضي القضاة بحلب وخطيبها، شمس الدين أبو عبد الله الشافعي الدمشقي. وليها مدة طويلة، وكان قد تفقّه بمصر على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبرع في المذهب وتصدّر، وتخرّج به الأصحاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وكان محمود الأحكام على ضيق خلقه، وكان يخالف قراسنقر نائب حلب كثيراً في أغراضه، وعُزل بالقاضي زين الدين ابن قاضي الخليل، وقد تقدم ذكره. وتوفي القاضي شمس الدين في العشر الأول من جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة ظناً. ولما عُزل عن قضاء حلب ولي الخطابة بها وبقي مدة مفتي البلد وشيخ الجماعة والناس يقرؤون عليه الفقه والأصول. وتولّى خطابة حلب بعده بدر الدين بن الحدّاد. محمد بن محمد بن الحسين ابن أحمد بن علي بن محمد الخطيب جمال الدين بن تقي الدين أبي الطاهر بن مجد الدين أبي علي ابن الشيخ تاج الدين أبي الحسن بن القسطلاني، إمام جامع مصر وخطيب القلعة. سمع من ابن خطيب المزّة، وصحب الشيخ المرجاني وحجّ معه ولازمه وانتفع به، وخطب بجامع مصر مدة. ولما نُقل الى خطابة القلعة خطب مكانه أخوه تاج الدين بجامع مصر. وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة تقريباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 قال شيخنا علم الدين البرزالي: ووالد جمال الدين المذكور سبط الشيخ مجد الدين الإخميمي خطيب مصر. محمد بن محمد بن علي ابن محمد بن سليم، الصاحب تاج الدين أبو عبد الله ابن الصاحب فخر الدين ابن الوزير بهاء الدين ابن حنا. سمع من سبط السّلفي جزء الذهلي، ومن الشرف المُرسي. وبدمشق من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر، وحدّث بدمشق وبمصر. رأى من العز والوجاهة ما لا رآه جدّه، وساعده على الرئاسة حظه وجدّه. كان ذا تصوّن ورياسة وسيادة، وتفنن في المكارم بلغ من العلياء ما أراده، وانتهت إليه رياسة مصره في عصره، وسيادة دهره في سرّه وجهره. وكان شكله حسناً، وبزّته إذا رآها الناظر لم يذق معها وسنا، لأنه تفنن في مطعمه وملبسه، ومركوبه ومجلسه، وراحة قلبه وبدنه، وسكنه ومسكنه، مع كثرة صدقاته على الفقراء. ومبراته للأمراء، وتواضعه الذي ملك به قلوب الأصاغر والعظماء. وزاده زينة والبدر أحسن ما تراه في طرف السّماء، وعزم تلاه الحزم، ولم يدخل عليه من العوامل إذا ذوات الجزم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 مستبدّ بهمةٍ جعلته ... في علوّ المرمي شريك النّجومِ وخلال لو استردّت إليها ... مثلُها ما وجدْتها في الغيوم وكان ممدّحاً معظّماً، يختار الشعراء لأمداحه الدرّ الكبار منظّماً. وولي الوزارة مرتين، وتجمّلت به كرّتين. ثم إن الوزراء بعده كانوا له غلماناً، ولأوامره كفلاء وضمّاناً. ولم يزل على حاله الى أن سكن ابن حنّا زوايا ضريحه، وخرج فقده من معمّاه الى صريحه. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت خامس جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة. ومولده في يوم الخميس سابع شعبان سنة أربعين وستّ مئة. وهو الذي اشترى الآثار النبوية على ما قيل بمبلغ ستين ألف درهم، وجعلها في مكانه بالمعشوق، وهو المكان المنسوب إليه بمصر، وقد زرت هذه الآثار ورأيتها مرتين، وهي قطعة من العنزة ومِرْوَد ومِخْصَف وملقط وقطعة من القصعة، وكحّلت ناظري برؤيتها، وقلت أنا: أكرِم بآثار النبيّ محمدٍ ... من زارها استوفى السعودَ مزارُهُ يا عين دونَكِ فالحظي وتمتّعي ... إن لم تَريه فهذه آثارُه وحكى لي الإمام العلامة شيخنا شهاب الدين أبو الثّناء محمود وغير واحد أن الصاحب فخر الدين بن الخليلي لما لبس تشريف الوزارة وتوجّه الى القلعة بالخلعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 الى عند الصاحب تاج الدين، وجلس بين يدين وقبّل يده، فأراد الصاحب تاج الدين أن يُجبره ويعظّم قدره، فالتفت الى بعض غلمانه الواقفين أو عبيده وطلب منه توقيعاً بمرتب يختص بذلك الشخص، فأخذه وقال: مولانا يعلّم على هذا التوقيع، فأخذه وقبّله وعلّم عليه قدّامه. وكان شيخنا الحافظ فتح الدين إذا حكى ذلك يقول: هذه الحالة من الصاحب تاج الدين بمنزلة الإجازة والإمضاء لوزارة ابن الخليلي. ومن أحسن حركة اعتمدها ما حكاه لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: اجتزت بتربة فرأيت في داخلها مكتباً للأيتام، وهم يكتبون القرآن في ألواحهم، فإذا أرادوا مسحَها غسلوا الألواح وقلبوا الماء على قبره، فسألتُ عن ذلك فقيل لي: هذا شرطٌ في هذا الوقف، وهذا مقصدٌ حسن وعقيدة صحيحة. وكان جدّه الصاحب بهاء الدين يؤثره على أولاده لصُلبه ويعظّمه عليهم. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه الله تعالى، قال: وقفتُ على إقرار الصاحب بهاء الدين بأنه في ذمّته للصاحب تاج الدين ولأخيه مبلغ ستين ألف دينار مصرية. ومن وجاهته وعظمته في النفوس أنه لما نُكب على يد الشجاعي جرّده من قماشه وضربه مقرعةً واحدةً من فوق قميصه، ولم يدعه الناس يصل الى أكثر من ذلك مع جبروت الشجاعي وعتوّه وتمكّنه من السلطان. وكنان قد رُتّب في الوزارة بعد ابن السّلعوس وقتل الأشرف في أول دولة الناصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 محمد بن المنصور وقتل الشجاعي، وذلك في صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة الى أن عُزل بابن الخليلي فخر الدين في جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وست مئة. وكان الصاحب يتعاطى الفروسية ويحضر الغزوات ويتصيّد بالجوارح والجوامي، ولما قدم من غزوة حمص امتدحه الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال وذلك في سنة ثمانين وست مئة، وأول القصيدة: تذكّرت سُعدى أم أتاك خيالُها ... أم الريحُ قد هبّت إليك شمالُها منها: لقد أقبل الصّدر الوزيرُ محمّد ... فأقبلَتِ الدنيا وسُرَّ وصالُها منها: بغى أبغا لما تصرّع أهله ... بدار هَوانٍ قد عراهُم نكالُها وألقوا عن الأفراس حيثُ رؤوسهم ... أكاليلُها فوق التّراب نعالُها وكان لها تلك الذوائبُ في الثّرى ... شكالاً وثيقاً حين حلّ وثالُها فأمْسَوا فراشاً والأسنّة شُرّعٌ ... ذِبالٌ الى أن أحرقتهُم ذبالُها وأنشدني إجازة لنفسه شيخنا العلامة أبو الثناء يمدحه بقصيدة تزيد على الثمانين بيتاً أولها: أعليَّ في ذكر الدّيار مَلامُ ... أم هل تذكُّرُها عليَّ حرامُ أم هل أُذَمّ إذا ذكرتُ منازلاً ... فارَقْتُها ولها عليّ ذِمامُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيرانٌ عليّ كِرام فارقتُهم فأرقْتُ من وجدي بهم ... أفَهَل لهم أو للكرى إلمام كانوا حياتي وابتُليتُ بفقدهم ... فعلى الحياة تحيّةٌ وسلام أشتاقُها شوقَ الغريب مزاره ... سَفهاً وإلا أين مني الشام وتروقني خِدعُ المُنى منها وقد ... بعُدَ المدى وتمادت الأيام وتلذّ لي سُنّة الكرى لا رغبةً ... في النوم بل لتعيدَها الأحلام وتمثّل الأوهام لي أني بها ... ثاوٍ ولذّات الهوى أوهام وكأن دمعَ تشوّفي وخيالَها ... دِمَنٌ ألمّ بها فقال سلام منها: وله بظلِّ محمد بن محمدٍ ... حرمٌ يُطاف بركنه ومقامُ الصاحب المولى الوزيرُ ومن به ... بُعثتْ عِظام المجد وهي رمام متفرّدٌ دون الورى بمناقبٍ ... أمسى لها بين النجوم مقامُ خُلُق كنشر الروض حُلَّ لنوره ... بيد الصَّبا عند الصباح لثام وبديهة أسرى وأسرعُ من سَنا ... برقٍ بَدا فكأنّها إلهامُ من خاطر كالنار يجري ماؤه ... عذباً وهل تُجري المياهُ ضرام من كل مغنى لو تمثّل جوهراً ... فرداً أقرّ له بها النظام وشجاعة ما عامرٌ فيها له ... قدم ولا عمرٌو له إقدام ثبْتَ الجِنان إذا الفوارسُ أحجمتْ ... خوفَ الرّدى لم يُثنه إحجام وبكفّه في جحفلٍ أو محفل ... تُزجى الرِّماح السمرُ والأقلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وهذه قصيدة غرّاء طنانة، وقد أثبتها بكمالها في الجزء التاسع عشر من التذكرة التي لي. وحكى لي عنه سيادةً كثيرة شاهدها منه، من ذلك أنه قال: دخلت يوماً إليه، فلقيني إنسان من الشعراء - نسيت أنا اسمه - ومعه قصيدة قد امتدحه بها، فقال: يا مولانا لي مدّة ولم يتفق لي إلى الصاحب وصول، فأخذتها منه ودخلت بها إليه وقلت: بالباب شاعرٌ وقد مدح مولانا، فقال: يدخل. فأعطاه القصيدة، ولم يمتنع من إسماعها كما يفعله بعض الناس، فلما فرغت أخذها منه، ووضعها الى جانبه، ولم يتكلم ولا أشار. فحضر خادم ومعه مبلغ مئتي درهم وتفصيلة، فدفعها لذلك الشاعر. قلت: وهذه غاية في السيادة والرئاسة من سماعها وعدم قوله: أعطوه كذا، أو إشارة الى من يحضر فيشير إليه. وقيل عنه: إنه كانت أحواله كلُّها كذا لا يشير بشيء ولا يتكلم به في بيته، وكل ما تدعو الحاجة إليه يقع على وفق المراد، وحكى لي أنه أضاف جدّه يوماً ووسّع فيه، فلما عاد الى بيته أخذ الناس يعجبون منه ومن همّته وكرم نفسه، فقال الصاحب بهاء الدين: ليس ما ذكرتموه بعجيب، لأن نفسه كريمة ومُكْنتُهُ متّسعة، والعجب العجب كونه طول هذا النهار وما حضر فيه من المأكول والمشروب والطعام والفاكهة والحلوى وغير ذلك على اختلاف أنواعه، ما قام من مكانه، ولا دعا خادماً فأسرّ إليه بشيء، ولا أشار بطرفه ولا بيده، ولم يجئ إليه أحد من خدمه ولا إشار إليه. وقيل: إن الناس تعجّبوا من كثرتهم وتشربهم الماء البارد في كيزان عامّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 النهار، فسُئل عن ذلك فيما بعد، فقال: اشترينا خمس مئة كوز، وبعثنا الى الجيران قليلاً، برّدوا ذلك في الباذهنجات التي لهم. ولا شكّ في أنه كان عالي الهمّة ممجَّداً مسوّداً، ولكن لم يكن له سعادة جدّه ولا دربته في تنفيذ الوزارة، فإنه وليها مرّتين وما أنجب فيها، وكان له إنسان مرتب معه حمام كحمام البطايق مدرَّب، إذا خرج من باب القرافة أطلق ما معه من الحمام، فيروح الى الدار التي له فيعلم أهله أنه قد خرج من القلعة، فيرمون الطُّطماح والملوخية وغير ذلك من أنواع الطعام ومن المطجَّن وما شابهه، حتى إذا جاء وجد الطعام حاصلاً والسماط ممدوداً. وله ديوان شعر لطيف سمعه منه ابن شامه وابن الصابوني. أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: اجتمعت به وسمعت عليه شيئاً من الحديث، وأنشدني من لفظه لنفسه: ولقد أتيت على أغرّ أدهمٍ ... عبل الشّوى كالليل إذ هو مظلمُ وبكفي اليُمنى قَناةٌ لدْنةٌ ... كالأُفعوان سنانها منه الفمُ متقلّداً غضباً كأن متونه ... برقٌ تلألأ أو حريقٌ مضرم وعليّ سابغةُ الذّيول كأنها ... سلخٌ كسانيه الشجاع الأرقم وعلى المفارق بيضة عاديّةٌ ... كالنّجم لاح وأين منها الأنجم فالرّعد من تِصهال خيلي والسّنا ... برقُ الأسنّة والرّذاذ هو الدّمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وكان قد اشترى فرساً من العرب، فأقامت عنده مدة في الحاضرة، ثم إنه عبر بها على بيوت العرب، فجفلت به، فقال: نسيتِ بيوت الشّعرِ يا فرسي وقد ... ربيتِ بها والحُر للعهد ذاكرُ ولكن رأيتيها بنجدٍ وأهلُها ... على صفةٍ أخرى فعُذرك ظاهرُ قلت: أثبت الياء في قوله: رأيتها وإنما هي بكسر التاء، فأشبع، فنشأت ياء. قال شيخنا أثير الدين: ونظمتُ أنا هذا المعنى فقلت: عجبتُ لمهري إذ رأى العُرب نُكّبا ... كأنْ لم يكن بين الأعاريب قد رَبا أجل ليس نكراً للفريق وإنما ... تخوّف عُتباً منهم فتجنّبا وقد سمع منه شيخنا الذهبي وجالسه، وأنشده من شعره، واعتكف مرة في مئذنة عرفات بجامع مصر ثلاثة أيام، فقال السّراج الورّاق، ونقلت ذلك من خطه: ثلاثة أيام قطعتَ كطولها ... ثلاث شديدات من السنوات حجبْن مُحيّا الصاحب بن محمد ... ليجمع بين الحُسن والحَسناتِ وما كاد قلبي أن يقرَّ قراره ... لأني بمصر وهو في عرفات ولما عمّر الصاحب تاج الدين جامع دير الطين قال السرّاج الوراق، ومن خطه نقلت: بنيتم على تقوى من الله مسجداً ... وخيرُ مباني العابدين مساجدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وأعلن داعيه الأذان فبادرت ... إجابته الصمُّ الجبالُ الجلامِدُ ونالت نواقيسَ الدّيارات وجْمةٌ ... وخوفٌ فلم يمدد إليهنّ ساعد تبكي عليهنّ البطاريق في الدجى ... وهنّ لديهم مُلقَياتٌ كواسد بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد قلت: البيتان الأخيران لأبي الطيب المتنبي من قصيدة مشهورة. وأهدى إليه الصاحب تاج الدين عسلاً مسعودياً فقال، ومن خطه نقلت: من الظّرف ردّ الطّرف ممتلئاً حمدا ... كما جاء من نعماكَ ممتلئاً رَفدا وكنتُ لَسيعاً من زماني وصرفِه ... فبدّلني من سمّه القاتل الشُّهَدا منها: أتاني مسعودٌ به لون عِرضه ... بياضاً جَلا من حالِك الحال ما اسودّا فأدْنيتُ مَن أبعدتُها لا قِلًى لها ... ولكن من الأشياء ما يوجب البُعدا فإن رفع الدّاعي يديه فهذه ... بأربعها تدعو فتستفْرِغُ الجُهدا وأرسل إليه الصاحب يوماً ديوكاً مخصية، فاستبقاهنّ، فأرسل إليه دجاجة كبيرة، ومن خطه نقلت ما قاله في ذلك: فديتُ الدّيوكَ بذبحٍ عظيمٍ ... وأنقذتُها من عذاب أليمْ فناري لهم مثلُ نار الخلي ... ل ونارُك لي مثل نار الكليمْ وذو العرف بالله في جنة ... فكُن واثقاً بالأمان العظيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 لقد أنسَتْ لي دارٌ بهم ... ومن قبلها أصبحت كالصّريم مشَوا كالطّواويس في ملبسٍ ... بهيِّ البرود بهيج الرّقوم كأني أشاهدُهم كالقُضاة ... بسمتٍ عليهم كسمتِ الحليم وإلا أزمّة دارٍ غدت ... بهم حرَماً آمناً كالحريم ولا فرقَ بيني وبين الخَصيّ ... فلمَ لا أراهم بعين الحميمِ ونعمَ الفِداُ لهم قد بعثت ... من الفاتنات ذوات الشّحوم أعدتَ الشباب الى مطبخي ... وقد كان شابَ بحمل الهُموم وعادت قُدوري زنجيةً ... فأعْجبْ بزنجية عند رومي وطال لسانٌ لناري به ... خصمتُ خُطوباً غدت من خصومي وأمسيتُ ضيفَك في منزلي ... ومن فيه ضيفٌ لضيف الكريمِ قلت: قوله: زنجية عند رومي ظرّف فيه الى الغاية، لأن السّراج رحمه الله تعالى كان أشقر أزرق، ولذلك قال، ومن خطه نقلت: ومن رآني والحمار مَركبي ... وزرقتي للروم عِرقٌ قد ضربْ قال وقد أبصر وجهي مُقبلاً ... لا فارسَ الخيل ولا وجهَ العربْ ونقلت من خطّ السراج الوراق قصدة مدح بها الصاحب تاج الدين أولها: أترومُ صبري دون ذاك الرّيم ... هيهاتَ لمتُ عليه غير ملومِ لو شاهدَت عيناكَ ما شاهدتُه ... لرجعتَ في أمري الى التّسليم مُخضرُّ آسٍ واحْمِرارُ شقائقٍ ... أنا منهُما في جنة وجحيمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 ومعاطفٌ من دونهنّ روادفٌ ... أنا منهما في مقعد ومُقيم سَلْ طرفَه عن شعره الدّاجي فلن ... يُخبرك عن طول الدُجى كسقيم يا غُصن قامته إليك تحيتي ... مع كل ماطرةٍ وكل نسيم إن الجمال له بغير مُنازع ... والوجدُ لي فيه بغير قسيم وكذا العُلا لمحمّد بن محمّد ب ... ن عليّ بن محمد بن سليم نسبٌ كمطّرد الكُعوب فلا تَرى ... إلا كريماً ينتمي لكريم منها: وشبيبة حرس التُقى أطرافها ... فلها محلّ الشيب في التعظيمِ وإذا تحرّمتِ المسائلُ باسْمه ... جلّى عن التحليل والتحريم إن قال لا يخلو فما من علةٍ ... تبقى لصحةِ ذلك التقسيم أما إذا جارى أخاهُ أحمداً ... شاهدتَ بحري نائلٍ وعُلومِ بحرانِ إن شئتَ النّدى، نجمان إن ... شِئتَ الهُدى، غَوثانِ في الإقليم وكتب الصاحب تاج الدين الى الورّاق يعزيه في حمار له سقط في بئر فنفق: يَفديك جحشُك إذ مضى متردّياً ... وبتالدٍ يُفدى الأديبُ وطارفِ عدم الشّعير فلا رآه ولا يرى ... تَبناً وراح من الظّمأ كالتّالف ورأى البُويرةَ غير خافٍ ماؤها ... فرأى حُشاشةَ نفسه لمخاوف فهو الشهيد لكم بوافرِ فضلُكُم ... هذي المكارم لا حمامة خاطِفِ قومٌ يموت حمارُهُم عطشاً لقد ... أزرَوا بحاتم في الزّمان السّالف قلت: قوله: لا حمامة خاطف يشير فيها الى أبيات ابن عنين التي مدح بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 الإمام فخر الدين الرازي وهو على المنبر فجاءت إليه حمامة وراءها جارح، فقال ابن عنين أبياتاً منها: جاءت سليمان الزّمان حمامةٌ ... والموتُ يلمع من جناحَيْ خاطفِ مَن أعلمَ الورقاءَ أن محلّكم ... حرمُ وأنك ملجأُ للخائفِ وأجاب الوراق للصاحب تاج الدين بقصيدة طويلة، ومن خطّه نقلت: أذنَتْ قُطوف ثمارها للقاطف ... وثنت بأنفاس النّسيم معاطفي منها، فيما يتعلّق بالحمار: ولكمْ بكيتُ عليه عهدِ مرابع ... ومراتع رُشّت بدمعي الذارفِ يُمسي على يُسري وعُسري صابراً ... بمعارفٍ تلهيه دون معالفِ وقد استمرّ على القناعة يقتدي ... بي وهي في ذا الوقت جلّ وظائفي ودعاهُ للبئر الصّدى فأجابه ... واعتاقَهُ صرفُ الحمام الآزِفِ وهو المُدلُّ بألْفةٍ طالت وما ... أنسى حقوق مرابعي ومآلفي وموافقي في كل ما حاولته ... في الدهر غير مواقفي ومخالفي دورانُ طاحونٍ لساقية لنق ... لِ الماء في شاتٍ ويوم صائفِ لكنْ بماء البئر راح بنقلةٍ ... فثلاثُ شاماتٍ بموتٍ جارِفِ ونظم الصاحب يوماً بيتا وهو: توفي الجمال الفائزيّ وإنه ... لخَيرُ صديقٍ كان في زمنِ العُسرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 وأمر الوراق بإجازته فقال: فيا ربّ عاملْهُ بألطافك التي ... يكونُ بها في الفائزين لدى الحشرِ ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين: توهّم واشينا بليلٍ مزارنا ... فجاء ليسعى بيننا بالتّباعد فعانقته حتى اتّحدْنا تلازُماً ... فلم يرَ واشينا سوى فرد واحدِ قلت: هو مأخوذ من قول الأول: كأنني عانقْتُ ريحانَة ... تنفّستْ في ليلها الباردِ فلو تَرانا في قميص الدُجى ... حسبتَنا في جسدٍ واحد وقلت أنا وقد كنا بمرح الغسّولة في يوم من الربيع، فورد علينا برد شديد الى الغاية: أتانا فجأة بردٌ شديد ... أنا للمدح فيه غير جاحدْ لأني كنتُ عن إلفي بَعيداً ... فصيّرني ومَن أهواه واحِدْ وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود الى الصاحب تاج الدين مع رأس فانوس أهداه وفيه صورة الفلك: أيا مولى أعوذ مجْد ... هـ بالروح والمُلكِ ومَن بِسَنا مفاخره ... تُضيء غياهبُ الحلكِ بعثتَ بما أبَوه إذا ... يصحّف من كُنى مَلك يُريك الشّمس في جُنح الدجا ... في قبّة الفلكِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 فكتب الصاحب تاج الدين الجواب: أتَتني من الحبر الكريم هديةٌ ... بها من أبي فانوسَ نسبةَ ناسِبْ وما أبعدَ الفانوس إلا لريبةٍ ... مَطالبها مرجوة في الغباهِبْ شياطينُها ترجو انقضاضَ شِهابها ... وتأمَلُ منه أن تفوزَ بثاقِبْ وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في يوم عند الصاحب تاج الدين، فقام الى الصلاة، ورمى إليه بخاتم فضة فصّه زبرجد، ولما انفتل من الصلاة أنشده الشيخ شهاب الدين محمود لنفسه: يا سيّد الوزراء يا مَن كفُّه ... أربى نَداهُ على سماح حاتمِ أشبهتَ في الخلق الوصيّ وفعله ... لما تصدّق في الصلاة بخاتم ومن شعر الصاحب تاج الدين مُلغزاً في الورد: ومعركة أبطالُها قد تخضّبت ... أكفُهم من شدة الضّرب عندما لهم عندها ثأرٌ وللنار عنبرٌ ... تأجج حتى يترك الوردَ أدهما ومنه يمدح الشيخ خضر المكّاري: وجُزت بميدان العبادة غاية ... تُذكرني يومَ السّباقِ ابنَ أدهَما ونظم يوماً بيتاً وهو: ألا قاتل الله الحمامة إنها ... أذابت فُؤاد الصّبّ لما تغّنَت وقال للوراق: أجزه. فقال قصيدة أولها: أطارحُها شكوى الغرام وبثّه ... فما صدحتْ إلا أجبتُ بأنّة ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين هذه الموشّحة وقد التزم فيها الحاء قبل اللام وهي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 قد أنحلالجسم أسمرْ أكحلْوأوحلْالقلبُ فيه مُذ حلْ يميلُ ... وعنه لا أميلُ يحول ... وعنه لا أحول أقول ... إذ زاد بين النُحولُ أما حلّعِقدَ الصَّدود ينحلّويرحلْعن جسمي المُزَحّلْ برَغمي ... كم يستبيحُ ظُلمي ويرمي ... بحربه لسلمي وجسمي ... مع التزام سُقمي منحّلْوقد غدا مرحّلْفكم حلسفكَ دمي وما حلْ متوّجْ ... بالحُسن هذا الأبهَجْ مدبّجْ ... عِذاره بالبنفسجْ مفلَّجْ ... يرنو بطَرفٍ أدعجْ مكحّلْوريقه المنحّلْمُفحّلْبالعنبر المحَلحَل كم أبعَدْ ... وكم أبيتُ مُكمَدْ ويعمَد ... بهجرِهِ لا يفقَدْ ويجهَدْ ... في ارتضاء مَن قَدْ تمحّلْوالحاسدون وحّلْومحّلوالوعد منهُ أمْحَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 قَلاني ... واشتطّ هذا الجاني رماني ... في عُشقه زماني خلاني ... أشكو لمن يراني قد أنحَلالجسمَ أسمرْ أكحلوأوحَلالقلب منه مُذ حَلْ محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله القاضي نجم الدين بن جمال الدين بن محب الدين الطبري الآمُلي الشافعي، قاضي مكة. كان فقيهاً جيداً، كريماً سيّداً، سديداً في أحكامه أيّدا. فيه لُطف أخلاق، وحُسن صحبة وود في يوميّ الفراق والتلاق. له نظمٌ يتأرجح به الروض، ويتدرج به الماء العذب في الحوض. لم يزل على حاله الى أن غاب نجمه في الثرى وعدمته أم القرى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة، في أول جمعة من جمادى الآخرة بمكة شرّفها الله تعالى. ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة. وكان قد سمع من عمّ جده يعقوب بن أبي بكر الطبري جامع الترمذي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 وسمع من جده محب الدين، ومن الفاروثي - وله إجازة من الحافظ أبي بكر بن مُسْدىً، وأخذ عنه شيخنا البرزالي وجمال الدين الغانمي، والواني، وآخرون. وما خلف بمكة مثله، وكان بارعاً في الفقه، وولي بعده ابنه الإمام شهاب الدين أحمد. قال لي الشيخ تاج الدين اليمني قال: أنشدته قصيدة في سنة عشر وسبع مئة امتدحته بها عند منصرفي من دمشق قاصداً اليمن، ومنها: جادَ عِهادُ المطر ... عهدَ منًى والمشعَرِ ولا عدا ربوعها ... سحّ السحاب الممطر منازلٌ كم لي بها ... من ليل وصل مُقمر والبَينُ في بينونةٍ ... بوصلنا لم يشعُرِ قال: فلما فرغتُ من إنشادها أنشدني بديها: أقسمتُ حقاً بالصّفا ... يا ابن الكرام الغُررِ شعرُك هذا فائق ... أشعار أهل الحضَر ما ناله حبيبُه ... ولا الوليد البحتري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 قال: وأنشدني القاضي نجم الدين المذكور قصيدة يمدح بها الملك المظفّر عند قدومه من اليمن أوّلها: إن لم أروّ الرَّبع من أجفاني ... بعد البعاد دماً فما أجفاني وأنشدني من لفظه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة الشيخ محب الدين أبو عبد الله محمد بن الصائغ المغربي الأموي، قال: أنشدني القاضي نجم الدين الطبري لنفسه: أشبيهة البدر المنير إذا بدا ... حُسناً وليس البدرُ من أشباهك مأسور حُسنك إن يكن متشفِّعاً ... فإليك في الحسن البديع بجاهك أشفى أسىً أعيا الأساة رواؤه ... وشفاهُ يحصل بارتشاف شفاهك فصليه واغتنمي بقاء حياته ... لا تقطعيه جفاً بحق إلاهك قال: فنظمت قصيدة في هذا الوزن واللزوم والرويّ، وقد ذكرتها في ترجمة محب الدين المذكور آنفاً. محمد بن محمد بن أبي بكر قاضي القضاة تاج الدين المالكي بالديار المصرية ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، تقدّم ذكر والده علم الدين في مكانه من هذا التاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 كان من بيت كلهم قضاه، وبيت كله رياحين، إذا كان غيره عِضاه. باشر القضاء بمصر بعد عمه، وطلع في منصبه كالبدر ليلة تمّه. ولم يزل الى أن أخنى عليه الذي أخنى على لبد ولم يترك له في الحياة من سبد ولا لبد. وتوفي رحمه الله تعالى في ... ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة. ومولده في ... وكان قد ولي القضاء بعد عمه قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وتولّى بعد تاج الدين المذكور قضاء المالكية بالديار المصرية أخوه قاضي القضاة بُرهان الدين ابراهيم، وسمع الحجّار ووزيرة، فيما أظن، بالديار المصرية، وأظنه حدّث بالبخاري عنه في مكة أو المدينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 محمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن الكنجي الدمشقي. سمع كثيراً، ونسخ وكتب الطباق، وعلّق أشياء جيدة واقتنى كتباً مليحة وأصولاً. قال شيخنا الذهبي: وله عمل قليل في هذا الفن، وهو قانع متعفف، لا بأس به إن شاء الله تعالى. سمع من ابن القوّاس وطبقته، وسمع قبلنا من الشيخ تاج الدين، قال: وسمعنا من أبيه. وتوفي صاحب هذه الترجمة في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة. ونسبَه الذهبي الى خفّة وعدم رزانة. محمد بن محمد القاضي الإمام العالم الفاضي أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ شرف الدين أبي البركات بن الشيخ عز الدين أبي العزّ صالح بن أبي العز بن وهيبة بن عطاء بن حسن بن جابر بن وهب الأذرعي الحنفي. كان فاضلاً فقيهاً بصيراً بالأحكام، حكم بدمشق نيابةً عشرين سنة، وخطب بجامع الأفرم مدة، ودرّس بالظاهرية والقليجية مدة، وأفتى وأذن في الفتيا، وقام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 بكثير من المناصب الدينية، وكان ديّناً يتلو القرآن كثيراً، وحج ثلاث مرات، وكانت جنازته حافلة، وأصيب به أبوه وأولاده وأقاربه وأصحابه. وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة. وكان قد سمع الغيلانيات بقراءة ابن جعوان، وحدّث في حجاته الثلاث، وباشر الظاهرية عوضاً عنه نجم الدين القحفازي، وباشر نيابة الحكم عوضاً عنه القاضي عماد الدين الطرسوسي. محمد بن محمد بن الحسين ابن عتيق بن رشيق، القاضي الإمام المفتي زين الدين أبو القاسم ابن الإمام علم الدين المصري المالكي، قاضي الإسكندرية. بقي في القضاء بها اثنتي عشرة سنة ثم عُزل، وقد عيّنه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق. وكان شيخاً وقوراً ديّناً فقيهاً معمراً، روى للجماعة عن أبي الحسن بن الجمَّيزي. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة. ومولده بمصر سنة ثمان وعشرين وست مئة. قال كما الدين الأدفوي: نُقِلَت عنه أحكامٌ أخطأ فيها، وعزل عن القضاء، ثم لما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 صرف السلطان الملك الاصر محمد قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف عن القضاء استناب قاضي القضاة بدرُ الدين بن جماعة ابن رشيق هذا في القاهرة مدة الى أن أعيد ابن مخلوف الى القضاء، وكان يكتب في الإجازات، من نظمه: أجَزْتُ لهم أبقاهم الله كل ما ... رويتُ عن الأشياخ في سالف الدهر وما سمعت أذناي عن كل عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء من التصحيف عار من النكر وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين: في العسر واليسر محمد بن محمد بن علي الفقيه المحدّث مجد الدين الأنصاري الدمشقي الشافعي المعروف بابن الصيرفي، سبط المحتسب ابن الحبّوبي. كان شاباً متواضعاً ساكناً، نسخ للناس ولنفسه وعمل المعجم، وجلس مع الشهود، وحدّث عن محمد بن النشبي، والتقي بن أبي اليُسر، وأحمد بن أبي الخير، وابن مالك، وابن البخاري، وحضر المدارس، وعاش أبوه بعد موته نحواً من عشر سنين وكان لمجد الدين نظمٌ. وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 محمد بن محمد بن أحمد أبي القاسم المرتضى العلوي الشريف المعروف بالقُمّي بضم القاف وتشديد الميم. داخل التتار لما أتى غازان الى دمشق وتوجه إليهم وعاد الى دمشق ومعه أربعة من التتار، وكسر أقفال باب توما، ونزلوا بالباذرائية في يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. وشرع يدلّ التتار على عورات المسلمين الى أن أمسك وحمل الى القلعة في يوم الأربعاء رابع عشري جمادى الأولى، وبعد ذلك كُحِّل الحاج مَنْدَوه وقطع لسانه. وفي ليلة الرابع من شوال سُمّر الشريف القُمي هو وابن العُوفي والبرددار وابن خُطليشي المزّي على الجمال، وشنق اثنان: كاتب مصطبة الوالي وآخر يهودي، وقُطع لسان ابن طاعن وقطعت يد الدّلدرمي ورجله وكُحل الشجاع همّام. محمد بن محمد بن علي ابن ابراهيم ابن حُريث القُرشي العبْدَري البلنْسي ثم السّبتي المالكي المقرئ. حدّث بالموطأ عن أبي الحسين ابن أبي الربيع، عن ابن بقي. وتفنن في العلوم والقراءات والعربية، وولي خطابة سبتة مدة، وأقرأ الفقه مدة ثلاثين عاماً، ثم إنه تزهّد، ووقف كتباً بألف دينار، ووقف عقاره وحج وجاور بالحرمين، وحدّث بمكة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وبها توفي رحمه الله تعالى في ... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. محمد بن محمد بن عبد القاهر ابن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف، الصدر ضياء الدين أبو المعالي النصيبي الحلبي. كان رئيساً كبيراً فاضلاً، حسن الكتابة. وزر بحماة، وولي المناصب، ودرّس بعصرونية حلب، وحدّث بالكثير. سمع من ابن شدّاد، والموفق عبد اللطيف، والكاشغري، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن خليل، وقرأ بنفسه على المشايخ. سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي بحلب سبعة أجزاء منها المئة السريجيّة وثلاثيات البخاري، والأول من مسند عمار بن ياسر. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة بحلب. ومولده بها في صفر سنة ثماني عشرة وست مئة. محمد بن محمد بن محمود بن مكي ابن عيسى بن دمرتاش، الدمشقي، العدل، شهاب الدين أبو عبد الله. كان أديباً، فطناً، لبيباً، إذا دعا المعنى الغامض كان له مجيباً، وإذا نظمه كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 عجيباً، له غوصٌ على المعاني، وألفاظه أطربُ من المثالث والمثاني، له مقاطيعُ أعذبُ من أيّام الوصال، وأشهى من حبيب كرُمت منه الخصال. لم يزل بدمشق على حاله الى أن نعق غراب بينه، ونزل بحيّه وافد حَينه. وتوفي رحمه الله تعالى بكرة السبت خامس صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده في ... كان أولاً في شبيبته جُندياً بحماة، وخدم بها صاحبها الملك المنصور، صحب بها مجير الدين محمد بن تميم الحموي الشاعر، وأقام معه بحماة، وبسببه دخل في الجندية، وكان يثني على مكارمه. وأقام بحماة مدة عشرين سنة، ولما أسنّ وكبر بطّل الجندية ودخل في زي العدول، وجلس بمركز الرواحية، ورأيته في سنة ثماني عشرة وسبع مئة وفيما بعد ذلك، وأظنه كان مخلاً بإحدى عينيه. أنشدني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدنا ظهير الدين البارزي قال: أنشدني المذكور لنفسه: أقول لمسواكِ الحبيب لك الهنا ... برشْف فم ما ناله ثغرُ عاشق فقال وفي أحشائه حُرقة الجوى ... مقالة صبّ للديار مُفارق تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلِّله بين العُذَيبِ وبارق قلت: وما أحلى قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وعود أراكة يجلو الثنايا ... من البيض الدُمى جلْي المرايا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 يقول مُساجل الأغصان فخْرا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا وقول محيي الدين بن قرناص: سألتك يا عود الأراكة أن تعُدْ ... الى ثغر مَن أهوى فقبّلْه مُشفقا ورِدْ من ثنيّات العُذيب مُنَيهلاً ... تسلسل ما بين الأبيرق والنقا وقال: أنشدني المذكور لنفسه: ولما التقينا بعد بين وفي الحشا ... لواعج شوقٍ في الفؤاد يُخيّمُ أراد اختباري بالحديث فما أرى ... سوى نظرٍ فيه الجوى يتكلمُ وأنشدني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أنشدني لنفسه: ومُهفهَف الأعطاف معسول اللّمى ... كالغصن يعطفه النسيم إذا سرى قال اسقني فأتيته بزجاجة ... ملئت قراحاً وهو لاهٍ لا يرى وتأرجحت برضابه وأمدَّها ... من نار وجنته شعاعاً أحمرا ثم انثنى ثملاً وقد أسكرتهُ ... برضابه وبوجنتيه وما درى قلت: هو مولَّدٌ من قول الملك الأمجد، وفيه زيادة: طلبتُ لماءٍ في إناء فجاءني ... غلام بها صرفاً فأوسعته زجرا فقال هي الماء القراح وإنما ... تجلّى لها خدي فأوهمك الخمرا ومن شعره، وهو مما نقلته من خطه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 حتام لا تصل المُدام فقد أتت ... لك في النسيم من الحبيب وعودُ والنهر من طرب يصفّق فرحة ... والغُصنُ يرقُص والرياض تميدُ وأنشدني الشيخ الإمام العالم نجم الدين القحفاري قال: أنشدني المذكور لنفسه: قال لي ساحر اللواحظ صف لي ... هيَفي قلت: يا مليح القوام لك قدٌ لولا جوارح عيني ... ك لغنت عليه وُرْق الحمام قلت: قد اشتهر هذا المعنى بين شعراء العصر وأولعوا به، ومما نظمته أنا فيه: ذو قامة من لينها ... بيد النسيم يكاد يُعقَدْ لولا جوارح لحظه ... غنى الحمام بها وغرد ونقلت له من خطه: قد سنتُ سرَّ هواكم ضناً به ... إن المتيم بالهوى لضنين فوشت به عيني ولم أك عالماً ... من قبلها أن الوشاة عيون ونقلت منه له: روى دمع عيني عن غرامي فأشكلا ... ولكنه ورّى الحديث فأشكلا وأسنده عن واقديّ أضالعي ... فأضحى صحيحاً بالغرام مُعَلّلا ونقلت منه له: وافى النسيم وقد تحمل منكم ... لُطفاً يقصِّرُ فهْمهُ عن عِلمه وشكا السقام وما درى ما قد جرى ... وأنا أحقّ من الرسول بسقمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 ونقلت منه له: إن طال ليلي بعدكم فلطوله ... عُذرٌ وذاك لما أقاسي منكم لم تَسْرِ فيه نجومُه لكنها ... وقفَت لتسمع ما أحدِّث عنكم ونقلت منه له: عجباً لمشغوف يَفوه بذكركم ... ماذا يقول وما عساه يمدحُ والكون إما صامت فمعظمٌ ... حرماتكم أو ناطق فمسبِّحُ ونقلت منه له: مَن لأسير أمست قرينته ... في الدوح عن حاله تسائلهُ فهو يغني مَبْدا الحزين لها ... وهي بأوراقها تراسلهُ قلت: ما أعرف هذا العنى في أحسن من قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي: قامت على ساقٍ تُطارحُني الهوى ... ما بين صَحبي في الدجى ورفاقي ورْقاءُ قد أخذت فنونَ الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق أنّى تباريني أسىً وكآبة ... وصبابة وجوى وفيض مآقي وأنا الذي أملي الهوى عن خاطري ... وهي التي تملي عن الأوراق وقلت أنا في هذه المادة مع اعترافي بالتقصير عنهما: لا تقيسوا الى الحمامة حزني ... أنا فضلي تَدري به العشاق أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ونقلت من خط ابن دمرتاش له: حتى إذا رقّ جلبابُ الدجى وسرتْ ... من تحت أذياله مسكيّة النفس تبسّم الصبح إعجاباً بخلوَتِنا ... ووصْلِنا الطاهر الخالي من الدنس ونقلت منه له: بالروح أفدي منطقياً علا ... برتبة النحو على نَشْوِه منطقه العذب الشهي الذي ... قد جذب القلب الى نحوه ونقلت منه له: جيادك يا من طبّق الأرض عدْلُه ... وحاز بأعلى الجدّ أعلى المناصب إذا سابقتها في المهامهِ غرّةً ... رياح الصّبا عادت لها كالجنائب ولو لم تكن في ظهرها كعبة المنى ... لما شبهت آثارها بالمحارب ونقلت منه له: يا سيدي أوحشْتَ قوماً ما لهم ... عن حسن منظرك الجميل بديلُ وتعللت شمس النهار فما لها ... من بعد بُعدك بكرةٌ وأصيلُ وبكى السحابُ مُساعداً لتفجعي ... من طول هجرك والنسيم عليلُ ومن شعره: انظر الى الأزهار تلق رؤوسها ... شابت وطفل ثمارها ما أدركا وعبيرها قد ضاع من أكمامها ... وغدا بأذيال الصبا متمسكا ومنه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 ولما أشارت بالبنانِ وودّعت ... وقد أظهرت للكاشحين تشهّدا طفقْنا نبوسُ الأرض نوهم أننا ... نصلّي الضحى خوفاً عليها من العدا ومما نقلته من خطه له: يقولون شبهت الغزال بأهيفٍ ... وهذا دليل في المحبة واضحُ ولو لم يكن لحظ الغزال كلحظه اح ... وراراً لما تاقت إليه الجوارحُ قلت: يشبه قول ابن دانيال: بي من أمير شكار ... وجدٌ يذيب الجوانح لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح ونقلت منه له: يقول لي الدولابُ راض حبيبك ال ... ملول بما يهوى من الخير والنفع فإني من عود خُلقْتُ وها أنا ... إذا مال عني الغصن أسقيه من دمعي ومن شعره دوبيت: الصبُّ بك المتعوبُ والمعتوب ... والقلب بك الملسوب والمسلوب يا من طلبت لحاظُه سَفك دمي ... مَهلاً ضعُفَ الطالب والمطلوب قيل: إن الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى كان يقول: وددتُ لو أنه كان يأخذ مني جميع شعري ويعطيني هذين (البيتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 محمد بن محمد بن أحمد ابن عبد الواحد، عماد الدين بن شرف الدين بن الزملكاني، وهو ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. كان شكلاً حسناً طوالاً، وكان خطه حسناً، وكان ينظم إلا أنه قليل. كان قد سعى بالقاهرة على أن يكون كاتب إنشاء بدمشق، وقام بأمره الأمير سيف الدين بغا الدوادار في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فوقف القاضي شهاب الدين بن فضل الله في طريقه وأبطل ما كان قُرّر من أمره. وكان أخيراً ناظر السُّبع الكبير وغيره. ومولده فيما أظن سنة إحدى وتسعين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة بدمشق. محمد بن محمد بن سهل الوزير العالم الزاهد الأزدي الغرناطي. سمع من ابن الرضي الطبري، وقدِم دمشق، وقرأ الصحيح على الحجّار، وصحيح مسلم على ابن العسقلاني، وقرأ بالسبع في صغره على ابن بشر وابن أبي الأحوص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 وبرع في معرفة الاسطرلاب. وكان في بلده وافر الجلالة، غامر الإنالة، سافر الإيالة، تزهّد وحضر الى الديار المصرية، وأعرض عن المناصب العصرية، فما كاد يلحقه ابن أدهم زُهداً، ولا أشهب علماً ورفداً. وكان يبرّ الناس ويتحيّلُ على كتمان أمره، ويفرّق الذهب وهو يتقّد في جمره، والشمس لا تخفى بكل مكان والحرف لا تُعدَم ماهيّته بين التحريك والإسكان: سروا ونجوم الليل زُهرٌ طوالعٌ ... فنمّ عليهم في الظلام التنسم ولم يزل على حاله الى أن نزلت شدة الموت بابن سهل، وبكاه حتى الحزن والسهل. وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء ثاني عُشري المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة قافلاً من الحج. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة. قال الشيخ تاج الدين أحمد بن مكتوم النحوي يرثيه: مات ابن سهل فماتت ... من بعده المكرماتُ ولم يخلّف مثيلاً ... أمثاله الصِيدُ ماتوا وقلت: أنا فيه لما سمعتُ بموته: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 مات ابن سهل ومنا قلّت الحيلُ ... وللعفاة فضاق السهل والجبلُ مات الوزير الذي كان الملوك به ... في غبطة ولديه العلم والعمل الزاهد العابد السامي الرفيع ذُرى ... العالم العامل المستأمن البطل عليه مني سلام الله ما صدحت ... ورق لها في حواشي دَوْحها زجلُ وقلت أرثيه: موت ابن سهل قد كان صعباً ... لكل عاف وكل طالب يحق والله أن يُرثى ... من قد حوى هذه المناقب توفي أبوه سنة سبعين، وجده سنة سبع وثلاثين. وحج هو سنة سبع وثمانين وعاد، ثم إنه قدم مصر سنة عشرين وسبع مئة، وحجّ وجاور سنتين. وكان في بلده يرجعون إليه والى رأيه وحُرمة عقله فيمن يولونه المملكة ويلقبونه الوزير، وكان فيه ورعٌ شديد، وتعفّف وصيانة وديانة وكرم ومروّة وحلم وعلم. وأخذ عنه الشيخ قطب الدين عبد الكريم، وكان شيخاً وقوراً حسن الهيئة مليح الشيبة لا يتعمم ويتطيلس على طاقية. ورأيته عند شيخنا العلامة أثير الدين، وأخبرني هو وغيره عنه أنه يتصدق سراً من ماله الذي يحمل إليه من أملاكه في الغرب، وعرفه الناس، وصاروا يقصدونه، فإذا طلب منه أحد شيئاً أنكر ذلك، وقال: ليس ما قيل لك صحيحاً، ثم إنه يتركه بعد يوم أو أكثر ويأتي إليه وهو غافل ويلقي في حجره كاغداً فيه ذهب، ويمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 ولا يقف له، ويتصدّق من الستين ديناراً فما دونها، واستنسخ البحر المحيط تفسير القرآن لشيخنا أثير الدين، وشرح التسهيل له وغير ذلك وجهزه الى الغرب. محمد بن محمد بن المفضّل ابن عبد المنعم بن حسين بن حمزة بن حسين بن أحمد بن علي بن طاهر بن حبيش، القاضي الإمام المفتي الخطيب موفّق الدين ابن القاضي عز الدين أبي اليسر ابن القاضي نجم الدين أبي المكارم ابن القاضي مهذب الدين أبي عدي ابن القاضي تاج الدين أبي سالم ابن القاضي أمين الدين أبي القاسم حسين بن حمزة، البهراني القضاعي الحموي الشافعي، المعروف بابن حبيش. تفقّه بحماة، وحصّل وشارك في الفضائل، وسمع من ابن رواحة، والكمال بن طلحة، وجماعة. وروى لشيخنا الذهبي وغيره بالإجازة عن جده لأمه أبي المشكور مدرك بن أحمد بن مدرك بن حسين بن حمزة القضاعي. وكان إماماً جليل القدر، وافر الحرمة، ظاهر الحشمة، ولي خطابة حماة، ثم خرج عنها لتهديد السلطان له لما أنكر وأراق الخمور. وقدم دمشق في ... وولي خطابتها سنة ثلاث وتسعين وست مئة، وقيل: سنة إحدى وتسعين عوضاً عن الشيخ عز الدين الفاروثي، وعزّ عليه وعلى الناس ذلك، وحضر السلطان الملك الأشرف، فلما رآه السلاح دارية أخذوه وأجلسوه الى جانب الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 الشام، فسأل السلطان عنه، فأخبر أنه قد عُزل، وتوهم الشيخ أن الوزير ابن السلعوس هو الذي عزله، فاعتذر السلطان إليه وقال: بلغنا أنك ضعيف. فقال: من صلى مئة ركعة بألف " قل هو الله أحد " يعجز عن صلاة الفرض؟ يعني صلاة النصف، فلم يلتفتوا إليه وانكسر قلبُه. ثم في هذه الجمعة هرب حسام الدين لاجين فاغتمّ السلطان لذلك، وتوجه هو والأمراء والعسكر يفتشون عليه، وكانوا قد أطلعوا المنبر الى الميدان الأخضر، فصلى موفق الدين بالعوام، والسلطان والعساكر مهجّجون في طلب حسام الدين لاجين، ثم إن السلطان عاد بالعساكر بعد العصر يوم العيد، فقال بعض الشعراء في ذلك: خطب الموفق إذ تولى خطبة ... شق العصا بين الملوك وفرّقا وأظنه إن قال ثانية غدا ... دينُ الأنام وشملُه متفرِّقا وقال آخر: إن الموفق لما ... في خطبة قد ترفّق في جمعة العيد شمل ال ... ملوك كالخطب فرّق وكان مع ذا وهذا ... في الحال غير موفّق وكان هذا الخطيب موفق الدين رجلاً صالحاً ديّناً خيراً، ولكن لم يرزق سعادة في هذه الحركة. ثم إن الموفق طلب الى حماة بكتاب من صاحبها في ذي القعدة سنة سبع وتسعين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وست مئة من بعد وفاة قاضي القضاة جمال الدين بن واصل رحمه الله تعالى، فتوجه من دمشق الى حماة، وولى بها القضاء مدة. ثم إنه قدم من دمشق جافلاً من التتار. فتوفي رحمه الله تعالى بدرب القاضي الفاضل فييوم السبت سادس عشري جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن برّاً بباب الفراديس ظاهر دمشق. ومولده في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وست مئة. وكان من أهل الدين والخير والصلاح، رحمه الله تعالى. محمد بن محمد بن هبة الله ابن يحيى بن بندار بن مميل، القاضي الرئيس الكبير الصدر تاج الدين أبو الفضل ابن القاضي شمس الدين بن نصر الشيرازي. كان من أعيان الدماشقة، ولي وكالة بيت المال والحسبة ونظر الدواوين ونظر ديوان الخزندار، وتنقل في المناصب، وباشر الوظائف الكبار، ورأس. قال شيخنا علم الدين البرزالي رحمه الله تعالى: روى لنا عن ابن عبد الدائم، وسمع من والده وعمه وجماعة. وتوفي رحمه الله تعالى بالمزة في بستانه في رابع شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ست وخمسين وست مئة، رحمه الله. وجرى بينه وبين شمس الدين محمد ابن الشيخ عفيف الدين التلمساني منافسة بسبب شخص مشهور، وعمل شمس الدين مقامة بسبب ذلك. وكان هذا تاج الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 من الرؤساء الفضلاء النبلاء فلم يسمع عنه بسبب ذلك كلمة واحدة، ولا أعاد ولا أبدأ، لحشمته ورياسته وفضله ومروّته. محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف الشيخ الإمام العلامة المفنّن المحقق المدقق جامع أشتات الفضائل ركن الدين أبو عبد الله بن القَوْبع، بالقاف والواو الساكنة وبعدها باء موحدة مفتوحة وعين مهملة، الجعفري التونسي المالكي. فاضلٌ إذا قلت فاضل، ونظّار لم يثبت له مناظر ولا مناضل، قد جمع الفضائل وأتقن ما لمفرداتها من البراهين والدلائل. إن فسّر القرآن العظيم خضع له وأذعن ابن مُقاتل وفتح على السُّديّ باباً لا يخاتر فيه ولا يخاتل. وإن ذُكر الحديث فنهايةُ ابن الأثير له بداية، وصاحب الغريبين معروف بأنه لا يصل الى هذه الغاية. وإن ذكر أسماء الرجال فما يذكر مع بحره الزاخر ابن نقطة ولا ابن عبد البرّ في استيعابه مما يوافق شرطه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 وإن ذكر الفقه فدونه صاحب المدوّنة، وابن أبي زيد نقص قدره عنه وهوّنه. وإن ذكر الأصول فالغزالي ليس من هذا البزّ، والحُليمي سفِه رأيه واغتر بما اعتز. وإن ذكر النحو فالشلوبين شلوٌ بين ماضغيه، وابن عصفور يطير وما يقع إلا بين يديه. وإن ذكرت اللغة فصاحب المحكم تشابهت أقواله، والقزاز سَدى وألحم وما أفادته أحواله. وإن ذكر العروض فالخليل ضاقت معه دائرته، والجوهري غام جو جواه وما أفادته مغامرته. وإن ذكر التاريخ فالخطيب لا يرقى درجته، وابن عساكر يبذل في اعترافه له مهجته. وإن ذكر الطب فجالينوس ما تجالس أنسه، وابن زُهر كسف نور هذا من ذاك شمسه. هذا الى غير هذه المعارف، وسوى هذه النقود التي لا تبهرجها الصيارف: إليه انتمت فينا الفضائل كلها ... فدعوى سواه للفضائل زور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 إليه كأن الفضل في كل ليلة ... بكف الثريا في السماء يشير يقول كذا فليسمُ للعلم من سما ... ويفخر بإدراك العلا فخور وكان يتودد الى الناس ويتعهد الأكابر بالبشر والإيناس من غير حاجة الى رب جاه أو صاحب وظيفة يترجاه، لأنه كان في غُنيةٍ من دنياه، ورفعة من ذاته في علياه. وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدةً فملأ المنصب عدلاً وإنصافاً، ومال على المظالم وإن صادق وإن صافى، ثم إنه سأل الإعفاء، ورجع الى العطلة وفاء. ولم يزل في رياسة علمه وفضائله الباهرة وسيادته الباطنة والظاهرة الى أن تولى العلم بركنه، وطال من القبر على إنسانه إغماض جفنه. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الإثنين في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة. ومولده بتونس سنة أربع وستين وست مئة. وسمع الحديث من أبي إسحاق ابراهيم بن علي الواسطي، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وأبي العسا أحمد بن محسن بن ملّي، وأبي القاسم الخضر بن عبد الرحمن الدمشقي، وأبي عبد الله محمد بن حمزة بن أبي عمر المقدسي، وجماعة كثيرة. وكتب على سورة " ق " مجلدة جيدة، وعلى آيات من القرآن تفاسير جيدة. ولما تولى إعادة الناصرية علق على قوله تعالى: " إن أولَ بيتٍ وُضع للناس للذي ببكّة " الآية. وكتب على بعض ديوان المتنبي كلاماً جيداً، واختصر أفعال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 ابن الحاج. وتولى الإعادة في الفقه بالمدرسة الناصرية والجامع الطولوني. ودرس بالمدرسة المنكوتمرية، وكان طبيباً بالبيمارستان، ويلقي الدرس فيه نيابة عن رئيس الطب. وكان قد تأدّب بابن حبيش، وقرأ المعقول على ابن الدارس. وكان يستحضر جملة من شعر العرب والمولدين والمتأخرين، ويعرف خطوط الأشياخ، لاسيما أهل الغرب. وكان نقده جيداً، وذهنه يتوقد ذكاءً، قد مهر في كل ذلك، إذا تحدث في شيء من هذه العلوم تكلم على دقائقه وغوامضه ونكته حتى يقول القائل: إنما أفنى عمره في هذا الفن. وكان قد قرأ النحو على يحيى بن الفرج بن الزيتون، والأصول على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس، وقدم مصر عام تسعين وست مئة. قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وهو ما هو: أنا ما أعرف أحداً مثل الشيخ ركن الدين، وقد رأى من رآه من الفضلاء. وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: قدم الى الديار المصرية وهو شاب فحضر سوق الكتب والشيخ بهاء الدين بن النحاس حاضر، ومع المنادي ديوان ابن هانئ، فأخذه الشيخ ركن الدين وأخذ يترنّم بقول ابن هانئ: فتكاتِ لحظك أم سيوفَ أبيكِ ... وكؤوسَ خمرك أم مراشفَ فيك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 وكسر التاء وفتح الفاء والسين والفاء، فالتفت إليه الشيخ بهاء الدين وقال: يا مولانا ذا نصب كثير. فقال له الشيخ ركن الدين بتلك الحدة المعروفة منه والنفرة: أنا ما أعرف الذي تريده أنت من رفع هذه الأشياء على أنها أخبار لمبتدآت مُقدّرة، أي: أهذه فتكات لحظك أم كذا أم كذا، وأنا الذي أريده أغزلُ وأمدحُ، وتقديره: أأقاسي فتكات لحظك أم أقاسي سيوف أبيك، وأرشف كؤوس خمرك أم مراشف فيك. فأخجل الشيخ بهاء الدين وقال له: يا مولانا فلأي شيء ما تتصدر وتشغل الناس. فقال استخفافاً بالنحو واحتقاراً له: وأيش النحو في الدنيا، النحو علم يذكر؟ أو كمال قال. وأخبرني أيضاً قال: كنت أنا وشمس الدين بن الأكفاني نأخذ عليه في المباحث المشرقية فأبيت ليلتي أفكّر في الدرس الذي نصبح نأخذه عليه وأجهد قريحتي وأعمل تعقُّلي وفهمي الى أن يظهر لي شيء أجزم بأن المراد به هذا، فإذا تكلم الشيخ ركن الدين كنت أنا في واد في بارحتي وهو في واد. أو كما قال. وأخبرني الشيخ تاج الدين المراكشي قال: قال لي الشيخ ركن الدين: لما أوقفني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس على السيرة التي عملها علّمت فيها على مئة وأربعين موضعاً أو مئة وعشرين موضعاً - السهو مني - أو كما قال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 ولقد رأيته أنا مرات يواقف الشيخ فتح الدين في أسماء رجال ويكشف عليها فيظهر الصواب مع ركن الدين. وكنت يوماً أنا وهو عند الشيخ فتح الدين فقال: قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: عمل ابن الخطيب أصولاً في الدين أصول الدين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - بسم الله الرحمن الرحيم - " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " فنفر الشيخ ركن الدين وقام وقال: قل له يا عُرّة، عمل الناس وصنفوا وما أفكروا فيك، ونفر مغضباً. وأخبرني الشيخ فتح الدين قال: جاء إليه إنسان يصحح عليه في أمالي القالي، فأخذ الشيخ ركن الدين يُسابقه الى ألفاظ الكتاب، فبهت ذلك الرجل فقال له: لي عشرون سنة، ما كررت عليها. وكان إذا أنشده شيئاً في أي معنى كان أنشد فيه جملة للمتقدمين والمتأخرين، كأن الجميع كان يكرر عليه البارحة. وتولى نيابة الحكم بالقاهرة لقاضي القضاة المالكي مدة، ثم إنه تركها تديّناً منه وقال يتعذر فيها براءة الذمة، وكانت سيرته فيها حميدة، ولم يُسمع عنه أنه ارتشى في حكومة ولا حابى أحداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 وكان كثير التلاوة وكان ينام أول الليل ثم يستفيق وقد أخذ راحة، وأخذ كتاب الشفاء لابن سينا ينظر فيه لا يكاد يخل بذلك. قال لي الشيخ فتح الدين: قلتُ له يوماً: يا شيخ ركن الدين الى متى تنظر في هذا الكتاب؟ فقال: أريد أن أهتدي. وكان فيه سأمٌ وضجر حتى في لعب الشطرنج، يكون في وسط الدست وقد نفضه وقطع لذة صاحبه ويقول: سئمت سئمت. وكذلك في بعض الأوقات يكون في بحث وقد حرر لك المسألة وكادت تنضج وتتضح فيترك الكلام ويمضي. وكان حسن الودّ، جميلَ الصحبة، يتردد الى الناس ويُهنّيهم بالشهور والمواسم من غير حاجة لأحد، لأنه كان معه مالٌ له صورة ما يقارب الخمسين ألف درهم، وكان يتصدق سراً على أناس مخصوصين، وكان مع هذه العلوم لثغته بالراء قبيحة يجعلها همزة، وكنت أنا وهو قد طلعنا الى القلعة فجاء في الطريق ذكر الراء واللثغة بها، فأخذ يسرد عليّ ما يمكن من اللثغة بها وعدّ أنها تغير لغالب حروف المعجم، وأخذ يذكر أمثلة ذلك. وكان إذا رأى أحداً يضرب كلباً أو يؤذيه يخاصمه وينهره ويقول له: ليس تقفل هذا أمَا هو شريكك في الحيوانية؟ وكان خطه مغربياً وليس بجيد، وكنت كثيراً ما أجتمع به وآخذ من فوائده الغامضة، وكتبت له استدعاء في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ونسخته: المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العلامة جامع شتات الفضائل، وارث علوم الأوائل، حجة المناظرين سيف المتكلمين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 سبّاق غايات الورى في بحثه ... فالبرقُ يسري في السحاب بحثّه ويهبّ منه بالصواب صبا لها ... بردٌ على الأكباد ساعة نفثه ويضوع من تلك المباحث ما يُرى ... أشهى من المسك السحيق وبثه المتكلم الذي ذهلت بصائر أولي المنطق نحوه، وأنتجت مقدماته المطلوب عنوة ووقف السيف عند حدّه فما للآمدي في مداه خطوه، وحاز رتب النهاية فما لأبي المعالي بعدها خطوه، فهو الرازي على الرازي، لأن قطب علومه من مصره ومحصوله ذهب قبل دخول أوانه وعصره، والفقيه الذي رفع لصاحب الموطأ أعلام مذهبه مُذهبة، فمالكٌ عنه رضوان، وأسفر وجوه اختياره خالية من كلف التكلف حالية بالدليل والبرهان، وأبرزها في حلاوة عبارته فهو جلاّب الجُلاّب، وأظهر الأدلة من مكامن أماكنها، وطالما جمحت تلك الأوابد على الطُلاّب. والنحوي الذي تركت لُمعهُ الخليل أخفش، وأعرت الكسائي ثوب فخره الذي بهر به سيبويه وأدهش، فأبعد ابن عصفور حتى ضار عن مُقرّبه، وأمات ابن يعيش لمّا أخلق مُذهب مَذهبه. والأديب الذي هو روضٌ جمع زهر الآداب وحبْرٌ قلّد العقد أجياد فنّه الذي هو لبّ الألباب، وكامل أخذ عنه كتّاب الأدب أدب الكُتاب، فإذان نظم قلت: هذه الدّراري في أبراجها تتّسق، أو خِلْتَ الدُرر تتنضدّ في ازدواجها وتنتسق، أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 نثر فالزهر يتطلع من كمامه غبَّ غمامه، والأَلفات غصون ترنّح معاطفها بحمائم همزه التي هي كهمز حمامه. والطبيب الذي تحلى منه أبقراط وسقط عن درجته سُقراط، فالفارابي ألفاه رابياً، وابن مسكويه أمسك عنه مُحاشياً لا محابياً، وابن سينا انطبق قانونه على جميع جزئياته وكلياته، وطلب الشفاء والنجاة من إشاراته وتنبيهاته، فلو عالج نسيم الصبا لما اعتلّ في سحره، أو الجفن المريض لزانه وزاده من حوَره، ركن الدين أبي عبد الله محمد بن محمد عبد الرحمن الجعفري المالكي: لا زال روض العلم من فضله ... في كل وقت طيّب النَشْر وكل ما يبدعُه للورى ... تطويه في الأحشاء للنشر وتزدهي الدنيا بما حازَهُ ... حتى تُرى دائمة البشر إجازة كاتب هذه الأحرف ما له من مَقول منظوم أو منثور، وضع أو تأليف، جمع أو تصنيف، الى غير ذلك على اختلاف الأوضاع وتباين الأجناس والأنواع. وذكرت أشياء مذكورة في الاستدعاء. فأجاب بخطه رحمه الله تعالى: يقول العبد الفقير الى رحمه ربه وعفوه عما تعاظم من ذنبه محمد بن عبد الرحمن القُرشي الجعفري المعروف بابن القُوبع: بعد حمد الله ذي المجد والسّناء والعظمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 والكبرياء، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، خالق الأرض والسماء، وجاعل الإصباح والإمساء، والشكر له على ما مَنّ به من تضاعفِ الآلاء وترادفِ النعماء، نحمده ونذكره، ونعبده ونشكره لتفرده باستحقاق ذلك وتوفر ما يستغرق الحمد والشكر هنالك، مع ما خصّنا به من العلم وأضاء به بضيائها من نور الفهم. ونصلي على نبيه محمد سيد العُرب والعُجم، وعلى آله وأصحابه الذين فازوا من كل فضل بعظم الحظ ووفور القُسم، أجزت لفلان وذكرني: جمّاع أشتات الفضائل والذي ... سبق السّراع ببطئه وبمكثه فكأنهم يتعثّرون بجدولٍ ... ويسير في سهل الطريق وبرثه أزرى بسحب بيانهم في هطلها ... فيما يبين بطلّه وبدثّه جميع ما يجوز لي أن أرويه مما رويته من أصناف المرويات أو قلته نظماً أو نثراً، أو اخترعته من مسألة علمية مُفتتحاً، أو اخترته من أقوال العلماء واستنبطت الدليل عليه مرجّحاً مما لم أضعه في تصنيف ولا أجمعه في تأليف على مشرط ذلك عند أهل الأثر: وفّقه الله لما يرتضي ... في القول والفعل وما يدري وزاده فضلاً الى فَضله ... بما به يأمن في الحشر فهذه الدار بما تحتوي ... دارُ أذىً ملأى من الشرّ ذلّت بينهم بغرور فهم ... في عمَهٍ عنه وفي سكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 قد خدعَتْهم بزخاريفها ... معقبة للغدر بالغدر تريهم بشراً ويا وَيحهم ... كم تحت ذاك البشر من مَكر بينا ترى مبتهجاً ناعماً ... ذا فرج بالنهي والأمر آمن ما كان وأقصى مُنىً ... فاجأه قاصمة الظهر فعدِّ عنها واشتغل بالذي ... يوليك خيراً آخر الدهر فإنما الخير خصيصٌ بما ... تلقاه بعد الموت والنشر هذا إذا مَنّ الذي ترتجي ... رحماه بالصفح والغفر وزاد رضواناً فهذا الذي ... يُدعى به لأطول العمر ويؤيد هذا ما أخبرناه الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع المُسند تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطي، قراءة عليه ونحن نسمع بدمشق في شوال سنة إحدى وتسعين وست مئة، قيل لي: أخبركم أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب البغدادي قراءة عليه بدمشق، وأبو الفرج الفتح بن عبد الله بن عبد السلام البغدادي قراءة عليه ببغداد قالا: أخبرنا الخطيب أبو منصور أنوشتكين بن عبد الله الرضواني، قراءة عليه: أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد البُسري. ح وأخبرنا ابن ملاعب وأبو عليّ الحسن بن إسحاق ابن الجواليقي، قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، أخبرنا الشريف أبو نصر محمد بن محمد بن علي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 الزينبي، قالا: أخبرنا أبو الطاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص الذهبي، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا خلف بن هشام البزاز سنة ست وعشرين ومئتين حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نحفر الخندق، وننقل التراب على أكتافنا: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " مختصر. وهذا الحديث من أعلى ما أرويه، نسأل الله حالاً يرضاها ونرضاها، إنه سميع الدعاء، فعّالٌ لما يشاء، وله الحمد والمنّة. كتبه محمد القوبع ليلة التاسع والعشرين من رجب سنة ذ ك ج. وأنشدني لنفسه إجازة، ومن خطه نقلت: جوى يتلظّى في الفؤاد استعارُهُ ... ودمعٌ هتونٌ لا يكفّ انهماره يحاول هذا بَردَ ذاك بصوبه ... وليس بماء العين تطفأ ناره وُلوعاً بمن حاز الجمال بأسره ... فحاز الفؤاد المستهام إسارُه كلِفْتُ به بَدريّ ما فوق طوقه ... ودعصيّ ما يثني عليه إزاره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 غزال له صدري كناسٌ ومرتع ... ومن حب قلبي شيحه وعراره من السُمر عُدمي الصبر أحمر خده ... إذا ما بدا ياقوته ونضاره جرى سابحاً ماء الشباب بروضه ... فأزهر فيه وردُه وبهارُه يشبّ ضراماً في حشاي نعيمه ... فيبدو بأنفاس الصعاد شراره وينثر دمعي منه نظم مؤشر ... كنور الأقاحي حفّه جُلّناره يُعَلّ بعَذْبٍ من برود رضابه ... تفاوح منه مسكه وعقاره وسهد أجفاني بوسنان أدعجٍ ... يحيّر فكري غنجه واحوراره حكاني ضعفاً أو حكى منه موثقاً ... وخصراً نحيلاً عال صبري اختصاره معنىً بردف لا ينوء بثقله ... فيا شدَّ ما يلقى من الجار جاره على أنّ ذا مُثرٍ وذلك معسِرٌ ... ومن محنتي إعساره ويساره تألّف من هذا وذا غُصنُ بانة ... توافت به أزهاره وثماره تجمّع فيه كلُ حُسن مُفرّق ... فصار له قطباً عليه مداره زلال ولكنْ أين مني وروده ... وكدْنٌ ولكن أين مني اهتصاره وسَلسال راحٍ صدّعني كأسه ... وغودر عندي سكرُه وخماره وبدر تمام مشرق الضوء باهرٌ ... لأفقي منه مَحْقُه وسراره دنا ونأى فالدارُ غيرُ بعيدة ... ولكنّ بُعْداً صدُّه ونفاره وحين درى إن شد أسري حبُّه ... أحلّ بي البلوى وساء اقتداره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 ومنها: حكت ليلتي من فقدي النوم يومها ... كما قد حكى ليلي ظلاماً نهاره كتمت الهوى لكنْ بدمعي وزفرتي ... وسقمي تساوى سرُّه وجهاره ثلاث سجلات عليّ بأنني ... أمام غرام قلّ فيك استتاره أورّي بنظمي في العذار وتارةً ... بمن إن تفنّى القرط أصفى سواره وجلّ الذي أهوى عن الحلي زينة ... ولما يقارب أن يدب عذاره أراحةَ نفسي كيف صرت عذابها ... وجنة قلبي كيف منك استعاره ونقلت منه يمدح الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: ولو غيرُ الزمان يكون قرني ... للاقى الحتف من ليثٍ جريّ تحاماه الكماة إذا ادلهمّت ... دُجى الهبوات في ضنك حميّ وطبّقتِ الفضاء فلا ضياء ... سوى لمعان أبيض مشرفيّ وأرمدتِ العيون وكل طرف ... عمٍ إلا لأسمر سمهري بحيثُ عبابُ بحر الموت يرمي ... بموج من بنات الأعوجي عليها كل أروع هبرزيّ ... يغالب كل أغلب شمّري تراه يرى الظُّبى ثغراً شنيباً ... من الإفرند في ظَلْم شهيّ ويعتقد الرماح قدود هيفٍ ... فيمنحها معانقة الهديّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 هنالك ترى الفتى القرشي يحمي ... حماة المجد والحسب السنيّ وتعلم أن أصلاً هاشمياً ... تفرع بالنضار الجعفريّ ولو أن الجعافرة استبدّت ... به يمنى الهُمام القوبعي منها في المديح: الى صدر الأئمة باتّفاق ... وقدوةِ كل حَبْر ألمعيّ ومَن بالاجتهاد غدا فريداً ... وحاز الفضل بالقدح العليّ وما هو والقداح وذاك تخت ... وهذا نال بالسقي الرضيّ صَبا للعلم صبّاً في صباه ... فأعْلِ بهمّة الصبّ الصبي فأتقن والشبابُ له لباسٌ ... أدلة مالكٍ والشافعي منها: ونور جلالة يرتدّ عنه ... رسول الطرف بالحسن العيي ومن كثرت صلاة الليل منه ... سيحسن وجهه قول النبي منها: بعدْلٍ عمّ أصناف البرايا ... تساوى فيه دان بالقصيّ ضممتَ ندىً وجوداً حاتمياً ... الى رأي وحلم أحتفيّ لديك دعائم المجد استقرت ... فحط بنو الرضى ملقى العصيّ بحيث طوامح الآمال مهما ... رمت لم تُخطِ شاكلة الرميّ أيا قمر الفهوم إذا ادْلهمّت ... دُجى الإشكال في غوص خفيّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 وسحبان المقالة حين يلفى ... بليغ القول كالفَهّ العييّ لكم أبديت من معنىً بديع ... يروق بحلة اللفظ البهيّ فأقسم ما الرياض حنا عليه ... ملثّ القطر هطّال الجيّ فألبسها المزخرف والموشّى ... حيا الوسْميّ منه أو الوليّ وأضحك نبتها ثغر الأقاحي ... فما نظم الجمان اللؤلؤي وعطّر جوّها بشذى أريج ... من المسك الفتيق التُبتي فلاحت كالخرائد يزدهيها ... حليّ الحسن أو حسن الحليّ بأبهج من كلامك حين تفتي ... سؤالاً بالبديهِ أو الرويّ وأنشدني لنفسه إجازة: تأمّل صحيفات الوجود فإنها ... من الجانب السامي إليك رسائلُ وقد خُط فيها إن تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ محمد بن محمد بن علي ابن وهب بن مطيع، كمال الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد القشيري، تقدّم ذكرُ والده وجماعةٌ من إخوته. كان يحفظ القرآن ويتلوه كثيراً، وكرّر على مختصر مسلم للمنذري، وربما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 قيل: إنه حفظه. وسمع من المنذري، ومن النجيب عبد اللطيف والعز الحرانيين، وجماعة. قال كمال الدين الأدفوي: أخبرت أنه كرر على الوجيز، وجلس بالوراقين بالقاهرة، ودرّس بالمدرسة النجيبية بقوص، إلا أنه خالط أهل السفه، والخلطة لها تأثير، فخرج عن حدّه، وترك طرائق أبيه وجده. ولما ولي أبوه القضاء أقامه من السوق وألحقه بأهل الفسوق، قال: هكذا أخبرني جماعة من أهله وغيرهم. وكان قوي النفس، بلغني أن وكيل بيت المال مجد الدين عيسى بن الخشاب رسم للشهود أن يكتبوا شيئاً يتعلق ببيت المال إلا بإذنه، فجاءته ورقة فيها خط كمال الدين ابن الشيخ، فطلبه، فقال له: ما سمعت ما رسمت به؟ فقال: نعم، فقال: كيف كتبت؟ قال: جاء مرسوم أقوى من مرسومك وأشدّ. قال: السلطان؟ قال: لا. قال: فمن رسم؟ قال: جاء مرسوم الفقراء، أصبحت فقيراً ما أملك شيئاً، وجاءتني ورقة أخذت فيها خمسة عشر درهماً فتبسم. وقال: لا تَعُد. قال: وحكى لي بعض أصحابنا قال: حضرنا وهو معنا عند الشيخ عبد الغفار بن نوح، وكان الشيخ عبد الغفار كبير الصورة بقوص، يأتي إليه الولاة والقضاة والأعيان، وكان يمد رجليه في بعض الأوقات ويدّعي احتياجاً لذلك. فمد رجله ذلك اليوم فأخذ الكمال مروحة وضربه على رجله وقال: ضمّها بلا قلة أدب. وكان كثير الصدقة مع الفاقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة بالقاهرة. محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك الشيخ شمس الدين ابن العلامة الشيخ جمال الدين بن مالك الجيّاني. كان شيخاً حسناً، بهيّ المنظر، أحمر الوجه، منوّر الشيبة، كثير التلاوة والتلقين، لازم الجامع الأموي أكثر من أربعين سنة، وله خزانة وبيت بالمئذنة الشرقية. سمع جزء الأنصاري بقراءة ابن جعوان على بعض الشيوخ، ولم يحدث. رأيته غير مرة بالجامع، وكان يسأل الطلبة، فإذا قال له أحدهم: قرأت ألفية ابن مالك، يقول: ألفية والدي، ويفرح. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة. محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك الشيخ جمال الدين ابن العلامة ابن مالك، أخو شمس الدين المذكور أولاً. كان مقيماً بالقاهرة. سمع من ابن البخاري الجزء الذي كتبه له عمّه الحافظ ضياء الدين من المسند والغيلانيات ولم يحدث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 وله نظم. وكان حسن الأخلاق جميل الهيئة، باشر بعض الجهات ولما توفي خلّف جملة. وتوفي بالقاهرة عاشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. محمد بن محمد بن عبد الرحمن البليغ الفصيح الصدر الرئيس بدر الدين أبو عبد الله الخطيب بالجامع الأموي بدمشق ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني. كان وافر الحشمة، ظاهر النعمة، جميل البزة، نبيل الوجاهة والعزة، كثير التجمل، غزير التحمل، سافر الوضاءة، غامر الوجه بالإضاءة، إذا رقا منبره أو توقل صهوته وأظهر من وجهه مضمره قال الناس: أترى ضمّ خطيباً أم ترى ضمّخ طيباً، وكان يؤدي الخطبة فصيحاً، ويوردها إيراداً مليحاً. وكان في كل عام يتوجه الى الديار المصرية يزور والده ويكيد بذلك ضده وحاسده، فيقيم هناك مدة، ويقضي له وللناس أشغالاً عدة، ويلبس هناك تشريفاً، وفي دمشق إذا عاد مثله، ويسرّ بذلك قبيلة وأهله: وأسعدُ الناس من لاقى بلا تعبٍ ... مبدا السعادة في مبدا شبيبته ولم يزل بدرُه في مطالع سعوده ومعارج صعوده الى أن خُسِف في تمامه، وتجرع كؤوس حِمامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة اثنين وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر الصوفية، وقد كمّل الأربعين أو تجاوزها قليلاً. وكان قد خطب في حياة والده قبل أن يلي القضاء وفي حياة المشايخ الكبار مثل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني والشيخ برهان الدين بن تاج الدين والشيخ تقي الدين بن تيمية. ولما طُلب والده الى مصر وتولى قضاء القضاة بالشام استقل هو بالخطابة فيما أظن، ولما طُلب والده ثانياً لقضاء الديار المصرية بقي هو في الوظيفة. وكان في كل سنة يتوجه على البريد الى مصر ويحضر عند السلطان ويلبس تشريفاً ويقيم عند والده مدة ثم يعود الى دمشق على البريد، وكانت له بذلك وجاهة زائدة وصيت بعيد، وقضى سعادة وافرة. ولما عاد والده الى قضاء الشام ناب والده في الحكم، وكان قد أتقن الخطابة وانصقلت عبارته وتلفظ بها فصيحاً، وقرأ في المحراب قراءة حسنة طيبة النغم. ولما توفي والده توهّم أن يلي المنصب فما اتفق له ذلك وانعكست آماله ونقض حبل سعده وتعكّس، وكلما حاول أمراً أدبر ولم ينجب فيه. وطُلب الى مصر بوساطة الفخري ونزل عنده في القلعة، وأقام تقدير أربعة أشهر وعاد وقد أكمده الحزن، فأقام أياماً قليلة، ومات رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 ولما توجه الى مصر بعد وفاة والده رحمهما الله تعالى كتبت أنا له توقيعاً بأن يستنيب في وظائفه من يراه الى أن يعود، ونسخته: أما بعد حمد الله الذي سيّر البدر في منازل سعوده، وأثمر رجاه الذي أنجب لصدق باطنه وظاهره عند غرس عوده، ورقاه الى درجات الكمال من إنجاز وعوده، وبلّغه أمانيه التي جاءت بها الأقدار على وفق غرضه واقتراح مقصوده. وصلاته على سيدنا محمد الذي أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ونوّله من الكرامات ما لا يحصر لفضله ولا يحصى، وعلى آله وصحبه الذين لم يرَ عدوّ الدين في كمالهم نقصا، ولم يكن فيهم من يخالف له مفهوم أمر ولا نصّا، صلاة يتألق برقها في سماء الرحمة، ويترقرق ودقُها في نماء النعمة ما نسخت آية النور آية الظلمة، وأضرم الشفق جمرته من الغسق في فحمة، وسلامه الى يوم الدين. فإنه لما كان الجناب الكريم العالي البدري له على الأبواب الشريفة في كل حين وفادة، وفاز من حسن النظر الشريف في كل أوان من الإنعام بإفاءة وإفادة، وخطر في برود الوقار بين أغصان السيادة، وتجمّل بملابس العلم الشريف مطرّزة برقوم السعادة، واتّصف بمكارم ارتجال معانيها لا يبادى ولا يباده، واقتفى سنن والده، وكان أفضل من سعى ومن برّ، ورقى بأهبة الخطابة درج منبره فكان بدراً بدا في سحابة عنبر، وأسال الدموع بمواعظه الصادقة الصادعة، وأذاب القلوب بحكمه النافذة النافعة، وناب في الأحكام وفصل القضايا المعضلة، وألقى الدروس، فجلا دياجي المسائل المشكلة، وجلس في المحافل فكانت تفاصيل الرياسة فيه مُجمَلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وتصدّر في المجالس فما شك أحدٌ في أن هذا البدر أولى بهذه المنزلة، وطُلب الآن الى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، فأعمل الى الأبواب الشريفة ركابه وأحمدَ غُدوَّه إليها وإيابه، وسيكون قدومه عليها مقروناً بالنجح المبين، ومقول سعادته " ادخُلوا مصر إن شاء الله آمنين ".وكان لابد لوظائفه المباركة من يسدّ فيها غيبته، ويقوم فيها إلى أن يقدر الله أوبته. فلذلك رسم بالأمر العالي أن يستنيب عنه في الخطابة الشريفة وغيراها مما هو به معذوق ومنوط بمباشرته من يراه أهلاً لذلك، ويعتقد أنه في هذه الجادة خير سالك الى أن يعود بدراً منيراً وينقلب الى أهله مسروراً، والله تعالى يقدّر له السعود حيثما توجّه، ويجعل النجح قرينه في كل سبيل سلك فجّه، والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى. محمد بن محمد الأمير الفاضل سيف الدين أبو بكر بن صلاح الدين أبي الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. كان فقيهاً فاضلاً، وله شعر، مدح الخليفة والسلطان وقاضي القضاة ابن صصرى والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وأجابه عنها ابن الزملكاني، وأقام بحماة مدة، وحضر المدارس معيداً، ثم إنه عاد الى دمشق وأقام بها. وسمع على الفاروثي وغيره. وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 محمد بن محمد بن عبد المنعم القاضي البليغ الكاتب الناظم الناثر تاج الدين أبو سعد السعدي المعروف بابن البرنباري. كان كاتباً مطيعاً ومترسّلاً منطقياً، خطه أنهج من الروضة الغنّاء وأخلب للقلب من الحدقة الوسنا. كتب الرقاع والتوقيعات والثّلث من أحسن ما يكون، وكان لبقاً في كتابته وفي الحركات والسكون، وكان خبيراً بمصطلح الديوان وبما يكتبه الى الملوك من صاحب التخت والإيوان، وكان يكتب من رأس القلم، ويأتي في كتبه وتواقيعه بما ينسي نسمات الضال والسلم: جرى معه الجارون حتى إذا انتهوا ... الى الغاية القصوى جرى وأقاموا فليس لشمسٍ مذ أنار إنارة ... وليس لبدر حيث تمّ تمامُ فهو كان أحد الكتاب الكلمة الذين رأيتهم وبعتهم في الاختيار وشريتهم، وخبرتهم وذخرتهم وقرأتهم، والى مآدب هذه الصناعة دعوتهم وقريتهم. ولم يزل الى أن توجه الى القدس ليزور ويستنتج أم الحظ وهي مِقلاتٌ نزور. فهناك وافاه حمامه، وبكاه من الفضل غمامه، وناح عليه حمامُه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة. وكتب الإنشاء في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ولم يزل من أعيان كتاب الإنشاء، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يستكتبه في البريد، ولم يزل في القاهرة في جملة كتاب الإنشاء الى أن توفي القاضي بهاء الدين أبو بكر بن غانم صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، فرسم له السلطان الملك الناصر محمد بأن يتوجه مكانه، فتوجه الى طرابلس ونائبها يومئذ الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فرأس هناك، وعمل الوظيفة هناك على القالب الجائر، وداخل النوّاب، وصار هو عبارة عن الدولة. وفي سنة خمس وأربعين وسبع مئة كان في الشتاء نائماً هو وأولاده، فجاء سيل عظيم، وكانت داره على النهر، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر وعاد فلم يجد داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت الى البحر. وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النائب وتوجهوا الى البحر الى أن طلع الضوء وقذف الموج ولديه وهما ميتان، فأخذوهما وعمّر لهما تربة عظيمة هناك. وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر. وأما هو فإنه داخله هلعٌ عظيم واختلط عقله، وبعث الى مصر يسأل الإعفاء والإقالة، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، فكتبت لولده شرف الدين عبد الوهاب توقيعاً، ونسخته: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي، لازال يجبر بفضله مَن أصيب، ويغمر بإحسانه من فقد الدار والحبيب، ويعمر برفده من مُني من خطب الأيام بأوفر نصيب أن يرتب المجلس السامي القاضي شرف الدين في كذا جبراً لأبيه المصاب في غُصنيه اليانعين، وحصنيه المانعين، وبدريه الطالعين ونسريه الطائرين بجناح حياته، فأصبحا في حبائل الردى واقعين، وسرّيه المخبوءين في سواد عينه، وإن كانا بالثناء ضائعين. فليباشر ذلك مباشرة أُلفت من بيته، وأجرت فارسَ بلاغتهم من طرسه ونقسه على أشهبه وكميته، مقتدياً بطريق أبيه، فهي طريقة مثلى، وحقيقة تُدرس أماليها وتُملى، وحديقة غرائس بنانها تجلّى محاسنها وتجلى، وعريقة في فن الكتابة التي يُفرغ عليها كيس الثناء حين يُملى، لأنه درة تاجه، وقرّة تخلف على أبيه ماضي سروره وابتهاجه، وغرة يُزان بها الفجر عند انصداعه وانبلاجه، مجتهداً في تحرير ما يكتبه وتقرير ما يرْقمه ويهذّبه، حتى تكون روضات الطروس مدبّجة بأزهار كلماته وتسجيعه، وترى وجنات هوامش القصص مطرزة بغدار توقيعه، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك ما نأمره باتّباعه، وأسلاك الدرر التي يؤم غيثها في انتجاعه، فلا يألف إلا حماها، ولا يرشف إلا لماها، والخط الكريم أعلاه الله وشرّفه أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه إن شاء الله تعالى. وكان القاضي تاج الدين قد أقام بعد ذلك بطرابلس على حاله الى أن تولى نيابة طرابلس الأمير سيف الدين بيدمر البدري في أوائل سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فعُزل من كتابة سرِّ طرابلس، وطالبه الناس بحقوق، فأقام هناك الى أن خرج منها وحضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 الى دمشق في أواخر السنة المذكورة، وأقام بدمشق مدة، ثم توجه الى القاهرة وأقام بها مدة، الى أن رُتّب موقّعاً في الدست بدمشق، فحضر إليها في شهر رجب، فيما أظن سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القدس، وتوفي في يومين في التاريخ. وكنت أنا قد كتبت إليه بعد خروجي من مصر متوجهاً الى الرحبة كاتب الدّرج: لما أتيت دِمشقاً بعد مصر وفي ... عطفيَّ منك بقايا الفضل للراجي عُظِّمتُ من أجل مولانا وصحبته ... وقيل هذا بمصر صاحبُ التاج وينهي بعد رفع الدعاء، وحمل لواء الولاء، وإشادة بناء الثناء، أن المملوك سطّرها وشوقُه قد ضاقت به الرحبة، وأغار على مثاقيل الصّبر فما ترك عند حبّة القلب حبة، وذكّره الأيام السالفة، حتى عاد نسيبه بها أعظم نسبه: كأني لم أكن في مصرَ يوماً ... قطعْتُ به الوصال مع الأحبه ونلتُ القرب من سادات دَسْتٍ ... محلّهم علا كيوانَ رُتبه إذا عانيت في الإنشا حُلاهم ... تراهم بالنجوم الزهر أشبه وإن سابقتهم علماً وفضلاً ... فأنت إذا نطقت سُكَيْتَ حلبه فما ابن الصيرفي إذا أتاهم ... يُساوي عندهم في الفضل حبّه خصوصاً تاجهم سقي الغوادي ... محلٌّ ضمّه واخضلّ تُربه إذا أخذ اليراع فليس بين ال ... طروس وبين زهر الروض نسبه وإن نطق استبان المرءُ منه ... محاسن تستبي في الحال لُبَّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 وليس الملك محتاجاً الى أن ... يُعدّ كتائباً إن عدّ كتبه له الفضلان في نظم ونثر ... إذا ما جال في شعر وخطبه أيا مولاي عفواً عن محبّ ... تهجّم فالبعاد أذاب قلبه بعثتُ بها إليك عسى تراها ... على بعد من المملوك قربه فكتب هو الجواب: شكراً لغرس بروض الفضل قد نبتا ... وودّه في صميم القلب قد ثبتا أهدى إليّ كتاباً كنت أرقُبُه ... أزال عني من عيث النوى العَنَتا مباركاً جاء بالحسنى فأحْسنَ لي ... وكيف لا وهو من عند الخليل أتى لا زالت ألفاظه حلية الممالك، وودّه في النفوس ثابتاً وللقلوب خير مالك، ومنزله من فضل الله رحيب الساحات معموراً بالسماحات في رحبة مالك، وينهي ورود مشرّف سمح ببيانه، ونفح بعرفانه، وجنح الى عوائد إحسانه ولمح أشرف المعاني بإنسانه، وربح إذا بدا بفصل خطابه وفضل بنانه، أبى الله إلا أن يكون له الفضل في ابتدائه، والفوز بسبق تحيته وإنشائه، فقبّله المملوك تقبيلاً، وفضّه فإذا البيان جاء معه كان قَبيلا، ورأى أدباً غضاً، ونظماً ونثراً فاقا مَن سلفَ عصرَه وتقضّى. ولقد ذكر مولانا بأوقات قُربه، على أن المملوك ما زال يذكرها، وأقرّ عيناً ما برحت تشهد محاسنه وتنظرها: أبلغ أخانا أدام الله نعمته ... أني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 ولقد تجمّلت بمولانا جهة تصدّر أخبارها بأقلامه، وتصْدر مهماتها بمتين كلامه، ويبدو صلاحُها بألفاظه التي هي كالزُلال في رقته والدُرّ في نظامه، فبسط الله ظلال مَن أمتع هذه المملكة بمولانا، وسيّر ركابه إليها، وطالما أولاه الخير وأولانا، قد شمل البعيد والقريب بفضله، وعمّر مصر بسؤدده، وغمر الشام بفضله: كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... كرماً ويبعث للبعيد سحائبا ثم يعود المملوك الى وصف محاسن مولانا التي مكنت في القلب حُبّه، وأرضت بالود مملوكه وتِربه، وشيّدت له في الأفئدة أعظم رتبة: أتتنا من ودادك خيرُ هبّه ... فنعّمَ طيبها عيش الأحبه وزارتنا على نأيٍ فأهدت ... لنا أنساً به أنسي تنبّه تذكّرني بزورتها ائتلافاً ... ووقتاً طالما مُتّعت قربه نأى عن مصر من مولاي أُنسٌ ... فألْفى بعدها رحباً ورحْبَه للفظك في الطروس عُقودُ معنى ... بها دُرُّ الترائب قد تشبّه وخطك لم يزل درّاً ثميناً ... له بالجوهر الشفّاف نسبه بنانكَ منبر يرقى عليه ... يراعٌ كم لها في الطرس خطبه خطبت من المعاني كلَّ بكر ... فلبّت بالإجابة خير خطبه كأنك قد رقيت الأفق عَفوا ... فأعطى طرسُك الميمون شُهبه فدُمت معظّماً في كل أرضٍ ... تنال من السعود أجلَّ رُتْبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وكتب هو إليّ ونحن بالمخيم السلطاني على طَنان ملغزاً: يا مبدعاً في النظم والنثر ... وفاضلاً في علمه يُثْري ومودعاً مُهرقه كل ما ... يُزري بحسن الدرّ والتبر إن أُحكمت ألفاظُه أصبحت ... قواطعاً تربي على البُتْر ما صامتٌ تنطق أفضالُه ... وكاتمٌ للسرّ في الصدر تصلحُه الراحةُ لكنه ... يُتعب في الطيّ وفي النشر قد أشبه البيض ولكنه ... يحتاج يا ذا الفضل للسمر تفرّق الليل بأرجائه ... كأنه وصلٌ على هجر يسير عن أوطانه دائماً ... للنفع في البر وفي البحر إذا كان يوماً ضيف قومٍ غدا ... يقري وخير الناس من يقري فهات لي عنه جواباً كما ... عوّدتني يا عالي القدر فحللته في كتاب وكتبت الجواب: أروضةٌ تبسم عن زهر ... أم أكؤسٌ دارت من الخمر أم نظم مولانا فإني الذي ... أعدّه من جُملة السِّحر إذ كلُ حرف منك شمسٌ وإن ... سامَحتَ قلت الكوكبُ الدرّي يا فاضلاً ما مُشتهى نظمه ... في الناس إلا قطعُ الزهر وكاتباً أصبح من خطهِ ... يغني عن الخطيّة السُمر حلَلْتُ ما ألغزته في الذي ... تجلوه لي في حبر الحِبْر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 ما فاه بالنطق ولكنه ... له فنون النظم والنثر يُخبرنا عما مضى وانقضى ... وما جرى في سالف الدهر لا يكذب القول إذا ما ورى ... فقد حكى صدق أبي ذرّ وعنده للحسن ديباجة ... سبيهة بالليل والفجر ذُرَّتْ على كافوره مِسكةٌ ... ليس لها نشرٌ مع النشر كم أقسم الباري به مرةً ... مرّت لنا في محكم الذكر يا حسن ما قد قلت يقري وهل ... تعرف في الأيام من يقري وما قراه غير سمع الذي ... يبُثُّه باللبّ والفكر هذا جوابٌ إن تكن راضياً ... به فيا عزي ويا فخري وإن أكن أخطأت في حله ... فابسط على ما اعتدته عُذري لا زلتَ ترقى صاعداً في العُلا ... الى محلّ الأنجم الزهر وكتبت أنا إليه عقيب ذلك: بلّغك الله الأماني فقد ... أطربني لغزك لمّا أتى يحلو إذا كرّرت إنشاده ... وكيف لا يحلو وفيه كتا وكتب إليّ أيضاً ونحن بالمخيم على المنوفية: طرُق الصواب بك استبان سبيلها ... وبك استقام على السواء دليلها كم خلّةٍ محمودة أوتيتَها ... في المكرمات وأنت أنت خليلها ما مُلغَزٌ الفاءُ منه كلامه ... وحروفه ما شانهن قليلها لا شيء تحجبه وكم من دونه ... من حاجب فعُلاه ثم أثيلُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 إن طال مُلّ وخيره يا صاح ما ... قد طال والنعماء طاب طويلها وإذا أهلَّ الوفد من ميقاتهم ... طُويت غمامته وزال طليلها كم أوضحوا مزقاً فأخفاه ومع ... هذا إبانته دنا تعجيلها ومحلّه كمحلّ مولانا غَدا ... يسمو فرفعته رسا تأصيلها فاحلله لا برحت يراعك كالظبى ... فصريرها منه يمدّ صليلها فحللته في شاش وكتبت الجواب: جاءت تُدار على النفوس شمولها ... وتُجرُّ من فوق الرياض ذيولها أبياتك الغُرّ التي أبدعتها ... تُطوى على جُمل الجمال فُصولها ويسير في الآفاق ذكرك لي بها ... وتهبّ بالإقبال منك قبولها قد ألغزت لي في مسمى واحد ... وله مقادير تفاوتَ طولها كغمامة ترخى على ليل الشبا ... ب الغضّ أو صبح المشيب فضولها لا يستحيل إذا قلَبْتَ حروفه ... بالعكس بل يبقى لها مدلولها وحروفه بيتٌ وباقي لفظه ... آس على التصحيف رُحت أقولها هذا الجواب وغاية الفضل التي ... قد نلتها في النظم لست أطولها فلك النجوم تسير في فلك العلا ... ما شانها بعد الطلوع أفولها وكتب هو إليّ عقيب ذلك: المسك منك ختام ... وراحتاك غمام الخطّ روض نديم ... واللفظ حلو مدام والسحرُ قولك لكنْ ... السحر أمرٌ حرام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 أجبتني عن معمّىً ... بسرعة لا تُرام في القلب حُبُّك ثاو ... له أقام غرام فأنت حقاً خليلٌ ... على الخليل السلام فكتبت أنا الجواب إليه: أجوهرٌ أم كلام ... وقهوة أم نظام أم البدورُ تجلّت ... فانجاب عنها الظلام أم الحدائق وشّى ... منها البرود غمام غُصونُها ألفاتٌ ... والهمز فيها حمام أشبّه السطر كاساً ... فيها المعالي مُدام أو أعيناً فاتنات ... يصبو لها المستهام وحشوها السحر بادٍ ... ولا أقول السقام أقلامك الحمر فيها ... للنائبات سهام كم قد أصابت لمرمى ... ولم يفُتْها مرام أثنت عليك المعاني ... والكاتبون الكرام وقلّدتك المعالي ... إذ أنت فينا إمام فأنت أشرف تاج ... في فضله لا يرام له على كل رأسٍ ... فاءٌ وصادٌ ولام فكتب هو الجواب أيضاً: ألفاظك الغرّ أضحت ... بُروقهنّ تشام لأجل ذلك سحّت ... من سحبهن ركام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 فاحبس سيولك إن ال ... بيوت هذي الخيام مصرٌ بها قد تحلّت ... كما تحلى الشآم عنها يقصر قسٌ ... والسالفون الكرام أمثالها سائرات ... وما لهن مقام بدورها طالعاتٌ ... لها التمام لزام وفي العشيّ أتتني ... منها وجوه وسام تُعزى الى العُرْب لما ... يُرعى لديها الذمام لها العيون عيونٌ ... والنون فيها لثام فكنّ خير سمير ... حتى تجلّى الظلام وكلما دار دورٌ ... من خمرها حاء جام هذا جواب جوابٍ ... قد كلّ منه الكلام فاستر له كل عاب ... إذ أنت فينا إمام محمد بن محمد بن عبد الله بن صغير ناصر الدين، الطبيب المصري. قرأ الطب والحكمة على والده، والأدب على الشيخ علاء الدين القونوي. كان فيه ظرف الأدباء، ولطف الحكماء، وخلاعة أهل مصر، وبضاعة تنفق عند أهل كل عصر، لا يطبّ إلا أصحابه، أو بيتَ السلطان وأربابه. وهو من بيت كلهم أطباء، وفضلاء ألبّاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وكان ظريف العشرة، دمث الأخلاق، ولا ينصبُّ إلا الى المجون وفيه يَشره، وكان يلعب بالعود لأناس يختص بهم، ويتوفر على قربهم. ولم يزل على حاله الى أن لم تجد حيلة البرء فيه خيلة، وراح والأبصار على فقده كليلة. