الكتاب: فقه العبادات على المذهب الحنبلي المؤلف: الحاجّة سعاد زرزور   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فقه العبادات على المذهب الحنبلي سعاد زرزور الكتاب: فقه العبادات على المذهب الحنبلي المؤلف: الحاجّة سعاد زرزور   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة المؤلفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد. فهذا مؤلف في فقه العبادات على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وضعته بعد أن لمست الحاجة إليه في كثير من البلاد العربية والإسلامية. حيث أن هذا المذهب هو فقه أهل الحجاز والخليج العربي كله. كما ينتشر في العراق وسوريا. ويحتاج أهل هذا المذهب إلى كتاب مدرسي مبسط في هذا الفقه لمعرفة أحكامه العملية الضرورية في أداء العبادات على الوجه الصحيح. وقد يجدون في هذا الكتاب بغيتهم فنكون قد ساهمنا بنشر هذا الفقه والانتفاع به بأذن الله. وقد جمعت مادته مما تلقيته عن أستاذي في الفقه الحنبلي فضيلة الشيخ أحمد الشامي مفتي دوما وعالمها شكر الله له وأدامه ذخراً للإسلام والمسلمين. كما عدت إلى الكتب المشهورة في هذا الفقه فأغنيت منها الموضوع. ثم عدت فعرضت ما جمعت على فضيلة الشيخ فأتحفني بملاحظاته التي أخذت بها حين تنقيح الكتاب للمرة الأخيرة قبل الطبع. وقد قمت بالتدليل على أحكامه بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وعزوت الأدلة إلى مصادرها في القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف. وإني إذ أتقدم بهذا الكتاب، أرجو الله أن أكون قد وفقت في عرضه وتصنيفه بالشكل الذي يسهل فهمه وتطبيقه عسى أن ينفع الله به المسلمين. والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل المتواضع لخدمة دينه. ويجزي عني أعظم الجزاء كل من أعانني على إنجازه وإخراجه إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تقديم الشيخ أحمد الشامي، مفتي دوما وعالمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي مهد قواعد الدين بكتابه المنزل، وجعلنا من عباده المؤمنين بإتباع نبيه المرسل، الذي أظهر به الحق بعد أن كان خفياً، واختاره على كافة خلقه وكان به خفياً [حفيا؟؟] . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبوئ قائلها أعلى المقامات، وتحله من دار كرامته أعلى الغرف في الجنات. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ألي المناقب العالية الكريمة. أما بعد: فإن علم الفقه من أجلّ العلوم الشرعية إذ به يتعرف المرء أحكام الأقوال والأفعال من واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، ومن ثم يوجه حياته سواء في عبادته أو تعامله مع الناس وفقاً لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله صَلى الله عَليه وسَلم فيفوز بسعادة الدارين. وبهذا المعنى جاء قوله عليه الصلاة والسلام "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده" ولقد أحسن الإمام الشافعي رضي الله عنه حين قال: كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين ولقد اطلعت على هذا الكتاب "فقه العبادات" فوجدت مؤلفته قد قامت بمجهود جيد مشكور في ترتيبه وعرض أحكامه عرضاً واضحاً يسهل على طلاب العلم وغيرهم تفهم أحكام دينهم مقرونة بالدليل من الكتاب والسنة واجتهاد الأئمة المجتهدين في مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي بذل حياته مع الأئمة الآخرين رضي [ص: 8] الله عنهم لإرشاد الناس ووضعهم على الطريق الصحيح الذي اختاره لهم رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، ولشدة تمسك هذا الإِمام الورع بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال أصحابه رضوان الله عليهم نرى كثيراً من العلماء اختار مذهبه. وفي ذلك قال شيخ الإسلام مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب التصانيف العديدة في المذهب: لئن قلد الناس الأئمة إنني * لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب أقلد فتواه وأعشق قوله * وللناس فيما يعشقون مذاهب أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بغيره وأن يجزي مؤلفته عن المسلمين خير الجزاء وأن يوفقنا جميعاً لمواصلة طريق العم [العمل؟؟] لنكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين. كتبه الفقير إليه تعالى أحمد بن صالح الشامي في 5/ 9/1405 هـ الموافق لـ24/5/1985 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لمحة عن حياة الإمام أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أحمد بن حنبل رضي الله عنه [ص: 11] لمحة عن حياته (164-241 هـ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 نسبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 هو الإمام الذي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي. وهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر. فقد انحدر الإِمام أحمد من قبيلة عربية أصيلة غير أعجمية ولا مهجنة، والتقى نسبه الشريف مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. وقبيلة شيبان هذه عرفت بالهمة والإباء وشدة الشكيمة والصلابة، كان منها المثنى بن حارثة، القائد الإسلامي المعروف. وكان جده حنبل والياً على سرخس في العهد الأموي ويدعو للعباسيين حين لاح نجمهم في الأفق. وكان أبوه محمد جندياً من جنود الحرب بل وصفه الأصمعي أنه كان قائداً. وقد ورث أحمد رضي الله عنه عن أسرته الكريمة عزة النفس وقوة العزم، والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شب وترعرع، ويتبين في سجاياه، كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن. مولده ونشأته: ولد أحمد رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 164 هـ، جيء به حملا من مرو، وولد في بغداد، توفي أبوه شاباً، فقامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه. وكان أبو قد ترك له عقاراً ببغداد يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة لا تقوم بنفقات الأسرة، فنشأ على الصبر والقناعة والكفاف. وكان في هذا كشيخه الشافعي: نسب رفيع، ويتم، وحال من الفقر الذي يجد فيه الكفاف، ولا يستخذي بالحاجة، وهمة عالية، ونفس أبية، وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ تشابهاً غريباً، فكلاهما كان بهذه الأحوال التي ذكرناها، وكلاهما كانت أم ترعاه وتدفعه إلى العلا، وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو لا تجعلها تنطفئ أو تخبو. [ص: 12] حفظ أحمد رضي الله عنه القرآن وهو غلام، وتعلم علوم اللغة، وتعلم علوم اللغة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه: "كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة". وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الآباء: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم! انظروا كيف؟! وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته". وكان عمه يرسل الكتب إلى بعض الولاة بأحوال بغداد، ليعلم بها الخليفة، وقد أرسلها مرة مع ابن أخيه، أحمد بن حنبل، فتورع عن ذلك، ورمى بها الماء تأثماً عن الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين، وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل: "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه". ويظهر أن هذه الفراسة (1) قد تحققت، فقد عاش الفتى، حتى وصل إلى السابعة والسبعين، وكان نوراً لأهل زمانه، بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل ما يعتقد.   (1) في الأصل "هذه النبوءة"، وقد استبدلناها بـ "هذه الفراسة" لمنع الإشكال، ولثقتنا أن هذا مقصود المؤلفة لا ريب، وينسجم مع قولها السابق: وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات ... مشروع المحدّث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 طلبه للعلم ومنزلته العلمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 1- طلبه للعلم: اتجه أحمد رضي الله عنه إلى طلب العلم الذي وجهته أسرته إليه واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص. وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة التي وجه إليها، وكانت بغداد فيها علوم الدين، واللغة، والرياضة، والفلسفة، والتصوف إذ كانت حاضرة العالم الإسلامي. فاختار الإِمام أحمد في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فيروى أن أول تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقد قال: "أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف". ولكنه مال من بعد إلى المحدثين الذين انصرفوا بجملتهم [ص: 13] للحديث، وبقي يتلقى الحديث بغداد من سنة 179 هـ إلى سنة 186 هـ ولزم عالماً كبيراً من علماء الحديث وآلاثار ببغداد أربع سنوات، وهو شيم بن بشير بن أبي حازم الوسطي (المتوفي سنة 183 هـ) . وكانت سنه عند الملازمة حوالي الست عشرة سنة، وكتب الإِمام أحمد عنه كتاب الحج وبعضاً من التفسير وكتاب القضاء وكتباً صغاراً. ولقد استمع أيضاً ملازمته لهشيم إلى عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عباس. وبعد موت هشيم أخذ أحمد رضي الله عنه يتلقى الحديث حيثما وجده وحيثما كان؛ ومكث ببغداد نحو ثلاث سنوات يأخذ من شيوخها بجد وأدب ونشاط، فقد ذكر عن نفسه " "كنت ربما أردت البكور في الحديث؛ فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 2- رحلاته العلمية: ابتدأ الإِمام أحمد رحلاته في سنة 186 هـ؛ ليتلقى الحديث عن الرجال شفاهاً ويكتب عن أفواههم ما يقولون؛ فرحل إلى البصرة؛ ورحل إلى الحجاز؛ ورحل إلى اليمن؛ ورحل إلى الكوفة؛ وما سمع بعالم إلا رحل إليه، إلا إن حالت المنية دون اللقاء، فلم يستطع الاستماع إلى الإِمام مالك، إذ مات الأخير عند ابتدائه في طلب الحديث، ولم يتمكن من الاستماع إلى ابن المبارك إذ أن آخر قدمة له ببغداد كانت في السنة التي اتجه فيها أحمد رضي الله عنه إلى طلب الحديث، ولم يظفر بلقائه، كما ضاقت نفقته عن الرحلة إلى الري وقال: "لو كان عندي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد". وكما رحل الإِمام أحمد في سبيل طلب العلم رحل في سبيل الحج، فقد روى لنا أنه حج خمس مرات، ثلاثاً على قدميه واثنتين راكباً.. وفي سنة 187 هـ التقى في رحلته إلى الحجاز مع الإِمام الشافعي، وأخذ عنه الفقه وأصوله، وعلم الناسخ والمنسوخ، ولقي الإِمام الشافعي بعد ذلك ببغداد، وقد حرر الشافعي فقهه، ونضج أحمد رضي الله عنه في الحديث وعلم الرواية، حتى كان الإِمام الشافعي يقول له: "إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به". [ص: 14] إذن كان الإِمام أحمد يحتفي بطلب الحديث وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم وفتاوى أصحابه كما كان يطلب علم الفقه والاستنباط، وكان معجباً في هذا الباب بمنهج الشافعي الفقهي في القياس والاستنباط؛ واعترف بذكائه الباهر وقوة قياسه حتى قال: "ما رأت عيناي مثله". ومما يدل على علو همة أحمد رضي الله عنه في طلب العلم واستطابته المشقة في سبيل ذلك، قصة يرويها ولده صالح، قال: "عزم أبي على الخروج إلى مكة، ورافق يحيى بن معين، قال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق (1) ، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق، فسلم عليه يحيى، وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل، فقال: حياه الله! إنه ليبلغني عنه كل ما أُسَرّ به، ثبته الله على ذلك! ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد؟ فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع عنه الكتب وأكثر عنه". واستمر على هذا الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإِمامة في الحديث والفقه، قال عبد الله ابن أحمد، سمعت أبا زرعة يقول: "كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له، وما يدريك؟ قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب". وقال أبو عبيدة: "ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة من أحمد". وقال القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، علي بن المديني، أبي بكر بن شيبة ويحيى ابن معين. وأحمد أفقههم! " وقال أحمد بن سعيد الرازي: "ما رأيت أسود الرأس، أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقه من أحمد بن حنبل". وقد شهد له الإمام الشافعي بذلك فقال: "خرجت من بغداد، وما خلفت به أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد". وقد استمر أحمد رضي الله عنه على جده في طلب العلم، حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، وكان رحمه الله تعالى يقول: "أنا أطلب العلم إلى أن أدخل [ص: 15] القبر". وهكذا كان الإمام أحمد يسير على الحكمة المأثورة: "لا يزال الرجل عالماً ما دام يطلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل".   (1) عبد الرزاق بن همام: إمام الحديث في اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3- جلوسه للتحديث والفتوى: جلس أحمد رضي الله عنه للتدريس والفتيا في المسجد الجامع ببغداد، وقد بلغ الأربعين، فوافق في نشر علم النبوءة سن النبوءة، وكان إقبال الناس على مجالسه عظيماً إذ كان ذكره قد ذاع في الآفاق الإسلامية قبل أن يتخذ مجلساً، ويروى عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة. وكانت مجالسه تمتاز بالوقار والسكينة وحسن الإنصات وإجلال العلم، وكانت بعيدة عن الدعابة والهزل وكل ما يذهب رواء العلم وروعة الدين، واكن للفقراء تقديم على الأمراء والأغنياء، نقل الذهبي عن المروزي قال: " لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس". ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث أحدهما: في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده، والثاني: في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ. وكانت دروسه من حيث موضوعها قسمين: أولهما: رواية الحديث ونقله: وهذه يميلها على تلاميذه من كتاب لا اتهاماً لذاكرته، بل حرصاً على جودة النقل وإبعاد لمظنة الخطأ ما أمكن، وفي الأحوال النادرة جداً كان يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب. وثانيهما: فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه، إذ أنه ما كان يستجيز التدوين إلا لأحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. إلا أنه اضطر في آخر أمره أن يجيز كتابة فتاويه، بل نشرها؛ وبخاصة بعد محنته وذيوع اسمه وشهرته في كل البقاع [ص: 16] الإسلامية بعلوم الدين كلها، سواء ما كان يتصل بالعقيدة أم بالحديث والفقه. فقد كان الناس يقصدونه للفتوى من أقصى العراق والشام وخراسان لمنزلته وشهرته في الورع والتقوى والفقه، فكثرت فتاويه حتى يروي العليمي في بيان علم الإمام أحمد رضي الله عنه ومنزلة فقهه أن عبد الوهاب الوراق قال: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل فقالوا له وأي شيء بان لك من فضله؟، فقال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها: حَدَّثنا وأخبَرَنا". وهذا الكلام يدل على أن الإمام أحمد كان يعتمد في فتاويه على أحاديث وأخبار وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم، وهو يُعتبر في ذلك الحجة الثَبْتَ الذي لا يُجارى ولا يُباري. ولم يبح لنفسه أن يجتهد وأن يستنبط إن لم يجد ضرورة تستدعي ذلك. ولحرص أحمد رضي الله عنه في فقهه أن يكون بعيداً عن الابتداع في الدين كان لا يفتي إلا فيما يقع من الأمور. وإذا كان الإفتاء في الأمور المتوقعة يكسب الفقه ضبطاً، وإحكاماً في الصياغة، فإن الإفتاء في الأمور الواقعة يكسبه حياة وقوة، ولذلك كان الفقه الحنبلي المأثور حياً نضراً، ريّان المحيّا، فيه جلال السلف؛ إذ هو أثر، أو من ينبوع الأثر، ولقد كان أحمد رضي الله عنه لتمرسه بالآثار قوي الإدراك لما يشبهها فينطق به، لأن فكره تكون منه، وأُشرب به، ومازج عقله وأطواء نفسه. وهكذا كان الإمام أحمد سلفياً في فقهه وفتاويه، لا يقفوا ما ليس به علم، لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهج السلف، لا يتكلف التعمق في مسائل عقلية قد تكون متاهات للعقل البشري، وإذا خرج من وعثائها سالماً فقد جهد نفسه في غير طائل، وشغل فكره في غير جدوى، ولها عن ذكر الله، وصد نفسه عن سبيل العبادة. وبذلك نرى كيف انعقدت الإمامة لأحمد رضي الله عنه في الفقه والورع والسنة قال الحافظ الذهبي يصفه: "هو عالم العصر، وزاهد الوقت، ومحدث الدنيا، ومفتي العراق، وعالم السنة، وباذل نفسه في المحنة، وقل أن ترى العيون [ص: 17] مثله، كان رأساً في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقل رزين، وصدق متين، وإخلاص مكين، وخشية ومراقبة للعزيز العليم، وذكاء وفطنة وفهم وسعة علم .... ". ولقد هيأته لهذه المكانة أربعة عوامل أولها: صفاته. وثانيها: الموجهون له من الشيوخ ومن يتصل بهم. وثالثها: دراسته الخاصة. ورابعها: العصر الذي أظله والبيئة التي اكتنفته. ولنتجه إلى بيان كل عامل من هذه العوامل، ليتجلى لنا كيف تكونت لأحمد رضي الله عنه تلك الثروة العلمية الضخمة. -1 - صفاته: اتصف أحمد رضي الله عنه بصفات كانت هي السبب في هذه الشهرة التي اكتسبها، وفي ذلك العلم الغزير الذي خلفه من بعده. - أول هذه الصفات الحافظة القوية الواعية، وهي صفة عامة المحدثين، وأهل الإمامة منهم بشكل خاص. ولقد شهد بقوة حفظه وضبطه معاصروه حتى عدَّ أحفظهم. - والصفة الثانية، وهي أبرز صفات أحمد رضي الله عنه، وهي التي أذاعت ذكره، صفة الصبر والجلد وقوة الاحتمال، وهي مجموعة من السجايا الكريمة، أساسها قوة الإرادة، وصدق العيمة وبعد الهمة. وهذه الصفة هي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وانٍ ولا راضٍ بالقليل منه. ولقد كانت صفة الصبر التي امتاز بها الإمام أحمد من نوع الصبر الجميل، فقد نزل به الأذى (1) فما أنّ، وما ضج بالشكوى. وكان فيه صاحب الجنان الثابت [ص: 18] الذي لا يطيش ولا يذهب. ومما يروى دليلاً على ذلك أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة، وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظور المروع، وقع نظره أيضاً على بعض أصحاب الشافعي، فسأله: وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين، فأثار ذلك دهشة الحاضرين، وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي داؤد متعجباً: "انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه، فيناظر في الفقه". - وكان أحمد رضي الله عنه كثير العفو عمن يسيء إليه، أغلظ له رجل الكلام وتركه مغضباً ثم عاد إليه نادم، وقال له المعتذر: يا أبا عبد الله! إن الذي كان مني على غير تعمد، فأنا أحب أن تجعلني في حل، فقال أحمد رضي الله عنه: "ما زالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حل". وقد عفا عن كل من أساء إليه، أو تسبب في عقوبته ومحنته. - أما الصفة الثالثة من صفات الإمام أحمد التي امتاز بها فهي النزاهة بأدق معانيها، ولقد دفعته عفة النفس أو نزاهتها أن يترك بعض الحلال، وأن يمتنع عن قبول عطاء الخلفاء، مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه، وأنه يتركه تنزيهاً للنفس، لا تحريماً. وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه، كان يأكل إلا من كسب يده، أو من غلة عقار ورثه، ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد، والحرمان من كثير من طيبات الحياة، ولهذا كان زاهداً، ولكنه زهد، ليس أساسه رغبة الرغبة عن طيبات الحياة، بل أساسه طلب الحلال، ولكن لا يطلبه من مال فيه شبهة، بل من مال يناله من غير أن تصاب النفس في نزاهتها أو عزتها، ومن غير أن يلجأ في ذلك إلى أحد من العباد. وقد كان يضطر في بعض الأحيان أن يؤجر نفسه للحمل في الطريق -وهو إمام المسلمين- يومئذ - وقد ابتلي في أيام المتوكل بالإقبال والصلات والجوائز، كما ابتلي في أيام المعتصم بالتعذيب والصرم والقسوة، وكان في [ص: 19] كليهما صابراً عفيفاً نزيهاً، وكانت الأولى أشد عليه من الأخرى، وقد ثبت على عفافه وزهده وعزوفه عن أموال السلطان وله في ذلك أخبار غريبة. ويروى أن وزير المتوكل كتب له: "إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله الله أن تستعفي، أو ترد المال، فيتسع القول لمن يبغضك" فيضطر أحمد رضي الله عنه ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه، ويأمر ولده صالحاً أن يأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه، وقد حرموا عطاءهم. وقد استفاد أحمد من هذا الزهد والتوكل على الله قوة روحية، وصلة عميقة بالله، وإنابة إليه، استحق بها النصر، وتغلب على نزوات النفس وشهواتها. - والصفة الرابعة من صفات الإمام أحمد هي الإخلاص. والإخلاص في طلب الحقيقة ينقي النفس من أدران الغرض، فتستنير البصيرة، ويستقيم الإدراك، ويشرق القلب بنور المعرفة وهداية الحق. ولهذا كان أحمد رضي الله عنه يتجنب الرياء ويبالغ في الابتعاد عنه، وكان يؤثر أن لا يسمع به أحد فكان يقول: "أريد النزول بمكة ألقي نفسي في شعب من تلك الشعاب حتى لا أعرف". ولهذا المعنى الجليل الذي سيطر على نفسه، فجعلها خالصة لربه كان يستقل ما يقوم به من عبادات ولا يستكثر ما وقع له من محنة، فكان لا يذكرها ويستر آثارها، وكان بعيداً عن الزهو والافتخار، متواضعاً لله، متطامناً للناس، ولا يفتخر في شيء، قال يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبته خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير". - وقد وضع الله له القبول في قلوب العباد، وطار ذكره في الآفاق، ودعا له المسلمون، وتقربوا بحبه إلى الله، وهو يخاف على نفسه من الاستدراج، قال المروزي: "قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، بأي شيء هذا؟ ". [ص: 20] وقد كان كثير من غير المسلمين يجلّونه ويخضعون له، ويعتقدون فيه الصلاح، ويتبركون بزيارته، قال المروزي: "أدخلت نصرانياً على أبي عبد الله يعالجه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح الإسلام وحده، بل للخلق جميعاً، وليس من أصحابنا أحد إلا رضي بك". - أما الصفة الخامسة التي امتاز بها الإمام أحمد، وجعلت لدروسه وكلامه موقع من نفوس سامعيه لا تزول، فهي الهيبة. فقد كان مهيباً وقوراً، وكان الناس مدفوعين إلى إجلاله وتهيبه شأن " من تواضع لله رفعه الله" يقول أحد معاصريه: "دخلت على إسحاق بن إبراهيم، وفلان وفلان من السلاطين، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرت إليه، أكلمه في شيء، فوقعت علي الرعدة حين رأيته من هيبته".   (1) سيرد تفصيل محنته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 -2- شيوخه: يعتبر من شيوخ أحمد رضي الله عنه كل من تلقى عليهم فقهاً، أو أخذ عنهم سنة، أو روى عنهم حديثاً، سواء أكان قد انتقل إليهم، أم كانوا معه في بغداد، وقد أحصى ابن الجوزي في مناقب أحمد شيوخه عداً، فتجاوزت حسبتهم المائة. وكان تنوع شيوخه من أسباب كثرة تحصيله، وعمق معلوماته!. والذي لا شك فيه أنه كان لبعضهم أثر أكبر من البعض الآخر في حسن التوجيه وسداد الرأي. ومن أبرز الشخصيات التي كان لها بالغ الأثر في توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى الفقه، شخصيتان. أما الشخصية الأولى التي جعلت منه طالب سنة دءوباً في طلبها، يجوب لأجلها الأمصار، فهي شخصية هشيم بن بشير الذي لزمه نحو أربع سنوات كما ذكرنا، تكونت له خلالها النواة الأولى لعلمه في الحديث. أما الشخصية الثانية فهي شخصية الشافعي رضي الله عنه الذي اتصل به الإمام أحمد عقب وفاة هشيم، عندما ذهب يحج بيت الله الحرام، فالتقى به هناك، [ص: 21] وأثار إعجابه عقله الفقهي وقوة استنباطه، ولقد صرح أحمد رضي الله عنه بذلك وكان يقول فيه: "يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة". وعلى هذا يعتبر الإمام الشافعي الموجه الثاني لأحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أصول الاستنباط كما وجهه هشيم في صدر حياته إلى الحديث، وطلب السنة. -3-دراساته الخاصة: وإذا كنا قد قصرنا عدد الموجهين للإمام أحمد على اثنين من العلماء، فذلك لأن أحمد رضي الله عنه كان موجهه الأكبر من نفسه، ونزوعها وميولها، والتي نمتها الدراسات الشخصية المختلفة، ونوع الحياة الذي اختاره، واكتفاؤه من المال بالقليل، وعدم اتجاهه إلى مطمح مما تطمح إليه نفوس الرجال، وترنو إليه أنظارهم، فكانت حياته كلها للحديث وفقه السنة. لقد طلب أحمد رضي الله عنه الحديث والسنة، وكان كلما أوغل في الطلب اشتدت رغبته فيه، كمن يذوق طعاماً فيستطيبه، إذ الرغبة بعد الذوق تشتد، بيد أن نهمة العلم لا تشبعها كثرة، ونهمة الطعام يشبعها القليل، لأنَّ الأولى معنوية، والمعاني لا تتخم، والثنية مادية، وقليل المادة يتخم. ولقد كان أحمد رضي الله عنه يجهد في دراساته بين الأمصار، وقد ذكرنا كيف كان في صدر حياته كثير الانتقال إلى الأمصار، والجوب في القفار، ومحبرته في رحاله، وهو يقول بلسان الحال: مع المحبرة إلى المقبرة، ولا يمتنع -وهو الكهل الذي يعده الناس إماماً- على أن يعمل في طلب العلم ما يعمله الشاب الذي يستقبل العلم، وكان يقول وهو الإمام الحجة المقتدى به: "أنا أطلب العلم إلى القبر". [ص: 22] وكان قدوته في ذلك سيرة إمامين جليلين لم يلقهما هما سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك. فقد اتخذهما أحمد رضي الله عنه أستاذين له من سيرتهما، ومروياتهما، وكان يتلاقى معهما في أكثر ما اختلط لنفسه من السلوك في هذه الحياة. -4- عصره: كانت حياة الإمام أحمد في العصر الذهبي من الخلافة العباسية؛ حيث نضج فيه كل شيء، وآتي أكله.. فمن الناحية السياسية استقرت الأمور للدولة العباسية استقراراً تاماً بعد فتنة الأمين والمأمون، فانصرف الخلفاء إلى الجهاد، وصادر للدولة الإسلامية قوة وسلطان وازدهرت الحياة الدينية فيها. وأما من الناحية الفكرية فقد نضج الفقه، واستقامت طرائقه، والتقى العلماء، وتدارسوا الفقه ودونت المجموعة الفقهية لكل طائفة من المجتهدين، كما ظهر في ذلك العصر الاتجاه إلى وضع الكليات، وضبط أساليب الاستنباط الفقهي، وقد تولى عبء ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه. وقد ضج في عصر الإمام أحمد أيضاً علم الحديث، وتم فيه الجمع بين أحاديث الأقطار المختلفة، وطبيعية ذلك الجمع الإحاطة بالأحاديث الواردة في الأبواب الفقهية المختلفة، ودراستها دراسة مقارنة في إسنادها وفيما يستنبط منها الموازنة بينها من حيث القوة في حال تعارضها، وتعرف الناسخ والمنسوخ، وهكذا. وإذا كان ذلك العصر هو عصر التقاء الثمرات الفقهية في كل الأمصار، فإن ذلك الالتقاء يصحبه احتكاك فكري بين العلماء، ومن طبيعة هذا الاحتكاك أن تتولد عنه المناظرات التي يقصد بها الوصول إلى الحق في القضايا المتنازعة. وهكذا جاء الإمام أحمد في ذلك العصر الذي كان يزخر بأنواع المعارف والعلوم، فأخذ منها ما يتفق مع نزوعه ويتلاءم مع مزاجه ومسلكه الذي وجه إليه منذ نشأته الأولى، فاتجه إلى طلب الأحاديث والآثار من ينابيعها والعاكفين على دراستها، كما طلب الفقه من رجاله وممن غلب عليهم، فكان إماماً في الحديث والفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 محنته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لقد قدر الله لذلك الإمام الجليل أن يمتحن أبلغ المحنة، وأن يكوى جلده بالسياط، وأن يساق مقيداً مغلولاً يثقله الحديد. لا لشيء إلا إنه رفض أن يخوض في أمر مما كان يخوض فيه المأمون والذين أرضاهم صفوة له من العلماء. جاء في كتاب المقفى للمقريزي أنَّ الإمام الشافعي رضَي الله عنه وهو في مصر، رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأخبره (أنَّ المحنة ستكون، وأن الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتاباً وختمه، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه له ولا تقرأ، فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه. فلمَّا جاء عند موضع فيه. بكى، قلت له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال لي: الشافعي يذكر لي أنَّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم بشره أن سأمتحن!! وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحقق ذلك قريباً. قال الربيع: فقلت للإمام: هذه بشرى فأين جائزتي؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه الذي يلي جلده وأعطاه لي. فلمَّا رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد. كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات، ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن إسحاق بن حنبل فقال: "رأيت في المنام صديقاً اسمه علي بن عاصم" واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشاراً كبيراً وقال: إنَّ عليا تفيد علو المنزلة، وعاصماً تفيد العصمة في الفتنة. ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسياً وعقلياً للنزال والنضال. [ص: 24] بدأت المحنة سنة 218-هـ بورود كتاب المأمون، على عامله في بغداد، أن يجمع العلماء من قضاء وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل أنه مخلوق عزله، العلماء وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء، فأقروا جميعاً إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه. وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح على الطريق فبقي أحمد رضي الله عنه وحده، وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة، وانصبت الأضواء كلها عليه، اتجهت الأنظار إليه، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة. وولي المعتصم وكان رجلاً قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسداً، ولكنه كان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحداً، وكان يجلّ أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى فسار على طريقته ولكنه إلا حتى جاوز الحدود. ولبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضراً مع الله. حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرا عليه كتاب الإِرجاء وغيره في الحبس، وبأن رآه يصلي بأهل الحبس وعليه لقيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد، وقت الصلاة والنوم. وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحمل إلى حضرة المعتصم. وجرت المناقشة إمامه، فكان يصرَّ على هذا الرد ويقول: "أعطوني شيئاً من كتاب الله أو من سنة رسوله". وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد. فلم يؤثر ذلك فيه أثراً. وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: "إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون". وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن [ص: 25] يخاف الضرب، يخشى ألاّ يحتمل فتهزم فكرته. فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن. "أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل الله، إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس شيئاً" فهوَّن ذلك عليه. ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ضهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديثاً. فقال المعتصم للجلاد: شد قطع الله يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه. وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك مَن مِن أصحابك فعل هذا؟. وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) . قال أحمد رضي الله عنه: يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام. قال: أي شيء تعلمون؟ قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع. قال: يا مروزي أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!. ولمَّا عجز المعتصم قال لجلادين: اضربوا وشدوا. فكان يجيء الواحد فيضربه سيوطين، ثم يتنحى ويأتي الآخر، حتى خلعت كتفاه، وغطَّى الدم ظهره كله. [ص: 26] وانقطعت تكة سراويله فكادت تسقط وينكشف. ورآه الناس يحرك شفتيه. فتقف السراويل مكانهم وسألوه بعد. فقال: قلت: يا رب إن كنت تعلم أني على الحق فلا تهتك لي ستراً. حتى أشرف على الموت، وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات، فرفع عنه الضرب وسلمه لأهله، بعدما لبث في السجن والقيود ثمانية وعشرين شهراً. وأرادوا أن يسقوه شيئاً فأبي أن يفطر وهو فيما هو فيه من الهول. ولم يخرج حتى أعلن أنه سامح المعتصم وكل من حضر ضربه، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات. على أن المحنة لم ترفع تماماً إلا أيام المتوكل، وكانت محنة حقاً، دامت نحواً من أربع عشرة سنة، تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها واستمر في سائرها. وخرج الإِمام أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء والبدر من الظلماء، وكان كما قال بعض معاصريه: "أُدخل الكبير فخرج ذهباً أحمر". ولم يزل بعد ذلك اليوم في صعود واعتلاء، حتى تواضعت القلوب على حبه وأصبح حبه شعار أهل السنة وأهل الصلاح، حتى نقل عن أحمد معاصريه أنه قال: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة". وقال شاعر: أضحى ابنُ محنةً مأمونةً * ويجبِّ أحمدَ يُعرفُ المُتَنَسِكُ وإذا رأيت لأحمد مُتنقِّصاً * فاعلم بأنَّ ستورُهُ ستهتكُ وقال علي بن المدني أحد أئمة الحديث في عصره، ومن شيوخ البخاري: "إنَّ الله أعزَّ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كتبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 تميز عصره الإمام أحمد بالتدوين والتأليف كما ذكرنا، وقد نهج علماء عصره في التدوين فأخرج لنا كتابه الضخم (المسند) الذي قال فيه الحافظ السيوطي: "وكل ما كان في مسند احمد فهو مقبول فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن". وقد سلك الإمام أحمد في مصنفه مسلكاً يغاير مسالك المصنفين في الحديث على الأبواب مما اعتدناه في كتب الصحاح والسنن، فرتب كتابه على أسماء الصحابة وذكر لكل صحابي أحاديثه مسندة وقد شقت هذه الطريقة على كثير من المحدثين لأنها لا توصل إلى هو المرحوم الشيخ عبد الرحمن البنَّا فرتبه ترتيباً حسناً وبوبه توبيباً جميلاً حسب الموضوعات لا حسب الراوي إلا أنَّ المنية وافته قبل أن يتم عمله، فتابع منهجه الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري فأكمل الجزء الثاني والعشرين وبقي من الكتاب ما يقرب من جزأين آخرين. وللإمام أحمد كتب آخرى ذكرها ابن النديم هي: كتاب العلم، كتاب الفرائض، كتاب التفسير، الناسخ والمنسوخ، الزاهد، الإيمان، الأشربة، المسائل، الفضائل، طاعة الرسول، الرد على الجهمية، المناسك. ولم يصلنا منها إلا بعضها. وهناك كتب آخرى لم يذكرها ابن النديم مثل: كتاب الصلاة وكتاب السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 تلاميذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 سمع الإمام أحمد كثيرون، منهم من روى الحديث عنه، ومنهم من روى الحديث والفقه، ومنهم من اشهر برواية الفقه ونخص بالذكر منهم كم كان له الفضل في نشر علمه رضي الله عنه وأشهرهم: صالح بن أحمد بن حنبل: وعني بنقل أبيه ومسائله. [ص: 28] - عبد الله بن أحمد بن حنبل: اتجهت عنايته إلى رواية حديث أبيه، روى المسند وتممه. قال فيه أبوه: "إبني عبد لله محظوظ من علم الحديث لا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ". - أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأشرم: روى عن الإمام أحمد مسائل في الفقه، وروى عنه حديثاً كثيراً. - عبد الملك بن الحميد بن مهران الميموني: صحب الإمام أحمد أكثر من عشرين سنة. ونقل عنه الكثير، وما يتميز به أنه كان يكتب عن أحمد رضي الله عنه، فهو على هذا من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا فقهه إلى الأجيال، والذين كان لروايتهم مكان من الاعتبار. أحمد بن محمد الحجاج أبو بكر المروزي: كان أخصُّ أصحاب الإمام أحمد وأقربهم إليه، وأدناهم منه، وروى عنه كتاب الورع كما روى عنه فقهاً كثيراً. - إبراهيم بن إسحاق الحربي: وهو من نقله فقه الإمام أحمد أيضاً، وقد وصفه ابن أبي يعلي بقوله: "كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث ... " وهؤلاء هم العلية من أصحاب أحمد رضي الله عنه الذين كانوا من نقلة فقهه، ثم حصلت الرواية عن الإمام أحمد في طبقته أخرى منهم: - أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال: وهو يعد جامع الفقه الحنبلي، وناقله، ومن أكبر علماء المذاهب. صنف مذهب الإمام أحمد في كتابه (الجامع) الذي يقع في نحو عشرين مجلداً. وهناك اثنان لهما الفضل في تلخيص ما جمعه الخلال، والزيادة عليه في القليل النادر وهما: - عمر بن الحسين أبو القاسم الخرقي: له كتاب (المختصر) ، وهو أشهر كتاب في الفقه الحنبلي، ويعتبر أصلاً محترماً في أصول هذا الفقه، لذا توافر عليه [ص: 29] العلماء في الشرح والتعليق، ولعل أعظم شروحه وأوفاها شرح (المغنى) لموفق الدين المقدسي. - عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال: وهو يعد أشد تلاميذ الخلال اتباعه له، ونقلاً عنه، إلا أن فقهه لم يكن مقصوراً على النقل الحنبلي، بل وازن بين الفقه الحنبلي والفقه الشافعي، وسجَّل ذلك في كتاب سمَّاه (خلاف الشافعي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أولاده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وهم تسعة: أكبرهم صالح والباقي هم: عبد الله وحسن ومحمد وسعيد، وبنتان هما: زينب وفاطمة، وتوأمان ماتا بعيد ولادتهما. ولقد ربَّى أحمد رضي الله عنه أولاده وأسرته على المنهاج الذي أحبه، ولما خالفه أولاده وضاقوا بشدة الشظف وطول الحرمان قال لهم: سدوا ما بيني وبينكم!. مرضه ووفاته: قال المروزي: "مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلوا عليه أفواجاً، يسلمون عليه ويرد عليهم بيده ... وكان يصلي قاعداً، ويصلي وهو مضطجع، لا يكاد يفتر، ويرفع يديه في إيماء الركوع وأدخلت الطست تحته، فرأيت بوله دماً عبيطاً ليس فيه بول، فقلت للطبيب، فقال: هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه، واشتدت علته يوم الخميس، ووضأته فقال: خلل الأصابع، فلمَّا كانت ليلة الجمعة ثقل، وقبض صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع". قال المروزي: "أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة، قال عبد الوهاب الوثاق: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن موضع مسح وحرز على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف، وحزرنا على القبور نحواً من [ص: 30] ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء". وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته تحقق ما أنبأ به بقوله: "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز". وكانت وفاته سنة 241-هـ رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 متن الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 تعريف الفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الفقه لغة: الفهم. عرفاً: لقد عرفه الفقهاء بتعريفات متقاربة منها: -1- العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلي بالاستدلال (1) . -2- العلم بالأحكام الأفعال الشرعية كالحل والحرمة والصحة والفساد ونحوها، فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم ولا محدث ولا مفسر ولا نحوي (2) . أراد بالأحكام: كل ما يصدره الشارع للناس من أوامر عملية تنظيم حياتهم فيما بينهم وتحدد نتائج أعمالهم. وقيد بالأفعال: ليخرج المسائل الاعتقادية من أصول الإيمان وفروعه فموضوعها علم التوحيد. وأراد بالشرعية: ما يستفاد من أمر الشارع صراحة أو بواسطة استنباط الفقهاء المجتهدين من دلائل نصوص القرآن والسنة النبوية وقواعد الشرعية ومقاصدها. ومعنى هذا أن موضوع الفقه يشمل الأحكام المتعلقة بالعبادات والأحكام المتعلقة بالمعاملات ما كان منها متعلقاً بالأسرة من زواج وطلاق وما كان متعلقاً بحياة الناس وتعاملهم بعضهم مع بعض أو بينهم وبين الحاكم وكذلك ما يتعلق بعقوبات المجرمين وهي ما يطلق عليه اسم الحدود والتعزيرات. [ص: 32]   (1) من كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد العلامة عبد القادر بدران. (2) من كتاب روضة الناظر للإمام موفق الدين بن قدامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كتاب الطهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الباب الأول (تعريف الطهارة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت حسية أو معنوية. شرعاً: رفع الحدث (أي زوال الوصف الحاصل بالبدن والمانع من الصلاة والطواف ومس المصحف) أو زوال الخبث (أي إزالة النجاسة الطارئة على محل طاهر إما بفعل الفاعل كالغسل أو زال بنفسه كانقلاب الخمر خلاً) أو رفع حكم الحدث أو حكم الخبث (كالتيمم عن حدث أو خبث) وهو المنع من الصلاة. دليلها: قوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (1) . أقسام الطهارة: الطهارة قسمان: آ - الطهارة من الحدث. ب - طهارة من الخبث. أما الحدث فهو عبارة عن صفة حكمية قائمة بجميع البدن أو ببعض أعضائه. والطهارة منه معناها رفع هذا الوصف. والخبث: هو العين المستقذرة شرعاً. والطهارة منه معناها النظافة من النجاسة التي أصابت الأعيان الطاهرة. [ص: 36]   (1) البقرة: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المياه أقسامها: أولاً: الماء الطهور (الطاهر المطهِّر) تعريفه: هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره وإذا تنجس لا يطهره غيره من المائعات. وهو كل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض سواء كان عذباً أو مالحاً أو بارداً أو ساخناً، ولم تتغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الريح بشيء من الأشياء بحيث يقيد به بل باقٍ على خلقته التي خلق عليها، ولم يكن مستعملاً بفرض الطهارة. دليله: قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) (1) وحديث أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) (2) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى عليه وسلم (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) (3) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قيل لرسول الله صلى عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء) (4) . [ص: 37]   (1) الأنفال: 11. (2) البخاري: ج-1 / كتاب صفة الصلاة باب 9/ -711. (3) الترمذي: ج 1/ الطهارة باب 52/ -69. (4) أبو داود: ج-1 /كتاب الطهارة باب 34/66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أنواعه وحكم استعماله: آ- مباح الاستعمال كماء البحر والآبار والأنهار والعيون وهو: -1ً- يرفع الأصغر والأكبر. إلا الطهور القليل الباقي بعد خلوة الأنثى المكلفة (بالغة عاقلة) به ولو كانت كافرة دون أن يراها مميز (سواء كان ذكراً أم أنثى حراً أم عبداً) لطهارة كاملة (أي لم يرها حتى انتهت من طهارتها كاملة) فإنه لا يرفع حدث الذكر البالغ ولا الخنثى والعلة بذلك تعبدية. إلا أنه يزيل خبث الرجب والخنثى ويرفع حدث أنثى أخرى. (أما التراب الذي تختلي به الأنثى المكلفة لا يضر) . -2ً- تزال النجاسة به. -3ً- يجوز استعماله في العادات للنظافة من الأوساخ وللشرب وللطبخ ولسقي الزرع ... إلخ. ب- مكروه الاستعمال: في الحدث والخبث والعادات إذا وجُد غيره وإلا فلا كراهة في استعماله وهو: -1ً- ماء بئر في مقبرة. -2ً- ماء بئر في أرض مغصوبة، أو ماء بئر حفر غصباً كأن أرغم الناس على حفر البئر مجاناً، أو حفرت البئر بأجرة مغصوبة. -3ً- الماء الشديد السخونة أو الشديد البرودة شدة لا تضر بالبدن. -4ً- الماء الذي سخن بمغصوب. -5ً- الماء المستعمل في طهارة مسنونة كتجديد وضوء، أو الغسلة الثانية أو الثالثة، أو غسل الجمعة لأنه لم يرفع حدث ولم يزل خبث. وعن الإمام أحمد: أنه غير مطهر لأنه استعمل في طهارة شرعية. [ص: 38] -6ً- الماء الذي يغلب على الظن تنجسه كالماء المستعمل في غسل كافر لأنه لم يرفع حدث ولم يزل خبث، وكذا الماء المستعمل في غسل ذمية من حيض أو نفاس لحل وطئها. -7ً- الماء الذي تغير طعمه بملح مائي (أما ما تغير طعمه بملح معدني فتُسلب طهوريته) . -8ً- ماء زمزم إن استعمل في إزالة خبت تشريفاً له. -9ً- الماء المسخن بنجاسة ولو بُرد. -10ً- الماء المتغير بمجاورة مالا يختلط به كالدهن والكافور والعود. حـ- محرم الاستعمال: وهو: -1ً- الماء الطهور المسروق أو المنهوب (أخذ أمام صاحبه غصباً) : فإنه لا يرفع حدثاً إذا كان المتطهر ذاكراً إلا أنه يزيل خبثاً. أما إذا وضع ماء في آنية مغصوبة أو مسروقة فإن الطهارة تصح به إلا أن استعمال الآنية محرم. -2ً- الماء المسبل للشرب فقط: يحرم استعماله إلا أن الطهارة به تصح. -3ً- الماء الذي يُحتاج له لدفع عطش حيوان لا يجوز إتلافه شرعاً: يحرم استعماله إلا أن الطهارة به صحيحة. أشياء لا تسلب الماء الطهور طهوريته ولا تجعله مكروه الاستعمال وهي: -1ً- الماء المتغير بسبب ما في مقره أو ممره من أملاح ومعادن وأشياء أخرى كماء البحر والآبار والعيون والأنهار. -2ً- الماء المتغير بسبب التحلب وورق الشجر ما لم يوضعا عمداً من قبل بالغ عاقل فعندها تسلب طهوريته. -3ً- الماء المسخن بالشمس على أي حال ولو في غناء منطبع في قطر حار. [ص: 39] -4ً- الماء المتغير بطول مكث أو بالريح من نحو ميتة مجاورة. -5ً- الماء المتغير بسمك وجراد أو حيوان لا دم سائل له إن لم يكن من كنف ونحوها لمشقة الاحتراز منه سواء مات الحيوان أو بقي حياً. -6ً- إذا خالط الماء ما يوافقه في الطهورية كالتراب وما كالملح المائي المنعقد بالماء. ثانياً: الماء الطاهر غير المطهر تعريفه: هو الماء المستعمل غير المتنجس. حكمه: لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً إلا أنه يستعمل في العادات (طبخ، شرب، تنظيف) . أنواعه: -1ً- الطهور الذي خالطه شيء من الطاهرات التي لا يعسر الاحتراز منها، وغيرت أحد أوصافه الثلاثة اللون أو الطعم أو الريح تغيراً فاحشاً بحيث خرج عن اسم الماء وقيد بالطهر المخالط له، أو غيرت صفتين أو ثلاث صفات تغيراً يسيرراً، أما إذا غيرت صفة واحدة تغيراً يسيراً فلا يضر لما روي عن عطاء بن يسار قال: (حدثتني أم هانئ أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يغتسل قد سَتَرتْهُ بثوب دونه في قصعة فيها أثر العجين قالت: فصلى الضحى فما أدري كم صلى حين قضى غُسْله) (1) . وإذا زال التغير من نفسه عاد الماء إلى طهوريته. وإن كان مع المكلف ماء يكفيه لطهارته أو لا فزاده مائعاً لم يغيره صحت طهارته به. -2ً- الماء القليل (دون القلتين) المستعمل في رفع الحدث فهو طاهر غير مطهر. أما أنه طاهر فلحديث جابر رضي الله عنه قال: (مرضت مرضاً، فأتاني [ص: 40] النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أُغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه عليَّ فأفقت..) (2) . ولأنه ماء طاهر لم تصبه نجاسة، وأما أنه غير مطهر فلأنه أزال مانعاً من الصلاة. -3ً- الماء القليل المستعمل في إزالة الخبث إن انفصل غير متغيرٍ بعد إزالة النجاسة. ومن قال بوجوب العدد في الغسلات (قيل سبعاً وقيل ثلاثاً) فالماء المنفصل عن الثوب المتنجس قبل الغسلة الأخيرة نجس، أما المنفصل في الثوب طاهر أيضاً. وإن انفصل الماء عن الأرض المتنجسة غير متغير بعد زوال النجاسة فهو طاهر (3) -4ً- الماء الطهور القليل الذي انغمست فيه كل يد المسلم، المكلف، النائم ليلاً نوماً ينقص الوضوء قبل غسلها ثلاثاً، غسل اليدين بعد النوم ثلاثاً واجب للمسلم بشرط النية، والبسملة في المرة الأولى ولو باتت اليدان مكتوفين أو في جراب، وقد أسقط ماء غسل اليدين هذا الواجب فهو طاهر غير مطهر فإذا لم تغمس اليد كلها بل رؤوس الأصابع لا يضر إلا إذا كان ينوي بالغمس غسلها، وأما حصول ذلك مع نوم النهار والنوم مكناً مقعدته من الأرض فلا يضر، وكذا غمس الكافر يده بالماء القليل لا يضر لأنه لا يخاطب بفروع الشريعة، ولا يترتب عليه ما هو واجب للمسلم. مسألة: إذا تغمس المحدث في ماء يسير ناوياً رفع حدثه صار الماء مستعملاً ولم يرفع حدثه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" (4) وفي رواية أخرى عن: "لا يغتسل أحدكم في [ص: 41] الماء الدائم وهو جنب" (5) . