الكتاب: بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار المؤلف: أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري الحنفي (المتوفى: 380هـ) المحقق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل - أحمد فريد المزيدي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1420هـ - 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] ---------- بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي أبو بكر الكلاباذي الكتاب: بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار المؤلف: أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري الحنفي (المتوفى: 380هـ) المحقق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل - أحمد فريد المزيدي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1420هـ - 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ الجزء: 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ لِجَمِيعِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ، وَالسَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِينَ وَغَيْرِهِمْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى جَمِيعِ الصِّحَابَةِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالتَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ وَعُلَمَاءِ الِّدينِ وَالشُّهَدَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وِجَمَيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعيِنَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ وَخَطْرَةٍ مِنْ أَزَلِ الْأَزَلِ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِين، يَقُولُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ السَّعْدِيُّ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَسْعَدَ جَدَّهُ: ثَنا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْأَجَلُّ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَامِدِ حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِمْلَاءً، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَارِيُّ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنا الشَّيْخُ وَالِدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُسْتَمْلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو بَدْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَارِفُ الْكَلَاَباَذيُّ الْمُصَنِّفُ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَخْبَرَنِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْخُ الْعَالِمُ الصَّالِحُ الدَّيِّنُ فَخْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ زَيْنُ الصَّالِحِينَ عُمَرُ بْنُ أَبِي بَدْرٍ عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا فِي الْجَامِعِ بِبُخَارَى، قاَلَ: أَخْبَرَنَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْخُ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الِّدينِ أَبُو الْمَكَارِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْغِيِنَانِيُّ، وَالشَّيْخُ الْقَاضِي جَمَالُ الْقُضَاةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْكِرْمَانِيُّ الزُّغَانِيُّ فِي كَثِيرِينَ آخَرِينَ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَاُم. . . رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلَدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمايمرغِيُّ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَنَا أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الدِّينِ وَجَمَالُ الْقُضَاةِ الْكَرْمِينِيُّ فِي كَثِيرِينَ آخَرِينَ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقَاضِي الْأَجَلُّ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو حفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ الزِّنْجِرِّيُّ بِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ الْقَطَّانِ الْمُسْتَمْلِي فِي مَسْجِدهِ بَعْدَ إِمْلَائِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْوَالِدُ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعَانِيَ الْأَخْبَارِ، وَشَرْحَ الْآثَارِ مِنَ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيِّ فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْحُلْوَانِيِّ وَهُوَ حَاضِرٌ يَسْمَعُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، رَوَاهُ عَنِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَنَا أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الدَّيِّنُ فَخْرُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ وَالشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَوَّعِيُّ، وَجَمَالُ الْقُضَاةِ الْكَرْمِينِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ، قَالَ: ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، وَقَدْ أَخْبرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْعَالِمُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ بَهَاءُ الدِّينِ مُفْتِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَبُو الْمَحَامِدِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ الْمَنْسُوبُ إِلَى إِسْبِيجَابَ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِبُخَارَى ـ أَعْمَرَهَا اللَّهُ وَخَلَّصَ أَهْلَهَا وَأَئِمَّتَهَا ـ فِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ اللَّدُنِّيُّ قَالَ: أَخْبرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ صُدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيَسَرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزْدَوِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْكَاتِبُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْعَارِفُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْكَلَابَاذِيُّ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ إِمْلَاءً بِدَرْبِ الْجَدِيدِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: وَأَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ ظَهيِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُحْبُوبِيُّ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمِرْغِيَنَانِيُّ، وَالشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ جَمَالُ الْقُضَاةِ الْكَرْمِينِيُّ، وَالشَّيْخُ الْقَاضِي الْإمَامُ أَبُو عُمَرَ الْمُطَوَّعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ النَّسَفِيُّ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ، عَنِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: وَقَدْ أَعْرَضْتُ عَنْ إِيرَادِ الْأَسَانِيدِ وَذِكْرِ الْمَشَايِخِ تَحَرُّزًا عَنِ الْمَلَالِ لِلْأَحْبَابِ وَالْأَصْحَابِ ـ قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَاضِينَ، وَحَصَّلَ آماَلَ الْحَاضِرِينَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ـ، وَبِهَذِهِ الْأَسَانِيدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْعَارِفُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْكَلَابَاذِيُّ الْبُخَارِيُّ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَكَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّرَسُوسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحِبُّوا اللَّهَ» خَبَرًا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عِشْ رَحِبًا تَرَ عَجَبًا، أَيْ لِأَنَّ الْعَيْشَ لَيْسَ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَعِيشَ وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَجَدْتُ النَّاسَ أُخْبُرْ تَقْلُهْ، مَعْنَاهُ: إِنْ خَبُرْتَهُمْ قَلَيْتَهُمْ، يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَدْتُ النَّاسَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ النَّاسَ صِفَتُهُمْ أَنْ خَبُرْتَهُمْ قَلَيْتَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أَحِبُّوا اللَّهَ» ، مَعْنَاهُ إِنَّمَا تُحِبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، فَأَحَبَّكُمْ، فَأَحْبَبْتُمُوهُ لِحُبِّهِ لَكُمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] أَخْبَرَ عَنْ حُبِّهِ لَهُمْ قَبْلَ حُبِّهِمْ لَهُ [ص: 21] . وَقَوْلُهُ: «أَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ» أَيْ إِنَّمَا تُحِبُّونَنِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّنِي، فَوَضَعَ فِيكُمْ مَحَبَّتِي، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَمَرَ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَادَى فِي السَّمَاءِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ حُبُّهُ فِي الْأَرْضِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «وَيَقَعُ عَلَى الْمَاءِ فَيَشْرَبُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَيُحِبُّهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِذَا بَغَضَ عَبْدًا فَمِثْلُ ذَلِكَ» حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَاذَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الزَّجَّاج وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا» ، وَذَكَرَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَضَعَ مَحَبَّتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الْجَمَادِ، وَإِنَّمَا حَمَلَنَا مَعْنَى الْخَبَرِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ النِّعْمَةِ كَانَتْ مَعْلُولَةً نَاقِصَةً، وَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى حَظِّ الْمُحِبِّ، لَا إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي النِّعَمِ كُلِّهَا، أَوْ أَكْثَرِهَا، مَلَاذِ النُّفُوسِ، وَمَرَافِقِ الْأَبْدَانِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، وَمَنْ أَنِسَ لِلَّذَّةِ وَالرِّفْقِ تَغَيَّرَ لِلْأَلَمِ وَالْمَكْرُوهِ، وَفَوَاتِ حُظُوظِ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11] وَقَدْ قَالُوا فِي مَحَبَّةِ زُلَيْخَا لِيُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى سَيِّدَنَا وَعَلَيْهِ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَعَهَا شَهْوَةٌ، وَمُطَالَبَةُ حَظِّ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] الْآيَةَ، فَلَمَّا لَمْ يُطَاوِعْهَا وَفَاتَهَا حَظُّهَا فِيهِ، آثَرْتَ الْمُرَّ عَلَى أَلَمِهَا فَقَالَتْ {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًنْ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الصَّاغِرِينَ} . وَأَمَّا النِّسْوَةُ فَغَبِنَّ عَنْ حُظُوظِ الْغَيْرَةِ، وَآلْامِهِنَّ، حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَلَمْ يَحْسُسْنَ بِالْأَلَمِ، وَزُلَيْخَا لَمَّا تَمَكَّنَ الْحُبُّ مِنْهَا قَالَتْ {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] ، أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا وَشَهِدَتْ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ، هَذَا يُظْهِرُ دَلِيلًا أَنَّ مَحَبَّةَ النِّعْمَةِ مَحَبَّةُ لَذَّةٍ وَمُطَالَبَةُ حُظُوظِ النَّفْسِ، فَإِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ أَمْرًا مَعْلُولًا، وَالْمَحَبَّةُ نِهَايَةُ الْأَحْوَالِ الْمَعْلُولَاتِ، الَّذِينَ جَازُوا كَثِيرًا مِنْهَا، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُخَاطَبُونَ بِالْمَعْلُولِ مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ، أَوْ غَيْرُهَا: وَاللَّهِ لَوْ قَطَّعْتَنِي بِالْبِلَادِ إِرْبًا إِرْبًا مَا ازْدَدْتُ لَكَ إِلَّا حُبًّا، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْمِلُ عَلَى الْمَحَبَّةِ رُؤْيَةَ النِّعَمِ الَّتِي هِيَ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَنَحْمِلُ أَيْضًا مَعْنَى الْحَدِيثِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قُلْنَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . . . أَوْصَافهمْ مُعْرِضِينَ كَمَا نَبَّهَهَمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي» ، أَيْ إِنَّمَا تُحِبُّونَهُمْ لِأَنِّي أَحْبَبْتُهُمْ، وَأَحْبَبْتُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَنْ تُحِبُّونهُمْ فَيَكُونُ تَصْدِيقًا لِحُبِّهِمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْحَبِّ لَهُمْ إِيثَارَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ الْخَلْوَتِيُّ الْجَيْدَمُونِيُّ، قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: ح الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: ح زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ حُبُّ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَلَامَةُ بُغْضِ اللَّهِ بُغْضُ ذِكْرِ اللَّهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ عَبْدَهُ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا ذَكَرَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ عَبْدًا حَبَّبَ إِلَيْهِ ذِكْرَهُ، فَيَذْكُرُ الْعَبْدُ رَبَّهُ لِذِكْرِ رَبِّهِ لَهُ، كَمَا أَحَبَّ رَبَّهُ لِحُبِّ رَبِّهِ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذِكْرُ اللَّهِ عَبْدَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ اللَّهَ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ يَسَّرَ مِنَ الْعَبْدِ ذِكْرَهُ لِلَّهِ، إِذْ عِلَّةُ كُلِّ [ص: 23] شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةُ مَا يَصْنَعُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَحَبَّ مِنْهُ ذِكْرَهُ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " قَالَ جَبْرَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ اقْضِ لَهُ حَاجَتَهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ " حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ السِّمْنَانِيُّ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: ح عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلَى ظَاهِرَهِ، فَيَكُونُ عَلَامَةُ الْمُحِبِّ لِلَّهِ كَثْرَةَ ذِكْرِهِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَعِنْدَهُ، وَكَوْنُهُ مَعَهُ وَعِنْدَهُ ذِكْرُهُ إِيَّاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: ح أَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ قَالَ: ح الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: ح مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ [ص: 24] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا» قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ كَذَلِكَ، فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ شُهُودًا لَهُ بِالْقَلْبِ، وَذِكْرًا لَهُ بِاللِّسَانِ، وَخِدْمَةً لَهُ بِالْجَوَارِحِ، فَيَكُونُ عَلَامَةُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَنْ يُحِبَّ ذِكْرَ اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ بِلِسَانِهِ عَلَامَةُ شُهُودِهِ لَهُ بِقَلْبِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ، وَمَنْ شَهِدَهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مَعَهُ، وَمَنْ ذَكَرَهُ فَكَأَنَّهُ جَلِيسُهُ، وَهَكَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ح أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَهُ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أَيْ إِنَّمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ لِقَاءَ اللَّهِ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَ عَبْدِهِ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ صِفَةٌ لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ عِنْدَ عَامَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُثْبِتَةِ، فَالْمَحَبَّةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَكَذَلِكَ الْبُغْضُ وَالسُّخْطُ وَالْغَضَبُ وَالْمُوَالَاةُ وَالرِّيَاضُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَبْدَهُ تَبَعًا لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ، أَوْ مُوجِبَةً لَهَا. وَقَوْلُهُ: «وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ مَعْنًى دَقِيقًا أَيْ أَنَّ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ شُهُودًا لَهُ بِالْقَلْبِ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّفْسِ وَالْغَيْبَةِ عَمَّا دُونَ اللَّهِ كَمَا قَالَ حَارِثَةُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا "، أَيْ إِنَّمَا كَانَ نَظَرِي إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا بَعْدَ تَرْكِي حُظُوظَ النَّفْسِ، وَإِمَاتَةِ الشَّهَوَاتِ كُلِّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ الْهَيْثَمِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ بَحِيرِ بْنِ حَاتِمٍ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْحَضْرَمِيُّ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ قَالَ: ح سَلَّامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ " [ص: 26] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ الدُّنْيَا، فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ مِنْ بِمَعْنَى فِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا» أَيْ: مُدَّةُ كُونِي فِيهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ، فيَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الدُّنْيَا لَا مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا» مَا ذَكَرَ إِخْبَارًا مِنْهُ عَنْ بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْكَلَامِ، الْكَمَالُ فِي الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَدَوَرَانَ أَحْوَالِهَا عَلَى شَيْئَيْنِ: تَعْظِيمِ قَدْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُسْنِ مُعَامَلَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَمَا ذَكَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَجْمَعُ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الدِّينِ لِتَعْظِيمِ قَدْرِ اللَّهِ، وَأَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى إِجْلَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَهَا الطَّهَارَةُ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ جَمْعُ الْهِمَّةِ، وَإِخْلَاءُ السِّرِّ وَهُوَ النِّيَّةُ، ثُمَّ الِانْصِرَافُ عَمَّا دُونَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّوَجُّهُ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلَى نَبْذِ مَا رُبِطَ بِهِ، ثُمَّ أَوَّلُ أَذْكَارِهِ التَّكْبِيرُ، وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي تَعْظِيمِ قَدْرِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ أَوَّلُ ثَنَاءٍ فِيهِ ثَنَاءٌ لَا يَشُوبُهُ ذِكْرُ شَيْءٍ سَوَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ قِرَاءَةُ كَلَامِهِ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ مُنْتَصِبًا قَدْ زَمَّ جَوَارِحَهُ هَيْبَةً وَخُشُوعًا وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا، ثُمَّ تَحْقِيقُ مَا عَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَنْ ضَمِيرِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِعْلًا وَحَرَكَةً، وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَأَذْكَارُهُمَا تَنْزِيهُ اللَّهِ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ مَعَ كُلِّ حَرَكَةٍ تَكْبِيرٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ بِإِجْمَاعِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَجْمَلَ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» عِبَارَةً عَنْ تَعْظِيمِهِ قَدْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا حُسْنُ مُعَامَلَةِ خَلْقِ اللَّهِ، فَالنِّهَايَةُ فِيهِ أَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ وَيَرْفَعَهُمْ وَيَبْذِلَ لَهُمْ حُظُوظَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يُطَالِبَهُمْ بِحُظُوظِهَا، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَمَالِهِ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ بِقَوْلِهِ: «الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ» ، وَذَلِكَ أَنَّ الطِّيبَ مِنْ حَظِّ الرَّوْحَانِيِّينَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا غَيْرِ الطِّيبِ حَظٌّ، فَأَحَبَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطِّيبَ إِيفَاءً لِحُقُوقِهِمْ، وَحُسْنَ مُعَامَلَةٍ لَهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَطْيَبَ رِيحًا مِنْ كُلِّ طِيبٍ فِي الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ قَالَ: أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ح الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا مَسِسْتُ حَرِيرَةً، وَلَا خَزًّا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَمِمْتُ رَائِحَةً قَطُّ مِسْكًا وَلَا عَنْبَرًا أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَسْتَعْمِلِ الطِّيبَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ بَلَغَ مِنْ حُبِّهِ لِلطِّيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عُقَيْلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلِيًّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثَهَا فِي الطِّيبِ فَهَذَا حَظُّ الرَّوْحَانِيِّينَ مِنَ الْخَلْقِ، وَبَلَغَ النِّهَايَةَ فِيهِ مِنْ حُبِّهِ لَهُ، فَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِمْ حُظُوظَهُمْ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا غَيْرِ الطِّيبِ حَظٌّ، ثُمَّ عِشْرَةُ النِّسَاءِ وَمُعَامَلَتُهُنَّ أَصْعَبُ وَأَعْسَرُ، لِأَنَّهُنَّ أَضْعَفُ تَرْكِيبًا، وَأَقَلُّ عَقْلًا، وَأَرَقُّ دِينًا، وَأَغْلَبُ عَلَى أَلْبَابِ الرِّجَالِ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حُبِّبْنَ إِلَيْهِ، فَحُبِّبَ إِلَيْهِ مُعَامَلَتُهُنَّ وَعِشْرَتُهُنَّ مَعَ ضِيقِ أَخْلَاقِهِنَّ، فَعَامَلَهُنَّ أَحْسَنَ مُعَامَلَةٍ، حَتَّى جَمَعَ بَيْنَ الضَّرَايِرِ، وَهُوَ سَبَبُ الْمَشَاقَّةِ وَالتَّشَاجِّ وَتَغَيُّرِ الْأَخْلَاقِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُنَّ أَنْ تَحَابَبْنَ وَتَوَاصَلْنَ، وَبَلَغَ مِنْ رِفْقِهِ بِهِنَّ أَنْ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ، فَمَنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ النِّسَاءَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، فَمَا ظَنُّكَ فِي مُعَامَلَتِهِ الرِّجَالَ؟، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ح حَاتِمُ بْنُ عُقَيْلٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح مِنْدَلٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ النَّخَعِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي لشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا قَالَ لشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: أَلَا صَنَعْتَهُ؟ وَلَا رَأَيْتُ رُكْبَتَهُ قُدَّامَ رُكْبَةِ جَلِيسِهِ قَطُّ، وَلَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ، وَلَا صَافَحَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُصَافِحُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ، وَلَا أَصْغَى إِلَيْهِ أَحَدٌ بِرَأْسِهِ فَنَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 28] رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الْمُصْغِي هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَلَقَدْ شَمِمْتُ رِيحَ طِيبِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَمَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ وَلَا رَائِحَةً أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَرَقِهِ " وَبَلَغَ مِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ خَلْقَ اللَّهِ أَنْ أَسْلَمَ لَهُ الشَّيْطَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مَا حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ» وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَسْلَمَ» فَقِيلَ: اسْتَسْلَمَ، وَقِيلَ: أَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ، وَقِيلَ: صَارَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ اسْتَسْلَمَ، فَهَذَا غَايَةُ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ حَتَّى انْقَادَ لَهُ الْعَدُوُّ وَاسْتَسْلَمَ، وَإِنْ سَلِمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَبِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ بَعْدَ عِصْمَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَلِمَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الرِّفْقِ وَالتَّوَقِّي، وَإِنَّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْتَنْكَرُ إِسْلَامُ قَرِينٍ مِنْ بَيْنِ الْجَمِيعِ، كَمَا لَمْ يُسْتَنْكَرْ كُفْرِ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وَعِصْيَانُ اثْنَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْنِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ، فَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مِنْهُ إِيَّاهُ أَنْ أَسْلَمَ الشَّيْطَانُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قُلْنَا، وَلَمَّا كَانَ [ص: 29] أَصْلُ الْعُبُودِيَّةِ الْخَصْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ اللَّهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَانَ أَحَدُ الْخَصْلَتَيْنِ أَعْظَمَ مِنَ الْأُخْرَى، وَهِيَ تَعْظِيمُ قَدْرِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ زِيدَ فِي تَحْبِيبِهَا إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ، فَإِنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ لَا غَيْرَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «مِنْ دُنْيَاكُمْ» ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَظٌّ، وَلَا إِلَيْهَا نَظَرٌ، وَلَا لَهَا عِنْدَهُ حَظٌّ، وَأَنَّهَا بِغَيْضَةٌ رَأْسًا، وَالَّذِي حُبِّبَ إِلَيْهِ فِيهَا مَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ح أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سُورَةَ قَالَ: ح قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، وَح نَصْرٌ قَالَ: وَح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ح مَعْنٌ قَالَ: ح مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ بَيْنَ لَابَتَيْهَا» أَيْ طَرَفَيْهَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَنُحِبُّهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ هَذَا الْجَبَلِ يُحِبُّونَنَا وَنُحِبُّهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82] الْآيَةَ، أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَالْعِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُبِّ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّهُ حَبِيبُ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ، فَأَسْكَنَ حُبَّهُ مَا اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا أَمَرَ جَبْرَائِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ [ص: 30] عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ مَحَبَّتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ " وَذَكَرَ الْمَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَارْدَانِي قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: ح أَبُو مَسْعُودٍ الزَّجَّاجُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أُحِبَّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُنَادِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ: رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُلْقَى عَلَيْهِ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَيَقَعُ عَلَى الْمَاءِ، فَيَشْرَبُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَيُحِبُّهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِذَا بَغَضَ عَبْدًا، فَمِثْلُ ذَلِكَ " فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَبَّهُ، فَأَسْكَنَ مَحَبَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَسْكَنَ مَحَبَّتَهُ أَبْعَدَ الْأَشْيَاءِ مِنْ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ الْجَبَلُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْلَاغًا فِي الْمَحَبَّةِ فِيهِ لَهُ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحِجَارَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَيَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَيَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَعَ بُعْدِهَا عَنْ أَوْصَافِ اللِّينِ وَالرُّطُوبَةِ مُبَالَغَةً فِي ذِكْرِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، فَكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةَ الْجَبَلِ إِيَّاهُ مُبَالَغَةً فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، حَتَّى وَضَعَ فِي الْجَبَلِ مَحَبَّتَهُ، وَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ فِي الْجِذْعِ حَتَّى حَنَّ لَمَّا فَارَقَهُ شَوْقًا إِلَيْهِ وَمَحَبَّةً لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 حَدَّثَنَا نَصْرٌ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: ح عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ إِلَى لِزْقِ جِذْعٍ، فَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَخَطَبَ عَلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَسَّهُ فَسَكَنَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ» [ص: 31] فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ حَنَّ، أَلَا تَرَى يَقُولُ، فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، فَكَأَنَّ سُكُونَهُ حِينَ مَسَّهُ أَوِ احْتَضَنَهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَنُحِبُّهُ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَبَلَ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَقَدْ آثَرَهُ، وَمِنَ الْحَقِّ أَنْ تُؤْثِرَ مَنْ يُؤْثِرُكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَإِذَا كَانَ اتَّبَاعُهُ مُوجِبًا مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَحَبَّتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّهُ أَحِبَّاءُ اللَّهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ، فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى حُبِّهِ للَّهِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ أَقْدَرَ مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: «يُحِبُّنَا» ، وَأَخْبَرَ عَنْ مَحَبَّتِهِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: «وَنُحِبُّهُ» ، وَالْجَبَلُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَبِيبَيْنِ، اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا كَانَتِ الشَّجَرَةُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْكَلِيمَيْنِ اللَّهِ وَمُوسَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوِّ قَالَ: ح كَثِيرٌ الْعَبْدِيُّ قَالَ ح سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ، وَالْعِفَّةَ، وَالْأَمَانَةَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ» . قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصِّحَّةُ فِي إِقَامَةِ الْأَوَامِرِ، وَالْعِفَّةُ الِانْتِهَاءُ عَنِ الزَّوَاجِرِ، وَالْأَمَانَةُ ذَمُّ الْجَوَارِحِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ تَحَمُّلُ أَثْقَالِ الْخَلْقِ، وَهُوَ بِتَحَقُّقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ: ح صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ لَاهٍ» . قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» أَيْ: كُونُوا عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ الْإِجَابَةَ أَيْ بِحُضُورِ السِّرِّ، وَصِحَّةِ الْحَالِ، حَتَّى يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي الْمَلَكُوتِ، حَتَّى يُقَالَ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ يَكُونَ تَعَرَّفَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، وَقَبُولِ أَحْكَامِهِ غَيْرَ مُتَسَخِّطٍ، ثُمَّ يَدْعُوهُ، وَلَا يَكُونُ فِي سِرِّهِ غَيْرُهُ إِلَّا سِوَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] أَيْ: رَاجِعٍ إِلَيْهِ عَمَّا سِوَاهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْطَرًا إِلَيْهِ، فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ عَمَّا سِوَاهُ، لَا يَرْجِعُ إِلَّا حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَا إِلَى أَفْعَالِهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ، قَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُضْطَرُّ الَّذِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَهُ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا، فَإِذًا كَذَلِكَ أَيْقَنَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ إِجَابَةَ مَنْ دَعَاهُ، وَهَذِهِ شَرَائِطُ مَنْ يُجِيبُ دُعَاءَهُ، وَمَنْ أَتَى بِهَا فَاللَّهُ مُنْجِزٌ لَهُ وَعْدَهُ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحَسَنِ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْعُمَرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ خَيْرٌ، أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي؟ فَقَالَ: " نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ أَنْ تَقُولَ فِي صَلَاتِكَ: اللَّهُمَّ [ص: 33] لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْخَلْقُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: «لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ» مَوْضِعُ الصَّفَاءِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ «وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ» مَوْضِعُ الْكِفَايَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. «وَلَكَ الْخَلْقُ كُلُّهُ» مَوْضِعُ الْأَمْنِ بِهِ وَالسُّكُونِ. «وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» مَوْضِعُ الْإِخْلَاصِ لَهُ وَالتَّبَرِّي إِلَيْهِ. «أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ» مَوْضِعُ الْوُقُوفِ مَعَهُ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ. «وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهُ» الرُّجُوعُ إِلَى نَفْسِكَ وَأَوْصَافِهَا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّهْقَانُ، قَالَ: ح أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: ح مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُلَيْكِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّعَاءِ مِنْكُمْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَمَا يُسْأَلُ اللَّهُ شَيْئًا قَطُّ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الدُّعَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ لِعَظِيمِ الْمِنَّةِ، وَشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ أَعْطَى الْعَبْدَ مَا سُئِلَ أَوْ مَنَعَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ جَذَبَهُ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَصَرَفَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَلْجَأَهُ إِلَى كَنَفِهِ، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَاخْتَصَّهُ بِهِ، وَشَغَلَهُ بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَرَّفَ قَلْبَهُ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَشَغَلَ لِسَانَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذَمَّ جَوَارِحَهُ بِالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا تَدْرِي مَا صَنَعَ عِنْدَمَا أَعْطَى فُلَانًا، أُعْطِيَ الْمُلْكَ كُلَّهُ لِمَكَانٍ مَا، أُعْطِيَ فِي الدُّعَاءِ أَكْثَرَ، عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَا شَكَّ يُجَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، هَذِهِ سِينُ التَّوْكِيدِ، وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَسَمِ عِنْدَ [ص: 34] أَصْحَابِ الْمَعَانِي، وَقَوْلُهُ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] فِيهِ إِضْمَارٌ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُهُ لَا غَيْرُهُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، فَإِذَا دُعِيَ بِأَسْمَائِهِ وَأُثْنِيَ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُجِيبَهُ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ رُجُوعَ الْعِلَّةِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا، لَا إِلَى الْعَبْدِ، وَيَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ» ، وَكَيْفَ لَا يُجِيبُهُ؟ وَهُوَ يُحِبُّ صَوْتَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا فَتَحَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لَهُ. وَالْإِجَابَةُ نَوْعَانِ: قَدْ يَكُونُ بِالْمُرَادِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَالِاسْتِجَابَةُ لَيْسَ إِلَّا إِجَابَةٌ عَنِ الْمُرَادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: ح عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَحَبَهُ عَلَيْهِ سَحْبًا، فَإِذَا دَعَا، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ، اقْضِ لَهُ حَاجَتَهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دَعُوا عَبْدِي، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَبَّيْكَ عَبْدِي، وَسَعْدَيْكَ، لَا تَدْعُونِي بشَيْءٍ إِلَّا اسْتَجَبْتُ لَكَ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ، إِمَّا أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ مَا سَأَلْتَ، وَإِمَّا أَنْ أَدَّخِرَ لَكَ عِنْدِي أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أَدْفَعَ عَنْكَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ " [ص: 35] قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَدْعُونِي لشَيْءٍ إِلَّا اسْتَجَبْتُ لَكَ» ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ: الْإِجَابَةُ نَوْعَانِ، قَدْ يَكُونُ بِالْمُرَادِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَالِاسْتِجَابَةُ لَيْسَ إِلَّا إِجَابَةٌ عَنِ الْمُرَادِ، فَقَدْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي: أَنَّ هَذِهِ السِّينَ تَقُومُ مَقَامَ الْقَسَمِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَمَا ظَنُّكَ إِذَا أَكَّدَ بِالْقَسَمِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لِظَلَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَدْعُونِي، فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا يَدْعُونِي أَحَدٌ إِلَّا أَجَبْتُهُ، وَإِنَّهُمْ إِنْ دَعَوْنِي أَجَبْتُهُمْ بِاللَّعْنَةِ " هَذَا مَعْنَى الرَّاوِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِلَفْظِهِ، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنْهُ يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ، وَكَفَى بِهِ شَرَفًا أَنْ تَدَعُوَهُ فَيُجِيبَكَ، فَأَمَّا السُّؤَالُ فَقَدْ شَرَطَ الِاخْتِيَارَ لَكَ، كَمَا قَالَ: «إِمَّا أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ، أَوْ أَدَّخِرَ، أَوْ أَدْفَعَ عَنْكَ» ، فَحَسْبُكَ شَرَفًا أَنْ يَخْتَارَ لَكَ مَوْلَاكَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَأَنْ تُمْنَعَ مَا سَأَلْتَ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «أَوْ أَدَّخِرَ لَكَ عِنْدِي» هَاهْ لَوْ عَلِمْتَ قَوْلَهُ: «عِنْدِي» لَهَانَ عَلَيْكَ أَنْ يُسْلَخَ جِلْدُكَ وَأَنْتَ حَيٌّ، فَكَيْفَ بِمَا صَرَفَ عَنْكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَا يُسْأَلُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا» ، أَمَّا الْعَفْوُ: فَأَنْ يَخْتَصَّكَ لِنَفْسِهِ، وَيُسِرَّكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَيُعَفَّى عَلَى أَثَرِكَ، فَلَا يُفْطَنَ بِكَ، وَلَا يُعْرَفَ مَذْهَبُكَ، فَيَفُوتَ عَدُوُّكَ إِنْ أَرَادَكَ وَسَائِرُ الْخَلْقِ أَنْ يَفْتِنُوكَ، وَنَفْسُكَ أَنْ يُطَالِبَكَ بِحُظُوظِهَا. وَالْعَافِيَةُ أَنْ يَعْصِمَكَ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا يَكُونُ لَكَ إِلَى غَيْرِهِ رُجُوعٌ، وَلَا إِلَى سِوَاهُ نَظَرٌ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الدُّعَاءُ مِثْلُ قَوْلِهِ: يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا دَعَاهُ، وَوَصَفَهُ كَمَا هُوَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ إِذَا دَعَوْا فَلَمْ يَصِفُوهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ اللَّعْنَةَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَبَّيْكَ. وَقَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» ، لَا يَكُونُ دُعَاءً، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ، وَالسُّؤَالُ غَيْرُ الدُّعَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي الْعَوَّامِ قَالَ: ح يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُلَيْكَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» ، هُوَ مَا قُلْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَكَ شَرَفَ الْإِذْنِ فِي الدُّعَاءِ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ دَاعِيًا لَهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، مُثِيبًا عَلَيْهِ، ذَاكِرًا لَهُ، وَهَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَسْأَلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ يُسَهِّلُ عَلَى الدَّاعِي تَحَمُّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمُصِيبَةِ، وَيُضَاعِفُ لَهُ ثَوَابَ مَا نَزَلَ؛ لِأَنَّهُ يَحُوزُ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ وَالْبَلَاءِ، وَثَوَابَ الِافْتِقَارِ وَالِاضْطِرَابِ إِلَيْهِ، وَشَرَفَ الدُّعَاءِ لَهُ، وَيَكُونُ الدُّعَاءُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ سَبَبَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا، وَسَبَبَ الْعِصْمَةِ عَنِ الْجَزَعِ الَّذِي لَمْ يُحْرَمِ الثَّوَابَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ بِأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ، أَوْ يُخَفِّفَ عَلَيْهِ، أَوْ يُنْزِلَ مَعَهُ تَوْفِيقَ الصَّبْرِ، وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ، وَيُعْطِيَهُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: ح أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ» [ص: 37] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَقِلَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ لِلشَّهْوَةِ، وَالْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ لِلضَّرُورَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ رِزْقِي فِي حَصَاةٍ أَلُوكُهَا، حَتَّى أَمُوتَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ وِعَاءٍ إِذَا مُلِئَ شَرٌّ مِنَ الْبَطْنِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامٍ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» . وَهَذَا نِهَايَةُ مَا صَحَّ مِنَ الْأَكْلِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ» ، فَإِنَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَمْلَأُنَّ بُطُونَكُمْ؛ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ مَالِئِيهِ فَامْلَئُوا ثُلُثَهُ بِالطَّعَامِ، وَلَا تَزِيدُوا عَلَيْهِ، جَعَلَ النِّهَايَةَ ثُلُثَ الْبَطْنِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ النِّهَايَةُ ثُلُثَ الْبَطْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ السُّدُسُ، ثُمَّ يُنْقِصُ الْمُؤْمِنُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ شَيْئًا، فَيَصِيرُ سُبْعَ الْبَطْنِ، فَكَأَنَّهُ يَأْكُلُ سُبْعَ مَا يَأْكُلُ الْمُمْتَلِئُ جَوْفُهُ الَّذِي يَصِيرُ بَطْنُهُ شَرَّ وِعَاءٍ مُلِئَ، وَالْكَافِرُ يَمْلَأُهُ، فَيَكُونُ بَطْنُهُ شَرَّ وِعَاءٍ، كَمَا أَنَّهُ شَرُّ الْخَلْقِ، وَأَحْرَى أَنَّ شَهَوَاتِ الطَّعَامِ تَنْقَسِمُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا: شَهْوَةُ الطَّبْعِ، وَشَهْوَةُ النَّفْسِ، وَشَهْوَةُ الْعَيْنِ، وَشَهْوَةُ الْفَمِ، وَشَهْوَةُ الْأُذُنِ، وَشَهْوَةُ الْأَنْفِ، وَالضَّرُورَةُ سَابِعُهَا [ص: 38] . فَالطَّعَامُ يُؤْكَلُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ تَسْكِينِهِ، وَيَرَى الْإِنْسَانُ الطَّعَامَ فَيَشْتَهِيهِ فَيَأْكُلُ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَيَشُمُّ رَائِحَةَ الطَّعَامِ فَيَشْتَهِيهِ فَيَأْكُلُ، وَيَسْتَلِذُّ الطَّعَامَ فَيَأْكُلُ، وَيَسْمَعُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَيَشْتَهِيهِ فَيَأْكُلُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَوْفَى مِنَ الطَّعَامِ، وَيَشْتَهِي الْحَامِضَ، وَالْحُلْوَ، وَالْمُرَّ، وَالْمِزَّ، فَيَأْكُلُ بِشَهْوَةِ طَبْعِهِ، فَأَمَّا شَهْوَةُ النَّفْسِ فَإِنَّهَا لَا تَقِفُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ رُبَّمَا يَعَافُ الطَّعَامَ لِامْتِلَائِهِ، وَيَشْتَهِي مَا يَشْتَهِيهِ، وَيُهَيِّئُ الطَّعَامَ لِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَالَّذِي يَأْكُلُ لِلشَّهْوَةِ رُبَّمَا جَمَعَ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ كُلَّهَا، وَالْمُؤْمِنُ لَا يَأْكُلُ لِلشَّهْوَةِ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ لِلضَّرُورَةِ، فَهُوَ سُبْعُ مَا يَأْكُلُ الْكَافِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ الْخَضِرِ الْحَافِظُ قَالَ: ح سَهْلُ بْنُ شَاذَوَيْهِ قَالَ: ح عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ رَاشِدٍ، شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِيهِ حَسَدٌ، وَسُوءُ ظَنٍّ، وَطِيَرَةٌ، فَذَهَابُ حَسَدِهِ أَلَّا يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً، وَذَهَابُ سُوءِ ظَنِّهِ أَنْ لَا يَحْقِرَهُ بِقَوْلٍ يَقُولُهُ، وَذَهَابُ طِيَرَتِهِ أَنْ يَمْضِيَ لِحَاجَتِهِ وَلَا تَرُدَّهُ الطِّيَرَةُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُؤْمِنُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَمَقَامَاتِهِمْ، وَدَرَجَاتِهِمْ، فَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ فِي إِيمَانِهِ، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُمُ الْعَالِي، وَمِنْهُمُ الدَّانِي، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِيهِ كَذَا وَكَذَا عَمَّ الْجَمِيعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْخَبَرُ تَحْمِلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِحَالِهِ، فَالَّذِي وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَالَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بِقَوْلِهِ: ذَهَابُ حَسَدِهِ أَلَّا يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً، فَحَسَدُ الَّذِي يَبْغِي صَاحِبُهُ أَخَاهُ غَائِلَةً هَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفْسِهِ، فَيُجَاهِدُهَا بِأَنْ لَا يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً، لِأَنَّ صِفَةَ الْحَسَدِ أَنْ يَغْتَالَ الْحَاسِدُ مَحْسُودَهُ، فَكَأَنَّ نَفْسَهُ تُطَالِبُهُ بِأَنْ يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً، فَهُوَ مُجَاهِدُهَا، وَكَذَلِكَ إِذْ سَاءَ ظَنُّهُ بِأَخِيهِ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تُطَالِبُهُ بِأَنْ يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً، فَهُوَ مُجَاهِدُهَا، وَالطِّيَرَةُ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي حَاجَاتِهِ، فَهُوَ يُجَاهِدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 نَفْسَهُ، وَلَا تُثْنِيهِ الطِّيَرَةُ عَنْ وَجْهِهِ بَلْ يَمْضِي فِيهِ. هَذِهِ صِفَةُ أَوْسَاطِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ عَلَتْ رُتْبَتُهُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَجَلَّتْ صِفَتُهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَذْمُومَةً، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَسْبَابِ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَلَا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَسَدُهُ فِي فَضِيلَةٍ يَرَاهَا فِي أَخِيهِ وَخَلَّةٍ مِنْ خِلَالِ الْخَيْرِ يَجِدُهَا فِيهِ فَيَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ كَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ح نَصْرُ بْنُ فَتْحٍ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: ح سُفْيَانُ قَالَ: ح الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ " فَيُسَمَّى هَذَا حَسَدًا، فَهَذَا حَسَدُ مَنْ عَلَتْ رُتْبَتُهُ فِي الدِّينِ عَنْ دَرَجَةِ أُولَئِكَ، وَسُوءُ ظَنِّهِ يَكُونُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ يَخَافُ عَلَيْهَا مَعَ حُسْنِ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] ، أَيْ يَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْبِرِّ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِسُوءِ ظُنُونِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ح خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَا: ح ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: ح سُفْيَانُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْذَانِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] هُمُ الَّذِينَ [ص: 40] يَشْرَبُونَ الْخُمُورَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» وَأَمَّا الطِّيَرَةُ: فَإِنَّهَا تَكُونُ لَهُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ تَطَيَّرُوا أَنَّهَا لَهُمْ فِتْنَةٌ، وَسَبَبُ الِاشْتِغَالِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَرَوْنَ أَنَّهَا سَبَبُ الْمَقْتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: إِذَا رَأَيْتَ الْغِنَاءَ مُقْبِلًا فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، فَهَذِهِ طِيَرَةُ هَؤُلَاءِ، وَسُوءُ ظَنِّهِمْ، وَحَسَدُهُمْ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَانْتَخَبَهُمْ لِوِلَايَتِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ، كُلُّ خِصَالِهِمْ مَحْمُودَةٌ، وَجَمِيعُ حَرَكَاتِهِمْ عَلَى مَا يَجِبُ، وَعَامَّةُ صِفَاتِهِمْ صِفَاتُ الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَتْ غَلَبَةُ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّينَ لَا تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ الْبَاغَنْدِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: ح سُلَيْمَانُ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْدَالَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ، وَلَكِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَرَحْمَةً لِلْمُسْلِمِينَ» [ص: 41] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا سُمُّوا أَبْدَالًا؛ لِأَنَّهُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْعَذَابَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِعِصْيَانِهِمْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَانًا فِي أُمَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، ثُمَّ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي» ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، إِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى كَذَلِكَ أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى رَحْمَتِهِ جَعَلَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَحِينٍ بَدَلًا مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَنْبَغِي بِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَيَدْفَعُ بِهِمْ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. قَوْلُهُ: «لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ» يَعْنِي بِالْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّهُمْ عَسَى أَتَوْا بِأَكْثَرَ صَلَاةً، وَصِيَامًا، وَجِهَادًا، وَنَفَقَةً مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ دَخَلُوهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَفَرَّدُوا بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّهُ لَمْ يَفْضُلْكُمْ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنْ بشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ» . وَقَوْلُهُ: «سَخَاوَةُ الْأَنْفُسِ» أَيْ بِسَخَاوَتِهَا بِفَوَاتِ مَا دُونَ اللَّهِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ مِنَ السُّكُونِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] ، قِيلَ: سَلِيمٌ عَمَّا دُونَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: «وَرَحْمَةً لِلْمُسْلِمِينَ» بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فِي تَحَمُّلِ أَثْقَالِهِمْ، وَتَخْفِيفِ مُؤَنِهِمْ عَنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ الْهَيْثَمِ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ قَالَ: ح رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: ح شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلَا تُنَفِّرُوا» قَالَ الشَّيْخُ: مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا» إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَيِ: اصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَرُدُّوهُمْ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرُدُّوهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْيُسْرَ كُلَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وَقَالَ {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] . «وَلَا تُعَسِّرُوا» أَيْ: لَا تَرُدُّوهُمْ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُمْ، وَقَضَائِهَا مِنْ عِنْدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى مِثْلِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ يَتَجَاذَبُونَ شَيْئًا بَيْنَهُمْ كُلٌّ يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ، فَيَعْسَرُ عَلَيْكُمُ الْوُصُولُ إِلَى مَا يَتَجَاذَبُونَهُ بَيْنَكُمْ. وَقَوْلُهُ: «سَكِّنُوا» تَصْدِيقًا لِمَا قُلْنَا بِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، فَلَا يَزَالُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فِي اضْطِرَابٍ فِي نِيلِ مَا يَرْجُوهُ، وَكَذَلِكَ مَا يُرِيدُهُ حَتَّى يَرُدَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُنَاكَ يَسْكُنُ اضْطِرَابُهُ ضَرُورَةً وَاخْتِيَارًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا تُنَفِّرُوا» أَيْ: لَا تُفَرِّقُوهُمْ فِي دَلَالَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَرَدِّهِمْ إِلَى مَنْ سَوَاهُ، فَيَتَفَرَّقُ بِهِمُ الْمَذَاهِبُ، وَيَخْتَلِفُ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكُ وَالطُّرُقُ فِي طَلَبِ مَا يُرِيدُونَهُ فَالتَّنَافُرُ فُرْقَةٌ، وَالسُّكُونُ جَمْعٌ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَسِّرُوا، أَيْ: رُدُّوهُمْ إِلَى الْيُسْرِ [ص: 43] ، وَلَا تُعَسِّرُوا، أَيْ: لَا تَرُدُّوهُمْ إِلَى الْعُسْرِ، وَسَكِّنُوا: أَيِ اجْمَعُوهُمْ، وَلَا تُنَفِّرُوا أَيْ: لَا تُفَرِّقُوهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الْآخِرَةُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ» ، هَذَا فِيمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ أَرَادَ بِهِمَا. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا اخْتَارَ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: اخْتَارَ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ إِذَا اخْتَارَ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدِ اخْتَارَ الْيُسْرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْيُسْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْبُجَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ح هِشَامٌ، وَهَمَّامٌ قَالَا: ح يَحْيَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ، لَا يُشَكُّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ " وَرُوِيَ: «دَعْوَةُ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ» ، وَالْوَلَدُ مُخْلِصٌ فِي دَعَاءِ وَالِدَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دَعْوَةَ الصِّبْيَانِ لِوَالِدِيهِمْ» ؛ لِطَهَارَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَطْهَرَ مِنْهُمَا، وَأَقَلَّهُمْ ذَنْبًا، جِئْنَا إِلَى الْحَدِيثِ [ص: 44] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّبَرُّئِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُسْتَوْفِزٌ مُضْطَرِبُ الْحَالِ، قَلَّ مَا يُسَاكِنُ شَيْئًا، أَوْ يُوَافِقُ حَالًا؛ لِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ فِي الْمَكَانِ مُخْتَلِفُ الْعِشْرَةِ مِنَ الْأَحْزَانِ، عَلَى وَجَلٍ مِنْ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ إِلَى الرَّحْمَنِ، قَدْرُ مَا انْفَصَلَ سِرُّهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ اتَّصَلَ سِرُّهُ مِنَ الْخِيَارِ، صَفَا سِرُّهُ، فَأَسْرَعَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ إِذَا دَعَاهُ، وَالْمَظْلُومُ مُضْطَرٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ، وَالْمُضْطَرُّ مُنْقَطِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَالِدُ مُشْفِقٌ عَلَى وَلَدِهِ، مُؤْثِرٌ لِحَظِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، فَصَحَّتْ شَفَقَتُهُ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ إِمَامُ جَامِعِ سَرَخْسَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَاءٍ السَّرَخْسِيَّانِ قَالَا: ح أَبُو عُبَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، ح أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: ح يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ قَالَ: ح عُمَرُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي فِي مِثْلِ أَدَاءِ فَرِيضَتِي، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ رِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، إِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «كُنْتُ رِجْلَهُ وَيَدَهُ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَيْ: كُنْتُ حَافِظًا لَهُ أَعْصِمُهُ، وَأَعْصِمُ جَوَارِحَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلَّا فِي نَجَاتِي؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ [ص: 45] ، وَقَوْلُهُ: «مَا تَرَدَّدْتُ» ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ عِبَارَةً عَنِ الْفِعْلِ بِالصِّفَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَا رَدَدْتُ شَيْئًا مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بِعَبْدِي كَمَا رَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَرِهَ الْمَوْتَ رَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَحْوَالًا مُخْتَلِفَةً، حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مِمَّا يُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ عَجْزٍ يَجِدُهُ، وَضَعْفٍ يَرَاهُ فِي نَفْسِهِ، وَأَسْبَابٍ تَحْدُثُ لَهُ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ حَتَّى يَسْأَمَ لِذَلِكَ حَيَاتَهُ، فَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْعَى إِلَى قَبْرِ قَرَابَتِهِ، أَوْ ذِي رَحِمِهِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ، وَلَا أُعَايِنُ مَا أُعَايِنُ " ح بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ النَّخَعِيُّ، قَالَ: ح أَبُو الْغُبَيْشِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَبْلُغُ مِنْ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ مَا يَسْأَلُ اللَّهَ ذَلِكَ» ، حَتَّى وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: مَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا أَنْ يَخْضِبَ هَذِهِ مِنْ هَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِهِ، فَهَذَا تَمَنِّيهِ لِلْمَوْتِ لِاخْتِلَافِ رَعِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا هُمْ لَهُ فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، مَرَّةً يُقَاتِلُ النَّاكِثِينَ، وَمَرَّةً يُقَاتِلُ الْقَاسِطِينَ، وَمَرَّةً يُقَاتِلُ الْمَارِقِينَ مِنَ الْجَمَلِ إِلَى صِفِّينَ، وَمِنْهَا إِلَى النَّهْرِ، ثُمَّ مُخَالَفَةِ رَعِيَّتِهِ لَهُ، وَكُلُّ هَذَا يُرَدِّدُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ مَا ذَكَرَ، وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْحُبِّ لِلِقَائِهِ مِمَّا يَشْتَاقُ إِلَى الْمَوْتِ فَضْلًا عَنْ زَوَالِ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُؤُهُ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَسَاءَتَهُ، فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهَةَ الْمَوْتِ بِمَا يُرَدِّدُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ، وَإِلَيْهِ مُشْتَاقٌ وَتَرَدَّدَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى رَدَّدَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُمْ تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ، وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ، وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ، فَيَكُونُ تَرَدَّدَ بِمَعْنَى رَدَّدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي قَالَ: ح أَبُو سَعِيدٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: ح مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْمٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا أُلْقُوا فِيهَا أَمَاتَهُمْ، حَتَّى يَأْذَنَ بِإِخْرَاجِهِمْ، فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَاتَهُمْ عِبَارَةً عَنْ تَغْيِيبِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آلَامِهَا فِيهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْتًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ النَّوْمَ قَدْ يُغَيِّبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآلَامِ وَالْمَلَاذِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفَاةً، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] ، فَهِيَ وَفَاةٌ وَلَيْسَ بِمَوْتٍ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ خُرُوجُ الرُّوحِ عَنِ الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ الصَّعْقَةُ قَدْ عَبَّرَ اللَّهُ عَنِ الْمَوْتِ بِهَا، فَقَالَ: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} : وَأَخْبَرَ عَنْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ خَرَّ صَعِقًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْتًا عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا غَيَّبَ عَنْ أَحْوَالِ الشَّاهِدِ، وَعَنِ الْمَلَاذِ، وَالْآلَامِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَوْتًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَاتَهُمْ أَيْ: غَيَّبَهُمْ عَنِ الْآلَامِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ بِلَطِيفَةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِمْ، كَمَا غَيَّبَ النِّسْوَةَ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِشَاهِدٍ ظَهَرَ لَهُنَّ، فَغِبْنَ فِيهِ عَنْ آلَامِهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْتًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ يُمِيتُهُمْ فِيهَا بِخُرُوجِ أَرْوَاحِهِمْ، فَيَكُونُوا أَمْوَاتًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مَعَ قَوْلِهِ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] : لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَحْيَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسُوا بِأَمْوَاتٍ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالْمَوْتِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا فِيهَا مَوْتَى، فَهُمْ أَحْيَاءٌ. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً مَعَ قَوْلِهِ: {لَا يَحْيَى} [طه: 74] جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَحِّدُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا مَعَ قَوْلِهِ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] : وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] أَيْ: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ، وَلَا يَحْيَى فَيَنْتَفِعُ بِحَيَاتِهِ [ص: 47] . فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى إِدْخَالِهِمُ النَّارَ، وَهُمْ فِيهَا غَيْرُ مُتَأَلِّمِينَ؟ قِيلَ: أَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهَا، وَيَكُونُ صَرَفَ نِعَمَ الْجَنَّةِ عَنْهُمْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ فِيهَا عُقُوبَةً لَهُمْ كَالْمَحْبُوسِينَ فِي السُّجُونِ، فَإِنَّ الْحَبْسَ عُقُوبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَلٌّ، وَلَا قَيْدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُتَأَلِّمِينَ غَيْرَ أَنَّ آلَامَهُمْ تَكُونُ أَخَفَّ مِنْ آلَامِ الْمُغَيَّبِينَ، وَهُمْ مَوْتَى أَخَفُّ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ عَذَابَهُمْ إِذَا بُعِثُوا يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهُمْ مَوْتَى، وَهُمْ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ مُعَذَّبُونَ، فَكَذَلِكَ الْمُوَحِّدُونَ يُمِيتُهُمْ فِي النَّارِ، وَيَكُونُونَ مُعَذَّبِينَ مُتَأَلِّمِينَ، وَهُمْ مَوْتَى، وَيَكُونُ عَذَابُهُمْ، وَآلَامُهُمْ أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 12] ، وَالْأَشْقَى: هُوَ الَّذِي بَلَغَتْ شَقَاوَتُهُ نِهَايَتَهَا، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْعَدُ أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي يُخَلَّدُ فِيهَا، فَأَمَّا الْمُوَحِّدُ وَإِنْ شَقِيَ بِدُخُولِهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَسْعَدُ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا، فَهُوَ وَإِنْ شَقِيَ، فَلَيْسَ بِالْأَشْقَى، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] فِي الْكُفَّارِ خَرَجَ الْمُوَحِّدُونَ مِنْهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتُوا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خِلَافًا لِلْآيَةِ. وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا لَيْسُوا بِصِفَةِ الْأَحْيَاءِ، وَلَا الْمَوْتَى لَمْ يَبْعُدْ، فَإِنَّ الْجَمَادَ لَا يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ، وَلَا بِالْمَوْتِ، وَهُمْ وَإِنَّ لَمْ يَكُونُوا بِأَحْيَاءَ، وَلَا مَوْتَى بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمُ الْآلَامَ الشَّدِيدَةَ، وَيَكُونُونَ مُعَذَّبِينَ أَبَدَ الْأَبَدِ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَمَادِ الْأَلَمَ، وَهُوَ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُ الْمِنْبَرَ مِنْ حَنِينِ النَّاقَةِ، حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ، وَإِنَّمَا حَنَّ حُزْنًا عَلَى مُفَارَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحُزْنُ أَلَمٌ. وَخَلَقَ اللَّهُ الْكَلَامَ فِي الْجَمَادِ، بِقَوْلِهِ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَإِذَا جَازَ هَذَا فِيمَا لَا يُوصَفُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بِالْحَيَاةِ، جَازَ أَنْ يَخْلُقَ فِي أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمُ الْكُفَّارُ الْآلَامَ، وَالْعَذَابَ أَبَدَ الْأَبَدِ، وَلَيْسُوا بِأَحْيَاءَ، وَلَا مَوْتَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَعَادَةٌ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ، وَشَقَاوَةٌ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ، فَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَشَقَاوَةُ ابْنِ آدَمَ: الْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا دُونَ سَعَادَةِ الدِّينِ، وَالسَّعَادَةُ سَعَادَتَانِ: مُطْلَقَةٌ، وَمُقَيَّدَةٌ، فَالْمُطْلَقَةُ: السَّعَادَةُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْمُقَيَّدَةُ: فِيمَا قُيِّدَتْ بِهِ، وَهَذِهِ سَعَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ، لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مَعْدُودَةً، فَكَانَ مَنْ رُزِقَ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَمَسْكَنًا وَاسِعَةً، وَمَرْكَبًا صَالِحًا، طَابَ عَيْشُهُ، وَيَهْنَأُ بِبَقَائِهِ، وَثُمَّ رَفَعَهُ بِهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ تَرَاخِي الْأَبْدَانِ، وَمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ السَّعِيدُ فِي الدِّينِ، وَمِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيِ الشَّقَاوَةُ، فَعَلَى ضِدِّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشَّقَاوَةِ، وَمَعْنَى الشَّقَاوَةِ هَهُنَا: التَّعَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} قِيلَ: فَتَتْعَبَ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْمَرْأَةِ السُّوءِ، وَالْمَسْكَنِ السُّوءِ، وَالْمَرْكَبِ السُّوءِ تَعِبَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ السُّعَدَاءِ مُبْتَلِينَ بِهَذَا التَّعَبِ، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ مُرَادُونَ بِالْبَلَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» ، وَقَدْ كَانَ لِنُوحٍ وَلُوطٍ [ص: 49] صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا امْرَأَتَا سُوءٍ، فَهُمَا فِي غَايَةِ الشَّقَاوَةِ، وَلُوطٌ وَنُوحٌ فِي غَايَةِ السَّعَادَةِ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَسْعَدُ أَهْلِ زَمَانِهَا، وَفِرْعَوْنُ أَشْقَى الْخَلْقِ، وَقَدْ كَانَ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَرِيشٌ يَأْوِي إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلِيَاءُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ السَّعَادَةَ الْمُقَيَّدَةَ الَّتِي هِيَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا دُونَ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَعُمُّ الدِّينَ وَالدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْمَعْرُوفُ بِالْعُمَانِيِّ قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْقُشَيْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْأَزْهَرِ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: ح سُكَيْنُ بْنُ السَّرَّاجِ قَالَ: ح الْمُغِيرَةُ بْنُ السُّوَيْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللِّحْيَةُ للِرَّجُلٍ زِينَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُقْسِمُ فَتَقُولُ: لَا وَالَّذِي زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى، وَالزِّينَةُ إِذَا كَانَتْ تَامَّةً وَافِرَةً رُبَّمَا أَعْجَبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَالْعُجْبُ هَلَاكٌ، وَالْهَلَاكُ شَقَاءٌ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ» قَالَ: فَمَا شَرُّ مَا أُعْطِيَ؟ قَالَ: «قَلْبُ سُوءٍ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ أَعْجَبَتْهُ» [ص: 50] حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيُّ بِالرُّمَيِّ قَالَ: ح أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ أَبُو شَيْخٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: ح زُهَيْرٌ قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُزَنِيِّ، أَوِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْمُسْلِمُ، فَذَكَرَهُ. . . فَإِذَا كَانَتِ الزِّينَةُ سَبَبَ إِعْجَابِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَإِعْجَابُهُ بِهَا مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَالْهَلَاكُ شَقَاءٌ، كَانَتِ الْخِفَّةُ فِي الزِّينَةِ سَبَبَ ازْدِرَائِهِ بِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ فَوْزًا وَنَجَاةً، وَهُوَ السَّعَادَةُ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ فِي التَّوَسُّطِ فِي التَّزَيُّنِ، وَتَرْكُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا مِنْ لِبَاسٍ، وَدَارٍ، وَمَرْكَبٍ، وَكَلَامٍ، وَمَشْيٍ، وَفِي جَمِيعِ مَا يَتَزَيَّنُ الْمَرْءُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَخْبَارٌ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ حُلَّةً، فَاخْتَالَ فِيهَا فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو جَعْفَرٍ الْجَمَّالُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رُزَيْقٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَعْجَمِ بِصَنْعَاءَ قَالَ: ح أَبُو سَالِمِ بْنُ جُعْشُمٍ، ح ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ حُلَّةً فَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَاخْتَالَ فِيهَا فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [ص: 51] وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اخْشَوْشَنُوا، وَاخْشَوْشَبُوا، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا، فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: «وَجَدْتُهُ عَجْرًا» وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنْهَى عُمَّالَهُ عَنْ رُكُوبِ الْبَرَاذِينَ لِكَرَاهِيَّتِهَا، وَلِينِ مُتُونِهَا، وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ. كُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزِّينَةِ، وَكُرِهَ لِلرِّجَالِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ مِنَ الطِّيبِ، فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ فَهُوَ شَقَاءٌ، وَالسَّعَادَةُ بِخِلَافِهِ، فَفِي خِفَّةِ اللِّحْيَةِ خِفَّةُ الزِّينَةِ، وَفِي خِفَّةِ الزِّينَةِ السَّعَادَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي أَصْلٍ آخَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: «مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ مِنَ الطِّيبِ» ، فَإِذًا كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ» مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَسْبَابِ بُعْدَ الْمَرْءِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ سَعَادَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 حَدَّثَنَا عِصْمَةُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ إِدْرِيسَ الْبِيكَنْدِيُّ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبِيكَنْدِيُّ قَالَ: ح سُوَيْدٌ، ح بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَطْسَةُ عِنْدَ الْحَدِيثِ شَاهِدُ عَدْلٍ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَاءٍ، وَأَبُو الْفَضْلِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيَّانِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ أَبُو لَبِيدٍ قَالَ: ح سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيُّ قَالَ: ح بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّاهِدُ الْحَاضِرُ، وَالشُّهُودُ الْحُضُورُ، وَالْكَذِبُ ضِدُّ الصِّدْقِ [ص: 52] . وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَكَ يَتَبَاعَدُ عَنِ الْعَبْدِ عِنْدَ الْكَذِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ مُوسَى قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ هَارُونَ الْغَسَّانَيِّ: حَدَّثَكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ» قَالَ يَحْيَى: فَأَقَرَّ بِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ هَارُونَ، فَقَالَ: نَعَمْ فَإِذَا غَابَ الْمَلَكُ عِنْدَ الْكَذِبِ حَضَرَ عِنْدَ الصِّدْقِ، فَشَهِدَ، وَالْمَلَكُ حَبِيبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ كَرِيمٌ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] أَيْ كِرَامًا عَلَى اللَّهِ، كَاتِبِينَ لِأَعْمَالِكُمْ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] ، وَقَالَ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، فَهَذِهِ صِفَاتُ مَنْ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، فَإِذًا فَالْمَلَكُ حَبِيبُ اللَّهِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبٌ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَرَاءُ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: ح الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: ح رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» [ص: 53] فَإِذَا شَهِدَ الْعُطَاسُ الَّذِي هُوَ حَبِيبُ اللَّهِ عِنْدَ الْحَدِيثِ صَدَّقَهُ، فَكَانَ شَاهِدًا لِأَنَّهُ حَضَرَ وَلَمْ يَغِبْ، وَعَدْلًا لِأَنَّهُ حَبِيبُ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا دَلَّ حُضُورُ أَحَدِ الْحَبِيبَيْنِ وَهُوَ الْمَلَكُ عِنْدَ الْحَدِيثِ الصِّدْقِ دَلَّ حُضُورُ الْحَبِيبِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ الْعُطَاسُ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَلَى صَدْقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِشْرَوَيْةَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: ح أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: ح مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسَبُ الرَّجُلِ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَسَبُ فِي الْآبَاءِ، وَالشَّرَفُ فِي الْوِلَادَةِ، وَأَشْرَفُ الْأَحْسَابِ حَسَبُ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ إِنَّمَا شُرِّفُوا بِالدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ خِيَارَ النَّاسِ وَأَفْضَلَهُمْ فِي الدِّينِ وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانُوا مِنَ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَسَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ غَيْرِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسَيِّدَةُ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ خِيَارُ الْخَلْقِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَفْضَلُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ صَارَ لِلْعَرَبِ شَرَفًا بِذَلِكَ. أَمَا أَوَائِلُهُمْ فَبِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا لِكَوْنِهِمْ وَلَدُوهُمْ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فِلَأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ هَؤُلَاءِ الْخِيَارِ، فَصَحَّ أَنَّ عِلَّةَ الشَّرَفِ الدِّينُ، فَكَانَ الْحَسَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ الشَّرَفُ بِالْوِلَادَةِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِينٌ، فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ، وَأَخْرَجَ الْأَخْيَارَ وَالْأَفَاضِلَ الَّذِينَ هُمْ وَدَائِعُهُ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ سَقَطَ شَرَفُ الْمَاضِينَ مِنْهُمْ، إِذْ كَانَ شَرَفُهُمْ بِهِمْ، فَصَارَ الشَّرَفُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِشَرَفِ الْعَرَبِ، وَمَهْدِ الدِّينِ، فَصَارَ الِانْتِمَاءُ وَالِافْتِخَارُ [ص: 54] الَّذِي كَانَ بِالْآبَاءِ بِالدِّينِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَيْفَ قَالَ فِيمَنِ انْتَمَى، وَافْتَخَرَ بِالْآبَاءِ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح أَبُو ثَابِتٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، ح هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» نَبَّهَ عَنْ رِجَالٍ فَخْرُهُمْ بِأَقْوَامٍ، وَإِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ، فَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّرَفَ بِأُولَئِكَ قَدْ سَقَطَ، ثُمَّ كَانَتِ الْعَرَبُ قَبَائِلَ، فَكُلٌّ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى أَحَدِهَا، فَصَارَ نُعُوتُ الْمُؤْمِنِينَ بَدَلَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَمَرَاتِبُ الدِّينِ بَدَلَ شُعُوبِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] فَالِانْتِمَاءُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالشَّرَفُ بِهَذِهِ أنْسَبُ دُونَ الْآبَاءِ وَالسَّلَفِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ» ، ظَاهِرُ الْمَرْوَةِ عِنْدَ النَّاسِ حُسْنُ الزِّيِّ، وَجَمَالُ الْحَالِ، وَالتَّوَسُّعُ فِي الطَّعَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَهَذِهِ أَحْوَالُ مَنِ اتَّسَعَ فِي الْمَالِ فَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْوَةَ هُوَ الْعَقْلُ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَاقِلُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، وَمُقَدَّرًا لَهُ، فَإِذَا كَمُلَ عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ مُرُوءَتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرُوءَةَ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمَرْءِ، وَالْمَرْءُ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا شُرِّفَ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ [ص: 55] بِالْعَقْلِ، وَكَمَالُ الْعَقْلِ التَّنَزُّهُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وَكَفُّ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا الرَّدِيَّةِ، وَطِبَاعِهَا الدَّنِيَّةِ، وَوَضْعُ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، وَإِيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَالْعَاقِلُ يُوَفِّي حَقَّ الرُّبُوبِيَّةِ لِرَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، وَيُوَفِّي حَقَّ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَيُوَفِّي حُقُوقَ اللَّهِ مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ، وَيُوَفِّي حُقُوقَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ لَهَا عَلَيْهِ حَقًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» . فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي يَجْمَعُهَا الْعَقْلُ فَقَدْ تَمَّتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ إِنْسَانِيَّتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، بَلْ هُوَ شَرُّ الْحَيَوَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيُّ بِالرِّيِّ قَالَ: ح أَبُو يَحْيَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ: ح مُوسَى يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ النَّخَعِيَّ قَالَ: ح ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَامَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا نِفَاقُ الْعَمَلِ لَا نِفَاقُ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَ شَيْئًا وَأَضْمَرَ خِلَافَهُ، أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِلَّهِ، وَأَضْمَرَ عِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَالْمُرَائِي بِعَمَلِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَضْمَرَ ثَنَاءَ النَّاسِ وَعَرَضَ الدُّنْيَا، وَالْقَارِئُ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ اللَّهَ بِعَمَلِهِ وَوَجْهِهِ لَا غَيْرَ، وَأَضْمَرَ حَظَّ نَفْسِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيَنْظُرُ لِعَمَلِهِ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ، فَلَأَنْ كَانَ بَاطِنُهُ خِلَافَ ظَاهِرَهِ صَارَ مُنَافِقًا إِذِ الْمُنَافِقُ بِإِيمَانِهِ قَصَدَ حَظَّ نَفْسِهِ، وَالْقَارِئُ بِعَمَلِهِ قَصَدَ حَظَّ نَفْسِهِ فَاسْتَوَيَا فِي الْقَصْدِ، وَمُخَالَفَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَاسْتَوَيَا فِي الْإِثْمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَصْدِ وَالصِّفَةِ [ص: 56] ، فَالْمُنَافِقُ رَاءَى الْإِمَامَ وَالسُّلْطَانَ وَعَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَائِي رَاءَى الزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ، وَأَرْبَابَ الدِّينِ، وَالْقَارِئُ رَاءَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَصَالَ بِعَمَلِهِ، وَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، وَتَمَنَّى عَلَى رَبِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ح أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ قَالَ: ح زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: ح سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ فَرَافِصَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ يَغْلِبُ الْقَدَرَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ كُفْرَ النِّعْمَةِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ لَا كُفْرَ الْجُحُودِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ، وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَزِيُّ الْأَصْفِيَاءِ، وَشِعَارُ الصَّالِحِينَ، وَزِينَةُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ ". وَرُوِيَ: «أَنَّ الْفَقْرَ أَزْيَنُ بِالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعَوَارِ الْجَيِّدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مُؤْلِمٌ، شَدِيدُ التَّحَمُّلِ، فَقَالَ: «كَادَ» ، يَكْفُرُ نِعْمَةَ الْفَقْرِ لِثِقَلِ تَحَمُّلِهَا عَلَى النُّفُوسِ. وَقَوْلُهُ: «كَادَ الْحَسَدُ يَغْلِبُ الْقَدَرَ» أَيْ: كَادَ الْحَسَدُ فِي قَلْبِ الْحَاسِدِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَدَرِ، فَلَا يَرَى أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي حَسَدَهُ عَلَيْهَا إِنَّمَا صَارَتْ لَهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، فَلَا تَزُولُ عَنْهُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَغَرَضُ الْحَاسِدِ وَمُرَادُهُ وَشَهْوَتُهُ زَوَالُ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ [ص: 57] . أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِيهِ حَسَدٌ» ، ثُمَّ قَالَ: «فَذَهَابُ حَسَدِهِ أَنْ لَا يَبْغِيَ أَخَاهُ غَائِلَةً» ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَاسِدَ يَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمَحْسُودِ، وَلَوْ تَحَقَّقَ مَعْرِفَتَهُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْسُدْهُ، وَلَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِسْلَامِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِهِ، وَرَضِيَ بِقَدَرِهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْفَقْرَ مِنَ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْفَقْرُ الْأَعْظَمُ، فَإِنَّ الْجَهْلَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ بَرْصِيصَاءَ ظَنَّ لِجَهْلِهِ أَنَّ سُجُودَهُ لِلْمَخْلُوقِ يُنَجِيهِ، فَكَفَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمَقْبُرِيُّ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: ح سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّهُ سَمِعَ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْهَيْثَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُعْدَلُ الْكُفْرُ بِالدَّيْنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ إِذَا جَحَدَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ وَأَنْكَرَهُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ جُحُودُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِنْكَارُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ جُحُودُ حَقِّ الْعِبَادِ، فَعَادَلَ جُحُودُ حَقِّ الْعِبَادِ جُحُودَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ إِتْلَافُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْهَا جُحُودًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُحُودِ الْإِتْلَافُ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَتْلَفَ، فَكَأَنَّهُ جَحَدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ إِذَا تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ ضَمِنَ الدَّيْنَ ضَامِنٌ [ص: 58] ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْحَدِ الدَّيْنَ، وَلَمْ يُرِدْ إِتْلَافَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَادِلُ الْكُفْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 مَا حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ح عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ح جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَتْ مَيْمُونَةُ تَدَّانُ فَتُكْثِرُ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهَا فِي ذَلِكَ وَلَامُوهَا وَوَجَدُوا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا أَتْرُكُ الدَّيْنَ وَقَدْ سَمِعْتُ خَلِيلِي وَحِبِّي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يَقُولُ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدَّانُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ، إِلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قَالَ سَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَامِدٍ التِّرْمِذِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ خَضْرَوَيْهِ، وَقَدِ احْتُضِرَ، فَتَقَدَّمَ بَعْضُ تَلَامِيذِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَهُمَا تَذْرِفَانِ بِالدُّمُوعِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ بَابٌ كُنْتُ أَدُقُّهُ مُنْذُ خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً الْآنَ يُفْتَحُ لِي، فَلَا أَدْرِي أَبْشِرُ بِالسَّعَادَةِ، أَوْ بِالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ فَإِذَا غُرَمَاؤُهُ جُلُوسٌ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ جَعَلْتَ الرَّهَايِنَ تَوْثِقَةً لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا رَهْنٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَخْذَ الرَّهْنِ مِنْهُمْ، فَأَدِّ إِلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ، فَإِذَا دَاقٌّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَفَتَحُوا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى بَغْلَةٍ، وَمَعَهُ جِرَابٌ، فَنَزَلَ فَدَخَلَ، وَقَالَ: أَيْنَ غُرَمَاءُ أَحْمَدَ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ، فَأَدَّى إِلَيْنَا مَا كَانَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ، وَمَاتَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ دِينَارٍ فَمَنِ ادَّانَ عَلَى اللَّهِ أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ تَرَكَ وَفَاءً بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ جَاحِدٍ وَلَا مُطَوِّلٍ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حَدَّثَنَا عِصْمَةُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ح قَيْسُ بْنُ رَبِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُزَيِّنُ صَوْتَ الْمُؤْمِنِ، لِقَوْلِهِ حِينَ سُئِلَ: مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ إِذَا قَرَأَ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» . وَبِرِوَايَةٍ أُخْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: ح صَيَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ح يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» [ص: 60] فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنَ الْخَاشِي زِينَةٌ لِصَوْتِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: زَيِّنُوا قِرَاءَتَكُمْ بِالْخَشْيَةِ لِلَّهِ، وَحَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى خَشْيَةٍ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ نَصًّا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: ح يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا، وَزَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْفَقِيهُ الْحَارِثِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: ح أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ تَمَّامِ بْنِ عِيسَى قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَمِّيُّ قَالَ: ح يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّوَدُّدُ: الْإِتْيَانُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي يَوَدُّكَ النَّاسُ وَيُحِبُّونَكَ مِنْ أَجَلِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» [ص: 61] . فَمَنْ زَهِدَ فِيمَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَبَذَلَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ، وَتَحَمَّلَ أَثْقَالَهُمْ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ حِمْلَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَكُفَّ أَذَاهُمْ عَنْهُمْ وَتَحَمَّلَ أَذَاهُمْ، وَأَنْصَفَهُمْ وَلَمْ يُنْصِفْ عَنْهُمْ، وَأَعَانَهُمْ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِمْ، وَنَصَرَهُمْ وَلَمْ يَنْتَصِرْ مِنْهُمْ، فَهَذِهِ أَوْصَافُ الْعُقَلَاءِ، أَيْ هَذِهِ وَأَمْثَالُهَا، فَمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَتَخَلَّقَ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ فَقَدْ تَوَدَّدَ إِلَيْهِمْ، فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ، وَاكْتِسَابِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَمَنْ تَخَلَّقَ بِهَا، وَعَاشَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَعَامَلَهُمْ بِهَا، وَدَّهُ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْعُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ مَحَبَّتَهُمْ لَهُ، وَوُدَّهُمْ إِيَّاهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِوُجُوبِ حَقِّ الْعِبَادِ عَلَيْهِ، لَا لِمُطَالَبَةِ الْوُدِّ مِنْهُمْ، فَإِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْدَعَ اللَّهُ وُدَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَوَدُّهُ، فَيَجْعَلُ وُدَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ، قِيلَ: أَيْ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْعَطَّارُ، قَالَ: ح عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ يَتَعَجَّلُونَهُ، وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يُرِيدُونَ بِهِ الْعَاجِلَةَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَحُطَامَهَا، وَالرِّفْعَةَ فِيهَا، وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ أَيْ: لَا يُرِيدُونَ بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لِلْآجِلَةِ، بَلْ يَقْرَءُونَهُ لِلْعَاجِلَةِ، فَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَتَرَسَّلَ فِي قَرَأْتِهِ وَرَتَّلَهُ فَهُوَ مُتَعَجِّلٌ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الْآخِرَةَ، وَمَرَّ فِيهِ مُتَعَجِّلًا قِرَاءَتَهُ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُرُوفِ حَقَّهَا، فَهُوَ مُتَأَجِّلٌ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ خَتْمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَانِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ هُوَ ابْنُ أَبِي الدُّمَيْكِ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ قَالَ: ح عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا صَخَبَ فِيهِ» أَيْ: هُوَ مَخْصُوصٌ لَهَا، لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ التَّنَازُعُ فِي الشَيْءِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إِلَى الصَّخَبِ، وَمَا انْفَرَدَ لِأَحَدٍ شَيْءٌ لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَخَبٌ، فَعَبَّرَ عَنِ انْفِرَادِهَا بِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مِنْ دُرَّةٍ جَوْفَاءَ بِزَوَالِ الصَّخَبِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَخَبٌ، وَقَوْلُهُ: «لَا نَصَبَ» أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ جَزَاءً لِنَصَبِهَا، وَلَا تَكَلُّفِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَتِيَتْ عَلَيْهَا، لَكِنْ هَذَا زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بَعْدَمَا أَعْطَاهَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى أَفْعَالِهَا، وَأَضْعَفَ لَهَا مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْبَخْتَرِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ح سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: ح شُعْبَةَ، ح وَاقِدٌ جَدُّهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» [ص: 63] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ «كُفَّارًا» أَيْ: كُفَّارًا لِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ تَارِكِينَ الشُّكْرَ فِيهِ، فَإِنَّ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ مُوَاصَلَةَ أَهْلِهِ، وَمُوَافَقَتَهُمْ، وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ فِيهِ، وَالتَّحَابَّ لِأَجْلِهِ، وَتَرْكَ التَّقَاطُعِ وَبَغْيِ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ أَهْلَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْمِنُونَ بِي حَتَّى تَحَابُّوا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: ح أَبُو لَبِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُوَقَّرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، يَا عَلِيُّ لَا تُخْبِرْهُمَا» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ لَا تُخْبِرْهُمَا» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى لَا تُخْبِرْهُمَا قَبْلِي، كَأَنَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْبِرُ لَهُمَا، وَالْمُبَشِّرُ لَهُمَا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَجَلَّ قَدْرًا، وَأَعْظَمَ مَوْقِعًا، وَيَكُونُ فَضْلُ السَّبَقِ بِالْبِشَارَةِ لَهُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مَخَافَةِ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمَا، فَقَدْ أَخْبَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَرَوْنَ أَهْلَ [ص: 64] عِلِّيِّينَ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْهُمْ، وَأَنْعَمَا» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا، وَقَالَ: «هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمَا فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: «يَا عَلِيُّ لَا تُخْبِرْهُمَا» حِفْظًا لِمَوَاضِعِ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمَا لَمْ يُخْبِرْهُمَا، وَكَيْفَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الْفِتْنَةَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ وَالْمَفْتُونُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَلَا مَا هُوَ دُونَهَا، وَمَنْ بَلَغَتْ رُتْبَتُهُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ عُصِمَ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَالْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ بِالنَّفْسِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَهُمَا بِهِ مِنْ هُوَ دُونَهُمَا فِي الْفَضِيلَةِ مِثْلَ عُكَّاشَةَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، فَقَالَ عُكَّاشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» . وَقَالَ لِبِلَالٍ: «سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ فِي الْجَنَّةِ بَيْنَ يَدَيَّ» [ص: 65] وَكَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُعْصَمُونَ عَنِ الْفِتْنَةِ لِيَتِمَّ مُرَادُ اللَّهِ فِيهِمْ، فَكَيْفَ بِهِمَا وَهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يُدَانِيهِمَا فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: ح أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، ح أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ: حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْوِيهِ عَنْكَ، فَقَالَ جَابِرٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فِيهِ، فَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ شَيْئًا، وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: هَذِهِ كُدْيَةٌ قَدْ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، وَقَدْ رَشَشْتُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَطْنُهُ مَعْصُوبَةٌ بِحَجَرٍ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، ثُمَّ سَمَلَهَا، ثُمَّ ضَرَبَ، فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى عَصَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ عِنْدَ الْجُوعِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَوْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا خَلَتْ أَجْوَافُهُمْ، وَغَارَتْ بُطُونُهُمْ، فَشَدُّوا عَلَيْهَا حَجَرًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَصَابَهُمُ الْجُوعُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافَقَةً لَهُمْ، وَلِيَعْلَمَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَهُمْ، وَأَرَاهُمْ خَلَاءَ جَوْفِهِ كَخَلَاءِ أَجْوَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولًا فِي الْجُوعِ عَنِ الضَّعْفِ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَاصَلَ فَوَاصَلَ أَصْحَابُهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتُوَاصِلُ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» [ص: 66] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّمَا عَصَبَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ بِهِمْ، وَالْمُوَافَقَةِ مَعَهُمْ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حَدَّثَنَا بِهِ نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: ح سَيَّارٌ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ، وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَجَرَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ الْجُوعَ أَظْهَرَ لَهُمْ مَا أَظْهَرُوا لَهُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا خَرَجَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَيْلًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُمَا , فَقَالَ لَهُمَا: " مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَا: الْجُوعُ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا» أَخْبَرَهُمَا بِمَا شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِمَا، وَنُفُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ طَعَامًا كَمَا لَمْ يَجِدُوا، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، وَأَطْيَبَ لِنُفُوسِهِمْ، وَأَرْضَى لَهُمْ بِأَحْوَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى عَصْبِ الْحَجَرِ مِنْهُ عَلَى بَطْنِهِ إِشَارَةً مِنْهُ لَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَوَامَ الَّذِي بِالطَّعَامِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّ الْقَوَامَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الطَّعَامَ إِنَّمَا يَكُونُ [ص: 67] مِنْهُ الْقُوَّةُ، وَالْقَوَامُ بِمَا يَصِلُ مِنْهُ إِلَى الْجَوْفِ، فَعَمَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَعَانِي الْفِدَاءِ بِهِ، فَرَبَطَهُ مِنْ خَارِجٍ يُرِيهِمْ أَنَّ هَذَا يَقُومُ لَهُ مَقَامَ الطَّعَامِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى الْأَجْوَافِ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقَوَامُ لِيَقْطَعَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِمَادِ فِي حَالِ الْجُوعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَيَصْرِفَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّقْوِيَةِ بِمَا شَاءَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَكُونَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَيَكُونَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِمَّنْ فَعَلَهُ تَأَسِّيًا بِهِ وَقُدْوَةً، فَيَحْمِلُهُمْ تَرْكُهُ الْأُسْوَةَ عَنِ الْجُوعِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ عُيُونَ أَصْحَابِهِ فَعَلُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا إِشَارَتَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْبِطُوهَا عَلَى بُطُونِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبْطُ الْحَجَرِ مِنْهُ مُقَابَلَةَ أَصْحَابِهِ بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، فَقَابَلَهُمْ بِمِثْلِهِ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ ضِعْفِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَجْزِ صِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الفرقان: 20] الْآيَةَ، ثُمَّ لَمَّا أَظْهَرُوا الْقُوَّةَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْوِصَالِ أَرَاهُمْ ضَعْفَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَعَجْزَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتُوَاصِلُ، فَقَالَ: «لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ , إِنَّ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» ، ثُمَّ وَاصَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ فَقَالَ: «لَوْ غُمَّ عَلَيَّ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ» ، قَالَ فِي الْحَدِيثِ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَظْهَرُوا قُوَّةً مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَعْفِ أَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَجْزِهَا بِالْوَارِدِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَطَّارُ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ الصَّوْمُ جُنَّةٌ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى إِضَافَةِ الصَّوْمِ إِلَى نَفْسِهِ جَلَّ اسْمُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِبُعْدِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقَعُ عَلَيْهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الصَّائِمَ لَا يَطْعَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فَقَالَ {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] ، فَكَأَنَّ الصَّائِمَ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ مَا يَلِيقُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَكَمَالِهِ لِلَّهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنَّا وَالْكَرِيمَ وَالرَّحِيمَ مُتَّصِفٌ بِصِفَةٍ يَسْتَحِقُّهَا اللَّهُ، وَلِلْعَبْدِ فِيهَا نِسْبَةٌ عَلَى قَدْرِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُ الْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: «أَنَا أَجْزِي بِهِ» أَيْ: عَلَى كَرَمِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ لَيْسَ مِنْ صِفَتِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَتِي، فَإِنِّي أَنَا الَّذِي لَا أَطْعَمُ , غَيْرَ أَنَّكَ تَكَلَّفْتَ مِنْ أَجْلِي، وَتَرَكَتْ طَعَامَكَ وَشَرَابَكَ لِي، فَأَنَا أَجْزِيكَ عَلَى قَدْرِي. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ الْهَمْدَانِيُّ: اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ لِنَفْسِهِ لِيَسْلَمَ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُفْسِدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِيمَا لِلَّهِ، وَيَسْلَمُ مِنَ الْخُصُومِ أَنْ يَأْخُذُوهُ عِنْدَ الْحِسَابِ، فَإِذَا [ص: 69] اسْتَوْفَى الْخُصُومِ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَمَلٌ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى دِيوَانَ صَوْمِهِ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ الْعَبْدِ، فَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ وَثَوَابُهُ عَلَى قَدْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَنَا أَجْزِي بِهِ» ، أَيْ: أَنَّ الْجَزَاءَ بِهِ لَهُ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَيْ مَعْرِفَتِي فِي الْجَزَاءِ لَهُ بِهِ، وَحَسْبُهُ ذَلِكَ جَزَاءً، فَمَا شَيْءٌ يُدَانِيهَا وَلَا يَبْلَغُهَا، وَقَوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ عَلَى حُصُولِ صَوْمِهِ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَيْهِ بِمَوْتٍ أَوْ عِلَّةٍ أَوْ آفَةٍ، فَهُوَ يُسَرُّ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَفْرَحَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ هُوَ لِلَّهِ خَالِصٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «الصَّوْمُ لِي» ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْرَحُ بِتَوْفِيقِ رَبِّهِ إِيَّاهُ عَلَى صَوْمِهِ، فَلَنْ يَكُونَ عَمَلٌ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ فَرْحَةً مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ دُونَ مَا جَاءَ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُ بِإِفْطَارِهِ يَوْمَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ صَامَ عَنْ جَمِيعِ لَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ أَيَّامَ. . . أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا أَفْطَرَ مِنْ صِيَامِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَذَلِكَ حِينُ فَرَحِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: ح ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « [ص: 70] وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أَنَا أَجْزِي بِهِ» أَيْ: أَنَا أَجْزِيكَ النَّظَرَ إِلَيَّ، لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءً لِعَمَلِكَ، وَلَكِنِّي أَجْزِيكَ فَضْلًا وَمِنَّةً , وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: «وَخُلُوفُ فَمِهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» أَيْ: مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَ الْخَلْقِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رِيحَ الْمِسْكِ وَيُؤْثِرُونَهُ وَيَرْضَوْنَ بِهِ وَيَخْتَارُونَهُ , كَذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ وَيُؤْثِرُهُ وَيَرْضَى بِهِ وَيَخْتَارُهُ. وَقَوْلُهُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُنَّةً فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَالسَّفَهِ عَلَى النَّاسِ، وَالْغِيبَةِ لَهُمْ، وَمُجَازَاةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ الْيَوْمَ» ، مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنْ لَا يُجَازِي بِهِ عَلَى جَهْلِهِ، وَلْيَقُلْ لِنَفْسِهِ إِنْ طَالَبَتْهُ مُجَازَاتَهُ: إِنِّي صَائِمٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَجْهَلَ وَيْسَفَهَ وَيَمْنَعَهُ عَنِ الْغِيبَةِ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ، أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ تَرْكُ مَا يَنْهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ [ص: 71] ، وَلَيْسَ هُوَ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَطُّ، فَالصِّيَامُ جُنَّةٌ تَسْتُرُهُ وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَاصِي، وَهُوَ جُنَّةٌ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّارِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّاسِ سَبِيلٌ عَلَى الصَّائِمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهَا عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنَ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، فَلَا يَكُونُ لِلنَّارِ سَبِيلٌ فَهُوَ لَهُ مِنْهَا جُنَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعْنَى آخَرُ فِي تَخْصِيصِ الصَّوْمِ وَهُوَ أَنَّ فِيَ الصَّوْمِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّفْسِ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النَّفْسِ تَرْكُ حُظُوظِهَا، وَحُظُوظُ النَّفْسِ هُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالرَّفَثُ إِلَى النِّسَاءِ. فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَقَدْ تَرَكَ حُظُوظَ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ؛ لِأَنَّ الْحُجُبَ ثَلَاثَةٌ: الْخَلْقُ، وَالدُّنْيَا، وَالنَّفْسُ، فَالْخَلْقُ وَالدُّنْيَا إِنَّمَا يَحْجُبَانِ إِذَا كَانَا لِحَظِّ النَّفْسِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا وَالْخَلْقِ، فَحَصَلَ الصَّوْمُ إِعْرَاضًا عَنِ النَّفْسِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وُصُولٌ إِلَى اللَّهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: «الصَّوْمُ لِي» ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَرَائِضِ غَيْرِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ يَسِيرٌ، فَهُوَ إِذَا فَرَغَ مِنْهَا رَجَعَ إِلَى جَمِيعِ حُظُوظِهِ، وَوَقْتَ الصَّوْمِ يَمْتَدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَجُمْلَةُ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامُ وَالَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ خَمْسٌ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّفْسِ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ إِلَّا فِي الصَّوْمِ، الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» أَخْبَرَ أَنْ تَرْكَهُ طَعَامَهُ وَشَهْوَتَهُ هُوَ شَيْءٌ لِلَّهِ، لَا لِغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَرَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَفَهُمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِلِينِ الْقُلُوبِ وَرِقَّتِهَا، ثُمَّ نَسَبَ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ بِنَاءَ الْإِيمَانِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِمْ؛ إِذْ كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ مَنْ نُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ» . وَالْحِكْمَةُ هِيَ: الْإِصَابَةُ لِمَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ وَمَا يُحِبُّهُ، وَتَرْكُ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِرِقَّةِ الْقَلْبِ وَصَفَائِهِ، فَيَشْهَدُ فِيهِ زَوَاجِرَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ زَوَاجِرَ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ كَانَ أَصْفَى قَلْبًا فَإِنَّهُ أَحْسَنُ إِدْرَاكًا لِذَلِكَ الزَّاجِرِ، وَأَشَدُّ إِصَابَةً لَهُ، لِذَلِكَ نُسِبَ الْحِكْمَةُ إِلَى مَنْ رَقَّ قَلْبُهُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفُؤَادُ عِبَارَةً عَنْ بَاطِنِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: الصَّدْرُ خَارِجَ الْقَلْبِ، وَالْفُؤَادُ دَاخِلَهُ، فَوَصَفَ الْقَلْبَ بِاللِّينِ، وَالشَّيْءُ اللَّيِّنُ يَنْثَنِي وَيَنْعَطِفُ، وَهُوَ التَّقَلُّبُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ مُتَقَلِّبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ، وَالْمُتَقَلِّبُ يَتَقَلَّبُ إِلَى كَذَا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَ أَهْلَ الْيَمَنِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ أَلْيَنُ وَأَكْثَرُ تَقَلُّبًا وَتَثَنِّيًا، وَأَنَّ تَثَنِّيَهَا وَانْقِلَابَهَا [ص: 73] إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ أَكْثَرُ مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ أَفْئِدَتَهُمْ أَرَقُّ فَهِيَ أَكْثَرُ شُهُودًا لِلْغَيْبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الرَّقِيقَ أَنْفَذُ فِي خِلَالِ الْأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ، وَالْحُجُبِ السَّاتِرَةِ مِنَ الشَّيْءِ الْغَلِيظِ، وَمَنْ خَرَقَ الْحُجُبَ أَدْرَكَ الْإِيمَانَ وَحَقِيقَتَهُ، وَالْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ التَكَلُّمُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِلِينِ الْقَلْبِ أَيْ: خَفْضَ الْجَنَاحِ وَلِينَ الْجَانِبِ، وَالِانْقِيَادَ وَالِاحْتِمَالَ وَتَرْكَ الْعُلُوِّ وَالتَّرَفُّعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِمَّنْ لَانَ قَلْبُهُ، وَهِيَ أَوْصَافُ الظَّاهِرِ، وَأَشَارَ بِرِقَّةِ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَى شَفَقَتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ، وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبُّوا لَهُمْ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْبَاطِنِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُ أَخْلَاقًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» فَقَوْلُهُ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ» أَيْ: أَهْلُ الْيَمَنِ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا، وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ كَمُلَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ لَهُمْ بِلِينِ الْقُلُوبِ إِشَارَةً إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ أَجَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، فَقَبِلُوا الْحَقَّ لِلِينِ قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَإِنْ كَثُرَتْ دَلَائِلُهُ، وَقَامَتْ حُجَجُهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ أَعْلَامُهُ، وَالْآيَاتُ إِنَّمَا يَعْقِلُهَا مَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ ضِدَّ صِفَةِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْإِصَابَةُ لِلْحَقِّ، فَأَصَابُوا الْحَقَّ، فَآمَنُوا لِلِينِ قُلُوبِهِمْ وَمُوَاتَاتِهِمْ، وَقَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَرَقُّ أَفْئِدَةً» إِشَارَةً إِلَى تَوَسُّطِهِمْ فِي مُشَاهَدَاتِ الْقُلُوبِ، وَمُنَازَلَاتِ الْأَسْرَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْفُؤَادَ عَيْنُ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ [ص: 74] إِلَى أَنَّ فِيَ نَظَرِهِمْ إِلَى أَحْوَالِ الْغُيُوبِ رِقَّةً، وَأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ لَيْسُوا بِذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ أَحْوَالُهُمْ، وَيَعْرِفُهَا مَنْ شَاهَدَهُمْ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّكَنْدِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَدَوِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجَابَةُ الْكَثِيرِ مِنْهُمُ الْأَسْوَدَ الْعَبْسِيَّ، وَطَلْحَةَ الْأَسَدِيَّ لَمَّا تَنَبَّآ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ لِرِقَّةِ أَفْئِدَتِهِمْ، وَضَعْفِ رُؤْيَةِ أَفْئِدَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْفُؤَادَ عَيْنُ الْقَلْبِ، لَمَّا ضَعُفَ إِبْصَارُ قُلُوبِهِمْ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا أَجَابُوا إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَعَاهُمْ غَيْرُهُ أَجَابُوهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ عَوَامِّهِمْ، فَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَرَقَّتْ أَفْئِدَتُهُمْ فَنَفَذَتْ فِي خِلَالِ الْحُجُبِ فَخَرَقَتْهَا فَشَاهَدَتِ الْعُيُوبَ فَقَوِيَ إِيمَانُهُمْ فَثَبَتُوا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِيهِ كُفْرَ النِّعْمَةِ، لَا كُفْرَ الْجُحُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْفِتَنِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ ظَهَرَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ الْعِرَاقُ وَمَا وَرَاءَهُ، فَإِنَّ الْجَمَلَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْفِتَنِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِالْعِرَاقِ، وَكَذَلِكَ الصِّفِينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَقَتْلَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعِرَاقِ، وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ، وَفِتْنَةُ الْجَمَاجِمِ، قَالُوا: قُتِلَ فِيهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ قُرَّاءِ التَّابِعِينَ، ثُمَّ فِتْنَةُ أَبِي مُسْلِمٍ كَانَ ظُهُورُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، هَذَا وَغَيْرُهَا مِنَ الْفِتَنِ وَالْأَحْدَاثِ أَكْثَرُهَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَسَبَبُ الْفِتْنَةِ وَإِرَاقَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كُفْرَانُ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ , [ص: 75] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِيهِ الْكُفْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ التُّرْكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ يَحْيَى، ح الْحِمَّانِيُّ، ح عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ أَعْوَرَ الدَّجَّالِ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ " فِي حَدِيثٍ سَاقَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، ح يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً " قَالَ الشَّيْخُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي» أَيْ بِالْكِفَايَةِ إِذَا اسْتَكْفَانِي، وَالْكَلَاءَةِ لَهُ إِذِ اسْتَكْلَأَنِي، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ إِذَا أَنَابَ إِلَيَّ، وَالْإِجَابَةِ لَهُ إِذَا دَعَانِي، وَالْقَبُولِ مِنْهُ إِذَا عَمِلَ لِي، وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ لِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تَظْهَرُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا أَحْسَنَ بِاللَّهِ ظَنَّهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ [ص: 76] . وَقَوْلُهُ: «فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنْ خَلَا بِذِكْرِي أَخْلَيْتُ سَتْرَهُ عَنْ سِوَايَ، وَإِنْ أَخْفَى ذِكْرَهُ لِي إِجْلَالًا لِقَدْرِي، وَتَعْظِيمًا لِحَقِّي وَغَيْرَةً عَلَى الذِّكْرِ لِي أَخْفَيْتُهُ فِي غَيْبِي فَلَا أُطْلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَحِبَّائِي غَيْرَةً عَلَيْهِ مِنِّي، وَأُغَيِّبُهُ فِي غَيْبِ غَيْبِي، فَلَا يَكُونُ لِشَيْءٍ إِلَيْهِ طَرِيقٌ فَيَشْغَلَهُ عَنِّي، فَيَكُونُ سِرِّي بَيْنَ خَلْقِي، كَمَا كَنْتُ سِرَّهُ فِي خَلْقِي. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي أَيْ: فِي غَيْبِي قَبْلَ إِيجَادِي لَهُ، وَقَبْلَ ذِكْرِهِ لِي، وَقَبْلَ كُلِّ قَبْلٍ فِي أَزَلِ الْآزَالِ، وَسَابِقِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ» افْتِخَارًا بِي وَإِجْلَالًا بَيْنَ خَلْقِي، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ مُبَاهَاةً بِهِ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ بَيْنَ مَلَائِكَتِي الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ ذَكَرَنِي فِيهِمْ - وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ - مُبَاهَاةً كَقَوْلِهِ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الْآيَةَ، فَأَجَابَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» أَيْ: خَيْرٍ مِنْهُمْ حَالًا؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَحْوَالُهُمْ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُرْضِيَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، وَقَالَ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ، وَيَخْتَلِفُ أَوْقَاتُهُمْ بَيْنَ طَاعَةٍ وَضِدِّهَا، وَفُتُورٍ وَتَقْصِيرٍ، وَجَدٍّ وَتَوْفِيرٍ، فَأُولَئِكَ الْمَلَأُ الَّذِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي أَحْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنَ الْمَلَأِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَلَائِكَةُ خَيْرًا مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ» أَيْ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ شِبْرًا، قَرَّبْتُهُ مِنِّي تَوْفِيقًا وَتَيْسِيرًا ذِرَاعًا، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِالْعَزْمِ وَالِاجْتِهَادِ ذِرَاعًا قَرَّبْتُهُ مِنِّي بِالْهِدَايَةِ وَالرِّعَايَةِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي مُعْرِضًا عَمَّا سِوَايَ يَمْشِي آوَيْتُهُ إِلَى كَنَفِي، فَيَفُوتُ مَنْ سِوَايَ آثِرًا فِيهِ، أَوْ طَرِيقًا إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ مُسْرِعًا خَوْفًا أَنْ يُدْرِكَهُ شَيْءٌ فَيَقْطَعَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ آوَيْتُهُ إِلَيَّ، وَحُلْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ قَاطِعٍ، وَسَبَقْتُ بِهِ كُلَّ مَانِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [ص: 77] . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَا رُوِيَ: «مَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا، وَمَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي» فَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِي اقْتَرَبَ مِنِّي شِبْرًا بِالطَّاعَةِ هُوَ الَّذِي أَقْتَرِبُ مِنْهُ ذِرَاعًا بِالتَّوْفِيقِ، وَالَّذِي اقْتَرَبَ مِنِّي ذِرَاعًا بِالْإِخْلَاصِ هُوَ الَّذِي أقْتَرِبُ مِنْهُ بَاعًا بِالْجَذْبِ، وَمَنْ أَتَانِي مُشَاهِدًا لِي هُوَ الَّذِي هَرْوَلْتُ إِلَيْهِ بِرَفْعِ أَسْتَارِ الْغُيُوبِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: مَنِ الَّذِي، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ خَبَرًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ، مَعْنَاهُ عَلِيٌّ مَوْلَى مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنِ اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ، أَيِ: اقْتَرَبْتُ إِلَى مَنِ اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كَأَنَّهُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ، فَكَأَنَّ الْجَوَابَ مِنَ الَّذِي مِنْهُ السُّؤَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا» قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ الْأَعْرَجَ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ قُبِضَ أَيْ: لَمْ يَكُنْ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عَظْمًا، ثُمَّ مَكْسُوًّا لَحْمًا، ثُمَّ طِفْلًا [ص: 78] ، ثُمَّ بَالِغًا أَشُدَّهُ، ثُمَّ شَيْخًا، أَيْ لَمْ يُخْلَقْ أَطْوَارًا، بَلْ خُلِقَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا، وَيُقَالُ: خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ، فَكَانَ فِي الْأَرْضِ حِينَ أُهْبِطَ إِلَيْهَا عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ صُورَتُهُ الَّتِي أُهْبِطَ فِيهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَلَمْ يُنْتَقَصْ طُولُهُ، وَلَا سُلِبَ نُورُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا» أَيْ: عَلَى هَذَا الطُّوَلِ خُلِقَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَطْوَلَ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَقَلَّ نُورًا، وَلَا أَدْنَى حَالًا فِيهَا مِنْهُ فِي الْجَنَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى صُورَتِهِ: أَيْ صُورَةُ حَالِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَفَاوِتَ الْحَالِ، مُتَغَايِرَ الْوَصْفِ، فَيُوصَفُ مَرَّةً بِالْغِوَايَةِ، وَمَرَّةً بِالْهِدَايَةِ وَبِالْعِصْيَانِ وَالتَّوْبَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ، وَوَصَفَهُ بِالْعِلْمِ مَرَّةً، وَبِالْجَهْلِ أُخْرَى فَقَالَ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وَقَالَ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] وَهَذَا إِلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ فِي تَبَايُنِهَا، وَأَوْصَافِهِ فِي تَغَايُرِهَا، ثُمَّ مَا أَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ فَضْلِهِ وَاخْتَصَّهُ وَاصْطَفَاهُ وَاسْتَخْلَصَهُ وَاجْتَبَاهُ وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي أَرْضِهِ، وَقِبْلَةَ مَلَائِكَتِهِ، وَقَسِيمَ أَهْلِ نَارِهِ وَجَنَّتِهِ، عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَأَلَهْمَهُ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، فَكَانَ خَلْقُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَعَلَى صُورَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118] ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ. وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . فَلِذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ لِيَكُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْحِكْمَةِ فِيهِ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَتِهِ، أَيْ: خَلَقَهُ لِيَكُونَ صُورَةُ حَالِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِلطَّاعَةِ لَا غَيْرَ، وَالشَّيَاطِينَ لِلْعِصْيَانِ لَا غَيْرَ، وَالْبَهَائِمَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ لِلتَّسْخِيرِ لَا غَيْرَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ: «خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: ح مَنْصُورُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: ح أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ [ص: 79] ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقَبِّحُوا الْوُجُوهَ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ خَلَقَهُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي ارْتَضَاهَا الرَّحْمَنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةً لِآدَمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ خَلْقٌ عَلَى صُورَتِهِ فِي الْبِنْيَةِ وَالْحَالِ إِذِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصُورَةِ بِنْيَتِهِمْ غَيْرَ أَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] , وَقِيلَ أَنَّ قَوْلَهُ: «خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَتِهِ» كَانَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: «لَا تَقُولُوا قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ، فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» أَيْ: عَلَى صُورَةِ هَذَا الْمُقَبِّحِ وَجْهُهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ، فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ» ، ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» أَيْ عَلَى صُورَةِ هَذَا الْمَضْرُوبِ وَالْمُقَبَّحِ وَجْهُهُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا، ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حَدَّثَنَاهُ مَحْمُودُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: ح حُرَيْثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ح مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: ح أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا، ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» إِجْلَالًا لِاسْمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْرِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ح أَبُو ثَابِتٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْيدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ قَالَ: ح عَبْدِ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أخ أَبُو يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فَقَدْ كَذَبَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى أَخِي يُونُسَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» أَيْ مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ مَعْنًى وَاحِدٌ، لَا تَفَاضُلَ فِيهَا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي تَفْضِيلِ اللَّهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُبَيِّنُ [ص: 81] شَرَفُهُمْ وَفَضْلُهُمْ عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِهِ يُونُسَ بِتَسْمِيَتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ يُونُسَ أَوْصَافَ يَسْبِقُ إِلَى الْأَوْهَامِ انْحِطَاطُهُ فِي الدَّرَجَةِ وَانْخِفَاضُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] ، وَقَالَ {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140] ، وَقَالَ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] ، وَقَالَ {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النُّبُوَّةَ أَثْقَالًا، وَإِنَّ يُونُسَ تَفَسَّخَ مِنْهَا الرُّبُعَ» , فَحَفِظَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ مِنْ أَوْهَامِ بَعْضِ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهَا مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ جَرَحَتْ فِي نُبُوئَتِهِ، أَوْ أَخَلَّتْ بِرِسَالَتِهِ، أَوْ قَدَحَتْ فِي الِاصْطِفَاءِ الْقَدِيمِ مِنْهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، أَوْ حَطَّتْ مِنْ رُتْبَتِهِ، أَوْ أَوْهَنَتْ قُوَى عِصْمَتِهِ، كَمَا حَفِظَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي مَرَّ بِهِ عِشَاءً، وَهُوَ قَائِمٌ مَعَ صَفِيَّةَ، فَقَالَ لَهُ: «أَمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَعَ مَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَبِيُّهُ الْكَرِيمُ، وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى، وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَيْسَ بِأَدْوَنَ دَرَجَةً مِنِّي فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ أَنِّي سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً مِنِّي وَأَقْرَبُهُمْ وَسِيلَةً إِلَيْهِ , وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَكْرَمُ مُشَفَّعٍ إِلَى سَائِرِ فَضَائِلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي وَصَفَهَا، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ح شَرِيكٌ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً أَنْ يُرَى أَثَرُهَا عَلَيْهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: أَثَرُهَا عَلَيْهِ الشُّكْرَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالذِّكْرِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالْإِفْضَالِ مِنْهُ، وَالْجُودِ عَلَى الْأَغْيَارِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْجَارِ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَيَرَى أَثَرَ الْجِدَةِ عَلَيْهِ زِيًّا وَإِنْفَاقًا وَشُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِاللِّسَانِ , هَذَا فِي النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ سَعَةُ الْمَالِ، فَأَمَّا النِّعْمَةُ الدِّينِيَّةُ فَأَوْلَى وَأَحَقُّ، وَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا بِاسْتِعْمَالِ عِلْمِهِ، وَذَمِّ جَوَارِحِهِ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ، وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ فِي خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، ثُمَّ تَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَأْدِيبِ الْغَيْرِ، وَبَثِّهِ الْعِلْمَ فِي أَهْلِهِ، وَوَضْعِهِ فِي حَقِّهِ فِي تَوَاضَعٍ وَلِينٍ وَبِرٍّ وَإِشْفَاقٍ، وَمِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَالنَّظَرِ لَهُمْ، وَالْإِنْصَافِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَسْطِ الْعَدْلِ، وَالْحُكْمِ بِالْقِسْطِ إِلَى سَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُدْخِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَمِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» قِيلَ لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِعَامَّتِهِمْ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ: النُّصْحُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدِي هُوَ: فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَالْمُلَاءَمَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصَاحَةِ، وَهِيَ السُّلُوكُ الَّتِي يُخَاطُ بِهَا، وَتَصْغِيرُهَا نُصَيْحَةٌ , يَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا قَمِيصٌ مَنْصُوحٌ أَيْ: مَخِيطٌ، وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ نُصْحًا إِذَا خِطْتُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ النُّصْحُ فِي الْأَشْيَاءِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ: فَالنُّصْحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ: وَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ عَقْدًا وَقَوْلًا، وَالْقِيَامُ بِتَعْظِيمِهِ، وَالْخُضُوعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ، وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ، وَمُوَالَاةُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجِهَادُ فِي رَدِّ الْعَاصِينَ إِلَى طَاعَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَإِرَادَةُ النَّصِيحَةِ لِكِتَابِهِ: إِقَامَتُهُ فِي التِّلَاوَةِ، وَتَحْسِينُهُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، وَتَفَهُّمُ مَا فِيهِ وَاسْتِعْمَالُهُ، وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ، وَطَعْنِ الطَّاعِنِينَ. وَالنَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَالْحِمَايَةُ مِنْ ذَوِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ فِي بَثِّ الدَّعْوَةِ، وَتَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ الظَّاهِرَةِ. وَالنَّصِيحَةُ لِلْأَئِمَّةِ: مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ، وَفِي بَعْضُ النُّسَخِ «عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ» فِي تَنْبِيهِهِمْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، وَتَقْوِيمِهِمْ عِنْدَ الْهَفْوَةِ، وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ عِنْدَ [ص: 84] الْحَاجَةِ، وَنُصْرَتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِمْ، وَرَدِّ الْقُلُوبِ النَّاضِرَةِ إِلَيْهِمْ. وَالنَّصِيحَةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ، وَتَوْقِيرُ كَبِيرِهِمْ، وَرَحْمَةُ صَغِيرِهِمْ، وَتَفْرِيجُ كُرَبِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآجِلِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى مَا يُسْعِدُهُمْ، وَتَوَقِّي مَا يَشْغَلُ خَوَاطِرَهُمْ، وَفَتَحَ بَابَ الْوَسْوَاسِ عَلَيْهِمِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا وَحَسَنًا، وَمِنَ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ رَفْعُ مُؤْنَةِ بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَبْهَانَ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ح رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ: ح شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَازِعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ» قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تَجْفَافًا؛ فَإِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا» أَيْ: إِنَّكَ ادَّعَيْتَ دَعْوَى كَبِيرَةً، وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ مُطَالَبٌ بِصِحَّةِ دَعْوَاكَ بِالِاخْتِبَارِ لَكَ بِالصَّبْرِ تَحْتَ أَثْقَالِ الْفَقْرِ، وَتَحَمُّلِ مَكْرُوهِهِ، وَتَجَرُّعِ غَصَصِهِ، فَاسْتَعِدَّ لِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ» ، كَأَنَّهُ يَنْهَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ، ظَنُّهُ أَمْرٌ لَهُ غَوْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهَيِّنٍ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ مَا يَقُولُ مِنْ غَفْلَةٍ لِعِظَمِ مَا ادَّعَاهُ، وَحُسْبَانٍ مِنْهُ، وَسَلَامَةِ صَدْرٍ، وَلَيْسَ يَقُولُهُ عَلَى التَّيَقُّظِ وَالْعِلْمِ وَتَحَقُّقِ مَعْنَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِيَ الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ» دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ، وَمِنَ الَّذِينَ لَهُمْ فَضْلُ الْعِلْمِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [ص: 85] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَارِفُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا» تَنْبِيهًا لَهُ وَحَثًّا عَلَى الْعَمَلِ، وَاسْتِعْدَادًا لِفَقْرِ يَوْمِ الْحِسَابِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا تَتَّكِلْ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْمَلْ كَيْ لَا تَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ لَكَ عَمَلٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِي نَفْسَكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِي نَفْسَكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا» ، حَثًّا لَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَرْكِ التَّفْرِيطِ فِيهِ، اتِّكَالًا عَلَى قُرْبِ النَّسَبِ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنَ الرَّجُلِ نَظَرًا إِلَى نَفْسِهِ، وَإِلَى أَوْصَافِهَا بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ فَصَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إِلَى أَوْصَافِهِ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهَا، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ دَعَاهُ إِلَى عَمَلٍ لِفَقْرِ يَوْمِ الْحِسَابِ، وَعَمَلُهُ صِفَتُهُ؛ فَإِنَّهُ دَعَاهُ إِلَيْهِ جِدًّا وَاجْتِهَادًا، فَقَدْ دَعَاهُ عَنْهُ اتِّكَالًا عَلَيْهِ، وَسُكُونًا إِلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فَقْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا» ، وَالتِّجْفَافُ إِنَّمَا يَكُونُ لَرَدِّ الشَيْءِ، وَالْحَوْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَكَ، وَفَقْرُ الدُّنْيَا لِمَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَائِزَةٌ مِنَ اللَّهِ وَعَطَاءٌ، وَعَطَاءُ اللَّهِ وَجَائِزَتُهُ لَا تُرَدُّ، فَدَلَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا» أَيْ لِفَقْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَصْرِفَهُ عَنْكَ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْفَقْرَ الَّذِي هُوَ قِلَّةُ الْمَالِ، وَالضُّرُ، وَعَدَمُ الْمَرَافِقِ، وَهُوَ الْفَقْرُ الْمَعْرُوفُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا» أَيْ تِجْفَافًا تَصُونُهُ بِهِ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَقْدَحُ فِيهِ مِنَ الْجَذَعِ فِيهِ، وَالنَّكِرَةِ لَهُ، وَالتَّشَوُّقِ لِمُرَادَتِهِ، فَإِنَّ الْفَقْرَ جَائِزَةُ اللَّهِ لِمَنْ أَحَبَّنِي، وَخِلْعَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِرُّهُ بِهِ، وَإِكْرَامُهُ لَهُ، وَتُحْفَتُهُ إِيَّاهُ، وَجَزِيلُ الثَّوَابِ مِنْهُ عَلَى جَلِيلِ قَدْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقْرَ زِيُّ أَنْبِيَائِهِ، وَحِلْيَةُ أَوْلِيَائِهِ، وَزِينَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَشِعَارُ الصَّالِحِينَ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: «إِنَّ هَذَا كَائِنٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، فَاسْتَعِدَّ لِقَبُولِهِ، وَالِاسْتِقْبَالِ لَهُ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِدَفْعِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ فِيهِ، وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَالصَّوْنِ لَهُ، وَالدَّفْعِ عَنْهُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِجْلَالًا لِقَدْرِهِ، فَكَأَنَّهُ [ص: 86] عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ ذَكَرَ الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْمَكَارِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ خُصُوصَ الْفَقْرِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْإِمْلَاكِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ وَأَنْوَاعَ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَحَّهُ عَلَيْهِ سَحًّا» ، وَمَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْفَقْرِ الْمَكَارِهُ وَالْبَلَايَا مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خُصُوصَ الْفَقْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ عَظِيمِ الْمَكَارِهِ، وَجَلِيلِ الْبَلَايَا عَبَّرَ عَنِ الْبَلَاءِ وَالْمَكْرُوهِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَجِلَّةَ مِنْهُمْ وَالْكِبَارَ لَمْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِالْفَقْرِ، وَعَدَمِ الْإِمْلَاكِ، وَلَمْ يَكُونُوا مَجَانِبِينَ مِنَ الْبَلَايَا الْعِظَامِ، وَالْمَكَارِهِ الشِّدَادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ مَا نَزَلَ بِأَبِي لَهَا هَيَّضَهَا " حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: ح الْمَدَائِنِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ قَالَ: ح ابْنُ شَبَابَةَ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. الْحَدِيثَ. وَقُتِلَ عُمَرُ، وَحُوصِرَ عُثْمَانُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَذُبِحَ، وَلَقِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَقِيَ، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْبَلَاءِ مُرَادًا بِهِ أَكْثَرَ عُمْرِهِ، وَلَقِيَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا لَقِيَتْ بِالْجَمَلِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُتِلَا، وَتُوُفِّيَ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَحِيدًا فَرِيدًا، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أُضْنِيَ عَلَى سَرِيرٍ مَنْقُوبٍ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَخَبَّابٌ مَرِضَ مَرَضًا طَالَتْ مُدَّتُهُ فِيهَا، حَتَّى اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقُوا مِنَ الْبَلَايَا وَالشَّدَائِدِ أَنْوَاعًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِشِدَّةِ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا كُلُّهُمْ بِالْفَقْرِ خَاصَّةً، وَلَكِنْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْبَلَايَا خَبَرٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ح صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: ح يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مَعْشرٍ الْبَرَاءُ قَالَ: ح شَدَّادُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْوَازِعِ جَابِرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ قَالَ: «فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا، فَإِنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قَالَ: ح أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: ح عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكَشْوَرِيُّ الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقَهُ مُغْتَمًّا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا الْغَمُّ الَّذِي أَرَاهُ فِي وَجْهِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ أَصَابَهُمَا عَيْنٌ» ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ صَدِّقْ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْعَيْنِ: الْعَيْنَ الَّتِي يَجْرِي مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَالْأُمُورُ فِي الْخَلْقِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ الْقَدِيمُ، وَالْقَدَرُ السَّابِقُ، وَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَا حَكَمَ فِي خَلْقِهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَالْمَحَابِّ، وَالْآلَامِ، وَالْمَلَاذِّ، وَمَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَمَا قُضِيَ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدِّقْ، وَتَحَقَّقْ بِأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْوَقْتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ فِيهِ , أَنَعْمَلُ عَلَى أَمْرٍ مُؤْتَنَفٍ، أَوْ أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» ، فَكَذَلِكَ قَوْلُ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَهُ: صَدِّقْ بِالْعَيْنِ، يَعْنِي: صَدِّقِ بِالْقَدَرِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: صَدِّقْ بِالْقَدَرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مُصَدِّقٌ بِالْقَدَرِ، فَمَا هَذَا الْحُزْنُ الَّذِي [ص: 88] ظَهَرَ فِيكَ، وَلَيْسَ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرَهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ ذِكْرُ شَيْءٍ فَيَقُولُ لَهُ: اعْمَلْ عَمَلَكَ، وَلَا يُهِمَّنَّكَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: صَدِّقْ بِالْقَدَرِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَلَا يُهِمَّنَّكَ أَمْرُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَافِيهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَابَهُمَا عَيْنٌ» ، هِيَ الْآفَةُ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ اسْتِحْسَانِ أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ نَفْسِهِ، أَوْ بَدَنِهِ، فَيُصِيبُهُ عِلَّةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لَا أَنْ يُحْدِثَ النَّاظِرُ فِي الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ فِعْلًا، فَإِنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ، وَمَحَلِّ قَدْرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَدِّقْ بِتِلْكَ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ فَإِنَّهَا حَقٌّ، وَهَذِهِ الْآفَةُ وَالْعِلَّةُ تَزُولُ عَنْهُمَا، وَعَوِّذْهُمَا بِكَذَا، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ تَسْكِينًا لِقُلُوبِ الْعِبَادِ، وَتَحْقِيقًا أَنَّ الَّذِي أَصَابَ الْمُعَيَّنَ إِنَّمَا أَصَابَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ: عَوِّذْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْعَيْنَ دَاءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعْرِضُهَا، وَعْلَةٌ كَانَتْ تُسَمَّى عَيْنًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: «إِنَّ الْعَيْنَ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ» ، أَيْ هَذَا الدَّاءُ يَقْتُلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ النَّاظِرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتَحْسَنَهُ، حَتَّى شُغِلَ بِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رُؤْيَةِ صُنْعِهِ، أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَنْظُورِ عِلَّةً، وَيَكُونُ نَظَرُ ذَلِكَ النَّاظِرِ سَبَبَهَا، فَيُؤَاخِذُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِجِنَايَتِهِ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا بِهِ، وَهَذَا كَالضَّرْبِ مِنَ الضَّارِبِ بِالسَّيْفِ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى الْجِرَاحَةَ فِي الْمَضْرُوبِ، وَالْأَلَمَ فِيهِ، أَوْ خُرُوجَ الرُّوحِ عَلَى أَثَرِهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْقَاتِلَ وَالْجَارِحَ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْمَضْرُوبِ وَأَلَمُهُ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِفِعْلِ الضَّارِبِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الضَّارِبُ مَنْهِيًّا عَنِ الضَّرْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي أَوْعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ، وَهُوَ الضَّرْبُ، فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ نَظَرِهِ إِلَى الشَيْءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى غَفْلَةٍ وَنِسْيَانِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ هَذِهِ جِنَايَتُهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَنْظُورِ عِلَّةً يُؤْخَذُ النَّاظِرُ بِجِنَايَتِهَا، وَذَلِكَ بَقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، يُبَيِّنُكَ هَذَا أَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْغَفْلَةِ أَثَّرَ فِي الْمَنْظُورِ، فَكَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّاظِرِ مِنَ الْوَعِيدِ؟ وَاللَّهُ الْهَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ الْعَطَّارُ الْأَعْوَرُ قَالَ: ح ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الشَّامِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ فَقَالَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى نَجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اكْتُمُوا حَوَائِجَكُمْ، وَلَا تَرْفَعُوهَا إِلَى النَّاسِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ رَفَعْتُمُوهَا إِلَيْهِمْ رُبَّمَا يَكُونُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ بَعْضَ حُسَّادِكِمْ، فَلَا يُحِبُّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ لَكُمْ، فَيَحْسُدُكُمْ عَلَى نِعْمَةِ الْقَضَاءِ، فَيَمْتَنِعُ عَنْهُ، أَوْ يَحْسُدُكُمْ عَلَى النِّعْمَةِ بِأَنْ لَا تَكُونُوا مُحْتَاجِينَ، فَإِذَا أَظْهَرْتُمْ حَاجَتَكُمْ شَمَتَ بِكُمْ، وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ، وَنَجَاحَ الْحَاجَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ قَضَاءَهَا لَكُمْ إِذَا كُنْتُمْ إِلَيْهِ مُنْقَطِعِينَ، وَبِقَضَائِهِ رَاضِينَ، وَعَلَى كِتْمَانِ حَوَائِجِكُمْ وَضَرُورَاتِكُمْ صَابِرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اسْتَعِينُوا عَلَى نَجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ» أَيِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَجَاحِ الْحَوَائِجِ فِي حَالِ الْكِتْمَانِ لَهَا، أَيْ كُونُوا لَهَا كَاتِمِينَ، وَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَجَاحِهَا، وَيَكُونُ الْبَاءُ الْمَوْصُولَةَ بِالْكِتْمَانِ بِمَعْنَى «فِي» كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {اسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153] أَيِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، أَيِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ، وَكُونُوا صَابِرِينَ مُصَلِّينَ، وَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى الصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، فَإِنَّ كِتْمَانَ الْحَاجَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا فَلَا يَرْضَى عَنْهُ حَوْلًا رِضًا مِنْهُ بِقَضَاءِ رَبِّهِ، أَوْ يَكُونَ قَانِعًا سَهْلٌ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ الْأَلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، أَوْ صَابِرًا يَتَجَرَّعُ غُصَصَهُ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَتْ إِحْدَى هَذِهِ الْخِصَالِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ، لِأَنَّهَا مِنْ [ص: 90] خِصَالِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، بَلْ يَكُونُ حَاجَتُهُ مَقْضِيَّةً، لِأَنَّ الرَّاضِيَ إِنَّمَا يُرِيدُ مُوَافَقَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَصَابَهَا فِي رِضَاهُ، وَالْقَانِعَ إِنَّمَا يُرِيدُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَقَدْ أَصَابَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي قَنَاعَتِهِ، وَالصَّابِرُ إِنَّمَا يُرِيدُ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَصَابَهُ فِي صَبْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى جَلِيلَةٌ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ عَلَيْهَا مَحْسُودُونَ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْوَلِيِّ، أَمَا الْعَدُوُّ يُرِيدُ زَوَالَهَا عَنْهُ، فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِدَامَتِهَا لِلْمَحْسُودِ، وَأَمَّا الْوَلِيُّ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعِ بْنِ الْوَضَّاحِ الْخَطِيبُ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضُّؤْرِ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: ح خَالِدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ثُمَّ يُبْتَلَى النَّاسُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِمْ، فَمَنْ ثَخُنَ دِينُهُ ثَخُنَ بَلَاؤُهُ، وَمَنْ ضَعُفَ دِينُهُ ضَعُفَ بَلَاؤُهُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَكْثَرُ الْبَلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: سَلْبِ الْمَحْبُوبِ، وَحَمْلِ الْمَكْرُوهِ، وَالْمَحْبُوبَاتُ مَسْكُونٌ إِلَيْهَا، وَمَنْ سَاكَنَ شَيْئًا شُغِلَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَالْمَكَارِهُ مَهْرُوبٌ مِنْهَا، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ شَيْءٍ أَدْبَرَ عَنْهُ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ [ص: 91] وَالْأَمْثَلُونَ أَحِبَّاءُ اللَّهِ، فَاللَّهُ حَبِيبُهُمْ، وَالْحَبِيبُ يُحِبُّ مُوَاجَهَةَ حَبِيبِهِ لَهُ بِوَجْهِهِ، وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ، فَيَسْلُبُهُمُ الْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَلَاذَّ لِيَصْرِفَ بِوُجُوهِهِمْ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلَ بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، وَيُحَمِّلُهُمُ الْمَكَارِهَ لِيَهْرَبُوا مِنْهَا إِلَيْهِ، فَيُدْبِرُوا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَيُقْبِلُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِ أَبْلَاهُمْ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: ح خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ خَيْرَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ سِبَاعٍ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ إِلَى حِسَانِ الْوُجُوهِ، مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ» ، وَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «حِسَانِ الْوُجُوهِ» أَيِ الَّذِينَ وُجُوهُهُمْ طَلْقَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ بَسْطَةٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ صُدُورِهِمْ، وَحُسْنِ أَخْلَاقِهِمْ، وَتَحَرِّيهِمْ مَسَرَّةَ النَّاسِ، وَمَنِ اتَّسَعَ صَدْرُهُ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَاجَةِ لِأَخِيهِ، وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ اسْتَحْيَا مِنَ الرَّدِّ، وَمَنِ اتَّسَعَ صَدْرُهُ يَسْخُو بِمَا فِي يَدَيْهِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ مِنْ [ص: 92] ضِيقِ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَيَتَمَسَّكُ بِهِ ضَنًّا بِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ لِضِيقِ صَدْرِهِ عَنْ تَحَمُّلِ الْخَصَاصَةِ إِنْ دُفِعَ إِلَيْهَا، وَمَنْ تَحَرَّى مَسَرَّةَ النَّاسِ يَتَسَارَعُ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ؛ لِأَنَّ طَلَاقَةَ وَجْهِهِ وَبَسْطَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَسَرَّةَ النَّاسِ، وَيَطْلُبُ مَحَابَّهُمْ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ مَسَرَّتَهُمْ وَمَحَابَّهُمْ. الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: «مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ» ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ إِلَى اللَّهِ وَكُونُوا عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ أَيْ: وُجُوهَ أَحْوَالِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: خَالِطُوا الَّذِينَ حَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ فِي قَضَاءِ فُرُوضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، وَقَبُولِ أَحْكَامِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ عِبَادَ رَبِّهِمْ فِي تَحَمُّلِ أَذَاهُمْ، وَطَلَبِ مَحَابِّهِمْ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُونُوا عِنْدَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْعِمُوا طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارَ» كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْخُلْطَةَ أَيْ: خَالِطُوا الْأَبْرَارَ مِنَ النَّاسِ، وَكُونُوا مَعَهُمْ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِطُوا الْحُكَمَاءَ» ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ» أَيِ: اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنَ اللَّهِ وَكُونُوا عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ، أَيْ: كُونُوا مَعَ الصَّالِحِينَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» أَيْ: جَمِيلُ الْأَفْضَالِ بِكُمْ، حَسَنُ النَّظَرِ لَكُمْ، مَرِيدٌ لِصَلَاحِكُمْ، جَمِيلُ الْمُعَامَلَةِ مَعَكُمْ، يَرْضَى بِالْقَلِيلِ، وَيُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، وَيَقْبَلُ الْحَسَنَاتِ الْمَدْخُولَ عَلَيْهَا، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ الْمَسْكُونِ إِلَيْهَا، يُكَلِّفُكُمُ الْيَسِيرَ وَيُعِينُكُمْ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيكُمُ الْجَزِيلَ، وَيَشْكُرُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَمُنُّ عَلَيْكُمْ، وَتَعْطُونَ الْقَلِيلَ وَيَشْكُرُكُمْ، فَهُوَ يُحِبُّ الْجَمَالَ مِنْكُمْ أَيِ: التَّجَمُّلَ مِنْكُمْ فِي قِلَّةِ إِظْهَارِ الْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَامَ لَكُمْ بِهَا، وَمَا زَوَى عَنْكُمْ زَوَاهَا نَظَرًا لَكُمْ [ص: 93] ، وَإِرَادَةَ الْخَيْرِ بِكُمْ، فَتَجَمَّلُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَشْكُوهُ إِلَى غَيْرِهِ بِإِظْهَارِ حَوَائِجِكُمْ، فَهُوَ جَمِيلُ الْفِعْلِ بَيْنَكُمْ، يُحِبُّ التَّجَمُّلَ مِنْكُمْ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» أَنَّهُ جَمِيلُ الْفِعْلِ، أَيْ يَخْلُقُهُ كَمَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ قَضَاءُ حَاجَاتِ الْخَلْقِ، فَيُحِبُّ مِنْكُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ أَيْ: يُحِبُّ مِنْكُمْ قَضَاءَ حَوَائِجِ إِخْوَانِكُمْ، وَهُوَ الْجَمَالُ، وَبِهِ الْجَمَالُ لَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ إِلَى حِسَانِ الْوُجُوهِ» أَيِ: اطْلُبُوا حَوَائِجَكُمْ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ وُجُوهِ إِخْوَانِكُمْ، أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ عِنْدَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْحُبِّ لَهُمْ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ، شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ لَكُمْ فَقَضَى حَوَائِجَكُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمٌ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قَالَ: حَدَّثَنَا نُصَيْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح قُتَيْبَةَ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» [ص: 94] أَمَّا الْكِلَابُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَسْتَقْذِرُهَا الْمَلَائِكَةُ، وَهِيَ أَعْنِي: الْكِلَابَ الْمُؤْذِيَةَ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ فِي إِمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ إِلَّا لِمَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ، فَمَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمْسَاكَهَا مَعَ قَذَرِهَا وَنَجَاسَتِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الصُّورَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ» ، وَفِيهَا إِخْفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا مُنَازَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ الْمُصَوِّرُ، وَفِيهَا إِخْبَارٌ فِي التَّشْدِيدِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، فَيَكُونُ تَخَلُّفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ كُلْبٌ وَصُورَةٌ لِأَجَلٍ مَعْصِيَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَالْجَرَسُ إِنَّمَا يُعَلَّقُ عَلَى أَعْنَاقِ الْجَمَالِ وَالدَّوَابِّ لِلرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ لِيُعْرَفَ بِهَا سَيْرُهَا وَوُقُوفُهَا، وَعُدُولُهَا عَنِ الطَّرِيقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، أَوْ سَيْرُهَا عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ يَسْكُنُ قُلُوبُ الرُّفْقَةِ إِلَيْهَا مَا دَامُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ، وَيَتَّكِلُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْكُنُونَ إِلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ حَفَظَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ، إِنِ اسْتَخْفَى السَّائِرُ بِاللَّيْلِ، أَوْ ظَهَرَ سَائِرٌ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُ الرُّفْقَةِ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى صَوْتِ الْجَرَسِ فِي الْحِفْظِ لَهُمْ فِي سَيْرِ الْجَمَالِ وَالدَّوَابِّ، انْقَطَعَتْ بِقَدْرِ سُكُونِهَا إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَكِلُهُمْ إِلَى مَا تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَصْرِفُ عَنْهُمْ حَفَظَتَهُ، إِذَا اتَّخَذُوا لَهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ حَفَظَةً. وَالْجَرَسُ لَيْسَ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا حَاجِزًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْآفَاتِ كَالْأَبْوَابِ وَالْمَغَالِيقِ وَالْأَوْكِيَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَّخِذُهَا النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَى سِوَى التَّحَرُّزِ بِهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَلَيْسَ الْجَرَسُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ الَّتِي اتَّخَذَهَا النَّاسُ لَهَا إِنْ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعْنًى غَيْرَ التَّلَهِّي بِصَوْتِهِ لِمَنِ اسْتَلَذَّهُ، وَالَّذِي يَسْتَلِذُّهُ فَلَيْسَ بِلَبِيبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قَالَ: ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَرَسُ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذًا فَلَيْسَ فِي الْجَرَسِ مَعْنًى إِلَّا التَّحَرُّزُ مِنَ الْآفَاتِ، وَالِاتِّكَالُ عَلَيْهِ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْآفَةِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنْهَا يَكُونُ بِصُحْبَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ الْمُعَقِّبَاتُ، وَسَبَبُ اسْتِحْضَارِهِمْ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا دُونَهُ إِلَيْهِ، وَتَرْكُ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ حَيٍّ وَجَمَادٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قَالَ: ح حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَقْتُ أَرْبَعِينَ مُحَرَّرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَبَقَ إِلَيْكَ مِنْ خَيْرٍ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَبَقَ لَكَ» ، أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ مُسَابَقَةُ خَيْرٍ لَكَ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ إِسْلَامِكَ، فَتُثَابُ عَلَى مَا سَبَقَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَيُجْمَعُ لَكَ ذَلِكَ إِلَى مَا [ص: 96] تَعْمَلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ خَيْرٍ» أَيْ: بِبَرَكَةِ تِلْكَ الْمُسَابَقَةِ مِنَ الْخَيْرِ هَدَاكَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَهُ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَيْرٌ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَعَادَةٍ قَدُمَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ عَاقِبَةَ مَنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَخَيْرٌ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ وَفِعْلٌ جَمِيلٌ يَكُونُ إِلَى خَيْرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ مَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِيمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ الَّتِي هِيَ فِيهِ، وَهِيَ صَلَوَاتُهُ بِاللَّيْلِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَيَتُوبُ إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ ضَلَّ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَمِنْ ثَمَّ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الَّتِي تَجْرِي مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَالْأُمُورُ فِي الْخَلْقِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ الْقَدِيمُ. قَوْلُهُ: «خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ» أَيْ: جُهَّالًا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَبَّرَ عَنِ الْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَهْتَدُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُمْ؛ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تُدْرِكُ الرُّبُوبِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَوَاسِّ، أَوْ يُدْرِكُهُ الْأَوْهَامُ [ص: 97] ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، إِذًا فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ مِنْ حَيْثُ الْعَبْدُ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْرِفَةَ لَهُ بِهِ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِ فَيَعْرِفُهُ حِينَئِذٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ» أَيْ: هَدَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْهِدَايَةِ بِالنُّورِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدِ اهْتَدَى» ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلَائِلُ وَالْأَعْلَامُ الَّتِي فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَنْفُسِ لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، وَلَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ لِلْهِدَايَةِ بِمُجَرَّدِهَا، وَلَوْ كَانَتْ أَسْبَابًا لِلْهِدَايَةِ لَاهْتَدَى كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَقَدْ نَظَرَ إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ يُدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قَالَ: ح حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «مِنْ خَيْرِ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الطُّهُورِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَالِاسْتِقَامَةُ هِيَ الْإِقَامَةُ عَلَى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِإِيفَاءِ حَقِّهِ، وَرِعَايَةِ حَدِّهِ، وَأَوْلَى حَقِّهِ إِسْقَاطُ تَعْظِيمِ مَا سِوَى [ص: 98] اللَّهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكٍ، وَهُوَ أَنْ لَا نَخَافَ غَيْرَهُ، وَلَا نَرْجُوَ سِوَاهُ، وَلَا نُرَاعِيَ إِلَّا حَقَّهُ، وَكُلُّ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَأَدْنَى حُدُودِهِ إِقَامَةُ مَا أَوْجَبَهُ حَقُّ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَدَاءُ أَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَالرِّضَا بِمَا يَكُونُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: «وَلَنْ تُحْصُوا» قِيلَ: لَنْ تُحْصُوا ثَوَابَهَا، وَقِيلَ: لَنْ تُطِيقُوا أَيْ لَا تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا، وَمَعْنَاهُ لَا تَسْتَطِيعُونَ بِحَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، وَلَا بِاجْتِهَادِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ، بَلْ لَنْ تُطِيقُوهُ، وَأَحْرَى أَنْ لَا تُطِيقُوهُ، وَإِنْ بَذَلْتُمْ مَجْهُودَكُمْ، أَيْ عَجْزُهُمْ فِي أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَاسْتَقِيمُوا» عَلَى مَا أَقْرَرْتُمْ فِي الذَّرِّ الْأَوَّلِ حِينَ أَجَبْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِكُمْ عَلَى حِينَ قَالَ لَكُمْ: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» أَيِ اسْتَقِيمُوا عَلَى قَوْلِكُمْ «بَلَى» بِمُرَاعَاتِ الْأَنْفَاسِ، وَمُرَاقَبَةِ الْأَهْجَاسِ، وَلَنْ تُحْصُوا عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، وَلَا تُطِيقُونَ مُرَاقَبَةَ خَوَاطِرِكُمْ، فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُونَ، صَرَفَهُمْ عَنْ أَوْصَافِهِمْ فِي رُؤْيَةِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ، وَإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الِاضْطِرَابِ لَعَجْزِ الْبَشَرِيَّةِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ. وَقَوْلُهُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ خَيْرِ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَتَمِّهَا دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الصَّلَاةَ، وَذَلِكَ أَنَّهَا. . . . . اللَّه , وَالِانْقِطَاع إِلَيْهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَفِيهَا ذَمُّ الْجَوَارِحِ وَجَمِيعِ الشَّرِّ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِانْصِرَافُ عَمَّا سِوَاهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَمَّنْ دُونَهُ. وَقَوْلُهُ: «وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الطُّهُورِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّهَارَةَ مِنَ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْوَضُوءُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ» ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ثَوْبَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: ح يَعْلَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ثَوْبَانَ: «وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوَضُوءِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ» ، وَقَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ» قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «الطُّهُورُ» ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى طَهَارَةِ سِرِّهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُحَافِظُ عَلَى طَهَارَةِ ظَاهِرِهِ مِنَ الْحَدَثِ [ص: 99] . وَقَوْلُهُ: «لَنْ يُحَافِظَ» دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ «لَنْ تُحْصُوا» أَيْ: لَنْ تُطِيقُوا؛ لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى وَزْنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَهُوَ أَنْ تُجَاهِدَ مَنْ يُجَاهِدُكَ، أَيْ: تَكُونُ غَالِبًا مَرَّةً، وَمَغْلُوبًا أُخْرَى، وَأَنْتَ تَجْهَدُ وَتَبْذُلُ مَجْهُودَكَ فِي الْجِهَادِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَتَحَفَّظُ جَهْدَكَ وَطَاقَتَكَ فِي تَطْهِيرِ سِرِّكَ، ثُمَّ تُغْلَبُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تَحْفَظُ ثُمَّ تُضَيِّعُ، مَرَّةً حِفْظٌ وَمَرَّةً ضَيْعَةٌ، وَأَنْتَ بَاذِلٌ مَجْهُودَكَ فِي حِفْظِ سِرِّكَ، أَيْ: لَنْ تُطِيقَ الِاسْتِقَامَةَ، وَلَكِنْ تَبْذُلُ مَجْهُودَكَ فِيهِ، فَيَكُونُ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا، كَمَا أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوُضُوءِ لَيْسَ أَنْ لَا تُحْدِثَ، لَكِنْ كُلَّمَا أَحْدَثْتَ تَطْهُرُ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فِي الِاسْتِقَامَةِ بَيْنَ عَجْزِ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ اسْتِظْهَارِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَيَكُونُ بَيْنَ رِعَايَةٍ وَإِهْمَالٍ، وَبَيْنَ تَقْصِيرٍ وَإِكْمَالٍ، وَبَيْنَ مُرَاقَبَةٍ وَإِغْفَالٍ، وَهُوَ بَيْنَ جَدٍّ وَفُتُورٍ، كَمَا أَنَّهُ بَيْنَ حَدَثٍ وَطُهُورٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: ح دَاوُدُ. . أَبِي الْعَوَّامِ. . أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نُعْمَانَ قَالَ: ح عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ هُوَ النَّخَعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَالِسِ الْكُبَرَاءَ، وَسَائِلِ الْعُلَمَاءَ، وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ» وَقَالَ مِسْعَرٌ: عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ: «وَخَالِلِ الْحُكَمَاءَ» حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ قَالَ: ح أَبُو عُمَرَ الْإِمَامُ قَالَ: ح مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: ح مِسْعَرٌ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَالِسِ الْكُبَرَاءَ» أَيْ: ذَوُو الْأَسْنَانِ وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ لَهُمْ تَجَارِبٌ [ص: 100] ، وَقَدْ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ، وَسَكَنَتْ حِدَّتُهُمْ، وَكَمُلَتْ آدَابُهُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: آرَاؤُهُمْ، وَزَالَتْ عَنْهُمْ خِفَّةُ الصِّبَى، وَحِدَّةُ الشَّبَابِ، وَأَحْكَمُوا التَّجَارِبَ، فَمَنْ جَالَسَهُمْ تَأَدَّبَ بِآدَابِهِمْ، وَانْتَفَعَ بِتَجَارِبِهِمْ، فَكَانَ سُكُونُهُمْ وَوَقَارُهُمْ حَاجِزًا لِمَنْ جَالَسَهُمْ، وَزَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْ طِبَاعِهِمْ، وَيَتَبَرَّكُ بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» ، وَقَدْ أَمَرَ بِتَوْقِيرِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» . وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: «جَالِسِ الْكُبَرَاءِ» ، أَيِ: الْكُبَرَاءُ فِي الْحَالِ، وَمَنْ لَهُ رُتْبَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبِيرًا فِي السِّنِّ، وَالْكَبِيرُ فِي الْحَالِ هُوَ جَمِيعُ عِلْمِ الْوِرَاثَةِ إِلَى عِلْمِ الدِّرَاسَةِ، فَقَدْ قِيلَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ، فَقَدْ شَرَطَ لِوِرَاثَةِ هَذَا الْعِلْمِ الْعَمَلَ بِعِلْمِ الدِّرَاسَةِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الِاكْتِسَابِ، وَهُوَ عِلْمُ الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَحْكَامِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا عِلْمُ الدِّرَاسَةِ، وَعِلْمُ الْوِرَاثَةِ: عِلْمُ آفَاتِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَخِدَعِ النَّفْسِ، وَغُرُورِ الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِعِلْمِ الِاكْتِسَابِ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ عِلْمُ الْإِفْهَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ «عِلْمُ الْإِلْهَامِ» ، وَالْفَرَاسَةِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [ص: 101] ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْعِلْمَ، فَهُوَ الَّذِي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ» ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النُّورُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَتَحَ» ، فَقِيلَ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ، وَمَنْ تَجَافَى عَنِ الدُّنْيَا كُشِفَ عَنْ سِرِّهِ الْحُجُبُ، فَصَارَ الْغَيْبُ لَهُ شُهُودًا» قَالَ حَارِثَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حَدَّثَنَاهُ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ قَالَ: ح يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ الصَّفَّارُ قَالَ: ح ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذِ اسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» فَقَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى حَقًّا قَالَ: «انْظُرْ إِلَى مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، فَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَارُونَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَصَبْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لِي بِالشَّهَادَةِ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُودِيَ يَوْمًا فِي الْخَيْلِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَكَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ رَكِبَ، وَأَوَّلَ فَارِسٍ اسْتُشْهِدَ، فَبَلَغَ أُمَّهُ، فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنِ ابْنِي، فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ فَلَنْ أَبْكِيَ، وَلَنْ أَجْزَعَ [ص: 102] ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ بَكَيْتُ مَا عِشْتُ فِي الدُّنْيَا قَالَ: «أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا لَيْسَتْ بِجَنَّةٍ، وَلَكِنَّهَا جَنَّةٌ فِي جِنَانٍ، وَالْحَارِثَةُ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى» ، فَرَجَعَتْ، وَهِيَ تَضْحَكُ، وَتَقُولُ: بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا حَارِثَةُ فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ، وَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ كُوشِفَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ، وَعَلِمَ مَا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ فِيمَا تَعَلَّمَ، لَا أَنَّهُ يَعْلَمُ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَعَلُّمِهِ، حَتَّى يَعْلَمَ الْقُرْآنَ، وَأَخْبَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْكَامَ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ، لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكَاشِفُ وَيَنْهَتِكُ الْحُجُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ، فَلَا يَتَعَرَّضُهُ الشُّكُوكُ، وَلَا يُنَازِعُهُ الْخَوَاطِرُ فِي الْحَقِّ، وَبَيَانُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَقَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ» ، فَهَذِهِ أَوْصَافُ الْكُبَرَاءِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَجَلَّى عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: " تَجَلَّى قَدْرُهُ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، فَإِنَّهُ يُجَالِسُ فِي التَّوْقِيرِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَذَمِّ الْجَوَارِحِ، وَمُرَاقَبَةِ الْخَوَاطِرِ، فَإِنَّ أَهْلَ الصِّدْقِ لَهُمْ نُورٌ، يَقِفُونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْطَاكِيُّ: إِذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ، فَجَالِسُوهُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ يَدْخُلُونَ فِي أَسْرَارِكُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ هِمَمِكُمْ، وَمَنْ جَالَسَهُمْ فَلَا يَجِبْ أَنْ يَتَعَرَّضَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يُبَادَرُونَ بشَيْءٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «وَلَا يُبَادُونَ» ، وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ حَالٌ، وَلَكِنْ يُبْصِرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَكْشِفُونَ لَهُمْ مَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، أَلَا يَرَى إِلَى مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] ، وَإِنَّمَا يُجَالَسُ الْكُبَرَاءُ فِي أَوْقَاتٍ يَكُونُ مِنْهُمُ الْبِدَايَةُ وَالْإِذْنُ، وَلَا يُدَاخَلُونَ كُلَّ وَقْتٍ، فَإِنَّ أَوْقَاتَهُمْ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْمِلُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِي مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ غَيْرُهُ» ، هَذَا حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُهُ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُعْلَمَ، أَوْ يُعَبِّرَ عَنْهُ، وَأَحْوَالُ سَائِرِ الْكُبَرَاءِ عَلَى [ص: 103] قَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، إِذًا فَهَؤُلَاءِ يُجَالَسُونَ تَبَرُّكًا بِهِمْ، وَتَيَمُّنًا بِرَوَائِحِ أَحْوَالِهِمْ، فَهُمْ مَلْحَاءُ الْمُرِيدِينَ وَلَهْفَتُهُمْ بِهِمْ , يَتَحَرَّرُونَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَخَافُونَهُ مِنْ فِتَنِ الزَّمَانِ، وَشَرِّ أَهْلِهِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَبَلَاءِ النُّفُوسِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفْرَقُ مِنْ ظِلِّ عُمَرَ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ: «هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» وَقَوْلُهُ: «وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ» أَيْ: دَاخِلْهُمْ، وَاخْتَلِطْ بِهِمْ، وَكُنْ مَعَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ فَإِنَّ الْحَكِيمَ هُوَ الْمُصِيبُ فِي أَقْوَالِهِ، وَالْمُتْقِنُ لِأَفْعَالِهِ، وَالْمَحْفُوظُ فِي أَحْوَالِهِ، فَمَنْ خَالَطَهُمْ وَدَاخَلَهُمْ أَخَذَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِهِمْ، وَانْتَفَعَ بِإِصَابَتِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَتَهَذَّبَ بِهِمْ فِي مُخْتَلَفِ أَحْوَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: «سَائِلِ الْعُلَمَاءَ» تَنْبِيهٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِحْكَامِ الْأُمُورِ وَإِصْلَاحِهَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدِّمِ الْعِلْمَ عَلَى الْعَمَلِ لِتَكُونَ أَعْمَالُكَ عَلَى تَقْدِمَةِ الْعِلْمِ بِهَا فَتَصِحَّ. وَقَوْلُهُ: «سَائِلِ الْعُلَمَاءَ» ، لَمْ يَجْعَلْ لَهُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُنْ أَبَدًا عَالِمًا سَائِلًا وَمُتَعَلِّمًا، وَالْعُلَمَاءُ إِذَا أُطْلِقُوا فَهُمُ الْفُقَهَاءُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ عِلْمُ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلُومِ فَإِنَّهَا مَقَيَّدٌ؛ يُقَالُ: عِلْمُ الْكَلَامِ، وَعِلْمُ الْقُرْآنِ، وَعِلْمُ الْحَدِيثِ، وَعِلْمُ اللُّغَةِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْعُلُومِ، فَإِنَّهَا تُقَيَّدُ بِذِكْرٍ يَخُصُّهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ إِذَا أُطْلِقَ كَانَ الْمَفْهُومُ بِهِ الْفُقَهَاءَ، فَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ، فَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ , وَكَذَا يَقُولُ اللُّغَوِيُّونَ، وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ , وَبِهِ قَرَأَ فِي الْقُرْآنِ، يُنْسَبُ أَهْلُ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى مَا يَنْتَحِلُهُ، فَالْعُلَمَاءُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَائِلِ الْعُلَمَاءَ " أَرَادَ بِهِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْبَلْوَى بِهِ أَكْثَرُ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهِ آمَنُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قَالَ: حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، قَالَ: ح أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّازُ قَالَ: ح أَسِيدَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجَمَّالُ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَوْنِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُجْنِبَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنَا وَعَلِيٌّ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ بَيْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَبَيْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتَانِ لَمْ يَكُونَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ بِالْمَسْجِدِ، وَأَبْوَابُهُمَا كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَجْعَلُهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُجْنِبَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنَا وَعَلِيٌّ، وَإِنْ أَجْنَبْنَا فِيهِ، فَإِنَّا فِي بُيُوتِنَا» فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُجْنِبَ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُجْنِبُ فِي بُيُوتِنَا لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ بَيْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ أَبِي رَجُلٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَيُّهُمَا كَانَ خَيْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَارَ إِلَى بَيْتِ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، لَمْ يَكُنْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرُهُمَا "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِذًا فَلَمْ يَكُونَا يُجْنِبَانِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَا يُجْنِبَانِ فِي بُيُوتِهِمَا، وَبُيُوتُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ كَانَ أَبْوَابُهُمَا فِيهِ، وَكَانَا يَسْتَطْرِقَانِهِ فِي حَالَةِ الْجَنَابَةِ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: ح أَبُو فُضَيْلٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عَلِيُّ [ص: 105] لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُجْنِبَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ» قَالَ نَصْرٌ: قَالَ أَبُو عِيسَى: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ: قُلْتُ لِضِرَارِ بْنِ صُرَدَ: مَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَطْرِقَهُ جُنُبًا غَيْرِي وَغَيْرُكَ , فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَبْوَابَ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٍّ كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَا يَسْتَطْرِقَانِ الْمَسْجِدَ إِذَا خَرَجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا فِي حَالَةِ الْجَنَابَةِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُمَا، كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصَّ بِأَشْيَاءَ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ، ثُمَّ خَصَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَخَّصَ لَهُ فِيمَا لَمْ يُرَخِّصْ بِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْوَابُ بُيُوتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَبْوَابٌ لِبُيُوتٍ غَيْرِ بُيُوتِهِمَا، حَتَّى أَمَرَ بِسَدِّهِمَا، إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُدُّوا أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ كُلَّهَا إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ» ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْمَرُّوكِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّرَسُوسِيُّ قَالَ: ح أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: ح مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُدُّوا الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ص: 106] فَخَصَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُتْرَكَ بَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ مَفْتُوحًا، فَكَانَ يُجْنِبُ فِي بَيْتِهِ، وَبَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ غَيْرَ بَابِ أَبِي بَكْرٍ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ الْمَرُّوكِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: ح مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَتْ أَبْوَابًا تُطْلَعُ إِلَى الْمَسْجِدِ خَوْخَاتٍ، وَأَبْوَابُ الْبُيُوتِ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ بِسَدِّ تِلْكِ الْخَوْخَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ مَطْلَعٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَتَرْكِ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى , قَالَ: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: ح حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَخِي الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيُّ قَالَ: ح زَيْدُ بْنُ يَحْيَى، وَفِي نُسْخَةٍ: يَزِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: ح مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» وَقَالَ غَيْرُهُ: «سُدُّوا الْأَبْوَابَ» بِلَا لَفْظَةِ: إِلَى الْمَسْجِدِ «وَاتْرُكُوا بَابَ أَبِي بَكْرٍ» فَدَلَّ هَذَا أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ لَمْ تَكُنْ أَبْوَابَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُدْخَلُ فِيهَا وَتُخْرَجُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْخَاتٍ تَطْلُعُ إِلَى الْمَسْجِدِ كَالْكِوَا، وَالْمَشَاكِي، وَبَابُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بَابَ الْبَيْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ أَشَارَ إِلَى بَيْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى جَنْبِ [ص: 107] بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَلَّ أَنَّ بَيْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِيهِ، وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرُهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: ح الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبُعْدِهِ مِنْ مَوَاضِعِ التَّقَيُّدِ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ بَابُ النَّظَرِ إِلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ} ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ» ، فَهِيَ بَابُ الْعَبْرَةِ، وَالْفَمُ بَابُ الذِّكْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] ، وَالْأُذُنُ بَابُ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمَاعُ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] ، وَلَيْسَ فِي الْخَيَاشِيمِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اقْتِرَابُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَمَوْضِعُ مَدْخَلِهِ فِيهِ إِمَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ، أَوْ جَرَيَانِهِ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ، وَقَالَ فِي التَّثَاؤُبِ: «التَّثَاؤُبُ [ص: 108] فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» ، وَقَالَ: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ فِي جَوْفِهِ» ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلُهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْخَيَاشِيمِ مِنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ، وَهُوَ بَابٌ ظَاهِرٌ، وَيَقُولُ النَّاسُ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُ أَمْرٌ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ كِبْرٌ: نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنْخَرِهِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنَاخِرِكُمْ، حَتَّى قُلْتُمْ: مَا بِالْحَجَّاجِ فَمَهْ، وَهَلْ يَرْجُو الْحَجَّاجُ الْخَيْرَ كُلَّهُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَهُوَ بَابٌ ظَاهِرٌ يَعْنِي الْخَيْشُومَ، لَيْسَ لَهُ طَبَقٌ، وَالْعَيْنُ وَالْفَمُ لَهُمَا طَبَقَانِ، وَمَا دُونَ الْإِزَارِ فَمَسْتُورٌ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَجِدُ الْعَدُوُّ إِلَيْهِ سَبِيلًا، كَمَا لَا يَجِدُ إِلَى السِّقَاءِ إِذَا أُوكِيَ، وَإِلَى الْبَابِ إِذَا غُلِّقَ. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عَمَّارُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نِمْتَ فَأَغْلِقِ الْبَابَ، وَأَوْكِ السِّقَاءِ، وَخَمِّرِ الْإِنَاءَ، وَأَطْفِئِ السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقًا سُدَّ، وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تَضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بُيُوتَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تُخَمِّرُهُ بِهِ، فَأَعْرِضْ عَلَيْهِ وَلَوْ بِعُودٍ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ الْمُهْتَدِي، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، قَالَ قَيْسٌ: قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ بَاسِطٌ يَدَهُ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى النَّهَارِ، وَبَاسِطٌ يَدَهُ لِمُسِيءِ النَّهَارِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّيْلِ، يَرْفَعُ عَمَلَ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلَ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَ عَنْهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَ بَصَرُهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ، قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: ح عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح سُفْيَانُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، نَحْوَهُ، وَقَالَ: «حِجَابُهُ النَّهَارُ» . قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنَامُ» نَفَى عَنْهُ النَّوْمَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرَاحَةُ مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصْبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنِ. . . . اسْتِرَاحَة لَهُ بِصِفَةٍ، وَالنَّوْمُ غَفْلَةٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَفَى بِقَوْلِهِ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ» جَوَازَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا يَنَامُ، وَلَا يَجُوزُ النَّوْمُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ آفَةٌ، وَالْآفَةُ حَدَثٌ، وَلَيْسَ عَزَّ وَجَلَّ بِمَحَلٍّ لِلْحَوَادِثِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَوْلُهُ: «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ» يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ رَفْعَ أَهْلِ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَيَضَعُ أَهْلَ الْجَوْرِ، أَيْ بِرَفْعِ قَدْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ النَّاسِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالْحِفْظِ لَهُمْ وَالْعَوْنِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ، وَيَضَعُ أَهْلَ الْجَوْرِ فِي الدُّنْيَا بِالْبُغْضِ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَالْعَاقِبَةِ الْوَبِئَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعُقُوبَةِ، وَخِفَّةِ الْمِيزَانِ، فَلَا يُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الْقِيَامَةِ وَزْنًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْفِضُ أَقْوَامًا لِأَجْلِ الْقِسْطِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا لِأَجْلِ الْقِسْطِ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَخْفِضُ بِالْقِسْطِ وَيَرْفَعُ بِالْقِسْطِ، وَمَعْنَاهُ يَرْفَعُ أَقْوَامًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَمَرَاتِبِهِ، وَيَضَعُ آخَرِينَ بِالذُّلِّ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ عَادِلٌ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَا جَائِرٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَكُونُ مِنْهُ، وَالْجَوْرَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَةِ قَادِرٍ، وَلَا فَوْقَهُ آَمِرٌ، وَلَا زَاجِرٌ، فَيَكُونُ ظَالِمًا بِتَرْكِ الْأَمْرِ، أَوْ جَائِرًا عَنْ سُنَنِ الْحَقِّ تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «يَخْفِضُ الْقِسْطَ» ، أَيْ: يُنْقِصُ الْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ الْجَوْرِ وَأَهْلِهِ، وَيَرْفَعُهُ بِالْبَسْطِ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ الْعَدْلِ وَأَهْلِهِ، فَقَدْ كَانَ الْقِسْطُ وَالْعَدْلُ وَالْإِيمَانُ غَيْرَ مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِغَلَبَةِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، ثُمَّ بَسَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِرْسَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْجَوْرُ وَالْكُفْرُ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَسَطَ الْقِسْطَ، وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ، وَمَحَقَ الْكُفْرَ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْمَهْدِيِّ: «فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَاسِطٌ يَدَهُ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى النَّهَارِ» ، الْيَدُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، وَلَوْ لَمْ يَرِدِ السَّمْعُ لَمْ يَجُزِ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ، فَلَمَّا وَرَدَ السَّمْعُ بِهِ وَجَبَ التَّصْدِيقُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَنَفْيُ التَّشْبِيهِ وَأَوْصَافِ الْحَدَثِ عَنْهُ , قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الْمُثْبِتَةِ: لَهُ يَدٌ لَا كَالْأَيْدِي، كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ لَا كَالْمَوْجُودِينَ، وَشَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ: إِنَّهَا يَدُ صِفَةٍ، وَلَيْسَتْ بِيَدِ جَارِحَةٍ، وَلَا جُزْءٍ، وَلَا بَعْضٍ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا جَوْهَرٍ، وَلَا عَرَضٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِيَّ} [ص: 75] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 : 64] وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: «بَاسِطٌ يَدَهُ» ، فَصَدَّقَهُ الْقُرْآنُ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ , وَالْقَوْلُ بِهِ عَلَى مَا قُلْنَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَاسِطٌ يَدَهُ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ إِسَاءَتَهَ فِي دِيَوَانِهِ لَيْلَتَهُ، وَيُمْهِلَهُ إِلَى النَّهَارِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ قَالَ: ح بِشْرُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَاحِبُ الْيَمِينِ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ الْحَسَنَةَ كَتَبَهَا لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً , قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: أَمْسِكْ، فَيُمْسِكُ عَنْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ، فَإِنِ اسْتَغْفِرْ لَمْ يَكْتُبْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كَتَبَ سَيِّئَةً وَاحِدَةً «فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُمْسِكُ عَنْ إِثْبَاتِهَا فِي دِيوَانِهِ لِيَسْتَغْفِرَ، فَمَعْنَى» بَاسِطٌ يَدَهُ " يَعْنِي: بِالرَّحْمَةِ وَالْإِمْهَالِ لِيَتُوبَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَثْبَتَهَا حَسَنَةً فِي دِيوَانِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ أَثْبَتَهَا فِي دِيَوَانِهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ لَهُ إِلَى أَنْ يُغَرْغِرَ بِالْمَوْتِ، وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: «يَرْفَعُ عَمَلَ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: تَصْعَدُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ بِأَعْمَالِ الْخَلْقِ فِي اللَّيْلِ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ بِأَعْمَالِ الْخَلْقِ فِي النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: يَقْبَلُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ فِي لَيْلِهِمْ قَبْلَ النَّهَارِ، وَفِي نَهَارِهِمْ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى تَعْجِيلِ إِجَابَتِهِ لِمَنْ دَعَاهُ، وَحُسْنِ قَبُولِهِ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ، وَسُرْعَةِ إِقْبَالِهِ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: «حِجَابُهُ النَّارُ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَالتَّوَهُّمِ لَهُ، وَالْفِكْرَةِ فِيهِ بِسُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ص: 112] . وَقَوْلُهُ: «لَوْ كَشَفَ عَنْهَا» ، يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ لَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ حِجَابُ لُطْفِهِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَحِجَابُ الْغَفْلَةِ عَنْ أَعْدَائِهِ وَمَنْ جَحَدَهُ، وَحِجَابُ الرَّحْمَةِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمَادٍ وَحَيٍّ، فَظَهَرَ لَهُمْ جَلَالُهُ وَهَيْئَتُهُ وَقَهْرُهُ لَتَلَاشَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا، وَاضْمَحَلَّتْ وَفَنَيَتْ وَغَابَتْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، أَيْ: بَانَ لَهُ سُلْطَانُهُ وَعَظَمَتُهُ، فَصَارَ تُرَابًا، بَلْ تَلَاشَى، وَذَهَبَ وَفَنِيَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَجَلَّى لشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو شُعَيْبٍ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ قَالَ: ح دُحَيْمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَجَلَّى لشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ، فَإِذَا انْكَسَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَصَلُّوا كَأَتَمِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّيْتُمُوهَا» أَخْبَرَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي حُجْبَةٍ عَنْهُ، وَلَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْهَا تَلَاشَتْ، وَمَعْنَى التَّجَلِّي إِظْهَارُ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ، فَعَلَى قَدْرِ مَا يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ ذَهَابُ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى قَدْرِ مَا يَحْجُبُهَا يَكُونُ بَقَاؤُهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «حِجَابُهُ النَّارُ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ عِبَارَةً عَنِ الشُّغْلِ، أَيْ: حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْهُ لِيَشْغَلَهُمْ بِذَاتِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ مِنْ ضَرُورَاتٍ وَشَهَوَاتٍ، وَلَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْهُمْ فَبَانَ لَهُمْ هَيْئَتُهُ وَسُلْطَانُهُ تَلَاشَوْا وَفَنَوْا [ص: 113] . وَمَعْنَى: «سُبُحَاتُ وَجْهِهِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْجَلَالِ وَالْهَيْبَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ» ، أَيْ: أَفْنَى جَلَالُهُ وَهَيْبَتُهُ وَقَهْرُهُ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ. وَمَعْنَى: " مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، أَيْ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَحْدَثَهُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الثَّرَى، كَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: «مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ» عَلَى التَّحْدِيدِ وَالتَّجْزِئَةِ، حَتَّى يَكُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْعِبٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ لَا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَسْتَتِرُ عَنْهُ مَخْلُوقٌ، وَلَا يَتَوَارَى عَنْهُ مُحْدَثٌ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَأَلْتُ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي، فَقَالَ: لَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقُلْتُ: رَبِّ زِدْنِي، فَقَالَ: لَكَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقُلْتُ: رَبِّ زِدْنِي، فَقَالَ: لَكَ هَذَا، فَيَجِيءُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ "، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَسْبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ لَنَا مَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهَا حَثْيَةٌ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي حَثْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مَعْنَيَانِ: الْكَثْرَةُ وَالِاخْتِلَاطُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَثَى عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَخْتَارُ، فَيَأْخُذُ شَيْئًا وَيَدَعُ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مَا حَصَلَ فِي قَبْضَتِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ بَحْثَيَّةً أَنَّ الَّذِينَ شَفَّعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَجُوزُ الْعَدَدَ كَثْرَةً، وَالصِّفَةَ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: شَفَّعَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمَّتِي بِغَايَةٍ مِنَ الْكَثْرَةِ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ [ص: 114] أَوْصَافُهُمْ مُسِيئِينَ كَانُوا أَوْ مُحْسِنِينَ، أَصْحَابَ صَغَائِرَ كَانُوا أَوْ كَبَائِرَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قَالَ: حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ حَمْدَانَ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: ح أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قَالَ: وَحَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ زُبَيْرٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَشْفَعُ؟ قَالَ: «لِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْعَظَائِمِ» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِحَثْيَةٍ إِلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهَا حَثْيَةٌ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّنَا، وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِزُ الْعَدَدَ وَالْإِحْصَاءَ، فَكَيْفَ بِالَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَثْرَتِهِ، فَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَلَالَةٌ أَنَّهُ شُفِّعَ فِي جَمِيعِ أُمَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: حَسْبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْ: قَدِ اسْتَوْعَبْتَ، وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْ رَسُولَ اللَّهِ يُكْثِرُ لَنَا مَا أَكْثَرَ اللَّهُ لَنَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ إِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَدْرَكَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلِمَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْجَمِيعِ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ غَايَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: ح حَمْدَانُ بْنُ ذِي النُّونِ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ، وَأَجْيَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالُوا: ح مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ الْأَشْعَرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَكُنَّا مَعَهُ، فَفَقَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْنَا نَطْلُبُهُ، فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا يَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْنَا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَقَبَّلَ شَفَاعَتِي فِيهِمْ , قَالَ: فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ "، فَقُلْنَا: أَتَشْفَعُ لَنَا؟ قَالَ: «قَدْ شَفَعْتُ لَكُمْ» ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَالَ: «هِيَ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ تَخْرُجُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ بِمَا تَضَمَّنَتْ إِشَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَثْيَتِهِ، وَإِنَّهَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُ شَفَّعَهُ فِي جَمِيعِ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ وَالْعَظَائِمِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ سِوَى الْإِيمَانِ خَيْرًا، حِينَ أَخْبَرَ أَنَّهَا حَثْيَةٌ مِنْ حَثَيَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَعْنَى الْحَثْيَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَارَةٌ عَمَّا قُلْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهِ: قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ بْنِ سَهْلٍ الْمُطَّوِعِيُّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي دَارِ بَكَّارٍ، وَهُوَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ: حَدَّثَكُمْ مَحْمُودُ بْنُ آدَمَ قَالَ: ح سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْ صَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ لَوْ كُنْتُ أَنَا مَكَانَهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ لَبَدَرْتُهُ الْبَابَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْقَدْرُ، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ قَالَهَا مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَبْرِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكِرَامِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسُكُونِهِ فِي حَالِهِ، وَرِضَاهُ وَتَمَكُّنِهِ وَسُكُونِهِ تَحْتَ مَجَارِي أَقْضِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِلَّةِ اضْطِرَابِهِ، وَانْتِظَارِيَةِ حُكْمِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْفَرَحِ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ غَمِّ السِّجْنِ وَكَرْبِهِ، وَعَجِبَ مِنْ شَأْنِهِ فِي صَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَرَفَعَ مِنْ قَدْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَهُ لَبَادَرَ الْبَابَ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعُ حَالًا، وَأَشَدُّ تُمَكُّنًا، وَأَجَلُّ قَدْرًا، فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَخَيْرُ الْبَشَرِ، فَهُوَ أَحْرَى بِالصَّبِرِ وَالْكَرَمِ، وَأَحَقُّ بِتَمْكِينِ الْحَالِ، فَلَيْسَ إِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمُبَادَرَةِ الْخُرُوجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَضَجُّرًا مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِبْطَاءِ لِلْفَرَجِ، وَلَا لِعِلَّةِ التَّمَكُّنِ وَلَا لِاضْطِرَابٍ مِنْهُ فِي الْحَالِ الَّتِي رُفِعَ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ إِيَثارَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا، فَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ دَعَا أَهْلَ السِّجْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] الْآيَةَ، دَلَّهَمْ عَلَى صَدْقِهِ بِالْمُعْجِزَةِ عَنِ الْآيَةِ وَهُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، فَقَالَ {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] الْآيَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ فِي السِّجْنِ، فَلَمَّا وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ بِإِرْسَالِ الْمَلِكِ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتُوهُ بِهِ تَرَبَّصَ، وَقَدَّمَ عُذْرَ نَفْسِهِ وَبَرَاءَتَهَا مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ الَّذِي رَمَتْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ بِهِ إِذْ تَقُولُ {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف: 25] ، فَرَدَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّسُولَ , فَقَالَ {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50] الْآيَةَ: فَلَمَّا بَرَّأْنَهُ {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَ الْمَلِكَ، وَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُ الْبَابَ» ، يَعْنِي الْأَصْلَ إِلَى دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأَدُّبًا بِأَدَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَهُ لَآثَرَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَرَاءَةِ نَفْسِهِ إِعْرَاضًا عَنْهَا، وَإِقْبَالًا عَلَى اللَّهِ فِي أَدَاءِ حَقِّهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ يُوسُفَ شِبْهَ التَّقْصِيرِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى التَّقْصِيرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ، ثُمَّ جَاءَنِي الرَّسُولُ أَجَبْتُ» ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالَ: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذِرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ " قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: ح الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَالنُّبُوَّةُ، وَهِيَ أَعَزُّ مِنَ الْعَشِيرَةِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَوْ كُنْتُ أَنَا مَكَانَهُ حِينَ آتَاهُ الرَّسُولُ لَبَادَرْتُهُ» ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّقْصِيرِ تَقْصِيرًا فِي حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقْصِيرٌ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُ حَالًا مِنْهُ أَبَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَنْ دَرَجَةِ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ يُوسُفَ لَوْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْصِيرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ يُوسُفَ تَقْصِيرٌ؛ لِأَنَّ إِظْهَارَ عُذْرِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ مِنْ وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ لُوطٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذْ أَوَى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ يَمْنَعُونَنِي فَلَا أُقْتَلُ لِأَصِلَ إِلَى قَضَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى طَلَبِ حُظُوظِ النَّفْسِ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدَا حُظُوظَ نَفْسِهِمَا، فَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَخُصُومَةٌ عَنْهُمَا، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُشْبِهُ التَّقْصِيرَ مِنْ حَالِ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ نَفْسُهُ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُظُوظُهَا. وَقِيلَ: لَوْ خَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يُبَرِّئْنَهُ لَاحْتَاجَ إِلَى طَلَبِ الْعُذْرِ مِنَ الْمَلِكِ، فِيمَا رُمِيَ بِهِ، فَلَمَّا تَرَبَّصَ حَتَّى بَرَّأْنَهُ اعْتَذَرَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ قَالَهَا مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ» ، فَقِيلَ: الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا قَوْلُهُ لِلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا، أَيْ: صَاحِبَيِ السِّجْنِ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ، قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ الْهِسِنْجَانِيُّ قَالَ: ح أَحْمَدُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِي قَالَ: ح زُهَيْرُ بْنُ عَبَّادٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السِّجْنِ قَالَ: فَعَرَفَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ مَا لِي أَرَاكَ بَيْنَ الْمُنْذَرِينَ، أَمَا تَرَانِي كَأَسِيرٍ بَيْنَ الْخَاطِئِينَ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا طَاهِرَ ابْنَ الطَّاهِرِينَ إِنَّ اللَّهَ كَرَّمَنِي بِكَ وَآبَائِكَ وَهُوَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنِ اسْتَشْفَعْتَ بِغَيْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ: اسْتَعَنْتَ بِغَيْرِي، وَعِزَّتِي لَأُلْبِثَنَّكَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ قَالَ: فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ , قَالَ: إِذًا لَا أُبَالِي فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهُوَ الْحَقُّ، وَالْقَوْلُ بَعْدَهُ تَكَلُّفٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قَوْلُهُ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] ، فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْبَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ» ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] ، لَمْ يُسْجَنْ هَذَا، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَتَبَهُ عَلَى يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ؛ لِأَنْ لَا يُسْبَقَ إِلَى الْأَوْهَامِ أَنَّ لُبْثَهُ فِي السِّجْنِ كَانَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى ذَنْبٍ، أَوْ مُعَاتَبَةً عَلَى تَقْصِيرٍ، وَلَكِنْ عَلَى اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ آثَرَ أَلَمَ نَفْسِهِ وَعَنَاهَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا رُووِدَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ تَشَكُّرٌ مِنْهُ وَإِظْهَارُ فَضْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلُبْثُهُ فِي السِّجْنِ مُدَّةَ مَا لَبِثَ رِفْعَةٌ لَهُ، وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ، وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ، وَارْتِفَاعُ دَرَجَتِهِ، فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ ابْتُلِيَ بِالرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالْعُبُودِةِ إِذَا قَصَّرَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ، وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُلُوكِ , وَلَيْسَ مَا جَرَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَلَا وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ مِنَ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا عُقُوبَاتٍ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُحَفٌ وَهَدَايَا وَخِلَعٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَجَّهُ سَجًّا» وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا كَلِمَةٌ قَالَهَا» ، يَصْرِفُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ وَالتَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَلْبَثَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ، فَيَجُوزُ مَعْنَاهُ لَوْلَا كَلِمَةٌ قَالَهَا الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَبِثَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَبِثَ , لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقَوْلِ {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 19] ، وَقَوْلُهُ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَقَوْلُهُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقَوْلِ مَصْرُوفًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ اسْمُهُ عَزَّ وَجَلَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فَكَانَ الدُّعَاءُ إِشَارَةً إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَوْلَا كَلِمَةٌ قَالَهَا» يَعْنِي: قَالَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى قَوْلِهِ: «وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ» ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَصْرُوفًا إِلَى الِاسْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ "، وَيَكُونُ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنْ لُبْثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً لِذَنْبٍ كَانَ مِنْهُ - وَذَلِكَ سَبَقَتْ - وَلَا عِتَابًا عَلَى تَقْصِيرٍ فِي حَقٍّ، لَكِنْ لِقَضَاءٍ سَبَقَ، وَقَدَرٍ مَضَى لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالْحِكْمَةِ مِنْهَا مَا ظَهَرَ، وَالَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ أَكْثَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحْنَاجٍ، قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوِتْرُ: الْفَرْدُ، وَالْفَرْدُ هُوَ الَّذِي لَا يَزْدَوِجُ، فَالْوِتْرُ هُوَ الَّذِي لَا يُشْفَعُ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ، لَا يُشْفَعُ بشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ هُوَ الْفَرْدُ الَّذِي لَا يَزْدَوِجُ بشَيْءٍ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَفْرَادِ يَزْدَوِجُ بِشَكْلٍ، أَوْ بِضِدٍّ، وَكُلُّ وِتْرٍ غَيْرَهُ يُشْفَعُ بِخِلَافٍ أَوْ وِفَاقٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ، إِذْ لَا شَكْلَ لَهُ، وَلَا ضِدَّ، وَكُلُّ وِتْرٍ سِوَاهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِفَرْدٍ بَلْ هُوَ شَفْعٌ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ، وَيَقْبَلُ التَّرْكِيبَ، وَاللَّهُ تَعَالَى [ص: 121] يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَهُوَ فَرْدٌ وِتْرٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ، لَا يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ خَلْقُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مِنْ جِهَةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْوِتْرِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأَحَدِيَّةِ، فَهُوَ وَاحِدٌ مُتَوَحِّدٌ، فَرْدٌ مُتَفَرِّدٌ، وَاحِدٌ مُتَّحِدٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» أَيْ: هُوَ فَرْدٌ وَاحِدٌ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ كُلَّ فَرْدٍ، لَا يَزْدَوِجُ بِالْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى: السُّكُونِ إِلَيْهَا، وَالتَّشَبُّثِ بِهَا، وَالِاعْتِنَاقِ لَهَا، وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا، بَلْ يَنْفَرِدُ عَنِ الْخَلْقِ، فَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَعَنِ الدُّنْيَا، فَلَا يَمِيلُ إِلَيْهَا، وَعَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ فَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَيْضًا وِتْرٌ، أَيْ: فَرْدٌ تَفَرَّدَ بِخَلْقِ عِبَادِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُعِينٌ، وَلَا ظَهِيرٌ، وَتَفَرَّدَ بِهِدَايَةِ مَنْ هَدَاهُ مِنْ غَيْرِ شَفِيعٍ وَلَا وَزِيرٍ، وَأَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا لَوْ عَدُّوهَا لَمْ يُحْصُوهَا، تَفَرَّدَ بِكُلِّ ذَلِكَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، فَيُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ كُلَّ وِتْرٍ أَيْ: مُتَفَرِّدٌ بِعِبَادَتِهِ لَهُ مُقْبِلٌ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ، قَاصِدٌ بِنِيَّتِهِ وَحْدَهُ، نَاظِرٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِلَيْهِ، مُكْتَفٍ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِهِ، لَا يَعْرُجُ فِي سِرِّهِ إِلَيْهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يُوَافِقُ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَكُونُ الدُّنْيَا مِنْهُ عَلَى بَالٍ، فَيَكُونُ وِتْرًا لِوِتْرٍ، وَفَرْدًا لِفَرْدٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» ، يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ خَطَرَ بِهِ عَلَى إِيجَابِ الْوِتْرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ تِلَاوَةً لَهُ وَإِيمَانًا بِهِ، فَلْيُوتِرْ، فَأَوْجَبَ الْوِتْرَ كَإِيجَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَفْرِدُوا الْأَعْمَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تُشِيبُوهَا بِرِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، وَلَا تَخْلِطُوهَا بِإِرَادَةِ دُنْيَا، وَلَا هِمَّةِ حَظِّ نَفْسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرَاءٌ، وَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ " قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْهَرَوِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» أَيْ: أَخْلِصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا تُوتِرُوا فِيهِ، وَأَفْرِدُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح إِسْحَاقُ وَهُوَ حَازِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحُمَيْسِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْحُمَسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَلْبِ آدَمِيٍّ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يُثَبِّتَهُ ثَبَّتَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقَلِّبَهُ قَلَّبَهُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ، تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بِالْأَصَابِعِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْيَدِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، فَقَامَتِ [ص: 123] الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ يَدَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لَيْستْ بِجَوَارِحَ، وَلَا أَعْضَاءٍ، وَلَا أَصَابِعَ، وَلَا أَجْزَاءٍ، إِذْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ فَرْدٌ بَعِيدٌ عَنْ أَوْصَافِ الْحَدَثِ، وَعَنْ شِبْهِ الْمَخْلُوقِينَ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْوَصْفُ لَهُ بِمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ، وَنَفْيُ أَوْصَافِ الْحَدَثِ عَنْهُ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالدَّرَكِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَالْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِصْبَعِ، فَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ لَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْإِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَالتَّصْدِيقُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْفِيَّةٍ، وَلَا إِدْرَاكٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ. أَوَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَأَعْرَفُهُمْ وَبِأَوْصَافِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَعْلَمُكُمُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] ، فَالْإِصْبَعُ صِفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْعَدْلُ، وَالْفَضْلُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ» أَيْ: بَيْنَ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَعْنِي الْفَضْلَ وَالْعَدْلَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَيَعْنِي بِالصِّفَتَيْنِ الْعَدْلَ وَالْفَضْلَ لِقَوْلِهِ: يُقَلِّبُهَا، فَيَكُونُ التَّقْلِيبُ عَنْ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بَيْنَ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مَرَّةً إِلَى كَذَا، وَمَرَّةً إِلَى كَذَا، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَإِذَا قَلَبَ قَلْبَ عَبْدٍ إِلَى هُدًى فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِذَا قَلَبَهُ إِلَى ضَلَالٍ فَهُوَ عَدْلٌ مِنْهُ» ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ» ، وَيَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ بِعَدْلٍ، وَالْعَدْلُ صِفَةٌ لَهُ، فَهُوَ يُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكُلُّهَا إِرَادَةُ الشَّرِّ بِهِمْ وَالضَّلَالِ لِقَوْلِهِ [ص: 124] عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] ، فَهُوَ يَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمُ الْمَرَضَ، وَيُقَلِّبُهَا مِنَ الْمَرَضِ إِلَى الزَّيْغِ، وَمِنَ الزَّيْغِ إِلَى الدِّينِ، وَالدِّينُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهَا فِي أَكِنَّةٍ، وَمِنْهَا إِلَى الطَّبْعِ، وَمِنَ الطَّبْعِ إِلَى الْخَتْمِ، وَذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ، وَهُوَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ إِذْ هُوَ الْمَالِكُ لَهُمْ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَعَلَى هَذَا يُقَلِّبُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ، وَمَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الشَّقَاءُ فَكَفَرَ وَجَحَدَ وَأَشْرَكَ وَنَافَقَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَيُقَلِّبُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ بِفَضْلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِرَادَةَ الْخَيْرِ لَهُمْ لِيَهْتَدُوا وَيُوَفَّقُوا وَيَزِيدَهُمْ إِيمَانًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] ، وَتَثْبِيتًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] ، فَقُلُوبُ أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى تَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَاللِّينِ وَالشِّدَّةِ، وَالْوَجَلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْقَبْضِ الْبَسْطِ، وَالشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْأُنْسِ وَالْهَيْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُهَا بِفَضْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، وَقَالَ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، يَقْبِضُ قُلُوبَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْهُ، وَيَبْسُطُهَا بِالْأُنْسِ بِهِ وَالذِّكْرِ لَهُ، فَقُلُوبُ عِبَادِهِ تَتَقَلَّبُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَهُوَ يُقَلِّبُهَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [ص: 125] بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَمِنْهُ التَّثْبِيتُ وَالْإِزَالَةُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَقُلُوبُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ تَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بَيْنَ يَقِينٍ وَاضْطِرَابٍ، وَغَفْلَةٍ وَتَيَقُّظٍ، وَسُكُونٍ إِلَى الدُّنْيَا وَمَيْلٍ إِلَى الْآخِرَةِ، مَرَّةً إِلَى هَذَا، وَمَرَّةً إِلَى هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا سُمَيَّ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ حِفْظِ الْقَلْبِ بَيْنَ مَا يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ، حَتَّى تَرَاهُ يَجُولُ حَوْلَ الْحُشِّ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّمَا عَلَى الْعَبْدِ ذَمُّ جَوَارِحِهِ، وَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ، وَكُفُّ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ، وَأَصْلَحَ سِرَّهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَنْ صَلَّحَ بَرَّانِيَّهُ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّانِيَّهُ مَعْنَاهُ: مَنْ أَصْلَحَ ظَاهِرَهُ بِذَمِّ جَوَارِحِهِ، وَحِفْظِ حَرَكَاتِهِ، أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِفْظِ قَلْبِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اسْتَجْلِبْ نُورَ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الْحُزْنِ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَ الْحُزْنِ بِطُولِ الذِّكْرِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِحْجَامِ الْقَلْبِ، وَاطْلُبْ إِحْجَامَ الْقَلْبِ بِتَرْكِ خُلَطَاءِ السُّوءِ، وَقِيلَ: مَوْتُ الْقَلْبِ بِالْجَهْلِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاكٍ الْفَقِيهُ، قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ سَهْلٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: ح مَعْمَرٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْقَلْبَ يَدْثُرُ كَمَا يَدْثُرُ السَّيْفُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَحَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُقَلِّبِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ، وَاسْتَمِعْ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْقَلْبَ الْمَيِّتَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى التَّيْمِيُّ قَالَ: ح يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟ أَوْ أُقَيِّدُ وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: «بَلْ قَيِّدْ، وَتَوَكَّلْ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ: أَصْلُ التَّوَكُّلِ السُّكُونُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ سَكَنَ مِنْهُ الِاضْطِرَابُ، وَسَقَطَ عَنْهُ السُّكُونُ إِلَى الْأَبْوَابِ. وَمَنْ صَحَّ تَوَكُّلُهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى فَوَاتِ حَظِّهِ، وَلَا إِلَى إِصَابَتِهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَوَكَّلَ عَلَى مَا سَبَقَ، وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَاذَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: فَوَاتُ حَظِّهِ، أَوْ إِصَابَتُهُ فَأَمَّا مَنْ تَوَكَّلَ لِتَحَرُّزٍ مِنْ فَوْتِ مَا عِنْدَهُ أَوْ نَيْلِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِمُتَوَكِّلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ قَدْ يَجُوزُ فِي قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَوْتُ مَا عِنْدَهُ، وَحِرْمَانُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَا مَرَدَّ لِقَضَاءِ اللَّهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، فَسَوَاءٌ تَوَكَّلَ أَوْ تَمَسَّكَ بِالسَّبَبِ، وَاخْتَلَطَ فِي الطَّلَبِ، أَلَا يَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا رَزَقَ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّيْرَ لَا تَوَكُّلَ لَهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إِلَى فَوَاتٍ أَوْ نَيْلٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَى الْأَسْبَابِ وَلَا مُتَعَلِّقِينَ بِهَا، وَلَا مُضْطَرِّينَ فِيمَا تُكِفِّلَ لَكُمْ مِنْ أَرْزَاقِكُمْ لَأَدْرَكْتُمْ مَا قُسِمَ لَكُمْ مِنْ غَيْرِ [ص: 127] حَرْثٍ، وَلَا زَرْعٍ، وَلَا تَكَلُّفٍ، فَأَمَّا التَّحَرُّزُ لِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ وَحِفْظِ الْحُظُوظِ وَنَيْلِهَا، فَإِنَّهَا مَأْذُونٌ فِيهَا غَيْرُ مَدْعُوٍّ إِلَيْهَا، إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْأَغْيَارِ، وَصَوْنًا لِلدِّينِ الْوَطَنِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ السَّابِقِينَ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْوُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وَقَدْ رَقَى رَسُوُل الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَّمَ الْمَعَاوِذَ، وَكَوَى سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَلُومُنَّ فِي أَبِي أُمَامَةَ» يَعْنِي سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ فَكَوَاهُ، يَعْنِي: لَأُعْزَرَنَّ فِيهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ رَفْضُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الرُّقَى وَالْكَيَّ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلَانِ رَجَاءَ الْعَافِيَةِ، وَالْمُتَوَكِّلُ لَا يُبَالِي بِالْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُ مَا يَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ، وَيَكُونُ سُكُونُهُ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ صِحَّةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ نَيْلٍ، أَوْ فَوَاتٍ، فَإِنَّهَا الْأَسْبَابُ الَّتِي جَاءَ التَّرْغِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ وَالْحِرَفِ وَالتِّجَارَاتِ، فَعَلَى شَرْطِ التَّعَاوُنِ نَصَحَ، وَالْمُتَوَكِّلُ يَفْعَلُ هَذِهِ كُلَّهَا لَا يَجْتَرُّ بِهَا نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ، لَكِنْ لِيَنْفَعَ الْأَغْيَارَ، وَيَصُونَ بِهِ عِرْضَهُ وَدِينَهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ، وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَهَا حَلَالًا مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ تَنَاوُلَ الْأَسْبَابِ لِصَوْنِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ، وَنَفْعِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا مَا يُتَحَرَّزُ بِهِ مِنَ الْآفَاتِ فَهُوَ غَيْرُ مُعَوَّلٍ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهَا إِلَّا مَا يُتَحَرَّزُ بِهِ مِنْ آفَاتِ الْأَغْيَارِ [ص: 128] . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَيِّدْ وَتَوَكَّلْ» ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ التَّوَكُّلَ؛ لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَائِتَةٌ، وَكَانَ تَوَكُّلُهُ لِتَحَرُّزٍ مِنَ الْآفَةِ لَا سُكُونٍ إِلَى الْمُقَدَّرِ، فَاحْتَاطَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحَرُّزِ، فَقَالَ: قَيِّدْ لِتَبْلُغَ الْعُذْرَ فِي التَّحَرُّزِ، وَتَوَكَّلْ لِئَلَّا تُؤْتَى إِنْ أُتِيتَ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ، وَهُوَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى فِعْلِكَ وَتَحَرُّزِكَ، فَيَكُونَ قَدْ أَحْكَمْتَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْتَشَارٍ أَنْ يَحْتَاطَ إِلَى الْمُسْتَشِيرِ، وَيَدُلَّ عَلَى أَحْكَمِ الْأُمُورِ، وَأَوْثَقِ الْأَسْبَابِ، وَأَبْعَدِهَا عَنْ مَوَاضِعِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَشِيرَ طَالِبٌ لِلْأَرْفَقِ بِهِ مُؤْثِرٌ لَهُ، خَائِفٌ مِنْ ضِدِّهِ، لَمْ يَسْتَكْمِلْ قُوَّةَ التَّوَكُّلِ وَالسُّكُونِ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ، فَهُوَ كَالْمُضْطَرِبِ فِيهِ. أَلَا يَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «أَبْقِ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ» ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: «أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» ، وَقَالَ لَهُ لَمَّا خَبَّأَ لَهُ شَيْئًا: «أَمَا تَخْشَى أَنْ يُخْسَفَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ، وَكَانَ خَبَّأَ لَهُ شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَكْمِلَ التَّوَكُّلِ سَاكِنًا إِلَى مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُضْطَرِبٍ فِيهِ، وَلَا مُلْتَفِتٍ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ كَانَ نَظَرُهُ إِلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ رِفْقُهُ أَوْ غَيْرُهُ , وَعَلِمَ مِنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَيْلًا إِلَى رِفْقِهِ وَإِيثَارًا لِحَظِّهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَبْقِ بَعْضَ مَالِكَ» لِئَلَّا يَضْطَرِبَ سِرُّهُ، وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حِينَ قَالَ: أُقَيِّدُ وَأَتَوَكَّلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَيِّهِمَا أَحْتَاطُ لِنَفْسِي بِالْقَيْدِ أَوْ بِالتَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِيَتِمَّ سُكُونُكَ، وَلَا يَضْطَرِبَ سِرُّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللِّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى لِحُذَيْفَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ لَهُ: «إِيَّاكَ أَنْ تُخْبِرَ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى آَذَنَ لَكَ» ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِحُذَيْفَةَ فِي ذِكْرِهِمْ بِذَلِكَ، فَلَبِثَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا فِيمَنْ سَمَّى لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَاللَّهِ لَا أُبَرِّئُ مِنْهَا رَجُلًا بَعْدَكَ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ سَمَّى لَكَ، أَيْ: وَصَفَ لَكَ صِفَتَهُمْ، فَأَكُونُ فِيمَنْ وَصَفَ، أَيْ هَلْ فِيَّ مِنْ أَوْصَافِهِمْ شَيْءٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْمِ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى، وَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَقَدْ يُعْرَفُ الشَيْءُ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُوضَعَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا اسْتَخْبَرَ حُذَيْفَةَ عَنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ لِيَتَوَقِّيَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا النِّفَاقُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُتَحَقِّقًا مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ فِي الْوَقْتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا فِيمَا بَعْدِ بِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ بُشِّرَ بِالْجَنَّةِ مُنَافِقًا، وَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَخَبَرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ التَّصْدِيقَ، وَالشَّكُّ فِيهِ كُفْرٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُؤْمِنِ بَعْضُ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَعْرِفَ صِفَةً مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي أَسَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى حُذَيْفَةَ، أَوْ صِفَةً عَلِمَ حُذَيْفَةُ مِمَّنْ سَمَّى لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَتَحَرَّزَ مِنْهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي , أَيْ: يُخْبِرُنِي عُيُوبِي فَأَتْرُكُهَا، مَعْنَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحْتَاجٍ، قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح هِلَالٌ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَلَا عَلَيْهِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءً عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: «يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» ، مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: تَشْبِيهٌ وَتَقْرِيبٌ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى شَرِيعَةِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يُقِرُّونَ الْحَجَّ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَلَا يَتَعَبَّدُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ إِلَيْهِ، وَيَجْحَدُونَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِنْ فُرُوضٍ , وَالطَّهَارَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ أَقَامَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ الْحَجَّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَى السَّبِيلِ فَكَأَنَّهُ جَحَدَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجُحُودِ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا إِقَامَةُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَتَرَكَهُ، فَالتَّارِكُ لِلْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُتَشَبِّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «فَهُوَ مِنْهُمْ» أَيْ: يُعَدُّ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَعْرِفُونَ ظَوَاهِرَ الْخَلْقِ، وَلَا يَعْلَمُ سَرَائِرَهُمْ وَبَوَاطِنَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ رَأَوْهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ مَعَ قَوْمٍ رِيَاءً وَفِعْلًا عُدُّوهُ مِنْهُمْ، وَاجْعَلُوهُ فِيهِمْ، وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ بِحُكْمِهِمْ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» يُرِيدُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَلَا عُذْرَ لَهُ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ عَلَى شَرِيعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذِكْرُ الْمَوْتِ فِيهِ عَلَى التَّوْقِيتِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْحَجِّ مُوَسَّعٌ، وَفَوَاتُهُ بِالْمَوْتِ. وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ فَاتَهُ، فَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ تَرْكَ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ سَائِرَ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، فَلَمَّا تَرَكَ هَذَا مَعَ الْإِمْكَانِ [ص: 131] ، فَكَأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهُ مُسْتَهِينٌ بِهِ، مُسْتَخِفٌّ بِحَقِّهِ، فَصَارَ كَالْجَاحِدِ وَالْمُنْكِرِ لَهُ، وَهُوَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَتَشَبَّهَ بِهِمْ، فَعُدَّ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ رَجُلًا يَلْعَنُ نَاقَتَهُ قَالَ: فَسَارَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ اللَّاعِنُ نَاقَتَهُ» ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ: «أَخْرِجْهَا عَنَّا، فَقَدْ أُجِبْتَ فِيهَا» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أُجِبْتَ» أَيْ: حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ بِطَرْدِهَا وَإِبْعَادِهَا، فَإِنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ لِنَاقَتِهِ: لَعَنَكِ اللَّهُ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ طَرْدَهَا وَإِبْعَادَهَا عُقُوبَةً لَهُ، أَوْ تَأْدِيبًا لِئَلَّا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّاعِنَ نَاقَتَهُ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَالَةٌ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا لَعَنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَهْلًا لَهُ وَإِلَّا رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى صَاحِبِهَا» أَيِ: اللَّاعِنُ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. فَلَمَّا لَعَنَ هَذَا الرَّجُلُ نَاقَتَهُ لَمْ تَكُنِ النَّاقَةُ أَهْلًا لِلَّعْنِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَلَى اللَّاعِنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلًا لَهَا لَرَجَعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ لَطَرَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ: أَخْرِجْهَا عَنَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ لَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ عَنَّا، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَخْرِجْهَا، فَصَارَ كَأَنَّ الْحُكْمَ وَجَبَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتِ النَّاقَةُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ فَيَقَعُ عَلَيْهَا اللَّعْنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِطَرْدِهَا عَلَى الرَّجُلِ فَصَارَتْ مَتْرُوكَةً مَطْرُودَةً مُبْتَعِدَةً لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْقِطَاعُ بِهَا مِنْ رُكُوبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَحْرٍ، فَحُرِمَ نَفْعَهَا تَأْدِيبًا لَهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: اللَّعْنُ: التَّرْكُ، وَالْمَلْعُونُ: الْمَتْرُوكُ [البحر الكامل] أَفُطَيْمُ هَلْ تَدْرِينَ كَمْ مِنْ مُتْلِفٍ ... جَاوَزْتُ لَا مَرْعًى وَلَا مَسْكُونُ غَوْرِيَّةٌ نَجْدِيَّةٌ تَصْعِيدُهُ ... تَصْوِيبُهُ مُتَشَابِهٌ مَلْعُونُ [ص: 132] يَصِفُ الطَّرِيقَ يَقُولُ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ لَا يُسْلَكُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أُجِبْتَ فِيهَا» أَيْ: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ تَرْكَهَا، وَالِانْتِفَاعَ بِهَا , قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَحَطَّ عَنْهَا رَحْلَهُ، وَكَانَتْ تَسِيرُ لَا يُرَى فِيهَا أَحَدٌ» ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلِّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ إِذْ سَمِعَ لَعْنَةً، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقِيلَ: فُلَانَةُ لَعَنَتْ رَاحِلَتَهَا، فَقَالَ: «ضَعُوا عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» قَالَ: فَوَضَعَ عَنْهَا. قَالَ الرَّاوِي: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا نَاقَةً وَرْقَا فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِطَرْدِهَا وَتَرْكِهَا، وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، فَهِيَ مَلْعُونَةٌ أَيْ: مَتْرُوكَةٌ مُخَلًّا سَبِيلُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: ح أَبِي، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْحَالِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ كَذِبًا، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْوَقْتِ لِلْحَلِفِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ أَرَادَ بِهِ خَتْمَ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعَصْرِ آخِرُ النَّهَارِ، وَحَلِفُهُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَتْمُ عَمَلِ نَهَارِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» وَفِي رِوَايَةٍ «خَوَاتِمُهَا» [ص: 133] . وَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا قَيْدُ شِبْرٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» ، فَهَذَا الْحَالِفُ فِي آخِرِ نَهَارِهِ قَدْ خَتَمَ نَهَارَهُ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَعَسَى يَكُونُ هَذَا آخِرُ نَهَارِ عُمُرِهِ فَيَكُونُ آَخِرُ عَمَلِهِ عَمَلٌ سَيِّئٌ، فَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدْمَنَ عَلَى عَمَلٍ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَمَلِهِ، وَلَعَنَ رَسُولُ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا "، وَالْمُدْمِنُ لَهَا جَامِعٌ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَهُوَ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَلَاعِنِ كُلِّهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِهِ. وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى مُنَازِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَتَهُ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِالْعَطَاءِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُعْطِي مِنْ مُلْكِ نَفْسِهِ، وَيُعْطِي مَا يُعْطِي مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ إِذْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ، فَإِذَا أَعْطَى مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَأَعْطَى مِنْ مُلْكِهِ لَا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ اسْتَحَقَّ الِامْتِنَانَ، فَأَمَّا مَنْ دُونَهُ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى أَعْطَى مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ، لَا مِنْ مُلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي الْعِبَادِ فَمُلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا أَعْطَى أَعْطَى بِوُجُوبٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءَ، وَمَنْ أَعْطَى مَا أَعْطَى مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى مَنْ أَعْطَى، وَمَنْ أَعْطَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَوْجِبِ الْمِنَّةَ، فَهُوَ إِذَا مَنَّ بِمَا أَعْطَى كَأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْمُلْكَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَانْتَفَى مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَنَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ، فَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] [ص: 134] وَقَوْلُهُ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى» يُفْهَمُ أَيْ: لَا يَرْحَمُهُمْ، وَلَا يَتَحَنَّنُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَرْحَمَ رَحْمَةً لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَلَا يَرْحَمَهُمْ رَحْمَةً لَا يُخَلِّدَهُمْ فِي النَّارِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرْحَمَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ فَيُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، وَلَمْ يَرْحَمْهُمْ إِذَا أُدْخِلُوا حُفَرَهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: أَرْحَمُ مَا يَكُونُ اللَّهُ بِعَبْدِهِ إِذَا دَخَلَ حُفْرَتَهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ مُشَيِّعُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرْحَمَهُ فِي قَبْرِهِ وَيَرْحَمَهُ فِي الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرْحَمَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ وَيَرْحَمَهُمْ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَرْحَمُهُمْ بَعْدَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمْ بِإِيمَانِهِمْ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ امْتُحِشُوا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ: «فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْجُحُودُ وَالشِّرْكُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُمُ الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا، وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إِلَّا كُلُّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِلَيْهَا صَائِرُونَ، وَفِيهَا مُخَلَّدُونَ، وَدُخُولُهُمُ النَّارَ تَأْدِيبٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْمٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا أُلْقُوا فِيهَا أَمَاتَهُمْ» الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ هُمُ الْأَشْقَوْنَ الَّذِينَ يَصِلُونَ النَّارَ الْكُبْرَى فَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ، وَهُمْ كُفَّارٌ، وَأَمَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْحَقِيقَةِ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُ النَّارِ هُمُ الْكُفَّارَ كَانَ عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ قَدْ يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يُجَامَعُ الْكُفْرُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ تُجَامِعُ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي هِيَ دُونَ الْكُفْرِ الْإِيمَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعِ بْنِ الْوَضَّاجِ قَالَ: ح أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَحْوَصِ قَالَ: ح أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ وَلَقَبُهُ دُحَيْمُ بْنُ الْيَتِيمِ قَالَ: ح الْوَلِيدُ قَالَ: ح الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: ح إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: ح أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَنْ تَظْلِمَ وَتُظْلَمَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَقْرُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا: عَدَمُ الْمَالِ وَالْمَرَافِقِ، وَخُلُوُّ الْيَدِ عَنِ الْأَمْلَاكِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْجَهْلُ، وَهُوَ الْفَقْرُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْهَا فَقْرُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، فَأَمَّا عَدَمُ الْمَالِ، وَخُلُوُّ الْأَيْدِي مِنَ الْأَمْلَاكِ إِذَا قَارَنَهُ الصَّبْرُ وَصَحَّ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالرِّضَا بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ حِلْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَزِيُّ الْأَوْلِيَاءِ، وَشِعَارُ الصَّالِحِينَ، وَزَيْنُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلْفَقْرُ أَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعِذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحَبَّنِي فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» ، وَإِذَا خَلَا الْفَقْرُ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ وَكَانَ مَعَهُ التَّسَخُّطُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّتَبُّعُ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْجَزَعُ فِيهِ، فَهُوَ الْفَقْرُ الْمُسِيءُ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُبَادَرَتِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ خَمْسًا: هَرَمًا مُقَتِّرًا، وَسَقَمًا مُفْسِدًا، وَغِنًى مُطْغِيًا، وَفَقْرًا مُسِيئًا، وَمَوْتًا مُجْهِزًا "، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرَ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 136] بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَادَ الْفَقْرُ يَكُونُ كُفْرًا» ، فَإِنَّ الْجَهْلَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْكُفْرِ نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَأَمَّا فَقْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَوَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ قُضِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: أَبُو عِيسَى قَالَ: ح قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَاهُ، وَأَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَأَمَّا الْقِلَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكَثُّرَ بِالْمَالِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِالثَّرْوَةِ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] قَالَ الْحَكِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ قَلَّ، وَمَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ، فَمَنْ أَقَلُّ مِمَّنِ اسْتَكْثَرَ بِالْقَلِيلِ، وَاسْتَغْنَى مِنَ النَّذْرِ الْحَقِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِلَّةُ الْقِلَّةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَمَا عُمِلَ مِنْهَا مَدْخُولٌ فِيهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ قَوْمٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ: قَلَّتْ أَذْكَارُهُمْ، وَمَا وَقَعَ مِنْهَا فَمُرَاءَاةٌ، وَالْقَلِيلُ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَثِيرٌ، وَالْكَثِيرُ دُونَ الْإِخْلَاصِ قَلِيلٌ، وَأَمَّا الذِّلَّةُ فَالتَّعَزُّزُ بِالْمَخْلُوقِ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِالنَّادِي وَالْعَشِيرِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا [ص: 137] الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ، فَكَانَ الْأَذَلُّ هُوَ الْأَعَزَّ عِنْدَ نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ وَكَثْرَةِ أَنْصَارِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اعْتَزَّ بِالْمَخْلُوقِ أَذَلَّهُ اللَّهُ» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ، وَمَنِ اهْتَدَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ» ، فَالذِّلَّةُ هِيَ التَّعَزُّزُ بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّلَّةُ الشُّذُوذَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَالِاعْتِزَالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاتِّبَاعَ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] ، فَلَا أَذَلَّ مِمَّنْ رُدَّ إِلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَانْفَرَدَ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاهُ، وَظُلْمَةِ رَأْيِهِ، وَانْقَطَعَ عَمَّنْ لَهُ الْعِزَّةُ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَنِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْرَضَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، فَهُوَ الْوَحِيدُ الْعَزِيزُ، الشَّرِيدُ، الطَّرِيدُ، الْحَقِيرُ، الذَّلِيلُ، النَّذْرُ، الْقَلِيلُ، جَلِيسُ الشَّيْطَانِ، وَبَغِيضُ الرَّحْمَنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْخُذُ الشَّاةَ وَالْعَاصِيَةَ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّلَّةُ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهَا مُتَابَعَةَ الْهَوَى فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّعَزُّزَ بِمَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وَقَوْلُهُ: «أَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تُظْلَمَ» ، وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وَمِنْهَا ظُلْمُ عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ الْإِفْلَاسُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنَعَهَا حَقَّهَا الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لَهَا مِنْ [ص: 138] إِتْيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَأَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلْوًا عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي نُورُهَا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: ارْجِعْ وَرَاءَكَ، فَالْتَمِسْ نُورًا، فَقَدْ خَابَ، وَضَلَّ، وَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَضَاءَ لَهُ إِيمَانَهُ، وَأَنَارَ لَهُ تَوْحِيدَهُ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَمَنْ ظَلَمَ فَاتَتْهُ آَخِرَتُهُ الَّتِي لَهَا مَعَادُهُ، فَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَضَلَّ فِي النَّارِ ضَلَالًا بَعِيدًا، إِذَا ضَرَّ بِهَا، فَنُوقِشَ، وَعُذِّبَ، أَوْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ ظَلَمَ أَحَلَّ بِدُنْيَاهُ الَّتِي فِيهَا مَعَاشُهُ، فَشَقِيَ، وَتَعِبَ، أَوْ يَرْفُقُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. فَفِي أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ أَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تُظْلَمَ إِشَارَةٌ إِلَى ضِعْفِ الْعَبْدِ، وَفَقْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُرَافَقَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُ، وَتَقُومُ بِهَا نَفْسُهُ، وَيَصُونُ بِهَا عِرْضَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ لِيَنَالَ بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: ح سُوَيْدٌ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ح خَالِدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ، وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَأَسْمَعَ الْأُذُنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ، فَيَنْفُخُ» ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» [ص: 139] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ الْحَوْلِ، وَالْقُوَّةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى أَفْعَالِهِمْ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَالسُّكُونِ إِلَى شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فِي أَحْوَالِهِمْ، أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا غَيَّرُوا، وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَتَثَاقَلُوا فِي نُفُوسِهِمْ، لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَلَا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، بَلْ رَدَّهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَصَرَفَهُمْ عَمَّا سِوَاهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: " قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ " إِظْهَارًا لِلِافْتِقَارِ، وَإِقْرَارًا بِالِاضْطِرارِ، وَأَنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيُّ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلْوَيُّ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ أَنْتَ شَافِعٌ لِأَبَوَيْكَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَشَافِعٌ لَهُمَا، أُعْطِيتُ، أَوْ مُنِعْتُ، وَمَا أَرْجُو لَهُمَا النَّجَاةَ عَنِ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «إِنِّي لَشَافِعٌ لَهُمَا» فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] الْآيَةَ. وَهَذَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] . وَقَوْلُهُ: «وَمَا أَرْجُو لَهُمَا» ؛ لِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُ لَهُمَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، فَلَمْ يَرْجُ لَهُمَا إِذَا مَاتَا عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمَا رِقَّةً عَلَيْهِمَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «رَأْفَةً، وَقَضَاءً لِحَقِّهِمَا» ، إِذْ لَمْ يُدْرِكْهُمَا، فَيُحْسِنَ مُعَامَلَتَهُمَا، وَيُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَكَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ لِمَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ مِنْ أَبَوَيْهِ مَا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَبِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَرَادَ قَضَاءَ حَقِّهِمَا، فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَانْتَهَى، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرٌ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ح أَبُو دَاوُدَ قَالَ: ح أَبُو سِنَانٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيُسِرُّهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُرُورُهُ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ سُرُورَهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُ عَلَى إِصْلَاحِ سَرِيرَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مِنَ الَّذِينَ حَسُنَتْ سَرَايِرُهُمْ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ قَبَائِحَ، وَقَبَائِحَ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُفْتَضَحُونَ إِذَا ظَهَرَتْ سَرَايِرَهُمْ، لِأَنَّهَا تَكُونُ قَبَائِحَ أَسَرُّوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ حَسُنَتْ ظَوَاهِرُهُمْ، فَهَذَا إِذَا ظَهَرَتْ سَرِيرَتُهُ، وَوَافَقَتْ عَلَانِيَتَهُ، وَاسْتَوَيَا فِي الْحُسْنِ سُرَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْنِي مُوَافَقَةَ السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ سُرُورُهُ عَلَى حُسْنِ إِيمَانِهِ، وَتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُ بِتَحَسُّنِ الْعَمَلِ فِي السِّرِّ كَتَحْسِينِ عَمَلِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةَ الْإِيمَانِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، فَيَكُونُ سُرُورُهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِحُسْنِ ثَنَائِهِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ تَعْظِيمٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ إِجْلَالٍ فِي أَعْيُنِهِمْ [ص: 141] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا صَحَّ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَضُرَّهُ فَسَادٌ يَكُونُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الرِّيَاءَ هُوَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْعِلْمِ لِيُرَائِيَ بِهِ النَّاسَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ قَصْدَهُ، وَمُرَادَهُ، مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمُحبَطٌ بِاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] ، فَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَادَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَمْ يَلْحَقْهُ فَسَادٌ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَلَمْ يُحْبِطْهُ شَيْءٌ دُونَ الشِّرْكِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، عِنْدَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَزْعُمُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ إِحْبَاطِ الطَّاعَاتِ بِالْمَعَاصِي، لَمْ يَجُزِ اخْتِلَاطُهُمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجْرَانِ» ، أَيْ أَنَّ عَمَلَ السِّرَّ قَدْ خَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَلْحَقُهُ فَسَادٌ، وَسُرُورُهُ بِحَسَنَتِهِ إِذَا ظَهَرَتْ حَسَنَةٌ أُخْرَى، فَصَارَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا: ح أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قُرَّةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» مِنْ أَوْصَافِ النَّاسِ، وَأَقْوَالِهِمْ، فَلَا يَكَادُ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى عُيُوبِهِمْ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي أَخْلَاقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُهُمْ بِصِدْقِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَصِحَّةِ أَعْمَالِهِمْ، وَيُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَيَنْصَحُ لَهُمْ، وَيَقْبَلُ مِنْهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ، وَيُوَكِّلُ سَرَايِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَعْنِيهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ، فَهُوَ الْمُسْلِمُ، وَالْإِسْلَامُ لَهُ صِفَةٌ، وَالْحُسْنُ لِإِسْلَامِهِ صِفَةٌ، فَهُوَ لَمَّا حَسُنَ إِسْلَامُهُ فِي إِسْلَامِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اللَّهِ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ سَرَائِرِهِمْ، وَمُطَالَبَةِ الصِّدْقِ إِذَا صَلُحَتْ [ص: 142] ظَوَاهِرُهُمْ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مُخْتَلَفِ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِيمَا يَلْزَمُهُ فَرَضُ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فِي رِقَّةٍ بِهِمْ، وَشَفَقَةٍ عَلَيْهِمْ، وَإِرَادَةِ الصَّلَاحِ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ حُسْنَ تَسْلِيمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ، فَقَدِ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ نُفُوسَهُمْ، فَعَلَيْهِمْ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ بَاعَ الْبَائِعُ الشَيْءَ، وَيَلْتَوِي فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، حَتَّى يَنْتَزِعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِحَقِّ الْبَايِعِ، فَأَمَّا مَنْ حَسُنَ تَسْلِيمُهُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ أَوْفَرَ مَا كَانَ، وَأَتَمَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ صَدْرِهِ، وَطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ، خَاصَّةً إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنَ الثَّمَنِ أَضْعَافَ أَضْعَافَ الْقِيمَةِ، فَمَتَى حَسُنَ إِسْلَامُ الْمَرْءِ حَسُنَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , غَيْرَ مُلْتَوٍ وَلَا مُتَرَبِّصٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] ، وَمِنْ حُسْنِ تَسْلِيمِهِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ، وَقَضَايَاهُ فِيمَا شَاءَ، وَسَرَيَانُ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَسَخُّطِ قَضَائِهِ، وَالتَّأَتِّي لِمَعْقُولِ أَحْكَامِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَعْنِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي إِذَا أَحْدَثَ فِيمَا اشْتَرَاهُ مِنْ هَدْمِ بِنَاءٍ فِيهِ، أَوْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ نَقْضٍ فِيهِ، أَوْ إِبْرَامٍ، فَاعْتَرَضَ الْبَائِعُ فِيهِ مِمَّا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلِهِ لِمَ فَعَلْتَ، وَأَلَا صَنَعْتَ كَذَا، وَلَوْ فَعَلْتَ كَذَا، وَلَيْتَكَ صَنَعْتَ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْنِيهِ , فَحَصُلَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ، عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّضَا بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّلَقِّي بِالْبِشْرِ، وَالسُّرُورِ، ثُمَّ الْقَضَاءُ، وَالصَّبْرُ تَحْتَ أَثْقَالِ مَا يَكْرَهُهُ، وَالِاسْتِسْلَامُ، وَالِانْقِيَادُ بِذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ لِلْمَلِكِ الْقَهَّارِ، فِيمَا يُجْرِيهِ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَسَمَائِهِ، وَفِي نَفْسِ الْعَبْدِ مِمَّا يَؤْلِمُهُ وَيَلَذُّهُ، أَوْ يَسُرُّهُ، وَيُحْزِنُهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَايْمُ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا الْفِنَاءُ، وَالْفَقْرُ، وَمَا أُبَالِي بِأَيِّهِمَا ابْتُلِيتُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: ابْتُدِيتُ , فَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَخْتَارَ تَسْلِيمًا لِنَفْسِهِ إِلَيْهِ، وَتَفْوِيضًا لِأَمْرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح شَرِيكٌ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ الْحِمَّانِيُّ: وَح شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 143] ، قَالَ لِرَجُلٍ: " إِذَا آوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكِ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً، وَرَهْبَةً مِنْكَ، وَإِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَمَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ " زَادَ أَبُو الْأَحْوَصِ: «وَإِنَّ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا» وَقَوْلُهُ: «أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ» ، تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي طَوْعًا. وَقَوْلُهُ: «وَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ» هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا دُونَهُ. وَقَوْلُهُ: «أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ» هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: «فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ» هُوَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، رَغْبَةً إِلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ مَلَاذِّ النَّفْسِ، وَمَرَافِقِهَا، وَرَهْبَةً مِنْهُ، لَا مِنْ آلَامِ النُّفُوسِ، وَمَكَارِهِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَفَوَّضَ أَمَرَهُ، فَمُطَالَبَتُهُ حُظُوظَ نَفْسِهِ، وَاتِّسَاقُ أُمُورِهِ مِمَّا لَا يَعْنِيهِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِلَيْهِ، وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ دُونَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ رَغْبَتُهُ فِي شَيْءٍ دُونَهُ، وَلَا يُرِيدُ غَيْرَهُ، وَلَا يَطْلُبُ إِلَّا رِضَاهُ، وَالْقُرْبَةَ مِنْهُ، وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَمَنِ اعْتَمَدَ فِي أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ، وَتَوَكَّلَ فِيمَا يُعَامِلُهُ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَدِ احْتَرَزَ مِنْ جَمِيعِ الْمَكَارِهِ، بَلْ تَفَرَّغَ مِنْهَا لَهُ فَلَا يَخَافُ شَيْئًا سِوَاهُ، وَلَا يَرْهَبُ إِلَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا عِنْدَهُ بَاقٍ، وَإِنَّمَا يَنْفَذُ مَا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَهَذَا عَبْدٌ لَا يَرَى غَيْرَ رَبِّهِ، وَلَا يُطَالِعُ غَيْرَ سَيِّدِهِ، وَلَا يُرَاقِبُ إِلَّا مَوْلَاهُ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ، وَلَا لِلْمُلْكِ سِوَاهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ، فَالْيَوْمَ يَوْمٌ، وَغَدًا يَوْمٌ، وَالْأَيَّامُ كُلُّهَا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَا مُصَرِّفَ لَهَا إِلَّا وَاحِدٌ، وَلَا مُدَبِّرَ فِيهَا إِلَّا وَاحِدٌ، فَلَهُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ مِنْ تَعْرِيفِ عِبَادِهِ، وَتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ فِي بِلَادِهِ، وَيَفْعَلُ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ، وَيْحَكُمُ فِيهِمْ مَا يُرِيدُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْمُلْكُ غَدًا إِذَا أَفْنَى عِبَادَهُ، وَطَوَى بِلَادَهُ، لَا أَحَدَ يُنَازِعُهُ، وَلَا مُجِيبَ يُجَاوِرُهُ، فَالْمُلكُ الْيَوْمَ وَغَدًا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، لَا مَلْجَأَ مِنْهُ، وَلَا مَنْجَا يُخَاطِبُهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، مِنْهُ الْمَفَرُّ، وَإِلَيْهِ الْمَقَرُّ، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجُعْفِيِّ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوِ انْتَظَرْنَا، حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ، فَانْتَظَرْنَاهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُصَلِّي مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَحَيَيْتُمْ» ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبْتِ النُّجُومُ أَتَى أَهْلَ السَّمَاءِ مَا يُوعَدُونَ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَنَا أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ» أَيْ أَنَّهَا لَا تَنْفَطِرُ، وَلَا تَنْشَقُّ، وَلَا يَمُوتُ أَهْلُهَا مَا دَامَتِ النُّجُومُ فِيهَا بَاقِيَةً، فَإِذَا ذَهَبْتِ النُّجُومُ أَتَى أَهْلَ السَّمَاءِ مَا يُوعَدُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2] ، ثُمَّ قَالَ {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 1] ، فَهَذَا ذَهَابُ النُّجُومِ، وَمَا يُوعَدُونَ أَهْلُ السَّمَاءِ فَقَوْلُهُ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 26] ، فَهَذَا الْوَعْدُ إِنَّمَا يَأْتِيهَا إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، الْآيَةَ. فَإِذَا انْتَثَرَتِ النُّجُومُ تَفَطَّرَتِ السَّمَاءُ، وَصَعِقَ مَنْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنِ اخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّقَاطُعِ بَيْنَهُمْ وَالتَّشَاجُرِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي حَيَاتِهِ مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ [ص: 145] مُتَوَاصِلِينَ مُتَبَادِلِينَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ فِيهَا هِمَّةُ دُنْيَا، وَلَا عِزَّةُ نَفْسٍ، وَلَا نَظَرٌ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتَوَى لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغَيَّرَتْ قُلُوبُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا نَفَضْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِيَ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَمَالُوا إِلَى الدُّنْيَا، وَافْتَرَقَتْ آَرَاؤُهُمْ، حَتَّى تَقَاطَعُوا، أَوْ تَشَاجَرُوا، وَتَوَاثَبُوا عَلَى الْمُلْكِ، حَتَّى تَقَاتَلُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ وَجْهَ بَعْضٍ، فَهَذَا الَّذِي وُعِدُوا , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَقَالَ: «سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» [ص: 146] . وَقَالَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَقَالَ: «إِنَّ أُمَّتِي مَرْحُومَةٌ إِنَّمَا عَذَابُهَا فِي الْقَتْلِ وَالزَّلَازِلِ وَالْفِتَنِ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ لَوْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ لَكَانَ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَامَةُ قَالَ: حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ شَيْبَةَ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: ح لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ "، هُوَ تَغَيُّرُ قُلُوبِهِمْ، وَتَفَرُّقُ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَاجُرُهُمْ، وَمَا لَا خَفَاءَ بِهِ بِمَا ظَهَرَ فِيهِمْ، مِمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُ كَائِنٌ فِيهِمْ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَتُقَاتِلَنَّ النَّاكِثِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْمَارِقِينَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَسَى يُقَمِّصُكَ اللَّهُ قَمِيصًا مِنْ بَعْدِي، فَإِذَا أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ: حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ أَبِي الدُّمَيْكِ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَاد قَالَ: ح فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُثْمَانَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي» يَعْنِي: مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَظُهُورُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ، فَقَدْ كَانَتِ الْأُمَّةُ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَارَقُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْمُ اللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ [ص: 147] لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا» ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ذَهَبَ أَصْحَابُهُ ظَهَرَتِ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ، فَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَصَارُوا فِرَقًا شَتَّى، وَهُوَ الَّذِي وُعِدُوا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْأُمَمُ عَلَى وَاحِدٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَلَا تَمُوتُ أُمَّتِي حَتَّى تَفْتَرِقَ عَلَى مِثْلِهَا» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنِ النَّاسُ إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟» قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: ح يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ، وَذَكَرَهُ. فَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْنَى «أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ» ، فَالَّذِي وُعِدَ أَهْلُ السَّمَاءِ هُوَ تَفَطُّرُهَا، وَصَعْقُهُمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَالنُّجُومُ لَهَا أَمَنَةٌ مَا دَامَتْ قَائِمَةً ثَابِتَةً مُسَيَّرَةً، وَالَّذِي وُعِدَ أَصْحَابُهُ: الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَالتَّنَازُعَ، وَقِتَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , [ص: 148] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ» يَعْنِي عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَيْفَ بِكِ إِذَا نَبَحَتْ عَلَيْكِ كِلَابُ حَوْأَبٍ» ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ، فَهَذَا الْوَعْدُ الَّذِي أَتَاهُمْ، وَلَمْ يَأَتِهِمْ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَنَةً لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَيَاتَهُ. وَالَّذِي وَعَدَ أُمَّتَهُ ظَهَرَ، وَالْأَهْوَاءُ، وَالْبِدَعُ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا يَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ نَبْزُهُمُ الرَّافِضَةُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحْتَاجٍ، قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ قَالَ: ح عِمْرَانُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: أخ الْحَجَّاجُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ، يَرْفُضُونَ الْإِسْلَامَ، يَلْفُظُونَهُ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ» وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ تَظْهَرْ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا أَمَنَةً لِلْأُمَّةِ مِنْ ذَلِكَ حَيَاتَهُمْ، وَاللَّهُ الْهَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ح أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: ح كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ: ح عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَبَقَاتُ أُمَّتِي خَمْسُ طَبَقَاتٍ، كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَطَبَقَتِي وَطَبَقَةُ أَصْحَابِي أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الثَّمَانِينَ أَهْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالطَّبَقَةُ الْأُخْرَى إِلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَهْلُ التَّرَاحُمِ وَالتَّوَاصُلِ، وَالطَّبَقَةُ الْأُخْرَى إِلَى سِتِّينَ وَمِائَةٍ أَهْلُ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالطَّبَقَةُ الْأُخْرَى إِلَى الْمِائَتَيْنِ أَهْلُ الْهَرْجِ وَالْهَرَبِ، ثُمَّ تَرْبِيَةُ جَرْوٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَيْرٌ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدٍ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعِلْمُ تَبَيُّنُ الشَيْءِ كَمَا هُوَ، وَالْإِيمَانُ التِّيَقُّنُ بِهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ لَهُ، فَالْعِلْمُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ لِلرَّأْسِ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ سُمِّيَ رُؤْيَةً، وَمَا أَدْرَكَهُ الْقَلْبُ سُمِّيَ عِلْمًا، وَالْيَقِينُ لِلْفُؤَادِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ لِلْقَلْبٍ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْفُؤَادُ سُمِّيَ يَقِينًا، وَالْفُؤَادُ دَاخِلَ الْقَلْبِ وَبَاطِنَهُ، وَالْقَلْبُ ظَاهِرَهُ، وَالصَّدْرُ سَاحَةُ الْقَلْبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَطَبَقَتِي وَطَبَقَةُ أَصْحَابِي أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ» أَيْ: هُمْ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ، وَأَصْحَابُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَيْءِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ كُشُوفِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ، فَظُهُورُهُ لِلْقَلْبِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ لِلْبَصَرِ لَا يَقَعُ لِلْبَصَرِ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ وَالسَّوَاتِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، إِذْ بَعْدُ شُهُودُ الْفُؤَادِ، كَمَا أَنَّ الْمَرْئِيَّ تُعْرَضُ فِيهِ الشُّكُوكُ وَالْخَوَاطِرُ، وَالْيَقِينُ شُهُودُ الْفُؤَادِ لِلشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الشَيْءَ وَيَعْتَرِضَهُ فِيهِ الشُّكُوكُ وَالْخَوَاطِرُ لِبُعْدِهِ عَنِ الْبَصَرِ، أَوْ عِلَّةٍ تَحْدُثُ فِي الْبَصَرِ، وَكَأَنَّ الْمَرْئِيَّ مَحْدُودٌ لَهُ كَيْفِيَّةٌ، فَإِذَا شَهِدَ الرَّأْيَ الْمَرْئِيَّ شُهُودَ حُضُورٍ وَلَمْ يَحْدُثْ فِي الْبَصَرِ عِلَّةٌ رَأَى الشَيْءَ كَمَا هُوَ، فَالْيَقِينُ لِلْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ لِلْبَصَرِ، فَإِذَا شَهِدَ الْقَلْبُ الْمَعْلُومَ، وَأَبْصَرَهُ بِعَيْنِ الْفُؤَادِ الَّذِي هُوَ الْيَقِينُ زَالَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ وَالشُّكُوكُ، فَصَدَّقَ بِهِ، فَالْعِلْمُ صِفَةٌ لِلْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ [ص: 150] إِلَى الْخَلْقِ نَظَرٌ، وَلَا لِلنَّفَسِ عِنْدَهُ خَطَرٌ، وَلَا لِلدُّنْيَا فِيهِ أَثَرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] ، وَالْيَقِينُ صِفَةٌ لِلْفُؤَادِ الشَّاهِدِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، قِيلَ: شَهِيدُ الْفُؤَادِ أَيْ: رَأَى لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] فَوَصَفَ الْفُؤَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا خَاطِرُ شَكٍّ، وَلَا عَارِضُ رَيْبٍ، فَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ صِفَتَانِ لِلْقُلُوبِ السَّالِمَةِ، وَالْأَفْئِدَةِ الشَّاهِدَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ» ، أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ الَّتِي كُشِفَتْ لَهَا أَسْتَارُ الْغُيُوبِ، حَتَّى صَارَ الْغَيْبُ لَهُمْ شُهُودًا، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَفْئِدَةِ الشَّاهِدَةِ الْحَاضِرَةِ لِمَا كُوشِفَ لَهَا، الْمُوقِنَةُ بِهَا، الْمُصَدِّقُ لَهَا، كَأَنَّهَا لَهَا حَاضِرَةٌ، وَهِيَ لَهَا شَاهِدَةٌ. فَقَدْ قَالَ حَارِثَةُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يُعَذَّبُونَ , وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّا كُنَّا نَتَرَاءَى اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَعْنِي فِي الطَّوَافِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ دُونِ سِتْرٍ رَقِيقٍ. فَهَذِهِ أَوْصَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ لَيْسَ مَنْ عَايَنَهُمْ، فَمَا ظَنُّكَ بِالصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ، وَالْفَارُوقِ، وَذِي النُّورَيْنِ الْأَنْوَرِ، وَالْعَلِيِّ الْأَزْهَرِيِّ؟ إِلَى سَائِرِ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الْمَرْضِيِّ عَنْهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أخ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ذَرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ الْقُلُوبِ، فَبَعَثَهُ نَبِيًّا، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَخْلَصَهُ، وَانْبَعَثَ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ قَلْبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ. وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْرَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ [ص: 151] حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ وَقَوْلُهُ: «وَأَهْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» أَيْ أَنَّهُمْ أَرْبَابُ النُّفُوسِ، وَالْمُجَاهَدَاتِ وَأَصْحَابُ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُكَابَدَاتِ، فَالْبِرُّ هُوَ صِدْقُ الْمُعَامَلَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّقْوَى حُسْنُ الْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُولُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] إِلَى قَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ صِدْقُ الْمُعَامَلَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أَوْصَافُ أَرْبَابِ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . فَهَذَا حُسْنُ التَّقْوَى، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَصْحَابُ الْمُجَاهِدَاتِ، وَوَصْفُهُ لِلطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّرَاحُمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الدُّنْيَا فِي الْعُزُوفِ عَنْهَا وَالتَّرْكِ لَهَا، وَوَاسِطَةِ الْخَلْقِ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْبَذْلِ لَهُمْ، سَخِطَتِ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ بِالنِّفُوسِ فَبَذَلُوهَا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَحَمُّلِ أَفْعَالِهِ، وَأَنْصَبُوهَا فِي الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَتْعَبُوهَا بِالْخِدْمَةِ لَهُ، وَلَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَةَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فِي مُشَاهَدَاتِ الْقُلُوبِ، وَسَخَطَتِ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ بِالدُّنْيَا، فَبَذَلُوهَا لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَنَظَرًا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَةَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ فِي بَذْلِ النُّفُوسِ، فَكَانُوا فِي سَخَاوَةِ الدُّنْيَا عَلَى صِنْفَيْنِ، فَصِنْفٌ سَخَتْ عَلَيْهَا نُفُوسُهُمْ فَتَرَكُوهَا لِأَرْبَابِهَا، وَصِنْفٌ سَخَتْ بِهَا أَيْدِيهِمْ، فَبَذَلُوهَا لِطُلَّابِهَا، فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَهْلُ التَّوَاصُلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْهَا سَلِمُوا مِنَ التَّقَاطُعِ، إِذْ كَانَ سَبَبُ التَّقَاطُعِ مُجَاذَبَةَ الدُّنْيَا بَيْنَهُمْ، وَمُنَازَعَتَهُمْ فِيهَا، وَمُقَاتَلَتَهُمْ عَلَيْهَا [ص: 152] . قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَوَقَفَ عَلَى مَنْ عَلَا، فَأَخَذَ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْفَهْمِ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ هَذِهِ دُنْيَاكُمُ الَّتِي تَنَازَعْتُمْ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ مُجَازَتَهَا بَيْنَهُمْ سَبَبُ التَّقَاطُعِ، فَتَرْكُهَا لِطُلَّابِهَا سَبَبُ التَّوَاصُلِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَهْلُ التَّرَاحُمِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَمَّا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ بَذَلُوهَا شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، فَهُمْ أَهْلُ التَّرَاحُمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ طَبَقَتَهُ وَطَبَقَةَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَوَصَفَ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ: أَنَّهُمْ أَرْبَابُ النُّفُوسِ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمُجَاهِدَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَوَصَفَ الطَّبَقَةَ الثَّالِثَةَ: أَنَّهُمْ أَهْلُ بَذْلٍ وَسَخَاءٍ وَشَفَقَةٍ وَوَفَاءٍ، وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ: أَهْلُ تَنَازُعٍ وَتَجَاذُبٍ، فَصَارُوا أَهْلَ تُقَاطُعٍ وَتَدَابُرٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا قَطَعَتْهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، وَانْقَطَعَتِ الْأُخُوَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْإِيمَانُ بِتَنَابُحِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَتَنَافُسِهِمْ فِيهَا، وَأَدْبَرُوا عَنِ الْآخِرَةِ بِإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ بِشْرٍ قَالَا: ح مِكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ، قَالَ: ح أَبُو يَعْلَى بِالْمَوْصِلِ قَالَ: ح الْمُؤَمَّلُ قَالَ: ح أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ قَالَ: ح حَمَّادٌ قَالَ: ح هِشَامٌ، وَالْمُعَلَّا بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا غُدِيَ عَلَى أَحَدِكُمٍ بِقَصْعَةٍ وَرِيحَ بِأُخْرَى، وَغَدَا فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي أُخْرَى، وَكَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَجَّدْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُنَجَّدُ الْكَعْبَةُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالُوا: نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ، نُعْطَى وَنَشْكُرُ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ - يَعْنِي الْيَوْمَ - خَيْرٌ لَكُمْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَاسَدْتُمْ وَتَدَابَرْتُمْ وَتَبَاغَضْتُمْ وَتَنَافَسْتُمْ» [ص: 153] أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ سَبَبُهُ الدُّنْيَا، وَمُنَافَسَتُهُمْ فِيهَا. وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ يَصِيرُ التَّقَاطُعُ وَالتَّدَابُرُ مِنْ أَجَلْهَا تَهَارُجًا وَتَقَاتُلًا، حَتَّى تُقْتَلَ عَلَيْهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَهَارَبُونَ ضِنًّا بِهِمْ، وَيَتَذَابَحُونَ حِرْصًا عَلَيْهَا، فَتَرْبِيَةٌ جَرْوٍ خَيْرٌ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الْجَرْوَ يَأْلَفُ مَنْ يُرَبِّيهِ، وَيَحْرُسُ صَاحِبَهُ، وَيَذُبُّ عَنْهُ، وَالْوَلَدُ إِذْ ذَاكَ يَنْفُرُ مِنْ أَبِيهِ، وَيَقْطَعُهُ وَيَجْفُوهُ وَيُخَاصِمُهُ، بَلْ يُقَاتِلُهُ، إِذًا فَتَرْبِيَةُ جَرْوٍ يَحْرُسُكَ خَيْرٌ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدٍ يَنْهَبُكَ، وَتَرْبِيَةٌ مَنْ يَذُبُّ عَنْكَ خَيْرٌ مِنْ تَرْبِيَةِ مَنْ يَثِبُ عَلَيْكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو الْأَحْوَصِ، وَأَبِي عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ بَدَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ فَأَضَلَّ رَاحِلَتَهُ، فَطَلَبَهَا، حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ رَحْلِي، فَأَمُوتُ فِيهِ، فَرَجَعَ، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ فَوْقَ رَأْسِهِ عَلَيْهِ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَرَحُ سُرُورٌ يَكُونُ عَقِبَ حُزْنٍ وَكَآبَةٍ وَغَمٍّ، وَأَكْثَرُ مَا تَرِدُ لَفْظَةُ الْفَرَحِ إِنَّمَا تَرِدُ عَقِبَ اهْتِمَامٍ وَحُزْنٍ، وَكَذَلِكَ قَالُوا مَا مِنْ تَرْحَةٍ إِلَّا وَبَعْدَ فَرْحَةٍ، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الَّذِي قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ فِي دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، فَأَضَلَّ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ يَكُونُ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ وَالْغَمِّ، فَإِذَا وَجَدَهَا سُرَّ بِذَلِكَ غَايَةَ السُّرُورِ، فَعَبَّرَ عَنْ عِظَمِ السُّرُورِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ عِظَمِ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ وَالْغَمِّ، وَالْفَرَحِ، ثُمَّ كَانَ السُّرُورُ عِبَارَةً عَنْ بَسْطِ الْوَجْهِ، وَسَعَةِ الصَّدْرِ، وَاسْتِنَارَةِ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ سُرُورٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُورَ بِالشَيْءِ يَسْتَنِيرُ وَجْهُهُ، وَيَرِقُّ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، وَهِيَ عُرُوقُهُ، وَالْفَرَحُ مُعْظَمُ السُّرُورِ وَغَايَتُهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْفَرَحِ، فَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَلِيقُ بِهِ بِخِلَافِ مَا يُعْرَفُ مِنَ الْخَلْقِ، وَبِخَلَافِ مَا يَقَعُ تَحْتَ أَوْهَامِنَا، وَتُدْرِكُهُ عُقُولُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ بَسْطِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِفَاضَتِهَا عَلَى الْعَبْدِ، وَحُسْنِ الْقَبُولِ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَإِكْرَامِهِ لَهُ، وَبِرِّهِ إِيَّاهُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ [ص: 154] . فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِخْبَارٌ عَنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَجَلِيلِ قَدْرِهِ، وَمَحَلِّهِ مِنْهُ، حَتَّى يَكْرَهَ إِعْرَاضَهُ، وَذَهَابَهُ عَنْهُ، وَيُحِبُّ مِنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، وَدُنُوَّهُ مِنْهُ، وَإِيثَارَهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، ثُمَّ أَصَابَهَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَلْزَمَهَا قُرْبَهُ، وَجَعَلَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ حِفْظَهَا، وَعَمَّاهَا عَمَّا يُنَفِّرُهَا عَنْهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ ذَهَابَ عَبْدِهِ مِنْهُ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُ مَعَ غِنَاهُ، وَحَاجَةِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ فِي عِصْيَانِهِ وَإِعْرَاضِهِ وَذَهَابِهِ عَنْهُ، بَلْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلُ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَطْلُبُهَا» إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ قَبِلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُكْرِمًا لَهُ، مُعَظِّمًا قَدْرَهُ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُرْضِيًا لَهُ، وَجَعَلَهُ فِي حِفْظِهِ، وَكَنَفِهِ، وَرِعَايَتِهِ، وَعَصَمَهُ عَمَّا يُنَفِّرُهُ عَنْهُ، وَعَمَّا يُرِيدُ الذَّهَابَ بِهِ عَنْ غُرُورِ الدُّنْيَا، وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ، وَخِدَعِ النَّفْسِ، وَفِتْنَةِ الْخَلْقِ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَرِدُ بِهِ، وَمِنْ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يُرِيدُ مِنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، وَمُوَاجَهَتَهُ إِيَّاهُ، وَنَظَرَهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبَهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَعِصْيَانَهُ لَهُ وَإِنْ عَظُمَ إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَزْرَقُ قَالَ: ح الْوَاقِدِيُّ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» وَالْمُفَتَّنُ التَّوَّابُ مُقْبِلٌ عَلَى اللَّهِ مُوَاجِهٌ لَهُ، رَاجِعٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَيْهِ، كُلَّمَا صَرَفَتْهُ عَنْهُ فِتْنَةٌ رَدَّتْهُ إِلَيْهِ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا الْأَوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، غَيْرَ أَنَّ التَّوْبَةَ يُقَالُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَنَاهِي وَالْمَعَاصِي بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْأَوْبَةُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنْ حَالَةِ الطَّاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالشُّكْرِ وَالْحَمْدِ، وَالْعَبْدُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: حَالَةِ طَاعَةٍ، وَحَالَةِ مَعْصِيَةٍ، وَهُمَا صِنْفَانِ لِلْعَبْدِ، لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ مِنْهُمَا، وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْ صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَعْصِيَةُ [ص: 155] فَهُوَ تَوَّابٌ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ فَهُوَ أَوَّابٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] فَالْمَوْصُوفُ بِالْمَعْصِيَةِ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَالْمَوْصُوفُ بِالطَّاعَةِ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقَامَ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَعْصِيَةُ وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُصِرٌّ، وَمَنْ سَكَنَ إِلَى صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ إِمَّا مُرَاءٍ أَوْ مُعْجَبٌ أَوْ مُشْرِكٌ فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْخَلْقِ فِي حَالِ الطَّاعَةِ فَهُوَ مُرَاءٍ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُعْجَبٌ، فَمَنْ أَرَادَ بِهَا عِوَضًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ نَظَرَ مِنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ وَالْحَيَاءِ فَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالنَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَهُوَ حَبِيبُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الطَّاعَةِ بِرُؤْيَةِ الْمِنَّةِ وَشُهُودِ التَّوْفِيقِ بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَهُوَ حَبِيبُ اللَّهِ، مُحْسِنٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ إِقْبَالَ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرَهُ إِلَيْهِ، وَيَكْرَهُ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ، وَاشْتِغَالَهُ بِسِوَاهُ بِدُونِهِ، وَنَظَرَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ لَهُ نَظَرَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَاشْتِغَالَهُ بِسِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَدَبَ إِلَيْهِ وَيُحِبُّ لَهُ رُجُوعَهُ وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ مِنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «عَبْدِي إِنْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَقِيتُكَ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] الْآيَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ [ص: 156] ، عَنْ أَبِي صِرْمَّةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ أَوْ بِخَلْقٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَذْنَبَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَتَابَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَتَضَرَّعَ وَاسْتَكَانَ، وَعَلِقَ لَهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ هَذَا مِنَ الْعَبْدِ، وَخَبَايَتُهُ لَا تَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْخِبَايَةَ مِنَ الْعَبْدِ، وَالْمَحَبَّةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَلَا تَقْدَحُ أَوْصَافُ الْمُحْدِثِ الضَّعِيفِ الْحَقِيرِ فِي أَوْصَافِ الْقَدِيمِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حَمْدَانَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: ح أَحْيَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَامْبَاتِيُّ الشَّيْخُ الصَّالِحُ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ قَالَ: ح عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الدُّنْيَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَلَاذَّ النُّفُوسِ، وَشَهَوَاتِهَا، وَجَمِيعَ حُطَامِهَا، وَزَهْرَاتِهَا، وَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] ، وَحُبَّ الْبَقَاءِ فِيهَا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمَلْعُونَةَ إِذَا كَانَتْ لِلنُّفُوسِ وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّةِ الطَّبْعِ [ص: 157] ، وَالتَّلَهِّي بِهَا، وَالشُّغْلِ فِيهَا، وَالْحُبِّ لَهَا، وَلَمْ تَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأُولَى الَّتِي يَلِيهَا الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ، وَالْآخِرَةُ هِيَ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، الَّتِي لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ وَلَا فَنَاءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» أَيْ: مَرْفُوضَةٌ مَتْرُوكَةٌ، وَمَا فِيهَا أَيْ: مَا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ، وَالْمَلَاذِّ، وَالْحُطَامِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مَلْعُونٌ، أَيْ: مَتْرُوكٌ يَجِبُ تَرْكُهَا، وَرَفْضُهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا حَثَّ، وَإِلَيْهِ نَدَبَ، وَفِيهِ رَغَّبَ، وَعَنْهَا زَهَّدَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] ، وَقَالَ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ لِلدُّنْيَا تَرْكًا، وَعَنْهَا إِعْرَاضًا، وَاللَّعْنُ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّرْكُ، وَالْمَلْعُونُ الْمَتْرُوكُ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدَ يَصِفُ الْمَغَارَةَ: [البحر الكامل] غَوْرِيَّةٌ نَجْدِيَّةٌ تَصْعِيدُهُ ... تَصْوِيبُهُ مُتَشَابِهٌ مَلْعُونُ يَصِفُ طَرِيقًا تَرَكَ سُلُوكَهُ، حَتَّى اشْتَبَهَ، وَصَارَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهُ وَانْخَفَضَ شَيْئًا وَاحِدًا , فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» أَيْ: مَتْرُوكَةٌ يَجِبُ تَرْكُهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَدْوُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَوْنًا عَلَى إِقَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَتْرُوكٌ» أَيْ: هِيَ مَتْرُوكُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَفَاضِلِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهَا، وَرَفَضُوهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا أَوْ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَمَثَلِ رَاكِبٍ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ سَارَ وَتَرَكَهَا» قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَبَّانَ، قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: ح أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: ح عَمِّي أَبُو مُسْلِمٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجُعْفِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ [ص: 158] حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانَةُ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ، وَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِيمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ قَالَ: «سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنَ الَّتِي تُؤْذِي جِيرَانَهَا إِعْجَابًا بِعَمَلِهَا مِنْ صَوْمِ نَهَارِهَا، وَقِيَامِ لَيْلِهَا، وَأَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ تُؤْذِي جِيرَانَهَا ازْدِرَاءً بِهِمْ، وَتَصْغِيرًا لَهُمْ، وَتَحْقِيرًا إِيَّاهُمْ بِرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لَهَا عَلَيْهِمْ، فَاسْتَوْجَبَتِ النَّارَ بِذَلِكَ، وَالَّذِي كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَسْرِقُ إِذَا أَصْبَحَ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ التَّقْصِيرِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا يَأْتِيهِ مِنَ السَّرِقَةِ مَعْصِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَالرُّجُوعُ عَنْهَا، وَأَنَّ قِيَامَهُ بِاللَّيْلِ لِرُؤْيَةِ افْتِقَارِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِمَّا يَرَى أَنَّهُ لَوْ يَسْتَوْجِبُ بِسَرِقَتِهِ هَذَا مِنَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ [ص: 159] وَاجِبٌ، وَأَمَّا الَّتِي تُؤْذِي جِيرَانَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَرَى أَذَاهَا مِنْهَا لَهُمْ مَعْصِيَةً، فَتَرَى عَلَيْهَا تَوْبَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا كَانَ أَذَاهَا لِجِيرَانِهَا عَلَى مَعْنَى اسْتِدْعَائِهَا مِنْهُمْ تَعْظِيمًا، وَرَفْعِ قَدْرِهَا، وَتَحَمُّلِ مُؤْنِهَا لِرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لَهَا عَلَيْهِمْ، فَبَايَنَهَا مَوْتُهَا وَهِيَ مُصِرَّةٌ، فَتَسْتَوْجِبُ النَّارَ , فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُؤْذِيَةُ جِيرَانَهَا إِنَّمَا أُعْجِبَتْ بِصَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا، أَحْبَطَ أَعْمَالَهَا إِعْجَابُهَا، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا عَمَلٌ يَعُودُ بِبَرَكَتِهِ عَنْهَا، فَيَنْهَاهَا عَنْ إِيذَائِهَا جِيرَانَهَا، وَالَّذِي يَسْرِقُ إِذَا أَصْبَحَ حَصَّلَ لَهُ عَمَلُهُ افْتِقَارَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وِإِشْفَاقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَادَتْ بَرَكَةُ مَا حُصِّلَ لَهُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ الَّذِي خَلَطَهُ بِسَيِّئِهِ، فَنَهَاهُ صَالِحُ عَمَلِهِ عَنْ سَيِّئِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمُعَدِّلُ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ قَالَ: أخ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: ح مُوسَى بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: ح ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَالْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَجِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ، الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلَا وَتَرٍ، مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ، حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، مَا عَالَ امْرُؤٌ اقْتَصَدَ، التَّقْدِيرُ نِصْفُ الْعَيْشِ - وَفِي رِوَايَةٍ: نِصْفُ الْمَعِيشَةِ - وَالتَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَالْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ، وَقِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ، مَنْ أَحْزَنَ وَالِدَيْهِ عَقَّهُمَا، مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَبِطَ عَمَلُهُ، لَا يَكُونُ الصَّنِيعَةُ إِلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ كَمَا لَا تَصْلُحُ الرِّيَاضَةُ إِلَّا فِي النَّجِيبِ، يَنْزِلُ الرِّزْقُ عَلَى قَدْرِ الْمُؤْنَةِ، وَيَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ، وَمَنْ قَدَّرَ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ بَذَّرَ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، الْأَمَانَةُ تَجُرُّ الرِّزْقَ، وَالْخِيَانَةُ تَجُرُّ الْفَقْرَ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّمْلَةِ صَلَاحًا مَا أَنَبْتَ لَهَا جَنَاحًا، فَهَذِهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ» ، مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرَبَ} [العلق: 19] [ص: 160] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا قَالَ فِي سُجُودِهِ: رَبِّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي "، وَالتَّقِيُّ تَقِيَّانِ: تَقِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَقِيٌّ عَلَى التَّقَيُّدِ، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَبَذَلَ مَجْهُودَهُ فِي أَدَاءِ فُرُوضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، فَهُوَ تَقِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ هَذِهِ الْخِصَالَ، وَاتَّقَى الشِّرْكَ، فَهُوَ تَقِيٌّ عَلَى التَّقَيُّدِ، فَالتَّقِيُّ الْمُطْلَقُ مَقْبُولٌ عَمَلُهُ، فَعَمَلُهُ قُرْبَةٌ لَهُ، فَصَلَاةُ هَذَا التَّقِيِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ، وَمَنْ قُبِلَ عَمَلُهُ فَعَمَلُهُ قُرْبَةٌ لَهُ، فَصَلَاةُ هَذَا التَّقِيِّ لَهُ قُرْبَانٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالتَّقِيُّ الْمُقَيَّدُ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: اتَّقِ الشِّرْكَ يُقَيَّدُ لَهُ قَبُولُ عَمَلِهِ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنْ قُبِلَتْ صَلَاتُهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ قُرْبَانًا، وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ، فَالصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ مُطْلَقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا مَحَالَةَ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ صِدْقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانُ مَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ أَنْ قَبِلَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاتَهُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ» أَيْ: أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ التَّقِيِّ الْمُعْدِمِ تَقُومُ مَقَامَ الضَّحَايَا وَالنَّسَائِكِ؛ لِأَنَّ التَّقِيَّ إِذَا وَجَدَ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالضَّحَايَا، وَالنَّسَائِكِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ كَانَتْ تِلْكَ بِنِيَّةِ أَنْ وَجَدَ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْعَبْدَ يَهُمُّ بِالْحَسَنَةِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا: ". فَهَذِهِ صَلَاتُهُ تَقُومُ لَهُ مَقَامَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ» الْجِهَادُ تَحَمُّلُ الْآلَامِ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ دُونَ بُلُوغِ أَقْصَى الْغَايَةِ فِيهِ إِذْ فِيهِ بَذْلُ الرُّوحِ وَكُلُّ الْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] ، وَمَنْ ضَعُفَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ لِزَمَانَةٍ أَوْ عُذْرٍ فَالْحَجُّ لَهُ جِهَادٌ، إِذْ فِيهِ تَحَمُّلُ بَعْضِ الْآلَامِ، وَبَذْلُ بَعْضِ الْمَالِ، وَحُسْنُ التَّقَبُّلِ مِنَ الْمُرُوءَةِ تَحَمُّلُ الْآلَامِ فِيمَا تَكْرَهُهَا وَتَشُقُّ عَلَيْهَا، فَهُوَ مِنْهَا جِهَادٌ إِذْ لَا جِهَادَ عَلَيْهَا، جِهَادُ قَتْلٍ [ص: 161] . وَقَوْلُهُ: «الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلَا وَتَرٍ» وَالرَّامِي بِلَا وَتَرٍ مُتَمَنٍّ لِلتَّرَمِّي، وَلَيْسَ بِرَامٍ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُ الرَّمْيُ مِنْ غَيْرِ وَتَرٍ، فَكَأَنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْمِيَ، فَإِنْ عَزَمَ عَلَى الرَّمْيِ وَأَرَادَهُ أَعَدَّ الْوَتَرَ ثُمَّ رَمَى، فَكَذَلِكَ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مُتَمَنٍّ بُلُوغَ مَا يَدْعُو فِيهِ، وَلَيْسَ بِمُرِيدٍ لِمَا يَدْعُو فِيهِ، وَلَا عَازِمٍ عَلَى الطَّلَبِ لَهُ، فَإِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُ لِمَا يَدْعُو فِيهِ عَزَمَ عَلَى الطَّلَبِ لَهُ، وَعَزِيمَتُهُ عَلَيْهِ عَمَلٌ صَالِحٌ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ دَعْوَتِهِ. وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ» الْخُلَفُ خَلَفَانِ: ثَوَابٌ فِي الْآجَلِ، وَعِوَضٌ فِي الْعَاجِلِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمَا جَمِيعًا {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] ، فَهَذَا فِي عِوَضِ الْعَاجِلِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فَهَذَا فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَعِوَضُ الْعَاجِلِ أَنْ يَخْلُفَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشَرَةً لِوَاحِدَةٍ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، أَوْ يُبَارَكَ لَهُ فِي الْبَاقِي، فَيَقُومُ الْوَاحِدُ مَقَامَ الْعَشَرَةِ، وَيَنُوبُ الْوَاحِدُ مَنَابَ عَشَرَةٍ، فَمَنْ شَاهَدَ هَذَيْنِ الْخَلَفَيْنِ بِبَصَرِ قَلْبِهِ أَسْرَعَ إِلَى الْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ بَصَرُ الْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ» . لِلْمَالِ مُسْتَحِقَّانِ الْمَسَاكِينُ وَالْحَوَادِثُ، فَالطَّالِبُ بِحَقِّ الْمَسَاكِينِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَوَادِثُ يَأْتِي بِهَا الْأَقْدَارُ، وَهِيَ يَدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُؤَدِّي حَقَّ الْمَسَاكِينِ مُرْضٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَحْوِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، أَوْ يُجْرِيهَا عَلَى وُقُوعِ الْحَوَادِثِ فَجَعَلَهَا بِهَذِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] ، وَيُخْلِفُ مِنْهَا، وَيُلْهِمُ الصَّبْرَ عَلَيْهَا، وَيُعَظِّمُ الثَّوَابَ فِيهَا، فَالزَّكَاةُ حِصْنٌ لَهَا إِنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَهِيَ لَهَا أَحْصَنُ إِنْ حَصَلَتْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ: «مَا عَالَ امْرُؤٌ اقْتَصَدَ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ اقْتَصَدَ أَيْ: قَصَدَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: مَنْ قَصَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالثِّقَةِ بِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَمْ يُحْوِجْهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ قَامَ بِكِفَايَتِهِ، وَسَدِّ خُلَّتِهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَنْ سِوَاهُ يَجْعَلْ لَهُ مُتَّسَعًا، وَيَرْزُقْهُ عَمَّنْ عِنْدَهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 162] : «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ» الْخَبَرَ، فَمَنْ قَصَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ لَمْ يُصِبْهُ عَيْلَةٌ، وَالْعَيْلَةُ اخْتِلَالُ الْحَالِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى النَّاسِ. وَقَوْلُهُ: «التَّقْدِيرُ نِصْفُ الْعَيْشِ» ، كَمَالُ الْعَيْشِ شَيئَانِ: مُدَّةُ الْأَجَلِ، وَحُسْنُ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ التَّقْتِيرِ، وَالتَّبْذِيرِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ، وَحُسْنُ الْحَالِ مَهْنَأُ مَا يُمْكِنُهُ فِي عَاجِلِهِ، وَالْمُسْرِفُ يُحْرَمُ ثَوَابَ نَفَقَتِهِ فِي أَجَلِهِ، وَالْبَرَكَةَ فِي عَاجِلِهِ، وَنَبَوَاتِ الْبَرَكَةِ، وَالْمَهْنَأُ فَوَاتُ حُسْنِ الْحَالِ، وَبِحُصُولِهِمَا حُصُولُ حُسْنِ الْحَالِ، وَحُسْنُ الْحَالِ أَحَدُ نِصْفَيِ الْعَيْشِ، وَكَمَالُهُ اسْتِكْمَالُ مُدَّةِ الْأَجَلِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ» ، إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى شَيْئَانِ: الْوَفَاءُ فِي الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ، وَالرِّضَا فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ كَفُّ الْأَذَى، وَبَذْلُ النَّدَى، وَمَنْ كَفَّ أَذَاهُ، وَبَذَلَ نَدَاهُ، وَدَّهُ النَّاسُ، فَكَأَنَّهُ مَنْ أَحْسَنَ مُعَامَلَةَ خَلْقِ اللَّهِ، فَقَدْ جَازَ نِصْفَ الْعَقْلِ، فَإِنْ أَقَامَ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَكْمَلَ جَمِيعَهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ» ، ضَعْفٌ لَيْسَ وَرَاءَهُ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّهُ انْحِلَالُ الْقُوَى، وَهِيَ إِذَا انْحَلَّتْ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَالْهَمُّ يُضَعِّفُ ضَعْفًا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ قُوَّةٌ مَا لَمْ تُحَلَّ الْقُوَى، فَإِذَا حَلَّ الْهَمُّ الْقَوِيَّ، فَهُوَ الضَّعِيفُ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ قُوَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَحُلَّهَا، وَزَالَ الْهَمُّ عَادَتِ الْقُوَّةُ، وَالْهَمُّ إِذًا نِصْفُ الضَّعْفِ الَّذِي جَمِيعُهُ انْحِلَالُ الْقُوَى، وَفَسَادُهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ» الْيَسَارُ: خَفْضُ الْعَيْشِ، وَالْيُسْرُ فِيهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الدَّخْلِ عَلَى الْخَرْجِ، أَوْ وَفَاءُ الدَّخْلِ بِالْخَرْجِ، فَمَنْ كَثُرَ دَخْلُهُ، وَقَلَّ، أَوْ كَثُرَ عِيَالُهُ، فَضُلَ لَهُ مِنْ دَخَلِهِ، أَوْ وَفَّى دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ، وَمَنْ قَلَّ دَخْلُهُ، وَقَلَّ عِيَالُهُ، وَفَّى دَخْلُهُ بِخُرُوجِهِ، أَوْ فَضُلَ مِنْ دَخْلِهِ، وَخَفَضَ عَيْشُهُ، وَيُسِّرَ [ص: 163] . وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَحْزَنَ وَالِدَيْهِ فَقَدْ عَقَّهُمَا» الْعُقُوقُ قَصْدُ الْجَفَا لِلْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْجَفَا لَهُمَا إِدْخَالُ الْأَلَمِ عَلَيْهِمَا، وَالْحُزْنُ أَلَمٌ، فَمَنْ أَحْزَنَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْجَفَاءِ، فَقَدْ آلَمَهُمَا، وَالْأَلَمُ عُقُوقٌ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» ، ثَمَرَةُ الْعَمَلِ ثَوَابُهُ، وَثَوَابُ الْمُصِيبَةِ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وَضَرْبُ الْيَدِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَزَعٌ، وَمَنْ جَزِعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ، فَالْجَزَعُ مُبْطِلٌ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ، وَمَنْ فَاتَهُ الثَّوَابُ عَلَى عَمَلِهِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وَقَوْلُهُ: «لَا يَكُونُ الصَّنِيعَةُ إِلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ كَمَا لَا تَصْلُحُ الرِّيَاضَةُ إِلَّا فِي النَّجِيبِ» ، مِنَ الدَّوَابِّ، وَمَا لَيْسَ بِنَجِيبٍ فَلَا تَقَعُ فِيهِ، فَرِيَاضَةٌ لَا تُفِيدُ مَعْنًى، وَيُتْعَبُ الرَّايِضُ، وَالْغَرَضُ مِنَ الصَّنِيعَةِ ثَوَابُ الْآجِلِ، وَشُكْرُ الْعَاجِلِ، فَمَنْ قَصَدَ بِصَنِيعَتِهِ ثَوَابَ الْآجِلِ اصْطَنَعَ إِلَى ذِي الدِّينِ، فَصَانَ بِهِ دِينَهُ، فَيَعْظُمُ ثَوَابُهُ، وَمَنْ قَصَدَ شُكْرَ الْعَاجِلِ اصْطَنَعَ إِلَى ذِي حَسَبٍ، فَصَانَ بِهِ عِرْضَهُ، فَحَسُنَ شُكْرُهُ، وَمَنِ اصْطَنَعَ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ، فَكَأَنَّهُ يَقْصِدُ الْغَرَضَ مِنَ الصَّنِيعَةِ إِذْ لَمْ يُصْبِنْ بِهَا دُنْيَا، وَلَا عِرَضًا، وَمَنْ لَمْ يُصْبِنْ بِالصَّنِيعَةِ دِينَهُ، وَلَا عِرْضَهُ، فَكَأَنَّمَا لَمْ يَصْطَنِعْ. وَقَوْلُهُ: «يَنْزِلُ الرِّزْقُ عَلَى قَدْرِ الْمُؤْنَةِ» ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ رِزْقًا مِنْ غَدَاهُ، أَوْ مُلْكٍ، أَوْ جَمِيعِهِمَا، فَمَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ ذَوُو الْأَرْوَاحِ حَصَلَ لَهُ أَرْزَاقُهُمْ. وَقَوْلُهُ: «يَنْزِلُ الصَّبْرِ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ» صِفَةُ الْإِنْسَانِ الْجَزَعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19] ، فَمِنْ جَوْهَرِهِ، وَصِفَتِهِ الْجَزَعُ، وَأَمَّا الصَّبْرُ فَبِاللَّهِ يَكُونُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] ، فَمِنْ عَظَمَةِ مُصِيبَتِهِ يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلصَّابرِ إِنْ صَبَرَ عَلَى عِظَمِ مُصِيبَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى، لَا بِهِ. وَقَوْلُهُ: «مَنْ قَدَّرَ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ بَذَّرَ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَلِيلَ النَّفَقَةِ» ، فِي الْمَعْصِيَةِ تَبْذِيرٌ، وَكَثِيرُهَا فِي ضَيَاعِهِ تَقْدِيرٌ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى، فَوَضَعَ النَّفَقَةَ فِي حَقِّهَا اتَّقَاهُ، وَمَنِ اتَّقَاهُ رَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَقَدْ [ص: 164] عَصَاهُ، وَمَنْ عَصَاهُ لَمْ يَخْلُفْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ فِي الْعُقْبَى، فَقَدْ حُرِمَ الْمُبَذِّرُ ثَوَابَ الْآجِلِ، وَخُلْفَ الْعَاجِلِ، وَرُزِقَ الْمُقَدِّرُ الْخُلْفَ فِي الْعَاجِلِ، وَالثَّوَابَ فِي الْآجِلِ. وَقَوْلُهُ: «الْأَمَانَةُ تَجُرُّ الرِّزْقَ» ، الْأَمَانَةُ ذَمُّ الْجَوَارِحِ، وَكُفُّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ التُّقَى، وَالتَّقِيُّ مَرْزُوقٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تَسْتَجْلِبُ الْقُلُوبَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْجِنَايَةَ تُنَفِّرُهَا، وَالْجِنَايَةُ تَجُرُّ الْفَقْرَ، وَالْجِنَايَةُ تَضْيِيعُ الْجَوَارِحِ، وَانْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَضْيِيعُ الْجَوَارِحِ، وَمُتَابَعَةُ الشَّهَوَاتِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْبَلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى غَيْرِهِ افْتَقَرَ؛ لِأَنَّ مَنْ دُونَ اللَّهِ فَقِيرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّمْلَةِ صَلَاحًا مَا أَنْبَتَ لَهَا جَنَاحًا» ، النَّمْلُ مَسَاكِنُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَاحْتِرَازُهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَفِي لُزُومِ مَسْكَنِهَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَعَرَّضَتْ لِلْآفَاتِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] ، فَإِذَا نَبَتَ لَهَا جَنَاحٌ نَهَضَتْ لِلطَّيَرَانِ عَلَى ضَعْفٍ، فَسَقَطَتْ فِي مَاءٍ، فَغَرِقَتْ، أَوْ فِي نَارٍ وَاحْتَرَقَتْ، أَوْ فِي فَمِ طَائِرٍ فَابْتَلَعَهَا، أَوْ بَعُدَتْ عَنْ مَسَاكِنِهَا، فَلَمْ يُهْتَدَ إِلَيْهَا، وَفِي هَذَا فَسَادُهَا وَهَلَاكُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِكُلِّ مُتَعَدٍّ طَوْرَهُ، وَمُجَاوِزٍ قَدْرَهُ بِنَظَرِهِ إِلَى نَفْسِهِ بِقُوَّةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ عُمْرٍ، أَوْ آلَةٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينٍ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55] وَقَوْلُهُ: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِالنَّمْلَةِ صَلَاحًا مَا أَنَبْتَ لَهَا جَنَاحًا» ، دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِمَنْ شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ صَلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يَسْأَلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ح سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ أَبُو عَتَّابٍ قَالَ: ح الْمُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: ح أَبُو حَبَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحِيهِ الْمَلَائِكَةُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقَامُهُ مَقَامُ الْحَيَاءِ، وَالْحَيَاءُ نَزْعٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ إِجْلَالِ مَنْ يُشَاهِدُهِ، وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ، وَنَقْصٍ يُشَاهِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَلَبَ عَلَيْهِ إِجْلَالُ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَعْظِيمُهُ، وَازْدِرَاءٌ بِنَفْسِهِ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَالتَّقْصِيرِ، وَهُمَا جَلِيلُ خِصَالِ الْعِبَادِ الَّذِينَ هُمْ خُصَصَاهُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَدْنَى مَنْزِلَتَهُ مِنْهُ، فَجَلَّ قَدْرُ عُثْمَانَ، وَعَلَتْ رُتْبَتُهُ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ خَاصَّةُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ، وَخَصَائِصُهُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّ مَنَ أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى خَافَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ "، فَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَحَبَّهُ خَاصَّتُهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ قِيلَ: مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى خَافَتْهُ الْمَخَاوِفُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ النَّارَ تَقُولُ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي " [ص: 166] فَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَحْيَا مِنْهُ خَاصَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَالِصَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، أَلَا يَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَخِذُهُ مَكْشُوفَةٌ، غَطَّاهَا حَيَاءً مِنْ عُثْمَانَ، وَقَالَ: «أَلَا اسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» . وَالْحَيَاءُ حَيَاءَانِ: حَيَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَيَاءٌ مِنَ النَّاسِ، فَالْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَصَفَهُ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحِي قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ، فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ، فَلْيَتْرُكْ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَنُفَسِّرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ أَنْ يَتَحَصَّنَ عَنْ إِتْيَانِ مَا يُشِينُهُ، وَهُوَ يَجْمَعُ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ، وَيَحْجُزُ عَنْ مَسَاوِيهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ " [ص: 167] وَقَالَ: «لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ، إِذًا فَالْحَيَاءُ تَرْكُ الْقَبَائِحِ، وَالسَّيِّئَاتِ، وَإِتْيَانُ الْمَحَاسِنَ، وَالْخَيْرَاتِ، وَهَذَا خُلُقُ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: ح أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ آَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُكَافَأَةِ مَنْ آَتَى إِلَيْكَ مَعْرُوفًا، وَالْمُكَافَأَةُ مُقَابَلَةٌ بِمِثْلِ مَا أُتِيَ بِهِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ الْمُكَافَأَةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ، وَمَنْ آَتَى إِلَيْكَ مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفًا فَاصْطَنِعْ إِلَيْهِ صَنِيعَةً؛ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى مِثْلِ مَا آَتَى إِلَيْكَ كَحَاجَتِكَ [ص: 168] إِلَى مَا اصْطَنَعَ عِنْدَكَ؛ لِأَنَّ اصْطِنَاعَهُ إِلَيْكَ فِي نَفْعٍ يَجُرُّهُ إِلَيْكَ، أَوْ ضُرٍّ يَدْفَعُهُ عَنْكَ، أَوْ خَلَّةٍ يَسُدُّهَا لَكَ، وَهُوَ ذُو خَلَّةٍ مِثْلُكَ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى دَفْعٍ وَنَفْعٍ كَانَتْ، فَإِنْ قَابَلْتَهُ بِمِثْلِهِ آَتَيْتَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا آَتَى إِلَيْكَ، فَقَدْ سَاوَيْتَهُ، وَالنِّعْمَةُ لِلَّهِ عَلَيْكَ فِي الْإِذْنِ لَهُ بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إِلَيْكَ، فَالْمُنْعِمُ عَلَيْكَ بِهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالشُّكْرُ للَّهِ عَلَيْكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَالشُّكْرُ رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ، وَالْتِزَامُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ، فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَالْحَمْدُ لَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِهِ، لِأَنَّ شُكْرَكَ لِلَّهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ، يَجِبُ عَلَيْكَ شُكْرَهَا، وَهَذِهِ لَيْسَتْ لَهَا غَايَةٌ، وَلَا حَدٌّ، فَالِاعْتِرَافُ بِالتَّقْصِيرِ لَازِمٌ فِيهِ، فَحَقُّ اللَّهِ فِيهِ الشُّكْرُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَمِنَ الْمُصْطَنِعِ مُكَافَأَتُهُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ مُكَافَأَتِهِ، فَالْإِحَالَةُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ لَهُ، فَكَأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا عَاجِزٌ عَنْ مُكَافَأَتِهِ، وَأَنْتَ عَلَيْهِ قَادِرٌ، فَكَافِئْهُ عَنِّي، وَجَازِهِ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " إِذَا قَالَ لِأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ بَلَغَ فِي الثَّنَاءِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْبُحَيْرِيُّ، قَالَ: ح أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَطَّارُ قَالَ: ح مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ بَلَغَ فِي الثَّنَاءِ " وَقَوْلُهُ: «مَنْ سَأَلَكُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَعْطُوهُ» ، إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَإِيجَابًا لِحَقِّهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى مَعْنَى: مَنْ سَأَلَكُمْ فِي اللَّهِ فَأَعْطُوهُ، فَيَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ مَنْ سَأَلَكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَفِي إِقَامَةِ أَمْرِهِ، وَفِي إِظْهَارِ مَنَارِ الدِّينِ، وَسُبُلِ الْخَيْرِ، فَأَعْطُوهُ، وَلَيْسَ يَجِبُ إِعْطَاءُ السَّائِلِ إِذَا كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، أَوْ فُضُولٍ [ص: 169] . فَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فِيمَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْكَ فَرِيضَةٌ، فَأَعْطَاكَ إِيَّاهُ لِإِجْلَالِ حَقِّ اللَّهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ بِفَرْضٍ وَلَا حَتْمٍ مَنْ سَأَلَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْكَ، وَعَلَى السَّائِلِ فَرْضٌ، فَإِعْطَاؤُكَ إِيَّاهُ فَرْضٌ عَلَيْكَ، وَلَازِمٌ لَكَ لَا يَجُوزُ مَنْعُهُ. وَقَوْلُهُ: «وَمَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ» عِنْدَ ضَرُورَةٍ حَلَّتْ بِهِ، أَوْ ظُلْمٍ لَحِقَهُ، فَأَعِيذُوهُ، فَإِنَّ إِغَاثَةَ الْمَلْهُوفِ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَالْإِعَاذَةُ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْكَ إِذَا قَامَ بِهِ غَيْرُكَ. وَقَوْلُهُ: «وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَنْ دَعَاكُمْ لِلِاسْتِعَانَةِ بِكُمْ يَجُوزُ إِعَانَتُهُ فَأَجِيبُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَنْ دَعَاكُمْ إِلَى طَعَامٍ، فَأَجِيبُوهُ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 حَدَّثَنَاهُ حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح حَفْصٌ قَالَ: ح هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَفَعَهُ قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا، فَلْيَدْعُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُصَلِّ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا يَتَّجِهُ إِلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنَ دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ تَكَلَّفَ الدَّاعِي لَهُ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْمَدْعُوَّ، فَعَلَيْهِ إِجَابَتُهُ، وَلَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ عَنْهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالدَّاعِي، وَرُبَّمَا أَحْزَنَهُ، وَلَا يَجُوزُ إِضْرَارُ الْمُؤْمِنِ، وَلَا تَحْزِينُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ غَيْرَهُ، وَالتَّكَلُّفُ سِوَاهُ، وَسِعَ التَّخَلُّفُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ قَالَ: ح أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَفْصٍ قَالَ: ح مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحَدَّثَنَا الرَّشَادِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: ح الرَّبِيعُ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نِعَمُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا تُحْصَى، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ، فَمِنْ نِعَمِهِ مَا تَفَرَّدَ مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا جَعَلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَسَائِطَ، وَأَسْبَابًا، وَأَوْجَبَهُ حَقَّ الْوَسَايِطِ، وَتَعْظِيمَ الْأَسْبَابِ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ بِهِمْ، وَالطَّاعَةَ لَهُمْ، وَلِرَسُولِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الْوَسَايِطُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالسُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَلَاغِ عَنْهُ، وَإِيجَابِ الْأوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَالْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى , لَيْسَ إِلَى الرُّسُلِ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَالْبَيَانِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] ، وَقَالَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الْلَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] ثُمَّ قَالَ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، أَيْ: إِنَّكَ لَتَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَوْجَبَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِهِ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] ، إِذْ جَعَلَهُمَا سَبَبَ الْإِيجَادِ لِلْوَلَدِ، وَأَوْجَبَ حَقَّ الْعُلَمَاءِ، أَوْ جَعَلَهُمْ سَبَبًا لَمَّا عَلَّمَهُمْ، وَالْمُعَلِّمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] ، وَأَوْجَبَ حَقَّ السُّلْطَانِ إِذْ جَعَلَهُمْ سَبَبًا لِلْأَمْنِ فِي بِلَادِهِ، وَالْحُكَّامَ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَقَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، قِيلَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ، وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلِكُلٍّ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَفَرْضٌ لَازِمٌ [ص: 171] ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ بِوَاسِطَةِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ فِي نَفْعٍ لَكَ أَوْ دَفْعٍ عَنْكَ، أَوْجَبَ عَلَيْكَ شُكْرَهُ، وَالْمُنْعِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] فَوَجَبَ عَلَيْهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَوَجَبَ عَلَيْكَ شُكْرُ مَنْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ النَّفْعِ وَالدَّفْعِ، كَالشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوَّلُهُ رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ بِالْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشُّكْرُ انْكِشَافُ الْغِطَاءِ عَنِ الْقَلْبِ لِشُهُودِ النِّعْمَةِ، وَالْكَثِيرُ انْكِشَافُ الشَّفَتَيْنِ عَنِ الْأَسْنَانِ لِوُجُودِ الْفَرَجِ، فَالشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِاللِّسَانِ، وَالطَّاعَةُ لَهُ بِالْأَرْكَانِ، ثُمَّ الِاعْتِرَافُ بِرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ عَنْ بُلُوغِ شُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ نِعْمَةٌ مِنْهُ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ الْحَيْرَةُ مِنْكَ، وَشُهُودُ حَاصِلِ الشُّكْرِ عَلَيْكَ قَالَ بَعْضُ الْكِبَارِ: [البحر الطويل] سَأَشْكُرُ لَا أَنِّي أُجَازِيكَ مُنْعِمًا ... بِشُكْرِي وَلَكِنْ كَيْ يُقَالَ لَهُ: شُكْرُ وَأَذْكُرُ أَيَّامًا لَدَيَّ أَضَعْتُهَا ... وَآَخِرُ مَا يَبْقَى عَلَى الشَّاكِرِ الذِّكْرُ وَقَالَ بَعْضُ الْكِبَارِ فِي مُنَاجَاتِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ عَجْزِي عَنْ شُكْرِكَ، فَاشْكُرْ نَفْسَكَ عَنِّي. فَغَايَةُ الشُّكْرِ رُؤْيَةُ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّكْرِ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي أَسْبَابِ الشُّهُودِ، وَالْقِيَامِ بِالْوَفَاءِ، وَالِاسْتِهْتَارِ بِالثَّنَاءِ، وَشُكْرِ مَنْ جَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَى يَدَيْهِ بِالْمُكَافَأَةِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الثَّنَاءِ نَشْرُ الْجَمِيلِ عَنْهُ، وَحُسْنُ الدُّعَاءِ لَهُ، فَمَنْ قَدَرَ كَافَأَ، وَمَنْ عَجَزَ دَعَا، وَالْمُكَافَأَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَ الْعَجْزِ أَيْسَرُ الشُّكْرَيْنِ: شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرُ الْعِبَادِ، وَمَنْ ضَيَّعَ شُكْرَ الْعِبَادِ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ الشُّكْرَيْنِ، كَانَ بِشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا قَدْرًا، وَأَعْسَرُهُمَا مَرَامًا أَضْيَعَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ قَائِمًا بِشُكْرِ اللَّهِ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِ النَّاسِ مَعَ حَقِّهِ مُجْمَلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ لِمَعَانٍ , [ص: 172] أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَصْطَنِعُهُ النَّاسُ، وَإِنْ كَثُرَ فَمَعْدُودٌ مُتَنَاهٍ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُحْصَى عَدًّا، وَلَا تَتَنَاهَى حَدًّا، وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَافَأَ الْمُصْطَنِعُ إِلَيْهِ، فَلِلْمُصْطَنِعُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْمُكَافِئُ أَبَدًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شُكْرِ النَّاسِ فِي الْمَعْرُوفِ الْمَحْدُودِ، الْمَعْدُودِ، الْمُحْصَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ، قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ قَالَ: ح الْأَزْرَقُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ح حَسَّانُ قَالَ: ح عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ نُعَيْمٍ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: ح الْحَرِيرِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْكَرُ النَّاسِ لِلَّهِ تَعَالَى أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْقِيَامِ بِشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ الْوُسْعِ، وَالطَّاقَةِ بَذْلَ الْمَجْهُودِ فِيهِ، وَالْحَدَّ بِمُطَالَبَتِهِ الشُّكْرَ لِلَّهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ وَالْوَفَاءَ بِمَا أَمَرَ، وَنَهَى، حَتَّى يُعْفَى بِهِ الْأَمْرُ إِلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي شُكْرِ النَّاسِ لِإِيجَابِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ لِلنَّاسِ أَشْكَرَ كَانَ فِي إِيفَاءِ حَقِّ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ أَسْعَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ حَازِمُ بْنُ حُسَيْنٍ الْحُمَيْسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي الرَّقَاشِيَّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «أَمَّا قُرَيْشٌ فَاسْتَبْقُوهُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةً، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ، فَحَرِّرُوهُمْ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ حَاجَةً» ، أَيْ خَصَائِصُ، وَنُجَبَاءُ، وَفِيهِمْ كَرَائِمُ، وَفَضَائِلُ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ، وَغَرَزَهُ فِيهِمْ، وَأَوْدَعَهَا إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَهُونُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ خِيرَةَ النَّاسِ، فَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا كُلَّ خَبَثٍ كَانَ فِيهَا، وَكُلَّ خَبِيثٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ فِيهَا خَبِيثَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ، كَانَتِ الْبَقِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: هُمْ صَفْوَةُ مَنْ بَقِيَ، وَمِنْ وَرَائِهِمُ الْخَيْرُ مِمَّنْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ، وَطَهَّرَ قُلُوبَهُمْ، وَصَفَّى أَسْرَارَهُمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ، وَقَرَّبَهُمْ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَبْطَأَ بِهِمُ الْقُوتُ، وَتَأَخَّرَتْ بِهِمُ الْمُدَّةُ , أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ، وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْهُمْ مُرَتَدٌّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّ الْعَرَبُ، أَوْ أَكْثَرُهَا، وَلَمْ تَرْتَدَّ قُرَيْشٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَأَى بِهِمْ عَنْهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، وَتَرَبَّصَهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ، حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ فِرَارًا مِنَ الْإِسْلَامِ، كَرَاهَةً لَهُ، حَتَّى بَلَغَ الْبَحْرَ، وَلَهُ قِصَّةٌ، ثُمَّ بَلَغَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَشَرَ الْمُصْحَفَ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ رَبِّي، فَيُغْشَى عَلَيْهِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مَا كَانَ بَلَغَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ أَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَقُتِلَ شَهِيدًا، وَحَثَّ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَخَطَبَ خُطْبَةً بَلِيغَةً بَلَغَتْ مِنَ النَّاسِ مُبَلِّغًا، كَانَ سَبَبَ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ فِي أَغْوَارِ الدِّينِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِرَامٍ بَاعَ دَارَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّينَ أَلْفًا، فَقَالُوا لَهُ: غَبَنَكَ وَاللَّهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَخَذْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِزِقٍّ مِنْ خَمْرٍ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالرِّقَابِ، فَأَيُّنَا الْمَغْبُونُ؟، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَجَمِيعُ مَسْلَمَةِ الْفَتْحِ، وَإِنْ أَبْطَأَتْ بِهِمُ الْمُدَّةُ، وَتَأَخَّرَ دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِمُ الْمَبْلَغَ الْعَلِيَّ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةً» ، أَيْ: لِلَّهِ فِيهِمْ إِرَادَةُ خَيْرٍ، وَمَشِيئَةُ فَضْلٍ، وَوَدَائِعُ يُودِعُهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْرَارَهُمْ، وَأَنْوَارًا يَجْعَلُهَا فِي صُدُورِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ، فَأَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ صَفْوتَهُمْ، وَجَاءُوا إِلَى الْإِسْلَامِ رَاغِبِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] ، وَبَقِيَتْ حُثَالَةٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ، فَقَالَ: اقْطَعُوهُمْ قَطْعًا. أَلَا يُرَى أَنَّ أَكْثَرَ مَنِ انْفَلَتَ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارْتَدُّوا حَتَّى جَذَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَذًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ غَيْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخَصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَخَصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ، وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخَصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا شَخَصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لِشَخْصٍ أَنْ يَكُونَ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، فَمَعْنَاهُ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْعِبَادُ الَّذِينَ هُمْ أشخاصٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِشَخْصٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالشَّخْصِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ حَقِّ مَنْ يَتَرَفَّعُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ، وَيَشْرُفُ مَرْتَبَتُهُ أَنْ يَكُونَ لِشَرَفِهِ فِي الرُّتْبَةِ، وَعِظَمِ قَدْرِهِ، وَتَرَفُّعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى جَلِيلٌ عَظِيمٌ، رَفِيعُ الْمَكَانِ، وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ وَكِبْرَيَائِهِ، وَشِدَّتِهِ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، يُمْهِلُ عِبَادَهُ فِي مُوَاقَعَتِهِمُ الْفَوَاحِشَ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا، فَلَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنِ الْإِمْهَالِ، وَتَرْكِ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ لِغَيْرَتِهِ، فَيَقْتُلَ مَنْ يُوَاقِعُ الْفَاحِشَةَ، وَيَأْتِيهَا، وَلَكِنْ يُمْهِلُ إِلَى أَنْ تُطْلَقَ عَنْهُ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَتْلِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ، وَإِلَّا مَهَّلَ وَتَرَبَّصَ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَيْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا كَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَشَرِيفَ قَبِيلَتِهِ الْخَزْرَجِ، وَسَيِّدَهَا، وَرَفِيعَ الْقَدْرِ فِيهَا، وَجَلِيلَ الْخَطَرِ عِنْدَهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ، إِذْ يَكَادُ يَخَافُ تَبِعَتَهَا، وَالشَّخْصُ مَا ارْتَفَعَ، وَنَمَا، وَتَزَايَدَ، فَكَأَنَّهُ [ص: 175] يَقُولُ: مَنْ كَانَ رِفْعَتُهُ، وَشَرَفُهُ، وَجَلَالَةُ قَدْرِهِ بِالنُّمُوِّ، وَالتَّزَايُدِ، وَالِارْتِفَاعِ مِنْ حَالَةِ الِانْخِفَاضِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الَّذِي حُدَّ لَهُ، وَالْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَاقِعَ بِالْعُقُوبَةِ مَوَاقِعَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَأَعْلَى جَلَالَتِهِ، وَعَظَمَتِهُ، وَعُلُوِّهِ، لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ، وَغَيْرَتُهُ أَشَدُّ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُمْهِلُ مُوَاقِعَ الْفَاحِشَةِ، وَلَا يُعَاجِلُهُ، فَالشَّخْصُ أَوْلَى بِتَرْكِ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ، الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مَا حَدَّثَنَاهُ حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آَتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ ‍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَمُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ: «كَفَى بِالسَّيْفِ شَاهِدًا» فِي رِوَايَةٍ قَالَ: " اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ: إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَلَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُعَالَجَةَ الْعُقُوبَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لِغَيْرَتِهِ، وَلَمْ يَخْفِ التَّبِعَةَ فِيهَا لِشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَأَشْرَفُ، وَأَبْلَغُ سُؤْدُدًا مِنْهُ، وَهُوَ يَنْتَهِي إِلَى الْحَدِّ فِي الْغَيْرَةِ، فَلَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ مُوَاقِعَ الْفَاحِشَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَأَعْلَى وَأَجَلُّ، وَهُوَ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَالشَّخْصُ الَّذِي شَرَفُهُ وَسُؤْدُدُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّخْصِ بِالنُّمُوِّ وَالِازْدِيَادِ لِإِلْزَامِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى، ثُمَّ الْأَشْخَاصُ وَهُمُ الْمُتَرَفِّعُونَ الْأَشْرَافُ، وَمَنْ عَظُمَ قَدْرُهُ مِنْهُمْ لِعَمَلِهِ مِنْ قُوَّةٍ لِلسُّلْطَانِ، أَوْ شَرَفٍ بِحَالٍ، وَاتِّبَاعٍ، وَيَكُونُ لِشَرَفِهِمْ نُمُوًّا، وَتَزَايُدًا، وَبِالْعِلَلِ، وَالْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُعْذَرُوا مِنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُلَامُوا عَلَيْهَا، وَيَلْزَمُهُمُ التَّعْبِيرُ فِيهَا حَدًّا، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ مُجَاوَزَتُهَا، وَأَقْدَارٌ لَيْسَ لَهُمْ تَعَدِّيهَا، فَرُبَّمَا يَفْعَلُونَ الْفِعْلَ الَّذِي يَلْزَمُهُمُ اللَّوْمُ عَلَيْهَا لِهَذِهِ الْعِلَلِ، وَهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُعْذِرُوا إِلَى النَّاسِ فِي أَفْعَالِهِمْ لِإِزَالَةِ اللَّوْمِ عَنْهُمْ، وَالتَّعْبِيرِ لَهُمْ، وَالنَّكِيرِ مِمَّنْ فَوْقَهُمْ عَلَيْهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى فِي جَلَالِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَكِبْرَيَائِهِ، وَقَهْرِهِ لِخَلْقِهِ يُبْدِي الْعُذْرَ فِيمَا يَفْعَلُ بِخَلْقِهِ مِنْ عَدُوٍّ يُهْلِكُهُ، أَوْ وَلِيٍّ يُبْلِيهِ، فَقَالَ فِي أَعْدَائِهِ: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ [ص: 176] الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ، وَقَالَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] ، وَأَشْبَاهُهُ كَثِيرٌ، وَقَالَ فِي أَوْلِيَائِهِ: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران: 195] ، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] ، وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 166] ، فَهُوَ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَزَّ يُبْدِي هَذِهِ الْأَعْذَارَ فِي فِعْلِهِ، وَقَدْ بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} . وَأَمْثَالُهَا كَثِيرَةٌ، فَأَبْدَى هَذِهِ الْأَعْذَارَ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَحَبَّ إِبْدَاءَ الْعُذْرِ فِي فِعْلِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ تَعَالَى فِي فِعْلِهِ لَوْمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ تَغَيُّرٌ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ نَكِيرٌ، وَلَا حَدَّ لَهُ فَيُجَاوِزَهُ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ، وَهُوَ حَكِيمٌ عَالِمٌ قَادِرٌ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمْ مَا يُرِيدُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُونَ وَهُوَ تَعَالَى يُحِبُّ الْعُذْرَ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، وَإِجْلَالًا لِعُذْرٍ أَوْلِيَائِهِ وَبِرًّا بِهِمْ، وَلُطْفًا بِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ الْأَجِلَّةِ وَالْأَشْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَشْخَاصٌ مَعْلُولُونَ، وَعِبَادٌ مَرْبُوبُونَ، وَهُوَ الْجَلِيلُ الْعَظِيمُ الرَّبُّ الْكَرِيمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْعُذْرَ مِنْ عِبَادِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ خَبَاءَاتِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِمْ، فَيَغْفِرَهَا لَهُمْ، وَبَعَثَ الْمُرْسَلِينَ لِيَحِثُّوا عَلَى ذَلِكَ عِبَادَهُ، وَلِيَبْلُوا أَعْذَارَ عِبَادِهِ، وَيَشْفَعُوا لَهُمْ، كَمَا قَالَ {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ» الْأَشْخَاصُ: وَهُمُ الْمُتَرَفِّعُونَ الْمُتَزَايِدُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يُمْدَحُوا وَيُثْنَى عَلَيْهِمْ فِي أَوْصَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بِمَكَانِ غَيْرِهِمْ وَأَوْصَافِهِمْ، فَهَلْ غَيَّرَهُمْ بِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بِقُوَّةٍ يُحْدِثُهَا فِيهِمْ مِنْ لَهُ الْعُذْرَةُ وَالْقُوَّةُ، وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمُ الثَّوَابَ مِنْهُمْ فِي الْمَدْحِ لَهُمْ، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يُثْنُوا لِرُؤْيَةِ فَضْلٍ بِدُونِهِ فِيهِمْ، وَهُمْ بِحُبِّهِمْ عَنْهُ عَوَارِي، وَاللَّهُ تَعَالَى لِلْمَدْحِ أَحَبُّ، وَلِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَشْكَرُ، إِذْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَدْحِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى رَفِيعُ الْأَوْصَافِ، جَمِيلُ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُّ، ذُو الْجَلَالِ [ص: 177] وَالْجَمَالِ، فَهُوَ يُحِبُّ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادٍ لَهُ، وَالثَّنَاءَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَالْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لَهُ لِيُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الثَّوَابِ، وَيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ النِّعَمِ , وَكَذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ لِيُمْدَحَ بِالْفَضْلِ وَاللُّطْفِ وَالْبِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَهُوَ مُتَفَضِّلٌ فِيمَا وَعَدَ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، فَأَحَبَّ أَنْ يُمْدَحَ بِمَا يُمْدَحُ الْمُتَفَضِّلُ الْحَسَنُ الْفِعَالِ، الْجَمِيلُ الْأَوْصَافِ، وَوَعَدَ أَيْضًا عَلَى الْمَدْحِ لَهُ وَالثَّنَاءِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ الْجَنَّةَ وَثَوَابَهَا وَنَعِيمَهَا، وَمَا أَعَدَّ فِيهَا مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَهُوَ لِلْمَدْحِ أَشَدُّ حُبًّا مِنَ الْأَشْخَاصِ الْمَعْلُومِينَ، وَهُوَ بِالْمَدْحِ أَوْلَى، وَلَهُ أَحَقُّ، تَبَارَكَ اللَّهُ الْمَمْدُوحُ فِي أَوْصَافِهِ، الْمَحْمُودُ عَلَى أَفْعَالِهِ، الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ، الْمُتَفَضِّلُ الْبَرُّ الرَّءُوفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ فَتْحٍ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح قُتَيْبَةَ قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْبَرَكَةِ الزِّيَادَةَ، وَمَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي السَّحُورِ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً فِي الْقُدْرَةِ عَلَى صَوْمِ النَّهَارِ، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قُوَّةٌ عَلَى صَوْمِ النَّهَارِ وَهُوَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُرُوكِيُّ قَالَ: ح يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي حَيْرَانَ قَالَ: ح الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً وَقُوَّةً» [ص: 178] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي إِبَاحَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِمَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ أَنَّ الصَّائِمَ إِذْ نَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] ، فَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ بَعْدَ النَّوْمِ وَهُوَ السَّحُورُ زِيَادَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ، وَهُوَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 187] . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى بِرُخَصِهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى بِعَزَائِمِهِ» فَيَكُونُ مَعْنَى التَّرْغِيبِ فِي السَّحُورِ تَرْغِيبًا فِي قَبُولِ الرُّخْصَةِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ إِتْيَانَهَا. وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ لِأَنَّ الْعُمُرَ الْحَيَاةُ، فِيهَا نَوْمٌ إِلَى الْأَجَلِ الْمُؤَقَّتِ الَّذِي إِذَا جَاءَ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ فِيهَا نَوْمٌ وَيَقَظَةٌ، وَالنَّوْمُ مَوْتٌ وَالْيَقَظَةُ حَيَاةٌ، قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ، وَقَالَ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] ، فَسَمَّى الْوَفَاةَ الَّتِي هِيَ النَّوْمُ مَوْتًا، وَالْيَقَظَةَ حَيَاةً وَنُشُورًا بِقَوْلِهِ {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60] ، وَفِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ مَعْنَيَانِ: اكْتِسَابُ الطَّاعَةِ لِلْمُعَاوِدِ، وَاقْتِنَاءُ الْمَرَافِقِ لِلْمَعَاشِ، وَمِنَ الْمَرَافِقِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] وَفِي السَّحُورِ يَقَظَةٌ، وَهِيَ الْحَيَاةُ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحَيَاةِ وَأَكْلٌ وَشُرْبٌ، وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي مَرَافِقِ الْحَيَاةِ، وَفِيهِ فِي زِيَادَةِ اكْتِسَابِ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرَادَ السَّحُورَ رُبَّمَا تَطَهَّرَ وَصَلَّى، فَإِنْ قَصَّرَ سَمَّى اللَّهَ وَدَعَا، وَإِنْ غَفَلَ عَنِ الذِّكْرِ وَكَسَلَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِنِيَّةِ الصِّيَامِ طَاعَةٌ، فَفِيهِ زِيَادَةُ الْحَيَاةِ، وَزِيَادَةُ الرِّفْقِ، وَزِيَادَةُ الطَّاعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْعُمُرُ، فَفِي السَّحُورِ زِيَادَةُ الرِّفْقُ فِي الْعُمُرِ، وَيَكُونُ فِي السَّحُورِ زِيَادَةُ وَقْتِ السَّحُورِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، وَهِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ [ص: 179] أَوْقَاتِ الزَّمَانِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَيُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَفِي وَقْتِ السَّحُورِ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، وَقَالَ {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ " وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ» ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنَ الْفِطْرَةِ تَأْخِيرُ السَّحُورِ» أَرَادَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ لِيَكُونَ فِيهِ دَعْوَةٌ وَاسْتِغْفَارٌ فَيُجَابَ، وَسُؤَالُ حَاجَةٍ فَتُقْضَى، فَوَقْتُ السَّحُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا الَّتِي هِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، إِذًا فَالسُّحُورُ زِيَادَةٌ فِي الْقُوَّةِ، وَزِيَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ إِتْيَانَهَا، وَزِيَادَةٌ فِي الْحَيَاةِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرِّفْقِ فِيهَا، وَزِيَادَةٌ فِي اكْتِسَابِ الطَّاعَةِ، وَزِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الرُّخْصَةَ بَرَكَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدَتْ قِلَادَةً لَهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِهَا، وَالنَّاسُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا هَذَا بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَرَكَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَرَكَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ فِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعُ نَفَقَاتٍ لَا حِسَابَ لِلْعَبْدِ فِيهِنَّ: نَفَقَةٌ عَلَى عِيَالِهِ، وَعَلَى وَالِدِهِ، وَعَلَى إِفْطَارِهِ، وَعَلَى سَحُورِهِ " [ص: 180] ثُمَّ فِي السَّحُورِ فَوَائِدُ، قِيلَ: فِيهِ حُصُولُ النِّيَّةِ لِلصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَزُولُ الِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِ صَوْمِهِ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحُورِ» وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إِنَّ السَّحُورَ وَقْتُ النَّجَاةِ، قَالَ تَعَالَى {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدَنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 35] ، كَأَنَّهُ جَعَلَ وَقْتَ السَّحَرِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ نِعْمَةً وَنَجَاةً مِنْ نِعْمَةٍ، وَالسَّحُورُ يَكُونُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَتَيَقُّظُ الْمُتَسَحِّرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِهَلَاكِ مَنْ هَلَكَ، وَنَجَاةِ مَنْ نَجَا. وَقِيلَ فِيهِ: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» أَيْ: بَرَكَةُ الْبُكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الْلَّهُ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح وَكِيعٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» [ص: 181] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى لَطَائِفَ يُحْدِثُهَا بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ لِيَصْرِفَ بِهَا وَجْهَهُ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلَ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ إِذَا شُغِلَ عَنْهُ بِاتِّبَاعِ شَهْوَةٍ، وَالِاشْتِغَالِ بِنَهْمَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، وَالْمُحِبُّ يُحِبُّ إِقْبَالَ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، وَمُوَاجَهَتَهُ لَهُ، وَانْصِرَافَهُ إِلَيْهِ، وَيَكْرَهُ شُغْلَهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا شُغِلَ بِنَهْمَتِهِ وَرَجَعَ إِلَى شَهْوَتِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ حَرَمَهُ مَوْلَاهُ رِزْقَهُ الَّذِي إِلَيْهِ ضَرُورَتُهُ، وَبِهِ حَاجَتُهُ مِمَّا بِهِ قَوَامُهُ فِي مَعَايِشِهِ، وَعَوْزٌ عَلَى أَمْرِ مَعَادِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زَجْرًا مِنْهُ لَهُ، وَجَذْبًا إِلَيْهِ مِمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَصَرْفًا لَهُ عَمَّا شُغِلَ بِهِ إِلَى مَنْ شُغِلَ عَنْهُ، وَتَأْدِيبًا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ كَالطِّفْلِ الَّذِي تَدَعُوهُ أُمُّهُ فَيُعْرِضُ عَنْهَا، وَيَعْدُو إِلَى لَهْوٍ، فَيَعْثُرُ، فَيَقَعُ، فَيَقُومُ، فَيَعْدُو إِلَى أُمِّهِ بَاكِيًا، وَيَتَلَحَّى إِلَيْهَا شَاكِيًا وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُ الذَّنْبَ بِشَهْوَةٍ تَغْلِبُهُ، وَنَهْمَةٍ لَا يُقَاوِمُهَا، فَيَحْرِمُهُ رَبُّهُ رِفْقَهُ، وَيَمْنَعُهُ رِزْقَهُ، فَيَنْتَبِهُ فَيُعْرِضُ عَنْ شَهْوَتِهِ، فَيَرْفُضُ نَهْمَتَهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَالَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَأَعْرَضَ بِقَلْبِهِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ مِمَّا يُشْغَلُ بِهِ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ بُغْضًا لَهُ وَمَقْتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] ، لِيَشْغَلَهُمْ بِهَا عَنْهُ، وَيُبَاعِدَهُمْ عَنْهُ، فَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ كَفَاهُ حَوَائِجَهُ، وَسَهَّلَ لَهُ مَرَافِقَهُ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ عَنْهُ يَكْفِهِ مُؤَنَهُ، وَيُخْرِجْهُ مِمَّا يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ عَنْهُ شَاغِلٌ، بَلْ يَكُونُ شُغْلُهُ بِهِ، وَوَجْهُهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ شُغِلَ بشَيْءٍ دُونَهُ أَوْ بِهِ فَحَرَمَهُ رِزْقَهُ، وَمَنْعَهُ رِفْقَهُ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَمَّا شُغِلَ بِهِ إِلَيْهِ , وَالرِّزْقُ الَّذِي يَحْرِمُهُ: الرِّفْقُ مِمَّا يَمْلِكُهُ، أَوْ زَوَالُ مُلْكِهِ عَنْهُ، وَأَنْ يَلْتَوِيَ عَلَيْهِ أَسْبَابُ رِزْقِهِ فَقُدِرَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ عَلَيْهِ مَطْلَبُهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الرِّزْقِ الشُّكْرَ، قَالَ تَعَالَى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ، قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: شُكْرُكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَيَكُونُ حِرْمَانُ الرِّزْقِ حِرْمَانَ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، فَيُحْرَمُ الزِّيَادَةَ بِحِرْمَانِ الشُّكْرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ [ص: 182] وَقَوْلُهُ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَدَرُ سُبِقَ بِالدُّعَاءِ، كَمَا سُبِقَ بِالْقَدَرِ، فَيُصْرَفُ الْمَكْرُوهُ الْمَقْدُورُ بِالدُّعَاءِ الْمَقْدُورِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُئِلَ: أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرِقُّهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى هَلْ يَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: «إِنَّهُ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» هَذَا إِذَا كَانَ الْقَدَرُ سَبَقَ بِأَنْ يُرُدَّ الْمَكْرُوهُ مِنَ الْقَدَرِ بِالدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَكْرُوهُ مَقْدُورًا أَنْ يُصِيبَهُ، وَيَقَعَ بِهِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُزِيلُ تَسَخُّطَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ، وَيَكُونُ الرِّضَا بِهِ مَقْدُورًا كَمَا كَانَ الْمَكْرُوهُ مَقْدُورًا، وَالْمَقْدُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ مَسْخُوطٌ، شَدِيدُ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا زَالَ التَّسَخُّطُ صَارَ الْمَكْرُوهُ مَحْبُوبًا، فَكَانَ الْمَكْرُوهُ الْمَقْدُورُ الْمُؤْلِمُ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ، وَجَرَى عَلَيْهِ مَقْدُورٌ مَحْبُوبٌ مُلِذٌّ، كَالْإِنْسَانِ يُسْقَى دَوَاءً فَيَتَكَرَّهُهُ لِمَرَارَتِهِ وَبَشَاعَتِهِ، فَيَذُوقُهُ لَا يَجِدُ لَهُ مَرَارَةً وَلَا بَشَاعَةً، فَيَتَلَذَّذُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمَكْرُوهُ مَحْبُوبًا بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ قُرْبَةِ اللَّهِ إِلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّعَاءِ لَا يُحْرَمُ الْإِجَابَةَ» فَالدَّاعِي مُقَرَّبٌ، فَالْمُقَرَّبُ مَشَاهِدٌ، أَمَّا إِنْ شَاهَدَ عَاقِبَةَ الْمَكْرُوهِ بِالثَّوَابِ الْمَوْعُودِ فِي الْآَجِلِ، وَالْمَصْرُوفِ عَنْهُ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْعَاجِلِ، أَوْ بِشُهُودِ الْمُقَدَّرِ لَهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَهُ , وَيَكُونَ زِيَادَةُ الْعُمُرِ مَقْدُورًا بِالْبِرِّ الْمَقْدُورِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبِرُّ مَقْدُورًا لَمْ يَكُنْ زِيَادَةُ الْعُمُرِ مَقْدُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ الْعُمُرِ حُسْنَ الْحَالِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ، وَالْأَجَلِ الْمُؤَقَّتِ الَّذِي لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ، وَطِيبُ الْحَيَاةِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97] الْآَيَةَ، وَطِيبُ الْحَيَاةِ بِالْإِرْتِفَاقِ فِي مَعَايِشِهِ، وَاكْتِسَابِ الطَّاعَةِ لِمَعَادِهِ، وَالْبِرُّ هُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا زَجَرَ، وَالرِّضَا بِمَا حَكَمَ وَقَدَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُولُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، فَالتَّقْصِيرُ مِنَ الْعُمُرِ، وَالْيَسِيرُ مِنَ الْمُدَّةِ، وَإِذَا حَصَلَ مَعَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَالرِّفْقِ فِي الْمَعَاشِ مِنَ الْكِفَايَةِ فِي الْمُؤْنَةِ، وَصَوْنِ الْوَجْهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ مَحْمُولًا فِي الْمَكَانِ مُيَسَّرًا لَهُ الْيُسْرَى، مَعْرُوفًا عَنِ الْعُسْرَى، صَارَ التَّقْصِيرُ مِنَ الْعُمُرِ طَوِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ بِرَّ الْوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ، وَبِرَّ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَقَرَابَتَهُ وَجِيرَانَهُ، وَمَنْ يُعَاشِرُهُمْ، فَمَنْ حَسُنَتْ عِشْرَتُهُ خَلْقَ اللَّهِ طَابَتْ حَيَاتُهُ، وَفَائِدَةُ الْعُمُرِ طِيبُ الْحَيَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الْلَّهُ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْحَلِيمِ وَالصَّبُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي لَوْلَا وُرُودُ السَّمْعِ بِهِ لَمَا جَازَ وَصْفُ اللَّهِ بِهَا، وَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ حَلِيمًا، وَيُوصَفُ بِالْحِلْمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَبُورًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدِ السَّمْعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَبُورًا، وَيُوصَفُ بِالصَّبِرِ، وَرُوِيَ الْخَبَرُ فِي الصَّبُورِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ بَعْضُهُمْ قَالُوا: الْحِلْمُ بُنِيَ عَلَى التَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ كَرْمًا وَفَضْلًا، وَالصَّبْرُ يُبْنَى عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكْرُوهِ، وَتَجَرُّعِ الْغَصَصِ ضَرُورَةً تَكَلُّفًا وَتَجَلُّدًا، وَالْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ وَالْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ التَّكَلُّفُ وَالتَّجَرُّعُ وَالضَّرُورَةُ مِنْ أَوْصَافِهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، فَجَوَّزُوا وَصْفَهُ بِالْحِلْمِ، وَمَنَعُوا الصَّبْرَ، وَالصَّبْرُ مِنَ الْخَلْقِ حَبْسُ النُّفُوسِ، وَمَنْعُهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا الْمَحْظُورَةِ فَرْضًا حَتْمًا، وَعَنْ شَهَوَاتِهَا الْمُبَاحَةِ تَطَرُّفًا وَأَدَبًا وَرِيَاضَةً، وَقَدْ قَالَ الْحَكِيمُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْفِلَ قَلِيلَ الشَّهْوَةِ وَلَا كَثِيرَهَا، فَإِنَّ كَثِيرَهَا تَلَفٌ، وَقَلِيلَهَا دَنَاءَةٌ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَتَجَرُّعِ الْغَصَصِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ النَّفْسِ إِلَى الِاسْتِرْوَاحِ بِالِانْتِقَامِ وَالْجَزَعِ إِمَّا خَوْفًا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ مِنْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، أَوْ حَاجَةً إِلَى الثَّوَابِ الْمَوْعُودِ مِنْهُ، وَالْأَذَى كُلُّ مَا يُكْرَهُ وَيُسْخَطُ مِنْ قَوْلٍ، وَيُؤْلِمُ وَيَغُمُّ مِنْ فِعْلٍ. فَمَعْنَى الصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَبْسَ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْمُؤْذِي لَهُ بِمَا يَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيَنْقُصُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَجَعْلِ الْأَوْلَادِ لَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ [ص: 184] ، وَالْأَخْذِ لَهُمْ، وَالتَّدَسُّرِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ يَحْبِسُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَيُؤَخِّرُ عَنْهُمْ عَذَابَهُ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوهَا عَلَى شِرْكِهِمْ بِهِ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، فَهُوَ أَصْبَرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ يُؤْذَوْنَ بِمَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَفِيهِمْ، وَمَا يُؤْذُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا إِضَافَةً، وَهُمْ إِنْ صَبَرُوا صَبَرُوا ضَرُورَةً وَتَكَلُّفًا وَرِقًّا وَعُبُودَةً، ثُمَّ لَا يُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ يُؤْذِيهِمْ. فَفِي الْحَدِيثِ إِبَانَةٌ عَنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ فِي تَرْكِ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ، وَتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، وَإِدْرَارِ الرِّزْقِ عَلَى الْمُؤْذِي لَهُ وَعَاقِبَتِهِ إِيَّاهُ، فَهَذَا كَرَمُهُ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ يُؤْذِيهِ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَغِيضُهُ وَعَدُوُّهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمُعَامَلَتِهِ مَعَ مَنْ يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَهُوَ وَلِيُّهُ وَحَبِيبُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] ، وَقَالَ {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، سُبْحَانَ الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ الرَّءُوفِ الْحَلِيمِ. فَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا حَثٌّ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَحَمُّلِ الْأَذَى فِيمَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَغُمُّهُ وَيُؤْلِمُهُ وَيَشُقُّ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤْذَى بِالْغَايَةِ مِنَ الْأَذَى، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَهُوَ يُؤَخِّرُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَيَحْبِسُ عَنْهُمْ عَذَابَهُ مَعَ تَعَالِيهِ عَنْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ فِيهِ، أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُ، فَالْعَبْدُ الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ إِلَى الثَّوَابِ الْمَوْدُوعُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمُتَوَعِّدُ عَلَى الْجَذَعِ عَلَى أَدْنَى أَذًى يَلْحَقُهُ ثُمَّ يَعْتَاضُ عَلَيْهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَصْبِرَ وَأَحَقُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الْلَّهُ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح هُشَيْمٌ قَالَ: ح عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ، أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ» [ص: 185] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ:: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِبِنَاءِ بَيْتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ عِبَادَهُ فَقَالَ {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ، فَدَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، فَهُمْ يَأْتُونَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَهُ، قَاصِدِينَ إِلَيْهِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِذَا حَلُّوا بِفِنَائِهِ، وَأَنَاخُوا بِبَابِهِ طَوَّفُوا حَوْلَ بَيْتِهِ، فَقَرَّبَهُمْ وَأَدْنَاهُمْ وَصَافَحَهُمْ بِيَدِهِ الَّتِي هِيَ الْحَجَرُ، فَقَبَّلُوهَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ: «هُوَ عَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يُصَافِحُ بِهَا خَلْقَهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّائِغُ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: ح أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْتِي الرُّكْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ، لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ، يَتَكَلَّمُ عَمَّنِ اسْتَلَمَهُ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ عَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يُصَافِحُ بِهَا خَلْقَهُ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ خَرَجُوا إِلَيْهِ يَتَعَرَّضُونَ لِمَا عِنْدَهُ، وَيَطْلُبُونَ مَا وَعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ، فَأَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوهُ، وَبَلَّغَهُمْ مَا أَمَّلُوهُ، وَزَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَكُلٌّ قَدْ أَهْدَى عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، وَمَبْلَغِ طَاقَتِهِ، تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، وَقُرْبَةً مِنْهُ مُرْغِبِينَ، أَشْعَرُوا قُلُوبَهُمُ التَّقْوَى، فَذَبَحُوا مَنَاسِكَهُمْ، وَأَهْدُوا الْهَدَايَا، فَتَقَبَّلَهَا مِنْهُمْ بِتَقْوَى قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، فَكَانَتِ التَّقْوَى هِيَ الرَّافِعَةَ لِتِلْكَ الْهَدَايَا إِلَيْهِ، كَمَا كَانَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ صَاعِدًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَبِلَهَا مِنْهُمْ، وَحَازَهَا لَدَيْهِ، وَصَارَتْ لَهُ، وَحَصَلَتْ عِنْدَهُ، اتَّخَذَ لَهُمْ ضِيَافَةً، وَنَصَبَ لَهُمْ مَاءَهُ، جَمَعَهُمْ عَلَيْهَا، فَأَطْعَمَهُمْ مِمَّا عِنْدَهُ، وَهُوَ مَا تَقَرَّبُوا بِهِ إِلَيْهِ، وَقَبِلَهُ عَنْهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ مَقْبُولَةً مُطَهَّرَةً أَذْهَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 عَنْهَا وَخَامَةَ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا، وَوَبَاءَ مُسَاكَنَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَأَطْعَمَهَا إِيَّاهُمْ، وَجَازَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَهُمْ فِي ضِيَافَةٍ أَيَّامَ مِنًى الَّتِي هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَمَامُ الضِّيَافَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلضَّيْفُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» فَاللَّهُ تَعَالَى يُوسِعُ زُوَّارَهُ وَأَهْلَ ضِيَافَتِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِيَالِهِ يُجْرِي عَلَيْهِمْ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ، وَمِنْ سُنَّةِ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ إِذَا اتَّخَذُوا ضِيَافَةً أَطْعَمُوا مَنْ عَلَى الْبَابِ، كَمَا يُطْعِمُونَ مَنْ فِي الدَّارِ، فَالْكَعْبَةُ الْبَيْتُ، وَالْحَرَمُ الدَّارُ، وَسَائِرُ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بَابُ الدَّارِ، فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْجَمِيعَ بِضِيَافَتِهِ، فَقَالَ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، ثُمَّ النَّاسُ أَبْدَانٌ وَأَرْوَاحٌ، فَأَطْعَمَ اللَّهُ ضَيْفَهُ، وَمَنْ عَلَى بَابِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ، فَهَذَا غِذَاءُ الْأَبْدَانِ، وَأَوْسَعَ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ غِذَائِهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ غِذَاءُ الْأَبْدَانِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، لِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْأَذْكَارِ لِيَكُونَ غِذَاءً لِأَرْوَاحِهِمْ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ لِيَكُونَ غِذَاءً لِأَبْدَانِهِمْ، لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح خَالِدٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ صَفْوَانَ يَعْنِي ابْنَ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْبَعْقَةِ وَإِمْسَاكِهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] ، وَقَالَ فِي الشُّحِّ {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب: 19] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فَالشُّحُّ تُنْبِئُ عَنِ الْكَزَازَةِ وَالِامْتِنَاعِ وَالتَّأَنِّي وَقِلَّةِ الْمُوَانَاةِ، فَهُوَ يَكُونُ فِي الْمَالِ خَاصَةً، وَفِي جَمِيعِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ عَامَّةً، فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَمِنَ التَّصْدِيقِ تَصْدِيقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَفِيمَا وَعَدَ مِنَ الْخَلَفِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَالثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى. وَالْبُخْلُ يَكُونُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْلُفَ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ الثَّوَابُ مِنْ قِبَلِهِ، فَالْبُخْلُ بِالْمَالِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ يُوهِنُ التَّصْدِيقَ وَالِامْتِنَاعَ وَقِلَّةَ الْمُوَانَاةِ، وَالتَّأَنِّي قَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَأَوَامِرِ اللَّهِ وَفُرُوضِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ فِي تَرْكِ الْمُعَاوَنَةِ لَهُمْ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْحِ لَهُمْ، فَالِامْتِنَاعُ وَالتَّأَنِّي عِنْدَ الْأَوَامِرِ يُوهِنُ التَّصْدِيقَ بِقُبُولِهَا وَصُعُوبَةِ الِانْتِقَاءِ، وَقِلَّةُ الْمُوَانَاةِ يُوهِنُ التَّصْدِيقَ بِالْقَدَرِ، فَمَنْ صَدَّقَ بِالْقَدَرِ انْقَادَ لِلْأَحْكَامِ، وَمَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا قَلِيلَ الْمُعَاوَنَةِ تَارِكًا لِلنُّصْحِ لِلْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ مُشْفِقٍ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» [ص: 188] . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَحَابُّوا» ، فَالشُّحُّ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ يُخَالِفُ الْإِيمَانَ وَحَقِيقَتَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» ، وَالْمَعْنَى فِي الْإِيمَانِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ وَمُوجِبُهُ كَمَا أَخْبَرَ حَارِثَةُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَتَمَكُّنِ التَّصْدِيقِ مِنْ قَلْبِهِ بِمَا أَخْبَرَ الْلَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ شُهَودَ عَيَانٍ، فَمَنْ تَحَقَّقَ فِي إِيمَانِهِ، وَصَدَّقَ بِإِيقَانِهِ سَهُلَ عَلَيْهِ تَرْكُ الدُّنْيَا وَالْعُزُوفُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْشَرَحَ وَانْفَتَحَ» قِيلَ: فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ» ، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَوَّرَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، وَشَرَحَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ صَدْرَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، فَمَنْ عَكَفَ عَلَيْهَا، وَبَخِلَ بِهَا، وَسَكَنَ إِلَيْهَا، وَشَحَّ عَلَيْهَا لَمْ يَخَامِرْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ قَلْبُهُ شُهُودًا، وَإِنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَتَطَوَّعْ عَلَى تَكْذِيبِهِ عَقْدًا، فَهُوَ مُؤْمِنٌ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» ، فَوَصَفَ الْإِيمَانَ بِالضَّعْفِ، وَلَمْ يَنْفِهِ كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ» أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَرَجَعَ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، وَأَمَرَ بِقَرْيَتِهَا فَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ» وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " أَنَّهُ مَرَّ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِقَرْيَةٍ أَوْ بِمَدِينَةٍ أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلَهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، قَدْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَدَوَابُّ، وَمَنْ لَمْ يَقْتَرِفِ الذَّنْبَ، فَهُوَ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ ". قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ كَانَ هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي أَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ هُوَ هَذَا الْقَائِلَ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَاقِ قَرْيَةِ النَّمْلِ تَشْبِيهًا لَهُ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مِنْ رَحْمَةٍ وَعَذَابٍ، لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَلَيْسَ آمِرٌ وَلَا لَهُ زَاجِرٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَيُحْدِثَ فِي مُلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ شَاءَ لِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَحِمَهُمْ وَنَعَّمَهُمْ، فَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ هُوَ عَذَّبَهُمْ وَأَلَّمَهُمْ فَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَّبَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَعَذَّبَهُمْ، وَهُوَ لَهُمْ غَيْرُ ظَالِمٍ» ، فَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إِنَّمَا يَسْأَلُهُ مَنْ هُوَ تَحْتَ قَدْرِهِ لِغَيْرِهِ، وَفَوْقَهُ أَمْرٌ وَلَهُ سَانٌّ سَنَّ لَهُ سُنَّةً، وَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَحَّدَ لَهُ حُدُودًا، فَإِنْ جَاوَزَهَا أَوْ عَدَلَ عَمَّا سُنَّ لَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَخَالَفَ الْأَمْرَ، وَارْتَكَبَ النَّهْيَ، وَقَعَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ جَائِرًا ظَالِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] [ص: 190] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ لَمَّا قَالَ مَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ شِبْهَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَسَأَلَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَالُ عَنْهُ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّمْلَةِ الَّتِي عَضَّتْهُ، فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إِنَّكَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ جَنَتْ عَلَيْكَ نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْهَا، فَكَيْفَ تَعْتَرِضُ عَلَى مَلِكٍ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا شَاءَ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ عَنْ مِثْلِ مَا أَتَى مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَتَأْدِيبًا فِيمَا تَعَدَّى عَنْ طُورِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْقَادِرِ الْجَبَّارِ الْقَهَّارِ، وَيَكُونُ إِحْرَاقُهُ إِيَّاهَا نَوْعًا مِنَ الْإِفْنَاءِ وَالْقَتْلِ مَعَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ ارْتِكَابَ ذَنْبٍ وَجِنَايَةٍ عَلَى أُمَّةٍ لَا ذَنْبَ لَهَا، كَمَا كَانَ نَتْفُ الرِّيشِ وَالتَّعْذِيبُ بِالشَّمْسِ لِلطَّيْرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ جَائِزًا لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، حِينَ تَوَعَّدَ الْهُدْهُدَ، فَقَالَ {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] ، وَكَمَا جَازَ فِي شَرِيعَتِهِ إِتْلَافُ الْخَيْلِ الْجِيَادِ الَّتِي ضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا، لَا لِلْقُرْبَانِ وَلَا ذَبْحًا، كَمَا يَذْبَحُ الْبَهَائِمَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسٍ فِي الْحَرَمِ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ، وَهِيَ: «الْفَأْرَةُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «وَالْحِدَأَةُ» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَلَهُ كَذَا» ، وَنَهَى عَنِ اسْتِحْبَابِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَقَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَ: ح زَافِرُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَبْدِيِّ قَاضِي خُرَاسَانَ، عَنْ أَبِي الْأَعْيَنِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ص: 191] قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ كَافِرًا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَرْزَكِيَانِيُّ، قَالَ: ح أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيَّاتِ: «مَا سَلَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ، فَمَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ خِيفَةً فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ النَّمْلِ كَانَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، أَوْ مَأْمُورٍ بِهِ فِي شَرِيعَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَاقُ إِذْ لَيْسَ هُوَ إِلَّا الْإِهَلَاكُ وَالْإِفْنَاءُ بِالْأَلَمِ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْرَاقِ بَعْضِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَ قَوْمٍ، فَكَانَ أَمْرُهُ بِهِ سَابِقًا جَائِزًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَ قَوْمٍ، وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الشَّمْسِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا، ثُمَّ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمُثْلَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مُبَاحًا إِهْلَاكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ النَّمْلُ، كَمَا أَنَّهُ مُبَاحٌ قَتْلُ أُمَمٍ خَمْسٍ وَإِهْلَاكُهُمْ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مُبَاحًا إِحْرَاقُ مَا جَازَ إِهْلَاكُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ النَّبِيُّ أَهَلَكَ وَأَفْنَى مَا يَجُوزُ لَهُ إِهْلَاكُهُ، وَإِفْنَاؤُهُ بِأَلَمِ النَّارِ، كَمَا جَازَ إِهْلَاكُ هَذِهِ الْأُمَمِ بِأَلَمِ الْقَتْلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، إِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِأُمَّةٍ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، فَقَوْلُهُ: «أَلَا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَقَ وَاحِدَةً مِنْهَا لَمْ يُعَاتَبْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عُوتِبَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلِانْتِقَامِ لِنَفْسِهِ، وَالتَّشَفِّي مِنْهَا، لَا لِأَمْرٍ سَبَقَ، وَكَانَ الْفِعْلُ مُبَاحًا غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: إِنَّ الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ أَعْطَى بِالسِّلْعَةِ كَذَا وَكَذَا، تُنْفَقُ السِّلْعَةُ حُسْبَانَ الْحَالِفِ وَظَنِّهِ، كَأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ، فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ قُدِّرَ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ ذَلِكَ رِزْقًا لَهُ نَفَقَتْ سِلْعَتُهُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ بِهِ، لَمْ يَكُنِ الْيَمِينُ مَنْفَقَةً لِلسِّلْعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِكَذَا، وَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنْ يَقْدِرْ أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهَا وَيَحْسَبَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَيَظُنَّ أَنَّ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا تَطِيبُ نَفْسُ الْمُشْتَرِي، فَرُبَّمَا كَانَ كَمَا قُدِّرَ، وَرُبَّمَا خَالَفَ تَقْدِيرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَقْدِيرَ الْحَالِفِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ وَافَقَ تَقْدِيرُ اللَّهِ ظَنَّهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي نَفْسِهِ فَبَاعَ السِّلْعَةَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مَحَقَ ذَلِكَ كَسْبَهُ، وَأَذْهَبَ بَرَكَةَ تِجَارَتِهِ وَكَسَبِهِ، إِمَّا بِتَلَفٍ يَلْحَقُهُ فِي مَالِهِ أَوْ نَفَقَتِهِ فِي غَيْرِ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ فِي الْعَاجِلِ، وَيُرْجَى ثَوَابُهُ فِي الْآَجَلِ، وَإِنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُ حُرِمَ نَفْعُهُ، وَوَرِثَهُ مَنْ لَا يَحْمَدُ، وَيَقْدَمُ عَلَى مَنْ يُقَدِّرُهُ، فَأَيُّ مَحْقٍ لِلْكَسْبِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَدُّ؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُذْلَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَصَتْ أَحَدًا صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ رَجُلًا يَعْفُو إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا» [ص: 193] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا تَشْجِيعٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبْدٍ فِيمَا يَهُولُهُ، وَتَسْهِيلٌ عَنْهُ فِيمَا يَعْبُرُ عَلَيْهِ، وَإِزَالَةُ خُلُقِ السُّوءِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْعَبْدِ، وَتَكْذِيبٌ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا يَعِدُ الْعَبْدَ مِنَ الْفَقْرِ فِي الْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، فَقَوْلُهُ: «مَا نَقَصَتْ أَحَدًا صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَا يُنْقِصُ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي يَدِهِ وَجَبَ حَقُّ الْمَسَاكِينِ فِي خَمْسَةٍ مِنْهُ، فَكَانَ مَالُهُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَيَطِيبُ لَهُ إِمْسَاكُهُ عِنْدَهُ مِائَةً وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْخَمْسةَ مِنْهَا حَقُّ الْمَسَاكِينِ، فَإِخْرَاجُ الْخَمْسَةِ لَا يُنْقِصُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُهُ مِنَ الْمِائَتَيْنِ، وَهُوَ الْمِائَةُ وَالْخَمْسَةُ وَالتِّسْعُونَ، وَالَّذِي أَخْرَجَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَالُ الْمَسَاكِينِ فِي يَدِهِ، فَإِخْرَاجُهُ إِلَيْهِمْ وَرَدُّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ نَاقِصًا لَهُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْلِفُ عَلَيْهِ مِمَّا أَنْفَقَ وَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي الْبَاقِي، فَيَنُوبَ الْبَاقِي عِنْدَهُ مَنَابَهُ، وَمَنَابَ مَا أَنْفَقَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَأَضْعَافَهُ، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَا أَنْفَقَهُ، فَهُوَ لَهُ عِنْدَهُ مُدَّخَرٌ، فَكَأَنَّهُ أَحْرَزَهُ وَاسْتَوْثَقَ فِي الْحِفْظِ لَهُ، وَالصَّوْنِ مِمَّا يُفْنِيهِ وَيُذْهِبُهُ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] ، إِذًا فَالنَّاقِصُ مَا يَنْفُدُ وَيَفْنَى، لَا مَا يُصَانُ فَيَبْقَى، وَالْعَفْوُ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمُسِيءِ إِلَيْكَ، وَالْجَانِي عَلَيْكَ، فَسَبَقَ إِلَى وَهْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّ تَرْكَ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ وَعُقُوبَةَ مَنْ جَنَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ذُلٌّ وَعَجْزٌ وَهَوَانٌ يَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَزِيدُهُ بِذَلِكَ عِزًّا بِأَنْ يَنْتَقِمَ لَهُ مِنَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ، فَيَنْتَصِرُ لَهُ مِنَ الْجَانِي عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُنْتَقِمًا لَهُ وَمُنْتَصِرًا مِمَّا جَنَى عَلَيْهِ، فَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا أَعَزَّ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ زَادَهُ عِزًّا، وَهُوَ أَعَزُّ مِنِ اعْتِزَازِهِ فِي نَفْسِهِ بِالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى الْآَخِرَةِ، فَاقْتَصَّ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ لَهُ، وَطَرَحَ سَيِّئَاتِهِ عَلَى الْجَانِي عَلَيْهِ ذَلَّ الظَّالِمَ ذُلًّا لَا ذَلَّ مِثْلَهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ الذَّرِّ يَطَؤُهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَيَطْرَحُ الظَّالِمَ بَدَلَهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ يَسْتَوْهِبُ اللَّهُ مِنْهُ جِنَايَةَ الْجَانِي عَلَيْهِ، وَظُلْمَ الظَّالِمِ لَهُ، فَأَيُّ عِزٍّ يَبْلُغُ عِزَّ مَنْ يَسْتَوْهِبُ مِنْهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ وَسَيِّدُ السَّادَاتِ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ، ثُمَّ يُعَوِّضُهُ عَلَى مَا جَنَى عَلَيْهِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا رِقًّا وَعُبُودَةً فِي ائْتِمَارِ أَمْرِهِ [ص: 194] ، وَانْتِهَاءِ مَنَاهِيهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِحُكْمِهِ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآَخِرَةِ عَلَى سَرِيرِ خُلْدٍ لَا يَفْنَى، وَمِنْبَرِ مُلْكٍ لَا يَبْلَى، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي احْتِمَالِ مُؤَنِ خَلْقِهِ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مُؤْنَةٍ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُ، وَتَوَكَّلَ لَهُ، فَأَيَّةُ رِفْعَةٍ تَبْلُغُ وَأَيَّةُ مَرْتَبَةٍ تَكُونُ فَوْقَ مَرْتَبَةِ مَنْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى وَكِيلَهُ، وَتَوَلَّى أُمُورَهُ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي قَبُولِ الْحَقِّ بِمَنْ دُونَهُ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ دُخُولَ طَاعَتِهِ، وَجَازَاهُ بِقَلِيلِ حَسَنَاتِهِ رَفِيعَ دَرَجَاتِهِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي حِفْظِ عِبَادِهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ رَفَعَهُ اللَّهُ بِمُعَقِّبَاتٍ يَجْعَلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَحْرُسُونَهُ عَنْ أَعْدَائِهِ، وَيَتَوَلَّى إِذْلَالَ عَدُوِّهِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . وَمَنْ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِمَّنْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَلِّيَ الذَّبِّ عَنْهُ، وَالنَّاصِرَ لَهُ سُبْحَانَهُ، مَا أَلْطَفَهُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُ لِلْمُحْسِنِينَ، وَأَحْسَنَ تُجَاوُزَهُ عَنِ الْمُسِيئِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، قَالَ: ح عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْبَلَوِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ، أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرِضَ، قَالَ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَهْلِهِ: «إِنِّي لَأَرَى طَلْحَةَ قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَإِنْ تُوُفِّيَ، فَآذِنُونِي بِهِ، حَتَّى أَشْهَدَهُ وَأُصَلِّيَ عَلَيْهِ» ، فَلَمْ يُبَلِّغِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُو سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ طَلْحَةُ: ادْفِنُونِي، وَأَلْحِقُونِي بِرَبِّي، وَلَا تَدْعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، فَصَفَّ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ، وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الضَّحِكُ شَيْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَمَعْنَاهُ اسْتِفَادَةُ سُرُورٍ يَلْحَقُهُ، فَيَبْسُطُ لَهُ عُرُوقَ قَلْبِهِ، فَيَجْرِي الدَّمُ فِيهَا، فَيُقْبَضُ إِلَى سَائِرِ عُرُوقِ بَدَنِهِ، فَتَثُورُ فِيهِ حَرَارَةٌ، فَيَنْبَسِطُ لَهَا وَجْهُهُ، وَتَمْلَأُ الْحَرَارَةُ فَاهُ، فَيَضِيقُ عَنْهَا، فَيَنْفَتِحُ شَفَتَاهُ، وَيَبْدُو لَهُ أَسْنَانُهُ، فَإِنْ تَزَايَدَ ذَلِكَ السُّرُورُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِنْسَانِ مَا يَضْبِطُ نَفْسَهُ اسْتَحفَّهَا الْفَرَحُ، فَضَحِكَ، حَتَّى قَهْقَهَ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَحِكِهُ تَبَسُّمٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَسْتَحِفُّهُ السُّرُورُ، فَيَغْلِبَهُ [ص: 195] فَيُقَهْقِهَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْفِيَّةٌ، وَجَمِيعُ أَوْصَافِ الْحَدَثِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالضَّحِكِ، مِنْ ذَلِكَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي الزَّيَّادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، كِلَاهُمَا دَاخِلٌ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلُ، فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى هَذَا، فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُسْتَشْهَدُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: ح يُوسُفُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح أَبُو هَارُونَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح حَبِيبٌ كَاتِبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: ح مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي عَفْرَاءَ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ عَنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: «غَمْسَةُ يَدِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَاسِرًا» قَالَ: فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَتَلَ بَشَرًا كَثِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ" فَإِذَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَجَبَ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، وَنَفْيُ أَوْصَافِ الْحَدَثِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّشْبِيهِ لَهُ بِخَلْقِهِ، وَوَجَبَ حَمْلُ مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى الرِّضَا عَنْ عَبْدِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الضَّحِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ السُّرُورِ، وَمَنْ سَرَّهُ شَيْءٌ رَضِيَ بِهِ، وَاخْتَصَّهُ لِنَفْسِهِ، وَأَثَرُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ عَنْ عَبْدِهِ؟ أَيْ: مَا يُرْضِيهِ مِنْهُ، فَيَجْعَلُهُ أَثَرًا عِنْدَهُ، فَدَلَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَيَجْعَلُهُمْ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَالْمُؤْثِرِينَ لَهُ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِتَالٌ فِي أَعْدَائِهِ مُعْرِضًا عَنْ نَفْسِهِ مُسْتَحْفِيًا بِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «حَاسِرًا» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ اخْتَصَّهُمْ بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] ، كُلُّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالْإِيثَارِ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «يَضْحَكُ إِلَيْكَ» ، أَيْ: يُسَرُّ بِقُدُومِهِ عَلَيْكَ، وَيُحِبُّ لِقَاءَكَ، وَيَرْضَى ثَوَابَكَ «وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ» ، تَرْضَى عَنْهُ، وَتَلْقَاهُ بِالْقَبُولِ، وَتُحِبُّ لِقَاءَهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّحِكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّجَلِّي لِعَبْدِهِ، وَكَشْفُ الْحُجُبِ عَنْهُ، فَيَرَاهُ رُؤْيَةَ عَيَانٍ، كَمَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ، فَيَكُونُ مَعْنَى الضَّحِكِ إِلَيْهِ التَّجَلِّي لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّحِكَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الظُّهُورِ، فَيُقَالُ: ضَحِكَ الْفَجْرُ إِذَا ظَهَرَ، وَضَحِكَ السَّحَابُ إِذَا انْكَشَفَ، فَأَبْدَى عَنِ السَّمَاءِ، وَضَحِكَ الشَّيْبُ بِرَأْسِهِ، أَيْ: ظَهَرَ وَبَدَا، قَالَ دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ، فَبَكَى فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «يَضْحَكُ» ، أَيْ: يَقْدَمُ عَلَيْكَ فَرَحًا بِلِقَائِكَ مَسْرُورًا بِقُدُومِهِ عَلَيْكَ، وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ، أَيْ: تَتَجَلَّى لَهُ، وَتَكْشِفُ الْحُجُبَ عَنْهُ، فَيَرَاكَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْكَ، كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ، حَيْثُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَنَّهُ أَحْيَا أَبَاكَ، فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّحِكِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِدْرَارَ الرَّحْمَةِ عَلَى عَبْدِهِ، كَمَا تَدُرُّ السَّمَاءُ الْمَطَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَقَدْ يُقَالُ: ضَحِكَ السَّحَابُ إِذَا صَبَّ مَاءَهُ، وَأَمْطَرَ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ كَامِنٌ فَإِذَا صَبَّهُ ظَهَرَ وَبَدَا، وَقَدْ يُقَالُ: السَّحَابُ إِذَا مَطَرَ بَكَتِ السَّمَاءُ، وَقَدْ يُقَالُ: ضَحِكَ وَبَكَى إِذَا أُمْطِرَ، قَالَ الشَّاعِرُ: [البحر الرجز] سَحَابََةُ صَادِقَةُ الْأَنْوَاءِ ... تُعَقِّبُ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْفَضْلِ قَالَ: ح أَبُو ثَابِتٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذْ عَرَضَ شَيْخٌ جَلِيلٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ، فِي بَصَرِهِ بَعْضُ الضَّعْفِ، مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ حُمَيْدٌ، فَلَمَّا قَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي، أَوْسَعَ لَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ قَالَ الْحَدِيثَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّحَابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْشِئُ السَّحَابَ، فَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ، وَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَضَحِكُ السَّمَاءِ صَبَّةُ الْمَاءِ، فَقَدْ عَبَّرَ عَنْ صَبِّ الْمَاءِ بِالضَّحِكِ، وَعَنِ اسْتِبْشَارِ الْعَبْدِ وَسُرُورِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَإِدْرَارِهَا عَلَيْهِ، وَفَرَحِهِ بِهَا بِالضَّحِكِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الضَّحِكُ الْمَفْهُومُ فِيمَا بَيَّنَّا صِفَةً لِلْعَبْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدَثِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّحِكِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبُولَ عَمَلِ عَبْدِهِ، وَرِضَاهُ بِهِ، وَضَحِكُ الْعَبْدِ إِلَيْهِ فَرْحَهُ بِثَوَابِ رَبِّهِ، وَسُرُورَهُ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] ، أَيْ: رَاضِيَةً بِثَوَابِ اللَّهِ، مَرْضِيَّةً أَفْعَالُكِ عِنْدَ اللَّهِ [ص: 198] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّحِكِ الْحُسْنَ، وَالْبَهَاءَ، وَالنَّضْرَةَ، كَمَا يُقَالُ: ضَحِكَتِ الشَّمْسُ إِذَا شَرُقَ ضَوْءُهَا، وَضَحِكَ النَّهَارُ إِذَا أَضَاءَ، وَضَحِكَتِ الْأَرْضُ إِذَا اهْتَزَّتْ بِالنَّوْرِ وَالنَّبَاتِ. قَالَ الْأَعْشَى: [البحر البسيط] يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ حُسْنَ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُصْرَتَهُ كَأَنَّهُ يَضْحَكُ إِلَى الْعَبْدِ، وَحُسْنَ عَمَلِ الْعَبْدِ، وَإِخْلَاصَهُ، وَطَهَارَتَهُ عَمَّا يُدَنِّسُهُ، كَأَنَّهُ يَضْحَكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْنًا بمَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَرَادَهُ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَوْصَافِ الْمُحْدَثِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَدْ يَكُونُ الضَّحِكُ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ بَيْنَهُمَا، وَتَقَادَمَ، وَأَضْمَرَ الْمُحِبُّ مَحْبُوبَهُ، وَكَتَمَ مَحَبَّتَهُ لَهُ، وَشَوْقَهُ إِلَيْهِ، وَصَبَابَتَهُ لَهُ، وَلَمْ يَبُثَّ حُزْنَهُ، وَلَا أَفْشَى سِرَّهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَحْبُوبُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَجِلُّ لِذَلِكَ قَدْرُهُ عِنْدَهُ، وَيَعْظُمُ مَوْقِعُهُ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ يُحَدِّثُ إِلَى حَبِيبِهِ مَا يَزِيدُهُ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَصَبَابَةً بِهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ، فَإِذَا الْتَقَيَا نَظَرَ الْمَحْبُوبُ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفَ لَهُ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ لَهُ، وَيُجِنُّ ضُلُوعَهُ عَلَيْهِ، فَيَضْحَكُ إِلَيْهِ قَبُولًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَضْحَكُ الْمُحِبُّ سُرُورًا بِرُؤْيَةِ مَحْبُوبِهِ، فَيُفشِي بِذَلِكَ سِرَّهُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، وَيُظْهِرُ الشَّوْقَ الَّذِي كَانَ مُجِنًّا عَلَيْهِ ضُلُوعَهُ، وَقَدْ بَدَا لَهُ سُرُورُ مَحْبُوبِهِ بِهِ كَسُرُورِهِ بِهِ، وَقَبُولِهِ لَهُ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى الضَّحِكِ إِلَى مَحْبُوبِهِ إِجْلَالًا لَهُ، وَهَيْبَةً مِنْهُ، وَتَعْظِيمًا لَهُ. فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ» ، أَيْ: يُظْهِرُ لَكَ مَا كَانَ يُجِنُّهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ لَكَ، وَالشَّوْقِ إِلَيْكَ، وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ تُعْلِمُهُ قَبُولَكَ لَهُ، وَرِضَاكَ بِهِ، وَعِظَمَ مَوْقِعِ مَا قَاسَى فِيكَ، وَكَتَمَهُ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْكَ، وَالْمَحَبَّةِ لَكَ فِي خَفَاءٍ، وَسِتْرٍ عَنِ الْأَغْيَارِ غَيْرَةً عَلَى الْحَالِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيَنٍ} [السجدة: 17] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا أُخْفِيَ لَهُمْ عَنِ الْأَغْيَارِ النَّاظِرَةِ وَالْأَشْخَاصِ الشَّاهِدَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي، قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ح يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ عِيسَى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " قَالَ: وَحَدَّثَنَا حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَعْقُوبُ، عَنْ عِيسَى بْنِ حَارِثَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَلَالُ تَكَرُّرُهُ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، وَأَذًى يَلْحَقُهُ مِنْهُ، وَتَعَبٍ يُصِيبُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَيَتَحَمَّلُ التَّعَبَ فِيهِ، حَتَّى يَضْجَرَ وَيَسْأَمَ، فَيَتْرُكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ اسْتِثْقَالًا لَهُ، وَيَرْفُضَهُ تَضَجُّرًا مِنْهُ وَسَأَمَةً، وَهُوَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لِلطَّبْعِ بَعْدَ إِيثَارِهِ لِلشَّيْءِ وَرَغْبَتِهِ فِيهِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْإِنْسَانِ الْمَطْبُوعِ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةَ وَأَوْصَافٍ، وَيَتَعَالَى عَنْهَا عُلُوًّا كَبِيرًا، فَالْمَلَالُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَنَا مِنْ أَوْصَافٍ يَلْحَقُهُ الْمَلَالُ مِنَ الْمُحَدَثِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صِفَةُ الْإِنْسَانِ الْمَطْبُوعِ الَّذِي يَضْعُفُ مِنْ تَحَمُّلِ مَا يَعْرِضُ لَهُ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَيَؤُودُهُ شَيْءٌ، وَيُؤْذِيهِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» ، لَيْسَ عَلَى الْغَايَةِ، وَالتَّوْقِيتِ، وَيُوصَفُ هُوَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي وَقْتٍ، أَوْ عِنْدَ تَغَيُّرٍ، بَلْ هُوَ عَلَى النَّفْيِ عَنْهُ، وَالتَّبْرِئَةِ لَهُ مِنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «حَتَّى تَمَلُّوا» ، وَتَمَلُّوا بَلْ تَمَلُّوا، أَيْ: لَا يَمَلُّونُ، وَلَا يَمَلُّ، بَلَّ تَمَلُّونَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْمَلَالُ لَكُمْ صِفَةٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَاحِقَةٌ بِكُمْ إِذَا تَكَلَّفْتُمُ الْأَعْمَالَ، وَأَكْرَهْتُمْ عَلَيْهَا نُفُوسَكُمْ، وَتَحَمَّلْتُمْ مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ التَّعَبِ فِيهِ، وَصَبَرْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُوشِكُ إِنْ يَضْعُفْ عَنْهَا قُوَاكُمْ تَسْتَثْقِلُوهَا، وَتَضْجَرُوا مِنْهَا، فَتَرْفُضُوا اسْتِثْقَالًا لَهَا، وَاسْتِعْرَاضًا مِنْهَا، وَزُهْدًا فِيهَا، وَرَغْبَةً عَنْهَا، وَبُغْضًا لَهَا [ص: 200] ، فَلَا تَعُودُوا إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ لَا يُصِيبُهُ هَذِهِ الْآفَاتُ، وَلَا يَعْتَرِضُ لَهُ هَذِهِ الْعَوَارِضُ، فَلَا يَصْرِفُكُمْ عَمَّا تُكَلَّفُونَ، وَلَا يَنْهَاكُمْ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَهَا كَرَاهَةً لَهَا، وَاسْتِثْقَالًا مِنْهُ إِيَّاهَا، وَبُغْضًا لَهَا، بَلْ يُصِيبُكُمْ ذَلِكَ، فَتُتْرَكُونَ، فَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ رَبِّكُمْ، وَتَسْتَثْقِلُونَ خِدْمَةَ مَوْلَاكُمْ، وَتُبْغِضُونَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَادْخُلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْعَطَّارِ قَالَ: ح أَبُو مَيْسَرَةَ قَالَ: ح خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى الْمُتَوَكِّلُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ: «عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ» ، كَرِهَ التَّعَمُّقَ، وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ لَمَّا عَلِمَ مِنْ جِبِلَّةِ الْخَلْقِ عَلَى الضَّعْفِ، وَمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ الْمَلَلِ، وَالسَّأَمَةِ، خَوْفًا عَلَيْهِمْ أَنْ يُبْغِضُوا عِبَادَةَ اللَّهِ، وَيَسَتَثْقِلُوا طَاعَتَهُ، وَتَمَلُّوا خِدْمَتَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِجْمَامِ وَالِاسْتِرَاحَةِ؛ لِاسْتِرْجَاعِ الْقُوَى، وَزَوَالِ الضَّجَرِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى حُسْنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّةٍ لِلْخِدْمَةِ لَهُ، وَأُلْفَةِ عِبَادَتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي، وَأَرْقُدُ، وَآتِي النِّسَاءَ، أَلَا فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» أَلَا وَكُلُّ قَلِيلٍ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «إِنَّ لِلَّهِ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» [ص: 201] وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي أَنَامُ، وَأَقُومُ، وَأَحْسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْسِبُ قَوْمَتِي، وَأَحْسِبُ نَوْمَتِي طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، هَذَا الْحَقُّ، فَإِيفَاؤُهُ إِيَّاهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ فِي نَوْمَتِهِ اسْتِجْلَابَ الْقُوَّةِ لِقَوْمَتِهِ، وَتَشْحِيذَ الطَّبْعِ، وَحَثًّا مِنْهُ لِنَفْسِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَبَّبَ عِبَادَةَ اللَّهِ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُحِبُّوهُ، وَيُؤْثِرُوهُ، وَيُقْبِلُوا بِهَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَلَّفَهُمُ الْأَعْمَالَ لِتَشْتَغِلُوا بِهَا عَمَّا دُونَهُ، وَتُقْبِلُوا بِهَا عَلَيْهِ، وَتَتَوَجَّهُوا بِأَدَائِهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا مِنْهَا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ مَلُّوا، فَتَرَكُوهَا، وَفِي تَرْكِهَا تَرْكُ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ طَاعَتُهُمْ، وَلَا يُنْقِصُهُ مَعْصِيَتُهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُمْ إِظْهَارَ فَقْرِهِمْ إِلَيْهِ، وَرُؤْيَةَ اضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَجْزَهُمْ لِيُغْنِيَهُمْ، وَيُقَوِّيَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ مُلُوكًا خَالِدِينَ، وَأَغْنِيَاءَ لَا يَفْتَقِرُونَ، وَأَقْوِيَاءَ لَا يَضْعُفُونَ، سُبْحَانَ اللَّطِيفِ بِعِبَادِهِ، وَالرَّءُوفِ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ، حَتَّى تَمَلُّوا» ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ ثَوَابَكُمْ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْكُمْ قَبُولًا لِأَعْمَالِكُمُ الْمَدْخُولِ فِيهَا مَا لَمْ تَمَلُّوا طَاعَتَهُ، وَتَسْتَثْقِلُوا خِدْمَتَهُ، وَتُبْغِضُوا عِبَادَتَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُقْبِلُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَصَّرْتُمْ فِي عِبَادَتِهِ، وَيَقْبَلُ يَسِيرَ أَعْمَالِكُمْ، وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهَا الْجَزِيلَ مَا دُمْتُمْ فِيهَا رَاغِبِينَ، وَلَهَا مُرِيدِينَ، وَبِنَيَّاتِكُمْ إِلَيْهَا قَاصِدِينَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغُوا إِرَادَتَكُمْ فِيهَا، وَمَقَاصِدَكُمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ ثَوَابَكُمْ، وَالْإِقْبَالَ لَكُمْ، إِذَا أَعْرَضْتُمْ عَنْهَا، وَمَلَلْتُمُوهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قَالَ: ح الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ح خَلَفُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَمُبَارَكُ بْنُ زَيْدٍ الْمُؤَدِّبُ، وَاللَّيْثُ بْنُ خَيْرُونَ النَّجَّارِيُّونَ، قَالُوا: ح يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ح الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: ح الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلَّا الْمَاءُ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَدَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ: فَإِذَا أَرَدُوا الْعَشَاءَ، فَنَوِّمِيهِمْ، وَلَا تَذْكُرِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مُرِّي عَلَى السِّرَاجِ [ص: 202] ، فَأَطْفِئِيهِ وَتَعَالَيْ، فَلْنَطْوِ بُطُونَنَا بِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَعَلَتْ , قَالَ: فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ» ، فَأَنْزَلَ الْلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَجَبُ اسْتِعْظَامُ الشَيْءِ، وَاسْتِكْبَارُهُ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَبُعْدِهِ مِنَ الْعُرْفِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنِ الْجِنَّةِ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، قِيلَ: بَدِيعًا، لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ أَوْصَافِ كَلَامِ النَّاسِ، وَالْعَمُودِ الْمُعْتَادِ مِنْهُ وَصَفُوهُ بِالْعَجَبِ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَبَعُدَ عَنْ عُرْفِ النَّاسِ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْظَمَ أَشْيَاءَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ فِي ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، وَالِاسْتِعْظَامُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُسَمِّيَ الشَيْءَ عَظِيمًا، وَلَمَّا كَانَ الْعَجَبُ اسْتِعْظَامَ الشَيْءِ وَاسْتِكْبَارَهُ، وَكَانَ التَّعْظِيمُ لِلشَّيْءِ، جَائِزًا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوصَفِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَجَبِ كَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْعَجَبِ بِقَوْلِهِ: (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) ، قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ بِرَفْعِ التَّاءِ، وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ، وَكُلُّ مَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ، فَهِيَ مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذًا فَقِرَاءَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ بِرَفْعِ التَّاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِرَاءَتُهُ تَرَتُّلٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» [ص: 203] فَالْعَجَبُ إِذًا مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ» فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ، وَفُلَانَةٍ» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَعَظَّمَهُمَا بِهَذَا الْفِعْلِ، وَعَظَّمَ مِقْدَارَهُمَا، وَأَجَلَّ قَدْرَهُمَا بِمَا فَعَلَاهُ مِنْ بَدِيعِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إِيثَارُهُمَا ضَيْفَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ الْفِعْلُ الْخَارِجُ عَنْ عَادَاتِ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبَ اللَّهُ» ، أَيْ: قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُمَا مَا أَتَيَاهُ، وَرَضِيَ مَا عَمِلَاهُ، وَعَظَّمَ ثَوَابَهُمَا عَلَى مَا فَعَلَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْهُمَا لِلْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: " أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا أَتَيَا مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُجَارِ الْعَادَةُ، فَيَسْتَعْظِمُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ، لِمَنْ جَاءَ بِهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَالِاسْتِحْسَانِ لَهُ، وَقَدْ يَسْتَعْظِمُ الشَّيْءَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لِمَنْ أَتَى بِهِ، وَاسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] ، أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْقَوْلَ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا أَقَرُّوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَاسْتَعْظَمُوا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ مَا جَوَّزُوا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ، وَإِخْرَاجُ الشَيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَخَلْقُ الشَيْءِ لَا مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَنْكَرُوا عَادَتَهُ بَعْدَ إِفْنَائِهِ، فَاسْتَعَظَمَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْكَارَهُمْ ذَلِكَ، فَعَجِبَ رَسُولُهُ جُحُودَهُمْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْكَارَهُمْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ» أَيْ: أَظْهَرَ عَجَبَ هَذَا الْأَمْرِ لِخَلْقِهِ، وَبَدِيعَ هَذَا الشَّأْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْعَيْشِ الدَّائِمِ فِيهِ، وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي مِنْ حُكْمِ مَنْ سَمِعَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، أَنْ يُسَارِعَ إِلَيْهَا، وَيَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَيَتَحَمَّلَ الْمَكَارِهَ وَالْمَشَقَّاتِ لِيَنَالَهَا، وَهَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ ذَلِكَ [ص: 204] ، وَيَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَيَزْهَدُونَ فِيهَا، حَتَّى يُقَادُونَ إِلَيْهَا بِالسَّلَاسِلِ، كَمَا يُقَادُ إِلَى الْمَكْرُوهِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ، وَيَأْلَمُ مِنْهُ الْأَبْدَانُ، وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَقْوَامٍ» ، أَيْ: رَضِيَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَقِيلَ: نَاسًا، وَرَفَعَ أَقْدَارَ عِبَادٍ، وَعَظَّمَ مَرْتَبَةَ مَنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يُقَادُونَ إِلَى نُعَيْمِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِالسَّلَاسِلِ، تَأَبِّيًا مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَامْتِنَاعًا مِنْهُ، وَنَفْرَةً عَنْهُ، يُخْبِرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَارُ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَقْبَلُ مَنْ يُرِيدُ، وَيَصْطَفِي بِعِلْمِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَكُونُ مِنْهُمْ، وَلَا سَابِقَةٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُمْ، وَيَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْهَا، وَيُنْقِذُ مِنَ النَّارِ مَنْ هُوَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْهَا، بَلْ هُوَ مَنْ يَتَهَافَتُ فِيهَا تَهَافُتَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْفَرَاشُ يَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ، فَأَنَا آَخِذٌ بِحُجَزِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْبَارٌ عَنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَلِيلِ كَرَمِهِ بَنَى دَارًا، جَعَلَ فِيهَا أَنْوَاعَ النَّعِيمِ، وَمَلَاذَّ النُّفُوسِ، وَقُرَّاتِ الْأَعْيُنِ، وَدَعَا إِلَيْهَا بِأَلْطَفِ دُعَاءٍ، وَبَذَلَهَا بِأَيْسَرِ مُؤْنَةٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا أَقْوَامٌ، وَأَبَوْهَا، وَنَفَرُوا عَنْهَا، فَقَادَهُمْ إِلَيْهَا بِالسَّلَاسِلِ، فَكَانَ هَذَا فَضْلَهُ وَكَرَمَهُ مَعَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَضْلُهُ وَكَرَمُهُ، وَبِرُّهُ، وَإِحْسَانُهُ بِأَقْوَامٍ رَغِبُوا فِي خِدْمَتِهِ، وَتَحَمَّلُوا الْمَشَقَّاتِ، وَالْمَكَارِهَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَسَأَلُوهُ مَا أَعَدَّ لَهُمْ بِأَلْسِنَةِ الِافْتِقَارِ، وَمَدُّوا إِلَيْهِ طَلَبًا أَيْدِيَ الِاضْطِرَارِ، وَاسْتَعَاذُوا بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ، وَنَارِهِ الَّتِي يَتَهَافَتُ فِيهَا أَقْوَامٌ، فَبَرَّهُمْ عَنْهَا رَحْمَةً عَلَيْهِمْ، وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يُطْرَحُ فِيهَا مَنْ يَهْرَبُ مِنْهَا، وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، أَوْ كَيْفَ يُحْرَمُ مَنْ يَسْأَلُ بِأَلْطَفِ السُّؤَالِ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ الْمَجْهُودَ مِنْهُ دَارًا يَعُودُ إِلَيْهَا بِالسَّلَاسِلِ مَنْ يَهْرَبُ مِنْهَا، وَيُعْرِضُ عَنْهَا، إِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، إِنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَمَنٍّ كَرِيمٍ، وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مِنْ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أخ عَبَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْغَيْنُ: شَيْءٌ يَغْشَى الْقَلْبَ، فَيُغَطِّيهِ بَعْضَ التَّغْطِيَةِ، وَلَا يَحْجُبُهُ عَمَّا يُشَاهِدُهُ، وَهُوَ كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا يَكَادُ يَحْجُبُ عَيْنَ الشَّيْءِ، وَلَا يَمْنَعُ ضَوْءَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْشَى قَلْبَهُ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَتَكَلَّمُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ، وَكِبَارُهُمْ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ حَالَةَ تَقَمُّصٍ، وَخَفْضٍ، وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْحَجَبَةِ، وَوَرَّى بشَيْءٍ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَلَّ قَدْرَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجَبَةِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُنْقَلُ مِنْ حَالٍ إِلَى مَا هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى دَرَجَةٍ، رَأَى مَا نُقِلَ عَنْهَا تَقْصِيرًا فِي وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَرَأَى ذَلِكَ عَيْبًا يَجِبُ لَهُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ وَأَوْلَى، وَلَا يَخْرُجُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِشَارَاتُهُمْ فِيهِ وَرُمُوزُهُمْ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْجُمَلَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعُ الْخَلْقِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: أخ قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا قِسْمًا» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] ، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41] ، «فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلَنِي فِي [ص: 206] خَيْرِهَا قَبِيلَةً» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13] ، «فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَخْرَ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا بَيْتًا» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَيْرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ. وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حَمْدَانَ، قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ بِمَكَّةَ قَالَ: ح الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ، قَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] ، فَأَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ " وَفِيمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلَهُ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَةِ الْحَمْدِ، وَسَمَّاهُ أَحْمَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ رُوحِهِ، وَكَلِمَتِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْمَحْمُودِينَ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ اسْمَ الْحَمْدِ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 207] أَحْمَدُهُمْ، وَمَنِ اسْتَوْجَبَ الْمَدْحَ مِنَ الْمَرْبُوبِينَ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَاهُمْ بِالْمَدْحِ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، فَجَمِيعُ صِفَاتِهِ بِصِفَةِ الْمَدْحِ أَوْلَى، وَنَعُوتُهُ بِالْحَمْدِ أَحْرَى، وَدَرَجَتُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ أَعْلَى، وَرُتْبَتُهُ فِي كُلِّ حَالٍ أَسْنَى، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْقَى بِهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَسَاعَةٍ، بَلْ عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ، وَفِي كُلِّ طَرَفَةٍ، إِذًا فَالْغَيْنُ الَّذِي يَغْشَى قَلْبَهُ، وَيُغَطِّي سِرَّهُ صِفَةُ مَدْحٍ، وَنَعْتُ شَرَفٍ، وَلَيْسَتْ فِيهِ غَضَاضَةٌ، وَلَا خَفْضٌ، بَلْ فِيهِ رِفْعَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ، وَعُلُوُّ حَالٍ، وَحَالُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُشْرِفَ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَيَعْرِفَ كُنْهَهَا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ مَا أَغَانَ عَلَى قَلْبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يُتَكَلَّمُ عَلَى قَدْرِ مَا يُكْشَفُ لَهُ، وَعَلَى مِقْدَارِ حَظِّهِ مِنْهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ فِكْرَةً تَغُمُّهُ، وَخَاطِرًا يِغُمُّهُ مِنْ أَمْرٍ عَنْهُ مِمَّا أُخْبِرَ عَنِ الْأَحْدَاثِ الْكَائِنَةِ فِيهِمْ، وَالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ غَيْنًا عَلَى قَلْبِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفِيًّا عَلَيْهِمْ، رَءُوفًا بِهِمْ، عَزِيزًا عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، أُخْبِرَ عَمَّا يَغُمُّهُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: «اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي» ، وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ آدَمَ وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: " إِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَفْسِي نَفْسِي، وَيَقُولُ النَّبِيُّ: أُمَّتِي، أُمَّتِي "، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عُرِضَ سِرُّ أَحْوَالِهِمْ، اغْتَمَّ لِذَلِكَ، يَغْشَى ذَلِكَ الْغَمُّ قَلْبَهُ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ هِيَ السَّكِينَةَ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] [ص: 208] ، وَقَالَ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] ، فَالَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّصْرِ لَهُمْ، وَالظَّفَرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالَّذِي نَزَّلَ عَلَى قَلْبِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَمَا يُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنَ اللَّطَايِفِ الَّتِي يُحِلُّهَا قَلْبَهُ، وَيُودِعُهَا صَدْرَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] وَقَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، أَخْرَجَهَا عَنِ الْأَوْهَامِ بِقَوْلِهِ: {الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، وَلَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةَ بِالْعِظَامِ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ قَرَأْتُ الْبَارِحَةَ سُورَةَ الْكَهْفِ، فَجَاءَ شَيْءٌ غَطَّى فَمِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ جَاءَتْ تَسْمَعُ الْقُرْآنَ» فَوَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةَ بِأَنَّهَا تُغَطِّي الْفَمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ، وَالْغَيْنُ الْغِطَاءُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى قَلْبِهِ السَّكِينَةَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُغَطِّي قَلْبَهُ هُوَ السَّكِينَةَ، وَتَكُونَ السَّكِينَةُ هِيَ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ مِنَ اللَّطَائِفِ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِيهِ، وَيُنَزِّلُهَا عَلَى سِتْرِهِ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا مُنَزِّلُهَا عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسْمَعُنِي فِيهِ غَيْرُهُ» ، فَأَخْبَرَ أَنَّ أَوْقَاتِهِ خَارِجَةٌ عَنْ إِفْهَامِ الْخَلْقِ، وَكَانَتِ السَّكِينَةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ، فَكَانَتْ إِذَا هَرَّتْ هَرِيرَ الْهِرَّةِ، فَالظَّفَرُ، وَالنَّصْرُ، وَالْفَتْحُ، وَالْعُلُوُّ، وَالَّذِي يَنْزِلُ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ، يَكُونُ مَعَهَا الطُّمَأْنِينَةُ، وَالثَّبَاتُ، وَمَوْعِدُ الْحُسْنَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّتِي نَزَلَتْ عَلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ اسْتَمَعْتِ الْقُرْآنَ، فَكَذَلِكَ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَكُونُ مَعَهَا مِنَ اللَّطَايِفِ الَّتِي تَقْصُرُ الْأَفْهَامُ عَنْ إِدْرَاكِهَا، وَيَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهَا، وَتَحْسُنُ الْأَفْهَامُ وَالْفِطَنُ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَهَا إِظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُؤْيَةَ الِافْتِقَارِ، وَإِشَارَةً عَلَى الِافْتِخَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ الْغَفَّارِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحَبِّ أَوْصَافِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ إِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَرُؤْيَةَ الِاضْطِرَارِ إِلَى اللَّهِ، وَهُمَا سِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ إِظْهَارَ فَقْرِهِ وَالِافْتِخَارَ بِالْعُبُودِيَّةِ لِسَيِّدِهِ، لَا أَنْ يَمْحُوَ بِهِ ذَنْبًا، أَوْ [ص: 209] ذَنْبَهُ، أَوْ خَطِيئَةً اكْتَسَبَهَا، أَلَا تَرَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَاطَبَهُ بِأَجَلِّ الْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَرَهُ بِأَعْلَى الْأَوَامِرِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَتْبَعَهُ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فَالْعِلْمُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَجَلُّ أَحْوَالِهِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَأَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ، وَهُوَ فَضْلٌ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ عِلْمُهُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ صَبْرُهُ بِاللَّهِ، لَا بِذَاتِهِ، أَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] ، فَأَتْبَعَ جَلِيلَ هَذَا الْعَطَاءِ، وَكَرِيمَ هَذَا الْحِبَاءِ، الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ، الِاسْتِغْفَارَ لِيَكُونَ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ ظُهُورِ الرُّبُوبِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ قَالَ فِي ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: " فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ، فَأَخِّرُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ، فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ، وَأُمِيِّزُ، وَأُدْخِلُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ أَذْهَبُ، فَآَخُذُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ، فَأَخِّرُ لَهُ سَاجِدًا "، ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، نَسُوقُهُ فِيمَا بَعْدُ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ الَلَّهُ تَعَالَى، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَرَامَةً أَحْدَثَ عِنْدَهَا خُضُوعًا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ فِي لَطَائِفِهِ فِي إِنْزَالِ السَّكِينَةِ عَلَى قَلْبِهِ أَحْدَثَ عِنْدَهَا خُضُوعًا بِإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ بِصِفَةِ الِاسْتِغْفَارِ، وَفِي الِاسْتِغْفَارِ مَعْنًى آخَرُ لَطِيفٌ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْدِثُ فِي كُلِّ حَالٍ تَوْبَةً، لِيَسْتَوْجِبَ مِنْ رَبِّهِ الْمَحَبَّةَ، فَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ إِظْهَارَ تَوْبَتِهِ، وَتَوْبَتُهُ اسْتِدْعَاءَ مَحَبَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مَعْنَى تَغْشَى السَّكِينَةُ قَلْبَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمَاعِ مَا يُنَاجِي بِهِ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ، كَمَا كَانَ تَغَشِّيهَا فَمَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، كَأَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ يُسْمَعُ مِنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَمِنْ غَيْرِهِ [ص: 210] . وَمَا يُنَاجِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ تَعَالَى لَا يُسْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ، فَاسْتِمَاعُ السَّكِينَةِ بِمُنَاجَاةِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنَ اسْتِمَاعِهَا لِقِرَاءَةِ أُسَيْدٍ، وَمِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ سُمِعَ لَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ النَّاسُ مِنْ قَلْبِهِ، جَازَ أَنْ يَسْمَعَ السَّكِينَةَ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَكُونُ تَغَشِّيهَا قَلْبَهُ لِسَمَاعِ مُنَاجَاةِ حَبِيبِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ تَغَشِّيهَا فَمَ أُسَيْدٍ لِسَمَاعِ قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، ح يَحْيَى، ح الْحِمَّانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ غَمٌّ، فَأَحَبَّ أَنْ يَتَسَلَّى بشَيْءٍ، أَوْ ضَاقَ صَدْرُهُ مِنْ أَمْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْرَحَ، أَوْ أَصَابَتْهُ وَحْشَةٌ فَأَحَبَّ إِزَالَتَهَا عَنْهُ، رُبَّمَا يُغَنِّي، وَهُوَ أَنْ يُنَغِّمَ، وَيُرَجِّعَ صَوْتَهُ لشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ، وَالزَّجَلِ، وَالْمَنْظُومِ مِنَ الْكَلَامِ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ رَاحَةً وَفَرْحَةً مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْوَحْشَةِ أَوِ الْكَرْبِ، وَالْغَمِّ [ص: 211] . وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالرُّسُلُ، وَأَفَاضِلُ الْأَوْلِيَاءِ، وَالصِّدِّيقُونَ هُمُومُهُمْ هَمُّ الْمَعَادِ، وَكَرْبُهُمْ كَرْبُ الدِّينِ، وَوَحْشَتُهُمْ مِمَّا دُونَ اللَّهِ، وَضِيقُ صُدُورِهِمْ عَمَّا يَشْغَلُهُمْ عَنِ اللَّهِ، فَهُمْ لَا يَتَفَرَّحُونَ مِنْ كَرْبِهِمُ إِلَّا بِذِكْرِ رَبِّهِمْ، وَلَا يَنْسَلُّونَ عَنْ غُمُومِهِمْ وَهُمُومِهِمْ إِلَّا بِمَوْلَاهُمْ، فَيُرَجِّعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي مِنْ مَحْبُوبِهِمْ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَبِخَشْيَتِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَرِقَّةٍ مِنْ أَفْوَاهِ أَفْئِدَتِهِمْ، وَيُزَانُ مَحَبَّتُهُ بَيْنَ ضُلُوعِهِمْ وَمَاءُ الِاشْتِيَاقِ يَجْرِي عَلَى خُدُودِهِمْ، فَتَحْسُنُ لِذَلِكَ أَصْوَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ هُوَ قَرَاءَتُهُ عَلَى خَشْيَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: «مَنْ إِذَا قَرَأَ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» فَأَخْبَرَ أَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ قِرَاءَتُهُ عَلَى خَشْيَةٍ مِنَ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» ، يُرِيدُ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قِرَاءَتَهُ عَلَى خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُشُوعٍ فِي نَفْسِهِ، وَرِقَّةٍ مِنْ فُؤَادِهِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَفَاضِلِ الْأَوْلِيَاءِ، لَيْسَ تَرْجِيعَ الصَّوْتِ وَالْإِلْحَانِ، وَتَحْرِيكَ الْحَنَكِ، كَفِعْلِ مَنْ يَتَلَهَّى بِكَلَامِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ إِثَارَةَ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ بِقُلُوبٍ لَاهِيَةٍ، وَأَفْئِدَةٍ سَاهِيَةٍ تَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ، وَلَا يُطْرَدُ الْخَنَّاسُ، وَيَزِيدُ فِي الْوَسْوَاسِ، فَمَنْ رُزِقَ حُسْنَ النِّعْمَةِ، وَخَشْيَةَ الْقَلْبِ، وَرِقَّةَ الْفُؤَادِ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ مُتَرَسِّلًا لَهُ، مُرَتِّلًا حَقَّ حُرُوفِهِ، فَذَلِكَ الْكَامِلُ الَّذِي أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: «لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 212] . وَقَالَ أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَمِعْتُ قِرَاءَتَكَ» ، فَقَالَ: أَمَا لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهَا لَكَ تَحْبِيرًا وَمَنْ لَمْ يُرْزَقْ حُسْنَ النِّعْمَةِ، وَأُتِيَ بِمَا سِوَاهَا مَنْ لَمْ يَخْرُجْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ مَنْ يَأْذَنِ اللَّهُ لَهُ بِحُسْنِ صَوْتِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ» ، أَيْ: مَا رَضِيَ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ شَيْئًا هُوَ أَرْضَى عِنْدَهُ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ، وَلَا آَثَرُ لَدَيْهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآَنِ عَلَى خَشْيَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّمْعُ صِفَةٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي ذَاتِهِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْمُحَدَثِينَ , تَعَالَى اللَّهُ عَنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَهُوَ سَامِعٌ لِلْمَسْمُوعَاتِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِيَسْتَمِعَ، هُوَ لَهُ صِفَةٌ، وَلَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ، فَإِذْنُ اللَّهِ سَمَاعُهُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَسْمَعُ بشَيْءٍ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالِاسْتِمَاعِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ الْفِكْرِ، وَإِحْضَارُ السِّرِّ، وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ. فَلِذَلِكَ حَمَلَ مَعْنَى تَخْصِيصِ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِيثَارِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَتَفَرَّجْ مِنْ غُمُومِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ مِمَّا يُلْهِيهِ عَنْ كُرَبِهِ، وَيُسَلِّيهِ عَنْ هُمُومِهِ، وَيَطْرُدُ وَحْشَاتِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ، وَالتَّدَبُّرِ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِنَا، وَلَا تَشَبَّهَ بِنَا طَرِيقَةً وَصِفَةً، وَإِنْ كَانَ مِنَّا نِحْلَةً وَمِلَّةً هِيَ قَوْلُهُ: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ هُمُومُهُ هُمُومَ الْمَعَادِ، وَوَحْشَتُهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُحْدَثِينَ فَلَيْسَ مِنَّا؛ لِأَنَّ التَّسَلِّيَ بِكَلَامِ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ كُرَبِ الدِّينِ وَالْهُمُومِ [ص: 213] الَّتِي تَكُونُ فِي اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّسَلِّي مِنْهَا بِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا هُمُومُ الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ فَوَاتِهَا وَنَيْلِهَا، وَوَحْشَةُ الْخَلْقِ مِنَ الِاتِّزَانِ وَالْأَخْدَانِ، فَإِنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا الْمَلَاهِي، وَتَرْجِيعَ الْأَصْوَاتِ بِالْأَغَانِي. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَأْنِسْ بِاللَّهِ وَأَذْكَارِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ ضَرُورَاتِهِ، وَلَمْ تَكُنْ صِفَاتُهُ جَلَّ وَعَزَّ حَائِلَةً لَهُ عَنْ وَحْشَةِ صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ مِنَّا خُلُقًا وَسِيرَةً، وَإِنْ كَانَ مِنَّا نُطْقًا وَسَرِيرَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، ح يَحْيَى قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ يَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةٌ أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ» ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ تَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقُلْنَ لِعُمَرَ: أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ قَائِلٌ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَهَابُ عُمَرَ، وَلَا يَهَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ حَضَرَ بِحُضُورِ النِّسْوَةِ، فَلَمَّا ذَهَبَ الشَّيْطَانُ بِحُضُورِ عُمَرَ تَبَادَرَتِ النِّسْوَةُ الْحِجَابَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ، وَهُوَ أَرْفَعُ دَرَجَةً، وَأَعْلَى رُتْبَةً مِنْ عُمَرَ، فَكَيْفَ لَمْ يَهَبْهُ الشَّيْطَانُ، وَهَابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ [ص: 214] فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُضُورِ الشَّيْطَانِ حَضْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعُذْرِهِنَّ فِي هَيْبَتِهِنَّ إِيَّاهُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يَهَبْنَكَ، وَالشَّيْطَانُ يَهَابُكَ، وَلَوْ كَانَ الْحَالُ يُوجِبُ حُضُورَ الشَّيْطَانِ لَكَانَتِ الْحَالُ حَالَ مَعْصِيَةٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَالَ عِصْيَانِ اللَّهِ، فَيَحْضُرُ الشَّيْطَانُ قَالَ الشَّيْخُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «عَالِيَةٌ أَصْوَاتُهُنَّ» أَرْفَعُ مِنْ صَوْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ كَانَ يَخَافُ عُمَرَ، وَلَا يَخَافُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَافَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْلُ خَوْفُهُ مِنْهُ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا خَوْفُ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ، وَهُوَ فَضْلُهُ، وَالشَّيْطَانُ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَوْ يَكُونُ خَوْفَ عُقُوبَةٍ يُحِلُّهَا بِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخَافُ فِتْنَتَهُ، وَلَا يَهَابُ وَسْوَسَتَهُ، وَقَدْ أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْرَبُ مِنْهُ، وَأَمِنَ عُقُوبَتَهُ فَلَمْ يَهَبْهُ اغْتِرَارًا بِهِ، وَأَمْنًا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِهِ، أَعْنِي الِاغْتِرَارَ بِاللَّهِ، وَأَمْنَ مَكْرِهِ. وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَخَافُ الشَّيْطَانَ أَنْ يَفْتِنَهُ، وَيُوَسْوِسَ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُنَاصِبُهُ وَيَسْتَعِدُّ لَهُ، وَيُنْصَرُ عَلَيْهِ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ يَخَافُهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لَهُ، وَمُنَاصَبَتِهِ إِيَّاهُ، فَكَانَ يَتْرُكُ فَجَّهُ، وَسَبِيلَهُ حَذَرًا مِنْهُ. وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَا يُبَالِي بِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهُ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بشَيْءٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَمَا الشَّيْطَانُ حَتَّى يُهَابَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أُطِيعَ فَمَا نَفَعَ، وَعُصِيَ فَمَا ضَرَّ وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ نَحَّاهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلَا نَتْنُكَ لَمْ أَزَلْ أَسْجُدُ عَلَيْكَ وَقَالَ بَعْضُ الْكِبَارِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ مَا اسْتَعَذْتُ مِنْهُ , [ص: 215] وَلَوْ نَاصَبُوهُ وَاسْتَعَدُّوا لَهُ أَتْعَبُوهُ تَعَبًا لَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ حُصَاصٌ» ، هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَقْصِدْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْصِدُ لَهُ ذَاكِرًا لِلَّهِ، مُسْتَعِيذًا بِهِ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْأَكَابِرَ مِمَّنْ دُونَهُمْ لَا يُبَالُونَهُ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، فَهُوَ يَأْمَنُهُمُ اغْتِرَارًا بِاللَّهِ، فَيَدْنُو مِنْهُمْ يَرُومُ مِنْهُمْ مَا يَرُومُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَضُرُّهُمْ، يَضُرُّ نَفْسَهُ، كَمَثَلِ الْفَرَاشِ يَأْمَنُ النَّارَ فَيَدْنُو مِنْهَا فَيُحْرِقُ نَفْسَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: ح عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: ح سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ فِيمَا ذُكِرَ لِي قَدِ اعْتَرَضَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ شِبْهُ أَفِيقٍ فَسَدَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: نَعَمْ، أَنَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ مِنْ أَسْمَائِي أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: أَنْتَ إِلَهُ الْأَرْضِ بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُخْلَقُ الطَّيْرَ مِنَ الطِّينِ، وَتَشْفِي الْمَرْضَى، وَتُحْيِي الْمَوْتَى؟ فَقَالَ: بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي خَلَقَنِي، وَخَلَقَ مَا سَخَّرَ لِي، وَبِإِذْنِهِ أَشْفِيهِمْ، وَلَوْ شَاءَ أَمْرَضَنِي، سَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: هَلُمَّ أُعَبِّدْ لَكَ الشَّيَاطِينَ، وَآمَرُهُمْ بِالِاعْتِرَافِ وَالسُّجُودِ لَكَ، فَيَرَاهُمْ بَنُو آدَمَ فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالسُّجُودِ، فَتَكُونَ إِلَهَ الْأَرْضِ، فَأَعْظَمَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَقُولُ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِلْءَ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَعَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَمُنْتَهَى كَلِمَاتِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ. فَلَمَّا قَالَ عِيسَى نَزَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَثَبَتَ جِبْرِيلُ مَعَ عِيسَى، وَنَفَخَ مِيكَائِيلُ إِبْلِيسَ نَفْخَةً ذَهَبَ يَطِمُّ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ نَحْوَ مَطْلَعِ الشِّمَالِ، لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، حَتَّى صَدَمَ عَيْنَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَخَرَّ وَحِيدًا مُحْتَرِقًا، وَأَتْبَعَهُ إِسْرَافِيلُ حَثِيثًا، فَصَدَمَهُ صَدْمَةً أُخْرَى نَحْوَ مَغْرِبِهَا، فَذَهَبَ يَطِمُّ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِحَالِ عِيسَى حَيْثُ فَارَقَهُ قَالَ: لَقِيتُ مِنْكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ نَصَبًا، ثُمَّ لَمْ يَكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 لَهُ نَاهِيَةٌ، حَتَّى وَقَعَ فِي الْعَيْنِ الْحَامِئَةِ الَّتِي تَغْرُبُ فِيهَا الشَّمْسُ، فَغَرَقَ فِيهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، كُلَّمَا اطَّلَعَ مِنْهُ شَيْءٌ عَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخَلَّصَ بَعْدَ السَّبْعِ، وَمَا كَادَ فِيمَا رَامَ عِيسَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا زَالَ لَهُ هَايِبًا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دُنُوَّهُ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ اغْتِرَارًا مِنْهُ بِهِ، وَأَمْنًا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ لِقِلَّةِ الْتِفَاتِ عِيسَى إِلَيْهِ، وَاكْتِرَاثِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ، فَأَمِنَهُ، فَدَنَا مِنْهُ، فَأَهْلَكَ نَفْسَهُ، وَكُلُّ مَنْ أَمِنَ شَيْئًا ثِقَةً بِاللَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْمُخَوِّفِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ أَمِنَهُ ذَلِكَ الْمُخَوِّفُ، إِمَّا ثِقَةً وَاسْتِئْنَاسًا كَمَا تَأْنَسُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ إِلَى مَنْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا، وَالسِّبَاعُ وَالْأُسْدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ خَرَجَ فِي سَفَرٍ، فَإِذَا الْجَمَاعَةُ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: أَسَدٌ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ فَمَشَى حَتَّى أَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ نَفَاهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَذَبَ عَلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ لَمْ يَخَفْ غَيْرَ اللَّهِ مَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا وُكِلَ ابْنُ آدَمَ لَمَّا رَجَا ابْنَ آدَمَ، وَلَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ لَمْ يَرْجُ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ» حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ، ح عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، ح بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ حُزَيْمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي وَهْبٍ الْقُرَيْشِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ خَرَجَ فِي سَفَرٍ، الْحَدِيثَ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَمَّا أَمِنَ الْأَسَدَ ثِقَةً بِاللَّهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ أَمِنَهُ الْأَسَدُ فَلَمْ يَهْرَبْ مِنْهُ، وَسَهُلَ إِنْكَارُهُ غَيْبَةً عَنْهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، غَابَتِ الْأَشْيَاءُ عَنْهُ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْكِبَارِ مَنِ الْخَائِفُ؟ فَقَالَ: الَّذِي تَخَافُهُ الْمَخْلُوقَاتُ، وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ خَوْفُ اللَّهِ، فَصَارَ خَوْفًا كُلَّهُ، فَيَخَافُهُ كُلُّ شَيْءٍ، كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ النَّارَ تَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أَنْشَدَ بَعْضُ الْكِبَارِ: [البحر الكامل] يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ مَنْ يَحُسُّ بِهَا ... فَمَنْ هُوَ النَّارُ كَيْفَ يَحْتَرِقُ فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصِفَةِ مَنْ يَخَافُهُ الْمَخْلُوقَاتُ لِغَلَبَةِ خَوْفِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ مَنْ أَمِنَتْهُ الْمَخَاوِفُ غَيْبَةً عَنْهَا بِشُهُودِ مَوْلَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] الْآَيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] ، فَقَدْ نَالَ الشَّيْطَانُ مِنْ آدَمَ بِوَسْوَسَتِهِ لَهُ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قِيلَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الشَّجَرَةِ بِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَكَلَ مِنْهَا؛ لَأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لَا عَنْ جِنْسِهَا، فَأَكَلَ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَأَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَأُخْرِجَ إِلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ خَلِيفَةً لَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وَلَكِنْ لَمَّا وَافَقَ أَكْلُهُ تَزْيِينَ إِبْلِيسَ لَهُ، وَوَسْوَسَتَهُ إِيَّاهُ نُسِبَ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] وَلَمْ يَقْصِدْ إِبْلِيسُ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِسْقَاطَهُ مِنْ رُتْبَتِهِ، وَإِبْعَادَهُ كَمَا بَعُدَ هُوَ، فَلَمْ يَبْلُغْ مَقْصَدَهُ، وَلَا أَدْرَكَ مُرَادَهُ، بَلِ ازْدَادَ سُخْنَةَ عَيْنٍ، وَغَيْظَ نَفْسٍ، وَخَيْبَةَ ظَنٍّ، قَالَ اللَّهُ {اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] فَصَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةً لِلَّهِ فِي أَرْضِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارًا لَهُ فِي دَارِهِ، فَكَمْ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْجَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، ح الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُقْرِئُ، ح مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، ح الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَزَادَنِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ بَحِيرٍ الْقَاضِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِصْمَةَ الرَّمْلِيُّ حَدَّثَهُ، ح سَوَّارُ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنِي هِقْلٌ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ حِينَ يَزْنِي مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ وَهُوَ حِينَ يَسْرِقُ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرُ وَهُوَ حِينَ يَشْرَبُهَا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْهَبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ» ، قَالَ: فَقُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَمَهْ؟ قَالَ: فَنَفَرَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَمِرُّوا الْأَحَادِيثَ كَمَا أَمَرَّهَا مَنْ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَمَرُّوهَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ:: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: أَمِرُّوا الْأَحَادِيثَ كَمَا أَمَرَّهَا مَنْ قَبْلَكُمْ تَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْقِيَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَتَصْدِيقٌ لَهُ، وَإِيمَانٌ بِهِ فِيمَا عُلِمَ وَجُهِلَ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمَا بِالْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، وَالْأَفْهَامِ السَّخِيفَةِ، إِيمَانًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَصْدِيقًا لَهُمَا، وَتَوْكِيلًا لَعِلْمِ تَأْوِيلِ مَا جَهِلْنَاهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقُدْوَةُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ [ص: 219] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَةِ، لَا يَرُدُّونَهَا رَدَّ مُنْكَرٍ جَاحِدٍ، وَلَا يَتَأَوَّلُونَهَا تَأْوِيلَ مُتَحَكِّمٍ مُتَكَلِّفٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهَا إِيمَانَ مُصَدِّقٍ مُسْلِمٍ، وَيَرْوُنَهَا رِوَايَةَ فَقِيهٍ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَأَوَّلَهَا قَوْمٌ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَاءِ الدِّينِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَكْذِيبٍ بِتَحْرِيفِ تَأْوِيلٍ طَلَبًا لِلْحِكْمَةِ فِيهَا عَلَى قَدْرِ أَفْهَامِهِمْ، وَمَبْلَغِ عُقُولِهِمْ، وَنُورِ أَسْرَارِهِمْ، وَشَرْحِ صُدُورِهِمْ، بِانْتِزَاعِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقَاوِيلِ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْحِكْمَةِ الَّتِي يَهَبُ اللَّهُ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيُؤْتِهَا مَنْ يُرِيدُ، وَمَنْ أُوتِيَهَا فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أَيْ: لَا يَزْنِي وَهُوَ فِي حِينِ مَا يَزْنِي مُكَاشِفٌ فِي إِيمَانِهِ، مُشَاهِدٌ لِمَا آَمَنَ بِهِ بِإِيقَانِهِ، بَلْ هُوَ فِي وَقْتِ فِعْلِهِ ذَلِكَ عَنْ تَحْقِيقِ إِيمَانِهِ مَحْجُوبٌ، وَبِغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ عَنْ شُهُودِ إِيقَانِهِ مَسْلُوبٌ، فَإِيمَانُهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ ثَابِتٌ، وَنُورُ إِيمَانِهِ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ مَطْمُوسٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ: نَاطِقٌ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ مَحْجُوبُ الْقَلْبِ فِيهِ عَنْ صِدْقِ الْإِخْلَاصِ، فَهُوَ مُؤْمِنُ الْعَلَانِيَةِ كَافِرُ السَّرِيرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] وَنَاطِقٌ بِكَلِمَةِ التَّقْوَى مُنْطَوٍ فِي سِرِّهِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَأَخْلَصَ لِحَيَاتِهِ، مُضْطَرِبُ الْحَالِ فِيمَا يُوجِبُهُ إِيمَانُهُ، فَمَرَّةً بِالْجَنَّةِ مَوْصُوفٌ، وَأُخْرَى بِالْكُشُوفِ مَعْرُوفٌ، لَمْ يَلْبَسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ، وَلَمْ يُجَرِّدْهُ بِيَقِينٍ شُهُودُهُ حَقِيقَةُ عِلْمٍ، فَهُوَ مُؤْمِنُ الْعَلَانِيَةِ مُؤْمِنُ السَّرِيرَةِ مُخَلَّطُ الْفِعْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] طُولِبَ هَؤُلَاءِ بِوَفَاءِ مَا صَحَّتْ بِهِ عَقِيدَتُهُمْ، وَصَدَّقَتْ قَوْلَهُمْ سَرِيرَتُهُمْ، فَدَلَّ أَنَّهُمْ فِي حُجْبَةٍ عَمَّا نَطَقُوا بِهِ وَاعْتَقَدُوهُ، وَمُقِرٌّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ أَسْقَطَ عَنْ سِرِّهِ مَا دُونَ اللَّهِ، وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَأَسْرَعَ بِسَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ بِكُشُوفِ إِيمَانِهِ، وَصِدْقِ إِيقَانِهِ، حَجَبَهُ إِيمَانُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ لَذَّاتِهِ، وَصَرَفَهُ إِيقَانُهُ عَنْ شَهَوَاتِهِ، فَهُوَ يُشَاهِدُ مَا آَمَنَ بِهِ كَأَنَّهُ رَأَى عِيَانًا، فَيَرَى مَا غُلِبَ عَنْ بَصَرِهِ بِعَيْنٍ، كَمَا قَالَ حَارِثَةُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا [ص: 220] ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» ، فَهَذَا الْمُكَاشِفُ بِالْإِيمَانِ شُهُودًا لِمَا آَمَنَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ بِإِيمَانِهِ عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَانْتِهَابِ نُهْبَةٍ ذَاتِ شَرَفٍ، وَمَنْ حُجِبَ عَنْ إِيمَانِهِ بِظُلْمَةِ غَفْلَتِهِ، وَدُخَانِ شَهْوَتِهِ رُبَّمَا وَاقَعَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَوُصِفَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ مَا بَلَغَ مِنْ حَقِّ إِيمَانِهِ أَنْ أَسْقَطَ إِبَاحَتَهَا مِنْ سِرِّهِ لَمْ يَبْلُغْ حَقِيقَةَ حَقِّهِ أَنْ يُجَانِبَهَا بِعَقْلِهِ، فَهُوَ فِي وَقْتِ مُوَاقَعَتِهَا وَالْإِتْيَانِ بِهَا غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِحَقِيقَةِ حَقِّ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِدْقِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ إِيمَانَ عُقُودٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ إِيمَانَ شُهُودٍ فَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: كَالْعُذْرِ لَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَزْنِ الزَّانِي حِينَ يَزْنِي جُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حُجَّةً وَاسْتِتَارًا وَالْمَعْنَى الْآَخَرُ: كَالتَّحْذِيرِ عَنْ مُبَالَغَةِ الْهَوَى، وَالِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالْمُنَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: غَفْلَةُ سَاعَةٍ وَاتَّبَاعُ شَهْوَةٍ حَجَبَتْهُ عَنْ حَقِيقَةِ إِيقَانِهِ، فَغَيْرُ مَأْمُونٍ إِنْ دَامَتْ غَفْلَتُهُ، وَاسْتَحْكَمَتْ فِيهِ شَهْوَتُهُ أَنْ يُزِيلَهُ شُؤْمُ فِعْلِهِ عَنْ حَقِيقَةِ إِيمَانِهِ، فَالزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِ النَّفْسِ الْمَحْظُورَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالشَّرَفُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشُرْبُ الْخَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِانْتِهَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحِرْصِ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، فَفِيهِ تَحْذِيرٌ عَنْ مُتَابَعَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغْبَةِ فِي اللَّذَّاتِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ وَالْحِرْصِ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالِاسْتِخْفَافِ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِبَ نُهْبَتَهُ رَفَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْصَارَهُمْ مُسْتَخِفٌّ بِهِمْ غَيْرُ مُقِرٍّ لَهُمْ، وَلَا مُعَظِّمٍ حَقَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ قَالَ: ح أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، ح هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ح حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ح ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَرْتُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» قَالَ سَالِمُ بْنُ هَانِئٍ: سَأَلْتُ وَكِيعًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: يَا خُرَاسَانِيُّ أَخْبَارٌ رُوِيَتْ فَأَمِرُّوهَا كَمَا نُقِلَتْ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مَذْهَبُ وَكِيعٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ، وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ النَّظَرِ فِي أَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَةِ، يَرَوْنَ رِوَايَتَهَا، وَلَا يَرَوْنَ الْبَحْثَ، وَبَحَثَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَجَازُوا طَلَبَ تَأْوِيلِهَا، فَأَوَّلُوهَا عَلَى الْأَوْجَهِ، وَالْأَبْعَدِ مِنَ الشُّبَهِ، وَالْأَشْبَهِ بِالْأُصُولِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَرْتُ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» أَيْ: يَدْعُو اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُهُ وَهُوَ حَيٌّ أَحْيَاهُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا أَحْيَا الشُّهَدَاءَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] ، فَإِذَا كَانَ الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءً يُرْزَقُونَ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنْ أَبَاكَ أُصِيبَ بِأُحُدٍ أَحْيَاهُ اللَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " مَا تُحِبُّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقَاتِلَ فِيكَ، فَأُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى " [ص: 222] حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا، ح عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ، ح سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ؟» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ح نَصْرٌ، ح عَمَّارٌ، ح سَلَمَةُ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ سَيِّدِ الْأَنْصَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، وَيَظْهَرُ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، فَإِذَا كَانَتِ الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءً، فَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى وَأَحَقُّ. وَتَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ، مَعْنَاهُ يَقُولُ اللَّهُ، فَلَيْسَ يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تُحِبُّ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقَاتِلَ فِيكَ "، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا دُنْيَا، وَقَدْ بَادَتِ الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَزَالَ الْإِخْبَارُ وَالِابْتِلَاءُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْقِتَالُ وَالْجِهَادُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقَاتِلَ فِيكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبْتَ، وَأَنَّ الْقِتَالَ قَدْ رُفِعَ، فَصَحَّ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ وَالدُّنْيَا بَاقِيَةٌ، وَالْقِتَالُ وَاجِبٌ، وَالْجِهَادُ قَائِمٌ، فَإِذَا جَاءَ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، جَازَ حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْحَيُّ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُ [ص: 223] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «يُصَلِّي» عَلَى حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا دَارُ تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْعِبَادَاتُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا، وَلَا انْتِقَالَ لِأَهْلِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ مَكَانُ الْعِبَادَاتِ لِلْمَلَائِكَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى مَرَّ بِهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ حَيٌّ قَائِمٌ يُصَلِّي عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي قَبْرِهِ، وَقَدْ فُسِحَ لَهُ قَبْرُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» ، فَكَانَ قَبْرُ مُوسَى رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، كَمَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِهِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي بَعْضِ السَّمَاوَاتِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ؟ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ حِينَ مَرَّ بِهِ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رُفِعَ قَبْلَهُ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَرَآهُ فِيهَا، وَرَاجَعَهُ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ حِينَ فُرِضَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَلَاةً، فَمَا زَالَ مُوسَى يُرَاجِعُهُ فَيهَا حَتَّى جُعِلَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ عِنْدَ أَهْلِهِ فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَرُدَّ قَبْلَ الصُّبْحِ إِلَى بَيْتِهِ، فَكَذَلِكَ مُوسَى كَانَ فِي الْأَرْضِ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ حِينَ مَرَّ بِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَرَاجَعَهُ فِيهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمُتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يَكُونُ صَعَقَةً كَصَعْقَتِهِ فِي الطُّورِ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ جَوَّزَنِي بِصَعْقَتِهِ فِي الطُّورِ، أَوْ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» . هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِلَفْظِهِ [ص: 224] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَمُتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخْبَرَ بِجَوَازِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَّزَنِي بِصَعْقَتِهِ فِي الطُّورِ، فَيَكُونُ قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، وَقَدْ ذَاقَهَا. وَالْآَخَرُ: مِنْ جِهَةِ اسْتِثْنَاءِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ يَشَاءُ أَنْ لَا يُصْعَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَيَكُونُ مَعْنَى صَلَاتِهِ فِي قَبْرِهِ إِذَا حُمِلَ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي قَبْرِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَجُوزِيَ بِالصَّعْقَةِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْمَوْتِ وَيَفِيقُ فِي الْآَخِرَةِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إِذًا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُكُوسًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ، وَقَبْرُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ فِي الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ فِيمَا بَيْنَنَا، وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ حُكْمًا، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ عَنْهُمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْآَخِرَةُ وَأَحْكَامُهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَيَكُونُ صَلَاتُهُ ثَنَاءً وَدُعَاءً وَذِكْرًا دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَقَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْآَخِرَةِ، وَلَيْسَتِ الْآَخِرَةُ بِدَارِ عِبَادَةٍ، وَلَكِنَّهَا دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهِيَ دَارُ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10] الْآَيَةَ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] الْآيَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، ح أَبُو عِيسَى، ح هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، ح عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ [ص: 225] الْفَقْرِ، وَمِنْ سُوءِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ» فَالْفِتْنَةُ تَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَلْيَنُ فِي هَذَا الْمَكَانِ هِيَ التَّصْفِيَةُ وَالتَّهْذِيبُ، يُقَالُ: هَذَا ذَهَبٌ مَفْتُونٌ إِذَا دَخَلَ النَّارَ فَنُفِيَ عَنْهُ الْخَبَثُ، وَيُقَالُ لِلصَّائِغِ: الْفَاتِنُ؛ لِأَنَّهُ يَفْتِنُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، أَيْ يُصَفِّيهِمَا بِالنَّارِ، وَيُزِيلُ الْخَبَثَ عَنْهُمَا، كَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] ، مَعْنَاهُ هَذَّبْنَاهُ وَصَفَّيْنَاهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، أَيْ: عَلِمَ أَنَّا هَذَّبْنَاهُ، وَأَدَّبْنَاهُ، وَنَبَّهْنَاهُ , فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ» أَيْ: أَنْ يَكُونَ تَصْفِيَتِي وَتَهْذِيبِي بِالنَّارِ وَتَأْدِيبِي بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ يُكَفِّرُهَا اللَّهُ بِالْمِحَنِ وَالْبَلَايَا فِي الدُّنْيَا، وَبِالْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ؛ [ص: 226] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ مَا لَهُ مِنْ ذَنْبٍ» وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ وَالتَّمْحِيصُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْقَبْرِ، وَفِي أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَبِإِدْخَالِ النَّارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِتْنَتِي وَتَمْحِيصِي مِنْ خَطَايَايَ وَكَفَّارَةُ ذُنُوبِي تَصْفِيَتِي مِنْهَا بِالنَّارِ، وَلَكِنْ بِعَفْوِكَ وَفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ إِمَّا تَوْفِيقًا لِلتَّوْبَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، أَوِ التَّجَاوُزَ عَنْهَا فِي الْآَخِرَةِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَذَابِ النَّارِ» أَيْ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُعَاقِبَنِي بِهَا، وَتُعَذِّبَنِي بِالنَّارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُلْحِدِينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُعَذَّبُونَ بِهَا، فَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَهُمْ مُؤَدَّبُونَ بِهَا، لَا مُعَذَّبُونَ فِيهَا، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ قَالُوا: بِسْمِ اللَّهِ فَتَنْزَوِي النَّارُ عَنْهُمْ وَتَهْرَبُ وَتَقُولُ: مَا لِي وَأَهْلِ بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَائِدَةُ الدُّعَاءِ هُوَ الِاضْطِرَارُ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ، فَمَنْ دَعَا شَيْئًا مِنَ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، أَوْ لَمْ يُقَدِّرْ، فَإِنْ قَدَّرَ فَقَدْ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ اضْطِرَارًا مِنْهُ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الدُّعَاءِ فِيمَا لَمْ يُقَدَّرْ. قَالَ: وَلَيْسَتْ حَالَةٌ فِي الطَّاعَاتِ أَشْرَفَ مِنْ حَالِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ، فَيُلْزِمُ جَوَارِحَهُ، وَيَضْطَرُّ إِلَيْهِ، فَأَيُّ حَالَةٍ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. قَالَ: فَكَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجَلِ الِاضْطِرَارِ، وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا» [ص: 227] وَأَمَّا قَوْمٌ يُرِيدُ اللَّهُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا أُلْقُوا فِيهَا أَمَاتَهُمْ، حَتَّى يَأْذَنَ بِإِخْرَاجِهِمْ فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا إِسْنَادَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ الشَّهِيدُ، فِي ح أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَدَوِيُّ، ح الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ، ح يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ح مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ الْمُوَحِّدُونَ النَّارَ أَمَاتَهُمْ فِيهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا أَمَسَّهُمْ أَلَمَ الْعَذَابِ تِلْكَ السَّاعَةَ» فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُدْخِلُ النَّارَ لِلتَّأَدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَيْسَ لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّعْذِيبِ، فَالْعَذَابُ لِأَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَالْجَاحِدُونَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ» لَهُمْ وَعَذَابُ الْقَبْرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ أُعِدِّتْ لَهُمُ النَّارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَهْذِيبِي وَكَفَّارَةُ خَطَايَايَ بِالنَّارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا وَصَغِيرِهَا وَجَلِيلِهَا، وَلَيْسَتِ النَّارُ بِصَغِيرَةٍ وَلَا قَلِيلَةٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ» ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِينَ، وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَفِتْنَتُهُ لِلْأَمَاثِلِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ بِجِنَايَاتٍ تَكُونُ مِنْهُمْ، أَمَّا عَذَابُ الْقَبْرِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْأَخِرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» أَيْ: فِي كَبِيرٍ عِنْدَ أَنْفُسِهِمَا، أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا كَبِيرًا، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْعَذَابَ لِهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يُغَلَّظَ السُّؤَالُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَكَيْنِ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا، ح عُمَارَةُ بْنُ الْحَسَنِ، ح سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا دُفِنَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ، فَسَبَّحَ النَّاسُ مَعَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ كَبَّرَ، فَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ سَبَّحْتَ؟ قَالَ: «لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ عَنْهُ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، لِأَنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ» [ص: 229] قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الِاهْتِزَازُ: الْفَرَحُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ» ذَكَرَ الْفِتْنَةُ فِي هَذَيْنِ وَقَرَنَهَا بِالشَّرِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ مُوسَى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] أَيِ: اخْتَبَرْنَاكَ وَابْتَلَيْنَاكَ، وَالِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ لِإِصْلَاحِهِمْ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] وَفِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] ، اخْتَبَرَهُمْ، وَابْتَلَاهَمْ لِيُهَذِّبَهُمْ وَيُصَفِّيَهُمْ، وَالِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ لِلْكَافِرِينَ وَالْجَاحِدِينَ إِرَادَةُ الشَّرِّ بِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85] أَيْ ضَلَّلْنَاهُمْ، فَدَلَّ أَنَّ الِاخْتِبَارَ يَكُونُ لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْخَيْرَ كَانَ الْغِنَى فِتْنَةً لَهُ، أَيِ: اخْتِبَارًا لَهُ وَابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ مَكْنُونُ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ طَهَارَةِ سِرِّهِ وَصَفَاءِ قَلْبِهِ، وَقِلَّةِ نَظَرِهِ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَا يَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ؛ [ص: 230] قَالَ اللَّهَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] ، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ الشَّرَّ فَتَنَهُ بِالْغِنَى فَافْتَتَنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْكِي عَنْ قَارُونَ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] . إِذًا فَالْغِنَى فِتْنَةٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ لِلْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تَفْتِنَنِي بِالْغِنَى أَيْ: تَبْتَلِيَنِي بِهِ إِرَادَةَ الشَّرِّ بِي، وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ شَرًّا وَخَيْرًا، وَهُوَ بَلْوَى وَاخْتِبَارٌ اسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّهِمَا، وَلَمْ يَسْتَعِذْ مِنْ عَيْنِهِمَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهُمَا قَدْ يَكُونَانِ خَيْرًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لِيَزْدَادَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» ، وَقَالَ ": «مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «ك اف ر يَقْرَأْهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ» ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقْرَأْهُ، وَالْكَافِرَ لَا يَعْلَمُهُ، فَيَفْتَتِنُ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبِعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ» فَاسْتَعَاذَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرِّهِ، وَذَكَرَ الْمَسِيحَ، وَعَرَّفَهُ بِقَوْلِهِ: الدَّجَّالُ؛ لِأَنَّهُمَا مَسِيحَانِ: مَسِيحٌ هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَحَبِيبُهُ، وَمَسِيحٌ هُوَ عَدُوُّ اللَّهِ وَبَغِيضُهُ وَلَعِينُهُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُونَ لِلدَّجَّالِ: الْمِسِّيحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ شَيْئًا، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُمْ تَقْيِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيحُ بِذِكْرِ الدَّجَّالِ , [ص: 231] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنِ الرَّاحَةِ وَالرَّوْحِ وَطِيبِ الْعَيْشِ بِالْبَرَدِ، وَعَنْ ضِدِّهِ بِالْحَرِّ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لِلرَّوْحِ وَالرَّوْحَةِ: قُرَّةُ الْعَيْنِ، وَلِلْغَمِّ وَالْحُزْنِ: سُخْنَةٌ الْعَيْنِ وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، وَعَفْوَكَ، وَبرْدَ الْعَيْشِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، ح يَحْيَى، ح الْخَيَّاطُ، ح حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءٍ طَوِيلٍ فِيهِ: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَغَسْلَ الْخَطَايَا وَتَمْحِيصَهَا وَكَفَّارَتِهَا» وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْمِحَنِ وَالْبَلَايَا فِي الدُّنْيَا، وَيَكُونُ بِالشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ، وَيَكُونُ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَفِّرْ خَطَايَايَ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَوْ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْعَفْوِ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَالْبَرَدُ هُوَ الرَّوْحُ وَالْمَحْبُوبُ، وَتَكْفِيرُ الْخَطَايَا بِالْعَفْوِ رَوْحٌ وَرَاحَةٌ وَمَحْبُوبٌ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ» فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ تُؤَيِّدُ صَاحِبَتَهَا. وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِيهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ» أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ بِهَا، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» أَنَّهُ أَرَادَ تَكْفِيرَهَا بِالْعَفْوِ وَالْفَضْلِ وَالتَّجَاوُزِ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ وَشِدَّةٍ مِنْ حَرَازَةِ مِحَنِ الْمَكَانِ فِي الدُّنْيَا، وَوَهَجِ النَّارِ فِي الْعُقْبَى. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الدَّنَسِ، وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا بِلَوْنٍ آخَرَ دُونَ الْبَيَاضِ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ فِيهِ الْأَثَرُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا» أَيْ: أَذْهِبْ أَثَرَهَا وَمُرَادَهَا وَشَهَوَاتِهَا عَنْ قَلْبِي بَعْدَ تَكْفِيرِهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا قي قَلْبِي أَثَرٌ مِنْ لَذَّةِ تِلْكَ الْخَطَايَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْخَطَايَا مَكْفُورَةً بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ، فَإِنَّهَا إِذًا ذَهَبَتْ شَهْوَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَذَّتُهُ مِنَ الْقَلْبِ، كَأَنْ قُمْنَا [ص: 232] لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، فَيَقُولُ: أَذْهِبْ لَذَّةَ الذُّنُوبِ وَشَهْوَةَ الْخَطَايَا الْمَكْفُورَةِ مِنْ قَلْبِي، كَمَا أَذْهَبْتَ آثَارَ الدَّنَسِ مِنَ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ إِذَا غُسِلَ، فَلَا أَعُودُ إِلَيْهَا آخِرَ الْأَبَدِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لِلثُّبُوتِ أَفْعَالُنَا، وَذَهَابُ الدَّنَسِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنَ الْغَسْلِ نَسَبُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: «كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَيْ: كَمَا لَا يَلْتَقِي الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَلَا يَجْتَمِعَانِ، كَذَلِكَ لَا أَجْتَمِعُ مَعَ خَطَايَايَ، وَلَا يَكُونُ لِي مَعَهَا الْتِقَاءٌ بِمَعْنَى الْعَوْدِ إِلَيْهَا أَبَدًا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ» الْكَسَلُ: فُتُورٌ فِي الْإِنْسَانِ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّ الْفُتُورَ إِذَا كَانَ فِي الْفُضُولِ وَمَا لَا يَنْبَغِي فَلَيْسَ بِكَسَلٍ، بَلْ هُوَ عِصْمَةٌ، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَاجِبَاتِ فَهُوَ كَسَلٌ، وَهُوَ الثِّقَلُ، وَالْفُتُورُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ، وَهُوَ الْخِذْلَانُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] ، وَعَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّثَاقُلِ عَنِ الْوَاجِبِ، وَالْفُتُورِ فِيهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] الْآَيَةَ. وَالْهَرَمُ: فُتُورٌ مِنْ ضِعْفٍ يَحِلُّ بِالْإِنْسَانِ، فَلَا يَكُونُ بِهِ نُهُوضٌ، فَفُتُورُ الْهَرَمِ فُتُورُ عَجْزٍ، وَفُتُورُ الْكَسَلِ فُتُورُ تَثْبِيطٍ وَتَأْخِيرٍ، فَاسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفُتُورِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِ الْحَقِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، مِنْ جِهَةِ عَجْزِ ضَرُورَةٍ وَحِرْمَانٍ مِنْهَا مَعَ الْإِمْكَانِ. وَالْمَأْثَمُ: تَضْيِيعُ حُقُوقِ اللَّهِ، وَالْمَغْرَمُ: تَضْيِيعُ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَاسْتَعَاذَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْثَمُ إِتْيَانَ الْمَنَاهِي، وَالْمَغْرَمُ تَرْكَ الْأَوَامِرِ؛ فَإِنَّ الْغَرَامَةَ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ فِي تَضْيِيعِ مَا اسْتُرْعِيَ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِنَوَاهِيهِ مُضَيِّعًا لَأَمْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قَالَ: ح بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ: ح أَبُو قِلَابَةَ وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ح سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ الْأَوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، فَتَابَ وَآبَ، وَأَنَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الرُّجُوعُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آَيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] وَقَالَ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] ، غَيْرَ أَنْ تَحْتَ كُلِّ لَفْظَةٍ خَاصِّيَةً وَزِيَادَةَ فَائِدَةٍ، فَأَكْثَرُ مَا جَاءَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوَا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] ، أَيْ: رَجَعُوا مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إِلَى قَوْلِهِ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] ، إِلَى قَوْلِهِ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم: 60] ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ. وَالْأَوْبَةُ فَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْفِعْلِ الْمَرْضِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ، وَقَالَ {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] [ص: 234] وَالْإِنَابَةُ رُجُوعُ الْقَلْبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] ، مَجَازِي ارْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ بِبَوَاطِنِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ وَاسْتَسْلِمُوا لِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ بِظَوَاهِرِكُمْ وَأَفْعَالِكِمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] اسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ وَخَضَعَ بِأَرْكَانِهِ، وَأَنَابَ بِجَنَانِهِ، فَالرَّاجِعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَوْصَافِهِ الذَّمِيمَةِ، وَأَفْعَالِهِ الْمُشِينَةِ ثَوَّابٌ، وَالرَّاجِعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ، وَأَفْعَالِهِ الْمَرْضِيَّةِ أَوَّابٌ، وَالرَّاجِعُ بِقَلْبِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَى رَبِّهِ مُنِيبٌ، هِجِّيرَي التَّوَّابِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَهِجِّيرَي الْأَوَّابِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهِجِّيرَي الْمُنِيبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ عَنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالِ الطَّاعَةِ، وَمِنَ الْمُخَالَفَةِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتُ فِيهَا مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَضْيِيعُ أَوَامِرِهِ وَارْتِكَابُ مَنَاهِيهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ، وَخَرْقُ أَعْرَاضِهِمْ وَالنِّدَمُ: هُوَ التَّلَهُّفُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ، وَالْحَسْرَةُ عَلَى مَا تَرَكَ وَتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ، فَمَنْ عَصَى فِي ارْتِكَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشَتَمَ أَعْرَاضَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنَاوَلَ مَا حَرَّمُ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَارِكًا لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ، فِيمَا ارْتَكَبَ مِنْ نَهْيِ رَبِّهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لِإِخْوَانِهِ فِيمَا اسْتَحَلَّ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 حَدَّثَنَاهُ عِصمَةُ بْنُ مَحْمُودٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ الْمَدَنِيُّ بِالْبَصْرَةِ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ الْأَزْهَرِ، عَنْ أَبَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اغْتَابَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَهُ، فَإِنَّهُ كَفَّارَتُهُ» [ص: 235] وَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَا لَمْ يَبْلُغِ الْمُغْتَابُ عَنْهُ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرْضِيَهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ تَائِبٌ صَادِقٌ مُخْلِصٌ، وَاللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَهُوَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَمَنْ عَصَى اللَّهُ فِي تَضْيِيعِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ فَرَائِضِهِ، وَظُلْمِ عِبَادِهِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَضَرْبِ أَبْشَارِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ نَادِمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ مُسْتَقْبِلًا أَدَاءَ فُرُوضِهِ، وَإِقَامَةَ أُمُورِهِ، بَاذِلًا مَجْهُودَهُ فِي قَضَاءِ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَإِرْضَاءِ عِبَادِ اللَّهِ، فَهُوَ تَائِبٌ مُخْلِصٌ صَادِقٌ، وَمَنِ اسْتَقْبَلَ فُرُوضَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ أُمُورِهِ، وَتَرَكَ ظُلْمَ عِبَادِهِ، وَلَمْ يَسْعَ فِي قَضَاءِ فَوَائِتِهِ، وَإِرْضَاءِ خُصُومِهِ، وَهُوَ مُمَكَّنٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِتَائِبٍ عِنْدَ عَامَّةِ مَنْ يَقُولُ بِالْإِحْبَاطِ، وَالْوَعِيدِ، وَلَا يَنْفَعُهُ مَا اسْتَقْبَلَ مِمَّا سَلَفَ، وَهُوَ تَائِبٌ فِيمَا اسْتَقْبَلَ، عَاصٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ إِرْضَاءِ الْخُصُومِ، وَقَضَاءِ الْفُرُوضِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الرَّاجِينَ، وَمَنْ يَفْعَلُ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ مِنَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا، وَآخَرَ سَيِّئًا، يُرْجَى لَهُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ فِي الْعُقْبَى، وَيَتُوبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] فَرَجَاءُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَنْهَاهُ عَمَّا تَقُولُ» ، فَرَجَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ، وَمَنْ لَمْ يُمَكَّنْ فِي قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَإِرْضَاءِ عِبَادِ اللَّهِ؛ لِزَمَانَةٍ أَوْ ضِيقِ وَقْتٍ، أَوْ عَدَمٍ، فَإِنَّ النَّدَمَ لَهُ - بِمُجَرَّدِهِ - تَوْبَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلَّا طَائِفَةً يَسِيرَةً، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِالْمَوْتِ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» [ص: 236] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِتَلَاوُمٍ فِيمَا فَاتَ، فَلَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، إِلَّا النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مُسْتَسْلِمًا، يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ تَابَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] إِلَى أَنْ قَالَ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 60] ، فَاسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى التَّائِبَ مِمَّا أَوْعَدَ، وَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يُبَدَّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، وَمَنْ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ قَبِلَهَا مِنْهُ، وَالْحَسَنَاتُ إِذَا قُبِلَتْ ضُوعِفَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِالْمَعَاصِي وَالْآثَامِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَإِنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ يُرْجَى لَهُ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ. أَمَّا الرَّجَاءُ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ بِفَضْلِهِ، فَإِنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ شَرَطَ مَشِيئَتَهُ فِي غُفْرَانِ مَا دُونَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: ح هُدْبَةُ يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا، فَهُوَ بِالْخِيَارِ» وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَيْهِ، فَلِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، أَنَّ قَوْمًا يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ النَّارَ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ غَيْرَهَا، وَأَنْ قَوْمًا يَتَهَافَتُونَ فِيهَا، حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا بِإِيمَانِهِمْ، وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ جَمَّةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ دَاوُدَ الْمَكِّيُّ أَبُو جَعْفَرٍ السُّلَمِيُّ قَالَ: ح حَسَّانٌ الْبَصْرِيُّ أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: ح أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ قَالَ: ح مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] ، إِلَى آخِرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قَالَ: ح مَحْمُودُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ السُّلَمِيُّ قَالَ: ح الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: شَيْخٌ زَانٍ، وَإِمَامٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مَزْهُوٌّ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ مِنْ بَيْنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي، وَمُوَاقِعِي الْمَنَاهِي بِإِعْرَاضِ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَحِرْمَانِهِ إِيَّاهُمْ رَحْمَتَهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِقِلَّةَ إِصْرَارِهِمْ فِي ارْتِكَابِ مَا ارْتَكَبُوهُ، وَإِتْيَانِ مَا أَتَوْهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ شَرَهًا فِيهِمْ، وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ، وَرَدَاءَةَ طَبْعٍ، إِنَّ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ، وَضَعْفِهِ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الشَّبَابِ، وَحَدَاثَةِ السِّنِّ، وَقُوَّةِ الطَّبْعِ، وَضَعْفِ الْعَقْلِ، وَرِقَّةِ الْحَالِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ أَسْبَابُ الْمَعْصِيَةِ قَوِيَّةً، وَأَسْبَابُ الْعِصْمَةِ دُونَهَا، فَيَتَغَلَّبُ الْعَبْدُ، فَيُوَاقِعُ الْمُنْتَهَى. وَأَمَّا الشَّيْخُ فَيَكُونُ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ هَذِهِ الْأَغْرَارُ، وَقَدْ تَمَّ عَقْلُهُ، وَقَوِيَتْ حَالُهُ، وَبَلَغَ عِلْمُهُ وَحِلْمُهُ [ص: 238] ، وَسَكَنَتْ حِدَّةُ شَهْوَتِهِ، وَضَعُفَتْ قُوَّةُ طِبَاعِهِ، وَقَوِيَتْ فِيهِ دَوَاعِي الْعَقْلِ، وَآلَاتُ الِامْتِنَاعِ، وَضَعُفَتْ آلَاتُ الْهَوَى، وَدَوَاعِي الشَّهَوَاتِ، فَارْتِكَابُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الزِّنَا، لَيْسَ إِلَّا بِسَبَبِ الِاسْتِخْفَافِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَرَدَاءَةِ الطَّبْعِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَانْطِمَاسِ نُورِ الْهُدَى، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى، فَيُجَازِيهِ فِي الْقِيَامَةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ الْحُسْنَى، فَيُعْرِضُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ كَإِعْرَاضِهِ الَّذِي كَانَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَوْ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ فِيمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ، يَخَافُ شَيْئًا مِمَّا يُحِبُّهُ أَنْ يَفُوتَهُ، أَوْ يَرْجُوهُ أَنْ يُصِيبَهُ، وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَحْجُزُهُ عَنْهُ، أَوْ يَمْنَعُهُ، أَعْنِي الْكَذِبَ، رَهْبَةً مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ رَغْبَةً فِيهِ، فَيَكْذِبُ لَهُ، وَالْإِمَامُ لَيْسَ فَوْقَهُ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يَرْجُوهُ، أَوْ يَخَافُهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي كَذِبِهِ، فَكَذِبُهُ لِسُوءِ طَبْعِهِ، وَرَدَاءَةِ حَالِهِ، وَاسْتِخَفَافِهِ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى حُدُودِهِ، فَيُجَازِيهِ رَبُّهُ يَوْمَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا عَلَى سُوءِ سِيرَتِهِ حِينَ مَلَّكَهُ اللَّهُ، وَمَكَّنَهُ مِنْ دَفْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهَا بِمَا خَوَّلَهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَآَتَاهُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَالزَّهْوُ هُوَ التَّرَفُّعُ وَالتَّكَبُّرُ وَالْإِزْرَاءُ مِمَّنْ دُونَهُ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِعِبَادِ اللَّهِ، وَدَوَاعِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ الِاسْتِغْنَاءُ، وَقِلَّةُ الْحَاجَةِ، وَالْإِمْكَانُ مِنْ بُلُوغِ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَنَيْلِ مَا يَشْتَهِيهِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِيهِ، وَخِدْمَتُهُمْ إِيَّاهُ، وَاسْتِكَانَتُهُمْ لَهُ، فَتَدْعُوهُ هَذِهِ الْأَسْبَابُ إِلَى نَظَرِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِعْجَابِهِ بِهَا، فَيَزْهُو، وَالْعَائِلُ هُوَ الْفَقِيرُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الدَّوَاعِي، وَلَا مَعَهُ هَذِهِ الْآلَاتُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي زَهْوِهِ، فَزَهْوُهُ، وَتَرَفُّعُهُ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ رَدَاءَةٌ فِيهِ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِاللَّهِ، وَمُنَازَعَةٌ مِنْهُ لِرَبِّهِ فِيمَا هُوَ لَهُ دُونَ خَلْقِهِ، فَيُعْرِضُ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ لَمْ يَرْحَمْهُ إِهَانَةً لَهُ جَزَاءً عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتِهَانَتِهِ بِحُقُوقِهِمْ. فَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ فِي قَبُولِ أَعْذَارِ الْعِبَادِ فِيمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ مِنَ ارْتِكَابِ مَنَاهِيهِ، وَإِتْيَانِ مَعَاصِيهِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ تَائِبِينَ، أَوْ وَرَدُوا عَلَى اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ ثَابِتِينَ، أَوْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِمْ إِيَّاهُمْ، وَتَزْيِينِ الْعَدُوِّ لَهُمْ، وَبَسْطِ الْأَمَلِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ رَجَاءَ الْمُدَّةِ فِي ذَلِكَ، وَدَلَالَةً عَلَى كَرَمِهِ فِي قَبُولِ أَعْذَارِهِمْ عِنْدَ ضَرُورَاتِهِمْ، وَحَاجَاتِهِمْ فِي نَيْلِ مَا إِلَيْهِ حَاجَاتُهُمْ، وَالْخَوْفِ مِنْ لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِمْ لِضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَجْزِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَنِ الْحَاجَةِ [ص: 239] . فَكَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَسَطَ عُذْرَهُمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ لَهُ، وَطَلَبِ الْعُذْرِ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَتَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: خَدَعَنِي فُلَانٌ، وَغَرَّنِي كَذَا، وَظَنَنْتُ كَذَا، وَرَجَوْتُ كَذَا، أَوْ خِفْتُ كَذَا، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ عَذَرْنَاكَ، وَقَبِلْنَاكَ، وَتَجَاوَزْنَا عَنْكَ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَوْ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْكِبَارِ، أَنَّهُ قَرَأَ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] قَالَ: غَرَّنِي عَفْوُكَ يَا سَيِّدِي. وَقَالَ آخَرُ: غَرَّتْنِي نَفْسِيَ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَخَدَعَنِي بِالْأَمَلِ الْعَدُوُّ. وَقَالَ آخَرُ: غَرَّنِي حِلْمُكَ عَنِّي. فَكُلُّ هَذِهِ أَعْذَارٌ لِلْمُؤْمِنينَ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ زَلَّاتِهِمْ، وَدِلَالَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَالَةِ عَثَرَاتِهِ، وَيُنْعِشُهُ عِنْدَ سَقَطَاتِهِ إِذَا عَلِقَ لَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ إِلَّا لِسَلَفِهِ اللَّئِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّابَّ الَّذِي يَغْلِبُهُ قُوَّةُ شَهْوَتِهِ، وَغَرَّتْهُ شَبَابُهُ، وَسُلْطَانُ الْهَوَى عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ أَتَى مَحْظُورًا، أَوِ ارْتَكَبَ نَهْيًا فِي حَالِ غَلَبَةِ الدَّوَاعِي لَهُ إِلَيْهِ، وَسُلْطَانِ الْهَوَى عَلَيْهِ أُعْذِرَ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ إِذَا سَكَنَتْ حِدَّتُهُ، وَضَعُفَ قُوَّتُهُ أَجْدَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَجَاوَزُ لَهُ، وَيَعْفُو لَهُ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ تَمَّتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا لَهُ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمَّرَهُ اللَّهُ سِتِّينَ سَنَةً، فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ الْآَمُلِيُّ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَمَّرَهُ اللَّهُ سِتِّينَ سَنَةً، فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ» فَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ مَنْ دُونَ ذَلِكَ فِي الْعُمُرِ يُتَجَاوَزُ لَهُ مَا لَا يُتَجَاوَزُهُ لِمَنْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجُو الْحَيَاةَ، وَيُضْمِرُ التَّوْبَةَ، فَإِذَا بَلَغَ الْعُمُرُ مُنْتَهَاهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ [ص: 240] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَهِلُّ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَشَرْحِ شَبَابِهِ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ النَّسَفِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: ح الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ الْحَارِثِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَكُ أَنْ أَرْفُقَ بِعَبْدِي فِي حَدَاثَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ تَحَقُّقًا، وَتَحَفُّظًا» دَلَّ ذَلِكَ بِأَنَّ قُوَّةَ الشَّبَابِ، وَغَلَبَةَ الشَّهَوَاتِ، وَسُلْطَانَ الْهَوَى أَغْلَبُ عَلَى الْعَبْدِ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ سَكَنَتْ حِدَّةُ شَبَابِهِ، وَفَتَرَتْ شَهْوَتُهُ، وَتَمَّ عَقْلُهُ، وَجَاءَهُ النَّذِيرُ الَّذِي هُوَ الشَّيْبُ، فَإِذَا خَلَعَ عِذَارَهُ، وَرَفَضَ إِنْذَارَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ، أَوْ يَتَفَضَّلَ بِعُذْرٍ، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَمِنْهُ التَّوْفِيقُ لِمَا يُحِبُّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَهُ الْمَشِيئَةُ فِي غُفْرَانِ الْكَبَائِرِ، وَالتَّجَاوُزِ عَنِ الْمُعْذَرِينَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ فَضْلًا مِنْهُ، وَكَرَمًا، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الصَّغَائِرِ مَنِ اغْتَرَّ بِشَبَابِهِ، وَتَبِعَ شَهْوَتَهُ فِي حَدَاثَتِهِ عَدْلًا مِنْهُ، سُبْحَانَهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْزُبَانِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ [ص: 241] فِي الْإِنَاءِ، فَاغْمِسُوهُ كُلَّهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَأَنَّهُ يَبْدَأُ بِالَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» [ص: 242] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فِتْنَةِ هَذَا الدَّاءِ، وَالشِّفَاءِ عَلَى مَعْنَى الطِّبِ الرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ، وَمَعْنَاهُ إِصْلَاحُ الْأَخْلَاقِ، وَتَقْوِيمُ الطِّبَاعِ، وَتَهْذِيبُ الْعَادَاتِ وَالسَّجِيَّاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفَاسِدَةِ مِنْهَا، وَتَرْبِيَةِ الصَّالِحَةِ مِنْهَا، وَإِصْلَاحِ مَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهَا إِذْ دَاءُ الْأَخْلَاقِ، وَسَقَمُ الْعَادَاتِ يَضُرُّ بِالْأَدْيَانِ، وَدَاءُ الْأَجْسَامِ يَضُرُّ بِالْأَبْدَانِ، وَسَقَمُ الْأَبْدَانِ تَكْفِيرُ الْخَطِيئَاتِ، وَسَقَمُ الْأَخْلَاقِ يُورِثُ الْبَلِيَّاتِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الدَّاءِ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ الْكِبْرَ، وَالتَّرَفُّعَ مِنَ اسْتِبَاحَةِ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَأَحَلَّتْهُ السُّنَّةُ، فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ أَبَاحَتْ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْهَوَامِّ مِمَّا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، وَوَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ» ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَعْذَرَ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ جِهَةِ التَّرَفُّعِ عَنْهَا، وَالتَّكَبُّرِ فِيهَا، كَانَ فِي ذَلِكَ فَسَادٌ لِدِينِهِ عَظِيمٌ، وَتَعَزُّزٌ لِنَفْسِهِ، وَرُبَّمَا رَمَى بِذَلِكَ الطَّعَامِ، أَوْ أَهْرَاقَ ذَلِكَ الشَّرَابَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الذُّبَابُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالتَّرَفُّعِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِضَاعَةِ نِعَمِ اللَّهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغْمَسَ الذُّبَابُ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ لِيُذْهِبَ عَنْ نَفْسِهِ تَرَفُّعَهَا، وَيَقْتُلَ فِيهَا كِبْرَهَا، فَيَكُونَ فِي أَوَّلِ وُقُوعِهَا تَعَزُّزُ النَّفْسِ لَهَا، وَالتَّكَرُّهُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ وَالْكِبْرِ، لَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الَّذِي يُوَلِّدُ الْإِنْسَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالتَّرَفُّعِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِضَاعَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَإِذَا غَمَسَهُ أُكْرِهَ مَا اسْتَبَاحَهُ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَاسْتَطَابَتْ مَا أَذِنَتْ فِيهِ السُّنَّةُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ قَهْرًا لِلنَّفَسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَحِفْظًا لِلدِّينِ مِنْ لَوَاحِقِ مَا يَكَادُ يُدَنِّسُهُ مِنْ تَعَذُّرِ النَّفْسِ وَالْكِبْرِ الَّذِي هُوَ مُنَازَعَةُ اللَّهِ فِي صِفَتِهِ، وَالتَّعْظِيمُ عَنِ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ، كَمَا تَكُونُ بَعْضُ الْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ نَقْضًا لِلْأَبْدَانِ عَمَّا يَجْمَعُ فِيهَا اللَّهُ مِنْ فُضُولِ الْأَغْذِيَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُورِثُ سَقَمَ الْأَبْدَانِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا [ص: 243] مَا يُعْلَمُ، وَمِنْهَا مَا يُجْهَلُ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ بِالذُّبَابِ وَالْبَعُوضَةِ مَثَلًا، وَالْعَنَكْبَوُتِ وَالنَّمْلِ، فَقَالَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مَا قَالُوا اسْتِخْفَافًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَجَهْلًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] . وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ السَّمَّاكِ دَخَلَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الذُّبَابِ، وَلِمَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: خَلَقَهُ لِيُذِلَّ بِهِ الْجَبَابِرَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ لَا يُفْسِدُوا الطَّعَامَ، وَلَا يُضِيُّعُوهُ، وَلَا يَرْمُوا بِهِ تَنَجُّسًا لَهُ، وَاسْتِقْذَارًا لِلذُّبَابِ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا طَيَّبَ بِهِ نُفُوسَهُمْ مِنْ تَعَذُّرِ مَا لَيْسَ بِنَجَسٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ النُّفُوسَ تَأْبَاهُ، وَالطَّبَائِعَ تَعَافُهُ، فَقَيَّدَهُ بِمَا طَيَّبَ بِهِ نُفُوسَهُمْ مِنْ رَجَاءِ السَّلَامَةِ، وَخَوْفِ الْعَطَبِ، فَخَوَّفَهُمُ الدَّاءُ فِي أَبْدَانِهِمْ أَنْ يَرْمُوا بِهِ قَبْلَ الْغَمْسِ، وَرَجَاؤُهُمُ الشِّفَاءَ فِي غَمْسِهِ، وَلَوْ أَمَرَ بِرَمْيِهِ قَبْلَ الْغَمْسِ، عَسَى لَمْ يَنْقَدْ لَهُ بَعْضُ مَنْ فِيهِ عِزَّةُ نَفْسٍ، وَتَرَفُّعٌ، وَتَكَبُّرٌ، فَكَانَ يَرْمِي بِالطَّعَامِ، فَأَمَرَ بِغَمْسِهِ، وَرُجِيَ فِيهِ الشِّفَاءُ لِيُصَانَ الطَّعَامُ، وَتُقَامَ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَاءٌ يَضُرُّ بِالْأَبْدَانِ، وَشِفَاءٌ لِلدَّاءِ الَّذِي فِيهِ عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْلَمَنَا، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَائِيَّتَهُ، وَذَلِكَ الدَّوَاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ فَتْحٍ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ، قَالَ: سَالِمٌ رَوَى عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» [ص: 244] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «لَا يَأْكُلْ طَعَامُكَ إِلَّا تَقِيٌّ» ، يُرِيدُ بِهِ الْمُوَاكَلَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْأُلْفَةَ، وَتُؤَدِّي إِلَى الْخِلْطَةِ، فَإِنَّ الْمُوَاكَلَةَ أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ، وَأَحْكَمُ دَوَاعِي الْخِلْطَةِ، وَأَوْثَقُ عُرَى الْمُدَاخَلَةِ، وَالِاسْتِئْنَاسِ، وَمُخَالَطَةُ مَنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ، وَالِاسْتِئْنَاسُ بِهِ وَالْأُلْفَةُ مَعَهُ تَغُرُّ الْإِنْسَانَ، وَتُخِلُّ بِالدِّينِ، وَتُذْهِبُ الْمُرُوءَةَ، وَتُوقِعُ فِي الشُّبُهَاتِ، وَتُؤَدِّي إِلَى تَنَاوَلِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ مُخَالَطَةَ الْأَشْرَارِ، وَنَهَى عَنْ مُصَاحَبَةِ الْفُجَّارِ؛ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الْفَاجِرِ لَا تَخْلُو مِنْ فَسَادٍ يَلْحَقُكَ مِنْهُ، إِلَّا مُتَابَعَةً لَهُ فِيمَا يَأْتِيهِ، فَيَذْهَبُ الدِّينُ. وَإِمَّا مُسَامَحَةً فِي الْأَعْضَاءِ عَمَّا يُوجِبُهُ حَقُّ اللَّهِ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَإِمَّا اسْتِخْفَافًا بِفُجُورِهِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى الشَيْءَ كَثِيرًا، سَهُلَ ذَلِكَ فِي عَيْنِهِ، وَصَغُرَ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَإِنْ سَلِمَ الْإِنْسَانُ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَيُخْطِئُهُ فِتْنَةُ الْغَيْرِ بِهِ. الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا» ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ عَهْدًا، وَقَوْلًا لَكَ بِصَاحِبٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا مَنْ تَرَكَ آدَابَ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِطَهُ صَاحِبًا لَكَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا عِشْرَةً تُعَاشِرُهُ عَلَى شَرْطِ النَّصِيحَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ عُقْدَةُ الْإِيمَانِ فِي تَحَرُّزٍ مِنْ آفَةٍ تَلْحَقُ الدِّينَ، أَوْ تَقْدَحُ فِيٍ الْمُرُوءَةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى حِرْمَانِ ذَلِكَ - إِطْعَامًا وَمُنَاوَلَةً - مَنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ، فَقَدْ أَطْعَمَ النَّبِيُّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبِهِمُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْأُلُوفَ مِنَ الشِّيَاهِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يَصْنَعُ إِلَى الْبَرِّ، وَالْفَاجِرِ، وَيَأْمُرُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعِ الْمَعْرُوفَ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بِأَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَكُنْ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ» [ص: 245] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: «لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُوَاكَلَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَالْخُلَّةَ، وَكَيْفَ يَنْهَى عَنْ إِطْعَامِ مِنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] فِي الْأَسِيرِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُشْرِكٌ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَطْعَمَ مَنْ كَانَ فِي جُمْلَةِ الْمِسْكِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ التَّحَرِّيَ، وَالْقَصْدَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَتَحَرَّيَنَّ بِإِطْعَامِكَ إِلَّا التَّقِيَّ، وَلَا تَقْصِدَنَّ بِهِ إِلَّا الْبَرَّ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَالشُّكْرِ لَهُ، فَتَكُونَ مُعَاوِنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، فَيَقُولُ: لَا تَقْصِدَنَّ بِإِطْعَامِكَ الْفَاجِرَ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى فُجُورِهِ وَآثَامِهِ، فَتَكُونَ مُعَاوِنًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَمَنْ تَحَرَّى فِي إِطْعَامِهِ، وَطَلَبَ لَهُ، وَاخْتَارَ، فَلْيَقْصِدْ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمَنْ بَذَلَ طَعَامَهُ، وَتَسَخَّى فِي إِطْعَامِهِ، فَلْيَدَعِ التَّحَيُّرَ، وَلْيُطْعِمْهُ مَنْ قَصَدَهُ، وَلَا يَحْرِمْهُ مَنْ أَتَاهُ قَالَ الشَّيْخُ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا، يَقُولُ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاصِلٍ يَبْنِي رِبَاطَهُ يَتَنَاوَبُ مِنْ ثَغْرٍ اسْتِحْبَابًا، وَكَانَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُهُ، وَهُوَ يُقَاتِلُهُمْ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَبَسَطَ سُفْرَتَهُ لِلْإِطْعَامِ لَمْ يَمْنَعْ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يُطْعِمُهُمْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ سُئِلْتُ عَنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: مِنْكَ أَخَذْتُ، وَبِأَمْرِكَ ائْتَمَرْتُ، وَمِنْكَ تَعَلَّمْتُ، فَأَطْعَمْتُ مَنْ أَطْعَمْتَ، وَقَاتَلْتُ مَنْ أَمَرْتَ. وَقِيلَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَكِيمِ: تَخَيَّرْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِجْرَاءِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأَسْقِطْ مَنْ لَا يَصْلُحُ مِنْهُمْ، فَأَجْرَى لِكُلِّ مَنْ فِي الرِّبَاطِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهِ مَنْ لَا يُسَوِّي مِنْ خَيْرٍ , هَذَا عِنْدَ الْبَذْلِ، وَالسَّخَاءِ، وَذَاكَ عِنْدَ التَّحَرِّي، وَالدُّعَاءِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَاللَّهُ يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلَا عَدْلٌ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُتَوَلِّي بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ رَغْبَةً عَنْ مَوَالِيهِ، وَمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ كَافِرٌ لِلنِّعْمَةِ، جَاحِدٌ لِلْحَقِّ ظَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْوَلَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَسَتَرَ نِعْمَةَ مُنْعِمِهِ، وَمَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ عِبَادِ اللَّهِ، فَهُوَ لِكُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ أَجْدَرُ، وَكَافِرُ النِّعْمَةِ، وَمُولِي الشُّكْرِ غَيْرَ مُنْعِمِهِ ظَالِمٌ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] . فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّعْنَةُ هَا هُنَا الْعَذَابَ، وَالْهَوَانَ، وَالْخِزْيَ فِي الْكُفَّارِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ دُخُولَ النَّارِ لِلتَّأْدِيبِ دُونَ اللَّعْنَةِ الَّتِي هِيَ الطَّرْدُ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ، فَهُوَ الطَّرْدُ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ إِبْعَادُهُمْ إِيَّاهُ عَنِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهُ مِنَ اسْتِغْفَارِ اللَّهِ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ يَسْتَغْفِرُونَ لِلتَّائِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانُوا فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ تَرْكَهُمُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ. وَأَمَّا الصَّرْفُ، وَالْعَدْلُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الصَّرْفُ هُوَ الْفَرِيضَةُ، وَالْعَدْلُ هُوَ التَّطَوُّعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الصَّرْفُ التَّطَوُّعُ، وَالْعَدْلُ الْفَرِيضَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الصَّرْفُ التَّوْبَةُ، وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ. فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْفِدْيَةِ، فَهُوَ مَعْنَاهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: لَا يَقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَةً فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فِدْيَةً، أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُ فِدْيَةٌ، لَا يَجِدُ فِدْيَةً يَفْدِي بِهَا نَفْسَهُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] ، أَيْ: لَا يَشْفَعُ لَهَا شَافِعٌ، ثُمَّ لَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَتُهُ [ص: 247] كَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِدْيَةٌ» ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ مَا يَفْدِي بِهِ نَفْسَهُ، وَتَوْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ، فَأَمَّا التَّوْبَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا، وَيَمْحْو اللَّهُ تَعَالَى السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ، وَمَنْ قُبِلَتْ حَسَنَتُهُ فَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَبِهِ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّوْبَةَ وَالْفِدْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذَنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ، وَلَا عَدْلٌ» ، وَمَنْ حَمَلَ مَعْنَى الصَّرْفِ، وَالْعَدْلِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَالتَّطَوُّعِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ، أَنْ لَا يَقْبَلَ فَرِيضَةً قَبُولَ رِضَاءٍ، وَتَزْكِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَقْبَلُ جَزَاءً وَثَوَابًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ عِبَادَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَكَيْفَ لَا يَقْبَلُ فَرِيضَةَ مَنْ أَدَّاهَا بِشَرَائِطِهَا عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِنْ شَاءَ، وَيُثِيبَهُ عَلَى أَدَاءِ فَرِيضَتِهِ، لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ عَاقَبَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَمْ يُثِبْهُ عَلَى طَاعَتِهِ، لَكَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ عَبْدِهِ غَيْرَ مُوَفِّيهِ حَقَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِاللَّهِ وَكَرَمِهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَدَّعِيهِ مَنْ يَقُولُ بِالْإِحْبَاطِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] ، مَعْنًى؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ هَذِهِ أَحْبَطَتْهَا السَّيِّئَاتُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا السَّيِّئَاتُ، فَإِنَّ أَوَّلُوا السَّيِّئَاتِ بِالصَّغَائِرِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَسْتَقِمْ؛ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ مَغْفُورَةٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَالْمَغْفُورَةُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُثْبَتَةً إِذًا، فَصَاحِبُ الْكَبَائِرِ لَا طَاعَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ طَاعَتَهُمْ، وَمُجْتَنِبُ الْكَبَائِرِ لَا مَعْصِيَةَ لَهُ، وَلَا ذَنْبَ؛ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ مَغْفُورَةٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَمَنْ هَذَا الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا، وَآخَرَ سَيِّئًا؟ وَقَوْلُهُمْ بِالْإِحْبَاطِ يَنْفِي الْكَاتِبَيْنِ، وَيَنْفِي الْوَزْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْفِي الْحِسَابَ، وَآيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ يُبْطِلُهَا قَوْلُهُمْ، لِأَنَّ الْكَاتِبَيْنِ أَحَدَهُمَا يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالْآخَرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا جَاءَتْ، وَالْوَزْنُ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَسَنَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِالْحَسَنَاتِ نَجَا، وَمَنْ ثَقُلَتْ بِالسَّيِّئَاتِ، وَخَفَّتْ بِالْحَسَنَاتِ هَلَكَ، فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِلْعَبْدِ حَسَنَاتٌ، وَسَيِّئَاتٌ فَمَا مَعْنَى الْوَزْنِ؟ وَمَا الَّذِي يُوزَنُ؟ وَمَنِ الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ، وَسِيِّئَاتُهُ، فَصَارَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ وَالْأَخْبَارُ فِي الْوَزْنِ، وَأَنَّهُ مِيزَانٌ، وَلَهُ كَفَّتَانِ، يُوضَعُ فِي إِحْدَيْهِمَا الْحَسَنَاتُ، وَفِي الْأُخْرَى السَّيِّئَاتُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُبْطِلُهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ [ص: 248] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] ، مَعْنَاهُ عِنْدَنَا: أَيْ لَا تُثَابُونَ عَلَى مُحَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُسَاءَلَتِهِ، وَالِاسْتِرْشَادِ مِنْهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، وَالتَّعَلُّمِ مِنْهُ بِالْمُخَاطَبَةِ لَهُ إِذَا رَفَعْتُمْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ الْمُسَاءَلَةِ، وَالِاسْتِرْشَادِ مِنْهُ لَأُثِيبُوا عَلَى ذَلِكَ ثَوَابًا كَبِيرًا، وَأُعْطُوا عَلَيْهِ أَجْرًا عَظِيمًا، فَكَأَنَّهُمْ أَحْبَطُوا أُجُورَهُمْ، وَخَسِرُوا ثَوَابَهُمْ، وَأَبْطَلُوا أَعْمَالَهُمْ بِرَفْعِهِمْ أَصْوَاتَهُمْ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُحْبِطْ ذَلِكَ سَائِرَ أَعْمَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] ، فِيهَا أَيْ: لَا تُفَوِّتُوا أَنْفُسَكُمْ ثَوَابَهَا، وَلَا تَذْهَبُوا بِأُجُورِكُمْ عَلَى الصَّدَقَاتِ بِالْمَنِّ بِهَا، وَالْأَذَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا غُفْرَانُ السَّيِّئَاتِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ الشِّرْكَ، فَيَكُونُ مَا دُونَ الشِّرْكِ، يَجُوزُ غُفْرَانُهَا، وَيَجُوزُ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، ثُمَّ يَتُوبُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ، وَإِيمَانِهِمْ ثَوَابًا دَائِمًا، وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: (إِنْ يَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الشِّرْكَ، وَالْكُفْرَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فَيَكُونُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مَغْفُورًا إِمَّا بِالْمَشِيئَةِ، وَإِمَّا بِالشَّفَاعَةِ، وَإِمَّا بِدُخُولِ النَّارِ إِلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ الْجَنَّةِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ، وَالثَّوَابُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ عَلَى قَدْرِهَا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَبَائِرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكُفْرَ، وَالشِّرْكَ أَنْوَاعٌ: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمَجُوسِيَّةُ، وَالْقَوْلُ بِالدَّهْرِ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالتَّخْمِيسُ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَكُلُّهَا كَبَائِرُ، وَكُلُّهَا شِرْكٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] ، الشِّرْكَ، وَيَكُونَ مَعْنَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى وِفَاقِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ عَلَى الْجَمْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء: 31] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَ الْكَبَائِرَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَبِيرَةَ كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا جُمِعَتْ إِلَى كَبِيرَةِ صَاحِبِهِ صَارَتْ كَبَائِرَ، وَإِنْ كَانَ الشِّرْكُ كُلُّهُ عَمَلًا وَاحِدًا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ فَرِيضَةً، وَلَا نَافِلَةً» نَفْيَهُ، بَلْ يَقْبَلُ فَرَائِضَهُ، وَنَوَافِلَهُ قَبُولَ ثَوَابٍ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ قَبُولَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِهَا [ص: 249] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ، أَيْ: لَا يَقْبَلُ فَرَائِضَهُ قَبُولًا يُكَفِّرُ بِهَا هَذِهِ السَّيِّئَةَ الَّتِي هِيَ التَّوَلِّي بِغَيْرِ مَوَالِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَوَاتُهُ مُكَفِّرَةً لِغَيْرِهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ مُعْتَمَلٌ بَيْنَ مَنْزِلِهِ، وَبَيْنَ مُعْتَمَلِهِ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ، فَإِذَا انْطَلَقَ إِلَى مُعْتَمَلِهِ عَمِلَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَصَابَهُ الْوَسَخُ، وَالْعَرَقُ، فَكُلَّمَا مَرَّ بِنَهَرٍ اغْتَسَلَ مَا يُبْقِي ذَلِكَ مِنْ دَرَنِهِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا عَمِلَ خَطِيئَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاةً، فَدَعَا، وَاسْتَغْفَرَ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ أَبُو زَكَرِيَّا الْعَلَّافُ بِمِصْرَ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَيْظٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَدْ َقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فَرِيضَةً» ، أَيْ: لَا يَقْبَلُهَا قَبُولًا يُكَفِّرُ بِهَا هَذَا الذَّنْبَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: صَلَوَاتُهُ، وَفَرَائِضُهُ، لَا يُكَفِّرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا هَذِهِ الْخَطِيئَةَ، وَإِنْ كَانَ يُكَفِّرُ بِهَا مَا شَاءَ مِنَ الْخَطَايَا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «الصَّلَوَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، فَكَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فِي كَفَّارَةِ هَذَا الذَّنْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ مِنَ الْقَبُولِ فِي هَذَا الذَّنْبِ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمَعْنَى الْكَبَائِرِ عِنْدَنَا أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبًا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، كَأَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ هُوَ ذَنْبٌ، وَلَيْسَ كَشَتْمِ مُسْلِمٍ [ص: 250] ، وَشَتْمُ الْمُسْلِمِ خَطِيئَةٌ، وَلَيْسَ كَأَخْذِ مَالِهِ، وَأَخْذُ مَالِهِ ذَنْبٌ، وَلَيْسَ كَسَفْكِ دَمِهِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ مِنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ أَكْبَرُ مِنْ صَاحِبَتِهَا، وَصَاحِبَتُهَا أَصْغَرُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ مِنْ جِهَةَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَكُلُّهَا مَا دُونَ الشِّرْكِ صَغَائِرَ فِي جَوَازِ غُفْرَانِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الذَّنْبُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَلَا يَمْحُوهَا، فَيُبَدَّلُ بِهَا حَسَنَاتٍ، بَلْ لَا يُكَفِّرُهَا، وَلَا يَمْحُوهَا مِنْ دِيوَانِهِ الْفَرَائِضُ إِلَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ وَافَى الْقِيَامَةَ، وَهِيَ مُثْبَتَةٌ فِي دِيوَانِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَغْفِرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونُ مَشِيئَتِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، أَوْ يَغْفِرَهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ، أَوْ يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَيُطَهَّرَ بِهَا، ثُمَّ يُخْرِجَهُ إِلَى رَحْمَتِهِ، فَيُدْخِلَهُ جَنَّتَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَإِيمَانِهِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قَالَ: ح حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح صَفْوَانُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ التَّيْمِيُّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِذَا شَغَلَ عَبْدِي ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا شَغَلَ عَبْدِي ذِكْرُهُ لِي، وَثَناؤُهُ عَلَيَّ، وَتَنْزِيهُهُ لِي عَنْ أَنْ يَسْأَلَنِيَ حَوَائِجَهُ الْتِذَاذًا بِذِكْرِي، وَأُنْسًا بِي، حَتَّى يَنْسِبَ مَا يَتَرَآَى لَهُ فِي ذِكْرِهِ لي مِنْ تَوْفِيقِي إِيَّاهُ عَلَى ذِكْرِهِ لِي، وَتَيْسِيرِي لَهُ الذِّكْرَ لِي، وَإِطْلَاقِي لِسَانَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيَّ، وَشَرْحِي صَدْرَهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ، وَطَمْأَنِينَةِ قَلْبِهِ بِالذِّكْرِ، وَإِشْهَادِي فُؤَادَهُ، حَتَّى [ص: 251] كَأَنَّهُ يَرَانِي، نَسِيَ الْعَبْدُ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسَهُ، وَدُنْيَاهُ، فَأَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ، وَرَفَضَ دُنْيَاهُ، وَشُغِلَ عَمَّنْ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ أَنْ يَنْسَى الذَّاكِرُ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قِيلَ: إِذَا نَسِيتَ مَا سِوَى اللَّهِ بَعْدَ ذِكْرِكَ اللَّهَ تَعَالَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا نَسِيتَ مَا سِوَى اللَّهِ، فَقَدْ ذَكَرْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَزْهَرِ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، بِبَغْدَادَ، ح أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، ح يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ح رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ قَالَ: «سِيرُوا سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» [ص: 252] فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّاكِرُ هُوَ الْمُفْرِدُ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَذَاكِرُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ لَا يَذْكُرُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ، وَحَوَائِجَهُ غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَزَّازُ: بَيْنَا أَنَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، قَطَعَنِي قُرْبُ اللَّهِ عَنِ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَازَعَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أَسْأَلَ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ: أَبَعْدَ وُجُودِ اللَّهِ تَسْأَلُ اللَّهَ غَيْرَ اللَّهِ. فَمَنْ شُغِلَ عَنْهَا بِشُهُودِ اللَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَصَرَفَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَأَدْنَاهُ مِنْهُ، فَكَانَ جَلِيسَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» ، وَرَفَعَ الْحُجُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَكَانَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَأَحَلَّهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ يَقْبَلُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ نَاضِرٍ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهِ نَاظِرٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَوْلَا رَبٌّ رَحِيمٌ، وَيُجِيبُهُ إِلَيْهِ بَرٌّ كَرِيمٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي» أَيْ: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرُ اللَّهِ لَهُ، مَعْنَاهُ مَنْ شَغَلَهُ شُهُودُهُ ذِكْرَ اللَّهِ لَهُ قَبْلَ إِيجَادِهِ إِيَّاهُ، وَخَلْقِهِ لَهُ، فَجَعَلَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ، الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ مِنْ صُلْبٍ إِلَى رَحِمٍ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ أُمَّةٍ هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فِيمَنْ يَأْتِيهَا أَنْبِيَائُهُ وَرُسُلُهُ، ثُمَّ أَلْهَمَهُ ذِكْرَهُ، وَعَلَّمَهُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَهُ كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَجَعَلَهُ مِنْ أُولِي النُّهَى، فَكَانَ مَذْكُورَهُ بِالِاخْتِبَاءِ حِينَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، فَقَامَ لَهُ بِحَوَائِجِهِ قَبْلَ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، فَأَعْطَاهُ مَصَالِحَهُ قَبْلَ هِدَايَتِهِ لَهَا، وَأَعْطَاهُ قَبْلَ سُؤَالِهِ أَجْزَلَ الْعَطَايَا، وَوَهَبَ لَهُ أَنْفَسَ الرَّغَائِبِ وَأَحْسَنَ الْهَدَايَا، وَتَكَفَّلَ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ بِهِ وَسَيِّدِهِ إِلَيْهِ اسْتَغْرَقَ فِي بَحْرِ مِنَنِهِ، فَشَغَلَهُ عَنْ سُؤَالِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِعِلْمِهِ بِحَالِهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ ثِقَةً بِهِ وَمَعْرِفَةً بِنَظَرِهِ لَهُ، فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مَا يُعْطِي السَّائِلِينَ، وَيَخْتَارُ لَهُ فِي حِينِ وُجُودِهِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ، كَمَا اخْتَارَ لَهُ فِي عَدَمٍ مَا هُوَ أَرْفَعُ لَهُ وَأَزْيَنُ بِهِ، فَهُوَ يُعْطِيهِ عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّائِلُونَ يَسْأَلُونَ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِمَمُ الْعَبْدِ لَا يُجَاوِزُ قَدْرَهُ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَاللَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ. وَالذَّاكِرُونَ عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ: فَذَاكِرٌ بِلِسَانِهِ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتكبيرا وَتَمْجِيدًا، يَدْعُوهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الْعُلَى، انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِنُورِهِ، وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِذِكْرِهِ، وَشَهِدَ مَذْكُورَهُ بِسِرِّهِ، فَذِكْرُهُ لَهُ أَنِيسٌ، وَهُوَ لِرَبِّهِ جَلِيسٌ، تَلَذَّذَ بِذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَيَسْتَغْنِي عَنْ سُؤَالِهِ، وَالطَّلَبِ إِلَيْهِ [ص: 253] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قَدْرًا فِي الْقَلْبِ الذَّاكِرِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ مِنْهُ إِلَى حُظُوظِ نَفْسِهِ وَسُؤَالِ حَاجَاتِهِ، فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مَا يُعْطِي السَّائِلِينَ إِلَى مَا وَعَدَ لَهُمْ، إِذِ السَّائِلُونَ يَسْأَلُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الذَّاكِرِينَ لَهُ مَا لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا مُحْدَثٍ، وَهُوَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ صِفَةٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ، وَيُبَاهِي بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَيَرْفَعُ أَقْدَارَهُمْ بَيْنَ خَلِيقَتِهِ، وَيُنَوِّهُ بِأَسْمَائِهِمْ فِي مَلَكُوتِهِ، وَذَاكرٌ بِقَلْبِهِ مُعَظِّمٌ لِرَبِّهِ مُشَاهِدٌ بِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ نِسْيَانٍ حِينَ يَجْرِي بِذِكْرِهِ اللِّسَانُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ: ذَكَرْنَا وَمَا كُنَّا لِنَنْسَى فَنَذْكُرَ. وَلَكِنْ شِيَمُ الْعَرَبِ يَبْدُو فِيهِنَّ أَسْكَنَتْهُ هَيْبَتُهُ، وَأَخْرَسَتْهُ خَشْيَتُهُ، أَجَلَّ الْحَقَّ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ ذِكْرِهِ لَحْظَةً بِجَنَانِهِ، يَرَى ذِكْرَهُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَفْلَةٌ وَثَنَاءَهُ عَلَيْهِ بِصِفَةِ نَفْسِهِ زَلَّةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] ، قَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ: ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَجْرِي بِهِ الْإِنْسُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، أَوْ تَبْلَغَهُ الْأَوْهَامُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ تَحْوِيهِ الْعُقُولُ عَلَى قَدْرِ قَدْرِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ، فَهَؤُلَاءِ أَخْفُوا ذِكْرَهُ عَنِ الْأَخْبَارِ وَالرُّسُومِ، فَأَخْفَى ثَوَابَهُمْ عَنِ الْمَعَارِفِ وَالْفُهُومِ فَقَالَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَةً أَيْضًا: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» [ص: 254] غَارُوا عَلَى أَذْكَارِهِ، فَغَارَ عَلَى أَوْصَافِهِمْ، فَهُمْ خَبَايَاهُ فِي غَيْبِهِ، وَأَسْرَارُهُ فِي خَلْقِهِ، وَآخِرُ شَاهِدٌ ذِكْرُ رَبِّهِ لَهُ حَيْثُ لَا رُسُومَ وَلَا فُهُومَ وَلَا عِلْمَ وَلَا مَعْلُومَ، كَانُوا مَوْجُودِينَ لَهُ عِلْمًا إِذْ كَانُوا مَعْدُومِينَ رَسْمًا، فَكَانُوا مَذْكُورِينَ، وَلَا ذِكْرَ لَهُمْ، وَمَعْلُومِينَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ، وَمُرَادِينَ وَلَا إِرَادَةَ لَهُمْ، وَمَطْلُوبِينَ وَلَا طَلَبَ لَهُمْ، وَمُخْتَارِينَ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمْ، لَمَّا شَاهَدُوا هَذِهِ الْأَحْوَالَ سَقَطُوا عَنِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ، فَكَانُوا فِي حِينِ وُجُودِهِمْ كَمَا كَانُوا فِي عَدَمِهِمْ، تَسْلِيمًا لَأَمْرِهِ وَتَرْكًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى مُتَذَكِّرُونَ، وَالثَّانِيَةُ ذَاكِرُونَ، وَالثَّالِثَةُ مَذْكُورُونَ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ وَرَّادٍ، ح أَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ، ح كَثِيرُ بْنُ شَيْبَانَ الْعَبَّادُ زكي أَبُو شَيْبَانَ الرَّاسِبِيُّ، ح الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ الْعَرْجِيُّ، ح أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ» [ص: 255] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا غِيبَةَ لَهُ» أَيْ: لَا غِيبَةَ عَنْهُ فِي الْغَفْلِ الَّذِي أَظْهَرَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ عَنْهُ، فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْبٍ هُوَ فِيهِ لِيَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا ذَكَّرَتْهُ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ بِمَا أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فِيهِ غَيْبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْغِيبَةَ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ جِهَةِ الْأَذَى الَّذِي يَلْحَقُ الْمُغْتَابَ عَنْهُ، وَالْأَلَمِ الَّذِي يُصِيبُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُهُ عِنْدَ النَّاسِ عَيْبَةً، فَهُوَ يَسْتُرُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَضِحَ، وَيُنْتَهَكَ سِتْرُهُ، أَوْ يَكْرَهُ ذَلِكَ الْعَيْبَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقَاوِمُ نَفْسَهُ فِي إِزَالَتِهِ عَنْهَا، فَإِذَا أَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ وَأَلْقَى سِتْرَ الْحَيَاءِ عَنْهُ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يُبَالِي بِأَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ يُذْكَرَ بِهِ، فَإِنْ ذَكَّرْتَهُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ أَلَمٌ وَلَا أَذًى، فَكَأَنَّكَ لَمْ تُذَكِّرْهُ بِسُوءٍ، وَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ يَكْرَهُ ذَلِكَ الْعَيْبَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْلُوبٍ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُتَبَجِّحٌ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى وَلَا كَرَاهَةٌ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرُهُ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ مُغْتَابًا، وَيَكُونُ فِي إِظْهَارِ ذَلِكَ مِنْهُ وَذِكْرِهِ بِهِ [ص: 256] فَائِدَةٌ وَنَفْعٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ بِهِ فَيَجْتَنِبَ وَيَتَجَافَى عَنْهُ، وَلَا يُدَاخِلَهُ فَيَتَأَذَّى بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ، ح أَبُو شُجَاعٍ، أَحْمَدُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، ح الْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ، ح بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرْعَوُونَ مِنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ» يَحْذَرُهُ النَّاسُ فَهَذِهِ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ. فَأَمَّا مَا لَمْ يُظْهِرْهُ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ، وَلَعَلَّهُ يَكْرَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيُحِبُّ إِخْرَاجَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُقَاوِمُ هَوَاهُ، فَهُوَ كَالْمَكْرُوهِ فَإِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ مِنْهُ هَتَكْتَهُ وَأَذَيْتَهُ، وَأَذَى الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ذَنْبٌ كَبِيرٌ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُهُ بِالسُّتْرَةِ عَلَى نَفْسِهِ مُغْتَابًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [ص: 257] . وَالْغِيبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا ذَكَرْتَ مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ أَوْ سُوءٍ لَا يَجِبُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا ذِكْرُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ بُهْتَانٌ عَلَيْهِ، وَالْبُهْتَانُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، ح مُحَمَّدُ بْنُ حَبَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، ح يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحٍ، عَنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغِيبَةِ، فَقَالَ: «أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَإِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، أَحْمَدُ بْنُ حِبَّانَ التَّمِيمِيُّ، ح الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَطَّانُ بِالرَّقَّةِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِبُسْتَ وَالْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ بِأَنْطَاكِيَّةَ فِي آخَرِينَ قَالُوا: ح هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ح الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ، ح يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبَانَ الْقُرَيْشِيُّ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي خَلَّادٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ الْمَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ» [ص: 258] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحِكْمَةُ: الْإِصَابَةُ بِالْقَوْلِ، وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ، وَالزُّهْدُ: فَرَاغُ الْقَلْبِ مِنَ الدُّنْيَا، مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُنَوَّرُ الْقَلْبِ، مَشْرُوحُ الصَّدْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ هَاهُنَا إِسْلَامَ النَّفْسِ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا إِنَّمَا تُرَادُ لِلنَّفَسِ، فَمَنْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ إِلَى مَالِكِهَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْشَرَحَ وَانْفَتَحَ» قِيلَ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ» فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّجَافِيَ عَنِ الدُّنْيَا، وَالزُّهْدَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى نُورِ الْقَلْبِ، وَمَنِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ أَصَابَ فِي مَنْطِقِهِ، وَلَمْ يُخْطِئْ فِي قَوْلِهِ، وَتَكُونُ أَعْمَالُهُ مُتْقَنَةً، وَأَفْعَالُهُ مُحْكَمَةً؛ لِأَنَّهُ يَرَى الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ، فَلَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَلَا تَتَشَابَهُ لَهُ الْأَحْوَالُ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ نَظَرَ بِنُورِ اللَّهِ أَبْصَرَ الشَيْءَ كَمَا هُوَ، فَأَصَابَ فِي مِنْطَقِهِ، وَأَدْرَكَ الرُّشْدَ فِي إِشَارَتِهِ، فَمَنْ قَبِلَ مِنْهُ أَصَابَ رُشْدًا، وَقِلَّةُ الْمَنْطِقِ دَلِيلٌ [ص: 259] عَلَى إِصَابَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّى الصَّوَابَ فِي عَمَلِهِ، وَالصِّدْقَ فِي قَوْلِهِ قَلَّ مَنْطِقُهُ؛ لِذَلِكَ أَمَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَبُولِ مِمَّنْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ الْمَنْطِقِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِمَّنْ هَذَا نَعْتُهُ، وَمَنْ قَبِلَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ رَشَدَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُرْشِدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْزُبَانِيُّ، ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الْآمُلِيُّ، ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرٍو، مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّائِمُ وَالْقَائِمُ يُجَاهِدَانِ أَنْفُسَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ وَالْقَائِمَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ، إِذِ النَّفْسُ حَظُّهَا وَاسْتِمتَاعُهَا بِالْمَطَاعِمِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ، وَالصَّائِمُ يُمْنَعُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالنَّفْسُ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، تَدْعُو إِلَى هَذِهِ، وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَتَقَوَّى هَذِهِ النَّفْسُ، بِالنَّوْمِ تَرْبُو وَتَنْمُو، وَالْقِيَامُ يَمْنَعُ النَّوْمَ، وَالصَّائِمُ وَالْقَائِمُ يُجَاهِدَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ، وَمَنْ جَمَعَهُمَا فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ نَفْسًا وَاحِدَةً، فَيَعْظُمُ قَدْرُهُ، وَتَعْلُو رُتْبَتُهُ بِمُجَاهَدَتِهِ نَفْسَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] الْآيَةَ. وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ، فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ نَفْسَهُ فِي تَحَمُّلِ أَثْقَالِ مَسَاوِئِ أَخْلَاقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْخُلُقِ هُوَ الَّذِي لَا يُحَمِّلُ غَيْرَهُ ثِقَلَهُ، وَيَتَحَمَّلُ أَثْقَالَ غَيْرِهِ، وَهُوَ جِهَادٌ كَبِيرٌ، فَأَدْرَكَ هَذَا بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ؛ لِأَنَّهُ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ كَمَا يُجَاهِدُهَا الصَّائِمُ الْقَائِمُ، فَاسْتَوَيَا فِي الرُّتْبَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَاجِدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ، ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ، ح الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ، ح جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، وَح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ، ح مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، ح يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أخ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [ص: 260] بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْمَكِّيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَثْقَلَ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» هَذَا الْحَدِيثُ رَفَعَ ذَا الْخُلُقِ الْحَسَنِ فَوْقَ دَرَجَةِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ وَالْقَائِمَ يُوضَعَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ أَثْقَلُ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، فَهُوَ إِذَنْ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنَ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ، وَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، فَالصَّائِمُ وَالْقَائِمُ يُجَاهِدُ نَفْسًا وَاحِدَةً، وَهِيَ نَفْسُهُ، وَذُو الْخُلُقِ الْحَسَنِ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ، وَأَنْفُسًا كَثِيرَةً مِمَّنْ يُعَاشِرُهُمْ وَيُعَاشِرُونَهُ، وَيَتَحَمَّلُ أَثْقَالَ نَفْسِهِ وَأَثْقَالَ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثَقُلَ مِيزَانُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الدِّهْقَانِ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ أَبُو الْفَضْلِ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّى اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ:: الْعِبَادَةُ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ صَفَاءُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ تَعَالَى الِاسْتِقَامَةُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَصْحِيحُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ الشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَحُسْنُ الْمَعُونَةِ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَالْقِيلُ وَالْقَالُ التَّكَلُّفُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَإِضَاعَةُ الْمَالِ وَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ، وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى اللَّهِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «يَرْضَى لَكُمْ» أَيْ: يَرْضَى مِنْكُمْ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، وَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَيُوجِدُهَا فِيكُمْ، وَيُوَفِّقُكُمْ لَهَا، وَيَسْتَعْمِلُكُمْ بِهَا؛ [ص: 261] لِأَنَّهَا تُحَبِّبُكُمْ وَالْمُحِبُّ يُحِبُّ لِحَبِيبِهِ أَرْفَعَ الْمَنَازِلِ، وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَأَحْسَنَ الْأَوْصَافِ، وَأَنْ تُطِيعُوهُ أَنْتُمْ فَيُوجِدُهَا فِيكُمْ، وَيَضَعُهَا فِيكُمْ، وَيَجْلِبُكُمْ فَضْلًا وَكَرَمًا، وَيَسْخَطُ لَكُمُ الثَّلَاثَ الْأُخَرَ، فَيَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا، وَيَعْصِمُكُمْ مِنْهَا وَلَا يُحْدِثُهَا فِيكُمْ عِصْمَةً لَكُمْ، وَيَسْخَطُ مِنْكُمْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الذَّمِيمَةَ، فَتَكَلَّفُوا إِزَالَتَهَا عَنْكُمْ، وَمُجَانَبَتَهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيكُمْ، فَلَا يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ح بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، ح أَبُو الْأَحْوَصِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ح نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ح عُثْمَانُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ إِيمَانِ الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ شُهُودُ الْقَلْبِ لِلَّهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ اللِّسَانِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا نَطَقَ اللِّسَانُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَدَّقَ الْقَلْبُ لِشُهُودِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِقَلْبِهِ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ بِاللَّهِ لَمْ يُصَدِّقْ قَلْبَهُ لِسَانُهُ، لِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، أَكْذَبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةَ صِدْقٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْإِيمَانَ شُهُودُ الْقَلْبِ أَنَّهُ حَيٌّ قَائِمٌ مَوْجُودٌ، وَإِلَهٌ وَاحِدٌ مَعْبُودٌ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْقَائِمُ الَّذِي مَنْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، ثُمَّ بِشُهُودِ الْقَلْبِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ، فَأَفْضَلُ دَرَجَاتِهِ وَأَعْلَى مَرَاتِبِهِ شُهُودُهُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْعَبْدُ عَلَيْهَا مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ وَخَلَاءٍ وَمَلَاءٍ، وَفِي الضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْغِنَاءِ وَالِافْتِقَارِ، وَفِي الْبُؤْسِ وَالنَّعِيمِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَيَشْهَدُهُ فِي حَالِ السَّرَّاءِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَفِي حَالِ الضَّرَّاءِ بِالرِّضَا بِهِ، وَفِي حَالِ الْخَلَاءِ بِالْحَيَاءِ مِنْهُ، وَبِالْمَلَأِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَفِي الضَّرُورَةِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَفِي الِاخْتِبَارِ بِرُؤْيَةِ التَّوْفِيقِ مِنْهُ، وَفِي الْغِنَاءِ بِالْأَفَاضِلِ، وَبِالصَّبْرِ فِي [ص: 262] الْإِقْلَالِ، وَفِي الْبُؤْسِ بِسَعَةِ الصَّدْرِ، وَفِي النَّعِيمِ بِالِازْدِيَادِ مِنْهُ بِالشُّكْرِ، وَفِي الطَّاعَةِ بِالْإِخْلَاصِ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ بِطَلَبِ الْخَلَاصِ، فَهَذَا أَفْضَلُ الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ذُو الطَّوْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ح أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، ح أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ شُعَيْبٍ الْمَدَائِنِيُّ، ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، ح دُحَيْمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ح مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ بِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنِ اللَّهُ إِذَا تَجَلَّى لشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ، فَإِذَا انْكَسَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّيْتُمُوهَا» [ص: 263] قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَأَوْجَدَهَا وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ظَهَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عُلُوٌّ وَشُمُوخٌ وَرِفْعَةٌ لِمَعْرِفَتِهَا بِأَنَّهَا لَهُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَهَا، وَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَاصِيَّةَ مَعْنًى، فَارْتَفَعَتْ بِهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ {نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] . وَتَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَافْتَخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا خُصِّتْ بِهِ مِنْ نُعَيْمِ أَوْلِيَائِهِ، وَالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَافْتَخَرَتِ الْجِبَالُ عَلَى الْأَرْضِ لَمَّا مَادَتِ الْأَرْضُ فَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَإِنَّهَا لَتَفْتَخِرُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَقَالَ إِبْلِيسُ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، فَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ افْتِخَارُهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَجَا، وَمَنِ افْتَخَرَ بِجُوَارِهِ وَنَظَرَ إِلَى ذَاتِهِ هَلَكَ كَإِبْلِيسَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ، وَحَقَّ لشَيْءٍ عَرَفَ أَنَّهُ مَقْصُودُ رَبِّهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ وَيَعْلُوَ قَدْرُهُ، وَقَدْ قَصَدَهُ الْحَقُّ بِالْإِيجَادِ، وَخَاطَبَهُ بِكُنْ، وَخَصَّهُ بِمَعْنًى، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ وَسَمَ كُلَّ شَيْءٍ بِسِمَةٍ مِنْ سِمَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَذُلِّ الْخِلْقَةِ وَعَجْزِ الْبِنْيَةِ، وَمَا خَصَّ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ بشَيْءٍ لَشَمَخَتْ بِأَنْفِهَا وَاسْتَجْبَرَتْ وَتَجَبَّرَتْ، فَسَقَطَتْ عَنْ عَيْنِ اللَّهِ وَهَلَكَ، كَمَا اسْتَكْبَرَ إِبْلِيسُ فَلُعِنَ، فَوَسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَقَالَ تَعَالَى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وَوَضَعَ عَلَى بَنِي آدَمَ الْبَلْوَى وَالِاخْتِبَارَ، فَقَالَ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155] ، وَقَالَ {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] [ص: 264] . وَوَضَعَ عَلَى الْجِنِّ الصَّغَارَ وَالذُّلَّ، فَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهُمْ رَسُولًا وَلَا كَلِيمًا وَلَا بَعِيثًا، وَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَعَنَ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينَ، فَأَبْعَدَهَا وَأَقْصَاهَا وَجَعَلَهَا رَجِيمًا. وَخَصَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ بِالتَّسْخِيرِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33] ، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، فَلَمَّا وَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِهَذِهِ السِّمَاتِ اسْتَكَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا، وَخَضَعَتْ وَانْقَادَتْ وَاسْتَقَامَتْ عَلَى مَا أَرَادُوا مِنْهَا، سُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْحَلِيمِ الْعَلِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَجَبَ جَمِيعَ خَلْقِهِ عَنْ كُنْهِ جَلَالِهِ، وَقَدْرِ سُلْطَانِهِ، وَقَهْرِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَعِظَمِ هَيْبَتِهِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَلَاشَتِ الْأَشْيَاءُ وَاضْمَحَلَّتْ وَفَنِيَتْ وَبَادَتْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كُشِفَ عَنْهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: «حِجَابُهُ النَّهَارُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «حِجَابُهُ النُّورُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا، ح عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، ح مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ح مُوسَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُونَ اللَّهِ سَبْعُونَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ تَسْمَعُ شَيْئًا مِنْ حُسْنِ تِلْكَ الْحُجُبِ إِلَّا زَهَقَتْ نَفْسُهَا» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَقَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَقِيَامَهَا بِأَوْصَافِهَا وَثُبُوتَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِحُجْبَتِهَا عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِ اللَّهِ، وَقَهْرِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأَفَاضِلُ الْأَوْلِيَاءِ فِي كَنَفِ لُطْفِ اللَّهِ فِيهِ بَقَاؤُهُمْ، وَالشَّيَاطِينُ [ص: 265] بِحِجَابِ اللَّعْنَةِ وَالطَّرْدِ وَالْإِقْصَاءِ، وَالْعَبْدُ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي سَتْرِ الرَّحْمَةِ، وَالْأَعْدَاءُ فِي حِجَابِ الظُّلْمَةِ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ فِي حِجَابِ الْغَفْلَةِ، وَالتَّجَلِّي كَشْفُ الْحِجَابِ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ، وَإِبْدَاءُ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ، فَإِذَا كَشَفَ اللَّهُ الْحِجَابَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ زَالَ ذَلِكَ الشَيْءُ وَذَهَبَ وَتَلَاشَى، وَمِنْهَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَوْصَافِهَا، وَتَزُولُ عَنْ بِنْيَتِهَا عَلَى قَدْرِ الْكُشُوفِ، وَظُهُورِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، اسْتَحَالَ عَنْ صِفَتِهِ، وَتَغَيَّرَ عَنْ بِنْيَتِهِ، فَصَارَ تُرَابًا هَبَاءً بَعْدَ أَنْ كَانَ شَامِخًا حَجَرًا صَلْبًا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ» . وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ دُرَّةً، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَذَابَتْ فَصَارَتْ مَاءً يَجْرِي لَا قَرَارَ لَهُ، وَلَا سُكُونَ مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ» . فَإِذَا أَبْدَى اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ مَا شَاءَ، وَمِنْ صِفَاتِ قَهْرِهِ وَجَلَالِهِ مَا أَرَادَ تَلَاشَتِ الْأَشْيَاءُ وَاضْمَحَلَّتْ وَفَنِيَتْ، فَتَصِيرُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَالْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَتَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، وَتَفَطَّرَتِ السَّمَاوَاتُ، وَحَالَتِ الْأَشْيَاءُ وَزَالَتْ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَدِيدُ الْبَطْشِ، عَظِيمُ السُّلْطَانِ، جَلِيلُ الْقَدْرِ، لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُطَاقُ قَهْرُهُ، وَلَا يُدْرَكُ جَبَرُوتُهُ، وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، جَلَّ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا [ص: 266] . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَجَلَّى لشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِظْهَارَ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَعِزِّ السُّلْطَانِ، وَقَهْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَيَخْشَعُ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا تَجَلَّى لَهُ، وَكَشَفَ الْحِجَابَ عَنْهُ، وَيَتَطَامَنُ وَيَتَوَاضَعُ وَيَتَغَيَّرُ عَنْ أَوْصَافِهَا، وَيَتَحَوَّلُ عَنْ نُعُوتِهَا وَبِنْيَتِهَا تَخْوِيفًا لِلْعِبَادِ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، فَكُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِتَجَلِّي أَوْصَافِ الْقُدْرَةِ لَهَا، وَظُهُورِ أَعْلَامِ عِزِّ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا، تَنْبِيهًا لِلْعِبَادِ وَتَحْذِيرًا لَهُمْ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُمَا أَوْ كُشِفَ عَنْهُمَا مِنْ سِرِّ اللَّطِيفِ، وَحِجَابِ الرَّحْمَةِ غَيَّرَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا، وَأَذْهَبَ بِنُورِهِمَا وَضِيَائِهِمَا عَلَى عَظِيمِ بِنْيَتِهِمَا وَرَفِيعِ مَكَانِهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الشَّمْسَ تُشْرِقُ مِنَ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، ظَهْرُهَا إِلَى الدُّنْيَا، وَوَجْهُهَا لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ، تُشْرِقُ وَتُضِيْءُ، وَعِظَمُهَا مِثْلُ الدُّنْيَا ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَفِي الْقَمَرِ ثَمَانِمِائَةِ فَرْسَخٍ فِي مِثْلِهِ وَصِفَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ» ، فَإِذَا حَلَّ بِهِمَا مَعَ أَقْدَارِهِمَا مِنْ ظُهُورِ سُلْطَانِ اللَّهِ لَهُمَا مَا حَلَّ، فَكَيْفَ بِابْنِ آدَمَ الضَّعِيفِ الْبِنْيَةِ، الصَّغِيرِ الْقَدْرِ، الْقَلِيلِ التَّمَاسُكِ تَصْرَعُهُ اللَّحْظَةُ، وَتُؤْذِيهِ النَّمْلَةُ، لَا يَصِيرُ لِآثَارِ اللُّطْفِ وَلَا يُقَاوِمُ صِفَاتَ الرَّحْمَةِ مِنْ رِيحٍ تَهُبُّ، أَوْ رَعْدٍ يَرْعَدُ، أَوْ بَرْقًا يَلْمَعُ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ كُسُوفِهَا أَوْ كُسُوفِ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ أَنْ يَفْزَعُوا إِلَى الْخُشُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَهُ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا انْكَسَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَصَلُّوا كَأَتَمِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ» إِذِ الصَّلَاةُ خُشُوعٌ وَخُضُوعٌ وَالْتِجَاءٌ وَتَوَجُّهٌ وَإِقْبَالٌ. وَوَرَدَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهَا سِتُّ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتِ، وَمِنْهُ جَمَاعَةٌ وَفُرَادَى، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ «كَأَتَمِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ» وَهُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَثَمَانِي سَجَدَاتٍ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ عَلَى صِفَةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ الْآَخِرَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَتَمُّهَا فِي مَعْنَى الْعَدَدِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ تَامَّتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَإِنْ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ فَهِيَ تَامَّةٌ، وَإِنْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا فَهِيَ أَتَمُّ فِي مَعْنَى الْعَدَدِ، إِذْ لَا عَدَدَ لِلْمَكْتُوبَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْخُشُوعِ لِتَجَلِّي صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَظُهُورِ السُّلْطَانِ، يتَجَلَّى اللَّهُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِمَا شَاءَ، وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لُطْفًا مِنْهُ بِهِمْ، وَرَحْمَةً عَلَيْهِمْ، وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ إِذْ لَوْ تَجَلَّى لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ لَحَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْجَبَلِ، بَلْ تَلَاشَوْا [ص: 267] وَدُفِنُوا، فَلَطَفَ بِهِمُ اللَّهُ وَرَأَفَ عَلَيْهِمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ جَمِيلُ النَّظَرِ لَهُمْ لَطِيفٌ بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مَسْعُودٍ، ح أَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ح الْقَعْنَبِيُّ، ح شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَأَجَلَّهَا وَعَظَّمَ شَأْنَهَا، فَذَكَرَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مِمَّا قَالَتِ الْعَرَبُ بِحِكَمِهَا وَفَصَاحَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ» أَيْ: أَنَّهَا مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا أَوْحَى، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَجْرِي فِي النُّبُوَّاتِ حَتَّى أَدْرَكَهَا الْعَرَبُ، فَهِيَ عَلَى أَفْوَاهِهَا مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ مُفَضَّلِ بْنِ مُهَلْهَلٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا بَقِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» كَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَتْ مِنِ اخْتِرَاعِ الْحُكَمَاءِ، وَكَلَامِ الْفُصَحَاءِ رَفْعًا مِنْ قَدْرِهَا، وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لَخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَاءَ فَرْعٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ إِجْلَالِ قَدْرِ مَنْ يَسْتَحِي مِنْهُ، وَتَقْصِيرٍ يَرَاهُ في نَفْسِهِ، وَإِزْرَاءٍ بِهَا فَيَسْتَصْغِرُ نَفْسَهُ وَأَوْصَافَهَا عِنْدَ شُهُودِ مَنْ يُجِلُّ قَدْرَهُ عِنْدَهُ، فَيَنْحَصِرُ فَيَمْنَعُهُ حَصَرُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَحْسُنُ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَكَيْفَ بِمَا يَقْبَحُ مِنْ أَحْوَالِهِ؟ فَالْعَبْدُ بِمِرَاءٍ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَجَلُّ نَاظِرٍ إِلَيْهِ لَا يُخْفِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، حَقُّهُ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ، وَقَدْرُهُ أَجَلُّ الْأَقْدَارِ، فَهُوَ يَرَاهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يَرَاهُ خَلْقَ اللَّهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِمَّنْ يُجِلُّ أَقْدَارَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ مَلَائِكَةٍ كِرَامٍ، وَخَاصٍّ مِنَ النَّاسِ وَعَامٍّ [ص: 268] ، فَهُوَ مُتَرَقِبٌ مُتَحَفِّظٌ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مِنْ أَنْ يُرَى مِنْهُ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، أَوْ فِعْلٌ سَقِيمٌ فَيُحْكِمُ أَفْعَالَهُ خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَهُ لَوْمٌ فِيمَا يَرْتَكِبُ مِنْ فِعْلٍ مُسِيءٍ، أَوْ فِيمَا يُقَصِّرُ مِنْ حَقِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ، ثُمَّ يَكُونُ حَافِظًا لِخَوَاطِرِهِ، مُرَاغِبًا لِهَوَاجِسِهِ، مُرَاقِبًا لِأَنْفَاسِهِ أَنْ يَجْرِيَ فِي سِرِّهِ، وَيَخْطُرَ بِبَالِهِ مَا يُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِ نَاظِرِهِ، أَوْ يَمْقُتُهُ فِيهِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ قَادِرٌ، فَيَسْتَقِيمُ ظَاهِرُهُ، وَيَصْفُو بِاطِنُهُ، فَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ وَصْفُهُ الْحَيَاءُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ، ح أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، ح الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سَوَّارٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَمَنْ كَانَ بِضِدِّ هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَهُ قَدْرُ نَاظِرٍ مِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَلَا يُبَالِي أَنْ يَلْحَقَهُ شَيْنٌ أَوْ يُوصَفَ بِذَمِيمٍ، وَلَا يَخَافُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَنْ مَعَهُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ أَوْصَافِ النَّاسِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا تَدَعُوهُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَيَأْتِي مَا يُزَيِّنُهُ فِي عَيْشِهِ مِنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِ الْعَدُوُّ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ نَاهِي مُرُوءَةٍ أَوْ دِينٍ لَمْ يَحْجُزْكَ حَاجِزٌ، وَلَا يَمْنَعُكَ مَانِعٌ، صَنَعْتَ مَا شِئْتَ ذُمِمْتَ عَلَيْهِ وَفِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ بِأَوْصَافِ الْحَيَاءِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ مِنْ عَمَلٍ، فَلَا قِيمَةَ لِعَمَلِكَ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُجِلَّ رَبَّهُ وَلَمْ يُكْرِمْ عِبَادَهُ فَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْإِيمَانِ شَيْءٌ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَهْرَوَيْهِ الرَّازِيُّ، بِالرَّيِّ، ح سُلَيْمَانُ بْنُ صَدَقَةَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعْدَوَيْهِ، ح هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فَمَنْ لَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُ عَلَى أَوْصَافِ الْحَيَاءِ فَكَأَنَّهُ يُجِلُّ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَيَسْتَخِفُّ بِقَدْرِ سَيِّدِهِ، فَعَظُمَ فِي عَيْنِهِ قَلِيلُ عَمَلِهِ، وَيَصْفُو عِنْدَهُ كَدْرُهُ، فَيَمُنُّ عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَيَصْغُرُ عِنْدَهُ عَظِيمُ مَعْصِيَتِهِ، وَيَزْرِي بِعِبَادِ اللَّهِ إِجْلَالًا لِقَدْرِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لِقَدْرِ مَنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ إِجْلَالُ قَدْرِ النَّاظِرِ إِلَيْكَ وَاسْتِصْغَارُ نَفْسِكَ، فَمَا كَانَ بِخِلَافِ الْحَيَاءِ فَهُوَ إِجْلَالُ قَدْرِ نَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارُ قَدْرِ مَنْ سِوَاهُ، فَهَذِهِ صِفَةُ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ قَالَ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] . نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَنَسْأَلُهُ الْغُفْرَانَ، فَإِنَّهُ الْمَنَّانُ عَلَى عِبَادِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 - حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَرَوَيْهِ الرَّازِيُّ، ح الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ بِبَغْدَادَ، ح عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ الْجَعْدِ، ح شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا، فِي بَيْتِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهَ بِهِ سَائِرَ خَلْقِهِ وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ» قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُسَمِّعُ بِعَمَلِهِ الْمَرَائِي بِهِ، يُظْهِرُ لِلنَّاسِ وَجَاهًا فِيهِمْ وَرُتْبَةً عِنْدَهُمْ، يُرِيهِمْ أَنَّهُ لِلَّهِ عَابِدٌ وَلَهُ طَائِعٌ إِرَادَةَ رِفْعَةٍ فِيهِمْ، فَهُوَ إِنَّمَا يُرَائِي بِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْظُمُ فِي أَعْيُنِهِمْ مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ مُتَعَبِّدِينَ لَهُ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ إِخْلَاصَ الْعَمَلِ لَهُ، وَأَنْ لَا يُرِيدُوا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تَكُونَ أَغْرَاضُهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ إِلَّا رِضَاءَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةِ، فَإِذَا صَرَفُوا إِرَادَتَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ بِإِظْهَارِ صَالِحِهَا لَهُمْ، وَمُرَاءَاتِهِمْ بِهَا لِيَعْظُمُوا بِهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَيَجِلَّ عِنْدَهُمْ أَقْدَارُهُمْ، قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَظْهَرَ لِلْخَلْقِ مَسَاوِئَ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يُخْفُونَهَا عَنْهُمْ، وَيَسْتُرُونَهَا مِنْهُمْ، مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَسَتَرَهَا عَلَيْهِمْ، فَيُبْدِيهَا لِسَائِرِ خَلْقِهِ مِنْ آدَمِيٍّ وَمَلَكٍ، وَسَائِرِ خَلْقِ اللَّهِ، فَيُبْغِضُونَهُمْ عَلَيْهَا، وَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْصُرُ أَقْدَارُهُمْ عِنْدَهُمْ، وَيَحْقُرُونَهُمْ وَيَمْقُتُونَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَيَفْتَضِحُونَ عِنْدَهُمْ، وَيُنْتَهَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيَفُوتُهُمْ مَا قَصَدُوهُ، وَيُقْلَبُ عَلَيْهِمْ مَا أَرَادُوهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَاءَى النَّاسَ بِمَحَاسِنِهِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ صَالِحَ أَعْمَالِهِ، أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُمْ مَسَاوِئَهَا مِنْهَا، فَيَفُوتُهُ مَا يُرِيدُ، وَيَبْطُلُ مَحَاسِنُهَا [ص: 270] ، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَا يُدْرِكُ مَا يُرِيدُ، بَلْ يَفْتَضِحُ وَيَصْغُرُ وَيَحْقُرُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 - حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَلْخِيُّ، ح مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ بْنِ حَمَّادٍ السُّلَمِيُّ، ح خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانًا بَاتَ اللَّيْلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ، حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ: " ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنَيْهِ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» أَيِ: اسْتَخَفَّ بِهِ، وَاسْتَحْقَرَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهَمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] ، أَيِ: اسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِهِمْ، فَنَسَوْا ذِكْرَ اللَّهِ. وَقَدْ يُقَالُ لِمَنِ اسْتَخَفَّ بِإِنْسَانٍ، وَأَزْوَى بِهِ، وَاسْتَخَفَّ بِعَقْلِهِ، فَغَرَّهُ وَخَدَعَهُ: بَالَ فُلَانٌ فِي أُذُنِهِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا لِمَنِ اسْتَغْفَلَ إِنْسَانًا أَتَاهُ عَلَى غِرَّةٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ دَابَّةً فَوْقَ النَّهَرِ دُونَ الْكَلْبِ لَهَا أُذُنَانِ سَوْدَاوَانِ يَخَافُ مِنْهُ الْأَسَدُ اسْتِحْذَارًا لَهَا، وَتَنَاوَمَ خَوْفًا مِنْهَا، فَتَجِيءُ هَذِهِ الدَّابَّةُ فَتَبُولُ فِي أُذُنِهِ فَيَمُوتُ الْأَسَدُ، فَكَأَنَّ مَنْ غَفَلَ عَنِ اللَّهِ، وَأُنْسِيَ ذِكْرَ اللَّهِ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَاسْتَضْعَفَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لِلْعَبْدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ: فَإِنَّ عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ» أَيْ: أَنْسَاهُ ذِكْرَ اللَّهَ، وَأَخَذَ بِسَمْعِهِ عَنْ نِدَاءِ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّهُ إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى سُؤَالَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرَ لَهُ " فَالذَّاكِرُونَ اللَّهَ، وَالْقَائِمُونَ لِلَّهِ ذَاكِرِينَ، وَبِالْأَسْحَارِ مُسْتَغْفِرِينَ، وَلَهُ سَائِلِينَ، وَإِلَيْهِ رَاغِبِينَ قِيَامًا قَانِتِينَ، وَاسْتَقَلَّ الْقِيَامَ كَأَنَّهُ فِي سَمْعِ فَهْمِهِ وَقْرًا، وَفِي أُذُنِ قَلْبِهِ صَمَمًا مِنْ [ص: 271] تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَأَخْذِهِ عَنْ نِدَاءِ الْمَلَكِ، يُسْمِعُهُ بِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَلَامٌ خَفِيٌّ، وَإِكْثَارٌ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَشْغَلُهُ بِحَدِيثِهِ عَنْ سَمَاعِ نِدَاءِ الْمَلَكِ بِسَمْعِهِ لِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّعِينُ قَذِرٌ نَجِسٌ، فَأَفْعَالُهُ نَجِسَةٌ، وَأَعْمَالُهُ رَجِسَةٌ، وَقَذِرَةٌ مُنْتِنَةٌ، فَهُوَ إِذَا شَغَلَ سَمْعَ عَبْدٍ عَنِ الدَّاعِي بِشَهْوَةِ نَفْسِهِ وَبِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ أَتَى خَبِيثًا مِنَ الْأَمْرِ وَرِجْسًا مِنَ الصِّفَةِ، فَكَانَ كَأَنَّهُ بَالَ فِي أُذُنِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَوْنَ عَلَيْهِ، وَالْعِصْمَةَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، ح الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، ح سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْجَوْهَرِيُّ، ح حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِالْوَالِي فَيُقْذَفُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَزُولُ كُلُّ عَظْمٍ عَنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِظَامَ فَتَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَعْطَاهُ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا خَرَقَ بِهِ الْجِسْرَ، فَهَوَى فِي جَهَنَّمَ مِقْدَارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا» . فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ هُنَاكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، فَقَالَ سَلْمَانُ: إِي وَاللَّهِ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، وَمَعَ السَّبْعِينَ خَرِيفًا فِي وَادٍ مِنْ نَارٍ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا. فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ» أَيْ: قَبَّحَهُ، وَشَوَّهَ خَلْقَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ نُزِعَ أَنْفَهُ مِنْ وَجْهِهِ شُوِّهَ خَلْقُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلْتِ الْمَسْحُ وَالْإِذْهَابُ. وَمَعْنَى: «أَلْصَقَ خَدَّهُ الْأَرْضَ» أَيْ: أَذَلَّهُ، وَأَقْمَأَهُ، أَيْ: يَكُونُ آخِرُ أَمْرِهِ ذَلِكَ، وَإِلَى تِلْكَ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قُبْحِهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ [ص: 272] الْمُتَكَبِّرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَطَأُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ» . فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ سَلْمَانَ: لَا يَأْخُذُهَا عِنْدَكَ وَأَنْتَ حَيٌّ إِلَّا مَنْ يَرْغَبُ فِيهَا طَلَبًا لِلْعُلُوِّ، وَإِرَادَةَ الرِّفْعَةِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَمَنْ أَعَادَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَانْتِهَاءُ حَالِهِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَ اللَّهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ» ، وَيُشَوِّهُ خَلْقَهُمْ وَيُقَبِّحُ صُدُورَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادِ فِي الْبِلَادِ، وَالتَّرَفُّعِ عَلَى الْعِبَادِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِيهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ حَتَّى أَتَاهُ عَفْوًا، وَحَتَّى لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، حَتَّى لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، وَخَافَ الْفِتْنَةَ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَهْلُ الشُّورَى، وَعَلِيٌّ بَايَعُوهُ طَوْعًا، وَهُوَ يَمْتَنِعُ حَتَّى جَاءَتْ عَزْمَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ السَّكَنْدَرِيُّ، ح الْكَرِيمِيُّ، ح هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ح قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ يَقُولُ لَمَّا دُفِنَ - يَعْنِي - عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَجَعَ النَّاسُ يَسْأَلُونِي الْبَيْعَةَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي مُشْفِقٌ مِمَّا أَقْدَمُ عَلَيْهِ، حَتَّى جَاءَتْ عَزْمَةً، فَبَايَعْتُ، فَلَمَّا قَالُوا لِي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَأَنَّمَا صَعِدَ قَلْبِي، وَأَمْسَكْتُ بِغَيْرَتِي، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ خُذْ مِنِّي لِعُثْمَانَ حَتَّى يَرْضَى فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَمْ يَتَقَلَّدُوهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ حِينَ لَا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَحَدْبًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، لَا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَلَا طَلَبًا فِي الْأَرْضِ، وَلَا فَسَادًا بِجَمْعِ الْمَالِ. فَقَوْلُ سَلْمَانَ: مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ أَيْ: إِنَّمَا يَأْخُذُهُ اخْتِيَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهَا فِي حَيَاةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعُمَرُ مُسْتَقِلٌّ بِهَا، وَأَفْضَلُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ عُمَرُ إِلَّا مَنْ رَغِبَ فِي الدُّنْيَا، وَطَلَبَ الْعُلُوَّ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِينَ يُشَوِّهُ فِي الْآخِرَةِ صُورَتَهُ، وَيَطَأُهُ النَّاسُ ذُلًّا وَهَوَانًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ أَيْ: يَأْخُذُهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَيْ: بَعْدَكَ، مِنْ نِزَاعِ اللَّهِ الْكِبْرَ وَالْعُلُوَّ، وَطَلَبِ الرِّفْعَةِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَإِلْزَامِهِ التَّوَاضُعَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ تَكَبَّرَ وَتَرَفَّعَ [ص: 273] وَاسْتَطَالَ عَلَى النَّاسِ شَمَخَ بِأَنْفِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: «سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ» أَيْ: نَزَعَ الْكِبْرَ مِنْهُ، وَنَفَاهُ عَنْهُ، فَيَكُونُ الْأَنْفُ عِبَارَةً عَنِ الْكِبْرِ وَالتَّعَظُّمِ. وَوَضْعُ الْخَدِّ بِالْأَرْضِ، وَإِلْصَاقُهُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلِ لِعِبَادِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَأْخُذُهَا عَنْكَ بَعْدَكَ يَا عُمَرُ مَنْ لَا يُرِيدُ بِهَا عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، بَلْ يُرِيدُ بِهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَشَفَقَةً عَلَى عَبَادِ اللَّهِ ضَرُورَةَ مَخَافَةِ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَتَشْتِيتِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ كَمَا أَخَذَهَا بَعْدَ عُمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا غَيْرَ مُتَكَبِّرٍ وَلَا مُتَجَبِّرٍ، إِمَامًا عَادِلًا خَلِيفَةً صَادِقًا تَسْتَحِييهِ الْمَلَائِكَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَعْدَهُ الْهَادِي الْمَهْدِيُّ أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 - ح أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، ح أَبُو الْحَسَنِ، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ الْقَزْوِينِيُّ بِالْكُوفَةِ قَدِمَهَا حَاجًّا، ح دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ أَبُو أَحْمَدَ الْفَرِيُّ الْقُرَيْشِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرَّضِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ سَأَلَ رَبَّهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَبَعِيدٌ أَنْتَ فَأُنَادِيَكَ، أَمْ قَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَبَعِيدٌ أَنْتَ فَأُنَادِيَكَ» عَلَى مَعْنَى الِاسْتِرْشَادِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْدِ وَالْإِخْفَاءِ، وَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ الْغَيْبَةُ، أَوْ بُعْدُ الْمَسَافَةِ، وَلَا عَلَى الْقُرْبِ الَّذِي هُوَ الْحُضُورُ وَالْجُهُودُ بِمَعْنَى الْحُلُولِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَحَاشَى كَلِيمَهُ الْمَعْنِيَّ فِي رُتْبَتِهِ الْمُصْطَفَى مِنْ بَرِيَّتِهِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: أَدْعُوكَ إِذَا دَعَوْتُكَ رَافِعًا صَوْتِي بِالنِّدَاءِ، جَاهِرًا بِالدُّعَاءِ، كَمَا يُخَاطَبُ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ، وَيُنَادَى مَنْ هُوَ غَائِبٌ، إِذَا دَعَوْتُكَ خَافِضًا صَوْتِي مُخَافِتًا فِي دُعَائِي، كَمَا يُخَاطَبُ الْقَرِيبُ، وَيُدْعَى الْمُنَاجَى، قَالَ اللَّهُ لَهُ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: ادْعُنِي دُعَاءَ الْمَرْءِ جَلِيسَهُ، وَالْجَلِيسُ لَا يُنَادَى جَهْرًا، وَلَا يُخَافَتُ سِرًّا، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: اجْعَلْ دُعَاءَكَ لِي بَيْنَ الْمُخَافَتَةِ وَالْجَهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» حَدَّثَنَاهُ خَلْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ح سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ح حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسَكُمْ» ، وَذَكَرَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَمْ قَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيَكَ» أَيْ: أَنَا فِي صِفَةِ الْبُعْدِ عَنْكَ وَالْإِقْصَاءِ أَوْ بِصِفَةِ الْقُرْبِ وَالْإِدْنَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَاعَدْتَنِي عَنْكَ وَأَقْصَيْتَنِي عَنْ بَابِكَ سَخَطًا عَلَيَّ فَأُنَادِيَكَ صَارِخًا، وَأَدْعُوكَ جَاهِرًا مُسْتَغِيثًا مِنْ بُعْدِكَ وَالْفِرَاقِ مِنْكَ، أَوْ أَدْنَيْتَنِي مِنْكَ، وَقَرَّبْتَنِي إِلَيْكَ قَبُولًا لِي، وَرِضًا عَنِّي فَأُنَاجِيَكَ نَجْوَى الْمُقَرَّبِينَ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْمُسْتَأْنِسِينَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بُعْدَهُ عَنِ اللَّهِ وَقُرْبَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْخَبَرِ عَلَى لَفْظِ بُعْدِ اللَّهِ عَنْهُ وَقُرْبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ بَعُدْتَ عَنْهُ فَقَدْ بَعُدَ عَنْكَ، وَمَنْ قَرُبْتَ مِنْهُ فَقَدْ قَرُبَ مِنْكَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَبْعَدْتَنِي عَنْكَ أَمْ أَدْنَيْتَنِي مِنْكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ عَلَامَةَ مَنْ قَرَّبْتُهُ مِنِّي وَأَدْنَيْتُهُ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِي، فَمَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ لِي ذَاكِرًا، فَلْيَعْلَمْ أَنِّي قَرَّبْتُهُ مِنِّي، كَأَنِّي جَلِيسُهُ، فَكَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَلَطَّفَ لَهُ، وَرَأَفَ بِهِ، وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَوْصَافِ الْقُرْبِ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُقَرَّبَهُ وَمُصْطَفَاهُ وَكَلِيمَهُ وَمُجْتَبَاهُ، وَوَارَى عَنْهُ أَوْصَافَ الْبُعْدِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِعَلَامَاتِ مَنْ بَاعَدَهُ عَنْهُ، كَمَا أَخْبَرَهُ بِعَلَامَةِ مَنْ قَرَّبَهُ مِنْهُ عَطْفًا عَلَيْهِ، وَلُطْفًا بِهِ كَيْلَا يُوحِشَهُ إِذْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُطِيقُ أَنْ يَسْمَعَ بِأَوْصَافِ الْبُعْدِ، وَعَلَامَاتِ الْإِقْصَاءِ، وَأَمَارَاتِ الطَّرْدِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنْهُ، وَلَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْصَافُ مَنْ بَاعَدَهُ الْحَقُّ مِنْ نَفْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» أَخْبَرَهُ بِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَيْفَ تَكُونُ بِأَوْصَافِ الْبُعْدِ مِنِّي وَأَنْتَ لِي ذَاكِرًا، وَمَنْ كَانَ لِي ذَاكِرًا [ص: 275] كُنْتُ لَهُ جَلِيسًا، أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُنِعَ بِأَبْلَغِ غَايَاتِ الْقُرْبِ، وَأَقْصَى نِهَايَاتِ الدُّنُوِّ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مِنِّي بِالْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْءِ مِنْ جَلِيسِهِ. وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ مَنْ ذَكَرَنِي جَلِيسِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْحَالَةُ مُكْتَسِبَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ وَالْإِفْضَالِ عَلَى مَنْ آَثَرَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُرَامَ مُجَالَسَتُهُ وَالدُّنُوَّ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْبُعْدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ هُوَ الْجَلِيسُ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى عَبْدِهِ، وَلُطْفًا بِذَاكِرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، جَلَّ اللَّهُ الْبَرُّ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ح أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ، ح عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ح مُسْلِمٌ، ح شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ خَلِيلًا» ، حَدَّثَنَاهُ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح أَبُو عَامِرٍ، ح فُلَيْحٌ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ كَهْمَسًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَقِيقٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ [ص: 276] قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: ثُمَّ عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ خَلِيلٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةُ، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا، فَأَحِبَّهُمَا» ، وَكَانَ أُسَامَةُ يُقَالُ لَهُ: حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ، فَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُ أَحَبَّ أَقْوَامًا، وَلَمْ يَتَّخِذِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا، وَقَدْ تَكَلَّمَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ فِي الْخُلَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَشَرَّفَ بَعْضُهُمُ الْخُلَّةَ , وَشَرَّفَ الْأَكْثَرُونَ الْمَحَبَّةَ، وَقَالُوا: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلَ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِيبَ اللَّهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ. وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ. وَالْخُلَّةُ بِمَعْنًى، وَالْمَحَبَّةُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْمَحَبَّةُ: هِيَ الْإِيثَارُ، وَالْمُوَافَقَةُ، وَالْإِقْبَالُ لَهُ، وَالْخُلَّةُ هِيَ عَلَى الْمَحْبُوبِ، وَخَاصَّتُهُ الْوَجْدُ بِالْمَحْبُوبِ، وَالرِّقَّةُ لَهُ بَعْدَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْإِيثَارِ لَهُ، وَالْخُلَّةُ هِيَ: الِاخْتِصَاصُ، وَالْمُدَاخَلَةُ، يُقَالُ: خَلَّلَ أَصَابِعَهُ إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ إِذَا أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدِ الْقَوَارِيرِيُّ، ح أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، ح عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، قَالَ: ح زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَتَسَمَّعَ حَدِيثَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَنْ كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى تَكْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى كَلِمتُهُ وَرُوحُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكِ حِلَقَ الْجَنَّةِ، وَيُفْتَحُ الْبَابُ لِي، فَيُدْخِلُنِيهَا، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا [ص: 277] أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، إِنِّي لَسْتُ أَفْتَخِرُ بِذِي عَلَيْكُمْ فَخْرَ تَعْظِيمٍ، وَتَرَفُّعٍ، وَتَكَبُّرٍ» وَلَكِنْ كَانَ فَخْرُهُ بِاللَّهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ. فَالْخُلَّةُ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى، وَالْمَحَبَّةُ تَخْتَصُّ بِمَعْنًى آخَرَ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِيثَارُ، وَالْمُوَافَقَةُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَحْبُوبِ، وَخَاصَّتُهُ الْوَجْدُ بِالْمَحْبُوبِ، وَالرِّقَّةُ لَهُ بَعْدَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْإِيثَارِ لَهُ، وَالْخُلَّةُ هِيَ الِاخْتِصَاصُ، وَالْمُدَاخَلَةُ، يُقَالُ: خَلَّلَ أَصَابِعَهُ إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ إِذَا أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِيهَا، فَكَأَنَّ الْمُتَخَالِلَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ بَيْنَهُمَا فِي وُقُوفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَسْتُرُ خَلِيلَهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى مَغِيبِ خَلِيلِهِ، وَخَاصَّةِ أَمْرِهِ مِمَّا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا خَاصِّيَّةُ الْخُلَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: [البحر الخفيف] قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا فَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ حَدِيثِي ... وَإِذَا مَا سَكَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا» ، أَيْ: لَوْ كُنْتُ مُطْلِعًا أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى سِرِّي، وَمُوَقِّفًا أَحَدًا بِمَغِيبِ أَمْرِي، وَمَا أَجُنُّهُ فِي ضَمِيرِي، لَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلكِنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّي إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلَا أُظْهِرُ مَا أَسْتُرُهُ، وَلَا أَكْشِفُ مَا أُضْمِرُهُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنِّي خَلِيلُهُ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عَلَى سِرِّ الْمَرْءِ خَلِيلُهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتًا لَا يَسْمَعُنِي فِيهِ غَيْرُهُ» ، أَيْ: لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنِي وَبَيْنَ رَبِّي دَخِيلٌ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطْلِعَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا أَسَرَّهُ إِلَى خَلِيلِهِ وَحَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، سَتَرَ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا أَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] ، أَخْرَجَ عَنِ الْأَوْهَامِ، وَتَوَرَّدَ إِلَيْهِ، وَطَوَى عَنِ الْأَفْهَامِ سِرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِ دُونَ مَا تَوَقَّفَ بِسِرِّهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ} [المائدة: 67] ، وَلَمْ يَقُلْ: بَلِّغْ مَا تَعَرَّفْنَا بِهِ إِلَيْكَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ [ص: 278] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44] قَالَ: لَوْ أَظْهَرَ لِغَيْرِنَا مَا أَسْرَرْنَا إِلَيْهِ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ الْخَلِيلَيْنِ ثَالِثٌ، أَوْ يَقِفَ عَلَى سِرِّ الْمُحِبَّيْنِ أَحَدٌ، لَا يَرَى لِمَا أَضْمَرَ فِي سِرِّهِ مَعْنًى لِغَيْرِهِ، وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ شَرًّا لِجِنْسِهِ، غَارَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِرٌّ سِوَاهُ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] ، أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي سِرِّهِ غَيْرُهُ، وَسَتَرَ عَنِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَا وَرَّاهُ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، وَلَطَائِفِ كَرَامَاتِهِ، فَقَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] انْحَسَرَتْ أَوْهَامُ الْخَلَائِقِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: {الْكُبْرَى} [النجم: 18] فَطَوَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنِ الْخَلْقِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّهِ إِلَّا الْخَلِيلُ الَّذِي هُوَ الْجَلِيلُ، فَقَالَ: لَوْ جَازَ لِي أَنْ أَتَّخِذَ خَلِيلًا فَيَقِفَ عَلَى سِرِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، إِذْ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ سِرًّا مِنْ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا يُرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَفْضُلْكُمْ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» طَوَى عَنِ النَّاسِ سِرَّ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا طَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ سِرَّ نَفْسِهِ، وَبَذْلَ الْمَحَبَّةَ مِنْهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: «إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأُسَامَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، ح إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، ح أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» ، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أُحُدًا، فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ» . فَأَحَبَّ الْأَغْيَارَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ خَلِيلًا غَيْرَ الْجَبَّارِ، فَكَانَ حُبُّهُ الْأَغْيَارَ إِيثَارًا لِمَنْ أَحَبَّ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِقْبَالًا عَلَيْهِ، وَمَيْلًا إِلَيْهِ، بِمَعْنَى الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ إِلَيْهِ، وَحَبِيبُهُ الَّذِي وَجْدُهُ بِهِ، وَشَوْقُهُ إِلَيْهِ، وَسِرُّهُ مَعَهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، ح يَحْيَى، ح الْحِمَّانِيُّ، ح شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ خَلِيفَةً مِنْ بَعْدِي ثُمَّ عَصَيْتُمْ خَلِيفَتِي نَزَلَ الْعَذَابُ» ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ تُوَلُّوا هَذَا الْأَمْرَ أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ تُوَلُّوهَا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ تُوَلُّوا عَلِيًّا وَلَنْ تَفْعَلُوا تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَنُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَمَّا يُخِلُّ بِأَفْعَالِهِ، سَمِعَ اللَّهَ يَقُولُ حِكَايَةً عَنْ كَلِيمِهِ حِينَ قَالَ لِأَخِيهِ هَارُونَ {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] فَكَانَ مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَكَانَتْ تَوْبَتُهُمْ أَغْلَظَ تَوْبَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] ، فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِخْلَافِ عَلَيْهِمْ مَا نَزَلَ بِقَوْمِ مُوسَى فَاسْتَخْلَفَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُ خَلِيفَتِي فِيكُمْ» ، فَخَارَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ فَاسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَهُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً وَخَلِيفَةُ اللَّهِ بَيَانًا، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَعِيفٌ فِي بَدَنِهِ قَوِيٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ قَوِيٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ حَدَّثَنَا بِهِ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُغَفَّلٍ، ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ح سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَحَدَّثَنَا خَلَفٌ، ح إِبْرَاهِيمُ، ح مُحَمَّدٌ، ح مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخُو سُفْيَانُ، ح جَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ، ح أَبُو يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَيُّ [ص: 280] النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ وَهُوَ أَضْعَفُ بَدَنًا مِنْ عُمَرَ، وَعُمَرُ أَقْوَى بَدَنًا مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا قَوِيَّانِ فِي أَمْرِ اللَّهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَلَا بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَقْوَى بَدَنًا مَعَ قُوَّتِهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ عَمَلًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْفَضْلَ مِنْحَةُ الْعَمَلِ وَمَعْنًى فِي السِّرِّ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ الْفَضْلُ لِمَنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِعِلَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ بِالْمَشِيئَةِ، فَيَنْحَازُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُفَضِّلُ مَنْ يُرِيدُ وَهُوَ الْحَكِيمُ لِلْخَيْرِ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي قَلْبِ مَنْ فَضَّلَهُ وَاخْتَارَهُ مَعْنًى يَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا لِفَضْلِهِ وَدَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَفْضُلْكُمْ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» فَأَخْبَرَ أَنَّ قُوَّةَ الْقَلْبِ هِيَ الَّتِي تُقَدَّمُ لَيْسَ قُوَّةُ الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْقَلْبُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ نَظَرِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُحِبُّ وَيَخْتَارُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُبْغِضُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَهَا بُغْضًا لَهَا» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُحِبُّ وَمَنْ يُحِبُّ، فَأَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ لَا لِعِلَّةٍ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى مَا أَحَبَّ مِنْهُمْ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَقَوِيَتِ الْقُلُوبُ بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهَا وَأَشْرَقَتْ وَاسْتَنَارَتْ وَتَزَيَّنَتْ، فَطَارَتْ فِي الْمَلَكُوتِ شَوْقًا إِلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ فَوَلِهَتْ بِهِ وَشُغِلَتْ عَمَّا سِوَاهُ، فَطَارَتْ فِي الْمَلَكُوتِ شَوْقًا إِلَيْهِ، فَوَقَفَتْ أَمَامَ [ص: 281] الْعَرْشِ فَأَذِنَ لَهَا فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهَا فَوَعَتْ، وَأَرَاهَا فَأَبْصَرَتْ، وَأَلْبَسَهَا السَّكِينَةَ فَسَكَنَتْ، وَرَدَّهَا بِأَلْوَانِ الْفَوَائِدِ وَأَنْوَاءِ الزَّوَائِدِ، وَلَوْلَا مَا أَلْبَسَهَا مِنَ السَّكِينَةِ لَطَارَتْ شَوْقًا، وَتَلَاشَتْ فِي مُبَاهَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَفَنِيَتْ تَحْتَ أَنْوَارِ هَيْبَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] فَبِذَلِكَ قَوِيَتِ الْأَسْرَارُ وَصَغَتِ الْقُلُوبُ. فَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَارُ مَا يَشَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيْخَتَارُ} [القصص: 68] وَهُوَ تَعَالَى فَضَّلَ مَنْ أَرَادَ فِي سَابِقِ عَلْمِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا لِقُوَّةِ بَدَنٍ وَلَا بِكَثْرَةِ عَمَلٍ، وَالْقَلْبُ إِنَّمَا يَقْوَى بِمَا يُحْدِثُهُ فِيهِ وَيُودِعُهُ إِيَّاهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ لَهُ وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيْحَكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ تُوَلُّوهَا عَلِيًّا وَلَنْ تَفْعَلُوا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنْ تُوَلُّوهَا عَلِيًّا حِينَ تُفْضِي الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ وَتَصِيرُ لَهُ «وَلَنْ تَفْعَلُوا» ، أَخْبَرَ عَنِ الْغَيْبِ الَّذِي أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهِ فِرَقًا وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ أُمَمًا، فَلَمْ يَهْتَدُوا وَلَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، بَلْ تَشَتَّتُوا فَصَارُوا شِيَعًا، فَنَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَقَسَطَتْ أخْرَى، وَمَرَقَتْ ثَالِثَةٌ، وَعَصِيَتْ رَابِعَةٌ، وَلَوْ وَلَّوْهَا إِيَّاهُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَوَجَدُوهُ هَادِيًا لَهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَالْهُدَى الْبَيِّنِ، مَهْدِيًّا فِي نَفْسِهِ لَا يَسْلُكُ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَّا أَهْدَاهَا وَمِنَ الْمَنَاهِجِ إِلَّا أَوْلَاهَا، وَيَسْلُكُ بِهِمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْلُكُهُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ وَيَسْتَقِيمُ فِيهِ وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، ح حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ، ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، ح خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: ذَكَرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: «أَرَاهُمُ السَّبِيلَ وَأَقَامَ لَهُمُ الدِّينَ إِذْ تَعَوَّجَ» فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ بِهِ، وَانْتَهَتِ الْإِمْرَةُ إِلَيْهِ، وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، عِنْدَ ذَلِكَ يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ وَلَمْ يُرْوَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ تُوَلُّوهَا إِيَّاهُ بَعْدِي وَعَلَى إِثْرِي، فَيَكُونُ أَوَّلَ قَائِمٍ بَعْدِي؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّهُمْ عَلَى الْخَلِيفَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْأَمْرِ لَهُ بِالْإِمَامَةِ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: «مُرُوا [ص: 282] أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُ بِلَالٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَقُلْتُ: قُمْ يَا عُمَرُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَ: فَقَامَ، فَلَمَّا كَبَّرَ عُمَرُ، سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا مُجْهِرًا، فَقَالَ: «فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ، يَأْبَى اللَّهُ ذَاكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَاكَ وَالْمُسْلِمُونَ» حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا، ح عَمَّارٌ، ح سَلَمَةُ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: لَمَّا اسْتَقَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَهُ، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ تُوَلُّوهَا عَلِيًّا» أَيْ: تُوَلُّوهَا بَعْدَ وَفَاتِي وَعَلَى إِثْرِي، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَقُومُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنْ تُوَلُّوا عَلِيًّا حِينَ تُفْضِي إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ وَتَصِيرُ لَهُ الْإِمْرَةُ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، بَكْرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ رَوَّادٍ التَّاجِرُ قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح الْمُقْرِيُّ، عَنْ حَيْوَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» [ص: 283] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ، بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] ، بِقَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] ، فَفِيهِ إِنَابَةُ كَذِبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنْ كُفْرَهُمْ وَتَرْكَهُمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ عِنَادًا، وَجُحُودًا عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهَوَى لَا لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ. فَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» فِيهِ إِنَابَةٌ عَلَى الْفَضْلِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالنُّعُوتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمُرْسَلِينَ. فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَافًا مِنْ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخِصَالًا مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمُرْسَلِينَ، مُقَرَّبٌ حَالُهُ مِنْ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْبًا أَتَوْهُ فَقَالَ: «حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ كَادُوا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْفِقْهِ أَنْبِيَاءَ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ إِخْبَارٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَيْسَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ وَلَا بِعِلَّةٍ تَكُونُ فِي الْعَبْدِ يَسْتَحِقُّ بِهَا النُّبُوَّةَ وَيَسْتَوْجِبُ الرِّسَالَةَ، بَلْ هُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاصْطِفَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] . فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى أَوْصَافِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ مِنْهَا كَثِيرًا، لَوْ كَانَتِ الْأَوْصَافُ مُوجِبَةً لِلرُّسُلِ لَكَانَ عُمَرُ بَعْدِي رَسُولًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ خَاصَّةَ الْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَتْ فِي عُمَرَ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، قُوَّتُهُ فِي دِينِهِ وَبَدَنِهِ، وَسِتْرُهُ، وَقِيَامُهُ بِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِ الدِّينِ، وَفُرْقَانِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَارُوقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ فَتْحًا، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ رَحْمَةً، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ نُصْرَةً، وَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نُصَلِّيَ بِالْبَيْتِ ظَاهِرِينَ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَهُمْ حَتَّى صَلَّيْنَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنْ مَسْعُودٍ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَذَكَرَهُ. فَالْخَوَاصُّ الَّتِي تَظْهَرُ لِلْخَلْقِ مِنْ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ، الصِّدْقُ لِلَّهِ، وَالثَّقَةُ بِاللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا دُونَ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي صِدْقِ الْقَوْلِ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ، وَسَخَاوَةِ النَّفْسِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لِي بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ كَذَا نَعَمًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ، لَا تَجِدُونِي جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا بَخِيلًا» ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مِنْ أَخَصِّ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا يَطَلِّعُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ وُجِدَتْ أَكْثَرُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَفِي عَلِيٍّ أَكْثَرَ مِمَّا وُجِدَتْ فِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «وَاللَّهِ لَوْ خَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَنِي السِّبَاعُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - يَعْنِي الْمَدِينَةَ - لَأَنْفَذْتُ جَيْشَ أُسَامَةَ» وَبِهِ بَانَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَبَذْلِ جَمِيعِ مَالِهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا خَلَّفْتَ لِعَيَالِكَ؟» قَالَ: اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَالصِّدْقُ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِهِ وَسَائِرِ خِصَالِهِ الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهِ، ثُمَّ لَمْ يُخْبِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوَ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، لِيَعْلَمَ أَنَّ النُّبُوَّةَ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاصْطِفَاءِ لَا بِالْأَسْبَابِ. وَقَوْلُهُ: «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ» لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قال: ح أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّرَسُوسِيُّ قَالَ: ح عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح حَمَّادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَ لَكَ الثَّانِيَةُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «إِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا» أَيْ أَنْتَ مَلِكُهَا الْمَخْصُوصُ بِالْمُلْكِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّ لَكَ مُلْكًا فِي الْجَنَّةِ كُلِّهَا كَمَا كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَخْصُوصًا بِمُلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا يَضْرِبُ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] الْآَيَةَ، وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} [الكهف: 90] ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَلَغَ مَغْرِبَهَا وَمَطْلِعَهَا، وَقَالَ: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَلِكُ الْأَرْضِ كُلِّهَا يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مُلْكٌ هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ مُلُوكًا كَمَا أَنَّ فِيَ الدُّنْيَا مُلُوكًا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالُوا: بَلَى قَالَ: «كُلُّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَأَبَرَّهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ بِهِ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَهُمْ لَوَسِعَهُمْ» حَدَّثَنَاهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْبَلْخِيُّ قَالَ: ح قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. أَخْبَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مُلُوكًا وَعَلِيٌّ مِنْ أَكْبَرِهِمْ مُلُوكًا، وَإِنَّهُ مِمَّنْ لَهُ مُلْكٌ فِي الْجَنَّةِ كُلِّهَا كَمَا كَانَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ مُلْكٌ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا» ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] ، أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يَنْزِلُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ دَرَجَاتٌ مَعْلُومَةٌ وَمَسَاكِنُ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ كَذَا، وَمَنْ لَهُ كَذَا» فَأَخْبَرَ أَنَّ مُلْكَ عَلِيٍّ مِنْهَا وَفِيهَا لَيْسَ بِمُلْكٍ مُحَدَّدٍ وَمُنْتَهٍ ـ وَلَكِنَّ مُلْكَهُ فِي جَمِيعِ الْجَنَّةِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: «إِنَّ لَكَ كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ» : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنَّكَ مُتَبَرِّئٌ مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أُمُورِكَ مُسْتَظْهِرٌ بِاللَّهِ دُونَ حَوْلِكَ وَقُوُّتِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ كَنْزَ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ فِي كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» [ص: 287] فَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " أَكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "، يَعْنِي قُولُوا ذَلِكَ عَلَى تَحْقِيقٍ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَصِدْقٍ مِنْ نُفُوسِكُمْ، أَيْ تَبَرَّءُوا مِنْ حَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ فَيَكُونَ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ كُنُوزًا، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ. وَمَعْنًى آخَرُ: أَنَّ التَّبَرِّيَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ كَنْزٍ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوتِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرَاعِي النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ» هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَنْ لَا يَتَعَمَّدُ النَّظَرَ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّظْرَةُ الْأُولَى عَلَى قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَلَيْسَتْ هِيَ لَهُ، بَلْ هِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْأُولَى، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ هِيَ الَّتِي نَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ مِنْهُ، فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَطَأٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ عَنْ أُمَّتِي» فَالنَّظْرَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَظْرَةُ خَطَأٍ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَتْرُوكٌ لَهُ، لَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، فَإِذَا أَتْبَعَهَا أُخْرَى كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَظْرَةَ تَعَمُّدٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ تَعَمَّدَ الْخَطِيئَةَ، وَقَصَدَ مِنْ تَعَمُّدٍ الْخَطِيئَةَ، وَقَصَدَ ارْتِكَابَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا بِشَرَائِطِهَا مِنْ تَوْبَةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ تَأْدِيبٍ، وَلِلَّهِ فِيهَا الْمَشِيئَةُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا وَالتَّجَاوُزِ وَهُوَ جَلَّ وَعَزَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَفُوٌّ حَلِيمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 - حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ هِيَ؟ يَعْنِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: «هِيَ أَحَبُّ إِلَى مِنْكَ، وَأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْهَا» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَحَبَّةُ صِفَةُ الْمُحِبِّ بِثَنَاءٍ مِنَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ، وَالْعِزُّ صِفَةُ الْعَزِيزِ، يَبْدُو فِيهِ عَلَى مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ» إِخْبَارٌ بِصِفَةٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ رِقَّةٌ يَجِدُهَا فِيهَا، وَمَيْلٌ إِلَيْهَا وُجِدَتْ عَلَيْهَا، لَيْسَ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَضْلٌ، وَلَا لَهَا فِي مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا صِفَةٌ، وَلِلطَّبْعِ فِي الْمَحَبَّةِ أَثَرٌ وَلِلنَّفْسِ فِيهَا نِسْبَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ لِعِلَّةٍ فِي الْمُحِبِّ إِمَّا بِنَسَبٍ أَوْ بِرٍّ أَوِ اسْتِحْسَانِ طَبْعٍ أَوْ شَهْوَةِ نَفْسٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَكُلُّهَا يَبْدُو مِنَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِلنَّفَسِ فِيهِ طَرِيقٌ، وَلِلطَّبْعِ فِيهِ أَثَرٌ فَمَعْلُولٌ. فَقَوْلُهُ: «هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ» يَعْنِي: أَنَا عَلَيْهَا أَجْذَبُ، وَلَهَا أَرَقٌّ، وَبِهَا أَشَدُّ وَجْدًا، وَأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْهَا، أَيْ أَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا عِنْدِي وَأَجَلُّ قَدْرًا، وَأَنَا بِكَ أَضَنُّ لِصِفَةٍ هِيَ لَكَ، وَمَعْنًى هُوَ فِيكَ، لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهَا وَلَيْسَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لَهَا، وَالْعِزَّةُ عَلَى مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ الْعَزِيزُ لَيْسَ لِلطَّبْعِ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا لِلنَّفَسِ فِيهِ نِسْبَةٌ، بَلْ هِيَ بِثَنَاءٍ مِنَ الْعَزِيزِ، فَتُقْهَرُ نَفْسُ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ وَيُغْلَبُ طَبْعُهُ، فَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الْعِلَّةِ. وَالصِّفَتَانِ جَمِيعًا، أَعْنِي الْمَحَبَّةَ وَالْعِزَّةَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُحِبِّ وَالْعَزِيزِ، غَيْرَ أَنَّ إِحْدَيْهِمَا قَدْ يَكُونُ مَعْلُولَهُ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَالْمُحِبُّ فِيهِ مَعْلُولٌ، وَالْعِزَّةُ أَبْعَدُهُمَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَأَعْلَاهُمَا مِنَ الْقَدَحِ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَحَبُّ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَبَّبَهَا إِلَيْهِ، وَلِلطَّبْعِ فِيهِ أَثَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَبَّلَ أَحَدَ ابْنَيْهَا الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَتُحِبُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنِّي أَرْحَمُهُ» ، أَيْ أَرِقُّ [ص: 289] عَلَيْهِ وَأَعْطِفُ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ عَزِيزًا عِنْدَهُ بِمَعْنًى أَحْدَثَهُ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَضَعَهُ فِيهِ، فَجَلَّ فِيهِ، فَجَلَّ بِذَلِكَ قَدْرُهُ وَعَظُمَ مَوْقِعُهُ مِنْهُ وَضَنَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِلطَّبْعِ فِيهِ أَثَرٌ وَهُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ مِنَ الْعِلَّةِ أَبْعَدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ، قَالَ: ح أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ قَالَ: ح الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ح أَبُو الْمُعَلَّى قَالَ: ح أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا» . قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَيَاءُ مِنْ أَوْصَافِ الْكِرَامِ، وَاللَّئِيمُ لَا يَكَادُ يَسْتَحْيِي، وَالْحَيَاءُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ كَبِيرَةً، فَمِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْفِعْلِ الذَّمِيمِ، وَالْوَصْفِ الْقَبِيحِ، وَمِنْهُ التَّرَفُّعُ مِمَّا يَسْتَثْنِيهِ وَيُذَمُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْخَشْيَةُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِالْقَبِيحِ مِنَ الْوَصْفِ أَوْ يُنْسَبَ إِلَى الذَّمِيمِ مِنَ الْفِعْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ أَوْصَافِ الْكِرَامِ، وَالْحَيِيُّ أَيْضًا لَا يَكَادُ يَسْتَحْيِي إِلَّا مِمَّنْ لَهُ قَدْرٌ وَخَطَرٌ، وَمَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا خَطَرَ فَقَلَّمَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ، وَالْكَرِيمُ الْمُتَحَقِّقُ بِأَوْصَافِ الْكِرَامِ يَدَعُ مَا يَدَعُهُ تَكَرُّمًا فِي نَفْسِهِ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ فَضْلًا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُسْتَحْيَى مِنْهُ، فَيُعْطِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، وَيَدَعُ عُقُوبَةَ مَنْ يَسْتَوْجِبُهَا؛ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ مِنْ صِفَةِ الْحِرْمَانِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ بَعْضَ الْمُلُوكَ بِالْكَرْمِ: [البحر المجتث] يُفْضِي حَيَاءً وَيُفْضِي ... عَطَاءً مَنْ لَا يَسْتَوْعِبُ لِأَنَّهُ يَتَرَفَّعُ مِنْ مَهَابَةٍ فَمَا يُكَلِّمُ إِلَّا حِينَ شِيمَ فَوَضَعَ بِالْحَيَاءِ فِي تَرْكِ عُقُوبَةِ مَنْ يَسْتَوْجِبُ وَإِعْطَاءِ مَنْ لَا يَسْتَوْعِبُ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَفَّعُ مِنْ صِفَةِ الْحِرْمَانِ لِمَنْ سَأَلَهُ، وَيَتَكَرَّمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلْعَفْوِ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِنَ الْكَرِيمِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ مُتَفَضِّلٌ عَفُوٌّ غَفُورٌ جَوَادٌ وَشَكُورٌ، فَإِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ سَائِلًا مِنْهُ، وَطَالِبًا فَضْلَهُ، يَتَكَرَّمُ عَنْ أَنْ [ص: 290] يَحْرِمَهُ، وَيَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَرُدَّهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَطَاءَ، وَلَا يَسْتَأْهِلُ الْعَفْوَ، وَكَانَ جَلَّ وَعَزَّ سَاخِطًا عَلَيْهِ غَيْرَ رَاضٍ عَنْهُ، فَهُوَ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ مِنْ عِنْدِهِ فَيُعْطِي مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْحِرَمَانَ، وَيَعْفُو عَنِ الْعُقُوبَةِ كَرَمًا مِنْهُ وَتَفَضُّلًا؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَا يَرْضَى حِرْمَانَ عَبْدِهِ وَقَدْ مَدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ سَائِلًا مِنْهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ مُتَعَرِّضًا بِفَضْلِهِ مِمَّا لَا يَنْقُصُهُ وَلَا يَؤُدُهُ، وَيَعْفُو بِمَنْ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُ، وَلَا قَابِلٍ مِنْهُ، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمَّنْ تَجَلَّى عِنْدَهُ قَدْرُهُ وَيَعْظُمُ لَدَيْهِ خَطَرُهُ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ بِهِ الْمُصَدِّقُ لَهُ الْمُقِرُّ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، الْمُذْعِنُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعِصْيَانِ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعُقُوبَةَ، وَمِنَ الْفِعْلِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحِرْمَانِ فَهُوَ جَلَّ وَعَزَّ يُجِلُّ قَدْرَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَرُدَّ يَدَيْهِ صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ وَقَدْ رَفَعَهُمَا إِلَيْهِ، وَهُوَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ يُعْطِي الْكَافِرَ بِهِ، وَالْجَاحِدَ لَهُ وَالْمُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ بَعْضَ مَا يَسْأَلُهُ كَرْمًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَيُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُ، وَلَا يُعَالِجُهُ بِهَا إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ مُبْغِضٌ لَهُ مُعْرِضٌ عَنْهُ، اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَإِرَادَةَ السُّوءِ بِهِ، لَا لِإِجْلَالِهِ، وَلَا لِقَدْرِهِ عِنْدَهُ وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، بَلْ لِأَنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ مُتَفَضِّلٌ حَلِيمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرُدُّ يَدَ مَنْ يَرْفَعُهَا إِلَيْهِ صِفْرًا، وَهُوَ لَهُ عَاصٍ وَلِأَمْرِهِ تَارِكٌ، وَعَنْ أَدَاءِ حُقُوقِهِ مُعْرِضٌ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَرْفَعُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ مُتَذَلِّلًا لَهُ مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ مُقْبِلًا عَلَيْهِ يَسْأَلُهُ سُؤَالَ الْمُضْطَرِّينَ، وَيَدْعُوهُ دُعَاءَ الْغَرِيقِ، وَيَتَضَرَّعُ لِعَفَوْهِ تَعَرُّضَ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ لِنَفْسِهِ حَالًا لِنَفْسِهِ حَالًا، وَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ، لَا يَرْجُو إِلَّا فَضْلَهُ، وَلَا يَعْتَمِدُ إِلَّا عَلَى كَرَمِهِ، سُبْحَانَ الْكَرِيمِ ذِي الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فَمَعْنَى الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكَثُّرُ فِي الْإِعْطَاءِ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْحِرْمَانَ عِنْدَ سُؤَالِهِ مِنْهُ وَرَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَهُ، وَتَرَفُّعُهُ وَتَعَالِيهِ تَعَالَى عَنْ حِرْمَانِهِ مِمَّا لَا يَنْقُصُهُ عَنْ عُقُوبَتِهِ مَنْ يَسْتَوْجِبُهَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ لِعَفْوِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنِ الْعُقُوبَةِ وَالْحِرْمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 حَدَّثَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ قَالَ: ح يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: ح عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ الْمُشَاوِرِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ح صِلَةُ بْنُ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ الْفَاجِرُ فِي دِينِهِ، الْأَحْمَقُ فِي مَعِيشَتِهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدَهُمَا إِخْبَارٌ عَنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِظَمِ مَغْفِرَتِهِ أَيْ: يَبْلُغُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ حَتَّى يَغْفِرَ لِمَنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينِهِ، أَيْ مُتَخَلِّعًا مُنْهَمِكًا فِي الْمَعَاصِي، مُرْتَكِبًا لِلْكَبَائِرِ، مُضَيِّعًا لِلْحُقُوقِ، مُتَعَدِّيًا جَائِرًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ الْفُجُورَ مَيْلٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَانْحِرَافٌ عَنْ سُنَنِ الْهَدْيِ، وَالْفُجُورُ الْكَذِبُ أَيْضًا، يُقَالُ: يَمِينٌ فَاجِرَةٌ، أَيْ كَاذِبَةٌ. قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: جَعَلْتُمْ حَارِثَةَ بْنَ لَامٍ إِلَيْهَا تَحْلِفُونَ بِهِ فُجُورًا. أَيْ كَذِبًا وَمَيْلًا عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالسَّخْلَةُ فَلَمْ يَحْمِلْهُ، اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَاجِرًا، أَيْ: جَارَ وَمَالَ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِلْجَائِرِ الْمَائِلِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ الْمُرْتَكِبِ لِلْكَبَائِرِ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَالْأَحْمَقُ فِي الْمَعِيشَةِ هُوَ الَّذِي لَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يُوَفِّرُ الْحُقُوقَ عَلَى أَهْلِهَا الْمُبَذِّرُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، الْمُنْفِقُ لَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ بِاللَّهِ مُوَحِّدًا لَهُ غَيْرَ مُشْرِكٍ وَلَا جَاحِدٍ لَهُ. وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ إِمَّا بِالْعَفْوِ، وَالتَّجَاوُزِ، وَالْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَضْمُونُ مَشِيئَتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [ص: 292] . أَوْ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ تَشْفَعُ؟ قَالَ: «لِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْعَظَائِمِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى، ح نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ تَشْفَعُ؟ قَالَ: «لِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْعَظَائِمِ» أَوْ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَمَا طَهَّرَهُ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ وَأَقْذَارِ الْخَطَايَا بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» . فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَصْحَابَ الْجِنَايَاتِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: تَنْبِيهٌ لِلْخَلْقِ، وَإِخْبَارٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْجَنَّةَ مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا بِالْأَعْمَالِ كَمَا قَالُوا: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَا أُبَالِي بِمَا أَتَوْهُ مِنْ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَمَا ضَيَّعُوهُ مِنَ الْحُقُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أنا , إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ» [ص: 293] حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَرْزُبَانِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ قَالَ: ح أَبُو ثَابِتٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» . فَفِيهِ إِنَابَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْجَنَّةَ مَنْ يَشَاءُ رَحْمَةً مِنْهُ وَفَضْلًا لَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَيُدْخِلُ النَّارَ عَدْلًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ، لَا بِعَمَلٍ سِيءٍ إِلَّا بِمَا حَكَمَ، وَأَخْبَرَ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] ، فَهُوَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ كَافِرًا، وَلَا يَغْفِرُ لِمُشْرِكٍ وَهُوَ لِمَا دُونَ ذَلِكَ غَافِرٌ لِمَنْ يَشَاءُ، مُدْخِلٌ الْجَنَّةَ مَنْ أَرَادَ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْجَنَّةَ الْفَاجِرَ فِي دِينِهِ، الْمُسْتَخِفَّ بِدُنْيَاهُ، الْبَاذِلَ لَهَا مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ، الْمُنْفِقَ مِنْهَا فِي كُلِّ وَجْهٍ، الَّذِي لَا يُحْزِنُهُ فَوَاتُهَا كَبِيرَ حُزْنٍ، وَلَا يُفْرِحُهُ نَيْلُهَا كَبِيرَ فَرَحٍ، الَّذِي لَا تَقَعُ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ كَبِيرَ مَوْقِعٍ، فَهُوَ فِيهَا لَا يُبَالِي بِمَا قَلَّتْ عِنْدَهُ أَوْ كَثُرَتْ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «رُبَّ فَاجِرٍ فِي دِينِهِ أَخْرَقَ فِي مَعِيشَتِهِ يَدْخُلُ بِسَمَاحَتِهِ الْجَنَّةَ» . أَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِهَانَةَ بِالدُّنْيَا، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا يَبْلُغُ مِنَ الْعَبْدِ مَا لَا يَبْلُغُهُ كَبِيرٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ مَعَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَعَ إِيثَارِهَا وَالْحُبِّ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِهَا قَدْ وَافَقَ اللَّهَ - جَلَّ وَعَزَّ - فِي اسْتِهَانَةِ مَا هَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَصَغُرَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ وَزَنَتِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ح أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مَاجِدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ قَالَ: ح أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنِ الْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ مِنْ فَوْقِهِمْ فَإِذَا الرَّبُّ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ" وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ، فَإِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسَوْا نَعِيمَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، فَإِذَا احْتَجَبَ عَنْهُمْ بَقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ" قَالَ الشَّيْخُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِشْرَافُ صِفَةُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ رَفِيعٍ أَوْ حَالٍ رَفِيعَةٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُشْرِفٌ عَلَى أَحْوَالِكَ، أَيْ عَرَفَهَا وَأَبْصَرَهَا مِنْ جِهَةِ الرِّفْعَةِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ مُشْرِفٌ عَلَيْكَ، أَيْ: مُطَّلِعٌ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُوصَفُ بِالْمَكَانِ مِنْ جِهَةِ الْحُلُولِ وَالتَّمَكُّنِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِشْرَافِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِشْرَافِ تَحْدِيدٌ وَلَا مَكَانٌ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ نَظَرًا يُرِيهِمْ وَجْهَهُ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِشْرَافِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِشْرَافِ تَحْدِيدٌ وَلَا مَكَانٌ مِنْ جِهَةِ الْحُلُولِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلٌ مُتَكَلِّمٌ، وَالْكَلَامُ صِفَةٌ فِي ذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فَهُوَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ سَلَامًا فَهُوَ قَوْلٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ {سَلَّامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ، وَأَكَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ تِلَاوَةً لِيُزِيلَ الشُّبْهَةَ فِي السَّلَامِ مِنْهُ وَأَنَّهُ قَوْلٌ يَقُولُهُ وَكَلَامٌ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَزَّ. وَقَوْلُهُ: «فَإِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسَوْا نَعِيمَ الْجَنَّةِ» أَيْ شُغِلُوا عَنْهَا وَحُجِبُوا مِنْهَا بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا دُونَ اللَّهِ لَا يُقَاوَمُ تَجَلِّيَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى يُثَبِّتُهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ وَيُبْقِيهِمْ، وَإِلَّا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْجَبَلِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَوِيٌّ قَادِرٌ [ص: 295] قَاهِرٌ لَا يَؤُودُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ تَعَالَى يُبْقِيهِمْ، وَيُثَبِّتُهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَتَسْتَوْلِي لَذَّةُ النَّظَرِ عَلَيْهِمْ، فَيُنْسِيهِمْ كُلَّ نَعِيمٍ كَانُوا فِيهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِذَلِكَ مُنْتَظِرِينَ، وَإِلَى ذَلِكَ مُتَطَلِّعِينَ، وَإِلَيْهِ كَانُوا مُشْتَاقِينَ، وَلِلْجَنَّةِ لِأَجْلِهِ طَالِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ كَانُوا مُبَشَّرِينَ، وَلِذَلِكَ كَانُوا مَوْعُودِينَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بُغْيَتَهُمْ وَكَانَتْ تِلْكَ طِلْبَتَهُمْ وَذَلِكَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ مُرَادَهُمْ فَإِذَا أُعْطُوا ذَلِكَ لَهَوْا عَمَّا سِوَاهُ مُعْرِضِينَ وَنَسَوْا ذَلِكَ كُلَّهُ أَجْمَعِينَ، وَشُغِلُوا بِمَا تَلَذُّ أَعْيُنُهُمْ، مِمَّا تَشْتَهِي نُفُوسُهُمْ مَحْجُوبِينَ، فَلَا صِفَةَ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ نَاظِرُونَ وَلَهُ شَاهِدُونَ، وَلِكَلَامِهِ سَامِعُونَ وَلَدَيْهِ مُقَرَّبُونَ، سُبْحَانَ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُنْتَخَبِينَ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُ هِمَمُهُمْ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَوْهَامُهُمْ، فَأَكْرَمَهُمْ بِمَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ وَلَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً إِنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي نَسَوْهُ إِلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ وَشَهَوَاتِهَا الَّتِي سَهَوْا عَنْهَا فَانْتَفَعُوا بنَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي وُعِدُوهُ، وَتَنَعَّمُوا بِشَهَوَاتِ النُّفُوسِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى الِاحْتِجَابِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَحْجُبُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِرَدِّهِ إِيَّاهُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَبْدَانِ وَشَهْوَةِ النُّفُوسِ. وَلَيْسَ مَعْنَى يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ أَنْ يَكُونُوا لَهُ نَاسِينَ وَعَنْ شُهُودِهِ مَحْجُوبِينَ، وَإِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ سَاكِنِينَ، وَكَيْفَ يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ وَهُمْ بِنَعْتِ الْمَزِيدِ، وَدَارِ الْكَرَامَةِ، وَمَحَلِّ الْقُرْبِ، وَالْحُجْبَةُ بَعْدَ الشُّهُودِ سَلْبُ النَّعِيمِ، وَهُوَ تَعَالَى لَا يَسْلُبُهُمْ نَعِيمًا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّهُمْ إِلَى مَا نَسَوْهُ، وَلَا يَحْجُبُهُمْ عَمَّا شَاهَدُوهُ حُجْبَةَ عَيْنِيَّةٍ وَاسْتِتَارٍ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ» وَالنَّظَرُ إِذَا صَحَّ، وَالْحَجَبَةُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، وَالْوَصْلَةُ إِذَا تَمَّتْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ نَظَرِ الْمُبْصِرِ وَشُهُودِ السِّرِّ فَرْقٌ، وَلَا كَانَ فِي حَالِ الشُّهُودِ وَالْغَيْبَةِ بَوْنٌ، بَلْ يَتَّفِقُ الْأَوْقَاتُ الْأَوْقَاتَ، وَيَتَسَاوَى الْأَحْوَالُ فَيَكُونُ فِي كُلِّ حَالٍ شَاهِدًا، وَبِكُلِّ جَارِحَةٍ نَاظِرًا، وَلَا يَكُونُ فِي حَالٍ مَحْجُوبًا وَلَا بِالْغَيْبَةِ مَوْصُوفًا [ص: 296] . حُكِيَ عَنْ قَيْسٍ الْمَجْنُونِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نَدْعُو لَكَ لَيْلَى؟ فَقَالَ: وَهَلْ غَابَتْ عَنِّي فَتُدْعَى. فَقِيلَ لَهُ: أَتُحِبُّ لَيْلَى؟ فَقَالَ: الْمَحَبَّةُ ذَرِيعَةُ الْوَصْلَةِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْوَصْلَةُ فَأَنَا لَيْلَى، وَلَيْلَى أَنَا. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: [البحر البسيط] شَغَلْتُ قَلْبِي بِمَا لَدَيْكَ فَمَا ... تَنْفَكَّ طُولَ الْحَيَاةِ مِنْ فِكْرِي وَحَيْثُ مَا كُنْتَ يَا مَدَى هِمَمِي ... فَأَنْتَ مِنِّي بِمَوْضِعِ النَّظَرِ وَأَنْشَدُوا لِبَعْضِ الْكِبَارِ: [البحر الطويل] جَحَدْتُ الْهَوَى إِنْ كُنْتَ مُذْ جُعِلَ الْهَوَى ... عُيُونُكَ لِي عَيْنًا تَغُضُّ وَتُبْصِرُ نَظَرْتُ إِلَى سِوَاكَ وَإِنَّمَا أَرَى ... غَيْرَكُمْ أَحْلَامَ نَوْمٍ تَقْدِرُ أَقِيسُ سِرِّي عَنْ سِوَاكَ فَلَا أَرَى ... سِوَاكَ وَإِنِّي أَنْتَ وَلَكِنَّهُ أَكْبَرُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَوْ حَجَبَهُمْ فِي الْجَنَّةِ سَاعَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ لَاسْتَغَاثُوا مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا كَمَا يَسْتَغِيثُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ النَّارِ وَعَذَابِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: ح مُضَرُ الْقَارِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَوْ يَعْلَمُ الْعَابِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الدُّنْيَا غَمًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي شَبَابَةُ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] [ص: 297] أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَامِ بِالْغَدْوَةِ وَالْعَشِيِّ، وَلَمْ يُرِدْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْقِيتَ لِأَنَّهُ لَا غُدْوَةَ هُنَاكَ وَلَا عَشِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ح أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: ح حَسَّانُ بْنُ غَالِبٍ قَالَ: ح ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَيِّتُ يُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَا يُؤْذِيهِ فِي بَيْتِهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ يُبَلَّغُ مِنْ أَفْعَالِ الْأَحْيَاءِ وَأَقْوَالِهِمْ بِلَطِيفَةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ لَهُمْ مِنْ مَلَكٍ يُبَلِّغُ أَوْ عَلَامَةٍ أَوْ دَلِيلٍ أَوْ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَرَوْحِهِ، وَلَا يَكُونُ التَّعْذِيبُ وَالتَّرْوِيحُ إِلَّا بِوُصُولِ الْأَلَمِ وَالرَّاحَةِ إِلَى الْمُعَذَّبِ وَالْمُرَوَّحِ، فَكَذَلِكَ يَبْلُغُهُ أَذَى مَنْ يُؤْذِيهِ مِنْ قَوْلِ سُوءٍ فِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَسُوؤُهُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُّوكِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّرَسُوسِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: ح ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: وَقَعَ رَجُلٌ فِي عَلِيٍّ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا لَكَ قَبَّحَكَ اللَّهُ لَقَدْ آذَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ فَفِي الْحَدِيثِ زَجْرٌ عَنْ سُوءِ الْقَوْلِ فِي الْأَمْوَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ، وَزَجَرَ عَنْ فِعْلِ مَا كَانَ يَسُوؤُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَفِيهِ أَيْضًا زَجْرٌ عَنْ عُقُوقِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِمَا يَسُوؤُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْحَيِّ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهْدِي لِصَدَائِقَ خَدِيجَةَ صِلَةً مِنْهُ وَبِرًّا، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ صِلَةً وَبِرًّا كَانَ ضِدُّهُ قَطِيعَةً وَعُقُوقًا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَا يُؤْذِيهِ فِي بَيْتِهِ فَنَعْلَمُ ذَلِكَ يَقِينًا كَمَا نَعْلَمُ تَعْذِيبَ مَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَدْرِي كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَلَا نَرُدُّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَةَ الْأَئِمَّةِ مِنْ جِهَةِ عَجْزِنَا عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، فَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ وَالتَّصْدِيقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 بِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْقِيقُهُ، وَنَكِلُ عِلْمَ كَيْفِيَّتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ إِذِ اللَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَشَاؤُهُ، وَهُوَ الْقَدِيرُ الْحَكِيمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، يَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ إِنْ طَابَقَ لَفْظُ الْخَبَرِ مَعْنَاهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «يُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَا يُؤْذِيهِ فِي بَيْتِهِ» أَيْ يُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْمِ، وَيَكُونُ كَانَ مُضْمَرًا فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يُؤْذِي الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِ الْمَيِّتُ فِي بَيْتِهِ، فَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْمَلَكَ يَتَبَاعَدُ مِنَ الرَّجُلِ عِنْدَ الْكَذْبَةِ يَكْذِبُهَا مِيلَيْنِ مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ» فَهَذَا مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَلْحَقُهُ يَتَبَاعَدُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى يُؤْذِي الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ غَيْرُ تَائِبٍ مِنْهَا، وَلَا مُكَفَّرٌ عَنْهُ خَطَايَاهُ، فَيَكُونُ تَمْحِيصُهُ وَتَطْهِيرُهُ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَذَى مِنْ تَغْلِيظِ الْمَلَكِ إِيَّاهُ أَوْ تَقْرِيعِهِ لَهُ أَوْ تَقْرِيعِهِ إِيَّاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ يَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَالْكَافِرُ يَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ قَالَ: فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ , قَالَ: فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبِي قَالَ: ح الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُمَرَ زَاذَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَا كَانَ يُؤْذِي الْمَلَكَ فِي بَيْتِهِ، وَيُؤْذِيهِ فِي قَبْرِهِ مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ اللَّهَ فِي بَيْتِهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] [ص: 299] . فَفِي الْحَدِيثِ تَحْذِيرٌ عَنِ ارْتِكَابِ مَنَاهِي اللَّهِ، وَإِتْيَانِ مَعَاصِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُؤْذُوا اللَّهَ فِي حَيَاتِكُمْ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَتُؤْذَوْنَ بِهِ فِي قُبُورِكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 - ح خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: «تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ يُبَلِّغُونَهُمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ فَظَوَاهِرُهُمْ مُوَافِقَةٌ لِأَوْصَافِ الْبَشَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] ، وَبَوَاطِنُهُمْ مَحْمُولَةٌ بِأَوْصَافِ الْحَقِّ عَنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ ظَوَاهِرُهُمْ بِخِلَافِ أَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ لَمْ يُطِقِ النَّاسُ مُقَاوَمَتَهُمْ وَالْقُبُولَ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، أَيْ أَنَّهُمْ إِنْ رَأَوْهُمْ مَاتُوا، وَإِذَا مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ فَلَا بُشْرَى لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُ مُقَاوَمَةَ الْمَلَكِ فَكَيْفَ يُطِيقُ أَوْصَافَ الْحَقِّ وَتَجَلِّيَهُ [ص: 300] ، وَكَيْفَ يُطِيقُونَ كَلَامَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، وَقَالَ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] ، فَلَوْ كَانَتْ أَسْرَارُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَظَوَاهِرِهِمْ لَتَلَاشَتْ وَانَّحْلَتْ مِنْ قُوَاهَا عِنْدَ تَجَلِّي أَوْصَافِ الْحَقِّ لَهَا، وَلَوْ كَانَتْ ظَوَاهِرُهُمْ كَبَوَاطِنِهِمْ لَمْ يُقَاوِمِ الْبَشَرُ أَوْصَافَهَا وَلَمْ يُطَقِ الْقَبُولُ عَنْهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ظَوَاهِرَهُمْ بَشَرِيَّةً جِنْسِيَّةً لِيُطِيقَ الْبَشَرُ الْقَبُولَ عَنْهُمْ لِمُشَاكَلَةِ الْجِنْسِ، وَبَوَاطِنَهُمْ خَفِيَّةً وَمَلَكِيَّةً عَرْشِيَّةً عُلْوِيَّةً يُطِيقُ حَمْلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا وَيُكَاشَفُ لَهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، وَقَالَ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ، فَوَصَفَ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِنَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَةَ الْقُوَّةِ لِرُؤْيَةِ مَا عَجَزَ الْبَصَرُ عَنْهُ فَكَانَتْ ظَوَاهِرُ الْأَنْبِيَاءِ بَشَرِيَّةً يَطْرُقُهَا الْآفَاتُ وَتَحُلُّهَا الْعَاهَاتُ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا التَّلْوِينُ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ وَآفَةٍ وَمَلَامَةٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُجَّ وَجْهُهُ. وَقَالَ: «إِنِّي قَدْ بَدُنْتُ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» أَيْ كَبِرْتُ، وَتَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ لِطُولِ الْقِيَامِ، وَكُلُّ هَذِهِ آفَاتٌ لَحِقَتْ ظَاهِرَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ بَاطِنِهِ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَطْرُقُهُ الْآفَاتُ، وَتَحُلُّهُ الْعَاهَاتُ، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ح قَيْسُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: ح قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ح مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَذِهِ فَوَاللَّهِ مَا أُخْفِيَ عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودِكُمْ إِنِّي لَأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي» [ص: 301] وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَتُوَاصِلُ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» وَقَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتُ أَنْسَى وَلَكِنِّي أُنَسَّى لَيُسْتَنَّ بِي» . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ عَنْ سِرِّهِ، وَأَنَّهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ الْآفَةَ الَّتِي تُجَلِّي ظَاهِرَهُ مِنْ ضَعْفٍ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَوَرَمٍ عِنْدِ الْقِيَامِ وَسَهْوٍ فِي صَلَاةٍ، وَنَوْمٍ عَنْ صَلَاةٍ لَا يُجَلِّي شَيْءٌ مِنْهَا بَاطِنَهُ وَسِرَّهُ، فَقَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» ، لِأَنَّ النَّوْمَ آفَةٌ وَلَوْ حَلَّتِ الْآفَةُ قَلْبَهُ لَجَازَ أَنْ تُحِلَّهُ سَائِرُ الْآفَاتِ مِنْ نِسْيَانِ وَحْيٍ، وَتَوَهُّمٍ فِيهِ وَغَفْلَةٍ عَنْهُ وَسَأْمَةٍ مِنْهُ، وَفَزَعٍ يَمْنَعُهُ عَنْ وَاجِبٍ، فَعَصَمَ اللَّهُ مَعَ مَوْضِعِ الْخَاطِرِ مِنَ النَّاسِ عَلَى لُحُوقِ هَذِهِ الْآفَاتِ سِرَّهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» . وَنَامَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُعْلَمَ النَّاسَ مَاذَا عَلَيْهِمْ إِذَا نَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَأَمْسَكَ عَيْنَيْهِ وَأَنَامَهَا لَيَصِيرَ بِذَلِكَ سُنَّةً فِيمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا، وَأَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِتَفْرِيطٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ» وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَا أَنَامُ، وَلَكِنْ قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» ، وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ لِنَوْمِ عَيْنَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَامَ غَطَّ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ مَنَامِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ ظَاهِرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَنَامُ قَلْبُهُ عَنْ مَقَامِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَنْ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وَفِي حَدِيثٍ: «لَا نَوْمَ هُنَاكَ» ، أَلَا تَرَى يَقُولُ: «إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي» قَالَ: أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي دَائِمًا، أَرَادَ بِقَلْبِهِ؛ [ص: 302] لِأَنَّ قَلْبَهُ تَحْتَ الْعَرْشِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ هُنَالِكَ مَجَالُهُ، وَثَمَّةَ مَسْكَنُهُ وَقَرَارُهُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَوْمٌ، وَبَدَنُهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَعِنْدَ أَزْوَاجِهِ فِي حَيْثُ يَكُونُ فِيهِ النَّوْمُ وَسَائِرُ الْآفَاتِ، فَتَنَامُ عَيْنُهُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَنَمْ قَلْبُهُ عَمَّا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ حَرَكَاتُ الْبَدَنِ، وَالنَّوْمُ حَلَّ فِي الْبَدَنِ، وَلَيْسَ الصَّلَاةُ مَقَامَ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ فِي الصَّلَاةِ مَقَامُهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَلَمْ يَقُلْ: جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِي الصَّلَاةُ، فَكَانَ فِي الصَّلَاةِ مَقَامٌ لِقَلْبِهِ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنَيْهِ فِيهِ فَلَمْ يَنَمِ الْقَلْبُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَنَامَتِ الْعَيْنُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ كَمَا لَمْ يَنْسَ وَلَكِنْ يُنَسَّى، وَمَعْنَى أُنْسِيَ أَيْ تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ أَحْوَالُ النِّسْيَانِ، وَالنِّسْيَانُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتُ أَنْسَى» ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَفْلَةٌ، وَالْغَفْلَةَ آفَةٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّ الْآفَةَ تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَكَانَ يَسْهُو وَلَا يَنْسَى؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَفْلَةٌ، وَلَيْسَ السَّهْوُ بِغَفْلَهٍ، فَكَانَ يَسْهُو فِي صَلَاةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَغْفَلُ عَنْهَا، وَالسَّهْوُ شُغْلٌ فِيهَا فَرُبَّمَا كَانَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ فَيُقَدِّمُ أَوْ يُؤَخِّرُ شُغْلًا فِيهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا، فَكَذَلِكَ كَانَ يَنَامُ عَنْهَا لِيَكُونَ عَلَمًا لِلنَّاسِ وَسُنَّةً لِلْأُمَّةِ، وَلَا يَنَامُ عَمَّا فِيهَا فَيَكُونُ غَفْلَةً مِنْهُ وَآفَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 - ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ بَرَاءَاتٌ، وَحُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوَازٌ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالْوَلَايَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآلِ: فَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمُ الرَّجُلِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: آلُ فِرْعَوْنَ أَهْلُ مِلَّتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ح أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُدَيْمِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَالَ: ح شَرِيكٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: سُئِلَ [ص: 303] زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعِبَادَ فِي آلِ عَلِيٍّ وَآلِ جَعْفَرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَحَدَّثَنَا حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَأَهْلَ بَيْتِي، أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَأَهْلَ بَيْتِي - ثَلَاثًا -» قَالَ: فَقُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ قَالَ: آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ الْعَبَّاسِ وَقَالَ قَائِلُونَ: آلُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَنَسْلُهُ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِلنَّابِغَةِ: [البحر الطويل] قُعُودٌ عَلَى آلِ الْوَجِيهِ وَلَاحِقٌ ... يُقِيمُونَ أَوْلِيَاءَهَا بِالْمَقَارِيعِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَوَلَدَهُ؛ لِأَنَّ آلَ عَلِيٍّ وَلَدُهُ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةُ حَقِّ آلِ مُحَمَّدٍ، وَمَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ بِإِيجَابِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ حُكْمُهَا أَنْ تَعْلَمَ الشَّيْءَ بِالدَّلِيلِ وَالْعَلَامَةِ، سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْحَكِيمَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: الْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِصُورَتِهَا وَسِمَاتِهَا، وَالْعِلْمُ عِلْمُ الْأَشْيَاءِ بِحَقَائِقِهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الشَّيْءِ بِصُورَتِهِ وَسِمَتِهِ كَانَ مَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ بِصُورَتِهِمْ وَسِمَتِهِمْ، وَسِمَتُهُمْ أَنَّهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ، وَأَنَّهُمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ مَنْ عَرَفَهُمْ كَأَنَّمَا عَرَفَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ أَنْ يَعْرِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْفَضْلِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَإِذَا عَرَفَهُ بِذَلِكَ عَرَفَ وُجُوبَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَقَّهُ، وَأَلْزَمَ حُرْمَتَهُ، وَفَرَضَ طَاعَتَهُ، فَإِذَا عَرَفَ [ص: 304] ذَلِكَ عَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفَ آلَهُ بِهِ، وَعَرَفَ حُرْمَتَهُمْ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُمْ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَ حَقَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَرَفَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَهُ مِنْ عَظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَوَاجِبِ حَقِّهِ، وَفَرْضِ طَاعَتِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْقِيَامِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَصَّرَ بِوَاجِبِهِ فِعْلًا، وَصَدَّقَ بِهِ عَقْدًا وَإِقْرَارًا، كَانَتْ بَرَاءَةً مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللَّهِ مَعْرِفَةُ حَقِّي، وَمَنْ عَرَفَ حَقَّهُ عَرَفَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ» ، فَكَمَا كَانَ حُبُّ آلِهِ حُبَّهُ، وَحُبُّهُ حُبَّ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ آلِهِ مَعْرِفَةُ حَقِّهِ، وَمَعْرِفَةُ حَقِّ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوَازٌ عَلَى الصِّرَاطِ» ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الصِّرَاطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: ح بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ قَالَ: ح حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: ح النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: طَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: «أَنَا فَاعِلٌ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ» ، قُلْتُ [ص: 305] : فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَوَاطِنَ» فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ أَجَازَ آلَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ آلَهُ فَهُوَ مِنْ آلِهِ وَمَعَ آلِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فَمَنْ أَحَبَّ آلَ مُحَمَّدٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ فَهُوَ لَا يُؤْثِرُ عَلَيْهِمْ بَلْ يُؤْثِرُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ قَالَ: ح دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى فَتَيَانِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: اسْتَعْمِلْنَا عَلَى الصَّدَقَةِ نُصِيبُ مَا يُصِيبُ النَّاسُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِذَا أَخَذْتُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ هَلْ أُوثِرُ عَلَيْكُمْ؟» فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِفْصَاحٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ بَنُو هَاشِمٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤْثِرُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ أَيْ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الصِّرَاطِ لَا يُؤْثِرُ عَلَيْهِمْ بِإِجَازَتِهِ وَهُوَ مُطَاعٌ ثَمَّ أَمِينٌ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَايَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ» الْوَلَايَةُ هِيَ: الْمُوَالَاةُ، وَالْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالِاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» يَعْنِي عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْوَلَايَةُ [ص: 306] الصَّدَقَاتُ، وَالْوَلَايَةُ الْمُخَالَفَةُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] قَالَ الْخُلَفَاءُ: وَالْوَلَايَةُ النُّصْرَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] ، أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُمْ، فَالْوَلَايَةُ الِاخْتِصَاصُ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ وَالْحَلِفَ وَالصَّدَاقَةَ اخْتِصَاصٌ، وَالِاخْتِصَاصُ بِآلِ مُحَمَّدٍ وَمُصَادَقَتُهُمْ وَنُصْرَتُهُمْ نُصْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُوَالَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ وَلَايَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ الْأَمَانَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْعَذَابُ يَكُونُ فِي الْقَبْرِ، وَيَكُونُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ فِي النَّارِ، فَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ أَمِنَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى آلِ مُحَمَّدٍ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمُعَدِّلُ، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ قَالَ: ح شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ قَالَ: ح نَافِعٌ أَبُو هُرْمُزَ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: " لَقَدْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَكُمْ: آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ " قَالَ الْحَنَفِيُّ: يَا أَبَا حَمْزَةَ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ آلُكَ؟ قَالَ: «كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ نَقِيٍّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ» فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْرِفَةُ الْأَتْقِيَاءِ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُدَاخَلَتُهُمْ، وَمَنْ خَالَطَ قَوْمًا تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِمْ وَاقْتَدَى، كَانَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوَازٌ عَلَى الصِّرَاطِ» فَآلُ مُحَمَّدٍ: كُلُّ تَقِيٍّ، فَمَنْ أَحَبَّ الْأَتْقِيَاءَ كَانَ مَعَهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، وَأُخْرَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ مَحَبَّةَ أَوْصَافِ الْمَحْبُوبِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا أَحَبَّ أَوْصَافَهُ وَأَخْلَاقَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا اقْتَنَاهُ وَحَازَهُ وَسَعَى فِي تَخْلِيصِهِ عِنْدَهُ، فَكَانَ مَنْ أَحَبَّ الْأَتْقِيَاءَ أَحَبَّ أَفْعَالَهُمْ، وَإِذَا أَحَبَّ أَفْعَالَهُمْ سَعَى فِي تَحْصِيلِهَا التَّقْوَى فَمَنْ حَصَّلَ التَّقْوَى فَهُوَ مُتَّقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] ، فَصَحَّ جَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالْوَلَايَةُ لِلْأَتْقِيَاءِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِمْ وَالْمُصَادَقَةُ مَعَهُمْ وَالْمُصَافَاةُ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ تُوجِبُ الِاتِّصَافَ بِصِفَتِهِمْ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِأَوْصَافِ الْأَتْقِيَاءِ فَهُوَ مُتَّقٍ، وَالْمُتَّقُونَ آمِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [ص: 307] يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] ، وَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ، وَأُعْظِمَ أَجْرُ حَسَنَاتِهِ أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمَنْ يَتَوَلَّى الْأَتْقِيَاءَ تَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ الْهَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 حَدِيثٌ آخِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ح أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ» كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْفِقًا عَلَى أُمَّتِهِ، عَطُوفًا عَلَيْهِمْ، رَحِيمًا بِهِمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ، فَمِنْ شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنَ الْمَظْلُومِ عَنِ الظَّالِمِ، وَيُحِبُّ التَّجَاوُزَ، وَيَكْرَهُ الِانْتِصَارَ وَالِانْتِقَامَ لِلنَّفَسِ وَالْخُصُومَةَ لَهَا، وَيُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفِضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَتُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، وَالْجَارُودُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ح الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَقَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأْفَةٌ بِهِمْ فَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، وَتَرْكَ الِانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ، وَرُبَّمَا تَرَكَ الِانْتِصَارَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتَعْدَاءِ عَلَى ظَالِمِهِ، وَيَدَعُهُ وَلَا يُطَالِبُهُ بِمَظْلِمَتِهِ، وَلَكِنْ يَدْعُو عَلَيْهِ وَيُرِيدُ أَنْ يَذُوقَ الظَّالِمُ وَبَالَ ظُلْمِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ظَالِمِهِ حِينَ تَرَكَ الِاسْتَعْدَاءَ عَلَيْهِ وَالِانْتِقَامَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ. فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى ظَالِمِهِ مُنْتَصِرٌ وَلَيْسَ بِعَافٍ عَنْهُ وَلَا مُتَجَاوِزٍ، وَمَنْ عَفَا وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُنْتَصِرَ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَالْمُسْتَعْدِيَ عَلَيْهِ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِي انْتِصَارِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَجِبْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَقَالَ تَعَالَى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] [ص: 309] . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ» تَعْرِيضٌ مِنْهُ لِكَرَاهَةِ الِانْتِصَارِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَفْوِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا وَسَمِعَهَا تَدْعُو عَلَى سَارِقٍ سَرَقَهَا، فَقَالَ: " لَا تَسْتَجْنِي عَنْهُ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَجْنِي» لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «لَا تَسْتَجْنِي عَنْهُ» زَجْرٌ لَهَا عَنِ الِانْتِقَامِ وَالِانْتِصَارِ مِنَ السَّارِقِ غَيْرَ أَنَّهُ أَتَاهَا مِنْ أَلْطَفِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ مَا أَصَابَهَا فَثَقُلَتْ لِذَلِكَ وَأَرْمَضَتْ فَخَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهَا أَنْ لَا تَدْعُوَ عَلَى سَارِقَهَا وَتَعْفُوَ عَنْهُ لَمْ تَسْنَحْ نَفْسُهَا لِذَلِكَ، وَلَمْ تُطَاوِعْهَا، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا تُخَفِّفُ عَنْهُ بِدُعَائِهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ تَرَى أَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَتُرِيدُ الِانْتِقَامَ مِنْهُ بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَةِ وَأَشَدِّ الْعَذَابِ، فَقَالَ لَهَا: تُرِيدِينَ التَّغْلِيظَ وَأَنْتِ تُخَفِّفِينَ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ عَنْهُ لِتَطِيبَ نَفْسُهَا بِتَرْكِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا تَدْعُوَ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِذَا تَرَكَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ وَالتَّتَبُّعَ لَهُ وَأَخْذَ الظُّلَامَةِ مِنْهُ فَقَدْ عَفَتْ عَنْهُ فَوَجَبَ أَجْرُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَأَشْفَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا فَأَحَبَّ أَنْ لَا يُحَرَّمُ أَجْرُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالشَّفَقُ عَلَى سَارِقِهَا أَنْ يُؤَاخَذَ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهَا بِدُعَائِهَا عَلَيْهِ فَصَرَفَهَا عَنِ الِانْتِقَامِ وَالِانْتِصَارِ بِأَلْطَفِ الْوُجُوهِ، وَدَعَا إِلَى الْعَفْوِ الَّذِي أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَجْنِي عَنْهُ» كَرَاهَةَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَفْوِ وَنَدْبٌ إِلَى التَّجَاوُزِ، وَكَيْفَ يَكْرَهُ التَّخْفِيفَ عَنِ الظَّالِمِ، وَهُوَ إِلَى ذَلِكَ يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَحُثُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا» يَتْلُو عَلَيْهَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {ولَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ [ص: 310] رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا انْتُهِكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسٌ، وَحَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ مَهْدَوَيْهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَزْدَادَ بْنِ سَيَّارِ بْنِ دِينَارٍ النَّجَّارُ، بِهَمْذَانَ قَالَ: ح ابْنُ ظَرِيفٍ قَالَ: ح الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رِضَى اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّدَاءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِبَارَةً عَنِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَالْإِزَارُ عِبَارَةً عَنِ الْجَلَالِ وَالسَّتْرِ وَالْحِجَابِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَجْمُلُ الْكِبْرِيَاءُ، وَلَا يَحْسُنُ بِأَحَدٍ إِلَّا بِي؛ لِأَنَّ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَصَغَارٌ، الْحَدَثُ لَهُ لَازِمٌ، وَنَسِبَةُ الْعَجْزِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَالِاضْطِرَارُ عَلَيْهِ بَيِّنٌ، فَكَيْفَ يَجْمُلُ الْكِبْرِيَاءُ بِمَنْ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْحَدَثِ وَالِاضْطِرَارِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ، بَلْ يَجْمُلُ ذَلِكَ بِالْقَادِرِ الْقَهَّارِ الْقَوِيِّ الْجَبَّارِ الْغَنِيِّ الْعَلِيِّ الْوَاهِبِ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالْإِزَارُ عِبَارَةٌ عَنِ السِّتْرِ وَالْحِجَابِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ عِلْمًا وَكَيْفِيَّةً لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَانَ مَعْنَاهُ: حَجَبْتُ خَلْقِي عَنْ إِدْرَاكِ ذَاتِي وَكَيْفِيَّةِ صِفَاتِي بِالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، فَقَدْ وَنِيَتِ الْإِنْسُ عَنْ كُنْهِ صِفَاتِهِ، وَخَنَسَتِ الْعُقُولُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ، وَفَرَّتِ الْأَوْهَامُ عَنْ حَقَائِقِ نُعُوتِهِ، إِذْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَمَعْنَى الْمُنَازَعَةِ الدَّعْوَى قَوْلًا وَعِبَارَةً وَفِعْلًا وَإِشَارَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَعْنَى فِيهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَالِدٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: «لَا تَبَاغَضُوا» إِشَارَةٌ إِلَى الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ، وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَنَهْيٌ عَنِ النِّحَلِ الَّتِي تُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ، وَتَخْرُجُ عَنِ السُّنَّةِ النَّاطِقَةِ، وَالْكِتَابِ الْمُحْكَمِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الدِّينِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّبَاغُضِ، وَلَيْسَ مَا دُونَهُ مِنْ سَائِرِ الْمُخَالَفَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْمُنَازَعَاتِ فِي خُصُومَاتِ الْأَنْفُسِ وَمَظَالِمِ الْأَمْوَالِ، وَمُطَالَبَاتِ الْحُظُوظِ وَالْوِلَايَاتِ بِسَبَبِ التَّبَاغُضِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَحَقِّقِينَ بِإِيمَانِهِمْ لَا تَبْلُغُ مُطَالَبَاتُ حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ، وَخُصُومَاتُ الْأَمْوَالِ وَالْجِنَايَاتِ بَيْنَهُمْ مَبْلَغًا يُوجِبُ التَّبَاغُضَ بَيْنَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ فِي الْخِلَافَةِ، وَالْمُخَالَفَاتِ فِي الْوَلَايَةِ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ مَبْلَغَ الْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَقَالَ أَيْضًا وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ، وَأَبُو بَكْرٍ مِنْهُمْ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ، وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ، وَطَلْحَةُ مِنْهُمْ، وَعُثْمَانُ مِنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْهُمْ، أَوْ قَالَ سَعْدٌ مِنْهُمْ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] حَدَّثَنَاهُ أَبُو رَجَاءٍ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عَمِّ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سِرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَقَالَ مُعَاوِيَةُ فِي عَلِيٍّ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ النُّعْمَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَزْهَرِ الْأَشَوِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ التَّمْرِيِّ، بَصَرِيٌّ، وَقَالَ: الْأَزْهَرِيُّ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ الصَّوَابُ قَالَ: ح أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: سَلْ عَنْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أُرِيدُ جَوَابَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا , قَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهُ بِالْعِلْمِ عِزًّا، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» وَلَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ فَيَأْخُذُ عَنْهُ، وَكَانَ إِذَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ شَيْءٌ فَقَالَ: هَاهُنَا عَلِيٌّ، قُمْ لَا أَقَامَ اللَّهُ رِجْلَيْكَ وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الدِّيوَانِ. هَذَا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُنَازَعَتَهُمُ الْخِلَافَةَ وَمُجَاذَبَتَهُمُ الْوَلَايَةَ لَمْ تُؤَدِّ بِهِمْ إِلَى التَّبَاغُضِ. فَدَلَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا» أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا فِي النِّحَلِ وَالْآرَاءِ، وَلَا تَبَايَنُوا فِي الْمَذَاهِبِ وَالْأَهْوَاءِ فَتَبَاغَضُوا لَهَا؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَالضَّلَالَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ الْبُغْضَ عَلَيْهِ وَتَرْكَ الْمُوَالَاةِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَنَافَسُوا» أَيْ لَا تَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَحْرِصُوا عَلَيْهَا، وَلَا تَضِنُّوا بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُنَافَسَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ كَانَتْ وَاجِبَةً مَدْعُوًّا إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَرْفُوضَةً مَدْعُوًّا عَنْهَا إِذَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، وَالْمُنَافَسَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ الْمُنَافَسَةُ فِي الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَحُطُومِهَا، وَالْمُنَافَسَةُ فِيمَا تُؤَدِّي إِلَى الْحِرْصِ عَلَيْهَا وَالْجَمْعِ لَهَا، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا وَالضَّنِّ بِهَا. فَقَوْلُهُ: «لَا تَنَافَسُوا» نَهْيٌ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَزَجْرٌ عَنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدَابَرُوا» أَيْ لَا تَخَاذَلُوا، وَلَا تَغْتَابُوا، وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ غَائِلَةً، بَلْ تَعَاوَنُوا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، وَبِقَوْلِهِ {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» أَيْ لَا تَتَرَافَعُوا وَلَا تَتَعَالَوْا فَإِنَّكُمْ كُلَّكُمْ عِبَادُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: «إِخْوَانًا» يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا فِي التَّدَابُرِ؛ لِأَنَّ التَّخَاذُلَ هُوَ إِعْرَاضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَهُوَ التَّدَابُرُ؛ لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ إِذَا عَرَضَ عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ دُبُرُهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَلْ صِفَةُ الْأُخُوَّةِ التَّقَابُلُ، وَأَنْ يَكُونَ وَجْهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِخْوَانًا عَلَى سُرَرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] ، فَوَصَفَ الْإِخْوَانَ بِالتَّقَابُلِ وَهُوَ أَنْ لَا يُعْرِضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، فَهُوَ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يَجْعَلَهُ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، وَلَا يُدْبِرَهُ بِسُوءٍ قَوْلًا فَيَكُونَ غَيْبَتَهُ، أَوْ فِعْلًا فَيَكُونُ بَغْيًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَعْنَى الْخَبَرِ: لَا تَبَاغَضُوا أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْآرَاءِ، وَلَا تَبَايَنُوا فِي الْمَذَاهِبِ وَالْأَهْوَاءِ فَتَبَاغَضُوا بِهَا؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ تُوجِبُ الْبُغْضَ وَتَرْكَ الْمُوَالَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَرَوِيِّ قَالَ: ح أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ بْنِ عُرْيَانَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ح حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ» قَالَ: فَنَزَلَتْ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] ، فَقَالَ: «هَذَا أَهْوَنُ» [ص: 314] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] ، قِيلَ مَعْنَاهُ: فَجَعَلَكُمْ مُخْتَلِفِينَ مُتَفَرِّقِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ وَالْفُرْقَةُ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يُلْقِيَهُ فِيهَا وَبَيْنَهَا فِي الْمُنَازَعَاتِ وَمُطَالَبَةِ حُظُوظِ الْأَنْفُسِ مِنَ الْوَلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمْ فِرْقَةَ الْأَبْدَانِ أَوْ إِتْلَافَ الْأَنْفُسِ فِي مُنَازَعَةِ الدُّنْيَا، وَمُجَاذَبَةِ الْمُلْكِ فِيهَا، وَطَلَبَ الرِّفْعَةِ وَالْعُلُوِّ فِيهَا، وَجَمْعِ حُطَامِهَا وَالْإِسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَمْرِ فِيهَا دُونَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَالتَّبَايُنِ فِي الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْآرَاءِ الْمُغْوِيَةِ الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى نَفْيِ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَعْطِيلِ صِفَاتِهِ الَّذِي يَرْجِعُ أَكْثَرُهَا إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْمِلَّةِ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَكْذَبِ النَّاسِ، وَأَجْبَنِ النَّاسِ، وَأَبْخَلِ النَّاسِ - يَعْنِي عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَاهُ وَأَكْثَرَ لَهُ ثُمَّ خَلَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ كَيْفَ قُلْتُ: أَكْذَبِ النَّاسِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَهُوَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، وَكَيْفَ قُلْتَ: أَجْبَنِ النَّاسِ وَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَشْجَعُ مِنْهُ، وَكَيْفَ قُلْتَ: أَبْخَلِ النَّاسِ وَمَا جَمَعَ قَطُّ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ؟ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ فَعَلَامَ تُقَاتِلُهُ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَلَى أَنْ تَجُورَ طِينَةُ هَذَا الْخَاتَمِ فِي الْأَرْضِ. فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ قِتَالَهُ إِيَّاهُ وَاخْتِلَافَهُ عَلَيْهِ وَمُفَارَقَتَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلدُّنْيَا، فَافْتَرَقُوا لِلدُّنْيَا، وَاجْتَمَعُوا فِي الدِّينِ، فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ نَصَرَ الدِّينَ وَأَهْلَهُ، وَقَمَعَ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، فَتَحُوا الْأَمْصَارَ، وَأَسْلَمُوا الْكُفَّارَ، وَقَمَعُوا الْفُجَّارَ، وَدَعُوا إِلَى كَلِمَةِ التَّقْوَى، وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى جَمَعَهُمُ الدِّينُ، وَفَرَّقَتْهُمُ الدُّنْيَا فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُمْ، وَقَتَلَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَلْفَاهُمْ عَنْ سَلَامَةٍ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ، وَإِقَامَةِ شَهَادَاتِهِمْ، فَكَانَ بَأْسُهُمُ الَّذِي أُذِيقُوهُ كَفَّارَةً لِمَا اجْتَرَمُوهُ، وَتَمْحِيصًا فِيمَا اكْتَسَبُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ مَغْفُورٌ لَهَا، جَعَلَ اللَّهُ عَذَابَهَا بِأَيْدِيهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ فَيُقَالُ: هَذَا فِدَاؤُكَ فِي النَّارِ " [ص: 315] حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ قَالَ: ح أَبُو نُعَيْمِ بْنُ نَاعِمٍ قَالَ: ح عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: ح لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ إِنَّمَا جُعِلَ عَذَابُهَا فِي الْقَتْلِ وَالزَّلَازِلِ وَالْفِتَنِ» فَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا دُونَ التَّوْحِيدِ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا رَحْمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَضِيقَ بِهِمُ الْأَمْرُ، وَلَا يُحَمَّلُوا مَا لَا يُطِيقُونَ مِنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ وَهَنُ الْحَقِّ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] ، فَلَمْ يُكَلَّفُوا مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] ، عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَتَكُونُ الْمُقَاتَلَةُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ عُقُوبَةُ اخْتِلَافِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَهْوَنُ» ، وَلَوْ كَانَ تَفَرَّقُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ لَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الصَّاعِقَةِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ فَوْقٍ، وَالْحِجَارَةِ الَّتِي يُرْمَوْنَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَالْخَسْفِ الَّذِي يُغْتَالُونَ بِهِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، إِذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَسْفُ وَالْقَذْفُ يُصِيبُ مَنْ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْأَطْفَالِ الصِّغَارِ، وَمَنْ لَمْ يَقْتَرِفِ الذُّنُوبَ الْكِبَارَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْحَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ الْفُجَّارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْثًا [ص: 316] حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِهِمْ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ» قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ: بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ مُنْذِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ امْرَأَةٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ بَأْسَهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَفِيهِمْ طَاعَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ» فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُخْسَفُ بِمَنْ يُفْضِي إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الدِّينِ وَالْفُرْقَةَ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَشَدُّ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَذَا أَهْوَنُ» إِلَى قَوْلِهِ {يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] دُونَ قَوْلِهِ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْزُبَانِيُّ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الْآمَلِيُّ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ صَنَعَ حِينَ أَخَذَ يَحْكِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الرَّحْمَنُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِيكُ " حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 317] قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ» أَيْ: يَجْمَعُهَا وَيَرْفَعُهَا، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ مَبْسُوطَةٌ وَالْأَرَضِينَ مَدْحُوَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ، أَيْ بَسَطَهَا، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] ، وَقَالَ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ، فَالْمَقْبُوضُ وَالْمَأْخُوذُ وَالْمَطْوِيُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمَرْفُوعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] ، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} [الزمر: 67] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا تُجْمَعُ وَتُرْفَعُ وَتُبَدَّلُ بِهَا غَيْرَهَا، فَمَعْنَى الْقَبْضِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ لِلرَّفْعِ، وَقَبْضُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَبَسْطُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ وَالضِّمِّ، كَالْإِنْسَانِ إِذَا حَكَى إِنْسَانًا بِالْجُودِ بَسَطَ أَصَابِعَهُ وَنَشَرَ كَفَّهُ، وَإِذَا عَبَّرَ عَنِ الْبُخْلِ وَالْإِمْسَاكِ جَمَعَ كَفَّهُ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْقَبْضَ وَالْبُسْطَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ صِفَةَ الْجُودِ وَالْبُخْلِ، كَذَلِكَ قَبْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَبَسْطُهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ السَّمَاوَاتِ وَجَمْعِهَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقْبُوضِ وَالْمَجْمُوعِ لَا حِكَايَةٌ عَنْ يَدِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ، وَلَا عُضْوٍ، وَلَا جُزْءٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ لَهَا فَيُوصَفُ بِالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ الْمَفْهُومِ عِنْدَنَا كَأَيْدِي الْمُحْدَثِينَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَوْصَافِ الْحَدَثِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَسْطُ أَصَابِعِهِ وَقَبْضُهَا إِشَارَةً إِلَى الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ الْكُلُّ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَقْبِضُهَا كُلَّهَا فَيَبْسُطُ أَصَابِعَهُ لِلِاسْتِيعَابِ وَالْجَمْعِ وَيَقْبِضُهُمَا، لِذَلِكَ كَمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ يَدَهُ فَيَبْسُطُهَا ثُمَّ يَضُمُّهَا إِلَى نَفْسِهِ يَحْكِي بِذَلِكَ الْجَمِيعَ. وَحَرَكَةُ الْمِنْبَرِ مِنْ تَحْتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَرَكَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَالتَّوَاجُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِالْإِمَالَةِ وَالتَّثَنِّي وَتَحْرِيكِ الرَّأْسِ عِنْدَ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ، وَالْقَلَقِ عِنْدَمَا يَجِدُهُ فِي قَلْبٍ مِنْ حَزْنٍ أَوْ هَيْبَةٍ أَوْ إِجْلَالِ الشَّيْءِ وَاسْتِعْظَامٍ لَهُ، فَيَتَحَرَّكُ الْمِنْبَرُ لِحَرَكَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرَكَةُ الْمِنْبَرِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ، وَآيَاتِ رِسَالَتِهِ فَكَأَنَّ الْمِنْبَرَ يَتَحَرَّكُ مِنْ تَحْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيْبَةً لِلَّهِ، وَإِجْلَالًا لِمَا سَمِعَهُ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الْجِذْعُ يَحِنُّ لِفَقْدِ الذِّكْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [ص: 318] بِمَا أَرَادَ رَسُولُهُ، آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَوْصَافِ الْحَدَثِ، سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَصَدَّقْنَا رَسُولَهُ فِيمَا قَالَ وَفِيمَا بَلَّغَ، وَعَلِمَنَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ح أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ بِسَمْرَقَنْدَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ بِمِصْرَ قَالَ: ح عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّزَّاقِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يَرِيحُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ: رَجُلٌ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَرَجُلٌ كَذَبَ عَلَيَّ، وَرَجُلٌ كَذَبَ عَلَى عَيْنَيْهِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «كَذَبَ عَلَى عَيْنَيْهِ» أَيْ زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَرَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثٌ آخَرُ: «مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ» . قَالَ: وَإِنَّمَا عَظُمَتْ عُقُوبَةُ مَنْ كَذَبَ عَيْنَيْهِ فِي الرُّؤْيَا لِعِظَمِ جُرْمِهِ وَكَبِيرِ ذَنْبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَلَى مَلَكِ الرُّؤْيَا، وَالْكَذِبُ عَلَى الْمَلَكِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَدَّعِي وَيَكْذِبُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَكَادُ يَتَخَرَّصُ بِالرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حُلْمٌ مِنَ الشَّيْطَانِ أَوْ حَدِيثُ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا فِي حَدِيثِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ مِنْ نَهَارِهِ فِي لَيْلِهِ ". حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَطَّارُ أَبُو عَمْرٍو، قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: ح الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: ح مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ [ص: 319] مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ح أَبُو دَاوُدَ قَالَ: ح حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْقَطَّانِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] قَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» قَالَ حَرْبٌ فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ مَنْ تَكَذَّبَ فِي الرُّؤْيَا إِنَّمَا يَتَكَذَّبُ فِي الصَّالِحَةِ مِنْهَا، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ بُشْرَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَكَأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَشَّرَهُ بِكَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ يَسْتَحِقُّ كُلَّ عُقُوبَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَمَعْنًى آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُكْتِبِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ قَالَ: ح أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ الرَّازِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَكَانَ الْكَاذِبُ فِي الرُّؤَى بِشَيْءٍ يَدَّعِي جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَمَنِ ادَّعَى جُزْءًا مِنْ شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ لَهُ كَانَ كَمَنِ ادَّعَى جَمِيعَهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَهُوَ مَا ح نَصْرٌ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح بُنْدَارٌ قَالَ: ح عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: ح أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم [ص: 320] قَالَ: «مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا» فَهُوَ يُكَلَّفُ مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ فَيُعَذَّبُ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يُقَالَ: إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَهُمَا وَإِلَّا عُذِّبْتَ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ عَقْدَهُمَا فَيُعَذَّبُ وَالْمُدَّعِي إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْضًا , فَإِنَّهُ يَقُولُ: خَلَقَنِي اللَّهُ مِنْ مَاءِ فُلَانٍ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ صُلْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 - ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَرْخَانَ قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: ح حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ، يَرْوِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُوتِيَ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا يُؤْتَى الْعَبْدُ فِي الْجَنَّةِ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَصَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ، وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ قَالَ: ح الْأَزْرَقُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ح حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الزِّيَادَةُ؟ قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» [ص: 321] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَظَرُوا إِلَى اللَّهِ نَسَوْا نَعِيمَ الْجَنَّةِ» . وَالنَّظَرُ إِلَى اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلُ مَا أُتُوا فِيهَا، وَالْمُصَلِّي مُنَاجٍ لِرَبِّهِ مُشَارٌ لَهُ مَأْذُونٌ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْمَلِكِ بِالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُقَرَّبٌ بِالسُّجُودِ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرَبَ} [العلق: 19] ، وَهِيَ أَقْرَبُ حَالَةٍ إِلَى النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَالْمُصَلِّي كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَإِذَا كَانَ أَفْضَلُ مَا أُوتِيَ الْعَبْدُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ السَّلَامِ وَالنَّعِيمَ وَجِوَارَ اللَّهِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ ثَمَّ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُنَاجَاةُ، وَالْمُثُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُوَاجَهَةُ لَهُ أَفْضَلَ شَيْءٍ أُوتِيهِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْبَلْوَى، وَدَارُ الْفِنَاءِ وَالِانْتِقَالِ، وَجُوَارُ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى أَوْلَى أَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَاهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَإِلَّا كَانَتْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا أَفْضَلَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ حَظُّ النُّفُوسِ، وَفِي الصَّلَاةِ قُرَّةُ الْأَعْيُنِ وَالْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى التَّقْرِيبِ مِنَ الَّذِي فِي الْعُقْبَى، وَلَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَالرَّائِي لَهُ فِي الْآخِرَةِ رَاءٍ لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ نَاظِرٌ إِلَيْهِ نَظَرَ عِيَانٍ، رَزَقَنَا اللَّهُ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 - حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ جَمْهَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلٍّ زَكَاةٌ، وَإِنَّ زَكَاةَ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الزَّكَاةُ طَهَارَةُ الْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، فَالزَّكَاةُ طَهَارَةٌ وَتَزْكِيَةٌ، وَالتَّزْكِيَةُ التَّطْهِيرُ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ التَّزْكِيَةُ بَرَكَةً وَنُمُوًّا وَزِيَادَةً، وَتَكُونُ ثَنَاءً حَسَنًا، فَالزَّكَاةُ طَهَارَةُ الْمَالِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» ، أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُطَهِّرَهُ الصَّدَقَةُ، ثُمَّ الزَّكَاةُ تُنْقِصُ مِنْ عَدَدِ الْمَالِ وَتَزِيدُ فِيهِ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ فِيهِ، وَالصَّوْمُ يُنْقِصُ الْجَسَدَ وَيَزِيدُ فِيهِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ، فَنُقْصَانُ الْجَسَدِ مِنْ فُضُولِ مَا يُوَلِّدُ فُضُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِيهِ، إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالْبَاءَةِ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّوْمَ يُنْقِصُ مِنْ فُضُولِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تُوَلِّدُهَا الْأَغْذِيَةُ فِي الْجَسَدِ، فَالصَّوْمُ يُنْقِصُ مِنْ فُضُولِ الْبَدَنِ كَمَا تُنْقِصُ الزَّكَاةُ مِنْ فُضُولِ الْمَالِ، وَيَزِيدُ فِي قُوَّةِ النَّفْسِ، وَالْقُوَّةُ تَزِيدُ كَرَمَ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ وَالْمُشَاغَبَةِ وَالِانْتِصَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنْ جَهِلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرِئٌ صَائِمٌ» حَدَّثَنَاهُ حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ وَالْمُقَابَلَةِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ كَرَمِ الْأَخْلَاقِ، فَالصَّوْمُ يُنْقِصُ مِنْ فُضُولِ الْجَسَدِ، وَيَزِيدُ مِنْ كَرَمِ الْأَخْلَاقِ، وَالزَّكَاةُ تُنْقِصُ مِنْ فُضُولِ الْمَالِ وَتَزِيدُ فِي بَرَكَتِهِ، فَكَذَلِكَ كَانَ الصَّوْمُ زَكَاةَ الْجَسَدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: ح أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةَ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] الْآيَةَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] إِلَى قَوْلِهِ {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] الْآيَةَ، وَفِي أَكْلِ الرِّبَا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ» وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزِّنَا يُوَرِّثُ الْفَقْرَ» وَأَمْثَالُهَا كَثِيرَةٌ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِمَّا تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَكَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ تَعَالَى رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، لِذَلِكَ قَالَ: «أَلَا يَخْشَى» أَيْ إِنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُعَاقِبُ مَنْ شَاءَ، وَهُوَ يَرْحَمُ مَنْ شَاءَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ، فَلَا يَخْشَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيَأْخُذَهُ بِهَذَا الْجُرْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُدَّخَرَةِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُولُ: أَلَا يَخْشَى أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَيَتْرُكَ هَذَا الْفِعْلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 - ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْفُسَّاقَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا الْفُسَّاقُ؟ قَالَ: «النِّسَاءُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَ أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَبَنَاتِنَا؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّهُنَّ إِذَا أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ وَإِذَا ابْتُلِينَ لَمْ يَصْبِرْنَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْعَطَاءَ وَلَمْ يَصْبِرْ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّكُورَ فِي الْعِبَادِ قَلِيلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أَيِ الشَّكُورُ مِنَ النَّاسِ قَلِيلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ " فَالْوَاحِدُ مِنَ الْأَلْفِ قَلِيلٌ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ» . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّكُورُ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ وَالْمُوَحِّدِينَ بِأَجْمَعِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُورُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلًا، ذَلِكَ إِنَّ الشَّكُورَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَةِ الشُّكْرِ فَيَكُونُ شَاكِرٌ وَشَكَّارٌ وَشَكُورٌ، فَالشَّكُورُ الَّذِي يَشْكُرُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَكَادُ يَكْفُرُ نِعْمَةً مَا، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلٌ وَكُلُّهُمْ شَاكِرُونَ، وَالشَّكَّارُ فِيهِمْ كَثِيرٌ، وَالشَّكُورُ قَلِيلٌ فَيَكُونُ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ شَاكِرِينَ، وَالشَّكُورُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ [ص: 325] الشَّكُورُ} [سبأ: 13] بِيَاءِ الْإِضَافَةِ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ خَصَّ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكُلُّهُمْ عِبَادُهُ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ. وَمَعْنَى تَفْسِيرِ الْفُسَّاقِ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَنَّ صِفَةَ كُفْرَانِ الْعَطَاءِ وَتَرْكِ الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ فِيهِنَّ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي نُقْصَانٍ مِنْ آلَةِ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ وَعِلَّتِهِمَا، وَذَلِكَ هَوَانُ الْعَقْلِ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مِنَ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَسْلَبَ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْهُنَّ» وَنُقْصَانُ دِينِهِنَّ بِالْحَيْضِ، وَنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ بِالشَّهَادَةِ. فَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الدِّينِ، فَمَنْ رَقَّ دِينُهُ وَسَخِفَ عَقْلُهُ، قَلَّ شُكْرُهُ وَصَبْرُهُ، وَمَنْ تَرَكَ الشُّكْرَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَالصَّبْرَ فِي أَكْثَرِ الْبَلْوَى، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّارُ مَأْوَى مَنْ لَا دَيِنَ لَهُ وَلَا عَقْلَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النَّارِ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الدِّينِ {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 45] ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَقْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّاتِي لَا يَشْكُرْنَ الْعَطَاءَ، وَلَا يَصْبِرْنَ عَلَى الْبَلَاءِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِنَّ، وَأَكْثَرِ حَالَاتِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ فُسَّاقٌ، وَالْفُسَّاقُ فِي النَّارِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا النِّسَاءُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ، قَالَ: ح أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ح الْأَنْصَارِيُّ وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: ح سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ - وَاللَّفْظُ لِلْأَنْصَارِيِّ - أَنَّ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا الْمَسَاكِينُ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا النِّسَاءُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 - ح أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ الطَّاهِرِيُّ قَالَ: ح أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ السِّمْنَانِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى قَالَ: ح بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: ح عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْأَسَدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحِكْمَةُ إِحْكَامُ الْأُمُورِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ أَعْمَالَهُ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا آفَةٌ، وَإِحْكَامُ الْأُمُورِ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ، وَمَنْ أَرَادَ الْأَخْذَ بِالْأَوْثَقِ وَالْأَحْوَطِ عَمِلَ عَلَى الْمَخَافَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْمَلُ عَلَى الرَّجَاءِ فَكَأَنَّهُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ خَطْوَةٍ وَنَظْرَةٍ وَيَطْلُبُهَا بِحَقِّ اللَّهِ، فَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَشَرَطَ الْمَشِيئَةَ لِغُفْرَانِ مَا دُونَ الشِّرْكِ، فَإِنْ وَافَى الْقِيَامَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَشِيئَةِ فَيَكُونُ مَغْفُورًا لَهُ مَا إِنِ ازْدَادَ بِتَوَقِّيهِ وَمَخَافَتِهِ دَرَجَةً وَثَوَابًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ، وَيُطَالَبُونَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي عُمْرِهِ، بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يُقَاصُ لَهَا سَيِّئَاتُهُ، وَالْحِكْمَةُ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، يُقَالُ لِلْحَدِيدَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي فَمِ الدَّابَّةِ مِنَ اللِّجَامِ مُحْكِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاقِفَةُ بِالدَّابَّةِ وَالْمُمْسِكَةُ لَهَا [ص: 327] فَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ لِمِلْكِ النَّفْسِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَى ضَبْطِهَا، وَالْمُوَافَقَةِ بِهَا عِنْدَ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَمُشْكِلَاتِ الْأَحْوَالِ، وَعَنِ الِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّوَسُّعِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَمُخَالَفَةُ اللَّهِ أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْمَنْعِ لِلنَّفَسِ، وَالْكَفِّ لَهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْوَقْفِ بِهَا عَلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ، فَكَذَلِكَ كَانَتْ عَدَمُ مُخَالَفَةِ اللَّهِ رَأْسَ الْحِكْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 - ح أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الطَّاهِرِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَجِّيُّ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ: ح صَفَدِيٌّ قَالَ: ح زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَقَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا» أَيْ: تَخْضَعُ وَتَتَوَاضَعُ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمُتَوَاضِعِ الْمُنْذَلِّ لِلْحَقِّ خَافِضٌ الْجَنَاحَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ، فَوَضْعُ الْجَنَاحِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ سَائِرِ عُمَّالِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمْهَا ذَلِكَ فِي آدَمَ، وَذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً اسْتَخْبَرَتْ وَسَأَلَتِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْكُتُبِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْظَامِ إِنَّ خَلْقًا يَكُونُ مِنْهُمُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ ثُمَّ يَكُونُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، وَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] فَقَالَ لِآدَمَ: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [ص: 328] فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] ، تَصَاغَرَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي نَفْسِهَا وَرَأَتْ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهَا، وَأَلْزَمَهَا اللَّهُ الْخُضُوعَ لَهُ وَالسُّجُودَ، فَسَجَدَتْ لَهُ خُضَّعًا مُتَواضِعِينَ، فَتَأَدَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْأَدَبِ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهَا عِلْمُ بَشَرٍ خَضَعَتْ لَهُ وَتَوَاضَعَتْ، وَتَذَلَّلَتْ إِعْظَامًا لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَرِضَا مِنْهُمْ بِالطَّلَبِ لَهُ وَالشُّغُلِ بِهِ، فَهَذَا بِالطُّلَابِ مِنْهُمْ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ فِيهِمُ الرَّبَّانِيِّينَ مِنْهُمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ بِمَنِّهِ وَطَوْلِهِ إِنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 - ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْكِنْدِيُّ قَالَ: ح سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ شَامِيَّةٌ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُ عَتَبَاتٍ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَعْيًا عَلَى الْعِيَالِ، وَتَعَطُّفًا عَلَى الْجَارِ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا وَأَخْذَهَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ تَنَاوُلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ لَأَخْذِهَا مِنْ وَجْهِهَا شُرُوطًا ثَلَاثَةً كُلُّهَا ضَرُورَةٌ، وَهُوَ الِاسْتِعْفَافُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَالسَّعْيُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالْعَوْدُ عَلَى الْجَارِ، فَالْمُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ هُوَ الَّذِي بَلَغَ الْجَهْدُ بِهِ غَايَةً يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ أَوِ الْأَخْذِ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَهُوَ يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ عَلَى تَكَثُّرِهِ، فَإِنْ أَكَلَهَا عَلَى جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَالِاسْتِلْذَاذِ لَمْ يُجْزَ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِفُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ عِنْدَ ضَعْفٍ يَحِلُّ بِهِ بَخِلَ بِدِينِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ أَوْسَاخٍ الَّذِي هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُرُوحٌ وَخُمُوشٌ، وَطَلَبِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ بِغَيْضَةُ اللَّهِ وَالْقِرَاءَةِ لِأَهْلِهَا وَهِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ، جَاءَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَهُوَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا قَدْرَ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَيَصُونُ وَجْهَهُ وَدِينَهُ عَلَى تَكَثُّرِهِ لَا لِلِاخْتِيَارِ وَالْمَحَبَّةِ لَهَا وَاللَّذَّةِ بِهَا وَعَلَى [ص: 329] تَوَقٍّ مِنْ سُمِّهَا وَحَذَرٍ مِنْ غُرُورِهَا، فَكَأَنَّهُ يَشْرَبُ السُّمَّ مَخَافَةً، وَكَذَلِكَ السَّاعِي عَلَى الْعِيَالِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُهُ فَهُوَ إِذَا خَافَ أَنْ يَأْثَمَ بِتَضْيِيعِ عِيَالِهِ اضْطُرَّ إِلَى الطَّلَبِ لَهُمْ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِمْ قَدْرَ الْكِفَايَةِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمُتَعَطِّفُ عَلَى الْجَارِ، وَهُوَ مَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْإِمْكَانِ مَا عَجَزَ عَنْهُ جَارُهُ مِنَ الْعَوْدِ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ قُوتُ جَارِهِ كَمَا لَزِمَهُ فَرْضُ عِيَالِهِ، فَقَدِ اضْطُرَّ إِلَى أَنْ يَسْعَى بِقَدْرِ مَا يَعُودُ عَلَى الْجَارِ الْعَاجِزِ عَمَّا قَوِيَ عَلَيْهِ السَّاعِي، فَهُوَ يَسْعَى بِفَضْلِ قُوَّتِهِ، وَيَعُودُ عَلَى جَارِهِ بِفَضْلِ مَا عِنْدَهُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ وَلَا جَارٌ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَالِهِ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ مَا يَسْتَعْفِي بِهِ عَنِ السُّؤَالِ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] . ثُمَّ طَلَبَ الدُّنْيَا , لَمْ يَخْلُ طَلَبُهُ لَهَا مِنْ إِحْدَى الثَّلَاثِ الْخِصَالِ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا لَهَا، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ طَلَبُهُ لَهَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ لَهَا لِلْمُفَاخَرَةِ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَالْمُفَاخَرَةُ بِهَا هِيَ الْمُنَافَسَةُ الَّتِي خَافَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وَأَصْحَابِهِ حِينَ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَا: ح مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ يُرِيدُ بِطَلَبِهَا الْمُرَاءَاتِ فَهُوَ التَّزَيُّنُ بِهَا وَهِيَ تُزَيَّنُ وَلَكِنَّهَا شَيْنٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْآدَمِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ [ص: 330] ، عَنِ الْحَسَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ صَاحِبَ الدُّنْيَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ مِنْهَا إِلَى سُرُورِ الشَّخْصِيَّةِ إِلَى مَكْرُوهٍ , الْيَسَارُ فِيهَا لِأَهْلِهَا غَارَةٌ، وَالنَّافِعُ فِيهَا غَدًا ضَارٌّ، فَالدُّنْيَا عَارٌ، وَالطَّلَبُ لَهَا شَيْنٌ، وَالْقِلَّةُ مِنْهَا دِينٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ حَبَّانَ قَالَ: ح حَيَّانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَقْرُ أَحْسَنُ وَأَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعِذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» فَالْمِرَاءَاتُ بِهَا شَيْنٌ، وَيُرِيدُ بِطَلَبِهَا الِاسْتِكْثَارَ مِنْهَا، وَالْمُكْثِرُ هَالِكٌ إِلَّا الْقَلِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ح مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطُّنَافِسِيُّ قَالَ: ح الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَآنِي أَقْبَلْتُ قَالَ: «هَلَكَ الْأَكْثَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هَلَكَ الْأَكْثَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» قَالَ: فَأَخَذَنِي غَمٌّ فَجَعَلْتُ أَتَنَفَّسُ، فَقُلْتُ: هَذَا شَيْءٌ حَدَثَ، قُلْتُ: مَنْ هُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: «الْأَكْثَرُونَ إِلَّا مَنْ قَالَ فِي عِبَادِ اللَّهِ، هَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ فَيَتْرُكُ إِبِلًا أَوْ غَنَمًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ حَتَّى تَطَأَهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحَهُ بِقُرُونِهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَعُودَ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا» فَإِنْ طَلَبَهَا لِيَطْلُبَ بِهَا الْبِرَّ، وَفِعْلَ الصَّنَائِعِ، وَاكْتِسَابَ الْمَعْرُوفِ كَانَ عَلَى خَطَرٍ، وَتَرْكُهُ لَهَا أَبْلَغُ فِي الْبِرِّ، فَقَدْ قِيلَ: يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتَبَرَّ. بِرُّكَ بِهَا بَرَّ. فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الطَّالِبَ لَهَا مِنْ وَجْهِهَا لِلضَّرُورَةِ لَا غَيْرَ , فَإِنَّهُ قَدْ شُرِطَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا الْحَلَالُ، وَمَا شَيْءٌ أَعَزَّ اللَّهُ مِنْ دِرْهَمٍ حَلَالٍ، قَالَ سُفْيَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا شَيْءٌ أَعَزَّ اللَّهُ الْيَوْمَ مِنْ دِرْهَمٍ وَافَى فِي اللَّهِ. فَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى شَرَفِ الْفَقْرِ وَضَعَةِ الْغِنَى وَقُصُورِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْفَقْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغِنَى الَّذِي هُوَ فُضُولُ الْمَالِ لَيْسَ إِلَّا كَثْرَةُ الْعَرَضِ، وَحُطَامُ الدُّنْيَا، وَلَا يَكَادُ [ص: 331] الْكَثْرَةُ مِنْهَا يَكُونُ إِلَّا بِالطَّلَبِ لَهَا وَالْجَمْعِ إِيَّاهَا، وَالطَّالِبُ لِلِاسْتِكْثَارِ مُتَوَعَّدٌ بِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَهُوَ مُكْثِرٌ، وَالْمُكْثِرُ هَالِكٌ إِلَّا مَنْ أَعْطَى يَمِينًا وَشِمَالًا وَوَرَاءً، وَلَا يَكَادُ يَبْقَى الْمَالُ مَعَ الْإِعْطَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ لِرَجُلٍ افْتَخَرَ بِالْغَنَاءِ بِالْمَالِ، فَقَالَ: مَا افْتِخَارُكَ بِشَيْءٍ يُتْلِفُهُ الْجُودُ وَيُمْسِكُهُ الْبُخْلُ. وَقَالَ آخَرُ وَرَأَى رَجُلًا يَفْتَخِرُ عَلَى آخَرَ بِمَالِهِ فَقَالَ: مَا افْتِخَارُكَ بِشَيْءٍ يُعْطِيهِ الْبَخْتُ، وَيَحْفَظُهُ اللَّوْمُ، وَيُهْلِكُهُ السَّخَاءُ. أَنْشَدَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [البحر الوافر] مَلَأْتُ يَدِي مِنَ الدُّنْيَا مِرَارًا ... وَمَا طَمَعَ الْعَوَاذِلُ فِي اقْتِصَادِي وَلَا وَجَبَتْ عَلَيَّ زَكَاةُ مَالٍ ... وَهَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْجَوَادِ وَكَفَاكَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَا الْمَالِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّطْهِيرِ، وَلَوْلَا التَّدَنُّسُ بِهِ لَمْ تُطَهِّرْهُ الزَّكَاةُ قَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» . فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَدَنَّسُوا بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَزَنَ اللَّهِ لَا مُتَمِلِّكِينَ لِلْأَمْوَالِ جَامِعِينَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْأَطْفَالُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَدَنَّسُوا بِهَا، وَسَائِرُ الْمُكْثِرِينَ مِنْهَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ أَدْنَاسِهَا، وَالْغُسْلِ مِنْ أَقْذَارِهَا، وَالْمُتَخَلِّي مِنْهَا طَاهِرٌ مِنْ أَدْنَاسِهَا، طَيِّبٌ مِنْ أَقْذَارِهَا، غَنِيٌّ عَنِ التَّطَيُّرِ بِالزَّكَاةِ مِنْهَا، آمِنٌ مِنَ الْوَعِيدِ بِكَيِّ الْجِبَاهِ وَالْجُنُوبِ بِهَا، وَالْعَذَابِ عَلَى الْحَرَامِ مِنْهَا، وَالْحِسَابِ عَلَى الْحَلَالِ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ أَفْرَدَنَا لِشَرَفِ الْفَقْرِ وَأَهْلِهِ كِتَابًا جَامِعًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ، وَالْحُجَجِ الْكَثِيرَةِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وَالنَّظَرِ، وَمَعْنَى الْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْغَنَاءِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ هَا هُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: ح ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ: ح حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُدْرِكُ بِقَوْلِهِ وَنِيَّتِهِ مَا يُدْرِكُ الْغَنِيُّ بِفُضُولِ مَالِهِ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَاسَمُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَآثَرُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} الْآَيَةَ، فَهُمْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ، وَقَاسَمُوهُمْ إِيَّاهَا حَتَّى خَافَ الْمُهَاجِرُونَ أَنْ يَفْضُلُوهُمْ، وَيَفُوتُهُمْ مَا يُعْطَى الْأَنْصَارُ عَلَى نَفَقَاتِهِمْ وَبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ الثَّوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَاسِعٌ غَنِيٌّ لَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ يَفْضُلُونَنَا بِأُجُورِ نَفَقَاتِهِمْ، فَيَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ دُونَنَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا» أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا تَظُنُّونَ، أَيْ لَا يَفْضُلُونَكُمْ وَلَا يَفُوتُكُمْ، فَإِنَّ دُعَاءَكُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَثَنَاءَكُمْ عَلَيْهِمْ يَقُومُ مِنْكُمْ مَقَامَ نَفَقَاتِهِمْ مِنْهُمْ وَبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، فَتُعْطَوْنَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُعْطَوْنَ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْعَطَاءِ. فِيهِ أَيْضًا وُجُوبُ مُكَافَأَةِ الْمُعْطِي وَمُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ، وَمَعْرِفَةِ الْفَضْلِ لِلْمُنْعِمِ، أَعْنِي فَضْلَ أَيْ أَفْضَالًا، لَا فَضْلَ الشَّرَفِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ وَالْمُعْطِي وَالْمُحْسِنُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْضُلَهُ بِإِحْسَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى، قَالَ ح هَنَّادٌ قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ، وَهُوَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّرْغِيبُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا، وَالتَّشْجِيعُ فِي تَرْكِ الدُّنْيَا بِمَعْنَى الْإِنْفَاقِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ، رُزِقَ الْفَرَاغَ وَالتَّنَعُّمَ وَجَمْعَ الشَّمْلِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا أَيِ الرِّفْقُ فِيهَا وَالْمَهْنَأُ مِنْهَا فَيَكُونُ لَهُ الْمَهْنَأُ دُونَ الشُّغُلِ، وَالرِّفْقُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ غَنِيٌّ وَإِنْ عَدِمَ الْقُوتَ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ شُغِلَ بِمَا لَا يَجْرِي، وَتَعِبَ فِيمَا لَا يُغْنِي عَنْهُ، فَتَزْدَادُ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ مِنْهَا إِلَّا الْمَقْدُورَ، وَالْمَقْدُورُ لَا يُغْنِيهِ، وَإِنْ كَثُرَ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ عَلَيْهِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ. تَعَبُ الطَّلَبِ، وَالْخَيْبَةُ فِي التَّعَبِ، فَهُوَ فَقِيرٌ وَإِنْ مَلَكَ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ أَسِيرُ الْقُدْرَةِ سَلِيبُ الْقَبْضَةِ، وَإِنَّ أَفْعَالَهُ تَبَعٌ لِفِعْلِ اللَّهِ بِهِ، وَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا عَنْ أَوْصَافِهِ مَصْرُوفًا عَنْ نَظَرِهِ إِلَى أَفْعَالِهِ مُعْتَرِفًا بِعَجْزِهِ، مُقِرًّا بِاضْطِرَارِهِ، عَالِمًا بِضَرُورَتِهِ وَافْتِقَارِهِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا تَكُونُ الْآخِرَةُ هَمَّهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبِلُ عَلَى الْآخِرَةِ إِلَّا مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا حِجَابُ الْآخِرَةِ فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ بَصَرِ الْقَلْبِ رَأَى [ص: 334] الْآخِرَةَ بِعَيْنِ إِيقَانِهِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْآخِرَةِ شُغِلَ عَنِ الدُّنْيَا، صَارَتْ مَرْفُوعَةً مِنْهُ مَتْرُوكَةً عَنْهُ، قَالَ حَارِثَةُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا صَارَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَرِيصٌ، وَالنَّفْسَ رَاغِبَةٌ , إِمَّا تَرْغَبُ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ إِلَى الْآَخِرَةِ، فَإِذَا حُجِبَتْ عَنِ الدُّنْيَا بِالْعُزُوفِ عَنْهَا، وَالِاسْتِغْنَاءِ مِنْهَا افْتَقَرَتْ إِلَى الْآخِرَةِ، وَرَغِبَتْ فِيهَا. قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ: قَدْ زَهِدْتَ فِي الدُّنْيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَنْفُسَنَا تَوَّاقَةٌ تَاقَتْ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَمَّا أَصَابَتْهَا تَاقَتْ إِلَى الْآخِرَةِ. فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَعَلَ لَهُ، يَسَّرَهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا صَارَتْ هِمَّتُهُ الْآخِرَةَ وَمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَالرِّفْقِ فِيهَا، يَأْتِيهِ فِي رَاحَةٍ مِنْ بَدَنِهِ وَفَرَاغٍ مِنْ سِرِّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «رَاغِمَةٌ» ، أَيْ تَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَلَّ مَا يُؤْتَى طِلَابُهَا إِلَّا بِجَهْدٍ وَطَلَبٍ لَهَا حَثِيثٍ، فَإِذَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَكَأَنَّهَا جَاءَتْ رَاغِمَةً صَاغِرَةً ذَلِيلَةً، وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ إِلَى الدُّنْيَا وَحَجَبَهُ عَنِ الْآخِرَةِ بِمَيْلِهِ إِلَى الدُّنْيَا، صَارَتِ الدُّنْيَا نَصْبَ عَيْنَيْهِ، وَالدُّنْيَا فَقْرٌ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ حَاجَةِ الرَّاغِبِ فِيهَا لَا تَقْتَضِي , فَهِيَ الْعِطَاشُ كُلَّمَا ازْدَادَ شَرَابًا ازْدَادَ عَطَشًا، فَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ صَارَ الْفَقْرُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَقُرَ سِرُّهُ وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ، وَتَشَتَّتَ هِمَّتُهُ، وَتَعِبَ بَدَنُهُ، وَشَرِهَتْ نَفْسُهُ، وَازْدَادَتِ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَّا الْمَقْدُورُ، وَالْمَقْدُورُ مِنْهَا لَا يُغْنِيهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَكُلٌّ لَا يَفُوتُهُ مَقْدُورُهُ مِنَ الدُّنْيَا. نَبَّهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَهَمَّتْهُ الْآخِرَةُ فَلْيَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ الْغَنَاءِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى رَفَضَ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَهَمَّتْهُ الدُّنْيَا فَلْيَفْتَقِرْ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَإِزَالَةِ الْفَقْرِ مِنْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَالْحِرْصِ مِنْ قَلْبِهِ: وَالتَّعَبِ مِنْ بَدَنِهِ، وَالشُّغُلِ مِنْ قَلْبِهِ. فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فِيمَا يَرْضَى بِالْحَمْدِ لَهُ، وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] وَقَالَ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] [ص: 335] وَفِيمَا يَكْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ َلهُ والِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي نَقْلِ مَا يَكْرَهُ، لَا مَا يُحِبُّ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وَقَالَ تَعَالَى فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] الْآيَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 - ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّاسَ، فَوَاصَلُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُمْ وَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيَنِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَحَدَّثَنَاهُ حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى، قَالَ ح ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيَنِي، فَتَكَلَّفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الظُّلُولُ وَالْبَيْتُوتَةُ يُعَبِّرَانِ عَنِ الزَّمَانِ كُلِّهِ وَيُخْبِرَانِ بِالدَّوَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ جَمِيعَ نَهَارِهِ وَكُلَّ لَيْلِهِ، فَكَانَ يَقُولُ: «أَنَا عِنْدَ رَبِّي أَبَدًا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَحْسِرُ وَلَا يَفْتُرُ» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ غَيْرُهُ» مَعْنَاهُ: وَقْتِي كُلُّهُ مَعَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي وَأَبِيتُ» ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَغْيَارِ إِلَيْهِ طَرِيقٌ، وَلَا لِلْخَلْقِ بِمَعْنَى الْإِشْرَافِ نَظَرٌ وَتَحْدِيقٌ، فَإِنَّمَا رَبَطَ الْخَلْقَ بِظَاهِرِهِ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ آدَابَ الشَّرِيعَةِ وَأَوْصَافَ الْعُبُودِيَّةِ بِمَوَافَقَةِ الْجِنْسِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْخَلْقِ الْأَخْذُ [ص: 336] عَنِ الْوَسَايِطِ الَّذِينَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الفرقان: 20] . أَخْبَرَ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ وَبِنْيَتَهُمْ بِنْيَةُ الْبَشَرِيَّةِ، تَعْتَرِيهَا حَوَادِثُ نُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيَتَطَرَّقُهَا آفَاتُ الْحَدَثِ، وَمقَايقهم الَّتِي هِيَ بَوَاطِنُهُمُ مَحْمُولَةٌ بِالِاسْتِظْهَارِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَأَوْصَافِ الْحَقِّ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا عَجْزُ الْبَشَرِيَّةِ، وَضَعْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهِيَ مَحْمُولَةٌ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ جَلَّ اسْمُهُ عَنْ طُرُوقِهِ عَلَيْهَا، وَمَعْصُومَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ أَوْصَافِ الْحَدَثِ فِيهَا مِنْ ضِعْفٍ وَجُوعٍ، وَعَطَشٍ أَوْ فُتُورِ سَهَرٍ أَوْ حَجَبَةٍ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «لَا يَنَامُ قَلْبِي وَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ» ، لِنَعْلَمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ قَائِمَةٌ بِأَوْصَافِ الْحَقِّ لِلْحَقِّ، وَظَاهِرُهُ عَلَى صِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ لِلْخَلْقِ، فَكُلُّ صِفَةٍ ظَهَرَتْ فِي نَبِيِّهِ وَظَاهِرِ نَعْتِهِ جَرَتْ عَلَى إِنْسَانِيَّتِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ} [التوبة: 43] . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌّ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ» وَرَبْطُهُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَسَهْوُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَسَائِرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي شَبَهَ ذَلِكَ مِنْهُ حَظَّ الْأَغْيَارِ مِنْهُ وَنَصِيبَ الْخَلْقِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ التَّأْدِيبِ فِعْلًا وَقَوْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] . فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَ أَخْلَاقَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَافَهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، وَقَالَ {إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسَخَطِهِ» . يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] . أَخْبَرَ أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ يُصِيبُ الْخَلْقَ، وَقُدْوَةُ الْأُمَّةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ حِينَ شَكَا إِلَيْهِ ذَرَبَ لِسَانِهِ: «أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ح [ص: 337] أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعِ بْنِ الْوَضَّاحِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ قَالَ: ح عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ عَوْنٍ الْوَاسِطِيَّ قَالَ: ح أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرَبَ لِسَانِي، فَقَالَ: «أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَظَاهِرُ الْأَنْبِيَاءِ مَرْآةٌ لِلْخَلْقِ، يُبْصِرُونَ فِيهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَبَوَاطِنُهُمْ فِي حُجُبِ الْغَيْبِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتُ مِثْلَكُمْ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ح أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ح الْحَارِثُ بْنُ أُسَامَةَ قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ قَالَ: ح هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غَيْرَ ثَلَاثٍ، قَوْلِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ نَزَلَ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ، فَأُتِيَ الْجَبَّارُ فَقِيلَ: قَدْ نَزَلَ هَا هُنَا رَجُلٌ مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ قَالَ: أُخْتِي " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ بُلَيْدٍ الرُّعَيْنِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثًا [ص: 338] . .» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدُّ الْكَذِبِ مَا كَانَ مَخْبَرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «إِنِّي سَقِيمٌ» يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ حَالِهِ قَبْلَ بَيَانِ مَا ظَهَرَ لَهُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ، فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيْهَا مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِلُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَتَّى يَقَعَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَمَا يَدَّعِيهِ قَوْمُهُ وَبَيْنَمَا عَرَفَهُ بِفِطْرَتِهِ، فَكَانَ يَتَبَيَّنُ تَحْقِيقَ مَا عَرَفَهُ بِالْفِطْرَةِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ دَلِيلَ الْمُحَاجَّهِ لِقَوْمِهِ، وَإِزَالَةَ عَوَارِضِ الشُّكُوكِ الَّتِي تَهْجِسُ فِي الْخَوَاطِرِ، وَلَمْ يَكُنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَعَبَّرَ عَنْ ضَعْفِهِ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالسَّقَمِ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْعِلَّةِ إِذَا لَمْ تَطَّرِدُ فِي مَعْلُولَاتِهَا هَذِهِ: عَلَيَّ سَقِيمَةٌ، أَيْ ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ قَوْمٍ شَكُّوا فِيمَا آَتَاهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] قِيلَ: الشَّكُّ، وَالشَّكُّ ضَعْفٌ، فَكَانَ ضَعْفُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ، وَضَعْفُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَاجَّةِ، فَآتَاهُ اللَّهُ دَلَائِلَ الْمُحَاجَّةِ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِمَا نَصَّ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] ، وَقَوْلِهِ {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] . فَلَمَّا تَمَّتِ الْحُجَّةُ لَهُ فِي أُفُولِ الشَّمْسِ وَآثَارِ الْحَدَثِ فِيهَا، وَاسْتَحْكَمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى حُدُوثِ مَا دُونَ اللَّهِ، وَعَلَى قِدَمِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالِيهِ مِنْ أَوْصَافِ الْحُدُوثِ بِقَوْلِهِ {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] الْآَيَةَ نَادَاهُمْ بِالْخِلَافِ لَهُمْ لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ لَهُ دَلَائِلُ الْعَقْلِ، وَآلَةُ الْحِجَاجِ، فَعِنْدَهَا قَالَ {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فَحَاجُّوهُ فِي حُجَّتِهِمْ، فَهَذَا قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] . وَقَوْلُهُ: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» عَلَّقَ فِعْلَ كَبِيرِهِمْ بِكَوْنِ النُّطْقِ مِنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ كَبِيرُهُمْ يَنْطِقُ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ فَهُوَ فِعْلُ كَبِيرِهِمْ، فَهَذَا عَلَى التَّبْكِيتِ، لِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِي لَا امْتِنَاعَ لَهُ عَنْ كُرْهٍ، وَلَا نُطْقَ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ فَعَلَ بِهِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا يُعْبَدُ وَرَبًّا يُرْجَى؟ فَقَالُوا {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] فَهُوَ فِعْلُ كَبِيرِهِمْ، وَهَذَا صِدْقٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَخْبَرَهُ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ خَبَرِهِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ يَكُونُوا يَنْطِقُونَ [ص: 339] . وَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِسَارَةَ: «أُخْتِي» ، يَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُفَسَّرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: «مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ؟» قَالَ: «أُخْتِي» قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: إِنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْكِ، فَأَخْبَرْتُهُ إِنَّهَا أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَإِنَّكَ أُخْتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُكَ وَغَيْرِي " هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي ذَكَرْنَا إِسْنَادَهُ أَوَّلًا فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الدِّينِ وَصَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثًا» ، أَيْ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى صُورَةِ الْكَذِبِ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهَا عَلَى التَّوَهُّمِ مِنَ السَّامِعِ أَنَّهَا كَذِبَاتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَبَاتٍ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي الدَّفْعِ عَنِ الدِّينِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ " حَدَّثَنَاهُ نَصْرُ بْنُ فَتْحٍ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: ح بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو أَحْمَدَ قَالَ: ح سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكَذِبَ يَحِلُّ فِي الْحَرْبِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَالدَّفْعِ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ مِنْ جِهَةِ الدَّفْعِ عَنِ الدِّينِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُمَاحِلُ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا الْكَذِبُ حَلَالٌ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 حَدَّثَنَا نَصْرٌ، ح أَبُو عِيسَى، ح ابْنُ أَبِي عُمَرَ، ح سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: " اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: إِنِّي كَذَبْتُ كَذِبَاتٍ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْهَا كَذْبَةُ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ، فَهَذَا كَذِبٌ حَلَالٌ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 - حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ح حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح سِنَانُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ أَوْ غَيْرَهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْمَرْأَةُ يَمُوتُ زَوْجُهَا فَتَتَزَوَّجُ بَعْدَهُ زَوْجًا آخَرَ ثُمَّ يَمُوتُ، لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ: لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ مَعَهَا ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ح خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: ح هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: ح الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ خَطَبَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَرْأَةُ لِآخِرِ زَوْجِهَا فِي الْجَنَّةِ» وَمَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنَ السَّائِلَةِ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَتْ هِيَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَنَّهَا هِيَ السَّائِلَةُ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ، أُرَاهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكِلْتَاهُمَا كَانَتَا تَحْتَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَعَسَى خَطَرَ بِبَالِ السَّائِلَةِ أَنَّ زَوْجَهَا لَوْ لَمْ يَمُتْ لَكَانَتْ تَحْتَهُ أُخْرَى دَهْرَهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ فَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَسَاهَا أَشْفَقَتْ أَنْ تَكُونَ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، أَعْنِي لَوْلَا الْمَوْتُ لَكَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، فَاسْتَخْبَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَرِّرَ عِنْدَهَا أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا صَارَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَأَخْبَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً أَدْرَكَتِ الْمُرَادَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: «لِأَحْسَنِهِمَا [ص: 341] خُلُقًا» وَأَحْسَنُ زَوْجِهَا خُلُقًا مَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّائِلَةِ: «لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا» أَيْ أَنْتِ لِي فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنْتِ لِي فِي الدُّنْيَا، وَلِلْأُخْرَى: «هِيَ لِآخِرِ زَوْجِهَا» كَذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا: أَنْتِ لِي إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ أَزْوَاجِ نِسَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِحْدَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ زَوْجًا سِوَاهُ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، فَإِذَا كَانَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا، وَآخِرُ أَزْوَاجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمَرْأَةُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا» فِيمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الطَّلَاقُ لَا الْمَوْتُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ بَأْسٍ فَهُوَ سُوءُ الْخُلُقِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ اللَّخْمِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ، وَلَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا أَبْغَضَ مِنَ الطَّلَاقِ» فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ إِلَّا عَنْ بَأْسٍ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ كَانَ ذَلِكَ لِسُوءِ خُلُقٍ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ وَقِلَّةِ مُدَارَاةٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْخُلُقِ كَانَتْ فِيهِ مَرَارَةٌ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَسْتَمْتِعُ بِهَا وَيَتَحَمَّلُ سُوءَ خُلُقِهَا، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الطَّلَاقُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ح [ص: 342] نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: ح يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: ح ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ كَالضِّلَعِ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا عَلَى عِوَجٍ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَسْتَمْتِعُ بِالْمَرْأَةِ يَتَحَمَّلُ مَا يَكُونُ مِنْهَا مِنَ الِاعْوِجَاجِ، يَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُدَارَاةِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِذَا حَسُنَ خُلُقُ الرَّجُلِ لَا يَكَادُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ إِلَّا الْمَوْتُ، أَنْ يَمُوتَ عَنْهَا فَيَكُونَ آخِرَ أَزْوَاجِهَا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا مَعَهَا فَيَتَّفِقُ الْخَبَرَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 - ح أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ قَالَ: ح أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَكْرِيُّ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا مَنْ يُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ وَلَا فَخْرَ، فَآتِي فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ فَيُفْتَحُ لِي فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَأُمِيِّزُ وَأُدْخِلُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ثُمَّ أَرْجِعُ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ [ص: 343] : اذْهَبْ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إِيمَانًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَأُمَيِّزُ فَأُدْخِلُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ يَبْقَى قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَيَقُولُ لَهُمْ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَبَرُوتِي، وَعُلُوِّ مَكَانِي لَا أَدَعُ أَحَدًا كَانَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجْتُهُ مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُهُمْ فَيَجْعَلُهُمْ فِي نَهَرٍ يُسَمَّى نَهَرَ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ هَلْ تَرَوْنَ مَا يَلِي الظِّلَّ مِنْهَا اصْفَرَّ، وَمَا يَلِي الشَّمْسَ مِنْهَا اخْضَرَّ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كُنْتَ فِي الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: " إِنِّي كُنْتُ فِي الْبَادِيَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ، فَيَقُولُ: لَا تَقُولُوا الْجَهَنَّمِيُّونَ وَلَكِنْ قُولُوا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ، وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُلْكُ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا غَيْرَ أَنَّهُ قَدِ ادَّعَى قَوْمٌ الْمُلْكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَئِذٍ لَا مُدَّعِي، كُلٌّ قَدْ أَذْعَنَ وَانْقَادَ، وَزَالَ مُلْكُ كُلِّ ذِي مُلْكٍ، فَلَا أَحَدَ يَقُولُ: أَنَا مَلِكٌ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَا سُؤْدُدَ لِأَحَدٍ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الَّذِي يَفْزَعُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ إِذَا أَصَابَتْهُمْ نَائِبَةٌ أَوْ حَلَّ بِهِمْ أَمْرٌ لَا يَقُومُونَ بِهِ، فَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ، وَيَقُومُ بِأَسْبَابِهِمْ، وَيَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ عَنْهُمْ وَيَذُبُّ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ النَّاسِ خَادِمُهُمْ» ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِمْ مُؤَنَهُمْ، وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أُبْلِسُوا وَلَا فَخْرَ حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح مُسَدَّدٌ قَالَ: ح أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 344] : " يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَيُذْكَرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا نُوحًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَيُذْكَرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهَ فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَيُذْكَرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونَنِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ أَخِرُّ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ مِنَ النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ " فَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: عِنْدَ هَذَا أَرَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، فَهَكَذَا السُّؤْدُدُ وَهَذَا السَّيِّدُ. وَقَوْلُهُ: «وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِوَاءِ الْحَمْدِ أَيْ: لِوَاءُ الثَّنَاءِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِوَائِي لِوَاءٌ يَعْلَمُ الْخَلَائِقُ أَنَّهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُغْلَقُ التَّوْبَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يُعْرَفُ بِغَدْرَتِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِلِوَائِهِ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ» [ص: 345] وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ: «بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقْدُمُهُمْ إِلَى النَّارِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَبَّاسِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ الْإِسْنَانِيُّ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ح هِشَامٌ، عَنْ أَبِي جَهْمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «امْرُؤُ الْقَيْسِ صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ» فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ أَلْوِيَةٌ صَحِيحَةٌ، وَأَلْوِيَةٌ أُخْرَى فَصِيحَةٌ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «عِنْدَ اسْتِهِ» لِيَكُونَ أَفْضَحَ لَهُ وَأَشْيَنَ، فَلِوَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَلِوَاءُ الثَّنَاءِ، وَالَّذِينَ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ أَلْوِيَةٌ أُخْرَى وَشَيْنٌ فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُحْبَتِهِ الْحَمَّادُونَ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْمَدُ كُلِّ مَحْمُودٍ مِنَ الْخَلْقِ فَلِوَاؤُهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ قَالَ: فَيَحْمِلُهُ، وَيُفْتَحُ لَهُ مِنَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُفْتَحْ لِأَحَدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا فَخْرَ» يَقُولُ: لَا فَخْرَ لِي بِالْعَطَاءِ بَلِ الْفَخْرُ لِي بِالْمُعْطِي. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ» يَعْنِي بِالْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالرِّضَا وَالْقَبُولِ يُقَالُ: دَخَلْتُ عَلَى الْأَمِيرِ فَاسْتَقْبَلَنِي بِكُلِّ جَمِيلٍ إِذَا أَكْرَمَهُ وَأَدْنَاهُ وَسَمِعَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ يَعْنِي يُكْرِمُنِي وَيُدْنِينِي، وَيَسْمَعُ مِنْهُ، وَيُجِيبُ دُعَائِي، وَيُعْطِنِي سُؤَالِي، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «قُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِقْبَالُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ، وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا يُقَالُ اسْتَقْدَمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: اسْتَقْدَمْتَ رَحَّالَتَكَ وَاسْتَعْجَلَ بِمَعْنَى عَجِلَ، قَالَ الشَّاعِرُ: [البحر البسيط] وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ» أَيْ يَقْبَلُنِي إِيجَابًا، وَقَضَاءً لِحَاجَتِي، وَإِشْفَاعًا لِي [ص: 346] . وَقَوْلُهُ: «مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَيْ مِنْ عَمَلِ الْإِيمَانِ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «فِي قَلْبِهِ» كَأَنَّهُ يَقُولُ عَمِلَ عَمَلًا بِنِيَّةٍ مِنْ قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ رَحْمَةً عَلَى مُسْلِمٍ رَأْفَةً عَلَى يَتِيمٍ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَاءً لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ ثِقَةً بِهِ، هَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا هِيَ أَفْعَالُ الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا قُلْنَا وَلَمْ يُرِدْ تَجْزِئَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ لَهُ وَنَفْيُ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّهُ قَالَ: «وَيَبْقَى قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا» أَيْ هُمْ مُوَحِّدُونَ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ غَيْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالتَّوْحِيدِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى مَا تَأَوَّلْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 مَا حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّشَادِيُّ قَالَ: ح أَبُو بَكْرِ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ الطَّرَسُوسِيُّ قَالَ: ح نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كَانَ لِي ابْنُ أَخٍ يَتَعَاطَى الشَّرَابَ فَمَرِضَ فَبَعَثَ إِلَيَّ لَيْلًا أَنِ الْحَقْ بِي فَأَتَيْتُهُ فَرَأَيْتُ أَسْوَدَيْنِ قَدْ دَنَيَا عَنِ ابْنِ أَخِي، فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، هَلَكَ ابْنُ أَخِي، فَاطَّلَعَ أَبْيَضَانِ مِنَ الْكُوَّةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْزِلْ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ تَنَحَّى الْأَسْوَدَانِ فَجَاءَ فَشَمَّ فَاهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ ذِكْرًا ثُمَّ شَمَّ بَطْنَهُ فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ صَوْمًا، ثُمَّ شَمَّ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِمَا صَلَاةً، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ عُدْ فَانْظُرْ، فَعَادَ فَشَمَّ فَاهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ ذِكْرًا، ثُمَّ عَادَ فَشَمَّ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ صَوْمًا، ثُمَّ عَادَ فَشَمَّ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِمَا صَلَاةً قَالَ: وَيْحَكَ رَجُلٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ. اصْعَدْ حَتَّى أَنْزِلَ أَنَا فَنَزَلُ الْآخَرُ، فَشَمَّ فَاهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ ذِكْرًا، ثُمَّ شَمَّ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِ صَوْمًا، ثُمَّ شَمَّ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِمَا صَلَاةً قَالَ: ثُمَّ عَادَ فَأَخْرَجَ لِسَانَهُ فَشَمَّهُ، فَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى أَكْبَرُ أَرَاهُ قَدْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ بِأَنْتَاكِيَّةَ قَالَ: ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ، وَشَمَمْتُ فِي الْبَيْتِ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ، قُلْتُ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ: هَلْ لَكُمْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَحَدَّثْتُهُمْ حَدِيثَ ابْنِ أَخِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ بِذِكْرِ أَنْتَاكِيَّةَ، قَالُوا: لَيْسَتْ هِيَ بِأَنْتَاكِيَّةَ هِيَ أَنْطَاكِيَّةُ، قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُسَمِّيهَا إِلَّا كَمَا سَمَّاهَا الْمَلَكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فَأَنْجَتْهُ تَكْبِيرَةٌ أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَهَذِهِ التَّكْبِيرَةُ كَانَتْ سِوَى الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ شَهَادَةُ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ خَيْرٍ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَشَفَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ خَيْرٌ فَهُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ فَضْلًا وَكَرَمًا، وَعْدًا مِنْهُ حَقًّا، وَكَلِمَةً صِدْقًا جَلَّ اللَّهُ الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ الْمُوَفِّي بِوَعْدِهِ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 - ح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: ح عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ فِيهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِيزَانِ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ ثُمَّ يَخْرُجُ لَهُ بِقِرْطَاسٍ مِثْلَ هَذَا - وَأَشَارَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ بِأُصْبُعِهِ وَأَمْسَكَ بِإِبْهَامِهِ عَلَى نِصْفِ أُصْبُعِهِ - الدُّعَاءِ فِيهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى فَيَرْجَحُ مُسَبَّحُهُ بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُخْرِجُهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ يَكُونُ قَوْلًا مِمَّنْ سَبَقَ الْإِيمَانُ مِنْهُ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَلَى مَعْنَى الذِّكْرِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ طَاعَةَ مَنْ أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَكَانَ هَذَا فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ مُؤْمِنٌ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، وَمَنْ أَفْلَحَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِوُرُودِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِإِيمَانِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ [ص: 348] ، وَقَالَ: «يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا» ، وَقَالَ: «فَيَجْعَلُهُمْ فِي نَهَرٍ يُسَمَّى نَهَرَ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ» . وَالْأَخْبَارُ فِي وُرُودِ أَهْلِ الْإِيمَانِ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا جَاحِدٌ، وَلَا يَرُدُّهَا إِلَّا مُعَانِدٌ، فَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِرْطَاسُ الَّذِي فِيهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، شَهَادَةُ مُؤْمِنٍ سَبَقَ إِيمَانُهُ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ زِيَادَةَ ذِكْرٍ عَلَى حُسْنِ نِيَّةٍ، وَيَكُونُ طَاعَةً مَقْبُولَةً قَالَهَا عَلَى خَلْوَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَدِيعَةً يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَعْظُمُ قَدْرُهَا، وَيَجِلُّ مَوْقِعُهَا فَيَرْجَحُ بِخَطَايَاهُ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَذُنُوبِهِ وَإِنْ عَظُمَتْ، وَلِلَّهِ الْفَضْلُ عَلَى عِبَادِهِ يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ آخِرَ كَلَامِهِ فِي الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: ح إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ السِّرْمَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: ح أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ح عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ أَبِي غَرِيبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ شَهَادَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنٌ يَسْتَوِي حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَازِي الْإِيمَانَ شَيْءٌ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَا يَرْجُحُ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سِوَى الْإِيمَانِ سَيِّئَاتِهِ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْوُقُوفِ الطَّوِيلِ وَالْحَبْسِ عَنِ الْجَنَّةِ، وَالْخَوْفِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِ فَيَخِفُّ ذُنُوبُهُ، وَيُثَقِّلُ مَوَازِينَهُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَإِنْ حُمِلَ هَذَا عَلَى الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُ رَجَّحَ مِيزَانَ حَسَنَاتِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَذَّبَهُ بِذُنُوبِهِ، وَيُنَجِّيهِ بِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَشِيئَةِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40] ، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] ، فَإِذَا خَرَجَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ فِي الْمَشِيئَةِ لَمْ تَكُنِ الْمَشِيئَةُ إِلَّا فِي الْمُؤْمِنِينَ [ص: 349] فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، فَلَا يُعَذِّبُهُ، وَيُطَهِّرُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِمَا شَاءَ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ، وَيُوزَنُ إِيمَانُهُ، كَمَا يُوزَنُ سَائِرُ حَسَنَاتِهِ، وَإِيمَانُهُ يَرْجَحُ بِحَسَنَاتِهِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَدْخُلُ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ، فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ يُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَثْقُلُ مِيزَانُهُ، وَيَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، أَيِ النَّاجُونَ مِنَ الْخُلُودِ، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، يَوْمًا مَا. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ , لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى قَالَ: ح قُتَيْبَةَ قَالَ: ح رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عَبَّاسٍ الْحَجْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ: «كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَبْعِينَ مَرَّةً» عِبَارَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْكَثْرَةِ وَلَيْسَ عَلَى التَّحْدِيدِ، فَيَكُونُ مَا وَرَاءَ السَّبْعِينَ غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ عَنِ الْخَادِمِ أَبَدًا، وَهَذَا فِيمَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ مِنْ سُوءٍ يَأْتِيهِ إِلَيْكَ، وَجِنَايَةٍ يَجْنِيهَا عَلَيْكَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي هَتْكِ حُرْمَةٍ فِي الدِّينِ، أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ التَّأْدِيبُ عَلَيْهِ وَالْأَخْذُ بِهِ، كَمَا قَالَتْ [ص: 350] عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا انْتُهِكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ كَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ بِذِكْرِ السَّبْعِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ , كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ لَا عَلَى التَّحْدِيدِ وَالْغَايَةِ، وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] لَيْسَ هَذَا عَلَى التَّحْدِيدِ وَالْغَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ مَرَّةً لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ، أَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَاتَبَهُ عُمَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبُيٍّ: " أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قِيلَ لِي {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ " حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: ح عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: ح سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ، لَيْسَ قَوْلُهُ: سَبْعِينَ مَرَّةً عَلَى الْغَايَةِ وَالتَّحْدِيدِ، وَلَكِنْ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الطُّوَلِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الْغَايَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَطْوَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَعَذَابُ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ طُولًا وَأَلَمًا كَمَا أَنَّ ثَوَابَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ مُدَّةً وَلَذَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَقَوْلِهِ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، قَالَ: ح السَّرِيُّ بْنُ عِصَامٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَارَكٍ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ [ص: 351] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ جُمْجُمَةٍ - أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ بَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَصْلَهَا - أَوْ قَالَ - قَعْرَهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ رِضْوَانَ قَالَ: ح سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ح سُفْيَانُ عَنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ أَنَّهُ سَمِعَ نَوْفًلًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] قَالَ: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا، كُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَقَالَ كَعْبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ حَلْقَةً مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] إِنَّ حَلْقَةً مِنْهَا مِثْلُ حَدِيدِ الدُّنْيَا وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ: «أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ح أَبُو ثَابِتٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ عَوْنٍ الْوَاسِطِيَّ، قَالَ: ح أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ [ص: 352] ، عَنْ حُذَيْفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرَبَ لِسَانِي، فَقَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» فَقَدْ قَالَ: سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَالَ: أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَالَ: مِائَةَ مَرَّةٍ، فَيَدُلُّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالسَّبْعِينَ الْحَدَّ وَالْغَايَةَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ كَثِيرًا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا هَوَى فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» ، وَقَالَ فِيهِ سَلْمَانُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، وَمَعَ السَّبْعِينَ سَبْعِينَ خَرِيفًا. وَالْأَخْبَارُ فِي ذِكْرِ السَّبْعِينَ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ، لَا إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةٍ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ السَّبْعِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْدَادِ عِنْدَ الْعِبَارَةِ عَنِ الْكَثْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْعَدَدَ قَلِيلٌ وَكَثِيرٌ، فَالْقَلِيلُ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ، وَالْكَثْرَةُ الثَّلَاثَةُ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَدْنَى الْكَثِيرِ الثَّلَاثَةُ، وَلَيْسَ لِأَقْصَاهُ غَايَةٌ، ثُمَّ الْعَدَدُ أَيْضًا نَوْعَانِ: شَفْعٌ وَوِتْرٌ، وَالشَّفْعُ أَوَّلُ النَّوْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] ، وَأَوَّلُ الْإِشْفَاعِ اثْنَانِ، وَأَوَّلُ الْأَوْتَارِ الثَّلَاثَةُ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ بِعَدَدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ لَمْ يَخْرُجْ هُنَاكَ عَدَدٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى فِي كِتَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ: الْوَاحِدُ لَيْسَ بِعَدَدٍ وَإِنَّمَا الْعَدَدُ جَمَاعَةٌ مُرَكَّبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مَأْخُوذًا مِنَ الْعَوْدِ، كَأَنَّ الْعَدَدَ إِعَادَةُ الْحِسَابِ مَرَّاتٍ، فَيُعَادُ الْوَاحِدُ مَرَّاتٍ فَيَصِيرُ عَدَدًا، فَالشَّفْعُ إِعَادَةُ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ، وَالْوِتْرُ إِعَادَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، هَذَا أَوَّلُ الْأَشْفَاعِ، وَأَوَّلُ الْأَوْتَارِ، وَالْوَاحِدُ وِتْرٌ، وَلَيْسَ مِنْ جِهَةَ الْعَدَدِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ، لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِوِتْرٍ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ [ص: 353] ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَرْدٌ لَا يَزْدَوِجُ بِشَيْءٍ، كَمَا أَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالسَّبْعَةُ أَوَّلُ جَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَوْتَارًا ثَلَاثَةً، وَأَشْفَاعًا ثَلَاثَةً، فَأَوَّلُ أَشْفَاعِهَا الِاثْنَانِ، ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ، وَأَوَّلُ أَوْتَارِهَا الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ الْخَمْسَةُ، ثُمَّ السَّبْعَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِوِتْرٍ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ - كَمَا قُلْنَا - فَالسَّبْعَةُ جَمْعُ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَكَثْرَةِ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا نَوْعَا الْعَدَدِ، ثُمَّ الْعَشَرَةُ كَمَالُ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْآحَادَ مُنْفَرِدٌ كُلُّ عَدَدٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ إِلَى الْعَشَرَةِ، كَقَوْلِهِمُ: اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ إِلَى الْعَشَرَةِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَهِيَ إِضَافَةُ الْآحَادِ إِلَى الْعَشَرَةِ، كَقَوْلِهِمُ: اثْنَا عَشَرَ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ إِلَى عِشْرِينَ، وَالْعِشْرُونَ تَكْرِيرُ الْعَشَرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثُونَ تَكْرِيرُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى مِائَةٍ، وَالْقَوْلُ فِي الْمِائَةِ وَالْعَشَرَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْآحَادِ وَالْعَشَرَةِ، كَذَلِكَ الْأَلْفُ وَلَيْسَ وَرَاءَهُ اسْمٌ لِلْحِسَابٍ، بَلْ هُوَ إِعَادَةُ الْأَلْفِ مَرَّاتٍ وَتَكْرِيرُهُ. فَالسَّبْعُونَ يُجْمَعُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالنَّوْعِ وَالْكَثْرَةِ وَكَمَالِ الْحِسَابِ، وَالْكَثْرَةُ مِنْهُ، وَالنَّوْعَيْنِ مِنَ الْكَمَالِ، وَالْكَثْرَةُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَشْرُ مَرَّاتٍ سَبْعَةٌ فَهُوَ فِي كَمَالِ الْحِسَابِ الَّذِي هُوَ الْعَشَرَةُ كَالسَّبْعَةِ فِي الْآحَادِ، وَالسَّبْعُونَ أَدْنَى الْكَثِيرِ مِنَ الْعَدَدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْأَقْصَى لَا الْغَايَةُ لَهُ، فَعَبَّرَ عَنِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُجَاوِزُ الْعَدَدَ بِالسَّبْعِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِذَا بُولِغَ فِي الْكَثْرَةِ قَالُوا: سَبْعُمِائَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] إِلَى قَوْلِهِ {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ} ثُمَّ قَالَ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] ، فَأَخْرَجَهُ عَنِ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْحَاجِّ الْمَاشِي بِكُلِّ خُطْوَةٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» , قِيلَ مَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: «كُلُّ حَسَنَةٍ سَبْعُمِائَةٍ» كَأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسَّبْعِمِائَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّهَا مَحْدُودَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَذَلِكَ الْعَدَدُ مَحْصُورٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِثْلَ قَوْلِهِ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ [ص: 354] أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] ؛ لِأَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُتَنَاهٍ مَعْدُودٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ مَسَافَةُ مَا بَيْنَهُمَا نُزُولًا وَصُعُودًا لِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَقَوْلُهُ {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ، فَهُوَ مَقْصُودُ طُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مُتَنَاهٍ، آخِرُهُ دُخُولُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ، وَالْخُلُودُ فِيهِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ح خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلَتْنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ: فَالْآنَ قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةَ رَمْيَةً بِحَجَرٍ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّةَ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» . قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: ح أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَفْصٍ قَالَ: ح أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: ح أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِيَقْبِضَ نَفْسَهُ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ [ص: 355] إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ قَالَ: رَبِّ أَتَيْتُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَصَنَعَ هَذَا بِعَيْنِي قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي فَخَبِّرْهُ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدِهِ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدُهُ مِنْ شَعَرٍ فَهُوَ يَعِيشُ بِهَا سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ قَالَ مُوسَى: لَا بَلِ الْآَنَ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ، وَلَكِنْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَالَ: فَدُفِنَ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَلَوْ أَنِّي كُنْتُ عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ قَبْرِهِ " وَقَالَ أَيْضًا: ح أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِمَادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ كَانَ يَأْتِي النَّاسَ عَيَانًا فَأَتَى مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ» ، فَذَكَرَ نَحْوَ الَّذِي قَبْلَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَوَتِ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَوَضَعُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَصَحَّحُوهُ، وَعَدَّلُوا رِوَايَتَهُ، وَاسْتَفْظَعْهُ قَوْمٌ فَجَحَدُوهُ، وَأَنْكَرُوهُ فَرَدُّوهُ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ، وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَدْخَلُوهُ فِي الصِّحَاحِ حَتَّى رَضَوْا إِسْنَادَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالرِّجَالِ، وَالْحَدِيثُ إِذَا صَحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَبُولُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْآَحَادِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُوجِبُ الْعَمَلَ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ لِشُهْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَعَدَالَةِ رُؤْيَتِهِ وَصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، وَمِمَّا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّهُ وَإِنْكَارُهُ وَدَفْعُهُ، فَإِنَّ فِي رَدِّهِ تَكْذِيبَ الْأَئِمَّةِ وَجَرْحَ عُدُولِ الْأَئِمَّةِ. وَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ: لِعُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ الْمُشَابَهَةِ مَذْهَبَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَا فَرْضٌ كَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآَنِ حِينَ يَقُولُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أَيْ [ص: 356] : كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَقَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْمُشَابَهَةِ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: فَمِثْلُهُ الْمُتَشَابِهُ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حُجِبَ عَنَّا عِلْمُ تَأْوِيلِهِ آَمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمَا قَالَ، وَوَكَلْنَا عِلْمَ تَأْوِيلِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ثُمَّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ح الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُقْرِئُ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ: ح الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابَهَةِ؟ فَقَالَ: «مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، أَمِرُّوا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ: سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا ضَالًّا. هَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ، وَالْبَحْثُ عَنْ مُتَشَابِهِ التَّنْزِيلِ، وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ فِي الْأُصُولِ وَالْعُقُولِ فِرَارًا مِنْ تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَآفَةِ التَّشْبِيهَاتِ. قَالَ: وَالْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَنْ تَابَعَهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْأَثَرِ. قَالَ: وَبِمَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ تَمَيَّزَ الْفَاضِلُ مِنَ الْمَفْضُولِ، وَالْعَالِمُ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ، وَالْحَكِيمُ مِنَ الْمُتَعَجْرِفِ، وَمَنْ أَمَرَّ الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ حِينَ الْتَبَسَ عَلَيْهِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهَا لَمْ يَرُدَّهَا رَاوٍ مُنْكِرٌ جَاحِدٌ، بَلْ آَمَنَ وَاسْتَسْلَمَ، وَانْقَادَ وَوَكَلَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . وَرَدُّ الْأَخْبَارِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ طَرِيقٌ سَهْلٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالسَّفِيهُ وَالْعَاقِلُ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ فَضْلُ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ، وَعَقْلِ الْعُقَلَاءِ بِالْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ، وَحَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْأُصُولَ، وَتُصَحِّحُهُ الْعُقُولُ [ص: 357] . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصًّا نَظِيرُهُ قَالَ تَعَالَى فِي خَبَرِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] إِلَى قَوْلِهِ {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] وَقَالَ {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] . وَلَيْسَ الْجَرُّ إِلَيْكَ بِالْخُشُونَةِ وَالْغِلْظَةِ بِأَقَلَّ مِنَ الدَّفْعِ عَنْكَ بِالْخُشُونَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَهُوَ الصَّكُّ وَاللَّطْمُ، دَفَعَ عَنْكَ بِغِلْظَةٍ وَخُشُونَةٍ فَمَا سِوَاهُ، وَلَيْسَ هَارُونُ بِأَدْوَنَ مَنْزِلَةً مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، بَلْ هُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْهُ، وَأَعْلَى مَرْتَبَةً، وَأَبَيْنَ فَضْلًا عِنْدَ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [المؤمنون: 46] ، وَهُوَ مَعَ جَلِيلِ قَدْرِهِ فِي نُبُوَّتِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ فِي رِسَالَتِهِ أَخُو مُوسَى لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صِغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» . فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ بِعُنْفٍ وَغِلْظَةٍ حَتَّى اسْتَعْطَفَهُ عَلَيْهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] ، وَقَوْلُهُ {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150] ، وَلَوْلَا ذَلِكَ عَسَى كَانَ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ، ثُمَّ لَمْ نَجِدْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى عِتَابِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَلَا عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ صَغِيرَةً أَوْ زَلَّةً لَظَهَرَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْكِتَابِ أَوْ دَلَالَةً، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى زَلَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمُعَاتَبَتَهُ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا، وَتَوْبَتَهُمْ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ، وَرُجُوعَهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِغَفَارَهُمْ إِيَّاهُ وَاعْتِرَافَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ لَهَا كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ [ص: 358] {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] ، هَذَا عِتَابُهُ لَهُمَا مِنْ إِمْلَالِهَا فِي الْآَيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي اعْتِرَافِهِمَا وَتَوْبَتِهِمَا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي اعْتِرَافِهِ وَتَوْبَتِهِ {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ، وَفِي قِصَّةِ دَاوُدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] ، فَغَفَرَ لَهُ. فَلَوْ كَانَ جَرُّهُ أَخَاهُ إِلَيْهِ وَأَخْذُهُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ زَلَّةً مِنْهُ لَظَهَرَ اعْتِرَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتُهُ إِلَى رَبِّهِ، أَوْ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَعْصِيَةً وَلَا زَلَّةً، كَذَلِكَ صَكُّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ وَلَطْمُهُ إِيَّاهُ لِأَنَّهُمَا عُنْفَانِ، أَحَدُهُمَا بِالدَّفْعِ عَنْكَ، وَالْآَخَرُ بِالْجَرِّ إِلَيكَ كَرِيمَيْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا رَسُولٌ نَبِيٌّ، وَالْآَخَرُ مَلَكٌ زَكِيٌّ، وَكَمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ عِتَابٌ وَلَا تَوْبَةٌ، وَاعْتِرَافٌ فِي قِصَّةِ الْمَلَكِ فَمَا جَازَ فِي الْكِتَابِ مِنَ التَّأْوِيلِ سَاغَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَارُونَ مَعَ عَظِيمِ حُرْمَتِهِ لِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَأُخُوَّتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَحَقِّ سِنِّهِ زَلَّةً؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَضِبَ لِلَّهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ حَمِيَّةٌ وَغَضَبٌ وَعَجَلَةٌ وَحِدَّةٌ كُلُّهَا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ. أَلَا يَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83] ، وَخَبَّرَ أَنَّ عَجَلَتَهُ كَانَ طَلَبًا لِرِضَاهُ، كَذَلِكَ حِدَّتُهُ وَغَضَبُهُ عَلَى أَخِيهِ وَصَنِيعُهُ بِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92] ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْحِدَّةُ مِنْهُ وَالْغَضَبُ فِيهِ صِفَةَ مَدْحٍ لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ كَمَا كَانَتْ رَأْفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَحْمَتُهُ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ، ثُمَّ كَانَ يَغْضَبُ حَتَّى يَحْمَرَّ وَجْهُهُ وَتَذَرَّ عُرُوقُهُ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] [ص: 359] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ، فَلَوْ كَانَتِ الْغِلْظَةُ وَالشِّدَّةُ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ كَذَلِكَ الْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ مِنْ مُوسَى لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ، وَالْجَمِيعُ صِفَةُ مَدْحٍ وَنَعْتُ ثَنَاءٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَدْحِهِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِقَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِإِبْرَاهِيمَ إِذْ يَقُولُ {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وَقَوْلِهِ {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادَكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَدْحِهِ لَهُ فِي غِلْظَتِهِ وَشِدَّتِهِ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ، وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فَأَوْصَافُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْصَافُ مَدْحٍ، وَنُعُوتُهُمْ نُعُوتُ ثَنَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَكُّهُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ، وَلَطْمُهُ إِيَّاهُ لَمْ يَكُنْ زَلَّةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِغَضَبِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَضَبًا لِلَّهِ، وَشِدَّةً فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَحَمِيَّةً لِدِينِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ أَتَاهُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَلَكٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يَعْرِفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لَيُعَلِّمَكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ قَطُّ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ» ، فَكَذَلِكَ مُوسَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَتَاهُ فِي صُورَةٍ لَمْ يَأْتِهِ فِيهَا قَبْلَهَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُ ثُمَّ أَرَادَ قَبْضَ رُوحِهِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانٌ يُرِيدُ قَبْضَ رُوحِ كَلِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَكَّهُ وَلَطَمَهُ إِنْكَارًا لَهُ وَرَدًّا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَأَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إِدِّعَاءَهُ مَا لَيْسَ لِلْبَشَرِ مِنْ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ مِنَ الْبَشَرِ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فَغَضِبَ لِلَّهِ فَصَكَّهُ وَلَطَمَهُ، أَلَا تَرَى مِنْهُ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَبَبِ ثَوْرٍ وَأَنْ يَمُوتَ، اخْتَارَ الْمَوْتَ اسْتِسْلَامًا لِلَّهِ وَرِضَاءً لِحُكْمِهِ، وَتَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ. وَأَمَّا فَقْؤُ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لِمُوسَى صلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَثَرِ لَطْمِهِ إِيَّاهُ وَصَكِّهِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَحْدَثَهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَتَى الْمَلَكُ فِيهَا [ص: 360] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَنَا لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ وَمَحَلِّ قَدْرَتِهِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَلَمٍ عِنْدَ الضَّرْبِ، وَمَوْتٍ عِنْدَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، وَذَهَابِ السَّهْمِ بَعْدَ الرَّمْيِ، وَالْإِحْرَاقِ عِنْدَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَالْبَرَدِ فِي الثَّلْجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بَعْدَ حَرَكَاتِ الْمُحْدَثِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى أَحْدَثَهَا وَاخْتَرَعَهَا، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَاقُ عِنْدَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْبَرَدُ فِي الثَّلْجِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْدِثُهَا وَيَخْتَرِعُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ وَحِينَ يُرِيدُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ حَرَكَاتِ الْمُحْدَثِ فِي نَفْسِهِ، وَالْفَقَاءُ إِنَّمَا حَلَّ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْمَلَكِ؛ لِأَنَّ بِنْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَخَلْقَهُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَمْشَاجِ وَالطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تَقْبَلُ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ وَتَحُلُّهَا الْآَفَاتُ، وَيُؤَثِّرُ فِيهَا أَفْعَالُ الْمُحْدَثِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْنُونَ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَلَا يَنَامُونَ، وَلَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَسْأَمُونَ، وَلَا يَسْتَجِرُّونَ، وَلَا يَفْقَرُونَ، وَكُلُّ هَذِهِ آَفَاتٌ، وَالْفَقْؤُ آَفَةٌ، وَهُمْ لَا يُحِلُّهُمُ الْآَفَاتُ. فَالْآَفَةُ الَّتِي هِيَ الْفَقْؤُ إِنَّمَا حَلَّ فِي الصُّورَةِ الَّتِي جَاءَ الْمَلَكُ فِيهَا لَا فِي عَيْنِ الْمَلَكِ، وَلَيْسَ الْمَلَائِكَةُ كَالنَّاسِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنْسَانٌ بِصُورَتِهِ وَخَوَاصِّهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا بِخَوَاصِّهِ دُونَ صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ النَّاسِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ وُجِدَتْ خَوَاصُّهُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ النَّوْعُ إِنْسَانًا حَتَّى يُوجَدَ ثَلَاثَةُ الْإِنْسَانِ وَصُورَتُهُ وَخَوَاصُّهُ، وَالْمَلَكُ مَلَكٌ بِخَوَاصِّهِ دُونَ صُورَتِهِ؛ لِأَنَّ صُوَرَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَخَوَاصَّهُمْ وَاحِدَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِيهِمْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ السِّبَاعِ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَكُلُّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَهُمْ أَجْنِحَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مُتَفَاوِتَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثَلَاثَ وَرُبَاعَ} ثُمَّ قَالَ {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، وَقِيلَ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّهُمْ أَمْلَاكٌ أَحَدُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ، يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَرْزَاقِ الطَّيْرِ، وَالثَّالِثُ عَلَى صُورَةِ الْأَسَدِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْزَاقِ الْبَهَائِمِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَالرَّابِعُ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْزَاقِ الْبَهَائِمِ، وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ يُصَدِّقُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: ح حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ح هَنَّادُ بْنُ السَّرِيُّ قَالَ: ح عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ [ص: 361] ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَدَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ شَعْرِهِ قَالَ: [البحر الطويل] زُحَلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مَرْصَدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» قَالَ، وَقَالَ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ فَقَالَ قَائِلٌ: تَأْبَى فَمَا تَطْلُعُ لَنَا فِي رِسْلِهَا ... إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» . فَلَمَّا كَانَتِ الصُّورَةُ صُورَةَ أَسَدٍ، وَثَوْرٍ، وَنَسْرٍ، وَإِنْسَانٍ، وَهُوَ مَلَكٌ بَانَ أَنَّ الْمَلَكَ لَمْ يَكُنْ مَلَكًا لِلصُّورَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ بِخَاصِّيَّةِ الَّذِي هُوَ خَاصِّيَّةٌ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانٌ بِخَاصِيَّتِهِ وَصُورَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ كَمَا شَاءَ مِنْ عِظَمِ خَلْقِهِ، وَعَجَبِ صُورَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: ح عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: ح الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ زِرًّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وَح مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ح نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: ح عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: ح سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ الرَّقَاشِيَّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: " جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَكِ الْمَوْتِ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ خُذْ [ص: 362] نَفْسَ مِيكَائِيلَ فَيَأْخُذُ فَيَقَعُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهَا مِثْلَ الطَّوْدِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ مَنْ بَقِيَ قَالَ: فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بَقِيَ جِبْرِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: يَقُولُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ مُتْ قَالَ: فَيَمُوتُ , فَيَبْقَى جِبْرِيلُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ بِالْمَكَانِ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمُوتَ فَيَقَعُ سَاجِدًا يَخْفِقُ بِجَنَاحَيْهِ سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبِحَمْدِكَ أَنْتَ الْبَاقِي الدَّائِمُ، وَجِبْرِيلُ الْفَانِي الْهَالِكُ الْمَيِّتُ قَالَ: فَيَأْخُذُ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ فَيَقَعُ عَلَى مِيكَائِيلَ، وَإِنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ عَلَى خَلْقِ مِيكَائِيلَ كَفَضْلِ الطَّوْدِ الْعَظِيمِ عَلَى الظَّرِبِ مِنَ الظَّرِبِ، ثُمَّ يَمْكُثُ اللَّهُ كَمَا كَانَ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ عِلْمٌ بِمَا هُوَ مَاكِثٌ " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 حَدَّثَنَا الْمَحْمُودِيُّ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: ح سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: ح سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَهَذِهِ صُورَتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا» ثُمَّ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، فَالنَّازِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالصُّورَةُ صُورَةُ دِحْيَةَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ شُيُوخِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنْسَانًا وَبَشَرًا، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ لَكَانَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ صِدْقًا حَيْثُ قَالُوا {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] ، وَقَالَ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] [ص: 363] ، إِذًا فَجِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ صُورَةَ إِنْسَانٍ، إِذًا فَالصُّورَةُ لَيْسَ الْمَلَكُ، وَإِنْ كَانَ الْمَلَكُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا فِيهَا شِرَاءٌ وَلَا بَيْعٌ إِلَّا صِوَرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنِ اشْتَهَى صُورَةً دَخَلَ فِيهَا» فَأَخْبَرَ أَنَّ الصُّورَةَ غَيْرُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهَا فَكَذَلِكَ الصُّورَةُ الَّتِي أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ فِيهَا مُوسَى، هِيَ صُورَةٌ أَدْخَلَ اللَّهُ الْمَلَكَ فِيهَا، وَالْفَقَاءُ إِنَّمَا حَلَّ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْمَلَكِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَذْهَبَ عَيْنَ الصُّورَةِ عِنْدَ لَطْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَعْوَرَ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لَيْسَتْ لَهُ أَجْنِحَةٌ، وَلَا عَلَى ذَلِكَ الْعِظَمِ الَّذِي أَتَى لَهُ مَرَّةً عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ فَهُوَ يَعْرِفُهُ فِيهَا، وَمَرَّةً عَلَى صُورَةِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فِيهَا، كَذَلِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ أَتَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا حِينَ أَتَاهُ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، ثُمَّ نَقَلَهُ اللَّهُ عِنْدَ لَطْمِ مُوسَى عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ فُقِئَتْ عَيْنُهُ، وَهُوَ مَلَكٌ كَمَا هُوَ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا أَعْنِي الصُّورَةَ دُونَ مُوسَى، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ عَبَثًا وَلَا سَفَهًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنِ السَّفَةِ وَالْعَبَثِ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَإِنْ جُهِلَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ مُعَاذٌ: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ مَا [ص: 364] اسْتَطَعْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ وَحَجَرٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ شَرًّا فَأَحْدِثْ لِلَّهِ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ» قَوْلُ أَدِيبٍ مُتَأَدِّبٍ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى مُوَافِقٍ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا لَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَتَأَتَّى عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ مُنْزِلًا عَلَيْهِ مُوحِيًا إِلَيْهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَا اسْتَطَعْتَ» أَيْ عَلَى مِقْدَارِ طَاعَتِكَ، وَمَبْلَغِ قُدْرَتِكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ قَدْرَهُ، وَلَا تَتَّقِيهِ حَقَّ تُقَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَلَا يُطَاقُ إِقَامَةُ حَقِّهِ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ، وَمَبْلَغِ الطَّاقَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «مَا اسْتَطَعْتَ» أَيْ بِجَمِيعِ اسْتِطَاعَتِكَ، وَاسْتِفْرَاغِ طَاقَتِكَ وَبَذْلِ جُهُودِكَ حَتَّى لَا تُبْقِيَ مِمَّا تَسْتَطِيعُ، وَلَا تَسْتَبْقِيَ مِمَّا تُطِيقُ شَيْئًا إِلَّا بَذَلْتَهُ فِي تَقْوَاهُ طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، وَوَفَاءً بِعَهْدِهِ، مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَقَوْلُهُ: «وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ وَحَجَرٍ» أَيْ حَيْثُمَا كُنْتَ مِنْ سَفَرٍ وَحَضَرٍ فَيَكُونُ الشَّجَرُ إِشَارَةً إِلَى الْحَضَرِ، وَالْحَجَرُ عِبَارَةً عَنِ السَّفَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَالْخَصْبِ وَالْجَدْبِ، وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَيَكُونُ الشَّجَرُ عِبَارَةً عَنِ الْخَصْبِ وَهُوَ حَالُ الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ، وَالْحَجَرُ عِبَارَةً عَنِ الْجَدْبِ، وَهُوَ حَالُ الشِّدَّةِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا عَمِلْتَ شَرًّا فَأَحْدِثْ لِلَّهِ تَوْبَةً» أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ وَعَجْزِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكَ إِنْ تَوَقَّيْتَ بِجَمِيعِ اسْتِطَاعَتِكَ فَغَيْرُ سَلِيمٍ [ص: 365] مِنْ شَرٍّ تَعْمَلُهُ، وَسُوءٍ تَأْتِيهِ، فَعَلَيْكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ سُوءً، أَوِ احْذَرْ أَنْ تَأْتِيَ شَرًّا عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَجْرَى قَدَرِ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وَحَدَّثَنَا خَلَفٌ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ قَالَ: ح مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ» فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا بِالتَّوْبَةِ، وَأَوْصَاهُ بِهَا إِذْ عَلِمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَاقٍ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَآَتٍ مَا سَبَقَ الْقَدَرُ بِهِ، فَقَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ شَرًّا» كَأَنَّهُ يَقُولُهُ لَهُ: لَا بُدَّ لَكَ مِنْ شَرٍّ تَعْمَلُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْكَ فَأَحْدِثْ لِلَّهِ تَوْبَةً، وَأَنَّهُ لَا يُؤْتَى الْعَبْدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى مِنْ تَرْكِ التَّوْبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: ح أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: ح زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَ: ح عَلِيُّ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: ح قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ح ابْنُ نَجْدَةَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ أَوْ يَخْلُقُ قَوْمًا يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» كَأَنَّهُ يَقُولُ: خَيْرُ بَنِي آدَمَ التَّوَّابُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَفِيهِ شُمُوخٌ وَعُلُوٌّ وَتَرَفُّعٌ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ أَبَدًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ لَهُ فَأَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَظَرَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا سِوَاهُ لِذَلِكَ سَخَّرَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ لِيَرْجِعَ عَنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَالشُّغْلِ بِهَا إِلَى رَبِّهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْخَدْمَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بِمَصَالِحِهِ قَوْمًا هُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْهُ، وَأَهْدَى لِمَصَالِحِهِ، وَأَعْلَمُ لِمَرَافِقِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَجَعَلَ لَهُ حَظَّهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُعَقِّبَاتٍ فَكَفَاهُ رَبُّهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَاوِيَّةٍ، بَعَثَ رُسُلًا، وَأَنْزَلَ كُتُبًا، وَأَقَامَ شَرِيعَةً، وَنَصَبَ لَهُ دُعَاةً، وَجَعَلَ لَهُ شُفَعَاءَ مِنْ حَمَلَةِ عَرْشِهِ، وَكِرَامِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَتَفَرَّغَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ تَعَالَى إِقْبَالًا عَلَيْهِ، وَنَظَرًا إِلَيْهِ، وَعَلِمَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا إِعْجَابًا بِهَا، وَعُكُوفًا عَلَيْهَا فَكَتَبَ عَلَيْهِ مَا يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ، وَقَدَّرَ لَهُ مَا يَشْغَلُهُ بِهِ، إِذَا شُغِلَ عَنْهُ وَصُرِفَ مِنْهُ مِنْ شَرٍّ يَعْمَلُهُ، وَسُوءٍ يَأْتِيهِ، وَمَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا، وَكَبِيرَهٍ يُوَاقِعُهَا، وَصَغِيرَةٍ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا. يُنَبِّهُهُ لِنَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَيَبْعَثُهُ عَلَى إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ: فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وَقَالَ تَعَالَى {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا [ص: 367] الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ يَجِدُهَا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» ، وَقَالَ: «السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» . أَخْبَرَ أَنَّ الشَّرَّ الَّذِي يَعْمَلُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، وَفِي حَالَيْنِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَالسِّرُّ أَفْعَالُ الْقُلُوبِ وَالْعَلَانِيَةُ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا عَمِلْتَ شَرًّا بِسِرِّكَ فَأَحْدِثْ تَوْبَةً بِسِرِّكَ، وَإِذَا عَمِلْتَ شَرًّا بِجَوَارِحِكَ فَأَحْدِثْ تَوْبَةً بِجَوَارِحِكَ، فَأَفْعَالُ السِّرِّ مِنَ الذُّنُوبِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ طَمَعٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَمَخَافَةٌ مِنْهُ وَرَجَاءٌ إِلَيْهِ وَمُعَادَاةُ أَوْلِيَائِهِ، وَمُوَالَاةُ أَعْدَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ حَسَدٌ لِمُؤْمِنٍ، وَتُهْمَةٌ لِبَرِيءٍ، وَبَغْيٌ عَلَى مُسْلِمٍ، وَحِقْدٌ يُضْمِرُهُ، وَسُوءٌ يُرِيدُهُ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً مِنْهَا بِسِرِّهِ بِاكْتِسَابِ مَا يُزِيلُهَا وَيُثَبِّتُ أَضْدَادَهَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَغَزْوٍ وَأَمْثَالِهَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ كَثِيرُ نَفْعٍ مِنْهَا مَعَ فَسَادِ السِّرِّ وَنَجَاسَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَكَادُ يُطَهِّرُهَا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَكَمُ لِأَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ: [البحر البسيط] إِنَّ الْجَرَائِمَ أَقْفَلَتْ بَابَ الْهُدَى ... فَالْعِلْمُ لَيْسَ بِفَاتِحٍ أَقْفَالِهَا إِنَّ الْقُلُوبَ تَنَجَّسَتْ بِبَطَالَةٍ ... فَالسَّعْيُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ أَفْعَالَهَا وَذُنُوبُ الْعَلَانِيَةِ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَبْدِ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ تَضْيِيعِ فَرْضٍ وَإِضَاعَةِ حَقٍّ، وَمُجَاوَزَةِ حَدٍّ، وَقُصُورٍ عَنْهُ. وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى: الْمَظَالِمُ وَالْجِنَايَاتُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْهَا عَلَانِيَةٌ مِنْ رَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ مَحَالَتُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَإِخْرَاجِ مَا حَصَّلَ مِنْ مَالٍ، أَوْ مَتَاعٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [ص: 368] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا الْخَائِطَ وَالْمِخْيَطَ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ نَدَمُهُ بِسِرِّهِ عَلَى مَا مَضَى مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ، وَتَوْبَتُهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَظَالِمِ بِسِرِّهِ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِمَا فِي يَدَيْهِ. رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " إِذَا قَالَ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَعِنْدَهُ مَالٌ حَرَامٌ قِيلَ لَهُ: لَا لَبَّيْكَ، وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْكَ" لِذَلِكَ قَالَ السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 - ح حَاتِمٌ قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَسَمُّوا بِاسْمِي، فَإِذَا سَمَّيْتُمْ بِاسْمِي فَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَتَجْمَعُونَ بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِبَاحَةَ الِاسْمِ وَحَظْرَ الْكُنْيَةِ، فَيَكُونُ الِاسْمُ مُحَمَّدًا جَائِزًا مَأْذُونًا بِهِ، وَيَكُونُ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مَحْظُورًا، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبْوَتِهِ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ، فَيُقَالُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَيَظُنُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَدْعُوُّ فَيَلْتَفِتُ أَوْ يُجِيبُ , فَيَتَأَذَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] . يُصَدِّقُ ذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَرَّ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنَادَى رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَمْ أَعْنِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ قَالَ: ح أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ح الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ح حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ [ص: 369] إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ إِنَّمَا دَعَوْتُ فُلَانًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْكُنْيَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الِاسْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ بِالِاسْمِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى أَنْ يُدْعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ دَاعِيًا، فَإِذَا سَمِعَ مَنْ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ , يَعْلَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَدْعُوَّ غَيْرُهُ فَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يُجِيبُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَدْعُوَّ، وَلَمْ يُرِدِ النَّهْيُ عَنِ الْكُنْيَةِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا سَمِعَ مَنْ يُنَادِي يَا أَبَا الْقَاسِمِ الْتَفَتَ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَدْعُوَّ، فَيَكُونُ فِيهِ أَذَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَلْتَفِتُ إِذَا مَشَى، فَإِذَا الْتَفَتَ لَا لِمَعْنًى كَانَ فِي ذَلِكَ أَذَاهُ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْذُوهُ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ بَعْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْصًا فِي تَوْقِيرِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوْقِيرِهِ وَإِجْلَالِهِ فَقَالَ {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - يُقَالُ: أَنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاتِهِ - وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ فِي حَيَاتِهِ مَنْ كُنِّيَ بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 - حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ: ح يَحْيَى، قَالَ: ح يَحْيَى قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ، ثُمَّ مَاتَ آخَرُ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَ فُلَانٌ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ» ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ [ص: 370] شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَدَّثَنَاهُ نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى، قَالَ: ح عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُدْعَى نُوحٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغْتَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ، فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ: فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] " وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ، فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَدَّلَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أَيْ: عَدْلٌ، فَشَهَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ لَا تُرَدُّ، وَالْحُكْمُ بِهِ وَاجِبٌ فِي الْقَضَاءِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى إِنْسَانٍ بِصَلَاحٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْمَغِيبِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى آخَرَ بِفَسَادٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْمَغِيبِ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ. فَهَذِهِ الْأُمَّةُ شُهُودٌ، وَاللَّهُ عَدَّلَهُمْ، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَّاهُمْ بِقَوْلِهِ {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ، فَغَيْرُهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولُهُ [ص: 371] ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَبَعْضُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَأْتُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَجْتَنِبُونَهُ، فَهُمْ عُدُولٌ صَادِقُونَ بِتَعْدِيلِ اللَّهِ لَهُمْ، وَهُمْ أَزْكِيَاءُ صِدِّيقُونَ بِتَزْكِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ لَهُمْ، فَوَجَبَتِ الْقَضِيَّةُ بِشَهَادَتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ، وَجَبَتْ إِنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ «فِي الْأَرْضِ» أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْحُكَّامِ الْقَضَاءَ بِهَا بِشَهَادَتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ، وَالْفُرُوجِ، وَالْأَمْوَالِ عَلَى مَا يَعْرِفُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ «وَجَبَتْ» فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ، فَذَلِكَ سِتْرٌ مِنَ اللَّهِ وَتَجَاوُزٌ عَمَّا عَرَفَ مِنَ الْمُثْنَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرَمٌ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَوْلِيَائِهِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِمْ جَرْحٌ، وَتَجَاوُزٌ عَنِ الْمَشْهُودِ لَهُ وَسِتْرٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: ح أَبُو أَحْمَدَ بْنُ يَاسِينَ بْنِ النَّصْرِ، قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: ح أَبِي، قَالَ: ح أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: ح خَالِدُ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَأَحْسَنَ النَّاسُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، إِنَّهُ كَانَ يُسِرُّ كَذَا، وَيُعْلِنُ كَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَدَّقَكُمْ فِيمَا تَقُولُونَ، وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وَأَمَا قَوْلُهُ «وَجَبَتْ» فِي الثَّنَاءِ السَّيِّئِ فَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهُ مِنَ الشُّهُودِ عَلَيْهِ بِالشَّرِّ خِلَافَ مَا شَهِدُوا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ سِيِّئِ عَمَلِهِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، وَهُوَ بِهَا مَجْرُوحٌ عَاصٍ سَوَاءٌ، وَافَقَ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، أَوْ خَالَفَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ سِيِّئٌ لَا مَحَالَةَ، فَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَهُ وَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَدْ عَذَّبَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَوَجَبَ وَعِيدُ اللَّهِ لَهُ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمَا أَوْعَدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَذِّبًا لَهُ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهُ، بَلْ يَكُونُ مُعَذِّبًا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ، فَإِذَا تَجَاوَزَ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُ ثُمَّ حَكَمَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ لَهُ، كَانَ ذَلِكَ مَغْفِرَةً وَتَجَاوُزًا، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُسِيءِ فَلَا يُعَاقِبَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ كَانَ مِنْهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى، قَالَ: ح قُتَيْبَةُ، قَالَ: ح حَمَّادُ بْنُ يَحْيَى الْأَبَحُّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنَا , وَمَنْ مَعِي» ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «ثُمَّ الَّذِينَ عَلَى الْأَثَرِ» ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «ثُمَّ الَّذِينَ عَلَى الْأَثَرِ» ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَفَضَهُمْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» لِتَقَارُبِ أَوْصَافِهِمْ وَتَشَابُهِ أَفْعَالِهِمْ، وَقُرْبِ نُعُوتِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَلَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ النَّاظِرُ فِيهِمْ، وَالْمُعْتَبِرُ حَالَهُمْ، وَالْبَاحِثُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَحْكُمَ بِالْخَيْرِ لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَإِذْ تَشَابَهَتِ الْأَفْعَالُ، وَتَقَارَبَتِ الْأَوْصَافُ، فَإِنَّمَا يُعْلَمُ الْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وَالسَّمْعِ وَالتَّوْفِيقِ. ثُمَّ وَرَدَ الْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «أَنَا وَمَنْ مَعِي» فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» حُكْمًا، فَيَسْتَوِي آَخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَوَّلِهَا فِي الْخَيْرِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرْنَ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كَانُوا أَخْيَارًا؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ كَفَرَ بِهِ النَّاسُ، وَصَدَّقُوهُ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَنَصَرُوهُ حِينَ خَذَلَهُ النَّاسُ، وَهَاجَرُوا وَآوَوْا وَنَصَرُوا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وُجِدَتْ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حِينَ يَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَحِينَ لَا يُقَالُ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وَذَلِكَ حَدَّثَنَاهُ نَصْرٌ، قَالَ: ح أَبُو عِيسَى، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ح ابْنُ [ص: 373] أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، قِيلَ: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا، كَانَ الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ كَالْمُؤْمِنِ فِي وَقْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ النَّازِعَ مِنَ الْقَبِيلَةِ مُهَاجِرٌ مَفَارِقٌ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ، وَوَطَنَهُ، مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ مُصَدِّقٌ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، فَقَالَ {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ، وَكَانَ إِيمَانُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْبًا وَشُهُودًا، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ غَيْبًا، وَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُهُودًا وَعَيَانًا، يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ، وَيَرَوْنَ الْآيَاتِ، وَيُشَاهِدُونَ الْمُعْجِزَاتِ، وَآخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُؤْمِنُونَ بِمَا آمَنَ بِهِ أَوَائِلُهُمْ غَيْبًا، وَيُؤْمِنُونَ غَيْبًا بِمَا آَمَنَ بِهِ أَوَائِلُهُمْ شُهُودًا، وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُشَاهِدُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنًا، وَلِذَلِكَ صَارُوا أَعْجَبَ النَّاسِ إِيمَانًا كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: ح حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ح قُتَيْبَةُ، قَالَ: ح خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَعْجَبُ الْخَلْقِ إِيمَانًا؟» قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ يُعَايِنُونَ الْأَمْرَ؟» . قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْرِ مِنَ [ص: 374] السَّمَاءِ» ، قَالُوا: فَأَصْحَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ أَصْحَابِي وَهُمْ يَرَوْنَ مَا يَرَوْنَ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ النَّاسِ إِيمَانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي، وَيُصَدِّقُونِي وَلَمْ يَرَوْنِي، فَأُولَئِكَ إِخْوَانِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ثُمَّ كَانَ الْمُتَمَسِّكُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالدِّينِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلَافِ أُمَّتِي كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» حَدَّثَنَاهُ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ح حُمَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَخْتَرِيُّ، قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمُؤْمِنُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُصِيبُهُ مِنَ الْأَذَى عَلَى إِيمَانِهِ مَا كَانَ يُصِيبُ أَوَائِلَهُمْ بِدَلَالَةِ هَذَا الْخَبَرِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي أَوَائِلِهِمْ جَازَ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ فَيَكُونُوا فِي الْخَيْرِيَّةِ لَهُمْ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» خَاصًّا فِي قَوْمٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَقُولُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ لَا نُفَضِّلُ أَحَدًا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَدُّونَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَيْرَ النَّاسِ، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُبَيٌّ، وَسَائِرُ الْمُشْرِكِينَ، وَمُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ، وَخَارِجَةُ الْأَسَدِيُّ الْمُتَنَبِّيَانِ الْكَذَّابَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْضَ الْقَرْنِ لَا كُلَّهُمْ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ فِي قَرْنِي، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، أَوْ هُمْ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَغَيْرُهُمْ فَيَكُونُ مَنْ سِوَاهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بِهِمْ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ، وَيَنْصُرُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَهُمْ أَنْصَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِخْوَانُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا يَوْمًا: «لَيْتَنِي لَقِيتُ إِخْوَانِي» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ آمَنَّا بِكَ، وَهَاجَرْنَا مَعَكَ، وَاتَّبَعْنَاكَ، وَنَصَرْنَاكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، قَالَ: «بَلَى» ، وَعَادَ فَعُدْنَا، ثَمَّ عَادَ فَعُدْنَا قَالَ: «بَلَى وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي كَإِيمَانِكُمْ، وَيُحِبُّونَنِي كَحُبِّكُمْ، وَيَنْصُرُونَنِي كَنَصْرِكُمْ، وَيُصَدِّقُونَنِي كَتَصْدِيقِكِمْ، فَيَا لَيْتَنِي لَقِيتُ إِخْوَانِي» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، قُلْنَا: أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: «لَا، أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِي» . وَقَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، الْمُمْسِكُ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْمُفَسِّرُ، قَالَ: ح حَامِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ح عِيسَى، قَالَ: وَح خَلَفٌ، هَذَا قَالَ: ح الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَضَّاحِ، وَالْحَسَنُ بْنُ ضَحَّاكٍ، قَالَا: ح عُجَيْفُ بْنُ آدَمَ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ح عِيسَى، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ مُطَّرِحِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا» ، وَسَاقَ حَدِيثًا فِي وَصْفِ آخِرِ الزَّمَانِ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَمْرِ يَوْمَئِذٍ كُتِبَ لَهُ بِأَجْرِ خَمْسِينَ مِمَّنْ رَآنِي وَسَمِعَ مَوْعِظَتِي وَآمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي» فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَفُوقُ أَوَّلَهَا فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ [ص: 376] يَكُونَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ أَجْرًا مِنْ بَعْضِ أَوَائِلِهَا، جَازَ أَنْ يَكُونَ أَوَاخِرُهَا يُوَازِي أَوَائِلَهَا، فِي الْأَجْرِ وَالْخَيْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ، ح الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُفْيَانَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: ح سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا، وَفِي وَسَطِهَا الْكَدَرُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ حَمَّادٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ح عِيسَى بْنُ يُونُسَ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ح ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ مَرْزُوقِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي جُمْعَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدِي يَجِدُونَ كِتَابَنَا بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيُصَدِّقُونَ بِهِ، فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ» فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ فِي آخِرِ أُمَّتِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ صَحِبَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْعَطَّارُ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعَبْسِيُّ، قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدًا أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي فَضِيلَةِ السَّبْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ السَّبْقُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْإِيمَانِ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالسَّبْقُ سَبْقَانِ: سَبْقٌ فِي الْعَمَلِ، وَسَبْقٌ فِي الدَّهْرِ، فَمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ سَبْقُ الدَّهْرِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ، وَلَيْسَ [ص: 377] ذَلِكَ فِي الِاكْتِسَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ آتَاهُ مَنْ شَاءَ، وَسَبْقُ الْعَمَلِ هُوَ بِاكْتِسَابٍ، فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا كَانُوا أَفْضَلَ مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا مِنْ وَجْهَيْنِ: فَمَنْ كَانَ سَبْقُهُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ زَمَانُ إِنْفَاقِهِ وَقِتَالِهِ، فَلَهُ فَضِيلَةُ سَبْقِ الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُلَامُ مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ عَلَى تَأَخُّرِهِ، وَمَنْ كَانَ قِتَالُهُ وَإِنْفَاقُهُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْفَتْحِ مِنْ قِبَلِ فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ مَلُومٌ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ إِمْكَانُ الْإِنْفَاقِ وَالْقِتَالِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَفْعَلْ. فَأَمَّا تَأَخُّرُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الْفِعْلِ فَمَنْ أَنْفَقَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ فَازَ بِفَضِيلَةِ السَّبْقِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَا اكْتِسَابِهِ، فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ وَالْقِتَالُ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ فَيَجُوزُ اسْتِوَاءُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَوَّلِهَا غَيْرِ الْمَخْصُوصِينَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَمْ يُدْرِكْ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَوْ نَصِيفَهُ» مِنْ جِهَةِ السَّبْقِ الَّذِي هُوَ سَبْقُ الزَّمَانِ، وَيَكُونُ تَسَاوِيهِ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ الِاكْتِسَابِ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» : مِنْ جِهَةِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَبَذْلِهِمْ وَإِنْفَاقِهِمْ وَمَا هُوَ مِمَّا يَكْتَسِبُونَهُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُمْ بِفِعْلِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ فَتَسَاوَوْا فِيهِ. وَقَوْلُهُ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ فِعْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأُولَئِكَ، فَأُولَئِكَ لَهُمْ فَضِيلَةُ السَّبْقِ فَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ، وَالْمَعْدُودُونَ خَيْرَ النَّاسِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» فِي الْمَعْدُودِينَ وَمَنْ سِوَاهُمْ، يَجُوزُ فِيهِ تَسَاوِي أُولَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ تَفْضِيلًا وَاكْتِسَابًا، وَمَنْ سِوَاهُمْ فَأَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ سَوَاءٌ فِي الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ أَفْعَالُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: أخ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ح الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هِشَامٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي فِي الْمُحَارَبَةِ، مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ [ص: 378] أَنَا فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي مَسَاءَةِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ، إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ، إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنَ الْغَنِيِّ مَنْ لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفَسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، لَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، لَوْ أسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ، لَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ خَصَائِصُهُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ فِي أَزَلِهِ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُمْ، وَأَنْتَجَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَاسْتَخْلَصَهُمْ وَاصَطَنَعَهُمْ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِثَهُمْ حِينَ أَوْجَدَهُمْ عَنِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَصَرَفَ الْأَغْيَارَ عَنْهُمْ ضَنًّا بِهِمْ وَغَيْرَةً عَلَيْهِمْ، زَيَّنَهُمْ بِأَوْصَافِهِ، وَحَلَّاهُمْ بِنُعُوتِهِمْ، فَهُمْ عُلَمَاءُ صُلَحَاءُ كِرَامٌ صَادِقُونَ، رُحَمَاءُ حُكَمَاءُ عُدُولٌ مُؤْمِنُونَ، فَهُمْ بِكَثِيرِ أَوْصَافِهِ مَوْصُوفُونَ، وَبِأَسْمَائِهِ وَنُعُوتِهِ مَوْسُومُونَ، قَلَبَ بِصِفَاتِهِ أَحْوَالَهُمْ، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَفْعَالَهُمْ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قَاتَلَ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، وَانْتَصَرَ بِهِمْ مِمَّنْ عَادَاهُ، فَهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8] ، وَقَالَ {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] ، فَلَمَّا كَانُوا أَنْصَارَهُ يُقَاتِلُونَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ، وَيُنَاصِبُونَ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، وَيَذُبُّونَ عَنْ دِينِهِ، وَيُقَاتِلُونَ مَعَ رُسُلِهِ، جَعَلَ آذَاهُمْ مُبَارَزَتَهُ، وَإِهَانَتَهُمْ مُنَاصَبَتَهُ، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، سَمَّاهُمْ مُحَارِبِينَ لَهُ لَمَّا آذَوْا أَوْلِيَاءَهُ فِي سَلْبِ أَمْوَالِهِمْ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَإِخَافَةِ سُبُلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا خَصَائِصَهُ فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ بَارَزَهُ، أَيْ أَظْهَرَ مُخَالَفَةَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ خِلَافَ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ، وَأَرَادَهُمْ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِهِ، أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَهَانَهُمُ الْمُؤْذِي لَهُمْ، وَوَالَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَادَاهُمُ الْمُهِينُ لَهُمْ، فَصَارُوا لِلَّهِ مُحَارِبِينَ، وَلَهُ بِالْعَدَوَاةِ بَارِزِينَ، وَلِحُكْمِهِ فِيهِمْ مُخَالِفِينَ [ص: 379] . وَقَوْلُهُ: «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ» أَيْ مَا رَدَدْتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فِي مَا فَعَلْتُهُ بِخَلْقِي، كَمَا رَدَدْتُ مُخْتَلَفَ الْأَحْوَالِ عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ بِلَطَائِفَ يُحْدِثُهَا لَهُ وَيُظْهِرُهَا عَلَيْهِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَوْتَ، وَيَسْأَمَ الْحَيَاةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 كَمَا فَعَلَ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَبَكَى إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ مَلَكُ الْمَوْتِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ وَمَاءُ الْعِنَبِ يَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ كَمْ أَتَى لَكَ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ سِنِّ إِبْرَاهِيمَ، فَاشْتَهَى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْتَ فَقَبَضَ رُوحَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. فَهَذِهِ لَطِيفَةٌ أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهَا نَظَائِرَ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ لَهُ، فَقَالَ {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، فَأَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحِلَّ الْمُؤْمِنَ فِي جِوَارِهِ، وَيُنْزِلَهُ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَيَهَبَ لَهُ مِنْ مُلْكِهِ، وَيَجْعَلَهُ بَاقِيًا بِبَقَائِهِ مَلِكًا لَا يَفْنَى مُلْكُهُ، حَيًّا لَا يَمُوتُ أَبَدًا لَا يَزُولُ، يُحِلُّ عَلَيْهِ كَرَامَتَهُ، وَيُلَذِّذُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَيُكْرِمُهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَحَكَمَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ , وَلَا يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْمَوْتِ لِيَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ الْجَلِيلَةِ، وَالرُّتْبَةِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَرِهَ اللَّهُ مَسَاءَتَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَزَالَهَا عَنْهُ بِلَطَائِفَ يُحْدِثُهَا لَهُ وَفِيهِ، سُبْحَانَ اللَّطِيفِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» ، لَيْسَ مِنْ قَدْرِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ، وَسِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ، وَنَقْصُ الْحَدَثِ فِيهِ بَيِّنٌ، وَحَقَارَةُ الْبِنْيَةِ لَهُ لَازِمَةٌ، فَبِأَيِّ صِفَةٍ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إِلَى غَنِيٍّ مُحْتَاجٌ , وَمَلِكٍ لَا يُطَاقُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُهُ اللَّهُ مِنْهُ، يَتَقَرَّبُ بِلُطْفِهِ إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهَا عَلَامَتَهُ لِمَنْ لَهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ، فَمَنْ أَقَامَ أَوَامِرَهُ، وَأَدَّى فَرَائِضَهُ فَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَصَارَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ تَقَرُّبًا مِنْهُ، وَإِقَامَةُ أَوَامِرِهِ تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، وَأُخْرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ تَوَقَّى فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَدَنَّسَ بِالْخَطَايَا، وَيَتَلَطَّخَ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُدُّوسٌ طَاهِرٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْقُدُّوسَ الْأَعْلَى لَا يَقْرَبُهُ إِلَّا قِدِّيسٌ طَاهِرٌ» ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ لِيَطَّهْرُوا بِهَا مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَيَتَنَظَّفُوا مِنْ أَرْجَاسِ الْعُيُوبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَقَدْ قَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ تَطَهَّرُوا فَصُلُحُوا لِدَارِ الطَّهَارَةِ وَقُرْبَةِ الْقُدُّوسِ. وَقَوْلُهُ «وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» لَمَّا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ الْوَجْهَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهِ، وَالْعَمَلَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ مَنْ قَرَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَهُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، أَدَّى فَرَائِضَهُ بَاذِلًا فِيهَا مَجْهُودَهُ، وَكَانَتِ الْفَرَائِضُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْدُودَةٍ تُسَارِعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ طَلَبًا لِازْدِيَادٍ مِنَ السَّبَبِ الْمُقَرِّبِ إِلَيْهِ، وَالسِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَزَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةً إِلَى تَقْرِيبِهِ مِنْهُ كَمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تعَبُّدًا فِي حَالِ الْحُرِيَّةِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَبْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَثْلُ الْمُكَاتَبِ، كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نُجُومًا، فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فُرُوضًا مَحْدُودَةً، وَأَلْزَمَهُ أُمُورًا مَحْدُودَةً مُؤَقَّتَةً، فَإِذَا أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ رِقِّهَا، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتٌ آخَرُ عَتِيقٌ فِي عَمَلِهِ، وَإِلَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَرْضٌ ثَانٍ حُرٌّ، فَمَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ شَوْقًا إِلَى مَوْلَاهُ اسْتَحَقَّ الْمَحَبَّةَ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الرِّقِّ اسْتَوْجَبَ الْقُرْبَةَ. وَقَوْلُهُ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا» إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَحْدَثَ فِيهِ حُبًّا لِلَّهِ، فَيُحَبُّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَالْمَحْبُوبُ مُحِبٌّ، وَالْمُحِبُّ مُنْخَلِعٌ مِنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِ، خَارِجٌ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْمُحِبِّ أَفْنَتْهُ عَنْهُ، وَسَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ، وَاصْطَفَتْهُ مِنْ نُعُوتِهِ فَأَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ، وَعَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِهِ أَبْلَاهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُبِّكَ الشَيْءَ مَا يُعْمِي، وَمَا يُصِمُّ» حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 381] فَالْمُحِبُّ يُصِمُّ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَيُعْمِي عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْأَبْصَارَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْكِبَارِ: [البحر البسيط] أَصَمَّنِي الْحُبُّ إِلَّا عَنْ تَسَاوُدِهِ فَمَنْ ... رَأَى حُبَّ حُبٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا وَكُفَّ طَرْفِيَ إِلَّا عَنْ وِعَايَتِهِ ... وَالْحُبُّ يُعْمِي وَفِيهِ الْقَتْلُ إِنْ كُتِمَا وَقِيلَ لِقَيْسٍ الْمَجْنُونِ: أَتُحِبُّ لَيْلَى؟ فَقَالَ: لَا، قِيلَ: لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ ذَرِيعَةُ الْوَصْلَةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَصْلَةُ سَقَطَتِ الذَّرِيعَةُ، فَأَنَا لَيْلَى، وَلَيْلَى أَنَا. قَالَ الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنَا أَحْكِي لَكَ عَنِّي عَجَبًا فِي رُؤْيَا رَأَيْتُهَا، رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ امْرَأَةً رَقِيقَةً مَمْشُوقَةً، عَلَيْهَا مَلَاحَةٌ، وَلَهَا شَعْرٌ مَا رَأَيْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مِثْلَهُ طُولًا وَغِلْظًا وَسَوَادًا، فَخُيِّلَ لِي أَنَّهَا لَيْلَى، وَهِيَ تُنْشِدُ أَشْعَارًا، فَكُنْتُ حَفِظْتُ مِنْهَا أَبْيَاتًا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَقُلْتُ لَهَا وَعَزَمْتُ عَلَيْهَا: أَخْبِرِينِي عَنْ قَيْسٍ، فَقَالَتْ: كَانَ عُنْوَانَ حُبِّي وَكُنْتُ مَعْنَاهُ الَّذِي قَامَ بِهِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ يُوصَفُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ صِفَةٌ تُعْرَفُ، فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ حَفِظْتُ مِنْهُ هَذَا. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَحْوَالَ الْمُحِبِّ، فَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَالْمُحْدَثُ لَا يُطِيقُ تَحَمُّلَ أَعْبَاءِ الْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْنِيهِ، فَإِذَا أَفْنَتْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ لِمَحَبَّتِهِ لَهُ خَلْقًا جَدِيدًا، فَأَفَادَهُ سَمْعًا بَدَلَ سَمْعِهِ، وَبَصَرًا بَدَلَ بَصَرِهِ، وَيَدًا بَدَلَ يَدِهِ، وَأَيَادِيَ أَقْوَى مِنْ أَيْدِهِ، فَلَا يُبْصِرُ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَقْوَى إِلَّا فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَوْلًى، وَلَا وَلِيًّا إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَرَى فِي الدَّارَيْنِ لَهُ غَيْرَهُ، فَمَنْ يَدْعُو سِوَاهُ وَمَنْ يُجِيبُهُ إِلَّا هُوَ، إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مُجِيبًا لَهُ إِلَّا رَبُّهُ، وَلَا مَدْعُوًّا إِلَّا مَحْبُوبُهُ. وَقَوْلُهُ: «يَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ عَنْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَمَاتَتْ فِيهِ شَهَوَاتُهُ، وَبَطَلَتْ مِنْهُ إِرَادَتُهُ، قَدْ ذُهِلَ عَنْ أَوْصَافِهِ، وَشُغِلَ فِي مَحَبَّةِ مَحْبُوبِهِ عَنْ نُعُوتِهِ، فَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي أَحْكَامِ مَوْلَاهُ , فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْلَأْنِي كِلَاءَةَ الْوَلِيدِ» فَهَذَا اسْتِنْصَاحُهُ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُصَرِّفُهُ فِي مَشِيئَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَيَحُوطُهُ بِعِصْمَتِهِ، وَيُصَرِّفُهُ فِي مَحَابِّهِ، فَهَذَا نُصْحُهُ لَهُ [ص: 382] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لِمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ» هَذَا مَنْ نَصَحْتُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِحُظُوظِهَا، وَإِنَّمَا شُغْلُهُ بِمَوْلَاهُ، وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا يَرْضَاهُ، فَهُوَ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَبِيبُ اللَّهِ وَمَحْبُوبُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِبُّهُ، وَالْمُحِبُّ يَغَارُ عَلَى مَحْبُوبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَضِنُّ بِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى سِوَاهُ، فَالْعَبْدُ لِغَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ يَقْصِدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اخْتَارَهُ إِلَى مَا اخْتَارَهُ لَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا نَاظِرًا إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَاجْتِهَادًا فِي عِبَادَتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا شُغِلَ بِهِ وَسَكَنَ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَمَّا يَسْكُنُ إِلَيْهِ، وَيَشْغَلُهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ شُغُلُهُ بِهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ» هَذَا أَيْضًا مِنْ نَصِيحَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ لِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحَبَّهُ كَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ، وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَصْرِفُهُ عَمَّا يُخِلُّ بِإِيمَانِهِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ فِي حُبِّهِ إِيَّاهُ شَيْءٌ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَوْصَافٍ مَتَفَاوِتَةٍ، فَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ، وَمِنْهُمُ الرَّفِيقُ، وَمِنْهُمُ الْكَثِيفُ، وَمِنْهُمُ الْوَضِيعُ، وَمِنْهُمُ الشَّرِيفُ. فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَلْبِهِ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ أَغْنَاهُ، إِذْ لَوْ أَفْقَرَهُ إِيَّاهُ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُغْنِيهِ، فَيُقِرُّ بِهِ بِذَلِكَ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ، فَيَصُونُهُ بِغِنَاهُ مِنْ أَنْ يَنْصَرِفَ بِحَاجَتِهِ إِلَى سِوَاهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ خَمْسًا: غِنًى مُطْغِيًا، وَفَقْرًا مُنْسِيًا، وَهَرَمًا مُفَنِّدًا، وَمَرَضًا مُفْسِدًا , وَمَوْتًا مُجْهِزًا"، فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ مُنْسِيًا، صَرَفَ الْحَقُّ عَمَّنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ الْفَقْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَنْسَاهُ حَبِيبُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ قَرِيبُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنْ لَا يُصْلِحَ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ أَفْقَرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْغِنَى يُطْغِيهِ، وَأَنَّ الْفَقْرَ لَا يُنْسِيهِ بَلْ يَشْغَلُ لِسَانَهُ بِذِكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَقَلْبَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَحَّهُ عَلَيْهِ سَحًّا، فَإِذَا دَعَاهُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ، اقْضِ لَهُ حَاجَتَهُ، فَيَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا قَالَ [ص: 383] : يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَبَّيْكَ عَبْدِي وَسَعْدَيْكَ، لَا تَدْعُونِي بِشَيْءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَكَ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ، إِمَّا أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ مَا سَأَلْتَ، وَإِمَّا أَنْ أَدَّخِرَ لَكَ عِنْدِي أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أَدْفَعَ عَنْكَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ"، وَالْفَقْرُ أَشَدُّ الْبَلَاءِ، وَأَعْظَمُ الْمِحَنِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِعَبْدِهِ الَّذِي أَحَبَّهُ لِيَدْعُوَهُ فَيَسْمَعَ صَوْتَهُ دَاعِيًا لَهُ، وَيَسْأَلَهُ وَيَرَاهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ السَّقَمُ هُوَ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ، فَيُسْقِمُ اللَّهُ تَعَالَى حَبِيبَهُ لِيَدْعُوَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُجِيبَهُ، وَيَسْأَلُهُ فَيُعْطِيهِ، وَيَشْغَلُهُ بِهِ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْهُ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ صَبًّا كَمَا سَحَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْبَلَاءَ سَحًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّلَاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ، وَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ، وَيُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ فَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا بِغَيْرِ حِسَابٍ حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ أَنَّهُ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ أَجْسَادُهُمْ مِمَّا فِيهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الْفَضْلِ» حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: ح عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُسْقِمُ عَبْدَهُ الَّذِي يُحِبُّهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ، مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ السَّقَمَ صَحَّحَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَابِدًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا وَيُفَضِّلُ قُوَّتَهُ جَاهِدًا، فَيَكُونُ مَاثِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُ فَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا سَأَلَهُ وَإِنْ كَانَ غَيِنًّا أَقْرَضَهُ وَأَسْقَمَهُ تَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّحَهُ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُصْلِحُ إِيمَانَهُ لِيَصْلُحَ لَهُ، يُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، فَهُوَ تَعَالَى يُحِبُّهُ لَهُ يَفْعَلُهُ بِهِ مَا يَصْرِفُ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ وَلِيَكُونَ فِي كُلِّ حَالٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مَاثِلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ مَائِلًا، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَيْهِ نَاظِرًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ لَهُ ذَاكِرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى مُحِبٌّ، وَعَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 مُؤْثِرٌ، وَإِلَيْهِ نَاظِرٌ، وَلَهُ ذَاكِرٌ، فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ حَبِيبُهُ لَهُ كَمَا هُوَ لِحَبِيبِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَهُ تَعَالَى. اللَّهُ أَكْبَرُ الْكَرِيمُ اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 - حَدِيثٌ آخَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ح أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ قَالَ: ح أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ قَالَ: ح يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: ح رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِضَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ , قَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا , وَضَرَبَ هَذَا، وَشَتَمَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ، أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ وَطُرِحْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَعَلِّقَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِعْجَابًا بِرَأْيِهِمْ، وَحُكْمًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُقُولٍ ضَعِيفَةٍ، وَأَفْهَامٍ سَخِيفَةٍ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ أَنْ يَضَعَ سَيِّئَاتِ مَنِ اكْتَسَبَهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا، وَيَأْخُذَ حَسَنَاتِ مَنْ عَمِلَهَا فَيُعْطِي لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، وَهَذَا جَوْرٌ، زَعَمُوا وَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [آل عمران: 164] ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 117] وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَا قَالُوهُ. فَقَالُوا: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْنِ أُمُورَ الدِّينِ عَلَى عُقُولِ الْعِبَادِ، وَلَمْ يَعِدْ، وَلَمْ يُوعِدْ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مَا يَحْتَمُلُهُ عُقُولُهُمْ وَيُدْرِكُونَهُ بِأَفْهَامِهِمْ وَيَقْتَبِسُونَهُ بِآرَائِهِمْ، بَلْ وُعِدُوا وَعْدًا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَمَرَ وَنَهَى بِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ مَرْدُودًا لَكَانَ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ مُسْتَحِيلًا عَلَى مَوْضُوعِ عُقُولِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ [ص: 385] أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ الْغُسْلَ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي هُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَأَوْجَبَ غَسْلَ الْأَطْرَافِ مِنَ الْغَائِطِ الَّذِي لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَسَائِرِ مَنْ يَقُولُ بِالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى نَجَاسَتِهِ وِقَذَارَتِهِ وَنَتْنِهِ، وَأَوْجَبَ بِرِيحٍ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ مَا أَوْجَبَهُ بِخُرُوجِ الْغَائِطِ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، فَبِأَيِّ عَقْلٍ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَبِأَيِّ رَأْيٍ يَجِبُ مُسَاوَاةُ رِيحٍ لَيْسَ لَهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ لِمَا يَقُومُ عَيْنُهُ، وَيَزِيدُ عَلَى الرِّيحِ نَتْنًا وَقَذَارَةً إِلَى هَذِهِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعَ يَمِينِ مُؤْمِنٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَدُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَالِ وَبَيْنَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَيَكُونُ الْقَطْعُ فِيهِمَا سَوَاءً، وَأَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمِّ مِنْ وَلَدِهَا الثُّلُثَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى إِخْوَةٌ جَعَلَ لَهَا السُّدُسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِثَ الْإِخْوَةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَبِأَيِّ عَقْلٍ يُدْرَكُ هَذَا إِلَّا تَسْلِيمًا وَانْقِيَادًا، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ سَبِيلُهَا مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ عَلَى مَا أَحْدَثَ فِي الْعَبْدِ وَخَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعٍ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، وَهُوَ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَأَوْعَدَ عَلَى مَا أَوْجَدَهُ مِنَ الْعَبْدِ، وَخَلَقَهُ فِيهِ وَأَحْدَثَ لَاسْتِطَاعَتِهِ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَعْصِمْ مِنْهُ بِإِجْمَاعٍ بِجُرْمٍ مُنْقَطِعٍ لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُؤْثِرُهُ عِقَابًا لَا يَحْتَمِلُ الْعُقُولُ فِكْرَهَ فِيهِ، وَإِدْرَاكًا لَهُ مِنْ شِدَّةِ أَلَمِهِ وَفَظِيعِ أَمْرِهِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إِحْبَاطُ عَمَلِهِ سَبْعِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ وَطَاعَةُ مِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ بِسَرِقَةِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشَرَةٍ أَوْ قَذْفِ مُحْصَنٍ أَوْ مُحْصَنَةٍ. ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ الْمَقْذُوفَ وَلَا قَدَحَ فِيهِ، وَالتَّأْبِيدُ فِي النَّارِ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدِ عَلَى شُرْبِ جُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ مَعَ إِيمَانٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالطَّاعَةِ لَهُ فِي مُدَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً مَعَ فِرْعَوْنَ الَّذِي بَارَزَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَتَلَ أَنْبِيَاءَهُ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، بِأَيِّ عَقْلٍ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعِبَادِ تُوجِبُ هَذَا وَقَدِ اسْتَسْلَمَ الْمُتَعَقِّلُ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلْإِيمَانِ، وَانْقِيَادًا لَهُ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُحَكِّمْ فِيهِ عَقْلَهُ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ طَرْحُ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا، وَسَلْبُ الْحَسَنَاتِ مِمَّنْ عَمِلَهَا، وَدَفْعُهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَهَذَا أَهْوَنُ مِمَّا جَوَّزَهُ، وَأَيْسَرُ مِمَّا اسْتَسْلَمَ لَهُ، عَلَى أَنَّا نَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِي عَقْلِ هَذَا الْمُتَعَقِّلِ فَيَقُولُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْعَدَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا نَهَى عَنْهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَلْوَانٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَجَلْدِهِ مِائَةً لِمَنْ لَمْ يُحْصِنْ، وَالْقَطْعِ لِلسَّارِقِ وَتَعْزِيرِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَوْعَدَهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، وَفِي أَكْلِ الرِّبَا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، إِلَى قَوْلِهِ {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] ، فَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِعُقُوبَاتِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ كَذَلِكَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُقُوبَةِ الظَّالِمِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَضَرْبِ أَبْشَارِهِمْ، وَشَتْمِ أَعْرَاضِهِمْ، أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعَدَّهَا لِلْخَطَايَا الَّتِي اكْتَسَبَهَا الْمَظْلُومُ، فَعَاقَبَ الظَّالِمَ بِتِلْكَ الْعُقُوبَاتِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتُ بِمَا اكْتَسَبَ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِقَابًا لِفِعْلٍ اكْتَسَبَهُ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَعَاقَبَهُ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ، وَأَحْبَطَ حَسَنَاتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُثِبْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ثَوَابَهَا اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَمَنِ اكْتَسَبَ مَالًا فِي الدُّنْيَا فَجَمَعَ مِنْهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فَأَخَذَ مَا جَمَعَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، كَذَلِكَ مَا اكْتَسَبَ هَذَا الظَّالِمُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ فَاسْتَحَقَّ ثَوَابَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَتْ تَحْصُلُ لَهُ , لَوْلَا مَا جَنَى مِنْ تِلْكَ الْمَظَالِمِ، فَلَمَّا قُوبِلَتْ حَسَنَاتُهُ بِسَيِّئَاتِهِ بِتِلْكَ الْمَظَالِمِ، وَلَوْلَا حَسَنَاتُهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ لَكَانَ يُعَاقَبُ عَلَى مَظَالِمِهِ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلظَّالِمِينَ، فَيَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ وَهَذَا الْفِعْلُ مِنَ اللَّهِ بِهِ نَوْعًا مِنَ الْعُقُوبَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الزَّاعِمُ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِمَا لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الذَّنْبِ بَلْ عُوقِبَ بِذَنْبٍ اكْتَسَبَهُ، وَمَعْصِيَةٍ عَمِلَهَا، وَكَانَ ثَوَابُ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ جَزَاءً لِلْمَظْلُومِ فِيمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ، وَثَوَابًا عَلَى صَبْرِهِ عِنْدَمَا ظُلِمَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] فَيَكُونُ ذَلِكَ الثَّوَابُ ثَوَابًا عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ مِنْ صَبْرِهِ وَفَضْلًا زَادَهُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَهَذَا قَدْ أُثِيبَ عَلَى مَا عَمِلَهُ، وَالظَّالِمُ عُوقِبَ عَلَى فِعْلِهِ، وَمَعْنَى أَخْذِ الْحَسَنَاتِ وَطَرْحِ السَّيِّئَاتِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ، فَقَدْ وَزِرَ هَذَا الْوَازِرُ وِزْرَهُ، وَلَا وِزْرَ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا» حَدَّثَنَاهُ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ح إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح قَبِيصَةُ قَالَ: ح سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ سِنِينَ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُطْرَحَ سَيِّئَاتُ مَنْ عَمِلَهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، فَابْنُ آدَمَ إِنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ آثَامُ كُلِّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ جَزَاءُ فِعْلِهِ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عُقُوبَةَ ابْنِ آدَمَ فِي النَّارِ إِثْمَهَ وَآثَامَ الْقَاتِلِينَ، لَا أَنْ يَكُونَ يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْمَلْهَا، كَذَلِكَ الظَّالِمُ جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ أَنْ يُعَاقَبَ بِآثَامِ مَنْ ظَلَمَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَعَلَى مَا اكْتَسَبَهُ، لَا أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، أَوْ مُعَاقَبًا بِمَا لَمْ يَجْنِهِ، فَحَصَلَ آخِرُ الْأَمْرِ أَنْ يُجَازَى الْمَظْلُومُ عَلَى ظُلْمِهِ ثَوَابَ حَسَنَاتِ ظَالِمِهِ، وَذَلِكَ جَزَاؤُهُ الَّذِي جَازَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ، وَثَوَابُ صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وَيُعَاقَبُ الظَّالِمُ بِذَهَابِ حَسَنَاتِهِ، وَعُقُوبَةِ مَا جَنَى الْمَظْلُومُ، وَذَلِكَ جَزَاءُ ظُلْمِهِ، وَعُقُوبَةُ مَا جَنَتْهُ يَدُهُ وَلِسَانُهُ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ وَلَا جَوْرٌ، وَلَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً وَمَاتَ عَلَيْهَا حَبِطَتْ حَسَنَاتُهُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ فِي مُدَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَا طَاعَتُهُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا، بَلْ هُوَ فِي النَّارِ خَالِدًا مُخَلَّدًا مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ. وَأَمَّا الَّذِي قُلْنَاهُ فَإِنَّ هَذَا الظَّالِمَ لَمْ تَحْبَطْ أَعْمَالُهُ , بَلْ أُسْقِطَتْ حَسَنَاتُهُ عِنْدَ عُقُوبَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْهُ فَوَفَّتْ حَسَنَاتُهُ بِجِنَايَاتِهِ، أَوْ نَقَصَتْ جِنَايَاتُهُ وَزَادَتْ حَسَنَاتُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ زَادَتْ جِنَايَاتُهُ فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ فِي النَّارِ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَيَكُونُ عُقُوبَتُهُ أَخَفَّ، وَمُدَّةُ لَبْثِهِ فِي النَّارِ أَقَلَّ، وَلَوْلَا حَسَنَاتُهُ لَطَالَ لَبْثُهُ فِي النَّارِ، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتُهُ فِيهَا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387