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وسألته عن مولده فقال لي: في سنة إحدى وتسعين وست مئة. وكان من أطباء السلطان، وتوجه معه الى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وحضر من القاهرة الى دمشق متوجهاً على البريد لمداواة الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب فما لحقه إلا وقد تمكّن منه المرض، فعاد ناصر الدين المذكور الى دمشق وقد تغيّر مزاجه من حماة. فأقام في دمشق يمرّض في مدرسة الدنيسري قريباً من خمسين يوماً. وكان رحمه الله تعالى رزقه قليل، لمتُه يوماً وقلت له: يا مولى ناصر الدين، لو جلست في دكان عطار وعالجت الناس لدخلك كل يوم أربعون خمسون درهماً. فقال: يا مولانا هؤلاء نساء القاهرة إن لم يكن الطبيب يهودياً شيخاً مائل الرقبة، سائل اللعاب وإلا فما لهنّ إقبال عليه. قلت: يريد بذلك السديد الدمياطي لأنه بهذه الصفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 أخبرني من لفظه القاضي الفاضل فخر الدين عبد الوهاب كاتبُ الدرج، قال: دخل يوماً ناصر الدين بن صغير الى الطهارة، فعلم برجله شيء من القاذورات، فكتبت إليه والشيء بالشيء يذكر: توجه سيدي بالأمس مخضّب القدم من هَيولاه، ذا مّا من محله المعمور لما منه يولاه، وما كان في حقه في أمسه تكدير نفسه، ولكل شيء آفة من جنسه، هذه مسألة علكها أكبر لحيين، واشتغل بها اشتغال ذات النحيين، وأظنه قبل قدمه، فخرج على تلك الصورة أو بعض أجزائه، خلع صورة ولبس صورة: فتى غير محجوب الندى عن صديقه ... ولا يُظهر الشكوى إذا النّعل زلّت على أنه أكثر منه محافظة ووداً، وأرعى ذمة وعهداً. كم أحرقته نار وجد من أوطانه وأزعجته من مكانه، وهو لا يضمر إلا حباً، ولا يطلب منك إلا قرباً: لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينةٍ واحده وأخبرني قال: كتبت إليه ونحن بسرياقوس في أيام الطاعون بمصر: أظن الناس بالآثام باؤوا ... وكان جزاؤهم هذا الوباء أسيّد من له قانون علم ... بحيلة برئه يرجى الشفاء أآجال الورى متقاربات ... بهذا الفضل أم فسد الهواء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 أم الأفلاك أوجبت اتصالاً ... به في الناس قد عاث الفناء أم استعداد أمزجه جفاها ... جميل الطب واختلف الغذاء أم اقتربت على ما تقتضيه ... عقيدتنا فللزمن انتهاء أفِدنا ما حقيقة ما تراه ... فما الأذهان أحرفها سواء وقلْ ما صحّ عندك من يقين ... بحقٍ لا يعارضُه رياء فإني غير مفش سرَّ حَبْرٍ ... من المُتشرّعين به حياء ولا تخلى الأحبة من دعاء ... فمنك اليوم يلتمسُ الدعاء محمد بن محمد بن علي بن أبي طاهر القاضي شمس الدين بن جلال الدين الموسوي الحسيني المعروف بقاضي ملطية. كان خطيباً بملطية مدة، ثم جمع له بين القضاء والخطابة بملطيّة مدة أخرى. ولما حضر الى دمشق بعد فتح ملطية ولي تدريس الخاتونية ظاهر دمشق. واستمر بها الى أن مات في حادي عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعمره ستون سنة. وحجّ من دمشق، وكان قاضي الركب. وكان عنده حظّ من الأدب، وفيه مشاركة وله شعرٌ، وتولى مكانه القاضي بدر الدين محمد بن الفويرة. محمد بن محمد بن عثمان ابن عبد الخالق بن حسن، القاضي الفقيه الإمام العالم المقرئ المحدّث الأديب، فخر الدين أبو عبد الله القرشي المصري الشافعي المعروف بابن المعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 سمع من ابن علان، وابن عبد الهادي القيسي، وجماعة. وحدّث، وقرأ القراءات، وحفظ المقامات. وكان فاضلاً، له نظمٌ ونثر. كان يشهر بمصر على باب الجامع، ثم تولى قضاء بلد الخليل عليه السلام. ولي قضاء أذرعات، ثم صرف عنها. وولي إعادة الباذرائية الى أن توفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ستين وست مئة. وفيه سخاء وكرم، وله مصنفات. محمد بن محمد بن عيسى بن نجّام ابن نجدة بن معتوق الشيباني النصيبي ثم القوصي، الأديب الشاعر الفاضل المحدّث. سمع العز الحرّاني، ومحمد بن الحسين الخليلي، وإسماعيل بن علي بن هبة الله بن علي بن المليجي وغيرهم. وحدث بالبخاري بقص. وكان له مشاركة في النحو واللغة والتاريخ والبديع والعروض والقوافي. كثير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 المروّة، ظاهر الفتوة، طريفاً لطيفاً خفيفاً، له قدرة على ارتجال الحكاية المطوّلة والشعر، سريع النادرة، قال كمال الدين جعفر الأدفوي: شعره في ثلاثة مجلدات، وكان رزق منه، يمدح القضاة والأمراء والأكابر والتجار. قال: لما جئت الى قوص وجدت بها الشيخ تقي الدين والشيخ جلال الدين الدشناوي فترددت إليهما، فقال لي كل منهما كلاماً انتفعت به، فأما الشيخ تقي الدين فقال لي: أنت رجلٌ فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته، فلا تهج أحداً. وأما الشيخ جلال الدين فقال لي: أنت رجل فاضل، ومن أهل الحديث، ومع ذلك فأشاهد عليك شيئاً، ما هو ببعيد أن يكون في عقيدتك شيء. وكنتُ متشيّعاً، فتبتُ من ذلك. وقال: كنتُ مرة عند ابن البصراوي الحاجب بقوص، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى درّة تقرأ سورة يس فقلت: وكان غرابٌ يقرأ سورة السجدة، فإذا جاء عند آية السجدة سجد، وقال: سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي. وتوفي رحمه الله بقوص سنة سبع وسبع مئة. ومن شعره: إذا ابتسمت من الغَور البروقُ ... تأوّه مغرم وبكى مشوقُ تذكّرني العقيق وأي صبٍ ... له صبرٌ إذا ذكر العقيق قلت: في هذا الثاني نظرٌ لا يخفى على مَن له ذوق. ومنه: تذكّر بالسّفح باناً وظلا ... فأجرى المدامع وبْلاً وطلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 يرجّي زماناً تولى يعود ... وليس يعود زمانٌ تولى كئيبٌ تحمّل ما لا يطيقُ ... له الصخر من ألم البين حملا يبيت يكابد آلامهُ ... وأسقامه وكما بات ظلا وضيّع أوقاته في عسى ... وماذا تفيد عسى أو لعلا ويشرب من ماء أجفانه ... على الظمأ البرْح نهلا وعلا ومنه: نعم هي دار من نهوى يقينا ... وما نخشاه ساكنها يقينا أنيخوا في معالمها المطايا ... فديتكم لنشكو ما لقينا ذكرنا حُلوَ عيشٍ مرّ فيها ... وما كنا له يوماً نسينا وكاسات المسرّة دائرات ... تحيينا شمالاً أو يمينا محمد بن محمد بن أحمد جلال الدين الكندي بن تاج الخطباء القوصي. قال كمال الدين الأدفوّي: سمع من الشيخ تقي الدين القشيري. وكان فقيهاً فاضلاً أديباً، له نظمٌ ونثرٌ وخطبٌ، وكان أمين الحُكم بقوص، وعاقد الأنكحة وفارضاً بين الزوجين، وكان يكتب خطاً حسناً لا يماثله أحدٌ بقوص. اجتمعت به كثيراً بقوص، ثم إنه أقام بغرب قُمولا، وتوفي بها سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وأورد له من شعره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 يا غاية منيتي ويا مقصودي ... قد صرتُ من السقام كالمفقود إنْ كان بدَتْ مني ذنوبٌ سلفت ... هبها لكريم عفوك المعهود وأورد له أيضاً: هل الى وصل عزّة من سبيل ... والى رشف ريقها السلسبيل غادةٌ جرّدت حسام المنايا ... مُصْلتاً من جفون طرف كحيل قد أصابت مقاتلي بسهام ... فوّقتها من جفنها المسبول أبرزت مبدعاً من الحسن يفدى ... بنفوس الورى بوجهٍ جميل وأورد له أيضاً: دعوى سلامة قلبي في الهوى عجبٌ ... وكيف يسلم من أودى به الوصَبُ أضحت سلامته منكم على خطر ... لا تسلموه ففي إسلامه نصَبُ شربت حبّكم صرفاً على ظمأ ... وكنت غرّاً بما تأتي به النوبُ لا يمنعنّكُم ما قال حاسدُنا ... عن الدنوّ فأقوال العِدا كذبُ محمد بن محمد المعروف بابن الجبَلي الفَرجوطي. كان له مشاركة في الفقه والفرائض، وله معرفة بالقراءات، وله أدبٌ وشعرٌ ومعرفة. يحل الألغاز والأحاجي. وكان ذكياً، جيّد الإدراك خفيف الروح، حسن الأخلاق، كفّ بصره في آخر عمره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به كثيراً، وأنشدني من شعره وألغازه. وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وأورد له: وشاعر يزعم من غرةٍ ... وفرْط جهل أنه يشعر يصنف الشعر ولكنه ... يحدّث من فيه ولا يشعر وأورد له في النبق: انظر الى النبق في الأغصان منتظماً ... والشمس قد أخذت تجلوه في القُضُب كأن صفرته للناظرين غَدَت ... تحكي خلاخل قد صيغت من الذهب محمد بن محمد الصدر الأصيل العَدل الرضي شرف الدين أبو عبد الله ابن العدل الرضي شرف الدين أبي عبد الله بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي. سمع صحيح مسلم من الرضي بن البرهان، وروى منه أربعين حديثاً، وله إجازة من عثمان ابن خطيب القرافة وعبد الله بن الخشوعي وجماعة. وكان من أعيان دمشق وأكابرها، وباشر وكالة السلطان مدة. وكانت حرمته وافرة وأخلاقه حسنة، وشهد في القيم مدة مع الأكابر، ثم إنه تركها مدة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثاني عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ومولده سابع عشري صفر سنة ست وأربعين وست مئة بدمشق. وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين محمود الى أولاده القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ومحيي الدين يعزيهم بما أنشدنيه لنفسه إجازة: لو سالم الدهر ذا مجدٍ لسؤدده ... ثنى عن الشرف العالي سُطا يده ولو تحامى الردى ذا مفخر وتقى ... ونائل كفّ كفّاً عن محمّده لكنه طالبٌ لا حصن منه فمن ... أرجاه في يومه فاجاه في غده ومنهل ما لحيٍ في الورى صدرٌ ... إلا عن الريّ من إثناء مَورده كم فضّ جمعاً وكم أخلى حمى شرف ... برغم أهليه من اثار سيّده فلا علوّ أخي فضل بعاصمه ... منه ولا مجد ذي مجد بمخلده فحقُّ من كان هذا الموت غايته ... بدء العزاء به من يوم مولده لله طودُ حجىً زانت خلائقه ... نجاده وأبانت طيب محتده حرٌ تقيٌ نقي طاهر ورع ... قد آمن الناس من فيه ومن يده عفّ السريرة لا يطوي على ذحل ... مَغيب من غاب عنه مثل مشهده سيّان ظاهره صفوٌ وباطنه ... بل ودّه المحض أجلى من تودّده مُغضٍ عن الناس لا يعنيه عيبهم ... مغرىً بمنزله فيهم ومسجده لله عهد مضى أيام تجمعنا ... عصر الصبا نَسقاً في سلك معهده وكلنا حافظٌ عهد الصفاء له ... شاء الوفاء يراعي حفظ موعده ففرقّ الدهر سهم البُعد ثم بَدا ... بخَيرنا فرماه عن تعمّده قضى ولم أقضِ من توديعه وطراً ... ولم أكن حاضراً ما بين عُوَّده فبات يخذلني صبري وينجدني ... دمعي وما خاذلٌ صبّاً كمنجده أخشى على ناظري دمعي فيكحلني ... تسهّدي من دجى ليلي بأثمده مضى وها أنا أقْفو إثْره والى ... كم يبطئ المرء أمسى دون مقصده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وما مضى من رقَتْ أبناؤه رتَباً ... لم يرقَها وعلوا عن أفقِ مصعده وساد منها عليّ ما وهى وعلا ... محمود في كل مجد فوقَ فرقده ثلاثة نظموا عقد العُلا فغَدا ... يختال في مجدهم لا في زبرجده أوصيتهم باصطبار لم أجده ففي ... حسن التبصّر تمهيد لمرقده فجاده صَوب رِضوان يَسحُّ إذا ... سحّ العِهاد عليه في تغمّده ولا خلا أفْقُ هذا البيت من شرفٍ ... تثني مفاخِره أبصارَ حُسّده يقبّل اليد العالية المولوية القضائية الجمالية، لا زالت جزيلة الثواب، جميلة المآب، غنيّة بما منحها الله من العلم عن الدلالة على الصواب، آمنة بحلاوة التلقّي لأمر الله بالعدول عن مراجعة التجرّع لصاب المصاب، وينهي أنه اتصل به ما قدّره الله من وفاة المولى السيد الوالد تعمّده الله برضوانه وبوّأه فسيح جنانه، فأجرى دموعه، ونفى هجوعه، وصدع قلبه، وأطار لبّه، وأطال ألَمه، وأطابَ عدمَه، وألزم الحصر لسانه، وألقى قلمه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، امتثالاً لأمره، وصبراً على حلو القضاء ومرّه، مات والله الصاحب الذي كان للمملوك يعقد على محبته الخناصر، ويستند من أخوّته الى نسبة صفاءٍ ثابتة الأواصر، ويأنس ببقائه، ويعلل نفسه بلقائه، فاجْتُثّ بوفاته أصلُ الوفا، وتكدّر بذهابه وِرد الصّفا، وذهب الودّ إلا باللسان، وتنكّرت بين المعارف وجوه الإحسان الحِسان، وعدمت الرّياسةُ راسَها وفي الرياسة أكثرها، وفقدت المعالي عينها فلم يبقَ إلا أثرُها، فلله تلك النفس ما كان لتقاها، وتلك الشيم ما كان أطهرها وأنقاها، وذلك اللسان ما كان أقدره على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 ملكه نطقه، وألهجه في المقال بحق صدقه، وذلك النظر ما كان أغضّه عن المحارم وأبصره بالمكارم، وأغضاه عن النقائص والمعايب، وأشبهه بسمعه عن الإصغاء الى المذامّ والمثالب، نضّر الله ذلك الوجه الكريم ولقّاه نُضرة النعيم وتقبّل أعماله، وبلّغه عند القدوم عليه من عَفوه سولَه، ومن رضاه آماله. والمملوك فقد تأهّب المحاب بإخوانه، ولم يخادع نفسه الحداد عند أوانه، وإذا تقدّم الرّفاق لم يبق إلا الرحيل على آثارهم، والاستقرار للنزول معهم في دارهم. فالله يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويجعلنا ممّن جعل الثبات عند الممات من فواتح فضله عليه ونعمته، على أنه ما فُقد من جمال بيته باق ببنيه في الوجود، ولا عدم من علاوة راقٍ بأولاده الى رتب القعود، ولا ذهب مَن لم تخل معاليه من ذي مقام محمود، فعمله الصالح ببقائهم متصل المواد، وثناؤه السائر بدوام ارتقائهم آخذ في الازدياد، والمملوك يقبّل اليد العلائية واليد المحيوية، ويكتفي بهذه الخدمة عن تجديد تعزيتهما بما يهيج الأسى والأسف ويعتذر للدهر ببقاء الموالي، فعفا الله عما سلف، وعمّن سلف بمنّه وكرمه. محمد بن محمد الشيخ الإمام والعالم الفاضل شمس الدين السفاقسي. تقدّم ذكر أخيه ابراهيم في الأباره، وكانا فقيهين مالكيين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 حضر شمس الدين هذا الى دمشق وأنا بها رأيته، وكان شكلاً حسناً مليح الوجه أظنه لم يبلغ الأربعين. وأقام بدمشق بعض سنة أو أكثر، وأقرأ الناس بالجامع الأموي، ثم توجه الى حلب فحظي هناك، وتصدر وأفاد، وولي وظائف. ولم تطل مدّته حتى توفي رحمه الله في حلب ليلة الإثنين ثاني شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة. سألت شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فأثنى عليه ثناء كثيراً، وقال: له على مختصر ابن الحاجب بعض شرح، وشرح قصيدة ابن الحاجب في العروض. محمد بن محمد بن الحسن ابن أبي الحسين بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباته. الشيخ شمس الدين الفارقي الأصل، المصري المولد، والد الشاعر جمال الدين محمد بن نباته. كان الشيخ شمس الدين هذا من أشياخ الحديث بدمشق، وكان ساكناً خيراً قليل الكلام، منجمعاً عن الناس. وكان يباشر شهادة الخاص بداريا ودومة. وكان كل ما يحصّله ينفقه على أحفاده أولاد ولده. وتولى دار الحديث النورية بدمشق بعد الشيخ زين الدين بن المزي، وكان في الديار المصرية شاهداً بديوان الجاشنكير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 وسمع من العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وأبي بكر بن إسماعيل الأنماطي وغيرهم، وكان له بدمشق سكن بالظاهرية، سمعت عليه بعض أجزاء بدمشق، وأجاز لي بخطه سنة ثلاثين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة خمسين وسبع مئة. ومولده بمصر سنة ست وستين وست مئة. محمد بن محمد بن مينا بميم مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وبعدها نونٌ وألف ممدودة، الشيخ الإمام الفاضل العالم شمس الدين البعلبكي الشافعي. سمع من القاسم بن عساكر، ومن عيسى المطعّم وغيرهما. وكان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالجدال مناضلاً، قرأ الفقه وبرع، وبلغ غايةً قصّر عنها من شرد حظه لما شرع، وكان على ذهنه إشكالات في المذهب، وإيرادات من ناظره فيها سبقه ولو كان أشهب. وعنده شكوك في غير الفقه عَقِدة، ومؤاخذات يتعب بها منتقيه ومنتقده، إلا أنه ينحرف كثيراً، ويهدم بذلك له مجداً أثيراً. ولم يزل على حاله الى أن حلّت المنايا بابن مينا، ولم ينفعه طبّ ابن سينا. وتوفي رحمه الله في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق وهو في حدود الخمسين. اجتمعت به غير مرة، وكتب عني شيئاً، وكان يعجبني ذهنه وحديثه، وكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يثني على ذهنه، وكان قد توجّه الى بغداد بعدما أفتى وناظر وأعاد بالنظامية وعاد الى دمشق، وسكن الرواحيّة. وما كان يخلو من تعبّد، وتولى قضاء الإقليم بدمشق، وخلّف لما مات دنيا صالحة، ووصّى بأن يصرف ثلث ماله على فقراء الفقهاء، كل إنسان عشرة دراهم. محمد بن محمد بن يعقوب القاضي عماد الدين الأنصاري المصري المعروف بابن النويري، بالنون والواو والياء آخر الحروف والراء. كان من أجود الناس طباعاً، ويحفظ الكتاب العزيز ويتلوه كثيراً، ويصوم الخميس دائماً، وله عقيدة في الفقراء وخدم في الأنظام الكبار بمصر والشام. تولى نظر المرج والغوطة والإقليم، ونقل من ذلك الى صحابة الديوان بدمشق والى نظر صفد، باشره غير مرة، والى نظر الكرك مدة طويلة، وأعيد بعده الى صفد، وآخر وقت ولي ديوان طرابلس. وتوفي رحمه الله تعالى في عشر الثمانين، ورأيته بصفد غير مرة، وكانت وفاته في طرابلس في حادي عشر شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة. محمد بن محمد بن عطايا الوزير سعد الدين. كان أولاً ناظر البيوت بالقاهرة، ورسم له بالوزارة في ثاني عشر شهر رمضان سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 أربع وسبع مئة، وأقام في الوزارة الى أن عُزل عنها بضياء الدين النشائي في أوائل سنة ست وسبع مئة. محمد بن محمد بن إبراهيم ابن أبي القاسم، الشيخ الإمام المعمّر المسند صدر الدين أبو الفتح المَيْدومي، بفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف والدال المهملة والواو الساكنة وبعدها ميم، خاتم أصحاب النجيب عبد اللطيف. توفي عن تسعين سنة في سنة أربع وخمسين وسبع مئة. انتخب عليه خلق من عواليه. محمد بن محمد بن الحارث ابن مسكين، القاضي الإمام فخر الدين القُرشي الزّهري نائب الحاكم بمصر والقاهرة. حدّث عن الشهاب القرافي ببعض تصانيفه، وعن عبد السلام الدميري وغيرهما، وأجاز له جماعة. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى وستين وسبع مئة. وكان قد أجاز لي رحمه الله تعالى بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله ابن محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الفارسي الشيرازي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 الأصل، الدمشقي ثم المزّي، الرئيس شمس الدين أبو نصر بن عماد الدين الكاتب ابن أقضى القضاة شمس الدين أبي نصر. سمع من جده حضوراً، ثم سماعاً، ومن عمّه تاج الدين، ومن علم الدين السّخاوي، والعَلم ابن الصابوني، والمؤتمن بن قميرة، وأبي إسحاق بن الخشوعي، وبهاء الدين بن الجُميزي، وجماعة. وأجاز له الشيخ شهاب الدين السهروردي، وبهاء الدين بن شداد، وإسماعيل بن باتكين، وابن روزبة، وخلق كثير. وتفرّد بأجزاء وعوالي، وازدحم الطلبة عليه، وألحق الصغار بالكبار. وانتقى له الشيخ صلاح الدين العلائي والبرزالي وشمس الدين الذهبي. وكان ساكناً وقوراً متواضعاً، نزر الحديث منجمعاً عن الحديث الناس، له ملك يعيش منه. وكان بارعاً في تذهيب المصاحف، وظهرت فيه مبادئ اختلاط في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة. محمد بن محمد بن محمد بن أحمد القاضي زين الدين أبو حامد بن تقي الدين العثماني الشريشي القنائي الشافعي. اشتغل بالفقه على الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي وأجازه بالفتوى، وسمع منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وكانت له مشاركة في الأصول والنحو والأدب. وخطّه حسن، وله يد في الوراقة. وتولى القضاء بأدفو وأسوان وتولى قفط، وقنا، وهُوْ، وعيذاب، وكان حسن السيرة، مرضيّ الطريقة، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة بقنا. وأورد له كمال الدين الأدفوي أبياتاً من جملة صداق كتبه وهي: أطِل نظراً فيه فلستَ بناظر ... نظيراً له كلاً ولست بواجِدِ وفُزْ من مُحيّاه بلمحة ناظر ... تنَلْ ما تَرجي من سنيّ المقاصد فكلُ سديد منهم ومُسدّدٍ ... وكل تقي عندهم ثم ماجدِ إذا ما اغتدى سمعي بذكرِ صفاتهم ... تُخامر قلبي سَكرةُ المتواجد محمد بن محمد بن محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد، الشيخ الإمام المفتي بركة والده بدر الدين أبو اليسر ابن قاضي القضاة عز الدين أبي المفاخر الدمشقي الشافعي المعروف ابن الصايغ مدرس الدماغية وأخو القاضي نور الدين قاضي قضاة حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 سمع كثيراً من أبيه، وابن شيبان، والفخر علي، وبنت مكّي، وعدة. وحضر ابن علان. وحدث بصحيح البخاري عن اليونيني، وسمع حضوراً من فاطمة بنت عساكر، وحفظ التنبيه، ولازم حلقة الشيخ برهان الدين. وكان دينه متيناً، وتصوّنه مبيناً. طُلب لقضاء القضاة بدمشق فامتنع، وظهرت عليه أمارات الزَّمع، فعظم قدره، ولزم الناس حمده وشكره. وكان مقتصداً في لباسه وفي أموره بين ناسه، ودرّس وهو أمرد، ولم يبال بمن يناظره أنقضّ عليه أم ردّ، وحجّ غير مرة، وفعل في طريقه كل مبرّة: وكان غريباً في جميع أموره ... له بركاتٌ في الورى وصلاحُ إذا ما ادْلهمّ الليل قام لربّه ... وناجى الى أن يستنير صباحُ ولم يزل على حاله الى أن أصبح أبو اليسر من الحياة مُعسراً، ومكّن الحِمامُ منه مخلباً ومَنسِراً. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة، جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، ودفن عند قبر والده بسفح قاسيون، وشيعه الخلائق وحملوه على أكتافهم، وكانت وفاته بعد قاضي القضاة جلال الدين القزويني بليالٍ يسيرة. ومولده سنة ست وسبعين وست مئة. وكان تنكز قد عظّمه واعتقد فيه لما امتنع من ولاية قضاء القضاة، فإنه حُمِل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 إليه تقليده وتشريفه بالقضاء بعد القاضي جلال الدين القزويني في نصف شهر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وحضر إليه الأمراء والناس، فامتنع وتغيّر مزاجه. ثم إن أرباب الدولة عادوا إليه ثانياً، وأدّيت إليه رسالة الأمير تنكز، فأصرّ على الامتناع، فأعيد التقليد الى مصر، وزادت عظمته عند نائب الشام، فولاه خطابة القدس مُديدة، ثم إنه تركها، ولما كان بالقدس طلبه المَقادسة، ودخلوا عليه بسماع الحديث وخرجوا من هذا الى طلب الشفاعات عند ناظر الحرمين، فشفع لهم وأكثر من ذلك، فثقل أمره على الناظر، وشكا في الباطن الى تنكز وقال: هذا يُدخل روحه في غير الخطابة، ويتكلم في الولاية والعزل، فنقص بذلك قدره عند تنكز ثم إنه فيما بعد زار القدس فتعلل هناك، ونُقل الى دمشق ضعيفاً، فأقام أياماً يسيرة، وتوفي رحمه الله في التاريخ المذكور. محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر قاضي القضاة نور الدين بن الصائغ، تقدّم تمام نسبه في ترجمة ابن عم أبي اليسر آنفاً. كان خيّراً ساكناً وقوراً، سمع من أحمد بن هبة الله بن عساكر. ولاه الفخري في نوبة الناصر أحمد قضاء العساكر بدمشق، وتوجه مع العسكر الى القاهرة، ثم إنه عُزل بعد ذلك، وبقي على تدريس الدماغية الى أن تولى قضاء القضاة بحلب بعد القاضي بدر الدين بن الخشّاب سنة أربع وأربعين وسبع مئة. ولم يزل بحلب الى أن توفي رحمه الله في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 ومولده سنة ست وسبعين وست مئة. وباشر القضاء بحلب جيداً وأحبه أهلها لحسن سيرته. محمد بن محمد بن محمد الإمام المحدّث صدر الدين الورّاق البغدادي المصري. قدم دمشق طالباً حديث سنة أربع عشرة وسبع مئة، وسمع من القاضي والصّدر ابن مكتوم وطائفة. وكان ذا حظ حُلو وخُلُق حسن. وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده بعد التسعين وست مئة. محمد بن محمد بن محمد بن محمود المحدّث تقي الدين البخاري الدمشقي الحنفي ابن خطيب الزنجيلية جلال الدين. حفظ القرآن واشتغل في النافع، وسمع كثيراً ونسخ أجزاءً وكتاب الكاشف. وكتب الطباق وسمع ابن سعد والبهاء بن عساكر وعدة، وأخذ عن شيخنا الذهبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ست وسبع مئة. محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن عبد الله بن محمد بن يحيى، الشيخ سعد الدين أبو سعد، ابن الفقيه أبي عمرو بن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس اليعمري أخو الحافظ فتح الدين. سمع من ابن الأنماطي، ومن العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وجماعة. وحدّث. وكان له نظم. وجلس مع الشهود. توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة سبعين وست مئة. محمد بن محمد بن محمد ابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس، الشيخ الإمام، العالم، العلامة، الحافظ، البارع، الأوحد، مجموع الفضائل، الكاتب، الناظم، الناثر، الأديب فتح الدين أبو الفتح ابن الإمام الفقيه أبي عمرو وابن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري. أجاز له في سنة مولده النجيب عبد اللطيف الحراني، وحضر على الشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وطلب بنفسه في سنة خمس وثمانين، وقرأ على الشيوخ، فسمع من قطب الدين بن القسطلاني، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 وابن خطيب المزة، وابن ترجم، وابن الخيمي، وابن الفارض، والعزّ الحراني، وشامية بنت البكري، والفخر المَليجي وغيرهم. ورحل الى الاسكندرية وسمع من شيوخها، ورحل الى دمشق سنة تسعين وست مئة وسمع من بعض أصحاب الكندي وابن الحرستاني وابن ملاعب. نقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وتنزّل في الأخذ الى أصحاب سبط السلفي، ثم أصحاب الرشيد العطار قال: وكاد يدرك الفخر بن البخاري ففاته بليلتين، ولعل مشيخته يقاربون الألف ونسخ بخطه، واختار وانتقى شيئاً كثيراً، ولازم الشهادة مدة، قال: جالسته مرات وبت معه ليلة، وسمعت بقراءته على الرضى النحوي. وكان طيب الأخلاق بسّاماً، صاحب دعابة ولعب، وكان صدوقاً في الحديث، حجةً فيما ينقله، له بصرٌ نافذٌ في الفن، وخبرة بالرجال وطبقاتهم، ومعرفة في الاختلاف، ويدٌ طولى في علم اللسان ومحاسنة جمة. انتهى. ونقلت من خط شيخنا البرزالي قال: كان أحد الأعيان معرفة وإتقاناً وحفظاً وضبطاً للحديث وتفهّماً في علله وأسانيده، عالماً بصحيحه وسقيمه، مستحضراً للسيرة النبوية، له حظ من العربية، جيّد الضبط حسن التصنيف، صحيح العقيدة، صحيح القراءة، مع الشُّرعة التامة، حسن الأخلاق، جميل الهيئة، كثير التواضع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 طارحاً للتكلّف، طيب المجالسة، حلو المعاشرة، خفيف الروح، ظريفاً كيّساً متودداً الى الناس، له الشعر الرائق والنثر الفائق والترسّل البديع. وكان محباً لطلبة الحديث، وصنّف سيرة نبوية لخص فيها سيرة ابن هشام وشرع في شرح الترمذي، عمل منه الى الصلاة، جمع فيه فأوعى، وله القصائد النبوية الفائقة، ولم يخلف في مجموعه مثله، انتهى. وقال كمال الدين الأدفوي في تاريخه البدر السّافر: ولازم الإمام أبا الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري، وتخرّج به، وقرأ عليه في أصول الفقه وحفظ التنبيه في مذهب الشافعي، وقرأ المفصّل في النحو على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وبرع في الحديث والأدب، وكتب الخط الحسن بالمغربي والمصري، وحدّث، وسمع منه جمع كثير من الشاميين والمصريين وغيرهم، وصنّف في السير كتابه المسمّى عيون الأثر وهو كتاب جيد في بابه، وشرع بشرح الترمذي ولو اقتصر فيه على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمُل تصنيفه وتمّ ترصيفه وكان يفيد، ولكنهقصد أن يتّبع شيخه الإمام ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. انتهى. قلت: وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب كان شيخنا المذكور حافظاً بارعاً، متوقّلاً هضبات الأدب فارعاً، متفنناً بليغاً في إنشائه، ناظماً ناثراً مترسّلاً، لم يضمّ الزمان مثله في أحشائه، خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنقُ من صفحات الخدود المطرّز وردها بآس العذار، حسن المحاورة مأمون المجاورة، لطيف العبارة، طريف الشارة والإشارة، فصيح الألفاظ، نسي الناس ذكر قسّ سوق عكاظ، كامل الأدوات، جيّد الفكرة في الغوص على درر المعاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 والأدبيات، صحيح الذهن، يشرق نوره، مليح الفهم، كأنه الصبح إذا ملأ الأفق سفورُه، لا تُملُّ محاضرته، ولا تُذام معاشرته، أدبه غض، والإمتاع بأنسه نضّ، كريم الأخلاق، زكي الأعراق، كثير الحياء والاحتمال، قلما جُرح من إنسان إلا وكان سريع الاندمال. إن كتب فما ابن مقلة عنده إنسان، ولا ابن البوّاب إلا واقف على بابه بعصا القلم يسأله الإحسان، ولا ابن العديم إلا له وزير، ولا الوليّ العجمي إلا وليّ له ونصير. وإن نثر فالعماد مائل عن طريق، وابن الأثير لا يضرب المثل إلا في تحقيقه وتحريره. وإن نظم فابنُ النبيه خامل، وابن الذّروي في الحضيض هامل، والجزار ما حلَت قيمه حلا قيمه، ولا جوّد تعاطي تقاطيفه، والسّراج ما نوّر بل نوّص في شعره وسوّد حائط تواليفه. صحبته مدة فلم أرَ معه من الزمان شدة ونمت معه ليالي، وخالطته أياماً، ورعيت من حسن ودّه أراكاً وبريراً وبشاماً: له هزّة من أريحيّة نفسه ... تكاد لها الأرض الجديبة تُعشِبُ تجاوزَ غايات العقول مواهبا ... تكاد لها لولا العيان تكذّب خلائق لو يلقى زيادٌ مثالَها ... إذاً لم يقل: أي الرجال المهذّب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 عجبت له لم يزهُ تيهاً بنفسه ... ونحن به نختال تيهاً ونعجب ولم يزل على حاله الى أن انضم على فتح الدين قبره وعُدم من كل أحد عليه صبره. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت حادي عشر شهر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الأحد بالقرافة جوار ابن أبي جمرة وابن عطا قبالة خانقاه بكتمر الساقي، وشيّعه خلقٌ كثير من القضاة والأمراء والفقهاء والجند والعوام، وتقدّم للصلاة عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني. وتعجّب السلطان الملك الناصر محمد من جنازته الحفلة، وسأل عنه فعُرِّف بحاله، فقال: هذا رجل جليل القدر ما نعطي وظائفه إلا لمن يكون مثله. ومولده في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وست مئة. وكان من بيت رئاسة وعلم، كان ابن عمه أخيراً في زمانه قائداً حاجباً بإشبيلية. وكان عند الشيخ فتح الدين رحمه الله تعالى كتبٌ كثيرة وأصول جيدة كمصنّف ابن أبي شيبة، ومسنده، وجامع عبد الرزاق، والمحلى، والتمهيد، والاستيعاب، والاستذكار، وتاريخ الخطيب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 والتاريخ المظفّري، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار ومعاجم الطبراني. وكان قد تفرّد في وقته بالحديث في الديار المصرية. أخبرني من لفظه القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسَراني قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إذا حضرنا درسه وجاء ذكر أحد من الصحابة أو أحد من رجال الحديث قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح، فيأخذ فتح الدين في الكلام ويسرد والناس سكوت، والشيخ مُصغ الى ما يقوله. انتهى. وكان صحيح القراءة سريعها، لم أسمع أفصحَ منه ولا أسرع. وأما خطّه فكان يكتب المصحف في جمعة واحدة، ويكتب سيرته وهي مجلدان كبيران في عشرين يوماً، وأظنه قال لي: لم أكتب على أحد، ولم يرَ أحدٌ أحلى من خطه ولا أظرف. وقال لي: لم يكن لي في العروض شيخ، ونظرت فيه جمعة فوضعت فيه مصنّفاً، ورأيت أنا هذا المصنّف. وصنّف عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير سمعت بعضه من لفظه، واختصر ذلك وسمّاه نور العيون وهو عندي بخطه، وسمعته من لفظه، وتحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة وسمعته من لفظه وملكته بخطه، والنفح الشذي في شرح الترمذي، ولم يكمل، وكان قد سمّاه العَرف الشذي، فلما اجتمعت به قلت له: سمّه النفح الشذي ليقابل الشرح بالنفح، فسمّاه بذلك، وكتاب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقرأته عليه بلفظه مشروحاً، ومنح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 المِدَح. وسمعته من لفظه الى ترجمة عبد الله بن الزّبعرى، والمقامات العلية في كرامات الصحابة، وسمعت قصيدتها الميمية من لفظه. وكان بيده من الوظائف مشيخة الظاهرية ومدرسة أبي حليقة على بركة الفيل، ومسجد الرصد، وخطابة جامع الخندق، وكانت له رزق في الديار المصرية، وراتبه في صفد، وما رأيت أحداً محظوظاً مثله، ما رآه أحد إلا أحبه وعظّمه. كان الأمير علم الدين الدواداري يحبّه ويلازمه كثيراً ويقضي أشغال الناس عنده، ودخل به الى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين وقد امتدحه بقصيدة، وقال: أحضرت لك هذا وهو كبير من أهل العلم، فلم يدعه السلطان يبوس الأرض، وأجلسه معه على الطراحة، وهل قام له أو لا، أنا في شك من ذلك، ولما رأى خطه وسمع لفظه قال: هذا ينبغي أن يكون في ديوان الإنشاء، فرتّبه في ديوان الموقّعين، فرأى الشيخ فتح الدين الملازمة ولُبس الخف والمهماز صعباً عليه، فسأل الإعفاء من ذلك، فقال السلطان: إذا كان لابد من ذلك فيكون هذا المعلوم يتناوله على سبيل الراتب، فرتّب له الى أن مات رحمه الله تعالى. وكان الكمالي ينام معه في قرظيّة النوم، وكان كريم الدين الكبير يميل إليه كثيراً ويودّه، ويقضي أشغال الناس عنده، وهو الذي ساعده على عمل المحضر وإثباته بعداوة قاضي القضاة بدر الدين بن جَماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 سمع صحيح البخاري بقراءته على الحجّار، وتعصّب له الأمير سيف الدين أرغون النائب وخلّص له مشيخة الحديث بالظاهرية، ولم أعرف أحداً من أمراء الدولة إلا وهو يحبه ويصحبه ويميل إليه ويجتمع به، وإنما كان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار والقاضي فخر الدين ناظر الجيش منحرفين عنه قليلاً، وكذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله كان منحرفاً عنه. وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين فكنت أراه في كثير من الأوقات يصلي في كل صلاة مرات كثيرة، وسألته يوماً عن ذلك فقال لي: إنه خطر لي يوماً أن أصلّي كل صلاة مرتين ففعلت ذلك زماناً فخف عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة ثلاث مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة أربع مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ علي، وأنسيت هل قال لي: خمس مرات أو لا. وكان صحيح العقيدة، جيّد الذهن، يفهم به النكت العقلية ويسارع إليها، ولكنه جمّد ذهنه لاقتصاره به على النّقل، ولو كان اشتغاله على قدر ذهنه بلغ الغاية القصوى، ولكن كان عنده لعب، على أنه ما خلّف مثله. وكان النّظم عليه بلا كلفة، يكاد لا يتكلم إلا بالوزن. وفيه قلت أنا: لي صاحب يتمنى لي الرضا أبداً ... كأنما يختشي صدّي وهجراني ويغلب النّظم ألفاظاً يَفوه بها ... فما يُكلّمني إلا بميزان وكتبت له استدعاء بإجازته لي، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة. المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ رحلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 المحدثين، قبلة المتأدبين، جامع أشتات الفضائل، حاوي محاسن الأوائل والأواخر: حافظ السنّة حفظاً لا ترى ... معه أن يُعمل الناس الأسنّه مركزُ الدائر من أهل النُهى ... فإلى ما قد حوى تُثنى الأعنّه بديع زمانه، نادرُة أوانه، ضابط الأنساب على اختلافها، فهو السيل المتحدّر لا ابنُ نقطة، ناقل العلم الشريف عن سلفه الذي وافق على المراد شرطه، ساحب ذيل الفخر الذي لو بلغ السمعاني جعله في الحُلية قِرطه، صاحب النقل الذي إذا أتى رأيت البحر بأمواجه منه يلتط، والعبارة تستبق في مضمار لهواته فتزداد وتزدحم، الذي إذا ترسّل نقصت عنده ألفاظ الفاضل، وعجز عن مفاوضته ومعارضته كل مناظر ومناضل، أو نظم ثبت الجوهر الفرد خلافاً للنّظام فيما زعم، وتخطى بما بيديه فرق الفرقدين، وترضى النجوم بما حكم، أو أورد مما قد سمع واقعة مات التاريخ في جلده، ووقف سيف حاكٍ عند حده، أو استمد قلماً كف بصره عنه ابن مقْله، ووقف ابن البواب بخدمته يطلب من فضله فُضلهُ، فهو الذي تطير أقلامه الى اقتناص شوارد المغاني فتكون من أنامله " أولي أجنحة مَثنى وثلاثٍ "، وتنبعث فكرته في طلب السنة النبوية وما يكره الله هذا الانبعاث، وتبرز مخبّات المعاني بنظمه ومن السحر إظهار الخبايا، ويعقِد الألسنة عن معارضته، وعقْدُ اللسان لا يكون بغير السحر في البرايا، ويستنزل كواكب الفصاحة من سمائها بغير رصد، ويأتي بألفاظه العذبة، ونورها المشمس وفُحولتها للأسد، ويحل من بيت سيادته بيتاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 عموده الصّبح وطُنُبه المجرّة، ويتوقّل هضبات المنابر، ويستجنّ حشا المحاريب ويطأ بطون الأسرّة، فتح الدين محمد بن سيد الناس: لا زال روضُ العلم من فضله ... أنفاسُه طيّبةُ النفحِ وكابدا نظما الى نظمه ... أبدى سحابا دائم السحِّ وكيفما حاوله طالبٌ ... في العلم لا ينفكّ ذا نُجْحِ وإن غدا النُهى مُقفلاً ... في الناس نادَوا يا أبا الفتْحِ إجازة كاتب هذه الأحرف جميع ما رواه من أنواع العلوم، وما حمله من تفسير لكتاب الله أو سُنّة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أثر عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومَن بعدهم الى عصرنا هذا بسماع من شيوخه أو بقراءة من لفظه، أو سماع بقراءة غيره، أو بطريق الإجازة خاصة كانت أو عامة أو بإذن أو مُناوَلة أو وصية كيفما تأدّى ذلك إليه، الى غير ذلك من كتب الأدب وغيرها، وإجازةُ ما له من مقولٍ نظماً ونثراً وتأليفاً وجمعاً في سائر العلوم، وإثبات ذلك بأجمعه الى هذا التاريخ بخطّه إجازة خاصة، وإجازة ما لعلّه يتّفق له بعد ذلك من هذه الأنواع، فإن الرياض لا ينقطعُ زهرُها والبحارَ لا تنفد دررها إجازة عامة على أحد الرأيين عند من يجوّزه. وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. فكتب هو الجواب رحمه الله تعالى: بعد حمد الله المجيب مَن دعاه، القريب ممن نادى نَداه، الذي ابْتعثَ محمّداً بأنواره الساطعة وهداه، وأيّده بصحبه الذين حمَوْا حماه، ونصروه على مَن عاداه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وحزبه الذين روَوْ سنّته وروّوْا أسنتهم من عِداه، وشفَوا بإيراد مناهله مَن كان يشكو صداه، وأجابوه لما دعاهم لما يُحييهم إجابة الصارخ صداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تُبلّغهم من الشرف الرفيع غاية مَداه، وسلّم عليه وعليهم تسليماً يسوّغهم مشرع الرضوان عذباً ريّه، سهلاً منتداه. فلما كتبت أيها الصدر الذي يشرح الصدور شفاء، والبدر الذي يبهر العقول سناً وسناءً، والحبر الذي غدا في التماس أزهار الأدب راغباً، ولاقتباس أنوار العلم طالباً، فحصل على اقتناء فرائدها واقتناص شواردها، وأُلفي عقله عقال أوابدها، ومجال مصائدها، ومطار مطاردها، بما أودَعت الألمعية من المعاني المُبْتدعة ذهنه، واستعادته على لسان قلمه وقد ألبسته الفصاحة من حسن تلك الفطنة: زهَرُ الآداب منه يُجْتَنى ... حسنُ الإبداع ما أبدعَ حُسْنه بارعٌ في كل فنّ فمتى ... قال: قال الناس: ما أبدع فنّه ومتى ما فاهَ فاض السحرُ عن ... غامضِ الأفكار منه المرجَحنّه فالآداب، حرسه الله تعالى، رياضٌ هو مجتني غروسها وسماءً هو مجتلي أقمارها وشموسها، وبحر استقرت لديه جواهره وسحر حلال لم تنفث في عصره إلا عن قلمه سواحرُه، فله في فنّي النظم والنثر حمْلُ الرايتين وسبقُ الغابتين، وحوز البراعتين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وسرّ الصناعتين، وهو مجمع البحرين، فما طلُّ الغمامة؟، وله النظر الثاقب في دقائقهما، فمَن زرقاء اليمامة، إن سام نظماً فمَن شاعر تِهامَه؟، وإن شاء إنشاء فله التقدم على قُدامه، فإن وشّى طِرساً فما ابن هلال إلا كالقُلامة، أن أجيز لك ما عندي فكأنما أن أتجاوز حدّي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الأقران نهج مَهْيَع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وإن لم يكن مَشْرَعه ذلك المَشرع. فنعم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم وما حملته على الشرط المعروف والعُرف المَعلوم، وما تضمّنه الاستدعاء الرقيم بخطك الكريم مما اقتدحه زندي الشّحاح وجادت به لي السجايا الشحاح من فنون الأدب التي باعُك فيها من باعي أمدّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسدّ. وأذنت لك في إصلاح ما تعثُر عليه من الزلل والوهم والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل، أو وَهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنّظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزتُ لك إجازة خاصة، يرى جوازها بعضُ مَن لا يرى جواز الإجازة العامة، أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته في أي معنىً انتقيته فمن ذلك ... وذكر رحمه الله تعالى ههنا ما له من التصانيف، وقد ذكرتها آنفاً. وقد أجزت لك أيّدك الله جميع ذلك بشرط التحري فيما هنالك، تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسّكاً باقتفاء السّلف في ارتقاء هذه الرُتبة، وإقبالاً من نشر السنّة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " بلّغوا عني " فقد أخبرنا أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم بن علي الحراني رحمه الله تعالى بقراءة والدي عليه وأنا أسمع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 سنة ست وسبعين وست مئة، قال: أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم البغدادي قراءةً عليه وأنا أسمع منه سنة ست مئة، وقبل ذلك سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وأنا محضر في الخامسة، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري قاضي المارستان سماعاً عليه سنة أربع وعشرين وخمس مئة: قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في سنة ست وأربعين وأربع مئة، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن يسار السابوري بالبصرة، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري حدثنا محمد بن ابراهيم بن كثير الصوري، حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بلّغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار ". أبو كبشة تابعي ثقة، والصحيح أنه لا يُعرف اسمه. ومولدي في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وست مئة بالقاهرة، وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 هذه السنة أجاز لي الشيخ المُسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرّاني، وكان أبي رحمه الله يخبرني أنه كَناني، وأجلسني في حجره، وكان يسأله عني بعد ذلك. وأجاز لي بعده جماعة. ثم في سنة خمس وسبعين حضرت مجلس سماع الحديث عند جماعة من الأعيان، منهم الحبر الإمام شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي ابن أخي الحافظ عبد الغني المقدسي، وأثبت اسمي في الطباق حاضراً في الرابعة. ثم في سنة خمس وثمانين كتبت الحديث عن شيخنا الإمام قطب الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني رحمه الله بخطي، وقرأت عليه بلفظي، وعلى الشيوخ من أصحاب المسند أبي حفص بن طبرزد والعلامة أبي اليُمن الكندي والقاضي أبي القاسم الحرستاني والصوفي أبي عبد الله بن البنّا وأبي الحسن بن البنا، وغيرهم بمصر والاسكندرية والشام والحجاز وغير ذلك. وأجاز لي جماعة من الرواة بالحجاز والعراق والشام وإفريقية والأندلس وغيرهم يطول ذكرهم. وحبّذا، أيدك الله، اختيارك من طلب الحديث الدرجة العالية، وإيثارك أن تكون مع الفرقة الناجية، لا الفرقة التاوية، فقد أخبرنا الشيخان أبو محمد عبد اللطيف وعبد العزيز ابنا الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصّيْقل الحراني، الأول إجازة، والثاني سماعاً قالا: أخبرنا ضياء بن الخُرَيف، محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوف بن مُطير اللّخمي، حدّثنا محمد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 أحمد بن هاشم البعلبكي، حدثنا عبد الملك بن الإصبع البعلبكي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كُلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ". وبالإسناد الى الخطيب: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال: سمعت عبد الله بن القاسم يقول: سمعت أحمد بن محمد بن رُوّه يقول حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حُدّثت عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تفترق الأمة على نيّف وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " فقال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديث فلا أدري مَن هم. وبه الى أبي بكر الخطيب قال: حدثني محمد بن أبي الحسن قال: أخبرني أبو القاسم بن سختويه قال: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور الحافظ بصور يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن عبد الله بن بشر نفسا يقول: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقلت: يا رسول الله: مَن الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة؟ قال: أنتم يا أصحاب الحديث. وبه الى الخطيب قال: أخبرني محمد بن علي الأصبهاني حدّثنا الحسين بن محمد بن الوليد التستري بها. حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف بن مسعدة إملاءً، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سلاّم يقول: أنشدني عبدة بن زياد الأصبهاني من قوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 دينُ النبي محمد أخبارُ ... نِعمَ المطيّةُ للفتى الآثارُ لا تُخدعنّ عن الحديث وأهله ... فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ ولربّما غلط الفتى سُبُل الهدى ... والشمس بازغةٌ لها أنوارُ وأنشدني والدي أبو عمرو محمد، قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس رحمهما الله تعالى قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الملك قال: أنشدنا أبو أسامة يعقوب، قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد بن حزم لنفسه: مَن عذيري من أناس جهلوا ... ثم ظنّوا أنهم أهلُ النظرْ ركبوا الرأي عناداً فسروا ... في ظلام تاه فيه من غبَرْ وطريقُ الرشد نهجٌ مهْيعٌ ... مثلما أبصرتُ في الأفق القمرْ وهو الإجماع والنّص الذي ... ليس إلا في كتابٍ أو أثرْ والله المسؤول أن يلهمنا رشداً يدلّنا عليه، ودلالة تهدينا الى ما يُزلِفنا لديه، وهداية يسعى نورها بين أيدينا إذا وقفنا يوم العرض بين يديه بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. وكنت بصفد لما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى: فلقد ألمْتُ فما الحِمامُ بصادحٍ ... أسفاً ولا أغصانها بموائسِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 قلت أرثيه رحمه الله تعالى: ما بعدَ فقدك لي أُنس أرجّيه ... ولا سرورٌ من الدنيا أقضيهِ إن متُّ بعدَك من وجدٍ ومن حزَن ... فحقُّ فضلك عند من يوفيه ومن يعلّم فيك الوُرق إن جهلت ... نُواحها أو تناسته فتُمليه أما لَطافةُ أنفاس النّسيم فقدْ ... نسيتُها غيرَ لُطفٍ كنتَ تُبديه وإن ترشّفتُ عذْب الماء أذْكرني ... زُلالُه خُلُقاً قد كنتَ تحويه يا راحلاً فوقَ أعناقِ الرجال وأج ... فانُ الملائكِ تحت العَرشِ تبْكيهِ وذاهباً سارَ لا يلوي على أحد ... والذّكْرُ ينشرهُ واللحْدُ يطويه وماضياً غفر الله الكريم له ... باللُّطفِ حاضرهُ منه وباديه وباتَ بالحُور والولدان مُشتغلاً ... إذا أقبلتْ تتهادى في تلقّيه حتى غدا في جنان الخُلدِ مُبتهجاً ... والقلب بالحُزن يَفنى في تلظّيه لهفي على ذلك الشخص الكريم وقد ... دعاه نحو البلى في التَّرب داعيه وحيرتي فيه لا تقضي عليّ ولا ... تُقضى لواعِجُها حتى أوفّيه أُجزى الأسى عبَراتي كالعَقيقِ وقد ... أصمّ سمعي وأصْمى القلبَ ناعيْه يا وحشة الدّهر في عين الأنام فقد ... خلَتْ وجوهُ الليالي من معانيه ووحشة الدرس إن تُنشر مُلاءتُهُ ... ولم تطرّز حواشيها أماليه يا حافظاً ضاع نشرُ العِلم منه الى ... أن كاد يعرفْهُ مَن لا يسمّيه صان الرّواية بالإسْنادِ فامْتنعَتْ ... ثُغورها حين خاطَتْها عواليه واستضْعَفت بارقاتُ الجوّ أنفُسَها ... في فَهمِ مشكلةٍ عن أن تُجاريهِ حفظْتَ سنّة خيرِ المرسلين فما ... أراكَ تُمسي مُضاعاً عند باريه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 للهِ درّك من حَبر تبحّر في ... علمِ الحديث فما خابتْ مساعيه وهل يخيبُ معاذَ الله سعيُ فتىً ... في سُنّة المصطفى أفنى لياليه يكفيه ما خطّه في الصحف من مدح الن ... بي يكفيه هذا القدرُ يكفيه عزّ البُخاري فيما قد أُصيب به ... مات الذي كان بين الناس يدريه كأنه ما تحلّى سمعُ حاضره ... بلفظه عندما يروي لآليْهِ رواية زانها منه بمعرفةٍ ... ما كلّ مَن قام بين الناس يرويه يا رحمتاهُ لشرح التّرمذي فمَنْ ... يضمّ غُربتَهُ فينا ويُؤويهِ لو كان أمهلهُ داعي المنون الى ... أن تنتهي في أماليه أمانيه لكان أهداه روضاً كله زهرٌ ... أناملُ الفكر في معناهُ تَجنيه مَن للقريض فلم أعرفْ له أحداً ... سواهُ رقّت به فينا حواشيه ما كان ذاك الذي تلقاه يَنظمه ... شعراً ولكنه سحرٌ يعانيه يهزّ سامعه حتى يخيّل لي ... كأس الحُميّا أدارتها قوافيه ومَن يمرُّ على القِرطاس راحتهُ ... فينبتُ الزهرَ غضاً في نواحيه ما كل من خطّ في طرس وسوّده ... بالحبر تغدو به بيضاً لياليه ولا تخلْ كلّ من في كفّه قلمٌ ... إذا دعاه الى معنى يلبّيه هيهات ما كان فتح الدين حين مضى ... والله إلا فريداً في معانيه كم حاز فضلاً يقول القائلون له ... لو جازك الليلُ لابيضّت لياليه لا تسأل الناس سلني عن خلائقه ... لتأخذ الماء عني من مجاريه ماذا أقول وما للناس من صفةٍ ... محمودة قطُّ إلا رُكّبتْ فيه كالشمس كل الورى تدري محاسنها ... والكافُ زائدةٌ لا كافُ تشبيه سقى الغمامُ ضريحاً قد تضمّنه ... صوْباً إذا انهلّ لا ترْقا غواديه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وباكرتْه تحياتٌ نوافِحُها ... من الجنان تحيّيه فتُحييه وكتبت إليه لما قدمت الى دمشق من القاهرة: كان سمعي في مصر بالشيخ فت ... ح الدين يَجني الآداب وهي شهيّهْ يا لها غُربةً بأرض دمشقٍ ... أعوَزَتْني الفواكهَ الفتحيّهْ وكتبت إليه: يا حافظاً كم لرواياته ... من جنةٍ في بطنِ قِرطاسِ كم شذىً من سُنّة المصطفى ... قد ضاع من حفظكِ للناس وكتبت على كتابه بشرى اللبيب: بُشرى اللبيب لباب النظم للبشر ... في مدح سيدنا المختار من مضَرِ لما بدا الشيخُ فتح الدين ينظمه ... تأرّجتْ نسمةُ الآصال والبُكر بحرٌ ولكنه أهدى الدراري وال ... بحور من شأنها الإتيان بالدُرر تجلو عليكَ معانيه العرائسَ في ... بيتٍ من الشعر لا بيتٍ من الشَعَرِ وبيني وبينه رحمه الله تعالى مكاتبات كثيرة. كتبت إليه من الرحبة وهو: سلوا نسمة الوادي إذا هي هبّت ... سُحَيراً وهزّت في الربا كلَّ أيكةِ فكم لي في أثنائها من رسالة ... أضمّنها شوقي إليكم ووحشتي وما طابَ رياها الى أن تضمّنتْ ... ثنائي على عليائكم وتحيتي إذا عانقتْ في الروض أغصان بانه ... حكت خطراتِ الغيد لما تثنّتِ وإن نبهتْ ورقَ الحمائم أعلنت ... وأغنتْ عن الأوتار لما تغنّتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 وإن سحبتْ ذيلاً بمنعرج اللوى ... تحلّ عُرى أزهاره حيث حلّتِ وإن صافحتْ وجه الرياض فإنما ... تقبّل من أوطانكم كل تُربةِ فمنّوا بإهداءِ السلام على فتىً ... تردّد منه الروحُ في جسم ميّت يُقبّل من فرطِ الجوى عتباتِكُم ... وذلك فرضٌ عنده غيرُ سنّةِ وينشر من طيب الثّناء عليكم ... محاسن ينسى نشرُها كل روضة ويبكي إذا ما استخبرَ البرق عنكمُ ... وقد بسمتْ منه ثُغورُ الدجُنّةِ وإن رتّل الذكرى تداعتْ صبابةً ... له الوُرقُ فارتاحت وناحتْ وحنّتِ ولما رأت ريحُ الصّبا ما تكنّه ... أضالعه اعتلّت لذاك وأنّتِ رعى الله أياماً تقضتْ بقُربكمْ ... وحيّا محلاً كنتم فيه جيرتي ولا شكَرَ الرّحمنُ أيام بيننا ... فليستْ سواءً والتي قبلُ ولّتِ ولو أنصفَ الدهرَ الخؤونُ الذي قضت ... صُروفُ لياليه ببيْني وفرقتي لما سِرْتُ عن ذاكَ الجِناب الذي حوى ... من الفضلِ والعلياء كل عظيمةِ ولو كان يُشرى القُربُ بالنفس ما غلا ... ومَن لي لو نِلتُ المُنى بالمنية عسى الدهرُ أن يدني الى ظلّ قُربكم ... مُحباً رأى في البُعد كل مشقّة ووالله ما حالتْ عن العهد مُهجتي ... وكم مُرهفاتٍ لو تسلّت لسُلّتِ وما ضرّكم لو زار طيفُ خيالكم ... فخفّفَ من وجدي ونفّس كُربتي وكيف يخوضُ الطّيفُ لُجَّ مدامعي ... ومن بعدكم تعرف النومَ مُقلتي فكتب هو الجواب عن ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 مننتَ بنُعمى بلّغت كل منيةٍ ... ونلتُ بها المأمولَ قبل منيّتي وأهدتْ الى قلبي الجريح قرارَهُ ... وجادتْ على طرفي القريح بقُرّةِ مُشرَّفةٌ لم يأت عصرٌ بمثلها ... سقَتْ دارَ مُهديها سوافجُ عبرتي وصلتَ بها عهدَ المسرّة مُحسناً ... وأنعمتَ لي منها بأحسن وُصلتي وشرّفتَ من ذكري وشنّفتَ مَسمعي ... وأعليتَ من قدري وأغْليت قيمتي فها أنا منها في صُعودٍ كأنما ... أحاول ما بين الكواكب ثُورَتي وأهديتها عذراء بالحسن أفردتْ ... وما بينَ أغصانِ اليراع تثنّتِ جلَتْ كل معنىً من بديعك باهرٍ ... وأبدت فُنوناً من علومكَ جلّتِ ونادت فلبّتها المعاني مُجيبةً ... ولو غيرُها نادى المَعافي لندّتِ حوتْ قصباتث السّبقِ كل غايةٍ ... فلم تكُ فيها كالتي قبلُ كلّتِ فمن دُرّ نَظْمٍ لا يُسامُ لمفلسٍ ... ومن نَثر دُر لا يُسامى بنثرةِ ومن وَشي خَطٍ فيه نُزّهت ناظري ... ومن سحر معنىً فيه أنشأتُ نشأتي إليكَ صلاح الدين أشكو صبابتي ... وأرفع فيما رابني منك قصّتي أقول بأن القلب مثواك دائماً ... وأشكو إليكَ الشوقَ في كل لحظةِ وأشكر أياماً تقضّتْ بقربكم ... وقلّ لها شُكري وإن هي حلّتِ وأشكر لكَ الأيام تلك بعينها ... فأعجبُ من شكري لها وشكيتي تصدّت لنا بالوصلُ تُطعمُنا به ... فلما أجبناها تجنّت وصدّتِ ولو أنها منّت بطول بقائها ... جنينا ثمارَ الوصل من حيثُ منّتِ لعَمري أشواقي إليك شديدةٌ ... فهل تُفرج الأيام بالقُرب كُربتي وإني لما سِرتَ عني ولم أكن ... بداري لبُعدي عنك في دار غُربتي تناءَيتَ عن طرفي وأنت بمهجتي ... فها بصري يشكو إليك بصيرتي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 يقبّل كذا وينهي ورود المشرف فأكرِم به وارداً، وأَعزز علي به وافداً، يجلو على الأبصار ما شاء من زَيْن، ويَجلي عن البصائر ما شاء من رين، حائزاً من نظمه ونثره ربح الصناعتين، فائزاً من سحر بيانه ودرّ بنانه بأمدِّ الشرفين، والسّبق في الطرفين، والاستيلاء على الأمدين، والاستعلاء على الصّدفين، فمدّ الملوك إليه راحته، واستمدّ منه راحته، وأدار منه راحه، وألفى لديه انشراحه، ونال به على الدهر اقتراحه، بعدما وجد من فراق من به وجد، وقد أضرم بقلبه من نار الخليل لفقد الخليل ما وقَد، فراح كليم اشتياق في أليم احتراق، ينادي بلسان الأشواق: قد لسعت حيّة النّوى كبدي ... ولا طبيب لها ولا راقِ فوافته وقد شطت الدار، وتنادى عنه المزار، تحية باهى بلطفه الصبا وباهر في حسنها شمس الضحى، وبعرفها زهر الرُبا، فقال يا بشراي بعهدها الوفيّ وجمالها اليوسفي، أصدرت عن بشر أم ملَكْ، أم عن ملك البلاغة الذي ملك من درّ القول ما ملك، وترك لغيره من مخشلبه ما ترك، وأما فقده، حرسه الله تعالى، وهو بدمشق الفواكه الفتحية، فقد وقف المملوك على ما تضمنته تلك التحية، وهزّت منه عطفاً لتلك الأريحية، وإنما يجتني كما قال المقرّ الشهابي حرسه الله تعالى من غرس بدا صلاحه، ورُوِّضُ فلاحُه، وتفتح زهره فراق اختتامه بالمسك وافتتاحه، المملوك يلتمس التشريف بخدمه ومراسيمه ومهمّاته، والله يحرسه في حركاته وسكناته، إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: أهلاً بها من تحية صدرتْ ... عن راحةٍ بالفضائل اشْتهرَتْ يا حُسن ما سطرتْ أناملها ... ولطف ما نظمَتْ وما نثرَتْ فضضْنَ عنها ختامَها فإذا ... بالشمس في حضرتي وقد سفرَتْ فشرّفتْني وشنّفت أذني ... بدرّ ألفاظها التي بهرَتْ أستغفر الله لو تُقابلها الن ... جومُ خرّت الأرض وانكدرَتْ ولو درتْ نسمةٌ برقّتها ... جفّت غصون الرّبا إذا خطرَتْ فليس للمُقلة الكحلية ما ... تفعلُ ألفاظُها التي سحرَتْ ولا لكأس المُدام نشوتُها ... في أنفسٍ من سُلافها سكرَتْ للأدب الغضّ في حديقتها ... أزاهر من نداك قد مُطرتْ بالغتَ في سحرك الحلال فكم ... نظمت زهرَ الدجى وما شعرتْ وزدتُ لطفاً فهل بعثت بها ... نفحة روضٍ مع الصباح سَرتْ سبحان مُعطيكَ فطرة غلبتْ ... على بديع الكلام واقتدرَتْ وراحة ما انطوتْ على قلمٍ ... إلا ووشّتْ مطارِفاً نُشرتْ من ذا الذي في العُلا يُطاولها ... وهي على ذي المحاسن اقتصرَتْ لا مُتّعَتْ مُقلتي برؤيتها ... إن نظرت مثلها أو انتظرتْ مذ برّدتْ حُرقتي تحيتُها ... تلتْ شفاهي الدُعا وما فترتْ وأصبحت أدمعٌ أكفكِفُها ... يا جيرة الفرات جرتْ والنفس لم تستعر محبّتكم ... لكنها بالصّبابة استعرتْ يا سيّد الناس وابنَ سيدهم ... ديارُ مصرَ بفضلكَ افتخرتْ إذ أنت في ربعها تقوم بحف ... ظ سنّة المُصطفى إذا ذُكرت هُنّيتَها رتبة ظفرتَ بها ... خُطا بني العلم دونَها قصُرَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 يقبّل الأرض التي مجالس العلم بها مشهودة، وبركاتها مشهورة، وكتب السنّة الشريفة منصوصة، وكتائبها منصورة، ونفائس الآداب بها مسرودة، ونفوس أهلها مسرورة: فهي أرضٌ تُطاول الأفقَ فخراً ... إذ عليها مَسعاك دون البِقاعِ والقدم الذي إذا خطت يكاد يسعى إليها المنبر، ويوطئها قدرُها العلي خدّ من فسد ومن برّ، ويمسح أخمصها إذا سعت في المعالي عن برّ عنبر: قدمٌ تستقلّ نعلَ الثريا ... مذ ترقّت في سامياتِ المساعي واليد التي لو أرادت لنالت الكواكب، وأخجلت بجودها الغيوث الهوامع والسحب السواكب، وحملت رايات فخارها التي تزدحم تحت ظلها في السيادة مناكب الكواكب: راحةٌ تشرف الشِّفاهُ إذا ما ... قبّلتْها للفضلِ بالإجماعِ تقبيل محب ظفر بوصل حبيبه، وأمكنته الفرصة بغفلة كاشحهِ وغيبة رقيبه، فهو يصل القبلة بالقبلة، ويشفع النهلة بالعلة: ويستمر على ولائه الذي: يراه على طول المدى خير صاحبِ ويحافظ على دعائه الذي: به تُعرف العشّاقُ عند الحبائبِ ويبثّ من ثنائه الذي: يضوع شَذاه في الصَّبا والجنائبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 ويصف أشواقه التي لا يعلم قرارها إلا الذي أوجبَها وقررها، ولا يدري قدرها إلا الذي حكم بها وقدّرها، ولا يعرف ألمها إلا القلب الذي لمّها، ولا يجبر ضيمها إلا الفؤاد الذي ضمّها، فهي الأشواق التي استعارت الجحيمُ استعارَها، ونفتْ عن الجفون قرّتها وعن الجوانح قرارها، وأعدمت النفس في الصباح صلاحها وفي المساء مسارّها. وحنيني إذا تصدّى لنفسي ... صدّ لهوي عن ارتياد ارتياحي علّم الوُرقَ حُزنها في الأو ... راقِ تتلوهُ في نواحي النواحي لا يردّ الجوى اغتباطُ الغتباقٍ ... من حنيني ولا اصطبارُ اصطباحي يا لها هفوةً مسيري عنكمُ ... قذفَتْ بي الى اطّرادِ اطّراحي ودرتْ أنني لي الذنبُ في البُع ... دِ فجارَت على اجتراءِ اجتراحي فآهاً على الديار المصرية وأوقاتها، وسقياً لمعاهد أُنسها لنفسها ولذاتها لذاتها، ورعياً لتلك المنازل التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، وحفظاً لتلك الوجوه التي: للشمس أضواءٌ على جبهاتها وشكراً لتلك النفوس التي: المجد يغلبُها على علاتها ذُكر الأنام لنا فكن قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها وما أقول بل ما أنتظر إلا نظرة شهابية، ولا أترقب إلا همة عدوية عمرية، تُنقذني من نار هذه الغربه، وتعيدني الى خير عالم وألطف تربه، وتتعطّف على من غدرت به أيامه ولياليه، وأتى كما حكمت عليه الأقدار بذنب عقابه فيه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وكأنني بها كما عوّدَتْني ... عطفتْها عليّ تلك المعاطفْ ثم قالت دعوهُ يحظى بوصلٍ ... إذ له مدةً على الباب واقفْ فلله عزماتها التي لو شاءت جمعت بين الضبّ والنون، وأبدلت بالمنى موارد المنون، وما ذلك عليها بمشيئة الله تعالى بعزير ولا عتيد، وما هي إلا كلمة تدخل بالمملوك الى دار السعادة كما عوّدت من باب البريد. وأما المثال العالي أعلاه الله تعالى وجعل القلوب في عليّ قدره تتوالى، فأعود الى وصفه نثراً وأستعير من كلماته في تقريظه درّا، فأقول: إنه اشتمل على المحاسن وغدا أنموذج الجنة التي خمرها مغتال وماؤها غير آسن، تقطر البلاغة من كلمه، وتشفّ الفصاحة من وراء ما سطّر بقلمه، وتغني رياضه الناضرة عن أراك الحمى وعن سلمه، ويهز الواقف على معانيه بالطرف من قرنه الى قدمه، يتحيّر الناظر فيه لتردده بين روض وأفق، ويتخيّر الماهر من لفظه تاجاً لفرقٍ أو قلادة لعنق: قُل فكمْ من جواهرٍ بنظامِ ... وُدُّها أنها بفيكَ كلامُ وأما عبودية المملوك التي تقدّمت فوالله ما توهم المملوك أن سيدي، حرسه الله تعالى، يتكلّف لها جواباً، ولا يفتح من بيوت نظمه المَصون لهذه الطارقة باباً. ولو تحقق هذا الأمر لأعطاها حِيلَهُ وحَيلَه وشدّ على شنّ الإغارة على المعاني الجامحة خَيله، وأعمل فكرة في تهذيب ما يهديه حتى يقال: هذا كتاب ليلة وألف ليلة. ولما كان هذا مقام افتراص، واقتناء لجواهر كلِمِ سيدي واقتناص بعث هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 العبودية طمعاً في الجواب الثاني، وعوّذها من الشآم بعطف مولانا الذي لا يثنيه عن الخير ولا الجبر ثانِ، ولله المعرّي حيث قال: قد أجبْنا قولَ الشّريف بقولٍ ... فأنبْنا الحصى على المُرجانِ والله يمتّع الأنام بحياته التي هي جملة الأماني، ويديم فضائله التي لا توجد إلا في العقد ولا تؤخذ إلا من الأغاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى. فكتب هو الجواب عن ذلك: حيّت فأحيتْ عندما حسرتْ ... خِمارَها كلَّ مهجٍ سحرَتْ يا خجلةَ الشمس عندما سفرَتْ ... وغصّةَ الغُصنِ عندما خطرت وفتنة الظبي عند لفتتها ... وحيرة الظبي كلما نظرت ما كنت أسلو جمالَها أبداً ... لولا التي بالجَمال قد بهرَتْ عقيلةٌ تسلب العقول فها ... ألبابُنا من بديعها سكِرت جاءت فجادت بكل مطربةٍ ... يُطوى لها البيدُ كلما نشرت سماء مجدٍ سمت ببهجتها ... عن صدر أهل الزمان قد صدرت محمرة الحُسنِ في حُلى شفقٍ ... تخضرّ في حُسنها وقد خضرَتْ أبياتها من عقودها نُظمت ... ونثرها للكواكب انتثرتْ لابنِ جلا ما جَلتْهُ من دُرر ... وابن هلال بديعُ ما سطرتْ يا حبّذا للصلاح نسبتُها ... خليلُها من به العُلا افتخرت يا روض فضْل غُصونه زهرت ... وحبر علمٍ بحاره زخرَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 سرتْ فعين السرور ما نظرتْ ... في دوحها الأُنس أغصُناً نضرت ولا نسيم الصبا سرت سِحراً ... إلا كدأب الهجير إذا هجرت ولا تغنّت في الأيك ساجعةً ... فأطلقت مونعاً ولا أسرت ولا تثنّى للراح غانية ... أوتارها واللحاظ كم وترت ولا سمت مُقلةُ المَشوق الى ... لقياك نحو المقام مذ سمرت يا عجباً من بحار عبرته ... ما أُخمدت ناره التي استعرت كدّرتْ مذ غبت عنه عشيته ... فيا لأنس نجومه انكدرت على هواك القلوب قد فُطرت ... لولا تمني لقائك انفطرت يا مُقلةً مذ غبتم سخنتْ ... هل عشية إن حضرتمُ حضرت ويا حياةً صفت بقربكم ... هل يُرتجي عودُها وما كدرتْ يقبّل اليد العالية الصلاحية، لا زالت صالحة الشيم، سافحة الديم بل الباسطة الكريمة، لا برحت واسطة عقد الكرم، بل الأرض المنيفة بحلوله لا فتئت مواطن النعم، ومواطئ أولي الهمم: تقبيل ملآن الجنا ... ن بحبه دون الأممْ متندّم لفراقه ... لو كان ينفعه النّدمْ لو كان يطرقُهُ الكرى ... لكنه لمّا ينمْ لهفي على عصر به ... ولّى حميداً لم يُذَمْ شوقي له شوق العلي ... ل لما شفاه من السّقمْ شُكري له شُكرُ الريا ... ض السحبَ جادت بالدّيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 ذكري لأيام به ... مرت كما مر الحلم وحلتْ كما مرّت ليا ... لي الشريف بذي سلَمْ وينهي ورود المشرّفة العالية قدراً، الحالية من البدائع الروائع دراً، المؤتقة في رياض الفصاحة زهراً، المطلعة في سماء البلاغة زهراً، وكلف بها كلف عمرو بعراره، والفرزدق بنواره، وأقسم من طرسها بحمرة الشّفق، ومن نِقْسها بالليل وما وسق، ومن غرر معانيها السامية على غير مُعانيها بالقمر إذا اتّسق لتليت أهل البلاغة، فظلت أعناقهم لها خاضعين، وجليت على أرباب اليراعة وألباب البراعة فقالتا: أتينا طائعين، انقياداً لطفيل أعنيتها، وبترياً من مطاعنة أبي براءٍ ملاعب أسنتها، كل يلمحها بطرف كليل وشخص ضئيل، ويرجع عن مجاراتها بأمل حسير وقلب كسير، فلا يُجري في ميدانها خيل طراده ولو قام مقام قسٍ في إياده، وأين حميمه من حمياها أم أين سهيله من ثرياها، لشد ما ارتفعت منها المطالع وانقطعت دونها المطامع، فما الظن بوحيد يحتاج الى الذمام وربيط في الرّغاب لا عهد له في السرايا ولا أنس له بالدخول في القتام أن يجول في حلبة الرهان أو يَطول الى مقاتل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 الفرسان أو يُسابق بسكّيته مجلي الميدان، أو يناطق بباقل من سحب ذيلاً على سحبان، وهل تستفاد تلك المواد من غير ذلك المواد، وهل استولى على أمد تلك الجواد غير ذلك الجواد، وأن يكاثر البحار الزواخر من ورده الثماد، وأن يطاول الأنجم الزواهر من قرارته الوهاد، فما تفوه السليم الصدق إلا بالتسليم لذلك السبق والتعظيم لذلك الحق اعترافاً بما قد حواه رافع ذلك المنار وجامع تلك المبار. وأما أمره بالمسارعة الى المراجعة والمعاجلة الى المساجلة وما غادره لغيره من متردّم، ولو شنّ على الآداب إغارة ربيعة بن مكدم، فلم يرجع المملوك الى جواب ينجده وخطاب يسعفه بالمراد ويسعده إلا التمثل بقول القائل: وأخذْتَ أطرافَ الكلام فلم تدعْ ... قولاً يُقالُ ولا بديعاً يُدّعى وأما تمثيله ببيت أبي العلاء ما هو فيه من علو المكان لإنابته ابن عمه الحصى عن المرجان فما مكاثره بالأدب، وعيونه تنسل إليه من كل حدب إلا المكاثر بياءَي أنيسيان بل لعله حرسه الله تعالى عنّ له المرور ببلاد ابن عنين بلاد بها الحصباء درّ أو ثنى عنانه الى منزل ابن اللبّانة: نزلنا بكافورٍ وتبرٍ وجوهرٍ ... يُقال له الحَصباءُ والرملُ والترْبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 أو أجتاز بنهر أخي مناز وحصاهُ تروع حالية العذارى، فورده وأمواجه تطرد، إما يرد أو يبترد، لكنه عاكسهم في التشبيه، ونافسهم في التمويه، فاستعبد كلامهم كلامه الحُرّ، وكان ما جاء به من الحصى أنفس مما جاؤوا به من الدرّ، فتأخّروا وإن تقدّموا، وتقدّم وإن تأخر، وكانت بدائهه لبدائه سواه تسحر، وبدائعه من بديع سواه تسخر. وأما تشبهه بالهمة الشهابية وتشوّفه الى الهمة العدوية فلابد بمشيئة الله تعالى أن تعدّى العدوية قربه على بعاده، وتعمر العُمرية أرجاء رجائه بعوده الى معاده، والقطر يسبق الدين السواجم، والزهر يعبق وما انشقّت عنه الكمائم: وإن رجاءً كاملاً في جميلةٍ ... لكَالمالِ في الأكياس تحت الخواتمِ والله يعمر ببقائه أنداءَه، ويسرّ بلقائه أوداءَه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. وكتبت أنا إليه من دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة: يا عذولاً في لومه قد تفصّح ... ويرى أنه بذاك تنصّحْ ليس عندي من الجوى بي جوابٌ ... هذه أدمعي تقول وتشرح قف على غير مسمعي واسأل الصّب ... رَ فما عنده سوى الله يفتحْ كم ينادي السلو بالحرب أولى ... وينادي الغرام بالصلح أصلحْ قِستُ بين السلو والوجد حتى ... صحّ أن الغرام أرجى وأرجح كيف صبري عن أرض مصرٍ وفيها ... لي قوم أسمى الأنام وأسمح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 لو تعاطي الجبالُ كأس حديث ... عنهم مال عطفُها وترنّح هات قل لي من أين تلقى لفتح الد ... ين مثلاً إن كنت للحقّ تجنح خادمٌ سنّة النبي وهذا ال ... فضل أنجى يوم الحساب وأنجحْ كلما خط باليراع حديثاً ... كبّر الله في الطّروس وسبّح إن تقسْ خطه بروض نديّ ... صحّ هذا وجفّ ذاك وصوّح كل عين كأنها طرفُ حبٍ ... ما توقّى الفؤاد لما توقحْ أي قلب بالحزن والهم يصدا ... وحمام الأسجاع فيه يصدحْ بنظامٍ كالدر لما تنقى ... ومعانٍ كالسحر لما تُنقّح لو يجاري برقَ الدُجى ما تنحّى ... أو يباري قس النهى ما تنحنح لا أكفر قولي إذ قلت دهري ... قد توشى من فضله وتوشح ما رياضُ قضيبها قد تلوى ... فيه زهرٌ يُزهى بلونٍ تلوّح جاد قطرُ الندى بها وتفتّى ... وغدا وردٌ نصبُها قد تفتّح مثل أخلاقه التي قد حواها ... بل أراها بالحُسن أملى وأملحْ قوبلت نسخةُ المعالي عليها ... وأجاز الجمال ذاك وصحّحْ آه وا وحشَتا لذاك المُحيّا ... والسجايا التي أبرُّ وأوضحْ لا أرى في الزمان أسعدَ ممّنْ ... قد تمسى بوجهه وتصبّحْ فكتب الجواب عن ذلك: صادحاتُ الحمام في الدوح تصدحْ ... بغرامي فالعين للبين تسفحْ رجّعت شدوها فبرّح بي شو ... قٌ مقيم لظاعنٍ ليس يبرحْ فرّقت بيننا صُروف الليالي ... فهل الدهرُ بالتواصلِ يسمح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 فتنادي بك المنى من قريب ... بعد قفرٍ من التباعد أقبح إن لي مطمعاً بقربك يأسو ... ما غدا الناس بالتباعد يجرح كلما شام بارقُ الشام طرفي ... قلت شوقاً لوصلك: الله يفتحْ ولقلبي منه خُفوقٌ ونارٌ ... ولطرفي منه سحائب سُيَّحْ يا صلاح الدين الذي فاقَ أهل ال ... عصر حلما عنه الرواسي تزحزح وبليغاً ما رام يأتيه عفواً ... وفصيحاً ما احتاجَ أن يتفصّح لو رآه غيلانُ قصّر عن قص ... دِ بلالٍ وصدّ عن زجرِ صيدح وفّر النفس عن منى كل وفر ... ورأى العِلمَ منه أرجى وأرجح وغذاء الأرواح أشرف مما ... تغتذيه الأجسام قدراً وأصلح سبّح الله من رآكَ إماماً ... كم له في بحار علمك مسبحْ حائزاً من بدائع بني هلالٍ ... سحرَ نثرٍ بدُرِّ خطٍ موشّح كعلي وضعاً ورقّة إبْرا ... هيم طبعاً بل أنت أسمى وأسمح يا خليل الآداب ما اختلّ منها ... فالصحيح الذي عليك يصحَّح كم على الدهر من حُلالها جمالٌ ... ما لمسرى مؤمِّلٍ فيه مسرح سمطها فائزٌ بدُرِّ معانٍ ... سقطُها من زِناد فكركَ يقدح كلّ عذراء تسبي كل لبٍ ... بسنا عن سناءِ علمك يُلمح زارت الصبِّ في ليالٍ من البُع ... دِ فلما دنت رأى الصبح أصبحْ قلدت بالعقيان سحر بيانٍ ... ليس فيه للفتح بعدك مطمحْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 ختم النّظمُ منك بحر قريضٍ ... ما أراهُ من بعدِ ختمك يُفتح وكتب هو إلي رحمه الله تعالى وأنا بصفد في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة: سُررتم فإني بعدكم غير مسرور ... وكم لي على الأطلال وقفة مهجورِ ولا حسَّ إلا حس صائحة الصّدى ... ولا أُنسَ إلا أنس عيسٍ ويعفور فيا وحدةَ الداعي صداهُ جوابهُ ... ويا وحشةَ الساعي الى غير معمورِ إذا قلت سيري قال سيري مُحاكياً ... وإن قلتُ زُوري قال لي مثلها زُوري وما سرّني بالقُرب أني استزرتُها ... ولا ساءني بالبُعدي قولي لها سيري فيا ويحَ قلبي كم يعلّله المُنى ... علالةَ دُنيا استعبدت كل مغرور تواصل وصل الطيف في سنة الكرى ... ولست إذا استيقظتَ منه بمحبور وتدنو دنوّ الآلِ لا ينقعُ الصّدى ... وتخلبُ آمالاً بخُلّبها الزورِ تُنيل المُنى من سالمَتْهُ خديعةً ... وتُعقب من نيل المنى كل محذور فدعها وثق بالله فالله كافلٌ ... برزقك ما أبقاك وارضَ بمقدور وكن شاكراً يسراً وبالعُسر راضياً ... فأجرُ الرضا والشكرِ أفضلَ مذخورِ فكتبت أنا الجواب عن ذلك: هل البرقُ قد وشّى مطارفَ ديجورِ ... أو الصبحُ قد غشّى دُجى الأفقِ بالنورِ وهل نسمةُ الأسحار جُرّت ذيولُها ... على زهر روضٍ طيّب النشر ممطورِ وهيهاتَ بل جاءتْ تحيةُ جيرةٍ ... الى مُغرمٍ في قبضة البعد مأسورِ أتته وما فيه لعائد سُقمه ... سوى أنه تنبثّ من قلب مصدورِ فلما تهادت في حُليّ فصاحة ... من النظم عن سحر البلاغة مأثور أكبّ على تقبيلها بعد ضمها ... الى خاطرٍ من لوعة البين مكسور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 وأجرى لها دمع المآقي ولم يكن ... يقابل منظوماً سواه بمنثور فأرشفه كأسَ السُلاف خطابُها ... وغازله من لحظها أعينُ الحورِ فكم حكمةٍ فيها لها الحكم في النهى ... وكم مثلٍ في غاية الحسن مشهورِ يرى كل سطر في محاسن وضعه ... كمسكِ عذارٍ فوقَ وجنةِ كافورِ فلا ألفٌ إلا حكت غُصنَ بانةٍ ... وهمزتُها من فوقها مثلُ شُحرور فأصلح لا يثني الى الأرض جيدَهُ ... غراماً ولم يعدِل بها وردةَ الجوري وقد كانت الأطماع نامت لياسها ... فلما أتت قال الغرامُ لها ثوري وزادت جفون العين سُهداً كأنما ... حبَتْها بكحل منه في الجفن مذروري وكان الدجى كالعام فاحتقرتْ به ... وقالت له ميعادُك النفخُ في الصور ولا ترضَ من نار الحشا باتقادها ... فقد قذفتْ في كل عضو بتنور وما شكرتْ عيني على سفحِ عبرتي ... على أن محصول البُكى غير محصور وقالت أما نحيا الدموع لشدة ... فدعها تفِضْ من زاخرِ اللّج مسجور ولو كنتُ ألقى في البُكا فرجاً لما ... مضى اليوم حتى كنتُ أولَ مغرور ولو كنت ألقى الصبر هانت مصيبتي ... ولكنه للحظّ في غير مقدور فإن تبعثوا لي من زكاة اصطباركم ... فإني لما تهدونه جدُّ مضرور سلوا الليل هل آنستُ فيه برقدة ... فما هو ممن راح يشهدُ بالزورِ فكم لي فيه صعقةٌ موسويةٌ ... وللقلب من تذكاركم دكةُ الطور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 تشفعتُ للبين المشتِّ بكم عسى ... يعود هزيمُ القُرب عودةَ منصور على أن جاه الحظّ أكرمُ شافع ... ولولاه لم يُحتج الى بنت منظور وما هو إلا الحظ يعترضُ المُنى ... ولولاه كان الدهر أطوعَ مأمورِ فكم في البرايا بين عانٍ ومطلَقٍ ... وسالٍ ومحزونٍ ودانٍ ومهجور وليس سوى التسليم لله والرضا ... بقلب منيبٍ طائعٍ غير مقهور وحاش لعلاّم الخفيات في الورى ... على ما ابتلاني أن أُرى غير مأجور فكتب هو رحمه الله الجواب: وردت المشرّفة السامية بحُلاها، الزاهية بعلاها، المشتملة على الأبيات الأبيّات، الصادرة عن السجيات السخيّات، التي فاقت الكنديّيْن، وطوت ذكر الطائيين، ما شئت من بدائع إيداع وروائع إبداع، تقف الفصاحةُ عندها وتقْفو البلاغة حدّها، فالله ذلك الفضل الوافي، بل السحر الحلال الشافي، بل تلك القُوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي، بل تلك المعاني التي حيّرت المُعاني، وفعلت في الألباب ما تفعله الثالث والمثاني، بل تلك الأوضاع التي حاك الربيع وشيَها، وامتثل القلم أمرها ونهيها، فهو يصرفها كيف يشاء مرسوماً، ثقة أنها لا تخالف له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 مرسوماً. لقد آل فضل الكتاب إليها وآلى فصل الخطاب لا وقف إلا بين يديها، لقد صدرت عن رياض الأدب فجنَت زهره اليانع، لقد أخذت بآفاق سماء البلاغة فلها قمراها والنجوم الطوالع، لقد أفحمت قائلة: مَن يُساجلُني يُساجل ماجداً ... يملأ من آدابه كلَّ ذَنوبِ لقد حسُنَت حتى كأن محاسناً ... تقسّمها هذا الأنام عيوبُ هي الشمس تدنو وهي ناءٍ محلّها ... وما كلُ دانٍ للأنام قريبُ تخطّت الى الحُضْر الجيادَ نباهةً ... وهيهات من ذاك الجناب جنيبُ وحيّت فأحيت بالأماني متيّماً ... حبيبٌ إليه أن يُلمّ حبيبُ يذكّرني ذاك الجمال جمالها ... فليلي كما شاء الغرامُ رحيبُ وما لي إلا أنةٌ بعد أنةٍ ... وما لي إلا زفرةٌ ونحيبُ حنيناً لعهدٍ غادر القلب رهنه ... وعلّم دمعَ العين كيف يصوبُ وذكرى خليلٍ لم يغبْ غيرُ شخصه ... وفي كل قلبٍ من هواهُ نصيب ولولا حديثُ النفس عنه بعودِه ... وأن المنى تدعو به فيجيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 لما استعذب الماء الزلال لأنه ... إذا مازج الماء الزلال يَطيبُ فبادرها المملوك لبنائها متعرفاً، وبأرحبها متعرفاً، وبولائها متمسكاً وبثنائها متمسكاً، شوقاً إليها لا يبيد ولو عمّر عمر لبيد، واقفاً على آمال اللقاء وقوفَ غيلان بدار ميّة، عاكفاً على أرجاء الرجاء عكوف توبة على حب ليلى الأخيلية، والله يتولاه في حالتيه ظاعناً ومقيماً، ويجعل السّعد له حيث حلّ خديناً والنُجْحَ خَديماً، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى. فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: تنوحُ حماماتُ اللوى فأَجيبُ ... ويحضُرُ عندي عائدي فأغيبُ وقد ملّ فرشُ السّقْم طولَ تقلّقي ... عليه بجنبي إذ تهبُّ جَنوبُ ولما بكتْ عيني نواكَ تعلّمتْ ... دموعُ السّحاب الغرّ كيف تصوبُ أيا برقُ إن حاكيتُ قلبي فلم يكن ... لنارِكَ مع هذا الخفوقِ لهيبُ ويا غيثُ إن ساجلْتَ دمعي فإنه ... يفوتك مع ذا أنةٌ ونحيبُ ويا غصنَ إن هزّت معاطفك الصّبا ... فما لك قلبٌ بالغرام يذوبُ إذا جفّ جفني ذاب قلبي أدمُعاً ... فلله قلبٌ عاد وهو قليبُ أبيتُ بجفنٍ ليس يعرفُ ما الكرى ... وأيُ حياةٍ بالسهاد تطيب وقلبٍ إذا ما قرّ عادتْهُ لوعةٌ ... فيعروه من بعد القرار وجيبُ ألا إنّ دهراً قد رماني بصَرفِهِ ... لدَهْرٌ إذا فكرت فيه عجيب ويكفي أني بين أهلي ومعشري ... وصحبي لبُعدي عن حِماك غريبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الذي تصدّق به مولانا منعماً، وأهده خميلةً فكم شفى زهرُها المنعّم من عمى، وبعثه قلادة فكم أزال درّها المنظّم من ظمأ وأقامه حجة، على أن مُرسله يكون في الإحسان والآداب مالكاً ومتمِّماً، فبلَلْتُ برؤيته غلة الظّمأ البَرْح، وعاينت ما شاده من بنيان البيان، فقلت لبلقيس عيني ادخلي الصّرح، وقمت من حقوقه الواجبة عليّ بما يطول فيه الشرح، وتلقّيته بالضمّ الى قلب لا يجبر منه الكسر غير الفتح، وأسمَت ناظري من طرسه في روضهِ الأُنُف، وقسمت حليّه على أعضائي فللجيد القلائد وللفرق التيجان وللأذن الشُنُف، ووردت منهله الصافي والتحفت بظله الضّافي، واجتليت من وجهه بشراً قابله الشُكر بالقلم الحافي، وعكفت منه على كعبة الفضل فلله ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وكلّفت قلبي الطائر جواباً فلم تقوَ القوادم وظهر الخواء في الخوافي، وقلت هذا الفنّ الذي ما له ضريب، وهذا وصل الحبيب البعيد، قد نلته برغم الرقيب القريب: فيا عينيّ بِيتا في اعتناقٍ ... ويا نومي قدمْتَ على السّلامهْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 وأقسم أن البيان ما نكّب عما دبّجه مولانا ونكّت، ولا أجراه الله على لسانه إلا لما سكّت البلغاء وبكّت، ولا آتاه هذه النقود إلا وقد خلّصت القلوب من رقّ غيره وفكّر، ولا وهبه الله هذه الكلم الجوامع إلا أن الأوائل أحسوا بطول رسائلهم فقطّعوها من حيث رقّت، والصحيح من حيث ركّت، فما كل كاتب يده فم ولسانه فيه قلم، ولا كل متكلم حُش بيانه تأتّم الهداة به كأنه علَم، ولا كل بليغ إذا خاطب الوليّ كلاً أو كلّم العدوّ كلَمْ، لأن مولانا حرسه الله تعالى لا يتكلّف إذا أنشا، ولا يتخلّف إذا وشّى، والسّجع أهون عنده من النفس الذي يردده أو أخف، والدرّ الذي يقذفه من رأس قلمه أكبر من الدرّ الذي في قعر البحر وأشفّ، وإذا راضَ قلمه روّض الطّروس من وقته، وإذا أفاض كلمَهُ فوّض البيان أمر مقته ومِقته، وما كلمُه إلا بحر، والقوافي أمواج، وما قلمه إلا ملك البلاغة فإذا امتطى يده ركضت به من الطّروس على حلل الديباج، فلهذا أخملت رسائله الخمائل، وتعلّمت منها الصّبا لطف الشمائل، وأخذت بآفاق البلاغة فلها قمرها الطوالع ولغيرها نجومها الأوافل، وانتقت أعالي الفضائل، وتركت للناس فضالة الأسافل: وهذا الحقّ ليس به خفاءٌ ... فدعني من بُنيّات الطريقِ فأما درّه الذي خرطه الجناس في ذلك السلك فما أحقّه وأولاه بقول ابن سناء الملك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 فذا السّجعُ سجعٌ ليس في النثر مثله ... وهذا جناسٌ ليس يُحسنُهُ الشعر فلو رأى الميكالي نمطه العالي وتنسّم شذى غاليته العزيز الغالي لقال عطّلت هذه المحاسن حالي الحالي وكنت من قبلها ما أظن اللآلئ إلا لي، ولو ظفر الحظيري بتلك الدّرر حلّى بها تصنيفه، ولو بلغ العماد الكاتب هذه النكت رفعها على عرشه وعوّذها بآية الكرسي، ودخل دار صمته وأغلق باب الفتح القُدسي، فعينُ الله على هذه الكلم التي نفثت في العُقَد، وأيقظت جدّ هذا الفن الذي كان قد رقد، فقد أصاب الناس بالسهام، وأصبْتَ أنت بالقرطاس، وجاؤوا في كلامهم بالذاوي الذابل وجئت أنت بالغضّ اليانع الغِراس، وأبعدت أنت في مَرمى هذا الفن فقاربوا، ولكن أين الناس من هذا الجناس، وسبقت الى الغاية، ولو وقفت ما في وقوفك ساعةً من باس، وقد قيل: بُدئ الشعر بأمير وخُتم بأمير، يريدون امرأ القيس وأبا فراس، وكذا أقول بدئ بالبُستي وخُتم بمولانا، وكلاكما أبو الفتح فصحّ القياس. وقد أثنيت على تلك الروضة ولو وفّقت لانثنيت وما أثنيت، ووقفتُ عند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 قدري فما أجبت، ولكن اتّقحت وما استحيَيت، على أني لو وجدت لساناً قائلاً لقلت، فإني قد وجدت أول البيت وقد شغل وصف مثال مولانا عن شكوى حال المملوك الشاقة، وأرجو أنني أوصيها شفاها إما في الدنيا وإما في يوم الحاقة: إن نعِشْ نلتقي وإلا فما ... أشْغل مَن مات عن جميع الأنامْ قلت: كأن هذه الخاتمة كانت مني فألاً عليه، فإنا لم نلتق، وحالت المنية بينه وبين الجواب، والمرجو من الحلم الكريم أن يجمعنا في دار كرامته ورحمته. وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه ما كتبه الى ابن عمه: تمنّاها وما عقدَ التّمائمْ ... وشابُ وحبُها في القلب دائمْ وحكّم لحظها فقضى عليه ... فأين مجيره من جور حاكمْ وطارحها الغرام به فقالتْ ... علمتُ فقال ماذا فعلُ عالم معلله المتيّم والغواني ... حبالُ وعودها أبداً رمائم أما لي في وصالك من نصيب ... ولا لك في عذابي من مساهم ولا لي ملجأ في الخطب إلا ... سليلُ الملك ذو المنن الجسائم الى ابنِ أبي الحسين الحُسنُ يُعزى ... وثغر الجود عن جدواه باسم هُمامٌ بالحروب له اهتمامٌ ... بفتكٍ في العِدا لا في الغنائم فيُعمل رأيه الماضي شباه ... إذا نبت الأسنّة واللهاذم ويثبت حيث مُشتجر الغوالي ... ويمضي حيثُ لا يمضي الصوارمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 ويأمن عنده اللاجي إليه ... ولو حفّتْ بمهجته الضّراغم ويقصده السليم فلا يُبالي ... بما أعياه من سمّ الأراقمْ وهي طويلة، وهذا القدر منها كاف. وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة: فقري لمعروفك المعروفِ يغنيني ... يا مَن أرجّيه والتقصيرُ يرجيني إن أوبَقَتْني الخطايا عن مدى شرفٍ ... نجا بإدراكه الناجون من دوني أو غضّ من أملي ما شاءَ من عملي ... فإنّ لي حسنَ ظن فيك يكفيني وأنشدني من لفظه لنفسه: صرفت الناس عن بالي ... فحبلُ ودادهم بالي وحبلُ الله معتصمي ... به علّقتُ آمالي ومَن يسلِ الورى طُرّاً ... فإني عنهمُ سالي فلا وجهي لذي جاهٍ ... ولا ميلي لذي مالِ وأنشدني من لفظه لنفسه: عذيري من دهرٍ تصدّى معاتباً ... لمستمنح العُتبى فأقصدَ من قصدْ رجوتَ به وصلَ الحبيب فعندما ... تبدّى له المعشوقُ قابله الرصَدْ وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في قراقوش: ظبيٌ من التُرك هضيم الحشا ... مهفهفُ القدّ رشيقُ القوامْ للطّرفِ من تذكاره عبرةٌ ... والقلب شوقٌ أرّق المُستهامْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت: إن غضّ من فقرنا قومٌ مُنحوا ... وكل حزبٍ بما أوتوهُ قد فرحوا إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهمُ ... فإنهم خسروا أضعاف ما ربحوا وأنشدني في لفظه لنفسه: يا بديع الجمال شُكرُ جمالُكْ ... أن توافي عشّاقه بوصالكْ لِنتَ عطفاً لهم وقلبُك قاسٍ ... فهم يأخذون من ذا لذلكْ غير أن الجمال أولى بذا الحُس ... نِ ومَن للبدور مثل كمالك قابلتْ وجهك السماءُ فشكل ال ... بدر ما في مرآتها من مثالكْ مثّلتُه لكن رسوم صداها ... كلّفته فقصّرتْ عن مثالِكْ محمد بن محمد بن يوسف ابن نصر، صاحب الأندلس أمير المسلمين أبو عبد الله بن الأحمر الخزرجي. كان ملكاً جميلاً نبيهاً نبيلاً حسن السياسة ظاهر الرياسة، عاقلاً وقوراً، فاضلاً يرسل من ذهنه على صيد المعاني صقوراً، متظاهراً بالدين متجاهراً بقمع الملحدين، له نظم أرق من هبّة نسيم سحَرْ، وأخلب من لحظ غادة إذا رمق وسحر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 وكان قد قرأ العربية على الأستاذ أبي الحسن الأُبّذي وراح وهو على طريقه يحتذي. ولم يزل على حاله الى أن خانه زمانه، وغدر به سلطانه، فخُلع ثم غُرِّق، ووزع سعده وفُرّق، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة. وكان قد بويع السلطان أبو عبد الله بعد والده سنة إحدى وسبعين وست مئة، فتملك ثمانية أعوام، ثم إنه وثب عليه أخوه أبو الجيوش نصر، وظفر به وسجنه مدة، ثم جهّزه الى بلده شلوبينيّة، فحبسه بها الى أن تحرّك على نصر ابنُ أخته الغالب بالله وطلب نصر أخاه المخلوع الى غرناطة فجعله عنده بالحمراء في بيت أخته، ومرض أبو الجيوش نصر، فأغمي عليه ثلاثة أيام، فأحضر الكبراء أخاه ليملّكوه، فلما عوفي أبو الجيوش تعجّب من مجيئه وأخبر فغرّقه خوفاً من شهامته، وكان خلعُهُ وتغريقه في السنة المذكورة. أخذرني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين قال: رأيته بغرناطة مراراً بالمصلى، وأنشدته قصيدة امتدحته بها، وحضرت عنده إنشاد الشعراء في بعض أعياده، ويُذكر أن له نظماً، وقد اشتهر عنه وهو قوله يخاطب وزيره أبا سلطان عزيز بن علي الداني: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 تذكّر عزيز ليالينا ... وأُنسا نعاطي على الفرقدينْ ونحن ندبّر في مُلكنا ... ونُعطى النُضار بكلتا اليدينْ وقد طلب الصُلح منا اللعي ... ن فما فاز إلا بخفّي حُنين إذا ما تُكاثر إرساله ... يكون الجوابُ شبا المرهفين فلمْ لا تشمّر عن ساعدٍ ... وتضرب بالسيف في المغربين وقد خدمتنا ملوك الزما ... ن وقد قصدتْنا من العدوتين فنسأل من ربّنا عونَهُ ... على ما نوينا من الجانبين ومما ذكر عنه قوله: أيا ربة الحسن التذي أذهبت نُسكي ... على كل حال أنت لابدّ لي منكِ فإما بذُلٍ وهو أليقُ بالهوى ... وإما بعزّ وهو أليقُ بالملكِ انتهى. قلت: وقد نظمت جوابه كأني حاضره في وزنه ورويّه: متى لاق بالعُشاق عزٌ وسطوة ... كأنك من ذُل المحبة في شكِّ تلقَ الهوى مع ما ملكتَ بذلّة ... لتُنظم مع أهل المحبة في سِلكِ ولكنه ظرّف في كونه قدّم لفظ الذل على العز. محمد بن محمد بن محمد ابن محمد بن عبد القادر، الإمام المفتي المدرّس ناصر الدين بن الصايغ الدمشقي. كان من أعيان الفقهاء وسمع كثيراً ونظر في الرجال، وعني بالمتون، وسمع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 القاضي، والمطعّم، وعدة. وكتب عن شيخنا الذهبي. وقال شيخنا عنه: له عبادة وإنابة وتسنّن. وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون دمشق سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة سبع وسبع مئة. كان مدرّس العمادية. محمد بن محمد بن محمد الشيخ الفقيه القاضي فخر الدين أبو عبد الله الشافعي المعروف بابن الصقلّي. ناب في الحكم بالحكر ظاهر القاهرة الى حين وفاته، وصنّف كتاب التنجيز في تصحيح التعجيز وولي قضاء دمياط. توفي رحمه الله تعالى في أواخر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وقد قارب السبعين. محمد بن محمد بن محمد ابن خليفة بن نصر الله القاضي الرئيس الفاضل الكاتب أمين الدين ابن القاضي نجيب الدين بن القاضي كمال الدين بن النحاس. أتقن القلمين إنشاءً وحساباً، وتجاوز غاية الفنين، فإذا دعاهما أجابا، وكان فيه رئاسة تشرّبها قلبه قديماً، وصحب الناس على اختلاف حالتيه خادماً وخديماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 ولما كان في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رأى من العز والوجاهة والصدارة والنباهة ما فاق به أبناء جنسه، وجنى ثمر غرسه، ونفخ في ضرم الكرم، وأبقى من الثناء ما لا انصرف ذكره ولا انصرم. ثم إن الدهر قلب له المجنّ، وأسدف ليلُ خموله وجنّ، وانحرف عليه مخدومه، وغابت من إقباله نجومه، ثم إنه حنّ عليه بعض حنوّ وأسمى قدره بعض سمو. ولم يزل في عمالة الخزانة معروفاً بالضبط والأمانة الى أن نحّى النحاس عن الحياة أجلُه، ولم ينفعه ريثه ولا عجله. وتوفي رحمه الله تعالى فجأة يوم الخميس سابع شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة. ومولده في غالب الظن في سنة إحدى وثمانين. بات ليلة الخميس وأصبح بكرة نهاره، فحكى لبعض أصحابه، قال: رأيت في بارحتي كأني دخلت الحمام ومتّ، وفي البارحة الأولى رأيت مثل ذلك، ثم إنه اشترى لأهله حلوى، لأنه كان ليلة الرغائب، وجهّزها مع أهله الى تربة ولده بالمزة، وقال: أنا العصر عندكم، ثم إنه دخل الحمام وخرج منه، فمات فجأة، وما أذّن العصر إلا وهو عند أهله كما قال، ولكن على النعش. وكان أول أمره قد توجه مع الأمير سيف الدين طقطاي الجمدار الى نيابة الكرك، ثم إنه عاد واستخدمه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى صاحب ديوانه عوضاً عن القاضي محيي الدين، فصال وجال، وكان له ذكر في دمشق وصيت وسمعة الى أن تغيّر عليه بعد مدة فعزله، وأخذ منه بعض شيء، واستمر في إحدى وظيفتيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 بديوان الإنشاء، ثم إنه بعد مُدَيدة لزم بيته، وأقام على ذلك مدة. ثم إنه حنّ عليه واستخدمه في نظر دار الطراز، فباشرها مدة، ثم إنه تناقل هو وابن السابق من عمالة الخزانة الى نظر دار الطراز، فاستمر أمين الدين في عمالة الخزانة بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى. ولما كان الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق تحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله في أن يكون في جملة كتّاب الإنشاء، فرسم له بذلك، وكتب بذلك توقيعه، وعلّم عليه، وطُلب ليباشر فاستعفى من ذلك. وكان له نظم ونثر لا بأس بهما، من ذلك ما نظمه وكتبه على حسن التوسّل وهو: فأدركته منها بحسن التوسل ونقلت من خطه صورة قصة كتبها على لسان قلعة الكرك تسأل أن يكون بها موقّعاً وهي: المملوكة المُملكة الكركية الشاكي على لسان حالها أكبر مصيبة وأعظم لية: تقبل الأرض لدى مالك ... ساس الأقاليم برأي مصيب وتشتكي جورَ الزمان الذي ... قد خصها دون الورى بالصليب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وتنهي أنها من أعز الممالك وأصعب المسالك، قلعتها منيعة، وهضبتها رفيعة، وبقعتها وسيعة، وذروتها باسقة وقُلتها شاهقة، وقد اتخذت لها الغمام لثاماً، وزرقة السماء وشاماً، يكاد ساكنها يردُ من المجرة نهرها ويجالس من النجوم زهرها، وهي دار السلطنة الشريفة، ومحلّ الأرمن من الخيفة، قد جمعت بين قرب الأرض المقدسة والشام ومجاورة الأنبياء والبلد الحرام، ومع ذلك كله لسان إنشائها أقلف، وقلم توقيعها من الحجارة أجلف، ووليّه نصراني الدين، وفي ذلك إجحاف بالإسلام والمسلمين، وكانت صابرة على البلوى ومحتسبة عند الله ما تقاسيه من هذه الشكوى، لعدم من تنهي إليه حالها وتبث مقالها، الى أن أعزها الله بعز الدين، ومنحها منه بالرأي الصائب والفتح المبين: أمير له حزم وعزم وفطنة ... ورأي يجيد العقد والحل صائبه تردّى بثوب العدل والباس والندى ... كما قال من قد أحكمته تجاربه: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... تغازله من كل أمر عواقبه فلما حل ساحتها، وأعاد لها بعد التعب راحتها، وأزال عنها كل بوس وأضحك وجوه أملها العبوس، حضر لديه منشئ هذه القصة ومزيل - إن شاء الله - هذه الغصة عبد الأبواب الشريفة محمد بن محمد بن خليفة ممن غذي بالإسلام، ونسب الى أنصار النبي عليه السلام، وهي تسأل توليته ديوان إنشائها، وإن لم يكن لذلك أهلاً، لكنه أحق من هذا الأقلف وأولى، لتكون المملوكة في ذلك كمن اتخذ سداداً من عوز أو تقلّد لعدم الدرّ الخرز: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 فإن اقتضت آراءُ مولى قد سما ... بمفاخر ومآثر وبسؤدد أن يسعف الشاكي إليه برأفه ... تدنيه من آماله والمقصد فليصرفن هذا اللعين ويغتنم ... إبدالَه لي بطْرُساً بمحمد ويشرف هذا القلم الذي لا يبارى، وليعمل بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى " ويسلك هذه الصناعة أحسن مسلك، معتمداً على قوله عز وجل: " ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشرك " وينزهها من ذلك كأمثالها من الحصون، آخذاً بقوله حلّ اسمه: " لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّونِ ". وقد أرسلت المملوكة هذه القصة والسيل بالغ الزبا وخفيف بلله قد عمّ أعالي الربا، فإن أُجيبت فاللوم عداكم، وإلا أنشدت: فعلى علاكم أنهت ذلك إن شاء الله تعالى. وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر دار الطراز ثالث عشري صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو: رسم بالأمر العالي - لا زال يصطفي من كان أميناً ويكتفي بمن تتقلد الأيام من محاسنه عقداً ثميناً، ويحتفي بمن يصبح نور كفايته على مرّ الليالي مُبيناً - أن يرتب المجلس السامي القضائي في كذا.. ركوناً الى كفايته التي يزيد جمالها ويزين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 ويعيد جلالها ويعين، ويبيد كل فضل سواها ويبين، ويستحق بمكانتها أن يقال له " إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين " إذ هو الخبير الذي إذا قام في أمر سدّه، وتمنى بدرُ التمام لو نال بعض كماله ووده، والفاضل الذي مر الزمان على محاسنه وهي لا تزيد إلا جدّة وجدة، وأعيا تعدادُ فضله أنامل الحُسّاب فما أمسكوا إلا على عدة وعدة، والكاتب الذي وشّى المهارق، عوّذ قلمه وطرسه بالقضيب والبُردة، ورقم ابن مقلة تحت رقم خطه، وشهدت له بالحلاوة شهده، والبليغ الذي إذا قال قال الذي عنده، وأعجلت رويّته القلم فلم تدعه يبلغ ريقه ولا يستريح في مدة مدّه. فليباشر ذلك مباشرة هي في كفالة معرفته وكفاية خبرته ناظراً فيما يوشي ويوشع، ويلم شمل الحسن في رقمه ويُلمع، متطلباً أعمال الصناعة بإتقانها، وإقامة الحجة في النظر على صحة رقمهم بأدلتها وبرهانها، متطلعاً الى ضبط ما يصرف، وعرفان ما يمكن أن يتوصل الى كيفية إحسانه وكمية أوزانه ويعرف، حتى تكون هذه المباشرة حقيقةً في صحة النظر دون مجازه، وينسى ابن سناء الملك لمحاسنها طراز داره ودار طرازه، فإنه من هذه الوظيفة المباركة قد تسوّغ العذب النّمير، وفُوّض إليه النظر في جمال المأمور والأمير وزينة الكبير، ولا حظّ فيها للصغير، فيقال: والصغير، ينعم نظره منها في نعيم وملك كبير، ويتفاءل منها بسعادة الآخرة فإنه بها في الدنيا في جنة وحرير. وتقوى الله ملاكُ الأمور فليكن طراز بروده وواسطة عقوده المتحلي بها في صعود سعوده، وليقابل هذه النعمة بشكر يوجب مزيد الخير المستمر والحمد لله الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 يستقل بالأيادي الجزيلة ويستقر، والله يزيده فضلاً من عنده ويوفقه الى ما يرشده الى مظان سعده، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى. محمد بن محمود ابن شمس الدين بن الكويك، التاجر التكريتي. أقام بدمشق مدة طويلة، ورحل وأقام بالإسكندرية، وصار من تجار الكارم، وكانت له في الإسكندرية صورة مشهورة ومعروف وبرّ. توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة. محمد بن محمود بن محمد ابن بندار، الشيخ بدر الدين التبريزي الشافعي. كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح، ولي القضاء في أماكن متعددة، منها القدس وبعلبك، ثم إنه نُقل من القدس الى بلد الخليل عليه السلام خطيباً، فأقام أشهراً يسيرة. ومات رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة خمس وعشرين وسبع مئة. محمد بن محمود بن ناصر ابن ابراهيم، الشيخ الفقيه المقرئ المجوّد شمس الدين ابن الشيخ نجم الدين الزّرعي الدمشقي المعروف بابن البصال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 كان مُقرئاً جيداً عارفاً بالقراءات، حسن الصوت، مليح الأداء، أمّ بدار الحديث الأشرفية مدة، وكان الناس يقصدون الصلاة خلفه في التراويح فيمتلئ المكان ويزدحم. وكان صيّناً ديّناً متواضعاً ظاهر الخير، وتصدّر للإقراء مدة. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وقد تجاوز الأربعين من عمره. محمد بن محمود بن سلمان ابن فهد، القاضي شمس الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق، وابن شيخنا العلامة شهاب الدين محمود صاحب ديوان الإنشاء بدمشق. كان ساكناً وادعاً، رادّاً عن الظلم رادعاً، ليس من الشر في شيء وإن هان، ولا عنده كبرٌ ولا له في الملق وجهان. وكان خطه كالقلائد على اللباب، والأزهار إذا كان للنسيم فيها هبات. جمع من إنشاء والده مجاميع، وعلّق أشياء مطابيع: كأنها من حسنها روضةٌ ... تسرح فيها مُقلةُ الناظر ولم يزل على حاله الى أن صرعته المنايا، وصدعت شمل حياته الرزايا. وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 ومولده ثامن شوال سنة تسع وستين وست مئة. وكان يكتب خطاً نقشاً نغشاً مليحاً الى الغاية، وكان كثير التواضع لم يغيره المنصب، وكان الأمير سيف الذي يحبه ويعزه ويكره، ولما جاء والده رحمه الله تعالى الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء كان هو حول والده يكتب المطالعة، هو والقاضي شرف الدين أبو بكر ولده، وقد تقدم ذكره، وكان إذا سافر الأمير سيف الدين تنكز الى الصيود يسافر القاضي شمس الدين معه، وتوجه معه الى الحجاز لعجز الشيخ شهاب الدين والده عن حركة السفر. ولما توفي والده رحمه الله في شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة كتب فيه تنكز الى السلطان فولاه صحابة ديوان الإنشاء بدمشق على عادة والده، ووصل توقيعه ... ولم يزل على حاله الى أن توفي في التاريخ المذكور، فما طالت المدة. ولما مات رحمه الله تعالى رثاه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة بقصيدة أولها: أطلق دموعك إن القلب معذورُ ... وإنه بيد الأحزان مأسورُ وخلّ عينيك يهمي من مدامعها ... درٌ على كاتب الإنشاء منشورُ يسوءني ويسوء الناس أجمع يا ... بيت البلاغة أن البيت مكسور في كل يوم برغمي من منازلكم ... ينأى ويذهب محمود ومشكور خبا الشهاب فقلنا الشمس فاعترضت ... أيدي الردى فزمان الأنس ديجور آهاً لمنظر شمسٍ لا يُذمّ لها ... بالسعي في فلك العلياء تسيير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 منها: لهفي عليه لأخلاق مهذبة ... سعى الثناء بها والأجر مبرور تواضعٌ لاسمه منه ازدياد عُلا ... وفي التكبّر للأسماء تصغير وهمّة بين خُدّام العلا نشأت ... فاللفظ والعرض ريحان وكافور لا عيب فيه سوى فكر عوائده ... للحمد رقّ وللألفاظ تحرير حتى إذا لاح مرفوع مدائده ... وراح ذيلُ علاه وهو مجرور تخيّرته أكفُّ الموت عارفةً ... بنقده وتنقّته المقادير منها: والمرء في الأصل فخّار ولا عجب ... أن راح وهو بكف الدهر مكسور جادت ضريحك شمس الدين سارية ... يمسي صداك لديها وهو مسرور محمد بن محمود بن معبد الأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وهو أخو الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وأصلهما من بعلبك. أخذ الأمير بدر الدين هذا العشرة، ثم الطبلخاناه، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى قد تغير عليه لما تغير على ناصر الدين دواداره، ثم رضي عنه بعد ذلك وولاه الصفقة القبلية، وكانت له نعمة طائلة، وأملاك وسعادة. وكان يحبّ الفضلاء ويكرمهم، وعلى ذهنه تواريخ الناس ووقائعهم، وعنده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 مجلدات في الأدب وغيره، ولم يكن يقدر أحد يحجّه ولا يخصمه إذا سارعه أو حاكمه، وكان شكلاً طويلاً بطيناً دون أخيه علاء الدين. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن الى جانب بيته داخل دمشق. محمد بن مختار الفقيه الفاضل شرف الدين الحنفي. كان جيد الذهن، يعرف الهندسة جيداً، وله يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الأصل صائغاً، فتسلط بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى وكان يصنع بيده أشياء غريبة ويقدّمها للأمير سيف الدين قجليس الناصري، فراج عنده بذلك، وأخذ له فقاهات في المدارس الحنفية. وكانت له يد في المنطق، وكان يجب الأدب، ولم يكن له فيه يد بل ولا ذوق. اجتمعت به بقلعة الجبل غير مرة وجرت بيني وبينه مباحث أصولية، وكان يميل الى رأي الفلاسفة، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي أبياتاً أنشد فيها، منها أولها: ليس ابنُ مختار في كفر بمختار ... وإنما كُفره تقليدُ كفّار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 محمد بن مسعود ابن أيوب بن التوزي، بالتاء ثالثة الحروف وبعد الواو زاي، القاضي بدر الدين الحلبي، محدث حمص. طلب الحديث واجتهد، وخرّج لنفسه أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً. توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة. ومولده بقلعة حلب سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت الأربعين التي له عليه، وكتبها لي بخطه، وروى لنا عن عبد الله بن النحاس، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابراهيم بن خليل، وضياء الدين صقر، والكفرطابي وجماعة. محمد بن مسعود، صلاح الدين اجتمعت به غير مرة بالقاهرة وبقلة الجبل، وأنشدني كثيراً من شعره، ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة: صرفُ الزبيبي لصرف همّي ... نص على نفعه طبيبي آهٍ على سكرةٍ لعلي ... أن أخلط الهمَّ بالزبيبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 محمد بن مسعود بن أوحد بن الخطير الأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وسيأتي ذكر والده. كان فيه شمم، وبه عن الخنا صمم، يأخذ نفسه بعظمةٍ زائدة، ويرى أنها على أبناء نوعها سائدة، لا يُذعن لأحد، ولا يذل لكبير اعترف له بالفضل أو جحد. تمتد آماله ولا تقف عند غاية، ويحدّث نفسه بأمور ما لها نهاية. يتجمل في ملبوسه ومركوبه ومسكنه، ويجعل النظافة والصلف من دأبه وديدنه. طويل الروح في المخاصمة لا يرجع عمّن حاوره ولو حزّ غلاصمه، يركب في خدم وحشم وحفدة، ويجمّل الموكب الذي أمّه وقصده. ولم يزل راقياً في أوج شبابه، صاعداً في معارج عيشه الذي انتهى الى انتهابه، الى أن اخترق حمامُه، وانهدّ بالموت يذبله وشمامه. وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبع مئة. ومولده بدمشق في سنة ست وعشرين وسبع مئة. مات والده رحمه الله تعالى وهو أمير عشرة فلم يزل يسعى ويبذل الى أن أخذ إمرة الطبلخاناة بعد توجهه الى مصر، وأخذ لأولاده إقطاعات جياداً في حلقة دمشق، وكان سعيد الحركات مجتهداً في تحصيل الأملاك وغيرها، ويغالي في الخيول والملبوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 وفي رخت الإمرة، ويركب وينزل في جماعة من مماليكه وجنده وأولاده، وكان يمنّي نفسه ويعدها أموراً عالية من الولايات والمناصب، ولو عاش وأمهله الدهر لنال ما يطلب لحُسن تأتيه وجميل سلوكه. وكان والده رحمه الله تعالى يثق بعقله ويركن إليه دون إخوته، وكان قد رغب الى الأمير سيف الدين تمر المهمندار وخطب منه قطلو ملك ابنة الأمير شرف الدين موسى ابن الأمير علاء الدين علي ابن الأمير سيف الدين منكوتمر، وكتبت أنا الصداق له من رأس القلم وهو: الحمد لله الذي أيّد هذا الدين بناصره، وشيد قواعده بشدّ أواخيه وإحكام أواصره، وخصّه بكرم أبوّته وطيب عناصره. نحمده على نعمه التي منها الهداية الى اتباع السنة، والعناية بما يؤديه الى سلوك الطرق التي توصل الى الجنة، والرعاية لأعمال تكون النفس بها يوم الفزع الأكبر مطمئنة. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تخفف بين سرادق العرش أعلامها، وتُشرق في الحنادس المظلمة أقمارها، وقد كمل نورها وتمامها، وتورق غصون الإيمان بأدلتها إذا انشقت عن زهرات اليقين أكمامها. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي حضّ على النكاح، وحث على تجنّب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 السفاح وحصّ قوادم الباطل، وراش جناح النجاح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حافظوا على اقتفاء آثاره، وبلغوا الأمة ما وصل إليهم من سُننه وأخباره، وكاثروا النجوم الزاهرة بمهاجريه وأنصاره، صلاة لا تُحط البوارق من رضوانها لثاماً، ولا تشق السوابق من غفرانها غماماً ما عُقد نكاح، وفُقد سفاح، وسلم تسليماً كثيراً الى يوم الدين وبعد: فإن النكاح من مزايا هذه الأمة ومحاسنها التي تجلو بأنوارها الحنادس المدلهمّة، والسنة بذلك طافحة، وفي كل مكان منها نافجة نافحة، فمن ذلك ما هو في بيانه ووضوحه كالعلم، وهو قوله عليه السلام " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم ". وكان المقر الكريم العالي المولوي الأميري الناصري محمد بن الأمير المرحوم بدر الدين مسعود بن الخطير ممن طاب فرعاً وأصلاً، وحوى الفضلين حكماً وفصلاً، وحاز المنقبتين قلماً ونصلاً، وتفرّد بالمحاسن التي فضلها للعيان مشهود، وروضها بغمام الكمال مجود، وحوضها لك ناهل مورود، وحديثها في الناس مشهور، وما أصدق من روى حديث ابن مسعود، ومحله في السيادة أثيل وأثير، وباع رمحه في البأس طويل ولسان السيف من غيره قصير ومناقب بيته فعمدة كل خطيب وصفُ بني الخطير: من النفر الغرّ في قومهم ... فطالوا أصولاً وطابوا جدودا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 أناروا الليالي وهزّوا العوالي ... وشادوا المعالي وزانوا الوجودا لفضل الخطير انتهى مجدُهم ... فلا زال في كل عصر جديدا إذا غاب بدر بدا كوكب ... منازلهُ تستديم السعودا وناصرهم فضلُه بيّن ... فما تلتقي لعلاه حسودا فيا هل عناه الذي قال في ... سواه فعن وصفه لن يحيدا أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يحيدا فلذلك تمسك بالسبب المتين من السنة، وآثر الاتصال بمن حجابها بيض السيوف وحجّابها زُرق الأسنة، ورغب الى المقر الشريف العالي المولوي الأميري السيفي تمر أمير مهمندار: غدا في الزمان كبير الأنا ... م بتدبيره تستقيم الدول بعقلٍ رصين ودين متين ... وفضل مبين وجود كمل وما نظرت مقلة مثله ... على من مضى في الملوك الأُول إذا أشكل الأمر في حاله ... أبان الهدى للورى فانفصل وخطب الجهة المصونة الخاتون قطلوملك ابنة الأمير المرحوم شرف الدين موسى لأنها في كفاية كنفه، وظل حجره وتصرفه، ومهاد بره وتلطفه، وعناية إقباله عليها وتعرفه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 لا يبعث النجم طرفاً نحو مطرفها ... وكيف يلحظ طرفاً بالعفاف عمر ولا تجوز الصبا من دون مضربها ... ولا تمر عليها وهي عند تمر محمد بن مسكين الإمام عز الدين القرشي الزهري. توفي في جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة بالمصاحبة بمصر ودفن بالقرافة. وكان من أعيان الفقهاء، متزهداً مدرّساً بالمدرسة المجاورة لقبر الشافعي رضي الله عنه. ووليها بعده القاضي مجد الدين حرمي، وكان الشيخ عز الدين بن مسكين قد عين لقضاء الشام فما اختار فراق الوطن. وروى عن الرشيد العطار. محمد بن مسلم بتشديد اللام، ابن مالك بن مزروع الزيني ثم الدمشقي الصالحي، الشيخ الإمام العالم، بركة الإسلام، قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله الحنبلي. سمع الكثير وله حضور على ابن عبد الدايم، وسمع من الشيخ شمس الدين وطبقته، وخرّج له ابن الفخر مشيخةً في مجلدة، وسمعها منه خلق، وخرّج له ابن سعد الأربعين المتباينة الأسانيد، وخرّج له المزّي تساعيّات، وخرج له الذهبي جزءاً، وأجاز له من مصر جماعة من أصحاب البوصيري. كان من قضاة العدل في أحكامه، ومن أئمة الهدى في نقضه وإبرامه، مطّرح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 التكلّف في أحواله، متوخي الصدق والحق في أقواله، عمّر الأوقاف وضبطها، وحاسب العمال وأمسك القواعد وربطها، وحرّر الإسجالات، وتوقف في العدالات، ولازم الورع والتحري، ومنع الظلمة من التعدي والتجري، وباشر أمور الحكم بقوة وصلابة في الدين، وكف يد الظلمة والمعتدين، فهو كما قال أبو الطيب: قاضٍ إذا اشتبه الأمران عنّ له ... رأي يفرق بين الماء واللبن القائل الصدق فيه ما يضرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن ولم يزل على حاله الى أن حج، وقبض عليه بالمدينة الشريفة، ونقل الى الدار الآخرة والملائكة به مطيفة. وتوفي رحمه الله تعالى في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة في صفر. توفي والده وكان ملاحاً في سوق الخيل، وله ست سنين، وحفظ القرآن، وتعلم الخياطة، واشتغل، وتفقّه، وبرع في الفقه والعربية، وتصدر لإقرائهما وتخرج به فضلاء. ولم يطلب تدريساً ولا فُتيا، ولا زاحم على الدنيا. وسمع شيخنا الذهبي بقراءته الأجزاء، وكان ربما يكتب الأسماء والطباق ويذاكر، وبقي مدة على الخزانة الضيائية. ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين سليمان عين للقضاء، وأثني عليه عند السلطان بالعلم والنسك والسكينة، فولاه القضاء، فتوقف، وطلع إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 الشيخ تقي الدين بن تيمية الى بيته، وقوّى عزمه، ولامه، فأجاب بشرط أن لا يركب بغلة، ولا يأتي موكباً، فأجيب، وكانت قراءة تقليده، سادس عشر صفر سنة ست عشرة وسبع مئة. وكان ينزل من الصالحية الى الجوزية ماشياً، وربما ركب حمار مكار، وكان مئزره سجادته، ودواة الحكم زجاجة، واتخذ فرجية مقتصدة من صوف، وكبّر العمامة قليلاً، ونهض بأعباء الحكم بعلم وقوة، وعمّر الأوقاف، وحاسب العمال، وحكم إحدى عشرة سنة، وشهد له أهل العلم والدين أنه من قضاة العدل. وحجّ مرات، وانتصر لابن تيمية، فحصل له أذى، فتألم وكظم، وسار للحج بنيّة المجاورة فمرض من العلا، ولما وصل المدينة تحامل حتى وقف مسلّماً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أدخل الى منزل، فلما كان في السحر توفي رحمه الله تعالى ودفن بالبقيع. محمد بن مصطفى بن زكريا ابن خواجا بن حسن، فخر الدين التركي الصُلغري، بالصاد المهملة واللام الساكنة والغين المعجمة، وبعدها راء، الدوركي، بالدال المهملة والواو الساكنة والراء والكاف، وصُلْغر: فخذٌ من الترك، ودورك: بلد من الروم. كان شيخاً فاضلاً في الأدب، وممن ينسل إليه من كل حدب، فقيهاً في مذهب أبي حنيفة، نبيهاً وهمته في الرتب منيفة، نظم القدوري في الفقه نظماً جيداً وضبط فروعه مقيداً، ونظم قصيدة في النحو استوعب فيها أكثر الحاجبية سرداً، وأتى فيها بأحكام كثيرة، طرّزها للنحو حلة وبرداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 وكان خطه يخجل العقود المنظمة والرياض التي برودها بالأزهار مسهّمة، يتلو القرآن غالب وقته، وله فيه نغمة طيبة أشهى من سجع الحمام في روض أينع في نبته، مع تواضع زانه وقوّم ميزانه. ولم يزل على حاله الى أن أضر، ولازم لحين أجله وأصر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ومولده بدورك سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أخذنا عنه لسان الترك ولسان الفرس، وكان عالماً باللسانين يعرفهما إفراداً وتركيباً، أعانه على ذلك مشاركته في العربية. وله قصائد كثيرة منها قصيدة في قواعد لسان الترك، ونظم كثيرة في غير فن، وأنشدني كثيراً منها. ودرّس بالحسامية الفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قد تولى الحسبة بغزة قديماً، وقد أدّب بقلعة الجبل بعض أولاد الملوك. قلت: هو السلطان الملك الناصر محمد، قال: وعمي في آخر عمره. وأنشدني من قصيدة مدح بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قيل اتخذ مدح النبي محمد ... فينا شعارك إن شعرك ريّقُ وعلى بنانك لليراعة بهجةٌ ... وعلى بيانك للبراعة رونق يا قطب دائرة الوجود بأسره ... لولاك لم يكن الوجود المطلق مذ كنت أوله وكنت أخيره ... في الخافقين لواء مجدك يخفق كل الوجود الى جمالك شاخص ... فإذا اجتلاك فعن جلال يطرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 كنت النبيّ وآدمٌ في طينه ... ما كان يعلم أي خلق يخلقُ فأتيت واسطعة لعقد نبوّة ... منها أنار عقيقها والأبرق محمد بن مظفر بن عبد الغني الشيخ الفقيه محيي الدين القصاع. كان ممن حصّل وقرأ القراءات والفقه والأصول، وتميز. وسمع كثيراً من ابن جعوان وغيره. وتوفي بطرابلس رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة. محمد بن معالي بن فضل الله ابن معالي بن بركات بن محمد بن أبي نصر بن الملاق، الشيخ زين الدين أبو عبد الله بن الملاق، بتشديد اللام، الرّقي. كان مباشراً في ديوان السكر أقام بدمشق أربعين سنة، وولي أبوه الوزارة والقضاء بالرقة. وجدهم أبو نصر بن الملاق، نقله المعتصم من بغداد الى الرقة وولاه الخطابة بها. قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه جزء البانياسي بالإجازة عن جماعة من البغداديين منهم الشيخ شهاب الدين السهروردي، وعبد السلام الداهوي، وعلي بن الجوزي، وعبد اللطيف بن الطبري، وإسماعيل بن باتكين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة بعد رحيل التتار عن دمشق. ومولده بالرقة في شعبان سنة اثنتين وعشرين وست مئة. محمد بن المفضل ابن فضل الله، الرئيس الصدر الكبير، الديّن، محيي الدين المصري الكاتب. كان صدراً في المجالس، وبدراً في الحنادس، نبيهاً نبيلاً، وجيهاً جليلاً، ديّناً خيّراً مهيباً، صيّناً وقوراً أريباً، يلازم الصلوات الخمس في الجامع الأموي، لا يخلّ بذلك ولو حال بينه وبين الجامع سنا الأسنة في عِثير السنابك. ولم يزل على حاله الى أن توفّى الله المُحيي فمات، ونزل به من عِداه الشمات. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن في تربة بني هلال بالصالحية وعمره ستة وأربعون سنة. كان أولاً يعرف بكاتب قبجق، وكان صاحب ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ومن جملة كتاب الإنشاء بدمشق، ومستوفي الأوقاف، ولم يكن عنده مخدومه في أبناء جنسه له نظير، محله عنده عظيم الى الغاية. وكان يحب الصالحين والفقراء وبودهم ويبرهم، وسار في دمشق سيرة جميلة حميدة، وكان مغرى بتحصيل المصاحف، فيقال إنه وجد في تركته أربع مئة مصحف. وهو عم القاضي علم الدين بن قطب الدين ناظر جيش الشام، وهو الذي خرجه ودرّبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج أقضى القضاة، الإمام العالم شمس الدين القاقوني، نسبة الى قاقون الساحل، الحنبلي نائب قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي وزوج ابنته. كان قد برع في الفروع ونال الغاية فيها من الشروع، ومهد في الأحكام وبهر في الأحكام، يستحضر فروعاً كثيرة من مذهبه كلها غرائب، ويرسل منها في أغراضه سهاماً صوائب. ولم يزل على حاله الى أن خاب الأمل في ابن مفلح، وانقطع الرجاء فيه من المفسد والمصلح، وكانت له جنازة حافلة، وساعة بالتعجب كافلة، وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس ثاني شهر رجب الفرد سنة ثلاث وستين وسبع مئة. ومولده تقريباً بعد عشر وسبع مئة. محمد بن مكرَّم بتشديد الراء، ابن علي بن أحمد الأنصاري الرويفعي الأفريقي، ثم المصري، القاضي الفاضل جمال الدين أبو الفضل، من ولَدِ رُويفع بن ثابت الصحابي رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 سمع من يوسف بن المخيلي، وعبد الرحيم بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم، وابن المقيّر، وطائفة. وتفرد وعُمّر وكبر وأكثروا عنه، وكان فاضلاً وعنده تشيّع بلا رفض. خدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة، وأتى في عمله بما يخجل النجوم الزاهرة، وله شعر غاص على معانيه وأبهج به نفسَ من يعانيه. وكان قادراً على الكتابة لا يمل من مواصلتها، ولا يولّي عن مناصلتها. لا أعرف في الأدب وغيره كتاباً مطولاً إلا وقد اختصره، وزوّق عنقوده، واعتصره، تفرد بهذه الخاصة البديعة، وكانت همته بذلك في بُرْد الزمان وشيعه. ولم يزل على حاله الى أن خبا من عمره مصباحه ونُسخ بدجا الموت من الحياة صباحه. وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده في أول سنة ثلاثين وست مئة. وكان قد ولي نظر طرابلس، وهو والد القاضي قطب الدين بن المكرم، وقد تقدم ذكره. وكتب عنه شيخنا الذهبي. وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور يوم الإثنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الثاني والعشرين من المحرم من السنة المذكورة، وهو كاتب الإنشاء الشريف، واختصر كتباً، وكان كثير النسخ، ذا خط حسن، وله أدب ونظم ونثر، قال: وأنشدني لنفسه سادس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وست مئة: ضع كتابي إذا أتاك الى الأر ... ض وقلّبه في يديك لماما فعلى ختمه وفي جانبيه ... قُبلٌ قد وضعتهن تؤاما كان قصدي بها مباشرة الأر ... ض وكفيك بالتثامي إذا ما قال: وأنشدني المذكور لأبيه: الناس قد أثموا فينا بظنهم ... وصدّقوا بالذي أدري وتدرينا ماذا يضرّك في تصديق قولهم ... بأن نحقّق ما فينا يظنونا حملي وحملك ذنباً واحداً ثقةً ... بالعفو أجملُ من إثم الورى فينا وبه الى المكرم: توهّم فينا الناس أمراً وصمّمت ... على ذاك منهم أنفسٌ وقلوبُ وظنوا وبعضُ الظن إثم وكلهم ... لأقواله فينا عليه رقيب تعالي نحقق ظنهم لنريحهم ... من الإثم فينا مرة ونتوب قلت: هذا معنى مطروق للقدماء. ومنه قول الأول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 قم بنا تفديك نفسي ... نجعل الشك يقينا فإلى كم يا حبيب ... يأثم القائل فينا وأخذ هذا من قول القائل: ما أنس لا أنس قولها بمنى ... ويحَك إن الوشاةَ قد علموا ونمّ واش بنا فقلت لها ... هل لك يا هند في الذي زعموا قالت لماذا تُرى فقلت لها ... كي لا تضيع الظنون والتهمُ وقلت: أنا كأني قد حضرتهما وسمعت خطابهما: هذا محب وما يخلّصه ... في دينه أن وشاتُه أثموا فواصليه واصغي لمغلطةٍ ... يقبلها من طباعُهُ الكرمُ يا ويح وصلٍ أتى بمغلطة ... إن كنت لم ترع عندك الذممُ ولكن المكرّم في معناه زيادة على من تقدمه، وقوله: ثقة بالعفو من أحسن متممات البلاغة. وأنشدني شيخنا أثير الدين قال: أنشدنا فتح الدين أبو عبد الله البكري، قال: أنشدنا ابن المكرم لنفسه: بالله إن جُزت بوادي الأراك ... وقبّلَتْ عيدانُه الخضرُ فاك ابعث الى المملوك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 وأنشدت له: وفاتر الطرف ممشوق القوام له ... فعل الأسنة والهندية القضبِ في حُسنه الفرد أوصاف مركبة ... الخَلقُ للترك والأخلاق للعرب قلت: ما أعرف في كتب الأدب شيئاً من المطوّلات إلا وقد اختصره جمال الدين بن المكرم رحمه الله تعالى، فمما اختصره: كتاب الأغاني ورتبه على حروف المعجم، وكتاب الحيوان للجاحظ فيما أظن، واليتيمة للثعالبي، والذخيرة لابن بسام، ونشوان المحاضرة، ومفردات ابن البيطار، واختصر تاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، وذيل ابن النجار عليه، واختصر كتاب التيفاشي وسماه سرور النفس في عشرة كبار، وجمع بين كتاب صحاح الجوهري والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري، فجاء في سبعة وعشرين مجلداً وسماه لسان العرب، وأراني ولده قطب الدين أول النسخة، وقد قرظه من أهل ذلك العصر جماعة يصفونه بالحسن، منهم الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فيما أظن، وشيخنا العلامة شهاب الدين محمود، رحمهم الله أجمعين. وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين تقريظاً لهذا الكتاب، ورأيته بخطه: أجَلْتُ لحاظي في الرياض الدمايث ... ونزهت فكري في فنون المباحث وشاهدت مجموعاً حوى العلم كله ... بأول مكتوب وثانٍ وثالث فيا حسنه من جامع لفضائل ... جليل على نيل المعارف باعث لحاز لسان العرب أجمع فاغْتدى ... نهاية مرتاد ومطلب باحث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 به أزهرت للأزهري رياضُهُ ... فأنوارها تجلو دياجي الحوادث وصحت به للجوهري صحاحه ... فلا كسر يعروها ولا نقد عابث وساد به بين الأنام ابن سيده ... فمحكمُه ما فيه عيث لعايث وبرَّ ابن بريٍّ وصحّت بنقده ال ... صحاح استقلّت في براثن ضابث وللجزريّ ابن الأثير نهاية ... إذا قرئت أزرت بسبع المثالث وكل محل إذ تقادم عهده ... وليس المصلّي في السباق برايث وإن جمال الدين جمّل كتبَهم ... بإصلاح ما قد أوهنوا من رثائث لقد فاقهم علماً وزاد عليهم ... وأني يباري الريح عرْجُ الأباعث تجمّع فيه ما تفرق عندهم ... وأربى عليهم بالعلوم الأثائث بنثرٍ كشبه الزهر غبّ سمائه ... ونظمٍ كمثل الزهر بالسحر نافث له قدمٌ في ساحة الفضل راسخٌ ... ومجد قديم ليس فيه بحادث ونسبة علم كابراً بعد كابر ... فمن خير موروث الى خير وارث حفيظ لأسرار الملوك أمينها ... عليم بتصريف الخطوب الكوارث به افتخرت قحطان واشتد أزرها ... وباهت به الأملاك أبناءُ يافث سقى جدثاً قد حله ابنُ مكرّم ... ملث من الغرّ الغوادي المواكث ولا برحت روح الجمال مقيمةً ... لعذرٍ لدى الغيد الحسان الأراعث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 وأخبرني ولده القاضي قطب الدين أبو بكر رحمه الله تعالى في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل أن والده مات وقد ترك بخطه خمس مئة مجلد. محمد بن مكي بن .... القاضي الفاضل الشاعر بدر الدين وكيل بيت المال بطرابلس وكاتب الإنشاء بها. كان من مشايخ الأدب والقائمين بإحياء شعار العرب، له المقاطيع الرائقة، والأبيات الفائقة، وكان يعرف فنوناً أخر، وعلوماً إذا تكلم فيها قلت بحْرٌ زخَر. وكان من رجالات الزمان دُربة ودهاء، وخبرة تباعد منها الجهل وتناءى. ولم يزل بطرابلس على حاله، الى أن كسف الحِمامُ نورَ بدره وألحفهُ غمامةَ قبره. ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، رحمه الله تعالى. كان يكتب خطاً حسناً، أخبرني قاضي القضاة شرف الدين محمد بن النهاوندي قاضي صفد قال: قال لي: بدر الدين بن مكي بطرابلس: فتحت بدمشق دكان كتبي، وكنت أتّجر فيها، يعني في المجلدات، وأتبلغ من عِرض المكسب فأدّخر من المجلّدات ما أحتاج إليه الى أن حصلت من ذلك ما أردت من الكتب، وفضل لي رأس المال والقوت تلك المدة. أو كما قال. وقال بدر الدين رحمه الله: كنت أنا وشمس الدين الطيبي نمشي في وحل فقلت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 المشي خلف الدواب صعبٌ فقال: في الوحل والماءِ والحجاره فقلت: لأن هذا له رشاش فقال: وربما تزلق الحماره وأخبرني المولى شرف الدين حسين بن ريان قال: كنت أنا وهو جالسين في مكان فيه شباك بيني وبينه، فلما جاءت الشمس رددته، فقال: لا تحجب الشمس عن أمرٍ تحاوله ... فإن مقصودها أن تبلغ الشرفا فقلت: في الشمس حرٌ لهذا الأمر نحجبها ... وحسبنا البدرُ في أنواره وكفى وأنشدني من لفظه قال: أنشدني ابن مكي لنفسه: أهواه كالبدر لكنْ في تبدّله ... والغصن في ميله عن لوم لائمه سمحٌ بمهجته ما ردّ نائله ... كأنما حاتم في فصّ خاتمه قلت: معنىً جيدٌ مطبوع، وما أحسن قوله: رد نائله. ومن شعره أيضاً: كأن الشمس إذا غرُبت غريق ... هوى في البحر أو وافى مغاصا فأتبعها الهلال على غروب ... بزورقه يريد لها خلاصا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وكتبت أنا إليه، رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في المحرم: أنفحةُ روضةٍ أم عَرفُ مسك ... يضوع أو الثناء على ابن مكي إمام في الفتاوى لا يجارى ... وفردٌ في البيان بغير شك إذا ما خطّ سطراً خلت روضاً ... تبسّم عن غمام بات يبكي ويحكي نثره درّاً فأما ... إذا حققت ما يحتاج يحكي له نظم يروق ألذّ وقعاً ... على الأسماع من أوتار جنك كأن كلامه نفثات سحرٍ ... تغازلني بها لحظات تركي وآنقُ في النواظر من رياض ... نواضر بل جواهر ذات سلك لقد فاق الأنام بفضل جود ... وفرط زيادة زِيْنَتْ بنسك شهدتُ بأنه في الدهر فردٌ ... وقولي فيه لم يحتج مزكي حملت له لواء ولاء صدقٍ ... لأعرف في الأنام بحمل رنكي فلو منّ الإله بجمع شملي ... به لعدمت ما بين من تشكّ يقبّل الأرض لا زالت قبلة الأمل، وكعبةَ العلم والعمل، وروضة الفضل إذا همى، والجود إذ همل، لأن دارها تخجل دارة الحمل، وتربها يفوق الأفق إذ بدره لما كمل نقص، وبدرها ما نقص لما كمل، تقبيلاً يؤدي به الواجب، ويداوي به قلباً سكنه مولانا فإنه كبير وما خرج عن الواجب: ترابكم وحقّ أبي تراب ... أعزُّ عليّ من عيني اليمين وينهي الى العلم الكريم بعد الأدعية التي تجر الإجابة برفعها، والعبودية التي أبان المنطق شرف حملها ووضعها، والأثنية التي لا تغرّد الحمائم الصادحة إلا بسجعها: ومالي لا أثني على وابل الحيا ... إذا الروض أثنى بالنسيم على القطر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 أنه من حين بلغته هذه الفضائل البدرية، والفوائد التي نسماتها سحرية، وكلماتها سحرية، يعتلج في خاطره التطفل على خطابها، والتوصل الى عرائس إنشائها، ليكون من خُطّابها، والوقوف بذلّ التلمذة وفقر الحاجة على بابها، والدخول الى جنّات كرمها وحبّات كرمها ليجني ثمرها متشابهاً، والاعتراف يدفع في صدره ويبجل على قدره باجتلاء ليلة قدره، ويقول له القصور لا تطل فما أنت من سكان هذه القصور، ولا تزد مع نقصك، فما وشاح ألفاظك مما يدور على هذه الحضور، ولا تلح فما غابُ أقلامك مما يصم الليث الهصور: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل فأغفل المملوك مراودته مدة، وكابد من جزم حظه خفضاً لشدته مدّة وشدّة. هذا وغريم الشوق يلح، والإقدام يمرض تارة ويصح، الى أن انتهز فيها فرصة حمل فيها على جيوش الخجل فأمالها، وطعن في صفّ الممانعة برمح قلمه إما عليها وإما لها، فتهجم هذه الخدمة والضراعة، وخدم أسوة الطلبة ليكون من أهل الجماعة: وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم وعطفها على استدعاء جرت العادة به للأصاغر، واستمطر به الإحسان الذي ملأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 كل كفّ فارغ، وأطبق كل فم فاغر. وسأل صدقات مولانا التي عمّت وما خصت، وشرّعت المكارم للمتأدبين ونصت، الكتابة فيه بالإجازة للمملوك، وإن كان صغير القدر، والإجابة الى ما سأله لعله أن يكون من أهل بدر، فإنه لم يقل إلا علماً بأنه لم يُقَل، ولم يخاطب إلا طمعاً في الجواب الذي هو ألذ من الإغفاء في ساهر المقل، وأن يتصدق فيه بذكر مولده وذكر أشياخه الذين أخذ عنهم ومن رآه واجتمع به من الأعيان الذي إذا قال السائل من هم، كان مولانا منهم، وكتابة ما يراه من مقاطيعه التي هي قطع الرياض، وزهر الغياض، وقطر الحياض، الى غير ذلك مما يقتضيه الرأي الكريم والجود الذي إذا جاد البحر بالدر النثير جاد هو بالدر النظيم، لا زال بابه حرماً وسحابه ينهل كرماً بمنه وكرمه. وجهّزت الاستدعاء. فجاء جوابه بعد مديدة يخبر بوصوله. وإنه عقيب ذلك توجه الى اللاذقية فيما يتعلق بأشغال الدولة، وإنه عقيب ذلك يجهز الجواب، ثم ما لبث أن مرض وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى. محمد بن مكي الأمير ناصر الدين ابن الأمير مكي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 توفي والده رحمه الله تعالى في أوائل سنة خمس وسبع مئة، وهو من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وإقطاعه إقطاع جيد، فطلبه من الأمير سيف الدين أرغون شاه جماعة، فكتب به لابنه ناصر الدين محمد المذكور، وتقدير عمره عشرون سنة، فجاءه منشوره بذلك، وكان قبل ذلك أمير عشرة، فما متّع بشبابه ولا بالإقطاع. وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة خمسين وسبع مئة. محمد بن المنجا ابن عثمان بن أسعد بن المنجّا، الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الأصيل شرف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ العلامة الكبير زين الدين أبي البركات التنوخي الحنبلي. سمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، وابن الواسطي وجماعة وحدّث. وكانت فيه خلالٌ جميلة من العلم والدين والمروءة والشجاعة وعلوّ الهمة والتودد، وقضاء الحقوق. توفي رحمه الله تعالى رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولم يكمل الخمسين. محمد بن المنذر القاضي الرئيس فخر الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 كان أولاً في دمشق يباشر في ديوان الجيوش ولما حضر معين الدين بن حشيش الى دمشق ناظر الجيش عوضاً عن ابن حميد، انتقل القاضي شمس الدين بن حميد الى وظيفته بدمشق، وتوجه ابن المنذر الى طرابلس ناظر الجيش، وأقام بها مدة، وقع بينه وبين نائبها، فتوجه الى مصر وعاد الى مكانه ووظيفته في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة وأقام بها مدة. ثم إنه نُقل الى نظر جيش حلب، وأقام هناك مدة عوضاً عن القاضي جمال الدين بن ريان. ثم إنه توجه الى مصر ووقع منه كلام في حق القاضي فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية فجهزه الى صفد ناظر المال، وولده ناظر الجيش بها، فأقام بها مدة، ثم إنه جهز الى طرابلس. ولم يزل بها الى أن توفي رحمه الله تعالى. محمد بن منصور بن موسى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الحاضري الحلبي المقرئ النحوي. قرأ القراءات على الكمال الضرير، والشيخ علي الدهان، والعربية على ابن مالك جمال الدين، وكان له تصدير في الجامع، وكان متوسطاً في النحو والقراءات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة سبع مئة وكتب في الإجازات. محمد بن منصور بن إبراهيم ابن منصور الحلبي، الإمام العالم الصدر الصاحب بدر الدين الجوهري، نزل الديار المصرية. سمع من إبراهيم بن خليل بحلب، ومن الكمال العباسي. وابن عزّون، وابن عبد الوارث، والنجيب، وعدة بمصر. وتلا بالروايات على الصفي خليل، وتفقه، وشارك في فضائل. وكان ينطوي على خير وعبادة ودين، وله جلالة وصورة، ذكر في وقت الوزارة، وكان له خلق حاد، وحدث بدمشق ومصر. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة. محمد بن منصور القاضي شمس الدين موقّع غزة، أقام بها مدة طويلة يباشر التوقيع وكتابة الجيش، ثم إنه نقل الى توقيع صفد عوضاً عن القاضي بهاء الدين بن غانم لما نقل الى طرابلس في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وتوجه الى غزة مكانه القاضي جمال الدين بن رزق الله، ثم إن ابن منصور عمل على العود الى غزة، لأن صفد لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 توافقه. وكان له في غزة متاجر من الكتّان والصابون وغير ذلك، وحصّل نعمة وافرة ودنيا صالحة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز عزله من غزة بعلاء الدين علي بن سالم، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وبقي ابن منصور بطّالاً. وكان الأمير سيف الدين طينال قد ناب في غزة في وقت، على ما تقدم في ترجمته، وابن منصور موقّعها، فعرفه من ذلك الوقت، فلما بطل سأل طينال من تنكز في أن يكون ابن منصور في جملة كتاب الدرج بطرابلس، فرسم له بذلك، وتوجه ابن منصور الى طرابلس. وكان رجلاً داهية سيوساً، يكتب خطاً حسناً، وله نظم لا بأس به، غير أنه لم يكن فيه طبقة، مع ما فيه من اللحن. وتوفي رحمه الله تعالى ... أنشدني من لفظه القاضي زين الدين الصفدي قال: أنشدني من لفظه القاضي شمس الدين محمد بن منصور وقد أعيد الصاحب تقي الدين توبة الى الوزارة: عتبت على الزمان وقلتُ مهلاً ... أقمت على الخنا ولبست ثوبه ففاق من التجاهل والتعامي ... وعاد الى التُقى وأتى بتوبه قلت: صوابه: فأفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 محمد بن موسى القاضي الفاضل، الأديب الكاتب البارع شرف الدين المقدسي، كاتب الإنشاء بالديار المصرية، المعروف بكاتب أمير سلاح. كا كاتباً بارعاً، ناظماً ناثراً، يأتيه المعنى على وفق إرادته ضارعاً، إذا نظم قلت العقودُ ينظم جواهرها، أو السماء يُطلع زواهرها، أو الرياض يجلو أزاهرها. يتلعب بالعقول سحره الحلال، يترشّف السمع منه كؤوساً ليست نشوتها مما يجري في الجديال. ونثره أحسنُ من رقم البرود، وآنقُ من حلول الكواكب في منازل السعود، وخطه يسرّ النواظر، ويُزري بالرياض النواضر، تخال سطوره فوق طروسه فتيت مسك على كافور، أو طرز صبح تطلعت من تحت أذيال ديجور. كأن جيماته وجنات خيلانُها تلك النقط، أو محاريب فيها قناديل لا تخبو نور معانيه ولا يقط، وكأن ألفاته ألفت الاعتدال فهي قدودُ الخرّد الغيد، أو قضبان بانٍ تميس من مرور النسيم، والهمزات من فوقها حمائم ذات تغريد: فلو أعيد ابن هلال لحكى ... مشياً على الرأس إليه القلما وقال في هذا برود أحرفٍ ... كنت أراها في كتابي أنجما ولم يزل على حاله الى أن سكنت شقاشقه، وقرطست عن عرض الحياة رواشقه. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وكان قد خدم الشجاعي وأمير سلاح، وبه يعرف في القاهرة. أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: هو رجل حسنُ الأخلاق، كريم العشرة، محتمل، فيه كرم، وله خط حسن ونثر كثير ونظم. وجالسته مراراً، وكتبت عنه، وقرأ علينا من نظمه ونثره كثيراً، وقد خمّس شذور الذهب. في صنعة الكيمياء تخميساً حسناً يقضي له بسبق النظم وجودة حوك الكلام، ومطابقة الفصل. وأنشدني قال: أنشدني من لفظه لنفسه: اليوم يوم سرور لا شرور به ... فزوج ابن سماء بابنة العنب ما أنصفَ الكأس من أبدى القطوب لها ... وثغرها باسم عن لؤلؤ الحبب قلت: قد تقدم لهذا المعنى نظائر في ترجمة صدر الدين بن الوكيل. وبه قال أنشدني من لفظه لنفسه: صرّف بصرف الحميّا ما حمى طرباً ... فإن فيها لسم الهم درياقا دنياك معشوقة والراح ريقتها ... فارشف مراشِفها إن كنت عشّاقا وبه قال: أنشدني له يخاطب الشجاعي، وكان كاتبه: أيا علم الدين الذي عينُ علمه ... تُريه المعالي نثرها ونظامها قذفت لنا يا بحر أي جواهر ... وها هي فالبس فذّها وتؤامها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 ومنها: رأى الملكُ المنصورُ أنك صالحٌ ... لدولته يُلقى إليك زمامها فولاكها إذا كنت في الرأي شيخها ... وكنت إذا نادى الصريخ غلامها فما احتفلت إلا وكنت خطيبها ... ولا استبقت إلا وكنت إمامها فلو غاب بدر الأفق نُبت منابه ... بل الشمس لو غابت لقُمت مقامها نهضت بعبء الملك والأمرُ فادح ... وسُسْت الرعايا مِصرها وشآمها ولمّا خمس شذور الذهب كتب إليه ابن الوحيد: لقد رقّ تخميس الشذور فأصبحت ... مداماً ولكن كرمُها حضرة القدسي هي الشمس والأشعار في جنب حُسنها ... نجوم وما قدْرُ النجوم مع الشمس وكتب إليه شمس الدين بن دانيال: إذا ناب في التقبيل عن شفتي طرسي ... وعن بصري في رؤيتي لكم نفسي وواصلني منكم خيال مخصّص ... بروحي في حلم فما لي وللحسّ ومن لي بمرآك الجميل الذي به ... لعيني غنًى عن طلعة البدر والشمس على أنني مستأنسٌ بعد وحشتي ... بأنسِ ولي الدولة الأرخن النفس غدوت به بعد البطالة عاملاً ... ولا مثلما أعملت في زاده ضرسي وإن ابنه الشيخ الخطير لمسعفي ... بما شئت من رفد جزيل ومن أنس وأقسم ما للأب والابن عندهم ... حياة بلا روح تجيء من القدس ومن شعر شرف الدين القدسي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 يا ليلة بت أستجلي محياها ... كأنما بتّ أستجلي حميّاها أولت يداً ثم ألوت بي فقلت إذاً ... ما كان أرخصها عندي وأغلاها بيوسف الحسن جزء من محاسنه ... فاعجب لها وهي كثر كيف جزّاها طال النهار انتصاراً فانطوت قصراً ... كأن في شفقيها كان فجراها منها: يدير من لحظه أو لفظه لُطفاً ... لو نستطيع لها شُرباً شربناها والزير والبم والمثنى ومثلثه ... محرّكات من الأوتار أشباها ومنه في مليح اسمه سالم: وأهيف تهفو نحو بانةِ قدّه ... قلوب تبثّ الشجو فهي حمائم عجبت له إذ دام توريد خدّه ... وما الورد في حالٍ على الغصن دائم وأعجب من ذا أن حية شعره ... تجول على أعطافه وهو سالم ومنه: بي فرط ميل الى الغزلان والغزل ... فكيف لا يُقصر العذال عن عذلي مالوا عليّ ولاموا في الهوى عبثاً ... من لم يمل سمعه مذ كان للملل أضحى الغرام غريمي في هوى رشأ ... يغنيه عن كحله ما فيه من كحَل فالبدر من حسنه قد راح ذا كلف ... والوردُ من خدّه قد راح ذا خجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 تشاغل الناس في الأسمار بي وبه ... وإنني عن حديث الناس في شغل وأنشدني له قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: وأنشدني بعضها من لفظه: ما مِلتُ عنك لجفوةٍ ومَلال ... يوماً ولا خطر السلوّ ببالي يا مانحاً جسمي السقام ومانعاً ... جفني المنام وتاركي كالآل عمّن أخذت جواز منعي ريقك ال ... معسول يا ذا المعطف العسّال عن شعرك الفحام أن عن ثغرك ال ... نظام أم عن طرفك الغزالي فأجابني أنا مالكٌ أهل الهوى ... والحسن أضحى شافعي وجمالي وشقائق النعمان أضحى نابتاً ... في وجنتيّ حماه رشقُ نبالي والصبر أحمد للمحب إذا ابتُلي ... في الحب من محن الهوى بسؤالي وعلى أسارى الحب في سجن الهوى ... بين الملاح عُرفت بالقفّال وقتلتُ معتزليّ في شرى الهوى ... وطرفت بالتنبيه عين السالي وتفقّه العُشّاق فيّ وكل من ... نقل الصحيح أجزْتُهُ بوصال والجوهري غدا بثغري ساكناً ... يحمي الصحاح بقدّي الميّال وشهود جسمي لو نظرت إليهم ... بين الأنام عجبت من أفعالي جرح البكاءُ عيونهم وقلوبهم ... وزكوا لقذف الدمع في الأطلال والشاهد المجروح عندي صادق ... هل في قضاة العاشقين مثالي وعلى رحيق الثغر صارمُ مقلتي ... ولّيته، ولكل ثغرٍ والي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وعلى مقامات الغرام شواهدٌ ... جسمي الحريري والبديع جمالي ولبست من حُلل الجمال مفصّلاً ... حسن الملابس مدهش الغزالي ولحسني الكشاف من جمل الضيا ... لمعاً لإيضاح الفصيح مقال وأتى المطرّز نحو خدي راقماً ... طُرُز العذار وحاز في أشكالي والواقديّ بنار هجري والجفا ... وكّلتُه فلكل سالٍ صال وبلفظي الفراء يفري قلبَ من ... وافى بناظر ناظري بنصال ومَصارعُ العشاق بين خيامنا ... ومقاتل الفرسان يوم نزال ورفضْتُ نوم العاشقين فكلّ من ... ذكر الغرام فدمعه متوالي ولديّ سلوان المطاع سفاهة ... لمتيّم أوثقتُه بحبالي وخصصت إخوان الصفا برسائل ... ولهم صفا ودي وهم آمالي والبيهقي بوجه كل معنّف ... في موقف التوديع والترحال وبوجهي النقاش راح مفسّراً ... صورَ الملاحة من دليل دلال ورقيبي الكلبي قد أخسأتُهُ ... بوقوفه في باب ذلّ سؤالي ومجاهدٌ أضحى عليّ مقاتلاً ... خوفاً من الرقباء والعُذّال وأبو نعيم منعم في حليتي ... إذ بات يمليها على النقّال ومحاسني قُوت القلوب تكرّماً ... ومناقب الأبرار حُسْن فعالي وتطلعي زاد للسير ومبسمي ال ... ضحّاك والمنثور حُسن لآلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 وبخدي الزهري جنّات المنى ... أضحى بها الثوري من عمّال وبمنطقي قسّ الفصاحة ناطقٌ ... في فترة الأجفان للضلال وقميص حُسني قُدّ من قُبُل الورى ... بيدي اليمين وتارة بشمالي والثعلبي رأى الوجوه بجهده ... وحلا له في النقل وجهُ الحال ولحسني الأنساب يرويها عن ال ... عدل الزكيّ بصحة النُقّال فيراه للتمييز نصباً واجباً ... ورفعت عنه الهجر من أفعالي ولي الخلافة في المِلاح بلحظي ال ... سفّاح والمنصور في أقوالي وعلى محلّي بالجمال رواية ... في رايةٍ نُشرت ليوم جدال ومدينة العلَم السخاوي أصبحت ... في راحتي فعُرفت بالبذّال قال الأوائل ما رأينا مثله ... غصنٌ رطيب مثمر بهلال قد عمّه الحسن الغريب وخاله ... ما في البرية منه قلبٌ خال فوصلت عُشّاقي فلام معنّفي ... فأجبته هذا الذي يبقى لي القوم أبناء السبيل وعندنا ... تعطى زكاة الحُسن كالأموال قد طالما نقلوا حديث محاسني ... فهم عُدولي صحة ورجال هذي القصيدة بالأئمة شرفت ... قدري وفقت بها على أمثالي وكأنها العقد الثمين وهم بها ال ... در النظيم مكللاً بلآلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 قلت: قصيدة فريدة فائقة رائقة، إلا أنها فيها ألفاظ غير قاعدة، والتسامح يسكن قلقها. محمد بن ناصر بن علي القاضي الرئيس فخر الدين بن الحريري، بالحاء والرائين المهملات. كان أولاً كاتب الأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، أقام بها مدة ثم إنه عاد إليها مع مخدومه، وعمّر بها أملاكاً، ولم يكن لأحد معه فيها حديث. ولما انتقل مخدومه الى دمشق ثانياً عاد معه، ولما مات استمر بطّالاً مدة. ثم إنه باشر استيفاء النظر بدمشق مع الصاحب أمين الدين لما قبض على علم الدين إبراهيم المستوفي في صفر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولما عزل الصاحب أمين الدين بالصاحب علاء الدين الحرّاني نقل القاضي فخر الدين الى نظر الديوان بطرابلس فتوجه إليها وأقام بها مدة. ثم إنه توجّه في نوبة الفخري الى الديار المصرية وخرج منها مستوفي النظر بدمشق مع الصاحب علم الدين بن القطب، فأقام بها مدة يسيرة على ذلك، وانتقل الى نظر الجيش عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف فأقام بها قليلاً، وأعيد القاضي فخر الدين بن العفيف الى نظر الجيش، فأقام بدمشق مدة بطالاً. ثم إنه توجه الى الديار المصرية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 ثم إنه تولى كتابة السر بطرابلس بعد عزل القاضي شهاب الدين بن القطب المصري، وأقام بها من أوائل سنة ثمان وأربعين وسبع مئة الى أن توفي رحمه الله تعالى بطرابلس يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وكان رحمه الله تعالى أبيض أشقر سميناً فيه بشاشة وكيس ولطف ودماثة أخلاق ودهاء، وكان قد مشى بالفقيري، بالطاسة والأزار العسلي في وقت، وخلف عدة أولاد كل منهم اسمه محمد. اجتمعت به غير مرة بدمشق والقاهرة. محمد بن نبهان الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع القدوة شيخ البلاد الحلبية. كان فقيراً، بالله غنياً، خلياً من الدنيا وإن كان بسعادة الآخرة ملياً، مقيماً بزاوية في بيت جبرين معروفة بهم من قديم، موصوفة بإضافتها إليهم، لا يزال فيها للفقراء منهم خديم، واشتهر هذا الشيخ محمد بتلك الناحية، وأشرقت شمس عرفانه في سمائها المصحية ولا أقول الصاحية، وتبلّجت وجوه بركاته الضاحية، وعرف بالخير وقصد من كل أرض، وإنما يسقط الطير وكان يطمع كل من يرد عليه من أمير ومأمور، وذي قلب خراب من التقوى ومعمور، ولم يُسمع أنه قبل لأحد شيئاً قلّ ولا جلّ، ولا حرم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 ولا حل، لأنه كانت لهم أرض قليلة يزرعونها ويتبلغون مما يستغلّونها ويستَغْلونها، وإنما كانت أخلاف البركات عليهم تدُر، واللطف الخفيّ يقر فيهم ولا يفر. وكان الشيخ محمد كما قال الغزّي: هو حيلة الدنيا وبقراط العلا ... وشكيمة الناجي وحرز المتّقي أمواله لموفّرٍ ومقصّر ... ومقالهُ لمحصّل ومحقّق ولم يزل الشيخ محمد، رحمه الله، على هذه الطريق الى أن جاء الأمير سيف الدين طشمر حِمّص أخضر الى حلب نائباً، فاشترى لزاوية الشيخ أرضاً ووقفها على الزاوية، فامتنع الشيخ من ذلك وامتعض، وارتمى الى عدم القبول وارتمض. فقال الأمير: إنما هذا للزاوية، وليس هو لك، فبعد لأي ما قبل ذلك، وهو غير راض. ثم إن الأمير سيف الدين طقزتمر لما جاء الى حلب نائباً أيضاً وقف على الزاوية أرضاً أخرى فاتّسع الرزقُ بذلك على أولاده، وفاض الخير عليهم ببركات الشيخ. ولم يزل على حاله حتى تنبّه الأجل لابن نبهان من رقدته، وعجّل الله له بالرحمة في أول نقدته. وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب. ولم نسمع عن الشيخ إلا صلاحاً وخيراً، وكان نُواب حلب جميعهم يعظّمونه، ويجلّونه، ويكرمونه، ويقبلون شفاعاته ويعملون بإشاراته، وكان منقطعاً عن الناس، منجمعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وأخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق قال: كان الشيخ محمد كثير التلاوة، وله كل يوم ختمة، ومن يراه يحسبه أنه لا يتلو شيئاً. كتب إليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في جملة كتاب: قيل جبريلُ مُنزَل لابن نبها ... ن محوط بمحكم التنزيل قد تبدّى محمد في رُباها ... علماً للسائرين وابن السبيل بوقار كأنه الليل خوفاً ... وجبينٍ يُنير كالقنديل ليس يخشى الضلال من أمّ منه ... حضرةً أشرفت على جبريل وأما أنا فلم يتفق لي لقاؤه، ولكن اجتمعت بولده الشيخ علي وقدم الى دمشق متوجهاً الى الحج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة. ولما مات الشيخ محمد قلت أرثيه رحمه الله تعالى: تنبّه صرفُ الدهر من بعد غفلةٍ ... وخصّ ابن نبهان بمطعم صابه ومات فأحيا الذكر من بعده الثنا ... عليه كنشر الروض غب سحابه فمن لقرى الأضياف من بعد فقده ... فقد طالما راق الجنا من جنابه أقول وبعض القول يعطي تمامه ... كأنّ بني نبهان يوم مصابه محمد بن نجيب ابن محمد بن يوسف، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، الكاتب المجوّد والمحرّر المعروف بالخلاطي، إمام التربة القيمرية بالقباقبيين بدمشق. سمع من ابن أبي اليسر، وحدّث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 وكان حسن الهيئة كريم الأخلاق، يكتبُ المنسوب، وكتب الناس عليه بعد الشهاب غازي المجوّد، وعنده قطع كثيرة من الخط المنسوب. وتوجّه الى القاهرة وأقام بالخانقاه مدة وعاد. وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر الشيخ أرسلان. ومولده سنة ستين وست مئة. محمد بن نصر الله ابن عبد الوهاب، القاضي الرئيس علاء الدين الجوجري، بجيمين بينهما واو وبعد الجيم الثانية راء المالكي الحاكم بالقاهرة. درّس الفقه على مذهب مالك بالجامع الحاكمي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين الآخنائي المالكي، وكان ناظر خزانة الخاص. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة تاسوعاء سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولعله قد تجاوز السبعين. وولي نظر الخزانة بعده القاضي محيي الدين بن بنت الأعز. محمد بن نصر الله بن محمود شهاب الدين، الشيباني العطار. سمع من ابن مسلمة في سنة ثمان وأربعين وست مئة الجزء الذي كان عنده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 موافقات ابن عساكر، وسمع أيضاً من العراقي، وفرج الحبشي، ولم يحدث. وتوفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. محمد بن نصر الله بن يوسف ابن أبي عبد الله، الشيخ الصالح عز الدين القرشي الأبزاري المصري رئيس المؤذنين بحرم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان عنده ثبتٌ وإجازات تركها بمصر، وغالب مسموعاته بقراءة المكين الحصني. توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة عند فراغه من أذان الفجر بالمنارة الجديدة، من غير مرض ولا عرض، وكان له مشهد عظيم. محمد بن هاشم ابن عبد القاهر بن عقيل بن عثمان، ينتهي الى عليّ بن عبد الله بن العباس، الشريف شمس الدين أبو عبد الله بن الشريف تاج الدين بن الكاتب بهاء الدين. روى عن عمّ والده الفضل بن عقيل، وعن ابن الزبيدي. وحدث بصحيح البخاري مرات، وكان اسمه مضمناً في إجازة ابن عساكر، وحدث عن أبي روح الهروي بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وتوفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة ست وست مئة. محمد بن الهمام ابن ابراهيم بن الخضر بن همام بن فارس، ناصر الدين القرشي. أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: هو صاحبنا، كان له سماع في الحديث، وقد حدّث عن النجيب الحرّاني. وكان ذا خطّ حسن وصورة حسنة كريماً محبّاً في الفقراء إماماً للأدباء، حسن النغمة بالقرآن، وإنشاء الشعر، باشاً بأصحابه، يحب من يأكل طعامه ومَن يجتمع به. وكان يعرف الحساب واشتغل بالخدم، وناب في نظر البيمارستان المنصوري، وكان الفقهاء معه في الجوامك على أحسن حال. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وسبع مئة. محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الأمير الفاضل عز الدين الهذباني الإبلي، متولي دمشق. قدم الشام شاباً، واشتغل، وجالس العز الضرير. وكان جيّد المشاركة في التاريخ والأدب والكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 قال شيخنا الذهبي: وهو معروف بالتشيع والرفض، وكان شيخاً كردياً مهيباً، يلبس عمامة مدوّرة، ويرسل شعره على أكتافه. ولي دمشق وكان جيّد السياسة. توفي رحمه الله تعالى بالسوّادة التي في رمل مصر سنة سبع مئة. ومولده بإربل سنة عشرين وست مئة. محمدالأمير الكبير بدر الدين بن الوزيري، توفي بدمشق بدار الجاولي ظاهر دمشق في يوم الأربعاء سادس عشر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة ودفن برأس ميدان الحصى. كان عنده معرفة وله فضيلة، وتكلم في الديار المصرية في أمر الأوقاف والقضاة والمدرسين، وناب بدار العدل عن السلطان مدة، صاحب الميسرة وأمير مئة ومقدم ألف. وخلّف تركة عظيمة، ثم إنه صرف عن ذلك ونقل الى دمشق. محمد بن يحيى المنصور بالله، أبو عصيدة بن الواثق الدهَنتاتي، بفتح الهاء وسكون النون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وتاء أخرى. تملك تونس بإشارة المرجاني في آخر سنة أربع وأربعين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 كان شريف النفس مهيباً، جيّد الرأي أديباً، صالحاً ديّناً، حميد السيرة صيّناً، ظريفاً شكله ذريعاً أكله، ينفق في جنده، ولا يرد أحدهم على رفده. ولم يزل على حاله حتى رمي أبو عصيدة باليوم العصيب، ورماه الحمام بسهمه المصيب. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة. ولم يعهد الى أحد، فقام بعده ابن عمه، فقُتل بعد أيام، توثّب عليه المتوكل خالد بن يحيى من بني عمه وتملك، ثم خلع بعد يومين. ومات أبو عصيدة رحمه الله تعالى شاباً، وإنما لقب بذلك لأنه عمل في سماط عصيدة عظيمة في وعاء سعته تفوق العبارة، في وسطها بركة واسعة مملوءة سمناً، ويليها خندق عسل ثم خندق من دهن ثم خندق من دبس ثم خندق من زيت ثم خندق من رب خرنوب، سبعة خنادق، والله أعلم، وكان عسكره نحواً من سبعة آلاف. محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد الشيخ الإمام العلامة أبو عبد الله القرطبي المالكي الأشعري، نزيل مالقة ومحدثها وفقيهها ووزيرها. وكان أشعرياً، وكان آخر من حدث عن والده بالسماع، وسمع من الدباج والشلوبين، وابن الطيلسان. وكان من جملة محفوظاته المقامات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومولده بقرطبة سنة ست وعشرين وست مئة. محمد بن يحيى بن أحمد ابن علي بن يَس، الشيخ شمس الدين الحِميري المعروف والده بابن المعلم. سمع من ابن عبد الدائم وروى عنه، وسمع من عمر الكرماني. وكان له ملك يرتزق منه. وسمع منه شيخنا علم الدين البرزالي. توفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة. محمد بن يحيى بن موسى الشيخ شرف الدين بن نجم الدين بن تاج الدين أبي البركات الصائغ المعروف بابن صفّ عذاره. وكان شيخنا أوصى بثلث ماله أن يُشترى به وقفٌ للصدقة فكان أربع مئة دينار وكسوراً، ووقف وقفاً على من يقرأ صحيح البخاري كل سنة في شهر رمضان بالإسناد. توفي رحمه الله تعالى في أول ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الرحمن الشيخ الإمام المفتي المدرس بدر الدين ابن القاضي جمال الدين بن الفُويرة الحنفي، تقدم ذكر أخيه علاء الدين علي، وسوف يأتي ذكر والده جمال الدين إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الياء. اشتغل كثيراً، ورقى من الحفظ محلاً أثيراً، تفنن في العلوم وتفند عما سوى ذلك من ملاذ المشارب والطعوم، وحصّل رأس مال جيد من الفقه وأصوله، وأنفق ولم يخش ذهاب محصوله. ولم يزل على حاله الى أن فار وفاض أجل الفويرة، وسبق أقرانه، وما جدّ في سيره. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء، الثالث والعشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وكان له حلقة إشغال في الجامع الأموي عند شباك الكاملية في الحائط الشمالي، ودرس بالخاتونية البرانية وبمجلس الرأس، وخطب بالزنجليّة وسمع عن جماعة، وحدث. وكان قد انتشا له ولد تقدير عمره ست عشرة سنة، وحج وهو صغير مع والده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وحفظ الكتاب العزيز، وسمع الحديث، وحفظ شيئاً من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 الفقه، فمات في شهر صفر من سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ففجع فيه والده وأهله، وحزن والده عليه حزناً عظيماً، ولم يعش والده بعده إلا هذه المدة اليسيرة، ولحقه الى الله تعالى. وكان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى رفيقاً للقاضي فخر الدين المصري يجاريه في الإشغال فناً بعد فن، خلا أن ذلك كان شافعياً وهذا حنفياً، وكان كثيراً ما يمشي هو وشمس الدين محمد بن زين الدين المقرئ الصفدي، فكان الناس يسمونها القط والفأر. وحضرت يوماً عنده في حلقة إشغاله، وأوردت عليه أن لفظه طَهُور صيغة مبالغة في تكرير الفعل من الفاعل مثل صبور وقتول، وأكول وشروب، فكيف يسلب الماء الطهورية بالمرة الواحدة، على ما تقدم في ترجمة تقي الدين أبي الفتح السبكي مما نظمته وأجاب عنه نظماً، فأعجب الشيخ بدر الدين هذا الإيراد وزهزَهَ له، ولم يجب عنه، ولم يكن في طباعه مع كثرة علومه وتفننه إقامة وزن الشعر. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كان بدر الدين بن الغويرة ينشد قول الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجحي بإثبات الياء بعد الحاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 محمد بن يحيى بن أحمد بن سالم الأمير بدر الدين بن الخشاب ابن العدل زين الدين القرشي الدمشقي. دخل بدر الدين هذا في الجندية، وباشر الشدّ في ديوان سلار في بلاد صفد وقضى من السعادة في هذه المباشرة ما لا يوصف، وحصّل جملاً، وبقي فيما بعد من أعيان مقدمي حلقة صفد. ثم إنه ترامى الى الأمير سيف الدين تنكز، فأمّره عشرة، وجعله مشدّ الديوان بصفد ووالي الولاة، وحضر إليها في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم إنه نقله الى دمشق على شد الدواوين بها عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، فوصل إليها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بإعانة الصاحب غبريال له. ثم إن الصاحب عُزل في أيامه وتولى هو مصادرته. ولم يزل على وظيفة الشد الى أن عزل منها، وصودر في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وأقام في الترسيم نحواً من أربعة أشهر. ثم إنه أفرج عنه، وتولى فيما أظن بعد ذلك بيروت بواسطة سيف الدين قرمشي، لأنه كان مزوّجاً بأخت قرمشي. ثم إنه نقله الى ولاية نابلس، وتقلب في المباشرات كثيراً. ولم يزل على حاله في دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. وكان يحب المباشرات ولو كانت، مهما كانت عالية أو سافلة. وكان فيه كرم وخدمة لأرباب الدولة ما عليها مزيد. وكان مع اتساع دائرته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 لا يخرج فلساً لبقل حتى يضبطه في تاريخه عنده في تعليق وكان عجباً في هذا الباب. محمد بن يحيى بن فضل الله القاضي بدر الدين بن القاضي محيي الدين. توجه الى الديار المصرية صحبة والده، وعاد معه الى دمشق، ثم توجه معه ثانياً الى الديار المصرية، وأقام بها الى أن أخرجه أخوه القاضي علاء الدين الى كتابة السر بالشام عوضاً عن أخيه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فوصل الى دمشق في أوائل شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. وكان عاقلاً ساكناً كثير الإطراق، ملازم الصمت، لا يفوه بكلمة تودي الى الإحراق أو الإغراق، يخدم من يقصده ولا يلتفت الى من يزحمه أو يحسده، فأحبّه الناس وخضعوا، وطأطأوا رؤوسهم له واتّضعوا، وارتشفوا كؤوس محبّته وارتضعوا. وكان خطه جيداً يزين به مهارقه، ويودع الدرّجيد دَرْجه ومفارقه. ولم يزل على حاله الى أن خسف بدره في ليلة تمامه، وأدار الغصن عذبته لنوح حمامه. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر من شهر رجب الفرد سنة ست وأربعين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 ومولده سنة عشر وسبع مئة. وهو شقيق أخيه القاضي شهاب الدين، وخلّف نعمة طائلة، وعمر أملاكاً مليحة عند قناة صالح داخل باب توما، وكان أحب الإخوة الى والده القاضي محيي الدين. وكان أخوه القاضي علاء الدين وهو أصغر سناً منه قد أدخله بعد موت والدهما الى دار العدل، وجلس في أيام السلطان الملك الناصر محمد ووقّع في الدست، ولما توجه القاضي علاء الدين الى الكرك صحبة الناصر أحمد، وتسلطن الملك الصالح إسماعيل، سدّ هو الوظيفة الى أن عاد أخوه، ثم إن أخاه جهزه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، ولما مات رحمه الله تعالى كتبت الى أخيه القاضي علاء الدين أعزيه فيه على لسان الأمير عز الدين طقطاي الدوادار ارتجالاً من رأس القلم وهو: يقبّل الأرض لا ساق الله إليها بعدها وفدَ عزاء، ولا أذاقها فَقْدَ أحبّةٍ ولا فراق أعزاء، ولا أعدمها جملة صبر تفتقر منه الى أقل الأجزاء وينهي ما قدره الله تعالى من وفاة المخدوم القاضي بدر الدين أخي مولانا، جعله الله وارث الأعمار، وأسكن من مضى جنّات عدن، وإن كانت القلوب بعده من الأحزان في النار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من غاب بدره وخلا من الدست صدره، وعمّ مصابه فهو يتأسى بالناس، وعدم جَلَده فقال للدمع: اجرِ فكم في وقوفك اليوم من باس، وهذا مصاب لم يكن مولانا فيه بأوحد، وعزاء لا ينتهي الناس فيه الى غايةٍ أو حدّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشقّ قلوب لا بشق جيوب فما كان الدست الشريف إلا صدراً نزع فيه القلب، أو نجوماً بينما بدرها يشرق نوراً إذا به في الغرب، وما يقول للملوك إلا إن كان البدر قد غاب فإن النير الأعظم واف، وبيتكم الكريم سالم الضرب، وإنما أدركه بالوهم خفي زحاف، وما بقي إلا الأخذ بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصبر والاحتساب، وبتسليم الأمر الى صاحبه الذي كتب هذا المصرع على الرقاب: وفي بقائك ما يسلي عن الحزن، وظلّ مولانا بحمد الله تعالى باق على بيته، وما نقص عددٌ ترجع جملته الى مولانا، وكلنا ذلك الدارج، والله لا يذيقه بعدها فقد قرين ولا قريب، ويعوض ذلك الذاهب عما تركه في هذه الدار الفانية من الدار الباقية، بأوفر نصيب إن شاء الله تعالى. وقلت أرثيه، ولم أكتب بذلك لأحد: لفقدك بدْرَ الدين قد مسنا الضّر ... وأظلم أفقُ الشام واستوحشت مصر وشُقّق حبيبُ الروح واستعبر الحيا ... ولُطّم خد الورد وانصدع الفجر وكادت لنوح الوُرق في غسق الدجى ... تجف على الأغصان أوراقها الخضر لك الله من غادٍ الى ساحة البلى ... ومن بعده تبقى الأحاديث والذكر كأن بني الإنشاء يوم مصابه ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 محمد بن يحيى بن محمد الشيخ الإمام الصدر الكبير شمس الدين بن قاضي حرّان الحراني الحنبلي، ناظر الأوقاف بدمشق. كان صدراً محتشماً نبيلاً. توفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة ابن الصباب بالصالحية، وعمل عزاؤه بكرة الجمعة بمحراب الصحابة بجامع دمشق. وتولى نظر الأوقاف عوضه القاضي عماد الدين بن الشيرازي مضافاً الى نظر الجامع. محمد بن يحيى المعمّر الصالح كمال الدين، ابن القاضي محيي الدين بن الزكي القرشي. حدث عن ابن النحاس، ودرس بأماكن. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة. محمد بن يعقوب بن بدران الإمام المسند المقرئ أبو عبد الله بن الجرايدي - بالجيم - الأنصاري الدمشقي ثم القاهري، نزيل بيت المقدس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 أجاز له السخاوي، وسمع بمصر سنة أربع وأربعين، وبعدها من ابن الجميزي، وسبط السلفي، والمنذري، والرشيد العطار وتلا بالسبع مفردات على الكمال الضرير، وسمع منه الشاطبيّة، ومن ولد الشاطبي، وجود الخط، ودخل اليمن، وروى بأماكن. روى عنه شيخنا البرزالي والواني، وشيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وجماعة. واستوطن القدس ثماني سنين، وبه توفي سنة عشرين وسبع مئة. ومولده بدمشق سنة تسع وثلاثين وست مئة. محمد بن يعقوب بن زيد الشيخ الإمام العالم شمس الدين أبو عبد الله البلفيائي الشافعي المحدث. كان قد رافق شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة السبكي في سنة خمس وسبع مئة، وسمع معه على ابن الصواف، وسمع بالقاهرة، وما برح يسمع الى أن مات. وكان عدلاً فاضلاً ورعاً وديّناً. توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة ودفن بالقرافة، وكان الجمع متوفراً. محمد بن يعقوب الشيخ الإمام العالم الأديب بدر الدين، ابن النحوية، الأديب، نسبة الى النحو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 كان أديباً لبيباً، فاضلاً أريباً، حمى سرح النحو بحماة، وشاد ركنه وحماه، له يد في النحو طولى، وذهن بلغ به من الغوامض سولا بما أصفه وهو ابن النحوية، والفرع فيه ما في الأصل، وزيادة مَحويّة، وتصانيفه تشهد له بالتقدم وتحكم بأن مجده آمنٌ من التهدّم. ولم يزل على حاله الى أن أصبح لقىً بين يدي المنايا، وحكمت فيه الرزايا. وتوفي رحمه الله تعالى. اختصر الشيخ بدر الدين المصباح الذي لبدر الدين بن مالك في المعاني والبيان والبديع، وسماه ضوء المصباح وهذه تسمية حسنة. قلت: وهذه التسميات تحتاج ذوقاً، كما اختصر ابن سناء الملك كتاب الحيوان للجاحظ، وسمّاه روح الحيوان، البرق السامي، وسمي سنا البرق، وصنف شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي كتاباً سماه النور في مسائل الدور واختصره فسماه قطف النور. واختصرت أنا ديوان السّراج وسميته لمع السّراج. وشرح الشيخ بدر الدين ضوء المصباح في مجلدين وسماه إسفار الصباح عن ضوء المصباح. وكتبته بخطي وفي البديع مثلٌ مثّل بها، وفيها نظر، وعندي في التسمية أيضاً نظر، وشرح أيضاً ألفية ابن معط شرحاً حسناً وسماه حرز الفوائد وقيد الأوابد. أنشدني من لفظه الشيخ الإمام العلامة نجم الدين القفحازي قال: أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا بدر الدين محمد بن النحوية ما كتبه ارتجالاً على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 قصيدة أحضرها بعض شعراء العصر يمدح فيها صاحب حماة: لا ينشدَنْ هذا القريض متيم ... خوداً يحاذر من أليم صدودها فتملّه وتصدّه وتظنه ... أن قدْ أغار على فريد عقودها قلت: لا يقال: إلا حاذرت كذا، ولا يقال إلا صدّ عنه، اللهم إلا أن يكون حمل ذلك على المعنى، فيكون حاذرت بمعنى خفت، وتصدّه بمعنى تجفوه، وفي هذا ما فيه. وقد بلغني من قاضي القضاة جلال الدين القزويني أنه قال: اجتمعت ببدر الدين بن النحوية في العادلية وسألته عن قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنباً كلّه لم أصنع في تقديم حرف السلب وتأخيره، فما أجاب بشيء، أو كما قال. وقد تكلم ابن النحوية في هذا البيت في إسفار الصباح كلاماً جيداً، والسبب في ذلك أنه ما يلزم كل من وضع مصنفاً أن يستحضر جميع مسائله متى طُلب ذلك منه، لأنه حالة التصنيف يراجع الكتب المدونة في ذلك الفن ويطالع الشروح فيحرر الكلام ذلك الوقت، ثم إنه يشذ عنه، وهذا الشيخ علاء الدين الباجي كان إماماً علامة في فنونه، وقد وضع كتاباً في الجبر والمقابلة، قال لي عماد الدين الدمياطي: سألته مسألة في الجبر والمقابلة فما أجاب. قلت: وهذا لا ينقص من قدر الباجي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 محمد بن يعقوب بن عبد الكريم القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين، كاتب السر الشريف بحلب ودمشق. سألته عن مولده فقال: تقريباً في سنة سبع وسبع مئة بحلب. كان من رجالات الدهر عزماً وحزماً، وسياسة ودُربة بالسعي وفهماً. ينال مقاصده ولو كانت عند النعائم، ويتناول الثريا قاعداً غير قائم، وكتب ما يصبح به طرسه، وكأنه حديقة، وينظم بسرعة لا يقف فيها قلمه يُخال البرق رفيقه. باشر كتابة السر بحلب ودمشق مرتين، وخرج من كل منهما وهو قرير العين. وكان محظوظاً من النواب الذين يباشر بين أيديهم، وله عندهم الوجاهة التي لا تعدوه عند غضبهم وتعدّيهم، يشكرونه في المجالس، ويثنون عليه عند أرباب السيوف وأصحاب الطيالس ويقبلون شفاعته ما عسى أن تكون، ويثقون الى ما عنده من التأني والسكون: فأمرهم رُدّ الى أمره ... وأمره ليس له ردّ ومع هذا فكان ساكناً وادعاً، راداً على من اتصف بالشر رادعاً، أخلاقه تعلم النسمات حسن الهبوب، ويُغفر لها ما يعدّه الناس للدهر من الذنوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 ولم يزل على حاله الى أن اعتلّ، ورماه الموت بدائه وانسلّ. وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة، ودفن بتربته بمقابر الصوفية، وكانت جنازته حافلة. قال لي: قرأت القرآن على الشيخ تاج الدين الرومي، وعلى الشيخ ابراهيم القبج. وقرأ الحاجبية على ابن إمام المشهد، وقرأ مختصر ابن الحاجب، وحفظ التنبيه، وأذن له الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني بالإفتاء، ودرّس في حلب بالنورية وغيرها، واشتغل على ابن خطيب جبرين قاضي حلب في الأصول، وقرأ في الهيئة على أمين الدين الأبهري، وكان يستحضر من كليّات القانون جملة، وعلى ذهنه من العلاج جملة وافرة، ويستحضر من قواعد المعاني والبيان مواضع جيدة. وولي في حياة والده نظر الخاص المرتجع عن العربان، ثم نُقل الى كتابة الإنشاء بحلب. وكان الأمير سيف الدين أرغون نائب حلب يقرّبه ويحبه ويحضر عنده في الليل، ويقول له: يا فقيه، ودخل به الى توقيع الدست في حلب، وتولى تدريس المدرسة الأسدية بحلب سنة أربع وأربعين وسبع مئة، ثم إنه ولي كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتولى قضاء العسكر بحلب في أيام الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب حلب. ولما توفي زين الدين محمد بن الخضر كاتب سرّ دمشق طلب الأمير سيف الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 يلبغا من السلطان أن يكون القاضي ناصر الدين عنده بدمشق كاتب سر، فرسم له بذلك، ووصل الى دمشق في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فباشر كتابة سرّ دمشق وبيده تدريس الأسدية بحلب الى أن مات بدمشق، وبيده أيضاً قضاء عسكر حلب وهو بدمشق الى أن نزل عنه لمن بذل له شيئاً، ثم إنه تولى تدريس المدرسة الناصرية الجوّانية بدمشق، وتدريس المدرسة الشامية الجوانية ومشيخة الشيوخ. وكان يزعم أنه سمع على سنقر مملوك ابن الأستاذ حضوراً في الرابعة، كذا قال لي من فمه، وعندي في ذلك شيء، فإن سنقر المذكور توفي سنة ثمان وسبع مئة، وناصر الدين فمولده على ما أخبرني في سنة سبع وسبع مئة، فهذا الحضور في الرابعة على سنقر لا يتصور. وكان ينظم سريعاً، ويكتب خطّاً حسناً، وحصّل لأولاده الإقطاعات الجيدة من إمرة العشرة الى ما دونها، ولمماليكه ولألزامه، والرواتب الوافرة على الديوان، وعلى الجامع الأموي واقتنى من الكتب النفيسة المليحة جملةً وافرة، ومن الأصناف من القماش والجوهر واللؤلؤ وغير ذلك جملاً، واقتنى الأملاك الجيدة والبساتين المعظمة في دمشق وغالب بلادها، وفي حلب وغالب معاملاتها. وكان رجلاً سعيداً محظوظاً الى الغاية، إلا أنه لم يكن فيه شرٌ، ولا تسرع يملك نفسه، ويكتم أذاه وغيظه ولا يواجه أحداً بسوء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 ولما كان في سنة ستين وسبع مئة رسم له بكتابة سر حلب عوضاً عني، وجُعل القاضي أمين الدين بن القلانسي عوضاً عنه بدمشق، وحضرتُ أنا على وظائف ابن القلانسي، وذلك في أوائل سنة ستين. ولم يزل بحلب الى أن حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجّي الى دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فولي القاضي ناصر الدين كتابة سر دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين بن القلانسي في ثاني عيد الأضحى، فباشر كتابة السر الى أن مات رحمه الله تعالى. وباشرت معه كتابة الإنشاء بدمشق مدة ولايته الأولى وما فارقته فيها في سفر، ولا حضر، وبيني وبينه بداءات ومراجعات في عدة فنون، وكلها في أجزاء التذكرة التي لي، من ذلك ما كتبه إليّ وقد وقع مطر عظيم: كأن البرق حين تراه ليلاً ... ظُبىً في الجوّ قد خُرطت بعنف تخال الضوء منه نار جيشٍ ... أضاءت والرعود حسيس زحف وكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: يحاكي البرق بشرك يوم جُود ... إذا أعطيت ألفاً بعد ألف وصوت الرعد مثل حشا عدوّ ... يخاف سطاك في حيف وحتف ثم كتب هو إليّ: لئن أوسعت إحساناً وفضلاً ... وجُدتَ بنظم مدح فيك لائق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 فهذا الفضل أخجل صوب سحبٍ ... وهذا البشر أخجل بشر بارق وكتب هو إليّ أيضاً: وكأن القطر في ساجي الدجا ... لؤلؤ رصّع ثوباً أسودا وإذا ما قارب الأرض غدا ... فضةً تشرق من بعده المدى فكتبت أنا الجواب إليه: ما مُطرنا الآن في المرج سدى ... ورأينا العذر في هذا بَدا نظر الجوّ لما تَبْذلُه ... فهو يبكي بالغوادي حسدا وكتب هو إليّ أيضاً: طبّق الجوّ بالسحاب صباحاً ... ومُطرنا سحّاً مغيثاً وبيلا نسخ الريّ كل قحط ويبس ... بغمام أهدى لنا سلسَبيلا ارتشفنا منه الرضاب فخلنا ... عن يقين مزاجه زنجبيلا فكتبت أنا الجواب إليه بديهاً: جلتِ الأرضُ بعد قحط ويبسٍ ... من بكاء الغمام وجهاً جميلا وتثنى القضيب فيها رطيباً ... وتمشّى النسيم فيها عليلا هكذا كل بلدة أنت فيها ... يجعل الغيثُ في حماها مسيلا وكتب هو إليّ بعد ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 أوضح الله للبيان سبيلا ... بك يا أقومَ المجيدين قيلا إن تثنى القضيب في الروض عجباً ... وتبدى نضاره مستطيلا فبأقلامك المباهاة فخراً ... كل غصن رطب وخداً صقيلا ولئن زدْت في ثنائي فإني ... شاكر فضلك الجزيل طويلا لم أنس بالمرج مرّ لنا ... به حللنا في غاية الشدّهْ تقابل الرعدَ منه خيمتُنا ... بسورة الانشقاق والسجدهْ وكتبت أنا إليه: ما أنس لا أنس يوم المرج حين غدت ... أمطاره بدموع العين تمتزج كم في الختام فتوق كالعيون غدت ... أجفان رفرفها بالريح تختلج وكتبت إليه في السنة الثانية، ونحن بالمرج أصف حرّ الظهائر: مرج دمشق عجب أمره ... في الطيب والكره غدا خارجا كم نسج الحرّ به للندى ... وكان مرجاً فغدا مارجا وكتب هو إليّ ملغزاً: أيها العالم الذي فاق علماء زمانه، وعلا قدراً في معانيه وبيانه، وقام بصلاحه عماد الأدب بعد هوانه: ما اسم شيء سداسي الحروف، ظرف للعشرات والألوف، لا تنفك علتاه الصورية والغائية عن عاطف ومعطوف، يمنع من القنص ويُتخذ كاتخاذ القفص، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 ولا يوصف جلده ببهق ولا برص، أعجمي المسمى، حرم دان لمن تأمله ورُزق حزماً، إن صُحّف نصفه كان من علل العروض، وأتى عقاباً ليعملة غير ركوض، وربما دخل تصحيفه في ألقاب الإعراب وأتى مشكوراً من ذوي السيادة والآداب، وإن اعتبر نصفه الثاني فهو مرادف قريب، واستُحب من الحبيب، وإن قُلب كان للرؤساء مكاناً، وربما أضيف الى قبيلة إذا أردت بياناً، فاكشف لنا أيها العالم عن معمّاه، فما برحت تكشف عن وجوه الإعجاز حجابها، وتكسف نور الشمس وترفع جلبابها، وتنزع عن المعميات بنور بصيرتك ثيابها. فكتبت أنا الجواب إليه، وهو في حرمدان: يا فريداً جمع الله فيه فنون الآداب، ووحيداً علا عن الأشكال والأضراب، وخبراً بل بحراً زخرت بالعلوم أمواجه، وبل للإضراب. نزّهت بصري وبصيرتي في هذه الحدائق التي لاتزال العيون إليها محدّقة، ولا تبرح كواكبها في سماء بلاغة لا يسبح قمرها في الطريقة المحترقة، فرأيتك قد ألغزت في ظرف، حوى حُسن الشكل والظُرف، وفي الألف والنون والتركيب ولا يُمنع من الصرف، وسدساه الأولان ثلثا حرف وسدساه الآخران حرف يعبّر بألفاظه عن بابك المعمور للخائف، لأنه حرم قريب لا يوجد به حائف، حِرز لما يودع فيه، وهذا الوصف له من أجلّ الوظائف، ذو جلَد على الغربة، فبينا هو بالبلغار إذا هو بالطائف، ليس بعربي، وعهده بالعجم قد تقادم، وليس هو من بني آدم. وإذا قلبته وجدت به آدم، ولا يفوه بكلمة، ومتى عكس ثلثاه نادم، يتلون ألواناً، وما ضمّ جسده حسدا، ونصفه مرح إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 قُلب، وسدساه داء، وكله يرى ما بين جنبيه لا جفنيه رمدا، يماثل قول المحاجي الأديب، مأمن للخائف قريب. وله خواص أُخر عجيبة وصفات بعيدة إلا عن ذهنك الصافي فإنها قريبة. هذا ما ظهر للمملوك منه، وكُشف له من الغطاء عنه. فإن وافق الصواب فهو بسعادتك وبركات خاطرك، يا شيخ الشيوخ ويُمن إرادتك، وإلا فالعذر ظاهر في القصور، وشرّ الطير يأوي الخراب وخيرها يأوي القصور. والله يمتّع الأنام بهذه الكلم اللؤلؤيات، ويمنع بفضله من تحدي لمعارضة هذه الآيات البيّنات، بمنه وكرمه. محمد بن يوسف بن عبد الله الحزري شمس الدين، يُعرف بابن الحشّاش، وبالخطيب. قال شيخنا البرزالي: كان أبوه صيرفيّاً بالجزيرة. وقال كمال الدين الأدفوي: كان ذا فنون، وكان محسناً الى الطلبة. قدمت من الصعيد في سنة ست وسبع مئة، فوجدته يدرّس بالمدرسة الشريفية، وتؤخذ عليه دروس كثيرة، فسألته أن يرتّب لي درساً، فاعتذر بضيق الوقت، ثم قال: ما لك شغل؟ فقلت: لا، فقال: تحضر بعد العصر، فإن اتفق أن تجدني اقرأ. ففعلت ذلك، فلم يخلُ يوماً من الخروج إليّ، فقرأت عليه قطعة من المنتخب في أصول الفقه، وخصّني بوقت مع كثرة أشغاله وانتصابه للإقراء الى نصف النهار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 وكان حسن الصورة، مليح الشكل، حلو العبارة، عالماً بفنون من الفقه على مذهب الشافعي، والأصولين، والنحو، والمنطق، والأدب، مشاركاً في هندسة وغيرها من الرياضيات. قدم قوص مجرداً، فوجد بها الشيخ شمس الدين الأصبهاني حاكماً، فقرأ عليه فنونه، ثم إنه قدم مصر، واشتغل بها، وأعاد بالمدرسة الصاحبية، وأقام بالقاهرة، وولي تدريس الشريفية، وانتصب للإقراء، فقرأ عليه المسلمون واليهود وغيرهم. وكان يلقي دروساً، وتقرأ عليه طائفة، وصحب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وارتفعت منزلته عنده مدة، ثم إنه وقع بينه وبين الشيخ نصر المنبجي فحطّ عند بيبرس من قدره، وشهد عليه بعض طلبته. وكان خطيباً بالقلعة، فعُزل عنها، وتولى الخطابة بالجامع الطولوني مدة، ثم لما عاد السلطان الملك الناصر سنة تسع وسبع مئة مشى حاله. وتولى المدرسة المعروفة بالمعز بمصر. وله تصانيف منها شرح التحصيل في ثلاث مجلدات، وشرح منهاج البيضاوي في مجلدة لطيفة ليست بطائل، صنّفه في آخر عمره، واعتذر في خطبته بالكِبَر، وله أجوبة على أسئلة المحصول، وشرح ألفية ابن مالك. وكان فيه مروة وكرم أخلاق على الإطلاق، يسعى في حوائج الناس بنفسه، ويبذل جاهه لمن يقصده، ويسعفه بأربه. وله ديوان خُطب وشعر كثير. وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وقد جاوز الثمانين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 ومن شعره: لم أصْبُ للبرق من تيماء يأتلق ... إلا وللقلب من حُبّيكم عُلَقُ يعتاض من حرّ أنفاسٍ تلهّبه ... ثم استقل ولي في طيّه حرَقُ يا لامع البرق إما لُحت معترضاً ... لا تستقرّ كقلب هزّهُ القلق إني أخال خفوقاً منك في عجَل ... يهدى وقلبيَ لا يهدا به الفرَق ويا نسيم الصبا هل لَبْثة بربى ... نجدٍ على غفلة الواشين تتفق وسل أُهيليه عن قلبي وما صنعوا ... به فإني بما ترويه لي أثق وعُد إليّ بما ضُمّنت من خبر ... وفي دجا الليل من ظلمائه رمق ومل إليّ دُوين القوم مستتراً ... كي لا ينمّ علينا نشرُك العبق أبثكم أن لي من بعدكم كبداً ... أمست إليكم بنار الشوق تحترق أهوى المنام لمسرى طيفكم كلفاً ... به عسى مقلتي بالطيف ترتمق وهل يخوض الكرى جفناً تقسّمه ... كما يشاء الغرام الدمع والأرق إن أحتكم أنا والأشواق نحوكم ... يشهد بدعواي جفن من دمي شَرِقُ لا تسمعوا فيّ أقوال الوشاة ولا ... تُصغوا سماعاً بما قالوه واختلقوا قالوا: نَبَتْه الليالي في تقلّبها ... عن حبكم، فتناساكم وما صدقوا ومنه: يعيذك من نار حوتها ضلوعه ... مشوق أحاديث البُعاد تروعه بعدت فلما يعرف النوم جفنه ... ولم يدر هل كان السكون يريعه وكيف يلذ العيش بعدك مَن غدا ... من العمر في محل وأنت ربيعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 وها نَبْت فوديه يلوح مصوّحا ... ويبدو كمبيّض الهشيم فروعه أقول وقد حمّلت بثّي إليكم ... نسيماً وظني أنه لا يضيعه لعل النسيم الحاجريّ إذا قضى ... رسائله يُقضى إليّ رجوعه ومستخبر عن حال قلبي وما الذي ... سرى منه لما بنت، قلت: جميعه ويسألني عن ناظري ما الذي ترى ... تأخر عندي منه، قلت: دموعه منها: وإني متى ما ضم شملي وشملكم ... ويدعو بنا داعي الهوى لا أطيعه فما كل حين لي دموع أريقها ... ولا كل وقت لي فؤاد تريعه ومن شعره: سل عن أحاديث أشواقي إذا خطرت ... رسلَ النسيم فقد أودعتها لُمعا واستوضح البارق النجديّ عن نفسي ... بعد النوى فسيحكيه إذا لمعا واستحك من طير غصن البان بث جوى ... أمليته فسيُمليه إذا سجعا ومذ رمتنا النوى والله ما هدأت ... أشجان قلبي وطرفي قطّ ما هجعا وليس يمسك من بعد النوى رمقي ... إلا أماني قلبي أن نعود معا محمد بن يوسف ابن الحافظ زكي الدين محمد بن يوسف بن محمد بن يدّاس - بالياء آخر الحروف والدال المهملة المشددة، وبعد الألف سين مهملة - الشيخ الإمام العالم المرتضى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 بهاء الدين أبو الفضل بن أبي الحجاج بن البرزالي الإشبيلي الأصل، الدمشقي، الشافعي. أحضره والده على جماعة، منهم السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة، وعتيق السلماني، والمخلص بن هلال، والتاج ابن أبي جعفر، ومحاسن الجوبري، والمرجّى ابن شقيرة. ثم توفي والده شاباً، وخلّفه، وله خمسة أعوام، فربي في حجر جده الإمام علم الدين القاسم بن أحمد اللورقي، وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، وكتب الخط المنسوب، وبرع فيه، ونسخ جملة من الكتب، وأجاز له طائفة من شيوخ بغداد ومصر والشام. وقرأ عليه ولده شيخنا علم الدين البرزالي شيئاً كثيراً، منها الكتب الستة بالإجازات وحدّث بمصر وبدمشق وبالحجاز، وبرع في كتابة الشروط وكتب الحكم للقضاة، ورزق حظوة مع التصوّن والديانة والتقوى والتعبّد. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة. محمد بن يوسف بن يعقوب ابن أبي طاهر الإربلي ثم الدمشقي الذهبي. أجاز له أبو محمد بن البُنّ، وجماعة. وسمع من ابن المسلّم المازني، وأبي نصر بن عساكر، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وابن مكرّم، والزكي البرزالي، وعدة. وخُرّجت له مشيخة، وذيّل عليها شيخنا الذهبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وكان مكثراً. وسمع السنن الكبير للبيهقي سنة اثنتين وثلاثين على المرسي. وكان شيخاً عامياً. سقط من السُلّم فمات لوقته في شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة. ومولده سنة أربع وعشرين وست مئة. وكان قد تفرّد بأشياء. محمد بن يوسف بن محمد ابن المهتار المصري، العدل الجليل ناصر الدين أبو عبد الله بن الشيخ مجد الدين المصري ثم الدمشقي الشافعي. سمع من ابن الصلاح، والمرجّى بن شقيرة، ومكي بن علان، وجماعة. وأجاز له ظافر بن شحم، وابن المقير. وتفرّد بأجزاء. وكان نقيب قاضي القضاة إمام الدين القزويني. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري ذي الحجة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه الآداب والاعتقاد للبيهقي وعلوم الحديث والطوالات للتنوخي، وقطعة من الأجزاء. وحدّث بالزهد للإمام أحمد بكماله، وانفرد برواية علوم الحديث لابن الصلاح عن مصنّفه مدة سنين، وبقطعة كبيرة من سنن البيهقي وبالطوالات للتنوخي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 وأجاز له من دمشق السخاوي، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، وابراهيم بن الخشوعي، وعبد الحق بن خلف وجماعة من الديار المصرية فخر القضاة ابن الحباب، وظافر بن شحم، وسبط السلفي، وابن رواج، وعلي بن زيد التسارسي، وعلم الدين بن الصابوني، وابن الجمّيزي، والسراج محمد بن يحيى بن ياقوت، وهبة الله بن محمد المقدسي، وهم من أصحاب السلفي. محمد بن يوسف ... محيي الدين المقدسي المصري النحوي ... محمد بن يوسف بن عبد الغني ابن تُرشَك - بالتاء ثالثة الحروف والراء والشين المعجمة وبعدها كاف - الشيخ تاج الدين المقرئ الصوفي البغدادي. حفظ القرآن العظيم في صباه بالروايات، وأقرأه، وسمع الكثير من ابن حصين. وإجازاته عالية. وروى وحدّث، وسمع منه خلق ببغداد وبدمشق وبغيرها من البلاد. وكان ذا سمت حسن، وخُلق طاهر، ونفس عفيفة رضيّة، وصوت مطرب الى الغاية. وقدم دمشق مراراً، وحدث، وحجّ غير مرة، ثم عاد الى بلده، وأضرّ بآخرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمسين وسبع مئة. ومولده ببغداد في شهر رجب الفرد سنة ثمان وستين وست مئة. محمد بن يوسف بن علي ابن يوسف بن حيان، الشيخ الإمام العالم العلامة الفريد الكامل، حجة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجبّائي الجيّاني، بالجيم والياء آخر الحروف مشددة، وبعد الألف نون. كان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاءً في يوم الصحو، والمتصرّف في هذا العلم، فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبَصرهم، وأهل الكوفة لكفَّ عنهم اتّباعهم الشواذ وحذّرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجْنة راقت النواظر توريدا. ملأ الزمان تصانيف، وأمال عُنق الأيام بالتواليف. تخرّج به أئمة هذا الفن، وروّق لهم في عصره منه سُلافة الدن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير محبّب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقعيره وهو محدّب، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردّى من مسألته الزنبوريّة برداه، أو الكسائي لأعراه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 حُلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولد المأمون تقديم مداسه، أو الزيدي لأظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفض لأخفى جملة من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصبّ لشعب الشعوبية، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله: إن مصابكم رجلا أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكنّ بمكره في وكره وما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مفتّرة، أو الزجاج لأمست قواريره مكسّرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن بابشاذ لعلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريد ما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رَحْله، أو ابن السراج لمشّاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً ولم يجد معها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 نورا، أو ابن الخباز لما سجر له تنورا، أو ابن القواس لما أغرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعة، أو ابن خروف لما وجد له مرعى، أو ابن إياز لما وجد لإوازّه وقعا، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّا، أو الدبّاج لكان من حلّته الرائقة عريّا. وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريدَ هذا الفن الفذّ بُعداً وقرباً، وفيه قلت: سلطان علم النحو أستاذنا ... الشيخ أثير الدين حبرُ الأنام فلا تقل زيد وعمرو فما ... في النحو معه لسواه كلام خدم هذا العلم مدة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طُرقاً متشعبة الأفنانين. ولم يزل على حاله الى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان. وتوفي - رحمه الله تعالى - بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة، في يوم السبت بعد العصر، الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصُلّي عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخسين وست مئة. وقلت أنا أرثيه - رحمه الله تعالى: مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لما سرى وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را يا عينُ جودي بالدموع التي ... يُروى بها ما ضمّه من ثرى واجرِ دماً فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى مات إمامٌ كان في فنه ... يُرى أماماً والورى من ورا أمسى منادى للبلى مفرداً ... فضمّه القبر على ما ترى يا أسفاً كان هُدىً ظاهراً ... فعاد في تربته مضمرا وكان جمع الفضل في عصره ... صحٌ فلما أن قضى كُسّرا وعُرّف الفضل به بُرهة ... والآن لما أن مضى نُكّرا وكان ممنوعاً من الصرف لا ... يطرق مَن وافاه خطب عرا لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين مَن أعرفه في الورى لا بدلٌ عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدَرا لم يدّغم في اللحد إلا وقد ... فك من الصبر وثيق العُرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 بكى له زيد وعمرو فمِن ... أمثلة النحو ومَن قد قرا ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عُسرة يسّرا وجسّر الناس على خوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا من بعده قد حال تمييزُه ... وحظّه قد رجع القهقرى شارك مَن قد ساد في فنه ... وكم له فن به استأثرا دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى والنحو قد سار الرّدى نحوه ... والصّرف للتصريف قد غيّرا واللغة الفصحى غدت بعده ... يُلغى الذي في ضبطها قرّرا تفسيره البحر المحيط الذي ... يُهدي الى ورّاده الجوهرا فوائد من فضله جمّة ... عليه فيها نعقد الخنصرا وكان ثبتاً نُقلُه حجةٌ ... مثل ضياء الصبح إن أسفرا ورَحْلة في سنّة المصطفى ... أصدق مَن تسمع إن أخبرا له الأسانيد التي قد علت ... فاستغلت عنها سوامي الذُرا ساوى بها الأحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته مَن طرا وشاعراً في نظمه مُفلقا ... كم حرّر اللفظ وكم حبّرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 له معانٍ كلما خطّها ... تستر ما يُرق في تُستَرا أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلاً من ربّه بالقِرى ما بات في أبيضِ أكفانه ... إلا وأضحى سندساً أخضرا تُصافح الحورَ له راحةٌ ... كم تعبت في كل ما سطّرا إن مات فالذكر له خالد ... يحْيا به من قبل أن يُنشرا جاد ثرىً واراه غيث إذا ... مسّاه بالسقيا له بكّرا وخصّه من ربّه رحمة ... تورده في حشره الكوثرا وكان قد قرأ القرآن على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة، إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطبّاع بغرناطة، ثم قرأ السبعة الى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة. ثم إنه قدم الإسكندرية، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي. ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية، وبادر مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأني لم أره قط إلا يُسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك. وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات البديعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وهو ثبت فيما ينقله، محرر لما يقوله، عارف باللغة، ضابط لألفاظها. وأما النحو والتصريف، فهو إمام الناس كلهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته. وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج، وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك، وأجابه عنها. وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودُريت، ونُسخت وما فسخت، أخملت كتب الأقدمين، وألهمت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك - رحمه الله تعالى - ورغّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مُقفَلها. وكان يقول عن مقدمة ابن الجاجب: هذه نحو الفقهاء. وكان التزم أن لا يقرئ أحداً إلا إن كان في كتاب سيبوية أو في التسهيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 لابن مالك أو في تصانيفه، ولما قدم من البلاد لازم الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - كثيراً، وأخذ عنه كتب الأدب. وكان شيخاً حسن العمّة، مليح الوجه، ظاهر اللون مشرَباً حمرة، منوّر الشيبة، كبير اللحية مسترسل الشعر فيها، لم تكن كثّة. عبارته فصيحة بلغة الأندلس، يعقد القاف قريباً من الكاف على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة. وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف. وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل. ولما توفيت ابنته نُضار طلع الى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى. وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي - رضي الله عنه - بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرر للرافعي، ومختصر المنهاج للنووي، وحفظ المنهاج إلا يسيراً، وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر بن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فصيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي. وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ شيئاً من المنطق على بدر الدين محمد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف. ولكنه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لمّا وقف على كتاب العرش له. قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصّبه للإما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التعصّب المتين قال: حُكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة إن علياً - رضي الله عنه - عهد إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق أتراه ما صدق في هذا؟ فقال: صدق، قال: فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه، يبغضونه أو يحبونه؟ وغير ذلك. قال: كان سيئ الظن بالناس كافة، فإذا نُقل له عن أحد خير لا يتكيف به وإذا كان شراً يتكيّف به ويبني عليه، حتى ممن هو عنده مجروح، فيقع في ذم مَن هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كثير منه ألم كثير. انتهى. قلت: أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنني ما سمعت في حقه شيئاً، نعم سمعته كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح، حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف نعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال: هو رجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 مسلم ديّن، وإلا ما كان يطير في الهواء، ويصلي الصلوات في مكة كما يدّعي فيه هؤلاء الأغمار. وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية. وقال كمال الدين المذكور، قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى. قلت: كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج الى السُفَّل. وأنشدني من لفظه لنفسه: رجاؤك فَلْسا قد غدا في حبائلي ... قنيصا رجاء للنتاج من العقم أأتعب في تحصيله وأضيعه ... إذاً كنت معتاضاً من البر بالسقم قلت: والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرّب، وورد البلاد، ولا شيء معه، وتعب حت حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرّب الناس، وحلب أشطر الدهر، ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس، يشتري له طُلْمة بايتة بفلسين، ويشتري له بفلس ربيباً وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز. وكان يعيب علي مُشتري الكتب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك. وأنشدني له بإجازة: إن الدراهم والنساء كلاهما ... لا تأمننّ عليهما إنسانا ينزعن ذا اللبّ المتين عن التقى ... فترى إساءة فعله إحسانا وأنشدني له من أبيات: أتى بشفيع ليس يمكن ردّه ... دراهم بيض للجروح مراهم تصيّرُ صعبَ الأمر أهونَ ما يُرى ... وتقضي لُبانات الفتى وهو نائم ومن حزمه قوله - رحمه الله تعالى: عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا صرف الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قد قلت لما أن سمعت مباحثا ... في الذات قررها أجلُّ مفيد هذا أبو حيان، قلت: صدقتم ... وبررتم هذا هو التوحيدي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 وكان قد جاء يوماً الى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال: قالوا أبو حيان غير مدافع ... ملك النحاة، فقلت: بالإجماع اسم الملوك على النقود وإنني ... شاهدت كُنيته على المصراع ومدحه شرف الدين بن الوحيد بقصيدة مطوّلة، أولها: إليك أبا حيان أعملت أينقي ... وملت الى حيث الركائب تلتقي دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً ... ولبّيت أحدوها بلفظي المصدّق ومدحه نجم الدين إسحاق بن ألمى التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها: تبدّى فقلنا وجهه فلق الصبح ... يلوح لنا من حالك الشعر في جنح منها: بدأت بأمر تمم الله قصده ... وكمّله باليمن فيه وبالنُجح وسهلت تسهيل الفوائد محسنا ... فكُن شارحاً صدري بتكملة الشرح ومدحه مجير الدين عمر بن اللمطي بقصيدة، أولها: يا شيخ أهل الأدب الباهر ... من ناظم يُلفى ومن ناثر ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيد، أولها: ضيف ألمّ بنا من أبرع الناس ... لا ناقض عهد أيامي ولا ناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 عارٍ من الكِبر والأدناس ذو ترف ... لكنه من سرابيل العلا كاس ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين، أول الأولى: أتراه بعد هجران يصل ... ويرى في ثوب وصل مبتدِلْ قمر جار على أحلامنا ... إذ تولاها بقدّ معتدلْ وأول الثانية: أعذروه فكريم مَن عذَر ... قمَرته ذات وجه كالقمَرْ ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة، أولها: إن الأثير أبا حيان أحيانا ... بنشره طيّ علم مات أحيانا ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة، أولها: فضضتُ عن العذب النمير ختامها ... وفتحت عن زهر الرياض كمامها ومدحه جماعة آخرون، يطول ذكرهم. وكتبت أنا إليه من الرحبة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة: لو كنت أملك من دهري جناحين ... لطرت لكنه فيكم جنى حَيني يا سادة نلتُ في مصرٍ بهم شرفا ... أرقى به شُرُفا تنأى عن العين وإن جرى لسما كيوان ذِكر عُلا ... أحلّني فضلهم فوق السّماكين وليس غير أثير الدين أثّله ... فسادَ ما شاد لي حقا بلا مَيْن حبر ولو قلت: إن الباء رُتبتُها ... من قبل، صدّقك الأقوام في ذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 أحيا علوماً أمات الدهر أكثرها ... مذ جُلّدت خُلّدت ما بين دفين يا واحد العصر ما قولي بمتّهم ... ولا أحاشي امرأ بين الفريقين هذي العلوم بدت من سيبويه كما ... قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين فدُم لها وبودي لو أكون فدى ... لما ينالك في الأيام من شَيْن يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب ... إذا الخليل غدا يفديك بالعين يقبّل الأرض ويُنهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دما، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب، وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها: فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الروض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناؤه الذي يتضوّع كالزهر الكمائم، ويتنسم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع ملونات العمائم. ويشهد الله على كل ما ... قد قلته والله نعم الشهيد فكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنه عُدم مني. وأنشدته يوماً لنفسي: قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقّط الدمع شكله إن تخطّ الدموع في الخد شيئاً ... ما يُسمّى؟ فقال: خط ابن مقله وأنشدني هو من لفظه لنفسه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 سبق الدمعُ بالمسيل المطايا ... إذ نوى من أحبّ عني رحله وأجاد الخطوط في صفحة الخد ... ولِم لا يجيد وهو ابن مقله وأنشدني في مليح نوتي: كلفْتُ بنوتيّ كأن قوامَه ... إذا ينثني خوط من البان ناعم مجاذفه في كل قلب مجاذب ... وهزاته للعاشقين هزائم وأنشدته أنا لنفسي: إن نوتيّ مركبٍ نحن فيه ... هام فيه صبّ الفؤاد جريحه أقلع القلب عن سلويَّ لما ... أن بدا ثغره وقد طاب ريحه وأنشدته أنا لنفسي أيضاً: نوتيّنا حُسنُهُ بديع ... وفيه بدر السماء مغرى ما حكّ برّا إلا وقلنا ... يا ليت أنّا نحكّ برّا فأعجباه - رحمه الله - وزهزه لهما. وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب: تعشّقته أحدباً كيّساً ... يحاكي نجيباً حنين البُغام إذا كدت أسقط من فوقه ... تعلّقت من ظهره بالسنام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 فأنشدته أنا في ذلك لنفسي: وأحدب رحت به مغرما ... إذ لم تشاهد مثله عيني لا غرو أن هام فؤادي به ... وخصره ما بين رِدفَين وأنشدني من لفظه في مليح أعمى: ما ضرّ حُسن الذي أهواه أن سنا ... كريمتيه بلا شين قد احتجبا قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا ... لكن حسنهما الفتّان ما ذهبا كالسيف قد زال عند صقله فغدا ... أنكى وآلم في قلب الذي ضُربا وأنشدته أنا لنفسي في ذلك: ورب أعمى وجهه روضة ... تنزُّهي فيها كثير الديون في خدّه ورد غنينا به ... عن نرجس ما فتّحته للعيون وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك: أيا حُسن أعمى لم يخف حدَّ طرفه ... محبٌ غدا سكران فيه وما صحا إذا طار خد بات يرعى خدوده ... غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا وكتبت إليه استدعاء، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العلامة لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلّدين، زين المقلدين، قطب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 المولّين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب، فكل ذي لب إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابدها الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف مُعضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سحبان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فَرْق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانَ فضل جنانُ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوهٍ حورُها " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " وأبدع خمائل نظم ونثر، لا تصل الى أفنان فنونها يد جان، أثير الدين أبي حيان محمد: لا زال ميت العلم يحييه وهل ... عجب لذلك من أبي حيّان حتى ينال بنو العلوم مرامهم ... ويُحلّهم دار المُنى بأمان إجازة كاتب هذه الأحراف ما رواه - فسح الله في مدّته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً الى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، مما تلقّاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيف ما تأدّى إليه، وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثر، إجازة خاصة، وأن يثبت بخطّه تصانيفه الى حين هذا التاريخ، وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 يجيزه إجازة عامة لما يتجدد له من بعد ذلك على رأي مَن يراه ويجوّزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى. فكتب الجواب هو - رحمه الله تعالى: أعزّك الله ظننت بالإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت من هو القتام يظنه الناظر سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا بن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يُرعى الهشيم، أما أغنتم فواضلك وفضائلك، ومعارفك وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلّجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرّجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف بمن يُقصد للدراية، وأنقد بمن يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقذه من لَكْن الفهاهة، فتشيد له ذكرا، وتُعلي له قدرا، ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت، وإجابتك فيما إليه ندبت، فإن المالك لا يُعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى. وقد أجزت لك - أيّدك الله - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك بقراءة أو سماع ومناولة وإجازة بمشافهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وكتابة ووجادة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنّفته واختصرته وجمعته وأنشأته نثراً ونظماً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء. فمن مروياتي: الكتاب العزيز، قرأته بقراءات السبعة على جماعة، من أعلاهم الشيخ المسند المعمر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليجي آخر من روى القرآن بالتلاوة عن أبي الجود. والكتبُ الستة، والموطّأ ومسند عبد ومسند الدارمي ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الصغير له، وسُنن الدارقطني وغير ذلك. وأما الأجزاء فكثير جداً. ومن كتب النحو والآداب، فأروي بالقراءة كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة والمفصّل وجُمل الزجاجي وغير ذلك. والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب وديوان المتنبي وديوان المعري. وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة، فهم كثير، وأذكر الآن منهم جملة، فمنهم: القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب البغدادي القوّاس، وصفي الدين الحسين بن أبي المنصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدهان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 محمد بن القسطلاني، ورضيّ الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني. ومحمد بن مكي بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصفار، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداري بن الخليلي، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي، ومحمد بن عبد الله بن عمر العنسي عُرف بابن النن، وعبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخرّمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحيم بن يوسف بن يحيى بن يوسف بن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجا الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسيني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينتب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي. وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء: أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 أبي الفرج المالقي، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكّي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياتينن الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن مُحسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي. وممن أخذت عنه من النحاة: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخُشني الأُبّذي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتاني بن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي، وأبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن محمد بن نصر الله الحلبي بن النحاس. وممن لقيته من الظاهرية: أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري. وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربع مئة شخص وخمسين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام. وأما ما صنفته: فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم، إتحاف الأريب بما في القرآن من غريب، كتاب الإسفار الملخَّص من كتاب الصفّار شرحاً لكتاب سيبويه، كتاب التجريد لكتاب سيبويه، كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل، كتاب التنخيل الملخّص من شرح التسهيل، كتاب التذكرة، كتاب المبدع في التصريف، كتاب الموفور، كتاب التقريب، كتاب التدريب، كتاب غاية الإحسان، كتاب النكت الحسان، كتاب الشذا في مسألة كذا، كتاب الفصل في أحكام الفصل، كتاب اللمحة، كتاب الشذرة، كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء، كتاب عقد اللآلي، كتاب نكت الأمالي، كتاب النافع في قراءة نافع، الأثير في قراءة ابن كثير، المورد الغمر في قراءة أبي عمرو، الروض الباسم في قراءة عاصم، المزن الهامر في قراءة ابن عامر، الرمزة في قراءة حمزة، تقريب النائي في قراءة الكسائي، غاية المطلوب في قراءة يعقوب، المطلوب في قراءة يعقوب، النيّر الجليّ في قراءة زيد بن علي، الوهّاج في اختصار المنهاج، الأنور الأجلى في اختصار المحلّى، الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية، كتاب الإعلام بأركان الإسلام، نثر الزهر ونظر الزُهر، قطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي، فهرست مسموعاتي، نوافث السحر في دمائث الشِّعر، تحفة النّدُس في نحاة أندلس، الأبيات الوافية في علم القافية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 جزء في الحديث، مشيخة ابن أبي منصور، كتاب الإدراك للسان الأتراك، زهو المُلك في نحو الترك، نفحة المسك في سيرة الترك، كتاب الأفعال في لسان الترك، مُنطق الخرس في لسان الفرس. ومما لم يكمل تصنيفه، كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد، كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك، نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب رجز، مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر، خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان رجز، نور الغبش في لسان الحبش، المخبور في لسان اليخمور. قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان. وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف: أنا هاوٍ لمستطيل أغنّ ... كلما اشتدّ صارت النفس رخوه أهمس القول وهو يجهر سبّي ... وإذا ما انخفضت أظهر عُلوَه فتح الوصل ثم أطبق هجرا ... بصفير والقلبُ قلقَلَ شجوه لان دهراً ثم اغتدى ذا انحرافٍ ... وفشا السرّ مذ تكررت نحوه وأنشدني أيضاً لنفسه: يقول لي العذولُ ولم أُطعْهُ ... تسلّ فقد بدا للحب لحيَهْ تخيّل أنها شانت حبيبي ... وعندي أنها زَيْن وحِليَه وأنشدني لنفسه أيضاً: شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي أسهَرْت طرفي ودلّهت الفؤاد هوىً ... فالطرفُ والقلب مني الساهر الساهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 نبهتَ قلبي وتَنهى أن تبوح بما ... يلقاه وا شوقه للناهب الناهي بهرتَ كل مليح بالبهاء فما ... في النيّرين شبيهُ الباهر الباهي لهجتُ بالحب لما أن لهوت به ... عن كل فويحَ اللاهج اللاهي وأنشدني من لفظه لنفسه: راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حُسنَه من عارض رائض وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يُعتدّ بالعارض وأنشدني من لفظه لنفسه: تعشّقتُه شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد أخاد العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيب ومن صدِ وقالوا: الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناسٌ وناسٌ الى المرد ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ ... صبوت الى هيفاء مائسة القدّ وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً ... فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي وأنشدني من لفظه لنفسه: ألا ما لها لُخْصا بقلبي عوابثا ... أظن بها هاروتَ أصبح نافثا إذا رام ذو وجد سلوّاً منعنه ... وكنّ على دين التصابي بواعثا وقيدنَ من أضحى عن الحب مُطلقا ... وأسرعت للبلوى بمن كان رائثا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 بروحي رشا من آل خاقان راحل ... وإن كان ما بين الجوانح لابثا غدا واحداً في الحسن للفضل ثانيا ... وللبدر الشمس المنيرة ثالثا وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت: أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخْز ... ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ وأملودُ ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا ... له أبداً في القلب عاشقه هزّ فتاة كساها الحسن أفخر حُلّة ... فصار عليها من محاسنها طرز وأهدى إليها الغصن لينَ قوامه ... فماس كأن الغصن خامره العز يضوع أديم الأرض من نَشر طيّها ... ويخضرّ من آثارها تُرْبُه الجرْز وتختال في بُرد الشباب إذا مشت ... فيُنهضها قدٌّ ويقعدها عجز أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرة ... فلا رُقية تُجدي المصاب ولا حرز وأنشدني إجازة في مليح أبرص، ومن خطه نقلت: وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ... ونفسك لاقت في هواه نزاعَها به وضحٌ تأباه نفس أولي النهى ... وأفظع داء ما ينافي طباعَها فقلت لهم لا عيب فيه يشينه ... ولا علّة فيه يروم دفاعَها ولكنها شمس الضحى حين قابلت ... محاسنه ألقت عليه شعاعها وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام: وعُلّقته مسوّد عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 كأن خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جنيّ من الورد وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت: سأل البدر هل تبدّى أخوه ... قلتُ يا بدر لن يُطيق طلوعا كيف يبدو وأنت يا بدر باد ... أوَ بدران يطلعان جميعا؟ وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني: عاذلي في الأهيف الآنسِ ... لو رآه كان قد عَذَرا رشأ قد زانه الحَوَر ... غصنٌ من فوقه قمر قمر من سحبه الشعر ... ثغر في فيه أم دُرَر جال بين الدرّ واللعسِ ... خمرةٌ من ذاقها سكرا رجّة بالردف أم كسل ... ريقة بالثغر أم عسل وردة بالخد أم خجل ... كُحل بالعين أم كَحَل يا لها من أعين نُعُسِ ... جلبت لناظري سهرا مُذ نأى عن مقلتي سني ... ما أُذيقا لذّة الوسن طال ما ألقاه من شجني ... عجباً ضدان في بدني بفؤادي جذوة القبس ... وبعيني الماء مُنفَجرا قد أتاني الله بالفرج ... إذ دنا مني أبو الفرج قمرٌ قد حلّ في المهج ... كيف لا يخشى من الوهج غيرُه لو صابهُ نفَسي ... ظنّه من حره شررا نصب العينين لي شركا ... فانثنى والقلب قد ملكا قمر أضحى له فلكا ... قال لي يوماً وقد ضحكا أنت جئت من أرض أندلسي ... نحو مصر تعشق القمرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 وأما موشّحة ابن التلمساني، فهي: قمر يجلو دجا الغلس ... بهر الأبصار مُذ ظهرا آمنٌ من شُبهة الكلف ... ذُبت في حبّيه بالكلف لم يزل يسعى الى تلفي ... بركاب الدلّ والصلف آه لولا أعين الحرس ... نِلْت منه الوصل مقتدرا يا أميراً جار مذ وليا ... كيف لا ترثي لمن بليا فبثغر منك قد جُليا ... قد حلا طعماً وقد حلِيا وبما أوتيتَ من كَيَس ... جُدْ فما أبقيت مُصطَبرا بدرُ تمّ في الجمال سني ... ولهذا لقّبوه سَني قد سباني لذة الوسن ... بمحيّا باهرٍ حسن هو خِشفي وهو مفترسي ... فاروِ عن أعجوبتي خبرا لك خدّ يا أبا الفرج ... زينَ بالتوريد والضّرج وحديثٌ عاطر الأرَج ... كم سبى قلباً بلا حرج لو رآك الغصن لم يمسِ ... أو رآك البدر لاستترا يا مُذيباً مهجتي كمَدا ... فُقت في الحُسن البدور مدى يا كحيلاً كحلة اعتمدا ... عجباً أن تُبرئ الرّمدا وبسقم الناظرين كُسي ... جفنك السّحار وانكسرا وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: إنْ كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحْفنورها الوهّاجيُغني عن المصباح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهرْ مزاجها شهدٌ ... وعَرفُها عنبر يا حبذا الوِردُ ... منها وإن أسْكر قلبي بها قد هاجْفما تراني صاحْعن ذلك المنهاجوعن هوى يا صاح وبي رشا أهيفْ ... قد لجّ في بُعدي بدر فلا يُخسَف ... منه سنا الخد بلحظه المرهَف ... يسطو على الأُسْد كسطوة الحجّاجفي الناس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفاح علّل بالمسك ... قلب رشاً أحور منعّم المسكِ ... ذو مبسم أعطر ريّاه كالمسك ... وريقه كوثرْ غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبّذا الآراجإن هبّت الأرواح مهلاً أبا القاسم ... على أبي حيان ما إن له عاصم ... من لحظك الفتّان وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان فدمعه أمواجوسرُه قد لاحلكنه ما عاجولا أطاع اللاح يا رُبّ ذي بُهتان ... يعذل في الراح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وفي هوى غزلان ... دافَعْتُ بالراح وقلت لا سلوان ... عن ذاك يا لاحي سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجاجقمصال وزوج أقداح وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية، التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها الى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها: هو العِلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده وهي قصيدة جيدة تزيد على المئة بيت. حُكي لي أن الشيخ أثير الدين - رحمه الله تعالى - نظمها وهو ضعيف، وتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين بن دانيال، فأنشدهم الشيخ - رحمه الله تعالى - القصيدة المذكورة، فلما فرغت، قال ابن دانيال: يا جماعة، أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه باس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله. وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - قصيدته السينية التي أولها: أهاجك ربع حائلُ الرسم دارسه ... كوحي كتاب أضعف الخط دارسه محمد بن يوسف بن عبد الله شمس الدين، الشاعر الماهر الخياط الدمشقي الحنفي. شاعر لا يُجارى، ومكثر لا يُبارى، قادر على صوغ القريض، وارتجال النظم الذي يشفى به المريض، طويل النفَس إذا نظم، مديد الباع إذا رقم، ذو قصائد قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 طوّلها، ومدائح سوّرها وهمُه وسوّلها، ولم يكن له غوص على المعاني البديعة، ولا احتفال بطريق المتأخرين التي هي عليه وعلى أمثاله منيعة. ومع ذلك فكان بين فكيه مقراض للأمراض، وكنانة نبل أنفذ من السهام في الأعراض، لا يكاد يسلم أحد من هجوه، ولا ينجو طاهر الذيل من نجوه. وكان هجوه أجودَ من مدحه، وأوقع في النفوس لكدّه فيه وكدحه، ولكنه ذاق وبال هذا وأوذي أكثر مما آذى، إلا أنه كان كثير التلاوة، يلازم الصلاة في الحضارة والبداوة، وحج غير مرة، وقرن البعرة بالدرة. وحججت أنا وهو في عام خمسة وخمسين وسبع مئة، ولما وصلنا الى مُعان مزّق الله من الخياط عمره، وأذهب شعره وشعره، وأتاه من نايات المنايا ما بطّل زمرَه، فدفنّاه على قارعة الطريق، وانكفّ ذاك اللسان الذي كأنه مبرد وما حمل التطريق، وجعلناه سراً مودعاً من البرية في صدر، ووضعنا الشمس في الأرض ليلة البدر، فلو كان الرفّاء موجوداً لرثى الخياط وأبّنه، ونقله بلبنه الطيب الى مقبره وجبّنه. وعلى كل حال فقد راح الى الله وأراح، وحمل كارة أهاجيه وهو كاره وقلّ من حمل كارة واستراح، والله يسامحه في يوم عَرضه، ويعطّف عليه قلب من أخذ من عِرضه، حتى إنه يسامحه ويحالله، ويصادفه فيصادقه ويخالله. وتوفي - رحمه الله تعالى - في معان، ليلة الرابع عشر من المحرم سنة ست وخمسين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وسألته عن مولده، فقال: في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين وست مئة بدمشق. كان في مبدأ حاله يتردد الى شمس الدين الصائغ، ويقرأ عليه، ويجتمع بالمجير الجوخي، ثم إنه تردد الى شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وكتب عنه كثيراً، وكان يثني عليه ويميل إليه. ونظم في سنة عشرين وسبع مئة قصيدة جيمية مديحاً في قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وأولها: أما ولواحظ الحدق السواج ... لقد أصبحت منها غير ناجي فقرّظها شهاب الدين محمود، وأثنى عليها، وكتب عليها فضلاء العصر، وانصقل نظمه وجاد، وشعره كثير يدخل في ست مجلدات. وسافر الى الديار المصرية، ومدح أعيانها، واتصل بالأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، وكان يبيت عنده. ومدح السلطان الملك الناصر بأبيات قرأها عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فرسم له براتب في كل يوم درهمين. وأنشدني من لفظه غالب شعره لما نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة قصيدته التائية الطنانة في الشيخ كمال الدين بن الزملكاني - رحمه الله تعالى - جعل غزلها المقدّم على المدح في وصف الخمر، وأولها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 قضى وما قُضيت منكم لُباناتُ ... متيّم عبثتْ فيه الصبابات نظم الشيخ شمس الدين محمد بن الخياط قصيدة أخرى في وزنها ورويّها، ومدح بها الشيخ كمال الدين أيضاً، وجاء منها في الآخر ما أنشدنيه من لفظه: ما شان مدحي لكم ذكرُ المُدام ولا ... أضحت جوامع لفظي وهي حانات ولا طرقت حِمى خمّارة سحرا ... ولا اكتست لي بكاس الراح راحات وإما أُسكر الجُلاس من أدب ... تدور منه على الأكياس كاسات عن منظر الروض يُغنيني القريضُ وعن ... رقص الزجاجات تُلهيني الجزازات عشوت منها الى نور الكمال ولم ... يدُر على خاطري دير ومشكاة وكان الشيخ جمال الدين بن نباتة إذا جاء الى دار السعادة، يقال له: إن ملك الأمراء في القصر، فيحتاج أن يروح الى القصر الأبلق ماشياً، وقال في ذلك: يا سائلي في وظيفتي عن ... كُنه حديثي وعن معاشي ما حال مَن لا يزال يطوي ... مسافة القصر وهو ماشي فقال شمس الدين جوابه، وأنشدنيه من لفظه: يا شاعراً يخطئ المعاني ... فيما يعاني من المعاش أنت شبيه الحمار عندي ... مركّب الجهل وهو ماش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 وقد كان كتب ابن نباتة صداقاً، فخُلع عليه، فلبسه ودار به في البلد، فقال شمس الدين الخياط في ذلك، وأنشدنيه من لفظه: ما خِلعة العقد على شاعرنا ... يوم الهنا شقاء وعَنا رأيته فيها وقد أرخى له ... ذؤابة تُبدي عليه الحزنا فقلت: مَن هذا الذي سواده ... سوّده بين الورى؟ قال: أنا نباتة كان أبي، فقلت: ما ... أنبته الله نباتاً حسنا وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً: ما خلعة ابن نباتة إلا كمن ... ألقى الرياض على الكنيف المنتن ومنها: واختصّ عمّته بفضل ذؤابة ... هي في القلوب قبيحة في الأعين فكأنها ذنب لكلب نابح ... تحت الدجا من فرط داءٍ مُزمن فالله يجعلها له كفن البِلى ... ويكون غاية كل سوء يقتني حتى يقول مسيّر في هجوه ... هذا لعَمر أبيك شرّ مكفّن ونظم ابن نباتة ما يُكتب على دواة فولاذ: معنى الفضائل والندى والباس لي ... والسيف مُشتهر بمعنى واحد بالنفس أضرب في نضار ذائب ... والناس تضرب في حديد بارد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 فقال شمس الدين الخياط، وأنشدنيه من لفظه: قل للذي وصف الدواة وحسنها ... ما جئتَ عن لفظي بمعنى زائد أسخنت عينك في نضار ذائب ... وذبحت نفسك بالحديد البارد وكان قد سلّطه الله عليه، كلما نظم شيئاً ناقضه فيه، فهما فرزدق وجرير عصرهما، ولولا خوف التطويل لأوردت كثيراً من ذلك. وأنشدني من لفظه له: قصدت مصراً من ربا جلّق ... بهمّة تجري بتجريب فلم أر الطرّة حتى جرت ... دموع عيني في المزيريب وأنشدني من لفظه له: خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يممت مصراً لعَنا طارق والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصرُ على العاشق وأنشدني من لفظه له: تركت لقوم طِلابَ الغِنى ... لحبّ الغناء ولهو الطرب وعندي من زَهرٍ فضة ... وعندي من خندريس ذهب قلت: أين هذا من قول النصير الحمامي: أصبحت من أغنى الورى ... مستبشراً بالفرح عندي خمرٌ ذهب ... أكتاله بالقدح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وقد ولّدت أنا من هذا معنى آخر، ونقلته الى أوراق الخريف، وقلت: لمَ لا أكون غنياً بالخريف ولم ... أحتج الى غيره في اللهو والطرب وكل دوحةِ بستان إذا عبثت ... بها الصَّبا نُثرت كوماً من الذهب ولكن قول النصير أكتاله بالقدح غاية في الحسن. وأنشدني شمس الدين الخياط له: يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل لو لم تكونوا لي سعوداً لما ... وافيتكم أضرب في الرمل وأنشدني من لفظه له: كم تُظهر الحسن البديع وتدّعي ... وبياضُ شكلكَ في النواظر مظلمُ هل تَصدُق الدعوى لمن في وجهه ... بالذقن كذّبه السواد الأعظمُ وأنشدني من لفظه له: حتّام شخصي بين هذا الورى ... حيّ وفضلي عندهم ميْتُ أبني بيوت الشعر في جِلّق ... وليس يُبنى لي بها بيت وأنشدني من لفظه وقد أعطاه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى جائزة: لم يُجزني القاضي على قدْر شعري ... بل حباني مضاعف الأبيات فلهذا أعدّها صدقات ... من عطاياه لا من الصدقات وأنشدني من لفظه له: ويلاه من ظبي له وجنةٌ ... شاماتها تلعب بالأنفس لو لم تكن في خده جنة ... لما اكتسى بالعارض السندسي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وأنشدني من لفظه له: يا كعبة الحُسن التي رُميتْ لها ... في كل قلب بالهوى جمراتُ قد تم ميقات الصدود وقصدنا ... لو تمّ منك لوصلنا ميقات وأنشدني من لفظه له: قد طال فكري في القريض الذي ... من نفعه لست على طائِلِ أمّرني زوراً فصرت امرأ ... صاحب ديوان بلا حاصلِ وأنشدني من لفظه له في الفلوس: يا ليت شعري أي خير يُرتجى ... للمعتفي من هذه الأزمان لو لم يكن عُدمُ الدراهم قد بدا ... ما كان صار الفلس بالميزان وأنشدني له في المشمش: حبّذا مشمش يروق لطرفي ... منه حُسنٌ حديثه مشهور قد بلاني بحبه وهو مثلي ... أصفر الجسم قلبه مكسور وأنشدني له أيضاً: يا أيها البحر الذي في وِرده ... رِيٌّ لقلب الحائم المتعطّش أشكو إليك هوان شعر لم يقم ... لي رُخصه بغلو سعر المشمش وأنشدني له أيضاً: يا مَن به ادرأ عن مهجتي ... من حادث الأيام ما أختشي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 قد أقبل الصيف وما في يدي ... من درهم للتوت والمشمش وأنشدني له أيضاً: لوزيُّ جلّق شيء ... يذوبُ قلبي عليه كالسلسبيل ولكن ... كيف السبيل إليه وأنشدني من لفظه له ما يكتب على باب: نحن إلفان ما افتقرنا لبُغض ... لا ولا في اجتماعنا ما يُريب نكتم السر بيننا في زمان ... كاتم السر في بنيه غريب وأنشدني من لفظه له أيضاً: مَن ذا الذي يُنكر فضلي وقد ... فزت من الحسن بمعنى غريب عندي لمن يخذله دهره ... نصر من الله وفتح قريب وكتب هو - رحمه الله تعالى - على كتابي جنان الجناس: سرّ الفصاحة في كتابك ظاهرٌ ... وله ضياء الحسن عنك بديع وكذا الثناء المحض في أثنائه ... بنوافج الذكر الجميل يضوع فلذاك يُحفظ في الصدور لفضله ... وسواه يُنسى ذكره ويضيع لله روض في جنان جناسه ... هو للقلوب وللعيون ربيع كم أثمرت أغصانه بفوائدٍ ... كم طاب فيها للفؤاد ولوع ما زال يمطره الجنان سحائباً ... يُضحي بها القرطاس وهو مَريع في طيّه نشر العلوم تأرجت ... أرجاؤه فتعطّر المجموع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 سِفرٌ عن الفضل المحقق سافرٌ ... وله على القمر المنير طلوع بيّنتَ فيه لنا الأصول فأينعت ... لجنى العقول من الأصول فروع وشرعتَ في حلّ الرموز وقد حلا ... للفهم في ذاك الشروع شروع لم يبق في علم المعاني ناطق ... إلا وبان به لديك خضوع فابن الأثير ولو تأثّل مجده ... وعصى لكان لِما بنيت يُطيع سيّرت أمثالاً لها حكم فما ... لنجومها مثل النجوم رجوع أعليت بُنيان البديع مشيّدا ... ما لم يشيّد للزمان بديع وأذبت لابن أبي الحديد جوانحا ... لم تُطفَ منها للحريق دموع وأدرت أفلاكاً على أمثاله ... أضحت تروق بحسنها وتروع وطعنت في ابن سنان عند خفاجة ... لغة فأودت بالصدور صدوع وأنرت ما لا نوّر المصباح في ... علم البيان وفي سناه لموع وتخلّف المعتز إذ زلّ ابنه ... وبدا بمنطقه لديك خشوع هذا كتاب قد كبتّ به العدى ... فجنابه عن حاسديه منيع أتعبت مَن يسري وراءك في النهى ... ومتى تساوى ظالع وضليع ورفعت قدر العلم حين وضعته ... فتشرّف الموضوع والمرفوع نثر حكته من الكواكب نثرةٌ ... فيها لصفحة أوجِهِ ترصيع ونظام شعر دونه الشعرى وإن ... أمست ومنزلها عليه رفيع شعر يروق طباقه وجناسه ... والسبر والتقسيم والتصريع يسمو حبيباً بالمكارم إن بدا ... ويرى الوليد لديه وهو رضيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 وهي أطول من هذا، وهذا القدر منها كاف. وله قصيدة أخرى نظمها على كتابي نصرة الثائر على المثل السائر. وكتبت أنا على قصائد نظمها في قاضي القضاة جلال الدين القزويني وأولاده بدر الدين وجمال الدين وتاج الدين وصدر الدين - رحمهم الله: وقفت على هذه القصائد التي تدبّجت، والمدائح التي طاب ثناؤها فتأرّجت، والقوافي التي ما لوت جيدها الى غير شاعرها ولا عرّجت. فألفيتها قيد النواظر، وتنزّهت منها في روضة أخملت الخمائل النواضر، وعلمت أنها تحفة القادم وزاد المسافر وحضرة المحاضر، لو عقل الناس تلعُّبها بالمعاني وفنونها، لعلّقوها على كعبة مجاميعهم فقد علّقت العرب دونها، قد أحكمها ناظمها رصفاً، ورقّت لفظاً، وراقت معنى وشاقت وصفاً. ومزّق بها هذا الخياط أقوال ذلك الرّفا، ونبت كل قضيب في روضها فشلّ من باعِ الشعر أكفّا: أكرم بها من قواف ... وبدرها وجمالِه وصدرها إن تبدّى ... في تاجه وجلاله ما للكادّ التّعب ظفر بممنوحها، ولا للشكر مندوحة عن ممدوحها، وما أظنه إلا أُدخل الجنة بسلام، ولقي جلاله وكرمه وجه ذي الجلال والإكرام، فالله يمتّع الوجود برقيّ بدره درج منبره، ويشنّف الأسماع بما يتحفها لفظه من جوهر، ويجعل الفتاوى متفيأة ظل قلمه، ويديم عليه مواد نعمه، إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 محمد بن يونس بن فتيان الفاضل أبو زرعة الكناني المقدسي الشافعي. كان شاباً فهماً ذكياً، حفظ كتباً وتفنن، وقدم الى دمشق سنة أربعين وسبع مئة. وسمع من أبي العباس الجزري والمزي والذهبي، ونسخ ومهر. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون. ومولده في حدود سنة خمس وعشرين وسبع مئة. محمود بن أحمد ابن محمد بن نصر بن أبي الرضا، الشيخ العدل نور الدين أبو القاسم البعلبكي المعروف بابن رضي. كان إمام المدرسة النورية ظاهر بعلبك، وكاتب الحكم. كتب لجماعة من القضاة أكثر من خمسين سنة. وتردد الى دمشق مرات في شهادات. توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة ببعلبك. محمود بن أوحد بن الخطير شرف الدين أخو الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في مكانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 طلبه السلطان الملك الناصر محمد الى مصر بعد مقام أخيه الأمير بدر الدين مدة بالقاهرة، في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأعطاه طبلخاناه، وولاه الحجوبية بمصر تحت يد أخيه، ولما قُبض على تنكز - رحمه الله تعالى - وجهز أخاه الأمير بدر الدين مسعود نائباً الى غزة، جهز الأمير شرف الدين الى دمشق حاجباً صغيراً، فأقام بدمشق على الحجبة الى أن رُسم لأخيه الأمير بدر الدين مسعود بالحضور الى دمشق، فرسم للأمير شرف الدين بأن يتوجه الى صفد، فتوجّه إليها، كل ذلك في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ولما مات السلطان وجرى ما جرى، وولي النيابة بمصر الأمير سيف الدين قوصون، طلب الأمير بدر الدين مسعود الى مصر، وطلب أخاه أيضاً، فتوجّها إليه، وعملا الحجوبية بمصر ثانياً. ثم إن الأمير بدر الدين خرج بعد قوصون الى الشام، وأقام الأمير شرف الدين محمود على الحجبة بمصر الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. ومات له ابنان وبنت وجماعة من أولاد أولاده وأولاد مماليكه في الطاعون. وكان قد ولي شد الأوقاف بدمشق أيام تنكز في سابع صفر سنة ثلاثين وسبع مئة عوضاً عن نجم الدين بن الزيبق، ولما توجه الى مصر في التاريخ المتقدم، تولى شد الأوقاف عوضه ناصر الدين محمد بن بكتاش. محمود بن أبي بكر بن أبي العلاء المحدّث الفرضي شمس الدين أبو العلاء البخاري الكلاباذي الحنفي الصوفي. تفقه ببخارى، وسمع بها، وقدم العراق، وسمع من محمد بن أبي الدنية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 ومحمد بن عمر المريح، وابن بلدجي، وابن الدّباب وطائفة. وبالموصل من الموفق الكَواشي وجماعة. وبماردين ودُنيسر، وقدم دمشق، وسمع بها، ورحل الى مصر، وأكثر بها، وكتب الكثير بخطه المليح الحلو، وصنّف في الفرائض تصانيف، وكان فيها بارعاً، له أصحاب يشغلون عليه فيها. وكان ديّناً نزِهاً ورِعاً متحريّاً، سوّد معجماً لنفسه، وكان لا يمس الأجزاء إلا على وضوء وطهور. وروى له الدمياطي، وسمع منه أشياخنا: المزي، وأبو حيان، وابن سيد الناس، والبرزالي، وقطب الدين. وسمع منه المقاتلي، والمجد الصيرفي. وتوفي - رحمه الله تعالى - بماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة. ومولده سنة أربع وأربعين. محمود بن أبي بكر بن حامد ابن أبي بكر بن محمد بن يحيى بن الحسين، الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث اللغوي، صفيّ الدين أبو الثناء الأرموي الصوفي. كان من أعيان طلبة الحديث، اشتغل وحصّل، وكتب الكثير ونسخ من الأجزاء والكتب الحديثية جملة. وسمع بالقاهرة جزء ابن عرفة على النجيب عبد اللطيف، وسمع بدمشق من عبد العزيز بن عبد الحارثي وجماعة من أصحاب ابن طبرزد والكندي. وقرأ مسند الإمام أحمد ببعلبك على ابن علان، وسافر الى القاهرة والإسكندرية، وسمع منه شيوخهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 وكان يحفظ التنبيه، ورجع الى دمشق. وكان يطالع كتب اللغة، وجمع الصحاح والأزهري والمحكم وذيّل على النهاية، وكان يقرأ الحديث فصيحاً بسرعة، ثم إنه تغيّر ذهنه، وحصل له مرض بالسوداء، وكان يحاضر في بعض الأوقات، ويتكلم كلاماً حسناً، وفي بعض الأوقات يشتم من يخاطبه. وسافر الى الحجاز وحلب والقدس، وهو بهذا المرض. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير. ومولده بالقرافة سنة سبع وأربعين وست مئة. وسمع منه شيخنا الذهبي جزء ابن عرفة وغيره. وهو أخوه الشيخ المعمر شهاب الدين محمد القرافي - رحمهما الله تعالى. محمود بن رمضان شرف الدين بن والي الليل. قال كمال الدين الأدفوي: رأيته والياً بأدفو ثم أسنا. وله نظم، ومدحني بقصيدة. وتوفي بمصر - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومن شعره: هجرتموني بلا ذنب ولا سبب ... وحبكم منتهى الآمال والطلب ورمت بالقرب منكم راحةً فغدا ... قلبي يبعدكم في غاية التعب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 ومذ أطعت هواكم ما عصيت لكم ... أمراً ولا ملت في حبي عن الأدب فما لطرفي لا يغشاه طيفكم ... بُخلاً عليّ وأنتم أكرم العرب محمود بن طي الشيخ جمال الدين العجلوني المعروف بالحافي. كان إنساناً حسناً فقير الحال ذا عيال، أقام بصفد مدة، وكان يعرف بعض عربية، وينظم شعراً لا بأس به، وصحب عفيف الدين التلمساني زماناً، وأخذ عنه ذلك المذهب. وكان مع فقره وتصوفه حادّ الأخلاق. أنشدني كثيراً من شعره وكثيراً ما رواه لي عن عفيف الدين التلمساني، وكان لعله يحظ أكثر ديوان العفيف. وبحثت معه غير مرة. وكنت أردّ مقالته، وشعّب ذهن جماعة بصفد، وأعان الله على إنقاذهم، وكان يرتزق بشهادة القسم في خاص السلطان. وتوفي - رحمه الله تعالى - بصفد في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب السبعين سنة. وكتبت أنا إليه مرة، وقد توجه الى قرية تُسمي عَلْما من قرى صفد، ومعه شخص يعزّ علي: ألا هل تُرى نازلين ُبا عَلْما ... أحطتم بما يلقى مشوقكم عِلما فلو شاء حملي الريح نحو خيامكم ... أتاكم بصبّ قد براه الهوى سقما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 وما ضرّكم رعي العهود التي مضت ... فكم قد رعى طرفي لبعدكم نجما شُغلت بكم عن غيركم لا عدمتكم ... فطرفٌ يرى إلا محاسنكم أعمى وعلّمني دمعي وجوهر ثغركم ... إذا غبتم عن مقلتي النثر والنظما ولا عجب أن جاء صبري مُحاقُه ... وحسنكم قد أخجل القمر التمّا منعتم جفوني لذة الغمض في الدجا ... فما ذاق طرفي بعدكم للكرى طعما فكيف قضيتم بعدكم إن أدمعي ... لعيني غسل وهي لم تبلغ الحلما أظنكم طهّرتم بمدامعي ... عيوني لما أن رأت غيركم قِدما ولما شكت عيني إليكم سُهادها ... حكمتم عليها أن تدوم وأن تدمى ومَن كنتم أحبابه يا سروره ... ويا سعده إن صح لك أو تمّا ويا فوز قلب أصبحت خطراته ... الى حبكم تسمو، وصب لكم يسمى وإن كان عذّالي عموا عن جمالكم ... فلي أُذن عن كل ما نقلوا صمّا فكتب هو الجواب إليّ عن ذلك، ولكني لم أجده عند تعليقي هذه الترجمة. وأنشدني من لفظه لنفسه تخميس قصيدة جيمية للعفيف التلمساني: بالناظر الفاتر الوسنان ذي الدعج وما بخدّ الذي تهوى من الضّرج قم يا نديمُ فما في الوقت من حرج انظر الى حسن زهر الروضة البهج ... واسمع ترنّم هذا الطائر الهزج لي الهنا قد وفت سعدي بما وعدت ودارها قربت من بعدما بعدت فانظر تشاهد أنوار الجمال بدت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 تُجلى الرياض وقينات الحمام شدت ... والزهر يحرق عرف المندل الأرج نُسَيمة القرب من ذاك الجمال سرت فكم فؤاد بها سرّت وكم أسرت وخاطر بلبلته عندما خطرت فعاطِني يا رشيقَ القد ما اعتصرت ... يد الملاحة لي من طرفك الغنج عزت فعزّ علينا نيل مطلبها لما تسامت علوّاً في تمرتبها وفي لحاظك معنى عن تطلبها فما المدامة في سلب العقول بها ... بالسُكر أسلبُ من عينيك للمُهج صهباء تذهب بالتبريح والترح وتُبدِل الهمّ والأوهام بالفرح يا طيب في ساحتي حاناتها مرحي وإن تُرد مزجها لا تمزجن قدحي ... دعه برقة وجدي فيك يمتزج يا ويح روحي تمادت في مآربها واستعذبت ما تلاقي من مُعذّبها مسلوبة قد براها عشقُ سالبها مرّت ليالي صدود لو جمعت بها ... دمعي جرت سفنٌ منه على لجج أشفقت من فيض آماقي على غرقي ولم يخلّ الضنى مني سوى رمقي وبُدِّل النومُ بالتسهيد والأرق كم قد فتحت لضيف الطيف من حُرَق ... باب المنى فانثنى عنه ولم يلج عليك مُذ كنتَ لي ما زلت معتمدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 لما أجلّك بالتعظيم معتقدا ولم أحل عن عهود بيننا أبدا وكم بذلت جميعي مجتهداً ... وصنت سرّك في قلب عليك شج أضحى وجودي منسوباً الى العدم وسرُ وجودي بسقمي غير مكتتم كم قد تبرّمت من شوقي ومن ألمي وشمت برقاً على الجرعاء من إضم ... قلبي عليك وطرفي غير مختلج لي البشارة أحلامي بكم صدقت وبالرضا أحسن الأحوال قد نطقت وكان ما صار بالحسنى التي سبقت وهذه ليلة من لؤلؤ خُلقت ... حسناً وإن ظهرت في صبغة السبج أكرم بها ليلةً عظّمت حرمتها ودمت أشكر مهما عشت نعمتها ولم أخف من صروف الدهر نقمتها جلت ثناياك ذات الظلم ظلمتها ... ولم يكلها لضوء الشمع والسّرج لما تجنّبت عن علمي وعن عملي شوقاً لرؤياك يا سولي ويا أملي أفنى فِناك فنائي وانقضى أجلي فصار ثبتك في محوي يحقق لي ... إيجاب سلبي من ستر ومن بهج ومذ تجلّيت في كل المظاهر لي ولاح معناك لي في السهل والجبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 حققت رؤياك كشفاً بالعيان جُلي فلم أقل للصّبا من بعدها احتملي ... للحيّ شخصي ولا لي في الخيام لُجي محمود بن سلمان بن فهد الشيخ الإمام العالم العلامة الأديب الكامل البارع الناظم الناثر القاضي الرئيس الجليل شهاب الدين أبو الثناء الحلبي الدمشقي الحنبلي، صاحب ديوان الإنشاء بدمشق. سمع من الرضيّ بن البرهان، ويحيى بن عبد الرحمن بن الحنبلي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن هامل المحدّث، وغيرهم. وكان يذكر أن له إجازة من يوسف بن خليل، وتفقه على ابن المنجا وغيره. وقرأ العربية على ابن مالك، وتأدّب بالشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي الحنفي، وسلك طريقه في النظم وحذا حذوه وأربى عليه، وإن كان قد تلا تلوه، لأنه كان إذا نظم أخذ الكلمات حروفاً، فإذا ركّبها صارت في الآذان شنوفاً، يرشف السمعُ منه مدامه، ويتعلم التغريدَ منها الحمامة، ويُسطرها فيرى الناس بدرها وقد استفاد تمامه، وزهرَها وقد شق الربيع كمامَه، وروضها وقد جادته الغمامه. وإذا نثر فضح الدر في السلوك، ورصّعه في تيجان الملوك، فكم من تقليد هو في يد صاحبه للسعد إقليد، وكم منشور فيه توليد، وهو بوجنة السيادة توريد، وكم من توقيع هو قنديل يضيء لمن حواه أو هو في كأس مسرّته قنديد. وخطه من أين للوشي رقمه أو للعِقْد نظمه أو للروض زهره أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 لطرف الحبيب سِحره، أو للنجوم طرائقه، أو لخطوط إقليدس دقائقه، أو للفكر الصحيح حقائقه، قد نمّق أوضاعه المتأنّقة، ونسخ محاسن من تقدّمه بحروفه المحقّقة: ينمنِمُ الخطّ لا يجتاب أحرُفَه ... والوشي مهما حكاها منه يجتابُ لو لم يكن مستقيماً بعدما سجدت ... فيه المعاني لقلت السطرُ محرابُ أملى تصانيف في أكمامها ثمرٌ ... تجنيه بالفهمِ دون الكف ألبابُ وكان - رحمه الله تعالى - ممن أتقن الفنين نظماً ونثرا. وبرع في الحالين بديهة وفكرا. وكان هو يزعم أن نثره أحسنُ من نظمه، وأن بدره فيه أكمل منه في تمّه. والذي أراه أنا، وأبرأ فيه من العناية والعنا، أن نظمه أعذب في الأسماع، وأقرب الى انعقاد الإجماع، لأنه انسجم تركيباً وازدحم تهذيباً، فسحر الألباب، ودخل بالعجب من كل باب، وإن كان نثره قد جوّده، وأجراه على قواعد البلاغة وعوّده، فإن شعره أرفع من ذلك طبقة، وأبعدُ شأواً على من رام أن يلحقَهْ، وهو يحذو فيه حذو سبط التعاويذي. وقصائده مطوّلة فائقة، ليس يرتفع فيها ولا ينحطّ، بل هي أنموذج واحد ليس فيها ما يُرمى. ولم يكن بغوّاص على المعاني ولا يقصد التورية، فإنها جاءت في كلامه قليلة، ومقاطيعه قليلة، ولكن قصائده طويلة طائلة هائلة، لعلها تجيء في ثلاثة مجلدات أو أربعة، ولم يجمعها أحد، وهي كما قال ابن الساعاتي: ناطقاتٌ بكل معنىً يضاهي ... نُكَتَ السّحر في عيون الملاح من نسيب يهزّ عاطفة المج ... د ومدح يلين قلب السماح وأما نثره فيجيء في ثلاثين مجلدة. وكان أخيراً بالديار المصرية، يُنشئ هو ويكتب ولده القاضي جمال الدين إبراهيم، فيجيء المنشور أو التوقيع فائقاً في خطه ولفظه. وعلى الجملة فلم أر مَن يصدق عليه اسم الكاتب غيره، لأنه كان ناظماً ناثراً، عارفاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة خطوط الكتّاب، وله الروايات العالية بأمها كتب الأدب وغيره، ورأى الأشياخ وأخذ عنهم. وعُيّن في وقت بالديار المصرية لقضاء الحنابلة. وهو - رحمه الله تعالى - أحد الكلمة الذين عاصرتهم وأخذت عنهم. وكان يكتب الإنشاء أولاً بدمشق، ثم إن الصاحب شمس الدين بن السلعوس نقله الى الديار المصرية لما توفي القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وتقدم ببلاغته وكتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه. وأقام بالديار المصرية الى أن توفي القاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق، فجُهز مكانه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، فأقام بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة بدار الفاضل بدمشق داخل باب الناطفانيين، وصُلي عليه ضحى يوم السبت بالجامع الأموي، وصلى عليه نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز والأعيان برّا باب النصر، ودفن التي عمّرها لنفسه بالقرب من مسجد ابن يغمور، وصُلي عليه بمكة والمدينة. ومولده في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة. وكان محباً لأهل الخير والصالحين، مواظباً على النوافل والتلاوة والأدعية، يستحضر ذلك، ويذكر الموت دائماً، وعنده خوف من الله - تعالى - وعليه سكينة كبيرة ووقار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 ولما مات رحمه الله تعالى كنت بالديار المصرية فقلتُ أرثيه، ولم أكتب بها الى أحد: ما حُزن قلبي في البلوى بمحدودِ ... ولا فؤادي في السّلوى بمعدودِ فلا تذمَّ امرأ يبكي الدماء على ... أبي الثناء شهاب الدين محمود يا ساري الليل يبغي الفضلَ مجتهداً ... ارجع وحُطَّ عن المهريّة القُود مات الإمام الذي كنا نؤمّ له ... فيما نؤمّله من غير تفنيد وأقفرت ساحةُ الآداب واندرستْ ... معالم العلم منه بعد تشييد أما ترى كيف كتّاب الأنام غدت ... أوراقُهم وهي فيه ذات تسويد هو الإمام الذي لما سما كرماً ... ألقت إليه المعاني بالأقاليد طوفان علم جرَت فيه السّفينة من ... آدابه واستوت منه على الجودي فليس باغي معاليه بذي ظَفَرٍ ... وليس راجي أياديه بمردود كأن أقلامه في الكفّ بانُ نَقىً ... حمائم السّجع منها ذات تغريد فيرجع الطّرس من نقش عليه بدا ... كأنّه نقش كفّ الكاعب الرود كم قلّد الدهر عقداً من قصائده ... بدُرّ لفظٍ بديع الرّصفِ منضود وكم حبا الملكَ تيجان البلاغة من ... تلك التواقيع أو تلك التقاليد وكم أفاد المعاني من بلاغته ... ما زانها باختراعاتٍ وتوليد فصال إذ صان سرّ الملك منفرداً ... على الأعادي بكيدٍ غير مكدود فلا قوامُ القَنا يهتزّ من مرح ... ولا خُدود المواضي ذات توريد وليس يُسمَع للأبطال همهمةٌ ... رعودها خار منها كل رِعديد تدبير مَن حلبَ الأيام أشطرها ... مهذّب الرأي في عزم وتسديد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 أراه إن قام ذو فضلٍ بمنصبه ... قال البيانُ له قُم غير مَطرود أمّا ترسُّلُه السهل البديع فقد ... أقام في شاهقٍ بالنّجم معقود أنسى الأنام به عبد الرحيم كما ... راح العماد بقلبٍ غير معمود تراهُ إن أعمل الأيام مُرتَجلاً ... قال البيانُ لها يا سُحبَنا جودي يُملي ويكتبُ من رأس اليراع بلا ... فِكرٍ فيأتي بسحرٍ غير معهود إذا سمعنا قوافيه وقد نجزَت ... تقول من طرَبٍ ألبابنا عيدي شاعَت فضائلُهُ في الناس واشتهرت ... وبات يُنشدها الرُكبانُ في البيد يا مَن رجعتُ به في الناس معرفةً ... من بعد ما زال تنكيري وتنكيدي ساعدت فيكَ حمامُ الأيكِ نائحةً ... فقصّرت فيك عن تَعداد تَعديدي لهفي عليك وهل يُجدي التلهّف أو ... يفكّ أسرَ فؤادٍ فيك مصفود وحُرقَتي فيك لا يُطفي تلهّبها ... دمعي ولو سال في خدّي بأخدود فلا جفَت قبركَ الأنواءُ وانسجمت ... عليه يا خير ذي صمتٍ وقد نودي وكنتُ قد قرأت عليه المقامات الحريرية وانتهيت منها الى آخر المقامة الخامسة والعشرين في سنة ثلاثة وعشرين وسبع مئة، فكتب هو عليها: قرأ عليّ المولى الصدر فلان الدّين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أوّل كتاب المقامات الى آخر الخامسة والعشرين قراءة تُطرب السامع وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامض تدلّ على ذكاء خاطره المتّقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتفي وينتقد. ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الظهير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 الإبلي، وساق سنده الى الحريري ثم إنه كتب لي على آخرها وقد كمّلت قراءتها عليه بدمشق في ثاني عشر شهر الله المحرّم سنة أربع وعشرين وسبع مئة: قرأ عليّ المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المُتقِن المُجيد نظماً ونثراً المحسن في كل ما يأتي به من الأنواع الأدبية بديهة وفكراً. فلانُ الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب المقامات الحريرية قراءة دلّت على تمكنه من علم البيان واقتداره على إبراز عقائل المعاني المستكنّة في خدور الخواطر مجلوّة لعيان الأعيان. وإنه استشفّ أشعة مقاصدها بفكره المتّقد، وفرّق بين قيم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكاناً إلا وأحسن الكلام في حقيقته ومجازه، ولا تعدّى بياناً إلا وأجمل المقال في تردد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه، ورويته له عن فلان، وذكر السند على العادة. وكتب هو لي أيضاً على كتاب الحماسة: قرأ عليّ الصدر فلان الدين قراءة مطّلع من البلاغة على كنوزها، مميّز في الصناعة بين لُجين بديعها وإبريزها: باحثٍ عن إبراز مقاصدهم التي لا توجد في كلام مَن بعدهم، عالم بقيم فرائدهم التي إذا ساواها بغيرها نُقّاد الأدباء بسرح الامتحان والسبك نقدهم. ثم ذكر سنده فيها، على العادة. وكتب هو أيضاً على كتابه أهنا المنائح في أسنى المدائح مما نظمه هو في مديح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 قرأ عليّ المولى فلان الدين أيّده الله تعالى هذا الكتاب والزيادات الملحقة في آخره من نظمي أيضاً قراءةً دلّت على وفور علمه، وثبْت رويّته في استنباط المعاني وقوة إدراكه وسرعة فهمه، وشهدتْ بتمكّنه في هذه الصناعة، وأنبأتُ عما يُجريه فكره من مواد البراعة على لسان اليراعة، وأذنتُ له أن يرويها عني، وغيرها مما قرأه عليّ وما لم يقرأه من نظمي ونثري ومسموعاتي وإجازاتي. وكتبتُ أنا في آخر كتابه حسن التوسل الى صناعة التّرسّل بعدما قرأته عليه في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة: قرأت هذا الكتاب على مصنّفه الشيخ الإمام: العالمُ العلامة الحبر الذي ... بهرت عجائبه بني الآداب ودنت لديه المشكلاتُ وطالما ... جمحت أوابدُها على الطُلاب من كل قافيةٍ تهزّ معاطف ال ... أيّام من سُكر بغير شراب ورسالةٍ غلبت عُقول أولي النُهى ... وتلعّبت بالسحر للألباب الألمعي أخي الفواضل والنّدى ... الكامل الأدوات والأسباب المفوّه، المدبّر، المشير، السفير، يمين المُلك، يمين الملوك والسلاطين، شهاب الدين أبي الثناء محمود صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس: لا برِحَت أبكارُ أفكاره ... تُجلى لنا في حبر الحِبر وروضة الآداب مفترّة ... من لفظه عن يانع الزهّر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 ابن المولى الوليّ الصالح السعيد زين الدين سلمان بن فهد رحمهما الله تعالى في مجالس آخرُها التاريخ المذكور، وقد رأى أن ينظمني في سلك خدَمه ويُفيض عليّ كما أفاض عليهم ملابس نعمه، ويحشُرني في زمرة الآخذين عنه ويُقبسني أنوارَ كماله في التهذيب الذي لم تطمح النفسُ الأبية أن تقبسها إلا منه. وكتبتُ أنا على أول هذا الكتاب: إذا كُنتَ بالإنشاء حلْف صبابةٍ ... فقُم واتخذ حُسن التوسل واسطَهْ به ختم الآدابَ مُنشيه للورى ... ولكن غدا في ذلك العقد واسطه إمامٌ له في العِلم والجسم بسطةٌ ... وكفٌ غدت في ساحة الفضل باسطَهْ فطوبى لمن أضحى نزيلَ مقرّه ... وقابلَه يوماً وقبّل باسطَهْ فلما وقف هو عليها كتب إليّ رحمه الله تعالى: أذا الدّرّ أم ذا الزّهر لو كان حاضراً ... محاسنه حسّانُ أصبح لاقطَهْ وذا البدر حيثُ البدر في كبدِ السّما ... على حبّه أطيار عقلي ساقطَه تفضّلت غرسَ الدّين لما تقبّلت ... علومُك أعمالاً من النقص حابطَه وشيّدت إذ قيّدتَ فينا ضوابطاً ... قواعدُها لولا وجودُك هابطَه وقرأت عليه بعض ديوان أبي الطّيب. وقرأت عليه ألفية ابن مالك ورواها لي عن المصنّف. ولما قرأت عليه قوله في كتاب حُسن التّوسل: فلم أرَ مثلَ نشرِ الروض لما ... تلاقينا وبنت العامريّ جرى دمعي وأومضَ برق فيها ... فقال الروضُ في ذا العام ريّي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 أخذتُ في الزهزهة لما في هذين البيتين من الجناس المركب، وبالغتُ في الثناء عليهما فقال لي: خُذ نفسك بنظم شيء في هذه المادة، فامتنعتُ فقال: لابد من ذلك، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي في هذه المادة: بقول الشافعيّ اعْمَل تُحقّقْ ... مُناك فما ترى كالشّافعيّ فكم في صحبه من بحر علمٍ ... ومن حَبْرٍ ومن كشّاف عِيّ فقال: حسن، وعجّب بهما الحاضرين. ثم قال: إلا أن قافيتي أنا رائيّة، فغبتُ عنه يومي وأتيته في غد، وأنشدته لنفسي: أرى في الجَودريّة ظَبي أُنس ... فيا شَغفي به من جو دريّ لبارق فيه سحّتْ سُحبُ دمعي ... فقال الروضُ إنّ الجودَ ريّ وأنشدته لنفسي أيضاً: أقول لمُقلتي لما رَمَت في ... فؤادي حسرةً من عنبريّ سلمتِ وبات قلبي في عذابٍ ... ألم يخشى فؤادك عن بريّ فقال: حسنٌ لسنٌ، وزاد في الإعجاب بذلك، ثم قال: إلا أن قافيتي أنا مؤسّسة، يعني أن فيها الألف، فأتيته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي أيضاً: مليكٌ كم سحاب سحّ لي من ... نداهُ الهامعيّ الهامريّ وقال السّيف في يُمناهُ لما ... رأى الأعداء: من ذا الهام ريّي فقال: أجدتَ، ولكن أنا بيتاي في غزل، وهذان في مديح، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 مليحٌ جاء بعد الحجّ يُذكي ... غَرامي بالنّسيم الحاجريّ تلظّت منهُ أشواقي بقلبي ... وقالت: عند هذا الحاج رييّ فزاد في تقريظهما والثناء عليهما، فقلت: يا سيدي، والله ما يلحقك أحد في بيتك، ولو كان المطوّعي أو البُستي. قال: ولمَ ذاك؟ قلت: لأنك شاعرٌ مجيدٌ فحلٌ وقعتَ على المعنى بكراً فلم تدع فضلة لغيرك ليأتي به في تراكيبك العذبة الفصيحة ومعناه الحسن البليغ، فبالغ في الجبر والصدقة. وأنشدني من لفظه لنفسه: قُل لي عن الحمّام كيف دخلتها ... يا مالكي لتسُرَّ خِلاً مُشفقا أدخلتَها وأولئك الأقوام قد ... شدّوا المآزِر فوق كثبانِ النّقا فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي مضمّناً في اليوم الثاني: مليحٌ أتى الحمّام كالبدر في الدُجا ... ومبسمُه يُزري بزهرِ الكواكب وأردافُهُ من تحت مئزره حكَت ... بياض العطايا في سَواد المطالبِ فأعجبه هذا التضمين كثيراً، وأنشدني يوماً له: إذا كان من أهواهُ روحي وراحتي ... ولُقياهُ أرجى من حياتي وأرجحُ وأظمأني منهُ الزّمانُ بفقدِه ... فلا شكّ أن الموت أروى وأروحُ فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي في اليوم الثاني: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 لئن كان ما بي عنك في الحبّ خافياً ... فلا شكّ أن الله أعلى وأعلم وإن كنتَ في إنسانِ عيني ممثَّلاً ... ففي خاطري ذكراكَ أغرى وأغرم وإن كنتَ أذكيتَ الجوى بمدامعي ... فنارُ الهوى في القلب أضرى وأضرَم وإن كنت تختارُ المنى في منيّتي ... فوالله إنّ الموت أسلى وأسلَم فقال: نفَسٌ جيد دالّ على التمكّن والقدرة، ولكن اجتهدْ إذا عارضت أحداً أن يكون قولك في وزنه ورويّه، فأنشدته في اليوم الثاني: لئن طلبتُ نفسي السّلوَّ عن الذي ... تلفْتُ به فالصّبرُ أنجى وأنجَحُ فقُل للحَيا الهتانِ أمسِك ولا تَرُم ... مُساجلَتي فالدّمع أسمى وأسمحُ فقال رحمه الله تعالى: أجدتَ بارك الله فيك. وأنشدني يوماً لنفسه قوله: غريبٌ سبَوا نَومي ولم تدرِ مُقلتي ... كما سلبوا قلبي ولم تشعُر الأعضا وطلّقت نومي والجفونُ حواملٌ ... فمن أجلِ ذا في الخدّ أبقَت لها فرضا فغبتُ عنه وأنشدني في اليوم الثاني: سننتَ السُهادَ بمنعِ الكَرى ... فأظهرتَ في حالة بِدعتَيْن وصيّرتَ تكرارَ دمعي على ... خُدودي من فوقها فرضُ عيْن فأعجباه كثيراً. وأنشدني قوله أيضاً مما كتب به الى الملك المظفّر صاحب حماة: أمّلتُ أنك لا تزالُ بكلِّ مَنْ ... ناواكَ من كلِّ الأنام مُظفّرا ورجَوتُ أن تطأ الكواكب رِفعةً ... من فوق أعناقِ الورى وكذا جرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 فغبتُ عنه وأنشدته في اليوم الثاني: أمّلت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيتُ من هجرانكم ما لا يُرى وعلِمتُ أن بعادكُم لا بدّ أن ... يَجري له دمعي دماً وكذا جرى فأعجباه كثيراً وزهزهَ لهما. وأنشدني من لفظه لنفسه يعارض ابن الخِيَمي: قضى، وهذا الذي في حبّهم يجبُ ... في ذمّة الوجد تلكَ الروح تحتسِبُ ما كان يوم رحيل الحيّ عن إضَمٍ ... لروحِهِ في بقاءٍ بعدَهُم أرَبُ صبٌّ بكى أسفاً والشّملُ مجتمِعٌ ... كأنه كان للتفريقِ يرتقبُ نأوْا فذابت عليهم روحُه أسفاً ... ما كان إلا النوى في حتفه سببُ طوبى لمن لم يبدَّلْ دينَ حبِّهم ... بل ماتَ وهو الى الإخلاص منتسبُ لو لم يمُت فيهم ما عاشَ عندَهم ... حياتُه من وفاةِ الحب تكتسبُ بانوا وفي الحيّ ميتٌ ناح بعدَهم ... وُرْقُ الحمام وسحّت دمعَها السُّحُبُ وشقّ غصنُ النّقا من أجله حَزَنا ... جيوبَه وأديرت حوله العُذبُ وشاهدَ الغيثُ أنفاساً يصعّدها ... فعاد والبرقُ في أحشائه لهبُ لو أنصفوا وقفوا حِفظاً لمهجتِه ... إن الوقوفَ على قَتلى الهوى قُرَبُ يا بارقَ الثّغر لو لاحَت ثغورُهُم ... وشِمْت بارقها ما فاتكَ الشّنبُ ويا قضيبَ النقا لو لم تجد خبراً ... عند الصَّبا منهم ما هزّك الطّربُ ويا حيا جادَهم إن لم تكُن كلِفاً ... ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 بالله يا نَسمات الرّيحِ أين همُ ... وهل نأوْا أو دموعي دونَهم حُجُبُ بالله لمّا استقلوا عن ديارهم ... أحنّت الدار من شوقٍ أم النجبُ وهل وجدتَ فؤادي في رحالِهم ... فإنه عندَهُم من بعضِ ما سلبوا نأوا غِضاباً وقلبي في إسارِهم ... يا لَيتَهُم غصَبوا روحي ولا غَضِبوا عساك أن تعطفي نحوي معاطفَهم ... فالغصنُ بالريح ينأى ثم يقتربُ وإن رجعتِ إليهم فاذكُري لهُم ... أني شرّقت بدمعِ العين مُذ غرَبوا ثم اذكُري سفحَ دمعي في معاهدِهم ... لا يُذكَر السَّفْح إلا حن مغترب قلت: فأعجبتني هذه القصيدة وهزّت أعطافي طرباً، لما هزأت بالروض وقد مرّت به نسمة الصبا وفارقته. وتوفي رحمه الله تعالى فأنشدتها يوماً بالقاهرة لبعض الأصحاب الأفاضل فألزمني بنظم شيء في هذه المادة، فاستعفيت، فلم يسعف بالإعفاء، فقلتُ مع اعترافي بأنه شهاب في أوجه، وأنا في حضيض من الحظ: يا حيرةً مُذ نأوا قلبي بهم يجبُ ... ولو قضى ما قضى بعضَ الذي يجبُ سرتُم وقلبي أسيرٌ في حُمولكُم ... فكيف يرجعُ مُضناكُم وينقلبُ وأيُّ عيشٍ له يصفو ببعدكُم ... فالجسمُ منسبِكٌ والدّمع منسكبُ ناحَت عليّ حَمامات اللّوى وونَت ... ولو رثَتْني ما في فِعلها عجَبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 تملي عليّ حمامات اللّوى ورثت ... ولو رثتني ما في فعلها عجب والغَيثُ لما رأى ما قد مُنيتُ به ... فكلّه مُقَلٌ بالدمع تنسكبُ بالله يا صاح روّحْني بذكرِهم ... وزِدْ عسى أن يخفّ الوجدُ والوصَبُ ويا رسولي إليهم صِفْ لهم أرَقي ... وأنّ طرْفي لضيفِ الطّيفِ يرتقبُ واسْأل مواهبهُم للعين بعضَ كرى ... عساي أن يهبوا لي بعض ما نهبوا ولطّفِ القولَ لا تسأم مُراجعةً ... واشْكُ الهوى والنّوى قد ينجح الطّلبُ عرّض بذِكري فإن قالوا أتعرفهُ ... فسَل لي الوصلَ وأنكرني إذا غضبوا ذكّرهُمُ بليالٍ قد مضت كرَماً ... وهم نُجومي بها لا السبعة الشُهُبُ همُ الرّضا والمُنى والقصدُ من زمني ... وكل ما أرتجي والسّول والأربُ وهم مُرادي على حالَيْ وفاً وجَفاً ... وبُغيتي إن نأوا عنّي أو اقتربوا وهم ملاذي إذا ما الخَطبُ خاطبَني ... وهم عياذي إذا ما نابَتِ النّوَبُ هم روحُ جسمي الذي يحيا لشقوتِه ... بهم فإن حياتي كلها تعبُ هم نورُ عيني وإن كانت لبُعدِهم ... أيامَ عيشيَ سوداً كلها عطبُ إن يحضُروا فالبُكا غطّى على بصري ... فهم حضورٌ وفي المَعنى همُ غُيُبُ وإن يغيبوا وأهدَوا طيفَهم كرَماً ... فالسّهدُ من دون ما يهدونَهُ حجُبُ فلو فرضت انقطاعَ الدّمع لم أرهمْ ... وصدّهُم عني الإجلالُ والرّهَبُ فما تملّت به عيني بلِ امتلأت ... بأدمعٍ خجِلَت من دونها السُحُبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 لم تُتركِ التُرك في شمسٍ ولا قمرٍ ... حُسناً لغيرهم يُعزى وينتسبُ لكنهم لم يفوا أن عاهدوكَ على ... ودٍّ وما هكذا في فعلها العربُ خلا الغزالُ الذي نفسي به علقت ... فكم لهُ من يدٍ في الفضلِ تُحتَسَبُ له لطافة أخلاقٍ تعلِّمُ مَن ... لا يعرفُ الوجدَ كيف الذلّ والحرَبُ ولحظهُ الضيّق الأجفانِ وسّعَ لي ... هُمومَ وجدٍ لها في أضلُعي لهبُ سُيوفُ أجفانه المرضى إذا نظرت ... تغري الجوانح لا الهنديةُ القضبُ إذا انثنى سلبُ الألباب معطفه ال ... بادي التأوّد لا الخطيّة السلُبُ وإن بدا فبُدورُ الأفقِ في خجلٍ ... تُرخى على وجهها من سُحبها نقبُ يا برقُ لا تبتَسِم من ثغره عجَباً ... قد فاتَ معناكَ منه الظلْمُ والشّنبُ ويا قضيبَ النّقا لو هزّ قامتَهُ ... لكُنتَ تسجدُ إجلالاً وتقتربُ شمعي ضِيا فرقه والوردُ وجنته ... والريقُ خمري لا ما يعصرُ العنبُ ومذ رشفتُ لماهُ وهو مبتسمٌ ... ما راقَ لي بعده خمرٌ ولا حبَبُ قلت: وقد سقتُ في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير قصيدته البائية والقصيدة التي نظمها ثانياً لما تحاكم هو ونجم الدين بن إسرائيل الى شرف الدين بن الفارض، وغير ذلك مما نظمه العفيف التّلمساني وغيره. وأنشدت يوماً أيضاً بعض الأصحاب الأغرّة بالقاهرة قولَ شيخنا شهاب الدين أبي الثّناء محمود رحمه الله تعالى، وهو: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 تثنّى وأغصانُ الأراك نواضرٌ ... فنُحتُ وأسراب من الطّيرِ عكفُ فعلّم باناتِ النّقا كيف تنثني ... وعلّمت ورقاءَ الحِمى كيف تهتِفُ فألزمني بنظم شيء في هذا المعنى، فقلت: هذا يتعذر، لأن هذا استوفى المعنى ولم يترك فيه فضلاً، وجوّد النظم فألفاظه في غاية الفصاحة وتراكيبه في غاية الانسجام، فقال: لابد من ذلك، فقلتُ أنا مختصراً: لم أنسهُ في روضةٍ ... والطّيرُ يصدحُ فوقَ غُصن فأعلّم الوُرق البُكا ... ويعلم البانُ التثنّي وأنشدته يوماً أيضاً من قصيدة: وإن تُرِدْ عِلمَ بديعِ الهوى ... بين الورى فأتِ فعنديَ المُرادُ الأبيات كلها، وقد تقدمت هذه القصيدة في ترجمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة، فأعجبه ذلك، وألزمني نظم شيء في هذه المادة، فنظمت ولكن ذاك بنى وأنا هدمت: أنا والحبيبُ ومَن يلومُ ثلاثةٌ ... لهُم بديعُ الحبِّ أصبحَ ينتمي فلي الجِناسُ لأن دمعي عن دَمي ... يجري ألستَ تراهُ مثلَ العندمِ وله مُطابقةُ التواصل بالجَفا ... ولعاذليه لزومُ ما لم يلزمِ وقلت أنا أيضاً في هذه المادة: لا تعجَبوا منه فما حُسنُه ... إلا بليغٌ حِرْتُ في وصفهِ إن كان قد أوجزَ في خصرهِ ... فإنه أطنَبَ في رِدفهِ وما أتى بالواوِ في صُدغِه ... إلا وقد رتّب في عِطفهِ ولفّ في البُردةِ أعطافهُ ... حتى يطيبَ النشْرُ من لفّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وأنشدني شيخنا المذكور رحمه الله لنفسه: رأتْني وقد نالَ مني النّحولُ ... وفاضَتْ دموعي على الخدّ فَيضا فقالت بعيني هذا السّقامُ ... فقلتُ صدقتِ وبالخَصْرِ أيضا قلت: هو من قول الأرّجاني: غالطَتْني إذ كسَت جسمي الضّنا ... كُسوةً أعرَت من اللّحمِ العِظاما ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقَتْ ولكن سِقاما وأنشدني لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: ومَلولة في الحبّ لما أن رأتْ ... أثرَ السّقامِ بعظْمي المُنهاضِ قالت: تغيّرنا. فقلتُ لها: نعم ... أنا بالسّقامِ وأنتِ بالأعراضِ قلت: لا يقال إلا عظم مهيض، وأما منهاض فما أعرفه ورد في فصيح الكلام، والسقام لا علاقة له بالعظم إنما هو باللحم والجلد معاً تبعاً لذلك. ومن نظم شيخنا شهاب الدين ما كتب به الى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت: هل البدرُ إلا ما حواهُ لثامُها ... أو الصبحُ إلا ما جلاهُ ابتسامُها أو النارُ إلا ما بَدا فوقَ خدّها ... سَناها وفي قلبِ المحبِّ ضِرامُها أقامَت بقلبي إذ أقام بحُسنها ... فدارتُها قلبي وداري خِيامُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 مَهاةُ نقى لو يُستطاع اقتناصُها ... وكعبةُ حُسنٍ لو يُطاقُ استِلامها إذا ما نضتْ عنها اللثامَ وأسفرتْ ... تقشّع عن شمسِ النهار غَمامُها نهايةُ حظي أن أقبّل تُربَها ... وأيسَرُ حظٍّ للثامِ التِثامُها تُريك مُحيّا الشمس في ليلِ شعرها ... على قيدِ رمحٍ وجهُها وقَوامُها وتزهى على البَدر المُنير بأنّها ... مدى الدهر لا يخشى السرار تَمامُها تغنّي على أعطافها وُرقُ حليها ... إذا ناح في هيفِ الغُصونِ حمامُها تردد بين الخمر والسحر لحظُها ... وحزَهُما والدرّ أيضاً كلامُها كِلانا نَشاوى غير أن جفونَها ... مُدامُ المعنّى والدلالُ مُدامُها وليلة زارت والثريا كأنها ... نِظاماً وحُسناً عقدُها وابتسامُها فحيّت فأحْيَت ما أماتَ صُدودها ... وردّت فردّ الروحُ فيّ سلامُها فقالت بعيني ذا السَّقام الذي أرى ... فقلتُ وهل بلوايَ إلا سقامُها وأبْدتْ ثَناياها فقُلْ في خَميلةٍ ... بَدا نورُها وانشقّ عنها كمامُها وأبعدتَ لا بل سَمط درّ تَصونهُ ... بأصدافِ ياقوتٍ لماها خِتامُها وقالت وما للعين عهدٌ بطيفها ... ولا النوم مُذْ صدّت وعزّ مرامُها لقد أتعبَتْ طيفي جُفونُك في الدُجا ... فقلت سَلي جفنَيْكِ أين منامُها وما علمت أن الرُقادَ وقد جفت ... كمثلِ حياتي في يديها زمامُها وكم ليلة مرّت وفيها نُجومها ... كأني راعٍ ضلّ عنه سوامُها كأن الذّراري والهلال ودارة ... حوَتْهُ وقد زان الثريا التِئامُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 حَبابٌ طفا من حولِ زورَق فضّة ... بكفّ فتاةٍ طافَ بالرّاح جامُها كأن نُجوماً في المجرّة خُرّدٌ ... سَواقٍ رماها في غدير زحامُها كأن رياضاً قد تسلْسَل ماؤها ... فشقّت أقاحيها وشاقَ خزامُها كأن سَنا الجوزاء إكليلُ جوهرٍ ... أضاءت لياليه وراقَ انتظامها كأن لدى النسرين في الجوّ غلمةً ... رُماة رمى ذا دون هذا سِهامُها كأن سُهيلاً والنجوم وراءه ... صلاةُ صُفوفٍ قام فيها إمامها كأن الدجى هيجاء حربٍ نُجومُه ... أسنتها والبرق فيها حُسامُها كأن النجوم الهاديتُ فوارسٌ ... تساقط ما بين الأسنّةُ هامها كأن سنا المريخ شعلةُ قابسٍ ... تلوحُ على بُعدٍ ويخفى ضِرامُها كأن السُّها صبٌّ سها نحو إلفه ... يُراعي الليالي جفنه لا ينامُها كأن خفوق القلب قلبُ متيّمٍ ... رأى بلدةً شطت وأقوى مقامُها كأن ثريا أفقهِ في انبساطها ... يمين كريمٍ يُخافُ انضِمامُها كأن بفتح الدين في جوده اقتدَت ... فروّى الروابي والإكامَ رِكامُها كأن بيُمناه اقتدى يُمن نَوئِها ... فعمّت غواديها وأخصبَ عامُها كأن به من لفظه قد تشبّهت ... ففاق عُقودَ الدرِّ حُسناً نِظامُها كريمَ المُحيّا لو يُقابل وجهه ... سحابةُ صيفٍ لاستهل جِهامُها به جبرَ الله البلادَ وأهلُها ... ولولاهُ ما شام السعادة شامُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 به عصم الله الأقاليم إذ غدا ... بأقلامه بعد الإله اعتصامها بآرائه وهي السديدةُ أُحكمت ... عُراها فلا يُخشى عليها انفصامُها به الدولة الغرّاء أشرق نورُها ... فجابَ البَرى وانجابَ عنها ظلامُها بما نشرت من عدله في بلادها ... يزيدُ على عُمر الدهورِ دوامُها إليه انتهى علمُ البيان وإنهُ ... لفي كل أنواع العلوم إمامُها تميتُ العِدا قبل الكتائب كُتبُه ... فألفاظه وهي الحياةُ سِهامُها له عزمة في الله للكُفرِ حرّها ... وللدين منها يَردُها وسلامُها إذا الخيلُ صلّت في الحديد جيادُها ... وعبّت نهاراً في النّجيع صيامها وأضحت وكالأمواجِ في بحر نقعها ... تدفّقها أو كالجبال اضطرامُها تلا رأيهُ آيَ الفتوحِ على العِدا ... فولّت وقد أضحت عِظاماً عظامُها ففي سورةِ الفتح المُبين ابتداؤها ... ومن آية النّصر العزيز اختتامُها فردّ جيوشَ الشّركِ بعد اصطلائه ... لظاها وقد أحنى عليه اصطلامها جوادٌ بما شاءَ العفاةُ كأنما ... لها في يديه حُكمها واحتكامُها تقيٌّ له في الحقّ نفسٌ أبيّة ... وإن كُفَّ بالصّفحِ الجميلِ انتقامها كريمٌ عريقٌ أصله وبنفسه ... مع الأصل دون الناس سادَ عصامُها إذا ألِفَ الآراء ألّفَ وضعها ... فليس بمغنٍ للعِدا منه لامُها روى زينةَ الدنيا فأضحى لزهده ... سواءٌ عليها ريّها وأوامُها وأعرض عنها وهي في عصر حُسنها ... وقد زاد فيه وجدُها وغرامُها ولا زُهدَ إلا وهي بيضاءَ غضّة ... يروقُ العيونَ الشّائماتِ وشامُها يُسرّ اصطناعَ البرّ في الناس جاهِداً ... ليَخفى وهل يُخفي الشموس اكتتامُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 ويغتنم الأخرى بدنياه عالماً ... وقد حازَها إن النجاةَ اغتنامُها تقاسمت الأوقاتُ دنياه فاغتدتْ ... وقد أحرز الأجرَ الجميلَ انقسامها فقامت بأوقات الصلاة صلاتُها ... وصان ذمارُ الكافرين صيامُها رأيتُ عُلاه فوق نظمي وإنني ... بليغٌ ولكن أين مني مرامُها فعُدتُ به من خُطّة العجزِ دونها ... وما كنتُ يوماً قبل ذاك أسامُها فلا زالت الدنيا وأيامها به ... برغم العدا عمّ الوجوه وشامها ومن إنشائه البديع وحوكه الذي قصّر عنه الحريري وبعُد عن البديع كتاب في وصف الخيل: وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها واعتدّ حصنها حصوناً يعتصم في الوغى بصياصيها. فمن أشهبَ غطاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّاً ويتأرجح رياً، ويقول من استقبله في حُلى لجامه: هذا الفجر قد أطلع الثريا، إن التقت المضائق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم. كم أبصر فارسُه يوماً أبيض بطلعته، وكم عاين طرفُ السنان مقاتل العدا في ظلام النقع بنور أشعته، لا تستنّ داحس في مضماره، ولا تطلع الغبراء في شق غباره، ولا يظهر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طَرْفه، ويدرك شوارد البروق ثانياً من عطفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 ومن أدهم حالك الأديم، حالي التشكيم، له مقلةُ غانيةٍ وسالفةُ ريم، قد ألبسه الليل بُرده، وأطلعَ بين عينيه سعده، يظن من نظر الى سواد طرّته، وبياض حُجوله وغرّته أنه توهم النهار نهراً فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة. ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كالليل ويمرّ كجلمود صخر حطّه السيل، يكاد يسبق ظله، ومتى جارى السهمَ الى غرض سبقه قبله. ومن أشقر وشّاه البرقُ بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس ما لديه برقيقتين وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذارُ لجامه من سالفتَيه على شقيقتين. له من الراح لونُها، ومن الريح لينها، إن حرى فبرق خفقْ، وإن أُسرج فهلالٌ على شفق، لو أدرك أوائل حرب ابني وائل لم يكن للوجيه وجاهه، ولا للنعامة نباهه، وكان تركُ إعارة سكابِ لوماً وتحريمُ بيعها سفاهة، يركض ما وجد أرضاً، وإذا اعترض به راكبه بحراً وثبَ عرضاً. ومن كُميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب. يزلّ الغلامُ الخف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 عن صهواته، وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته. قصير المطا، فسيح الخُطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحوش اللوابد، وإن جنِبَ الى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يُر دون بلوغ الغاية وهو في عرض راكبه ثانياً من عنانه، وإن سار في سهل اختال براكبه كالثمل، وأن أصعد في جبل طار في عقابه كالعُقاب، وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترْقَ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرقُ مجاراته قال له الوقوف عند قدره ما أنت هناك فتمهّل. ومن حبشيّ أصفر بروق العين ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالاً، وكأنه نفر من الدُجا فاعتنق منه عُرَفاً واعتلق حجالاً، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجَه، قد أطلعته الرياضة على مراد راكبه وفارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع وتوشيع ملابسه، له من البرق خفة وطئه وخطفُه، ومن النسيم طروقه ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفُه، يطيرُ بالغمز، ويدرك بالرياضة مواضعَ الرّمز، ويغدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه الليل والنهار حلتَيْ وقار وسناً، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لما استُجمعا حَسُنا، ومنحه الباري حلة وشيه، ونحلَتْه الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفةَ مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يُسابقه شيء من الخيل أغراه حبُّ الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدُجا فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار، ينحال لمشاركة بينه وبين الماء في السير كالسيل، ويدل بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل. ويكذّب المانوية لتولد اليُمن بين إضاءة النهار وظلمة الليل. ومن أبلق ظهره حرم وجريُه ضرمٌ، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صُرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفِعله ما يريد الكفّ والقدم. قد طابق الحُسنُ البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النقيضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حُلّتي الدُجا في حالتي الإبدار والإسرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلُّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحوج ليلَه المشرق لمجاورة نهاره الى أن تُسترشد فيه كواكبُه، ولا يجاريه الخيال فضلاً عن الخيل، ولا يمل السّرى إلا إذا ملّه مُشبهاه النهار والليل، ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر، فإن جهدت فبالذيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمجاريه العكس وله الطّرد، قد أغنته شُهرة لونه في جنسه عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكُها من الاعتراف له جادةُ الإنصاف، فترقّى المملوك الى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفَس مهورها، وكلِف بركوبها فكل ما أكمله عاد، وكل ما ملّه شرِه إليه، فلو أنه زَيدُ الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليوميَ حربه وسلمه جنة الصّايد وجُنّة الصائل. وقابل إحسان مُهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. ومن إنشائه رسالة في البُندق، وذكر الأربعة عشر واجباً، وهي من بدائع أعماله وما أظن أحداً يأتي بنظيرها، وقد سُقتها بكمالها في تاريخي الكبير، وسُقت كثيراً من نثره ونظمه. وكتب إليه ناصر الدين حسن بن شاور المعروف بابن النقيب: يا فاضلاً وافى محلّي زائِراً ... متفضّلاً والفضلُ للمتقدّمِ ومشرّفي ومشنّفي بسلامه ... وكلامه ومبجلي ومعظمي أنت الشهابُ الثاقبُ الذهن الذي ... أضحت ذكاء الى ذكاهُ تنتمي والواضح الخطّ المحقّق أصله ... والطاهر القلم الموقع والفمِ شعر كثير الدّرّ أو تبرغدَت ... في حجلةٍ منه ذراري الأنجم مولاي زوّدني فإني راجلٌ ... من لفظكَ العالي المحل المُعلَم وابعثْ إليّ بفذّ شيء منهما ... وامْنُن عليّ وجُدْ بذلك وانعمِ فأجابه بقوله: يا سيّداً لما وطئتُ بساطَهُ ... حدّثتُ آمالي بفيضِ الأنجمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 أنت الذي روّى المسامعَ والقَنا ... ذي من فضائله وتلك من الدّمِ كم قد منعتَ بأخذ كلِّ مدرّع ... حامي الحقيقة معلّماً من معلّم وفتحتَ من حصن بشدّك في الوغى ... بالرمحِ ثغرَ الفارسِ المُستلئم وافيتَ ربعكَ ظامئاً مستمطراً ... أنواءَ شعركَ في شعارِ مسلّم فبعثتَ لي وطفاءَ لو لم يُغضِ من ... خطفاتٍ وامِض برقها طرفَي عَمي ميميّة لما لثمتُ سطورَها ... حسدتْ على تقبيلها عيني فمي يا ناصر الدين الذي شرفَت به ال ... آدابُ إذ أضحت إليه تنتمي يا مالكاً حُزني على زمن مضى ... في غير خدمته كحزن متيّمِ سيّرتَ إنعاماً شغلتَ بشكره ... عبداً يرى إيجابَ سكرِ المُنعمِ وكتب إليه السّراج الورّاق ملغِزاً في سجّادة: يا إماماً ألفاظُه الغرّ في الأس ... ماعِ تُزري بالدرّ في الأسماطِ وشهاباً تجاوز الشهبَ قدراً ... فغدتْ عن عُلاهُ ذات انحطاطِ أي أنثى وطئَت منها حَلالاً ... مستبيحاً ما لا يُباح لواطِ لم أحاول تقبيلها غير خمسٍ ... حالَ زُهدي فيها وحال اغتباطِ وهي مملوكةٌ وعند أناسٍ ... وهي ستّ على اختلافِ التعاطي وهي في صورةٍ خُماسية ما ... قهقهت ولا دَنت للبواطي ومصيبُ الإيمان يسعى إليها ... طالبَ الله وهو عبد خاطِ وأرى أن تحلّها بيمين ... ويسار فقد غدَت في رباطِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 فكتب إليه الجواب، ومن خطه نقلتهما: يا سِراجاً لما سمت باسمه الشم ... س غدا البدر دونها في انحطاطِ أنت بحرٌ نداك موجٌ وألفا ... ظك درّ وصنعُ يُمناك شاطي لا تلمني إذا نظمت معاني ... ك فمن دُرّ فيكَ كان التعاطي أنت ألغزتَ في اسم ذات رقاعٍ ... لم تجاهد وكم غدت في رِباطِ حازها تابعُ المجلّي فجا ... ز السّبقَ من دونه بغير اشتراطِ مذ علاها في أول الصفّ أضحى ... كسليمان فوقَ ظهرِ البساطِ وأنشدني من لفظه لنفسه علاء الدين ألطنبغا الجاولي مما كتب به الى شيخنا رحمه الله تعالى: قال النحاةُ بأن الاسمَ عندهمُ ... غيرُ المسمّى وهذا القولُ مردودُ الاسم عينُ المسمّى والدليل على ... ما قلتُ أن شهابَ الدين محمودُ وكتب إليه شهاب الدين العزاري مترجماً: إذا ما شئت تلبس ثوب فخرٍ ... وتسحبُ ذيل مكرمة وحمد فكُن في سؤددٍ وعليّ فضلٍ ... كمحمود بن سلمان بن فهدِ فكتب هو الجواب إليه عن ذلك: أتاني من شهاب الدين برٌّ ... أبرّ به على شكري وحمدي فصِرتُ به ولم أكُ جاهلياً ... لأحمدَ طولَ دهري عبدَ ودِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 وشرّفني بنظمٍ كلُ بيتٍ ... تفرّد منه واسطَة لعِقد وأطلع في سماء الطّرسِ منهُ ... كواكبُ كلهنّ نجوم سعدِ وأفحمني مما استمكنتُ أني ... أجاوب نقده إلا بوعد كساني في الثّناء أجلّ مما ... كساهُ سوايَ بشارُ بن بُردِ فلا برحَت فوائده إذا ما ... هفا بي الفكر يهدى لي فيُهدي محمود بن شروين الأمير نجم الدين وزير الشرق والغرب. وفد على السلطان الملك الناصر محمد في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكان في تلك البلاد وزير بغداد، ولما سلّم على السلطان وقبّل الأرض ثم قبّل يده حطّ في يد السلطان حجر بلخش وزنه أربعون درهماً قوّم له بمئتي ألف درهم، ثم إن السلطان أمّره مئة، وأعطاه تقدمة ألف. ولما توفي وصّى بأن يكون بعده وزيراً، فرتّب وزيراً في أول دولة المنصور أبي بكر، وعامل الناس بالجميل. ولم يزل كذلك الى أيام الملك الصالح اسماعيل، فحظي عنده، وتقدم كثيراً ولازمه ونادمه، ولما وليَ الكامل شعبان عزله عن الوزارة وأبعده، فلما تولّى الملك المظفر حاجّي أعاده الى الوزارة. ولم يزل على ذلك الى أن أُخرج الى الشام في أوائل شهر رجب أو أواخر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة هو والأمير سيف الدين بيدمر البدري، والأمير سيف الدين طغاي تمر النجمي الدوادار بغتة على الهجن. فلما وصلوا الى غزة لحقهم الأمير سيف الدين منجم فقضى أمر الله فيهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 محمود بن عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد بن أبي بكر بن علي، وينتمي الى علاء الدولة الهمذاني، الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق المفتن الفريد الحجة، جامع أشتات الفضائل، وارث علوم الأولين، حجة المتكلمين، إمام الفقهاء، شمسُ الدين أبو الوفاء بن جمال الدين أبي القاسم بن مجد الدين الأصبهاني. بحرٌ يتدفق بالعلوم أمواجه، وحبر فضله في كل فن تضيء شموسه ولا أقول يتقد سراجه، وملكٌ يجبى إليه من كل علم متّسعِ الأقطار خَراجُه، لو رآه الرازي علم أنه ما رأى زيّه، وصحّ أن المعقول هجر القطبين مصريّهُ وشيرازيّه، ولو أنصفه النصير الطوسي لما بني الرصد إلا لكواكبه، ولا سار مع الجيوش إلا خدمة لمواكبه، وما عسى أن أصفَ مَن هو إمام في كل علم، وأُثني على من بيده زمام كل حلم، تصانيفه تشهد له بأنه فريد أوانه ووحيد زمانه، برع في الشرعيات لما شرع، وبزع في العقليات شمساً نورها محا ظلام الجهل فانقشع، علامة في كل علم له علامة، وأستاذ ترى كل شيخ في فنه غلامه. اشتغل في البلاد الشرقية وورد الى الشام فأنسى الناس المحاسن الدمشقية: ورد اللوى سحَراً فعطّر جيبَهُ ... بالجزع طُبّاق هناك وشيحُ حتى غدَت نفحاتُه وكأنّما ... يُهدى بهنّ لكُلّ جسمٍ روحُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وقرأ عليه الأئمة، وشهد له الأعلام أنه عالم هذه الأمة. ثم إن السلطان طلبه الى القاهرة، وأطلع في آفاقها نجومه الزاهرة، فوردها وهي بحر بالفضلاء يتموّج، وزهرٌ بالفضائل يتأرّج، فأقام بها ينشر مُلاءات فضائله، ويعلّم الزمان بأخلاقه الزكية رقّة بُكرهِ وأصائله. ولم يزل على حاله الى أن كحل بالأصبهاني جفن الضريح، وغادر قلب الزمان عليه وهو جريح. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر. وسألته عن مولده فقال: ولدت بأصبهان في سابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وست مئة. وورد الى دمشق بعد حجّه وزيارة القدس في صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وظهرت فضائله للناس وعظّمه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وقال يوماً في حقه: اسكتوا حتى نسمع كلام هذا الفاضل الذي ما دخل البلاد مثلُه. وكان يلازم الجامع الأموي ليلاً ونهاراً، وسكن في باب الناطفيين، وأكبّ على التلاوة والسمع والإشغال للطلبة عند قبر زكريا، وتولى تدريس الرواحية، ودرّس بها في ثاني عشر شعبان يوم الأحد من السنة المذكورة بعد الشيخ كمال الدين بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 الزملكاني فيما أظن، وكان درساً حافلاً حضره الأعيان والشيخ تقي الدين بن تيمية، وأثنى الأعيان على فضائله. ولم يزل بدمشق الى أن طلبه السلطان الى الديار المصرية، فتوجه إليها على البريد في منتصف شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان السفير له في ذلك الشيخ مجد الدين الأقصرائي شيخ خانقاه السلطان بسرياقوس، وكان السلطان يشتهي يرى الغرباء من تلك البلاد، ولما وقعت بطاقته من بُلبيس بقي متطلعاً الى قدومه ساعة فساعة، فتوجه الشيخ شمس الدين الى سرياقوس ونزل بالخانقاه الى عند الشيخ مجد الدين فأضافه، وعمل له السماعات، ودخل به الحمام، فلما أبطأ خبره على السلطان وعلم أنه اشتغل عنه ولم يدخل الى السلطان إلا بعد ثلاثة أيام أو أربعة، نزل من عين السلطان ومجّه، ولم يلق بقلبه ولم يتجدد له شيء. ونزل الى القاهرة، لكنه فيه رياسة العلم، وكان الشيخ ما يعرف اللغة التركية، فقعد به ذلك، إلا أنه راج باللغة العجمية عند الأمير سيف الدين قوصون، وبنى له الخانقاه العظيمة بالقرافة، وجعله شيخها، ثم إنه قرّبه عند السلطان، فكان يحضر عنده في بعض الأوقات. وسألته في سنة خمس وأربعين وسبع مئة بمنزله بالخانقاه المذكورة لما كنت بالقاهرة عن مبتدأ حاله فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 قرأت القرآن والفقه على والدي، والعربية أيضاً على الشيخ نصير الدين الفاروثي، وعلى الشيخ جمال الدين بن أبي الرجا شيخ في تربة علي بن سهل الصوفي، وقرأت شيئاً من المعقول على صدر الدين تُركا، والمولى جمال الدين تركا، وشيئاً من الطب والخلاف، وقرأت عليه نكت الأربعين للنّسفي، وصنّف في تلك البلاد شرح المختصر لابن الحاجب للخواجا رشيد، وشرح مطالع سراج الدين الأرموي لقاضي القضاة عبد الملك، وشرح تجريد النصير الطوسي باسم علي باشا، وصنّف أكثر من ربع العبادات على مذهب الشافعي مضافاً إليه مذهب أبي حنيفة ومالك الى الاعتكاف، وشرح قصيدة الساوي في العروض وتفسير آية الكرسي ومختصراً في المنطق سمّاه ناظر العين، كل ذلك صنفه بتبريز. ثم إنه انتقل الى دمشق في التاريخ المذكور وشرح فيها مقدمة ابن الحاجب، وتفسير قوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو "، وتفسير " إن الله وملائكته يصلّون على النبي " الآية، وتفسير " يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث ". ثم إنه توجه الى مصر في التاريخ المذكور وصنّف فيها شرح البديع للساعاتي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 الأصولين باسم السلطان الملك الناصر، وشرح ناظر العين، وشرح المنهاج للبيضاوي، وشرح طوالع القاضي ناصر الدين البيضاوي وتعاليق على مسائل. ثم صنّف مختصراً في أصول الدين، وشرح فصول النسفي، وتفسير سورة يوسف، وسورة الكهف. ثم إنه شرع في تفسير مستقل وصل فيه الى حين اجتماعي به في سابع عشر شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة الى قوله تعالى: " مَن يُطع الرسول فقد أطاع الله ". وقال لي: كنت قد فسّرت جملة كبيرة، ولكن في فتنة قوصون عدمت المسوّدات فأنا الآن أغرمها. وقال لي بعض الجماعة إنه يمتنع من الأكل في كثير من الأوقات لئلا يحتاج الى الدخول الى الخلا خوفاً من ضياع الزمان بلا كتابة في التفسير. وكان خطّه قوياً وقلمه سريعاً، ورأيته يكتب في هذا التفسير من خاطره من غير مراجعة، وكان قد شرع قبل ذلك في مختصر لطيف في أصول الدين، وجيز اللفظ، كثير الفوائد والمباحث. وسمع البخاري مرتين على الحجّار بقراءة شيخنا البرزالي، وسمع على أشياخ ذلك العصر، وأذن لجماعة كثيرة بالشام ومصر في الإفتاء، وانتفع به الناس في الشام ومصر كثيراً، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه: أيها العاذل لا تلح ... فعندي ما كَفاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 كيف لا تسفح عيني ... دمعها أحمر قاني أظلمت عينيّ لمّا ... فقدتُ شمس الزّمان وغدا جَفني قريحاً ... باكياً مما دَهاني لم يُفدهُ كُحْلٌ ... بعدَ فقدِ الأصبهاني محمود بن محمد بن إبراهيم بن جملة الشيخ الإمام الورع الخطيب جمال الدين بن جملة، خطيب الجامع الأموي بدمشق. كانت له طريقة، سلكها فجعل مجازها حقيقة، لازم بها الخطابة وركن، ولزم مكانه بالجامع فما تحرّك منه بعدما سكن، واقتصر به على خاصة نفسه وملازمة خطابته وهواه ودرسه، لا يتردد الى أمير ولا كبير ولا صغير، بل الأمراء يحضرون إليه، ويتطفلون عليه، ويلتمسون بركاته، ويعدّون سكناته وحركاته، وإشاراته عند نوّاب الشام مشهورة مقبولة، وربوع أوقاته بالخيرات مأهولة: حسُنَت وطابت في الورى أخبارُه ... وأصحّها راوي العُلا أصحاحا وكأن درّاً فاه راوي مدحه ... مهما روى وكأن مسكاً فاحا قد سخّر الأرواح خالقها له ... إن لم يكن قد سخّر الأشباحا فإذا علا يوماً ذؤابةَ منبرٍ ... نثروا على كلماته الأرواحا وأما جنازته فكانت آية بلغت من الاحتفال الغاية، وجازت الحد في الكثرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 والنهاية، حُملت على الأصابع ولم تصل إليها الرؤوس، وتناهب الناس آثاره، واجتلوا نعشه منصة وهو فيها عروس. وما زال على حاله الى أن انفرد ابن جملة عن جملة الأحياء وأصبح في مماته من أعجب الأشياء. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الإثنين العصر الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة. وكان قد ولي الخطابة بعد الخطيب تاج الدين بن جلال الدين القزويني في سنة تسع وأربعين وسبع مئة. محمود بن علي بن محمود ابن مقبل العراقي، تقي الدين الدّقوقي الحنبلي، الإمام المتقن محدّث بغداد، شيخ المستنصرية. أسمعه أبوه من المؤرخ علي بن أنجب، وعبد الصّمد بن أبي الجيش، وابن أبي الدنيّة وجماعة، من ذلك كل جامع المسانيد من محمد بن أبي الدنية، وطلب هو بنفسه يسيراً، وكان يحدّث الناس على كرسي ببغداد، ويحضره خلق عظيم ويأتي بكل نفيس، وله نثر ونظم ومعرفة بالنحو واللغة، وكان يعظ في الأعزّية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 وكان متقناً متحرّياً جهوريّ الصوت محبوباً الى الناس لفضله وعلمه. وليَ مشيخة المستنصرية بعد ابن الدواليبي. توفي - رحمه الله تعالى - في أوائل المحرّم من سنة ثلاث وثلاثين، أو أواخر الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ولم يخلّف درهماً، وحُمل نعشه على الرؤوس. ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة. محمود بن عزّي بن مشعل الشيخ الفقيه الفاضل جمال الدين البصروي. كان فقيهاً جيداً حفظ التنبيه ثم حفظ الوجيز، وكان يكرر عليه وينقل منه كثيراً. توفي في سابع عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة ببصرى ودفن بها. محمود بن محمد بن عبد الرحيم ابن عبد الوهاب، الشيخ بهاء الدين، الكاتب المجوّد المتقن المحرر السلمي، المعروف بابن خطيب بعلبك. كان فرداً في زمانه، وندرةً في أوانه. كاتبٌ أين الرياض من حروفه القاعدة، والعقود من سطوره التي تبيت العيون في محاسنها ساهدة، كم روّض قلمُه طرساً، وجلا على الأبصار عرساً، وخضع له الكُتّاب فلا تسمع إلا همساً، ألفاته أحسنُ اعتدالاً من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 القدود الرشيقة، ولاماته أظرف انعطافاً من الأصداغ المسوّدة على الخدود الشريقة، وعَيْناته أسحر من العيون الدُّعْج، ونوناته أسلبُ للقلب من الحواجب البُلج: خطٌّ كأن العيونَ ناشدَة ... سود أناسيهنّ من كُتبه أقلامه كنّ للورى قصَباً ... والسّبقُ للمحتوى على قصبه كتب عليه جماعة من أولاد الأعيان، وبرع في الكتابة منهم شرذمة مختلفة الأديان. وكان فيه ديانة وعفّة وصيانة، وتقوى تمنعه من التطلّع الى أولاد الناس وأمانة. ولم يزل على حاله الى أن جرى القلم بحلول حَينه، وودّ كل كاتب لو فداه بإنسان عينه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بمنزله في العُقيبة بدمشق، ودفن بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية. ومولده في إحدى الجماديين سنة ثمان وثمانين وست مئة. وكان يخطب جيداً بصوت طيّب، وأقام بدمشق مدة سنين، وكان محبوباً لكرم أخلاقه وعفّته. وكان من أحسن الأشكال، تام الخلق، وصف خطّه للأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، فأحضره وأمره بأن يكتب له نسخة بالبخاري، فاعتذر له بأنه مشغول بتكتيب أولاد الناس، فقال: أنا أصبر عليك، فأغفله مدة تزيد علي سنة، وطلبه فأحضر له منه مجلداً، فرماه على الأرض وضربه ضرباً كثيراً مبرحاً، ودفع إليه المجلّد، ورأيته، أعني المجلد، في بعلبك وهو نسخ شيء عجيب الى الغاية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 وقلت أنا في الشيخ بهاء الدين: إن ابن الخطيب وابن هلال ... ليس ذا مثلَ ذا على كل حال أيُّ نون أمسكتَ من خطّ هذا ... فهي من حُسنها بألفِ هلال محمود بن محمد بن محمد ابن نصر الله ابن المظفر بن أسعد بن حمزة، الصدر الرئيس العدل الكبير الفاضل الأصيل محيي الدين، أبو الثناء ابن الصدر الكبير شرف الدين ابن الصدر جمال الدين بن أبي الفتح التميمي الدمشقي بن القلانسي. كان أحد الصدور الأعيان، كان له إشغال وتحصيل، وكان فيه خيرٌ وتواضع وملازمة لداره وعدم اختلاط بالناس، وباشر نظر ديوان البيوت وأوقاف الحرَمين. وكان قد سمع من ابن البخاري وعبد الواسع الأبهري. وتوفي - رحمه الله تعالى - في عشري ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة سبع وسبعين وست مئة. محمود بن مسعود بن مصلح الإمام العلامة ذو الفنون قطب الدين أبو الثناء الفارسي الشيرازي الشافعي المتكلم صاحبُ التصانيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 كان أبوه طبيباً، وعمه من الفضلاء، فقرأ عليهما وعلى الشمس الكتبي والزكي البرشكاني، ورتب طبيباً في البيمارستان وهو حدث. وسافر الى النصير الطوسي ولازمه وبحث عليه الإشارات وقرأ عليه الهيئة وبقية الرياضي وبرع. واجتمع بهولاكو وأبغا، وقال له أبغا: أنت أفضل تلامذة النصير وقد كبر، فاجتهد لا يفوتك شيء من علمه. قال: قد فعلت، وما بقي لي به حاجة. ثم إنه دخل الروم فأكرمه البَروانه، وولاه قضاء سيواس وملطيّة، وقدم الى الشام رسولاً من جهة الملك أحمد، فلما قُتل أحمد ذهب قطبُ الدين، فأكرمه أرغون، ثم إنه سكن تبريز مدة، وأقرأ المعقولات وسمع شرح السنّة من القاضي محيي الدين، وروى جامع الأصول في رمضانين، قرأه الصدر القونوي عن يعقوب الهذباني عن مصنفه. وكان من أذكياء العالم وممن ساس الناس وداهن وسالم، مدّ يد الباع في كل الفنون، سديد الرأي في مخالطة الملوك والتحرّز من العيون. صنف التصانيف المفيدة وأودعها الذخائر العتيدة، وكان لفلك الفضائل قطباً، ولشمس العلوم شرقاً وغرباً: بجودٍ يهمل السحب احتقاراً ... إذا ما امتدّ بينهما الهُمولُ وأخلاقٍ كأبكار الغواني ... إذا اشتملت عليهنّ الشَمولُ ولم يزل على حاله الى أن دارت رحى المنون على قُطبه، وجعلت شخصه في الثرى تِرباً لتُربه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة. ومولده بشيراز سنة أربع وثلاثين وست مئة. وكان الشيخ قطب الدين ظريفاً مزّاحاً لا يحمل هماً، وهو بزي الصوفية، وكان يجيد اللعب بالشطرنج ويلعب به، والخطيب على المنبر وقت اعتكافه. وكان حليماً سمحاً لا يدّخر شيئاً، بل ينفق ما معه على تلامذته ويسعى لهم، وصار له في العام ثلاثون ألف درهم، وقصده صفي الدين عبد المؤمن المطرب فوصله بألفي درهم، وفي الآخر لازم الإفادة، فدرّس الكشّاف والقانون والشِّفا وعلوم الأوائل. وكان القان غازان يعظّمه ويعطيه، وكان كثير الشفاعات، وإذا صنّف كتاباً صام ولازم السهر ومسوّدته مبيضته. وكان يحب الصلاة في الجماعة ويخضع للفقير، ويوصي بحفظ القرآن، وإذا مُدح يخشع ويقول: أتمنى لو كنت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن لي سمع ولا بصرٌ رجاء أن يلمحني بنظرة. مرض نحو شهرين، ولما مات رحمه الله أدّيت عنه ديونه. وكان يتقن الشعبذة، ويضرب بالرباب ويورد من الهزليات ألواناً بحضور خربندا، وفي دروسه، وكانت أخلاقه جميلة ومحاسنه وافرة. ومن تصانيفه غرّة التاج حِكمة، وشرح الإشراق للسهروردي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 وشرح الكليات وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح المفتاح للسكاكي. محمود بن مسعود السلطان علاء الدين بن شهاب الدين صاحب الهند. كان ملكاً عظيماً بنى بدلّي منارة عظيمة ارتفاعها مئة وخمسون ذراعاً مرجّلة الأساس عظيمة البناء، عرضها من أسفل رميةُ سهم، ويراها الناس من مسيرة يومين. ولم يزل في ملكه الى أن وصل الخبر الى مكة بوفاته، وصُلي عليه بها صلاة الغائب سنة خمس عشرة وسبع مئة. وتسلطن بعده ولده غياث الدين فدام سنة، وخرج عليه أخوه قطب الدين مبارك وتملّك، وسجن غياث الدين، ودام قطب الدين مبارك في الملك الى سنة عشرين وسبع مئة، وقُتل، وتسلطن مملوكهم خسرو التركي. محمود بن ديوانا كان قد ظهر في تبريز بمشيخة وصلاح، وخضع له المغول وغيرهم، وكانت له زاوية في توريز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 حكى الإربلي عز الدين الطبيب نقلاً عن التاج عبد الله الطيبي ما معناه أن آل فرَنك أحد أولاد القانات كان مرشحاً للملك، وكان محباً للفقراء، فأتى يوماً الى زاوية الشيخ محمود ديوانا ومدّ له سماطاً، وعمل له سَماعاً، ورقص الشيخ محمود وطاب ودار في الطابق، وجذب آل فرنك إليه، وألقى كلاهه عن رأسه وألبسه طاقية كانت على رأسه وقال: قد ولّيتك السلطنة، ورقص ورقص معه. فنقلت هذه الكلمة الى غازان، فضرب عنق آل فرنك بين يديه. وكان قسيم الغصن في تثنيه، وشقيق البدر أو ثانيه. وأمر بإحضار الشيخ محمود ديوانا، فلما رآه قال: أهلاً بالشيخ الذي قد صار يولّي الملوك بطاقية، وأمر به فشُدّ بين دفتين، ونُشر حتى وقع نصفين بقسمة صحيحة سواء بسواء. المحوجب شمس الدين محمد بن يوسف الجزري. مختارالأمير الكبير الطواشي ظهير الدين المعروف بالبُلبيسي الخازن دار بقلعة دمشق. كان حسن الشكل، حسن الأخلاق، فيه وقار وسكون، وحفظ القرآن، وكان يتلوه بصوت حسن. أنشأ مكتباً للأيتام قبالة القلعة، ووقف عليه الجامكية. وكان له خبز بطبلخاناه. وولي التقدمة على المماليك السلطانية بمصر مكان الطواشي فاخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة بقلعة دمشق، ودفن برّا باب الجابية بتربته التي عمّرها، ووقف عليها أوقافاً وقرر فيها مقرئين بالنوبة ليلاً ونهاراً. اللقب والنسب ابن مخلوف محيي الدين محمد بن علي. وقاضي القضاة علي بن مخلوف. ابن مراجل علاء الدين علي بن عبد الرحيم. المرداوي موسى بن محمد. ابن المرحّل الشيخ شهاب الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. والشيخ صدر الدين محمد بن عمر، وأخوه عبد الوهاب. والمغربي مالك بن عبد الرحمن. وزين الدين محمد بن عبد الله ابن مختار الحنفي محمد بن مختار. المَرجاني عبد الله بن محمد. ابن المخرمي ّ ابراهيم بن الحسن. ابن المرواني أحمد بن حسن، وأخوه علاء الدين علي بن حسن، وابنه ناصر الدين محمد بن علي. المراكشي فخر الدين عبد الله بن محمد. وتاج الدين محمد بن ابراهيم. و المريني الأمير علاء الدين مغلطاي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 المريني السلطان عثمان بن إدريس. والمريني عثمان بن يعقوب، وولده السلطان علي بن عثمان. مريم بنت أحمد ابن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد، الدمشقية، أم عبد الله، بنت الجمال. كانت امرأة صالحة خيّرة، حضرت على الفقيه محمد بن عبد الملك بن عثمان المقدسي، وأجازها الكاشغري، وابن القبيطي، وجماعة. وتوفيت - رحمها الله تعالى - ثالث عشري جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولدها سنة خمس وثلاثين وست مئة. وهي أخت الإمام محكب الدين عبد الله المقدسي المحدّث، وزوجة الشيخ أحمد بن أبي محمد العطار إمام مغارة الدم. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها جزءاً من فوائد أبي عروبة الحراني وغير ذلك. ابن مزهر القاضي فخر الدين محمد بن مظفر. وشرف الدين يعقوب بن مظفّر. ابن مُزَيْز تاج الدين الحموي أحمد بن إدريس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 وعز الدين عبد العزيز بن إدريس. المزّي المؤقِّت محمد بن أحمد. والمزي يوسف بن عبد الرحمن. المستكفي بالله أمير المؤمنين، أبو الربيع سليمان بن أحمد. مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زيد، الشيخ الإمام العالم، المفتي الحافظ، المجوّد فخر المحدّثين، قاضي القضاة بالديار المصرية، سعد الدين الحارثي، العراقي، الحنبلي. والحارثية قرية قريبة من بغداد، المصري المولد. سمع من الرضي بن البرهان، والنجيب عبد اللطيف، وابن علاق، وطبقتهم. وبدمشق من جمال الدين الصيرفي، وابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وعدّة. وعُني بهذا الشأن، وكتب العالي والنازل، وخرّج وصنّف، وتميّز وتفرّد، ودرّس بالناصرية بالقاهرة، وبالصالحية، وبالجامع الطولوني. وولي القضاء بالديار المصرية في ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة، فأقام في ذلك سنتين ونصفاً، وسار فيه سيرة مرضية، وكان متيقظاً فيه محتاطاً متحرزاً، وقدّم الفضلاء والنبلاء من كل طائفة. قال كما الدين الأدفوي: قال لي القاضي شمس الدين بن القمّاح: تكلمت معه في المذهب، فقال: كل ما يلزم القول بالجهة أقول به. قال وحكى لي بعض أصحابنا أنه دخل المدرسة الكاملية ليجتمع بالشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلما رآه الشيخ قام وقال: داعية، ولم يجتمع به. انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 وشرح جملة من سُنن أبي داود شرحاً جيداً، وشرح قطعة من المقنع في مذهبه ولم يكمله، أتى فيه بفوائد ومباحث ونقول كثيرة، ولو كمل لانتفع الناس به. وكان قد قدم الى دمشق على مشيخة دار الحديث النورية، ثم إنه ضجر ورجع وحدث بدمشق ومصر. وكان رئيساً فصيح الإيراد، عذب العبارة، قويّ المعرفة بالمتون والرجال صيّناً، وافر الحرمة، فاخر البزّة. وكان أبوه من التجار. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سحر الأربعاء رابع عشر ذي الحجة إحدى عشرة وسبع مئة. ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة. وخلفه في الفقه ولده الإمام شمس الدين عبد الرحمن. مسعود بن أوحد بن الخطير الأمير الكبير بدر الدين، أمير حاجب بالديار المصرية في أيام الملك الناصر محمد وفيما بعد، ونائب السلطنة بغزة غير مرة، ونائب طرابلس غير مرة، وأكبر مقدمي الألوف بالشام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 كان عريقاً في الرئاسة، غريقاً في الحشمة والنفاسة، كريم الودّ والإخاء، كثير البذل لأصحابه والسخاء، وكان بابه حرمَ اللاجي، وقبلة الراجي، لا يخبأ جاهه عن قاصده، ولا ماله عن وافده. كثير الاتّضاع كأن من يجالسه أخوه من الرضاع، ألطف من النسيم إذا سرى، وأرأف بالضعيف من والديه إذا عاينا به أمراً منكراً. وكان به للملك الناصري جمال، وهو لمن استجار به ثِمال، بل كان في ذلك الأفق بدر كماله، وزينة موكبه في يمينه وشماله، وصاحب رأيه الذي كم أسفر وجهه عن جماله. وحكّمه الملك الناصر في الديار المصرية فحكم بالعدل، وأفاض نِيل نَيْله بالجود والبَذل، وزان دولته بحسن سيرته، وصفاء باطنه وطُهر سريرته: يتكفّل الأيتامَ عن آبائهم ... حتى ودِدْنا أننا أيتامُ يتجنّب الآثامَ ثم يخافُها ... فكأنما حسناته آثامُ قد شرّد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استُطرفَ الإعدامُ ولم يزل يتنقل في الممالك تنقل البدور، ويتوقّل في هضبات المعالي توقّل العقبان والنسور، الى أن اختار المقام بدمشق فأجيب، وسكن ما بقلبها من الوجيب، وكان في حِماها للناس رحمة، ولكل من نزلت به بليّة نعمة، يمدّ عليهم ظل شفقته، وينشر لهم جناح رحمته، فما يبالون بمن عدل أو جار، ولا يحفلون بمن بعُد أو زار، حتى نزل الأمر الخطير بابن الخطير، ورأى الناسُ بالبكاء لموته كيف يكون اليوم المطير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة ليلة السبت سابع جمادى الأولى بحارة الخاطب بدمشق. وأخذ إمرَة العشرة بدمشق سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وقرّبه الأمير سيف الدين تنكز وأدناه وأحبّه، ثم إنه جهّزه الى باب السلطان صحبة أسندَمُر رسول جوبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فلما رآه السلطان أعجبه شكله وسمته ووقاره، ورسم له بالمقام عنده، وأعطاه طبلخاناه، فجعله حاجباً. ولم يزل في الحجوبية الى أن أمسك الأمير سيف الدين أُلماس أمير حاجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فولاه السلطان مكانه أمير حاجب، ولم يكن بمصر إذ ذاك نائب سلطنة إلا أمير حاجب، فكان يعمل النيابة والحجوبية، وقيل: إن السلطان لما أعطاه إمرة الحجوبية كان على حركة للصيد فأعطاه جملاً حمله دراهم، تقدير سبعين ألف درهم إنعاماً عليه، وقال له: هذا برسم إقامة الرّخت وحركة الصيد، وأحبّه السلطان والناس أجمعون من الأمراء والمشايخ وأمراء الخاصكية، وكان يمشي في خدمته الأمراء الكبار. ولم يزل على حاله في وجاهةٍ حتى أمسك الملك الناصر محمد الأمير سيف الدين تنكز، فرسم للأمير بدر الدين بنيابة غزة، فحضر إليها في مستهل صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، فأقام فيها سبعة أشهر، ثم إنه نقله الى دمشق، فحضر إليها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. فلما اتفق للأمير سيف الدين قوصون ما اتفق أيام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 الملك الأشرف كجك طلب الأمير بدر الدين الى مصر، وأعاده الى وظيفة الحجوبية وكان بها أمير حاجب في مستهل صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. ولما انفصل قوصون خرج الى غزة ثانياً نائباً، وأقام بها شهرين، ثم حضر الى دمشق ثانياً وأقام بها مدة، وهو أكبر مقدمي الألوف. ثم إنه رُسم له بالتوجه الى غزة نائباً ثالث مرة، فتوجه إليها في شهر رجب أو أوائل شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبُغا ما جرى وقُتل، فرُسم للأمير بدر الدين بنيابة طرابلس، فتوجه إليها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وعاد منها الى دمشق في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فإنه عُزل بألجيبغا الخاصكي، ولما اتّفق حضور ألجيبغا الى دمشق وقتله أرغون شاه، على ما مرّ في ترجمته، في سنة خمسين وسبع مئة، وخلت دمشق من نائب يقوم بأمرها سدّ الأمير بدر الدين النيابة ونفّذ مهمات الدولة، وكاتبه الملك الناصر حسن في البريد وسدّ ذلك على أحسن ما يكون. ثم إن السلطان رسم له بالعود الى طرابلس نائباً بعد أن وُسِّط ألجيبغا وأياز بسوق الخيل في دمشق، على ما تقدم في ترجمتهما. فتوجه إليها في أوائل جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة. ولم يزل بطرابلس الى أن طُلب الى مصر، فدخل الى دمشق نهار عيد الفطر سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وخرج منها متوجّهاً بطُلبه الى مصر، فلما وصل الى الرملة ورد المرسوم عليه بعوده الى دمشق، فعاد إليها ودخلها في عاشر ذي القعدة، وأقام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 مدةً بغير إقطاع، ثم إنه أعطي أخيراً خبز نوروز. ولم يزل كذلك الى أن توجه في نوبة بيبغاروس صحبة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام والعسكر الشامي، وأقاموا على لدّ، وحضر الأمير عز الدين طقطاي الدوادار وهم على لُدّ ومعه تقليده الشريف بنيابة طرابلس مرة ثالثة، فلبسه هناك، وخدم به، وأقام هناك الى أن حضر السلطان الملك الصالح صالح من مصر ودخل الى دمشق وهو مع نائب الشام، ثم إنه توجه الى حلب صحبة الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز الى حلب في طلب بيبغاروس، وأقاموا بحلب مدة، فاستعفى الأمير بدر الدين هناك من نيابة طرابلس، وثقل عليهم، فأعفون، واستقر على حاله بدمشق. وفي يوم عيد رمضان حُمل الجَتْر على رأس السلطان على العادة في مثل ذلك، ولما عادت العساكر المصرية صحبة السلطان الى القاهرة فوّضت إليه نيابة الغيبة بدمشق، ولم يتحرك السلطان في تلك المدة بحركة في دمشق إلا برأيه وترتيبه، لقِدم هجرته ومعرفته بمصطلح الملك من الأيام الناصرية. ولم يزل على حاله بدمشق الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور وصلى عليه نائب الشام وأعيان الأمراء والقضاة. وكانت جنازة حافلة، ودفن في الصالحية بتربتهم. وكان قد حدّث عن ابن دقيق العيد. ولما توفي - رحمه الله تعالى - قلت أنا أرثيه: يا ذلّتي وشقاي بعد مسعود ... وطولَ حزني وتعدادي لتعديدي ويا نواحي الذي يملا نواحي جي ... رون استعدْ واستزد لي فوق مجهودي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 مات الأمير الذي كان الزمان إذا ... سطا لجأنا لظلٍ منه ممدودِ ولّى وزال وقد أضحت مناقبه ... بين الأنام له تقضي بتخليدِ كانت لياليه أعراساً لناظرها ... حُسناً وأيامه أيام تعييدِ وكان للملك عطفٌ من عزائمه ... يختال في حلتي نصرٍ وتأييد زها به الملك من مصرٍ الى حلب ... وهزّ عجباً به أعطاف أُملود وشيّدت ركنَه منه سياسته ... وبات من ذاك في استيعاب تمهيد تُغني بسالته يوم الكريهة عن ... لباس سابغةٍ من نسج داوود تكادُ أسيافُه تقضي على مهج ال ... أعداء في حربها من غير تجريد ويصبحُ الرمح في يُمنه ذا هيفٍ ... ووجنة السيف تمسي ذات توريد يمحو ببيض أياديه الكريمة ما ... للدهر من ظلماتٍ في الورى سودِ أضحت به غزةٌ في عزّة فتحت ... باباً لنيل المعالي غير مردود كذا طرابلس إذا صار نائبها ... بادَت نوائبها عنها الى البيد وجاور البحر فيها مثله وربا ... على عجائبه بالفضل والجود خلائقٌ مثل روض زهره خضِلٌ ... ونسمةُ الصبح فيه ذات ترديد وطاب ريّاً كما طابت أرومته ... أصلاً تفرّع عن آبائه الصيد وما تواضع إلا زاد رفعته ... علوّ مجد بفرع النجم معقود وزان أيامه من بعدما عطلت ... بجوهرٍ تزدهي منه بتنضيد فالتاج في رأسها راقتْ جواهره ... والشّنْف في أذنها والطوق في الجيد يا حاجباً كان عين الله تحرسه ... من عين عادٍ مع المعدوم معدود أخليت أفق دمشقَ من سناك فطر ... ف النجم ما بين تصويت وتصعيد تبكي الكواكب بدراً كان يؤنسها ... بنوره ثم أضحى تحت جُلمود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 أبقى بنيهِ رواةَ الجود عنه لنا ... فنحن في سندٍ فيه ابن مسعود لا زال تسقي ثراهُ سُحبُ مغفرةٍ ... تسري له في طريقٍ غير مسدودِ ولما كان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - بطرابلس نائباً أهدى الى الأمير سيف الدين أرغون شاه، وهو نائب دمشق، شيئاً من القلقاس وقصب السكر والمحمّضات، فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو: يقبّل الباسطة الشريفة العالية المولوية الأميرية الكبيرية البدرية، لا زالت أياديها تنقل الغوارب، وتبعث نفوس محبيها على التوسع في نيل المآرب، وتخصّهم من تُحفها بما يجمع لهم بين لذة المناظرة والمآكل والمشارب، وينهي بعد دعاءٍ تفسحت له بين النجوم المضارب، وولاءٍ أعلامه خفّاقةُ الذوائب بين المشارق والمغارب، ورود المشرف الكريم أعلاه الله تعالى قرينَ ما أنعم به مولانا أعزّ الله أنصاره من هدايا طرابلس المحروسة، وتفضل بما يتوق به الى معاهدها المأنوسة، فوقف المملوك منه على روض تدبّج، وكافور بعنبر الليل تسبّج. ورأى بحر فضله وهو بأمواج سطوره مدرّج، وبهت لرصف سطوره التي كأنها نبت عذار في هامش الخدّ مخرَّج، فلثم المملوك منه موقع الاسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 الكريم، وقبّل منه خدَّ كعابٍ وسالفة ريم، ووصل ما أنعم به من الهدية الكريمة، فمن قلقاس يقصّر ابن قلاقس عن نعته، ويعجز البحتري لو أنه قواف عن نحته، كل رأس منه يعود في طبخه كالمُخّ، وتمشي النفس إليه وهو في رقعة الخوان مشي الرخ، رؤوسه كرؤوس العدا المحزوزة غلّفتها الدماء والهضاب، وأصابعه كأصابع العذارى إذا انغمست في الخضاب، يتفرّى العنبر عن كافوره، وينصدع الديجور منه بصبح بدا في سفوره، وينزل في اللهاة ليناً ونعومة وانملاساً، ويزدرد الحلقوم لذاذة يخطفها من العيش اختلاساً، ويكاد من نضجه يقول لطاهيه وآكله إذا شبّها وقاسا: وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ... فقل قاسى، فقل قاسى ومن قصب سكرٍ كل عود له دونة غصن البان، وصفرةٌ استعارها من العاشق إذا صدّ عنه الحبيبُ أو بان، وحلاوة ذوق لولاها لما شبّهه إلا بالمرّان، وما ئيةٍ كريق الحبيب الذي ردّ الردى وصدّ الصدى عن القلب الحرّان، فشكراً لجزرات الهند وما أهدت منه لأرض العجم والعرب، وعُجباً للونه وطعمه ووصفه فما يُدرى هل هو قصبُ ذهب، أو قصب ضرَب، أو قصب طرب، وبخٍ بخٍ لجُرعه التي تمر بالحلق والازدراد نائم لم يتنبّه، وزاهٍ زاه لحالاته المتناقضة فإن حزّه كحزّ رقاب العدا ومصّه كمص شفاه الأحبة، ومن أترجٍ أصفر وكبّاد أحمر، هذا لونه لون الوجل، وهذا له حمرة الخدّ الخجِل، هذا تحرّج متضرّج، وهذاك تهيّج وما تدبّج، لا تنهض بأوصافهما قوائم المسودات والمبيّضات، ولا يقربُ منهما الفواكه الحلوة لأنها تقول: ما لنا وللدخول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 في هذه المحمّضات، فالله يشكر هذه الأيادي التي جادت له بالبستان والقصر، ومتّعته وهو في الشام بالمحاسن التي ادّكر بها أوقات مصر، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. وكان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - قد جهّز إلي من طرابلس ثوب صوف أزرق مربّعاً في غاية الحسن قرين كتاب منه. فكتبتُ أنا الجواب إليه أشكر إحسانه وهو: يقبّل الأرض، وينهي ورود المرسوم الكريم أعلاه تعالى، فوقف المملوك له قائماً، وقبّل شفة عنوانه اللعساء لاثماً، وتوهم أن هذا طيف خيال من فرحه وأنه كان حالماً، ووضعه على رأسه وعينيه، وفضّه فقبّل الأرض وكرر ذلك، كأن مولانا - أعزه الله تعالى - حاضر والمملوك بين يديه، ورآه متوّجاً بالاسم الكريم فعلم أن طالعه مسعود، وفاح أرجه فقال: هذا إما لطخ عنبر أو مس عود، ونزّه ناظره في تلك الحديقة التي تجدولت بالسطور وتطوّلت ببياض طرسها وسواد نقشها فقصر عنها كافور النهار ومسكُ الديجور، وعلم أن كاتبها حرسه الله تعالى قد تأني فيها وتأنق، ودبّجها بأنواع المنثور فقابل المملوك ما فيها من الجبر والصدقة بدعاء يرفعه، والملائكة بين سُرادق العرش تضعه، والله الكريم لعلمه بإخلاصه يستجيبُ له لما يسمعه، فإن المملوك ما توهّم أن العبد يرعى له المولى حقوقه، ولا أن المملوك يجري بين أيديهم ذكر السوقة، ووصل ما تصدق به مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره من الصوف الأزرق المربّع: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 فيا فخري به لما أتاني ... ويا شرفي به بين الصفوفِ فزُرقته تُحاكي لازَورداً ... على لون السّما والبحر توفي ولم أرَ قبله ثوباً رفيعاً ... غدا دِرعاً أردّ به حُتوفي يقول مساجل الأثواب فخراً ... لقد أعيا الحريري وصفُ صوفي يا له من مربّع يودّ المملوك لو وصفه بألف مخمّس، وذي لون أزرق يحسُن أن يكون سماءً تتبرّج فيها " الجواري الكُنّس "، ما أحسن لونه الأزرق لأن البدر أهداه، وما أحكم نسجه فإن صانعه أتقن ما ألحمه فيه وسدّاه، وما أثقله من سحابه فإن الغمائم تخجل من أيادي من أسداه. كم نال المملوك به من مسرة بخلاف ما يزعمه المنجمون في التربيع، وكم استجلى من لونه الأزرق سوسناً فكأن الزمان به زمان الربيع، وتعجّب له من مربّع يُحكمه أهل التثليث ويطيبُ الثناء على صانعه وأصله خبيث، ونشره المملوك من طيّه فرآه بحراً وجندرته أمواجه، وقال: هذا خليج جاء من بحر لا ينحرف عن الجود معاده ومعاجُه، فكل أمره عجيب، وكل ما فيه غريب، حتى إنه في غاية اللين وإن كان يصنعه عُبّاد الصليب. وقد غفر المملوك به من ذنوب الدهر ما مضى وما بقي، وجعل تاريخ قدومه عيداً وما ينكر تاريخ المسعودي ولا الأرزقي، والله يوزع المملوك شكر هذه الصدقات التي عمّ سحابها وأغرق، وروى جودها عن نافع بن الأزرق، فقد نوّهت بقدره، ونوعت له أسباب جبره، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 ويُديم الله أيام مولانا ملك الأمراء لمماليك أبوابه وغلمانه، ويغفر بإحسانها لهم ذنوب زمانهم، فإنهم من ظلّه الوارف في أمانه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. مسعود بن سعيد ابن يحيى، سعد الدين المصري الجيزي المعروف بابن الحماميّة. كان صوفياً أديباً، سمع من الحافظ العطار، وكان شيخاً حسناً، حسن المحاورة يكتب خطاً حسناً. وكان واسع الصدر، كثير الاحتمال، صحبَ بيدرا مملوك الأشرف، وكانت له صورة في أيامه، وكان مع ذلك متواضعاً، دخل عليه يوماً ولده، فأساء عليه الأدب وسبّه وشتمه شتماً قبيحاً، فلما فرغ قال له: ما نصطلح؟ وكتب له ورقة بأربعين درهماً. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومولده تخميناً سنة تسع وثلاثين وست مئة. وكانت وفاته بالجيزة. أنشدني من لفظه شيخنا أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه: علام أُلامُ في حلو الشمائل ... ويعذُبُ في الهوى عذلُ العواذِلْ غزالٌ هِمتُ من غزلي عليه ... إذا وافى بجفنَيْهِ يُغازِل له وجهُ الغزالةِ حين تبدو ... ضُحىً من فوق غصنِ البان مائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 نبيّ جمالِ حُسن كم أقامت ... له الألحاظُ فينا من دلائل مسعود بن أبي الفضائل علم الدين المعروف بابن حشيش الكاتب. نقل طرائق خاله معين الدين هبة الله بن حشيش وزير المعظم بن الصالح أيوب وكاتبه. وكان قد رتّبه كاتب الوزارة بدمشق مدة، ثم اجتذبه الأشرف موسى صاحب حمص وحظي عنده، وله فيه أبيات: والله لولا الأشرف السلطانُ عنترة الجيوش ما كان ابن حشيش بين الناس إلا كالحشيش ولما توفي الأشرف صاحب حمص استمر علم الدين مسعود كاتب درج النواب بمعلوم من ديوان السلطان، ثم نقل الى كتابة الدرج بدمشق. أقام مدة ثم إنه توفي سنة ست وتسعين وست مئة بدمشق، وسيأتي ذكر ولده القاضي معين الدين هبة الله بن حشيش. مسعود بن قراسنقر الأمير سعد الدين بن الجاشنكير، أخو الأمير سيف الدين قطلوبك، وقد تقدم ذكره. كان قد ولي الحجوبية بدمشق مدة، ثم إنه تولى القدس مدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 ومات - رحمه الله تعالى - بدمشق ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونقل بعد ست ليال الى القدس ودفن هناك في تربةٍ كان عمّرها له. مسعود بن محمد بن محمد الإمام الفاضل قوام الدين ابن الشيخ برهان الدين ابن الشيخ الإمام شرف الدين الكرماني الحنفي. قدِم دمشق في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، ونزل الخاتونية بالقصّاعين، وحضر عنده الجماعة، ودخل الى تنكز، وتردد إليه الطلبة، وكان يعرف الفقه والأصول العربية، وكان عنده بحث ونظر وجدال، ولوالده وجدّه مصنّفات في العلوم. الألقاب والأنساب ابن المشهدي محمد بن عمر. ابن مصدّق الحسين بن عليّ. ابن مُصعب نور الدين أحمد بن إبراهيم. المطروحي الأمير جمال الدين آقوش. المطعّم عيسى بن عبد الرحمن. ابن المطهّر الشيخ جمال الدين الحسين بن يوسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 ابن معبد الأمير علاء الدين علي بن محمود. وأخوه الأمير بدر الدين محمد بن محمود. المظفر بن محمد ابن جعفر الصّدر الكبير الأمير فخر الدين بن الطّرّاح، قد تقدّم ذكر أخيه قوام الدين الحسن بن محمد في مكانه من حرف الحاء. كان عارفاً بتحصيل الأموال وعمارة الأرضين. ولي نيابة واسط والحلة والكوفة مدة طويلة، وكان كريماً شجاعاً فاضلاً ينظم وينثر، وله خبرة تامة بمباشرة الديوان. ولم يزل على ذلك الى أن قُتل ببغداد، وكان عليه ديوان أكثر من مئة ألف درهم، وصودر أهله وأقاربه وأتباعه، وكان يكاتب السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، وقد مرّ طرف من ذكره في ترجمة أخيه قوام الدين. مظفر بن عبد الله ابن مظفر بن قرناص الشيخ فتح الدين أبو الفتح بن بدر الدين بن قرناص الخزاعي الحموي. سمع بدمشق من ابن أبي اليسر سنة سبعين وست مئة. وحدّث عنه، وسمع منه ابن طويل وجماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 وكان من أعيان بلده وعدولها، وله نظم. وولي نظر المعرّة، ونظر الجامع بحماة، وله مُلك يقوم بأمره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف المحرّم سنة ثلاثين وسبع مئة بحماة. الألقاب والأنساب ابن المعلم رشيد الدين الحنفي إسماعيل بن عثمان. وفخر الدين محمب بن محمد. وشمس الدين محمد بن يحيى. وتقي الدين يوسف بن إسماعيل. ابن معضاد محمد بن ابراهيم. ابن المغازي ضياء الدين عيسى بن أبي محمد. مغلطاي الأمير علاء الدين الناصري الجمالي، المعروف أولاً بمغلطاي خُرُزْ، بضم الخاء المعجمة والراء وبعدها زاي. كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد، أمير مئة مقدم ألف. ولاه السلطان الوزارة بعد الصاحب أمين الدين في رابع عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، كان أستاذدار وأمير منزل، وتولى الوزارة مضافة الى ذلك، ولم يجتمع ذلك قبله لغيره. وكان خيّراً كريماً عديم الشر حليماً، لا يستكثر شيئاً على أحد، ولا يظلم مَن اعترف ولا جحد، وعمّر داراً ومدرسة وتربة على التقوى إن شاء الله مؤسسة، وذلك بدرب الملوخية داخل القاهرة. إلا أنه في الآخر تزلزلت عند السلطان مكانته، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 وخانته إعانته فمرض وتعلل وظمئ الى العافية وما تبلل، وكلّ حدّ سعده وتغلل، وتردى حلة الإدبار وتجلل، وتوجه الى الحجاز، وانتقلت حقيقة حياته الى المجاز. وتوفي - رحمه الله تعالى - عائداً بعقبة إيلات سنة ثلاثين وسبع مئة، ولم يزل على الوزارة الى أن مات رحمه الله تعالى. وكان أستاذ داره سيف الدين مازان وخزنداره سيف الدين طُراي هما المتحدثان في القطع والوصل والاستخدام والانفصال، ولما ولي الوزارة طلب الصاحب شمس الدين غبريال من دمشق الى مصر وجعله ناظر الدولة معه، فأقام معه الى أن سعى في عوده الى الشام بعد سنتين، وكان إذا توقف الأمير سيف الدين أرغون النائب في العلامة على توقيع براتب أو بإقطاع أو بشيء من غير ذلك، يقول الوزير: لأي شيء ما كتبت عليه؟ فيقال له: يا خوند، أستكثر ذلك على صاحبه، فيقول: هو ما هو كثير عليه، إقطاعه تعمل في السنة ألف ألف درهم، ويعلّم هو على التوقيع. وكان قد حضر الى دمشق متوجهاً لكشف القلاع الحلبية في شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة. مغلطاي الأمير علاء الدين البيسري، أحد أمراء دمشق. كان أميراً جيداً، وله معرفة بالطيور وأمراضها. ودفن بالجبل، وصلى عليه نائب السلطة الأفرم بسوق الخيل، وكانت وفاته في ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 مغلطاي الأمير علاء الدين بن أمير مجلس. حضر الى دمشق من القاهرة، وكان في دمشق أمير مئة مقدم ألف، وكان الأمير سيف الدين يحبه ويكرمه. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون. مغلطاي الأمير علاء الدين الخازن النائب بقلعة دمشق. توفي بها في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربته بسفح قاسيون. وكان رجلاً جيداً محباً للخير، وله برّ ووقف، وخلّف تركةً جيدة. مغلطاي بن قليج ابن عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ القدوة علاء الدين البكجري - بالباء ثانية الحروف وبعد الكاف جيم وراء وياء النسبة - الحنفي مدرّس الحديث بالظاهرية بين القصرين بالقاهرة. شيخ حديث، يعرف القديم والحديث، ويطول في معرفة الأسماء الى السماء بفرع أثيث، وينتقي بمعرفته الطيب من الخبيث، ولي الظاهرية شيخاً للحديث بها بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 شيخنا العلامة فتح الدين بن سيد الناس، وعبث المصريون به لأجل ذلك، ونظموا الأشعار والأزجال والبلاليق والأكياس، ونفضوا ما عندهم في ذلك ولم يغادروا بقايا نفقات ولا فضلات أكياس. وكان كثير السكون، والميل الى الموادعة والركون، جمع مجاميع حسنة، وألّف تواليف أتعب فيها أنامله، وكدّ أجفانه الوسنة. ولم يزل على حاله الى أن ابتلعته المقابر، واستوحشت له الأقلام والمحابر. وجاء الخبر الى دمشق بوفاته في سلخ شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ومولده بعد التسعين وست مئة. كان يلازم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وانتفع بصحبته كثيراً، فلما مات الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، تكلم القاضي له مع السلطان، فولاه تدريس الحديث بالظاهرية مكانه، وقام الناس وقعدوا لأجل ذلك، ولم يبال بهم. ولما كان في سنة خمس وأربعين وسبع مئة وقف له الشيخ صلاح الدين العلائي رحمه الله تعالى على تصنيف له وضعه في العشق، وكأنه تعرّض فيه لذكر عائشة الصدّيقة رضي الله عنها، فقام في أمره وكفّره، واعتقل أياماً، فقام في حقه الأمير بدر الدين جنكلي بن الباب وخلّصه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 وكان قد حفظ الفصيح لثعلب، وكفاية المتحفظ، وسمع من علي بن عمر الوالي، ويوسف بن عمر الختني، ويوسف الدبابيسي، وغيرهم، ووضع شيئاً في المؤتلف والمختلف، وعمل سيرة مختصرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ النسائي بنفسه، ودرّس بجامع القلعة بالقاهرة بواسطة قاضي القضاة جلال الدين. وكان ساكناً جامد الحركة يلازم المطالعة والكتاب والدأب، وعنده كُتب كثيرة وأصول صحيحة. كتب إلي من القاهرة وأنا بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة: سلام كما ازدانت بروض أزاهرُ ... وذكرٌ كما نامت عيونٌ سواهرُ تحية من شطت به عنك داره ... وأنت له عينٌ وسمعٌ وناظرُ فيا سيد السادات غير مدافع ... ويا واحد الدنيا ولا من يفاخر لك الشرف الأسمى الذي لاح وجهه ... كما لاح وجه الصبح والصبح سافر لئن سهرت في المكرمات أوائل ... لقد شرفت بالمأثرات أواخر سجايا استوت منهن فيك بواطنٌ ... أقامت عليهن الدليل ظواهر يقبّل الأرض عبدٌ كتب هذه الخدمة عن ودّ لا أقول كصفو الراح، فإن فيها جُناحا ولا كسقط الزند، فربما كان شحاحاً، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوا من قمر التمام، مستوحش من خدمتكم كثيراً، ومعلن بالثناء وإن كان المملوك حقيراً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 ومستعرض خدمتكم وحاجتكم ليحصل له الشرف بمناجاتكم، ويتطلب منكم الدعاء بظهر الغيب، فإنه متقبل ولاسيما منكم بلا ريب. والمملوك أجلّ خدمتكم أن يكتب إليكم لما يقدحه خاطره، ويسفره ناظره، لكون باعه قصيراً في هذا العلم وغيره، وجبركم أوجب هذا الإدلال. فكتبت أنا الجواب إليه في ورق أحمر وهو: سطورٌ تبدّت أم رياض نواضرُ ... تحار لها مما حوته النواظرُ أتينا فخلناها أزاهر روضةٍ ... وما هي إلا في السماء زواهر وما شاهدت عيني سواها رسالةً ... يغازلني منها حسانٌ سواحر يحقق ما فيها من الحسن باطناً ... لأهل المعالي زخرفٌ وهو ظاهر صناعة من تمسي البلاغة فوق ما ... يحاوله من نظمه وهو قادر وما كل من عانى الترسّل ناثرٌ ... ولا كل من يعزى له النظم شاعر أيا حافظاً قد ضاع عرْفُ حديثه ... وما ضاع بل قد أحرزته الدفاتر تفضّلت بدأً بالتحية عالماً ... بأني عن غايات فضلك قاصر وباعك قد أمسى مديداً على العلا ... وبحركَ في النّظم المنقّح وافر إذا افتقر المنشي الى بعض فقرةٍ ... فعندك من حُرّ الكلام ذخائر وما شئت إلا أن فضلك بعدما ... ترحلت يرويه عطاءٌ وجابر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 فلا تلزمني بالجواب وبالجوى ... لبعدك يكفيني الحنين المسامر وشوقي الى ما فاتني من فضائل ... لها تقصت عندي البحور الزواخر وإني إذا ما غنّت الوُرق نادب ... وإني إذا نام الخليّون ساهر فلا زالت العلياء حاليةَ الطُّلى ... بألفاظك الحسنى فهنّ جواهر يقبّل الأرض التي تضع الملائكة بها الأجنحة، ويدّخر بها من بركات الدعاء نفائس الأسلحة، تقبيل من عدم أنسه، وفقد من السرور فصله ونوعه وجنسه، وعلم أن بهجته من الزمن كانت عارية فاستردّها، وكذلك العواري. وتبيّن أن الفراق جعل القلب مملوك الجوى والعبرات جواري، وتحقق أن الدهر ناقد فأعدم كل مسلم للنوى شرط البخاري. وكنا كما نهوى فيا دهرُ قُلْ لنا ... أفي الوَسعِ يوماً أن نعود كما كنّا على أن المملوك يصبّر نفسه على فراق مولانا ويتجلد، ويعلل قلبه باجتماع الشمل فإنه ألِف العَود وتعوّد، ويحمل الأمر في هذا البين على الظاهر ولا يتأوّل، ويتمسّك في بُعده بما قاله الأول: أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طولَ الزمان تعلّقي لئن غاب عن عيني بديعُ جمالكم ... وحار على الأبدان حكمُ التفرّق فما ضرّنا بُعدُ المسافة بيننا ... سرائرُنا تسري إليكم فنلتقي وينهي ورود المشرفة الشريفة، لا بل كنز الفصاحة التي لو أنفق البليغ مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّها ولا نصيفه، بل كعبة الحسن التي لا تزال الألباب بها طائفة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 والعيون مطيفة، لا بل الغادة الحسناء التي تقرر بها الاستحسان في مذهب أبي حنيفة، فوجد مقام الجواب عنها ضنكاً، ووقف لها واستوقف وبكى واستبكى وقال: لك الفضل سبّاقاً به كلَّ غايةٍ ... وما لك فيه من شبيهٍ ولا مثلِ وقد كنتُ مسعوداً لو أني سابق ... بكبْتي عن شوقي ولكن بكت قبلي وقد شجع المملوك نفسه وأرسل الجواب في هذا الورق الأحمر لأمر يرجو فيه خيراً، ولأن الحمرة دليل الخجل إذا نشرت بين يدي مولانا الذي حمد البيان عند صباحه سُرىً وسيراً، ولأنها متى أوردت حديث بديع قال لها حفظ مولانا ونقده: لا يصح حديث جاء فيه ذكر الحُميرا، ولمولانا علوّ الرأي في الإتحاف بهذه الفوائد، والمحاسن التي لا تزال غصون رياضها للمتطفلين على الآداب موائد، والله تعالى يخرق ببقاء مولانا العوائد بمنّه وكرمه. مغلطاي الأمير علاء الدين المرتيني، بفتح الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وياء آخر الحروف، ونون. ولي نيابة قلعة دمشق مرات، وولي الحجوبية بدمشق أيضاً وغير ذلك. وتوفي بقلعة دمشق نائباً في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 دمشق، وكان قد جاء الخبر بوفاة ابن له بالقاهرة بأيام قلائل، فمات رحمه الله تعالى عقيب ذلك. وكان قد ولي قلعة دمشق في وقت جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وذلك بعد الأمير سيف الدين بنغجار. مغلطاي الأمير علاء الدين أمير آخور السلطان الملك الناصر حسن. كان شديد الباس قويّ النفس في دفع الإلباس، لا يصبر على ذلة، ولا يصاحب إلا العزمة المشمعلة، كثير الحسد، لا يرحم عدوّه ولو كان بين ماضغي أسد. وكان يتنفس الصعداء في حق الدولة، ويظن أنه فارس الجو وصاحب الجولة، ويرى أنه أحق بها منهم وأجدر، وأنه أولى بذلك وأقدر، فمازال يعمل على إبعاد من كرهه منهم، وذهاب الحكم في الأمر والنهي عنهم، وساعدته الأقدار على مراده، وحكم فيهم بيض سيوفه وسمر صعاده، وزاد في التشفي وإظهار حقوده، وتلظّت نار غضبه بوقوده: حتى لو ارتشق الحديد أذابه ... بالوقد من أنفاسه الصعداء ثم إن مدة حكمه ما امتدت، وشدة جبروته ما اشتدت، فكبا جواد سعده في وسط ميدانه، وخرّ بناؤه المشمخر بعد علوّ أركانه، فانقلبت الدولة عليه كما قلبها، وجُلبت البلية إليه كما جلبها، ونزل من الثريا الى الثرى، وكان أمام الملوك فأصبح وراء السوقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 من الورى، وانحط منهبطاً الى سيدوك، وقال له القدر: هذا القدر الذي لا يعدوك: فيا لها من محنة عاجلت ... قريبةُ العرس من المأتم ثم إنه أُفرج عنه من اعتقاله، وحكم الدهر له بانتقاله، فما فرح بالفضاء حتى عثر بالقضاء، وناح عليه حمام حَمامه، وبكاه الغيث بأجفان غمامه. وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى عاشر شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة. كان يشاقق الأمير سيف الدين منجك الوزير، ويسمعه الكلام الفجّ في كل وقت، وكان الوزير يتقيه، فلما توجه الأمير بيبغاروس الى الحجاز، عمل مغلطاي على إمساك الوزير، لأنه انفرد به، وقلب ذلك الحزب وأباده، وسيّر الى الطريق وأمسك النائب بيبغا، وهو أخو الوزير، وتفرّد بتدبير الحال، وطلع من الإصطبل وصار رأس نوبة، وسكن الأشرفية. وكان قد تزوج بابنة الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام، وأخرج الأمير سيف الدين شيخو الى الشام على أنه يتوجه الى طرابلس، ثم إنه سيّر الى دمشق فأمسكه، وجهّزه الى الاسكندرية، وأخرج الأمير علاء الدين علي المارداني الى دمشق، وأخرج غيره، وأراد إمساك أحمد الساقي نائب صفد، فجرى ما ذكرته في ترجمته، واستوحش الأمير سيف الدين أرغون الكاملي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 نائب حلب، فعمل على إمساكه، وتخبّط أمر الشام ومن فيه، وتعب الناس به، وصاروا منه في أمر مريج، وزاد في الإقدام على القبض والنقل، وإخراج الأمراء من الديار المصرية. ولم يزل شرّه يتفاقم، وضرره يتعاظم، الى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن في يوم الإثنين ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك بعد ركوبهم الى قبة النصر، وأجلسوا السلطان الملك الصالح صالحاً على الكرسي، ثم إن السلطان أمسكه في رابع يوم من مُلكه، وهو ثاني شهر رجب الفرد، وأمسك معه جماعة، منهم الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، وجُهّزوا الى الاسكندرية، وفي مغلطاي يقول القائل: سلطاننا في مغلطا ... ي أطاع أمرَ الخالقِ وشفى القلوب بحبسه ... وأذلّ كلَّ منافقِ وخبيصةَ البحر اغتدى ... وخراه منه نقانقي ولم يزل مغلطاي معتَقلاً الى أن أفرج السلطان الملك الصالح عنه وعن الوزير منجك، فوصل الأمير علاء الدين مغلطاي الى دمشق في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة متوجهاً الى طرابلس ليكون بها مقيماً بطّالاً، وأقام بها قليلاً، فحصل له ضعفٌ وتعلّل، فسأل من السلطان أن يحضر الى دمشق ليتداوى بها ويقيم يها، فرسم له بذلك، فحضر الى دمشق وأقام بها أياماً قلائل، وهو في مرضه الى أن مات في تاريخه المذكور، رحمه الله تعالى. وكانت مدة حكمه ثمانية أشهر ويومين، لأنه أمسك الوزير منجك في رابع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وأمسك هو في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك ثمانية أشهر، لا بل ثمانية أيام حسوماً. وقلت أنا في أمره لما أُمسك: مَغالطُ مغلطاي مشتْ قليلاً ... وروّجها الزمان له فراجتْ وعاجتْ عن قليلٍ واضمحلّت ... وما جاءت بخير حين ماجت اللقب والنسب ابن المغيث إسماعيل بن عبد العزيز. ابن مكتوم تاج الدين أحمد بن عبد القادر. ابن المكرّم أبو بكر بن محمد. وجمال الدين محمد بن مكرّم. ابن مكي محمد بن محمد. وأخوه أحمد. المقصّاتي المقرئ أبو بكر بن عمر. المقدسي بهاء الدين إبراهيم بن عبد الرحمن. المقريزي محي الدين عبد القادر بن محمد. المقاتلي فخر الدين عثمان بن بلبان. ابن مقاتل الزجّال علي بن مقاتل. ابن مقلّد حاجب العرب علي بن مقلّد. بني المُغَيزل جماعة: منهم زين الدين أحمد بن محمد، وفخر الدين عبد الله بن أحمد، وبهاء الدين عبد الصمد بن عبد اللطيف، وفخر الدين محمد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 عبد الكريم، وصلاح الدين يوسف بن محمد، وناصر الدين عبد الرحمن بن أحمد. ملك آص الأمير سيف الدين. كان أولاً بالديار المصرية جاشنكيراً، وقدم الى دمشق، ولم يزل على حاله، وباشر شدّ الدواوين بدمشق. ثم إنه سأل الإعفاء، فأجيب الى ذلك، وباشر عمارة التربة التي لأرغون شاه تحت قلعة دمشق. وكان قبل ذلك كله قد باشر نيابة جعبر، وجرت له واقعة مع العرب، ونجّاه الله منها، ثم إنه عاد الى دمشق. ولما أمسك السلطان الملك الناصر حسن الوزير منجك، أمر بإمساك الأمير سيف الدين ملك آص والأمير شهاب الدين بن صبح، لأنهما اتّهما بميلهما الى الوزير، فأمسكا بدمشق في يوم الخميس عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، واعتُقلا في قلعة دمشق. ولما كان في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أفرج عنهما، فأعيدا الى طبلخاناه بعد ذلك، فأقام الأمير سيف الدين ملك آص على حاله. ولما حضر بيبغاروس الى دمشق انتمى إليه ملك آص، وبقي في خدمته، وندبه في أشغال ومهمات، فلما وصل السلطان الملك الصالح صالح الى دمشق أمر بإمساك جماعة، منهم الأمير ساطلمش الجلالي، والأمير زين الدين مصطفى البيري، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 والأمير علاء الدين علي بن البشمقدار، والأمير سيف الدين ملك آص، والأمير حسام الدين حسام مملوك أرغون شاه، وذلك في يوم الأربعاء خامس شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وتوجهوا بهم الى الإسكندرية واعتُقلوا بها جميعاً. ولم يزالوا بها. ولما كان في يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وخمسين وسبع مئة وصل الى دمشق الأمير سيف الدين ملك آص والأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي ومن كان معهما في الحبس، وقد أفرِج عنهم ورُسم لهم بالإقامة في دمشق بطّالين. ولم يزل ملك آص في دمشق بطّالاً الى أن كتب له الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب الشام وسأل من السلطان أن يرتّب له على الأموال الديوانية مرتّب، فرسم له بذلك، ورتّب مقدار شهرين. ثم إنه توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ودُفن رحمه الله تعالى في تربته المليحة المجاورة لداره بجوار جامع يلبغا في سوق الخيل. ملِكْتَمُر الأمير سيف الدين الحجازي الناصري، أحد المقدّمين أمراء الألوف، أصهار السلطان الملك الناصر محمد، أظنه تزوّج بابنة السلطان التي كانت أولاً مع الأمير سيف الدين طغاي تمُر الناصري. كان في حركاته أشبه شيء بالقضيب إذا ماس، وهبّ به نسيم السحر بارد الأنفاس، ووجهه كالبدر إذا بدا، والشمس إذا رام الحائر بها الهدى، إذا التفت فلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 تلتفت الى الغزال النافر، ولا تحتج مع جبينه الى الصبّاح السافر، مع جود من أين للغمام كرمُه إذا سفح، أو البحر نواله إذا طفح، وخلق كأنه نسيم ورْد هبّ في سحره، وجرّ ذيله المبلول على زهره، فهو كما قال أبو تمام في وليده وتغزّل به في قصيده: مليٌّ بأن يسترقّ القلو ... بَ على هزله وعلى جدّه وأن يوجد السّحر في طرفه ... وأن يُجتنى الوردُ من خدّه يشفّ القلوب وإن أكذبَ ... الظنون وأخلفَ في وعده بما أشبه البدرَ من حُسنه ... وما شاكل الغصنَ من قدّه وألسنةُ الحمد مجموعةٌ ... على شكره وعلى حمده وجرتْ له بعد أستاذه الناصر أمور، وكُسف بدره وسط الديجور، وغرُب نجماً، ثم بزغ في سماء السعادة قمراً تمّا. ولم يزل بعد ذلك في مدارج صعود، ومطالع سعود، الى أن غُصّ من بريق السيف بريق، وأمسكه الأجَل في المشيق. وكانت قتلته في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. ولم يكن عند أستاذه الناصر أحدٌ في منزلته ولا مَن يُدانيه في علوّ مرتبته. قال لي القاضي شرف الدين النشّو: لو أن هذا الحجازي يلازم خدمة السلطان ويواظبها أخذ منه شيئاً كثيراً الى الغاية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 وقال لي الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي: اجتمعتُ به فرأيت على ذهنه مسائل فقهية يسأل عنها، وذهنه جيّد. وقال لي كاتبه مجد الدين رزق الله: إنه يلعب بجميع الملاهي، بالعود والدفّ وغير ذلك. وحكى لي أنه يصفُّ له ثلاثة أرؤس خيلاً وأن هيهمز نفسه فيعدّيها في الهواء الى الأرض من ذلك الجانب من غير أن يضع يده على شيء منها. ولقد رأيته وهو في القاهرة وفي صلاة الجمعة مع السلطان بجامع قلعة الجبل، وما يكاد يستقرّ على الأرض لا قائماً ولا قاعداً، لا يزال في حركة يتموج وينعطف كالغصن، وكان من محبة السلطان فيه ما يدعه ينزل يوم السبت الى الميدان للعب بالكرة، بل يدعه ينزل يوم الثلاثاء ويلعب بالكرة هو وخاصيّته من الجمداريّة الذين يألف بهم ويميل إليهم من مماليك السلطان، وكان يقول له: يا ملكتمر لما تلعب تبرقَع حتى لا تؤثّر الشمس في وجهك، ولا يدعه يحضر الخدمة إلا في بعض الأوقات القليلة حتى لا يراه أحد. وكان الحجازي في جملة من أمسكهم قوصون وحبسهم في واقعة المنصور أبي بكر، ولما حضر الناصر أحمد من الكرك أخرجه م الحبس، وقتل قوصون، وأبان في واقعة الكامل عن فروسية ورُجلة، على ما تقدّم في ترجمة الأمير شمس الدين آق سنقر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 وكان الحجازي أحد من قام بدولة الملك المظفّر حاجّي، ولم يزل في غاية العظمة والوجاهة الى أن تنكّر له الملك المظفر بسبب لعب الكرة وتحزّبهم، وكأنه أضمر الغدر، فجاء أحد من اتفق معه الى السلطان وعرّفه أنهم قد عزموا يوم الإثنين عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين على الركوب الى قبة النصر ليفعلوا كما فعلوا بالملك الكامل، فطلبه السلطان الملك المظفّر عشية الأحد العصر، وأمسكه أمسك الأمراء الستة المذكورين في ترجمة آقسُنقر، ويقال إن الأمير سيف الدين منجك وغيره من الخاصكية ضربوه بالسيوف وبضّعوه، فقال الأمير شمس الدين آقسنقر وقد أمسكوه أيضاً: هذا المسكين ما هو مسلم؟ فضربوه بالسيوف وقطّعوه. وكان الأمير سيف الدين ملكتمر شاباً طويلاً حسن الوجه، خفيف الحركة، زائد الكرم، قلّ من يحضر بين يديه ويخرج بغير خلعة ولا إنعام سواء كان ربّ سيفٍ أو قلم أو ربّ صناعة. وحكى لي بعض الفقهاء أنه وهبه مرة ألف دينار ولم يجتمع به إلا مرة واحدة. وكان أخيراً قد لفّ عليه أولاد الأمراء يركبون معه وينزلون في خدمته ويأكلون على سماطه ويأخذون إنعاماته وإطلاقاته، ولهذا أُمسك معه جماعة منهم واعتُقلوا، وكان السبب في إمساكه وإمساك غيره، شجاع الدين أغرلو المقدّم ذكره. وقلت أنا فيه رحمه الله تعالى: بغا أغرلو على الحجازي ... وكان للمُلك كالطراز مضى شهيداً وعاش هذا ... يرتع في اللؤم والمغازي فمصرُ والشام في التها ... ب البرق اليماني على الحجازي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 ملكتَمُر الأمير سيف الدين السعيدي. أظنه الذي جهّزه القان بوسعيد الى الملك الناصر محمد بن قلاوون هو والأمير سيف الدين أرغون شاه، وحضر في وقت الى الشام وأقام به ثم طُلب الى مصر وأقام بها الى أن أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش، فرسم السلطان الملك الناصر حسن بإخراجه الى قلعة المسلمين. فخرج وهو مريضٌ، فلما وصل الى حماة توفّي الى رحمة الله تعالى في العشر الأول من ذي القعدة سنة تسع وخمسين وسبع مئة. ملكتمر الأمير سيف الدين المعروف بالدم الأسود. كان أمير ستين فارساً بدمشق، وسكن بالعقيبة عند حمام الجلال. توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. اللقب والنسب ابن الملاق محمد بن علي. ابن ملّي الشيخ نجم الدين أحمد بن محسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 المنجّا بن عثمان ابن سعد بن المنجا بن بركات بن المؤمّل، العالم العلامة المفتي زين الدين أبو البركات ابن الصدر عز الدين ابن الإمام الكبير الأوحد العلامة وجيه الدين التنوخي المعري الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي. حضر على جعفر الهمداني، وابن المقيّر، وسالم بن صصرى، وسمع من السخاوي، والتاج القرطبي، والرشيد بن مسلمة، وتفقّه على أصحاب جدّه، وعلى أصحاب الشيخ الموفّق، وقرأ الأصول على كمال الدين التفليسي وغيره، وبرع في المذهب. وتفقّه عليه ابن الفخر، وابن أبي الفتح، وابن تيمية، وجماعة من الأئمة. وشرح كتاب المقنع في الفقه شرحاً جيّداً في أربع مجلّدات، وفسّر الكتاب العزيز ولكنه لم يبيّضْهُ، وألقاه كلَّه دروساً، وشرع في شرح المحصول ولم يكمله واختصر نصفه. وكانت له في الجامع الأموي حلقة للاشتغال والفتوى نحو ثلاثين سنة متبرّعاً. وكان يصوم الخميس والإثنين، ويذكّر من حين يصلي الصبح الى أن يصلي الضحى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 وكان له مع الصلوات تطوّعٌ كثير، وفي آخر الليل تهجّد، ويفطّر الفقراء عنده في بعض الليالي وفي شهر رمضان كله. وسمع صحيح مسلم على السخاوي. وكان له مُلكٌ وثروة وحرمة وافرة، وسأل الناس الشيخ جمال الدين بن مالك أن يشرح لهم ألفيته فقال: زين الدين يشرحها لكم. وكان قد قرأ على ابن مالك وأجاز لشيخنا الذهبي جميع مرويّاته. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. اللقب والنسب المنبجي الأديب بدر الدين محمد بن عمر. ومحمد بن خلف. ابن منتاب شمس الدين محمد بن داود. منتصر بن الحسن بن منتصر الشيخ ضياء الدين الكناني العسقلاني المحتد، الأدفوي المولد والدار، خطيب أدفو. سمع من الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 المقدسي، وأبي عبد الله بن النعمان، وغيرهما. وقرأ الفقه، ثم ورد الى البلاد فقيرٌ من السعودية فصحبه وتصوّف، وعمّر رباطاً بأدفو. قال كمال الدين الأدفوي: وكان كثير المروءة، كثير المكارم والحلم، يبذل ماله ونفسه وجاهه في حوائج الناس. وكان صحيح الاعتقاد وكان كل يوم جمعة يصلي الصبح بغلس، ويخرج الى المقابر يزور ويقرأ ويدعو، لا يخلّ بذلك ولا ينقطع عن الصلوات الخمس بالجماعة إلا لضرورة. وكان يحفظ مسائل من الفقه والكلام، ويستحضر تواريخ وتراجم الناس وأنسابهم، وكان من أحسن الناس خطابةً يُشجي سامعه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقال: قرأت عليه جزءاً من الشّفاء. اللقب والنسب بنو المنجا عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا. ووجيه الدين محمد بن عثمان. وشرف الدين محمد بن المنجا. وعز الدين محمد بن أحمد ناظر الجامع. ابن المنذر فخر الدين محمد بن المنذر. منصور بن جمّاز منصور بن جمّاز بن شيخة الحسيني صاحب المدينة الشريفة النبوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 قتل رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة في رابع عشر شهر رمضان، قتله في البرية شابٌ من أقاربه. وكان قد كبر وأسنّ وشاخ، وله مدة في إمرة المدينة من حياة والده، لأن والده كان قد كبر وعجز، وكان يخطَب لهما معاً الى أن مات والده، واستقر في إمرة المدينة بعده ولده الأمير بدر الدين كُبيش. منصور بن عبد الكريم ابن أحمد الشيخ الصالح أبو أحمد السَراوي المعروف بابن العجمي وبابن الحمصي. قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان شيخاً صالحاً أقام بدمشق مدةً في بستان جوار دار الطُعم، حضرت يوماً عنده فذكر أن والده كان تاجراً من أهل تبريز، وأنه قرأ القرآن ولازم التجارة مع والده الى أن بلغ عشرين سنة، فترك ذلك وحصل له إقبال على الطاعة. وجاور وحضر واقعة حمص سنة ثمانين وست مئة، ورأى الملائكة فيها، وأنه نظم قصيدة على حرف التاء أكثر من ألفي بيت في السلوك، قال: وأنشدني بعضها، وكان اجتماعي به في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وست مئة. ثم إنه بعد ذلك انتقل الى حمص، وتولى بها مشيخة الخانقاه الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. اللقب والنسب المنصور جماعة: صاحب ماردين غازي بن قرا أرسلان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 والمنصور حسام الدين لاجين. والمنصور أبو بكر بن محمد. والمنصور الكبير والد المملوك سيف الدين قلاون. ابن منعة محمد بن أحمد. المنفلوطي شرف الدين محمد بن عبد المنعم. منكلي بُغا الأمير سيف الدين الناصري. كان سلحداراً من أكبر خاصكية السلطان الملك الناصر محمد، وكان شكلاً مليحاً طوالاً، تامّ الخَلق كبير الذقن، وكان من خوشداشية الأمير سيف الدين أرغون النائب، وهو أمير مئة مقدّم ألف، وزوّجه السلطان أخيراً بزوجته بنت بُرقطاي قريب القان أزبك، فأقامت عنده قليلاً. وتوفي عنها في سنة ثلاثين أو أوائل إحدى وثلاثين وسبع مئة. ثم تزوّجها الأمير سيف الدين موصون أخو قوصون. منكلي بغا الأمير سيف الدين الفخري الناصري. كان في جملة أمراء دمشق، ولما توجّه العساكر الى مصر في نوبة السلطان أحمد، توجه هو صحبة الفخري، وأقام في القاهرة، ثم جعل أمير جاندار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 وكان حسن الشكل بسّاماً، فيه خيرٌ ومروءة وتعصّب لمن يخدمه. ولم يزل على ذلك الى أن رُسم له في أيام المظفّر حاجي بنيابة طرابلس، فحضر إليها على البريد ووصل الى دمشق في ثاني عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر معه الأمير شجاع الدين أغرلو، ليقرّه في النيابة ويعود، فأقام بها نائباً الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبغا ما جرى من هروبه وإمساكه، على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فطلب منكلي بغا الفخري الى مصر، وجاء في طلبه الأمير سيف الدين طشبغا الجمدار، ووصل الى دمشق وتوجّه منها الى القاهرة في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأقام بمصر، من أكبر أمراء المشور، وزادت عظمته لما أمسِك الأمير سيف الدين منجك الوزير، لأنه هو الذي عضد الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور على إمساك الوزير. ولم يزل في زيادة عظمة الى أن خُلع الملك الناصر حسن وتولى الملك الصالح صالح، فأُمسك منكلي بغا المذكور في ثاني شهر رجب من السنة المذكورة. ولم يزل في الاعتقال بالإسكندرية الى أن وصل الخبرُ الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ووجدَت له أموال عظيمة. منكلي بغا الأمير سيف الدين. أنشأه الملك الصالح إسماعيل، وصار من أكبر الخاصكية، وحضر من مصر ليتوجّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 بالأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير في أيام الملك المظفّر حاجي ليرتّبه في نيابة طرابلس ويعود، وأحضره من غزة وتوجه به الى طرابلس وأقرّه فيها وعاد الى دمشق فأقام بدمشق مدة ثلاثة أيام. وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. منكبرس الأمير الكبير ركن الدين أبو سعيد الجمالي التركي الساقي، وأحد غلمان الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي. كان بطلاً شجاعاً مهيباً من أمراء الدولة المنصورية والأشرفية، ولي نيابة غزة في دولة المنصور لاجين. سمع منه شيخنا الذهبي بحضرة ابن الظاهري، وشهد الوقعة، فجاءته ضربة في وجهه، فصرخ في أصحابه وحمل بهم في التتار، فجاءه سهمٌ واشتغل عنه أصحابه، ثم عادوا إليه فوجدوه مستنداً الى رمحه، فلما سقط عجزوا عن دفنه. وكانت قتلته في سنة تسع وتسعين وست مئة. منكوتمر الأمير سيف الدين مملوك السلطان حسام الدين لاجين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 كان عند مخدومه جزءاً لا يتجزّا، ولدناً صلبت قناته وإن لام مهَزّا، لا يخرج عما يراه، ولا يضرب به جبلاً إلا قطعه وفراه، قد حكم عليه وملكه، وأدار عليه فلكه، وهو لا يرى خلافَه، ولا يرشف إلا سُلافه، فكان عنده: نافذ الأمر لو يجير من النق ... ص بدور الدّجي لدام التّمام فسلك في النيابة ما لا يجب، وترك كل أمير من الأكابر وقلبه من الخوف يجب، وجسّر أستاذه على إمساك جماعة، وهوّن عليه أمانيّه وأطماعه، فتغلّثت الخواطر من الأمراء الأكابر، وتوحّشوا بعد الأنس وأيقنوا أن السجون لهم مقابر. فقتلوا السلطان، كما مرّ في ترجمته، وجرّوا هذا ملكتمر على حزّ رقبته، على ما تقدّم في ترجمة لاجين، وذلك سنة ثمان وتسعين وست مئة. وبنى المدرسة التي داخل القاهرة، ودرّس بها في شوال سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان قد ولي كفالة الممالك بالقاهرة بعد إمساك قراسُنقر وجماعته في منتصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة. الألقاب والأنساب ابن مُنيّر فخر الدين عبد الواحد بن منصور. ابن مهاجر الشاعر أحمد بن عبد الله. ابن المهتار مجد الدين أحمد بن محمد. ومجد الدين عليّ بن يوسف. وناصر الدين محمد بن يوسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 ال مهدي كان قد خرج بعض الزنادقة من مدينة حماة وتوجّه الى بلاد النُصيرية ودخل بلد جبلة، وورد الى دمشق محضرٌ من طرابلس، مضمونه أنه لما كان يوم الجمعة ثاني عشري ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة بعد صلاة الجمعة حضرت النصيرية الكفرة الفجرة الى مدينة جبلة، وعُدّتهم أكثر من ثلاثة آلاف، يقدمهم شخص تارة يدّعي أنه محمد بن الحسن ال مهدي القائم بأمر الله تعالى، وتارة يدّعي أنه علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله، وأن البلاد بلاده، والمملكة الإسلامية مملكته وأن المسلمين كفرة، وأن دين النصيرية هو الحق، وأن السلطان الملك الناصر محمد صاحب البلاد مات من ثمانية أيام، واحتوى المذكور على عقول جماعة من مقدّمي النصيرية، وعيّن لكل إنسان منهم تقدمة ألف، ونيابة قلعة من قلاع المسلمين من المملكة الإسلامية، وفرّق عليهم إقطاعات الأمراء والحلقة، وافترقت الطائفة المذكورة ثلاث فرق على مدينة جبلة، فرقة ظهرت قبلي البلد بالشرق فخرج عليهم عسكر المسلمين فكسّرهم وقتل جماعة عدتهم مئة وأربعة وعشرون، وقتل من المسلمين نفر يسير، وهربت الفرقة المذكورة، وجرح من المسلمين منهم جمال الدين مقدّم العسكر بجبلة. وفرقة ثانية ظهرت قبلي جبلة بالغرب على جانب البحر، وفرقة ثالثة ظهرت شرقيّ جبلة بشمال، وكثروا على المسلمين وكسروهم، وهجموا على جبلة، ونهبوا الأموال، وسبوا الأولاد، وهتكوا النساء، وقتلوا جماعةً من المسلمين بجبلة، ورفعوا أصواتهم لا إله إلا عليّ، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبّوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وبقي الشيوخ والنساء والصبيان يصيحون وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا امراءاه، ولم يكن لهم مُنجد في تلك الحالة إلا الله تعالى، وجعلوا يتضرّعون ويبتهلون. وجرى في هذا اليوم أمر عظيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 ثم إن الشخص المذكور جمع الأموال المذكورة المأخوذة وقسّمها على مقدميهم، وقال إنه لم يكن للمسلمين ذكرٌ ولا خبرٌ ولا دولة، ولو كنت في عشرة بقضيبٍ واحد لا بسيفٍ ولا بترس ولا برمح، انتصرتُ عليهم وقتلتهم، وأظهر دين النصيرية ونادى في البلاد المقاسمة عليهم بالعشر، وأمر بخراب المساجد، وجعلها خمّارات، وأمسك النصيرية جماعة من المسلمين بجبلة، وأرادوا قتلهم، وقالوا لهم: آمنوا بمحمد بن الحسن، وقولوا لا إله إلا عليّ، فمن قالَها حقن دمه وصان ماله وأعطي فرماناً. وكانوا في اليوم المذكور قبل دخوله جبلة كبسوا ذوق سليمان التركماني وذوق تركمان من جهة حلب، وأخذوا أموالهم وأولادهم وحريمهم، وكان الغالب على الجمع المذكور طائفة العبديين، ومنهم الشخص المذكور، وطائفة من الحرانية وجماعة من بلد المرقب والعليقة، والمنيعة. وفي عشية اليوم المذكور، وصل الأمير بدر الدين التاجي مقدم عسكر اللاذقية، وبات يحرس جبلة وأولاده حضور معه، ومعه العسكر، وكان قد عزم المذكور على دخول جبلة مرة ثانية، والشخص المذكور في جامع بجبلة بخيله ورجاله بقرية اسمها الصريفة من عمل جبلة. وقد ثبت المحضر المذكور على قاضي جبلة، وقيل إن المذكور كان يريهم خياماً وعساكر في البحر ويقول لجمعه هؤلاء الملائكة يقاتلون معكم وينصرونكم. ثم إن العسكر الطرابلسي ركب معهم إليهم فأبادوهم، وقتلوا منهم جماعة وقُتل كبيرُهم المذكور، وأراح الله منهم. مهدي الأمير عز الدين والي حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 ذُكر أنه كان وتّاراً يصنع الأوتار بحلب ويبيعها للقطّانين، ثم إنه توصل وعمل الجندية، ثم أخذ عشرة، وعمل ولاية حلب، ثم شدّ الدواوين بحلب. وكان حسن الشكل مليحَ الذقن والحواجب، أسود الشعر، حلو العبارة، عليه قبول. حضر مع بيبغاروس الى دمشق، ثم إنه أُمسِك مع من أمسك وحضر مع الجماعة الذين جُهّزوا مع الأمير فارس الدين ألبكي، واعتُقلوا بقلعة دمشق. ثم إنه أخرج ووسّط في ثالث شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة في سوق الخيل هو ونائب صفد برناق وحاجي أخو أحمد نائب صفد وأسنبغا الرسولي نائب جعبر وأسنَ بك بن خليل الطرقي، على ما تقدّم في ترجمة ألطّنبغا برناق. مهلهل بن سعيد الفقيه نجم الدين الخليلي. كان شاهداً عاقداً فقيهاً مدرّساً بالفرخشاهية الشافعية ومدرسة سبع المجانين، وكان ضعيف البصر، معروفاً بخدمة القاضي شرف الدين بن فضل الله. توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة. ابن مهمندار العرب يوسف بن سيف الدولة. مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل عرب الشام. من بيتٍ أولهم من رجل من طيّ بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 سلسلة بن عُنين بن سلامان، نشأ هذا الرجل في أيام أتابك زنكي وأيام ولده نور الدين الشهيد، وفد عليه فأكرمه وشاد بذكره، والى هذا عنين يُنسب كل عرب عنين من كان من ولده أو من حلفائه أو من استخدمه الأمراء الذين من ولده، وهم يزعمون أنهم من ولد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك من العبّاسة بنت المهدي أخت الرشيد هارون. كان هذا الأمير حسام الدين مهنّا طويل النجاد، كثير الرماد، عزير العتاد، ينخرط في سلوك الملوك، وتقصّر الشمس عن بلوغ مجده إذا كانت في الدّلوك، يتطفّل الملوك على وفادته، ويرون سعادتهم دون سعادته، يبالغون في إنعاماته، ويزيدون فيما يجرونه في إقطاعاته. لم يزل معظَّماً عند ملوك المغل والإسلام، مفخماً إذا نشرت في الحروب مطويات الأعلام، أجار قراسُنقر والأفرم والزردكاش، وردهم بعد موتهم الى الانتعاش. ولم تُحفر له ذمة، ولم يبال بالسلطان أمدحه أم ذمّه، وتشرّد بسببهم عن وطنه، وبعد لذلك عن عطنه، وتمادت الأيام والليالي على ما فعل، واشتغل السلطان بأمره واشتعل، وأتعب العساكر في تطلّبه، وكل البريد من تقاضي وعوده وتقلّبه، وحفيت الأقلام بما تخطّ الرسائل، وتنمّق الاستعطاف والوسائل، ونفذت بيوت الأموال في ترضّيه، وتقضّت الأعمار في تقاضيه: الى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم في ما وهبتَ مُلامُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 فإن كنتَ لا تعطي الذّمام طواعة ... فعوذُ الأعادي بالكريم ذمامُ وإن نفوساً أمّمَتْك، منيعةٌ ... وإن دماءً أمّلتْك حرامُ إذا خاف ملك من مليكٍ أجَرْتَه ... وسيفَك خافوا، والجوار يُسامُ إلا أنه فاز في الوفاء بالثّناء السموألي، وفاح بعد وفاته الذكر المندليّ، ولم يزل يدافع بوعوده، ويمني السلطان بوصاله بعد صدوده مدة تزيد على الاثنتين وعشرين سنة، والسلطان يرى كل سيئة يأتي بها حسنة، الى أن داس بساطه، وأوفد عليه اغتباطه، فسُرَّ بمقدمه، ولم ينل قطرة من دمه، وأفاض عليه أنعُماً أخجل البحار مددُها، وأملّ الأنفاس والأنفال عددها، وعاد الى بيوته سالما، وظن الناس به أنه كان في هذه الحركة حالما. ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن ركب مطية الشرجع، وعزّ على ذويه المآب والمرجع. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالقرب من سلمية، ودُفن بتربةٍ له في قرية بينها وبين سلمية مسافة بريد، وحزن العرب عليه، وأقاموا له مأتماً عظيماً، واجتمع الرجال لذلك والنساء من البلاد والقرى، ولبسوا السّواد، وعاش نيفاً وثمانين سنة. وقلت أنا لما توفي رحمه الله تعالى: أمسى مهنا بالممات منغّصا ... فمصابُه عمّ الأنام وخصّصا كم شقّ منه على الصوارم والقنا ... إدراكُ مطلوبٍ وقد شقّ العصا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 وأقام في نجدٍ بحصن مانع ... لا تستطيع له الجيوش تخلّصا حتى إذا وافت منيّته، وقد ... أمسى به ظلُ الحياة مقلّصا جرّت عليه الريح ذيلَ هوانه ... لم يدرِ ضربَ الرمل أو طرْقَ الحصى وهؤلاء آل فضل هم جمهرة العرب، وجمهرة الحرب والحرَب، وسحبُ السّماح إذا جرّ الكرم ذيله وانسحب. ومهنّا جده: هو الأمير مانع بن حُديثة بن فضل بن ربيعة الطائي الشامي التدمري، كان أمير عرب الشام في دولة طغتكين صاحب دمشق، ولم يصرّح لأحد من هذا البيت بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل الكبير أبي بكر أخي السلطان صلاح الدين، أمّر منهم حُديثة، ثم إن ابنه الكامل قسم الإمرة نصفين لمانع بن حُديثة ولغنّام أبي طاهر بن غنّام، ثم إن الإمرة انتقلت الى أبي بكر بن علي بن حُديثة، وعلا فيها قدره، وبعدَ صيتُه. ولما كان من البحرية ما كان، ساقت تصاريف الدهر الملك الظاهر بيبرس الى بيوتهم وهو طريدٌ شريد، ولم يكن معه سوى فرس واحد يعوّل عليه، فسأل علي بن حُديثة فرساً يركبه فلم يُعطه شيئاً، وكان ذلك بمحضر من عيسى بن مهنا، فأخذه عيسى إليه، وضمّه وآواه وأكرمه وقراه، وخيّره في رباط خيله، فاختار منها فرساً، فأعطاه ذلك وزوّده، وبالغ في الإحسان إليه، فعرفها الظاهر له، ولما تسلطن الظاهر، انتزع الإمرة من أبي بكر بن علي، وجعلها لعيسى بن مهنا، وأتاه أحمد بن طاهر بن غنّام وسأله أن يشركه معه في الإمرة، فأرضاه بأن يعطيه إمرة ببوق، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 وبقي أبو بكر بن علي شرداً طريداً، تارة بنجد، وتارة بأطراف الشام الى أن مات. وأمّنه الملك الظاهر غير مرة وحلف له فما وثق به واطمأنّ إليه. وعلتْ درجة عيسى بن مهنا عند الظاهر ولم يزل معظّماً الى أن مات. ثم إن الإمرة صارت لولده الأمير حسام الدين مهنا هذا في أيام الملك المنصور قلاوون، وعلت مكانته أكثر من مكانة أبيه. قال شيخُنا شهاب الدين محمود: حضرت طرنطاي المنصوري، وهو مخيّم بالخربة، وقد حضره أحمد بن حجّي أمير آل مَري يدّعي بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، ومهنّا حاضر، وكل منهما جالس الى جانب من طرنطاي فألحّ أحمد بن حجي في المطالبة واحتدّ وارتفع صوته، ومهنا ساكت لا يتكلم، فلما طال تمادي أحمد في الضجيج وتمادى مهنا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنا وقال: ما تقول يا ملك العرب، فقال: وما أقول؟ نُعطيهم ما طلبوا، هم أولاد عمّنا، وإن كانت لهم عندنا هذه البُعيرات، أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء، فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا. فقال أحمد: ألا قل، تكلم، وزاد في هذا ومثله، ومهنا ساكت، فلما زاد، رفع مهنا رأسه إليه وقال: يا أحمد: إن كان كلامك عليك هيّناً فكلامي أنا عليّ ما هو هيّن، وهذه الأباعر أقل من أن يحصل فيها كلام، وأنا أعطيك إياها. ثم قام فقال طرنطاي، هكذا والله يكون الأمير. ولم يزل مهنا على إمرته الى أن جاءت الدولة الأشرفية. ولما خرج الأشرف لفتح قلعة الروم مرّت العساكر بسرمين إقطاع مهنا، فأكلت زروعها وآذَتْ آهلَها، فشكوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 الى مهنّا أذية العساكر، فشكا الى الأشرف، فعزّ على الأشرف، واستنقص همّته وقال: كم جهد ما أوذوا حتى تواجهني بالشكوى، وما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدو وقصّ جناح الكفر. وأسمعه من هذا ومثله، ثم لما كان الفتح ركب الأشرف في الفرات في خواصه، ومعه جلساؤه من بني مهدي وكانوا يضحكونه، فجاء مهنا بن عيسى فأمر بمدّ الإسقالة له ليدخل، فلما دخل عليها غمز عليه فحرِّكت الإسقالة فوقع في الماء وتلوّث بالطين، فهزأت به بنو مهدي، وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف الى بيوته، فأذن له وقال: الى لعنة الله، فأسرّها مهنا في نفسه ولم يُبْدِها، وركب من وقته وتوجه الى أهله وأقام عندهم على حذر، ثم لما عاد الأشرف ونزل بحماة، بعث إليه مهنا بخيل وجمال، فقبلها وخلع على رسوله وبعث إليه خلعة سنيّة ليطَمْئِنه بذلك ثم يكسبه، فلما جاءت إليه، لبسها إظهاراً للطاعة، وارتحل لوقته ضارباً وجه البرية، فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه. وعاد الى مصر وفي نفسه من إمساك مهنا وإخوته وبنيه. وظن مهنا أن لا حقد عنده، فلم يلبث الأشرف أن خرج الى الكرك وخرج منها على أنه يتصيّد كباش الجبل، فعمل له مهنا ضيافةً عظيمة، فحضرها الأشرف وأكل منها، ولما فرغ من ذلك أمسك مهنا ومعه جماعة، وجهزهم الى مصر وحبسهم في برج القلعة، وضيّق عليهم إلا في الراتب لهم. وكان مهنا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدة، وإذا أكل أكل ما يُقيم رمقه، ويصلي الصبح، ويُدير وجهه الى الحائط ويصمت ولا يكلم أحداً حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفاً من حصى وتراب كان هناك، ثم يزمجر ويرمي به الى الحائط كالأسد الصّائل. فلما خرج الأشرف الى الصيد، ترك ذلك الفعل، فقيل له في ذلك، فقال: قُضي الأمر، ولم يُر منبسطاً إلا في ذلك الحين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حدّثني الأمير مظفّر الدين موسى بن مهنا قال: لما كنا في الاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق مقارباً لدور حريم السلطان أو لبعض الأمراء، فقلت له في ذلك فقال: يا ولد مهنا، لعلي أسمع خبراً من النسوان، فإنهن يتحدّثن بما لا يتحدث به الرجال. فبينما نحن ذات يوم، وإنما بمحمد قد خرج وقال بشراكم، قد سمعت صائحة النساء تقول: واسلطاناه، فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: هو ما أقول لكم. وكان لنا صاحب من العرب تنكّر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البُرج الذي نحن فيه ويومئ إلينا ونومئ إليه، غير أنه لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كنا في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عوداً، عليه خرقة صفراء كأنها صنجق سلطاني ثم نكسها وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائماً ورقص، فتأكّد الخبر عندنا بموت الأشرف. فلما فُتح علينا من الغد سألنا الفتّاح والسجانين فأنكروا، ثم اعترف لنا بعضهم، فكان ذلك أعظم سرور دخل على قلبنا. ولما خرجوا من السجن شكوا احتياجهم الى النساء، فأطلق لهم جماعة من الجواري الأشرفيات، ولم يكن مرادهم بذلك إلا التشفي، وأُعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنا، فإنه أخّر مدة ثم جُهّز، ولما خرج من دمشق لحقه البريد من دمشق الى ثنيّة العقاب بأن يعود، فامتنع وتوجّه الى أهله، وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ثم إنه قدم مصر بعد ذلك مرات وهو كالطائر الحذر الذي نُصبت له الأشراك في كل مكان، وآخر مرة قدمها في أوائل الدولة الناصرية الأخيرة سنة عشر وسبع مئة، وكان بلرلغي الكبير مملوك مهنا وهو الذي قدمه، فلما وجده قد أمسك تحدث فيه مع السلطان، وقال هذا مملوكي وقدمته ليعطى إقطاعاً في الحلقة فأعطى فوق حقّه حتى جعلتموه ملكاً من الملوك، وأنا أريد أن تأخذ كل ماله ومماليكه وتعطيه إياه برقبته ليكون عندي الى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 يموت، فوُعد بذلك. ثم إن بلرلغي مات في ذلك الوقت، فقيل له: قد مات، فعزّ ذلك عليه من عدم قبول شفاعته مع ما كان يمت به من سوابق الخدم للسلطان لما كان في الكرك. وخرج مهنا وقد طار خوفاً ورعباً، ولما اجتمع بقراسُنقر، وكانت بينهما صداقة مؤكدة قديمة، وكل منهما مستوحش، فجدّدا الأيمان والعهود على المضافرة، وأن لا يسلّم واحد منهما صاحبه. ولما توجه قراسنقر الى حلب زاره مهنا وخلا به، فأراه قراسنقر كتاباً من السلطان إليه فيه إعمال الحيلة على إمساك مهنا، فقال له مهنا: فما أنت صانع، قال: أنا أطيعه فيك وأجاهره، وهو يجعلني وكدَه ودأبه، فمَن يحميني منه إن قصدني، قال له مهنا تجيء إلينا. فتحالفا على ذلك. ثم إن مهنا وفّى لقراسُنقر لما توجه إليه - على ما مرّ في ترجمة قراسنقر وأجاره. وأما زوجة مهنا عائشة بنت عساف، فإنها بالغت في خدمة قراسنقر، وكانت تقول لمهنا: يا مهنا، ذكر الدهر، لا تدعه. وكذلك محمد بن عيسى بن علي الأفضل بن عيسى بن مهنا أخو مهنا، فما كان رأيه إلا التقرب بإمساك قراسنقر والجماعة الى السلطان، فكانت عائشة تقول: تعساً لأم ولدت الفضل بن مهنا. وكتب مهنا الى السلطان يستعطفه ويقول: هؤلاء مماليكك ومماليك أبيك وكبار بيتكم، وقد هربوا من الموت، وسألوا أن تكفّ عنهم وتهبهم البيرة لقراسنقر، الرحبة للأفرم، وبهسنا للزردكاش، وإذا حصل مهمٌ جامعٌ للإسلام حضروا إليه وجاهدوا بين يديك، على ما مرّ في ترجمة قراسنقر. وما اطمأنّوا، وجهّزهم مهنا الى خربندا وقال له: متى حميت هؤلاء كنت أنا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 طاعتك وخفرت الرّكب العراقي، وسيّرهم مع ابنه سليمان، وجهّز معهم لخربندا ومن حوله خيولاً مسوّمة من جهته، فقوبلوا بالإكرام والرعاية، وخلع على سليمان، وأطلق له أموالاً جمة، وجهّزت لمهنا خلع وإنعامات وبرالغ بالبصرة له ولأهله، ومعها الحلة والكوفة وسائر البلاد الفراتية، واشتدت الوحشة بينه وبين السلطان الملك الناصر محمد، فأعطى الإمرة لأخيه فضل، وتظاهر مهنا بالمنافرة والمُباينة والوحشة، وحضر الى خربندا، فأكرمه غاية الإكرام وأجلّه نهاية الإجلال، وقرر أمر الركب العراقي، وأعطى عصاه خفارة لهم وتأميناً، وضاع الزمان وامتدّت الأيام والليالي في المراوغة من مهنا، وهو يعد السلطان أنه يحضر إليه ويُمنّيه ويسوّف به من وقت الى وقت، والبريد يروح ويجيء، والرُسل تتردد مثل الأمير بهاء الدين أرسلان الدواردار والأمير علاء الدين الطّنبغا نائب حلب والشيخ صدر الدين بن الوكيل، وما ألوى ولا عاج، ثم كان أولاده وإخوته يتناوبون الحضور الى السلطان وهو ينعم عليهم بمئين ألوف وبالإقطاعات العظيمة والأملاك، وهم يمنّونه حضوره ويعدونه بقدومه، ومهنا لا يزداد إلا حذراً. والسلطان لا يزداد إلا طمعاً في حضوره، ومع ذلك في هذه المدة جميعها ما تنقطع المراسلات بينهما والمكاتبات والشفاعات، وإذا ظهرت للمسلمين مصلحة نبّه مهنا عليها وأشار إليها، وكان السلطان يقبل نُصحه. ثم لما كان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، توجّه مهنا بنفسه من ذاته الى السلطان، ووصل الى دمشق يوم الجمعة رابع ذي الحجة من السنة، ودخل الديار المصرية، فأكرمه السلطان غاية الإكرام وأنعم عليه بإنعامات كثيرة الى الغاية. وعاد مهنا راجعاً الى بلاده، وكان دخوله قلعة الجبل نهار الأحد عشري الحجة، وعاد الى دمشق فدخلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 سادس المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل بعد ذلك الى أن توفي في التاريخ المذكور. وله من الأولاد جماعة، وهم: موسى وسليمان وأحمد وفياض وحمام وهيازع وحيار وجويف وقارا وشُعبه وتوبَلة وعنقا. ومن سيادة مهنا ما حكاه لي زغبان بن عبد المؤمن الشقاري التدمري حاجب الأمير معيقل بن فضل يومئذ، قال: كان قد دفن الأمير فضل دفيناً في الأرض من الذهب مبلغه اثنا عشر ألف دينار، ثم إنه طلبه في وقت ولم يجده في المكان الذي دفنه، وإنه اتهم به محمد بن نجام حاجبه، ولم يذكر له ذلك، وإن ابن نجام بلغه ذلك، فخاف ابن نجام من الأمير فضل، وتوجّه الى مهنا، وشكا حاله إليه فأعطاه مهنا اثني عشر ألف دينار، فأخذها ابن نجام وأحضرها الى فضل، فأبى أن يأخذها، وقال: ما مهنا أكرم مني، أنا ما طالبتُك بها ولا أخذها، فردّها ابن نجام على مهنا، فقال: أنا خرجتُ عنها وهي لك، ولم يأخذها. ابن المهندس محمد بن محمد بن إبراهيم. ابن الموازيني المسند شمس الدين محمد بن علي. موسى بن إبراهيم ابن يحيى، الإمام المحدّث المفتي نجم الدين الشقراوي ثم الصالحي الحنبلي الشروطي، شيخ العالمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 روى عن الحافظ الضياء، وإسماعيل بن ظفر، وقرأ الكثير ونسخ وجمع. وكان حلو المحاضرة. توفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة. وكان قد قرأ الكتب الكبار، وسمع الناس بقراءته كثيراً، وحدّث، وكتب كثيراً، واشتغل كثيراً. وكان مفتياً، وله نظمٌ، وكان ينقل كثيراً من اللغة وعنده جملة من التاريخ، وكان يفتي في مذهب. موسى بن أحمد ابن الحسين بن بدران بن أحمد، القاضي الرئيس الكبير، قطب الدين بن ضياء الدين، أبو البقاء، ابن شيخ السلامية، ناظر الجيوش الإسلامية بالشام ومصر، الخاقاني، نسبة الى الفتح بن خاقان وزير المتوكل. كان وقوراً مهيباً، فاضلاً لبيباً، يحبّ الفضلاء، ويربّ النبلاء، ويحسن الى الفقراء، ويواسي همّ كبار الأمراء. رأى من العز والوجاهة، وعلوّ المرتبة والنباهة ما لا رآه غيره، ولا قُدّ لمثله سيره. باشر نظر الجيوش بمصر والشام، وتألّق برق سُعوده حتى انتجعه كلُ أحد وشام، فلاح بدرُ سياده، وفاح زهر سعاده، حتى كأن أبا تمام، عناه بقوله دون الأنام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 جُعلت نظام المكرمات فلم تُدرْ ... رحى سُودد إلا وأنت لها قطبُ بجودك تبيضّ الخطوب إذا دجتْ ... وترجع عن ألوانها الحجج الشهبُ لم يزل في تقدّم وتكريم، وترقٍّ الى غايات مجدٍ يحتقر معها كل غاية تعظيم، الى أن أمسى من ترابٍ فراشه، وبطل حتى المعاد معاشه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وستين وست مئة. كان أولاً صاحب ديوان الجيش والقاضي بدر الدين بن العطار ناظراً في زمن الأفرم، ولما جاء السلطان الملك الناصر محمد الى دمشق من الكرك، وتجه بالعساكر الى مصر، توجه معه القاضي قطب الدين، وعاد الى الشام وهو ناظر الجيش، ولم يزل كذلك الى أن غضب السلطان على القاضي فخر الدين ناظر الجيش فجهز طلب القاضي قطب الدين، فتوجه إليها هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في شهر ربيع الأول، وولاه نظر الجيش بالديار المصرية. ولم يزل هناك الى أن عُمل روك الشام، فحضر الى دمشق بأوراق الروك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. واستمر ناظر الجيش بالشام الى أن حضر القاضي معين الدين بن حشيش على وظيفة النّظر، وعزل القاضي قطب الدين تقدير أربعة أشهر. ثم إنه ورد مرسوم السلطان بأن يكون القاضي معين الدين شريكاً للقاضي قطب الدين في النّظر، وأن يكون لكل منهما معلوم مستقل نظير الأصل. وكان القاضي قطب الدين يعلّم أولاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 ولم يزالا كذلك الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فطلب القاضي معين الدين الى الديار المصرية لينوب عن القاضي فخر الدين في نظر الجيش عند توجهه الى الحجاز، وانفرد القاضي قطب الدين أخيراً بالنظر، الى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ. ورأى من السعادة والعزّ والوجاهة والتمكن والتقدم في أيام تنكز ما لا رآه غيره، ولما تنكّر الأمير تنكز على المتعممين وعلى صهره الصاحب شمس الدين عبريال توفي رحمه الله تعالى، ولم ير منه ما يكرهه. وكان الأدباء والفضلاء والشعراء يترددون الى محله ويقضي حوائجهم، وله نظمٌ ونثر. أنشدني من لفظه ولده الشيخ عز الدين حمزة، قال: أنشدني والدي لنفسه مواليا: الحب في الله يا محبوب لي مفسوحْ ... فداوِ الوصل من أضحى به مجروحْ وارحمْ محبّاً على فرشِ الضّنا مطروحْ ... دمع مسفوح، وجفن بالبُكا مقروح وبه قال أنشدني له: بالله دعْ عنك هجراني ودعْ ذا الصدْ ... فقل تطاول بي الهجران فوق الحدْ كم ذا تجورُ عليّ يا رشيقَ القدْ ... مسلم أنا، ما أنا كافرٌ ولا مرتدْ وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ومن خطّه نقلت، قال: أنشدني من لفظه لنفسه القاضي قطب الدين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 ما اخترتُ مقامي برُبا لبنانْ ... فرداً ومشرّداً عن الأوطانْ إلا لأراك أو أرى من نظرتْ ... عيناه الى جمالك الفتّانْ وكتب الشيخ علاء الدين علي بن غانم الى القاضي قطب الدين، رحمهما الله تعالى، وهو بالقاهرة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة: يا غائباً بينه وبيني ... من شقّة البعد لي حجابُ هجرت حتى ولا سلام ... ولا كلامٌ ولا كتابُ فكم بعثنا له كتاباً ... ما عاد عنها ولا جواب عليه قد حقّ كلُ عتب ... وما عسى ينفع العتاب فقد أحبائي عن يقين ... بغير شك هو العذاب فكتب القاضي قطب الدين إليه الجواب: أقسمت بالله أن شوقي ... بضيق عن حصره كتابُ وأنني إذ نأيت عنكم ... دموعُ عيني لها انكباب وأن كتبي وإن تراخت ... فإن ودي له إياب وإن يكن حُقّ كل عتب ... يا حبذا ذلك العتاب موسى بن أحمد بن محمد ابن ابراهيم، الصدر، كمال الدين أبو الفتح ابن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه ببعلبك أحاديث من جزء ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 عرفة عن النجيب الحرّاني، وله إجازة من السّبط. وكان رجلاً عاقلاً عارفاً بالأمور. درّس بالمدرسة النجيبية في حياة والده، وبعده مدة، وولي نظر الدواوين الحكمية. وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت سابع عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون عند قبر والده. ومولده بالقاهرة سنة إحدى وخمسين وست مئة. قلت: وهذا كمال الدين موسى كان السبب في عزل والده، وبذنبه عُزل، قيل: إنه شكا يوماً عليه غريم ودفعه الى قاضي القضاة ابن الصائغ على مبلغ ست مئة درهم، فاستحيا القاضي ووزنها، فتوجه كمال الدين موسى الى والده وقال: اليوم تفضّل قاضي القضاة ووزن عني ست مئة درهم، فقال والده: والله لو وزن ستة آلاف دينار ما أنصفك، يعني والده أنك أنت السبب في عزل أبيك وولايته. وفيه يقول مجد الدين بن الظّهير: وكيف يؤتى رشدَه حاكمٌ ... حكّم في لحيته موسى؟ موسى بن أحمد الشيخ مجد الدين الأقصرائي، شيخ الشيوخ بسرياقوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 كان شيخاً كريم النفس الى الغاية، له بالمكارم أتمّ عناية، يهبُ ما يملكه، ويأتي على ما في يده ويتركه، ريّض الأخلاق حتى كأنها مرّ النسيم، أو كأس رحيق مختوم مزاجها من تسنيم، كثير الاحتمال، غزير التضرع والابتهال، له أوراد يسردها من الذّكر عقيب الصلوات، وأحوال تتنزّل عليه في أوقات الخلوات، قلّ أن ترى العيون له نظيراً، أو تجد له شبهاً في الملوك وإن كان فقيراً: يصبو إليه قلبُ من هو عند أرْ ... باب القلوب معشّقٌ مقبولُ يهواه لا يُصغي لقول مفنّد ... أبداً ولا يثنيه عنه عَدول كلٌ يهيم بحبه وكذاك مَن ... ملك الإرادة أمره المفعول ولم يزل على حاله الى أن عرق جبينه، ونبا حسه وربا أنينه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة. وكان له سماع من عبد الله الصّنهاجي، ومن أبي الحسن علي بن جابر اليمني. وكان في الإسكندرية، ثم ولي مشيخة خانقاه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالقرافة، ثم إن السلطان نقله الى الخانقاه التي له بسرياقوس. وكان آيةً في الكرم، وعليه روحٌ وأنس زائد إذا دار في السماع، وله ذكر يورده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 هو وجماعة الصوفية عقيب كل صلاة بحيث أنه يتصل الذكر عقيب المغرب بأذان العشاء الآخرة. وقلت له في ذلك، فقال: أنا اختصرت لأجل هذا الجمع، ولما كنت بالاسكندرية كان الورد أكثر من هذا. وكان السلطان يعظّمه ويحمل إليه في كل شهر مبلغ سبعة آلاف درهم، للشيخ منها ألفان، والباقي للفقراء. وكان يفعل ذلك معهم في كل شهر، يطلع الى الخانقاه، ويقيم عندهم اليومين والثلاثة ويعود يجلس بين الفقراء ويقضي أشغال الناس، وكان الناس قد عرفوا ذلك منه، وكانوا يؤخرون أشغالهم الى أن يطلع الى خانقاه سرياقوس، وهذا الإنعام كان خارجاً عن أوقاف الخانقاه، لكنه قطع ذلك قبل موته بسنوات. ولبستُ منه خرقة التصوف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقال: لبستُ الخرقة الصوفية من يد الشيخ العارف الكامل كمال الدين العجمي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي منصور العراقلية وهو لبسها من يد الشيخ بدر الدين العراقلية، وهو لبسها من يد الشيخ أوحد الدين الكرماني وهو لبسها من يد الشيخ أبي الغنائم ركن الدين السجاسي، وهو لبسها من يد الشيخ قطب الدين الأبهري، وهو لبسها من يد الشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الغزالي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي الفرج الزنجاني، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الأسود، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي عبد الله بن خفيف، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو سمع تلقين الذّكر من أبي القاسم الجُنيد البغدادي وصحبه، وهو لبسها من سريّ السقطي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 وصحبه، وهو من معروف الكرخي وصحبه، وهو من داود الطائي وصحبه، وهو من حبيب العجمي وصحبه، وهو من الحسن البصري وصحبه، وهو من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصحبه، وهو من سيد المرسلين والآخرين محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وطريق أخرى: لبسها الشيخ أحمد الغزالي من يد الشيخ أبي بكر الزجّاج النّيسابوري، وهو لبسها من يد الشيخ محمد النساج، وهو لبسها من الشيخ أبي بكر الشبلي، وهو لبسها من الجنيد البغدادي رضي الله عنهم. موسى بن أبي بكر الأمير بدر الدين ابن الأمير سيف الدين الأزكشي. جهّزه الأمير جمال الدين الأفرم الى الرحبة نائباً، فأقام بها الى أن نزل عليها خربندا ومعه عساكر المغل وقراسنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، ونصبوا عليها المجانيق فقاتل وصابر ورابط وحصّن القلعة وثبت، جزاه الله خيراً عن الإسلام الى أن رحل خربندا بمن معه من المغل، وقد تقدّم شيء من طرق ذلك في ترجمة ذلك وفي ترجمة جوبان رحمه الله تعالى، ثم إنه عُزل وحضر الى دمشق. وبقي على إمرته الى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة بداره في القبيبات، وحضر الأمير سيف الدين تنكز جنازته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 موسى بن أبي بكر شرف الدين، ملك التكرور. وصل الى الديار المصرية في أول شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة بسبب الحج، وصحبه جمعٌ كثير، ونزل بالقرافة الكبرى، واستأذن في الصعود الى القلعة لتقبيل يد السلطان، فأذن له، فطلع في طائفة يسيرة، ولما وصل أمر بتقبيل الأرض فامتنع، فأُلزم، ففعل ذلك على كره، ولم يمكَّن من الجلوس. فلما خرج ووصل الى باب القلعة قُدّم له حصان أشهب بزنّاري أطلس أصفر، وبعد ذلك خلع عليه السلطان خلعةً سنية، وأمر له بمركوب، وسيّر هو الى السلطان أربعين ألف دينار، وصيّر الى نائب السلطنة نحو عشرة آلاف دينار، وهيأ له السلطان من الهُجن والنياق وآلات الحج أشياء كثيرة، وكذلك فعل به نائب السلطنة. وكان شاباً مليح الشكل حسن الوجه، له رغبةٌ في العلماء، وهو فقيه مالكي المذهب، وقيل: إنه كان معه تقدير عشرة آلاف تكروري وجاء معهم ذهب كثير حتى نزل الذهب في تلك المدة درهمين، وحصل للناس بهم نفع كثير، وذكروا أن تحت يده أربعة عشر ملكاً، وسعة ملكه ثلاث سنين. وحكي لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني رحمه الله تعالى رئاسة كبيرة، ووصل إليه منه جملة كثيرة من الذهب، وقال: كانت تحية من يدخل إليه أن يضع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 عمامته ويكشف رأسه، وهناك رماد مفروش فيأخذ من ذلك الرماد ويرشّه على رأسه. موسى بن رافع ابن مفرّج بن رافع بن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ الصالح الحمصي. كان من أهل الخير والصّلاح، ومن أهل القرآن والفهم والمعرفة. سمع من ابن هامل، وحدّث عنه. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة ثلاث وستين بحمص. موسى بن عبد الرحمن بن سلامة القاضي الرئيس بهاء الدين المدلجي المصري أحد كتّاب الإنشاء بالديار المصرية. تولى خطابة المدينة النبوية في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة. موسى بن علي بن موسى ابن يوسف ابن الأمير محمد شرف الدين الزّرزاري. أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: هذا المذكور مولده بإربل في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 وذكر لي أن أباه قاضي القضاة بإربل، وأن جدّه أيضاً كان قاضياً. وهو رجل ساكن النفس حسن الصورة، عنده فضائل من فقه وأدب وغير ذلك. وذكر لي أنه سمع الحديث، وأنه قرأ على الكواشي التفسير الصغير، وسمع عليه كثيراً من التفسير الكبير وأنه سمع ببغداد من ابن الفويرة والقلانسي. وذكر لي أنه نظم الوجيز وأنشدنا منه أبياتاً. وأنشدنا لنفسه من أبيات: تواضع تكن كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيعُ ولم يكُ كالدخان يرفع نفسه ... الى طبقات الجو، وهو وضيع قال: وأنشدنا لنفسه، وقد تردّد الى بعض أهل الجاه بمصر مراراً: لئن عاد موسى واقفاً باب هامان ... على كبره حتى انقضت منه عامان فقد قام في أبواب فرعون قبله ... على كفره، في مصر موسى بن عمران قلت: أظنه المعروف بالقطبي، ويلقّب ضياء الدين، كان يخطب بجامع الأمير كراي بالحُسينية، ومتصدّراً لإقراء السبع بالجامع الظاهري بالحسينية أيضاً، وكان من العلماء الصلحاء. واتفق الناس على الثناء عليه. وتوفي رحمه الله تعالى وهو ساجد في الصلاة في حادي عشر شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حافلة الى الغاية، ودفن بزاوية الشيخ ابن معضاد. وحدّث عن ابن عزّون، والنجيب عبد اللطيف، ومن في طبقتهما. وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 موسى بن علي بن قلاوون أمير موسى ابن الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور. كان أحد الأمراء بمصر، وكان شكلاً محبباً حسناً، فبلغ السلطان محمداً عمه عنه أمر، فخافه وندب الأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب للتوجه إليه والقبض عليه، فتغيّب، وخرج السلطان وزاد غضبه وقال: هذا هو في القاهرة وما لحق يخرج منها، وأمر بإحراقها، فوقف الأمير سيف الدين أرغون النائب وباس الأرض وتضرّع، وسأله إبطال ذلك وأن ينزل الجماعة ويتطلبوه، وتوجه المذكورون وأمسكوا مملوكاً صغيراً من الكتابية وضربوه فأقرّ أن الفقيه الذي لهم توجه هو والأمير، فأمسكوا الفقيه وعاقبوه، فأخذهم ودلّهم على المكان الذي هو فيه، وأتى بهم الى دار أستاذر دار الفارقاني، فكبسوا داره وفتّشوا جميع داره ولم يجدوا أحداً وحلف أنه ما رآه، فبقي هناك مكان لا يؤبه، له صورة خرستان، فقالوا: افتحوا هذا، فحلف بالله والطلاق وبنعمة السلطان أن ما فيه ما يطلبونه، فقال بكتمر أنا ما أقد أقول للسلطان إنه بقي مكان ما دخلنا إليه، ففتحوه فإذا بأمير موسى هناك، فشتم أمير موسى لبكتمر الحاجب، وسبّه، وبالغ في ذلك وهو ساكت، وأرادوا إخراجه فقال: ما أخرج من هنا حتى تحلفوا لي بأن هذا صاحب هذه الدار لا يكلمه السلطان ولا يؤذيه، فإنني والله ما أعرفه ولا أكلت معه خبزاً، وإنما الفقيه هو صاحبه، وأنا الذي طرحت شرّي عليه ورميت أذاي عليه، فحلفوا على ذلك بالله وبالطلاق، وأخذوه من هناك، وطلعوا به الى السلطان. فلما كان بعد ثلاثة أيام، سيّر السلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 الى دار أمير موسى وقال: اعملوا عزاءه، فدار جواريه بين القصرين وفي الشارع مدة يطفن بالدرادك، وأما أستاذ دار الفارقاني، فإنه سُمّر وبقي من بكرة الى العصر، ووقف الأمراء وشفعوا فيه، فأفرج عنه وعاش بعد ذلك سنتين وكان ذلك في سنة ... موسى بن علي الشيخ الإمام الكاتب المجوّد المتقن شيخ دمشق نجم الدين المعروف بابن البُصَيص - بياء موحّدة وصادَين مهملتين وبينهما ياء آخر الحروف. شيخ الكتّاب في زمانه، ونادرة عصره وأوانه، تفرّد في الدنيا بكتابة المزدوج وأتقنه وكل من تقدّمه فيه سمج، وآخترع قلماً آخر سماه المعجز، وأتى فيه بمحاسن إذا أطنب فيه الواصف ظنّ أنه موجد، وكان خطه كأنه حدائق ذات بهجة، وسطوره من حسنها تفدى بكل مهجة، لو عاينه الولي التبريزي لم يكن له تبريز، أو ابن العديم لاعترف له بالتعجيز: كأن المعاني في محاريب طرسه ... قناديل ليل، والسطور سلاسلُ كواكب عجم في أهلّة أحرف ... بدورُ المعالي بينهنّ كواملُ كتب عليه جماعة من الأعيان وسادوا، وأبانوا بفضلهم مقادير رتبهم فأبانوا من تقدمهم وأبادوا. ولم يزل على حاله الى أن غار في الثرى نجمه، وهيل عليه ترابه ورجمه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده بحماة سنة إحدى وخمسين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 وكتب الأقلام السبعة وجوّدها، وأقلامه الرطبة كلها لم يلحقه فيها أحد. وممن كتب عليه: الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والشيخ بدر الدين بن المحدّث، والقاضي علاء الدين بن الآمدي، وجماعة آخرون. وكتب هو شيئاً كثيراً الى الغاية من الدروج والقطع والطراز الذي في الطّارمة، والذي على باب دار السعادة، والذي في الظاهرية الجوانية والذي على باب الأمير سيف الدين بهادر آص، كل ذلك بخط يده، وقد تغير طراز دار السعادة مرات وأعاد عليه الدهانون، وأصوله باقية ومعالم حسنها بادية. وكان يكتب على الطاسات وعلى ما يُنقش، ويطعّم كل سطر بدرهم ويكتب في اليوم جملة من ذلك مستكثرة. وكان يعمل بالفأس في بستانه ويعمّر باللبن وغيره، ويكتب تلك الكتابة المليحة الرطبة، ورزق الحظوة في خطه واشتهر، وكان مأموناً على أولاد الناس، عفيفاً خيّراً ديّناً. وقلت أنا فيه: يشهد لابن البُصيص خط ... يسلب ممن يراه عقلهْ بأنه النجم في عُلاه ... وما رأى مثله ابن مقله وله شعر في الحقيقة على رأي التصوف، وكان قليل البضاعة من العربية. ومن شعره ما نقلته من خطه على ما تراه من اللحن الفاحش وفساد المعنى: ألا كل شيء ما خلا الله نافد ... وكل وجود قد بدا فهو بائدُ تفكر في هذا الوجود ووضعه ... وفي حركات الفلك وهي سوامد وفي حركات النيّرات بأفقها ... وفي كل جرم لا يُرى متباعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 وما ذاتها في رقةٍ وكثافة ... وهل هي شيء دائم متوالد ترى كل ما في الكون لابد زائل ... له محدث باق وذلك نافد وإيجادنا فيه وذلك آية ... تدلّ على فرد تفرّد واحد وكم آية غابت فليس تُرى لنا ... تدلّ على وتر التفرّد ماجد شهيد على الأشياء ليس بغائب ... على كل شيء من نواحيه شاهد تحققتُ حقاً أنه لي محرك ... على أنه سبحانه لي واجد فعشت سعيداً ثم أُنقل مكرماً ... الى واحد إنعامه متزايد وإني مهما عشتُ شاكرُ أنعم ... عليّ توالتْ من نوالك حامِد فحسبي تشريفاً أراه محقّقاً ... بأنك ربي ليس فيه معاند موسى بن علي بن بيدو ابن نوغاي تمر بن هولاكو القان المغلي. نشأ بسواد العراق، يقال إنه كان نسّاجاً، فلما مات بوسعيد توثّب علي باشا وطلب موسى هذا وسلطنه، وسار به الى أذربيجان، وعملا مصافا مع أرباكاوون المذكور في حرف الهمزة وابن الرشيد مع ذلك، وانتصر موسى وتملّك بتوريز، ثم إن المغل تناخت مع الشيخ حسن، وعملوا مصافا يقل فيه جمع موسى، وقتل علي باشا، وتقهقر موسى، وبقي في جبال الأكراد نحو أربعة أشهر ومعه محمد بيك والأمير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 حافظ، ومعه أيضاً الوزير نجم الدين ابن شروين، وقصدوا بغداد ودخولها، وقتلوا طوغان، وكان من كبار الظلمة المقدّمين، له سطوة وشجاعة، فاستخفّ بهم وبرز للقتال، فقُتل هو وجماعة، وطيف برأسه ورأس الأمير نصرت شاه معاً. ثم حشد موسى وقصد أذربيجان، فتصابر الفريقان أياماً وليالي، ثم كبس أصحاب حسن بإعانة خلقٍ من الأكراد موسى، فاستجار موسى بأمير من الأكراد - وكان قد أحسن إليه - فأجاره. ثم إنه غدر به وحمله الى حسن فهمّ باستبقائه، فقام عليه الأمراء وقتلوه، قصّفوا ظهره، فمات في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، وقيل: إنهم قطعوا أنفه أولاً ثم ذبحوه. وكان موسى حسن الشكل جيد العقل صحيح الإسلام، وكانت قتلته يوم الأضحى بالأردو، هو من أبناء الأربعين. وكان قد نشأ عند نصراني بدقوقا يتعلّم الحياكة. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: رأيت القاضي حسام الدين الغوري يثني على عقله ودينه. موسى بن علي بن أبي طالب ابن أبي عبد الله بن أبي البركات العلوي الحسيني الدمشقي الحنفي، عز الدين أبو القاسم الموسوي، من ذرية إبراهيم ولد موسى الكاظم. سمع حضوراً من الفخر الإربلي، وسمع الموطأ من مكرّم القرشي، وسمع من السخاوي، وابن الصلاح، وأبي طالب بن صابر، وعدة. وتفرّد وأكثر عنه الطلبة، وسكن مصر، وحضر المدارس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 وكان مليح الشكل حسن البزّة، تفرّد عن جدّه مدرس المعينية رشيد الدين النيسابوري، وأخذ عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وشيخنا الذهبي والشيخ تقي الدين بن رافع والواني. ومات وهم يسمعون عليه صحيح مسلم، فانتهوا الى نصف الكتاب، وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة. موسى بن علي بن منكوتمر الأمير شرف الدين ابن الأمير علاء الدين ابن الأمير سيف الدين. قد تقدّمت ترجمة جدّه منكوتمر. كان الأمير شرف الدين المذكور أحد أمراء الطبلخات بطرابلس، ولكنه أضيف الى عسكر دمشق، وإذا كان أوان يَزَكِه توجّه الى طرابلس وعمل يزكه وعاد الى دمشق. وكان شاباً ظريفاً مطبوع الحركات والسكنات، نظيف اللباس، طيب الرائحة، كأن غصن بان أو قضيب ريحان. ولم يزل على حاله الى أن توفي في عشري شهر الله المحرم سنة سبع وخمسين وسبع مئة. موسى بن محمد ابن موسى بن يونس كمال الدين بن بهاء الدين ابن العلامة الفريد كمال الدين بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 يونس قاضي الموصل وابن قاضيها. توجه الى السلطانية في مهم له فأدركه أجله بها في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة. وكان فاضلاً إماماً علامة، وولي قضاء الموصل بعده ولده. موسى بن محمد بن أبي الحسين الشيخ الفاضل المؤرخ المعمّر المسند بقية المشايخ، قطب الدين أبو الفتح ابن شيخ مذهبه أبي عبد الله اليونيني البعلبكي. سمع من أبيه، والشرف الإربلي، وشيخ الشيوخ عبد العزيز، والرشيد العطار، وأبي بكر بن مكارم، وابن عبد الدائم، وعدة، وأجز له ابن رواج، ويوسف الساوي وجماعة. وكانت له صورة كبيرة وجلالة، وفيه مروءة وعنده كرم ومعرفة تامة بالشروط، وصار شيخ بعلبك بعد أخيه أبي الحسين، وروى الكثير بدمشق وبعلبك، واختصر مرآة الزمان على نصف النصف، وذيّل عليها في أربع مجلدات. ثم إنه أسنّ وكبر وعجز وتعلل. وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. ومولده في صفر سنة أربعين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 موسى بن محمد بن أبي بكر ابن سالم بن سلمان المرداوي الحنبلي. كان فقيهاً صالحاً حسن الهيئة مليح الشيبة. قدم دمشق وحفظ المقنع وألفية ابن معطي، وحصّل كتباً، وكان يطالع وقنل، وسمع من خطيب مردابها، وبدمشق من ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وجماعة. ومرض بالفالج مدة طويلة وانقطع عشرين سنة لا يقدر أن يصلي إلا بمن يعينه في السجود ويجلسه. وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة. وملده سنة خمس وأربعين وست مئة. موسى بن محمد بن يحيى عماد الدين اليوسفي المصري، المعروف بابن الشيخ يحيى، أحد مقدّمي الحلقة بالديار المصرية. كان مشهوراً بالمروءة، معروفاً بالعصبية التي هي في حنايا جوانحه مخبوءة، يصحب الأكابر، ويغالطهم بالمودة ويكابر، ويلازم صحبة الأعيان ويثابر، لم تفته صحبة رب سيفٍ ولا قلم، ولا حامل عِلم ولا رافع عَلم، يتقرّب إليهم بالخدم ويسعى على رأسه في قضاياهم لا على القدم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرامُ وكان يعاني شيئاً من النظم والنثر على عاميته، ويأتي به طباعاً من غير تكلف سجيته، فيأتي من ذلك بما يُضحك الثكالى، وينشط القلوب للتعجب بعد أن كانت كُسالى، على أنه يأتي في ذلك بما يشبه التورية والاستخدام، والاستعارة والجناس الناقص والتام، فما كنت أنا ولا شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس نقضي العجب من ذلك، ونقول له: يا سيدنا سبحان من وسع عليك في هذا الفن المسالك، فيعجبه ذلك، ويقول: والله هذا ولم أقرأ المقامات ولا حفظت شيئاً من شعر المتنبي، ولا اشتغلت بشيء من العربية ولا العلم، فنقول له: هذه مواهب وقرائح. ولم يزل على حاله الى أن وهى ركن العماد، ومال الى خراب عمره وماد. وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة. وجمع لنفسه تاريخاً كبيراً، يجيء في خمس عشرة مجلدة، وله غير ذلك. وكان يصحب الكبار مثل القاضي كريم الدين الكبير، واختص بجمال الكفاة وبالوزير علم الدين بن زنبور وبالأمير سيف الدين أيتمش نائب الكرك وصفد، وبالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وبالحاج أرقطاي لما عمل النيابة بدمشق ومصر، وبغيرهم، واختص أخيراً بالأمير سيف الدين شيخو وسيف الدين صرغتمش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 وكان يكتب إلي قصائد وغيرها، فأحتاج الى أن أجيبه عن ذلك، ومما كتبته إليه: دار عماد الدين شوقي لها ... يجلّ أن يذكر بين العباد ما راق طرفي بعدها منزل ... لأنها في الحسن ذات العماد وكتبت إليه: أوحشتني يا عمدتي ... وعلى الحقيقة يا عمادي يا من غدا وشعاره ... بين الورى بذل الأيادي وله محاسن نشرها ... متضوع في كل ناد ومكارم بحديثها ... فينا ترنّم كل شاد ومروءة أبناؤها ... مشهورة بين العباد يكفي محبك أنه ... من بعد بعدك في جهاد محنٌ يذوب بنارها ... صمّ الصخور من الجماد وصبابة إن قلت قلّت ... فهي تصبح في ازدياد والصبر كنت أظنه ... ممن يوصلني ببلادي وحياتكم لم يرض أن ... يشقى وخالف في المبادي وكذا الكرى من عهدكم ... للآن لم يعرف وسادي والله لم يخرج معي ... من عندكم إلا ودادي فعدمت إلا أدمعاً ... تحكي بصيّبها الغوادي ووجدت كل بلية ... حاشاكم إلا فؤادي فغدوت أنشده وأط ... لب عوده، ولمن أنادي وأظنه في ربعكم ... تجدونه بين الرماد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 أفسدتموه بفضلكم ... لما غدا وفق المراد يا دهر زدت من النوى ... وأطلت في هذا البعاد ما آن أن تحنو، فقد ... أشمت بي كل الأعادي موسى بن مهنا الأمير مظفر الدين ابن الأمير حسام الدين أمير آل فضل، تقدم ذكر والده مهنا وعمه فضل وأخويه سليمان وأحمد في أماكنهم. كان والده مهنا يقول: فرحت بأربع: عقل موسى، وشجاعة سليمان، وكرم أحمد، وحُسن فيّاض. وكان ما من أحد من العربان الأمراء إلا وقد أكل إقطاع التتار إلا موسى، فإنه كان السلطان يغضب عليهم ويطردهم من بلاده، وما يأكل إلا إقطاع السلطان. وكان يتنقل في إمرة آل فضل في حياة أبيه، وأخذها مرة من عمه الأمير شجاع الدين فضل. وتوفي رحمه الله تعالى بالقعرة فجأة بعد صلاة العشاء الآخرة في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. وبموسى هذا كان يُكنّى أبوه مهنا، فيقال يا أبا موسى. ونقل من القعرة بعد موته الى تدمر ودفن بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 موسى بن يحيى بن فضل الله الأمير صلاح الدين، تقدم نسبه في ترجمة أخيه القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في حرف الهمزة. كان من أحسن الأشكال، وممن لا شبهة في حسن صورته ولا إشكال، مترَّك الوجه والعين، تنصرف النفوس الى رؤيته ولم تلتفت الى الورق ولا العين. أدخله والده القاضي محيي الدين في جملة أرباب السيف، ولم يُر أن يُهدى الى وظيفة الكتاب في يقظة ولا طيف، فجمّل به المواكب، وكمّل به الكواكب، ثم إنه عُدّ في جملة الأمراء، وكاد يستخدم الجلة من الوزراء. ولم يزل في مطالع سعوده، ومعارج صعوده، الى أن فسد صلاحه، ولم يسفر بالحياة صباحه. وتوفي رحمه الله في صفر سنة ستين وسبع مئة. ومولده سنة عشرة وسبع مئة. هذا الأمير صلاح الدين توجه مع والده وإخوته الى الديار المصرية، وهو بزي الأتراك، فأعطاه السلطان الملك الناصر محمد إقطاعاً في حلقة مصر. وهو شقيق القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء الشريف، أخذ له في أيام الناصر أحمد إمرة عشرة بمصر، ثم أخذ له إمرة عشرين. وكان مقيماً عند أخيه، وبعد كل فترة من السنين يحضر الى دمشق لكشف أملاكه وتعلّقاته، ويعود الى الديار المصرية، وكان من أحسن الأشكال وأظرفها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 ولما توفي رحمه الله تعالى، وجد عليه أخوه القاضي علاء الدين وجْداً عظيماً. وكتبت أنا إليه من دمشق المحروسة أعزيه فيه: قد شبّ جمر الأسى في القلب واشتعلا ... مذ قيل لي إن موسى قد قضى الأجلا موسى بن يحيى الذي قد كان طلعته ... كأنها الشمس لما حلّت الحمَلا موسى بن يحيى بن فضل الله ذو نسب ... به الى عمر الفاروق قد وصلا ذاك الأمير صلاح الدين خير فتى ... قد زيّن الدهر والأيام والدولا قد كان موكب مصر يستنير به ... إذا غدا بنجاد السيف مشتملا قد كان بدراً تضيء الليل طلعتُه ... إذا بدا، أفلا أبكي وقد أفلا وكان ظلاً عليناً وارفاً وبه ... نلقى الردى، أفلا نأسى إذا انتقلا لولا وفاة صلاح الدين ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا فأعظم الله فيه أجر فاقده ... ولا استخف به من حزنه جبلا والله يبقيه في أمنٍ وفي دعة ... والله أكرم مدعو إذا سُئلا فإنه في نهايات العلا، فإذا ... أراد غاية مجد في الورى نزلا موسى الأمير شرف الدين الحاجب بحلب. أقام زماناً بحلب أمير حاجب، الى أن كرهه الأمير سيف الدين الكاملي، ولما عاد الى حلب نائباً ثاني مرة كتب فيه فتوجه الى قلعة الروم نائباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 ثم نُقل الى نيابة البيرة فأقام بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وسبع مئة بالبيرة، وتوجه عوضه الأمير جمال الدين آقوش الحاجب بحلب. موفقية ستّ الأجناس بنت أحمد بن عبد الوهاب بن عتيق بن وردان المصرية، مسندة القاهرة. سمعت من الحسن بن دينار، وعبد العزيز بن النقّار، والعلم بن الصابوني، وطائفة، وتفرّدت بسماع أجزاء. أخذ عنها شيخنا فتح الدين بن سيد الناس، والواني، وابن الفخر، وسائر الطلبة. وتوفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ومولدها سنة ثلاثين وست مئة. اللقب والنسب الموفّقي نائب غزة، الأمير ركن الدين بيبرس. الموفّق محمد بن محمد. الموفق ناظر الدولة هبة الله، ثم تسمى بعبد الله بن سعيد الدولة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 ابن المولى الحموي عبد الرحمن بن علي. المؤيّد صاحب حماة إسماعيل بن علي. المؤيّد صاحب اليمن داود بن يوسف. والمؤيد ابن خطيب عقربا عليّ بن إبراهيم. ابن ميسّر الصاحب عز الدين أحمد بن محمد. ابن مينا شمس الدين محمد بن محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 حرف النون ناصر بن منصور ابن شرف، القاضي الإمام ناصر الدين التغلبي الزُرعي الشافعي. كان رجلاً جيداً، كريم النفس، حسن الخلق، تام الشكل، مشكور السيرة، نزهاً عفيفاً. كان أولاً خطيباً بزرع، ثم ولي القضاء بها، وولي قضاء أذرعات، وقضاء عجلون ونابلس وحمص، وولي قضاء صفد وقضاء طرابلس، وما باشر بلداً إلا وحصل الثناء عليه. توفي رحمه الله تعالى بنابلس في ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ناصر بن أبي الفضل ابن اسماعيل، الفقيه المقرئ ابن الهيتي الصالحي، ابن شرف الدين الشافعي. كان مليح الصورة في صباه، مطرب الصوت، يقرأ القرآن في التُرب والختم، وحفظ التنبيه، ثم إنه، على ما ذكره شيخنا الذهبي، صحب الباجربقي وابن المعمار البغدادي والنجم بن خلكان، وتزندق، واستخف بأمور الدين، وتفوّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 بعظائم، وتزهد وتوجه الى مكة، ثم الى بغداد، ثم إنه فرّ منها لما همّوا بقتله، ثم هرب من ماردين، فشهدوا عليه بكفر ثان بحلب، فأمسكه قاضيها الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وبعثه مقيّدا الى دمشق، فأقيمت عليه البيّنة عند قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فما أبدى عذراً وسكت، لكنه تشهد وصلى ركعتين وتلا القرآن ثم ضرب عنقه، وما كفّن ولا غُسل. وكانت قتلته في يوم الثلاثاء حادي عشري شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة، وكان عمره نحواً من ستين سنة. قلت: قال لي جماعة إنهم لما توجهوا به ليضربوا عنقه أنشد: إن كان سفك دمي أقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي ابن نبهان الشيخ محمد بن نبهان. وولده الشيخ علي بن محمد. نجم الحطيني اسمه أيوب بن أحمد، وإنما اشتهر بالنجيم الحطيني، وحطين بكسر الحاء المهملة وتشديد الطاء المهملة وبعدها ياء آخر الحروف ونون. كان أفّاكاً، جريئاً على الأهوال فتّاكاً، لا يقدّم خوفاً من خالق ولا مخلوق، ولا يبالي بعد إدراك غايته أهو سابق أم مسبوق، يفتك نهاراً جهاراً، وإذا نزل بدار قوم رحل بخزية وترك عارا، ما حلّ في ناحية إلا ملأها فجورا، وكان له النّقص فيها زائراً ومَزورا، يفرّ من الشام الى مصر، ويخفر الذمة ويخون الإصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 ولم يزل يذهب ويحور، ويظلم نفسه وغيره ويجور، ويفوت كلَّ زرية ودمه كما يقال يفور، حتى وقع بأعماله، وقطع الدهر بخيبة آماله: وساقه البغي الى صرعة ... للحين لم تخطر على باله وكان المذكور شيطاناً من الشيطاين، وإبليساً من الأباليس، يسفك الدماء، ولا يقف عند خطة شرعٍ ولا غيره. أول ما اتصل بخدمة الشيخ شمس الدين محمد بن أبي طالب شيخ الربوة المقدّم ذكره في المحمدين، وكان الشيخ شمس الدين شيخ الخانقاه التي بحطين، فاتفق أن جاء إليهم فقير بات في الخانقاه، فرأى نجيم هذا معه ذهبا، فلما كان في الليل نبهه نجيم، وقال له: قم فقد طلع الصباح، فقام فوجد الليل باقياً، فقال: لا عليك أنا أخفرك حتى تطلع من هذا الوادي، فخرج به وعرّج عن الطريق وذبحه وأخذ ما معه. وجرى لشيخه مع كراي نائب صفد ما ذكرته في ترجمته. وهرب نجيم الى الديار المصرية، ودخل الى الصعيد واتصل ببعض الولاة وجرت له هناك واقعة أخرى من هذا النمط حدثني بها الشيخ شمس الدين بن الأكفاني وأُنسيت أنا كيفيتها. ثم إنه حضر بعد ذلك الى الشام فوجد شيخه الشيخ شمس الدين شيخ الربوة بدمشق، وأراد أن يعود الى صحبته، فأبعده ولم يقرّبه، ولا أراه وجهاً لما تقدم منه. وحدثني الشيخ شمس الدين بن أبي طالب قال: كنت أتحقق جرأته وإقدامه وكنت أخافه على نفسيه وأحذره، فما أنام في مقام الربوة حتى أتحصن وأحكم غلق الأبواب، فأكون في بعض الليالي نائماً، فما أشعر به إلا وقد أنبهني من نومي بإزعاج وبيده سكين ويقول لي: يا أفخاذ الغنمة، أو يا أفخاذ النعجة، إيش أعمل بك الساعة؟ فأقول له: اتق الله وخفْه، وأترفق له وأتلطف حتى يدعني ويمضي، ومن رأى الربوة وحصانتها تعجب من فعل المذكور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 ولم يزل بدمشق حتى أن أتى السلطان الملك الناصر محمد من الكرك الى دمشق سنة تسع وسبع مئة، فداخل مماليك السلطان والخاصكية واتصل بهم. حدثني الشيخ نجم الدين بن الكمال خطيب صفد رحمه الله تعالى، قال: لم نشعر يوماً بالنجيم إلا وعليه تشريف هائل، وقد جاء يسلّم علينا، فقلنا له: من أين لك هذا؟ قال: من السلطان، ومهما كان لكم من الحوائج قضيتها، قلنا له: عرّفنا بهؤلاء أصحابك، فقال: لا والله، متى عرفتموهم أنحستموني عندهم، ولكن أنا أقضي أشغالكم، قال: وقال لي إنني أنام في القصر الأبلق بين صناديق الخزانة الخاص، وأرى السلطان في منامه وقيامه، وليس بيني وبينه غير صندوق. ثم إنه عمل ملحمة وعتقها وذكر فيها حلية واحدة من مماليك السلطان اسمه جولجين. وقد تقدم ذكره في حرف الجيم، وذكر فيها أنه يلي الملك، وذكر فيها آثاراً وعلائم توصل الى رؤيتها في الحمّام، أو سأل عنها من البابكية، ولعب بعقل ذلك المسكين الى أن توهم أن ذلك يقع، وكان يقول له ولخوشداشيته أوقعوا الفعل، فيظهرون له الخوف، فيقول لهم: إذا لم تقتلوا السلطان، أنا أقتله لكم، فما قدّر الله تعالى ذلك، وتوجه معهم الى مصر وأقام عندهم سنتين. ثم إنه جاء الى حطين فاطلع السلطان على القضية، فوسط جولجين ومعهم جماعة، ثم بعث أخذ النجيم على البريد من صفد وجهزه الى دمشق مسمراً، وكان الموكب واقفاً في سوق الخيل بدمشق، وقد أقبل جمله، وهو مبرقع، فتوهم الناس أنه بكتمر الحاجب. وكان وصوله الى دمشق مسمراً في يوم السبت سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. وقلت أنا فيه: لابد في الاسم من معنى يخصصه ... بذلك اللفظ فافهم حكمه الأزلي كنجم حطين شاء الله رفعته ... لكنها بمسامير على جمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 نجمة التركماني خرج على الدولة وتحرم وتجرم، وأخاف السبل، وأخذ القفول، وروّع الناس ببلاد ماردين والموصل وسنجار، جهزت إليه الفداوية، فوقعوا عليه، وضربوه بالسكاكين مرات وينجو ويقوم ويعود الى الحالة الأولى. ثم إنه في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، انضوى الى زبيد الأحلاف لما أبعدوا عن الرحبة، وجاء الى الشيخ حسن بن هندو حاكم سنجار، وأخذ منه عسكراً وتوجه به وبالأحلاف ومقدّمهم محمد بن عبيد الزبيدي الى الرحبة، ولم يكن بها يومئذ يزك من عسكر دمشق، فأغار على الرحبة وقتل بها، وسفك الدماء، وأسر، وأثخن الجراح، ونهب الأموال والمواشي، وأبان في ذلك اليوم، فكان يوهم أنه يرمي شخصاً بالنّشاب ويفوّق السهم الى شخص بعينه، ثم يطلق السهم على غيره. وبالغ في أذى الرعية، وعاد الى سنجار، فتوجهت العساكر إليه من دمشق وحلب وحماة، وحاصروا سنجار، ثم إن حاكم سنجار أظهر الطاعة وحلف هو ونجمة لصاحب مصر وأظهرا التوبة والإنابة. ثم إن الفداوية وقعت عليه وضربته خمس ضربات فأمسك الفداوية، وحزّ رؤوسهم، وعلقها على باب سنجار. ثم إنه عوفي بعد مدة، ونزح من سنجار، وتوجه الى ماردين وأقام هناك يعبث ويغير ويؤذي ويعتمد كل قبيح، الى أن قتل هو وولداه ونوابه، وحزّ رؤوسهم صاحب ماردين، وجهزها الى باب السلطان صحبة سيف الدين تيتمر أمير آخور، صاحب ماردين، فلما وصل الى حلب قال الأمير سيف الدين بيبغاروس نائب حلب: أي كلاب هؤلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 حتى يتوجهوا برؤوسهم الى باب مولانا السلطان ليسوا أمراء توامين ولا ملوكاً، هؤلاء حرامية قطاع طريق، وباب مولانا السلطان أجلّ من ذلك، وترك الرؤوس في حلب، وجهز أمير آخور صاحب ماردين بما على يده من المكاتبة، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وقلت أنا فيه: إذا بغى المرء لم تُحمد عواقبه ... وقلّ باغٍ نجا من قبضة العطب كنجمةَ التركماني بات جثّته ... في ماردين وصار الرأسُ في حلب الألقاب والأنساب ابن النّجيبي أبو بكر بن أيبك. ابن النجار محمد بن أسد. ابن النّحاس جماعة، منهم الشيخ بهاء الدين النحوي محمد بن ابراهيم. وكمال الدين الحلبي إسحاق بن أبي بكر. وبهاء الدين بن النحاس الحنفي الحلبي أيوب بن أبي بكر. وعلاء الدين والي دمشق علي بن إبراهيم بن خالد، وولي أبوه أيضاً مدينة دمشق. وأمين الدين محمد بن أبي بكر. وشهاب الدين يوسف بن محمد. وابن نحلة علاء الدين علي بن يحيى. ابن النحوية الشيخ بدر الدين محمد بن يعقوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 نسب خاتون ابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها نسخة أبي مسهر عن إبراهيم بن خليل، ولا أعلم أنها روت غيرها. وكانت سمعت أيضاً من خطيب مردا، وابن عبد الدائم، وكانت كبيرة السن معمرة. لم تزل شيخة برباط بلدق الى حين وفاتها. وكانت كثيرة الإقامة عند الحنابلة بالدير تحبهم وتؤثرهم، وعندهم سمعت الحديث. وتوفيت رحمها الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة. الألقاب والأنساب ابن النشابي عماد الدين حسن بن علي. وناصر الدين محمد بن الحسن. النشائي الوزير ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله. النشّو ناظر الخاص عبد الوهاب. النشّائي عز الدين عمر بن أحمد. ابن النشو محمد بن عبد الرحيم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 نصر بن سلمان بن عمر الشيخ الإمام القدوة المقرئ المحدّث، النحوي، الزاهد، العابد، القانت، الرباني، بقية السلف المنبجي، نزيل القاهرة وشيخها. سمع بحلب من إبراهيم بن خليل، وبمصر من الكمال الضرير، وتلا عليه بعدة كتب، وعلى الكمال بن فارس، وتصدّر في أيام مشايخه، وشارك في العلوم وتفنن، ثم إنه تعبّد وانقطع، وتردد إليه الكبار وكان يهرب منهم، وارتفع ذكره جداً في دولة تلميذه الجاشنكير، وكان ممن يؤذي الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو الذي أحرف الجاشنكير عنه. قال ابن أخته الحافظ عبد الكريم: ما دخلت عليه قط إلا وجدته مشغولاً بما ينفعه في آخرته، وكان يتغالى في الشيخ محيي الدين بن عربي، ولا يخوض في مزمناته. قال شيخنا الذهبي: ولقد جلست معه بزاويته، فأعجبني سمته وعبادته. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء بعد العصر سادس عشر جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بمنبج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 نصر بن محمد بن محمد السلطان أبو الجيوش ابن السلطان ابن الأحمر الأنصاري المغربي. خرج على أخيه واعتقله وقتله وتملّك. وكانت دولته أربع سنين. ثم وثب عليه ابن أخته الغالب بالله وقهره، وقرر أبا الجيوش أميراً بوادي آش، فدام به نحواً من عشر سنين. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. نصير بن أحمد بن علي المناوي الحمّامي. كان عامياً إلا في النظم الذي يأتي بسحره، ويدير على الألباب كؤوس خمره، وكان في تلك الحلبة في جيادها المعدودة، وسوابقها التي تذر الرياح الهوج وأنفاسها مكدوده، قعدت معه التورية وجادت، ورأست على كلام غيره وسادت، معانيه بليغة وألفاظه فصيحة، وأبكاره برزت حاسرة ولم تخش فضيحة، وتراكيب كلماته في كل ما يأتي به في غاية الانسجام، ومقاصده مليحة تطوف على النفوس منها بالأنس جام، جاراه فحول عصره وجاراهم، وكتبوا إليه فأجابهم وباراهم وما ماراهم، وربما أربى في اللطف على مجاريه، ولو لم يكن حمامياً لما عرف حرّ الأشياء وباردها وأخذ الماء من مجاريه، كم ألغز فألغى ذكر من تقدم، وأوجز فأوجب أن الذي أداره على الأسماع كأس السلاف المقدم، وأعجز من أعجب السامعين، فقالوا ما غادر هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 الشاعر بعده من متردم، يقول من يسمع مقاطيعه الرائعة، أو يفكر في مقاصده اللائقة: أحروف لفظٍ أم كؤوس مدامة ... وافت ونشوة سامع أو شاربِ مما يضم السلك في جيد المها ... ة الرود، لا ما ضم حبل الحاطب تحلو شمائل حسنها مجلوة ... كالروض تحت شمائل وجنائب وكان في مصر يرتزق بضمان الحمامات، ويقيم بلاغة من فضالة تلك القمامات، عادة جرى الدهر على قاعدتها مع الأدباء، وغادة لم تغن الأيام من كان كفؤها من الألبّاء. ولم يزل على حاله حتى أصبح للأعداء رحمة، وبكته معانيه الجمة. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وسبع مئة. ومولده بمنية بني خصيب سنة تسع وست مئة. أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: كان المذكور أديباً بمصر كيّس الأخلاق يتحرّف باكتراء الحمامات، وأسنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشعر. وكتبت عنه قديماً وحديثاً. وأنشدني قال: أنشدني المذكور من لفظه لنفسه: لا تفُه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً لديكا قد سمعت الصدى وذاك جماد ... كل شيء تقول، ردّ عليكا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 قلت أنا: قوله: إن الصدى جماد فيه نظر، لأن الصدى هو الصوت العائد عليك عندما يقرع صوتك ما يقابلك من حائط أو غيره، ولكن يمكن أن يتمحّل له وجه ضعيف. والنصير رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول ابن سناء الملك: بان عليها الذل من بعدهم ... ونراه حتى كاد أن لا يبين فإن تقل أين الذين اغتدوا ... يقل صداها لك أين الذين وأخذه ابن سناء الملك من الأرجاني حيث قال: سأل الصدى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب، فقال مثل مقاله ناداه أين ترى محطّ رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله وقال، أنشدني له أيضاً: أقول للكزس إذ تبدّت ... في كف أحوى أغنّ أحور خرّبت بيتي، وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدوّر وبه قال، أنشدني له: إن الغزال الذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم عندي بعدما نفرا أظهرتها ظاهريات وقد ربضت ... فيها الأسود رآها الظبي فانكسرا وبه قال: أنشدني له: قالوا افتضحت بحبه ... فأجبت لي في ذا اعتذار من لي بكتمان الهوى ... وبخده نمّ العذار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 قلت: أحسن منه وأصرح قول الآخر: لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوّام كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام وبه قال: أنشدني له: ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضنىً وذبت توقدا ويظنني حياً، رويت ريقه ... فإذا دعا قلبي، يجاوبه الصدى وبه قال: أنشدني له: ماذا يضرك لو سمحت بزورة ... وشفعتها بمكارم الأخلاق وردعت نفسك حين تمنعك اللّقا ... وتقول هذا آخر العشاق وبه إجازة، قال: أنشدني لنفسه: إني لأكره في الأنام ثلاثة ... ما إن لهم في عدها من زائد قرب البخيل، وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي، وتودّداً من حاسد ومن البلية والرزية أن ترى ... هذي الثلاثة جمّعت في واحد وأنشدني من لفظه القاضي جمال الدين إبراهيم ابن كاتب سر حلب، قال: أنشدني من لفظه لنفسه: لي منزل معروفه ... ينهلّ غيثاً كالسحب أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب وبه قال: أنشدني لنفسه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 رأيت فتى يقول بشطّ مصر ... على درج بدت والبعض غارق متى غطى لنا الدرج استقينا ... فقلت: نعم وتنصلح الدقائق قلت: في قوله الدقائق هنا نظر، وقد أشبعت القول في فساد ذلك في كتابي المسمى فضّ الختام عن التورية والاستخدام. وبه قال: أنشدني له: ومذ لزمت الحمام صرت فتى ... خلاً يداري من لا يداريه أعرف حرّ الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه قلت: لما كتب أبو الحسين الجزار الى النصير قوله: حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف والعبد مذ كان في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف كتب النصير الحمامي بيتيه المذكورين، وقد أربى النصير على أبي الحسين، لأن الجزار أتى بمثل واحد، والحمّامي أتى بمثلين. وقال النصير للسراج الورّاق: قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين، وأشتهي أنك إذا قرئت عليه تزهزه لها وتشكرها، وسيّرها الى الصاحب، فلما أنشدت بين يديه بحضرة السراج، قال الوراق بعدما فرغ من إنشادها: شاقني للنصير شعرٌ بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت: نعم المولى ونعم المصير فأمر له الصاحب بدراهم وسيّرها إليه. وقال: قل له: هذه مئتا درهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 صنجة، فلما أدى الرسول الرسالة، قال: قبل الأرض بين يدي مولانا الصاحب، وقل نسأل صدقاتك أن تكون عادة، فلما سمع الصاحب بذلك أعجبه، وقال: يكون ذلك عادة. وكتب النصير الى السراج يتشوق: وكدّرت حمامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذاتها صفو مشربي فما كان صدر الحوض منشرحاً بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب قلت: وهذان مثلان أيضاً يتعلّقان بالحمّام. وكتب أيضاً يستدعي: من الرأي عندي أن تواصل خلوة ... لها كبد حرّى وفيض عيون تراعي نجوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع فارح وحزين غدا قلبها صبّاً عليك، وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون وكتب ناصر الدين بن النقيب الى النصير، وقد حصل له رمد: يقولون لي عين النصير تألمت ... ولازمه في جفنه الحكّ والأكلُ فقلت: أعين الرأس أم عين غيره ... فلعلو شيء لا يداوى به السفل فقالوا: به العين التي تحت صلبه ... فقلت: لها التشيف عندي والكحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 وميل بماء الريق يبتلّ سفله ... فيدخل سهلاً غير صعب وينسلُ وأغسلها بالبيض واللبن الذي ... علي بتقطيري له تجب الغسلُ فإن شاء وافيتُ الأديب مدانيا ... ولم أشتغل عنه وإن كان لي شغل فكتب النصير الجواب: أيا من له في الطب علم مباشر ... وما كل ذي قول له القول والفعلُ أتيت بطبٍ قد حوى البيع والشرا ... تبيّن لي في ذلك الخرج والدخل وإن كان لي بطبّك إنه ... بسقمي صعب ليس هذا به سهلُ فلا عدِم المملوك منك مداوياً ... وما زال للمولى على عبده الفضل وكتب ابن النقيب إليه وهو بقرية في خطه: رغبت في كسر أجر ... وفي اغتنام مثوبهْ وهان ما كان فيه ... من السراج صعوبهْ ولست في أرض شام ... ولست في أرض نوبه وبيننا رمي سهم ... غلطت بل رجم طوبه فكتب النصير الجواب: رُحماك يا خير مولى ... ففي العتاب عقوبهْ وأنت إن زدت عتباً ... يغدو غلامك قوبه والعبد مازال يهوى ... لا بل يحب الرطوبه تموّز فكرك والعب ... دُ فكره فيك طوبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 قلت: ما كان يليق ذكر تموز وهو من شهور الروم، وطوبة وهو من شهور القبط. وكتب النصير الى السراج الوراق: كنت مثل الغزال والله يكفي ... صرتُ في وجهه إذا جئت كلبا ولعمري لا ذنب لي غير أني ... تُبتُ لله ظن ذلك ذنبا وهو لو جاءني وقد تبت حتى ... يبتغي حاجة فلن أتأبّى فكتب الوراق الجواب، ومنه: وأتى الظبي مرسَلاً منك فاستغ ... ربْتُ لما دعوتَ نفسك كلبا ولكم جئت عادياً خلفه تل ... هث عَدواً للصيد بُعداً وقربا غير أني نظرت عين صفي الد ... ين كادت أن تشرب الظبي شربا فاترك التوبة التي قد رآها ... لك وزراً كما زعمت وذنبا واجتهد في رضاك عنه وقرّب ... كل نائي المدى تنلْ منه قربا فلكم رضت جامحاً في تراضي ... هـ وذللت بالسفارة صعبا وكتب الى السراج أيضاً ملغزاً في نون: ما اسمٌ ثلاثي يرى واحداً ... وقد يُعدّ اثنين مكتوبه يظهر لي من بعضه كله ... إذ كل حرف منه مقلوبه أضف ثمانين الى ستة ... إن شئت لا يعدوك محسوبه اطلبه في البر وفي البحر لا ... فات حجى مولى مطلوبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 فكتب الوراق الجواب: يا سالب الألباب عن سحره ... بمعجز أعجز أسلوبُهْ ألغزت في اسم وهو حرفٌ وقد ... يخفى علينا فيك محجوبه وهو اسمُ أنثى مرضع، طفلها ... غيرُ لبان الناس مشروبه مطّرد منعكسٌ شكله ... سيّان في العين مقلوبه قلت: قول النصير: أضف ثمانين الى ستة وهمٌ منه، لأن النونين بمئة والواو بستة فيكون ذلك مئة وستة. وكتب النصير الى الورّاق ملغزاً في سيل: أيا مَن له ذهنٌ لدى الفكر لا يخبو ... ومن لم يزل يحنو ولم يزل يحبو قصدتُ سراج الدين في ليل فكرة ... يكاد جوادُ العقل في سيلها يكبو ليرشد في شيئاً به يدرك المنى ... له قلب صبٍ كم فؤاد به صبُّ إذا ركب البيداً يخشى ويُتّقى ... ولم يثنه طعن ولم يثنه ضربُ بقلب يهد الصخر يوم لقائه ... ومن أعجب الأشياء ليس له قلب فكتب الوراق الجواب: أراك نصير الدين عذّبت خاطري ... وقد راق لي من لغزك المنهل العذبُ وأثبتّ قلباً منه ثم نفيته ... وأعرفه صبّاً وهام له قلبُ وأعرف منه أعيناً لا تحفّها ... جفون كعادات الجفون ولا هُدب ومن وصفه صبُّ كما أنت واصف ... صدقت ولولاه لما عرف الحب فدونك ما ألغزته لي مُبيّنا ... وذلك ما يحتاجه العُجم والعُرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 وكتب النصير إليه أيضاً: أتى فصل الخريف عليّ جداً ... بأمراض لواعجها شدادُ وأعذر عائي إن لم يعدني ... وربّ مريض قومٍ لا يعاد فأجاب الورّاق: خلائقك الربيع فليس تخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد ولا والله لم أعلمه إلا ... صحيحاً والصحيح فما يعادُ وكتب النصير إليه أيضاً: أيها المحسن الذي وهب الله ... تعالى الحُسنى له وزيادَهْ ضاع ما كان من وصولات وصلي ... فتصدق بكتبها لي مُعاده أين تلك الطروسُ نظماً ونثراً ... منك تأتي على سبيل الإفادهْ كل طرس يحلى عروساً بدرّ ال ... قول كم من عقد وكم من قلاده كان عيشي إذا أتاني رسولٌ ... منك يحيي خلاً أمتّ وداده شهد الله ليس لي غير ذكرا ... ك وإلا خرست عند الشهاده فكتب الوراق الجواب: لم يغب عن سواد عيني حبيبٌ ... حلّ من قلبي المشوق سواده فكأني ولا أذوق له رز ... ءاً جريرٌ وذاك عند سواده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 ذو بيان أدنى بلاغته تُن ... سيك قساً وعصره وإياده جوهري الألفاظ كم قلّد الأج ... ياد عقداً من نظمه وقلاده فعبيدٌ أدنى العبيد لديه ... ولبيد عن نظمه ذو بلادَه ولأزجاله ابن قُزمان يعنو ... فلتوشيحه يقرّ عُباده فات دار الطراز منه خلال ... لَوبها للسعيد تمت سعاده يا صديقي الذي غدا راغباً ف ... ي وللأصدقاء فيّ زهاده هجروني كأنني مصحف أو ... مسجد قد أقيم أو سجّاده دمت نعم النصير لي ما تغنّت ... ساجعاتٌ على ذُرا ميّاده وكتب النصير الى الوراق: يا أيها المولى السرا ... ج وماجداً أعلى مناره يا من تجاوز فضله ... حدَّ القياس مع العباره يا من يلوح بوجهه ... حسنٌ لناظره نضاره يا بدر تمّ كم علي ... هـ غدت من الفضلاء داره كم في الورى معنى تني ... ر ولم أقل طوراً وتاره وإذا مدحناه فما ... فيه صفات مستعاره لمبشري إن زرتني ... بشرى ويحظى بالبشاره يا واعدي في السبت هـ ... ذا السبت جاء وشنّ غاره متصدقاً زرني فذا ... يوم التصدق والزياره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 فكتب الجواب عن ذلك: مولاي يا حول الخلا ... ئق والعبارة والإشاره ومنمّقاً في الطرس رو ... ضاً كاد أن يجري غضاره قد كنت يوم السبت ذا ... عزم على قصد الزياره لو لم تشنّ عليّ آلامي كفاك الله غاره وكتب النصير ملغزاً في النار: وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تُغني عن الشمس والقمر وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر يمد لساناً يختشي الرمح بأسه ... ويسخر يوم الضرب بالصارم الذكر يموت إذا ما قمت تسقيه قاصداً ... وأعجب من ذا أن ذاك من الشجر أيا سامع الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبّه لها عمر فكتب الوراق الجواب: أراك نصير الدين ألغزت في الذي ... يعيد لمسك الليل كافور في السحرْ رأى معشر أن يعشقوها ديانة ... وتالله لا تبقي عليهم ولا تذَرْ وكل على قلب لهم ران اسمها ... فمسكنهم فيها ومأواهم سقر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 وقد وصفوا الحسناء في لهجة لها ... كما وصفوا الحسناء بالشمس والقمر ولو لم تكن ما طاب خبزٌ لآكل ... ولا لذّ ماء في حماك لمن عبر وكتب النصير الى الوراق ملغزاً في ديك: أيا من لديه غامض الشعر يكشفُ ... ومن بدره بادي السنا ليس يُكسَفُ عساك هدىً لي إنني اليوم ذاهل ... عن الرشد فيما قد أرى متوقف أرى اسماً له في الخافقين ترفّع ... أخا يقظة ذِكراً ولا يتعفّف رأيت به الأشياء تبدو وضدّها ... فكان لهذا الأمرلا يتكيّف فعرّفه ذو السمع وهو منكر ... ونكّره ذو اللب وهو معرّف فجاوب لأحظى بالجواب فإنه ... إذا جاوب المولى العبيد يشرّف فكتب الوراق الجواب: إليك نصير الدين مني إجابة ... بها أوضح المعنى الحفيّ وأكشف رأيتك قد ألغزت لي في متوجٍ ... بتذكاره أسماعنا تتشنف ينبّه قوماً للصلاة ومعشراً ... عبادتهم آسٌ وكاسٌ وقرقف له كرم قد سار عنه وغيرة ... وعرفٌ به من غيره ظل يُعرف حظيّاً تراه وادعاً في ضرائر ... يزيّنه تاج وبُردٌ مفوَّف وفي قلبه كيدٌ ولكن صدره ... غدا ضيقاً مثلي بذلك يوصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 وكتب إليه النصير ملغزاً في نعامة: ومفردٍ جمعاً يُرى ... بحذف بعض الأحرف اسم نعى أكثره ... فقال باقيه أكفف تراه يعدو مسرعاً ... في بُرده المفوّف فكتب الوراق الجواب: لو قلت فيمن قد نعى ... مات لصدقتك في وكل باغ كالذي ... يبغي رهين التلف ألغزت في اسم طائر ... في الأرض عنا ما خفي يفحص فافحص عنه يا ... ربّ الفنون تعرف وهو لعمري في السما ... ء يُقتفى ويقتفي وكتب النصير الى الوراق، وعنده أحمد الزجّال: عندنا من غدا بحبك مغرى ... وله فيك عشقة وغرام موصلي يهوى الملاح إذا ما ... جاء صبح اللحى وولى الظلام فهو لا ينتهي عن الشيب بالش ... يب فماذا تقول يُجدي الملام لا تسلّي منه الفؤاد مدامٌ ... عن حبيب ولو تغنى الحمام لو تبدّى لعينه ابن ثماني ... ن غدا وهو عاشق مستهام يستبيه من العيون بياض ... ومن الألعس الشفاه ابتسام قرّ عيناً وطب فديتك نفساً ... عنده أنت أنت بدر تمام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 فكتب الوراق الجواب: حبذا من بنات فكرك عذرا ... ء لها من فتيق مسكٍ ختامُ خلت ميم الروي وقد ضا ... ق ومن ذاق، قال فيه مدام ولها من عقود لفظك حلي ... لم يحُز مثل درّه النظّام أذكرت بالشباب عيشاً خليعاً ... نبت فوديه بعد آس ثمام كيف لا كيف لا ولم أر صعباً ... قط يأتي إلا وأنت زمام وبما فيك من تأتٍ ولطفٍ ... أنا شيخ للموصلي غلام فهو نعم المولى ونعم النصير ال ... مرتضى أنت صاحبا وإمام وكتب النصير أيضاً إليه ملغزاً في كُنافة: يا واحداً في عصره بمصره ... ومن له حسن الثناء والسنا تعرف لي اسماً فيه ذوق وذكا ... حلو المحيا والجنان والجنى والحلّ والعقد له في دسته ... ويجلس الصدر وفي الصدر المنى إن قيل يوما: هل لذاك كنية ... فقل لهم: لم يخل ذاك من كنا فكتب الوراق الجواب: لبّيك يا نعم النصير والذي ... أدنت به المنية لي كل المنى عرّفتني الاسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سره لولا الكنى له من الحور الحسان طلعة ... تقابل المرآة منها الأحسنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 وخِدنه بعض اسمه طيرٌ غدا ... أصدق شيء إن بلوت الألينا وهو لسان كله وبعد ذا ... منظره عند الكلام ألكَنا وفي خوان المجد كان مألفي ... عند الصيام ربّ فاجمع بيننا وكتب النصير أيضاً الى الوراق مع ظروف يقطين في فرد: يا مَن لدفع الردى غدا جُنّهْ ... ومن له في قبولها المِنّهْ هدية في الإناء يتبعها ... خير نبي وهكذا السُنّه إذا بدا ظرفها بغلطته ... يود فتح الأديب لو أنّه فكتب الوراق الجواب: يا من غدا لي من العدا جُنّهْ ... ومن بحمامه لنا جنّهْ جاء بها الفرد وهو ممتلئ ... مثل فؤاد الحماة بالكنّه وكل ظرف منها بنوه على ال ... فتح فحقق في حبه ظنه وكتب النصير الى الوراق أيضاً: رُبّ راوٍ عن النبي حديثاً ... مسنداً شافياً كلاماً فصيحا قال: قال النبي قولاً صحيحاً ... قلت: قال النبي قولاً صحيحا وفهمت الذي أشار إليه ... وسمعت الذي رواه صريحاً قال لي: يا أديب أنت فقيه ... قلت: لا، قال: حُزت ذهناً مليحا فكتب الوراق الجواب: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 إن فعلاً جعلته أنت قولاً ... ليس فيه يحتاج منكم وضوحا فابْن منه مضارعاً يظهر الخا - في ويبدو الذي كنيت صريحا وتراه يبدو لعينيك معت ... لاً وقد قلت فيه قولاً صحيحا وهو فعلٌ لم تأته أنت يا شي ... طان فافهم مقاتلي تلويحا وقال النصير يصف حمّامه: حمّام الأديب العارف ... ما يجري، وحالو واقف بها اسطول وما فيها أسطال ... والماء يتّزن بالقسطال والعمال رأيتو بطال ... والاسكندراني ناشف وماريت فيها بلان ... يسرّح لهد بالإحسان والزبال يعرّ القوسان ... قال والخاتمه يصّالف ذي دونه وقيّمها دون ... مبنية على مئة مجنون والماء في المجاري مخزون ... والأنبوب معوج تالف وتابوت على فسقيّة قلت ... مت بالكلية خذوا من نصير الدية ... وإلا اثنيناً متناسف وما أحسن ما كتب به ابن دانيال وهو: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 لئن فخرتْ بالمكرمات بنو مصر ... فإنك بين الناس أجدر بالفخرِ فما زلت ذا النادي النديّ لقاصد ... كثير رماد القِدر مرتفع القدرِ ونارك للعافين دائمة اللظى ... لها لهب يبدو كألوية حُمر وبيتك بيتٌ لم يزره مدنس ... فيذهب إلا وهو معه على طهر وكم سقت ياقوتاً إليه وجوهراً ... لزينته حتى نسبت الى أمر فلا زلت ذا الرمح الطويل تهزه ... يمينك عند النقع للبيض والسمر وتسلب أسلاب الرجال وإنه ... لسلب فتى لم يأت ذاك على عذر وكم لك من مشمولة قد عصرتها ... معتقة للشرب طيبة النشر وكم تائب وفاك يكشف رأسه ... فحققت منه أنه جاء عن عذر قلت: لقد جوّد هذا النظم ابن دانيال، وحقق أن مثله لا ينال. وقوله: ومشمولة قد عصرتها هو قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بعينه ملغزاً في لسان الحرير الذي يستعمله المصريون في عمائمهم، وأبدع في ذلك غاية الإبداع، وهو: ومشمولة راقت ورقّت فأصبحت ... على الشرب تزهى حين تهدى الى الكاس وما عُصرت يوماً برجلٍ وكم لها ... إذا ما أديرت من صعود الى الراس معتقة ما شمّست بعد عصرها ... لإثم وكم فيها منافع للناس ابن النصيبي تاج الدين محمد بن أحمد. وضياء الدين محمد بن محمد. النصيبي القوصي محمد بن محمد بن عيسى. ابن النصير كاتب الحكم علاء الدين علي بن محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 نُضار بضم النون - بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة الشيخ العلامة أثير الدين أبي حيان. حجّت وسمعت بقراءة شيخنا البرزالي على بعض الرواة، وحدثت بشيء من مروياتها وحضرت على الدمياطي، وسمعت على جماعة، وأجازها من الغرب أبو جعفر بن الزبير، وحفظت مقدمة في النحو. وعمل شيخنا أثير الدين والدها لما توفيت فيها كتاباً سماه ال نضار في المَسلاة عن نَضار. وكان والدها يثني عليها ثناء كثيراً. وكانت تكتب وتقرأ، وقال لي والدها: إنها خرّجت جزء حديث لنفسها وإنها تعرب جيداً، وأظنه قال لي: إنها تنظم الشعر. وكان يقول دائماً: ليت أخاها حيّان مثلها. وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة في حياة والدها، فوجد عليها وجداً عظيماً ولم يثبت، وطلع الى السلطان وسأله أن يدفنها في بيته بالبرقية داخل القاهرة، فأذن له في ذلك، وانقطع عند قبرها ولازمه سنة. ومولدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبع مئة. ولما توفيت كنت بالرحبة فكتبت الى والدها بقصيدة أولها: بكينا باللجين على نُضار ... فسيل الدمع في الخدين جار فيا لله جارية تولت ... فنبكيها بأدمعنا الجواري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 الألقاب ابن نفيس علي بن مسعود. ابن النقيب محمد بن سليمان. النعمان بن دولات شاه ابن علي الخوارزمي الشيخ علي. وصل الى دمشق في شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها أياماً، وتوجه الى باب السلطان بالقاهرة، وحج من هناك، وأقام بالقاهرة مدة سنة ونصف، ورجع الى مخدومه القان أزبك. وكان فاضلاً، طاف البلاد، واجتمع بالفضلاء، وحصّل المنطق والجدل والطب، وعاد الى بلده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، واتصل بملكها وخدم عنده طبيباً، وصار رئيس الأطباء ببيمارستان خوارزم. ثم إنه أرسله الى طقطاي بن بركة ملك دشت القبجاق، فحظي عنهد، ولما مات وولي أزبك أعطى للنعمان مالاً كثيراً ليعمر من بعضه خانقاه بالقدس، ويفرق البعض على المجاورين. ومولده سنة سبع وخمسين وست مئة. وكان قد استصحب من كتب الطب شيئاً كثيراً من دمشق لما عاد الى بلاده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 نعمون بن محمود ابن نعمون بن عزيز، الشيخ نجم الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح غرس الدين الحراني الحنبلي المؤذن بالجامع الأموي. سمع من ابن أبي اليسر، والجد بن عساكر، وجماعة. وحدّث وحج، وله نظم وأشياء مما تليق بالمئذنة. توفي في تاسع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وستين وست مئة. وكان خفيف الروح مع الديانة. النسب واللقب النمراوي عز الدين الفقيه عبد العزيز بن عبد الجليل. ابن نوح الشيخ عبد الغفار بن أحمد. النهاوندي شرف الدين محمد بن عثمان، ووالده جلال الدين بن أبي بكر. نوروز نائب القان غازان محمود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 كان ديّناً مسلماً عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم، وملّكه البلاد، ثم إنه وقع بينهما، فقتل غازان أخا نوروز وأعوانه، فجهز لقتاله النوين خطلوشاه، فتغلل جمع نوروز، واحتمى بهراة، فقاتل أهلها عنه، ثم إنهم عجزوا عن نصرته، فقتل نوروز في سنة ست وتسعين وست مئة، وبعث برأسه الى غازان. نوروز الأمير سيف الدين. كان في مصر معظّماً الى أن عاد الأمير سيف الدين طاز من الحجاز فأقام قليلاً ورسم بإخراجه الى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين شيخو القازاني الساقي، وحضر إليه على ثلاثة أرؤس من خسل البريد، ووصل الى دمشق في رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها أميراً الى أن ورد المرسوم على الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام بإمساكه، فاعتقله بقلعة دمشق، وجرى ما جرى في واقعة بيبغاروس، وكان اعتقاله في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة. ثم أُخرج عنه وتوجه الى مصر فيما أظن، ثم أعيد الى دمشق، ولم يزل الى أن كانت واقعة بيدمر، وحضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي، فقطعت إمرته. ولما كان في العشر الأوسط من شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة توفي رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 اللقب والنسب النور الحكيم عبد الرحمن بن عمر. نوغاي الأمير سيف الدين الجمدار. أمر السلطان الملك الناصر محمد بإمساكه بدمشق في ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة. ولم يزل في الاعتقال بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير، وبقي الحرس على قبره أياماً. نوغاي الأمير سيف الدين الجمدار. كان أميراً قديم الهجرة بدمشق، فلما توفي الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر أُعطي إقطاعه، وتقدمته على الألف. وأقام على ذلك مدة بدمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة. ودفن قبالة جامع كريم الدين بكرة الجمعة، فخلّف عليه ديوناً كثيرة، وأعطي إقطاعه للأمير زين الدين قطليجا الدوادار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 الألقاب والنسب ابن أبي النوق عثمان. النويري شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. وفخر الدين عثمان بن يوسف. وعماد الدين ناظر الكرك وصفد وغيرها محمد بن محمد بن يعقوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 حرف الهاء هارون بن موسى بن محمد رشيد الدين، المعروف بابن المصلّي الأرمنتي. قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به ولم يعلق بذهني منه شيء، وله شعر كثير يأتيه من جهة الطبع، ليس يُعرف له اشتغال، وكان إنساناً حسناً فيه لطافة. وتوفي رحمه الله تعالى بأرمنت سنة ثلاثين وسبع مئة. وأورد له قوله: حثّها الشوق حثيثاً من وراها ... فتراها عانقت تُرب ثراها واعتراها الوجد حتى رقصتْ ... طرباً أسكرني طيبُ شذاها غنّني يا ساقي الراح بها ... ليس يُغني فاقتي إلا غناها منها في ذمّ الحشيش ومدح الخمر: واملَ لي حتى تراني ميّتاً ... إن موت السُكر للنفس حياها ليس في الأرض نباتٌ أنبتت ... فيه سرٌ حيّر العقل سواها رامت الخضراء تحكي سُكرها ... قتلوها بعد تقطيع قفاها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 قال: وكان في قبلي الدمقرات قرية تسمى ببوية وفيها ببرويّة، فقال فيها الرشيد المذكور: بدويّه في بَبويَهْ ساكنا ... صيّرت عندي المحبة ماكنا اسمها ست العربْ ... هيّجت عندي الطّرب أنا قاعد بين جماعة نستريح عبرت وحده لها وجه مليح بقوام اعدل من الغصن الرجيح في الملاحة زايدا ووراها قايدا لو تكون لي رايدا كنت نعطيها ألف دينار وازنا ... وابن في داخل بيوتي ماذنا وترى مني العجب ... في تصانيف الأدب نفرت مني كما نفر الغزال واسفرت لي عن جبين يحكي الهلال ورنت أرمت بعينيها نبال ثم قالت يا فلان خذ من احداقي أمان معك في طول الزمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 فأنا والله مليحه فاتنا ... ومن الحُساد ما أنا آمنا والملوك واهل الرتب ... ياخذوا من الحسب قلت يا ستي أنا هوني نموت ادفنوني عندكم جوّا البيوت والعذارى حولها يمشوا سكوت ثم قالوا كلّميه يا عُريبه وارحميه ذا غريب لا تهجريه يشتهر حالك يصير لك كاينا ... يقتلوه أهلك وتبقى ضامنا ذا الحديث فيه العطب ... ليس ذا وقت الغضب قالت امض لا يكن عندك ضجر واصطبر واعمل على قلبك حجر ما طريقي سابله من جا عَبر ذي العذارى يعرفوك ما تراهم يسعفوك ظلموني وأنصفوك قم وعاهدني فما أنا خاينا ... وأنا الليلة لروحي راهنا مرّ وعبّي لي الذهب ... فترى عقلك ذهبْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 عاهدتني وبقيت في الانتظار واورثتني الذل بعد الانكسار والدجا قد صار عندي كالنهار عندما غاب القمر واظلم الليل واعتكر جف قلبي وانكسر وعُريبا في حديثي واهنا ... أمنه في سربها مطّامنا والفؤاد مني اضطرب ... ونشف ذاك الطرب صرت نرى النجم الى وقت الصباح إذ بدا ذا الكوكب الدرّي ولاح وإذا هي قد أتت ست الملاح والعذارى في عتاب مع عريبا في ضراب ثم قالت ذا الكلاب ينبحوا تأتي الرجال الظاعنا ... بالسيوف وبالرماح الطاعنا يدركوني في الطلب ... يجعلوا رأسي ذنبْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 اللقب والنسب ابن هارون المغربي عبد الله بن محمد. هاشم بن عبد الله بن علي الشيخ الإمام الفاضل نجم الدين أبو محمد التنوخي البعلبكي الشافعي، مدرّس المدرسة الصارمية. اشتغل بالعلم مدّة عمره، وكتب بخطه، ونسخ وحصّل الأجزاء والكتب، وقرأ على الشيوخ، وسمع بقراءة شيخنا البرزالي على الشيخ تاج الدين الفزاري وغيره. وتوجه في الجفل الى القاهرة، وسمع مع المقاتلي. وولي المدرسة المذكورة بعد عماد الدين ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، ودرّس بها في تاسع شهر رجب الفرد سنة ... وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وحضر جنازته جماعة من الفقهاء. ومن شعره: ولقد سمعت بسكّر من وصلكم ... فعساكم أن تجعلوه مكررا وأظنه حلواً لذيذاً طعمه ... إذ كنت أسمع بالوصال ولا يرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 ومن شعره: لا تركننّ الى الخريف فجوّه ... كدرٌ وخفقُ نسيمه خطّافُ يجري مع الأبدان جري صديقها ... من لطفه ومن الصديق يخاف ومنه في المشمش اللوزي: أنكر العاشقون صفرة لوني ... بعدما كان كالزبرجد أخضر ما دروا أنني عشقت فلوني ... اكتسى صفرة وقلبي تكسّر الهاشمي نور الدين علي بن جابر. وشمس الدين محمد بن هاشم. هبة الله بن عبد الرحيم ابن ابراهيم: شيخ الإسلام، ومفتي الشام، وأحد الأئمة الأعلام، قاضي القضاة شرف الدين أبو القاسم ابن القاضي نجم الدين ابن القاضي الكبير شمس الدين أبي الطاهر بن المسلّم الجُهني الحموي البارزي الشافعي، قاضي حماة، صاحب التصانيف. سمع من أبيه وجدّه، وابن هامل، والشيخ ابراهيم بن الأرموي يسيراً، وتلا بالسبع على التادفي، وأجاز له نجم الدين الباذرائي، والكمال الضرير، والرشيد العطار، وعماد الدين بن الحرستاني، وعز الدين بن عبد السلام، وكمال الدين بن العديم. برع في الفقه وغير ذلك، وتشعبت به في الفضائل الطرق والمسالك، وانتهت إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 الإمامة في زمانه، وتفرد برئاسة العلم في أوانه. وكان بحراً من بحور العلم الزخّارة، وحبراً من أحباره، الذين توقدوا للهدى مثل الكواكب السيارة، تستحي ذُكاء من ذكائه، وتفيض علومه حتى يأخذ الغمام منها ملء زكائه، مكباً على الطلب لا يفتر ولا يني ولا يقول السأم لنفسه طالبي بالتي هي أحسن ولا يني قد جانب ملة الملل، وتحقق أن الإخلال بذلك من الفساد والخلل، هذا مع الصون والرزانة والتواضع الذي زاده رفعة وزانه، والوقار الذي خفّت الجبال أن تكون وزانَه، والحلم الذي هو زينة العلم، وطراز الحرب والسلم، والمحاسن التي ما محا سناها ضوء صباح ولا حوتها الوجوه الصِّباح: تراه إذا ما زرته متواضعا ... جليلاً على حشد الندي وحفله وتعرف منه الفضل من قبل نطقه ... كما يُعرف الهندي من قبل سلّه وتبصر منه أمةً وهو واحد ... وما زاد في ذي عدة مثل نبله إذا كان في أفق وأظلم حادث ... سرى خائف العشواء في ضوء عقله ولم يزل على حاله بحماة الى أن ترك القضاء، وذهب بصره فشكر القدر والقضاء. ثم إن البارزي أضمره الضريح وأخفاه، واستكمل الأجل واستوفاه. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 فتوفي رحمه الله تعالى عن ثلاث وتسعين سنة، وحج مرات، وحدّث بأماكن، وحمل الناس عنه علماً جماً، وأذن لجماعة بالإفتاء. وبلغني أن الشيخ برهان الدين بن تاج الدين الفزاري كان يقول: أشتهي أن أروح الى حماة، وأقرأ التنبيه على القاضي شرف الدين البارزي. وكان يرى الكف عن الخوض في الصفات، ويثني على الطائفتين، واقتنى من الكتب شيئاً كثيراً بحيث إنه كان عنده من كل شيء نسختان وثلاثة. وكان إذا سمع بتصنيف لأحد من أهل عصره جهّز الدراهم واستنسخ ذلك. وباشر القضاء بلا معلوم لغناه عنه، وما اتخذ درّة ولا عزّر أحداً قط، ولا ركب بمهماز ولا مقرعة، وعُيّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وكانت جلالته عجيبة مع تواضعه. وكان قد أخذ الفقه عن والده وجده وجدّه، عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، وعن فخر الدين بن عساكر، وأخذ القاضي عب الله عن القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، عن الفارقي، عن أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب، وأخذ فخر الدين عن قطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل السلطان، عن الغزالي، عن إمام الحرمين، عن أبيه، عن أبي بكر القفّال. ووقف القاضي شرف الدين كتبه وهي تساوي مئة ألف درهم. ولما توفي رحمه الله تعالى أغلقت أسواق حماة لمشهده. وله من النصانيف: تفسيران، وكتاب بديع القرآن وكتاب شرح الشاطبية وكتاب الشرعة في السبعة وكتاب الناسخ والمنسوخ، ومختصر جامع الأصول في مجلدين، والوفا في شرف المصطفى، والإحكام على أبواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 التنبيه، وغريب الحديث كبير، وشرح الحاوي، أربع مجلدات، ومختصر التنبيه، والزبدة في الفقه، وكتاب المناسك، وكتاب عروض وغير ذلك. وله مما يقرأ طرداً وعكساً: سور حماة بربّها محروس. قلت: وهذا في غاية الحسن، لأنه فصيح الألفاظ، عذب منسجم، ليس عليه كلفة، وفي القرآن العظيم من هذا النوع وهو قوله تعالى: " كلٌ في فلك " وقوله تعالى: " ربّك فكبّر ". ومما جاء منه في الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية ". وفيه تسامح ما، ومنه قولهم: كبّر رجاء أجر ربك وقول الحريري في مقاماته: آسِ ارملاً إذا عرا ... وارعَ إذا المرء أسا الأبيات. وقول القاضي ناصح الدين الأرّجاني: مودته تدوم لكل هولٍ ... وهل كلٌ مودته تدوم وقوله أيضاً وهو مطلع قصيدة: دام علا العماد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 ومما ينسب الى القاضي الفاضل رحمه الله أبداً لا تدوم إلا مودة الأدباء وقوله القائل: أرانا الإله هلالاً أنارا وقول الآخر: مودتي لخلّي تدوم، وكما قال العماد الكاتب: سر فلا كبا بك الفرس فقال له الفاضل رحمه الله تعالى: دام عُلا العماد. وقد يكون هذا النوع كل كلمتني قلبهما واحد، كقولك: أرضٌ خضراء، فيها أهيف، ساكب كاس، وكقول ابن النبيه: لبقٌ أقبل فيه هيفُ ... كل ما أملك إن غنّى هبه وتارة تكون كل كلمة قلب نفسها، كقول سيف الدين بن قزل المشد: ليلٌ أضاء هلاله ... أنّى يضيء بكوكب هبة الله بن علي ابن السديد، مجد الدين الشافعي. اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وكان يطالع تفسير ابن عطية كثيراً. وبنى مدرسة بإسنا، ووقف بساتينه عليها. قال كمال الدين الأدفوي: اتفق عند انتهاء عمارتها حضر الشيخ تقي الدين الى أسنا لزيارة بهاء الدين القفطي، فسأله مجد الدين أن يلقي الدرس بها، فألقى الشيخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 درساً، وكان شيخنا تاج الدين الدشناوي في خدمة الشيخ من قوص، فقال لمجير الدين: إذا فرغ الدرس قل للشيخ يا سيدي بدستور سيدي آخذ الدرس؟ فيبقى ذلك إذناً من الشيخ، فقال: لا، هذه مدرستي، وأقول له: أنا هذا الذي قلت، فيسكت أو يقول: لا، فينقل عني. وكان يردّس بها ويعمل للطلبة طعاماً طيباً عاماً ويقول لمن تتفق غيبته يا فلان اليوم الفوائد والموائد: ارضَ لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عقابه فيه وانتهت إليه رئاسة بلده، وخطب بأصفون. وتوفي رحمه الله في بلده سنة تسع وسبع مئة. هبة الله بن محمود ابن أبي القاسم بن أبي الفضائل بن أبي القاسم بن محمد، الشيخ الإمام الزاهد العالم الكامل الفقيه أمين الدين بن قرناص الخزاعي الحموي الشافعي. اشتغل بالفقه، وسمع جزء ابن عرفة من شيخ الشيوخ الأنصاري، وحدث بحماة وحلب ودمشق، وحج، وحدّث بمنى. كان مدرساً بحماة، فترك التدريس وصحب الفقراء، وأعرض عن المناصب، وغير ملبوسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه جزء ابن عرفة. وتوفي رحمه الله تعالى: سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة. وتأسّف صاحب حماة كونه لم يحضر جنازته لأنه كان غائباً عن حماة، وكان قد عاده في مرضه. هبة الله بن مسعود بن أبي الفضائل القاضي الفاضل معين الدين بن حشيش. قد تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الميم. كان فاضلاً أديباً عاقلاً لبيباً، ذا حافظة وذاكرة، ونظم كثّر الاستحسان له شاكره، عارفاً بوقائع الناس وأيامهم وتراجم أعيانهم وأعلامهم، يسرد من ذلك ألوفاً، ويقول لسان حاله: خُلقتُ لذا ألوفاً، آيةً في الحافظة عجيبة، متى دعاها الى شيء كانت له مجيبة، قد أتقن القلمين إنشاء وحساباً، وبلغ فيها الغايتين مآلاً ومآباً، وباشر الجيش شاماً ومصراً، ووهب الله بهيبته تأييداً ونصراً، ودبّر فأقبل ما أدبر، ورحّب المضائق بما نمّق قلمه وحبّر: ورمى الى الغرض البعيد بفكره ... فأصاب حتف كوامن ودقائق يقظ لأعقاب الأمور مجرّبٌ ... طبّ بأدواء الممالك حاذقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 تنقل من الشام الى مصر مرات، ونال من السلطان مكارم ومبرّات. ولم يزل على حاله بمصر أخيراً الى أن جمدت حواسه، وخمدت أنفاسه. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ست وستين وست مئة. ودفن بالقرافة في تربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش، وكانت جنازة حافلة. وكان ينظم شعراً جيداً، وليس له نثر جيد، اللهم إلا إن ترسّل وكتب بلا سجع، فإنه يأتي في ذلك بالمثل السائر والبيت المطبوع، ويأتي بالشاهد على ما يحاوله وذلك في غاية البلاغة والفصاحة، يوفي المقام في ذلك حقّه، وكان عجباً في القوة الحافظة. كان في مبدأ أمره كاتباً في الدبّاغة، حتى إنه كتب الى الأعسر أو لغيره من مشدّي دمشق ممن كان له الحكم في ذلك الوقت: يا أميراً حاز الحيا والبلاغة ... قلتلتني روائح الدّباغهْ ثم إنه نقل الى طرابلس وخدم في الجيش بها، وكان يساعد ابن الذهبي كاتب الإنشاء بطرابلس، فاشتهر وعرف بالأدب، فأحبّه الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس ولم يزل الى أن توجّه أسندمر مع السلطان الملك الناصر محمد من دمشق الى القاهرة سنة تسع وسبع مئة، فسعى له عند السلطان الى أن استخدمه بديوان الجيش بالديار المصرية. وكان قد حضر معين الدين الى دمشق في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ناظر الجيش عوضاً عن القاضي شمس الدين بن حميد وأقام بدمشق الى أن حضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 القاضي قطب الدين من الديار المصرية، فتوجه القاضي معين الدين الى مصر، ولم يزل الى أن أمسك القاضي قطب الدين ناظر الجيش بالشام في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فحضر القاضي معين الدين عوضه في نظر الجيش بالشام، ووصل الى دمشق خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فانفرد بذلك قليلاً. ثم إنه شورك بينهما في النظر بمعلوم لكل منهما نظيرُ الأصل، وكان القاضي قطب الدين هو الأكبر والعلامة له أولاً، ولم يزل بدمشق الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ولما عزم القاضي فخر الدين على الحجاز طلب السلطان معين الدين ليسد الوظيفة في الجيش عن القاضي فخر الدين، فأقام بالديار المصرية الى أن مات في التاريخ. وكان يكتب خطاً قوياً ولابد له إذا كتب اسمه هبة الله بن حشيش أن ينقط الشين خوفاً من التصحيف. اجتمعت به في دمشق وفي مصر مرات، وأنشدني له كثيراً، ومما أنشدني له شيخنا علم الدين البرزالي إجازة قوله: طيف ألمّ وطرف الهمّ وسنانُ ... وناظرٌ لارتقاب الوصل يقظان سرى وموكبه شوقي وموطنه ... خدّي وذلكما طِرفٌ وميدانُ حتى تضمنه الطرف السهيد وقد ... غطى شهيد الكرى للدمع طوفان فلم يزل دون تهويم يمتّعنا ... بالوصل زوراً وطرف النجم سهران الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 فكم تلقى بصدري فرحةً فرشت ... له السرائر فالأحشاء أوطان إذا تمشى الى جرح الجوارح يأ ... سوه فكم طُفئت للوجد نيران فشق باللطف عن قلبي وعزّل عن ... هـ ما يشقّ فقلبي اليوم فرحان وراح يخلع جلباب السرور على ... وقتي وقد مرّ دهر وهو عُريان أهلاً به من خيالٍ عاد لي أملي ... به وعاودني رَوحٌ وريحان فالعيش رغدٌ ودار الأنس دانية ... وجيرة الحي بعد الهجر جيران ورُقبة البدر سُهدٌ والمنى حلُمٌ ... تحلو لنا ومغاني الحي أوطان فهذه منح الطيف المُلمّ بنا ... سراً فليت بواقي السر إعلان وكتب من طرابلس الى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم: خيالك لما بان ركبُك ما بانا ... لأن له في ناظر العين أوطانا إذا ما اشتكى قلبي لهيب غرامه ... لدمع يجاريه تأجج نيرانا نعمت بما ترضون لي يا أحبتي ... ولم أخشَ أشواقاً إليكم وهجرانا وعذب عذابي فيكم وتحرّقي ... وكم من عزيز في محبتكم هانا فكتب شهاب الدين بن غانم الجواب إليه: رقادي لما بنْت يا منيتي بانا ... فكيف يزور الطيف مني أجفانا وقلبي مذ ودّعت لا علم لي به ... وآخر عهدي أنه عندكم كانا على أن ما شطّت نوى من غدت له ال ... سرائر من صدري ربوعاً وأوطانا وحاشى لمثلي أن يُرى متشكياً ... صدوداً وأن يخشى ببعدك هجرانا وما زال توحيدي وشخصك والهوى ... بقلبي سكّاناً أقاموا وجيرانا ومن شعره قصيدة في المجون، وجوّدها، أولها: لا والأيورِ الصُّلعِ منها يقول: ما وقع الكسّ على ... قلب الخصيّ بموقعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 هدية بنت علي بن عسكر الشيخة أم محمد البغدادية، اللّبان أبوها، الهرّاس جدها. كانت امرأة صالحة، كثيرة الصلاة والنوافل. روت عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، وجعفر الهمداني، وغيرهم. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها مسند الدارمي، ورافقتها في السفر من دمشق الى القدس، وقرأت عليها بعجلون، والبيت المقدس، وبلد الخليل عليه السلام، وبالأردن عند جسر دامية، وغير ذلك، وكانت تتردد الى بيتنا وتقيم عندنا الأيام المتوالية. وسمع منها جماعة من الطلبة. ثم إنها توفيت رحمها الله تعالى بالقدس في ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. الألقاب والأنساب الهذباني نجم الدين الحسن بن هارون. ونور الدين علي بن محمد. الهكاري الشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد. عماد الدين داود بن محمد. ابن هود الشيخ بدر الدين الحسن بن علي. الهرغي تقي الدين عبد الله بن محمد. ابن الهمام ناصر الدين محمد بن الهمام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 أولاد ابن هلال الصاحب تقي الدين أحمد بن سليمان. ومعين الدين الحسين بن محمد. وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد العزيز. ومخلّص الدين عبد الواحد بن عبد الحميد. ونجم الدين علي بن محمد. وأمين الدين محمد بن محمد بن عمر. ابن الهيتي صلاح الدين ناصر بن أبي الفضل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 حرف الواو ابن والي الليل محمود بن رمضان. الوتار القوّاس علي بن إسماعيل. وحيد الدين إمام الكلاسة يحيى بن أحمد. ابن ورّيدة عبد الرحمن بن عبد اللطيف. وهبان بن علي ابن محفوظ بن أبي الحياء السبتي، الشيخ زين الدين أبو الكرم المؤذن بباب السلطان، الجزري. قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن باقا الجزء الثالث من البيوع من مسائل الإمام أحمد الأثرم، قرأته عليه بمنزله في علوّ خان مسرور بالقاهرة. وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة أربع وست مئة بجزيرة ابن عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 الألقاب والأنساب ابن واصل قاضي القضاة محمد بن سالم. الواني الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد المؤذن. وشرف الدين عبد الله محمد بن إبراهيم. والواني علي بن عمر بن أبي بكر. والواني محمد بن إبراهيم. الواسطي الشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم. وتقي الدين عبد الرحمن بن عبد المحسن. ابن الواسطي القاضي شهاب الدين غازي بن أحمد. وموفق الدين محمد بن إبراهيم. والمسند شمس الدين محمد بن علي. الوادعي علي بن المظفر. الوردي القاضي زين الدين. ابن الوردي عمر بن مظفر. وأخوه القاضي جمال الدين يوسف بن المظفر. وليّ الدولة أبو الفرج. ابن الوحيد الكاتب محمد بن شريف. ابن الوزيري بدر الدين محمد. أبو الوليد المالكي محمد بن أحمد. الوطواط الوراق محمد بن إبراهيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 حرف الياء يحيى بن إبراهيم الملك الناصر صاحب سنجار. قتله القان خربندا، وقتل معه الوزير سعد الدين الساوجي، والوزير مبارك شاه في سنة إحدى عشرة وسبع مئة. يحيى بن أحمد ابن خذاذاذ الخلاطي الشافعي، وحيد الدين، أبو حامد الروحي. شيخ القراء، إمام الكلاسة بالجامع الأموي. توفي رحمه الله تعالى حادي عشري جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة. قرأ بالروم على الصائن البصري. وولي إمامة الكلاسة نحو خمس عشرة سنة، وقبلها كان يؤم بمشهد ابن عروة. وولي مشيخة الخانقاه الأسدية، وبها مات رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 وكان إماماً عارفاً بفن القراءات، وبلغ الثمانين من عمره، وحضر جنازته خلق عظيم. يحيى بن أحمد بن يوسف ابن كامل، السيد العدل الرضي عماد الدين بن شهاب الدين الشريف الحسيني، عرف بالبصراوي، ناظر ديوان الأشراف. قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً متواضعاً عدلاً من أهل السنّة، روى لنا عن ابن الصلاح، وابن مسلمة، وسمع من ابن البراذعي، وعتيق السلماني، والسخاوي، وغيرهم. وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة. ومولده في شهر رمضان سنة ست وعشرين وست مئة. يحيى بن أحمد بن عبد العزيز ابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي بن علي بن الصواف الجذامي الإسكندراني، الشيخ الفقيه الإمام المحدث المقرئ العدل شرف الدين أبو الحسين ابن المحدث نجيب الدين أبي الفضل. حصل له صمم وكفّ بصره سنتين، وعُمّر، وكان يروي الخلعيات عن ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 عماد، وسمع من جده أبي محمد عبد العزيز، ومن ناصر بن عبد العزيز الأغماتي، وعبد الخالق بن إسماعيل التنّيسي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن الجباب، ومرتضى بن العفيف، وجماعة. وقرأ القرآن بالروايات على ابن الصفراوي. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وأجاز لنا في سنة إحدى وسبعين وست مئة، ثم قرأت عليه جزء السلفي بسماعه من ناصر الأغماتي، والخامس من الخلعيات بسماعه من ابن العماد. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة خمس وسبع مئة. ومولده بالإسكندرية في أحد الربيعين أو الجماديين سنة تسع وست مئة. يحيى بن أحمد بن نعمة ابن أحمد بن جعفر بن حسين بن حمّاد، الشيخ الإمام بقية السلف محيي الدين أبو زكريا ابن الشيخ الإمام الصالح كمال الدين المقدسي الشافعي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي. أول سماعه بالقدس في شعبان سنة أربعين وست مئة، سمع من والده مكي بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 علان والمرسي والفقيه محمد اليونيني وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري وإسماعيل العراقي والنجم البلخي وابن خطيب القرافة وابن عبد الدائم وجماعة، وأجاز له السخاوي والفرضي وعتيق السلماني وابن الصلاح والعزّ بن عساكر وعمر بن البرادعي وجماعة. وكان له اشتغال بالعلم في أول عمره، وعنده سكون وسلامة صدر، وأعاد بدمشق والقاهرة، وكان صالحاً مباركاً موصوفاً بالخير والدين. توفي رحمه الله تعالى سادس عشري شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة ومولده سنة ثلاثين وست مئة تقريباً. يحيى بن إسحاق ابن خليل بن فارس، القاضي الفقيه الإمام محيي الدين أبو زكريا ابن القاضي الإمام العالم كمال الدين أبي محمد الشيباني الشافعي. كان شيخاً حسناً مباركاً، ولي القضاء بشيزر وزُرع وأذرعات، وكان حسن السيرة، كثير التواضع فقيهاً، اشتغل وحصّل وكتب، وكان من أصحاب الشيخ شرف الدين بن المقدسي. وسمع الحديث من والده، ومن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وأحمد بن أبي الخير، والقطب خطيب القدس، وجماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 وخرّج له شيخنا الذهبي جزءاً، وحدّث به. توفي رحمه الله تعالى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون. يحيى بن إسماعيل ابن محمد بن عبد الله، القاضي الصدر الرئيس النبيل شهاب الدين ابن القاضي عماد الدين بن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح الدين بن القيسراني المخزومي، تقدم ذكر والده القاضي عماد الدين، وذكر غيره من بينهم. كان القاضي شهاب الدين قد طبع على الرئاسة، وجمع في أجزائه من السيادة والسياسة، يتجمّل في مركوبه وملبوسه، ويتحمل المضض من نكد دهره وبؤسه، لا يشكو والدهر قد عضّه بنابه، ولا يظهر الشماته، ولا يُظهر الشماته بعدو ولا يقول في شده: ليت ما بنا به، ولا يتلفظ بسوء في حق من آذاه ويقول: من أطلق لسانه فليس بنابه. تخف الجبال الراسيات لوقاره، وتتعجب السلافة من لطفه وهي في خزف الدّن وقاره، أخلاقه كنسيم الصّبا، فالخمائل منها في خمول، ومحاسنه كثيرة العدد وعلى ظهر الزمان منها حُمول، وبشرٌ يتعجب من دوامه جليسه، وتواضع يشهد بالرفعة له أنيسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 شيمة حرةٌ وظاهرُ بشرٍ ... راح من خلفه السماحُ يشفُّ هذا الى كرم يضطرب موجه، ويشهد لمؤمّله بالفوز فوجه. ولاه السلطان الملك الناصر محمد كتابة السر بالشام إكراماً للأمير سيف الدين تنكز، وتوهّم فيه التقصير، فبدا منه كل أمر معجز، فنفّذ مهمات البريد، وصان أسراره، وصال على أعاديه بكتبه التي يجهزها على الحرارة، حتى دخل في عين تنكز وملأ قلبه، وجعل إليه إيجابه وسلبه، وألقى إليه مقاليد دولته. وروى الليث عنه أسانيد صولته، فتقدم في تلك الدولة ورأس، وجنى من ثمرات الشكر مما غرس، فكان إذا جلس في صدر ديوانه كأنه كسرى في إيوانه مقدد وسؤدد، وستور من الجلالة عليه ترخى، وأطنابٌ من المهابة تُمدد: بصفاته سجع الحمام وهزّ عط ... فيه قضيبُ البانةِ الأملودُ سلك المكارم والممالك عزمُهُ ... فغدت وليس لنظمها تبديدُ من معشر مولودهم في مهده ... يُرجى ومن قبل الفطام يسودُ وكان خطّه أبهى من الروض وأبهج، وسطوره في طروسه آنقُ من بحر كافور بالمسك قد تموج، قد صغت حروفها وقعدت ووضعت تيجان الحسن على رؤوسها وعقدت. إلا أن الزمان قطع عليه اللذة، وارتجع حسنته الفذة، فأمسك السلطان تنكز، فانحل نظام السّعد، وزالت تلك المحاسن و" لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ "، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 وأصابه في تلك المحنة شؤبوب، ومرّ عليه من لامع برقها ألهوب، إلا أنها كانت شدة خفيفة ومحنة عفيفة، فانقشع غيمها، وانجمع ضيمها. ثم إنه أُرسل سعده بعد فترة، ورفع على رأسه جترة، وقالت له الأيام: لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلُحْ قمراً ... أو قم بها ربوةً إن لم تقُم علَما فعاد الى توقيع الدّست، وحطّت نغمة نغمته في الدُوكاة بعد أن طلعت في الرّست. ولم يزل على حاله الى أن انطوى بعدما تألق، وتعلّى روحه الى الجنة وتعلّق. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده رحمه الله تعالى. ومولده تقريباً سنة سبع مئة ومات بعلّة الاستسقاء بعدما عالج لواعجه قريباً من عشرة أشهر، وصبر على الامتناع من رؤية الماء وشربه جملة كافية. وقلت أنا فيه: قلت إذا استسقى الرئيس الذي ... بالجود عمّ الغرب والشرقا عهدي أن البحر يسقي الورى ... مالي أرى البحر قد استسقى وكان القاضي شهاب الدين - رحمه الله تعالى - قد ورد مع والده الى دمشق من حلب، وقد رُسم له من مصر أن يكون مع والده مُقيماً بدمشق، وأن يكون والده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 موقّعاً بالدست، وأن يكون هو كاتب إنشاء، فباشر ذلك على أتمّ ما يكون من التجمّل في ملبسه ومملوكه ودوابه ومركوبه الى غير ذلك، حتى كان القاضي محيي الدين بن فضل يقول: هذا المولى شهاب الدين بن القيسراني يجمّل هذا الديوان. وكان يكتب الرقاع مليحاً الى الغاية. ولم يزل على ذلك الى أن توفي والده رحمه الله تعالى، على ما تقدم في ترجمته، فرتّبه الأمير سيف الدين تنكز في توقيع الدست مكان والده. ولم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى كتب فيه الى السلطان وسأل له أن يكون كاتب السر بدمشق، فأجابه السلطان الى ذلك. وكان تنكز يحبه ويميل إليه ويعتمد عليه اعتماداً كثيراً، حتى إنه كان في السفر لا يُمسك قلماً ولا يكتب على شيء، لا مطالعة الى باب السلطان ولا غيرها، بل يسطّر قبل سفره ما يحتاج إليه من المطالعات وأوراق الطريق والمراسيم التي على الخزانة بالتسافير والإنعامات والمُطلقات وجميع ما يكتب الى النواب والى غيرهم ممن هو في باب السلطان، يفعل ذلك وثوقاً به. ولم يزل كذلك الى أن أُمسك تنكز ورسم السلطان بعزل كل من هو من جهة تنكز، فأمسكه الأمير سيف الدين بشتاك، وأخذ منه تقدير عشرين ألف درهم وأفرج عنه. وأقام بعد ذلك بطّالاً الى أن توفي السلطان. وجاء الفخري وملك دمشق، فاستخدمه في كتابة الدست بدمشق. وتوجه مع الفخري والعساكر الى الديار المصرية، وعاد الى الوظيفة المذكورة، وأقام عليها بدمشق الى أن توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق، فكتب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 الأمير سيف الدين يلبغا وكان يومئذ نائب دمشق في القاضي شهاب الدين بن القيسراني وسأل من السلطان أن يكون كاتب سرّ بدمشق، فما قدّر الله له بذلك. وحضر بريدي يطلبه الى باب السلطان فتوجه الى الديار المصرية، فرسم له بأن يكون كاتب إنشاء بالقاهرة فأقام على ذلك قليلاً، ورسم له الملك الكامل بأن يكون موقع الدست قدام السلطان، فعمل ذلك مديدة. ثم إنه خرج الى دمشق على عادته موقع الدست، فأقام على ذلك الى أن مرض بعلة الاستسقاء، ومات في التاريخ المذكور، رحمه الله تعالى. وكان شكلاً حسناً تامّ الخلق، مليح العمّة، نظيف اللباس، عطر الرائحة، محبوب الشخص، حسن الودّ، صحيح الصحبة، يملك أمر نفسه في حالتي الخير والشر، لا يظهر عليه غضب ولا كراهةُ أحد، يعامل صاحبه وعدوّه بظاهر حُسن وبشاشة، كثير الاحتمال، صابراً على أخلاق من يصحبه أو يعاشره، كثير الآداب والرئاسة، وكان أخيراً وهو كاتب السر يصوم الإثنين والخميس، ويتعبّد ويذكّر، لا يقابل أحداً بما يكرهه. لم أر مثله، صحبته مدة تزيد على ثلاث وعشرين سنة، ما رأيت منه سوءاً قط ولا ما أكرهه، فجزاه الله عن الصحبة خيراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 وكان يحب الفقراء والصالحين، ويتودد إليهم ويقضي حوائجهم، وعمّر العمائر المليحة الغريبة العجيبة، ولم أر أحداً حاز مثل ذهنه في العمائر واستعمال الصنّاع والصبر على ما عندهم من المكاسرة والمدافعة. وقلت أنا أرثيه، رحمه الله تعالى: مات يحيى فكيف يحيا اللبيبُ ... وبه كانت الحياة تطيبُ لم يمت إنما الرئاسة ماتت ... والمعاني تخرّمتها شعوب كان للناس والأنام جمالاً ... فهو للبدر في التمام نسيب كان والله كاملاً في المعاني ... وحماه للمعتفين رحيب كان في جوده فريداً فأما ... إن ذكرت الوفا فأمرٌ عجيب يملأ العين شكله وتسرَّ النف ... س أوصافه فما تستريب ورئيس إن قلت فيه رئيس ... ما له في الأنام قطّ ضريب خُلق كالنسيم إن مرّ وَهْناً ... في خلال الأزهار وهو رطيب ومحيّاً لو أن بدراً رآه ... لاعتراه بعد الطلوع مغيب وحياء كأنه إذ يُحيّا ... عند ردّ السلام منك مُريب واحتمال لكل ضيم عظيم ... حيث رأس الوليد منه يشيب وإذا نال حظوةً من مليك ... فلكل الأصحاب منه نصيب هو في منصب يسامي الثريّا ... ونداه من المنادي قريب لم يشنْ لفظه بغيبة شخص ... يحضر الشخص عنده أم يغيب من سراةٍ إن سار عنهم ثناءٌ ... مادَ منه غصنٌ وماج كثيبُ إن مخزوم في قريش لريحا ... نٌ شذاه يوم الفخار يطيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 جدّهم خالدٌ وخالد جدٌ ... لهم والجناس شيء عجيب كلهم كاتبٌ رئيسٌ كريمٌ ... عالم فاضلٌ سريٌ نجيب كتب السرّ عند تنكز دهراً ... وهو ذاك الملك العظيم المهيب فأخاف العدا وسرَّ الموالي ... فلهذا يثني وهذا يثيب وعلى كتبه حلاوة لفظ ... مقتضاه البيان والتهذيب في طروس لنا تشفّ بياضاً ... وسطور مدادها غربيب دبّر الملك بُرهةً ليس فيها ... ما تراه سوءاً ولا ما تعيب يتلقى أغراض كلِّ مهمّ ... فترى رأيه سهاماً تصيب وإذا جُهّز البريد بأمر ... فيه خوف فبالأمان يؤوب ليس إلا اللفظ الذي هو سحر ... ولمعناه في القلوب دبيب ولبعض الكلام رونقُ حُسنٍ ... منه تُنسى البلوى وتُمحى الذنوب أيها الذاهبُ الذي سار عنّا ... وغمامُ الدموع منا يصوب إن يكن شقّ فيك للصبح جَيب ... فلكم شُقِّقَتْ عليك جيوب كان دهري سِلماً فمذْ غبت عني ... نشأت بينه وبيني حروب كنت لا أختشي إذا اعتلّ يوماً ... من أذى خطبه وأنت طبيب آه وا لوعتي وطول نحيبي ... مع علمي أن ليس يُجدي النحيب غير أني قضيت للودّ حقاً ... برثاءٍ له عليّ وجوب كم أيادٍ أولَيتَنيها ونُعمى ... ومحلّ الإحسان محْلٌ جديب جعل الله بقعة أنت فيها ... روضٌ عفو فهو الكريم الوهوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 وكتبت أنا إليه من الديار المصرية أهنئه بكتابة السر بالشام في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة: كم عدو يموت أيام يحيى ... ومحبّ في العز والسعد يحيا هذه دولة تقول الليالي ... لعُلاها أهلاً وسهلاً ورعيا طالما اشتاقها الزمان بنفسٍ ... هي للمجد والمكارم ظميا جِمجَمَ الدهرُ مدة بسواها ... وهو منها يُسرّ في القلب أشيا أطلعت في سما دمشق شهابا ... منه شمس النهار في الأفق خَزْيا أين من يطلب المعالي وتأبى ... من رئيس تأتي لمغناه سعيا لو أراد الزمان يأتي بمثلٍ ... لعلاه بين البريّة أعيا كاتب السر سرَّ كل محبّ ... وأعاد الجميل فينا وأحيا بسجايا من السحائب أندى ... وجناتٍ من الحدائق أفيا ذو سكون وعفة ليس يشكو ... من خُطاه وجهُ الثرى قطّ وطيا صرّفِ الآن دهرنا يا شهاب ال ... دين مهما أردت أمراً ونهيا ومر السعد بالذي تشتهيه ... فهو يأتي في الحال ما اخترت جَريا فلك الحمدُ والمآثر إرث ... عن كرامٍ زكوا مماتاً ومَحيا أنت من عصبةٍ كرامٍ نماهم ... خالدُ بن الوليد في كل عَليا عملوا صالحاً وحازوا المعالي ... فهم الفائزون أخرى ودُنيا بك تزهى دمشق فامنع حماها ... فلها من علاء في العز بُقيا قلم في بيان كفك يسعى ... فوق طرس أم حاك في الخط وشيا كل سطر كأنه إذ تبدّى ... شفةٌ بالمدادِ الأسودِ لَميا ينثر الدرّ بل يُري السحر حقاً ... حين يُملي عليه فكرك وحيا فإذا ما أعملتَهُ في مهمٍّ ... يستبيح الأعداء قتلاً وسبيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 هذه الدولة التي كنت أرجو ... أن أرى لي بها مع السعد لُقيا ويسر الفؤاد نيلُ الأماني ... وأرى طعم صبره صار أرْيا لا أراني لها الزمان انفصالاً ... ما اشتكى عاشق من الحب نأيا يقبّل الأرض ويهنئ نفسه والأنام، ومملكة الشام والأيام، وبيض الطروس وسُمر الأقلام وأرباب الطيالس وأصحاب الأعلام، بهذه الرتبة التي طلع في سمائها شهاباً توقّد نوره وكات سرٍّ كثرت بمعاليه في ديوان الإنشاء شموسه وبدوره، ووجدت الأقلام لها في ميدان البلاغة مجالاً، وبلغت المعالي من قربه أمانيها فلم تعدم بمن تهوى اتصالاً: وزاد المرهفات ضياءَ عزمٍ ... فصار على جواهرها صِقالا وأبصرت الذوابل منه عدلاً ... فأصبح في عواملها اعتدالا فالله يرزقنا معاشر الأرقاء شكر هذه النعمة التي أقمر بها ليل الأمل والتحف الدهر منها برداء المحاسن واشتمل، وانتشق خمائل فضلها من كانت الأيام أخرته حتى خمل، وانتصف فيها من كانت واقعته تذكّر الناس بأيام صفّين والجمل: وأضحى فضلها في الناس باد ... يدار بها على الشرب العُقارُ فهذه الأيام التي كانت بها الآمال في الضمائر أجنّة، وهذه الأوقات التي جرت إليها سوابق الأماني مُطلقات الأعنة، وهذه الدولة التي جرت في رياض حماها جداول السيوف تشقّ رياحين الأسنّة، ليس فيها ما يقال له: كمُلَت لو أن ذا كمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 فأنتم يا بني القيسراني فضلكم مثل جدكم خالد، ونجمُ من عاندكم هابط ونجم سعودكم صاعد، وجنان الفضل ترون فيها " مُتكئين فيها على الأرائك " وتحيتكم فيها المحامد، وأيديكم تضرب من البلاغة في الذهب الذائب إذا ضرب غيركم من العي في الحديد البارد، وبنان حسانكم ينهلّ بالنّدى فهو جائد وبنانُ غيركم جامد. زينتم الوجود من عصر نور الدين الشهيد سُقي ضريحه رحمة وبرّاً، وبدأت حسنات الأيام بوجودكم من هناك وهلم جرّا، كم قد تجمل منكم منصب الصحابة بوزير، وكم جلس منكم كاتب سرّ بين يدي صاحب السرير، وكم حلّيتم بدرر إنشائكم جيد قاضٍ وعنق أمير، وكم روى الإحسان منكم عن نافع وابن كثير. أما فضائلكم فإنها ملأت الدفاتر، وأقرّت بالتقصير عنها مآثر البواتر. وأما تشددكم في الدين فقد تفيأ الظل من سدرة المنتهى، وبلغ غايةً لم تكن الشمس في علوّ المنزلة أختَها. وأما مكارمكم فما عهد الناس مثلها من البرامك، ولا اجتلوا مثل أقمارها في الدياجي الحوالك. وكيف لا يجد الناس بكم صفاء الأيام وفي وجودكم لذة العيش، أم كيف لا ينشقون أرج الخزامى وبنو مخزومٍ ريحانة قريش، فالله لا يُخلي الوجود من حسناتكم التي تفيد كل بهجة وتحيي من موت الفضائل كل مهجة. بقاؤكم عصمةُ الدنيا وعزّكم ... سترٌ على بيضة الأيام منسدل إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 وكتبت إليه وأنا بدمشق أتقاضاه وعداً بإقطاعٍ عند بعض الأمراء لفتاي: يا سيداً دأبي الثناء المجتبى ... عليه بالتصريح والرمز أصبحتُ من جودك أغنى الورى ... لكنني أحلم بالخبز وكتبت أنا إليه عند وصولي الى القاهرة أصف له مشقة كابدناها في الطريق بالرمل وغيره، ونحن صحبة ركاب الأمير سيف الدين تنكز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو مشتمل على نظم ونثر سقته جميعه في الجزء الحادي عشر من التذكرة. يحيى بن سليمان ابن علي، الإمام العالم محيي الدين الرومي الحنفي المعروف بالأسمر. مدرّس المدرسة الركنية، تولاها بعد الفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن المعلم الحنفي. وكان شيخاً فاضلاً، وله حلقة إشغال تفيد الطلبة بالجامع الأموي، وقرأ عليه جماعة من الفقهاء. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. يحيى بن صالح ابن عتيق، القاضي محيي الدين الزواوي المالكي. كان فقيهاً فاضلاً ناب عن القاضي المالكي مدة بدمشق ثم عزله ثم أعاده. واستمر الى أن مات في أوائل شوال سنة عشر وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 يحيى بن عبد الله ابن عبد الملك، الشيخ العلامة البارع، شيخ الشافعية أبو زكريا الواسطي. قرأ الفقه والأصلين، وبرع في الفقه وتخرج به الأصحاب، ودرّس بالشرابية بواسط. تفقّه على والده وحدّث ببغداد بكتاب مطالع الأنوار النبوية في صفات أفضل البرية، وكان يقال هو فقيه العراق في زمانه. تفقه عليه ابن عبد المحسن، وشمس الدين محمد بن القاسم الملحمي الواعظ، والمجد عبد الله بن إبراهيم الدقيقي وغيرهم. وله سماع من الفاروثي صحيح البخاري بفوت. وأجاز له الشيخ عبد الصمد، والكمال بن وضّاح، وابن أبي الدينة، وله مؤلف في الناسخ والمنسوخ في الحديث وغير ذلك. توفي بواسط في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة. يحيى بن عبد الرحمن الشيخ المحدث الكاتب المجوّد المحرر الموسيقار نظام الدين بن النور الحكيم الجعفري. كان يكتب طبقه، ويتقدم بحسن أوضاعه كل من سبقه، فإذا رأيت خطه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 المهارق أنساك سحر الأحداق وزهر الحدائق، وكان له عناية بالحديث، وسماع القديم والحديث، قرأ بنفسه، وأسمع أولاده، ورحل بهم عن أوطانه، وفارق أحباءه وبلاده. وكان موسيقاراً يتقن اللحون والأنغام، ويقرّ له في هذه الصناعة ربُّها ويخضع له ولو أنه الضرغام، فإذا أورد لحناً أعرب فيه عن أستاذيته، وفتن أهل الغرب بمشرقيته، وسلب عقولهم بمشرفيته: ما كان حين يُغنّي في مجالسهم ... إلا نسيم الصّبا والقوم أغصانُ قدم من العراق الى الشام، وانتجع بارق الملك الناصر وشام، وتوجه الى الديار المصرية، وطلب العود الى دمشق لما عند نفسه الأبيّة من الحرية، ثم إنه عاد الى عراقه وادّكر أوطانه لطيب أعراقه. ولم يزل هناك يكتب عن الملوك وينظّم درّ رسائلهم في السلوك الى أن انتظم النظام في سلك الأموات وعدّ بعد حياته من الرُفات وفات. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وستين أو سنة ستين وسبع مئة. ورد خبر موته من بغداد. كان هذا نظام الدين قد وصل من بغداد مع الوزير نجم الدين بن شروين وناصر الدين خليفة بن علي شاه لما وفدوا على السلطان الملك الناصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 حكى لي من لفظه قال: دخلنا مصر، واستقر نجم الدين بن شروين أمير مئة مقدّم ألف، وناصر الدين خليفة طلبه الأمير سيف الدين تنكز من السلطان، فسيّره إليه، وأعطاه إمرة طبلخاناه في دمشق، وبقيت أنا عند الأمير سيف الدين قوصون، إذ طلبني يقول لي: يا شيخ نظام الدين، قول لنا ذلك البيشوره، قول لنا ذلك القول، قول لنا ذلك الساذج الذي لحنته أنت: فقلت أنا في نفسي: متى فترت يا يحيى أداروك هؤلاء مغنياً لا غير، فطلبت من السلطان العود الى دمشق، فجهزني إليها. ولما ورد من باب السلطان أعطاه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مشيخ ةالربوة، فأقام بها مدة يُسمع أولاده الحديث ويقرأ بنفسه على الأشياخ الى أن طلب العود الى بغداد، لأجل أملاكه، وكان أولاً يكتب الإنشان عن حكام بغداد، ولما عاد إليها استمر كذلك وكانت الكتب ترد عن حكام بغداد الى ديوان الإنشاء بخطه. وكان والده النور حكيماً يطبّ ملوك المغل وغيرهم. وكان نظام الدين يكتب المنسوب ويضع الكوفي والمعقلي من أحسن ما يكون وأجوده، ووضع أشياء بخطه في بيت القاضي شهاب الدين يحيى بن القيسراني، وهي في غاية الإتقان، وأراني درجاً قد كتب فيه منازل الحج من بغداد الى مكة، وصوّر ذلك، وشجّره في خرقة كتّان، وهو من أحسن الأوضاع في التحرير والإتقان. وكان أستاذاً في علم الموسيقى، له فيه أقوال وأعمال ينقلها عنه أربابُ هذا الفن في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 الشام ومصر وكان إذا خلا بمن أحب من الأكابر اندفع وغنى من غير آلة أشياء غريبة، سمعته غير مرة، وكان ينظم أيضاً. نقلتُ من خط الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين العلائي قال: نقلتُ من خط نظام الدين المذكور قوله: أيها المالك الذي زيّن المُل ... كَ بفضلٍ يسمو على الوزراء وبجودٍ قد أخجل المُزن منه ... وبعلم يُربي على العلماء ما اسم شيء مناسب الأجزاء ... مستطيلٌ إذا سعى في فِناء مستديرٌ لكونه فلكاً في ... هـ نجومٌ طوال في سماء عمّ حيناً مشارق الأرض والغر ... ب وطاف الدنيا بالاستيلاء مُنزلٌ غير أنه ليس قرآ ... ناً وآياته بلا إحصاء ذو عيون له فمٌ وعليه ... شاربٌ وهو مفرطٌ بالحياء صيته أن ليس عنه غناءٌ ... صوته مطربٌ بغير غناء فتراه طوراً على جبل عا ... لٍ وطوراً يُرى ببئر الماء تارة كالجماد يُلفى على الأر ... ض وطوراً يطيرُ وسط الهواء منه برّ ومنه بحرٌ وفيه ... كل نفس تولدت بسواء وهو ركنُ الدنيا وغوث البرايا ... وملاذ الورى وعون الرواءِ وحياة النفوس في حلبة السب ... ق مبيد الأنام في الهيجاء فيه نونٌ وأول الاسم ميم ... ألفٌ تلوه بغير مراء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 صاحب الأولياء في أول العم ... وأوفى في خدمة الأنبياء واصطفى كل من تصوف حتى ... عُدّ في الأولياء والأصفياء فبلقياه قام بالفرض قومٌ ... وبرؤياه سنّ كل سناء كم له منّةٌ على كل نفس ... وله ضنّةُ على نُفساء واحدٌ في صفاته ثاني اثني ... ن لتخمير طينة الأشياء ثالثٌ إن يُعدّ في عالم الكو ... ن وإن شئت رابع الخلفاء ما له خامسٌ ولكن في الخا ... مسِ منه عكسٌ بغير خفاءِ عجب الناس من تناقض ما في ... هـ مع الاعتدال والاستواء ظاهرٌ طاهرٌ خفيٌّ حفيٌّ ... زائد ناقصٌ مريء مُراءِ صاعدٌ نازل أمينٌ خؤون ... ناصرٌ قاصر شديدُ العناء فابن ما ألغزتُ يا واحد العص ... ر كُفيت الروى وشر البلاء وكتب الشيخ صلاح الدين رحمه الله تعالى الجواب عنه، ونقلت من خطه: يا إماماً حلّى عقود العلائي ... كونه واسطاً لها ببهاء قد بدا لُغزُك اللطيف بديعاً ... مشرقاً منه أنجم الجوزاء هو في دقة الهواء ولكن ... حاز وصف الزلال عند الصفاء فهو درّ والدر في الماء يلقى ... فلهذا لم يعدُه بتناء نوّع الوصف ما لغزت فأضحى ... كل فكر لديه في إعياء كيف لا والذي تضمّن بحرٌ ... من بيان يعزّ في الإحصاء ظاهرٌ لفظه ولكن معاني ... هـ تناهت في دقة وخفاء وينابيعه تسحُّ زلالاً ... بمعينٍ من ألطفِ الأشياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 ليس يخفى أني أشرتُ الى ما ... ضمّن اللغز في أتم جلاءِ فابق كنزاً للطالبين مفيداً ... والْقَ عزّاً ودُم بكل سناء يحيى بن عبد الرحيم الأرمنتي المعروف بابن الأثير الشافعي. كان من الفقهاء المباركين، درّس بمدرسة سيوط سنين كثيرة، وتولى الحكم بأطفيح وبمنفلوط وكانت سيرته حميدة، وهو من بيت علم ورئاسة وجلالة وأصالة. وتوفي بسيطو في سنة ثمان وسبع مئة رحمه الله تعالى. يحيى بن عبد الرحيم بن زكير محيي الدين القوصي الشافعي. كان معتبراً جيّد الإدراك حسن الفهم. سمع من تقي الدين بن دقيق العيد، وبدر الدين بن جماعة، وجلال الدين أحمد الدشناوي، وأخذ عنه الفقه، وأجازه بالإفتاء. ودرّس بقوص سنين كثيرة. قال كمال الدين الأدفوي: حضرتُ عنده الدرس ست سنين أو ما يقاربها، وكان درساً مفيداً فيه تحقيق وقلة غلط، يتقنه ويحرر الكلام فيه، وقرأ النحو والأصول على جلال الدين، وتولى الحكم بقنا، وناب في قوص، وكان حميد السيرة محمود الطريقة، ولم يعب الناس عليه إلا أنه كان يداوم مسألة الحيلة في المعاملات، يبيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 السجادة ونحوها بآلاف ويشتريها بما يعطيه في المعاملات التي قررت قبل المعاقدة. وكان يقول: إذا طولبتُ بها في غدٍ، قلت هذا الشافعي وأصحابه جوّزوا ذلك، وأنا مقلّد. ولم يزل الى أن صُودر وأُخذ منه مال، وتضعضع وبقي في قوص. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة. يحيى بن عبد اللطيف ابن محمد بن سند، محيي الدين بن سراج الدين التاجر الكارمي. كان هذا محيي الدين لطيفاً ظريفاً غاية في الكرم. قال كمال الدين الأدفوي: لم ترَ عيني أكرم منه، عزيز النفس، يحفظ من النظم والنثر كثيراً، وزر اليمن، وكان له حظ عند السلطان الملك الناصر محمد، وكان محبوباً عند الخاص والعام، صحب جملة من الصالحين، وكان جماعة من أصحابه يلومونه على كثرة العطاء والنفقة، فيقول: قال لي جماعة ممن لهم كشف: تموت سعيداً. توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وعمره ستة وأربعون عاماً. يحيى بن عبد الوهاب ابن عبد الرحيم، الشيخ الفقيه النحوي تاج الدين الدمنهوري الشافعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 كان مصدّراً لإقراء العربية بجامع الصالح خارج باب زويلة وبالجامع الظافري بالقاهرة، بلغ السبعين من عمره، وله مصنفات، ووقف كتبه بالجامع الظافري. كان قد غلب عليه التدين والانقطاع. وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. يحيى بن علي ابن تمام بن يوسف بن موسى، الشيخ صدر الدين أبو زكريا السبكي الشافعي. هو عمّ شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. كان قد ولي قضاء المحلة وعدة مناصب. وروى عن ابن خطيب المزة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد ابن عبد اللطيف وغيره. وكان إماماً عارفاً بأصول الفقه، ومدرساً بالسيفية، وتولاها بعده ابن أخيه العلامة تقي الدين. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. يحيى بن علي بن أبي الحسن ابن أبي الفرج بن طاهر بن محمد، الشيخ الإمام المسند الفقيه الفاضل المنشئ محيي الدين بن الحداد الحنفي. كان ناظماً ناثراً، قاعداً بفن الترسّل ماهراً، كتب الإنشاء بطرابلس زماناً، ونال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 من طول المدة في عمره أماناً، الى أن تخلى عن المباشرة، وملّ المصاحبة من إخوانه والمعاشرة وانقطع بدمشق مُقبلاً على شانه، عالماً بخيانة إخوانه، وزمانة زمانه. ولم يزل الى أن عُدّ فيمن أركبته المنايا على الأعواد، ولم يحمل التطريق ابن الحداد. وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله في الكفتيّين داخل دمشق بعد العشاء الآخرة ليلة الاثنين حادي عشري شوال سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية الى جانب الشيخ جمال الدين الحصيري الحنفي. ومولده سنة ست وستين وست مئة بدمشق، وأصله رقّي. وكان قد تولى بالقاهرة نظر القنود، ثم دار الوكالة في سنة سبع عشرة وسبع مئة، فلما توفي شمس الدين الطيبي كاتب الإنشاء بطرابلس تولى مكانه، وخرج من القاهرة في أواخر سنة سبع عشرة وسبع مئة. أخبرني ولده الأمير ناصر الدين محمد، أحد البريدية بدمشق قال: توجهت مع والدي الى عند قاضي القضاة تقي الدين السبكي - رحمه الله تعالى - وقال له وأنا أسمع: إن والده أحضر الى الشيخ محيي الدين النواوي - رحمه الله تعالى - بالرواحية وهو أمرد ليشتغل عليه، فقال له: هذا صبي أمرد، وأنا مذهبي أن النظر الى الأمرد حرام مطلقاً، ولكن توجه به الى تاج الدين الفزاري، فأخذه والده وجاء به الى الشيخ تاج الدين وهو يشتغل في الجامع الأموي، أو كما قال. وكتب الإنشاء بطرابلس نحواً من أربعين سنة، وكانت له مباشرات بالشام في دمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب في غير ما وظيفة من وظائف الديوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 وكان قد كتب هو إليّ لما ورد دمشق: يا إماماً قد فاق سحبان بل قس ... سَ إيادٍ قل لي أأنت خضر أنت للفضل قبلةٌ ولأهل ال ... علم نجم يُهدي وللدين بَدر فإذا ما نطقت أفنيت أفكا ... ر البرايا ولم يحرْ لك فكر وإذا ما وضعت في الطرس خطّاً ... باهر الحسن جلّ بل حلّ سحر وإذا ما نظمت شعراً فللشع ... رى حياء منه وللشعر فخر وإذا ما نحوت نحواً فمن زي ... دٌ من الماهرين فيه وعمر أخجل النظم منك نظمٌ وأودى ... نثرة الشهب من مقالك نثر أترى أنت عالم بولائي ال ... محضِ أم بينه وبينك ستر ليس شكل من الصواب فلو حقّ ... قت قربي ما عاقني عنك بحر وعلى الحالتين بعدٌ وقرب ... لك عندي حبٌ وحمدٌ وشكر فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: لك مني حمد يفوق وشكرٌ ... لي منه على مدى الدهر سكرُ وولاء عقدتُ منه لواءً ... منه طي في الخافقَين ونشر ودعاء حقٌ بغير ادّعاءٍ ... فيه من سرعة الإجابة سرّ وثناءٌ أعليت منه بناءً ... فهو أفقٌ نجومه منك زهر قد تفضّلت بادياً بقريضٍ ... كلُّ بيت فيه من الحسن قصرُ فهو ينهل في انسجام ويحلو ... فعلي كل حالةٍ فهو قطر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 وكأن السطور روض مريع ... والمعاني كأنها فيها زهرُ أنت يا بن الحداد صغت المعالي ... لك طوقاً فيه كلامك درُّ بك قد أشرقت دمشق وتاهت ... فلها من سناك فجرُّ وفخر أنت فيها بحرٌ وقد سبق القو ... ل ضميري فقلت إنك حبرُ كيف يُدعى بالبحر من كل بحر ... مستمدٌ من فضله مستمرّ فابق في نعمةٍ تفيد البرايا ... فضلَ علمٍ يغشاه زيدٌ وعمرو يحيى بن فضل الله ابن المجلي بن دعجان، القاضي الكبير الرئيس محيي الدين أبو المعالي القرشي العدوي العُمري، كاتب السر السلطان بالشام، أولاً، وبمصر أخيراً. تقدم ذكر أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب، وذِكرُ ولديه القاضي شهاب الدين أحمد، والقاضي بدر الدين محمد وذكر أخيه بدر الدين محمد بن فضل الله كلّ منهم في مكانه. كان سعيد الحركات إذا تحرك، سديد السكنات، كأن القدر تكفّل له بحُسن العقبى وتدرّك، متعه الله تعالى بالمناصب والأولاد، والسعادة التي لها الجبال أوتاداً، فرأى في مناصبه ما لا رآه غيره، وفي أولاده من السعد ما لم يزجر به لغيرهم طيره. وكتب الخطّ الذي تودّ الرياضُ لو كانت أوراقه، والعقود لو نُظمت مثل سطره في حُسن اللباقة. ما أعتقد أنه خدم الترك مثله، ولا نبت في وادي أغراضهم إلا بانُهُ وأثله، قد درِبَ مقاصدهم وألفها، وفرّع مرامي مراميهم وعرفها، طال عمره في السعادة وخدمته في آخر عمره بالحسنى وزيادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 وكان يرعى حقّ من خدمه، ويعلي كعب صاحبه وقدمه، ولم يكن فيه لأحد أذى، ولا رأى غيره من عينه قذى، منجمعٌ عن الناس، لا يجتمع بأحد في مآتم ولا أعراس، شُغله بخويصة نفسه، والاعتزال عن أبناء جنسه. وكان شديد الحزم، مديد الهمة والعزم: لا يقرع السنَّ للفوات ولا ... يعضّ حرّ البنان من ندمه يقلّ قدرُ الأنام عنه كما ... يصغر جنب الزمان في عظَمه ولم يزل على حاله الى أن انهار به جُرفه، وتهدّم من عمره شُرفه. وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكانت جنازة عظيمة، ثم إنه نقل تابوته الى دمشق، ودفن بتربتهم التي في الصالحية في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة. وكتبت أنا الى ولده القاضي علاء الدين كاتب السر أرثيه بقصيدة وهي: يا قاصد الفضل عُد قد مات مُحييه ... وغاب من كان بين الناس يُبديه وأوحشَ الدست ذاك لصّدرٍ حين مضى ... فطالما كانت الأسرار تأويه كم دبر الملك بالآراء فامتنعت ... ثغوره وحماهُ من أعاديه ورفّة السُمر والبيض الصفاح فما اح ... تاج الشجاعُ لأن تجري مذاكيه وكم كتابٍ له أردى الكتائب لم ... ما بات في ساحة الديوان يُمليه مهما نسيتُ فما أنسى توجّعه ... لي من زماني إذ خانت لياليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 ولُطفه كلما وافيتُ مجلسَه ... كأنما نسماتُ الروض لي فيه يا ذاهباً ترك الأسماع من حَزَنٍ ... تودّ لو أنها صُمّت لناعيه ومن مضى والورى تدري محاسنه ... حتى لقد شكر الله مساعيه أقسمتُ ما خدم الأملاك مثلُك في ... سرّ تبيتُ من الأعدا تُراعيه ولا يوفّي الأمور الباهظات إذا ... ما أظلم الرشد حقاً أنت تدريه ربّيْت فيما مضى من دهرنا دولاً ... من غير عجزٍ ولا كبرٍ ولايته وكم وصلت لمن قد بات ملتجئاً ... إليك رزقاً رآه لا يواتيه يُجنى عليك ولم تُظهر مؤاخذةً ... لأجل ذلك تعلو من تناويه وما برحتَ عظيم القدر ذا شرفٍ ... عند المليك الذي جلّت أباديه وقد مضَيت الى الله الكريم وما ... يضيعُ مثلك ضيفاً عند باريه قدمت في مثل شهر الصوم حضرته ... بُشراك بُشراك خيرٌ بتَّ تجنيه فقِرَّ عيناً بمن خلّفتَ من ولدٍ ... فإن حقّك كل الناس يدريه ولم يمت من بنوه سادةً نجُبٌ ... كلٌ على حدةٍ يحيي معاليه لاسيما وعلاءُ الدين ثالثهم ... يفوه بالمسك من أضحى يسمّيه كفاية ووقار في رسوخ نهىً ... فما أرى أحداً في ذا يوفّيه أما الكتابةُ فاسأل كلَّ يانعة ... من الحدائق إن كانت تحاكيه أو العبارةُ فاسأل كل بارقة ... من الدياجر إن كانت تجاريه أو الترسّل فاسأل كل هاطلة ... من السحائب إن كانت تباريه أو الخلائق فاسأل كل نافحةٍ ... من النواسم إن كانت تضاهيه نظمٌ كأن سلاف الدنّ شعشعها ... فينا ضُحىً وأدارتها قوافيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 وكل سجع لو أن البحر يعرف ما ... يأتي به لاستحتْ منه لآليه يا من سردت معانيه وأقسمُ ما ... تدري الليالي له مثلاً فتحويه اصبر على فقد مولى كلُّ ذي أدب ... إن كان يُنصفُ لا ترقا مآقيه وسلّم الأمر في هذا لخالقه ... تنلْ من الله ما تغدو تُرجّيه فأنت أولى بصبر القلب في حزنٍ ... ما غير فضلك فينا من يُعانيه ولم أر فيمن عاصرته من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من القاضي محيي الدين بن فضل الله ومن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، نعم والقاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا شهاب الدين محمود، ولكن القاضي محيي الدين رعشت يده في آخر عمره، وارتجت كتابته أخيراً، ورأيت بخطه المثل السائر، والوشي المرقوم وهما في غاية الحُسن. وأول ما كتب الإنشاء بدمشق في أيام أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب سنة إحدى وستين وست مئة، ثم إنه جهّزه الى حمص، فأقام بها سنتين، ونُقل الى دمشق، فأقام مدة، ثم أعيد الى حمص وأقام بها قريباً من خمس سنين، ثم إنه نقل الى دمشق، ولما توجه أخوه الى كتابة السر بمصر وأقام بها الى أيام السلطان حسام الدين لاجين حصل للقاضي شرف الدين استرخاء، فجهّز السلطان أحضر القاضي محيي الدين سنة سبع وتسعين وست مئة، فأقام بمصر ينوب عن أخيه تسعة أشهر، ثم إنه طلب العود الى دمشق، فأعيد إليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 ولم يزل بدمشق كاتب سر الى أن حضر السلطان من الكرك الى دمشق، وتوجه الى مصر سنة تسع وسبع مئة وهو معه، وعاد الى دمشق على وظيفته الى أن حضر أخوه القاضي شرف الدين عوضه بدمشق، ثم إنه عُطّل من المباشرة مدة، وأُخذ منه مبلغ مئة ألف درهم، وبقي مدة بلا خدمة، ثم رسم له أن يكون موقّعاً في الدست قدام الأمير سيف الدين تنكز، فلبث بعد ذلك الى أن باشر صحابة ديوان الإنشاء بعد القاضي شمس الدين ابن الشهاب محمود في رابع عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وأقام على ذلك الى أن طلبه السلطان الملك الناصر الى مصر، وولاه كتابة السر بها لما بطُلتْ حركة القاضي علاء الدين بن الأثير، وطُلب معه القاضي شهاب الدين، وولده، والقاضي شرف الدين أبو بكر حفيد شهاب الدين محمود، فوصلوا الى القاهرة في تاسع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأعيد شرف الدين الى كتابة سرّ دمشق عوضاً عن محيي الدين، وأقام بالقاهرة مدة الى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان شرف الدين قد طلع مع تنكز الى مصر، فرُسم لشرف الدين أن يكون كاتب السرّ بمصر، وأن يتوجه القاضي محيي الدين وأولاده مع تنكز الى دمشق، وذلك في نصف شعبان من السنة المذكورة، ولم يلبث شرف الدين في المنصب إلا ريثما حجّ السلطان وعاد معه، فرسم لشرف الدين بعوده الى كتابة سر دمشق، وطُلب القاضي محيي الدين وأولاده الى مصر ثانياً، واستمر القاضي محيي الدين على ذلك الى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فزاد ضعفه، وكبُرت سنّه، فطلب من السلطان أن يعود الى دمشق ليموت بها، فرسم له بالتوجه الى دمشق، وألزم ولده القاضي شهاب الدين بالتوجه معه، وكُتب له توقيع عظيم في قطع الثلاثين بأن يستمر على صحابة الديوان بالممالك الإسلامية، وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة من بالباب فمن دونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 نوابه، وأنه حيث حلّ يقرأ القصص والمظالم والولايات والعزل والرواتب وغير ذلك، ويوقع فيما يراه، وتُجهز الى مصر ليُعلّم عليها العلامة الشريفة، ورسم بعود أولاده معه خلا القاضي علاء الدين فإنه كان في صحابة ديوان الإنشاء الشريف بمصر. وتجهز القاضي محيي الدين وجماعته للسفر، وشدّت المحفة على البغال لتدمن على حملها، ولم يبق إلا سفره، فأُثقل في المرض، وانقطع جملة كافية. فلبث أياماً قلائل، وتوفي في التاريخ المذكور. ولم أر في عمري من نال سعادته في مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره، وكان السلطان قد بالغ أخيراً في احترامه وتعظيمه، وكتب له في أيام الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار توقيعاً بالجناب العالي، فقبّل الأرض واستفعى من ذلك وكشطها، وقال: ما يصلح للمتعمم أن يُعدّى به المجلس العالي. وأجاز لي بخطه في القاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. يحيى بن محمد بن علي ابن زيد بن هبة الله رشيد الدين أبو طالب، الفقيه الحنفي، الأديب الشاعر. حدّث بشيء من شعره، ورواه ولده أبو المحاسن يوسف والفقيه ظهير الدين علي بن عمر الكازروني وابن الغوطي. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وسبع مئة. ومن شعره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 إن كنتَ من أهل الصبابة والجوى ... فاسمع ولا تبخل بنفسك في الهوى من لا يذلّ لمن يحب فحظه ... من حبه إما الصدود أو النوى فاخضع له إن شئت عزّة قربه ... فلقد هديت، فلا تكن ممّن غوى يحيى بن محمد بن علي ابن أبي القاسم، محيي الدين ابن العدل بدر الدين العدوي الدمشقي ابن السكاكري. مولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. وتوفي بدمشق في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس. فاق في كتابه الشروط وسمع الحديث من جماعة، وتزوج بقريب من المئة امرأة. يحيى بن محمد بن سعد ابن عبد الله بن سعد بن مفلح، الشيخ الإمام الصالح المعمر، مسند وقته سعد الدين أبو زكريا ابن الصاحب البليغ شمس الدين الأنصاري المقدسي الصالحي الحنبلي. سمع حضوراً في الثالثة من ابن اللتي، وسمع في الخامسة من جعفر الهمذاني، واسمه في الطباق عليهما سعد، وبه يسمى أيضاً، ما كان له أخ واسمه سعد، وسمع من أبيه، والشرف المرسي، والكفرطابي، وابن عبد الدائم، وجماعة، وأجاز له ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 روزبه، والقطيعي، والأنجب الحمّامي، وابن صباح المخزومي، وعلي بن مختار العامري، وعبد المحسن السطحي، وأبو القاسم ابن الصفراوي، وخلقٌ كثير. وتفرّد في وقته وروى الكثير على سداد وخير، وتواضع وحضور ذهن، وحسن خلق، وأكثر عنه ولده المحدّث شمس الدين. وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة. يحيى بن محمد بن عبد الرحمن القاضي الرئيس جمال الدين بن الفويرة، تقدم ذكر ولديه علاء الدين علي والشيخ بدر الدين محمد الحنفي في مكانيهما. كان القاضي جمال الدين رئيساً في نفسه، يتودد الى الناس، ويخدمهم، ويتجمّل معهم. توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. يحيى بن مصطفى الأمير جمال الدين، أحد الأمراء العشرات بدمشق، ابن الأمير زين الدين مصطفى البيري. كان شاباً طوالاً حسن الوجه والقامة، فيه خيرٌ ودين، يلازم صلاة المغرب بالجامع الأموي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 ولم يزل على طريقة جيدة، الى أن توفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة. وكان كماً، بقل عذاره، تألم له والده والناس أيضاً. يحيى بن يوسف ابن أبي محمد بن أبي الفتوح، الشيخ المعمر المسند شرف الدين أبو زكريا المقدسي ثم المصري. روى شيئاً كثيراً بالإجازة من ابن رواج وابن الجميزي والمرسي والمنذري وغيرهم، وأكثر عنه شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والقاضي تقي الدين أبو الفتح السبكي وأقاربه، وشمسُ الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وكانت الإجازة قد أخذها له أخوه محيي الدين محمد النحوي. وكان شيخاً حسناً لا بأس به، يتعاسر في التحديث. توفي رحمه الله بمصر سنة سبع وثلاثين وسبع مئة عن نيّف وتسعين سنة. يحيى الملك إمام الدين البكري القزويني، صاحب الديوان بالعراق. توفي رحمه الله تعالى بالحلّة سنة سبع مئة، ونقل الى بغداد، ودفن بمدرسته بدرب فراشا، وتولى بعده ابنه افتخار الدين مكانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 يزدار الأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق. توفي رحمه الله تعالى تقريباً في شهر رجب سنة سبع وأربعين وسبع مئة. يعقوب بن إبراهيم الشيخ الفقيه شرف الدين ابن الشيخ الإمام صدر الدين ابن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء بن ياسين بن عبد الله بن زهر البصروي ثم الصالحي. سمع شيئاً من مسند الإمام أحمد بن حنبل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر والشرف السراج. وكان فقيهاً، وله شعر، وفيه خيرٌ ودين وصلاح، وكان قائماً بعياله. توفي رحمه الله في مستهل شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ومولده في خامس عشري شعبان سنة اثنتين وأربعين وست مئة. يعقوب بن عبد الكريم الرئيس الكبير الصاحب شرف الدين ناظر حلب وطرابلس. كان رئيساً نبيلاً، سؤوساً جليلاً، سمح اليد، لا يبالي بما وهب، ولا يفكر في الدهر أنام عنه أم تيقّظ له وهبّ، يتلقى الواردين عليه بالإحسان، ويكرمهم بكرامتي اليد واللسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 وكان يخدم الأمير سيف الدين تنكز وحاشيته وجماعته وغاشيته وكان يرعاه إذا ورد من دمشق أو صدر، ويكرم نزله إذا صعد أو انحدر. وقضّى في حلب سعادة عُظمى، وأياماً نظمها الدهر في سلك السرور نظماً، وتنقّل منها الى بلد طرابلس مرات، والتقى من حروب الزمان كرّات، وطُلب الى مصر غير مرة، وعاد منها ووجوه عداه مغبرّة. يلاقي العِدا بالقصم، والوفد بالغنى ... وحُسّاده بالكبت، والداءِ بالحسم خبيرٌ بأخلاق الزمان يروضها ... بلين الهُوينى أو بعارضة الحزم وكان يحب الفضلاء، ويقرّب النبلاء. ولم يزل على حاله الى أن جفّت مواد لهواته، وأكمل مدة حياته. وتوفي - رحمه الله تعالى - في إحدى الجماديين سنة تسعٍ وعشرين وسبع مئة بحماة. كان أولاً مباشراً نظر الجيش بحلب قبل عود الناصر من الكرك الى دمشق، ثم إنه توجه الى طرابلس سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ثم إنه تولى نظر حلب، فأقام بها في سعادة ورياسة وسيادة الى أن عزِل في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وتوجه الى نظر طرابلس فأقام بها الى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه عاد الى نظر حلب، ثم إنه نقل الى نظر طرابلس فأقام بها دون السنة، ومرض وتعلّل، فتوجه الى حماة ليتداوى بها، وأقام بها مدة عليلاً، وكان صاحب حماة الملك المؤيد يعوده ويزوره ويصله، ولما مات مشى في جنازته، وكان يخدمه لما عليه من الخدمة والمكارمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 وفيه يقول جمال الدين بن نباتة: قالت العَليا لمن حولها ... سبقَ الصاحب واحتلّ ذُراها فدعوا كسبَ المعالي إنها ... حاجة في نفسِ يعقوب قضاها وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر يهنّيه بقدومه الى حلب بعد القاضي جمال الدين ابن ريّان، ومن خطه نقلت: أبدت سروراً وهذا بعضُ ما يجب ... وكيف لا وقدوم الصاحب السببُ وأسفرت من محيا البشر عن حسنٍ ... له إذا ما انتهى من وصفه حسبُ وأقبلت تتهادى من غلائل في ... تيهٍ أنّ ممّن حاكها الطربُ تقول للبرق إذ تفترّ باسمةً ... لقد حكيتَ ولكن فاتك الشنب وتنشد الدوحُ إذ تهتزّ ناسمة ... بيني وبينك يا دوح الحمى نسبُ لك البشارة يا شهباءنا فلقد ... أمسى وأصبح من حسادك الشهبُ لقد علوتِ به قدراً ولا عجبٌ ... فإنه رجلٌ تعلو به الرتب يكفيك من ذي المعالي أن منصبه ... قد زال عنه العنا والبؤس والنّصب وأن مجلسه المأنوس منه زها ... روضاً فآض إليه الحُسن ينتسبُ ما غاب عنه جمال من حوى شرفاً ... إليه آل التقصّي وانتهى الطلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 يعقوب بن مظفر ابن مزهر، الصاحب شرف الدين. هو أخو القاضي فخر الدين أحمد بن مظفر. كان الصاحب شرف الدين من أشياخ الكتّاب المعروفين بالنهضة والكفاية، كثير البرّ لأهله وأقاربه ومن يلوذ به، وكان المباشرون يخافونه ويخشون منه. باشر النظر بدمشق وحلب وطرابلس وصفد وغير ذلك من المناصب. توفي - رحمه الله تعالى - بحلب في شعبان ثامن عشرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. ومولده بنابلس سنة ثمان وعشرين وست مئة. وكان وصوله الى حلب في هذه المرة ناظر الدواوين بها في مستهل شعبان، فأقام بها ثمانية عشر يوماً وتوفي رحمه الله. يعقوب الأمير محيي الدين ابن الملك الأشرف عبد الحق ابن السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب. كان جندياً وله إقطاع وعدة أولاد، وعليه ديون كثيرة، وكان يحفظ شعراً كثيراً. وتوفي بالمزة ظاهر دمشق في ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 يلبسطي الأمير سيف الدين. لما توفي الأمير سيف الدين بلبان البدري نائب حمص عيّن الأمير يسف الدين يلبسطي المذكور للنيابة، وخلع عليه في خامس عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وتوجه إليها وأقام بها. يلبغا الأمير الكبير سيف الدين اليحيوي الساقي الناصري نائب حماة وحلب ودمشق، ابن الأمير سيف الدين طابُطا، وقد تقدم ذكره في حرف الطاء. كان جميل المحيا، قد طال رِيّاً وطاب رَيّاً، بثغر يفترّ عن أقحوانه، وقوامٍ يهزّ منه رمحاً لدناً، غلطتُ، بل غصن بانه، كريم السجايا والأخلاق، عديم النظر في مجموع محاسنه على الإطلاق، لا يكاد يمنع سائله ولا يرد وسائله، هذا الى إقدام زلّت عنه الأقدام، وشجاعة يُردُّ عنها عنترة بوجه دام: قمرٌ يروقك في سحاب بنوده ... ضحكَ السيوفِ من البروق الخُلّب طبّ بأدواء الممالك راضها ... بندى يد سمحٍ وسيف مقضبِ ذو سطوة تسعُ البُغاة وتحتها ... حلمٌ يفيض على المسيء المذنب بسماحة وحماسة قد بيّنا ... أن ليس يمنعُ مهلكٌ من مطلبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 خرج على الملك الكامل، ورماه بالذل الشامل، وأراد أن يفعل مثلها بالمظفر، فخرّ صريعاً لليدين وللفم وقد تعفّر، وكان يظن الثانية مثل الأولى، فعادت صحيحات العيون من أمانيه حُولاً، وحزّ رأسُه عن جسده وما نفعه مثقّف سُمره ولا موضون زرده. وكانت قتلته بقافون في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. كان الأمير سيف الدين يلبغا من أكبر الأمراء الخاصكية، ولم يكن عند أستاذه الملك الناصر محمد أعز منه، وكانت الإنعامات التي تصل إليه لم يفرح أحد بمثلها، يطلق له الخيل بسروجها وعُددها وآلاتها: الزركش والذهب المصوغ في سروجها مرصعاً بالجواهر الثمينة خمسة عشر خمسة عشر فرساً، والأكاديش من الجشار مئتين مئتين، وتجهَّز إليه التشاريف: الأطلس والحوايص الذهب والطرز الزركش وغير ذلك من التشاريف التي يحتاج هو الى أن يعطيها من عنده لمن يُحضر إليه ذلك. حكى لي الحاج حسين أستاذداره قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما خرج من عنده، طلب القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وقال: أحضر إليّ الساعة خمسةً وعشرين ألف دينار، وخمسة تشاريف أطلس أحمر وطرزها وكلوتاتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 وحوايصها، فلما حضر ذلك قال: احمل التشاريف الى عند يلبغا، وقل له: إذا جاء الجمدارية بالذهب اخلع عليهم التشاريف، وطلب خمسة جمدارية وحمّل كل واحد منهم خمسة آلاف دينار، وقال: توجهوا بهذا الذهب الى يلبغا، فأحضروها، وخلع هو عليهم تلك الخلع، وبنى له الإصطبل الذي في سوق الخيل تحت القلعة ظاهر القاهرة، ولم يعمّر قبله مثله، وأنفق عليه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان يهندس الصنّاع فيه بنفسه، ولما فرغ مدّ فيه سماطاً عظيماً، وخلع على أمراء الدولة تشاريف وخيولاً. وبالجملة فكانت إنعاماته عليه وإطلاقاته له خارجة عن الحد. وكان هو والأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي قد توليا تمريض السلطان لما مات. ثم إن يلبغا سأل في أيام الصالح إسماعيل أن يكون نائب حماة، فأُجيب الى ذلك، وجاء إليه عوضاً عن الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني، وتوجه المارداني الى نيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين طقزتمر، وجاء طقزتمر الى نيابة دمشق، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ولما مات الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني في حلب، رسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة حلب، ولما ملك الملك الكامل طلب طقزتمر من دمشق الى مصر ليكون لها نائباً، ورسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة دمشق، فدخل إليها يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة، وتوجه الأمير سيف الدين أرقطاي الى حلب نائباً، وأقام يلبغا اليحيوي على حاله بدمشق، وأرجف الناس كثيراً بأن الملك الكامل يريد إمساك يلبغا، وذلك بعد إمساك الأمير سيف الدين آل ملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 وسيف الدين قماري، فاستوحش الأمير سيف الدين يلبغا من ذلك وبرّز الى الجسورة بظاهر دمشق في خامس عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وأقام هناك أياماً، وحضر إليه الأمير حسام الدين البشمقدار نائب حمص، والأمير سيف الدين آراق نائب صفد، والأمير سيف الدين أسندمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، واجتمع الكل عنده بظاهر دمشق، وعسكر دمشق جميعه، واجتمعوا وأجمعوا على خلع الكامل، وظاهروه بالخروج عليه، وكتبوا إليه مطالعة بذلك، فكان ما كان من أمر الكامل، على ما مرّ ذكره في ترجمته. ولما تولى الملك المظفر حاجي أقرّ سيف الدين يلبغا على حاله في نيابة دمشق وجعل ابنه أمير محمد أميراً بطبلخاناه، وأعطى دواداره الأمير عز الدين طقطاي طبلخاناه، وعمّر يلبغا قبة النصر عند مسجد القدم مكاناً كان قد برز إليه، وكان قد عمّر قبل ذلك القيسارية التي هي برّا باب الفرج، وعمّر الحمامين اللذين بحكر العنابة برّا الجابية بدمشق، وشرع في عمارة الجامع الذي بسوق الخيل على نهر بردى في أول سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وفي ثامن عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ورد إليه الخبر على البريد على يد الأمير شمس الدين آقسنقر المظفري أمير جاندار بكتاب من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 السلطان الملك المظفر بإمساك الأمراء الستة الذين تقدم ذكرهم في ترجمة الأمير شمس الدين آقسنقر الناصري، وفيه إعلامه بالواقعة وإطابة خاطره وتسكينه. فكتب الجواب بالدعاء للسلطان وجهّز أستاذداره سيف الدين أشتقتمر معه، واستوحش يلبغا من هذه الواقعة كثيراً، واستدعى أمراء دمشق بعد ذلك بيومين، وهو في دار السعادة، وعرّفهم ما جرى، وكتب الى نواب الممالك بالصورة، وجهّز الأمير سيف الدين ملك آص الى حماة وحمص وحلب، وجهز الأمير علاء الدين القاسمي الى طرابلس. وجاءه ليلة الجمعة من زاده وحشة فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه، وانتقل الى القصر الأبلق، ونزل والده وإخوته وألزامه ومن معه من مماليكه بالميدان، وكان يركب وينزل الى يوم الأربعاء، فجاءه الأمير سيف الدين آراي أمير آخور بكتاب السلطان الملك المظفر يطلبه الى مصر ليكون رأس أمراء المشور، وأن نيابة الشام قد أنعم بها على الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب حلب، وقال سيف الدين آراي ذلك بغمة لأمراء دمشق، فتحللت عنه العزائم، وفلّت الآراء، فتجهز وطلع الى الجسورة ثانياً على العادة التي فعلها في السنة الماضية، وكان ذلك بعد العصر خامس عشر جمادى الأولى، وأقام الى بعد الصلاة من يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان الى أمراء دمشق بإمساكه في عشية الخميس، فأنزلوا الصنجق السلطاني من القلعة، واجتمع عسكر دمشق تحته، ولما علم بذلك ركب بسلاحه في جماعته. ولما عاين أوائلهم هرب بمماليكه وأهله، وهرب معه أيضاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير ناصر الدين بن جمق، وتبعه الأمير علاء الدين بن طغريل أمير حاجب، والأمير شهاب الدين بن صبح وغيرهما من عسكر دمشق، وعادوا بعدما أوصلوه الى ضمير، وقتل من العسكر جماعة. ثم إن الأمير فخر الدين أياز نائب صفد وصل بعسكر صفد الى دمشق في بكرة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وخرج العصر بعسكر دمشق أيضاً وصفد وتوجه بهم الى حمص وجدّوا، وكان العرب قد أنكَوه ومنعوا منه الماء، واقتطعوا بعض نقله، وجدّ في طلبه سلار بن تتر البدوي وأخوه بُريد، ومنعوه النوم والقرار، وكلَّ هو ومن معه، وملّوا من حمل السلاح ليلاً ونهاراً، وحمي الحديد عليهم، وعاينوا الهلاك، واختلف مماليكه عليه، فقال لهم: بالله وسّطوني أو اضربوا عنقي. كل هذا وهم ما بين القريتين الى أمهين وصدد، ولما سمعت ذلك قلت: تفرق شمل السعد عن يلبغا وقد ... بغا وغدا في عكسه متورّطا فقال له السيف الذي شدّ وسطهُ ... وقد بالغ الأعراب في الجور والسّطا تلذذ بقتلٍ فيه للنفس راحةٌ ... وإن رُمت أهنأ العيش فابغِ توسُّطا وقال له مماليكه: أنت قلت لنا إن نائب حماة معك، توجّه بنا إليه، فلم يرَ إلا المطاوعة، فعبر على ظاهر حمص وتوجه الى حماة، فخرج إليه الأمير سيف الدين قلطيجا الحموي النائب بحماة، فتلقّاه ودخل به الى حماة، ثم إنه أمسكه وأمسك والده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 وأخويه قراكز وأسندمُر، وعز الدين طقطاي الدوادار وسيف الدين جوبان وقلاوون ومحمد بن جمق، وقيّدهم وجهّز سيوفهم الى السلطان. ثم بعد ذلك جهّز الأمير سيف يلبغا ووالده مقيَّدَين الى مصر، فلما وصلا الى قاقون تلقاهما الأمير سيف الدين منجك، فأطلعه الى قلعة قاقون هو ووالده وحبسهما في بيتين منفردين، ثم أُنزل والده من قلعة قاقون، وجُهّز وحده على البريد الى السلطان، وطلع الى الأمير سيف الدين يلبغا مشاعليّان، فأحسّ بذلك، وسألهما الوضوء وصلاة ركعتين، ولما فرغ من ذلك قال لهما: بالله هوّناها عليّ. فقالا له: يا خوند إن أردت ذلك فدعنا ندير كتافك، فمكّنهما من نفسه، وخنقاه، فسمع الناس شهقته من أسفل القلعة. ثم إنه حُزّ رأسه وجعل في عسل، وجُهّز الى باب السلطان، ثم دفنت جثته بقاقون، رحمه الله تعالى وسامحه وعفا عنه، وذلك في العشر الأواخر من جمادى الأولى في السنة المذكورة. وقلت أنا في ذلك: إن في يلبغا لكلِّ لبيبٍ ... عبرةً أصبحت على الدّهر تُتلى ما تساوى العزُّ الذي قد رآهُ ... في دمشق بذلّ قاقون أصلا وقلت أيضاً: ألا إنما الدنيا غرورٌ وباطلُ ... فطوبى لمن كفّهاه منها تفرغا وما عجبي إلا لمن بات واثقاً ... بأيام دهرٍ ما رعَت عهد يلبغا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 ثم إن الأمير سيف الدين منجك وصل الى حماة، وجهز إخوة يلبغا وجماعته الذي أُمسكوا مقيّدين الى باب السلطان. وخلّف الأمير سيف الدين يلبغا اثني عشر ولداً، أكبرهم أمير محمد وعمره تقدير سبع سنين، وكان له زوجتان: أخت صمغار وأخت بُزلار، وكان يحبها كثيراً، وأم محمد وهي أخت الخوندة أُردو. وكان يتلو القرآن جيداً، ويلازم تلاوته في المصحف، ويحب أهل القرآن ويجالسهم، ويحب الفقراء. ولم يكن فيه شرٌ ولا انتقام. وقبل خروجه من دمشق أحضر إليه قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي الى القصر، ووقف أملاكه وخصّ الجامع الذي أنشأه بدمشق بمبلغ ستين ألف درهم في كل سنة من صلب ماله، رحمه الله تعالى. ومضى كأن لم يكن. ولم أر مثل ما ناله من السعادة التي فاضت عنه على والده ووالدته وإخوته وأقاربه ومماليكه، لأن والده كان أمير مئة مقدم ألف، وأخواه أميري طبلخاناه، وولده أمير طبلخاناه، وذو قرابته الأمير شهاب الدين شعبان أمير طبلخاناه، ودواداره الأمير عز الدين طقطاي أمير طبلخاناه، ومملوكه سيف الدين جوبان أمير عشرة، وبقية مماليكه جماعة منهم لهم الإقطاعات الجيدة القوية في الحلقة. واعتنى بجماعة من أهل حماة وحلب ودمشق، وخلّص لهم الطبلخانات. وعلى الجملة فكانت سعادة زائدة عن الحد، لكنها ختمت بهذا الشرّ الكبير الذي فاض عنه على ذويه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. بقدر الصعود يكون الهبو ... طُ فإياك والرُتبَ العاليه ومن جملة ما أرى من العز أنه كان قد توعّك وحصل له سوء مزاج، فكان عند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 السلطان في المرقد وهو جالس ورجلاه الى ركبتيه في حجر السلطان وهو يكبّسهما بيده ويرش الماورد على وجهه، ويتولى تمريضه وطبّه وعلاجه وخدمته بنفسه. وكان ولد السلطان وهو إبراهيم أكبر من أبي بكر قد مرض بالجدري فمات إبراهيم ودفن ولم يره أبوه ولا عاده شُغلاً منه بتمريض يلبغا، فهذا نهاية في العز. ومن جملة الذلّ الذي رآه أن تولى خنقه في قلعة قاقون مشاعليّان ودفن في أرض قاقون جسداً بلا رأس، اللهم خلّصنا من شرور هذه الدنيا الغرارة. وقلت أنا فيه وقد التزمت الزاي المشددة: دعِ الدّهرَ يُعلي من أراد الى السُهى ... ودافعه من وقتٍ لوقت وجَزِّهِ فقد نال منه يلبغا فوق ما ابتغى ... وقصّته تُجلى على المتنزّه وأُنزل من عند الثريا الى الثرى ... وأمسكه صرفُ الرّدى في محزّه وألحفه العيشُ الغليظُ رداءَهُ ... على لطفِ معناه ورقّة بزّه فلا سعدَ إلا ما رأيناه نالهُ ... ولا ذلَّ إلا ما رأى بعد عزّه اليلداني أبو محمد الصحراوي عبد الرحمن بن عبد المولى. يلقطلو بنت أبغا الخاتون. كانت امرأة ديّنة صيّنة تقيّة نقيّة، محبّة للخير وأهله، وكانت عمّة غازان وخربندا، وكانت بين المغل جليلة القدر نبيهة الذكر، وافرة الحُرمة، مسموعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 الكلمة، ذات شهامة وفروسية، وكانت مزوّجة بعرب طي، ومنازلها لا تبعد من أطراف بلاد الإسلام، ولما مات زوجها المذكور ركبت بنفسها وقتلت قاتله وقطعت رأسه وعلّقته في قلادة فرسها، وبقي الرأس على هذا زماناً طويلاً حتى كُلّمت فيه فألقته، وقيل إنما ألقته بأمر اليرلغ، ولم تتزوج بعد عرب طي، وحرص الأفرم على زواجها وكتب إليها في ذلك وأخذ كتب السلطان وسلار إليها فيه، وبذل لها حمص وبلادها صداقاً عنه فنهرت رسله وردّتهم بالخيبة، وقالت: أنا أنصح أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أنصح فلان وفلان وفلان، فإن كانت مناصحاتي للمسلمين هي التي أطمعت الإفرم فيّ فما بقيتُ أناصحهم، وكيف تجاسر الأفرم عليّ، ومن هو الأفرم؟ وأنا أقل كوتلجي عند مثل الأفرم. وقدمت هذه يلقطلو الى الشام وتوجهت الى الحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: وكنت حاجّاً في تلك السنة فكنت أرى منها امرأة تعد برجال حزماً وعزماً وكرماً، وعليها سيماء الجلالة ووسامة الملك، وتصدقت بأموال كثيرة، قيل إنها تصدقت في الحرمين بثلاثين ألف دينار، وكانت تركب في الطريق محفة، وتركب الخيل، وتشدّ في وسطها التركاش ويُشال عليها الجتر، وكانت تضرب حلقات صيد وتتصيد طول الطريق. وكانت بحر كرم وغاية إحسان، ولما قدمت دمشق خرج الأمير سيف الدين تنكز للقيّها ولاطفها حتى دخلت دمشق بغير جتر على رأسها. اليمني الشيخ تاج الدين عبد الباقي، اسمه محمد بن أحمد. ابن يمن قاضي القضاة الحنفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 ينجي الأمير سيف الدين السلاح دار. كان من جملة الأمراء بدمشق، ولما جاء الفخري وملك دمشق كان هو فيها مقيماً في شدّ الدواوين، وكان يصدّ الفخري وغيره عن أشياء كثيرة من طلب الناس. ومرض مدة بعد ذلك وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة. ينغجار الأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين آرغون الدوادار الناصري. كان سكنه على بركة الفيل في حكر الخازن، وأُخرج الى الشام سنة ثلاثين وسبع مئة فيما أظن، وأقام بدمشق مدة، وولي نيابة قلعة دمشق مدة، وولي الرحبة، وولي نيابة بعلبك مديدة في أيام الأمير سيف الدين يلبغا. وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 يوسف بن إبراهيم بن جملة الشيخ الإمام العالم الفقيه قاضي القضاة بالشام، الحوراني المحجّي الشافعي الأشعري. كان قد تفقّه مدة لابن حنبل رضي الله عنه، ثم إنه انتقل الى مذهب الشافعي، وتميّز وناظر الأقران، وأخذ عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وعن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب، وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. وصار من الأعيان، ونظر القمر الى جماله وهو خزيان، وجالد فرسان البحث وجادلهم، وفضّ على الطلبة ما عنده في خزانة علمه وجاد لهم. ولما باشر قضاء الشام وتولى بحكمه الأوامر والأحكام، باشر ذلك بصلف وأمانة، وعفاف لم تتطرق إليها جناية ولا خيانة، وكان ذا مهابة وسطوة على المريب، وشدة وطأة على القريب والغريب: قاضٍ إذا التبس الأمران عنّ له ... رأيٌ يفرّق بين الماء واللبنِ القائل الصدق فيه ما يضَرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن الفاصل الحكم عيَّ الأولون به ... ومُظهر الحقّ للساهي وللذّهن وكان فيه ديانة وحسن عقيدة، وله محاسن كل منها بيت القصيدة. وكان في أيام نيابته لقاضي القضاة جلال الدين بدمشق قد قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الزيارة، وسدّد سهمه إليه وأطلق زياره، وانتصب لهذا الأمر، وأوطأ قدميه على الجمر، ولم يُصلّ على جنازته، وتبرأ من حيازته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 ولم يزل على حاله الى أن وقعت له تلك الواقعة التي كان فيها غرضاً للسهام الرواشق، ووقته في وقتها كل غاسق، ودخل الى دار السعادة وهو قاضي القضاة وخرج منها وهو فاسق، واعتُقل في القلعة مدة، وحلّت به في هذه الواقعة كل شدة، ثم إنه أفرج عنه بعد مدة، وأعطي تدريس المسروريّة بعد أن كاد يموت غمّاً، كما جرى لسيبويه في المسألة الزنبورية. ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن غاض ماء حياته، وفاض دمع باكياته. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ودفن بوادي العظام عند أهله. ومولده سنة ستّ وثمانين وست مئة. وكان قد درّس بالدولعيّة، وخرّج له شيخنا علم الدين البرزالي عن الفخر علي وجماعة. ولما توفي قاضي القضاة علم الدين الأخنائي ولي هو بعده قضاء القضاة بدمشق، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، لأن الأمير سيف الدين تنكز كتب في أمره للسلطان بعناية ناصر الدين الدوادار، وباشر القضاء على أحسن ما يكون من الصّلف والعفة. وكان فصيحاً بليغاً شديد العارضة في البحث. ثم إن حمزة التركماني أحرف الأمير سيف الدين تنكز عنه وأغراه، ولم يزل به الى عقره وقال عنه إنه رشا ناصر الدين الدوادار بالذهب على القضاء، وهذا أمر أنا وغيري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 نستبعده من الجانبين. وكان تنكز قد فوّض إليه الأمر في الشيخ ظهير الدين لأنه لم يصح ما نقله عنه، فبالغ ابن جملة في تعزير الظهير واستقصى، والاستقصاء شؤم، فعُقد له مجلس في يوم الجمعة تاسع عشري شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقد بيّت القضية له حمزة، فدخل وهو قاضي القضاة في الشام، وخرج وهو فاسق قد حكم بعزله وسجنه في القلعة. وكانت واقعة غريبة في تلك الأيام لم يعهد الناس مثلها. أنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدين عمر بن الوردي: دمشق لا زال ربعُها خَضِراً ... بعدلها اليوم يُضربُ المثلُ فضامنُ المكْسِ مطلقٌ فرحٌ ... فيها وقاضي القضاة معتقلُ وقلت أنا في ذلك: العفو يا ربّ من بلاءٍ ... قوى الورى ما تطيقُ حَمله أمرٌ جرى في الوجود فرداً ... يا عجباً وهو لابن جَملَه وأقام في الحبس خمسة عشر شهراً الى أن شفع فيه موسى بن مهنا، وتحدث الأمير سيف الدين تنكز مع قاضي القضاة شرف الدين المالكي في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة في إخراجه من الاعتقال، فقال القاضي: يكتب خطه، ويُشهد عليه أن الحُكم الذي صدر منه في حقه صحيح، فلم يُجب الى ذلك، وتردّد الرسول إليه في ذلك غير مرة، ثم إنه أجاب الى أنه يمشي الى مجلس المالكي ويسلم عليه، فخرج من القلعة يوم الإثنين ثالث عشر صفر الى دار القاضي المالكي، ثم الى الجامع، ثم الى أهله بالمدرسة المسرورية. وولي القضاة بعده القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 ولما خرج من الاعتقال أُعطي تدريس الدولعيّة، ثم تمرّض، وخلت المدرسة الشامسة البرانية، فدرّس بها أياماً بعد ذلك زين الدين بن المرحّل، وكانت وفاته بالمسرورية. وكنت بالديار المصرية لما رسم السلطان الملك الناصر بولايته قاضي القضاة، فكتبت له تقليده بذلك ونسخته: الحمد لله الذي أعلى منار الشرع الشريف بجماله، وجلّى دُجاه بمن تحسدُه البدور في الأفق ليالي التمام على كماله، وشيّد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيّأت الأحكام تحت ظلاله، وأحيا سنّته بمن تتضح به سنن حرامه وحلاله، ونشر لواء فضله بمن إذا ظمئ البحر المحيط فقُلْ دع ذا فإنك عاجز عن حاله. نحمده على نعمه التي ادخرت لأيامنا الشريفة حَبراً عزّ بوجوده اجتماع المثلين، واقتطف ثمار العلوم فما داناه أحد في الفروع ولا وصل معه الى الأصلين، وطال بالعلم ثم بالحلم وزاد في تطوّلاته ولم يقتصر على الطولين، وأجمع الناس على استحقاقه، فلم تكن المسألة فيه ذات قولين. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندّخرها ليوم القضاة والفصل، ونعلم أنها أصل الإيمان وما سواه فرعٌ والقياس ردُّ فرع الى أصل، ونعتمد على بركات فضلها في الأمر والنهي والقطع والوصل، وننال بإخلاصها على أعداء الدين عز العزم ونصر النّصل. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من قضى ومضى، وأعدل من مضى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 وسيف شرعه إذا استقبله مُشكل حكم فيه ومضى، وأشرف من ساس الناس بحلقة الرضى وحكمة المرتضى، وأعز من أغضى الشيطان لظهور ملّته على جمر الغضا. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير من اتّبع شرعه في أحكامه، وخاف مقام ربّه فشكر الله له حسن مقامه، وقصر خطاه على ما أمهره ونهاه، فلم يكن له إقدام على حركة أقدامه، واستبرأ لدينه في قضاياه فما أخطأت سهامه مرامي مَرامه، صلاة تتألق بأنوارها البروق اللامعة، وتتعلق بأستارها الخلائق في الواقعة، ما قبّلت ثغورُ الأقلام خدودَ المهارق الساطعة، ورقّمت إبَرُ الغمام برودَ الحدائق اليانعة، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين. وبعد: فإن منصب الشرع الشريف لا شك في عموم نفعه، ولا مَرية في أن السوابق جرت لنصبه، والعوالي جُرّت لرفعه، ولا ريب في أن شمم كلِّ عرنين ينقاد صاغراً لوضعه، ما حكمنا في شيء حتى نعود الى أمره ونعوذ، ولا خرجنا في السياسة عن حكمه لا على سبيل السهو ولا بحكم الشذوذ، ولا برز أمره بحكمٍ إلا وقال: سيفنا المنصور له دائم النفوذ. وكانت دمشق المحروسة كالشامة في وجنة الشام، وكالجوهرة التي أصبحت واسطة عقد الملك في الانتظام، هذا الى ما جاء في فضلها في السنّة، وثبت لنا في الخارج أنها أنموذج الجنة، قد شغر منصب حكمها الشافعي من قاضٍ يسوس الرعايا، ويجتهد في أحكامه حتى تدلّه الألمعية على المقاتل الخفايا، ويتوسم وجوه الخصوم وكلامهم فيكون ابن جلا وطلاع الثنايا، أمهلْنا آراءنا الشريفة هذه الفترة، واستخرنا الله تعالى فيمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 نحليه بهذا الطوق أو نخصّه بهذه الدرّة، وذكر بين أيدينا الشريفة جماعة كل منهم جلّ إلا أن يكون قد جلّى، واستوعب الشروط المعتبرة، وكان بذلك الاستيعاب مُحلّى، فأشار مَن إشارته كالسهم الذي يصيب الإشارة، وبركةُ رأيه خالصة من حظوظ النفس الأمّارة، وعيّن من عزّت به الشريعة الشريفة منالاً، وزان رتبتها الجليلة فازدادت به جمالاً، وحمى حوزتها لأنه فارس البحث وجدّلهم وجدّ لهم ونسف مغالط النسفي ولو كانت جبالاً، ونقّى ونقّح كلام من مضى فكم قيّد مطلقاً يمرح وأطلق مقيّدا برَسف، وجلس في حلقة دروسه وكأنما تطلع من محراب داود ويوسف، يغرق المُزني في وابل فضله الصيّب، ويفوق عَرفُ عرفانه على القاضي أبي الطيّب، ويتلوّن الصباغ في شامله من عجزه، ويعترف الغزالي بأنه لم يكن من نسج طرزه، قد صاغ أصوله وابن الحداد في الفروع، والتذّ بكراه وصاحب التنبيه لا يذوق لذّة الهجوع، وأنفق من محصوله وابن الحاجب في ضيعة من صيغة منتهى الجموع. وكان المجلس العالي القضائي الجمالي هو مُظهر هذه الضمائر والمقصود بهذه الأدلة والأمائر، لا تليق هذه الصفات إلا بذاته، ولا تحسن هذه النعوت إلا بأدواته. فلذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني المالكي الناصري الناضري، لا زال الرعايا بعدله في أمان، ومواقع اختياره ترتاد لهم الكافي الكافل من رب السيف والطيلسان، أن يفوّض إليه القضاة الشافعية بالشام المحروس ولاية أُحكم عقدها، وانتظم عِقدها، وتبلج عُرفُها وتأرّج عَرفُها. فليأمر بالمعروف وينْهَ عن المنكر، ويسير سيرة عمرية تُتلى محاسنها وتشكر. وليأخذ بحق المظلوم ممن ظلمه، ويجر لسان قلمه بما قامت به البيّنة فعلمه، وليتّبع الحق إن كان مع المشروف أو الشريف، ويطلب رضى الله تعالى في خذلان القوي ونصرة الضعيف. وليُسوّ بين المتخاصمين في موقفهما عنده، ويسمع الدعوى إذا تمت والجواب إذا أكمل قصده، وليُلِن جانباً لمن حضره، ويتمسك بآداب الشرع التي حضّه عليها وأمره. وليتحرّز من أمر الشهود في كل شيء ولينقّب عن أحوالهم فإن منهم من يموت على الشهادة وهو حي، ويتبعهم بألمعيّته في كل أمر، ويسمع شهادتهم بفطنة إياس وذكاء عمرو. والأيتام فليولّ عليهم من يراقب الله في أموالهم، ويخشى الله في معاملاتهم، فكفى ما بهم من سوء حالهم، ولا يركن في أمرهم إلا لمن اختبره المرة بعد المرة، وعلم أن عفته لا تسامحه في التماس الذّرة. والأوقاف فليُجرِ أمورها على النظام البارع ولا يتعدّ بها شروط الواقفين، فإن نصّ الواقف مثل نصّ الشارع. والأيامى فليزوجهنّ من أكفائهن شرعاً، ويمنع من يُلبسهن من العَضْل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 دَرعاً. والأنكحة الأهلية يستوضح عقودها، والخلية يعتبرها شهودها. ومال المحجور عليه يودعه حرزاً يُحفظ فيه، ومال الغائب، وكذلك المجنون والسفيه. ووقائع بيت المال المعمور فلتكن مضبوطة النظام، محفوظة الزّمام، مقطوعة الجدل والخصام. ونوابه في البلاد والجهات والنواحي المتطرفات هو المطلوب عند الله بجنايتهم، والمحاسب على ما اجترحوه من ولايتهم. فلا يولّي من يراه فقيهاً " وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها "، ولا من اتّصف بالجهل، ورأى زينة المال والأهل، بل يتحرّ في أمورهم، ويتّبع معاملتهم في غيبتهم وحضرهم، فأنت أدرى بما إليه الأمر يؤول، وكلكم راع وكل راع مسؤول. والوصايا كثيرة ومنك تُعرف، وإليك ترجع وتصرف. فما نُعلّم عوانك الخمرة، ولا نعرّف صنّاعَك كيف تصنع الشذرة، فما تحتاج الى أن نسردها، بل نجمعها ولا نفردها، وهي تقوى الله عز وجلّ التي مَنْ تمسّك بها فاز قِدحُه، وأمِن سَرحُه، وتعيّن ربحه وتبيّن نُجْحه. والله تعالى يتولاك، ويعينك على ما أولاك، ويزيدك مما أولاك. والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه. والله الموفِّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 يوسف بن أحمد ابن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن طاهر، الشيخ الإمام الفاضل الصدر الكبير بهاء الدين أبو المحاسن ابن الصدر كمال الدين بن العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم. قال شيخنا البرزالي: روى لنا جزءَ ابن عرفة عن النجيب عبد اللطيف الحرّاني، وسمع كثيراً، وقرأ الفقه، واشتغل وحصّل وكتب المنسوب، ودرّس بحماة وولي كتابة الإنشاء بدمشق، وحكم بحماة نيابة. وكان صالحاً ديّناً مشكوراً محبَّباً الى الناس. توفي - رحمه الله تعالى - سابع عشري جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة. ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة. ودفن بتربة خاله، قبالة جوسق ابن العديم ظاهر دمشق. وتوفي بعده ولده القاضي عزّ الدين محمد بعشرة أيام، فإنه توفي - رحمه الله تعالى - تاسع شهر رجب سنة عشر وسبع مئة وولي بعد القاضي بهاء الدين بن العجمي تدريس النجيبية القاضي نجم الدين الدمشقي الشافعي نائب الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 يوسف بن أحمد بن جعفر ابن عبد الجبار الفقيه الإمام العالم الفاضل جمال الدين الشاطبي الشافعي. كان فاضلاً اشتغل بفنونه وحصّل فضائل، وله نظم ونثر، وفيه أمانة ونهضة وديانة، وشهد له القاضي بدر الدين بن جماعة وغيره بأهلية التدريس والاشتغال والإفادة. وولي خطابة جامع جرّاح مدة يسيرة، وكان يخطب بإنشائه. وأدركه أجله دون الأربعين. توفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة. يوسف بن أحمد بن إبراهيم علم الدين الخطيب القناوي الشافعي الأديب. كان من الرؤساء الأعيان الكرماء الأجواد الأذكياء. قرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وكانت له معرفة جيدة بحلّ الألغاز، ونظم فيها أشياء كثيرة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 وله لغز في لابس، الثاني من قوله: يبين إن صحّفت مع قولِ لا ... وهو إذا صحّفته لا يبين وله لغزٌ في مغني: ما اسمٌ إذا عكستهُ ... يُطربُ إن سمعتَهُ يُنعِمُ بالوصل متى ... صحّفت ما عكسْتَهُ وله لغز في زغل: وما لغزٌ إذا فتّشت شعري ... تراه مسطّراً فيه مسمى وإن تعكسهُ كان من التحرّي ... إذا حققته فيالبير يُرمى وفاعله إذا نمّوا عليه ... فيخشى أن تُزال يداهُ حتما قال كمال الدين الأدفوي: تولى الخطابة ببلده، وناب في الحكم في مواضع شتى، منها دشنا وفاو من بلاد قوص، والمنشأة، وطوخ من بلاد إخميم. وكان يكرم الوارد. يوسف بن أحمد بن أبي بكر ابن علي بن إسماعيل بن عمرو بن عبد المجيد، المسند المُعمّر، بقية الرواة، أبو علي الغسّولي المعروف بابن غالية. سمع من موسى بن عبد القادر، والشيخ الموفق، وتفرّد في وقته. وسمع منه خلق، فسمع منه شيوخنا الذهبي والبرزالي والمزي، وسمع منه المقاتلي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 وابن النابلسي، والمحبّ الصدر أبو بكر بن خطيب حماة، والشهاب بن عُدَيْسة، ونجم الدين القحفازي، وخلق. قال شيخنا الذهبي: كان شيخاً ساكناً فقيراً متعفّفاً، بدت منه هنات وسط عمره، ثم إنه كبر وصلحت حاله، وكان حجّاراً، ثم عجز ولزم بيته. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة. وجبي له الكفن، ومولده بقاسيون سنة اثنتي عشرة وست مئة. يوسف بن أحمد بن محمد بن عمر الفقيه محب الدين المقدسي الحنبلي. كان يشهد تحت الساعات بدمشق، ولديه فضيلة، وفيه إقدام وشهامة، ودخل بلاد الروم وغيرها، وسمع من خطيب مَرْدا، ولم يحدّث. توفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة. يوسف بن أحمد بن يوسف ابن عبد الله بن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن شكر، الصدر نجم الدين بن علم الدين بن تاج الدين بن الصاحب صفيّ الدين بن شكر المالكي. كان مدرباً بمدرسة جدّه بالقاهرة. توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 يوسف بن أحمد بن محمد ابن يوسف بن عبد الغني الجذامي الإسكندري الفقيه، المالكي، الأديب صدر الدين، عرف بابن غنّوم - بغين معجمة ونون مشددة وواو بعدها ميم - موقّع الثغر. كان فاضلاً ذكياً. كتب للقضاة زمناً طويلاً، ثم إنه انقطع بمنزله، وخمّس قصائد للصرصري. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ومولده بالإسكندرية سنة ستّ وسبعين وست مئة. قال كمال الدين الأدفوي أنشدني لنفسه، وقد سألته أن ينشدني شيئاً من شعره: يا مَن يُسائل عن شعري ليرويه ... مهلاً فليس شعاري نظمَ أشعارِ مُذ حلّ زائر هذا الشيب صيّرني ... بعد الصّبا وإزاري ذِكرُ أوزاري قال: وأنشدني له أيضاً: وبي غريب الدار مُستأنسٌ ... أسالَ دمعي منهُ خدّ أسيلْ فإن أمُت شوقاً الى وصله ... ففي سبيل الله وابن السبيلْ قال: وأنشدني له: قُم نقترع بكر المدامة بُكرةً ... في روضة حسُنت وراقَتْ مَنْظرا فالرّاح سيفٌ قاطعٌ لهمومنا ... أو ما تراه بالحَباب مُجوهَرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 قال: وأنشدني له أيضاً: جَلا مسواكُ ثغرك خيرَ درّ ... فجلّ بذاك واكتسبَ المَزايا وأنشد صحبهُ تيهاً وفخراً ... أنا ابن جلا وطلاعُ الثّنايا يوسف بن أسعد بن علم السعداء القاضي الرئيس صلاح الدين ابن القاضي سعد الدين بن العسّال. شاب أنبته الزمان في رياض السؤدد وغرس، وفرح به الجودُ لما نبغ ورأس، لم أر في سنّة من حاز رياسته، ولا من ملك سعادته وسيادته، واتصف بلزوم المكارم، وحمل عن رفاقه الكلف والمغارم، هذا الى صورة أبدعها الجمال، وقامةٍ كالغصن إذا هبّت عليه الصّبا فماد ومال، يجلس في ديوانه، ويُرى إذا احتبى في إيوانه: بوجهٍ يملأ الدنيا جمالاً ... وكفٍّ تملا العليا نَوالا قصف غصنه، وأسلمه الى الحِمام حصنُه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. كان قد زوّجه الصاحب شمس الدين غبريال بابنته، واحتفل بأمره ودخل به الى ديوان الإنشاء بدمشق، وأحضر له توقيعاً من السلطان بمعلوم جيّد من العين والغلة والخبز واللحم والعَليق والكسوة. وكان مطبوعاً ظريفاً خيّراً كريماً رئيساً فيه حشمة، وتودد وحسن صحبة. ولم يزل في خير وسعادة الى أن أُمسك الصاحب شمس الدين، فأُمسك هو أيضاً جملة جماعته، وصودر وناله بعض أذى وعصر، ثم طُلب الى مصر، وعاد بطالاً من كتابة الإنشاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 وكان قد عمّر قاعة صغيرة، فصنعتُ أنا له أبياتاً كتبت فيها وهي: دار يدرُّ نَداها ... إذا رأت زائريها وينزل الضيفُ منها ... بجنّة يرتضيها تكاد من فرط جود ... تهتزّ بالضّيف تيها فكلُ طالع سعدٍ ... تراه من نازليها وللورى في بناها ... أزاهرٌ تجتنيها وكم بدورٍ تمامٍ ... من أهلها تجتليها والشّمسُ في أُفقها من ... بنائها وبنيها لا غروَ إن أدهشَتنا ... وحُسن يوسف فيها يوسف بن أسعد الأمير صلاح الدين الدوادار. كان في مبدأ أمره نصف عامل في بيروت على ما قيل، ثم إنه بطّل الكتابة وتوصّل بالجندية الى أن صار دوادار الأمير سيف الدين قبجق، ثم آل أمره الى أخذ الأمرة بحلب، وولي بها الحجوبية في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب، ثم ولي بها شدّ الدواوين، ثم طلب الى مصر مرات، ثم إن السلطان ولاه ثغر الاسكندرية عوضاً عن بكتمر والي الولاة في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه ولي منفلوط بالصعيد، ثم إنه جُعل مشدّ الدواوين بالقاهرة أيام وزارة الجمالي. ثم عزل وبقي في مصر أميراً، ثم إن السلطان جهّزه رسولاً الى القان بوسعيد، فعاد وقد أشاع الناس أنه يكون وزيراً، فلما وصل الى مصر سُعي علي، فبطل ذلك، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الساقي لما مات الأمير شهاب الدين المهمندار، فرسم له السلطان بالمهمندارية، فأقام فيها قليلاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 ولما توفي الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار جعله السلطان دواداراً مكانه، وكان القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود قد رُسم له بعده بيويميات يسيرة بكتابة السر بمصر، فقاسى شرف الدين منه شدائد، وأنكاداً كثيرة، وتوجها صحبة السلطان الى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهما في ذلك، النكد والشرّ، ولما حضرا من الحجاز أقام القاضي شرف الدين قليلاً وهو يعمل عليه الى أن عُزل وأُخرج الى دمشق، وبقي صلاح الدين في الدوادارية، وقد استطال على الناس أجمعين، واستطار شرّه خصوصاً على الكُتّاب، فحسّنوا للسلطان أن يخرج كاشف الثغور الحلبية، فتعلّل، وانقطع في بيته مدة شهرين، ولما قام ودخل الى السلطان عزله في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وحضر الى صفد أميراً، فأقام بها، ونقل الى طرابلس، ثم نقل الى حلب، وجُعل بها والي البر فيما أظن، ثم إنه حج بعدما نقل من حلب الى طرابلس. وورد الخبر الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكان يكتب خطاً حسناً، وله مشاركة كثيرة في تواريخ وتراجم الناس، وكان كافياً ناهضاً فيما يتولاه، خبيراً بما يفوّض إليه، إلا أنه كان مفرط الشّح الى الغاية. لو مات من عطشٍ والكوزُ في يده ... وكان ممتزجاً بالشّهدِ ما شرِبا إلا أنه رحمه الله تعالى، وقف داره وهي عظمى بحلب مدرسة على فقهاء المذاهب الأربعة، ووقف كتّاب أيتام بالمدينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 وكان يدّعي النظم، أنشدني من لفظه صلاح الدين خليل بن رمتاش بصفد، قال: أنشدني من لفظه صلاح الدين الدوادار وقال إنهما له: ما اللعبُ في النار في الميلاد في سفَهٍ ... لكنما هو للإسلام مقصودُ يُراد كبتَ النّصارى أن ربهُم ... عيسى بنَ مريم مخلوقٌ ومولود وكانت عنده كتب عظيمة من كل فن، وكان إذا كان بطّالاً مثل مثل الزلال الحلو البارد، فإذا ولي ولو حراسة الدرب مثلاً انسلخ من ذلك اللطف ولبس لمن يعرفه ولمن لا يعرفه جلد النمر، وتحدث بحراسة الدرب في كل ما في الدولة من الوظائف، قال له يوماً الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب لما ولي الشدّ بعد بطالته: يا صلاح الدين ما في الدنيا مثلك إذا كنت بطّالاً. قلت: ولهذا لم تكن تطول له مدة في ولايته. يوسف بن إسماعيل ابن عبد الكريم بن عثمان، الشيخ الجليل المسند تاج الدين الحلبي. سمع من الضياء صقر الحلبي وغيره. وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الخميس ثامن عشر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أجاز لي رحمه الله في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب عنه الشيخ تقي الدين محمد بن رافع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 يوسف بن إسماعيل بن عثمان ابن محمد، الشيخ الإمام تقي الدين ابن الشيخ الإمام، العلامة رشيد الدين المعروف بابن المعلم. كان فقيهاً، درّس بالمدرسة البلخية مدرسة والده بدمشق، وكتب في الفتوى، ثم إنه توجه هو ووالده في الجفل الى الديار المصرية، وأقاما هناك مدة بجوار الجامع الأزهر. وتوفي في خامس جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. وفقده والده، ثم إنه عاش بعده شهراً واحداً ولحقه بالوفاة رحمهما الله تعالى. يوسف بن أبي بكر الصّدر الرئيس الكبير القاضي ضياء الدين بن خطيب بيت الآبار الدمشقي. صدرٌ صدره رحيب، ورئيس ما له في زمانه ضريب، وكبير يكون الجبل الراسخ عنده صغيراً، وكريم لا يزال الجود على ماله مُغيراً، ذو مروءة يسعى أجرُها بين الصفا والمروة، ونفس ما ترى أن تحلّ في المجلس إلا في الذروة، منزله كعبة الوُرّاد، وخوانه منهلُ الروّاد، كان أهل الشام به يجدون الجدا، ويجتلون من وجهة قمر الهدى، ويحتلون من بابه في مراتع الندى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 إن جادَ للعافي أجاد وإن سعى ... في ضيق طرق للسعادة وُسِّعا عن نشره فاحَ النسيم معنبِراً ... وبشُكرِهِ غنّى الحمام مرجّعا انتقل من الشام الى الديار المصرية بطلب السلطان، ونسي بإقباله عليه ما ألفه شبابه في نعيم الأوطان، وباشر الوظائف الكبار فسدّها، وأصلح فسادها وأحكم عقدها بكفاية وأمانة، وعناية وإعانة، خلا أن الزمان خانه أخيراً، وأراه بعد عزّه يوماً كان من الذلّ عبوساً قمطريراً. فأقام في بيته عاطلاً، ولم يزل الدهر ببلوغ أمانيه مماطلاً الى أن أمسى منزل الضياء وقد أظلم، وراح الى من هو بسريرته علم. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة تسع وثمانين وست مئة. كان أولاً بدمشق في ديوان تنكز، وفيه سيادة وعنده رياسة، داره مألوف الضيفان، ومأوى الأصحاب والإخوان، متى جاء الإنسان الى منزله وجد كل ما يختاره إن كان هو حاضراً أو لم يكن، يجد جميع ما يحتاج إليه الى أن يروح ولو أقام جمعة وأكثر. ولما تولى قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضاء الديار المصرية في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، طلبه من السلطان، فأحضره على البريد، فولاه نظر الصدقات الحكمية والأيتام، وكان يحضر دار العدل مع القضاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 وساد في القاهرة ورأس، وأحبه المصريون لمكارمه ومروّته وحلمه، وولاه السلطان الملك الناصر محمد مطابخ السكر وولاه نظر الأهراء مع ما بيده، وتولى نظر البيمارستان المنصوري، فسلك فيه أحسن السلوك، ورافق فيه الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وبعده الأمير علم الدين الجاولي، وبعده الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، ووقع بينهما، وعُزل منه في الأيام الصالحية إسماعيل، ثم تولاه، ورافق فيه الحاج أرقطاي نائب مصر. وكان قد تولى أيام الملك الناصر محمد حسبة القاهرة ومصر. وكان قبل ذلك محتسب القاهرة مع البيمارستان، ولما كان الغلاء في سنة ستّ وثلاثين وسبع مئة جمع له السلطان بين الحسبتين. ولما خرج القاضي جلال الدين من القاهرة الى قضاء الشام تعصّب شرف الدين النشو عليه، وساعده عليه غيره، وأخذوا منه الحسبتين والصدقات وأبقوا عليه البيمارستان. فلما كانت أيام الصالح إسماعيل ولاه نظر الدولة مع البيمارستان، فباشر ذلك مديدة، ولم يتناول معلوماً، وطلب الإعفاء، فأعفاه، ثم ولاه الجوالي مع حسبة القاهرة والبيمارستان، ثم إنه وقع بينه وبين الأمير بدر الدين جنكلي، فعزل من الجميع في أواخر دولة الصالح ولزم بيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 فلما كان في أيام الكامل تولى نظر البيمارستان والحسبة بالقاهرة، ثم إن علاء الدين بن الأطروش نازعه في وظائفه هذه مرات، وتولاها، ثم تعاد عليه، ثم إن الأمير سيف الدين صرغتمش اعتمد عليه في الأوقاف بمصر والشام، وكان يدخل به كل قليل الى السلطان الملك الناصر حسن، ويخرج من عنده بتشريف، وزادت عظمته ووجاهته، وبالغ في إكرامه وتقديمه على الناس كلهم. ولما أمسك صرغتمش قُبض عليه، وضُرب وعُصر، وأخذ منه شيء قليل، وأخرجوه الى قوص، فتوجه إليها، وأقام بها سنة وأكثر، ثم رُسم بعوده الى القاهرة، فأقام بها في بيته بطالاً الى أن توفي. وكان شكلاً تاماً غليظاً، عليه مهابة وله عبسة، وهو مع أصحابه الذين نعرفهم من ألطف ما يكون، وما رأيت أكثر رياسة منه، ومع ذلك طاهر اللسان، لا يذكر أحداً إلا بخير، ويعامل صديقه وعدوه بمعاملة واحدة. يملك نفسه ولا تظهر عليه كراهة لأحد، وصدره على طعامه متسع، وكل لأهل الشام نِعْمَ الذخيرة، انتفعوا به كثيراً. وقلت لما بلغتني وفاته بالقاهرة في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، رحمه الله تعالى: ما لنا في سوء عيشٍ ... عمّنا فيه الشقاءُ وعلى الدنيا ظلامٌ ... أترى مات الضياءُ وكان الشيخ شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي قد خرّج له أربعين حديثاً عن أشياخه الذين سمع منهم في صغره، وحدّث بها في داره برأس حارة زويلة بالقاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وكنت فيمن سمعها عليه، وكتبت أنا عليها تقريظاً نظماً ونثراً، من جملة ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 كريمٌ ساد بالأفضال حتى ... غدا في مجده بادي السّناء له ذكرٌ يطبّق كل أرض ... فيملأ جوّها طيبُ الثناء فما تخفى عُلاهُ على بصير ... وإن تخفى فذو حسدٍ مرائي وهَبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء ولما كنت بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له عن السلطان الملك الصالح إسماعيل - رحمه الله تعالى - توقيعاً بنظر الجوالي بالقاهرة ومصر والوجهين قبلياً وبحرياً، ونسخته: الحمد لله الذي جمّل أيامنا الشريفة بضيائها، وكمّل دولتنا القاهرة بمحاسن أوليائها، وجعل نعمنا الغامرة تكاثر الغمام بآلائها، وضوّا ممالكنا العامرة بمن يجمّل النظر فيما يتولاه من نواحيها وأرجائها. نحمده على نعمه التي لا تزال تجول وتجود، وتروم اختصاصنا بالمزيد من كرمها وترود، وتؤم حرمنا بأفضالها فتصول بنصول النصر على الأسود وتسود، وترد على حمانا الرحب فتجود بوافر أحسابها على أهل التهائم والنجود. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترغم من الكفار معاطسهم، وتجذّ بحدّها منابت بهتانهم ومغارسهم، وتحسم بحسامها أبطال باطلهم وفوارسهم، وتهدم بإقامة منار الإسلام معابد ضلالهم وكنائسهم. ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أعرض عن متاع الدنيا، ورغب فيما أعدّ الله له في الآخرة من المقام المحمود والدرجة العليا، وشُغل بذكر الله تعالى في اليقظة وقلبه في الرؤيا، وقام في نصرة الحق يسعى فشكر الله مقاماً وسعياً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه خير سبيل وفازوا لما اتّبعوه بالفخر المعظم والمجد الأثيل، ونصروا الدين الحنيف بطعن الأسمر المثقف، وضرب الأبيض الثقيل، وعزّ وجود مثلهم لما ضرب مثلهم في التوراة والإنجيل، صلاة لا يبلغ العدد أمدها، ولا يُنفذ الزمن مُددها، ما تبسّم ثغر صباح عن لعس ظلام، وتنسم روض أرض عن نفس شيخ أو ريح خزام، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين. وبعد فإن المناصب تعلو بمن يلي أمرها، وتشرف على غيرها بمن يعظّم الناس لأجله قدرها، وتفوق بمن يُطلع في ليالي التمام والكمال بدرها، وتكبُر بمن إذا تحدث فيها أجرى بالأموال والأمواه بحرها، وتفخر بمن إذا تولى نظرها جمع نفعها ومنع ضرها، ونظر الجوالي التي في الوظائف الدينية عدادها، والى القُرَب السنيّة معاجها ومعادها، والى الشرع الشريف ميلها واستنادها، وبسيفنا الذي تجرده مهابتنا انتصارها واعتضادها، لأنه استخراج مالٍ قد تقرر شرعاً، وأخصب في الحل مرعىً، ودرّ بالبركات ضرعاً، واتسع به الإسلام صدراً لما ضاق به الكفر ذرعاً، وقرّت به عيون الدين، وكيف لا تقر العين إذا أخذت من عدوها وهو لا يستطيع منعاً، لا يدخل الحول على ذمّي إلا جاء إليه من يطلب الجالية، وأحاط به الذلّ الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 يقول معه " ما أغنى عنّي مالَيَه "، وتجددت له حال حالكة وحالة الإسلام حالية، على أن أهل الذمة في الذلة ماهرون، وتمام المصيبة أنهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. وكان المجلس العالي القضائي الضيائي أبو المحاسن يوسف ممن جمّل الدول، وأسعفته الأيام بمراده حتى كأنها له من جملة الخول، وفخر زمانه بوجود مثله، وشهد حتى حسّاده بوفور فضله، وأجرى الله تعالي نهر دُرْبته فكان غير آسن، وبهر حُسن أوصافه حتى صدق من قال: إن يوسف أبو المحاسن، ورفع الله خبره فانتصب تمييزاً، ومضت له مدة في الشام والسعدُ يقول: هذا في مصر يكون عزيزاً، وخُطب الى الديار المصرية فوردها وحلّ بها فحلّ الأمور تصرفاً وعقدها، وولي المناصب العلية، وباشر الوظائف السنيّة، أحسن نظره في الأوقاف وأجرى أمورها على أجمل الأوصاف، ونظر في أموال الأيتام فنما حاصلهم وربا، وأجمل المعاملة لهم فما انتهى لهم سبب إلا أتبع سبباً، وتولى نظر البيمارستان المنصوري فغمره بحسن النظر وعمره، وأثّر فيه بنياناً لألأ الضياء شمسه وقمره، وزاد أوقافه ريعاً وملكاً، ونظم درّ تدبيره الجميل سلكاً، وباشر الحسبة الشريفة، فكانت بمعارفه أليق وأشبه، وأصبح قدرها بولايته أنبل وأنبه، وروّع أصحاب الغش بمهابته، وما لكل محتسب عند الناس حسبه، الى غير ذلك من نظر الأهراء التي ملأها حبّاً، وصبّ الله البركات فيها بنيته الطاهرة صبّاً، ونظر دار القنود التي حلّت بحديثه فيها، وتميز ارتفاعها جُملاً تعجِز واصفيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 هذا الى صدر رحيب، وخلق ما له مُشاكل ولا ضريب، وثناء هو في الذكر أبو الطيب، ووجه الى القلوب حبيب، فكأنه كعبة قصّاد، ومنزل روّاد، ومنهل ورّاد، وحِلبة جود سبق فيها حاتماً هذا الجواد. قد تورّع عن المناصب الدنيوية، وعرضت عليه أيامنا الشريفة وأيام والدنا الشهيد فلم يكن له فيها رغبة ولا نيّة، وندبناه لنظر دولتنا الشريفة، ورقيناه ذُرا شرفاتها المنيفة، فجعل نجوم أموالها أهلّة، وأمطر سحائبها المستهلّة، وأعرض عنها فما باشرها إلا تحلّة، ولوى جيده عنها واستعفى، ورنّق الإهمال في ناظره حتى أغفى، فأجبنا قصده وأعفيناه، وعلمنا تورّعه فآثرنا راحته إلا بما استثنيناه، وخبأنا له عندنا ما يناسب مراده ويوافق اجتهاده، ويعاضد اعتماده، عِلماً بإعراضه عن العرض الأدنى، وزهداً فيما وزرُه يبقى وحطامه يفنى. فلذلك رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطان الملكي الصالحي العمادي أن يفوّض إليه نظر الجوالي بمصر والقاهرة المحروستين والوجه القبلي والوجه البحري مضافاً الى ما بيده. فليباشر ما فُوّض إليه مباشرة عهدت من حسن اعتماده وشُهدت من وافر اجتهاده، وهو بحمد الله غنيٌ عن الوصايا التي تشير إليها أنامل الأقلام، وتخفق بها من قعقعة الطروس أعلام، فما نعلّم عوانه فيها خمرة، ولا نُطلع في أفق هذا التوقيع نجماً، ولو شاء أطلع شمس الصواب وبدره، ولكن تقوى الله تعالى ملاك الأمور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 المهمّة، والوصايا التي إذا راعاها الإنسان لم يكن أمره عليه غُمّة، فليجعلها لعينه نصباً ولقربه من الله قُربى. والله تعالى يُديم صونه، ويجدد في كل حال عونه. والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. يوسف بن أبي البيان رشيد الدين مقابل الاستيفاء بصفد. كان شيخاً قديم الهجرة، وكان يهودياً أولاً، وخدم عند أرجواش، ثم عند التلاوي، وأسلم اختياراً من غير إكراه، لأنه كان يجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ صدر الدين بن الوكيل. وكان شيخاً وادعاً لا شرّ فيه، يحتمل الأذى ولا يكافي عليه، قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين بن تيمية: يا رشيد، قال ابن حزم: أول كذبة كذبها بنو إسرائيل أنهم زعموا أنهم دخلوا الى مصر في زمن يوسف الصديق، وهم اثنان وسبعون نفساً، وخرجوا منها مع موسى لما فروا من فرعون ست مئة ألف، قال: وكنت إذ ذاك يهودياً، فقلت له: يا سيدي هذا ابن حزم كان نبياً؟ فقال: لا. قلت: ولا كان من الصحابة؟ قال: لا. قال: ولا من آل بيت النبي؟ قال: لا. قلت: هذا ابن حزم ما كان يعرف اثنين واثنين أربعة؟ فقال: لأي شيء؟ قلت: ما يعلم مولانا أن قطعة الشطرنج أربعة وستون بيتاً، وإذا وضعت في الأول عدداً واحداً وفي الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 اثنين وفي الثالث أربعة وفي الرابع ثمانية وهلمّ جراً، هكذا تضاعف العدد في كل بيت فبلغ العدد أخيراً ثمانية عشر ألفاً ست مرات، وأربع مئة وستة وأربعين ألفاً، خمس مرات، وسبع مئة وأربعة وأربعين ألفاً أربع مرات، وثلاثة وسبعين ألفاً ثلاث مرات، وسبع مئة وتسعة آلاف مرتين، وخمس مئة واحداً وخمسين ألفاً وست مئة وخمسة عشر عدداً، ومع ذلك فبنو إسرائيل إنما عدّوا الرجال، وأما النساء والصبيان والأشياخ الذين هرموا فلم يذكرونهم. فقلت له: إنا يا مولى رشيد الدين: قوم يخرجون في عدة ألف ألف نفس على القليل هاربين على وجوههم من فرعون، على ماذا حملوا زادهم؟ وأي ماءٍ إذا نزلوا عليه كفاهم، هذا بعيد من العادة. فلم يحر جواباً. فقلت له: أنا أتبرع لك بالجواب، وهو أنهم كان معهم موسى صلوات الله عليه، وبيده العصا التي يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وعناية الله تعالى بهم تحملهم وتعينهم على ما يحتاجون إليه من كل شيء، وعلى الجملة فالذي استبعده ابن حزم لا ينكر، لأن هذا عدد كثير على ما يزعمونه. وكان هذا رشيد الدين يحفظ كثيراً من ديوان العفيف التلمساني، وأظنه رآه واجتمع به، وكان بيني وبينه صحبة ومودة. ولما توفي - رحمه الله تعالى - بصفد في ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وكان قد عدّى الثمانين. حكى لي قال: رأيت في النوم كأنني قد أكلت اثنين وثمانين مثقالاً من الدرياق، والأطباء يقولون: إن كل مثقال لسنة، فلعلي أعيش هذا العدد، فعدّى الثمانين، وربما تجاوز عدد المثاقيل، وكان شيخاً طوالاً، ولم يتزوج عمره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 ولما توفي رحمه الله تعالى أخبرني بوفاته القاضي جمال الدين عبد الله الكاتب، وهو ابن أخت المتوفى، وهو إذ ذاك شابٌ يانع غض الشبيبة، فاشتغل خاطري عامة ذلك النهار بالقاضي رشيد الدين رحمه الله تعالى، فلما نمتُ رأيتني في المنام وأنا كأني أنشد الحكيم الفخر الطبيب ابن أخت رشيد الدين أيضاً وهو إذ ذاك شابٌ أيضاً: الناس إما قادمٌ في مهده ... أو راحلٌ في نعشه يُتحاشى هذا لزهرةِ هذه الدنيا أتى ... غضّاً وهذا قد ذوى وتلاشى فانتبهتُ وأنا أذكرهما، وأعجبني هذا المعنى، ونظمت فيه في اليقظة، فلم ألحق هذه الطبقة، لكن فيه مقابلة أربعة بأربعة. وهو: أرى أن البريّة وفد زهرٍ ... وفعلهم تطابق بالتساوي فهذا قد أتى في المهد غضّاً ... وهذا راح فوق النعش ذاوي يوسف بن حمّاد الشريف جمال الدين الحسيني المشهدي الإمامي، شيخ الشيعة ومفتيهم. حجّ مرات، وجاور بمكة، وله نظم. مات في المعترك سنة سبع وعشرين وسبع مئة. يوسف بن دانيال ابن منكلي بن صرفا، القاضي الإمام الفاضل بدر الدين ابن القاضي ضياء الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 تقدم ذكر والده في حرف الدال، التركماني الكركي قاضي الشوبك. كان فقيهاً فاضلاً، قرأ على الشيخ تاج الدين، وعلى ولده. وأقام بالكرك مدة يُفتي ويدرّس، ثم ولي القضاء بالشوبك. وكان حسن الشكل مليح الهيئة، فيه كرم ومروّة، وسمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، ومن والده وغيرهم. وحدّث بدمشق والكرك والشوبك. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. يوسف بن داود بن عيسى ابن محمد بن أيوب، الملك الأوحد نجم الدين أبو المحاسن ابن الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر ابن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل أبي بكر. كان من أعيان أولاد الملوك وأكابرهم المشهورين بالفضل والديانة والجلالة والمكانة والتقدم في المجالس عند الملوك، وكان يُحسن الى الضعفاء والمرضى، يفرّق عليهم الأكحال والأدهان وغير ذلك بالقدس. وتوفي سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقدس، ودفن برباطه بالقدس عند باب حطّه. ومولده في سنة ثمان وعشرين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 يوسف بن رزق الله القاضي جمال الدين الموقع، هو ابن أخت القاضي شرف الدين بن فضل الله وأخيه القاضي محيي الدين. أظنه باشر الجيش مدة، ثم إنه انتقل الى كتابة الإنشاء، ورُسم له في وقت بكتابة الدرج في حماة عوضاً عن نجم الدين بن قرناص، ولكن لم يمكّن من المباشرة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز جهّزه الى غزة موقعاً، فأقام بها مدة، ثم إنه نقل الى توقيع صفد، وأقام بها مدة، ثم إن تنكز نقم عليه وعزله، وأقام بطّالاً، عزله بعلاء الدين بن نصر الله، ولما أُمسك تنكز طلع القاضي جمال الدين الى مصر، وعاد الى الوظيفة بصفد. ولم يزل بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكان قد ثقل سمعه، وأما باقي حواسه فإنه تمتع بها، ولعله قارب التسعين، وهمّته كما كان ابن ثلاثين سنة. وكان فيه كرم ومروّة وعشرة، ودُفن بصفد ومات له بدمشق ولدان كانا شابين مليحين، صبر على مصيبتهما، واحتسب. وأنشدني من لفظه لنفسه في سنة أربعين وسبع مئة بدمشق: بدا لنا ينفخ عُثنونه ... وكبّر العِمّة واللّحيه وعنفص الأنف لأفسو به ... فجئتُ أفسو طلعت خريه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 يوسف بن سليمان ابن أبي الحسن بن إبراهيم، الفقيه الأديب الشاعر الخطيب الصوفي الشافعي النابلسي. نشأ بدمشق وقرأ بها الأدب على الشيخ تاج الدين اليماني، وقرأ النحو على الشيخ نجم الدين القحفازي وغيره، وحفظ التنبيه فيما أظن. كان شاعراً قادراً على الارتجال، ماهراً في الإقامة على المعاني الجيدة والارتحال، ينظم القطعة على ما يُطلب منه بديهاً، ويجيد الإتيان بها والتصرّف فيها. وكان لذيذ المفاكهة، جميل التخلف والمواجهة، صحب الناس وعاشرهم وجاملهم بالودّ وكاشرهم، وحاسنهم وما خاشنهم، وشاجنهم وما شاحنهم، وصافاهم وما نافاهم، فاشتمل الرؤساء على ودّه، والتقطوا من منادمته جنيّ ورده، وكان كما قال الحريري: وعاشرت كل جليس بما ... يُلائمه لأروق الجليسا فبين الرواة أدير الكلا ... م وبين السُقاة أدير الكؤوسا وكان مليح النادرة، سريع الجواب في البادرة، وتنسّك في آخر عمره وحسُن حاله في نهاية أمره، وخطب فأشجى القلوب، وندّم على ما ندّ من الذنوب. ولم يزل على حاله أن خلا من مقامه المنبر، وما ذكره صاحبه إلا استعبر. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة في طاعون دمشق، انقطع يومين لا غير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 وحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ثم إنه حج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، عقيب موت ولده سليمان، فإنه حصل له ألم كبير بوفاته، وما رأى لنفسه دواء غير الحج. وكان شاعراً يجيد المقاطيع لفظاً ومعنى، وله في ذلك بديهة مطاوعة، وفكرة متسرعة، وكان القاضي شهاب الدين بن فضل الله قد جدّد رسوم البدرية التي في أرض مَقْرى، وعمّرها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وقرر فيها خطبة يوم الجمعة، وجعل هذا جمال الدين خطيباً بها، فهو أول من خطب بها، وكان أول يوم خطب به يوماً مشهوداً، اجتمع له القضاة والعلماء ووجوه الناس والأعيان، وعمل القاضي شهاب الدين ذلك النهار طعاماً كثيراً، وخلع فيه الخلع السنيّة، وخطب جمال الدين المذكور خطبة جيدة فصيحة الألفاظ بليغة المعاني، واستمر الى أن مات - رحمه الله - وهو يخطب من إنشائه. وكتبت له توقيعاً بالخطابة، ونسخته: رُسم بالأمر العالي لا زال يكسو المنابر جمالاً، ويُكسب أقمار الوجوه من الخطباء كمالاً، أن يرتّب المجلس السامي جمال الدين في كذا ثقة ببلاغته التي يرف على مياهها ريحانُ القلوب، وفصاحته التي يكاد لفظها لمن يذوق يذوب، وبراعته التي إذا قال: أيها الناس فقد غزا الأسماع بجيش غير مغلوب، وعظاته التي إذا فاه بها بكى الناس ليوسف بأجفان يعقوب، وعبارته التي نسج منها ابن المنيّر على خير أسلوب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 626 ومقاصده التي قطف ابن نباتة زهره من روضها المحبوب، لأنه في هذا العصر بحمد الله تعالى أفضل مَن عفّ ومن برّ، وأفصحُ خطيب لو كُلف مشتاق فوق ما في وسعه لسعى إليه المنبر. فليباشر ذلك مباشرة يعقد على فخرها الإجماع، وتُشنّف بدرّها الأسماع، ويثق من إحسان هذه الدولة ببلوغ مناه، وإزالة عناه، وإزاحة ما يحجب غناه. فطالما خلت وظيفة كان يظنها له ملاذاً، وشغر منصب استسقى منه رذاذاً، ولاح رزق قلب وجهه في سمائه، وهذه الولاية تقول: " يوسفُ أعرضْ عن هذا "، الى أن لمع به شهاب تألق، وأغدق وابل جوده الذي فاض وترقرق، فرقاه خطيباً، وهزّ بلطفه المنبر غصناً رطيباً، وضوّع أرجاءه بأرجه حتى قيل إنه ضمّخ طيباً فليُجر بعظاتها الراجزة سحب المدامع، ويوقظ البصائر بإرشاده من كل ذي طرف هاجع، ويُميل عِطف من يسمعه فإنه على غصن منبره بليل حُلّته بلبلٌ ساجع. وليستدرج القلوب الطائرة الى لقط حب التوبة، ويستخرج خبايا الندم على ما فات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 فكم للنفوس من أوبة بعد عظيم الحوبة، ويغسل درن الذنوب بذكر الممات فكم لصخر القساوة به من لين وذوبة. وإذا وعظ فلا يعظ إلا نفسه التي يمحضها النصيحة، وإذا ذكّر فليذكر في ذلك الجمع انفراده إذا سكن ضريحه، فإن ذلك أوقعُ في نفس السامع، وأجلبُ لسحّ الجفن الهامي بالدمع الهامع، وليأخذ لذلك طيبه العاطر وزينته، ويرقى درج منبره بوقاره الذي لا تُزعزع الرياح سكينته، وليبلّغ السامعين بإفهام واقتصاد، ويذكّرهم بتقوى الله تعالى والموت والمَعاد. وليأت بأدب الخطيب على ما يعلمه. ويحذر من تقعير اللفظ الذي يكاد أن يُعربه فيُعجمه، وتقوى الله تعالى جُنّة واقية، وجنة راقية، وسنّة باقية، فليلبس حلّة شعارها ويُعلي منازه منارها، والله يليّن لمقاله جامد القلوب، ويمنح بعظاته ما سود الصحف من الذنوب. والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، والله الموفق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى. وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله لما تولى كتابة السر بعد شمس الدين بن الشهاب محمود قد رتّب جمال الدين المذكور في ديوان الإنشاء كاتب الغيبة على الموقعين، وكان يحضر الديوان بكرةً وعصراً، ويكتب اسم من تغيّب، ويؤخد من كل من غاب من جامكيته ما يخص كل يوم، ولازم الديوان مدة فتاقت نفسه ليكون من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 جماعة الجماعة في الموقعين، وأخذ يرشّح نفسه لذلك وينجمع عن الناس، وخلع ذلك الثوب الذي كان لبسه، فسلّطوا عليه الفخر عثمان النصيبي الذي كان يدخل الى تنكز، ويُمسخر بالناس عنده، فدخل يوماً الى تنكز وقال: يا خوند هناك صبي وما أقدر أعمل شغلاً إلا به، فقال: اطلبوه، فطلب في الحال، فأحضر، وأخذ عثمان يمسخر وينزل في قذاله، فتألم جمال الدين المذكور لذلك ألماً عظيماً وكاد يسافر من دمشق، وتيقظ له جماعة الشعراء في ذلك العصر، ونظموا فيه مقاطيع كثيرة، وجمعها زين الدين عمر بن الحسام الشاعر، وعملها صورة مقامة، وكتب بها نسخ كثيرة، ومما نظم في هذه الواقعة: يوسف الشاعر من نقصه ... يروم جهلاً رتبة الفاضل تطلّب التوقيع في جلّق ... فجاءه التوقيع في الساحل وأنشدني من لفظه في فرس أدهم: وأدهم اللون فات البرقَ وانتظرَهْ ... فغارت الريحُ حتى غلّبتْ أثرَهْ فواضعٌ رجلَه حيث انتهت يده ... وواضع يده أنّى رمى بصره شهمٌ تراه يُحاكي السهم منطلقاً ... وما له غرض مستوقف خبره يعقّر الوحش في البيداء فارسه ... وينثني وادعاً لم يستثر غبره إذا توقّل قطب الدين صهوته ... أبصرتَ ليلاً بهيماً حاملاً قمره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 وأنشدني أيضاً لنفسه: قد مضتْ ليلةُ الوصال بحالٍ ... قصّرت عن محصّل الأزمان أخبرتنا أن الزمان جميعاً ... قد تقضّى في ليلة الهجران وأنشدني من لفظه لنفسه: يعيبون من أهوى بكسرة جفنه ... وعندي لهذا العيب قد تمّ حُسنُهُ فقلتُ وما قصدي سوى سيف جفنه ... إذا دام فتك السيف يكسَر جفنهُ وأنشدني أيضاً ما قاله في بستان الصاحب شمس الدين: ودولاب يحنّ بجسّ عودٍ ... على وترٍ يساسُ بغير جسِّ فلما أن بدت منه نجوم ... حكى فلكاً يدورُ بسعدِ شمسِ وأنشدني من لفظه له في مليح ينظر في مرآة: سَقياً لمرآة الحبيب فإنها ... أمسَت لطلعته البهيّة مَطلعا واستقبلت قمرَ السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا وأنشدني من لفظه وكان الغزّي يدّعيهما: كأن السحاب الغرَّ لما تجمّعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب ومرّ الريح حالب ضرعها وأنشدني أيضاً، والغزّي يدّعيهما: ونوّار خشخاش بكرنا نزوره ... وقد دُهش الرائي لحسن صفوفه تغنّى به الشحرورُ من فرط وجده ... فنقّط بالياقوت ملء دفوفه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 630 وكنت قد سمعت له وأنا بصفد في حدود العشرين وسبع مئة: كأن ضوء البدر لما بدا ... ونوره بين غصون الغصونْ وجهَ الحبيب زار عشّاقه ... فاعترضَتْ من دونه الكاشحونْ ونظم زين الدين عمر بن داود الصفدي أيضاً في ذلك قطعة، وقد تقدمت في ترجمته فأعجبني نظم جمال الدين، وقلت أنا فيه: كأنما الأغصانُ لما انثنت ... أمام بدر التّمّ في غيهبهْ بِنتُ مليك خلف شِباكها ... تفرّجت منه على موكبه وقلت أيضاً: وكأنما الأغصان تثنيها الصّبا ... والبدرُ من خللٍ يلوحُ ويُحجبُ حسناء قد عامت وأرخَت شعرَها ... في لجّة والموج فيه يلعب وقلت أيضاً: وكأنما الأغصان في دوحها ... يلوحُ لي منها سنا البدر ترسٌ من التّبر غدا لامعاً ... يقيسه أسودَ بالشّبر وكتبت أنا إليه ملغزاً في مكوك الحايك: أيا مَن فاق في الآداب حتى ... أقرّ بفضله الجمُّ الغفيرُ وأجرزَ في النّهى قصبات سبقٍ ... فدون محله الفلكُ الأثير وأطلع في سماء النّظم زهراً ... يلوح فمَن زهيرٌ أو جرير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 631 قطعت أولي النُهى في البحث سبقاً ... فما لك في مناظرة نظيرُ إذا أغربت في الإعراب وجهاً ... فكم ثلجت بما تبدي الصدور وإن قيل المعمّى والمورّى ... فذهنك نافد فيه بصيرُ وها أنا قد دعوتك للتّحاجي ... لأنك في الحجى طبٌ خبيرُ فما ساعٍ يُرى في غير أرض ... ولا هو في السّما مما يطيرُ تراه مردّداً ما بين طردٍ ... وعكسٍ قصّرت عنه الطيور ويلطَم كلما وافى مداهُ ... ويُسحب وهو مغلول أسيرُ وتُنزع كل آونةٍ حشاهُ ... ويُلقى وهو للبلوى صبور ويُرشف بعد ذلك منه ثغر ... ولا عذبٌ هناك ولا نميرُ إذا ما سار أثّر في خطاه ... طرائق دونَها الروض النّظيرُ يجرّ إذا سعى ذنباً طويلاً ... ويفتر حين يعلوه قصور ويُسمع منه عند الجري صوتٌ ... له في صدره منه خَرير قليل المكثِ كم قد بات تُطوى ... له من شقّة لما يطيرُ ويفترش الحرير ويرتديه ... غطاء وهو مع هذا فقير وتظهر في جوانبه نجوم ... وفي أحشائه فلكٌ يدور فأوضح ما ذكرت فغيرُ خافٍ ... على مجموع فضلك ما أشير ودُم في نعمة وسعود جدٍ ... وعزٍ ما سقى روضاً غديرُ فكتب الجواب في أسرع وقت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 632 أوجهُك لاحَ أم قمرٌ مُنيرُ ... وذكرُك فاح أم نشرٌ عبيرُ طلعت طلوع شمس الصحو صُبحاً ... على فرس حكي فلكاً يسيرُ ويا لله روضاً ضمن طرسٍ ... زهير في جوانبه جرير رميت به إليّ فقلت هذا ... شعاع الشمس مأخذه عسير أراني رمزه الوضاح حسناً ... ينبهني على أني حقير وإني ملحَق بأقل صنفٍ ... إذا ما حقّق الجمُّ الغفيرُ فمذ صحّفته فكري مَلولٌ ... ومذ نشرته باعي قصير هو المأسور بالماسور لكن ... له في أسره مرح كثير نشيط أيّدٌ ويقاد طوعاً ... بخيط متنه واهٍ طريرُ يُراع لأن مهجته يَراعٌ ... له في الجوف من خوف صغير يحور الى يمين من شمال ... وما يغنى بذا لكن يخور غدا يسعى بأربعة سراعٍ ... وليس لمشيه بهم نظير يخالف بين رجليه فيجري ... وترفعه يداه فيستطير له نول يسير لكل حي ... وميت فيه إحسانٌ كثير إذا أسدى إليه الخير مُسدٍ ... جزاهُ عليه وهو بذا قدير كذاك صفاتك الحُسنى ولكن ... بدأت تطوّلاً وبنا قصور ففخراً ثم ستراً ثم قَصراً ... فأين الثّمدُ والبحر الغزيرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 633 وكتب هو يوماً متقاضياً: إلى بابك العالي توجهتُ موقناً ... بسرعة نيل القصد قبل التوجهِ وعادتُنا منك النجاح لقاصدٍ ... نحاك وأنت الجاهُ للمتجوّه ومن مسّ دهر من تأوّه من له ... سواك وأنت الجبرُ للمتأوّه فلاقاه بالحمد امرؤٌ وهو مطنب ... لخلق ولست القصدُ للمتفوّه واقترح علينا يوماً القاضي شهاب الدين بن فضل الله معارضة أحمد بن حسن الموصلي في موشحه الذي أوله: باسمٌ عن لآلٍناسمٌ عن عطرنافرٌ كالغزالسافرٌ كالبدرِ فكان الذي نظمه ولم يلتزم قوافيه في الأغصان ولا الحشوات، فقال: زائرٌ بالخيالزائلٌ عن قربيباهرٌ بالجمالناهر بالعُجبِ أي غصن نضير ... نزهة للنظرْ لحظُ عيني خفير ... منه ورد الخفَرْ يا له من غرير ... في هواه غرَرْ ساحرٌ بالدّلالِساخرٌ بالصبِّفائقٌ في الكماللائقٌ بالحبِ بشذا المسكِ فاحْ ... ثغرُ هذا الغزالْ باسمٌ عن أقاحْ ... أو فريد اللآلْ ردّ نور الصّباح ... كظلام الليالْ ريقهُ حين جالفي لماهُ العذبصرتُ بين الزّلالوالهوى في كرب ذو قوام رطيبْ ... منه تُجنى الحُرَقْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 634 رام ظلم القضيب ... فاشتكي بالورق فتثنّى الحبيب ... ورنا بالحدق مثل بيض النّصالمن سواد الهدبوالعوالي أمالبالقوام الرّطب لو رآه القسوس ... حسّبته المسيح وهو يحيي النفوس ... بالكلام الفصيحْ ما تبينُ الشموس ... عند هذا المليح خلِّ عنك الغزاليرتعي في الكثبثم قل للهلاليحتجب في الغرب ثغره في بريق ... إذ جلاه بريق كل حُر رقيق ... للماه الرّقيق خده والشقيق ... ذا الهذا شقيق قد بدا فيه خالكسواد القلبإذ غدا في اشتعالفوق نار الحب ما لصبّ صبا ... في هواهُ نصيب منه قبل الصِّبا ... قد علاني الشّيب يا نسيم الصَّبا ... جُزْ بأرض الحبيب واجتهد أن تنالمنه طيب القُربثم عد بالنوالمن هدايا حبي جائرٌ قد ظهر ... عدله في القوام في الوجود اشتهر ... مثل بدر التّمام فيه يحلو السهر ... ويمر المنام صدّ تيهاً وقالوهو يبغي حربيلحظ عيني نبالقلت آه وا قلبي وكان الذي قلته أنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 635 جامح في الدّلالجانح للهجرخاطر في الجمالعاطر في النشرِ غصنٌ بانَ رطيب ... قد زها بالطّرب ينثني في كثيب ... بالصّبا عن كثب ما لقلبي نصيب ... منه غير النّصَبْ قمر في كمالفوق غصن نضرطالعاً لا يزالفي دياجي الشعر كم جَلا بالسّنا ... فرقُه لي الصّباح وحلا في الجَني ... مبسمٌ عن أقاح إن رَنا وانثنى ... أو تبدّى ولاح يا حياءَ الغزالوافتضاح السمرواختفاء الهلالوكسوف البدر خاله كالرقيب ... للعِذار الرّقيم وسط نار تُذيب ... حول روض وسيم يتشكّى اللهيب ... في النعيم المقيم ذاق برد الظلالفي لهيب الجمرواهتدى في الضّلالببروق الثّغر غضنٌ بانَ يميس ... في رياض الزهرْ ريقه الخندريس ... في زلالٍ ظهرْ فيه درٌ نفيس ... في عقيقٍ بهر جفنه حين صالفي حنايا صدريلو كفاني النّباللاكتفى بالسَّحر شقّ قلب الشّقيق ... منه خدٌ أنيق والقوام الرّشيق ... فيه معنىً دقيق كم سقاني الرحيق ... من فم كالعقيق بعد ذاك الزلالما حلا لي صبريوالقوام المُمالقام فيه عُذري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 636 يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي بن زمّاخ - بالزاي والميم المشددة وبعد الألف خاء مشددة - ابن بركة بن ثمامة بن أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان التغلبي المصري المعروف بابن مهمندار العرب، بدر الدين. كان شيخاً متجنّداً فاضلاً، شاعراً مؤرخاً، صنّف تصانيف منها كتاب في الأنساب، ومنها كتاب في البديع سمّاه الآيات البيّنات. أنشدني الشيخ العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه: وليلة مثل عين الظّبي وهي معي ... قطعتها آمناً من يقظة الرُقَبا أردفتُها فوق دهم الليل مختفياً ... والصبحُ يركض خلفي خيله الشهبا حتى دهاني وعين الشمس فاترة ... وقد جذبت بذيل الليل ما انجذبا ما هي بأول عادات الصباح معي ... ليلُ الشباب بصبح الشيب قد هربا وبه قال: أنشدني له: أعلى الورى همماً أوفاهُم ذمماً ... أسناهم كرماً في كل مبتذل ماضي العزيمة وهّاب الكريمة دفّ ... اع العظيمة، وثّابٌ بلا فشل مُعطي الألوف ومِطعام الضيوف ومط ... عانُ الصفوف ومُردي الحادث الجلل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 637 بادي الوسامة، دفّاع الظلامة حمّ ... الُ الغرامة ذو عِلم وذو عملِ صافي السرائر، صوّام الهواجر قوّ ... امُ الدياجر والإصباح والأصل تأتي الوفود إليه لا إلى أحد ... ومَن رأى البحر لا يأتي الى الوشلِ الدهر جسمٌ وأعضاء جسمه دولٌ ... وأنت وحدك فيه جوهر الدول وأنشدني الشيخ فتح الدين سيد الناس، والشيخ أثير الدين كلاهما، قال: أنشدنا لنفسه: فلا تعجب لحُسن المدحِ مني ... صفاتك أذكرت حكمَ البوادي وقد تُبدي لك المرآة شخصاً ... ويُسمعك الصّدى ما قد تُنادي وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني له: ما شيمةُ العرب العَرْباء شيمتُكم ... ولا بهذا عُرِفنَ الخرّدُ الغيدُ كانت سُليمى ولبنى والرّباب إذا ... أزمعنَ هجراً أتتهنّ المواعيد ودار بينهما فحوى مُعاتبةٍ ... أرقُّ مما أراقته العناقيد وآفة الصبِّ مثلي أن يبثّ جوىً ... لمن يحبُّ ولا يُلوى له جيد ومن شعره: إن كنتَ تفخر أن تفوهَ بوصفه ... حُسناً ومثلك من يفوقُ قريضُهُ سَل عن سواد الشّعر نرجسَ طرفه ... يخبرْكَ بالليل الطويل مريضه ومنه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 638 ما إن عجبتُ لكون نيلك فاتني ... لسواد لحظي وهو بحرٌ مزبدُ لكنني متعجّب كيف اختفى ... بين الأيادي البيض حظ أسود ومنه: كنا إذا جئنا لمن قبلكم ... أنصف في التّرحيب قبل القيامْ واليوم صِرنا حين نأتيكم ... نقنع منكم بلطيفِ الكلام لا غيّر الله بكم خيفةً ... من أن يجيء من لا يردّ السلام وأنشدني الشيخ قطب الدين عبد الكريم إجازة، قال: أنشدني لنفسه: مسائل دورٍ شيبُ رأسي وهجرُها ... فكل على كل له سببٌ يُنبي فأحلِفُ لولا الهجرُ ما شاب مفرقي ... وتُقسم لولا الشيب ما كرهتْ قربي قلت: كنت قد سمعت أنا الشيخ العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية ينشد هذين البيتين، ويترنّم بهما، فأعجباني، ونظمت المعنى مختصراً وقلت: مسألة الدور بنا ... عجبت من وجودها صدّت لشيبٍ قد بدا ... والشيبُ من صدودها ولما خاض السلطان الملك الظاهر بيبرس الفرات ورمى بنفسه وبالجيوش فيه، قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر - رحمه الله تعالى: تجمّع جيش الشّرك من كل وجهة ... وظنوا بأنّا ما نُطيق لهم غلبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 639 وجاؤوا الى شاطي الفرات وما دروا ... بأن جياد الخيل تقطعها وثْبا وجاءت جنود الله في العُدد التي ... تُميس به الأبطال يوم الوغى عُجبا فعُمنا بسدٍّ من حديد سباحةً ... إليه فما اسطاع العدو له نقْبا ولما سمع ابن مهمندار العرب ذلك، قال: أنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه: لو عاينتْ عيناك يوم نزالنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر وسنا الأسنّة والضياء من الظبى ... كشفا لأعيننا قتام العثير وقد اطلخمّ الأمر واحتدم الوغى ... ووهى الجبان وساء ظن المجتري لرأيت سداً من حديد مائراً ... فوق الفرات وفوقه نارٌ تري ورأيت سيل الخيل قد سدّ الرُبا ... ومن الفوارس أبحُراً في أبحر ظفرتْ وقد منع الفوارس مدّها ... تجري ولولا خيلُنا لم تطفر حتى سبقنا أسهُماً طاشت لنا ... منهم إلينا بالخيول الضّمر لم يفتحوا للرمي منهم أعيُناً ... حتى كُحلنَ بكل لدنٍ أسمر فتسابقوا هرباً ولكن ردّهم ... دون الهزيمة رمح كلّ غضنفر ملؤوا الفضاء فعنْ قليل لم ندع ... فوق البسيطة منهم من مُخبر سدّت علينا طُرقنا قتلاهم ... حتى جنحنا للمكان الأوعر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 640 ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برؤوسهم لم تعثرِ من كل أشهب خاض في بحر الدِّما ... حتى بدا لعيوننا كالأشقر كم قد قلعنا صخرةً من صرخةٍ ... ولكم ملأنا محجراً من محجر وجرى دماؤهم على وجه الثّرى ... حتى جرت منها مجاري الأنهر والظاهر السلطان في آثارهم ... يُذري الرؤوس بكل عضبٍ أبتر ذهب العجاج مع النّجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يُشهر إن شئت تمدحه فقف بإزائه ... مثلي غداة الروع وانظم وانثر قلت: هذه الأبيات الأخيرة الأربع ليست من رواية الشيخ أثير الدين. وكتب ناصر الدين ابن النقيب الى بدر الدين بن مهمندار العرب: أيوسُفُ بدر الدين والحُسنُ كله ... ليوسف يُعزى أو الى البدر يُنسب أتيت أخيراً غير أنك أول ... تعدّ من الآحاد شعراً وتُحسب وأحسن ما في شعرك الحرّ أنه ... به ليس تستجدي ولا تتكسّب وتوفي بدر الدين - رحمه الله - في حدود السبع مئة. ومولده سنة اثنتين وست مئة. ومن شعره العذب، ونظمه الذي كأنه في الصّقال عضب، قوله: عسى الليالي وفي قولي عسى خدع ... تردّ لي من زماني بعض ما ذهبا بانوا بأبهى من الدنيا وزينتها ... عندي وأكرم مطلوب إذا طلبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 641 كالغصن منثنياً كالظبي ملتفتاً ... كالشمس مبتسماً كالبدر منتقبا كم بتّ أرشفُ صغراً حشوه درر ... وكلما زدتُ لثماً زادني لهبا منها في المديح: مَن حاتمٌ وعطايا جوده جملٌ ... وجودُ ذا جمل تترى ولا عجبا لكن هو الحظّ ذكر الغيث سار وما ... هَمى لجيناً على عافٍ ولا ذهبا وسار جدواه في الدنيا وساكنها ... فأدبر الفقرُ عنهم ممعناً هربا فاضمُم يديك على مالٍ حباك به ... تعوّد البذل، لو قيّدته وثبا وارفقْ بنفسك لا تعديكَ راحته ... فتغرق الناس من بعض الذي وهبا يوسف بن شاذي ابن داود بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، الأمير صلاح الدين ابن الملك الأوحد ابن الملك الزاهر ابن الملك المجاهد، تقدّم ذكر والده الأوحد في مكانه من حرف الشين. كان الأمير صلاح الدين من أحسن الناس صورة، وهو أمرد، وعمل الإمرة من أحسن ما يكون. وكان ذهنه في العمائر وغيرها ذهناً جيداً صحيحاً، ليس في دمشق أحسن من بستانه، ولا من العمارة التي رتّبها فيه. وكان الأمير سيف الدين تنكز قد مال إليه، وأحبّه، وكان يطلع الى بستانه، ويأكل ضيافته فيه، وكانت تكون شيئاً عظيماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 642 ولما أمسك السلطان تنكز وأمسك بعده الأمير سيف الدين بشتاك الأميرين سيف الدين ألجيبغا، وسيف الدين طيبغا حاجي وأودعهما الاعتقال بقلعة دمشق لاختصاصهما بتنكز داخل الأمير صلاح الدين الرُعب والفزع، فانقطع في بستانه بالمرض جمعة. ومات - رحمه الله تعالى - في صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. وكان قد لبس خلعة الإمرة في يوم الخميس عاشر شهر رجب الفرد سنة ثماني عشرة وسبع مئة لأنه كان قد توجّه الى مصر بتقدمة حسنة مليحة، فرُسم له بالإمرة. يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عطاء بن حسن بدر الدين أبو المحاسن العدل ابن قاضي القضاة شمس الدين الأذرعي الحنفي الصالحي. كان فقيهاً فاضلاً مهيباً. سمع من ابن الزبيدي، وجمال الدين بن الحصيري. وحدّث عنه ابن الخبّاز. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة. ومولده سنة تسع عشرة وست مئة. يوسف بن أبي عبد الله ابن يوسف بن سعد جلال الدين أبو المحاسن النابلسي الدمشقي الشافعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 643 كان قاضياً مفتياً، سمع من خالد الحافظ - وكان عمه - ومن مجد الدين الإسفراييني، والمرسي، وشيخ الشيوخ وطائفة. وأم بالشامية، وأعاد بها، وعرف بجودة النقل، وولي قضاء بعلبك، وكان حميد الأحكام. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشر وسبع مئة. ومولده قبل الأربعين وست مئة. يوسف بن عبد الرحمن ابن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدّثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي القضاعي الكلبي، الحلبي المولد، خاتمة الحفّاظ، ناقد الأسانيد والألفاظ. طلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وست مئة، وهلمّ جرا الى آخر وقت، لا يفتر عن الطلب والاجتهاد والرواية والتسميع. سمع من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحنبل، ثم ابن ملاعب الرّهاوي، وابن البنا، ثم ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن مكرّم، والقزويني، ثم ابن اللتي، وابن صبّاح، وابن الزبيدي. وأعلى ما سمع بإجازة عن ابن كليب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 644 وابن بوش، والجمّال، وخليل بن بدر، والبوصيري، وأمثالهم، ثم المؤيّد الطوسي، وزاهر الثقفي، وعبد المعزّ الهروي. وسمع الكتب الأمهات المسندة، والكتب الستة، والمعجم الكبير، وتاريخ الخطيب، والنّسب للزبير، والسيرة والموطأ من طرق، والزهد، والمستخرج على مُسلم، والحلية والسُنن للبيهقي، ودلائل النبوة، وأشياء يطول ذكرها. ومن الأجزاء ألوفاً. ومشيخته نحو الألف. وسمع أبا العباس بن سلامة، وابن أبي عمر، وابن علان، والشيخ محيي الدين النووي، والزواوي، والكمال عبد الرحيم، والعز الحراني، وابن الدّرجي، والقاسم الإربلي، وابن الصابوني، والرشيد العامري، ومحمد بن القواس، والفخر بن البخاري، وزينب، وابن شيبان، ومحمد بن محمد بن مناقب، وإسماعيل بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 645 العسقلاني، والمجد بن الخليلي، والعماد بن الشيرازي، والمحيي بن عصرون، وأبا بكر بن الأنماطي، والصّفي خليلاً، وغازياً الحلاوي، والقطب بن القسطلاني وطبقتهم، والدمياطي شرف الدين، والفاروثي، واليونيني، وابن بلبان، والشريشي، وابن دقيق العيد، والظاهري، والتقي الإسعردي، وطبقتهم. وتنازل الى طبقة سعد الدين الحارثي، وابن نفيس، وابن تيمية. ولم يتهيّأ له السماع من ابن عبد الدائم، ولا الكرماني، ولا ابن أبي اليسر، ونحوهم. ولا أجازوا له، مع إمكان أن تكون له إجازة المرسي، والمنذري، وخطيب مردا، واليلداني، وتلك الحلبة. وحفظ القرآن، وعُني باللغة، فبرع فيها، وأتقن النحو والتصريف. وكان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان وحافظ العصر، وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا كان له مشروباً ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا، أو الحاكم لقال: لأمرُهُ دائم النفوذ، وكان الى حرمه يعود وعليه يعول وبه يعود، أو ابن نقطة، لأغرقته بحاره الزّخّارة، ورأى خطه المستقيم خارجاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 646 عن دائرته، وبدره لا يدخل معه في هذه الدّارة، أو ابن عساكر لعلم أنه ليس من أبطاله، ولا عدّه الطّلبة من أتباعه ولا رجاله. أتقن أسماء الرجال، وحرّر صيغها، وتجاوز الغاية، ومن أول ما خطا بلغها، وكان أمره في ذلك عجباً عاجباً، وإذا أمّ مقصداً في ذلك لم يجد له دونه حاجباً، كأنما عناه السّراج الورّاق بقوله: أين إمامٌ في الحديث مثله ... تضربُ آباطاً إليه الإبلُ ذاد عن السُنّة كل مفترٍ ... به جلي الدُجا وحُلّ المُشكل وكان في علم الرجال أوحداً ... بحيث قال العلم: هذا الرجل أتقنهم معرفةً يقول ذا ... مستعملٌ وقول ذاك مهمَل وأما اللغة، فأبو عبيدة يكون عبده، والأصمعي أصمّ عيّه من يسمع كلامه بعده. وأما النحو، فليس لأبي علي معه حجة، ولا لابن خالويه عنده قولٌ يتوجه. وأما التصريف فما ابن جنّي عنده ابن آدم، ولا المازني من رجاله إن صادفه، أو صادم. ولم يزل على حاله الى أن خلت منه الربوع، وجرت الجفون عليه دماً بعد الدموع. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 647 ومولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وست مئة. ودفن بمقابر الصوفية. وكان فيه حياءٌ وسكون، وحلم واحتمال، وقناعة واطّراح تكلّف، وترك التجمل والتودد الى الناس، مع الانجماع عنهم، وعدم الكلام إلا أن يُسأل فيجيب ويُجيد، وكلما طالت مجالسة الطالب له ظهر فضله، لا يتكثّر بفضائله، ولا يغتاب أحداً. وكان يصعد الى الصالحية ماشياً، لا يركب بغلاً ولا حماراً، وهو في عشر التسعين، ويستحمّ بالماء البارد في الشيخوخة، إلا أنه كان قد امتحن بأمر المطالب، وتتبّعها، فعثر به جماعة من الشياطين، وأكلوا معه، فكان لا يزال في فقر لأجل ذلك. وحجّ، وسمع بالحرمين والقدس ودمشق ومصر وحلب وحماة وحمص وبعلبك، والإسكندرية وبُلبيس وقطيا، وغير ذلك. وأوذي مرة، واختفى مدة من أجل سماع تاريخ الخطيب. وأوذي مرة أخرى لأجل قراءة شيء من كتاب أفعال العباد مما يتأوّله الفضلاء المخالفون، وحبس. ولما توفي ابن أبي الفتح حصل له من جهاته حلقة الخضر والحديث بالناصرية، فأضاءت بذلك حاله، واتسع رزقه، ثم إنه ولي دار الحديث الأشرفية بعد ابن الشُريشي سنة ثماني عشرة وسبع مئة، التزم بمذهب الشافعي، وأشهد عليه بذلك، وذكر الدّرس بالأشرفية في ثالث عشري الحجة من السنة المذكورة. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لم يلِ هذه المدرسة من حين بنائها الى الآن، أحق بشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 648 الواقف منه، وقد وليها جماعة كبار مثل ابن الصّلاح ومحيي الدين النواوي وغيرهما، لأن الواقف قال: فإن اجتمع من فيه الرواية، ومن فيه الدراية قدّم من فيه الرواية. وأخبرني من لفظه شيخنا الذهبي، ونقلته من خطه، قال: ما رأيت أحداً في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وسمعته يقول في شيخنا أبي محمد الدمياطي إنه ما رأى أحفظ منه، وكان الدمياطي يقول: إنه ما رأى شيخاً أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي ابن المفضّل، ولا رأى ابن المفضّل أحفظ من الحافظ عبد الغني، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني، إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، فقد رآه، ولم يسمع منه، ولا رأى ابن عساكر والمديني، أحفظ من أبي القاسم اسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر ابن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبي حازم العبدوي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 649 ولا رأياً أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندَه، ومعهما الحاكم. وكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصفهاني. وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير التُستَري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زُرعة الرازي. وأما الدارقطني فما رأى مثل نفسه، وكان الحاكم يقول: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى ابن عُقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وقد رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، ولا رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري - فيما ذكر - مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين، وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطّان، ولا رأى هو مثل شعبة وسفيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 650 ومالك، ولا رؤوا مثل أيوب السخستياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزُهري، ولا رأى مثل ابن المسيّب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة، ولا رأى علقمة كابن مسعود، فيما زعم. وقال شيخنا الذهبي: لم يسألني ابن دقيق العيد إلا عنه. وقال الذهبي أيضاً: وكان قد اغترّ في شبيبته، وصحب عفيف الدين التلمساني، فلما تبيّن له ضلاله هجره وتبرّأ منه. وقال الذهبي: وكان يترخّص في الأداء من غير أصول، ويُصلح كثيراً من حفظه، ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين، ويتوسّع، وكأنه يرى العمدة على إجازة المُسمع للجماعة، وله في ذلك مذاهب عجيبة، وكان يتمثّل بقول ابن مندة: يكفيك من الحديث شمّه. وصنّف كتاب تهذيب الكمال في أربعة عشر مجلداً. كسف به الكتب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 651 المتقدمة في هذا الشأن، وسارت به الرُكبان، واشتهر في حياته، وصنّف كتاب الأطراف للكتب الستة في ستة أسفار، وخرّج لجماعة. قال الذهبي: وما علمته خرّج لنفسه لا عوالي ولا موافقات ولا معجماً، وكل وقت ألومه في ذلك فيسكت، وقد حدّث بكتابه التهذيب خمس مرات، وحدّث بالصحيحين مرات، وبالمسند ومعجم الطبراني وبدلائل النبوة ويكتب جمّة، وحدّث بسائر أجزائن العالية وبكثير من النازلة. وقال الذهبي أيضاً: أعلى ما عنده مطلقاً الغيلانيات وجزء ابن عرفة وابن الفرات بإجازة. وسمع منه الذهبي سنة أربع وتسعين، وأخذ عنه صحيح البخاري غير مرة. واستملى منه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وشيخنا ابن سيد الناس، ومحب الدين وأولاده، وشمس الدين السروجي، وابن الدمياطي وابن عبد الهادي وابنا السفاقسي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وسبط التنيسي، وخلائق. وتخرّج به جماعة كشيخنا علم الدين البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ عماد الدين بن كثير، وابن عبد الهادي، وابن العطار، وابن الفخر، وابن الجعبري، وغيرهم. وقال شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في حقه: ووجدت بدمشق الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 652 للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصراً دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمداً آثار السلف الصالح، مجتهداً فيما نيط به في حفظ السّنة من النصائح، معرضاً عن الدنيا وأشباهها، مقبلاً على طريقه التي أربى بها على أربابها، لا يبالي ما ناله من الأزل، ولا يخلط جدّه بشيء من الهزل، وكان بما يضعه بصيراً، وبتحقيق ما يأتيه جديراً، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام، وكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز، وأستفيد من حديثه الذي إذا طال لا يملل، وإن أوجز وددت أنه لم يوجز، وهو الذي حداني على رؤية الشيخ تقي الدين بن تيمية. قلت: وكان معتدل القامة، مشرباً حمرة، قوي التركيب، متع بذهنه وبحواسه، ولم أر بعد الشيخ فتح الدين بن سيد الدين من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها مثل الشيخ جمال الدين، ولم يستعر مني شيئاً فأعاده إلا وقد نبّه فيه على نكتة كنت محتاجاً إليها حتى في إجازة الشيخ فتح الدين بن سيد الناس لي. وفيه قلت: درتُ على أشياخ عصري فيا ... فخري بما نلتُ ويا عزّي وذقتُ طعم الكل في علمهم ... فلم أجد أحلى من المزي وسمعتُ صحيح مسلم على البندينجي، وهو حاضر بقراءة ابن طغريل، وعدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 653 نسخ حاضرة صحيحة، يقابل بها فيردّ الشيخ جمال الدين - رحمه الله - على ابن طغريل اللفظ، فيقول ابن طغريل: ما في النسخة إلا ما قرأت، فيقول من في يده بعض تلك النسخ الصحيحة: هو عندي، كما قال الشيخ، أو هو مظفّر عليه أو مضبّب أو في الحاشية تصحيح ذلك، ولما تكرر ذلك، قلت أنا له: ما النسخة الصحيحة إلا أنت. وقرأت عليه من لفظي ديوان خطب ابن نُباتة والأربعين النووية، وسمعت عليه من الأجزاء كثيراً، وسمع هو شيئاً من شعري بدار الحديث، وقرأت عليه كتاب الشمائل للترمذي بعدما كتبته بخطي، ولم أر في أشياخي بعد شيخنا أثير الدين في العربية مثله خصوصاً في التصريف واللغة، إلا أنه مع إتقانه لأسماء الرجال وله فيها هذا المصنف العظيم، لم يكن يعتني بتراجم العالم من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والقراء والأطباء والأدباء والشعراء، ولا له فيها مشاركة البتّة، وإنما كان يعتني برجال الحديث لا غير، ولقد سألته مرة عن القالي بالقاف، والفالي بالفاء، فقال: لا أعرف إلا الفالي بالفاء فعلمت أنه ليس له عناية بغير رواة الحديث، وإلا فأبو علي القالي بالقاف مشهور بين صغار الأدباء، ولكن عندي من الشيخ جمال الدين فوائد وقواعد في أسماء رجال الحديث، لم آخذها إلا عنه، ولا وجدتها في كتاب، وكان أسماء الرجال الذين يجيء ذكرهم في سماعاته وطرقه يجيد الكلام في طبقاتهم وأحوالهم وقوتهم وضعفهم ولينهم، وكان في ذلك بحراً لا يشق ثبجه وعجاجاً لا ينحط قتامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 654 ولما كان في سنة خمس وسبع مئة. تكلم الشافعية وغيرهم مع الشيخ تقي الدين بن تيمية وبحثوا معه في القصر الأبلق، وبحث معه صفي الدين الهندي ثم كمال الدين بن الزملكاني، وخرجوا، وانفصلت القضية، فلما كان بعد ذلك في يوم الإثنين ثاني عشري شهر رجب الفرد قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الردّ على الجهمية من كتاب أفعال العباد تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك تحت قبة النسر في المجلس المعقود لقراءة الصحيح، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين، وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر الى قاضي القضاة الشافعي، فطلبه، وحبسه، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتألم لذلك، وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج الى القصر الأبلق، واجتمع هو وقاضي القضاة هناك وردّ عن المزي، وأثنى عليه، وغضب قاضي القضاة، وأعاد المزي الى الحبس بالقوصية، فبقي أياماً، ثم أُفرج عنه، ونادى الأفرم في دمشق أنه أي من تكلم في العقائد حلّ ماله ودمه. وكنت قد كتبت أنا له توقيعاً بمشيخة دار الحديث النورية عوضاً عن الشيخ علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - وذلك في المحرم سنة أربعين وسبع مئة، ونسخته: رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تزيد العلم الشريف جمالاً، وتزينه بمن يفيده كمالاً، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الجمالي في كذا ثقة بأنه الثقة، والعالم الذي لغيره المقت وله المقة، والمحدّث الذي متى فاه بما عنده بادر كل أحد بالقبول وصدقه، والحبر الذي إذا تكلم نسخ كلام من تقدم بأقواله المحققة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 655 والحافظ الذي اجتحف سيله ابن نقطة فأغرقه، والناقد الذي كدر على ابن معين صفوه ورنّقه، والمصنّف الذي شيب من ابن أبي شيبة مفرقه، والمسند الذي لو عاصره عبد الرزاق حرمه الرحلة إليه مما رزقه، والمتأخر الذي لا يعرف بعد الدارقطني مثله، وربما تقدمه في فنّه المحرر وسبقه. فليباشر ما فوض إليه مباشرة يتضوّع من نشر السنة بها النشر، ويكون للحديث الشريف حفظ يدوم الى الحشر، مجتهداً في البيان للطلبة، والإعانة لهم على سلوك المعرفة، فمحجّتها بالغموض منتقبة، لأن تهذيب كماله ليس للبدر في تمامه كما له، وأطرافه سار في الأطراف، فما ينكره علماء الحديث ولا رجاله، وإتقانه للأسماء إتقان تزأر في غابة أسوده وأشباله، ومحله من الحفظ محل يعزّ على صاحب الاستيعاب مناله، وإعرابه لو عاصره أبو البقاء لم يظفر بلبابه، وتصريفه لو عاينه ابن جني ما دخل سوقه على تصنيفه الملوكي برفع حجابه، ولغته لو سمعها ابن الأعرابي ما نقل شيئاً عن أعرابه. ولينزّل الطلبة منزل البنين في الحنوّ عليهم عند الهفوة، ولا يكن فيه قسوة المعلمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 656 على من في ذهنه فترة، ولم يكن من الفهم في الذروة، وليجْلُ عليهم حسن وجه الإقبال، وإذا كان المؤمنون إخوة فيوسف أحسن الإخوة، حتى يوضح لهم ما أبهم من الأسانيد المظلمة، والأسماء التي هي لتساوي صورها مبهمة، والألفاظ التي هي لولا القرائن موهمة. ولينبّه على الصحيح إذا ورد، والحسن إذا أضاء وجهه لمن انتقد، والضعيف إذا اعتلّ متنه ولم يصح له سند، والموضوع الذي لا يعرفه إلا من امتاز برتبته وانفرد، وليحرر لهم الألفاظ إذا رواها، ويحقق مخارجها الصحيحة الفصيحة التي فاخر بها هذا اللسان العربي وباهى، ويحترز في أدائها، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " عاملاً في ذلك بشرط الواقف أثابه الله فيما يبدي ويعيد، ولا يتعدّ ما قرره، فإن الله تعالى يرى عمله، وقد استفاض في الواقف أنه شهيد، والوصايا كثيرة، وعنه تصدر بالإفادة جميع وفودها، ومن أفق فضائله تتألق كواكب سعودها، وتقوى الله عز وجل ملاك أمرها، وسداد ثغرها، فلا يتعرّ منها منكبه، ولا يتعدّ عنها مركبه، والله تعالى يمدّ في أجله، ويبلّغ كلاً من الطلبة في بقائه غاية أمله. والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 657 يوسف بن عبد الغالب ابن هلال الإسكندري العلاف. كان عامياً، ولكن له النظم الحلو، وروى عنه الفضلاء، وكتبوا شعره. وتوفي - رحمه الله تعالى - في بلده سنة عشرين وسبع مئة. ومن شعره، وقيل إنه لابن الوحيد: وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثباتٌ في الحشا وثباتُ تؤجج ناراً وهي في العين جنة ... وتعطيك طعم المرّ وهي نبات ومنه: كم قلت للحائك الظريف وفي ... يمينه طاقة يخلّصها هل لك في ردّ مهجةٍ لفتى ... ليس له طاقة يخلّصها يوسف بن عبد المحمود ابن عبد السلام، الشيخ الإمام العالم جمال الدين البتّي الحنبلي. كان من فضلاء العراق ببغداد. توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. وكان إليه المرجع في القراءات والعربية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 658 يوسف بن عمر بن الحسين الشيخ العدل المعمر بدر الدين الختني - بالخاء المعجمة وفتح التاء ثالثة الحروف وبعدها نون - المصري. حضر في الرابعة على ابن رواج وتفرد به، وسمع من صالح المدلجي، والمرسي، والبكري، وابن اللمطي، وتفرّد بأشياء، وله مشيخة، روى منها عن نيّف وستين نفساً، وأكثر الطلبة عنه. وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء منتصف صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. ومولده في سنة خمس وأربعين وست مئة. يوسف بن محمد ابن مظفّر بن حماد، جمال الدين الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها بالجامع الكبير. حدّث بجزء ابن الأنصاري عن مؤمّل البالسي، والمقداد القيسي. وكان على قدم متين من العلم والعمل والتعبّد ونشر العلم. وكان فقيهاً شافعي المذهب، مشاركاً في الأصلين والنحو، أديباً شاعراً قدم القاهرة، وحدّث بشيء من شعره، وكتب عنه الفضلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 659 أنشد شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا أبو المحاسن يوسف لنفسه: وددت لو كان يهوى عاذلي ليرى ... حال المحبّ على الأشواق والفكر يتلو الملام على سمعي فيكذبه ... قلبي بناءً على ما قد رأى بصري يا فاضح الغصن من عطفيه في هيف ... ومخجل الظبي من عينيه بالحور إني ومدمعُ عيني سائلٌ أبداً ... حرمت جفني لذيذ النوم بالسهر عسى توفي غريم الحب قبلته ... فيلتقي الحسن بين الغصن والقمر وعلّ طيفك يسري نحو عاشقه ... إن استقرّت به تهويمة السحر وأنشدنا أيضاً له: ولما أن قضى أجلي بهجر ... وسرت كليم وجدٍ لا محاله بجانب خدّه آنست ناراً ... ولكني وجدتُ بها ضلالهْ وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر نهار الأحد سابع ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة عن أربع وستين سنة، وتأسف الناس عليه، رحمه الله تعالى. يوسف بن محمد الشيخ الإمام العالم صلاح الدين بن المغيزل الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها. كان كهلاً، مفنّناً في العلوم مناظراً، له محفوظات وفضائل، وحدث عن الشيخ شمس الدين بن قدامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 660 حكي لي شمس الدين بن النّصيبي بحلب، قال: بحث يوماً صلاح الدين بن المغيزل هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل بحضور ابن البارزي قاضي حماة من بكرة الى أن قال المؤذن للظهر: الله أكبر، فقال القاضي شرف الدين: طوّل الله في عمريكما للمسلمين، سروراً بهما، أو كما قال. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة بحماة. يوسف بن محمد صلاح الدين ابن الملك الحافظ غياث الدين ابن الملك السعيد شاهنشاه ابن الملك الأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب. سمع جزء إسماعيل الصفّار على إسماعيل العراقي حاضراً في الثالثة سنة ست وأربعين وست مئة. وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة. يوسف بن محمد بن عثمان السيف، الناسخ، الدلال على الكتب بجسر اللبّادين بدمشق. أصله من سرخس، رأيته غير مرة ينادي على الكتب، وينسخ، وهو شيخ قد أنقى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 661 وكان رزيّ الحال. كتب كثيراً من الدواوين المتأخرة، خصوصاً ديوان ابن قزل المشدّ وديوان ابن محاسن الشوّاء. وكان يقول: أنا قبّلت قُبلة بألف درهم، يفتخر بذلك. توفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. يوسف بن محمد بن منصور ابن عمران المحدث الفاضل أبو الفضل الهلالي الحوراني. كتب أحكام الضياء، وقرأه على ابن الكمال، وحفظ متوناً جمة، وقرأ الحديث على ابن عبد الدائم، وصحب محموداً الزاهد الدمشقي، وسمع بمصر من الرشيد العطار، وكتب عنه الجماعة، وكان يقرأ على كرسي بالجامع من حفظه، وربما قرأ في القرى، فيهبونه. وكان ديّناً قانعاً. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشر وسبع مئة. يوسف بن محمد بن يعقوب ابن إبراهيم، القاضي الإمام العالم شهاب الدين بن الصاحب محيي الدين بن النحاس الحلبي الحنفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 662 كان صدراً كبيراً، خلف والده في تدريس المدرستين الريحانية والظاهرية، وباشر في حياة والده نظر الخزانة، وباشر بعد موته نظر الجامع مدة، وكان معيّناً للمناصب الكبار. وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة. يوسف بن محمد بن عبيد الله القاضي صلاح الدين كاتب الدرج السلطاني بالقاهرة. كان كاتباً مأموناً، اعتمد عليه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ومن بعده. ولم يزل مقدّماً عند كاتبي السر واحداً بعد واحد الى آخر أيام القاضي علاء الدين بن الأثير، وكان يستكتبه في المهمات، وكان يلازم الديوان، تطلع الشمس وتغرب عليه وهو في الديوان، أقام كاتب درج مقدار خمس وخمسين سنة. وكان ساكناً خيّراً، ليس فيه شر البتة، محتملاً أذى رفاقه، رأيتهم وهم يسبونه في وجهه، ولا يرد عليهم، خصوصاً القاضي قطب الدين بن المكرم، كان يقول له: لعن الله والديك يا كلب يا ابن الكلب، يا عبد النّحس يا ابن الأمة، ولا يردّ عليه حرفاً. هذا وهو المقدّم على الجميع. وكان أسمر اللون، قطط الشعر، صغير الذقن. ولما حصل الفالج للقاضي علاء الدين بن الأثير، طلبه السلطان الملك الناصر محمد ليكتب بين يديه شيئاً في السر على أن يجعله كاتب سر، فلما أخذ الأمير سيف الدين ألجاي الدوادارية، ودخل به في دهليز القصر، أحدث في سراويله، فأعفي من الدخول، وكبرت سنّه، وعورت عينه، وانهدّت أركان قواه، وهو ملازم الخدمة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 663 فكنت أقول له: لو وفرت نفسك وقعدت في بيتك كان خيراً، وكان يقول: أخاف أنهم يقطعون معلومي. ولم يكن أحد يقدم على ذلك لقدَم هجرته، وثبوت قدمه في الخدمة، ولكن كل ذلك من ضعف نفسه، وكان يكتب خطاً رديئاً ضعيفاً. ولم يزل على حاله حتى توفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. وكان معلوم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قد رُسم به للقاضي شهاب الدين محمود، ولم يزل عليه الى أن خرج الى دمشق كاتب السرّ، فأعطى المعلوم للقاضي صلاح الدين بن عبيد الله، ولما توفي رسم بالمعلوم للقاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود. يوسف بن محمد بن محمد ابن عبد الرحمن بن علوان، القاضي الأصيل بهاء الدين بن القاضي محيي الدين الإسكندري الحلبي. كان مشهوراً بقضاء سرمين وأعمالها، وكان له هيئة حسنة، وعنده كرم، وله معروف وفيه رئاسة ومروءة. قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا عن ابن قميرة وابن رواحة وابن خليل بحلب ودمشق والقاهرة وسرمين. وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري شهر رجب سنة سبع مئة. ومولده في شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة بحلب. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 664 يوسف بن محمد بن منصور الشيخ الصالح المحدث الهلالي العامري الكفيري الفرّا. كان رجلاً صالحاً، يقرأ الحديث على كرسي بالجامع الأموي، ويصلي بمسجد آدم عليه السلام، وله كتب وأجزاء، سمع بقراءته من ابن عبد الدائم، وبمصر من الرشيد العطار، وحدث عنهما، وصحب الشيخ محموداً الدشتي، وسمع بعض تصانيفه. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب الفرد سنة عشر وسبع مئة. ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة. يوسف بن محمد بن أحمد ابن صالح بن صارم بن مخلوف، القاضي نور الدين بن تقي الدين بن جلال الدين بن تقي الدين الأنصاري الخزرجي المعروف بالفيومي. اجتمعتُ به بالديار المصرية، وبصفد، وبدمشق غير مرة. أعرفه وهو شاهد العمائر في خدمة الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالديار المصرية، ثم إنه ورد الى صفد، وكان في ديوان نائبها الأمير سيف الدين طشتمر الساقي. ثم توجه معه الى حلب. ثم إنه عاد الى مصر. واجتمعت فيها به سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكتب هو إليّ لما قدمت القاهرة في هذه السنة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 665 وجدنا أُنسَ مولانا فلما ... وجدنا الأنس لم نقنع بذاكا وهام الطرف مني في انتظار ... يروم من الصبابة أن يراكا عجزت عن المزار فكنتَ ممن ... نواك به كُفينا من نواكا ولا عتبٌ على شيخ ضعيفٍ ... إذا ما قام لم يملك حراكا فعش لمسرّة الأحباب إنّا ... إذا ما عشت عشنا في ذراكا وكان قد كتب إلي بالقاهرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة أبياتاً جيدة، ضاعت من يدي، وكتبت أنا الجواب في وزنها ورويّها وهو: أهديت لي من نظمك الناضر ... زهر رُباً أفديه بالناظر نظمته شعراً فألهى الورى ... عن كل معنىً حسن نادر فجاء في لطف نسيم الصّبا ... إذا سرى وهناً على حاجر يكاد من رقّة ألفاظه ... يُشرب في كأس الطّلا الدائر من كل معنىً فائقٍ لم يدر ... في فكر نظّام ولا ناثر من أين أبدعت المعاني التي ... فيه وما مرّت على خاطر لو كان في عصرٍ مضى ما رأى ال ... ناس البكا في المنزل الداثر فلا روى العشاق مع وجدهم ... نسيب مجنون بني عامر ولا رأى الناس غزال الحمى ... يروق فيه غزل الحاجري ولم يمثل بسوى لفظه ... شواهد في المثل السائر فأنت أولى الناس فينا بأن ... تُعرف بالسّاحر لا الشاعر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 666 علوت نور الدين في ذروة ... تسمو على الواقع والطائر لأن ما تنظمه لم يكن ... لأول فينا ولا آخر شعر متى ابتاعه مفلسٌ ... بنفسه لم يكُ بالخاسر تالله قد بالغتَ في وصف ما ... يقلّ في الباطن والظاهر لأنني في أدبي قاصرٌ ... أسبح في بحر النّهى الزاخر وليس ما أجمع مستحسناً ... في أدب البادي ولا الحاضر وربما يختار مولاي أن ... يكون من دون الورى جابري فاسلم ودم ما ابتسمت روضة ... بكى لها جفن الحيا الماطر وأنشدته يوماً لغزاً في قصب السّكر، وهو: عجبت لمعسول الرّضاب مهفهف ... يحاكي أنابيب القنا حال نبته تناقض معناه الغريب فبوله ... على الرأس راسٍ والشوارب في استه وأنشدني هو من لفظه لنفسه فيه: في حلب أبصرت أعجوبةً ... تُخرج أذكى الناس من عقله شخصاً رشيق القدّ عذب اللمى ... لا تقدر الروم على مثله وهو بلا عقل جريح الحشا ... والدود لا يشبع من أكله لا يبرح البول على رأسه ... والقيد لا ينفكّ عن رجله له عيون وهو أعمى وفي ... عينيه أولاد على شكله يا من سما بين الورى قدرُه ... اكشف لنا عنه وعن أصله وأنشدني من لفظه لنفسه في العُصفر: أشبّه عصفراً في الروض يُزهى ... وتشبيهي لهيئته مقارب ككنز فيه بلّور عليه ... دنانير ومهلكها عقارب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 667 يوسف بن محمد بن نصر ابن أبي القاسم الشيخ الفقيه جمال الدين المقرئ. سمع من ابن علاق والنجيب الحراني. أجاز لي بخطه بالقاهرة، في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة أربع وستين وست مئة. وتوفي رحمه الله تعالى. يوسف بن محمد بن سلميان ابن أبي العز بن وهيب بن عطاء، الشيخ الفقيه الإمام الصدر الكبير جمال الدين أبو المحاسن ابن الشيخ الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن الشيخ قاضي القضاة صدر الدين، الأذرعي الأصل الحنفي. كان مدرساً بالعذراوية والإقبالية للطائفة الحنفية، ثم إنه تركهما في آخر عمره لولده صدر الدين علي، وولي نظر الجامع الأموي، وتوكّل لجماعة من الأمراء، ودرس قديماً بمدارس الحنفية بالقدس. وسمع بالقاهرة من الرضي بن البرهان الواسطي، وله إجازة من عثمان بن خطيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 668 القرافة، وعبد الله بن الخشوعي، والعماد بن عبد الهادي، والصدر البكري، وأبي طالب بن السروري، وحدّث. وكان حسن الأخلاق، وفيه مودة وكرم. توفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة. يوسف بن مظفر ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الفقيه الإمام العالم جمال الدين المعري بن الوردي، أخو القاضي الفاضل زين الدين عمر بن الوردي، وقد تقدّم ذكره في حرف العين. وكان القاضي جمال الدين هذا هو الأكبر. وكان فقيهاً جيداً، قرأ التنبيه، واشتغل بالحاوي الصغير كثيراً. وكان ينقل من الرافعي، ومن الروضة كثيراً. ذكر لي جماعة أنه كان فقيه النفس، وكان جواد بما يملكه، اشتغل على القاضي شرف الدين البارزي، وتنقّل في القضاء بالبلاد الحلبية، وربما أنه تعدى السبعين سنة، وكان ضعيف العربية. وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب. يوسف بن موسى ابن محمد بن مسعود، بهاء الدين بن الشيخ تاج الدين المراغي المعروف بابن الحيوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 669 كان شاباً ذكياً فاضلاً، وله شعر واشتغال ومحفوظ، ولازم ابن الباجربقي بعدما تمفقر، وكان يعظم الباجربقي، وامتدحه بقصيدة. قال البرزالي: وسمع على جماعة من شيوخنا. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وستّ مئة. يوسف بن موسى بن أحمد القاضي الرئيس الصدر صلاح الدين ابن القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية. كان شاباً نشأ غصناً في رياض سعادة، وطلع بدراً بين الكواكب الوقّادة، قطف زهرة دنياه الغضة، وأمطرت السما عليه ذهباً وفضة، وفاز بلذات ما كان غيره يراها في الأحلام، ورأس على صغر سنّه على كل من في الشام. وكان تنكز يحبه ويكرمه، ويوفر جانبه ويعظمه. ولم يزل الى أن ذوى غصنه اليانع، وسقت قبره من العيون الغيوثُ الهوامع. وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة. وكان قد تزوج ابنة الصاحب شمس الدين غبريال في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة. يوسف بن أبي نصر ابن الشقاري، الأمير المسند عماد الدين أبو الحجاج الدمشقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 670 سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وابن الصلاح، والناصح بن الحنبلي، والفخر الإربلي، والرشيد بن الهادي، والسخاوي. وولي إمرة الحاج مرات عديدة، وأنفق في ذلك وفي وجوه البر أموالاً كثيرة. وكان سليم الباطن وقف بالنّيرب تربة مليحة بقبّة، وخانقاه ومسجداً، ووقف على ذلك أماكن. وحدّث بالصحيح غير مرة، وقرأ عليه شيخنا الذهبي الصحيح في عشرة أيام. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة عشر وست مئة. يوسف بن هبة الله الإسرائيلي، الشيخ جمال الدين بن الحلبي الطبيب الفاضل المعروف في القاهرة بالصفدي، لأنه سكن صفد مدة. وله كلام جيد على آيات تدل على ذكائه واطلاعه. توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة. يوسف بن هلال ابن أبي البركات جمال الدين الحلبي الحنفي أبو الفضائل الطبيب الصفدي. أخبرني العلامة أبو حيان من لفظه، قال: كان المذكور فيه تعبّد واعتكاف في شهر رمضان بجامع الحاكم، وكان يؤثر الفقراء ويطبّهم ويبرّهم بالشراب والطعام الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 671 يواتيهم في مرضهم، وأنشدنا لنفسه بالكاملية يوم الأحد تاسع المحرم سنة إحدى وثمانين وست مئة: بكمال حسنك يا مخاطب ذاتي ... بلوائح أخفى من اللحظات أنعم عليّ بترك ما هو عكس ما ... قد جلّ عن حصر وعن كلمات يا قهوة مني إلي شربتها ... عندي إذا حظرت على الأموات ارتجت الأرضون ثم تشققت ... عن كل ميت فيه كل حياة هي روح سر السر فهي إذا بدت ... تستغرق الأرواح في الأوقات من دونها موتٌ وفيها عيشةٌ ... فالروح أول نقدةٍ يا أتِ ماذا أقول وما أصرّح واصفاً ... قد قلت في الحركات والسّكنات فوصفت ظاهرها بما أظهرته ... والسر في سري ولا بصفات قال شيخنا الذهبي: كان أديباً عالماً، له أرجوزة في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة ثالث عشري المحرم سنة ست وتسعين وست مئة. قلت: الظاهر أنه هذا الذي تقدم آنفاً، وإنما وهِمَ أثير الدين في اسم أبيه. يوسف بن يوسف ابن إسرائيل بن يوسف بن أبي الحسن الفقيه الفاضل بدر الدين ابن الشيخ المقرئ جمال الدين الصالحي الحنفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 672 كان فقيهاً مشتغلاً بالفقه والأصول، حسن المناظرة، باشر إعادة المدرسة الظاهرية وغيرها. وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، وله من العمر سبع وثلاثون سنة، ورثاه العماد القطان بقصيدة. يوسف حَوْك النصراني الزغلي. كان من أهل الكرك. أول ما عرفت من أمره أنه أمسكه والي الشقيف من بلاد صفد بزغل، وجهّزه الى صفد، وكان النائب بها إذ ذاك الأمير سيف الدين أرقطاي في شهور سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فدخل إليه، وطلب الخلوة به، فقال له: أحضر لي صائغاً خلوة، فلما حضر قال له: قصّ من هذه النحاسة التي معك شيئاً، فقصّ ذلك قدراً زنته أربعة خمسة دراهم، ووضعها في البوتقة، ولما ذابت، ألقى عليها شيئاً مما معه مثل الذّرود، فصارت فضة حجر، ليس فيها ريبة ولا شبهة، فقال النائب للصائغ: ما تقول في هذه؟ فقال: هذه فضة حجر طلغم ليس فيها شيء، فأطلعه الى القلعة، واعتقله بها. وبقي خائفاً من الأمير سيف الدين تنكز، لا هو الذي يخرجه من الاعتقال، ولا هو الذي يتمكّن منه ليعمل له الذي توهّمه فيه. ولم يزل يوسف معتقلاً بقلعة صفد الى أن كتب ذلك قصّة وجهّزها في سنة ثلاثين وسبع مئة أو ما قبلها الى تنكز، وطلب فيها الحضور، فأحضره تنكز من صفد، ودخل إليه، وعمل بين يديه كما عمل قدّام نائب صفد، وكان تنكز سعيد الحركات والآراء، فقال له: أحقّ ما عملت هذه الصنعة بين يدي مولانا السلطان، فكتي مطالعة بصورة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 673 الحال، وجهّزه تحت الترسيم الى السلطان الملك الناصر، فدخل إليه، وعمل ذلك العمل أيضاً، فطار عقل السلطان به، وقال له: أنا أعمل الذهب أيضاً. وبقي عند السلطان ينام في المرقد، ويركب من خيل النّوبة، وينزل الى القاهرة، وأوهم الناس، وأخذ منهم الذهب، ومن بكتمر الساقي ومن الخدّام شيئاً كثيراً من الذهب، وصار يقول لهم: كل من أحضر لي خمسة مئة دينار أخذها خمسة آلاف، فطمع الناس، وأعطوه ذهباً كثيراً، وهو يأخذ الجميع، ويدكه في الفحم، ويحرّك به البوتقة، ويفرّغ ذلك ذهباً أحمر لا مرية فيه: أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب ... أن يصنعوا ذهباً إلا من الذهب أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة ... إلا من الفضة المعروفة النّسب وبلغ في أمره أن كان السلطان يطلب له الخمر من الأقباط، ويشربه قدّامه، ويقول له: يا خوند ما أقدر على الزئبق ورائحته إلا بهذا، وكان يحتمل له السلطان هذا مع كراهيته في الخمر، وشرع يدافعه من وقت الى وقت، الى أن قال له: هذا يريد حشيشة ما رأيتها إلا في جبال الكرك، فجهزه تحت الترسيم على خيل البريد الى الكرك، ولو قدر هناك على الهروب هرب. لكن الترسيم الذي عليه، احتفظوا به، وأحضروه. ثم إنه هرب من القاهرة، وتطلبه السلطان، وأمسك أناساً ضمنوه، وقتلهم بالمقارع، وبالغ في طلبه الى أن أمسك في الصعيد، وأحضر الى السلطان في أواخر الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فسلّمه الى والي القاهرة، فقتله من بعد صلاة الجمعة الى المغرب ألف شيب، فأصبح وقد ورم جسده جميعه، وسُمّر على جمل، وطيف به، وهلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 674 والذي كان في ذهني منه أنه كان قد ظفر من أحد ببعض شيء من إكسير، فكان يعمل بين يدي أولياء الأمر منه قليلاً قليلاً، والذي يتعيش به على الناس كله من الزغليات، ولهذا كان لا يعمل إلا ثلاثة دراهم أو أربعة. يونس بن إبراهيم ابن عبد القوي بن قاسم بن داود، فتح الدين الكناني العسقلاني أبو النون الدبابيسي، مسند الديار المصرية. قرأت عليه جميع القدر المسموع من كتاب القناعة لابن أبي الدنيا من أول الجزء الأول الى قوله: فكأنما ملئت غنىً، وذهب عني ما كنت أجده بسماعه من الشيخ أبي الحسن بن أبي عبد الله بن المقير سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وجزءاً فيه ثلاثة أحاديث من رواية الشيخ أبي أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرضي بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه الأسانيد الحسنة المختارة من رواية الشيخ أبي غالب شجاع بن فارس الذهلي الحافظ عن شيوخه بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه أحاديث منتقاة من أصول الشيخ الجليل أبي الرجاء محمد بن أحمد الجركاني، وجزءاً فيه أحاديث عن مشايخ الإمام أبي طاهر السلفي، وجزءاً فيه موعظة الأوزاعي للخليفة بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه خطب الإمام علي بن أبي طالب في وفاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 675 أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه مجلس من مجالس القاضي أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني عن شيوخه بإجازة المسمع من السبط. وسمعت عليه بقراءة غيري أجزاء أُخر كثيرة. وكان قد سمع بإفادته عمه المحدث داود وابن أبي الحسن علي بن عبد الله بن المقير. وأجاز له ابن المقير، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وأسعد بن عبد الغني بن قادوس، وحمزة بن عمر بن أوس، وشعيب بن يحيى بن أحمد الزعفراني، وظافر بن طاهر بن شحم المطية، وأبو الحسن علي بن محمود الصابوني، وعبد الوهاب بن ظافر بن رواج الجوشني، والفقيه بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن بنت الجميزي الشافعي، وعبد الرحمن بن مكي بن الحاسب سبط السلفي، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن النّقار، وأبو الرضا علي بن زيد بن علي التّسارسي، ومحمد بن أبي الحسن بن يحيى بن ياقوت، ومحمد بن إبراهيم بن الحبّاب، وأبو المنصور مظفر بن عبد الملك بن عبد القوي، ومنصور بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 676 سند بن الدباغ، وأبو البركات هبة الله بن محمد المقدسي، ويوسف بن عبد المعطي بن المخيّلي، ويوسف بن محمود الساوي، وأبو علي الحسن بن إبراهيم بن دينار، وأبو بكر محمد بن الحسن السفاقسي، وأبو الفضل المرجا بن أبي الحسن بن شقيرة، ويعقوب بن محمد الهذباني، ومنصور بن أبي القاسم الجهني، وعبد العزيز بن عبد الوهاب بن عوف، وعبد القوي بن عزون، وابنه إسماعيل، وأحمد بن يحيى بن صباح، وعبد الحق بن عبد الله بن علاق، والحسن بن علي الفارسي، وأبو طالب محمد بن علي بن الخيمي، ومحمد بن إبراهيم التلمساني، ويوسف بن عبد الكافي بن الكهف، ومحمد بن محمود الأموي، وزهير بن محمد المهلبي، وعبد المنعم بن رضوان بن مناد. وله رواية عن غير هؤلاء. وحدّث بالكثير، وسمع منه أبو الحجاج المزي سنة ثلاث وثمانين، وأبو محمد البرزالي، وسمع منه الحافظ أبو العلاء الفرضي. وكان شيخاً أمياً ساكناً ديّناً، له جلد على إسماع الحديث، وتفرّد بغالب شيوخه، وعلا سنده، وانتفع الناس به، وازدحم الطلبة عليه، وهو آخر من حدث بالقاهرة عن ابن المقيّر، وعن خلق من أصحاب السلفي بالإجازة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 677 وأجاز لي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، وأذن في الكتابة عنه الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي. وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في مستهل جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة. ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة تقريباً بالقاهرة. قلت أنا فيه: إن الرواية تحتاج العلوّ فمن ... يسمع على صغرٍ يصعد بتأسيس ولم يكن لي في الإسناد مرتبة ... تعلو وقد حصلت لي بالدبابيسي يونس بن إبراهيم ابن سليمان، الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين الصرخدي الحنفي خطيب صرخد. كان فاضلاً فقيهاً أديباً عارفاً بالنحو واللغة، وأقام بالمدرسة العزية التي بالكجك بدمشق مدة منقطعاً عن الناس بنفس شريفة تقنع بالقليل. طُلب في أواخر عمره لخطابة صرخد، فأجاب، وفرح به أهله، وذكر أنه سمع من الصريفيني. وتوفي بصرخد في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 678 ومن شعره: ظمئت الى سلسال حسنك مقلة ... رويت محاجرها من العبرات تشتاق روضاً من جمالك طالما ... سرحت به وجنت من الوجنات حجبوك عن عيني وما حجبوك عن ... قلبي ولا منعوك من خطراتي هل ينقضي أمد البعاد ونلتقي ... بلوى المحصّب أو على عرفات وتضمنا بعد البعاد منازل ... بالخيف أو بمنى على الجمرات وأفيق من ولهي عليك وينقضي ... شوقي إليك وتنطفي جمراتي يونس بن أحمد ابن أبي الجن، ينتهي نسبه الى الحسين بن علي رضي الله عنهما. كان كبير الأشراف بدمشق، يدعى ناصر الدين. توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وعشرين وسبع مئة. سمع من خطيب مردا، وروى عنه. وقصده الطلبة، وسمعوا عليه لشرفه ونسبه. وكان جيداً متودداً، له شهرة بين الناس. يونس بن أحمد بن صلاح الشيخ الإمام المفتي شرف الدين أبو النون القرقشندي الشافعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 679 كان فقيه مصر، وسمع من عبد الهادي قطعة من الموطأ، وطلب السماع عليه، فامتنع. وكان معيداً بزاوية الشافعي بجامع مصر. وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة. وقع في وقتٍ بينه وبين الشمس المحوجب نزاع في مسألة، وانفصلا من غير تراضٍ، فجاء إليه المحوجب ثاني يوم، واستغفر له، وقال: رأيت الشافعي في النوم، وقال: لا تنازعه فإنه ينقل مذهبي. يونس بن حمزة ابن عباس الإربلي، الشيخ الصالح الكبير المعمر أبو محمد العدوي القطّان، الساكن بالصالحية. كان مشهوراً بطول العمر، روى بالإجازة العامة عن داود بن معمر بن الفاخر، وكان يمكن أن يروي عمّن هو أقدم منه، ولكن لم يقدم الطلبة على ذلك، لأنه ذكر أن مولده سنة ست وستّ مئة بإربل. وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثير. يونس بن عبد المجيد ابن علي بن داود الهذلي، القاضي سراج الدين الأرمنتي. كان من الفقهاء الفضلاء، الأدباء الشعراء، المحمودين السيرة في القضاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 680 سمع من الشيخ مجد الدين بن أبي الحسن بن علي بن وهب القشيري، والحافظ أبي الحسين يحيى بن علي العطار، وعمر بن موسى العامري، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وحدث بقوص وغيرها، واشتغل على مجد الدين القشيري، وأجازه بالفتوى، وورد مصر للاشتغال، وأعاد بالمدرسة المعروفة بزين التجار، كان هو والفقيه نجم الدين بن الرفعة معيدين بها، قال نجم الدين بن الرفعة: كنت مرة في الإعادة، فصار الطلبة يأتون إليّ، ولا يجلسون إليه، حتى وصلت الحلقة إليه، فقام، وأخذ سجادته على كتفه، ونظر إليّ، وقال: أروح الى الجامع، آخذاً دروساً في الأصول والنحو، يعني أنك ما تدري هذا. وكان حسن المحاضرة، مليح المحاورة، صنّف المسائل المهمة في اختلاف الأئمة، وكتاب الجمع والفرق. ولاه قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز القضاء بإخميم، وعملها، ثم أقره الشيخ تقي الدين مدة، ونقله الى البهنسا، فأقام بها فوق عشرين سنة، ثم ولاه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بلبيس والشرقية، ونقله الى قوص بعد كمال الدين السبكي. وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص من لسعة ثعبان في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة. ومولده بأرمنت سنة أربع وأربعين وست مئة. وكان لأبيه نظم وأدب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 681 قال كمال الدين الأدفوي: أنشدته ارتجالاً حين خرج من عند ابن جماعة: سراج الدين سر في طيب عيش ... قرير العين محمود الفعال وقد كملت مسرّتكم وتمّت ... وقيت النّقص من عين الكمال قال: ورأيت بخطه على كتاب: الحال مني يا فتى ... تغني عن الخبر المفيد وبغير سكين ذبح ... ت وأدرجوني في الصعيد وكان كذلك لم يخرج من قوص، وكان يروي التنبيه والمهذّب بالسند. قال: وأنشدني لنفسه في شروط الكفاءة: شرط الكفاءة حرّرت في ستّة ... ينبيك عنها بيت شعر مفردُ نسبٌ، ودينٌ، صنعة، حرية ... فقد العيوب، وفي اليسار تردّدُ قلت: الكفاءة عند الشافعي واجبة، فلا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، فإن رضوا بإسقاط الكفاءة، صحّ النكاح، خلافاً للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، حيث ذهب الى أن الكفاءة شرط في الصحة، وسبيل من سلك الطريق القطعي في بطلان مذهبه أن يقول: فقد تزوج علي بن أبي طالب بفاطمة رضي الله عنهما، وأبوها سيّد البشر. والكفاءة سبعة أمور: وهي الدين، والنسب، والصنعة، والحرية، والتنقي من العيوب، واليسار على أحد الوجهين، وأن لا يكون الزوج مولىً للزوجة أو أهلها، فموالي قريش ليسوا أكفّاء لقريش، وفي وجه أنهم أكفاء لأن موالي القوم منهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 682 وقال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه في التعارض بين الاحتمالات، وتقديم بعضها على بعض: مجازٌ وإضمارٌ ونقل وبعده اش ... تراك، وقبل الكل رتبة تخصيص متى ما يكن إثنان منها تعارضا ... فقدم ما قدمت واحظ بتلخيص قال: وأنشدني له: إن ترمك الأقدار في أزمةٍ ... أوجبها أجرامك السالفه فافزع الى ربك في كشفها ... ليس لها من دونه كاشفه ومن شعره: وشادن زار بعد يأسٍ ... كالغيث وافى على قنوط وبات يجلو عليّ كأساً ... جاءت بحلّ الدم العبيط ولم نثلّث إذا ختلسنا ... إلا بإثم بنا محيط فقلت والليل في شبابٍ ... عاجله الصبح بالوخوط مشمّر ذيله لسير ... تشمير ذي الرحلة النشيط بالله يا صبح لا تزرنا ... والصبح حربٌ لقوم لوط ومن شعره: يا أهل ودي وما أهلاً دعوتكمُ ... بالحقّ لكنها العادات والدرب أبدعة ظهرت في الحب حادثة ... بالغدر أم رجعت عن دينها العرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 683 ومنه: أيا ميُّ إن البين أعمى بصيرتي ... فلم أدر بعد اليوم رَشداً ولا غيّا وإني لأسقي حيّكم من مدامعي ... وأعجبُ من ذا ميت قد سقى الحيّا وقلبه موالياً فقال: لما بدت بين أتراب لها من طيْ ... خودٌ طوت ثوب صبري بعد نشره طيْ قلت سقيتُ بدمعي حيّكم يا ميْ ... قالت: عجب ما رأينا ميت يسقي الحيْ ومنه: يا صاحبيّ ديار عَلوهْ ... ظهر الهوى الخافي المموّهْ والصبّ يوثقه الجوى ... وتخلّف الرفقاء جفوه فقفا وإلا فالهوى ... يستوقف المشتاق عنوه وسلا على قدريكما ... فأعزُّ ما في الحب سلوهْ لا بأس أن يشكو المعا ... هدَ، أو يبثّ الدار شجوه يا سطوة البين المش ... تّ وهل لغير البين سطوه خلّفتني أشكو الصفا ... شكوى الخليل خليل صفوه بتأوهٍ أعيا الصدا ... لو كان ينجو من تأوّه بأبي أُوَيْطان تسقّي ... تُ الهوى فيهنّ قهوه بلواحظ شهدت سرا ... ها بقلبي ألف غزوه وأنا المطيع الحب إلا ... في تأمّره بخلوه سافرت في العلياء حتى ... صرت شهوة كل شهوه لا أستجيب لغير مد ... ح الشيخ شمس الدين دعوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 684 يونس بن عيسى ابن جعفر بن محمد، القاضي شرف الدين الهاشمي الأرمنتي. كان من الفضلاء النبلاء، قليل الكلام، كثير الاحتشام، واسع الصدر، رئيساً ساكناً. سمع من أبي العباس أحمد بن محمد القرطبي، واشتغل بالفقه على خال أمه الرضي الأرمنتي، وعلى الشيخ جلال الدين الدشناوي. وتولى الحكم بعدة أماكن منها: دشنا، وأدفو، وأسنا، وأسوان، وقمولا وما معها من القرى، ونقادة. وناب بقوص قريباً من ثلاثين سنة، وأهلها راضون عنه. وله معرفة بالفرائض والحساب والوراقة، ودرس بالمدرسة العزية ظاهر قوص، وأعاد بالمدرسة الشمسية مدة. قال كمال الدين الأدفوي: وكان حلو الخلوة، ينبسط ويتبسّم، وفيه قعدد، وعليه مهابة، فقيه النّفس يتكلم على الوسيط كلاماً حسناً. ولما حج آخر حجة اجتمع بقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وتحدث معه، فأعجبه سمته، وأحسن إليه، وأضافه ضيافة حسنة كبيرة، وخطر له أن يولّيه الشرقية، فذكرت له، فقال: أنا في آخر العمر، ما أخرج من وطني، وأيضاً فأنا في قوص أي من ولي أقرّني على حالي، والكدّ على غيري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 685 وقع من علوّ، فمات - رحمه الله تعالى - بعد ساعة، سنة أربع وعشرين وسبع مئة. اليونيني الشيخ شرف الدين علي بن محمد. وقطب الدين موسى بن محمد. تمّ الكتاب بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، نهار الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وتسع مئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بخط العبد الفقير المعترف بالذنب والتقصير، الراجي عفو ربه القدير أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر العِواجي نزيل مكة المشرفة. عفا الله عنه بمنّه وكرمه، آمين، آمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 686