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً فلم يرفع حدث سائر الجسد.   (1) النسائي: ج-1 /ص 202. (2) البخاري: ج-5/ كتاب المرضى باب 5/5327. (3) هناك قاعدة: "إذا كان الماء وارداً على النجاسة فالحكم له، وإن كان موروداً فالحكم لها" أي إذا صببنا ماء على الأرض المتنجسة تطهر الأرض والماء المنفصل طاهر إن لم يتغير بها. أما إذا مكان الماء موجوداً في إناء وقعت فيه نجاسة فتنجسه. (4) مسلم: ج-1 / كتاب الطهارة باب 28/95. (5) مسلم: ج-1 / كتاب الطهارة باب 29/97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ثالثاً: الماء المتنجس: تعريفه: هو الماء الذي خالطته نجاسة وكان قليلاً. حكمه: لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً ويحرم استعماله في العادات إلا للضرورة كدفع لقمة غص بها ولا يوجد غيره. ويمكن استعمال الماء النجس في بل التراب أو الجبس أو نحوه وجعله عجيناً بشرط أن لا يبني به مسجداً أو مصطبة يصلى عليها وكذلك لا يحل بالانتفاع بأي مائع نجس كالخمر والدم. كيف ينجس الماء؟ -1ً- الماء القليل: يتنجس إذا وقعت فيه نجاسة ولو لم تتغير صفة من صفاته ولو كانت النجاسة مما لا يدركه الطرف أو كانت جامدة لا تسري فيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب إن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" (1) فدل على نجاسته من غير تغير صفة من صفاته. ولما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) يدل على ما كان دون القلتين ينجس. -2ً- الماء الكثير: وهو ما كان قلتين (3) فأكثر، والقلة عبارة عن قربة من قرب الحجاز الكبيرة تسع مائة رطل، وقدرت القلتان تقريباً بسعة عشر تنكات. [ص: 42] فإذا كان الماء عشر تنكات فأكثر لا ينجس إذا سقطت فيه نجاسة ما لم تُغير أحد أوصافه الثلاثة ولو تغيراً يسيراً بدليل الحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (4) وما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء) (5) . قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع. وجميع النجاسات سواء إلا بول الآدمي وعذرته المائعة فإن أكثر الروايات عن الإمام أحمد أنها تنجس الماء الكثير لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" (6) إلا إن بلغ حداً لا يمكن نزحه بحديث القلتين فيصبح البول كسائر النجاسات. وإذا وقعت نجاسة في ماء كثير فغيرت بعضه، فالمتغير نجس، أما الذي لم يتغير فهو طاهر إن بلغ قلتين لأنه ماء كثير، فإن كان دون القلتين فهو نجس لأنه ماء قليل لاقى ماء نجساً. وإذا كان بين غديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد. -3ً- الماء الجاري: إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية نجسة، وما قبلها وما بعدها طاهر. أما إن لم يتغير منه شيء فلا ينجس، لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض. وقال بعض المتأخرين: حكم الجرية كحكم مائها، وإن كان قليلاً ينجس بوقوع النجاسة فيه ولو كانت جامدة ولم تغيره، أما إن كان كثيراً فلا ينجس بمروره على النجاسة إذا لم يتغير [ص: 43] . -4ً- ماء البئر: إن كان قليلاً ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، أو سقوط حيوان له دم سائل ومات فيه سواء وقع من نفسه أو أوقعه أحد، أما إن كان كثيراً فلا ينجس إذا وقعت فيه النجاسة أو سقط فيه حيوان ومات ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة.   (1) مسلم: ج-1 / كتاب الطهارة باب 27/91. (2) الترمذي: ج-1 / كتاب الطهارة باب 50/67. (3) مساحة القلتين مربعاً: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً أي مكعب طول ضلعه 60 سم تقريباً. ومساحة القلتين مدوراً: ذراع طولاً وذراعان ونصف عمقاً أي اسطوانة قطرها 48 سم وارتفاعها 120 سم. (4) الترمذي: ج-1 / الطهارة باب 50/67. (5) أبو داود: ج-1 / كتاب الطهارة باب 34/66. (6) مسلم: ج-1 / كتاب الطهارة باب 28/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حالة الشك في الماء من أي قسم هو والتحري فيه: -1ً- إذا وجد ماء وشك في نجاسته نقول إنه طاهر سواء كان متغيراً أم لا، لأن الأصل في الأشياء الطهارة ويحتمل أن يكون تغيره من مكثه. -2ً- إن تيقن نجاسة الماء وشك في طهارته فهو نجس لأن الأصل نجاسته. -3ً- إن علم وقوع النجاسة في الماء ثم وجده متغيراً تغيراً يجوز أن يكون بسببها فهو نجس. -4ً- إن أخبره ثقة بنجاسة الماء فلا يقبل حتى يبين له السبب، فإن عين له السبب لزمه القبول. كيف يطهر الماء المتنجس؟ أولاً: الماء القليل المتنجس: يطهر بمكاثرته بقلتين طاهرتين، إما إن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره، أو كان غير متغير باقياً على حاله. ولا يطهر بزوال التغير بنفسه كأن يترك الماء القليل المتنجس حتى يعود من فسه إلى حالته الأولى، لأن العلة مخالطة النجاسة لا التغيير. ثانياً: الماء المتنجس قلتين فقط: إما بإضافة قلتين طاهريتن، أو بزوال تغيره بالمكث. [ص: 44] ثالثاً: الماء الكثير المتنجس: يطهر بإحدى الطرق الثلاث: -1- إما بإضافة قلتين طاهرتين. -2- أو بزوال التغير بالمكث. -3- أو بنزح منه والباقي بعد النزح قلتين فأكثر. أما إذا كان كوثر الماء المتنجس بأقل من قلتين، أو طرح فيه تراب، أو وضع فيه ساتر كمسك لإزالة التغير، فإنه لا يطهر. كيف تعود الطهورية للماء المستعمل: -1- إذا اجتمع ماء مستعمل مع ماء طهور يبلغ قلتين فالكل طاهر مطهر. -2- إذا اجتمع ماء مستعمل مع ماء طهور أقل من قلتين وكان المستعمل يسيراً عفي عنه، لأنه لو اجتمع ماء طهور دون قلتين مع مائع آخر طاهر لم يغلب على أكثر الماء بقي الماء طاهراً مطهراً، فمن باب أولى إذا كان هذا المائع هو مائع مستعمل. [ص: 45] حكم سؤر الحيوان أولاً: طاهر: -1- سؤر الآدمي سواء كان متطهراً أم محدثاً، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أنه لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنبٌ. فانسلَّ فذهب فاغتسل. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم. فلما جاءه قال: أين كنت؟ يا أبا هريرة. قال: يا رسول الله لقيتني وأنا جنب. فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله: إن المؤمن لا يَنْجُس) (1) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم. فيضع فاه على موضع فيَّ. فيشرب. وأتعرق العرق (2) وأنا حائض. ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ) (3) . -2- سؤر ما يؤكل لحمه من الحيوانات. -3- سؤر ما لا يمكن التحرز منه وهو السنور (الهر) وما دونه في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنها قالت: أن أبا قتادة دخل عليها، قالت: فسكبت له وضوءاً، قالت: فجاءت هرة تشرب، فأصغى (4) لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا بنت أخي؟ قالت: فقلت: نعم، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجسٍ، وإنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) (5) . فدل الحديث بمنطوقه على طهارة [ص: 46] الهرة، وتعليله طهارة ما دونها لكونه مما يطوف علينا ولا يمكن التحرز منه كالفأرة ونحوها.   (1) مسلم: ج-1 / كتاب الحيض باب 29. (2) هو العظم الذي عليه بقية من لحم. ويقال عرقت العظم إذا أخذت منه اللحم بأسنانك. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 3/14. (4) أصغى: أمال. (5) الترمذي: ج-1/الطهارة باب 69/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثانياً: نجس: -1- سؤر الكلب والخنزير وجميع أجزائهما وما تولد منهما، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب فيه أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) (1) . والخنزير شر منه لأنه منصوص على تحريمه. -2- كل ما تولد من النجاسة كدود الكنف والصراصير.   (1) مسلم: ج-1 / كتاب الطهارة باب 27/91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثالثاً: مختلف فيه: -1- سائر سباع البهائم والطير فيها روايتان: إحداهما نجس، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (1) فمفهوم الحديث أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه يمكن التحرز منه. والثانية: طاهر بدليل ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة. تردها السباع والكلاب والحُمُر. وعن الطهارة منها؟ فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر (2) طهور) (3) . -2- الحمار الأهلي والبغل فيهما روايتان: إحداهما: نجس لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) (4) ، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها [ص: 47] رجس (5) . والثانية: طاهر بدليل ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها) (6) -3- الجّلالة: فيها روايتان: إحداهما: نجس لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الجّلالة وألبانها) (7) ، ولأنها تنجست النجاسة والريق لا يطهر. الثانية: أنه طاهر لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة وهما طاهران. وحكم أجزاء الحيوان من شعره وريشه وجلده حكم سؤره، فإذا وقع الحيوان في الماء وخرج حياً فحكم الماء حكم سؤره. مسألة: إذا أكلت الهرة نجاسة ثم غابت ثم عادت وشربت من ماء، فهذا الماء لا ينجس. أما إن شربت قبل أن تغيب فسؤرها نجس لوجود أثر النجاسة فالماء ينجس. [ص: 48]   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 50/67. (2) ما بقي. (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 76/519. (4) البخاري: ج-5/ كتاب الذبائح والصيد باب 28/5202. (5) البخاري: ج-5/ الذبائح والصيد باب 28/5208. (6) البيهقي: ج-1 /ص 249. (7) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الذبائح باب 11/3189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الباب الثاني (الأعيان الطاهرة والأعيان النجسة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أولاً: الأعيان الطاهرة: -1ً- الإنسان سواء كان حياً أم ميتاً بدليل قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) (1) . -2ً- جميع أجزاء الأرض ومعادنها كالذهب والفضة والنحاس والحديد. -3ً- جميع أنواع النباتات ولو كانت مخدَّرة (كالحشيشة والأفيون وجوزة الطيب) أو سامة. وهناك قول ثاني أن المسكر منها نجس. -4ً- الحيوانات التي يؤكل لحمها مهما كان حجمها والحيوانات التي لا يؤكل لحمها إذا كانت بقدر الهرة فما دون في الخلقة كالنمس والنسناس ابن عرس والقنفذ والحية والفأرة والهرة ما لم تكن متولدة من نجاسة. -5ً- مني الآدمي (2) إن خرج من طريقه المعتاد دفقاً بلذة بعد استكمال تسع سنين للأنثى وعشر سنين للذكر ولو خرج على شكل دم لما روى علقمة بن الأسود (أن رجلاً نزل بعائشة رضي الله عنه فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: [ص: 49] إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه) (3) . ولأنه بدء خلق الآدمي (وعن الإمام أحمد أنه نجس ويكفي فرك يابسه ويعفى عن يسيره) ، وكذا مني الحيوان الذي يؤكل لحمه طاهر. -6ً- البلغم: ولو أزرق والصفراء والنخامة سواء خرجت من رأس أو صدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره. تحت قدمه. فإن لم يجد فليقل هكذا. ووصف القاسم. فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) (4) . -7ً- البصاق واللعاب والعرق والمخاط والدمع سواء كانت من بني آدم أو من حيوان يؤكل لحمه أو حيوان طاهر لا يؤكل لحمه. -8ً- مأكول اللحم المذكى ذكاة شرعية. -9ً- مرارة الحيوان المأكول اللحم بعد تذكيته ذكاة شرعية وكذا جلدة المرارة لأنها جزء من الحيوان المذكى فهي تابعة له في طهارته. -10ً- بول وروث وقيء ومذي وودي ومني ولبن وبيض ما يؤكل لحمه كلها طاهرة إذا كان علفها طاهراً لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، فتوضأ. وإن شئت، فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم ... ) (5) . وعن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يُبنى المسجد) (6) [ص: 50] وعنه أيضاً قال: (قدم أناس من عُكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا..) (7) . أما ما كان أكثر علفه نجاسة فلبنه وبوله وبيضه وكذا لحمه نجس، ويمكن تطهيره بحبس الحيوان ثلاثة أيام ولا يطعم خلالها إلا طاهراً فبعد ذلك تصبح كل هذه طاهرة. -11- كل مالا تحله الحياة (شعر، صوف، وبر، ريش) من حيوان طاهر حي أو ميت فهو طاهر سواء كان منفصلاً أم متصلاً ولا ينجس بالموت لأنه لا تحله الحياة. قال تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) (8) فهذا دليل على طهارتها. أما أن كان من ميتة حيوان نجس فهو نجس. -12- ميتة الحيوان البري الذي لا دم سائل له بشرط عدم تولدها من نجاسة كدود الجرح. -13- ميتة الحيوان البحري باستثناء التمساح والضفدع والحية فإنها نجسة.   (1) الإسراء: 70. (2) هو من الرجل عند الاعتدال مزاجه أبيض غليظ ومن المرأة أصفر رقيق. (3) مسلم: ج-1/كتاب الطهارة باب 32/105. (4) مسلم: ج-1/كتاب المساجد ومواضع باب 13/53. (5) مسلم: ج-1/كتاب الحيض باب 25/97. (6) مسلم: ج-1/كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 1/10. (7) البخاري: ج-1 /كتاب الوضوء باب 66/231. (8) النحل: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ثانياً: النجاسات: تعريف النجاسة أو الخبث: النجاسة لغة: كل شيء مستقذر حسياً كان أو معنوياً فيقال للآثام وإن كانت معنوية وفعلها نَجَس. قال تعالى: (إنما المشركون نجس) (1) . وشرعاً: العين المستقذرة. أقسام النجاسة: للنجاسة قسمان الأول: النجاسة الحكمية: وهي الطائرة على محل طاهر قبل طروها. [ص: 51] والثاني: النجاسة الحقيقية: وهي عين النَجَس. والأعيان النجسة هي: -1ً- بول الآدمي: بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين. فقال: أما إنهما ليعذبان. وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة. وأما الآخر فكان لا يستتر (2) من بوله) (3) . -2ً-العذرة: وإن لم تتغير عن حاله الطعام ولو كان الآدمي صغيراً لم يتناول الطعام. -3ً-الوادي: وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقب البول فحكمه حكم البول -4ً- المذي: وهو ماء رقيق يخرج من القبل عند الملاعبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، وقد سأله عن المذي: (إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك، وتوضأ وضوءك للصلاة) (4) فهو أشبه البول. (وعن الإمام أحمد: أنه كالمني لأنه يخرج بشهوة) . -5ً- رطوبة فرج المرأة: وفيها روايتان: إحداهما: أنها نجسة، لأنها بلل يخرج من الفرج ولا يُخلق منه ولد، فأشبه المذي، والثاني: أنها طاهرة، وهي التي عليها أكثر الأصحاب. -6ً- القيء والقلس: لأنه طعام استحال بالخوف إلى فساد أشبه بالغائط. -7ً- الدم بجميع أنواعه لما روت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب قال: اقرصيه [ص: 52] واغسليه وصلي فيه) (5) ولقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم) (6) . إلا الكبد والطحال فإنهما طاهران، وكذا دم السمك والقمل والبرغوث .... فكلها طاهرة، وما بقي من الدم في لحم المذكاة أو عروقها معفو عنه ولو علت حمرة الدم القدر، لأنه لا يمكن التحرز منه فيعفى عنه. -8ً- العلقة: لأنها دم خارج من الفرج. (وعن الإمام: أنها طاهرة لأنها بدء خلق الآدمي) . -9ً- القيح: وهو دم استحال إلى نتن وفساد، وكذا الصديد وهو ماء الجرح الرقيق المختلط بدم وما يسيل من القروح ونحوها. -10ً- الخمر: لقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رج من عمل الشيطان فاجتنبوه) (7) -11- النبيذ وكل مسكر مائع سواء كان مأخوذاً من عصير العنب أو كان نقيع زبيب أو تمر أو غير ذلك، لأن الله تعالى قد سمى الخمر رجساً والرجس في العرف النجس ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) (8) . ولأنه شراب فيه شدة مطربة أشبه بالخمر، أما الحشيشة المسكرة ففيها قولان: الأول: هي نجسة سواء أميعت أم لا، والثاني: هي طاهرة إلا إذا أميعت. -12- بخار النجاسة ودخانها إن اجتمع منهما شيء ولاقى جسماً صقيلاً فصار ماءٌ فهو نجس، أما ما أصاب الإنسان من دخان النجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شيء ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه لعدم إمكان التحرز منه. [ص: 53] -13- الطيور والبهائم وسائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها والتي هي مما فوق الهرة بالخلقة مثل السبع، العقاب، الصقر، الحدأة، البومة وما يأكل منها الجيف كالنسر والرخم والعقعق وغراب بَيْن، والفيل والبغل والخنزير والكلب والحمار والسبع والأسد والنمر والذئب والفهد وابن آوى والدب والقرد، وما تولد من حيوان مأكول اللحم وحيوان غير مأكول اللحم. -14- فضلة ما لا يؤكل لحمه إذا كان له دم يسيل من بول ورجيع (الروث، والعذرة) وبيض ولبن ومني ولو كان طاهراً قبل الموت كالفأرة، أما ما لا دم له يسيل فإن ميتته طاهرة. -15- ميتتة الحيوان البري إذا كان له دم يسيل سواء كان في حال الحياة طاهراً أم نجساً والدليل قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) (9) ، بخلاف ميتة الآدمي وأجزائه وأبعاضه فحكمها حكم جملته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن لا ينجس) (10) وبخلاف ميتة الحيوان البحري فإنها طاهرة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) (11) كالسمك وسائر حيوانات البحر مما لا يعيش إلا في الماء، أما الضفادع والسلاطعين فهي برمائية وعيشتها ليست في البحر فيحرم. أكلها وميتتها نجسة. وأما الجراد وما لا دم سائل له كالعقرب والخنفساء والبق والقمل والبراغيث والعنكبوت والصرصار فكلها طاهرة إذا لم تكن متولدة من نجاسة مثل الكنف لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) (12) . -16- جلود الميتة: ولا تطهر بالدباغة في ظاهر المذهب لقوله تعالى: [ص: 54] (حرمت عليكم الميتة) (14) والجلد جزء منها ولحديث عبد الله بن عكيم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) (15) . -17- كل ما يرشح من الكلب والخنزير من لعاب ومخاط وعرق ودمع. -18- كل ما تحله الحياة من أجزاء الميتة: عظمها وقرنها وظفرها وحافرها، لأن ما تحله الحياة يحله الموت فينجسه والله تعالى قال: (حرمت عليكم الميتة) ودليل الحياة الإحساس والألم. -19- كل ما يخرج من الميتة نحو دم، ومخاط، ولبن، وأنفحة، (وعن الإمام أحمد: الأنفحة طاهرة، لأن الصحابة رضوان الله عليهم أكلوا من حين المجوس، وهو يصنع من الأنفحة، وذبائحهم ميتة) ، وبيض الميتة إن لم يصلب قشرة، أما إن كان صلب القشرة وهو من حيوان يؤكل لحمه فطاهر، وكذا البيض الفاسد وهو ما اختلط صفاره ببياضه مع التعفن، فهو طاهر. -20- كل ذبح لا يفيد إباحة اللحم (يحرم أكله) يكون مذبوحه نجس كذبح المجوسي والمرتد، والذبح المتروك التسمية عليه عمداً، وذبح المحرم للصيد وذبح الحيوان غير مأكول اللحم.   (1) التوبة: 28. (2) أي لا يتجنبه ويتحرز منه. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 34/111. (4) أبو داود: ج-1 /كتاب الطهارة باب 83/206. (5) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 118/629. (6) المائدة: 3. (7) المائدة: 90. (8) مسلم: ج-3/ كتاب الأشربة باب 7/75. (9) المائدة: 3. (10) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 29. (11) الترمذي ج-1/الطهارة باب 52/69. (12) البخاري: ج-5/ كتاب الطب باب 57/5445. (13) المائدة: 3. (14) أبو داود: ج-4 /كتاب اللباس باب 42/4128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 النجاسات المعفو عنها: -1ً- أثر النجاسة بعد غسلها كأن يبقى لونها أو ريحها لمشقة إزالته، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن خولة بنت يسار أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنه ليس لي ثواب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه. فقالت: فإن للم يخرج الدم؟ قال: يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره) (1) . [ص: 55] -2ً- يسير الدم والقيح والصديد في غير المائعات والمطعوم لأنه لا يمكن التحرز منه، بشرط أن يكون من حيوان طاهر حال حياته أو من إنسان لا يخلوا من حبة وبئر وقد روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم الصلاة مع الدم ولم يعرف لهم مخالف. وحد اليسير: ما لا ينقص مثله الوضوء، وهو ما يعده الإنسان في نفسه يسيراً، فلو أصاب الدم ثوبا في مواضع فإنه يضم بعضه إلى بعض، فإن كان المجموع يسيراً غفي عنه وإلا فلا، ولو كان مما لا يدرك الطرف كأن تحمله رجل ذبابة فيقع فيها فإنها تنجس. -3ً- ريق البغل والحمار وعرقهما وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، فيها روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره لمشقة التحرز منه، لأنه لا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها فعفي عن يسيرها كالدم. -4ً- المذي: وفيه روايتان إحداهما: يعفى عن يسيره، لأن المذي يكثر من الشباب. -5ً- النبيذ: فيه روايتان إحداهما: يعفى عن يسيره لوقوع الخلاف فيه. -6ً- النجاسة التي تصيب عين الإنسان ويتضرر بغسلها. -7ً- يسير طين الشارع إن تحققت نجاسته بما خالطه من النجاسة، أما إن ظنت نجاسته فطاهر. -8ً- يسير سلس البول بعد كمال التحفظ لمشقة التحرز. [ص: 56] -9ً- أثر الاستجمار بمحله بعد الإنقاء واستيفاء العدد المطلوب في الاستجمار. -10ً- دخان النجاسة وغبارها ما لم تظهر له صفة. التطهير من النجاسات: أولاً: تطهير الأرض المتنجسة ونحوها من الصخور والأحواض الكبيرة أو الصغيرة الداخلة في البناء، فإنها تطهر بصب الماء عليها بكثرة ولو من مطر أو سيل حتى تزول عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها لما روى أنس رضي الله عنه (أن أعرابياً قام إلى ناحية في المسجد. فبال فيها. فصاح به الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما أفرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَنوب (1) فصب على بوله) (2) . ولا تطهر الأرض المتنجسة بالشمس ولا بالريح ولا بالجفاف. ثانياً: تطهير الآبار: تطهر أرض البئر إن كانت نجسة بنبع الماء فيها. ثالثاً: تطهير الثياب والأواني وما يماثلها من الأشياء: في تطهيرها من النجاسة روايتان: الأولى: يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها وريحها وطعمها من غير عدد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روته عن أسماء رضي الله عنها- قال في دم الحيض: (اغسليه وصلي فيه) (3) ولم يذكر عدداً، وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار. والغسل من البول سبع مرار. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً والغسل من الجنابة مرة والغسل من البول مرة) (4) . [ص: 57] والثانية هي القول المعتمد في المذهب. أنه يجب في التطهير عدد معين في الغسلات وهو سبع مرات. ويشترط في تطهير المتنجس الذي تشرب النجاسة أن يعصره كل مرة خارج الماء أن أمكن عصره، وعصر كل شيء بحسبه، ويكتفى بعصر الثوب بالقدر الذي لا يفسده، وإن كان بساطاً ثقيلاً فعصره بتقليبه ودقه حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء. أما الأواني تطهير بمرور الماء عليها وانفصالها عنها سبع مرات (وقيل ثلاث، واجتهد المتأخرين يكفي الغسل ثلاثاً إذا كانت عين النجاسة مزالة) . فإن بقي بعد الغسل المطلوب (كل مرة مع الفرك والعصر) لون أو ريح أو بقيا معاً فإنه لا يضر (أي يعتبر طاهراً) ، أما إن بقي الطعام فإنه يضر (أي يبقى نجساً) إلا أنه يعفى عنه لأن بقاء الطعم دليل على بقاء عين النجاسة لا أثرها. وإذا خفي موضع النجاسة في ثوب أو بدن غسل كل محل احتمل إصابته بالنجاسة حتى يتيقن غسلها، فإن لم يعلم جهتها من البدن أو الثوب غسله جميعاً. أما إذا وقعت النجاسة في أرض حرش واسعة أو في صحراء وجهل المكان فإنه لا يجب غسل جميعه ويصلي فيها بلا تحرٍ. رابعاً: التطهير من نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما: إذا تنجس شيء، بملاقاة الكلب، غير الأرض يجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب سواء كان من ولوغه أو غيره لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب إن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" (5) . وعن الإمام أحمد: يغسله سبع مرات ثم يعفره بواحدة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن المغفل عنه: (إذا [ص: 58] ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب) (6) . والأولى جعل التراب في الأولى للخبر وليكن الماء بعده. وأما الدليل على نجاسة الخنزير فبالقياس على الكلب لأنه أسوأ حالاً منه لنص الشارع على تحريمه وحرمة اقتنائه. خامساً: التطهير من المذي: هناك روايتان في التطهير منه إحداهما: يجزئ نضحه لما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كنت ألقى من المذي شدة وعناء فكنت أكثر منه الغسل فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته عنه فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء. فقلت يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه) (7) . والثانية: يجب غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه بقوله: (إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة) (8) ، ولأنه نجاسة من كبير أشبه بالبول. سادساً: التطهير من بول الغلام الذي لم يطعم الطعام ومن قيئه: يطهر بالنضح الذي يغمره بالماء وإن لم ينفصل لما روي عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها (أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام، فوضعته في حجره، فبال: فلم يزد على أن نضح بالماء) (9) . أما التطهير من بول الجارية فلا يجزئ إلا الغسل لحديث خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) (10) . سابعاً: تطهير محل الاستنجاء إذا استجمر: هناك روايتان: إحداهما يطهر بالاستجمار لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ص: 59] يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة) (11) فهذا دليل على أن غيرهما يطهر به المحل، وسئل الإمام أحمد عن المستجمر يعرق في سراويله فقال: لا بأس به. وأما الثانية: فلا يطهر المحل. ثامناً تطهير أسفل الخف والحذاء إذا أصابه نجاسة: هناك ثلاث روايات: الأولى: يجزئ دلكه بالأرض لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب) (12) . والثانية: يجب غسله لأنه ملبوس فلا يجوز فيه المسح كظاهره، وهذه الرواية هي المعتمد. أما الثالثة: فيجب غسله من البول والعذرة لفحشها ويجزئ دلكه من غيرهما. تاسعاً: المائعات المتنجسة كالسمن والزيت والعسل لا تقبل التطهير. عاشراً: الجامدات التي تشربت النجاسة كاللحم إذا طبخ أو سلق بنجاسة لا تقبل التطهير، أما البيض المسلوق بنجاسة فإنه يقبل التطهير لصلابة قشرته المانعة من تسرب النجاسة.   (1) الذنوب هو الدلو المملوءة ماء. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 30/99. (3) تقدّم عند ابن ماجة. (4) مسند الإمام أحمد ج-2/ص 109. (5) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 27/91. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 27/93. (7) الترمذي: ج-1/ كتاب الطهارة باب 84/115. (8) تقدّم عند أبي داود. (9) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 31/103. (10) النسائي: ج-1/ص 158. (11) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 4/8. والرمة هي العظم المتفتت. (12) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 141/386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الأعيان النجسة المتحولة إلى طاهرة: -1ً- الخمرة إن انقلبت خلاً بنفسها طهرت، لأن نجاستها لشدتها المسكرة وقد زال ذلك، ولو كان سبب التخلل نقلها من الظل إلى الشمس أو بالعكس. أما إن خُللت عمداً فلا تطهر لما روي (أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال: أهرقها قال: أفلا أجعلها خلاً. قال: لا) (1) فلو جاز [ص: 60] -2ً- المسك المنفصل من الغزال الحي طاهر، وكذا جلدته طاهرة، لأن أصله دم نجس استحال إلى طاهر.   (1) أبو داوود: ج-1/ كتاب الأشربة باب 3/3675. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أشياء لا تطهر النجاسات: -1ً- الدباغة: لا تطهر جلود الميتة بالدباغة، وإنما إذا دُبغت أُبيح استعمالها في المواد الجافة لقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) والجلد جزء منها، ولحديث أبي داود المتقدم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) . وعن الإمام أحمد: يطهر بالدباغة جلد ما كان طاهراً حال الحياة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تُصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها) (1) . أما ما كان نجساً وهو حي فلا يطهر جلده بالدباغة عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب وعن مياثر النمور) (2) ، ولأن أثر الدبغ يكون في إزالة النجاسة الحادثة بالموت فبعد الدبغ يعود كما كان حكمه قبل الموت. -2ً- الاستحالة: لا تطهر، فالدود المتولد من النجاسة، وكذا الصرصار المتولد من الكنف كلها نجسة، لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمرة، فإن نجاستها لمعنى فيها زال بالانقلاب إلى خل. -3ً- النار: لا تطهر النجاسة، فلو عرضت نجاسة على النار حتى احترقت وصارت رماداً، فالرماد والدخان نجسان. -4ً- الشمس والريح والجفاف: لا تطهر الأرض ولا الأشياء المتنجسة. الانتفاع بالنجاسات: لا يجوز الانتفاع بأي مائع نجس كالخمر والدم، وكذا لا يحل الانتفاع بالجامدات النجسة كالخنزير والزبل النجس، كما لا يحل الانتفاع بالميتة ولا بدهنها. أما دهن الحيوان الحي الطاهر كالسمن الذي سقطت فيه نجاسة فإنه يجوز الانتفاع به في غير الأكل كأن يستضاء به في غير المسجد. [ص: 61]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 27/100. (2) مسند الإمام أحمد ج-4/ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مُلحقات السواك وبعض السنن حكمه: -1- السواك: -1ً- سنة مؤكدة: -1- عند كل صلاة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) (1) . -2- عند الانتباه من النوم: لما روى حذيفة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يَشُوصُ (2) فَاهُ بالسواك) (3) . -3- عند تغير رائحة الفم إما بأكل ذي ريح أو من خواء المعدة من الطعام. -4- عند الوضوء. -5- عند قراءة القرآن. -6- عند دخول المسجد. -7- عند اصفرار الأسنان. -2ً- سنة: في كل الأوقات وإذا دخل بيته لما روى شريح بن هانئ قال: (سألت عائشة رضي الله عنها قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك) (4) . [ص: 62] -3ً- مكروه: للصائم بعد الزوال سواء كان السواك بعود رطب أو يابس، لأنه يزيل خلوف فم الصائم وهي أطيب عند الله من ريح المسك، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً. أما السواك للصائم فبل الزوال فهو مسنون بعود يابس ومباح بعود رطب. آلة الاستياك: عود لين ويفضل عود الأراك اتباعاً للسنة. فإن استاك بخرقة أو بأصبعه لم يصب السنة. ويكره الاستياك بعود الريحان أو الرمان أو نحو ذلك مما يضر باللثة. كيفية الاستياك: يندب الاستياك باليد اليسرى، وأن يبدأ من جانب فمه الأيمن من ثناياه إلى أضراسه، وأن يستاك عرضاً بالنسبة للأسنان طولاً بالنسبة للثة. فوائد السواك: مُرْضِ لله لحديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) (5) ، مذكر بالشهادة عند الموت، مهضم للطعام، مغٍذ للجائع. -2- السنن الأخرى: تقليم الأظافر، قص الشارب، نتف الإبط، حلق العانة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة -: الختان والاستحداد وتقليم الأظافر ونتف الأبط وقص الشارب) (6) . الختان: وهو واجب عند البلوغ، فإن كبر وخاف على نفسه من الختان سقط عنه هذا الواجب، والأفضل أن يختن المولود يوم الـ (21) وإلا ترك حتى يشتد عوده. والختان من ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام وقد ختن نفسه قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) (7) . ويسن الاكتحال والتطيب والنظر في المرآة ويقول: اللهم كما أحسنت خَلقي فحسن خُلقي وحرم وجهي على النار. [ص: 63]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 15/42. (2) الشوص: دلك الأسنان عرضاً بالسواك. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 15/46. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 15/44. (5) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 27. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 16/49. (7) النحل: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الباب الثالث (أحكام التخلي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أولاً: المستحبات: -1- يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول عند الدخول: "بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث"، لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله (1) . وروي عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (2) . وأن يقول عند الخروج: "غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، لما روت عائشة رضي الله عنهُا (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك (3) وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) (4) . -2- يستحب أن يقدم رجله اليسرى في الدخول على اليمنى، وأن يقدم رجله اليمنى على اليسرى في الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه. [ص: 64] -3- يستحب أن يرفع ما عليه ذكر الله غير قرآن فيحرم إدخاله صيانة له، وعن الإمام: إذا كان ما عليه ذكر الله دراهماً فلا بأس، أما الخاتم الذي عليه ذكر الله فيجعله في بطن كفه إذا أراد دخول الخلاء. -4- يستحب إذا كان في الفضاء، أن يبتعد عن الناس، ويستتر عن أعينهم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره ... ) (5) . -5- يستحب أن يرتد لبوله مكاناً رخواً لئلا يترشش عليه. -6- يستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صَلى الله عَليه وسَلم كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) (6) . -7- يستحب أن يبول قاعداً لأنه أستر له وأبعد من أن يترشش عليه. -8- يستحب أن يتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى لأنه أسهل لخروج الخارج. -9- يستحب أن يتنحنح ليخرج ما بقي. -10- يستحب أن يلبس النعلين ويغطي رأسه، لما روى البيهقي عن حبيب بن صالح قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه) (7) .   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 9/297. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الوضوء باب 9/142. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 17/30. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 10/301. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 19/35. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 6/14. (7) البيهقي: ج-1/ ص-96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ثانياً: المحرمات: -1- يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء لغائط أبو بول بلا ساتر لحديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة [ص: 65] ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا) (1) . ويجزئ الاستتار بدابة، أو جبل، أو جدار، ولو أرخى ثوبه حصل به الستر. وفي البنيان روايتان: إحداهما لا يجوز لعموم النهي، والثانية يجوز. وعن مروان الأصفر أنه قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (2) . -2- يحرم البول والتغوط بين قبور المسلمين وعليها. -3- يحرم البول والتغوط في طريق مسلوك، لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) (3) . -4- يحرم البول والتغوط في ظل نافع ومثله مشمس زمن الشتاء، كما يحرم في متحدث الناس إلا أن يكون حديثهم غيبة أو نميمة. -5- يحرم قضاء الحاجة تحت الشجرة مثمرة يؤكل ثمرها أو لا، لأنه يفسدها وتعافها النفس. -6- يحرم اللبث في الخلاء فوق قدر الحاجة، لأن ذلك يدمي الكبد، ويأخذ منه الباسور. -7- يحرم التغوط في الماء الراكد والجاري سواء كان قليلاً أم كثيراً، إلا ماء البحر فإنه لا يحرم فيه ذلك. (أما البول فإنه يكره في الماء الراكد والجاري) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 16/29. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 4/11. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 14/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ثالثاً: المكروهات: -1- يكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريماً لهما. -2- يكره أن يستقبل الريح بالبول لئلا يرتد عليه فيتنجس. [ص: 66] -3- يكره أم يبول في شق أو ثقب لما روى عبد الله بن سَرجِس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الحجر) (1) ، لأنه لا يأمن أن يكون مسكناً للجان، أو فيه دابة تلسعه. -4- يكره البول في المغتسل، لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه) (2) . قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إن صب عليه الماء فجرى في البلوعة فذهب فلا بأس. -5- يكره الكلام أو السلام أو ذكر الله تعالى باللسان روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر) (3) . -6- يكره البول في الإناء لغير الحاجة. -7- يكره البول في النار لأنه يورث السقم. -8- يكره البول في الرماد. -9- يكره البول قائماً، إلا إن أمن التلويث، وأمن أن لا ينظر إليه أحد. -10- يكره الاستجمار باليمين والاستعانة بها لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُمسِكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) (4) . -11- يكره البول في الماء الراكد والجاري. [ص: 67]   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 16/29. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 15/27. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 8/17. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 18/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الاستنجاء الاستنجاء: هو عبارة عن إزالة الخارج من أحد السبيلين عن المحل الذي خرج منه، إما بالماء، وإما بالأحجار ونحوها. وسمي استنجاء، لأن الاستنجاء مأخوذ من نجوت الشجرة إذا قطعتها فهو يقطع الخبث من على المحل. والأصل فيه أن يكون بالماء. ويسمى استطابة، لأن النفس تطيب وتستريح بإزالة الخبث. ويسمى الاستجمار (مأخوذ من الجمار وهي الحصى الصغار) إذا كانت إزالة الخارج بالأحجار. حكم الاستنجاء: واجب من كل خارج نجس ورطب، ولو نادراً من أحد السبيلين، سواء كان معتاداً، أو غير معتاد كدم وودي ومذي، إلا إذا كان النجس الخارج جافاً لم يلوث المحل، كالبعر الناشف والحصاة، أو كان طاهراً كالمني والريح. وأدلة وجوب ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً وكنت استحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته. فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) (1) . وحديث المعذبين في القبر، وحديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار) (2) . [ص: 68]   (1) مسلم: ج-1 كتاب الحيض باب 4/17. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 21/40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 واجباته: الاستبراء أي انقطاع الخارج قبل الاستنجاء حتى يغلب على الظن أنه لم يبق في المحل شيء فالذي يريد الاستجاء يلزمه الاستبراء بحيث لا يجوز له أن يتوضأ وهو يشك في انقطاع بوله، فإن توضأ في حالة الشك ونزلت منه قطرة منالبول، لم يجزئه وضوءه، وإنما يجب عليه أن يخرج ما عساه أن يكون موجوداً؛ كأن يقوم، أو يمشي خطوات، أو يأتي بحركة من الحركات المعتادة له حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق في المحل شيء. وسيلة الاستنجاء: إن تعدّت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه الماء، لأن ذلك نادر فلم يجز فيه المسح. وإن لم تتجاوز النجاسة قدر الحاجة فيجوز الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجر، نادراً كان الخارج أو معتاداً، والأفضل اجمع بين الماء والحجر، فيبداً بالحجر أولاً ثم الماء، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (مُرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإني استحييهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) (1) . فإن اقتصر على أحدهما فيفضل الماء، لأنه يزيل عين النجاسة وأثرها ويطهر المحل، أما الحجر فلا يزيل إلا عينها، ولما روي عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً ومعه غلام معه ميضأة، وهو أصغرنا، فوضعها عند السدرة، فقضى حاجته، فخرج علينا وقد استنجى بالماء) (2) . [ص: 69]   (1) البيهقي: 1/ص 106. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 23/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 شروط صحة الاستجمار بالحجر: -1ً- أن يكون الحجر منقياً: أي أن لا يبقى أثر من النجاسة إلا أثر لا يزيله إلا الماء، فلا يصح الاستجمار بالأملس كزجاج ونحوه، ولا بالفحم الرخو. -2ً- أن يكون جامداً فلا يصح بالمائع ولا بالطين. -3ً- أن يكون طاهراً لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني بأن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالثة فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: هذا ركس) (1) . ولأن الاستجمار بالنجس يكسب المحل نجاسة لأنه رطب، ولا يجزئه الاستجمار بعده بطاهر لأن المحلَّ صار نجساً بنجاسة واردة عليه فلزم غسله. -4ً- أن لا يكون محترم شرعاً، كقرطاس ذكر فيه اسم الله تعالى، أو كتب فيه حديث، أو علم شرعي، وأن لا يكون جزء حيوان: كيده، أو ذنب بهيمة، أو صوفها المتصل بها لأنه ذو حرمة. وأن لا يكون محرم الاستعمال كالذهب والفضة. فإن استجمر بها نُهي عنه فإنه لا يصح، لأن الاستجمار رخصة والرخصة لا تستباح بالمحرم كسائر الرخص. -5ً- أن يكون غير مطعوم ولو كان مطعوم جن أو حيوان، كالعظام وطعام الآدمي، لما روى مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن) (2) علل النهي بأنه زاد للجن فزادنا أولى. -6ً- أن يكون المسح ثلاثاً مع الإنقاء لقول سلمان رضي الله عنه: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، [ص: 70] أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) (3) . ولحديث طاووس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم ليستطبّ بثلاثة أحجار أو ثلاثة حثيات من التراب) (4) ، فإن كان الحجر كبيراً فمسح به ثلاث مسحات أجزأه. -7ً- أن لا يكون المخرج متنجساً بغير الخارج منه. -8ً- أن لا تتجاوز النجاسة موضع العادة، فإن تجاوزته تعين الماء. -9ً- أن لا يجف الخارج قبل الاستجمار وإلا تعين الماء.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الوضوء باب 21/155. (2) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 14/18. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 17/57. والرجيع: الرَوث. (4) الدارقطني: ج-1/ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 كيفية الاستجمار: يصح الاستجمار بأية كيفية، إلا أن المستحب أن يمر حجراً من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين، لما روى سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، حجرين للصفحتين وحجر للمسربة (1) . ويستحب قبل ذلك أن يضع الذكر إصبع يده اليسرى الوسطى تحت الذكر والإبهام فوقه ويمرر بهما إلى رأسه ثلاثاً وينتزه ثلاثاً، لما روى عيسى بن يزداد اليماني، عن أبيه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات) (2) ، ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تنجس يده عند تنظيف الدبر، والمرأة مخيرة بأيهما شاءت لعدم ذلك. فإن لم ينق المحل بالمسحات الثلاث زاد حتى ينقى، ليحصل مقصود الاستجمار، وسن قطع ما زاد على الثلاث على وتر، فإن أنقى بالرابعة زاد خامسة. أما إن كان الاستنجاء بالماء فيكون الإنقاء بعود المحل كما كان قبل خروج الخارج، وظنه كافٍ، ولا بد من غسله سبعاً. [ص: 71]   (1) الدارقطني: ج-1 /ص 56. (2) ابن ماجة: ج-1 /كتاب الطهارة باب 19/326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الباب الرابع (الوضوء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تعريفه: الوضوء لغة: الحسن والنظافة. وشرعاً: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة بكيفية مخصوصة. دليل مشروعيته: قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (1) . حكم الوضوء: آ- فرض: -1ً- للصلاة وما جانسها سواء كانت فرضاً أم نفلاً لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُقبل صلاةٌ بغير طهور ولا صدقة من غُلول (2)) . وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقبل صلاة أحدكم، إذا أحدث، حتى يتوضأ) (3) . -2ً- للطواف فرضاً كان أم واجباً أم نفلاً لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن [ص: 72] النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير) (4) . -3- لمس المصحف: بعضه أو كله أو حواشيه بدليل قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (5) . وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: (أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر) (6) ، فلا يجوز مسه ببشرته بدون حائل حتى لا يجوز مس الورق الأبيض المتصل به ولو كان الماس غير مكلف (7) (من التمييز إلى البلوغ) إلا بطهارة كاملة، إلا أن الصبي غير المكلف لا يجب عليه الوضوء، إنما يجب على وليه أن لا يمكنه من مس المصحف أو مس ما كتب على اللوح من القرآن إلا بعد أن يأمره بالوضوء. أما مس المصحف بحائل لغير المتوضئ، فلا مانع كأن كان بغلاف منفصل عنه، أو كيس، أو لف بورقة، أو وضع في صندوق مع أمتعته ولو كان القصد حمل المصحف. وكذا لا مانع من اتخاذ المصحف حرزاً لكن بشرط أن يستر بشيء طاهر، كأن يلف بخرقة طاهرة ونحوها، كما يجوز تقليب ورقة بعود، وحمل تفسيره، وحمل منسوخ التلاوة ولو كان الحكم باقياً، ومس المأثور عن الله تعالى كالأحاديث القدسية والتوراة والإنجيل، ومس كتاب الفقه أو رسالة كتب فيها شيء من القرآن والدليل على ذلك (أن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر في رسالته: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم") (8) .   (1) المائدة: 6. (2) مسلم ج-1/ كتاب الطهارة باب 2. (3) مسلم ج-1/ كتاب الطهارة باب 2/2. (4) الترمذي ج-3/ كتاب الحج باب 112/960. (5) الواقعة: 79. (6) شرح الزرقاني على الموطأ: حديث 297 ص-106. (7) هناك رواية بجواز مس الصغير اللوح الذي كتب عليه القرآن، لأن حاجته ماسة ولا تحتفظ طهارته. (8) البخاري: ج-3/ كتاب الجهاد باب 101/2782. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ب- مستحب: -1ً- لمن كان متوضئاً، وسبق له أن صلى بوضوئه، أي يستحب تجديد الوضوء لكل صلاة طلباً للفضل، وقد ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح [ص: 73] بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه. قال: عمداً صنعته يا عمر) (1) وذلك ليبين الجواز. -2ً- لمن أدراد القراءة أو الذكر أو الأذان أو النوم، ولرفع الغضب، وللجلوس بالمسجد، ولتدريس علم وللأكل.   (1) مسلم ج-1/ كتاب الطهارة باب 25/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 شروط صحة الوضوء: -1ً- دخول الوقت على من حدثه دائم لصلاة الفرض. -2ً- انقطاع ما ينافي الوضوء أثناء الوضوء: فلو غسل وجهه ويديه مثلاً ثم أحدث فعليه أن يعيد الوضوء من أوله، إلا إذا كان المتوضئ من أصحاب الأعذار، كأن كان مصاباً بسلس البول الدائم ونزلت منه قطرة أو قطرات أثناء الوضوء فإنه لا يجب عليه إعادة الوضوء، أما إن لم يكن سلسه دائماً فإنه يتحرى الوقت الذي ينضبط فيه ويتوضأ. -3ً- الإسلام. -4ً- التمييز: وقد قدر بسبع سنوات. -5ً- العقل: فلا يصح من المجنون ولا من المعتوه. -6ً- إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة من شمع وعجين ونحوهما. -7ً- أن تكون الطهارة بماء طهور ومباح، فإن توضأ بماء مغصوب لم يصح وضوءه. -8ً- أن يتقدم الاستنجاء أو الاستجمار على الوضوء، فلا يصح الوضوء بغير ذلك. -9ً- النية: وهي شرط لصحة الطهارة من الأحداث كلها. [ص: 74] دليلها: ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى) (1) ، ولأن الوضوء عبادة محضة فلا يصح بدون نية كالصلاة محلها: القلب، ويسن لفظها باللسان. وتجب عند التسمية، لأن التسمية أول واجبات الوضوء، ويستحب تقديمها على غسل اليدين إن وجد قبل التسمية، لتشمل الفروض والسنن، كما يستحب استدامتها في سائر الوضوء. تعريفها: هي قصد رفع الحدث. كيفيتها: آ- للسليم: قصد رفع الحدث، أو قصد الطهارة. ب- لدائم الحدث: قصد استباحة ما تجب له الطهارة، كاستباحة الصلاة أو الطواف أو مس المصحف دون ذكر الفريضة أو ما يسن له الطهارة. ويستطيع بوضوئه أن يؤدي اكثر من فرض طيلة وقت الصلاة حتى يخرج، أي إذا توضأ مثلاًٍ لصلاة الظهر ونوافله وفرائض أخرى بوضوء واحد حتى يخرج وقت الظهر. ولا يرتفع الحدث بنية تجديد الوضوء المسنون إذا كان ذاكراً لحدثه، بل عليه أن ينوي الوضوء لرفع الحدث، أما إذا كان ناسياً لحدثه وتوضأ بنية تجديد الوضوء المسنون، فإن هذا الوضوء يرفع حدثه المنسي. ويرتفع الحدث إذا نوى تجب له الطهارة كالصلاة، أو نوى ما تسن له كالقراءة والجلوس بالمسجد، ورفع الغضب والأكل، فإذا نوى شيئاً من ذلك ارتفع حدثه، وله أن يصلي بهذا الوضوء. وكذلك إن نوى بوضوئه صلاة معينة ارتفع الحدث مطلقاً وصلى بوضوئه ما شاء أما إن نوى وضوءاً، أو أطلق، أو غسل أعضائه ليزيل عنها النجاسة، أو ليعلم غيره، أو للتبرد، فلا يجزئه، لأن الوضوء تارة يكون عادة وتارة يكون عبادة فلا بد من تمييزه بالنية. [ص: 75]   (1) مسلم: ج-3/ كتاب الإمارات باب 45/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 حالة الشك بالنية: إن الشك بالنية أثناء الوضوء استأنف الوضوء، أما إن الشك بالنية بعد الانتهاء من الوضوء فلا يضر، وكذا لو شك في غسل عضو أثناء الوضوء استأنف، أما بعد انتهاء الوضوء فلا يضر. فرائض الوضوء هناك فرق بين الفرض والشرط هو: أن الفرض مرادف للركن، وهو ما كان من حقيقة الشيء، أما الشرط فهو ما توقف عليه وجود الشيء ولم يكن من حقيقته. وفرائض الوضوء هي: أولاً: غسل الوجه: ودليل فرضيته قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) (1) ، والسنن المتظاهرة، والإجماع. وحد الوجه: من منابت شعر رأس المعتاد إلى منتهى آخر الذقن لمن ليست له لحية وإلى آخر شعر اللحية لمن له لحية، وما بين شحمتي الأذنين عرضاً. وإن كان شعر الوجه كثيفاً يكتفى بغسله، وإن كان خفيفاً يغسل الشعر والبشرة. ويستحب تخليل الشعر الكثيف، أما الشعر المسترسل من اللحية عن حد الوجه ففيه روايتان. إحداهما: لا يجب غسله، والثانية: يجب لأنه نابت في بشرة الوجه. ويدخل في الوجه العِذار (2) والعارض والصدغ. ويستحب أن يزيد في ماء الوجه لأن فيه غضوناً وشعراً وأن يمسح مآقيه. ويدخل في غسل الوجه فرض ضمني، وهو المضمضة والاستنشاق فهما واجبان في الطهارتين الكبرى والصغرى على اعتبار أنهما داخلان في حد الوجه. [ص: 76] ثانياً: غسل اليدين مع المرفقين: ودليل فرضيته قول تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) (3) ، وحديث جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه) (4) ولأن (إلى) في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى: (من أنصاري إلى الله (5) أي مع الله وكذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) (6) أي مع أموالكم ز ويجب غسل تكاميش الأصابع وما تحت الأظافر إن طالت، ويعفى عن وسخ الأظافر إن كان يسيراً، ويجب غسل الأصبع الزائدة واليد الزائدة إذا كان أصلها في محل الفرض، وإن كان أقطع اليد غسل ما بقي من الفرض، وإن لم يبق من اليد شيء سقط الغسل. ثالثاً: مسح الرأس: لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (7) . ويجب مسح الرأس كله من منابت الشعر المعتاد إلى نقرة القفا، لأن الباء (برؤوسكم) زائدة. ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ولا يجزئ عن مسح الرأس سواء رده فعقصه على رأسه أو لم يرده، ولو أدخل يده تحت الشعر فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزئه، لأن الحكم يتعلق بالشعر، ولو مسح رأسه ثم حَلَقه لا يجب عليه إعادة مسحه. وظاهر قول الإمام أحمد رضي الله عنه: أن المرأة يجزئها مسح بعض الرأس بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين) (8) وأن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تمسح مقدم رأسها. والمستحب أن يمر بيديه من مقدم رأسه إلى قفاه ثم يعدهما، لأن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم: (ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح [ص: 77] برأسه. فأقبل بيديه وأدبر) (9) ولا يستحب التكرار، لأن أكثر من وصف وضوءَهُ صلى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح مرة واحدة. وعن الإِمام أحمد: يستحب التكرار لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ومن توضأ ثلاثاً فذلك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي) (10) . وهناك فرض ضمني في مسح الرأس وهو مسح الأذنين، فهما يعتبران من الرأس لحديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة رضي الله عنه، وذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح المأقين، قال: وقال: الأذنان من الرأس) (11) لكن يستحب إفرادهما بماء جديد، لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على وجه التبع. ويستحب أن يُدخِل سباحتيه في أذنيه ويجعل إبهاميه لظاهرهما. رابعاً: غسل الرجلين مع الكعبين: ودليل فرضيته قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين) (12) ولا يجزئ مسح الرجلين لما روى عمر رضي الله عنه (أن رجلاً توضأ فترك موضع ظُفر على قدمه اليمنى فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فأحسن وضوءك. فرجع ثم صلى) (13) . ومن كان أقطع اليدين وقدر على أن يستأجر من يوضأه بأجر المثل لزمه ذلك كما لزمه شراء الماء. خامساً: الترتيب: ودليله أن الله تعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنْقَل عن الوضوء إلا مرتباً. فإن نكس أعضاء الوضوء لم يصح وضوءه. وترتيب أعضاء الوضوء يكون على الشكل التالي: -1ً- النية (شرط) . -2ً- التسمية (واجب) . [ص: 78] -3ً- غسل الكفين ثلاثاً (سنة ما لم يكن مستيقظاً من النوم فهو واجب) . -4ً- المضمضة والاستنشاق (فرض عملي ضمني) . -5ً- غسل الوجه (فرض) . -6ً- غسل اليدين مع المرفقين (فرض) . -7ً- مسح كل الرأس (فرض) . -8ً- مسح الأذنين (فرض عملي ضمني) . -9ً- غسل الرجلين مع الكعبين (فرض) . سادساً: الموالاة بين غسل الأعضاء: وهي أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله لأنه صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة) (14) . فلو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه والى بين غسل أعضاء الوضوء. وعكس الموالاة التفريق: وهو أن يؤخر غسل عضو حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل، أما إن أخر غسل عضو لأمرٍ في الطهارة من إزالة وسخٍ أو دلك عضوٍ لم يقدح في طهارته.   (1) المائدة: 6. (2) الشعر المحاذي للأذنين. (3) المائدة 6. (4) البيهقي: ج-1/ص 56. (5) آل عمران: 52. (6) النساء: 2. (7) المائدة: 6. (8) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 23/83. (9) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 7/18. (10) مسند الإمام أحمد: ج-2/ص 98. (11) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة 50/134. (12) المائدة: 6. (13) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 10/31. (14) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 67/175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 واجبات الوضوء: للوضوء واجب واحد، وهو التسمية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه) (1) ، وتسقط سهواً لحديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ص: 79] قال: إنَّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) ، وإن ذكرها في أثنائه ابتدأ من الأول، وقيل يأتي بها حيث ذكرها. ومحلها: اللسان، وموضعها بعد النية ليكون مسمياً على جميع وضوئه.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 48/101. (2) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطلاق باب 16/2045. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 سنن الوضوء: تعريف السنة: هي ما يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، ولها مترادفات وهي المندوب والمستحب. وسنن الوضوء ثمانية عشر: -1ً- استقبال القبلة. -2ً- السواك عند المضمضة. -3ً- غسل الكفين ثلاثاً لما روى حُمران مولى عثمان أنه (رأى عثمان رضي الله عنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ... ) (1) ، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء. -4ً- تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. -5ً- المبالغة بالمضمضة والاستنشاق لغير الصائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء. وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) (2) . وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف ولا يجعله سعوطاً (3) ، وفي المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم ولا يجعله وجوراً (4) . -6ً- المبالغة في سائر الأعضاء. [ص: 80] -7ً- الزيادة في ماء الوجه لغسل أساريره ودواخله وخوارجه وشعوره ومسح مآقيه. -8ً- تخليل اللحية الكثة. -9ً- تخليل أصابع اليدين والرجلين إذا وصل الماء في الغسل إليها بدون دلك وإن كان التخليل واجباً بدليل ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك) (5) . وتخليل أصابع الرجلين يكون بخنصر اليد اليسرى من باطن القدم إلى الأعلى، ويبدأ بخنصر الرجل اليمنى وينتهي بخنصر الرجل اليسرى، أما أصابع اليدين فتتخلل إحداهما بالأخرى. -10ً- تجديد الماء لمسح الأذنين بعد مسح الرأس. -11- التيامن لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله، في نعليه وترجله وطهوره) (6) . -12- إطالة الغرة والتحجيل: أي مجاوزة القدر الواجب في الغسل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم الغُرُّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غُرَّته وتحجيلَه) (7) . -13- تثليث الغسل: فالمرة الأولى فرض، والغسلة الثانية والثالثة سنة إن عمت الأولى. -14- استصحاب النية بالقلب إلى آخر الوضوء. -15- الإتيان بالنية عند غسل الكفين إلى الكوعين (الرسغين) -16- التلفظ بالنية سراً، بحيث يحرك بها لسانه وشفتيه، ويُسمِع نفسه دون غيره، وأن لا يستعين بغيره فيه. -17- أن يتولى وضوءه بنفسه من غير معونة أحد، ولكن تباح المعونة كتقريب الماء وحمله وصبه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول [ص: 81] الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا، وغلام نحوي، إداوةً من ماء، وعنزة فيستنجي بالماء) (8) وعن المغيرة بنشعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فقال لي: أمعك ماء؟ قلت: نعم، فنزل عن راحلته، فمشى حتى توارى في سواد الليل، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ... ) (9) وذكر بقية الوضوء، ولكن الأفضل ترك الاستعانة وترك التنشيف من البلل. -18- أن يقول عند فراغه من الوضوء رافعاً بصره إلى السماء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ودليل ذلك حديث عقبة بن عامر وفيه قول عمر رضي الله عنه قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد يتوضأ فيُبْلغُ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) (10) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 3/4. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 55/142. (3) السعوط: النشوق، أي لا يبالغ حتى يصل إلى حلقه. (4) الوجور: أصله قطرة بالأذن، أي لا يبالغ حتى يصل من الفم إلى الأذن. (5) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 30/39. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 19/67. (7) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 12/34. (8) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 21/70. (9) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 22/79. (10) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 6/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 كيفية الوضوء: ينوي المتوضأ رفع الحدث أو استباحة الصلاة أو الوضوء للصلاة. ثم يسمي فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم يغسل كفيه ثلاث مرات. ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات. ثم يغسل وجهه من منابت شعر الرأس المعتاد وإلى الذقن مع ما استرسل من شعر اللحية، ولا يجزئ غسل ظاهر شعر اللحية إلا إذا كان كثيفة لا يصف [ص: 82] البشرة، أما إذا كان خفيفاً فيغسله وما تحته، ومن الأذن إلى الأذن، ويغسل ما فيه من شعر خفيف يصف البشرة كعذار (1) وعارض (2) وأهداب عين وشارب وعنفقة (3) لأنها من الوجه، ولا يغسل الصُدغ (4) ولا التحذيف (5) ولا النزعتان (6) لأنها من الرأس. ثم يغسل يديه مع مرفقيه وأظفاره ثلاث مرات، ولا يضر وسخ يسير تحت ظفره، وكذلك يغسل ما كان زائداً في محل الفرض كيد أو أُصبع زائدة. ثم يمسح كل رأسه بالماء، فيمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه مرة واحدة، وبعد ذلك يمسح أذنيه مرة واحدة فيدخل سباحتيه في صماخي أذنيه ويمسح بإبهاميه ظاهرهما وكيف ما مسح أجزأ. ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاثاً، أما الأقطع فيغسل بقية الفروض، فإن قطع من مفصل المرفق غسل رأس العضد منه، وإن قطع من مفصل الكعب فيغسل طرف ساقه. ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أو غير ذلك مما ورد.   (1) العذار: الشعر النابت على العظم الناتئ المحاذي لصماخ الأذن. (2) العارض: ما نبت على الخد واللحيين. (3) العنفقة: الشعر النابت تحت الشفة السفلى. (4) الصدغ: الشعر الذي بعد انتهاء اللعذار يحاذي رأس الأذن وينزل عنه قليلاً. (5) التحذيف: الشعر الخارج إلى طرفي الجبين في جانبي الوجه بين النزعة ومنتهى العذار. (6) النزعتان: ما انحسر عنه الشعر من جانبي الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المسح على الخفين تعريف المسح: المسح لغة: إمرار اليد على الشيء. وشرعاً: أن يصيب البلل خفاً مخصوصاً في زمن مخصوص. [ص: 83] تعريف الخف: ما يلبسه الإنسان في قدمي رجليه إلى الكعبين سواء كان مصنوعاً من الجلد أو من الصوف أو من الشعر أو الوبر أو الكتان أو اللباد، ويقال له الجرموقان (1) . حكم المسح على الخفين: رخصة في الوضوء دون الغسل، لما روي عن جرير رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ، ومسح على خفيه) (2) ، ولما روى صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وليالهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) (3) . والمسح على الخف أفضل من غسل الرجلين، لأن الله تعالى يحب لعباده أن يأخذوا برخصه. أما في الغسل فلا رخصة فيه للمسح على الخف، لأن الغسل يقل فلا تدعو الحاجة للمسح عليه.   (1) هي جوارب لكنها من الأسفل وعند الأصابع والعقد من جلد. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 22/72. (3) الترمذي: ج-1/ كتاب الطهارة باب 71/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 شروط جواز المسح على الخفين: -1ً- أن يكونا ساترين لمحل الفرض في الوضوء (القدم مع الكعبين) ، لأن حكم ما استتر المسح وحكم ما ظهر الغسل ولا سبيل إلى الجمع بينهما فغلب الغسل كما لو خرجت إحدى الرجلين فإن كانت فوهة الخف واسعة بحيث يُرى منها بعض القدم فلا يصح المسح عليه، وكذا إن كان الخف رقيقاً يصف لون البشرة من خلاله لم يجز المسح عليه. أما إن كان فيه شق مستطيل منضم لا يظهر القدم منه جاز المسح عليه، وكذلك إذا ثقب من أسفل القدم وكان مشدوداً لا يُظهر شيئاً من القدم إن مشى جاز المسح لأنه كالمخيط [ص: 84] -2ً- إمكان متابعة المشي فيهما المشي المعتاد عرفاً، فإن كان يسقط من القدم لسعته أو ثقله لم يجز المسح عليه سواء كان مصنوعاً من الجلد أو اللباد أو الخشب. -3ً- لبسهما على طهارة كاملة، بمعنى أن يتوضأ أولاً وضوءاً كاملاً، ثم يلبسهما بدليل ماروي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) (1) . فإن غسل إحدى رجليه وأدخلها في الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها لم يجز المسح، لأنه لبس الأولى قبل كمال الطهارة (وعن الإمام يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس كما عند الحنفية) . وإن تطهر ولبس خفيه إلا أنه أحدث قبل أن تصل القدم إلى موضعها لم يجز المسح. وإن لبست المستحاضة أو من به ثلاث بول خفاً على طهارتهما فلهما المسح (نص عليه) ، لأن طهارتهما كاملة في حقهما، فإن عوفي لم يجز المسح لأن طهارتهما صارت ناقصة في حقهما فأشبهت التيمم. وإن لبس خفاً على طهارة ثم لبس فوقه آخر قبل أن يحدث فالحكم للأعلى منهما سواء كان الأول صحيحاً أو مخرَّقاً، وإن لبس الثاني بعد الحدث لم يجز المسح عليه لأنه لبس على غير طهارة، وإن مسح الأول ثم لبس الثاني لم يجز المسح عليه لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل. -4ً- أن تكون الطهارة قبل لبسهما بالماء، فلا يصح أن يلبسهما بعد التيمم سواء كان تيممه لفقد الماء أو المرض أو نحو ذلك، لأن التيممَ طهارةٌ لا ترفع حدثاً. -5ً- ثبوتهما على القدم ومحل الفرض بنفسهما أو بنعلين فإذا خلع النعل خلع الخفان لا بربطهما ولا بشدهما، فإن شد على رجليه لفائف لم يجز المسح عليهما لأنها لا تثبت بنفسها وإنما تثبت بشدها. [ص: 85] -6ً- أن يكونا مباحين سواء كان هناك ضرورة للبسهما أم لا، فلا يصح المسح على الخفين المغصوبين أو المصنوعين من الحرير لرجل لأنه معصية فلا تستباح به الرخصة. -7ً- طهارة عينهما، فإن كان الخف نجساً وخاف نزعه لحصول ضرر للرجل تيمم وعليه إعادة، أما إذا كان الخف متنجساً صح لمسح عليه بشرطين: الأول: أن تكون النجاسة إلا بنزعه، أو كان قادراً على إزالة النجاسة وهو لابسه لكن لم يجد ما يزيلها به، فإنه يصح المسح عليه الصلاة حال الضرورة، ولكنه يعيد الصلاة فقط ويستبيح بهذا المسح مس مصحف ونحو صلاة كطواف.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الوضوء باب 48/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مدة المسح: يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر لما روى شريح بن هانئ، أنهم سألوا علياً رضي الله عنه عن المسح على الخفين فقال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم) (1) . ويشترط في السفر الذي يجيز مسح ثلاثة أيام بلياليها أن يكون سفراً قصر مباح، أما إن كان سفر معصية أو سفر غير قصر فتكون مدته يوماً وليلة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 24/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بدء المدة: تبدأ المدة من أول حدث بعد لبسهما على طهارة، لأنها عبادة مؤقتة اعتبر أول وقت من حين جواز فعلها كالصلاة. وفي رواية أخرى تبدأ المدة من أول مسح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح ثلاثة أيام فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها والمعتمد الأول. [ص: 86] مسألة: إن أحدث في الحضر ثم سافر قبل المسح أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة بالسفر، أما إن مسح في الحضر ثم سافر أو مسح في السفر ثم أقام أتم مسح مقيم، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا كان أحد طرفيها بالحضر غُلِّب حكم الحضر كالصلاة، وإن شك هل بدأ المسح بالحضر أو بالسفر بنى على أنه مسح في الحضر، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة كيفية المسح: المقدار المفروض مسحه: مسح أكثر ظاهر أعلى الخف، لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما) (1) . أما المسنون فهو أن يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خف رجله اليمنى، وأن يضع أصابع يده اليسرى على مقدم رجله اليسرى، ثم يمر بهما إلى الساق فوق الكعبين مفرقاً بين أصابع يديه قليلا بحيث يكون المسح عليهما خطوطاً. ولا يندب مسح أسفل الخف لما روي عن علي رضي الله عنه، قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أوْلى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) (2) . وإن مسح بإصبع أو أصبعين أجزأه إن كرر المسح حتى يصبح كالمسح بأصابعه خطوطاً.   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 73/98. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 63/162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مبطلات المسح على الخفين: -1ً- انقضاء مدة المسح. -2ً- طروء موجب على موجبات المسح. -3ً- خلع خفيه أو أحدهما بعد المسح، أو خروج بعض القدم إلى ساق الخف، أو خلع الأعلى، وبقاء الذي تحته. [ص: 87] -4ً- حدوث خرق في الخف يظهر منه بعض القدم ولو كان يسيراً ولو من موضع خرزه إلا إذا انضم بالمشي لحصول ستر محل الغسل المفروض. فإذا طرأ إحدى هذه المبطلات بطلت طهارة القدمين وبالتالي تبطل طهارته جميعها، لأن الطهارة لا تتبعض. مكروهات المسح على الخفين: -1ً- يكره الزيادة على المرة الواحدة. -2ً- يكره غسل الخفين بدل مسحهما إذا نوى الغسل رفع الحدث، أما إن نوى به النظافة فقط، أو إزالة ما عليهما من نجاسة من غير أن ينوي رفع الحدث، فإنه لا يجزئ عن المسح وعليه أن يمسح الخفين بعد ذلك بالغسل. المسح على الجوارب: يصح المسح على الجوربين بدليل ما روى المغيرة رضي الله عنه قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين) (1) ، وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في المسح على الجوربين أنه يذكر عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه فهو أشبه بالخف.   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 74/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 شروط جواز المسح على الجوربين: هي نفس شروط جواز المسح على الخفين بالإضافة إلى كونهما لا يصفان القدم ولون البشرة من تحتهما، ولا يشترط فيهما أن يكونا ما نعين لنفوذ الماء. [ص: 88] المسح على العمامة: يجوز المسح على العمامة بدليل ما روى المغيرة رضي الله عنه قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة) (1) ، وعن عمرو بن أمية الضميري رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته (2)) ، وعن عمر رضي الله عنه قال: (من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله) ، ولأن الرأس عضو سقط فرضه بالتيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين. شروطها: -1ً- أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه فيعفى عنه. -2ً- أن يكون لها ذؤابة، أو تكون محنكة يدار منها تحت الحنك كور، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة ولا مشقة في نزعها. -3ً- أن يكون لبسها كمال الطهارة، وأن تكون مباحة. -4ً- أن تكون على ذكر، فلا يصح أن تمسح المرأة على العمامة.   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 75/100. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الوضوء باب 47/202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المقدار المسموح: أكثرها، وفي رواية يلزمه استيعابها، وإن ظهرت ناصيته لزمه مسحها ثم إتمام المسح على العمامة، وفي رواية ثانية لا يلزمه مسح ناصيته، لأنه فرض تعلق بالعمامة. فإن خلعها لزمه مسح رأسه ثم غسل رجليه لتحقيق الترتيب إذ تبطل الطهارة بنزعها. ولو انتقض من العمامة كور (دائرة واحدة منها) ففيه روايتان: إحداهما: يبطل المسح لأنه ذهب المسموح، والأخرى: لا يبطل لأن العمامة باقية. [ص: 89] ولا يجوز المسح على الطاقية ولا القلنسوات، لأنه لا مشقة في نزعها، أما خمر النساء فيجوز المسح عليها إذا كانت مدارة تحت حلوقهن، لأن أم سلمة كانت تمسح على خمارها. المسح على الجبيرة والجروح: تعريف الجبيرة: هي الرباط الذي يربط به العضو المريض، ولا يشترط أن يكون مشدوداً بأعواد من خشب أو جريد، كما لا يشترط أن يكون العضو مكسوراً بل أن يكون مريضاً سواء كان مكسوراً أو مرضوضاً أو به آلام روماتيزمية أو نحو ذلك. أو هي الدواء الذي يوضع فوق العضو ويخاف الضرر من نزعه. دليل جواز المسح على الجبيرة: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (انكسرت إحدى زندي فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر) (1) ، ولأنه ملبوس يشق نزعه.   (1) ابن ماجه: ج-1/ كتاب الطهارة باب 134/657. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كيفية المسح وحكم الطهارة: -1ً- إذا وضعها على طهارة وبقدر الحاجة: غسل الصحيح ومسح عليها وأجزأه ذلك دون تيمم (1) . -2ً- إذا وضعها على طهارة وزادت عن قدر الحاجة: غسل الصحيح وتيمم عما تحتها ومسح عليها وأجزأه ذلك (2) . -3ً- إذا وضعها على غير طهارة وخاف من نزعها ضرراً، أو كان الجرح مكشوفاً: وجب عليه غسل الصحيح وتيمم عما تحتها ولا مسح عليها (3) . [ص: 90] أما حكم الطهارة مع المسح أو التيمم، فهي صحيحة ولا إعادة للصلاة، لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ في القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) (4) . وفي رواية أخرى تجب إعادة الصلاة مع التيمم، لأنه صلى بنجاسة ولكن المعتمد الأول.   (1) أي صارت كالخف موضوعة على طهارة فوجب مسحها. (2) أي يغسل الصحيح ويمسح على الجبيرة بمقدار الجرحثم يتيمم عما تحت الجبيرة الزائدة عن مقدار الجرح. (3) أي هنا كالمريض العاجز عن استعمال الماء بالغسل أو المسح لذا وجب التيمم ولا إعادة للصلاة. (4) البيهقي: ج-1/ص 216 ورواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 شروط المسح على الجبيرة: -1ً- أن يكون غسل العضو المريض ضاراً به كزيادة ألم أو تأخر شفاء. -2ً- تعميم الجبيرة بالمسح بأن يغسل الجسم السليم من العضو ثم يمسح عن الجزء المريض جميعه. الفرق بين المسح على الخفين والمسح على الجيرة: -1ً- يجب مسح جميعها لأنه مسح للضرورة أشبه بالتيمم، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف. -2ً- لا تحدد مدة للمسح لأنه جاز بالضرورة فيبقى ببقائه. -3ً - أنها تجوز بالطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة. -4ً - تقدم الطهارة لها، فيها روايتان: إحداهما: يشترط تقدم الطهارة، والثانية: لا يشترط. -5ً-وضع الجبيرة مخصوص بحال الضرورة، أما الخفان فيلبسان بضرورة أو بغير ضرورة [ص: 91] مسألة في كيفية طهارة لابس الجبيرة إن كانت في رأسه: أ- إن عمت الجراحة كل الرأس: مسح على العصابة التي عليها وعممها بالمسح، وتيمم إن شدها على غير طهارة. ب- إن لم تعلم الجراحة الرأس: مسح على الصحيح من الرأس وأكمل على العصابة، لأنها تنوب عن الرأس في المريض. نواقض الوضوء: تعريف النواقض: النواقض جمع ناقضة أو ناقض، يقال: نقضت الشيء إذا أفسدته. ونواقض الوضوء هي: -1ً- خروج شيء من أحد السبيلين قليلاً كان أو كثيراً، طاهراً (مثل الولد) أو غير طاهر (كالبول) قال تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) (1) ، معتاداً أو غير معتاد (كالحصى والدودة، ودم الاستحاضة) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي جُحش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر خبرها. وقال: ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة، وصلي) (2) ، وسواء كان جامداً أو سائلاً أو ريحاً. -2ً- زوال العقل، بجنون، أو برسام (يقع بالساعة) قليلاً كان أو كثيراً، أو بسكر، أو بإغماء، أو بنوم عميق يمنع معرفة الأشياء لحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ) (3) ، لأنه مظنة الحدث فقام مقامه، سواء نام مضطجعاً أو متكئاً أو معتمداً على شيء أو راكعاً أو ساجداً فإنه ينقض الوضوء قليله وكثيره، أما إذا كان جالساً غير معتمد على شيء ممكناً مقعدته من الأرض فلا ينقض قليله لما [ص: 92] روى أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون) (4) . -3ً- لمس بشرة الذكر الأنثى أو الأنثى الذكر بدون حائل وبشهوة ولا ينقض لغيرها، لأن اللمس ليس بحدث إنما هو داعٍ إلى الحدث، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، والحية أو الميتة، والشابة أو العجوز، وذوات المحارم وغيرهن لعموم الأدلة. أما الملموس فلا ينتقض وضوؤه ولو وجد شهوة، لأن النقض يختص باللامس وأما من لمس عضواً مقطوعاً، أو مس غلاماً، أو بهيمة، أو مست امرأة امرأة، أو رجل رجلاً، ولو كان أمرداً، أو خنثى خنثى لم ينقض وضوؤه ولو وجد اللامس لذة، لأنه ليس محلاً لشهوة الآخر شرعاً. -4ً- مس فرج الآدمي ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً من نفسه أو لغيره باليد بدون حائل، واليد تشمل حتى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه وحرفه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة) (5) ، وحديث بُسْرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضأ) (6) . ولا ينقض المس بالظفر ولا مس الذكر المقطوع ولا مس العانة والأنثيين، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه. -5ً- خروج النجاسة من سائر البدن: آ- إن كان بولاً أو غائطا ينقض الوضوء قليله وكثيره، سواء كان من تحت المعدة أو من فوقها، وسواء كان السبيلان مفتوحين [ص: 93] أو مسدودين. ولو انسد المخرج وانفتح غيره فأحكام المخرج باقية (ينقضان الوضوء بمسهما) . ب- إن كان الخارج غير البول والغائط كالدم والقيء فلا ينتقض الوضوء، إلا إذا كان فاحشاً في نفس المتوضئ فإنه ينقض، أما إن كان قليلاً فلا ينقض. قاعدة: اعتبار حال الإنسان بما يستفحشه غيره حرج والحرج منفي. قال ابن عباس رضي الله عنهما في الدم: إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة، قال ابن عقيل: يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس لا المبتذلين ولا الموسوسين، وعن الإمام أحمد: أن الكثير شبر بشبر. -6ً- أكل لحم الجزور بدليلما روى جابر بن سمر رضي الله عنه (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، فتوضأ. وإن شئت، فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل) (7) ، ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه لعموم الحديث. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: من أكل وصلى ولم يتوضأ، وكان يعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء منه فعليه الإعادة، أما إن كان جاهلاً فلا إعادة عليه. ولا ينقض الوضوء بتناول بقية أجزاء الإبل كالكبد والطحال واللبن والكرش على المعتمد من المذهب، لأن الأخبار الصحيحة إنما وردت في اللحم، كذا لا ينقض الوضوء بأكل ما غيّرته النار لما روى جابر رضي الله عنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيّرت النار) (8) . -7ً- الردّة عن الإسلام: وهو أن ينطق كلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك شكاً يخرجه عن الإسلام فينقض وضوءه، قال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن [ص: 94] عملك} (9) ، وقال ابن عباس رضي الله عنها: "الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان" فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (لا تقبل صلاة أحدكم، إذا أحدث، حتى يتوضأ) (10) . -8ً- غسل الميت: أي من باشر الميت بيده، أما من صب عليه الماء فلا يجب عليه الوضوء لأن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء، ولا فرق في ذلك بين غسل المسلم والكافر أو الصغير والكبير. وعن الإمام أحمد: أن الوضوء مستحب غير واجب، فإنه قال: أحب إلي أن أتوضأ، وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكونه لحديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه والأول هو المذهب. [ص: 95]   (1) المائدة: 6. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 113/298. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 80/203. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 80/200. (5) البيهقي: ج-1 /ص 133. (6) النسائي: ج-1 /ص 100. (7) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 25/97. (8) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 75/192. (9) الزمر: 65. (10) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 2/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الباب الخامس (الغسل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تعريف الغُسل: لغة: الفعل الذي يقع من الإنسان من إراقة الماء على بدنه ودلكه. شرعاً: استعمال الماء الطهور في جميع البدن على وجه مخصوص. والأصل في شرعيته قوله تعالى: (وإن كنتم جنباً فاطهروا) (1) .   (1) المائدة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 موجبات الغسل: أولاً: نزول المني يقظة بلذة ولو بغير جماع كنظر أو تفكير أو ملاعبة. وصفاته: أن يخرج بدفق وتشتد الشهوة عند خروجه ويفتر البدن بعده. ومني الرجل أبيض ثخين، ومني المرأة أصفر رقيق لحديث أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر) (1) ، أما إن خرج بغير لذة كمرض أو ألم أو بسبب ضربة شديدة على صلبه فلا يجب الغسل، ولا يخرج بالمرض إلا رقيقاً. وإن جامع واكسل (2) فاغتسل ثم أنزل بلا لذة لم يجب الغسل لأنها جنابة واحدة فلا توجب غسلين. ثانياً نزول المني في حالة النوم ويعبر عنه بالاحتلام أو في حالة الإغماء، فمن احتلم ثم استيقظ من نومه فوجد بللاً في ثيابه أو على بدنه فإنه يجب عليه أن [ص: 96] يغتسل، وإن احتلم ولم يجد بللاً فلا غسل عليه، وإن وجد بللاً ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد بللاً ولا يذكر احتلاماً، قال: يغتسل، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل، قال لا غُسل عليه) (3) ، والمرأة كالرجل في ذلك بدليل حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة غُسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء) (4) . أما خروج المذي والودي فلا يوجب الغسل وإنما يوجب الوضوء، لما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كنت ألقى من المذي شدة وعناء فكنت أكثر منه الغسل، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته عنه فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء) (5) ، ولما روى علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً وكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) (6) . حالة الاشتباه بالخارج هل هو مذي أم مني؟ آ- يقظة: الذي يخرج منه مذي، لأن الني لا يشبه بغيره في اليقظة لأنه يخرج دفقاً وبشهوة. ب- نوماً: إن كان نومه عقيب شهوة (مداعبة أو تذكر ... ) فهو مذي لأن هذا سببهُ، وإن لم يكن كذلك فهو مني بناء على حديث السيدة عائشة رضي الله عنها المتقدم في الذي يجد بللاً، ولأن خروج المني في النوم معتاد وغيره نادر. ثالثاً: انتقال المني من مقره (الصلب عند الرجل والترائب عند المرأة) ، فإن أحس الرجل بانفصال المني من صلبه وأحست المرأة بانفصال المني من ترائبها ولو لم [ص: 97] يصل المني إلى ظاهر القُبل كأن أمسك ذكره فإنه يوجب الغسل، فإن اغتسل وذهب منه المني بعد الغسل بلا لذة فلا غسل عليه، لأنه جنابة واحدة فلا يجب به غسلان. رابعاً: التقاء الختانين بلا حائل بمقدار ما تغيب الحشفة أو بقدرها ولو لم يُنزل، لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه سأل عائشة رضي الله عنها عما يوجب الغسل قالت: على الخبير سقطت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) (7) ، أو إيلاج الحشفة في فرج أصلي ولو دبراً ولو لميت أو بهيمة (أما الفرج غير الأصلي مثل قبل الخنثى المشكل فلا غسل عليه) . وإن مات شهيدا وعليه جنابة غسّل، فإن اغتسل ثم نزل المني بعد الغسل وجب عليه غسل جديد إن نزل بلذة، أما إن نزل بدون لذة فلا غسل عليه بل ينقض الوضوء فقط. وكذلك المرأة إن نزل منيُّها بلذة بعد الغسل فعليها غسل جديد، أما إن كان الخارج منها منيُّ الرجل أو منيها ولكن بلا لذة فلا غسل عليها. خامساً: إسلام الكافر ولو مرتداً سواء كان وجد في كفره ما يوجب الغسل أم لا، وسواء اغتسل قبل إسلامه أم لا، لما روى قيس بن عاصم قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر) (8) ، وفي رواية أنه لا غسل عليه، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذاً رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) (9) ولم يأمرهم بالغسل ولو أمر لنقل نقلاً متواتراً. والرواية الأولى هي المذهب. سادساً: الموت، والعلة هنا تعبدية، ويستثنى من ذلك الشهيد والمقتول ظلماً. [ص: 98] سابعاً: الحيض أو النفاس (وهو الدم الخارج عقب الولادة) ، ويشترط لصحة الغسل انقطاعهما. أما الولادة العارية عن الدم فلا غسل عليها، وعن الإمام أحمد: يجب الغسل، لأنه لا تكاد تعرى من نفاس موجب فكانت مظنة له فأقيمت مقامه. ولا يجب الغسل من تغسيل الميت ولا من إفاقة المجنون أو المغمى عليه.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 7/30. (2) ضعف عن الجماع. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 95/236. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 7/32. (5) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 84/115. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 4/17. (7) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 22/88. (8) أبو داود: ج-1/?? كتاب الطهارة باب 131/29. (9) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 7/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ما يستحب للجنب لتخفيف الجنابة: -1- أن يتوضأ إذا أراد أن ينام، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله أيرقُدُ أحدنا وهو جنب؟ قال نعم إذا توضأ) (1) . -2- أن يتوضأ إذا أراد أن يأكل. -3- أن يغسل فرجه ويتوضأ إذا أراد معاودة الجماع. أما الحائض فلا يستحب لها ذلك لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ولا يصلح منها.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 6/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 شروط الغسل: -1- انقطاع ما يوجبه. -2- النية: أن ينوي رفع الحث الأكبر أو الغسل للصلاة. -3- الإسلام. -4- العقل. -5- التمييز. -6- أن يكون الغسل بماء طهور مباح. -7- إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة. [ص: 99] فرائض الغسل: تعميم البدن بالماء بما فيه الفم والأنف وكذا ما يظهر من فرج المرأة عند القرفصاء لقضاء الحاجة، كما يجب غسل ما تحت خاتم ونحوه. ويجب نقض ضفائر الرجل في الغسل، أما المرأة فيجب عليها أن تنقضها في الغسل من الحيض والنفاس وأما في الجنابة فلا يجب نقضها إن كان الماء يصل إلى أصول الشعر، لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنْقُضُه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضن عليه الماء فتطهرين) (1) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 12/58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 واجبات الغسل: للغسل واجب واحد وهو التسمية، وتسقط سهواً أو جهلاً. ولا يجب في الغسل الترتيب، لأن الله تعالى قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) فلم يقدم بعض البدن على بعض.   (1) المائدة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 سنن الغسل: -1- غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما إلى الإناء. -2- إزالة الأذى عن الجسم وغسل الفرج وما يليه. -3- الوضوء قبله، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما قوله تعالى: (وإن كنتم جنباً فاطهروا) ولم يأمر بالوضوء معه، ولأنهما عبادتان صغرى وكبرى من جنس واحد فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية. وعن الإمام أحمد: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ. [ص: 100] -4- التيامن: تقديم غسل الشق الأيمن على الأيسر. -5- الموالاة: وهو أن لا يجف بعض أعضائه قبل غسل الباقي. -6- الدلك: وهو إمرار اليد على الجسد. -7- إعادة غسل الرجلين بمكان آخر. -8- أن يكون الوضوء بمد والغسل بصاع. -9- تثليث غسل الأعضاء. كيفية الغسل كاملاً: -1- النية -2- التسمية. -3- غسل اليدين ثلاثاً قبل وضعهما في الإناء. -4- إزالة الأذى وغسل الفرج. -5- يتوضأ وضوءه للصلاة. -6- يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بهن أصول شعره ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر بدنه متيامناً، ثم يدلك بدنه بيده. لما روت السيدة عائشة رضي الله عنها في صفة غسله عليه الصلاة والسلام. قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه. ثم يفرغ بيمينه على شماله. فيغسل فرجه. ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يأخذ الماء. فيدخل أصابعه في أصول الشعر. حتى إذا رأى أن قد استبرأ (1) ، حفن على رأسه ثلاث حَفَناتٍ. ثم أفاض على سائر جسده. ثم غسل رجليه) (2) . وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً لجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط، [ص: 101] مرتين أو ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه قالت: فأتيته بخرقة فلم يُرِدْها) (3) . أما غسل الحيض فيزيد على غسل الجنابة بأن يستحب للمرأة أن تأخذ شيئاً من المسك أو الطيب فتتبع به أثر الدم ليزيل فورته، لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تغتسل من حيضتها؟ قال فذكرت أنه علمها كيف تغتسل. ثم تأخذ فِرْصَةً من مِسْكٍ (4) فَتَطَهَّرُ بها. قالت: قالت كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها. سبحان الله! واستتر قال قالت عائشة: واجتذبتها إليَّ. وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: تَتَبَّعي بها أثر الدم (5) .   (1) استبرأ: أي أوصل البلل إلى جميعه. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 9/35. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الغسل باب 16/270. (4) فرصة من مسك: قطعة قطن أو خرقة تستعملها المرأة في مسح دم الحيض. والمعنى تأخذ فرصة مطيبة من مسك. (5) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 13/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حكم الماء المختلى به: يجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا من إناء واحد، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أن ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة) (1) ، أما الماء الذي تختلي به المرأة فلا يجوز للرجل أن يتطهر به، لما روى الحكم بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة) (2) . ومعنى الخلوة بالماء: أن لا يشاهدها إنسان تخرج عن الخلوة في النكاح، وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل. وإنما تؤثر خلوتها بالماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الماء الكثير. والمنع من تطهر الرجل به تعبدي.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 10/45. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 40/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مكروهات الغسل: -1- يكره ترك سنة من سنن الغسل. [ص: 102] -2- يكره الإسراف في الصب. -3- تكره إراقة ماء الوضوء والغسل في مكان يداس فيه كالطريق تنزيهاً للماء لأنه أثر عبادة. -4- يكره للرجل الغسل في الحمام إن خيف الوقوع في المحرّم، أما إن أمن الوقوع في المحرّم بأن يسلم من النظر إلى عورات الناس ومسها ويسلم من نظرهم إلى عورته ومسها، فيباح له الغسل في الحمام. أما المرأة فيباح لها الغسل في الحمام بشروط: -1- الأمن من الوقوع في محرّم. -2- أن يوجد لها عذر من حيض، أو نفاس، أو جنابة، أو مرض، أو حاجة إلى الغسل، ولم تستطيع الغسل في بيتها، فإن كان لديها في بيتها حمام فيحرم عليها. -5- يكره الغسل عرياناً وإن لم يره أحد. ومن آدب دخول الحمام نذكر: -1- أن يقدم رجله اليسار في الدخول. -2- أن يغسل قدميه وإبطيه بماء بارد عند الدخول، وهو الأولى. -3- أن يقلل الالتفات. -4- أن لا يطيل المقام إلا بقدر الحاجة. -5- أن يغسل قدميه عند الخروج بماء بارد فإنه يذهب الصداع. -6- تكره القراءة فيه وكذا السلام. -7- يحرم أن يغتسل عرياناً بين الناس. ما يحرم بالحدث الأكبر: -1- يحرم بالحدث الأكبر كل ما يحرم بالحدث الأصغر، وهو الصلاة والسجود [ص: 103] للتلاوة أو الشكر وكذلك الطواف ومس المصحف لقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (1) -2- قراءة القرآن آية فصاعداً لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجُبُهُ - أو قال يحْجُزُهُ - عن القرآن شيء ليس الجنابة) (2) أما في بعض الآية روايتان: إحداهما: يحرم قراءتها لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) (3) ، والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يُمنع من قول بسم الله، الحمد لله وذلك بعض آية. ويمكن التهجية والذكر والقراءة التي لا تجزئ في الصلاة لإسرارها وكذا قراءة آيات الذكر كالبسملة والأدعية. -3- يحرم اللبث في المسجد ولو كان مصلى عيد، قال تعالى: (ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) (4) . قال صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها: (فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) (5) . أما العبور فلا مانع لقوله تعالى: (إلا عابري سبيل) ، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخُمْرَةَ (6) من المسجد. قالت فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك) (7) . وقال البعض: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب توضأ ثم دخل المسجد فجلس فيه. [ص: 104]   (1) الواقعة: 79. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 91/229. (3) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 98/131. (4) النساء: 43. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 93/232. (6) الخمرة: قال الخطابي: هي السجادة التي يسجد عليها المصلي، وسميت خمرة لأنها تخمر الوجه، أي تغطيه. (7) مسلم: ج-1 /كتاب الحيض باب 3/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الأغسال المسنونة: -1- غسل الجمعة لمن يريد حضورها وصلاتها ولو كان مسافراً أو عبداً، وأول وقته من طلوع الفجر إلى صلاة الجمعة فإن اغتسل بعدها فلا يجزئ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل) (1) ، وإن اغتسل ثم أحدث فعندها يكفيه الوضوء وغسله يجزئ. كما يجزء الغسل الواجب عن غسل الجمعة. -2- الغسل من تغسيل الميت مسلماً كان أو كافراً. -3- الغسل لصلاة يومي العيدين لحاضرها إن أراد صلاتها. فهو للصلاة لا لليوم، وأول وقته من الفجر وقيل من قبله إلى الصلاة. -4- الغسل لصلاة الكسوفين. -5- الغسل لصلاة الاستسقاء. -6- الغسل لجنون (مرض يسلب به العقل) . -7- الغسل لإغماء (ما يكون العقل به مغلوباً وهو فوق النوم) . -8- غسل المستحاضة لكل وقت صلاة. -9- الغسل عند الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما معاً حتى لحائض ونفساء. -10- الغسل لدخول مكة ولو لحائض، كما يسن لمن كان بالحرم كالذي بمنى وأوراد أن يدخل مكة. -11- لدخول حرم مكة. -12- للوقوف بعرفة. -13- لطواف الإفاضة. -14- لطواف الوداع. -15- للوقوف بمزدلفة. -16- لرمي الجمار. [ص: 105] -17- للسعي. -18- لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال الشيخ تقي الدين: نص أحمد على استحبابه الغسل لدخول المدينة. وفي حالة الضرورة أو فقد الماء يتيمم عن الأغسال المذكورة كلها، كما يستحب التيمم لما يُسن له الوضوء كقراءة القرآن والذكر إن تعذر الوضوء كما في حالة المريض والجريح والعاجز. [ص: 106]   (1) مسلم: ج-2 /كتاب الجمعة رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الباب السادس (التيمم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 تعريفه التيمم: التيمم لغة: القصد. وشرعاً: استعمال تراب مخصوص في أعضاء مخصوصة من شخص مخصوص في وقت مخصوص. دليله: القرآن والسنة والإجماع. من القرآن: قوله تعالى: (وإن كنتم جُنباً فاطهروا. وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (1) . ومن السنة: ما روى عمران بن حصين رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ... وفيه: فصلى الناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك فلما حضر الماء أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: اذهب فأفرغه على نفسك) (2) . والتيمم من خصائص هذه الأمة لم يجعله الله طهور لغيرها. [ص: 107]   (1) المائدة: 6. (2) البخاري: ج-1/كتاب التيمم باب 7/341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ماهيته: هو طهارة بالتراب تقم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله، سواء كانت الطهارة من الحدث الأصغر الأكبر أو من الخبث عن البدن، إلا أنها إذا كانت من الحدث الأصغر فينبغي مراعاة الترتيب، فمثلاً إن أراد التيمم عن عضو جريح من أعضاء الوضوء تيمم عنه في وقت غسله فيما لو كان صحيحاً، أما إذا كانت الطهارة من الحدث الأكبر تيمم عن العضو الجريح قبل الغسل أو بعده، لأنه لا ترتيب في الطهارة الكبرى. ويجوز التيمم للنجاسة على البدن بعد تخفيفها ما أمكن بمسح رطبها وحك يابسها لزوماً، ولا فرق في كون النجاسة على عضو صحيح أو جريح، فإن تيمم لها قبل تخفيفها لم يصح. ودليل جواز التيمم للنجاسة على البدن هو أن طهارة البدن مشروطة للصلاة فجاز التيمم عنها كطهارة الحدث. وفي وجوب إعادة الصلاة التي تيمم لها عن النجاسة روايتان: إحداهما: لا تجب الإعادة لأنه صلى بنجاسة. ولا يجوز التيمم عن النجاسة بغير البدن. شروط جواز صحة التيمم: أولاً: العجز عن استعمال الماء: وهنا حالتان: أ- فقد الماء. ب- الخوف على نفسه من استعمال الماء. أ- فقد الماء: دليله: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد ماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليمسه بشرته، فإن ذلك خير) (1) . حالات فقد الماء: إن انقطع عنه الماء إما بحبس الماء عنه، أو بحبسه عن الماء، كأن يقطع العدو الماء عن البلد، أو يعجز عن تناول الماء من البئر أو من غيره ولو بفم، تيمم وصلى ولا إعادة عليه. أو إن كان مسافراً ووصل إلى بلد لم يجد فيها الماء، أو كان معه ماء يحتاج إلى شربه للعطش أو لشرب رفيقه أو بهائمه، أو كان بينه وبين الماء سبع أو عدو يخاف على نفسه أو ماله إن تركه وذهب لجلب الماء، ففي كل هذه الحالات جاز له التيمم سواء كان مسافراً أو مقيماً وسواء كان السفر قصيراً أو طويلاً. وإن وجد ماء لا يكفي لطهارته إذا كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر استعماله فيما يكفي وجوباً وتيمم عن الباقي من أعضائه، ولا يصح تيممه قبل استعماله (كما لو كان بعض بدنه صحيحاً وبعضه جريحاً فإنه يلزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح) لقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) وحديث (فإذا وجد الماء، فليمسه بشرته) . وإذا وجد مريد التيمم تراباً قليلاً لا يكفيه لتيممه استعمله وصلى ثم يعيد الصلاة إن وجد ما يكفي من ماء أو تراب. وكذا إن وصل المسافر إلى الماء وقد ضاق الوقت عن طهارته به. أو علم أن نوبة استسقائه منه لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت أو دخول وقت الضرورة، عدل [ص-109] إلى التيمم لأنه غير قادر على استعمال الماء في الوقت فأشبه العادم له. أما غير المسافر فلا يعدل إلى التيمم ولو فاته الوقت لتشاغله بتحصيله أو استسقائه، لأن الله تعالى قال: {فلم تجدوا ماء} وهذا واجد له، حتى ولو خاف فوات الجنازة، أما عند الإمام أحمد رضي الله عنه فيجوز لأنه لا يمكن استدراكها. ومن أرق الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه، وهو يعلم أنه لا يجد غيره في الوقت، ولم يتوضأ، أو باعه، أو وهبه، وقد دخل الوقت ولم يترك منه شيئاً يتطهر به، فقد حرم عليك ذلك، ولم يصح البيع ولا الهبة لتعلق حق الله تعالى به كالأضحية المعينة، ثم إن لم يجد غيره تيمم وصلى وليس عليه إعادة لعدم القدرة على الماء. وإذا اجتمع الحدث الحدث ونجاسة خبث على البدن والثوب، وكان معه ماء لا يكفي للجميع، فإنه يغسل ثوبه (لأنه لا يصح التيمم عن نجاسته) بشرط سبع مرات وإلا فهو كعدمه، ثم إن فضل شيء من الماء غسل النجاسة من على بدنه، ثم إن فضل شيء تطهر به وإلا تيمم وجوباً، أما إذا كانت النجاسة في أعضاء الوضوء فيبدأ بالوضوء، لأن ماء الوضوء يرفع الحدث ويزيل الخبث.   (1) الترمذي: ج-1/الطهارة باب 92/124. (2) البخاري: ج-6/ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب 2/6858. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ب- الخوف على نفسه من استعمال الماء: وأسباب هذا الخوف هي: -1- المرض: كجروح أو قروح أو حمى، فيجوز للمكلف التيمم إذا خاف أن يؤدي استعمال الماء إلى تلف عضو أو زيادة مرض أو تباطؤ شفاء أو حدوث شين فاحش في جسمه، والدليل قوله تعالى: (وإن كنتم جُنباً فاطهروا. وإن كنتم مرضى أو على سفر) (1) وقوله أيضاً: (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم) (2) . [ص: 110] وإن كان بعض بدنه صحيحاً وبعضه جريحاً غسل الصحيح وتيمم للجريح جنباً كان أو محدثاً حدثاً أصغر، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ السؤال، إنما كان يكفي أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) (3) . وليس عليه إعادة الصلاة في جميع الأحوال حتى ولو كان الجرح في أعضاء التيمم. -2- شدة البرد: والدليل ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" (4) . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) (5) ، ولأن خاف على نفسه أشبه بالمريض. ولا إعادة عليه إن كان مسافراً، أما إن كان في حاضراً ففي لزوم الإعادة روايتان، إحداهما: لا تلزمه الإعادة، والثانية: تلزمه الإعادة، وهي الرواية المعتمدة، لأنه ليس بمريض ولا مسافر فلا يدخل في عموم الآية، ولأن الحضر مظنه إسخان الماء، فالعجز عن التسخين عذر غير متصل، وإن قدر على تسخين الماء لزمه كما يلزمه شراء الماء. ثانياً: طلب الماء: يجب على فاقد الماء طلبه بدليل قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) ولا يتحقق عدم الوجود إلا بعد الطلب، فإن تيمم قبل طلبه لم يصح تيممه، ولأنه بدل فلا يجوز العدول إليه قبل طلب المبدل. [ص: 111]   (1) و (2) المائدة: 6. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 127/336. (4) النساء: 29. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 126/334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كيفية الطلب: -1- أن ينظر يمنة ويسرة وأمامه ووراءه، فإن كان بين يديه حائل من ربوة أو حائط علاه ونظر حوله، وإن رأى خضرة أو سواها استبرأها. -2- إن كان معه رفيق سأله فإن بدله له لزمه قبوله. -3- إن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه. -4- إن علم بماء قريب لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أوفوت رفقة أو فوت الوقت. فإن تيمم ثم رأى ركباً أوشيئاً يدل على الماء كسراب ظنه ماء قبل الدخول بالصلاة لزمه الطلب لأنه وجد دليل الماء وبطل تيممه لأن من شروط التيمم الطلب، أما لو وجد الدليل وهو بالصلاة لم تبطل، لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة فلا يبطلها بالشك، وإن علم أو ظن وجود الماء آخر الوقت فيسن له أن ينتظر إلى آخر الوقت المختار، لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إذا أجنب الرجل السفر نلوم (1) ما بينه وبين آخر الوقت، فإن يجد الماء تيمم وصلى (2)) ، ولأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة بأول الوقت فضيلة فانتظار الفريضة أولى. أما إن يئس من وجود الماء استحب له أن يتيمم ويصلي بوقت الفضيلة ومتى صلى صحت صلاته ولا إعادة عليه ولو وجد الماء في الوقت، لما روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال الذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضء وأعاد: لك الأجر مرتين) (3) . وإن [ص: 112] علم في رحله ماء ونسيه فعليه إعادة، لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان، وكذا إن وجد بقربه بئراً أو غديراً علامته ظاهرة أعاد لأنه مفرط في بالطلب، وإن كانت علامته خفية لم يعد لعدم تفريطه.   (1) أي يتأنى ما بينه وبين آخر الوقت ويُلام إذا عجل وصلى. (2) البيهقي: ج-1 /ص 233. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 128/338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ثالثاً: دخول الوقت: أي دخول وقت الصلاة التي يريد صلاتها من فرض أو نافلة، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلا يصح التيمم لصلاة قبل دخول وقتها، لأنه بدخول وقتها يبطل تيممه، ولا يصح التيمم لنافلة في وقت منهي عن فعلها فيه إلا ركعتي الطواف فيصح التيمم لها في أي وقت. ويستبيح المكلف بالتيمم لمكتوبة في وقتها أن يصلي ما شاء من الفرائض أداء وقضاء ومن النوافل ما شاء قبلها وبعدها إلى أن يخرج وقتها. رابعاً التيمم بتراب: دليله: قوله تعالى: (فتيمموا صعيداً طيباً) (1) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما الصعيد: هو التراب الحرث، والطيب: الطاهر، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً وجعلت أمت خير الأمم (2)) ، فلو كان غيره طهوراً ذكره فيما منّ الله به عليه. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه يجوز التيمم بالرمل والسبخة (3) ، لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً، لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (4) . [ص: 113] شروط التراب: -1- أن يكون التراب مباحاً فلا يصح بمغصوب. -2- أن يكون التراب طاهراً. -3- أن يكون له غبار يعلق على اليد، لأن ما لا غبار له لا يمسح شيء منه. وإن ضرب بيده على أي شيء طاهر له غبار (صخرة، حائط، لباد) أبيح له التيمم به، لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه) (5) . ولا بأس أن يتيمم جماعة موضع واحد كما يتوضؤون من حوض واحد. -4- أن يكون التراب غير محترق، فلا يصح التيمم بما دق من الخزف لأنه ليس بتراب. وإن خالط التراب جصٌ أو دقيق فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات (أي إذا غلبت الطاهرات على التراب لم يصح، وإن غلب التراب على الطاهرات صح التيمم به) ، وإن خالطه ما لا يعلق باليد كالرمل والحصى فيصح التيمم به لأنه لا يمنع من وصول الغبار إلى اليد.   (1) المائدة: 6. (2) مسند الإمام أحمد: ج-1 /ص 98. (3) السبخة: طين جاف لا يزرع لصلابته. (4) البخاري: ج-1/ كتاب التيمم رقم 328. (5) الدارقطني: ج-1 /ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 خامساً: النية: أي أن ينوي استباحة مالا يباح إلا به، فإن نوى استباحة فرض صلاة مكتوبة استباح كل شيء معها لأنه تابع لها، وإن نوى استباحة الصلاة أو استباحة نفل يبح له الفرض ويباح له ما دون ذلك بما فيها صلاة الجنازة إن لم تكن متعينة عليه، أما إن كانت متعينة عليه، كأن لم يوجد أحد يصلي على هذه الجنازة إلا هو، فيصبح حكمها فرضاً وعندها لا يستطيع صلاتها بنية استباحة الصلاة أو استباحة [ص: 114] نفل بل لا بد من ذكر استباحة فرض الصلاة. وإن نوى استباحة تلاوة القرآن لم تبح له الصلاة بكل أنواعها، لأنها أعلى من التلاوة. وإن نوى بالتيمم رفع الحدث لم يجزئه، لأن التيمم لا يرفع حدثاً، وعن الإمام أحمد: أنه يرفع حدثاً فعندها يكون حكمه حكم الوضوء بنيته. وأما إن نوى بتيممه استباحة شيء يشترط له الطهارة استباحة واستباح مثله وما دونه، وترتيب هذه الأشياء كما يلي: فرض عين (الصلاة المكتوبة وطواف الإفاضة) فالنذر ففرض الكفاية فنافلة الصلاة والطواف فمس المصحف فالتلاوة فالمكث في المسجد. سادساً: الإسلام. سابعاً: العقل. ثامناً: التمييز. تاسعاً: الاستنجاء أو الاستجمار المستوفيان للشروط. أركان التيمم: أولاً: تعيين النية لما يتيمم له هل هو الحدث الموجب للغسل أو الوضوء أو من نجاسة فيقول: نويت التيمم لاستباحة فرض الصلاة عن الحدث الأكبر أو الأصغر أو النجاسة، فإن نوى التيمم عن الحدث الأصغر ونسي الجنابة لم يجزئه، أو نسي الحدث وتيمم. عن الجنابة لم يجزئه والأفضل أن يقول: نويت التيمم لاستباحة فرض الصلاة من الحدث الأكبر والأصغر. محلها: لا يشترط فيها مقارنة عند وضع يده على ما يتيمم به بل يصح تقدمها عن المسح بزمن يسير. ثانياً: مسح جميع الوجه بباطن أصابع كفيه بيده واحده أو أصبع، ويدخل في الوجه اللحية ولو طالت، وكذا الوترة (1) ، وما غار من الأجفان، وما بين [ص: 115] العذار، وكذا ما تحت الوتد من البياض الذي بين الأذن والعذر. ولا يتتبع ما غار من بدنه، ولا ما تحت شعره ولو خفيفاً، ولا داخل الأنف والفم. ثالثاً: مسح ظاهر اليدين إلى الكوعين بباطن راحتيه، ويجب أن ينزع ما ستر شيئاً منها كالخاتم، والدليل على ذلك أن الله تعالى إذا علق حكماً بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع كقطع يد السارق في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (2) . ويصح أن يمرّ العضوَ الواجب مسحه على التراب فيمسحه به، أو ينصبه للريح أي يعرضه للريح والتراب ثم يمسحه، أما إن سفته الريح من غير قصد فلا يجزئ. ودليل مسح الوجه واليدين إلى الكوعين ما روي عن عمار رضي الله عنه أنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرَّغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة. ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه) (3) . رابعاً: الترتيب: وهو مسح الوجه أولاً ثم اليدين لحدث أصغر، لأن التيمم مبني على طهارة الماء وهو فرض في الوضوء دون ما سواه. خامساً: الموالاة بين مسح الوجه ومسح اليدين إذا كان التيمم عن الوضوء، وكذا الموالاة بين التيمم ومتابعة الوضوء في الطهارة الصغرى إذا كان التيمم عن عضو جريح، فإذا جعل فاصل بين التيمم ومتابعة الوضوء بطل التيمم.   (1) وهي الحاجز بين طاقتي الأنف. (2) المائدة: 38. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 28/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 واجبات التيمم: للتيمم واجب واحد هو التسمية ولو كان التيمم عن نجاسة ببدنه، وتسقط التسمية بالسهو والجهل، ويبطل التيمم بتركها عمداً. [ص: 116] سنن التيمم: -1- يسن أن يضرب على التراب ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين. -2- يستحب أن يمسح اليدين إلى المرفقين خروجاً من خلاف من أوجبه. -3- أن يغرق الأصابع عند الضرب ليدخل التراب فيما بينها. -4- أن ينفض التراب إن كان كثيراً قبل المسح. -5- أن يمسح إحدى راحتيه بالأخرى وأن يخلل بين الأصابع. -6- أن يأتي بالشهادتين مع ما بعدهما كما في الوضوء. ويجوز أن ييممه غيره كما يجوز أن يوضئه غيره. كيفية التيمم: -1- ينوي استباحة ما يتيمم له (فرض صلاة، طواف ... ) مع تعيين الحدث الذي يتيمم عنه، كأن يقول نويت التيمم عن الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر أوعن العضو الجريح لاستباحة فرض الصلاة. -2- التسمية. -3- يضرب التراب بيديه مفرجة الأصابع، فإذا كان التراب ناعماً ووضع يديه وضعاًعلى التراب دون ضرب فعلق التراب بيديه أجزأه، والأحوط أن تكون ضربتان ضربة لمسح وجهه وضربة لمسح يديه إلى المرفقين بعد نزع الخاتم ونحوه يمسح بالضربة الأولى وجهه وبالثانية يديه، فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف، فإذا بلغ الكوع قبض أطراف أصابعه على حرف الذراع وأمرها إلى مرفقه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها عليه ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمرّ الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح بيده اليمنى يده اليسرى مثل ذلك، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين أصابعهما. أما إذا كانت ضربة واحدة مسح بباطن أصابع يديه ووجهه وبباطن الكفين ظهر الكفين إلى الكوع. [ص: 117] مبطلات التيمم: أولاً: يبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها لأنه بدل عنها، فإن كان تيممه عن الوضوء بطل تيممه بأحد نواقض الوضوء، وإن كان تيممه عن غسل بطل تيممه بطروء موجب من موجبات الغسل، أما إن كان تيممه عن وضوء وغسل بطل تيممه بناقض من نواقض الوضوء ولم يَعُدْ محدثاً حدثاً أكبر. ثانياً: القدرة على استعمال الماء سواء وجده أثناء الصلاة أو قبلها لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) (1) دل بمفهومه أن الصعيد ليس بطهوره عند وجود الماء، ودل بمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده، فعلى هذا إن وجده وهو في الصلاة خرج وتوضأ واغتسل إن كان جنباً واستقبل الصلاة كما لو أحدث أثنائها. أما إن وجد الماء أو قدر على استعماله بعد الصلاة فلا إعادة عليه ولو لم يخرج الوقت، والطواف كالصلاة. ثالثاً: خروج الوقت يبطل التيمم بكل أنواعه، لأنها طهارة عذر وضرورة فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة، فإن خرج الوقت وهو في الصلاة بطل تيممه كما لو أحدث أثناء الصلاة. رابعاً: ذكر بعض السادة الحنابلة أن التيمم يبطل فيما لو خلع خفيه أو عمامته، لأنهما من مبطلات الوضوء لكن الأرجح أن لا يبطل، لأن التيمم طهارة لم يمسح على الخفين أو العمامة فيها فلا تبطل بخلعها.   (1) الترمذي: ج-1 / الطهارة باب 92/124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فاقد الطهورين: إذا عدم المكلف الماء والتراب، أو عجز عن استعمالهما لمرض شديد، أو حبس في مكان ليس فيه ما يصح به التيمم أو الوضوء، فإنه يجب عليه أن يصلي في [ص: 118] الوقت بدون وضوء وبدون تيمم، لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، واستقبال القبلة، ويصلي صلاة حقيقية ولا يعيد تلك الصلاة (وفي رواية أخرى: تلزمه الإعادة، لأن عدم الماء والتراب عذر نادر غير متصل أشبه نسيان الطهارة) إلا إنه يجب عليه أن يقتصر في صلاته على الفرائض والشروط التي لا تصح الصلاة إلا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الباب السابع (الحيض والاستحاضة والنفاس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الحيض: تعريفه: الحيض لغة السيلان. وفي اصطلاح الفقهاء: دم جبلة، يخرج من رحم المرأة مع الصحة، من غير سبب ولادة أو، في أوقات معلومة. والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً فهو دم فساد، بخلاف الشافعية والمالكية، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ الحامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) (1) أي تعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أن الحيضة لا تجتمع مع الحمل.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب النكاح باب 45/2157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 سن الحيض: أقل سن تحيض به المرأة تسع سنين لقول عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة". وأكثر سن تحيض به خمسون عاماً، فإن رأت دم بعده فهو دم فاسد، لأن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض"، ولقولها أيضاً: "لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين". مدة الحيض: أقله: يوم وليلة بشرط أن يكون الدم نازلاً كالمعتاد في زمن الحيض بحيث لو وضعت قطنة لتلوثت بالدم، والمراد باليوم والليلة (24) ساعة فلكية، فلو رأت الدم وانقطع قبل مضي هذه المدة لا تعتبر المرأة حائضاً (أما عند الإمام أحمد أقله يوم فلو انقطع الدم لأقل منه فهو فساد) . [ص: 120] أكثره: خمسة عشر يوماً مع لياليها، فإذا رأت الدم بعد ذلك فإنه ليس بحيض. ولا عبرة في هذا التقدير بعادة المرأة، فلو اعتادت تحيض ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام ثم تغيرت عادتها فرأت الدم بعد هذه المدة فإنها تعتبر حائضاً إلى خمسة عشر يوم. غالبه: ستة أو سبعة أيام، لما روته حمنة بنت جحش رضي الله عنها في حديث لها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: إنما هي ركضة من الشيطان فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي، فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة، وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن أو طهرهن) (1) مدة الطهر: أقل مدة الطهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً (2) ، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في الشهر. فقال لشريح قل فيها. فقال: "إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدون أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك الصلاة فيها وإلا هي كاذبة" فقال علي رضي الله عنه: "قالون" يعني جيداً وهذا اتفاق بينهما. ولا يمكن ذلك إلا إذا كان الطهر ثلاثة عشر يوماً. أما أكثر مدة الطهر بين حيضتين فلا حد له لأن من النساء من تطهر شهور أو سنة ومنهن من لا تحيض أبداً. أما غالب الطهر هو أربعة وعشرون يوماً أو ثلاثة وعشرون يوماً.   (1) الترمذي: ج-1/ كتاب الطهارة باب 95/128. (2) سواء كان الطهر واقعاً بين دمي حيض أو بين دمي حيض ونفاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ما يحرم بالحيض: -1ً- الصلاة: عائشة رضي الله عنها قالت عن فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أطهر.. فقال صلى الله عليه وسلم: ... فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (1) . [ص: 121] -2ً- الصيام: لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (أليس إذا حاضت -يعني المرأة- لم تصل ولم تصم) (2) . -3ً- الطواف: لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت في الحج: (افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (3) . -4ً- قراءة القرآن: لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) (4) -5- مس المصحف: لقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (5) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: (أن لا يمسَّ القرآنَ إلا طاهرٌ) (6) . -6ً- اللبث في المسجد: لقوله صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها: (فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) (7) . أما المرور فجائز إن أمنت تلويثه. -7ً- يحرم الوطء في الفرج لقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) (8) أما الاستمتاع بها في غير الفرج فلا يحرم، لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء غير النكاح) (9) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت إحدانا، إذا كانت حائضاً، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإزار، ثم يباشرها) (10) ، ولأن الوطء حُرِّم للأذى فاختص بمحله، فإذا كان الوطء قبل انقطاع الدم فعليه دينار أو نصف دينار إن قدر وإلا سقطت عنه الكفارة، ووجبت عليه التوبة سواء كان الوطء بأول الحيض أو بآخره، وسواء كان الواطئ مكرهاً أو جاهلاً الحيض أو التحريم ناسياً. ومحل ذلك إذا لم يترتب [ص: 122] عليه مرض أو أذى شديداً وإلا كان حراماً حرمة مغلظة بالإجماع. كما يحرم على المرأة أن تمكن الواطئ من وطئها في الفرج فإذا طاوعته على ذلك فعليها كفارة مثل ما على الرجل. -8ً- يحرم إيقاع الطلاق، فإن طلقها فهو طلاق بدعة لما فيه من تطويل العدة، إلا أنه يقع ويؤمر بمراجعتها إن كانت لها رجعة.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الحيض باب 8/300. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الحيض باب 6/298. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الحيض باب 7/299. (4) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 98/131. (5) الواقعة: 79. (6) شرح الرزقاني على الموطأ: ص-106. (7) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 93/232. (8) البقرة: 222. (9) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 3/16. (10) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض /1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الأحكام المتعلقة بالحيض: -1- سقوط وجوب قضاء الصلاة دون الصيام، لما روي عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرُوريَّة أنت؟ قلت لست بحرورية. ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) (1) . -2- منع صحة الطهارة، لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها. -3- وجوب الغسل عند انقطاعه والنقاء منه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم ... فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) (2) . -4- وجوب الاعتداد به، فلا تنقضي العدة في حق المطلقة وأشباهها إلا به، لقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (3) . -5- حصول البلوغ به لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار) (4) . [ص: 123]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 15/69. (2) مسلم: ج-1/ الحيض باب 14/65. (3) البقرة: 228. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 132/655. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الأحكام المتعلقة بانقطاع الحيض وقبل الطهارة: إذا انقطع الحيض ولم تغتسل المرأة زالت أربعة أحكام متعلقة فيه وهي: -1- سقوط فرض الصلاة. -2- منع صحة الطهارة. -3- تحريم الصيام. -4- تحريم الطلاق. أما باقي المحرمات فتبقى حتى تغتسل. وتحريم الوطء باقٍ لأن الله تعالى قال: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن} (1) قال مجاهد: حتى يغتسلن. فإن لم تجد الماء تيممت وحل وطؤها لأن التيمم قائم مقام الغسل، وكذا إن تيممت للصلاة حل وطؤها. وإن كان الوطء قبل طهرها فعليه كفارة نصف دينار، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في الرجل يقع على امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بنصف دينار) (2) . أما إن كان الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الطهر فلا كفارة فيه.   (1) البقرة: 222. (2) الترمذي: ج 1 / الطهارة باب 103 / 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مدة حيض المبتدئة: إذا رأت المرأة الدم في سن تحيض لمثله النساء (تسع فما فوق) فتترك الصلاة والصوم، لأن دم الحيض وعادة جبلة وعادة ودم الفساد عارض لمرض ونحو والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم وليلة فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك تركت الصلاة والصوم يوماً وليلة، فإن انقطع لذلك اغتسلت وصلت وكان ذلك حيضها، وإن واجبة بيقين وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه فلا تسقط العبادة بالشك. فإن انقطع دمها ولم يعبر أكثر الحيض اغتسلت غسلاً ثانياً ثم تفعل ذلك في شهرين [ص: 124] آخرين. فإن كان في أشهر كلها مدته واحدة علمت أن ذلك حيضها فانتقلت إليه وعملت على أساسه، وأعادت ما صامت من فرض فيه لأنه تبين أنها صامت في حيضها. المبتدئة المميزة: أي التي دمها متميز فبعضه أسود وبعضه أحمر. فإن عبر دمها أكثر الحيض فهو استحاضة، فتنظر في دمها، فإن كان بعضه أسود ثخيناً منتناً وبعضه رقيقاً أحمر، وكان الأسود لا يزيد على اكثر الحيض ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود فتجلسه، فإذا خلفته بدم أحمر رقيق فهي مستحاضة تغتسل للحيض وتتوضأ للصلاة وتصلي، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أَطْهُر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. إنما ذلك عِرْق وليس بالحيضة. فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) (1) ، وفي رواية عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يُعْرَف - أو يُعْرِف - أي يعطي رائحة، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق) (2) .   (1) مسلم: / ج 1 / كتاب الحيض باب 14 / 62، يعني بإقباله: سواده ونتنه وبغباره: رقته وحمرته. (2) النسائي: ج 1 / ص 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المعتادة: كل ما تراه المرأة أثناء عادتها من دم أو صفرة أو كدرة أو غيرها فهو حيض، لقول عائشة رضي الله عنها: (لا تعجلن حتى تَرَيْنَ القصَّة البيضاء) (1) . قال مالك وأحمد رضي الله عنهما: هي ماء أبيض يتبع الحيضة.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 تغير العادة: هناك حالات: أولاً: نقيت المرأة قبل انتهاء عادتها: تغتسل وتصلي، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل) (1) وهناك حالتان: أ- عاودها الدم في عادتها: هو حيض ومع ذلك لا تعيد ما صامته أثناء طهرها. ب- عاودها الدم في عادتها: -1- وعبر أكثر الحيض: فهو استحاضة. -2- ولم يعبر اكثر الحيض ولكنه تكرر ثلاثاً: فهو حيض، وإلا فلا لأنه لم يصادف عادة فلا يكون حيضاً بغير تكرار. ثانياً: رأت الدم في غير عادتها قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها أو طهرها فيه: لا تترك الصلاة والصوم حتى يتكرر ثلاثاً. وعن الإمام أحمد: أنها تصير إليه من غير تكرار، واختاره جمع وعليه العمل ولا يسع النساء العمل بغيره. وقيل هو الصواب: إذ يصعب على النساء التقيد بالتكرار. ثالثاً: أن ينضم إلى العادة ما يزيد بمجموعة عن أكثر الحيض: وهناك حالتان: آ- ذاكرة لعادتها: إما غير مميزة فتجلس قدر عادتها ثم تغتسل بعدها وتصلي وتصوم، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) (2) . أو مميزة: ففيها روايتان: إحداهما: تعمل بالعادة وهو المعتمد، والثانية تعمل بالتمييز. ب- ناسية لعادتها: إن كانت مميزة فتعمل بالتمييز، أو كانت غير مميزة: [ص: 126] -1ً- المتحيرة: وهي الناسية لوقت العادة ولعددها فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أو سبعة (وعن الإمام أنها ترد إلى عادة النساء) تترك خلالها الصلاة والصيام بالاجتهاد في العدد بين الست والسبع. -2ً- تعلم عددها وتنسى وقتها: فتجلس قدر أيامها من أول كل شهر على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر تجلسه بالتحري. -3ً- تذكر وقتها وتنسى عددها: فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحير. فتجلس في موضع حيضها من أوله غالب الحيض ستاً أو سبعاً بالتحري إن اتسع له شهرها في كأن يكون شهرها عشرين فتجلس في أوله ستاً أو سبعاً ثم تغتسل وتصلي بقية العشرين.   (1) المحلى لابن حزم: ج-2 /ص 269. (2) مسلم: ج-1 / كتاب الحيض باب 14/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أنوع العادة: متفقة ومختلفة. -1ً- المتفقة: أن تكون أياماً متساوية، مثل من تحيض خمسة أيام من كل شهر. -2ً- المختلفة: مثل من تحيض في شهر ثلاثة وفي الثاني أربعة وفي الثالث خمسة ثم تعود إلى الثلاثة. التلفيق: إذا رأت المرأة يوماً دماً ويوماً طهراً فإنها تغتسل وتصلي في زمن الطهر، لقول ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم: (لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل) . ثم إذا انقطع الدم لخمسة عشر فما دون فجميعه حيض وتغتسل عقب كل يوم وتصلي في الطهر. وإن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة ترد إلى عادتها، فإن كانت عادتها سبعة أيام متوالية جلست ما وافقها من الدم فيكون حيضها منه ثلاثة أيام أو أربعة أيام. وإن كانت ناسية جلست سبعة أيام. مسائل: -1ً- إذا رأت الدم (3) أيام، وطهرت بعدها (12) يوماً، ثم رأت الدم (3) أيام، فالمجموع ويساوي (18) يوماً زاد على أكثر الحيض، فيعتبر [ص: 127] مجموع الـ (3) أيام مع الـ (12) يوماً وهو خمسة عشر يوماً حيض، والدم الثاني استحاضة لأنه جاوز الخمسة عشر فلا يحسب من الحيض، وما بيته وبين الدم الأول أقل من الطهر فهو ليس بحيضة ثانية. -2ً- رأت الدم (3) أيام، وطهرت بعدها (13) يوماً، ثم رأت الدم (3) أيام، فالمجموع (19) زاد على أكثر الحيض، فنقول أن المجموع (3) و (13) يساوي (16) فلا يمكن أن يكون الدم الثاني من الحيض الأول لتجاوز المجموع الخمسة عشر يوماً وهي أكثر مدة الحيض، ويمكن أن يكون حيضة ثانية لأنه بينه وبين الدم الأول (13) يوماً وهي أقل مدة الطهر، هذا فيما إذا تكرر ذلك أكثره من مرة، فيكون تبين أن طهرها (13) يوماً دائماً. -3ً- رأت الدم يومين، وطهرت بعدها عشرة أيام، ثم رأت الدم ثلاثة أيام، فالمجموع خمسة عشر لم يزد على أكثر الحيض، فيعتبر عندئذ المجموع كله حيض فيما إذا تكرر أكثر من مرة. الاستحاضة: الاستحاضة هي دم ليس بحيض ولا نفاس، فكل ما زاد عن أكثر الحيض، أو نقص عن أقله، أو سال قبل سن الحيض فهو استحاضة. وهو دم فساد ناتج عن مرض. حكم المستحاضة: حكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها، لأنها نجاسة غير معتادة أشبه بثلث البول. فإن اختلط حيضها باستحاضتها فعليها الغسل عند قطع الحيض، ومتى أرادت الصلاة غسلت فرجها وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها، واستوفقت بالشد والتلجم، ثم توضأت ونوت فرائض الوضوء لاستباحة فرض الصلاة، (حكم وضوئها كحكم التيمم) ، وصلت، لحديث حمنة بنت جحش قالت: (قلت يا رسول الله إني استحاض حيضاً كثيرة [ص: 128] شديدة فما تأمرني فيها، قد منعتني الصيام والصلاة؟ قال: أنِعتُ لك الكُرْسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوباً. قالت: هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجاً. ثم قال: إنما هي ركضة من الشيطان) (1) . وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن امرأة كانت تُهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لتنظُر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر لثوب ثم لتصلِّ فيه) (2) . وإن خرج الدم بعد الوضوء فلا شيء عليها لأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها حتى يخرج الوقت فتبطل به طهارتها وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (واغتسلي ثم توضئي لكل صلاة، وصلي) (3) . فهي طهارة عذر وضرورة فتقيدت بالوقت كالتيمم، ولو توضأت قبل دخول الوقت فيبطل وضوؤها بدخوله كما في التيمم. فإن انقطع الدم بعد الوضوء وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه في طهارتها، لأنه وقت لا تتمكن من أداء الصلاة فيه في طهارة كاملة وإن لم تكن لها عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة طويلة لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة بطلت. وحكم من به سلس بول، أو مذي، أو ريح، أو جرح لا يرقأ دمه، حكمها في ذلك إلا أن ما لا يمكن عصبه يتركه كما هو ويصلي فقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يعثف دماً   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 95/128. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 108/274. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 113/298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ما يسن للمستحاضة: -1ً- لا توطأ المستحاضة إلى لضرورة لأنه أذى في الفرج، وإن خاف على نفسه العند أبيح له الوطء، وفي رواية يحل له، والفرق بين الوطء في الاستحاضة وبين الوطء في الحيض هو أن الوطء في الحيض ربما يتعدى ضرره إلى الولد فإنه قيل قد يأتي الولد مجذوماً، بخلاف الوطء في الاستحاضة. -2ً- يستحب لها الغسل لكل صلاة، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة) (1) ، وعن حنا بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم استفتيه وأخبره ... قال: فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين، وكذلك فافعلي، وصومي إن قويتي على ذلك) (2) .   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 111/292. (2) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 95/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 النفاس: تعريفه: هو الدم الخارج عقب الولادة أو قبلها بيومين أو ثلاثة (مع وجود أمارة كالطلق) لأن سبب خروجه الولادة، أما إن خرج قبل ذلك فهو دم فساد لأن الحامل لا تحيض. ولا يعتبر الدم الخارج عقب الولادة نفاساً إلا بوضع ما تبين فيه خلق إنسان، وأقل ما يتبن فيه خلق إنسان واحد وثمانون يوماً، فلو وضعت علقة أو مضغة لا تخطيط فيها فلا يثبت لها حكم النفاس، وكذا إذا وضعت كتلة ليس فيها خلق شيء (حمل عنقودي) فلا نفاس لها. أما السقط فقيل فيه: وسقطٌ لأربعة أشهر كالمولود حياً يغسل ويكفن ويُصلى عليه وبالتالي يثبت لها حكم النفاس. [ص: 130] حكمه: حكم الحيض تماماً فيما يحرم ويجب ويسقط به، لأنه دم حيض متجمع احتبس لأجل الحمل. أكثره: أربعون يوماً لما روت أم سلمة رضي الله عنها، (كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة) (1) فإذا رأت الدم بعد الأربعين فهو دم فساد، وإن صادف عادة الحيض فهو حيض. أقله: ليس لأقله حد، ففي أي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي. ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين. فإن عاودها الدم في مدة النفاس فهو مشكوك فيه لذا تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً، لأن الصوم واجب بيقين فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه، ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه. ويفارق الحيضُ المشكوك فيه النفاسَ لكثرة الحيض وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه. تعقيب: يجوز للرجل أن يشرب دواء غير محرم ليمنع الجماع، ويجوز للمرأة شرب دواء لإلقاء النطفة وحصول الحيض، أو شرب دواء لقطع الحيض إن أمنت الضرر. ولا يجوز لأحد أن يسقيها بغير علمها ما يقطع حيضها لإسقاط حقها من النسل، أما شرب ما يمنع الحمل مطلقاً فلا يجوز. [ص: 131]   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 121/311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كتاب الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الباب الأول (تعريف الصلاة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 لغة: الدعاء بخير، بدليل قوله تعالى: (وصلّ عليهم) (1) أي ادع لهم وأنزل رحمتك عليهم. وشرعاً: قربة (2) فعلية (3) ذات إحرام وسلام، أو أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وقيل هي سجود (فتشمل سجود التلاوة فهو صلاة) .   (1) التوبة: 103. (2) القربة: ما يتقرب به إلى الله تعالى. (3) فعليه: ما يشمل أفعال الجوارح من ركوع وسجود وفعل اللسان من قراءة وذكر وعمل قلب من خشوع وخضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حكمها: فرض، ودليل فرضيتها من الكتاب قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) (1) . أي مفروضاً بوقت معلوم، وقد فرضت الصلاة بمكة ليلة الإسراء قبل الهجرة. ومن السنة حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) (2) . وقد أجمعت الأمة على فرضيتها، فمن أنكر ذلك فهو مرتد عن دين الإسلام بلا خلاف [ص: 134]   (1) النساء: 103. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 5/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عدد الصلوات المفروضة: خمس، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) (2) ، وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل عن الإسلام: (خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطَّوَّع) (2) . وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأتِ بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) (4) .   (1) الحشر: 7. (2) مسلم: ج-1 /كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 51/283. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 2/8. (4) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب الوتر/1420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 حكم تارك الصلاة: -1ً- من تركها متهاوناً بها معتقداً بوجوبها وجب قتله، لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (1) مما يدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على قتال مانعي الزكاة، والصلاة آكد منها، ولكن لا يقتل تاركها حتى يستتاب ثلاثة أيام ويُضيَّق عليه ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها ويقال له: إما أن تصلي وإما أن تقتل، فإن تاب ترك وإلا قتل بالسيف. والتساؤل هنا هل قتله حد أو بسبب كفره فهناك روايتان، الأولى: لكفره فهو كالمرتد في أحكامه لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [ص: 135] يقول: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (2) ، ولأن الصلاة لا تسقط عن المكلف بنيابة شخص ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين وهذا الرأي هو المعتمد. والرواية الثانية: أنه يقتل حداً كالزاني المحصن، للحديث المتقدم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خمس صلوات كتبهن الله ... ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد: إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) (3) فلو اعتبر كافراً لما دخل في حكم المشيئة وفق ما ورد في الحديث، ولما روي عن عبادة بن الصامت أيضاً - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار) (4) ، وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله) (5) . -2- من جحد وجوبها فهو مرتد وتجري عليه أحكام المرتد ويقتل بعد استتابته ثلاثة أيام إن لم يتب ويكون قتله كفراً بإتفاق.   (1) التوبة: 5. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 35/134. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 337/1420 (4) الترمذي: ج-5/ كتاب الإيمان باب 17/2638. (5) ابن ماجة ج-2/ كتبا لزهد باب 37/4312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أوقات الصلاة أولاً صلاة الظهر: أول وقتها: هو زوال الشمس، لما روى أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس) (1) أي عندما تكون الشمس في منتصف السماء عمودية على الأرض تقريباً. وآخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثله، مضافاً إليه القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمَّني جبريل [ص: 136] عليه السلام عند البيت مرتَيْن، فصلى الظهر في الأولى منها حين كان الفيء مثل الشراك (2) ، ثم صلى العصر حين كان كلُّ شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين بَرَقَ الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله، لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كلّ شيء مِثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليَّ جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك؛ والوقت بين هذين الوقتين" (3) . ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد تناهي قصره. والأفضل تعجيلها في أول الوقت إلا في شدة الحر فيستحب الإبراد بها، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اشتد الحر فأبرِدوِا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم (4) ، وإلا مع الغيم لمصلِ في جماعة يؤخرها لقرب وقت العصر.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب مواقيت الصلاة باب 10/516. (2) أي استبان الفيء في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال فصار في رؤية العين كقدر الشراك والشراك هو سير النعل الذي على ظهر القدم. (3) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 113/149. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 32/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ثانياً صلاة العصر: وهي الوسطى، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً) (1) . أ- وقت اختيار: ويبدأ من أول وقتها إذا صار الظل كل شيء مثله سوى ظل الزوال، ويستمر إلى أن يصبح ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم: (ثم صلى العصر حين كل شيء مثل [ص: 137] ظله ... وصلى المرة الثانية ... العصر حين كان ظل كل شيء مثليه) . وعن الإمام أحمد: أن آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) (2) فينتهي وقت الاختيار. ب- وقت جواز (وقت ضرورة) : ويستمر إلى وقت غروب الشمس، ومن أدرك جزءاً منها قبل الغروب فقد أدركها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك) (3) . ج- وقت فضيلة والأفضل تعجيلها في أول الوقت لحديث أبي برزة رضي الله عنه عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... وكان يصلي الظهر حين تزول الشمس والعصر، يذهب الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية..) (4) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 36/205. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/173. (3) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 30/165. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 40/235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثالثاً: صلاة المغرب: أول وقتها: إذا غربت الشمس. آخره: إذا غاب الشفق الأحمر، لحديث بريدة رضي الله عنه أن رجلاً سأل عن وقت الصلاة وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً حين غابت الشمس ... فلما أن كان اليوم الثاني ... صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم) (1) وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) (2) . [ص: 138] ويكره تأخير صلاة المغرب عن أول وقتها، لأن جبريل عليه السلام صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في المرتين في أول وقتها، وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة. والعصر والشمس نقية. والمغرب إذا وجبت (3) ... ) (4) . إلا ليلة جمع لنحرم قصد المزدلفة فيجمع المغرب مع العشاء جمع تأخير، أما إذا وصل إلى مزدلفة قبل الغروب فيصلي كلاً من المغرب والعشاء على حدة. ويسن تأخيرها في الغيم لمصل في جماعة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/176. (2) مسلم: ج-1/ المساجد باب 31/173. (3) وجبت الشمس أي غابت. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 40/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 رابعاً: صلاة العشاء: أول وقتها: إذا غاب الشفق الأحمر. وآخره: إلى طلوع الفجر الثاني. ولها وقت اختيار: من غياب الشفق إلى ثلث الليل الأول، لحديث بريدة رضي الله عنه وفيه: (فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره ... فلما أن كان اليوم الثاني أمره .... وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل) (1) ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة) (2) . وعن الإمام أحمد: آخره الوقت المختار نصف الليل الأول، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات؟ فقال: ... ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل) (3) . والأفضل تأخير صلاة العشاء، لما روى أبو برزة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث [ص: 139] بعدها) (4) ويستحب أن يراعي الإمام حال المأمومين، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر: والعشاء أحياناً يؤخرها وأحياناً يعجل، كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا آخَّر) (5) . أما وقت الجواز أو الضرورة فيستمر إلى طلوع الفجر الثاني.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/176. (2) البيهقي: ج-1/ ص-373. (3) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/174. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 40/237. (5) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 40/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 خامساً: صلاة الفجر: أول وقتها: طلوع الفجر الثاني، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده. وآخر وقته: إذا طلعت الشمس. وقت اختيار: من طلوع الفجر إلى الإسفار، لما روى بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ( ... ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني: صلى الفجر فأسفر بها ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم) (1) ، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم عن صلاة جبريل عليه السلام. والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لقد كان نساء من المؤمنات يشهد الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَلَفِّعاتٍ بمُرُوطهنَّ ثم ينقلبن إلى بيوتهن وما يُعْرفْن. من تغليس (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة) (3) . وعن الإمام أحمد: أنه يُراعى حال المأمومين فإن أسفروا فالإسفار أفضل كما ذكرنا في العشاء. [ص: 140] حالة من شك بدخول الوقت: لا يصلي حتى يتيقن أو يغلب على ظنه دخول الوقت، فإن أخبره ثقة عن علم عمل به وإن أخبره عن اجتهاد لا يقلده، ويجتهد حتى يغلب على ظنه دخول الوقت، وإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده أجزأه، وإن كان صلى قبل الوقت لم يجزئه لأنه صلى قبل الوجوب. متى تجب الصلاة؟ تجب الصلاة في أول الوقت لأن الأمر بها يتعلق في أول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولكن أول الوقت هو سبب الوجوب تثبت عقبه كسائر الأسباب. فلو حاضت المرأة بعد دخول جزء من الوقت لزمها القضاء. بل هناك رأي يقول: إن من أدركت جزءاً من الوقت لزمها قضاء الظهر والعصر لأنها أدركت إحدى صلاتي الجمع فلزمتها الأخرى كمن أدركت جزءاً من الوقت. وقيل: بل لا يلزمها قضاء العصر، بخلاف ما لو أدركت وقت العصر، فإنها إن نقيت قبل الغروب لزمتها صلاتا الظهر والعصر. وكذا يقال في المغرب والعشاء متى تُدرك الصلاة أداء؟ روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) (4) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها) (5) . وتدرك الصلاة أداء بإدراك تكبيرة الإحرام في وقتها فإذا كبر للإحرام قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر وكانت أداءً وإذا: بر للإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر أداءً. وكذا وقت الجمعة يدرك بتكبيرة الإحرام. [ص: 141]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/176. (2) من تغليس رسول الله: أي من أجل إقامتها في غلس. وهو ظلمة آخر الليل بعد طلوع الفجر. (3) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 40/231. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 30/161. (5) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 30/164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الأعذار المبيحة لتأخير الصلاة عن وقتها: -1- النوم والنسيان والغفلة عن دخول الوقت ولو كان ناشئاً عن تقصير -2- المرض. -3- السفر. قضاء الفوائت ووقته: يجب قضاء الفوائت على الفور وقبل الحاضرة، لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصليها إذا ذكرها فإن الله يقول: أقم الصلاة لذكري) (1) . وتسقط الفورية بما يلي: -1- إذا خشي فوات الحاضرة، أي ضاق الوقت بحيث لا يسع إلا الحاضرة، قدم الحاضرة كي لا تصبح فائتة. -2- إذا نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) . -3- إذا كان هناك متسع من الوقت، وكان مأموماً في صلاة حاضرة وذكر الفائتة، أتم الحاضرة خلف الإمام ثم يقضي الفائتة ثم يعيد الحاضرة. -4- إذا كان منفرداً وذكر الفائتة أثناء أداء الحاضرة، قيل يتمها ثم يقضي الفائتة ثم يعيد الحاضرة، وقيل يقطع الحاضرة ويصلي الفائتة ثم الحاضرة. ويشترط في القضاء الترتيب بين الفوائت، فإن كثرت عليه قضاها متتابعة، ما لم تشغله عن معيشته أو تضعفه في جسده حتى يخشى فوات الحاضرة فيصلي [ص: 142] الحاضرة ثم يعود إلى القضاء. وعن الإمام أحمد: إذا كثرت الفوائت ولم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة أولاً في أول وقتها لعدم الفائدة من التأخير مع لزوم الإخلال بالترتيب. ومن نسي صلاة لا يعلم عينها لزمه خمس صلوات ينوي في كل واحدة منها المكتوبة. وتجوز صلاة الفائتة في أي وقت من ليل أو نهار، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم. أوقات الصلاة النافلة: وقت النافلة الراتبة: إن كانت الراتبة قبلية فوقتها من دخول وقت الفريضة حتى صلاة الفريضة، وإن كانت بعدية فوقتها بعد انتهاء صلاة الفريضة إلى خروج الوقت. وقت صلاة الجنازة والطواف وإعادة الجماعة: تصح في جميع الأوقات بما فيها بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، لأنهما وقتان طويلان، باستثناء أوقات ثلاث: عند شروق الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح، وعند الاستواء إلى أن تزول، وعند الغروب إلى أن تغرب كاملة، ففي هذه الأوقات روايتان، إحداهما تجوز صلاة النوافل المذكورة فيها لعموم الأدلة المجوزة، والثانية: لا تجوز، لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب) (3) ، ولأنها أوقات خفيفة لا يخشى على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها. [ص: 143] أما الأدلة على جواز هذه الصلوات الثلاث (الجنازة، الطواف، إعادة الجماعة) بعد صلاة الصبح والعصر فهي على الترتيب: بالنسبة للجنازة: لأنهما وقتان طويلان فالانتظار فيها يضر بالميت. وأما ركعتا الطواف، فلما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) (4) . وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخَيْف، قال: فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: عليَّ بهما، فجيء بهما تُرْعَد فَرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة) (5) ، ومتى أعاد المغرب شفعهما برابعة لأنها نافلة ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوقت، فينتظر حتى يسلم الإمام ثم يقوم ويأتي بأربعة. وقت النافلة ذات السبب: تحية المسجد، الكسوف، سجدة التلاوة، قضاء السنن وقتها حين حصول سببها، أما فعلها في أوقات النهي فهناك روايتان، إحداهما: المنع فلا تنعقد في أوقات النهي وهو المعتمد، والثانية: الجواز، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين وقال فيما روته عنه أم سلمة رضي الله عنها: (إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) (6) ، ولتقريره صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة [ص: 144] الفجر، عن قيس بن عمرو رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة، فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فوجدني أصلي، فقال، مهلاً يا قيس! أصلاتان معاً؟ قلت يا رسول الله، إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال: فلا إذن) (7) ، ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي الطواف. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: عن صلاهما بعد صلاة الفجر أجزأه، وقال: أما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصلِّهما بعدما تطلع الشمس) (8) . وقت النافلة التي لا سبب لها (أي النوافل المطلقة) : تصح في كل الأوقات إلا في خمسة أوقات فلا تصح صلاتها فيها، وهي في الأرجح أربعة أوقات تتعلق بالزمن وهي: -1- من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة ببعد افجر إلا سجدتين) (9) أي لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر. -2- من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح، أي بعد طلوع الشمس بثلث ساعة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب) (10) . -3- وعند الاستواء حتى تزول، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المتقدم. -4- وعند الغروب حتى تغرب، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم. [ص: 145] والوقت الخامس يتعلق بالفعل وهو بعد صلاة العصر، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح تى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس) (11) . فهذه الأوقات لا تجوز النافلة المطلقة فيها سواء كان المصلي في مكة أو في غيرها وسواء كان يوم الجمعة أو غيره. [ص: 146]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 55/316. (2) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطلاق باب 2045. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 51/293. وتضيف: أي تميل. (4) النسائي: ج-1 /صلى الله عليه وسلم 284. (5) الترمذي: ج-1 / الصلاة باب 163/219. (6) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 54/297. (7) الترمذي: ج-1 / الصلاة باب 313/422. (8) الترمذي: ج-1 / الصلاة باب 314/423. (9) الترمذي: ج-1 / الصلاة باب 310/429. (10) البخاري: مواقيت الصلاة باب 29/558. (11) البخاري: ج-1/ كتاب مواقيت الصلاة باب 30/561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الباب الثاني (الأذان والإقامة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تعريف الأذان: لغة: الإعلام، بدليل قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) . شرعاً: إعلام بدخول وقت الصلاة.   (1) التوبة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تعريف الإقامة: لغة: مصدر أقام. شرعاً: إعلام بالقيام إلى الصلاة بذكر مخصوص. حكمها: -1ً- فرض كفاية لأداء الصلوات الخمس، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، على الرجال الأحرار، فإن أتفق أهل بلد على ترك الأذان قوتلوا عليه. ويشترط لإجزاء الأذان أن يكون بعد دخول الوقت لأنه لا يحصل المقصود منه قبل الوقت إلا في الفجر فيجزىء الأذان لها بعد الليل لحديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان لرسول الله صلىالله عليه وسلم مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم الأعمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حيى يؤذن ابن أم مكتوم ... ) (2) ، ولأنه وقت نوم فيحتاج للتأذين قبل الوقت ليتنبه النائم ويتأهب [ص-147] للصلاة، لكن بشرط أن يكون عادة لئلا يغر الناس وأن يكون معه من يؤذن في الوقت كفعل بلال وابن مكتوم.. أما الإقامة فلا يجوز تقديمها على الوقت لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتح قبل الوقت. -2ً- سنة: آ- الأذان للفائتة لجديث أبي قتادة رضي الله عنه وفيه: (أنهم فاتتهم صلاة الصبح فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره. قال فقمنا فزعين ... ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. ثم صلى الغداة ... ) (3) . وإن كثرت الفوائت أذن للأولى وأقام لكل واحدة، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء) (4) ، وكذلك إن جمع بين صلاتين، لما روى عن جابر ابن رضي الله عنهما قال: (سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً) (5) ، فإن ترك الأذان للفائتة فلا بأس، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا في غزوة فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فأقام لصلاة الظهر فصلينا وأقام لصلاة العصر فصلينا وأقام لصلاة المغرب فصلينا وأقام لصلاة العشاء فصلينا ثم طاف علينا فقال: ما على الأرض عصابة يذكرون الله عز وجل غيركم) (6) . [ص: 148] ب- للمنفرد: لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظيةٍ بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم للصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة) (7) .   (1) التوبة: 3. (2) مسلم: كتاب الصيام باب 8/38. (3) مسلم: ج-1/كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 55/311. (4) الترمذي: ج-1/كتاب الصلاة باب 132/179. (5) النسائي: ج-2 /ص-15. (6) النسائي: ج-2/ص-18. (7) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 272/1203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 جـ- للمسافر: -3ً- مكروه: يكره الأذان والإقامة للنساء والخنثى ولو كانا بلا رفع صوت. بل لا يصحان منهن، ويحرم إن جهرن بهما. (أما إمامة المرأة لنسوة مثلها فتسن) . صيغة الأذان والإقامة: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلا. قال: فقال تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت لصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لرؤية حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن [ص: 149] به، فسمع ذلك عمر- رضي الله عنه - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم فلله الحمد) (1) . فهذا صفة الأذان والإقامة المستحب، فإن رجع في الأذان (يسر كلمتي الشهادة ثم يجهر بهما) أو ثنى الإقامة فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح. ويسَن التثويب في أذان الصبح وهو قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" مرتين بعد حي على الفلاح لما روى أبو محذورة رضي الله عنه قال: (كنت أوذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أقول في أذان الفجر الأول: حيّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) (2) . ويكره التثويب في غير الصبح، لما روى بلال رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء) (3) ، وعن مجاهد قال: (كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر، أو العصر، قال: أخرج بنا فإن هذه بدعة) (4) .   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 28/499. (2) النسائي: ج-2/ ص 14. (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الأذان والسنة فيها باب 3/715. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 45/538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 شروط صحة الأذان والإقامة: -1ً- ترتيبهما: فلا يصح الأذان والإقامة إلا مرتبين، لأنه ذكر معتد به فلا يجوز الإخلال بنظمه. -2ً- التوالي عرفاً: لأن المقصود منها الإعلام ولا يحصل إلا بالموالاة، فإن سكت سكوتاً طويلاً أعاد. -3ً- أن يكون الأذان من شخص واحد، فإذا بدأ شخص بالأذان وكمل آخر فلا يصح ولو كان لعذر بأن مات أو جن، لأنها عبادة بدنية فلا يَبْني فعله على فعل غيره كالصلاة فإن أغمي عليه ثم أفاق عن قريب بنى وإن طال الفصل أعاد لتحصيل الموالاة. ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر لما روى ابن عمر [ص: 150] رضي الله عنهما قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم. قال: ولم يكن بينهما إلا ينزل هذا ويرقى هذا) (1) . ولا يسن أن يؤذن أكثر من اثنين إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز. -4ً- النية: لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى) (2) . -5ً- دخول الوقت إلا في الفجر فيصح الأذان بعد نصف الليل.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 8/38. (2) مسلم: ج-3/ كتاب الإمارة باب 45/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ما يكره في الأذان: يكره الكلام في الأذان، فإن تكلم بكلام طويل استأنف لإِخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن الكلام اليسير لا يبطل الخطبة، إلا أن يكون محرماً ففيه وجهان، أحدهما: لا يبطل لأنه لا يخل بالمقصود، والثاني: يبطل لأنه فعل محرماً فيه وهو المعتمد. ما يستحب في الأذان والإقامة: -1ً- يستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت وربما أخر الإقامة شيئاً) (1) ، ويؤخر الإقامة، لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدر (2) ، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من [ص: 151] شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني) (3) ، ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة، ويسن للمؤذن في المغرب أن يجلس جلسة خفيفة بين الأذان والإقامة. -2ً- يستحب التثويب في أذان الفجر، أي يقول بعد الحيعلتين: "الصلاة خير من النوم" مرتين. -3ً- تستحب الإقامة في موضع الأذان، إلا أن يشق على المؤذن لكونه أذن في مكان بعيد. -4ً- يستحب أن يكون المؤذن هو نفسه المقيم، لما روى زياد بن الحارث الصُّداني (أنه أذن فجاء بلال ليقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخاً صُداء أذن، ومن أذن فهو يقيم) (4) ، وإن أقام غيره جاز، لما روى أبو داود في حديث الأذان عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألقه على بلال فألقاه عليه، فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأن كنت أريده، قال: فأقم أنت) (5) . ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان، لما روى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (إن من آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) (6) ، ولأنه قربة لفاعله أشبه الإمام. فإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه فجاز أخذ الرزق عليه كالجهاد، ويقال له جُعالة (7) ولا يقال له أجر، أما إن وجد متطوع به فلا يرزق، لأن المال للمصلحة فلا يعطى لغير مصلحة. [ص: 152]   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الأذان والسنة فيها باب 3/713. (2) إحدر: أي أسرع. (3) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 143/195. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الأذان باب 3/717. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 30/512. (6) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 155/209. (7) وإن كان وقف يدفع ثمنه يقال عن ثمنه نزول عن اختصاص وعن النجاسة كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 شروط المؤذن: -1ً- مسلمٌ: فلا يصح الأذان من كافر. -2ً- عاقلٌ: فلا يصح من طفل ولا مجنون، لأنهما غير أهل للعبادات. أما أذان الصبي العاقل ففيه وجهان، أحدهما: يصح لأنه مشروع لصلاته وهو من أهل العبادات وهذا الوجه هو المعتمد، الثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت ولا يقبل فيه خبره. -3ً- ذكرٌ: فلا يصح من الأنثى الأذان ولا الإِقامة، لأنه يشرع فيهما رفع الصوت والنساء لسن من أهل ذلك، وكذا الخنثى المشكل لأنه لا يعلم كونه ذكراً. -4ً- عدلٌ: ولو ظاهراً، فلا يعتد بأذان ظاهر الفسق، لأنه الرسول عليه الصلاة والسلام وصف المؤذنين بالأمانة والفاسق غير أمين، (أما مستور الحال أي غير ظاهر الفسق فيصح أذانه بغير خلاف) وقيل يصح لأنه مشروع لصلاته وهو من أهل العبادات. ما يسن للمؤذن: -1ً- أن يكون أميناً، لأنه مؤتمن على الأوقات، ولأنه يؤذن في موضع عالٍ فلا يؤمن منه النظر إلى العورات. -2ً- أن يكون صيِّتاً (1) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللله بن زيد رضي الله عنه في الحديث المتقدم: (فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك) ، ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. -3ً- أن يكون عالماً بالأوقات ليتمكن من الأذان في أولها، فإن لم يكن عالماً بالوقت فلا يؤمن منه الخطأ. [ص: 153] -4ً- أن يكون طاهراً من الحدثين، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤذن إلا متوضئ) (2) ، والطهارة للإقامة آكد منها للأذان لأنها أقرب إلى الصلاة، فإن كان جُنباً كره له الأذان والإقامة، أما إن كان حدثه أصغراً فلا كراهة في أذانه وكرهت إقامته. -5ً- أن يكون بصيراً لأن الأعمى لا يعلم أوقات الصلاة، إلا أن يكون معه بصير يؤذن قبله كبلال مع ابن مكتوم. وإن تشاحّ اثنان في الأذان قُدِّم أكملها في هذا الخصال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم بلالاً على عبد الله بن زيد رضي الله عنهما، فإن استويا في الصفات أقرع بينهما، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يَسْتَهِمُوا عليه لاستهموا) (3) . وعن الإمام أحمد: يقدّم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم فكان لرضاهم أثر في التقديم. -6ً- يستحب أن يؤذن قائماً، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بلال قم فنادِ بالصلاة) (4) ، ولأنه أبلغ في الإسماع. أما إن كان في سفر وأذن قاعداً أو راكباً جاز، لأن الصلاة آكد منه وجازت. -7ً- يستحب أن يؤذن على مكان مرتفع، لأنه أبلغ في الإعلام، وقد كان بلال رضي الله عنه يؤذن على سطح بيت امرأة، وأن يرفع صوته، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذن يُغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس) (5) ولا يجهد نفسه فوق طاقته لئلا ينقطع نفسه ويؤذي نفسه، وإذا أذن لنفسه في مصر أو لفائتة لم يجهر، أما إن كان في صحراء فيجهر في الوقت، لما [ص: 154] روى أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن، جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة) (6) . -8ً- أن يؤذن مستقبلاً القبلة، وأن يلتفت يميناً إذا قال: "حي على الصلاة" ويساراً إذا قال "حي الفلاح" ولا يزيل قدميه. -9ً- أن يجعل أصبعيه في أذنيه، لحديث أبي جحيفة رضي الله عنه: (رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويُتبع فاه ههنا وههنا وغصبعاه في أذنيه) (7) . -10ً- أن يترسل في الأذان وأن يحدر الإِقامة، لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم: (يا بلال إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدر) . ويكره التمطيط والتلحين، وفي رواية لا يصح الأذان بالتلحين لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرّب (ينغم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأذان سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن) (8) . -11- يسن للمؤذن أن يرفع وجهه إلى السماء، وقبل عند الشهادتين وقيل عند كلمة الإخلاص.   (1) شديد الصوت ورفيعه. (2) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 147/200. (3) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 28/129. (4) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 1/1. (5) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 31/515. (6) البخاري: ج-1/ كتاب الأذان باب 5/584. (7) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 144/197. (8) رواه الدارقطني: ج-1/ص 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ما يسن لسامع الأذان: -1ً- يسن للسامع أن يجيب المؤذن، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) (1) ، إلا في الحيعلتين فيقول عقب كل منهما: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وعقب التثويب يقول: صدقت وبررت. وعقب كلمة الإقامة يقول: "أقامها الله وأدامها"، لما [ص: 155] روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حيّ على الصلاة، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله، من قلبه، دخل الجنة" (2) . ومن كان في قراءة أثناء الأذان قطعها ليجيب المؤذن، لأن القراءة لا تفوت والإجابة تفوت. -2ً- ويسن لسامع الأذان أن يسأل الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة بعد الأذان، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة) (3) . وروى سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه) (4) . -3ً- ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) (5) . كما تسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما [ص: 156] يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) (6) . تعقيب: يحرم بعد الأذان الخروج من المسجد بلا عذر أو نية رجوع إليه إلا إذا كان أذان الفجر الأول فلا مانع. [ص: 157]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 7/10. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 7/12. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الأذان باب 8/589. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 7/13. (5) الترمذي: ج-1/ كتاب الصلاة باب 158/212. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 7/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الباب الثالث (شروط الصلاة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 تنقسم شروط الصلاة إلى: -1ً- شروط وجوب. -2ً- شروط صحة. -1ً- شروط وجوب الصلاة: أولاً: الإسلام: فلا تجب الصلاة على الكافر الأصلي ولا المرتد لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) لأن في إجاب القضاء تنفيراً من الإسلام، ولأن كل من أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالقضاء. ثانياً: العقل: فلا تجب على المجنون، لحديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (2) ، ولأن مدة جنونه قد تطول فيشق عليه القضاء. وتجب على المغمى عليه لمرض أو شرب دواء وعلى السكران، لما روي عن عمار رضي الله عنه (أنه أغمي عليه أربع صلوات فضاهن) (3) ، ولأن مدته لا تطاول ولا تثبت الوصاية عليه فهو كالنائم بخلاف المجنون. [ص: 158] ثالثاً: البلوغ: فلا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ. والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تختلف فنصب الشرع علامة ظاهرة وهي البلوغ (4) . لكن يؤمر الصبي بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر، (وعن الإمام أحمد: تجب الصلاة على الصبي إذا بلغ العشر لكونه يعاقب على تركها بالضرب والواجب ما عوقب على تركه) فإذا بلغ في أثناء الصلاة أو بعدها في الوقت لزمته إعادتها لأنه يكون صلاها نافلة. وإذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض قبل غروب الشمس لزمتهم صلاة الظهر والعصر وإذا كانت قبل طلوع الفجر لزمتهم صلاة المغرب والعشاء، لأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر فأشبه من أدرك من وقت الأولى. رابعاً: النقاء من الحيض والنفاس.   (1) الأنفال: 38. (2) أبو داود: ج-4/ كتاب الحدود باب 16/4403. (3) المحلى لابن حزم: ج-2/ كتاب الصلاة ص-317. (4) والبلوغ يكون أما بالسن حتى يصبح 15 سنة أو بنبات شعر القبل، أو بالحيض بالنسبة للمرأة والحلم بالنسة للرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 -2ً- شروط صحة الصلاة: أولاً: الإسلام. ثانياً: العقل. ثالثاً: التمييز: هو بلوغ سبع سنين، ويشترط لصحة صلاته ما يشترط لصحة صلاة البالغ إلا السترة. ويجب على ولي المميز أن يأمره بالصلاة ويعلمه إياها والطهارة، فإن احتاج إلى أجرة فمن مال الصبي فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته، ويضرب الصبي على ترك الصلاة ونحوها بعد تمام عشر سنين، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر) (1) . [ص: 159]   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 2/495. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 رابعاً: النية: تعريفها: لغة: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. دليلها: قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (1) . والإخلاص عمل اللقلب وهو محض النية، وحديث: (إنما الأعمال بالنية) . محلها: القلب وإن لم تلفظ باللسان، فلو نوى صلاة في قلبه ثم سبق لسانه بلفظ غيرها لم تفسد صلاته. زمنها: أول العبادة أو قبلها بيسير لا قبل دخول وقت المكتوبة، والأفضل قرنها مع تكبيرة الإحرام، ويسن ذكرها باللسان. شروط النية: آ- في الصلاة المفروضة: -1ً- قصد الصلاة. -2ً- تعيين الفرض هل هو ظهر أم عصر أم جمعة أم منذورة، فمن أراد صلاة فرض الظهر يكفي أن يقول بقلبه أو بلسانه "أصلي الظهر الله أكبر". فإن نوى فرضاً ثم أثناء الصلاة قلبها إلى آخر فسدت الصلاة، لأنه قطعنية الظهر ولم تصح نية العصر لأنه لم ينوها عند الإحرام، أما إن قلبها نفلاً لعذر كأن أحرم بها منفرداً ثم حضرت جماعة فجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة صح، لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، وإن فعل ذلك لغير غرض كره. [ص: 160]   (1) البينة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 -3ً- نية القضاء في الفائتة والأداء في الحاضرة، وفي وجوب هذا الشرط وجهان، أولهما: لا يجب، لأنه لا يختلف في المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة وقد نراها أداء وهو المذهب. ب- في السنة المعينة: -1ً- قصد الصلاة. -2ً- تعيينها: هل هي وتر أو تراويح أو نفل راتب أو غير راتب كسنة الاستخارة. جـ- في النفل المطلق: تكفي نية الصلاة. الشك في النية: إن شك أثناء الصلاة هل نوى أم لا استأنف الصلاة، لأن الأصل عدمها، فإن زال الشك قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه، أما إن فعل ركناً بالشك في النية بطلت الصلاة، لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. التردد في قطع النية: إن تردد في قطعها فعلى وجهين، أحدهما: تبطل صلاته وهو المعتمد. والثاني لا تبطل لأنه دخل فيها بنية متيقنة فلا يخرج منها بالشك. خامساً: الطهارة من الحدث: لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) (1) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) (2) . [ص: 161]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 2/. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 2/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سادساً: طهارة الثوب والبدن والمكان من النجس مع القدرة على إزالته، فإذا كان على بدنه أو ثوبه أو مكان صلاته نجاسة قادر على إزالتها غير معفو عنها لم تصح صلاته ما لم يُزِلها. -1ً- طهارة البدن: آ- إن جبر عظمه بعظم نجس لم يلزمه قلعه إن خاف الضرر وأجزأته صلاته. ب- إن أكل نجاسة لم يلزمه فيها شيء لأنها حصلت في معدته فصارت كالمستحيل في المعدة. وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه لكونه مربوطاً مثلاً صلى ولا إعادة عليه، لأن شرط الطهارة القدرة عليها. -2ً- طهارة الثوب: روت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتيه، ثم اقرصيه بالماء ثم رشيه، وصلي فيه ... ) (1) فدل الحديث على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله. مسائل: آ- إن لم يجد إلا ثوباً واحداً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها. والمنصوص أنه يعيد لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه. ب- إن خفي عليه موضع النجاسة لا يزول حكمها حتى يغسل ما تيقن به أن الطهارة قد لحقتها، لأنه تيقن النجاسة فلا يزول إلا بيقين غسلها. [ص: 162] جـ- إن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة وأمكنه الصلاة عدداً من المرات مساوياً لعدد الثياب النجسة زائداً صلاة لزمه ذلك، لأنه أمكنه تأدية فرض بثوب طاهر يقيناً من غير مشقة. وإن كثر عدد الثياب النجسة يصلي في أحدها بالتحري، لأن اليقين يشق. د- إن صلى وفي يده حبل طرفه الآخر نجس، أو صلى وعليه منديل طرفه نجس، بحيث ينجر معه إذا مشى لم تصح صلاته، أما إذا كان لا ينجر معه فلا تبطل صلاته لأنه غير حامل للنجاسة. هـ- وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً فلا تبطل صلاته، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها وإذا جلس وضعها) (2) . وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت من نفسها أو أزالها هو بسرعة لم تبطل صلاته لأنه زمن يسير يعفى عنه كاليسير بالقدْر. وإذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة وجوّز حدوثها بعدها لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل عدمها في الصلاة، وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة فهناك روايتان، إحداهما: يعيد، لأنها طاهرة واجبة فلا تسقط بالجهل وهو المعتمد، والثانية: لا تلزمه الإعادة، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقو نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فالقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً - أو قال أذى - وقال: إذا [ص: 163] جاء أحدكم إلى المسجد فلينتظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلِّ فيهما) (3) فلو بطلت صلاته لاستأنفها. وبناء على ذلك إن علم بالنجاسة أثناء الصلاة فأمكنه إزالتها من غير عمل طويل فعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أم إن علم بها قبل الصلاة قال القاضي: يعيد. -3ً- طهارة المكان: فإذا صلى على منديل أو مُصلى طاهر وفي طرفه نجاسة صحت صلاته عليه، لأنه ليس حاملاً للنجاسة، أما إذا كان بدنه وثوبه يقعان على الموضع النجس فلا تصح صلاته، وقال ابن عقيل: إن لاصقها على حائط أو ثوب إنسان فصلاته صحيحة، فلأنه [؟؟] بموضع [؟؟] لصلاته. وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده لكن لا تصيب بدنه ولا ثوبه صحت صلاته. وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طيّنها صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة ولا مباشر لها. وإن خفيت النجاسة في موضع معين فحكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة ولا يمكنه غسلها جميعها. وإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، فإن كانت النجاسة رطبة أومأ إيماء وإن كانت جافة سجد إلى الأرض وجوباً.   (1) الترمذي: ج-1/ الطهارة باب 104/138. (2) مسلم: ج-1 /كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 9/41. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 89/650. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولا تصح الصلاة في المواضع التالية: -1- المقبرة: قديمة كانت أو حديثة، نبشت أم لم تنبش. ولا في أرض موقوفة للدفن احتوت على ثلاثة قبور فأكثر، وتصح الصلاة فيها إن احتوت على قبرين. ولا كراهة إن لم يستقبل القبر (فاستقبال القبر مكروه) لما روى أبو مَرْثَد الغَنَوِيَّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) (1) . وإن صلى في المسجد بني في مقبرة فحكمه حكمها، وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة. [ص: 164] -2- الحمام (داخله وخارجه) ، لما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة) (2) . -3- أعطان الإبل (3) ، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وفيه: (قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال لا) (4) ، ولأن هذه المواضع مظنة النجاسة. -4- الحُش (دورة المياه) . -5- الموضع المغصوب: لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم منهي عنه فلا تقع فيه عبادة كالصلاة في زمن الحيض. وعن الإمام احمد: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم. وضم بعض ساداتنا الحنابلة أربعة مواضع أخرى لا تصح فيها الصلاة وهي: المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وظهر بيت الحرام، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل وفوق الكعبة) (5) . أما إن صلى النافلة في الكعبة أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، أو في الحجر، صحت صلاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين (6) . أما الصلاة على أسطحة هذه الأماكن فهناك وجهان أحدهما: أن حكمها حكمها [؟؟] لأنها تابعة لها فالهواء تابع للقرار بدليل أن الجنب يمنع من اللبث على سطح المسجد ويحنث بدخول سطح الدار بدخول سطح الدار التي حلف أن لا يدخلها وهو المعتمد. والثاني: تصح الصلاة على أسطحة هذه الأماكن لأنها ليست بمظنة النجاسة ولا يتناولها النهي. وتكره الصلاة في الكنيسة على الصحيح من المذهب. [ص: 165]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 33/97. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 24/492. (3) أعطان الإبل: الأمكنة التي تقيم فيها وتأوي إليها. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الحيض باب 25/97. (5) ابن ماجة: ج-1/ كتاب المساجد باب 4/746. (6) مسند الإمام أحمد: ج-2 /ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 سابعاً: ستر العورة: يجب ستر العورة مع القدرة على الستر حتى في الخلوة والظلمة وعن نفسه من الأعلى لا من الأسفل بساتر لا يصف لون البشرة، أما إذا ظهر حجم العورة فلا مانع لأنه لا يمكن التحرز منه، ويمكن أن يكون الساتر قماشاً أو ورقاً أو نباتاً أو جلداً. وإذا انكشف من العورة شيء يسير أثناء الصلاة عفي عنه، لأن اليسير يشق التحرز منه، فإن كثر بطلت الصلاة به، فإذا سفت الريح الثوب عن عورته فأعاده بسرعة لم تبطل صلاته أما إذا لم يعده بسرعة فتبطل الصلاة. ماهية العورة في الصلاة وخارجها: -1ً- الطفل والطفلة من الولادة إلى التمييز (سبع سنين) : لا عورة لهما. -2ً- عورة البنت من السبع إلى البلوغ: من السرة إلى الركبة. -3ً- عورة الصبي من الـ (7-10) سنين: السوأتين. -4ً- عورة الصبي من الـ (10) سنين إلى البلوغ: كعورة الرجل من السرة إلى الركبة. -5ً- عورة الرجل الحر والعبد والخنثى المشكل: من السرة إلى الركبة، أما هما فليس من العورة، لما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة) (1) ، أي ما بين السرة والركبتين من العورة، فعن أبي جَرْهد (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غطِّ فخذك فإنها من العورة) (2) . ويجب على الرجل الحر أن يضع على أحد عاتقيه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس [ص: 166] على عاتقيه منه شيء) (3) ، وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الصلاة المفروضة، وقيل يجزئه وضع خيط. وعن الإمام أحمد: عورة الرجل الفرجان، لما روى أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم) (4) . والرواية الأولى هي المذهب. -6ً- عورة المرأة الحرة: في الصلاة: كلها عورة عدا الوجه والكفان وفيهما روايتان، المعتمدة: أنهما عورة، والثانية: ليسا بعورة: قال تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (5) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجهها وكفاها، ولأنهما يحرم سترهما بالإحرام فهذا دليل عدم كونهما من العورة فلو كانا من العورة لما حرم سترهما. وما عدا الوجه والكفين عورة بدليل حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (6) ، وعن أم سلمة رضي الله عنها (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) (7) . أما عورتها خارج الصلاة فكلها عورة. -7ً- عورة الأمة وأم الولد: كلها عورة عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، لما ورد أن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو [ص: 167] أجيره؛ فلا ينظر إلى مادون السرة وفوق الركبة) (8) يريد عورة الأمة، ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة.   (1) الدارقطني: ج-1 /ص 231. (2) الترمذي: ج-5/ كتاب الأدب باب 40/2798. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 52/277. (4) البخاري: ج-1/ كتاب الصلاة في الثياب باب 11/364. (5) النور: 31. (6) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الطهارة باب 132/655. (7) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 84/640. (8) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 26/496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الثياب التي يُستحب الصلاة فيها: يستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلِّ فيهما، فإن لم يكن له إلا ثوب واحد فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود) (1) ، فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد، والقميص أولى من الرداء، فإن كان واسع الجيب (شقة الصدر) ترى منه عورته لم يجزئه، لما روى سلم ابن الأكوع رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله، إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازْرُرْه ولو بشوكة) (2) ، وإن صلى في رداء وكان واسعاً التحف به، فإن كان ضيقاً خالف بين منكبيه كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة واضعاً طرفيه على عاتقيه) (3) ، ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن كان الثوب واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به) (4) . ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روى عن عمر رضي الله عنه قال: (تصلي المرأة في ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار) (5) ، وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأها، لما روي في الحديث المتقدم عن أم سلمة رضي الله عنها: (أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) . [ص: 168] فإن لم يجد المكلف ما يستر إلا بعض العورة ستر الفرجين لأنهما أغلظ، وإن عدم الستر صلى عرياناً جالساً يوميء بالسجود. وعن الإمام أحمد: أنه يصلي قائماً ويركع ويسجد، لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط، ويصلي العراة جماعة صفاً واحداً وإمامهم وسطهم ليكون أستر له، وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يُعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه أشبه القبلة، وإن وجد من يعيره ثوباً يستر عورته في الصلاة لزمه قبوله لما فيه من المنة.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 82/635. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 81/632. (3) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 52/278. (4) البخاري: ج-1/ كتاب الصلاة باب 5/354. (5) البيهقي: ج-2 /ص 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ما يحرم الستر به: -1- يحرم لبس المغصوب، فإن لم يجد غيره صلى عرياناً وتركه ولا تصح العبادة به، لأن المغصوب يحرم استعماله لضرورة ولغير ضرورة. -2- يحرم على الرجال استعمال ثياب الحرير فيلبسها وافتراشها، ولكن إن لم يجد غيره وكان يملك التصرف به صلى فيه، لأنه مأذون به في حالة الضرورة كالحكة والجرب والبرد، ولا يعيد الصلاة التي صلاها فيه. -3- يحرم لبس المنسوج بالذهب والمموه به على الرجال، لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) (1) ، أما الخز (2) فلا مانع من الصلاة فيه لأن الصحابة رضوان الله عليهم لبسوه. وإن صلى بعمامة محرمة أو خاتم ذهب صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة. ويباح علم الحرير (3) في الثوب إذا كان قدر أربع أصابع فما دون، لما رويأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: (نهى نبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحُرير. إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع) (4) ، وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه مباح ولو كان مذهباً. وكذا الرقاع [ص: 169] ولبنة الجابية (كنار الجيب) وما نسخ من الحرير يجوز لبسه إذا قل الحرير عن النصف. وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر فعن جابر رضي الله عنه قال: (ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري) (5) ، بناء على القاعدة الفقهية: "ما حرم لبسه حرم إلباسه وما حرم شربه حرم أشرابه" وعن الإمام أحمد: أنه يباح إلباسه للصبي لأنه غير مكلف فأشبه ما لو ألبسه الدابة.   (1) الترمذي: ج-4/ كتاب اللباس باب 1/1720. (2) الحرير النباتي. (3) النحيفة. (4) مسلم: ج-2/ كتاب اللباس والزينة باب 2/15. (5) أبو داود: ج-4/ كتاب اللباس باب 14/4059. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ما يكره لبسه للرجل: -1ً- يكره لبس المعصفر (1) والمزعفر (2) والأحمر، لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم) (3) ، وما روي عن أنس رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل) (4) ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لبس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر) (5) . أما بالنسبة للنساء فلا بأس به. -2ً- لبس ما عليه صور الحيوان، وقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) (6) وقال ابن عقيل: بل يكره وليس يحرم لأن في سياق الحديث: (إلا رقماً في ثوب) (7) . رقم بعضه وليس كله. -3ً- يكره اشتمال الصماء، لما روي عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل [ص: 170] الصَّمَّاء ... ) (8) ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن ويرد طرفيه على الأيسر فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فهذا لبس المحرم فلا بأس به. -4ً- يكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) (9) . -5ً- تكره تغطية الفم في الصلاة، عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل (10) في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) (11) . -6ً- يكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار لما فيه من التشبه بالنصارى، ويكره لف الكم، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكفَّ ثوباً ولا شعراً) (12) .   (1) البردقاني. (2) الأصفر. (3) أبو داود: ج-4/ كتاب اللباس باب 20/4069. (4) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 23/77. (5) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 4/31. (6) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 26/84. (7) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 26/85. (8) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 20/70. (9) مسلم: ج-3/ كتاب اللباس والزينة باب 28/4085. (10) السدل: إرسال الثوب حتى يصيب الأرض. (11) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 86/643. (12) مسلم: ج-1/ كتاب الطهارة باب 44/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ثامناً: استقبال القبلة: ودليله قوله تعالى: (فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (1) . ومن السنة: ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة، [ص: 171] وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام. فاستداروا إلى الكعبة) (2) . وقد أجمع أئمة المسلمون على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة.   (1) البقرة: 144. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 2/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ما هيتها: -1ً- هي إصابة عين الكعبة لمن هو معين لها أو لمن كان في مكة قريباً منها وراء حائل، وإن كان أعمى أو غريباً أجزأه الخبر عن يقين أو مشاهدة أنه مصلّ إلى عين الكعبة. ويصح أن يستقبل هواءها المحاذي لها من أعلاها أو من أسفلها، فإذا كان المكلف بمكة على جبل مرتفع عن الكعبة أو كان في دار عالية البناء ولم يتيسر له استقبال عين الكعبة فإنه يكفي أن يكون مستقبلاً لهوائها المستقبل بها، ومثل ذلك ما إذا كان في منحدر أسف منها فاستقبل هواء الكعبة المتصل بها من أعلى أو من أسفل كاستقبال بنائها. -2ً- إصابة جهة الكعبة لمن هو بعيد عنها ولا يلزمه إصابة عينها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) (1) . ولمعرفة جهة الكعبة هناك أربع حالات: آ- التوجه إلى محاريب القربة لمن كان حاضراً في قرية، فإن رأى محاريب ولم أنها للمسلمين أم لغيرهم لم يلتفت إليها. ب- خير اليقين إذا لم يجد المحاريب ووجد من يخبره عن جهة الكعبة، ففرضه التوجه إلى جهة الإخبار، ولكن لا يقبل خبر الكافر ولا الفاسق ولا الصبي ولا المجنون، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء. [ص: 172] جـ- الاجتهاد: إن لم يجد المحارب أو لم يجد من يخبره ففرضه الاجتهاد في القبلة، والمجتهد هو العالم بأدلتها وإن كان عامياً ومن كان لا يعرف أدلتها فهو مقلد وإن كان فقيهاً، وأوثق أدلتها النجوم لقوله تعالى: (وبالنجم هم يهتدون) (2) ، وآكدها هو القطب وهو نجم خفي وحوله أنجم دائرة، فإذا جعله الإنسان وراء ظهره في الشام كان مستقبلاً الكعبة. ويستدل من الرياح على جهة القبلة أيضاً (فالدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، والصبَّا تهب مقابلتها، والجنوب تهب ما بين المشرق والقبلة) . وإن اختلف اجتهاد مجتهدين لم يجز لأحدهما أن يأتي بالآخر لأنه يعتقد خطأه، وإن صليا معاً ثم بان لأحدهما الخطأ استدار ونوى المفارقة، وإن تغير اجتهاده في الصلاة فعلم أن وقوفه خطأ إلا أنه لا يدري إلى أين يتجه فسدت الصلاة، وإن اجتهد وصلى ثم تغير اجتهاده صلى الصلاة المقبلة على الاجتهاد الجديد ولا يعيد الأولى، وإن خفيت الأدلة على المجتهد بسبب الغيم صلى حسب حاله ولا إعادة عليه، عن عامر بن ربيعة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله. فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "فأينما تولوا فثم وجه الله (3) ") (4) . ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس فإذا لمس المحاريب جاز له استقبالها. د- من عجز عن الاجتهاد لعدم بصر أو بصيرة، أو حُبِس، ففرضه تقليد المجتهد، وإن وجد مجتهدين مختلفين باجتهادهما قلدّ أو ثقهما عنده، وإن لم يجد من يقلده صلى ولا إعادة عليه. ومن صلى بدون أن يتقيد بمحاريب البلد أو بإخبار الثقة أو بدون اجتهاد أو تقليد لم تصح صلاته ولو أصاب القبلة. ومن كان في حضر وبعد أن انتهى من صلاته (بناء على اجتهاد أو تقليد أو خبر) تبين له أنه أخطأ أعاد، فإن كان في سفر لا يعيد. [ص: 173]   (1) الترمذي: ج-2/ كتاب الصلاة باب 256/342. (2) النحل: 16. (3) البقرة: 115. (4) الترمذي: ج-5/ كتاب تفسير القرآن باب 3/2957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الحالات التي يَسقط فيها استقبال القبلة: -1ً- فقدان القدرة على الاتجاه إلى القبلة لكونه مربوطاً إلى غير جهتها. -2ً- فقدان الأمن كالالتحام في الحرب، أو الهرب المباح من عدو أو سيل، فيجوز للمكلف ترك استقبال القبلة ويصلي كيف أمكنه راجلاً أو راكباً، بدليل قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً) (1) ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: ( ... فإن كان خوف هو أشد من ذلك، صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها) (2) . -3ً- في النافلة، في السفر، على راحلته، سواء كانت الصلاة راتبة أو غيرها أو وتراً أو سجود تلاوة، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير) (3) ، وروي عنه أيضاً أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجه توجَّه. ويوتر عليها. غيرأنه لا يصلي عليها المكتوبة) (4) . ولا فرق بين السفر الطويل أو القصير لكن يشترط أن يتجه للقبلة في تكبيرة الإحرام، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر، فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجَّهه ركابه) (5) ، وقيل: لا يلزمه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام، لأنها جزء من أجزاء الصلاة أشبه ببقية أجزائها، لأن ذلك لا يخلو من مشقة وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على الفضيلة والندب. أما إن كان على راحلة لا تطيعه (كراكب الباص) أو على جمل مقطور فلا يلزمه استقبال القبلة، لأنه عاجز عنه أشبه بالخائف، وتكون قبلته جهة سيره، وتسقط عنه أركان الصلاة التي لا يستطيع فعلها ولا إعادة عليه. [ص: 174] والراكب في السفينة إن أمكنه أن يتجه إلى القبلة ويركع ويسجد لزمه ذلك، وإلا يومئ إيماءً، وإن شق عليه استقبال القبلة أو الركوع أو السجود أومأ بهما. وراكب الطائرة كراكب السفينة يجتهد في القبلة ويصلي، ولا يعيد إن صلى باجتهاده. أما في الصلاة المفروضة على الراحلة واقفةً وسائرةً، لعذر كمطر ووحل وثلج وبَرِد، أو لخوف على نفسه من سيل أو سبع، أو عجز عن ركوب إن نزل، فلا يسقط استقبال القبلة وإنما يجب عليه استقبالها وأن يأتي بما يقدر عليه من ركوع وغيره. ولا تصح صلاة الفرض على الراحلة لمرض، لأنه لا يزول مرضه بالصلاة عليها بخلاف المطر وغيره.   (1) البقرة: 239. (2) البخاري: ج-4/ كتاب التفسير باب 45/4261. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 4/36. (4) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 4/39. (5) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 277/1225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 تاسعاً: دخول الوقت: فلا تصح الصلاة قبل دخول وقتها، وإن أحرم بها ثم بان له أنه لم يدخل وقتها انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفرضية بقيت نية الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الباب الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الفصل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أركان الصلاة تعريفها: الفرض والركن مترادفان ومعناهما: أجزاء الصلاة التي لا تتحقق الصلاة إلا بها ولا توجد إلا بها بحيث إذا فقد منها جزء فلا يقال لها صلاة. والفرض هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وفرائض الصلاة هي: أولاً: تكبيرة الإحرام: دليلها: حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) (1) ، وما ورد في حديث المسيء صلاته: (إذا أقمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) (2) . صيغتها: " الله أكبر " ولا يجزىء غير ذلك من الذكر، ولا يضر إذا أضاف صفة من صفات الله بعد أكبر كأن يقول: الله أكبر كبيرا ولكن يكره، أما إذا فصل بين الله وأكبر ولو بصفة واحدة بطلت تحريمته) (3) . ولا يجزئه قوله: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، فإذا لم يحسن العربية لزمه تعلمها، فإن خشي خروج الوقت كبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ فلزمه الإتيان بمعناه، وقيل لا يكبر بغير العربية لأنه ذكر تنعقد به الصلاة فلا يجوز التعبير عنه بغير العربية، فيكون حكمه كحكم الأخرس. وإن عجز عن نطق بعض الحروف أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس حرك لسانه. وعن الإمام أحمد أنه لا يلزم للأخرس أن يحرك لسانه، لأن التحريك للنطق فطالما أنه عجز عن النطق فيسقط عنه التحريك.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الطهارة باب 31/61. (2) البخاري: ج-1/كتاب صفة الصلاة باب 39/760. (3) بخلاف السادة الشافعية فقد أجازوا الفصل ولو بصفتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 شروطها: -1ً- ترتيب اللفظ فلا بد من تقديم الجلالة على أكبر. -2ً- أن يقولها قائماً، فإن ابتدأها في غير القيام وقعت الصلاة نفلاً. -3ً- عدم مد همزة "الله" أو إضافة ألف على "أكبر" فتصبح أكبار، ولا مانع من مد لام الجلالة. -4ً- أن لا يشبع هاء الله حتى يتولد منها واو، فإن فعل ذلك بطلت صلاته. -5ً- أن لا يحذف هاء "الله". -6ً- أن لا يأتي بواو بين الكلمتين بأن يقول: الله وأكبر، فإن فعل ذلك لم تصح تكبيرته. -7ً- أن لا يفصل بين الكلمتين بسكوت يسع كلاماً ولو يسيراً. -8ً- أن يكون مستقبلاً القبلة. -9ً- أن يكون بالعربية للقادر. -10ً- أن يسمع نفسه جميع حروفها. [ص: 177] -11- دخول وقت الصلاة المفروضة وإباحة النافلة. -12- وقوع تكبيرة المأموم بعد تكبيرة الإمام. -13- الجهر بها إن كان إماماً بالقدر الذي يسمع به من خلفه، وإن لم يكن إماماً فبالقدر. الذي يسمع به نفسه كالقراءة. -14- ستر العورة والطهارة. ثانياً: القيام: وهو متعين في الفرض لا في النفل للقادر عليه ولو مستنداً إلى شيء ولو بأجرة يقدر عليها. دليله: قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) (1) وما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطيع فقاعداً، فإ لم تستطع فعلى جنب) (2) . أما غير القادر على القيام لعجز أو خوف أو زيادة مرض أو لمداواة أو لقصر سقف لعاجز عن الخروج، فيصلي قاعداً متربعاً ندباً ويثني رجليه في ركوعه وسجوده كمتنفل، وكذلك يقعد المأموم خلف إمامه القاعد (بشرط أن يكون مرضه قابل للزوال) ، فإن لم يستطيع القعود أو شق عليه فيصلي على جنبه والجنب الأيمن أفضل، فإن لم يستطع فيصلي على ظهره ورجلاه إلى القبلة. أما إن كان مستطيعاً الصلاة على جنبه وصلى على ظهره فمكروه. ومن قدر أن يقوم بالصلاة منفرداً ولم يمكنه ذلك مع الجماعة إلا قاعداً فيصلي منفرداً، لأن القيام ركن بخلاف الجماعة. ويشترط في القيام أن ينصب فقرات ظهره، فإن وقف مائلاً أو منحنياً قليلاً أجزأه، ولا يضر خفض رأسه على هيئة الإطراق. [ص: 178]   (1) البقرة: 238. (2) البخاري: ج-1/ كتاب التقصير الصلاة باب 19/1066. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ما يستحب في القيام: -1ً- يستحب القيام إلى المكتوبة عند قول المؤذن: "قد قامت الصلاة"، لأنه دعاء إلى القيام فاستحب المبادرة إليه. -2ً- يستحب للإمام تسوية الصفوف لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم التفت فقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم ثم أخذ بيساره فقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم) (1) . ويكره القيام على رجل واحدة.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 94/670. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ثالثاً: قراءة الفاتحة: وهي ركن في حق الإمام والمنفرد، لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (1) . وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى قتادة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً. ويقرأ في الركعتين الأُخْرَيَيْنِ بفاتحة الكتاب) (2) . أما بالنسبة للمأموم فلا تجب عليه قراءة الفاتحة إذا كان الإمام يقرأ جهراً لقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) (3) ، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أُنازع القرآن. قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم) (4) ، ولأنه لو وجبت عليه قراءتها لم تسقط عن المسبوق كسائر الأركان. ويسن للمأموم قراءة الفاتحة في حال سكوت الإمام في الصلاة الجهرية أو في حالة الصلاة السرية، لأن [ص: 179] مفهوم قوله في الحديث: (فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه) أنهم يقرؤون في غيره.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 13/723. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 34/155. (3) الأعراف: 204. (4) مسند الإمام أحمد ج-2/ ص 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 شروط قراءتها: -1ً- أن تقرأ مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر أو سكوت طويل عمداً أعادها، وإلا أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذلك، وإن نوى قطعها لا تنقطع لأن القراءة باللسان فلا تنقطع بالنية. -2ً- أن يراعي تشديداتها الـ (11) ، ولا تعد تشديدات البسملة لأنها ليست من الفاتحة بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي ... ) (1) فلو كانت "بسم الله الرحمن الرحيم آية" لعدها وبدأ بها. فإن أخل بتشديدة أو بحرف لم تصح، وإن ترك التشديد أو كلمة أو حرفاً سهواً لم تحسب الركعة وقامت التي بعدها مقامها. ويلزم الجاهل تعلمها فإن ضاق الوقت عن تعلمها لزمه قراءة قدرها من غيرها في عدة الحروف، فإن لم يعرف إلا آية من الفاتحة كررها بقدر الفاتحة، فإن لم يحسن إلا بعض الآية لم يكرره وعدل إلى غيره. -3ً- أن لا تقرأ إلا بالعربية، فإذا لم يحسن العربية لم يجزئه أن يترجمها إلى لغته، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه، قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله [ص: 180] إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (2) ، ولأنه ركن في الصلاة فقام مقامه غيره عند العجز عنه كالقيام، فإن لم يحسن فلا بعض ذلك قرأ بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 11/38. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 139/832. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 رابعاً: الركوع: دليله: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) (1) . أقله: أن ينحني المكلف بحيث يمكنه مس ركبتيه بكفيه، أما قدر ما يجزئ القاعد منه فهو مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض. أكمله: أن يمد المصلي ظهره مستوياً، ويجعل رأسه على مستوى ظهره، ويضع كفيه على ركبتيه قابضاً بهما مفرجتي الأصابع، وأن يجافي يديه عن جنبيه كما سيرد تفصيل ذلك في السنن.   (1) الحج: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 خامساً: الرفع من الركوع: وهو أن يفارق القدر المجزئ منه، بحيث لا تصل يداه إلى ركبتيه. ويشترط أن لا يقصد من رفعه منه غيره، فلو فزع من شيء ورفع لم يجزئه فيرجع إلى الركوع ثم يرفع. سادساً: الاعتدال: وهو أن يستوي قائماً بحيث يرجع كل عضو إلى موضعه، ولا تبطل الصلاة إن طال الاعتدال، ودليل فرضيته قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) (1) ، ولحديث أبي حميد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يقرّ كل عظم إلى موضعه) (2) . [ص: 181]   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 39/760. (2) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 72/1060. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 سابعاً: السجود مرتين: دليله: قوله تعالى: (اركعوا واسجدوا) (1) ، وحديث المسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) (2) . ويجب السجود على سبعة أعظم، الجبهة والكفين والركبتين والقدمين، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر) (3) ، وفي الأنف روايتان، الأولى: لا يجب السجود عليه، والثانية: يجب لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم على أنفه وهو المعتمد. أقله: وضع جزء من كل عضو من الأعظم المذكورة على الأرض مع التحامل على الجبهة (أي وضع ثقله عليها، ولا تجب مباشرة المصلي شيئاً من هذه الأعضاء الأرض إلا الجبهة فإن فيها روايتان، إحداهما: تجب لما روى خباب رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكونا) (4) ، والثانية: لا تجب مباشرة الجبهة الأرض وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فس شدة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا لم يمكِّن [ص: 182] جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه) (5) أي يجوز السجود على شيء يتحرك بحركته إذ وجد عذر كحر أو برد، ويكره إن لم يكن هناك عذر. ويشترط أن يكون موضع الجبهة مرتفع عن موضع الركبتين في السجود والإرتفاع المبطل للصلاة هو ما يخرج المصلي عن هيئة الصلاة. أكمله: تمكين جبهته وأنفه وكفيه وركبتيه وأطراف أصابع قدميه من محل سجوده، ويسن فيه الترتيب بأن يضع الركبتين ثم الكفين ثم الوجه كما سيرد تفصيل ذلك في السنن. ومن عجز عن الركوع والسجود يومئ لهما ما أمكنه، ويجعل السجود أخفض من الركوع. فإن عجز عن جميع الأركان (قيام وركوع وسجود ... ) أومأ بطرفه واستحضر الفعل بقلبه عند إيمائه له. وكذتا يستحضر القول عند إيمائه له إن عجز أي القول بلسانه كأسير يخشى أن يعلم الأعداء بصلاته. ولا تسقط الصلاة عن المريض ما دام عقله ثابتاً لقدرته على أن ينوي بقلبه مع الإيماء بطرفه.   (1) الحج: 77. (2) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 39/760. وحديث المسيء صلاته هذا حديث هام لما اشتمل عليه من أحكام كثيرة في شأن الصلاة، وسنورده هنا بتمامه لتكرار الاستشهاد به، وهو: عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي عليه السلام فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فصلى ثم جاء فسلم على النبي فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً. فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني. قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها) . (3) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 50/779. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 33/190. (5) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 33/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثامناً: الرفع من السجود: وهو أن تفارق جبهته الأرض، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) . تاسعاً: الجلسة بين السجدتين: وهو الاعتدال بأن يجلس مستوياً بعد السجود بحيث كل عضو إلى أصله للحديث: (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) وكيف ما جلس أجزأه لكنيسن الافتراش. [ص: 183] عاشراً: الاطمئنان: وهو سكون الأعضاء وإن قلَّ بقدر الإتيان بالواجب في كل ركن، ودليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم ارجع حتى تطمئن راكعاً ... ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) . حادي عشر: التشهد الأخير: ودليله: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده. السلام على فلان وفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن إذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله) (1) فدل هذا على أنه فرض، وروي عنه أيضاً قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن، قال: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) (2) قال الترمذي: هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فاختاره أحمد لذلك، وإن اختار تشهد ابن عباس وغيره جاز نص عليه.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 182/968. (2) مسند الإمام أحمد ج-1 /ص 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ثاني عشر: الصلاة على النبي بعد التشهد الأخير: دليل فرضيتها: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) (1) ، وحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ( ... خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك. فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد. كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد. كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد [ص: 184] مجيد) (2) . قال بعض أصحابنا: تجب الصلاة على هذه الصفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وكيفما أتى بها أجزأته لأنها رويت بألفاظ مختلفة.   (1) الأحزاب: 56. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 17/66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثالث عشر: الجلوس الأخير للتشهد وللتسليمتين: فلو تشهد غير جالس أو سلم إحدى التسليمتين جالس والأخرى غير جالس لم تصح الصلاة. رابع عشر: التسليمتان: ودليل الفرضية خبر مسلم المتقدم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، ولأن التسليم أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطق واجب كالأول فيقول: السلام عليكم ورحمة الله ويسلم تسلمتين، عن جابر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما يكفي أحدكم أو أحدهم، أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله) (1) . أما في سجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة فيسلم تسليمة واحدة. ويأتي بالسلام مرتباً فإن نكسه فقال: عليك السلام، أو نكس التشهد لم يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله مرتباً، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة فاعتبر ترتيبه كالتكبير.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 189/999. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 خامس عشر: الترتيب: أي ترتيب الأركان كما ذكرناها فلو سجد قبل الركوع عمداً بطلت صلاته، أما لو سجد سهواً لزمه الرجوع للقيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الفصل الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 واجبات الصلاة الواجب في الصلاة أقل من الفرض، وهو ما تبطل الصلاة بتركه عمداً مع العلم، ولا تبطل بتركه سهواً أو جهلاً، فإن تركه سهواً وجب عليه أن يسجد للسهو، وإذا ذكر الواجب في غير محله لم يجزئه كأن كبر قبل الهوي للسجود. أولاً: تكبيرات الانتقال: دليلها ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول سمع الله لمن حمد حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس) (1) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) ، ولأن الهوي إلى الركوع والهوي إلى السجود والرفع منه أفعال فلم تخلُ من ذكر واجب كالقيام. أما المسبوق إذا كبر تكبيرة الإحرام ولحق بالإمام راكعاً فتكبيرته هذه تجزئه عن تكبيرة الانتقال إلى الركوع لكن يسن له أن يكبرها. [ص: 186] ثانياً: قول "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع و "سبحان ربي الأعلى" مرة في السجود، لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه (أنه لما نزل قوله تعالى: "فسبح باسم ربك العظيم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزل قوله تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى" قال: اجعلوها في سجودكم" (3) ، ولأنه فعل في الصلاة فلم يخلُ من ذكر واجب كالقيام. ثالثاً: قول "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد و "ربنا ولك الحمد" بالنسبة للمأموم، وذلك حال الرفع من الركوع، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (4) . رابعاً: قول "ربنا ولك الحمد" بالنسبة للإمام والمنفرد في الاعتدال. خامساً: قول "ربِّ اغفر لي" مرة بالجلسة بين السجدتين لما روى حذيفة رضي الله عنه (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السجدتين رب اغفر لي) (5) . سادساً: التشهد الأول (ويسقط عن المأموم إذا قام إمامه إلى الثالثة سهواً لمتابعته) فقط دون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركعتين الأويين في الصلاة التي أكثر من اثنتين. سابعاً: الجلوس للتشهد الأول، لما روى أبو عبيدة عن أبيه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف (6) . قال: قلنا: حتى يقوم قال: حتى يقوم) (7) لشدة تخفيفه، ثم ينهض مكبراً كنهوضه من السجود ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية فلا يجهر ولا يزيد على فاتحة الكتاب. [ص: 187]   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 35/756. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الأذان باب 18/605. (3) الدرمي: ج-1/ ص 299. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 18/71. (5) الدرمي: ج-1/ ص 304. مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 17/65. (6) الرضف: الحجارة المحامة. (7) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 188/995. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الفصل الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سنن الصلاة السنن والمندوبات والمستحبات والتطوع كلها كلمات مترادفات، وتعني ما يثاب المكلف على فعله ولا يؤاخذ على تركه. وإذا تركت ولو عمداً لا تبطل الصلاة، أما سهواً فيباح السجود لسهوه عنها. أنواع السنن: السنن ثلاث: قولية وفعلية وقلبية (ما يتعلق بالقلب) . -1- السنن القولية: أولاً: الاستفتاح سراً: وردت في دعاء الاستفتاح صيغ عدة اختار أحمد رضي الله عنه ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك. وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) (1) ، ولو استفتح المكلف بغير ذلك مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كان حسناً، مثل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هُنيَّة قبل أن يقرأ، فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) (2) . ومن نسي الاستفتاح وشرع بالتعوذ سقط الاستفتاح فلا يرجع إليه. [ص: 188]   (1) الترمذي: ج-2/ كتاب الصلاة باب 179/242. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 27/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ثانياً: التعوذ سراً في بداية الركعة الأولى فيقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم قبل القراء لقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (1) ولقوله تعالى: (فاستعذ بالله وهو السميع العليم) (2) وهذا متضمن للزيارة، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) (3) . ومن نسي التعوذ وشرع بالبسملة سقط عنه التعوذ ولا رجوع إليه، ولكن له أن يأتي به في الركعة الثانية.   (1) النحل: 98. (2) فصلت: 36. (3) مسند الإمام أحمد: ج-3 /ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ثالثاً: البسملة سراً: لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) (1) والمعتمد في المذهب أنها ليست من الفاتحة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 13/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 رابعاً: قول "آمين جهْراً في الصلاة الجهرية وسراً في الصلاة السرية بعد الانتهاء من الفاتحة، لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال: آمين، ومدَّ بها صوته) (1) . ويؤمن المأمومون على تأمين إمامهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمنا، يقول: لا تُبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا آمين ... ) (2) ، وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) (3) ويجهر المأمومون بها لما روى عطاءأن الزبير رضي الله عنه كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد لَلَجَّة (4) . فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به لأنه [ص: 189] سنة فات محلها. ويجوز مد ألف "آمين" أو قصرها لكن إن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.   (1) الترمذي: ج-2/كتاب الصلاة باب 184/248. (2) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 20/87. (3) الترمذي: ج-2/كتاب الصلاة باب 185/250. (4) رواه الشافعي في مسنده. واللجة: الصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 خامساً: قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة أو آية لها معنى مستقل غير مرتبط بما قبله ولا بعده، فلا يكفي أن يقول: (مد هامتان) (1) مثلاً. وهذا للإمام والمنفرد والمأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام. ويسن إن كان منفرداً القراءة من طول المفصل في صلاة الصبح ومن قصار المفصل في المغرب وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب ق القرآن المجيد ... ) (2) وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج، ونحوهما من السور) (3) وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه إذا دحضت (4) الشمس صلى الظهر وقرأ بنحوٍ من الليل إذا يغشى والعصر كذلك، والصلوات -كذلك - إلا الصبح فإنه كان يطليها) (5) . ويجزئ بما قرأ فاتحة الكتاب. ويستحب أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأُولَيَينِ من صلاة الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطوِّل في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية) (6) . ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية ولا الثالثة من المغرب لهذا الحديث. أما إن كان إماماً فعليه أن يخفف الصلاة بتخفيف القراءة. [ص: 190] سادساً: يسن للإمام الجهر في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء والإِسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس لأنه لا ينازع غيره، وكذا القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته صلاة ليل فقضاها نهاراً لم يجهر، وكذا إن فاتته صلاة نهار قضاها ليلاً لم يجهر لأنها صلاة نهار، أما إن فاتته صلاة ليل وقضاها ليلاً في جماعة جهر.   (1) ابن ماجة: ج-1/كتاب إقامة الصلاة باب 21/890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سابعاً: الزيادة في تسبيحات الركوع والسجود على الواحدة، فأدنى الكمال ثلاث لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً فإذا فعل فقد تم ركوعه، وإذا سجد أحدكم فليقل في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فإذا فعل ذلك فقد تم سجوده وذلك أدناه) (1) وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر فتجزيء المرة الواحدة. ولا يزيد على سبع مرات. ثامناً: أن يقول الإمام والمنفرد بعد قولهما "سمع الله لمن حمد": "ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد "، لما روى ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمد. اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) (2) . ولا يستحب للمأموم الزيادة على " ربنا ولك الحمد " لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ... وإذا قال سمع الله لمن حمد فقولوا: ربنا ولك الحمد) (3) . [ص: 191]   (1) مسلم: ج-2/كتاب الصلاة باب 40/202. (2) مسلم: كتاب الصلاة باب 19/77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 تاسعاً: أن يزيد على سؤال المغفرة فيقولها ثلاثاً وهو الكمال فيها. ويستحب أن يقول ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (اللهم اغفر لي، وارحمني واجبرني واهدني وارزقني) (1) .   (1) الترمذي: ج-2/الصلاة باب 211/284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 عاشراً: يستحب أن يتعوز من أربع بعد التشهد الأخير، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات. وشر المسيح الدجال) (1) وعنه أيضاً برواية مسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم. ومن عذاب القبر. ومن فتنة المحيا والممات. ومن شر المسيح الدجال) (2) . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (3) . ولا يجوز أن يدعو في الصلاة بدعاء دنيوي يشبه كلام الآدميين لحديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) (4) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 25/131. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 25/128. (3) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 65/799. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 7/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 حادي عشر: يستحب أن يجهر بالتسليمة الأولى أكثر من الثانية، وحمل الإمام أحمد حديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) (1) على أنه كان يجهز بواحدة. ويستحب أن لا يمد السلام [ص: 192] لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حذف السلام سنة) (2) قال ابن المبارك: معناه لا يمده مداً.   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 29/919. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 192/1004. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ثاني عشر: يستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعاؤه واستغفاره لما روى المغيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لما روت عائشة رضي الله عنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (1) ، وروى ثوبان رضي الله عنه أنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام) (2) . ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (3) فإن أحب قام وإن شاء القعود انحرف عن قبلته لما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان النبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة، أقبل علينا بوجهه) (4) ، وينصرف حيث شاء عن يمين أو شمال، وإذا كان هناك نساء فيستحب أن يخرجن قبل الإمام والرجال لقول أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال) (5) . كما لا يستحب أن يخرج المأمومون قبل الإمام لحديث أنس رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. فلما قضى [ص: 193] الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: (أيها الناس إني إمامكم. فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود. ولا بالقيام ولا بالانصراف ... ) (6) . كما يكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه الإمام أحمد وقال: كذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله) زاد في حديث عماد: في الصلاة يعني في السُّبْحة (7) ، ويُذكر عنه أيضاً رفعه (لا يتطوع الإمام في مكانه) (8) . أما المأموم فله أن يتطوع في موضع صلاته.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 71/808. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 26/135. (3) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 224/298. (4) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 71/809. (5) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 79/828. (6) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 25/112. (7) أبو داود: مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 194/1006. (8) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ثالث عشر: دعاء القنوت: لا يسن القنوت قي صلاة الفرض إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة، فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد يقنت بعد الركوع) (1) . وعن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو إلى أحياء من أحياء العرب ثم تركه) (2) . ويقول في قنوته نحواً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عمر رضي الله عنه. كان عمر رضي الله عنه يقول في القنوت: (اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهمبأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ... ) (3) . [ص: 194]   (1) البيهقي: ج-2/ص 197. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 54/304. (3) البيهقي: ج-2/ص 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 -2ً-السنن الفعلية: -1ً- يستحب أن يرفع يديه ممدودتي الأصابع مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه أو فروع أذنيه في تكبيرة الإحرام والهوي للركوع والرفع منه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة، رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول سمع الله لمن حمد، ولا يفعل ذلك في السجود) (1) . ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه، فإن لم يرفعهما حتى كبر لم يرفعهما، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى لقوله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . -2ً- وضع يده اليمنى على اليسرى تحت السرة، لما روى قبيصة بن هُلْبٍ عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّنا فيأخذ شماله بيمينه) (3) . -3ً- يستحب أن يجعل نظره إلى موضع سجوده لأنه أجمع للمصلي وأكف لنظره. -4ً- يستحب أن يضع كفيه على ركبتيه في الركوع قابضاً لهما، وأن يسوي ظهره مع رأسه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره) (4) ، وفي لفظ له: (فركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنعه (5)) (6) ، وعن سالم البراد قال: أتانا عقبة بن عمرو، أبا مسعود، فقلنا: [ص: 195] حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر، فلما ركع كبر ووضع راحتيه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، ثم جافى مرفقيه، ثم قال: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) (7) . -5ً- البداءة بوضع الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف في السجود، وإذا رفع وجهه ثم يديه ثم ركبتيه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (8) . ويستحب أن يجافي عضديه عن جبنيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه، لما روى عبيد الله بن عبد الله بن الأقرم الخزاعي عن أبيه قال: (فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، قال: كنت أنظر إلى عُفْرَتَيْ إبطيه إذا سجد، أي بياضه) (9) ، ووصف البراء رضي الله عنه سجود النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته، وقال: هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسجد) (10) ، كما يستحب أن يضم أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه ويثنيهما نحو القبلة، لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: ( ... فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة..) (11) ، وعن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب) (12) . -6ً- الجلوس مفترشاً في كل القعود عدا القعود الأخير في الصلاة غير الثنائية (أي الصلاة الثنائية قعودها الأخير افتراش أيضاً) . والافتراش: هو أن يجلس [ص: 196] المصلى على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان ... ) (13) ويسن أن يثني أصابع رجله اليمنى ويوجهها نحو القبلة. ويكره الإقعاع: وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، هذه هي عقبة الشيطان المنهي عنه في الحديث المتقدم عن عائشة رضي الله عنها. -7ً- يستحب أن يضع المصلي يديه على فخذيه في الجلوس الأول والأخير، ويجعل اليسرى مبسوطة الأصابع مضمومة مستقبلاً بأطرافها القبلة أو يلفها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى عاقداً الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى. ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى. وعقد ثلاثاً وخمسين. وأشار بالسبابة) (14) . -8ً- ويستحب التورك في القعود الأخير إن كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، وهو أن يجلس متوركاً على شقه الأيسر، ويجعل باطن قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويخرجها من جهة يمينه وينصب قدمه اليمنى، لما ورد في حديث آبي حميد رضي الله عنه في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم: ( ... فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة، قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، قعد على مقعدته) (15) . -9ً- يستحب أن يلتفت عن يمينه فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت عن يساره كذلك، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة [ص: 197] الله) (16) ، وأن يكون التفاته في الثانية أو في. قال ابن عقيل: يبتدئ بقوله: " السلام عليكم " إلى القبلة ثم يلتفت قائلاً: "ورحمة الله " عن يمينه ويساره لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) (17) معناه ابتداء السلام. -10ً- تمكين أعضاء السجود من الأرض ومباشرتها لمحل السجود سوى الركبتين. -11- يستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة يقرأ فيها من خلفه الفاتحة، لما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: حفظت سكتتين في الصلاة: سكتة إذا كبر الإمام حتى يقرأ وسكتة إذا فرغ من قراءة فاتحة الكتاب) (18) . قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب. إذا افتتح الصلاة وإذا قال: " ولا الضالين ". -12- ويستحب للمكلف أن يصلي إلى سترة ويدنو منها، لما روى أبو سعيد رضي الله عنه: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، وليْدنُ منها) (19) ، وما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار (20) ممرُّ الشاة) (21) . وقدر السترة: مثل مؤخرة الرحل، وذلك قدر الذراع أو عظم الذراع، لما روى طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فَلْيُصَلِّ ولا يبالِ من مرَّ وراء ذلك) (22) . [ص: 198] ويجوز أن يستتر بعصا أو بحيوان، لما روى ابن عمر رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَركز (23) - وقال أبو بكر يَغرز العنزة (24) ويصلي عليها) (25) وعنه أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته وهو يصلي إليها) (26) . وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سترة قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطاً، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطاً ثم لا يضره ما مر أمامه) (27) ، ولا يصمد أمام الخط بل ينحرف عنه يسيراً، لحديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمداً) (28) . وتعد سترة لمن خلفه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه إلى سترة ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 3/703. (2) البخاري: ج-6 / كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب 2/6858. (3) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 187/252. (4) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 61/794، وهصر: أمال مع استقامة من غير تقوس. (5) لم يصوب رأسه: لم يبالغ في خفضه وتنكيسه. ولم يقنعه: لم يرفعه. (6) مسند الإمام أحمد: ج-5/424. (7) المستدرك: ج-1/224. (8) الترمذي: ج-1/ الصلاة باب 199/268. (9) الترمذي: ج-1/ الصلاة باب 204/274. (10) أبو داود: ج-1/ الصلاة باب 158/896 (11) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 61/794. (12) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 205/275. (13) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 46/240. (14) مسلم: ج-1/كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 21/115. (15) البخاري: ج-1/كتاب صفة الصلاة باب 61/794. (16) الترمذي: ج-1/ الصلاة باب 221/295. (17) ابن ماجة: ج-1/كتاب إقامة الصلاة باب 29/919. (18) مسند الإمام أحمد: ج-5/ص-21. (19) أبو داود: ج-1/كتاب الصلاة باب 108/698. (20) الجدار: المراد به جدار المسجد النبوي مما يلي القبلة. (21) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 49/262. (22) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 47/241. (23) يركز ويغرز كلاهما بمعنى، وهو إثبات الشيء بالأرض. (24) العنزة: كنصف الرمح. (25) مسلم: ج-1/ الصلاة باب 47/246. (26) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 47/247. (27) أبو داود: ج-1/كتاب الصلاة باب 103/689. (28) أبو داود: ج-1/كتاب الصلاة باب 105/693. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 حكم المرور بين يدي المصلي: يحرم المرور بين يدي المصلي، لما روى أبو جهيم الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) (1) ، فإذا أراد المرور دون السترة دفعه المصلي إلا أن يغلبه أو يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدأن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) (2) . [ص: 199] أما المرور من وراء السترة فلا باس به، فإن صلى إلى غير سترة ومر أحد من بين يديه أي قريب منه فحكمه حكم من مر بينه وبين لسترة (أي يحرم) . ويقطع الصلاة مرور الكلب الأسود البهيم الذي لا لون فيه سوى السواد، لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) (3) . السترة في الحرم: لا حاجة في الحرم إلى سترة، ولا يضره من مر بين يديه، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما يصلي والطواف بينه ويين القبلة، وتمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر ثم يضع جبهته في موضع قدميها: -3ً- السنن القلبية: -1- الخشوع: وهو حضور القلب وسكون الجوارح مع حسن الإنصات والفهم عن الله. -2- أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة، وإن لم ينوِ لم تبطل صلاته، لأن نية الصلاة قد شملت جميعها والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلا تجب النية للخروج منها كسائر العبادات. وإن نوى بسلامه السلام على الحفظة والمصلين معه فلا بأس، لما رُوي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض) (4) . [ص: 200]   (1) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 48/261. (2) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 48/259. (3) مسلم: ج-1/كتاب الصلاة باب 50/265. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 30/922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الفصل الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 مكروهات الصلاة الكراهة عند السادة الحنابلة تنزيهية. والمكروهات في الصلاة هي: -1- الاقتصار على الفاتحة فيما تسن فيه السورة بعدها. -2- تكرار الفاتحة. -3- حمد المصلي إذا عطس أو وجد ما يسره، كما يكره استرجاعه (قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون) إذا وجد ما يغمه. -4- الالتفات لغير حاجة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) . ولا تبطل الصلاة بالتفاته ما لم يستدار بجملته أو يستدبر الكعبة. -5- رفع البصر إلى السماء، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام، يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم. فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم) (2) . -6- حمل مُشْغِل له عن الصلاة لأنه يُذهِب الخشوع. -7- العبث باللحية، وافترش الذراعين في السجود. [ص: 201] -8- أن يصلي واضعاً يده عى خاصرته. -9- كف الشعر أو الثياب أو تشمير الكمين، للحديث المتقدم ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر) . كما يكره أن يكون شعره معقوصاً أو مكتوفاً (أي مضفوراً) لحديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره) (3) . -10- تشبيك الأصابع، لما روي كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) (4) . كما تكره فرقعة الأصابع لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة" (5) . -11- التروح بمروحة ونحوها لأنه من العبث، إلا لحاجة كغم شديد. أما المراوحة بأن يرتاح على رجل دون أخرى فمكروهة إذا كثرت. -12- الاعتماد على اليد في الجلوس، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل: أن يجلس الرجل في الصلاة، وهو معتمد على يده) (6) . -13- مسح الحصى لحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم في الصلاة فإن الرحمة تُواجهه فلا يمسح الحصى) (7) . [ص: 202] -14- الإكثار من مسح الجبهة، لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته) (8) . -15- النظر إلى ما يلهيه، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصه لها أعلام وقال: شغلتني أعلام هذه، فاذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنْبِجانِيَّةٍ) (9) . -16- أن يصلي وبين يديه ما يلهيه، لحديث أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة، سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه تصاويره لا تزال تعرض في صلاتي) (10) . -17- استقبال صورة منصوبة لأنه يشبه سجود الكفار لها، ويكره أن يصلى إلى جدار فيه صور وتماثيل لما فيه من الشبه بعبادة الأوثان والأصنام، وظاهره أن ذلك يكره ولو كانت الصورة والتماثيل صغيرة لا تبدو للناظر إليها. ولا تكره الصلاة إلى صورة غير منصوبة، ولا السجود على صورة، وكذا لا تكره الصلاة إذا كانت خلفه أوفوق رأسه صورة أو عن أحد جانبيه. ويكره استقبال وجه آدمي أو نائم أو حيوان أونار في الصلاة. -18- كثرة التميّل لقول عطاء: إني لأحب أن يُقل في الصلاة التحريك وأن يعتدل قائماً على قدميه، إلا أن يكون إنساناً كبيراً لا يستطيع ذلك. وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفرج بين قدميه ولا يمس إحداهما بالأخرى ولكن بين ذلك. أما التطوع فإنه يطول على الإنسان فلا بدم من توكئ على هذا الطرف مرة وعلى هذا مرة. [ص: 203] -19- تغميض العينين، نص عليه الإمام أحمد وقال: إنه من فعل اليهود. -20- التمطي لأن ذلك يذهب الخشوع. -21- الصلاة إلى القبر في غير المقبرة (أما في المقبرة فلا تصح الصلاة) . -22- فتح الفم ووضع شيء فيه. -23- الصلاة خلف صف فيه فرجة ومعه آخرين، أما إن كان يصلي وحده فصلاته باطلة. -24- الإقعاء في الجلوس، وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقع كما يقع الكلب. ضع أليتيك بين قدميك وألزق ظاهر قدميك بالأرض) (11) . -25- أن يبتدئ الصلاة وهو حاقن (12) أو حاقب (13) أو تائق للطعام، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) (14) . [ص: 204]   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 11/718، والاختلاس: الأخذ بسرعة، على غفلة. (2) البخاري: ج-1/ كتاب صفة الصلاة باب 10/717. (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 67/1042. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 42/967. (5) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 43/965. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 187/992. (7) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 175/945. (8) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 43/964. (9) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 15/61، والخميصة: كساء مربع من صوف. (10) البخاري: ج-1/ كتاب الصلاة في الثياب باب 14/367، والقرام: ستر رقيق من صوف، ذو ألوان ونقوش. (11) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 22/896. (12) الحاقن: محتبس البول. (13) الحاقب: محتبس الغائط. (14) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 16/67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الفصل الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مبطلات الصلاة -1- طروء نجاسة غير معفو عنها ولم تزل في الحال. -2- استدبار القبلة. -3- تعمد كشف العورة بخلاف ما لو كشفت بفعل الريح وسترها في الحال -4- طروء ناقض من نواقض الوضوء: فمن أحدث عمداً بطلت صلاته، وكذا إذا سبقه الحدث، أو طرء عليه ما يفسد طهارته كظهور قدم الماسح من الخف أو انقضاء مدة المسح بطلت صلاته. -5- العمل الكثير المتوالي من غير جنس الصلاة، كفتح باب، ومشي، ولف عمامة، عمداً أو سهواً أو جهلاً لغير ضرورة. فإن كان لضرورة كهرب من عدو وخوف أو سيل أو سبع فلا تبطل به. أما الحركات التي لا تبطل بها الصلاة فهي: -1ً- عدّ الآي والتسبيح. -2ً- قتل الحية والعقرب والقملة، ولا بأس بالعمل اليسير للحاجة. -3ً- إن تثاءب في الصلاة استحب له أن يكظم، فإن لم يقدر وضع يده على فيه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن احدكم إذا قال ها ضحك [ص: 205] الشيطان) (1) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب) (2) . -4ً- إن بده البصاق بصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن كان في المسجد بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامه في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال: ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره. تحت قدمه. فإن لم يجد فليقل هكذا ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض) (3) . -5ً- إن سلم على المصلي أحد ردَّ عليه بالإشارة، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فبعثني في حاجة فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه على غير القبلة فسلمت عليه فلم يرد عليّ. فلما انصرف قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي) (4) . وفي رواية أبو داود: (فكلمته، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته فقال لي بيده هكذا) (5) ، وعن صهيب رضي الله عنه أنه قال: (مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إشارة) (6) . -6- الاستناد قوياً لغير عذر. -7- رجوعه عالماً ذاكراً للتشهد الأول بعد القيام والشروع في القراءة لأنه تلبس بركن مقصود. -8- زيادة ركن فعلي عمداً كقيام وركوع وسجود. [ص: 206] -9- تقديم بعض الأركان على بعض عمداً. -10- السلام قبل إتمام الصلاة عمداً. -11- اللحن في قراءة الفاتحة نما بغير المعنى عمداً مثلاً (أنعمتُ بدلاً من أنعمتَ) . -12- فسخ النية أثناء الصلاة، لأن النية شرط في جميعها وقد قطعها فتبطل صلاته. -13- التردد في فسخ النية لأن التردد يبطل استدامة النية. -14- إدامة الشك في النية لأن أثناء أداء ركن من أركان الصلاة. -15- الشك في أداء تكبيرة الإحرام، فمن شك هل كبر للإحرام أم لا بطلت صلاته. -16- الدعاء بملاذّ الدنيا. -17- الإتيان بكاف الخطاب لغير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. -18- القهقهة. -19- الكلام ولو سهواً أو عمداً أو جهلاً، إلا إذا كان نائماً وهو قائم أو وهو جالس. -20- تقدم المأموم على إمامه في صلاة الجماعة (الاعتبار للعقب) . -21- تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة إمامه إلا إذا صلى محدثاً ناسياً حدثه ونحوه. -22- تبطل صلاة المأموم بسلامه قبل إمامه عمداً أو سهواً. ولم يعده بعده. [ص: 207] -23- الأكل والشرب سوى اليسير عرفاً لساه وجاهل (أما ما علق بين الأسنان وابتلعه بلا مضغ فلا يبطل) . -24- التنحخ بلا حاجة. والانتحاب بلا خشية، أو النفح، فبان منه حرفان. أما إذا غلبه سعال أو عطاس أو تثائب فلا تبطل وإن بان منه حرفان. -25- مرور كلب أسود بهيم لا لون فيه سوى السواد بين يدي المصلي في ثلاثة أذرع فما دونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الباب الخامس (صلاة التطوع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 دليلها: حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) (1) ، ولأن فرضها آكد الفروض فتطوعها آكد التطوع. أقسامها: أولاً: الرواتب التابعة للفرائض. ثانياً: تطوعات مع السنن الرواتب. ثالثاً: النوافل الموقوتة. رابعاً: النوافل التي تسن فيها الجماعة. خامساً: النوافل ذات السبب. [ص: 209]   (1) مسند الإمام أحمد: ج-5 /ص 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الفصل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أولاً: الرواتب التابعة للفرائض: وهي عشر ركعات مرتبة حسب الأفضلية كما يلي ركعتا سنة الفجر، ركعتا المغرب، ركعتا سنة الظهر القبلية وركعتا سنة الظهر البعدية وركعتا العشاء. دليلها: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها) (1) . -1ً- ركعتا الفجر: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل، أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر) (2) ، وعنها أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) (3) . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل) (4) . ويستحب أن تكونا خفيفتين لما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين التين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب) (5) . [ص: 210] كما يستحب أن يقرأ فيهما: قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه ?سلم قرأ في ركعتي الفج: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) (6) ويستحب أن يركعهما في البيت. -2ً- ركعتان بعد المغرب: روى رافع بن خديج رضي الله عنهما (أتانا رسول الله صلى الله عليه ?سلم في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم) (7) . ويسن أن يقرأ فيهما: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد بدليل أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه ?سلم كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) (8) ويستحب أن يركعهما في البيت لحديث ابن خديج المتقدم. -3ً- ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها. -4ً- ركعتان بعد العشاء.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب التطوع باب 10/1126. (2) البخاري: ج-1/ كتاب التطوع باب 3/1116. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 14/96. (4) مسند الإمام أحمد: ج-2 /ص 405. (5) البخاري: ج-1/ كتاب التطوع باب 4/1118. (6) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 14/98. (7) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 111/1165. (8) ابن ماجة: ج-1/ إقامة الصلاة باب 112/1166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثانياً: تطوعات مع السنن الرواتب: -1ً-أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعده حرمه الله على النار) (1) . -2ً- أربع ركعات قبل العصر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أمرأً صلى قبل العصر أربعاً) (2) . [ص-211] -3ً- ست ركعات بعد المغرب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عُدِلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة) (3) . -4ً- أربع ركعات بعد العشاء لما روى شريح بن هانئ عن عائشة رضي الله عنها، قال: سألتها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات ... ) (4) .   (1) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 317/428. (2) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 318/430. (3) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 321/435. (4) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 305/1303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ما يسن بالرواتب وتوابعها: -1- الفصل بين الفرض والسنة، سواء كانت قبله أو بعده، بقيام أو انتقال أو كلام. -2- إحياء ما بين العشاءين، وهو من قيام الليل. -3- قضاء الرواتب والوتر، إلا ما فات من الرواتب مع فرضه وكثر فالأولى تركه دفعاً للحرج إلا سنة الفجر فيقضيها لتأكدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الفصل الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 النوافل الموقوتة -1ً- الوتر: وهو سنة مؤكدة لمداومته صلى الله عليه وسلم عليه في الحضر والسفر، وهو آكد التطوع بعد الكسوف والاستسقاء والتراويح. عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) (1) . وقته: من بعد صلاة العشاء إلى الصبح لما روى خارجة بن حُذافة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) (2) . والأفضل فعله سحراً لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) (3) فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل) (4) . ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاة قبل الفجر. ولا يصح تعدد الوتر لما رواه طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وتران في ليلة) (5) . [ص: 213] وأقله: ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشر ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة) (6) . وأدنى الكمال: ثلاث ركعات بتسليمتين لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحجرة وأنا في البيت فيفصل عن الشفع والوتر بتسليم يسمعناه) (7) . ويستحب أن يقرأ فيه في الأولى بعد الفاتحة (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد) لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون والله الواحد الصمد) (8) . وإن أوتر بخمس سردهن فلا يجلس إلا في آخرهن وإن أوتر بتسع فلا يجلس إلا بعد الثامنة ولا يسلم ثم يجلس بعد التاسعة فيتشهد ويسلم، وكذا إن صلى سبعاً   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 338/1422. (2) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 332/452. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الوتر باب 2/951. (4) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 21/162. (5) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 344/470. (6) الترمذي: ج-2 /الصلاة باب 325/440. (7) مسند الإمام أحمد: ج-6 /ص 84. (8) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 339/1423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 القنوت في الوتر: حكمه: سنة في جميع السنة، ويكون بعد الركوع لما روى أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع) (1) . ويقول فيه ما رواه الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت (2) ، وعافني (3) فيمن [ص: 214] عافيت، وتولني (4) فيمن توليت، وبارك (5) لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت) (6) . وزاد البيهقي بعد قوله: (ولا يذل من واليت) : (ولا يعز من عاديت) (7) ، وزاد النسائي: (وصلي الله على النبي) (8) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (9) . وبأس أن يدعو المصلي في قنوته بما يشاء غير ما تقدم من الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، وإن كان الوارد أفضل. ويسن القنوت في الوتر جماعة في رمضان. ويؤمن المأمون على قنوت إمامه، ويرفع القانت يديه في الدعاء إلى صدره وبطونهما نحو السماء ولو كان مأموماً لأن ابن مسعود رضي الله عنه فعله، وإذا فرغ أمرَّ يديه على وجهه. ويكره القنوت في غير الوتر إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 54/300. (2) أصل الهدى: الرشاد والبيان قال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صرط مستقيم) والهداية من الله التوفيق والإرشاد، وطلب الهداية من قبل المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبيت عليها أو المزيد منها. (3) العافية من الأسقام والبلايا. والعافية: أن يعافك الله من الناس ويعافيهم منك. (4) الولي ضدد العدو، مأخوذ من توليت الشيء أي اعتنيت به أي إن الله ينظر في أمر موليه بالعناية. أو مأخوذ من وليت الشيء إذا لم يكن بينك وبينه واسطة بمعنى أن الولي يقطع الوسائط بينه وبين الله حتى يصير في مقام المراقبة. (5) البركة: الزيادة، وقيل: هي حلول الخير الإِلهي في الشيء. (6) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 341/464. (7) البيهقي: ج-2/ 209. (8) النسائي: ج-3 / 248. (9) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 340/1427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 -2ً- صلاة الضحى: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ وركعتي الضحى، وأن أوتِر قبل أن أَرْقُد) (1) . [ص: 215] وتسن غباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها. أقلها: ركعتان، وأكثرها ثماني ركعات لما روت أم هانئ رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعاتٍ، ما رأيته صلى صلاة قط أخفَّ منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود) (2) . وقتها: أفضل وقت تصلى فيه إذا علت الشمس واشتد حرها لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون من الضحى، فقال: أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الأوابين حين تِرْمِضُ الفِصَالُ) (3) . ويبدأ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال بقليل. [ص: 216]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 13/85. (2) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 13/80. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 19/143. وترمض: من الرمضاء: الرمل الذي اشتدت حرارته بالشمس: أي حين تحترق أخفاف الفصال، وهي الصغار من أولاد الإِبل، جمع فصيل. وذلك من شدة حر الرمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الفصل الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 النوافل التي تسن فيها الجماعة -1ً- صلاة التراويح: وهي قيام رمضان. حكمها: سنة مؤكدة. عددها: عشرون عند أكثر أهل العلم. وقال مالك: الاختيار (36) ركعة. والدليل على أنها عشرون ما روى البيهقي عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: (كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في شهر رمضان، بعشرين ركعة، وكانوا يقومون بالمئين، وكانو يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام) (1) . أما الدليل على سنيتها وعلى سنية صلاتها جماعة ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (2) وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة. فصلى بصلاته ناس. ثم صلى من القابلة. فكثر الناس. ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة. فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم. فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم) وذلك في رمضان (3) . [ص: 317] فكان الناس يصلون لأنفسهم حتى جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه - في خلافته - على أبي بن كعب رضي الله عنه، وصاروا يصلونها عشرين كل اثنتين بنية ويوتر بهم الإمام بثلاث ركعات. وسميت التراوح لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربع ركعات يستريحون. وقتها: من صلاة العشاء إلى الوتر. ولا بد من التراويح قبل الوتر. ولا تستحب الزيادة على الختمة فيها لئلا يشق على الناس كما لا يستحب بأقل من ذلك. ولا يكره تعقيبها بنافلة جماعة لأن أنساً رضي الله عنه قال ما يرجعون إلا لخير يرجونه أو لشر يحذرونه. واختلف في قيام ليلة الشك فقامها القاضي ومنعها القاضي ومنعها أبو حفص العكبري لأن الأصل بقاء شعبان.   (1) البيهقي: ج-2/ 496. (2) البخاري: ج-1/ كتاب صلاة الترويح باب 1/1905. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 25/177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 -2ً- التطوع المطلق: وهو مشروع في الليل والنهار لكن تطوع الليل أفضل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة، بعد الفريضة صلاة الليل) (1) . والنصف الأخير أفضل وبعد النوم أفضل، لأن الناشئة المعينة في قوله تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ) (2) ، لا تكون إلا بعد الرقدة، ومن لم يرقد فلا ناشئة له. ومعنى أشد وطأً: أي تثبيتاً تفهم ما تقرأ وتعي أذنك، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله وهل من ساعة أقرب إلى الله تعالى من أخرى قال: (جوف الليل الآخر) (3) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) (4) . [ص: 218]   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 38/202. (2) المزمل: 6. (3) مسند الإمام أحمد: ج-4/ ص 114. (4) البخاري: ج-1/ كتاب التهجد باب 7/1079. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ما يستحب للمتهجد: -1ً- أن يذكر الله تعالى إذا استيقظ من نومه، كأن يقول: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ... -2ً- أن ينوي عند نومه قيام الليل ليحوز ما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه عز وجل) (1) . -3ً- أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذ قام أحدكم من الليل فليصلِّ ركعتين خفيفتين) (2) . -4ً- يستحب أن تكون له ركعات معلومة يقرأ فيها حزبه من القرآن، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل) (3) ، وعنها أيضاً قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يَفْرُغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناس العتمة - إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة. فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين. ثم اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن للإقامة) (4) . أما القراءة فيخير بين الجهر والإسرار. [ص: 219] -5ً- يستحب أن يختم القرآن في كل سبع، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: في شهر قال: إني أقوى من ذلك ... قال: أقرأه في سبع) (5) . -6ً- يستحب أن يصلي مثنى مثنى لا يزيد على ركعتين، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى ... ) (6) . أما صلاة النهار فله أن يتطوع بأربع لكن الأفضل التثنية لأنه أبعد من السهو. -7ً- أن يكثر من الركوع والسجود لأنه أفضل من إطالة القيام. والتطوع في البيت أفضل لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) (7) . ويجوز التطوع إما منفرداً أو في جماعة، لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أكثر تطوعه منفرداً، وأنه أمَّ ابن عباس رضي الله عنهما في التطوع مرة وحذيفة رضي الله عنه مرة فدل على جواز الجميع. ويجوز أن يتطوع جالساً، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدِّثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة) (8) ، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعاً ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود لأن حال الركوع كحال القيام، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى إذا كَبِرَ قرأ [ص: 220] جالساً. حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية، قام فقرأهن، ثم ركع) (9) . وإن شاء ركع من قعود.   (1) النسائي: ج-3 /ص 258. (2) أبو داود: ج-2 / كتاب الصلاة باب 313/1323. (3) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 30/218. (4) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 17/122. (5) أبو داود: ج-2 / كتاب الصلاة باب 325/1390. (6) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 20/147. (7) البخاري: ج-1/ كتاب الجماعة والإمامة باب 52/698. (8) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 16/120. (9) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 16/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 -3ً- صلاة العيدين: تعريف: العيد من العَوْد، وسمي عيداً لأنه يعود ويتكرر. حكمها: -1ً- فرض كفاية على كل من تلزمه صلاة الجمعة فلا تقام إلا حيث تقام الجمعة. والدليل على ذلك مداومته صلى الله عليه وسلم عليها وكذلك الخلفاء من بعده، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة فكانت فرض كفاية كالجهاد. ولا تجب على الأعيان لما روى طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد يسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع) (1) . وإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام لتركهم شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لصحتها الاستيطان والعدد، لأنها صلاة لها خطبة راتبة أشبهت الجمعة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجته ولم يصل. -2ً- سنة لمن فاتته الصلاة مع الإمام، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما. -3ً- يستحب خروج النساء لما روت أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى. العواتِقَ والحُيَّضَ وذواتِ الخُدُود. فأما الحيض فيعتزِلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ... ) (2) ، [ص: 221] ولكن لا يلبسن ثوب شهرة ولا يتطيبن، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرُجن وهن تفلات) (3) . مشروعيتها: شرعت في السنة الأولى للهجرة. روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر) (4) . وقتها: من حِلّ النافلة (أي حين ترتفع الشمس) إلى ما قبيل الزوال، فإذا زالت الشمس وهو فيها فسدت إن حصل الزوال قبل القعود قدر التشهد) ومعنى فسادها أنها تنقلب نفلاً. فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج الإمام من الغد فصلى بالمسلمين، لما روى أبو عمير بن انس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن ركباناً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يُفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم) (5) . ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر، لما روى أبو الحويرث رضي الله عنه قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر) (6) ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل صلاة الفطر ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، أما الأضحية فلا تجوز إلا بعد الصلاة ففي تعجيل صلاة عيد الأضحى مبادرة إلى الأضحية. كيفيتها: هي ركعتان عاديتان يقرأ في كل واحدة الفاتحة وسورة ويجهر بالقراءة، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: (صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان والفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) (7) . ويشترط لصحتها ما يشترط لصلاة الجمعة غير الخطبة. [ص: 222]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 16/111. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 2/8. (3) مسلم: ج-2/ كتاب صلاة العيدين باب 1/12. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 53/565. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 245/1134. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 255/1157. (7) البيهقي: ج-3 /ص 282. (8) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 73/1064. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 سننها: -1ً- يسن أن يقرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتالك حديث الغاشية) لحديث النعمان بن بشير برواية مسلم. -2ً- أن يكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات عدا تكبيرة الإحرام، وموضع التكبير بعد الاستفتاح وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين، وإن نسي التكبير بعد الاستفتاح وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين، وإن نسي التكبير بعد الاستفتاح حتى شرع في القراءة لم يعد إليه، لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح ومن سُبق بالتكبير أو ببعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها. وإن أدرك الإمام في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات: إحداهن: يقضيها على صفتها لما روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا فاته العيد يأمر مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية، فجمع أهله وبنيه، وصلى كصلاة المصر وتكبيرهم (1) ، ولأن قضاء صلاةٍ فكان على صفتها كغيرها. الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب أو بسلامين، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من فاته العيد فليصلِّ أربعاً) (2) ، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة. والثالثة: يخير بين صلاة ركعتين وأربع، ولأنه تطوع نهار فكانت الخيرة فيه إليه كالضحى. ويستحب أن يكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يكبر في الفطر والأضحى في [ص: 223] الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً) (3) واعتد بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام ولم يعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله. -3ً- يسن أن يرفع يديه مع كل تكبيرة. -4ً- أن يحمد الله ويثني عليه ويصلي علة النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليما. -5ً- يسن أن يصليها في المصلى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في المسجد. وإن كان هناك عذراً من مطر أو نحوه صلاها في المسجد، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أنه أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد) (4) . -6ً- يسن لها خطبتان كخطبتي الجمعة ولكن بعد الصلاة، لما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة) (5) . ولا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب) (6) [ص: 224]   (1) البخاري: ج-1/ كتاب صلاة العيدين باب 25 معلقاً. (2) فتح الباري: ج-2 /ص 475، وذكر أنه أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 251/1149. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 257/1160. (5) البخاري: ج-1/ كتاب صلاة العيدين باب 8/920. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 253/1155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 سنن الخطبتين: -1- أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات والثانية بسبع، ويكثر التكبير أثناء الخطبة. -2- أن يحثهم في خطبة الفطر على إخراج الفطرة، ويبين له ما يخرجونه ووقته وجنسه، وأن يرغبهم في خطبة الأضحى في الأضحية، ويبين له ما يجزئ فيها، ووقت ذبحه، ويحثهم على الإطعام منها، لأن الأضحى وقت هذا النسك فشرع تبيينه. أركان خطبتي العيدين: هي أركان خطبتي الجمعة. -1- حمد الله تعالى. -2- الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعين لفظ الصلاة. -3- قراءة آية من كتاب الله تعالى، ويلزم أن يكون لهذه الآية معنى مستقل، أو أن تكون مشتملة على حكم من الأحكام فلا يكفي أن يقرأ قوله تعالى: (مدهامتان) . -4- الوصية بتقوى الله تعالى وأقلها أن يقول: اتقوا الله واحذروا مخالفة أمره أو نحو ذلك. -5- الموالاة بين الخطبتين وبين الصلاة وبينهما. -6- الجهر بهما بحيث يسمع العدد المعتبر. -7- كونهما بالعربية مع القدرة. - ولا يسن لصلاة العيدين أذان ولا إقامة، لما روى عطاء قال: أخبرني جابر (أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج. ولا إقامة [ص: 225] ولا نداء ... ) (1) ، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة) (2) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب صلاة العيدين /5. (2) مسلم: ج-2/ كتاب صلاة العيدين /7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ما يسن يوم العيد: -1ً- أن يأكل في يوم الفطر قبل الصلاة وأن يمسك في يوم الأضحى حتى يصلي، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) (1) . -2ً- أن يفطر على تمرات، وأن يكون عددها وتراً، لما روى أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات) وفي لفظ: (يأكلهن وتراً) (2) . -3ً- الغسل لصلاة العيد أي لمن يريد حضورها، وأول وقته من الفجر ويستمر إلى صلاة العيد، وقال ابن عقيل: المنصوص عن الإمام أحمد أنه يصبح قبل الفجر. -4ً- التطيب والتنظف والسواك، لما روي عن ابن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في يوم جمعة: (يا معشر المسلمين هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمسح منه وعليكم بالسواك) (3) فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا يوم مشروع فيه الاجتماع للصلاة فأشبه الجمعة. -5ً- لبس أحسن الثياب، لما روي عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيد والجمعة) (4) ، إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة. [ص: 226] -6ً- يستحب أن يبكر إليها المأموم ماشياً مظهراً للتكبير، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (من السُّنة أن تخرج إلى العيد ماشياً، وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج) (5) . -7ً- أن يغدو من طريق ويرجع من غيره، لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد، خالف الطريق) (6) . -8ً- أن لا يتنفل قبل الصلاة ولا يعدها في موضع الصلاة ولا في المسجد ولا في المصلّى إماماً كان أو مأموماً، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى أو فِطر فصلى ركعتين. لم يصل قبلها ولا بعدها) (7) . ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) (8) . -9ً- يسن التكبير المطلق (وهو الذي لم يقيد بصلاة) في ليلتي العيدين للرجال والنساء (إلا أن النساء لا تجهر به) في البيوت والأسواق والمساجد وغير ذلك. والتكبير في ليلة عيد الفطر آكد بدليل قوله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) (9) . وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق. ويبدأ وقته من غروب شمس ليلة عيد الفطر ومن أول ذي الحجة في عيد الأضحى إلى فراغ الإمام من الخطبتين. [ص: 227] -10ً- يسن التكبير المقيد (أي عقب الصلوات المفروضة) في عيد الأضحى، ويبدأ وقته من صلاة فجر يوم عرفة ويمتد إلى عصر آخر أيام التشريق لغير الحاج، أما الحاج المحرم فمن صلاة ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق. والأدلة على ذلك أنه قيل لأحمد رضي الله عنه بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضوان الله عليهم، وما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: على مكانكم ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) (10) . صفة التكبير المشروع الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لما ورد في حديث جابر رضي الله عنه، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان. موضعه عقب الصلوات المكتوبة أداءً وقضاءً لفائتة عام هذا العيد، ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها في غير أيام التكبير لم يكبر، لأن التكبير مقيد بوقت. ولا يشرع التكبير عقب النوافل، لأنه لا أذان لها فلا يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سُبق الرجل ببعض الفريضة كبّر إذا سلم. شروط تكبير المقيد: -1ً- أن يصلي في جماعة، لأنه مخصوص بوقت محض في جماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير والمرأة كالرجل. قال البخاري: (وكان النساء يكبرن [ص: 228] خلف أبان بن عثمان، وعمر ن عبد العزيز، ليال التشريق ممع الرجال في المسجد) (11) ، ويخفض أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. -2ً- أن يكبر المأموم مستقبلاً القبلة، أما الإمام فيس له أن يكبر مستقبلاً الناس. -3ً- أن يكون التكبير عقب الصلاة مباشرة وقبل أذكار الصلاة، فإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر ما لم يطل الفصل أو يخج من المسجد أو يحدث، ولو لم يكبر الإمام.   (1) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 390/542 (2) البخاري: ج-1/ كتاب العيدين باب 4/910 (3) الموطأ (شرح الزرقاني) : كتاب الطهارة باب 17 /ص 46. (4) البيهقي: ج-3 /ص 247. (5) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 382/530. (6) البخاري: ج-1/ كتاب العيدين باب 24/943. (7) مسلم: ج-1/ كتاب العيدين باب 2/13. (8) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 160/1293. (9) البقرة: 185. (10) الدارقطني: ج-2 /ص 50. (11) البخاري: ج-1/ كتاب العيدين باب 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 -4ً- صلاة الكسوف: تعريف: الكسوف ذهاب ضوء أحد النيِّريْن (الشمس والقمر) أو بعضهما. وقيل الكسوف للشمس والخسوف للقمر، وقيل الكسوف تغيرهما والخسوف تغيبهما. حكمها: سنة مؤكدة للمقيم والمسافر. دليلها: عن قيس قال: سمعت أبا مسعود يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها قوموا فصلوا) (1) . وقتها: يبدأ قتها من حين بدء الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا، حتى يُكشف ما بكم) (2) . ولأن القصد عودة النور وقد عاد كاملاً. وإن انجلت وهو في الصلاة أتمها خفيفة، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى. ويشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى لأن القصد بقاء [ص: 229] الكسوف، ويعتبر بحكم التجلي إن غابت كاسفة كانجلائها، لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها فلا يصلي. وكذلك القمر إن غاب ليلاً خاسفاً فلا يصلي (وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق) . وإذا اجتمع الكسوف مع الجنازة بُدئ بالجنازة لأنه يخشى عليها، وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بُدئ المكتوبة لأنها آكد، أما إن كان في أول وقتها بُدئ بصلاة الكسوف لأنه يخشى فواتها، وإن اجتمع مع الوتر وخيف فواتها بدئ بالكسوف لأنه آكد. أقلها: ركعان عاديتان كصلاة النفل، وتصلى فردى وجماعة. وأقل الكمال: ركعتان، في كلٍ قيامان وركوعان وسجدتان، ويطيل القراءة والركوع والسجود، وتكون الإطالة في القيام الأول أكثر من الثاني، وفي الركوع الأول أكثر من الثاني. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث منادياً الصلاة جامعة. فاجتمعوا. وتقدَّم فكبر وصلّى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات) (3) . وحكم الركوع الثاني والقيام الثاني في كل ركعة سنة لذا من أدرك الإمام فيهما لا يعتبر مدركاً لهذه الركعة كما لا تبطل الصلاة بتركهما. وإن صلى في كل ركعة ثلاثة ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات) (4) ، وإن جعل في كل ركعة أربعة ركوعات جاز أيضاً، لأنه يروى كذلك عن علي وابن عباس رضوان الله عليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمختار الوجه الأول لأنه أصح وأشهر.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الكسوف باب 1/994. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الكسوف باب 1/994. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الكسوف باب 1/4. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الكسوف باب 1/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سننها وكيفيتها: -1ً- يسن أن تصلى جماعة، وينادى لها الصلاة جامعة بلا أذان ولا إقامة. [ص: 230] -2ً- أن تصلى في المسجد، لفعلها فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. -3ً- أن يقرأ فيه الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة (البقرة) أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من مائة آية، ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة سورة (آل عمران) أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة (النساء) ، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية، ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة سورة (المائدة) ، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع، ثم يسجد نحواً من ركوعه ويتشهد ويسلم وذلك ليقارب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنه زوجه صلى الله عليه وسلم قالت: (خَسَفَت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد. فقام وكبَّر وصفّ الناس وراءه. فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة. ثم كبر فرفع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ثم قام فاقترأ قراءة طويلة. هي أدنى من القراءة الأولى. ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً هو أدنى من الركوع الأول. ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك. حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات. وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ... ) (1) . -4ً- يسن أن يجهر فيها بالقراءة ليلاً صلاها أو نهاراً. عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته) (2) . -5ً- يسن أن يخطب الإمام بعد صلاتها خطبتان. وقال القاضي: لم يذكر لها الإمام أحمد رضي الله عنه خطبة ولم يؤثر ذلك من أحد من أصحابنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصلاة دون الخطبة. [ص: 231]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الكسوف باب 1/3. (2) مسلم: ج-2/ الكسوف باب 1/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الصلاة لغير الكسوف: لا يُصلى لغير الكسوف من الآيات لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه، إلا أن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: يصلي للزلزلة الدائمة ركعتين كركعتي الكسوف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً. وأما الرجفة فلا يصلي لوقوعها لأنها لا تبقى مدة تتسع للصلاة. -5ً- صلاة الاستسقاء: تعريف: الاستسقاء لغة: طلب السقيا من الله أو من الناس. شرعاً: الدعاء بطلب العباد السقيا من الله تعالى عند حاجتهم إلى الماء كإجداب أرضٍ أو قحطِ مطرٍ أو غور ماء عيون أو أنهار أو وجود الماء مع عدم كفايته. وقتها: هو وقت صلاة العيد. ما يسن قبلها: -1ً- يسن للإمام أن يعظ الناس ويأمرهم بتقوى الله والخروج عن المظالم والتوبة عن المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً والصوم والصدقة وترك التشاحن لن المعاصي سبب القحط والتقوى سبب البركات. قال الله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) (1) . [ص: 232] -2ً- أن يعد الإمامُ يوماً يخرجون فيه (ولا يشترط أن يكون اليوم الرابع للصيام) ، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعين خشعاً متضرعين متذللين، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء متبذلاً متواضعاً متضرعاً، حتى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد) (2) . -3ً- يسن لحاضرها التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة لئلا يؤذي الناس بها. ولا يسن لبس ثياب الزينة ولا التطيب لأن هذا ينافي الاستكانة والخضوع. -4ً- يسن أن يستصحب الإمام بالخروج أهل الدين والصلاح والشيوخ والصبيان لأنه أسرع للإجابة. -5ً- أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه، لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستسقى معاوية والضحاك رضي الله عنهما بيزيد بن أسود الجرشي، وروي أن معاوية رضي الله عنه أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية رضي الله عنه: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا. اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في القرب كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس لا يبلغوا منازلهم". - ولا يستحب إخراج البهائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجها، وكذلك لا يستحب إخراج الكفار ولكنه مباح، فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، لكن يفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم. [ص: 233]   (1) الأعراف: 69. (2) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 359/558. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كيفية الصلاة: الاستسقاء على ثلاثة أضرب: الأول: أن يصلي ركعتي كركعتي العيد وقت الضحى، وأن يستفتح الركعة الأولى بسبع تكبيرات والركعة الثانية بخمس تكبيرات كركعتي العيد تماماً. ويسن أن يقرأ فيهما بـ (سبح اسم ربك الأعلى) في الأولى و (هل أتاك حديث الغاشية) في الركعة الثانية، أو أن يقرأ آيات الاستغفار من سورة نوح في الركعة الأولى وما تيسر في الركعة الثانية. ثم يسن أن يخطب الإمام بعد الصلاة خطبة. والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعةٍ. من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب. فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعُ الله يغثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه. ثم قال: اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا ... ) (1) . والثالث: أن يدعو عقب الصلوات. ويستحب أن يقف حتى نزول أول المطر ويخرج ليصيبها البلل، لما روى أنس رضي الله عنه في حديثه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته) (2) . والسنة أن يخطب الإمام خطبة واحدة، ولكن اختلفت الروايات في وقت الخطبة هل تكون قبل الصلاة أو بعدها. قيل: أنه يخطب وقت الصلاة، لما روى عبّاد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي. فجعل إلى الناس ظهره. يدعو الله واستقبل القبلة وحوَّل رداءه. ثم صلى ركعتين) (3) . وعن الإمام أحمد: أنه مخير في الخطبة قبل [ص: 234] الصلاة وبعدها لأن الوجهين مرويان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقبل عنه أيضاً: يخطب بعد الصلاة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا فدعا الله، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه) (4) وهذا صريح، ولأن صلاتها كصلاة العيد فخطبتها بعد الصلاة.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب صلاة الاستسقاء باب 2/8. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الاستسقاء باب 23/986. (3) مسلم: ج-2/ الاستسقاء /4. (4) البيهقي: ج-3 /ص 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 سنن الخطبة: -1- أن يستفتحها بتسع تكبيرات كخطبة العيد، ويكثر فيها من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل قوله تعالى: (استغفرو ربكم إنه كان غفاراً) (1) ولقوله: (وأن استغفروا ربكم ثم توبو إليه) (2) . -2- أن يكثر فيها من الدعاء والتضرع، ويدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يحظر لهم فحلٍ، فصعد المنبر فحمد الله ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً، طبقاً، مربعاً، غدقاً، عاجلاً غير رائث. ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا: قد أحيينا) (3) . وإذا شاء قال: "اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً (4) ربيعاً، وجداً (5) طبقاً (6) ، غدقاً (7) مغدقاً، مونقاً (8) ، هنيئاً، مريئاً، مَريعاً (9) ، مُرْبعاً (10) ، مرتعاً (11) ، [ص: 235] سابلاً (12) ، مسبلاً (13) ، مجللاً، ديماُ، دروراً، نافعاً، غير ضار، عاجلاً غير رائث، اللهم تحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منها والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها (14) ، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتة، واسقه مما خلقت أنعاماً وأناسي كثيراً". أو يدعو بهذا الدعاء: "اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاُ، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ملا نشوه إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً". -3- يسن أن يرفع يديه بالدعاء ظهورهما إلى السماء وبطونهما جهة الأرض، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وإن يرفع حتى يرى بياض إبطيه) (15) . -4- يسن للإمام أن يستقبل القبلة أثناء الخطبة، ويدعو الله في استقباله سراً فيقول: "اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا"، ثم يحول رداءه فيجعل اليمين يساراً واليسار يميناً تفاؤلاً أن يحول الله الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي، وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة ثم حول رداءه) (16) . وفي رواية عند أبي داود: (وحول [ص: 236] رداءه، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله عز وجل) (17) . -5- ويسن للمأمومين أن يؤمنوا على دعاء الإمام. فإن سقوا قبل الصلاة صلّوا وشروا الله تعالى وسألوه المزيد من فضله، فإن كثر المطر بحيث يضرهم أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها استحب أن يدعو الإمام الله تعالى أن يخففه، لما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: ( ... ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُّبُل، فادعُ الله يمسكها عنا، قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه. ثم قال: اللهم حولنا ولا علينا. اللهم على الآكام والظّراب، ويطون الأودية، ومنابت الشجر) (18) ثم يقول: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (19) . [ص: 237]   (1) نوح: 10. (2) هود: 52. (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 154/127. (4) الحيا: الذي يحيي به الأرض. (5) الجدا: المطر العام. (6) الطبق: الذي يطبق الأرض. (7) الغدق: الكثير. (8) المونق: المعجب. (9) المريع: ذو المراعة والخصب. (10) المُربع: المقيم من قولك ربعت بالمكان إذا أقمت به. (11) المرتع: من قولك رتعت الإبل إذا رعت. (12) السابل: المطر. (13) المسبل: الماطر. (14) السكن: القوة لأن الأرض تسكن به. (15) البخاري: ج-1/ كتاب الاستسقاء باب 21/984. (16) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 259/1166. (17) أبو داود: ج-1/ الصلاة باب 258/1163. (18) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 2/8. (19) البقرة: 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الفصل الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 النوافل ذات السبب -1ً- تحية المسجد: ودليلها ما روى أبو قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس) (1) . وسن صلاتها سواءً قصد الجلوس في المسجد أم لا باستثناء ما يلي: -1- طيب دخل للخطبة. -2- خادم المسجد. -3- الداخل لصلاة عيد. -4- من دخل ووجد الإمام يصلي المكتوبة فعليه الاقتداء فوراً. -5- الداخل للمسجد الحرام، لأنَّ تحيته الطواف. وتسقط صلاة تحية المسجد بالجلوس إن طال جلوسه عرفاً.   (1) مسلم: ج-1 / كتاب صلاة المسافرين باب 11/69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 -2- صلاة الاستخارة: عن جابر رضي الله عنه، قال: - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم [ص: 238] بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به. قال: ويسمي حاجته) (1) . -3ً- صلاة التوبة: عن علي رضي الله عنه، قال: حدثني أبي بكر وصدق أبي بكر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر له، ثم قرأ هذه الآية: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله إلى آخر الآية) (2) . -4ً- صلاة الحاجة: عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له إلى الله حاجة، أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم ليُثْنِ على الله، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلى غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين (3) .   (1) البخاري: ج-1/ التطوع باب 1/1109. (2) الترمذي: ج-5/ كتاب التفسير باب 4/3006. (3) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 348/479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 -5ً- صلاة التسابيح: لم يرَ الإمام أحمد استحباب صلاة التسابيح لكن إن صلاها المكلف فلا بأس. -6ً- سجود التلاوة: دليل مشروعيته: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضاً موضعاً لمكان جبهته (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله [ص: 239] صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) (2) . وقد أجمعت الأمة على أنه مشروع عند قراءة مواضع مخصوصة من القرآن. حكمه: -1- هو سنة للقارئ والمستمع (ولا يسن للسامع من غير قصد) . -2- وهو واجب على المأموم إذا سجد إمامه في الصلاة الجهرية، (يكره للإمام أن يقرأ آية سجدة في الصلاة السرية وأن يسجد لها، وأن يسجد لها، وإذا سجد خُيِّر المأموم بين الإِتباع والترك) . شروط السجود: -1ً- أن لا يطول الفصل عرفاً بينه وبين سببه، فإن كان القارئ أو المستمع محدثاً ولا يقدر على استعمال الماء تيمم وسجد، أما إذا كان قادراً على استعمال الماء فإن السجود يسقط عنه لأنه لو توضأ طال الفصل. -2ً- ويشترط فيه ما يشترط لصحة الصلاة من الطهارة واجتناب النجاسة واستقبال القبلة والنية غير ذلك. -3ً- ويشترط للمستمع إضافة إلى ذلك شرطان: أ- أن يصلح القارئ لإمامه السامع ولو في صلاة نفل، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد فلما لم يسجد. قال: يا رسول الله أليس في هذه السجدة [ص: 240] سجود؟ قال: بلى. ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا) (3) . لذا لا يسجد المستمع إذا سمع آية السجدة من إمرأة أو خنثى أو من غير آدمي كالآلة الحاكية والببغاء، ولكن يسن للمستمع أن يسجد إن كان القاريء أمياً أو مقعداً أو صبياً مميزاً لأنه يصح للإمامة في صلاة النافلة. ولا يسجد المستمع أمام القارئ ولا عن يساره إذا كان يمينه خالياً. ب- أن يسجد القارئ فإن لم يسجد فلا يسن للمستمع أن يسجد للحديث المتقدم عن زيد بن أسلم رضي الله عنه. أركانه: في الصلاة: سجدة والرفع منها. وفي خارج الصلاة: تزاد التسليمة. كيفيته: في الصلاة وخارجها سجدة ما بين تكبيرتين. وإذا كانت السجدة آخر السورة وهو في الصلاة سجد ثم قام فقرأ شيئاً ثم ركع، وإن أحب قام فقرأ شيئاً ثم ركع، وإن أحب قام ثم ركع من غير قراءة، وللمكلف أن يومئ في السجود على الراحلة كصلاة السفر ويشترط له ما يشترط الناقلة. واجباته: -1- تكبيرتان: تكبير السجود وتكبير للرفع منه. -2- التسبيح في السجود كتسبيحات سجود الصلاة. مندوباته: أن يدعو في السجود بما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: (سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ [ص: 241] سمعه وبصره بحوله وقوته) (4) . وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ فسجدتِ الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً. وضَعْ عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ان عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد قال: فقال ابن عباس: فسمعته وهو يقول مثلما أخبره الرجل عن قول الشجرة) (5) . ومهما قال من ذلك فحسن.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 20/103. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الإيمان باب 35/133. (3) فتح الباري: 2/ كتاب 17 باب 8/1075، وروى البيهقي نحوه: 2 /ص 324. (4) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 407/580. (5) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 407/579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ما يقوم مقام سجدة التلاوة: يقوم مقامها أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أربع مرات. مواضع السجدات في القرآن: أربعة عشر: آخر الأعراف، في الرعد عند قوله تعالى: (بالغدو والأصال) ، النحل عند قوله تعالى: (ويفعلون ما يؤمرون) ، وفي سبحان الذي أسرى عند قوله تعالى: (يزيدهم خشوعاً) ، وفي مريم: (خروا سجداً وبكياً) ، وفي الحج: (يفعل ما يشاء) و (لعلكم تفلحون) ، الفرقان: (وزادهم نفوراً) ، النمل: (العرش العظيم) ، وفي الم تنزيل عند قوله: (وهم لا يستكبرون) ، وفي حم السجدة: (وهم لا يسأمون) ، وفي آخر النجم، وفي الانشقاق عند (لا يسجدون) ، وآخر أقرأ باسم ربك. مكروهاته: -1- يكره السجود في الأوقات التي تكره فيها النافلة. [ص: 242] -2- يكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة ويسجد لها، وقيل يكره أن يحذف أيات السجدات في قراءته لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب. -7ً- سجود الشكر: سببه: تجدد النعم أو اندفاع النقم. حكمه: مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه إذا جاءه أمر سرور، أو بشر به خرَّ ساجداً شاكراً لله) (1) . وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطه. ولا يسجد للشكر في الصلاة لأنِّ سببه ليس منها، فإن فعل بطلت.   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الجهاد باب 174/2774. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 -8ًسجود السهو: شرع سجود السهو جبراً للخلل الواقع في الصلاة. حكمه: يختلف حكمه باختلاف سببه بالنسبة للإمام والمنفرد. -1ً- واجب: أ- على الإمام والمنفرد: إذا كان لما يبطل عمده الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب فكان واجباً كواجبات الحج. ب- على المأموم: إذا سجد إمامه على الإطلاق سواءً كان السجود واجباً أو سنة أو مباحاً. -2ً- سنة للإمام والمنفرد لزيارة ذكر مشروع في غير محله كالقراءة في الركوع مثلاً (وهذا عمده لا يبطل الصلاة) لحديث عبد الله رضي الله عنه، عن رسول [ص: 243] الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّما إنما أنا بشر مثلكم. أنسى كما تنسون. فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين. وهو جالس) (1) . -3ً- مباح لترك سنة قولية أو فعلية. كيفيته: هو سجدتان كسجدتي الصلاة مع توفر شروط الصحة، فإن كان السجود قبلياً كبَّر بعد فراغه من التشهد وسجد سجدتين ثم سلَّم، وإن كان بعدياً كبَّر للسجود والرفع منه وتشهَّد وسلَّم، لما روى عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين، ثم تشهَّد، ثمَّ سلَّم) (2) . موضعه: -1ً- بعد التشهد وقبل السلام: في حال كون السجود واجباً، فمن تركه عمداً بطلت صلاته لأنَّه ترك واجباً فيها عمداً. وكذلك في حال كون السجود مسنوناً، كمن قرأ في الركوع، أو مباحاً كمن اقتصر على مرة في التسبيح. -2ً- بعد السلام: أ- إن ترك السجود الواجب قبل السلام سهواً، لأنه فاته واجب فيقضيه. هذا إن كان تذكره قبل طول الفصل وإن كان تكلم، أما إن طال الفصل أو خرج من المسجد فيسقط عنه السجود، وعن الإمام أحمد أنَّه يعيد الصلاة. ب- إذا سلم من نقصان في صلاته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين. فقال: الناس: نعم. [ص: 244] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين، ثم سلَّم، ثم كبَّر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع) (3) . فمن ترك السجود المشروع بعد السلام عمداً أو سهواً لم تبطل صلاته، لأنه ترك واجباً ليس منها فلم تبطل بتركه.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/94. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 202/1039. (3) البخاري: ج-1/ السهو باب 4/1170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 تعداده: جود السهو لا يتعدد وإنما أُخر لآخر الصلاة ليجع السهو كله، للحديث المتقدم: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . وإن كان أحد السجودين قبل السلام والآخر بعده يجزئه سجود واحد، ويسجد قبل السلام لأنه أسبق وآكد. أسبابه: تنحصر أسبابه في ثلاثة أقسام: القسم الأول: الزيادة في الصلاة. والزيادة فيها إما أن تكون زيادة في الأقوال أو زيادة في الأفعال. القسم الثاني: النقص في الصلاة: والنقص فيها إما أن يكون: -1- ترك ركن. -2- ترك واجب. -3- ترك سنة. [ص: 245] القسم الثالث: الشك في الصلاة: والشك فيها إما: -1- في عدد الركعات. -2- في ترك ركن من أركانها. -3- فيما يوجب سجود السهو. وتفصيل ذلك كما يلي: القسم الأول: الزيادة في الصلاة: أولاً: الزيادة في الأقوال: أ- زيادة ذكر مشروع في غير محله كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس والتشهد في القيام، والصلاة على النبي في التشهد الأول، فهذا لا يبطل الصلاة ولا يجب له سجود سهو لأن عمده غير مبطل، إنما يسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا نسي أحد فليسجد سجدتين) . ب- التسليم في الصلاة قبل إتمامها: -1- فإذا كان عمداً بطلت الصلاة لأنه تكلم فيها والكلام مبطل للصلاة. -2- وإن كان سهواً: (1ً) - طال الفصل: بطلت أيضاً لتعذر بناء الباقي عليها. (2ً) - قصر الفصل: أتم صلاته وسجد بعد السلام، والدليل على ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي (1) ، إما الظهر وإما العصر. فسلم في ركعتين. ثم أتى جِذْعَاً في قبلة المسجد فاستند إليها مُغْضَباً. وفي القوم أبو بكر وعمر. فهابا أن يتكلما. وخرج سرعان الناس. قُصِرَت الصلاة. فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقُصِرَت الصلاة أم [ص: 246] نسيتَ؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً. فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق لم صلي إلا ركعتين فصلى ركعتين وسلَّم. ثم كبَّر ثم سجد. ثم كبَّر فرفع ثم كبَّر وسجد ثم كبَّر ورفع فإن كان قيامه. قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلَّم) (2) . (3ً) - وأما إن انتقض وضوءه أو دخل في صلاة أخرى أو تكلم في غير شأن الصلاة كقوله اسقني ماءً فسدت صلاته، لحديث: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس..) (3) . جـ - الكلام في صلب الصلاة: -1- يبطل الصلاة: (1ً) - إن تكلم عمداً بحرفين فصاعداً، لما روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: وقوموا لله قانتين. أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) (4) . أما إن كان ناسياً أو جاهلاً بالتحريم ففيه روايتان: الأولى: يبطلها لأنه من غير جنس الصلاة فأشبه العمل الكثير، والثانية: لا يبطلها. (2ً) - أن شمت عاطساً أو رد سلاماً أو سلم على إنسان لأنَّه من كلام الآدميين. (3ً) - القهقهة تبطل الصلاة لكن لكن لا تنقض الوضوء، لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الضحك ينقض الصلا ولا ينقض الوضوء) (5) . -2- لا يبطل الصلاة: (1ً) - إن غلبه البكاء فنشج بما انتظم حروفاً - لا تبطل صلاته، لأن عمر رضي الله عنه كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف. [ص: 247] (2ً) - إن أخطأ في القراءة وأتى بكلمة من غيرها لا تبطل صلاته، لأنه لا يمكن التحرز منه. (3ً) - وإن نام يسيراً فتكلم لا تفسد صلاته لأنه عن غلبة.   (1) العشيّ: قال الأزهري: العشي عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/97. (3) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 7/33. (4) مسلم: ج-1/ المساجد باب 7/35. (5) الدارقطني: ج-1 /173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ثانياً: الزيادة في الأفعال: أ- الزيادة من جنس الصلاة. ب- الزيادة من غير جنس الصلاة. جـ- الأكل والشرب. أ- الزيادة من نس الصلاة: كزيادة ركعة أو ركوع أو سجود: -1ً- عمداً: يبطل الصلاة. -2ً- سهواً: لا يبطل الصلاة ويسجد للسهو قبل السلام، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً. فلما انفتل توشوش القوم بينهم قال: ما شأنكم؟ قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا. قالوا: فإنك قد صليت خمساً. فانفتل ثم سجد سجدتين. ثم سلَّم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. وزاد ابن نُمير في حديثه: فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (1) . وفي رواية أخرى عن عبد الله: (إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين) (2) . وهناك حالتان: -1 - إذا قام إلى الركعة الزائدة فلم يذكر حتى سلم سجد للحال، إن ذكر قبل السلام سجد ثم سلَّم. -2 - وإذا ذكر في الركعة جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه فليجلس قبل [ص: 248] التشهد تشهَّد ثم سجد ثم سلَّم، وإن كان بعده سجد ثم سلَّم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ثم سجد وسلم. واجب المصلين تجاه سهو الإمام في الزيادة: إذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ابراهيم: زاد أو نقص - فلما سلَّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا. قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلَّم. ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به. ولكن إنما أنا بشر أنس كما تنسون. فإذا نسيت فذكروني. وإذا شكَّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب. فليُتم عليه. ثم ليسجد سجدتين) (3) ولما في حديث سهل بن سعد الساعدي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مننابه شيء في صلاته فليسبح. فإنه إذا سبَّح التفتُّ إليه. وإنما التصفيح للنساء) (4) . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) (5) . وإذا سبَّح له اثنان لزمه الرجوع إليهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمر بتذكيره ليرجع فإن لم يرجع بطلت صلاته لأنه ترك الواجب عمداً، وليس للمأمومين اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين فلا تبطل، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم. أما إن سبح له واحد فلا يرجع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع لقول ذي اليدين وحده. وإن نسي الإمام التشهد الأول فسبحوا بعد انتصابه قائماً فلا يرجع ويتابعونه في القيام، وإن رجع قبل شروعه في القراءة لم يتابعوه لأنه خطأ. أما إن سبحوا قيل [ص: 249] قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه لأنه ترك واجباً تعين عليهم فلا يجوز لهم اتباعه في تركه. وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع لأنه رجع إلى واجب فلزمهم متابعته ولا عبرة بما فعلوه قبله.   (1) مسلم: ج-1 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/92. (2) مسلم: ج-1 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/96. (3) مسلم: ج-1/ المساجد باب 19/89. (4) مسلم: ج-1/ الصلاة باب 22/102. (5) مسلم: ج-1/ الصلاة باب 22/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ب- الزيادة من غير جنس الصلاة: كالمشي والحك سواءً كان عمداً أو سهواً مبطل للصلاة إجماعاً إن كثر متوالياً ولا يشرع له السجود. أما إن قلَّ فلا يبطلها، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها وإذا جلس وضعها) (1) وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد يصلي والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحتُ. قال أحمد: فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه - وذكر أن الباب كان في القبلة) (2) . والفعل اليسير ما شابه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه، والفعل الكثير ما زاد على ذلك مما يُعد كثيراً في العرف فيبطل الصلاة إلا إن فعله متفرقاً.   (1) مسلم: ج-1 /كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 9/41. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 169/922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 جـ- الأكل والشرب: -1ً- عمداً يبطل الصلاة، أما سهواً أو جهلاً فلا يبطلها إن كان الأكل والشرب يسيرين، ومن ترك في فمه طعاماً يذوب كالسكر فابتلع ما يذوب منه فهو أكل يبطل الصلاة. -2ً- إن بقي في فم المصلي أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام وجرى به الريق وابتلعه المصلي فلا تبطل صلاته لأنه يمكن الترحز منه. -3ً- وإن ترك في فمه لقمة علكة لم يبتلعها فلا تبطل الصلاة ولكن تكره لزوال الخشوع، وإن لاكها فهو كالعمل إن كثر أبطل وإلا فلا تبطل. [ص: 250] القسم الثاني: النقص في الصلاة: إما أن يكون ترك ركن أو ترك واجب أو ترك سنة. أولاً- ترك ركن: كركوع أو سجود. -1ً- عمداً: يبطل الصلاة. -2ً- سهواً: أ- إن لم يتذكر المصلي ترك ركن إلا بعد السلام وطال الفصل بطلت الصلاة لتعذر البناء مع طول الفصل، وإن قصر الفصل أتى بركعة كاملة وسجد للسهو. ب- إن تذكر الركن المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الثانية عاد وأتى بما تركه ثم بنى على صلاته وسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه فسدت صلاته لأنه ترك الواجب عمداً إلا أن كان جاهلاً فلا تبطل صلاته. جـ- إن تذكر الركن المتروك بعد شروعه في قراءة الركعة الأخرى بطلت الركعة التي ترك ركنها وحدها وجعل الأخرى مكانها وأتم صلاته وسجد قبل السلام. ثانياً: ترك الواجب: -1ً- عمداً يبطل الصلاة. -2ً- سهواً: يسجد للسهو قبل السلام، لما روى عبد الله ابن بحينة قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات ثم قال فلم يجلس. فقام الناس معه فلما قضى الصلاة ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلَّم) (1) ، ويقاس عليه سائر الواجبات. إن ذكر التشهد قبل انتصابه قائماً رجع فأتى به، أما إن ذكره بعد انتصابه قائماً وبعد شروعه في القراءة فلا يرجع [ص: 251] إليه لأنه تلبس بركن مقصود فلا يرجع إلى واجب، لحديث المغيرة بن شعبر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام الإمام في الركعتين: فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فلا يجلس، فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو) (2) ، وإن رجع بعد أن استوى قائماً وقيل شروعه بالقراءة كره ذلك ولم تفسد صلاته. ولا يرجع إلى غير التشهد من الواجبات لأنه لو رجع للركوع لأجل تسبيحه لزاد ركوعاً في صلاته وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع. ثالثاً: ترك السنة: لا تبطل الصلاة بترك السنة عمداً أو سهواً ولا سجود عليه لأنه شرع للجبر فإذا لم يكن الأصل واجباً فجبره أولى (أي جبره بسجود السهو أولى أن لا يكون واجباً) . ولكنه يباح سواء كان المتروك سنة قولية أو فعلية على المعتمد من المذهب، لقوله عليه السلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . القسم الثالث: الشك في الصلاة: والشك فيها إما أن يكون في عدد الركعات، أو في ترك ركن من أركانها، أو فيما يوجب سجود السهو. أولاً: الشك في عدد الركعات: إذا شكَّ المصلي في عدد الركعات هل صلَّى ركعتين أو ثلاثاً بنى على اليقين وهو اثنتين، سواء كان إماماً أو منفرداً، وأتى بما بقي وسجد قبل السلام، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبين على ما استيقن. ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً، شفعن له صلاته. وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان) (3) . ثانياً: الشك في ترك ركن من أركان الصلاة: حكمه حكم تركه لأنَّ الأصل عدمه. ثالثاً: الشك فيما يوجب سجود السهو: من زيادة أو ترك واجب كتسبيح الركوع فهذا لا يوجب سجود السهو، إلا إذا شكَّ في الزيادة وقت فعله لأنه شك في سبب وجود السجود والأصل عدمه، فإن شكَّ في أثناء الركعة الأخيرة أهي رابعة أم خامسة سجد لأنه أدى جزءاً من صلاته متردداً في كونه منها وذلك بضضعف النية. وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شكَّ بعد السلام لم يلتفت إليه لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع. وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها. سجود المؤتم: ليس على امؤتم سجود سهو وإنما يسجد مع إمامه إذا سها، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على من خلف الإمام سهو فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه سهو وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه) (4) ، ولأن المأموم تابع للإمامه فيلزمه متابعة في السجود وتركه. ويسجد المسبوق معع إمامه، فإن كان السجود بعد السلام فلا يقوم المسبوق حتى يشهده معه (وعن الإمام أحمد لا سجود عليه هنا والقول الأول هو المعتمد في المذهب) ، وإذا كان المؤتم قد قام لإتمام صلاته، ولم يعلم أن الإمام عليه سجود سهو، وسجد الإمام، رجع فسجد معه، إن لم يكن قد استتم قائماً، وإن كان استتم قائماً مضى ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه لأنه قام عن واجب فأشبه تارك التشهد الأول. أمَّا إن سجد مع الإمام ففيه روايتان: إحداهما: يعيد السجود لأنَّ محله آخر الصلاة، وإنما سجد مع إمامه تبعاً فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد. والثانية: لا يعيد السجود لأنه قد سجد وانجبرت صلاته. [ص: 253] ولو ترك الإمام السجود لسهو نفسه، أو كان لا يسجد لاختلاف المذهب ففي سجود المؤتم روايتان: إحداهما: يسجد لأنَّ صلاته نقصت بسهو إمامه ولم يجبرها فلزمه جبرها وهو المذهب، والثاني: لا يسجد لأنه إنما يسجد تبعاً فإذا لم يوجد المتبوع لم يجب التبع. [ص: 254]   (1) مسلم: ج-1 /كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/85. (2) أبو داود: ج-1 /كتاب الصلاة باب 201/1036. (3) مسلم: ج-1 /كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 19/88. (4) الدارقطني: ج-1/ ص 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الباب السادس (صلاة الجماعة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تعريفها: ربط صلاة شخص بصلاة إمام مستكمل للشروط. حكمها: -1ً- واجبة في الصلوات الخمس المكتوبة على الرجال الأحرار القادرين عليها (فلا تجب على الصغير ولا على الرقيق والمرأة والخنثى) حضراً وسفراً حتى في شدة الخوف. والدليل من القرآن قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم) (1) . ومن السنة حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم يحرقوا عليها، بحزم الحطب بيوتهم. ولو أعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) (2) . يعني صلا العشاء. وعقوبة التحريق بالنار لا تكون إلا على الفرض وارتكاب المحرم الغليظ. وليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) (3) . [ص: 255] ولا يسقط واجب الجماعة إذا أم الرجل صبياً لأنه ليس من أهل الكمال، وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد: أنه يصح كما لو أنه أمَّ رجلاً متنفلاً. -2ً- سنة: بالنسبة للنساء منفردات عن الرجال، لأنهن من أهل الفرض أشبهن الرجال، عن عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت عبد لله بن الحارث قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها وجعل لها مؤذن، وأمرها أن تؤم أهل دارها) (4) . وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه على أن لا تتطيب، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نسائكم المساجد وبيوتهن خير لهن) (5) . وفي رواية: (ولكن ليخرجن وهن تفلات) (6) - يعني غير متطيبات. -3ً- مكروه حضورها للنساء المشتهيات مع الرجال. -4ً- شرط لصحة صلاة الجمعة. -5ً- سنة أيضاً لصلاة بعض النوافل كالاستسقاء والتراويح والعيدين. وتباح في صلاة التهجد. تحققها: تتحقق بإثنين فأكثر لحديث مالك بن حويرث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما) (7) ، فإن أمَّ الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة، ولا تتحقق الجماعة بصلاة صبي مميز مع الإمام وحده. ويجوز فعلها في البيت والصحراء لحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما أدركت الصلاة فصلِّ فهو مسجد) (8) ولكن تسن أن تكون في المسجد، وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: أنه تجب الصلاة في المسجد لقول النبي [ص: 256] صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (9) . إما إذا أراد أن يدخل المسجد ويصلي فرداً بينما لو صلى في بيته صلى جماعة فتتعين عليه الصلاة في بيته تحصيلاً للواجب، أما إن كانت جماعة البيت أكثر من جماعة المسجد فتفضل جماعة المسجد. وأفضل الجماعات ما كانت جماعتها أكثر، فالأكثر أحب إلى الله تعالى، أما إن كان في جواره مسجد غاب عنه اختلت الجماعة فيه ففعلها فيه أفضل، وكذا إذا وجد مسجدان ففعلها في العتيق أفضل لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانت البلد ثغراً فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد لأنَّه أعلى للكلمة وأرفع للهيبة.   (1) النساء: 102. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 42/251. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الجماعة والإمامة باب 2/619. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 62/592. (5) أبو داود: ج-1/ الصلاة باب 53/567. (6) أبو داود: ج-1/ الصلاة باب 53/565. (7) البخاري: ج-1/ كتاب الجماعة والإمامة باب اثنان فما فوقهما جماعة /627. (8) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد /1. (9) الدارقطني: ج-1 /ص 420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أعذار ترك الجمعة والجماعة: -1ً- المرض: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع المنادي قلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى) (1) . ومحل ذلك إذا كان المريض أو الخائف من حدوث مرض ليسا بالمسجد وإلا لزمتها الجمعة والجماعة لعدم المشقة، وتلزم الجمعة دون الجماعة لمن لم يتضرر بإتيانها راكباً أو محمولاً أو تبرع أحد بذلك أو بقود أعمى. -2ً- الخوف: سواءً خاف على نفسه من سلطان أو لص أو سبع أو غريم يلزمه ولا شيء معه يعطيه، أو خاف على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو كان له دين على غريم يخاف سفره أو وديعة عنده إن انشغل بالجماعة مضى وتركه، أو خاف شروط دابته أو احترق خبزه أو طبيخه، أو كان ناطوراً لبستان يخاف إن أتى الجماعة سرقة شيء منه، أو مسافراً يخاف فوت رفقته، أو كان عنده مريض يخاف ضياعه أو صغير أو حرمة يخاف عليها. [ص: 257] -3ً- المطر -4ً- الوحل: عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: (إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله، فلا تقل حيَّ على الصلاة. قل صلوا في بيوتكم. قال: فكأن الناس استنكروا ذاك. فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا من هو خيرٌ مني. إن الجمعة عَزْمِةٌ. وإني كرهت أن أُحْرِجَكُمْ، فتمشوا في الطين والدحض) (2) . -5ً- الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة: وهذا يختص بالجماعة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال) (3) . -6ً- أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه أو تحتاج إليه وسواء خاف فوات الجماعة أو لم يخف، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء) (4) . -7ً- أن يدفع الأخبثين (البول والغائط) أو أحدهما، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يافعه الأخبثان) (5) . -8ً- أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما: (دعي يوم الجمعة وهو يستجهز للجمعة إلى سعيد بن زيد بن عمر بن نضيل وهو يموت فأتاه وترك الجمعة) (6) . [ص: 258] أما الأعمى فلا يُعذر إن تمكن من الحضور،، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى. فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَخَّصْ له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم. قال: فأجب) (7) .   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 47/551. (2) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 3/26، والدحض: الزلق: طين ووحل شديد. (3) البخاري: ج-1/ الجماعة والإمامة باب 12/635. (4) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 16/64. (5) مسلم: ج-1/ المساجد باب 16/67. (6) البيهقي: ج-3/ ص 185. (7) مسلم: ج-1/ المساجد باب 43/255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 شروط صحة الجماعة: أولاً: نية الإمامة والاقتداء: إن من شروط صحة الجماعة أن ينوي كل من الإمام والمؤتم حالته (أي أن يقول الإمام: نويت الصلاة إماماً، ويقول المؤتم مقتدياً) ، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح، لأن الجماعة تنعقد بالنية، ويجب أن تكون نية المأموم في أول صلاته بحيث تقارن تكبيرة الإحرام، فلو شرع في الصلاة بنية الانفراد ثم وجد إماماً في أثنائها فنوى متابعته فلا تصح صلاته لعدم وجود النية في أول الصلاة، فالمنفرد لا يجوز له أن ينتقل إلى صلاة الجماعة بعد أن أحرم بالصلاة منفرداً، وقال الإمام أحمد:: أحبُّ غليَّ أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام. كما لا يجوز لمن بدأ صلاته في جماعة أن يتنقل إلى الانفراد بأن ينوي مفارقة الإمام، إلا لضرورة كأن يطيل الإمام أو تفسد صلاته لعذر كسبق حدث أو نحوه، عن جابر رضي الله عنهما قال: (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي فَيؤمُّ قومه. فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء. ثم أتى قوماً فأمَّهم. فافتتح بسورة البقرة. فانحرف رجل فسلم. ثم صلة وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقتَ؟ يا فلان! قال: لا والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار. وإن معاذاً صلى معك العشاء. ثم أتى فافتتح بسورة البقرة. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال يا معاذ أفتانُ أنت؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا) (1) . [ص: 259] - ويجوز لمن أحرم منفرداً في صلاة نفل أن ينوي الإمامة، (أي يغيَّر نيته من الانفراد إلى الإمامة) إن أتى آخر ونوى الاقتداء به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأحرم معه فصلى به النبي صلى الله عليه وسلم. أما في صلاة الفرض فلا يجوز. - أما إن أحرم منفرداً في فرض الصلاة، وكان يرجو مجيء من يصلي معه، فيجوز له أن ينوي الإمامة سلفاً. - كما يجوز لمن أحرم إماماً أن ينوي الانفراد لعذر، كأن يسبق المأمومَ الحدثُ أو تفسد صلاته لعذر، أما إن كان لغير عذر فلا يصح للإِمام أن ينوي الانفراد. - كما يجوز لمن أحرم إماماً أن ينوي الإقتداء لعذر، كأن يؤم القوم غير إمام الحي، فيأتي إمام الحي، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، فيصير الأول مأموماً، لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم. فحانت الصلاة. فجاء المؤذن إلى أبي بكر. فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم. قال: فصلى أبو بكر. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة. فتخلص حتى وقف في الصف. فصفق الناس. وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة. فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك. فرفع أبو بكر يديه. فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك. ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف. وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف) (2) . وهناك رواية أخرى: أنه يجوز لمن أحرم إماماً أن يصير مؤتماً، وأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون خاصاً به، لأن أحداً لا يساويه، ولكن المعتمد أنَّه يجوز. [ص: 260]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 36/178. (2) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 22/102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ثانياً: عدم إجتماع إمامان في صلاة واحدة: أي لا يصح الاقتداء بالمأموم ما دام مأموماً، أما إن كان المأموم مسبوقاً، وقام لإتمام صلاته بعد سلام إقامه، ثم جاء شخص آخر فاقتدى به، فإن ذلك يصح. إلا في صلاة الجمعة فإنه لا يصح اقتداء المسبوق بمثله. ثالثاً: موافقة نظم صلاتيهما: فلا تصح كسوف أو جمعة خلف من يصلي غيرهما، ولا يصلح غيرهما خلف من يصليهما، لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال فيدخل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام ليؤتم به. فلا تختلفوا عليه) (1) . أما إذا كانت صلاة الإمام والمأموم واحدة إلا أنهما اختلفا في النية، فأحدهما أداء والآخر قضاء صحت الصلاة كصلاة ظهر خلف ظهر، أما إن اختلف الفرض فلا يصح كصلاة ظهر خلف عصر. ولا يصح للإمام إن كان يصلي متنفلاً أن يؤم مفترضاً، وإنما يصح أن يؤم متنفلاً مثله. وفي رواية أنه يصح أن يؤم المتنفل مفترضاً لحديث جابر رضي الله عنهما قال: (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي فيؤمُّ قومه ... ) وزاد الدارقطني في الرواية: (هي له نافلة ولهم فريضة) (2) ، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال فأشبه المتنفل يأتم بمفترض. والرواية الأولى هي المعتمدة. رابعاً: المتابعة: أي أن يتبع المأموم الإمام فيجعل أفعاله بعد أفعال إمامه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام ليؤتم به. فلا تختلفوا عليه. فإذا كبَّر فكبَّروا. وإذا ركع فاركعوا. وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم [ص: 261] ربنا لك الحمد. وإذا سجد فاسجدوا. وإذا صلى جالساً صلوا جلوساً أجمعون) (1) .   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 19/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 حالات ترك المأموم المتابعة وحكم الصلاة فيها: -1- في حالة السبق: أ- إن سبق المأموم إمامه بتكبيرة الإحرام عمداً أو سهواً لم تصح الصلاة. ب- إن سبقه بالسلام عمداً بطلت الصلاة، أما إن كان سهواً وجب عليه إعادته مع الإمام وإلا بطلت الصلاة. جـ- إن سبقه بركن من باقي أركان الصلاة عمداً حرم عليه ذلك ولزمه العودة إلى الركن الموجود فيه الإمام ومن ثم متابعته، فإن لم يعد وبقي سابقاً إمامه بطلت صلاته. أما إن سبقه جهلاً أو نسياناً، فلا بأس عليه أن يعود ليأتي بالركن مع الإمام، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه. فقال: أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع. ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف) (1) والنهي يقتضي التحريم. ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (أما يخشى أحدكم، إذا رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار) (2) . د- وإن سبقه بركنين عمداً عالماً بالتحريم بطلت صلاته لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، كأن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه وسجد قبل رفع إمامه من الركوع، أما إن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته للعذر ولا يعتد بتلك الركعة.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 25/112. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجماعة والإمامة باب 25/659. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 -2- في حالة التأخر: إن تأخر عنه بركنين عمداً بطلت صلاته (كأن ركع الإمام ورفع قبل ركوع [ص: 262] المأموم) لتركه المتابعة، أما إن كان سبب تأخير المأموم عن الإمام لنوم أو غفلة أو نحو ذلك لم تبطل صلاته لأنه سبق يسير فيركع ثم يدركه، وإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان، أحدهما: يفعله ويلحق به كالمزحوم في الجمعة، والثاني: تبطل الركعة لأنها مفارقة كثيرة. -3- في حالة الموافقة: أ- في تكبيرة الإحرام عمداً أو سهواً تبطل الصلاة. ب- في غير تكبيرة الإحرام يكره ذلك وتصح الصلاة لأنه اجتمع معه في الركن. خامساً: عدم التقدم على الإمام في الوقوف: -1ً- إن تقدم المأموم على إمامه في الوقوف لم تصح صلاته،، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الاما ليؤتم به) (1) . وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام، أو عن يساره مع خلو يمينه، لم تصح صلاته، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بتُّ عند خالتي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه) (2) ، وروى وابصة بن معبد رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد) (3) ، وعن علي بن شيبان رضي الله عنه قال: صلينا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فقضى الصلاة فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف. فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف) (4) . فإذا صلى ركعة واحدة وهو خلف [ص: 263] الصف لم تصح صلاته، أو لو جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته، لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أما إن ركع فرداً لعذر بأن خشي فوات الركعة ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت صلاته، لأن أبا بكرة حدَّث (أنَّه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع. قال: فركعت دون الصف، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تُعد) (5) . فلم يأمره بالإعادة لجهله ونهاه عن العود.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 19/77. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجماعة والإمامة باب 31/667. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 100/682. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 54/1003. (5) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 101/683. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 موقف المأموم في الصلاة: إذا كان المأموم واحداً وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبَّر وتأخر وصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقاً، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه، وإن صليا عن يمينه أو أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله جاز، لما روي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: (استأذن علقمة والأسود على عبد الله وقد كنا أطلنا القعود على بابه، فخرجت الجارية فاستأذنت لهما، فأذن لهما، ثم قام فصلى بيني وبينه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل) (1) . فإن كانت معهم امرأة قامت خلفهم، لما روى أنس رضي الله عنه قال: (فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز منورائنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف) (2) ، وروى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقام الصلاة، وصفَّ الرجال، وصفَّ خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثمَّ قال: هكذا صلاةُ قال عبد الأعلى: لا أحسبه إلا قال صلاة [ص: 264] أمتي) (3) . فإن لم يكن مع الرجل إلا امرأة وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه لحديث ابن عباس المتقدم (فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه) . وإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، لحديث عبد الرحمن بن الأسود المتقدم، ويجعل الرجل عن يمينه، ويجوز أن يجعلهما عن يمينه، فإم كانا في نافلة وقفا خلفه، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم (وصففت أنا واليتيم وراءه) . أما من وقف معه كافر أو إمرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة فحكمه حكم الفذ، لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفاً، لأنهم من أهل الوقوف معه، أما الصبي إذا وقف معه في النفل كان صفاً لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم. وإن وقفت المرأة في صف الرجال فلا تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها من الرجال ولا صلاة من خلفها منهم كما لو وقفت من غير صلاة، ولكن يكره وقوفها في صفهم. - وإن وقف اثنان خلف الصف فخرج أحدهما لعذر واجب على الآخر أن يدخل في الصف، أو يقف عن يمين الاما، أو ينبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه ينوي مفارقة الإمام ويتم منفرداً، لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث. - وإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجل يتأخر معه فإن لم يفعل لم يُكره ويصلي وحده أو ينتظر جماعة أخرى. أما إمامة النساء فتقف وسطهن، لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فعن ريطة الحنفية قالت: (أمتنا عائشة فقامت بيننا في الصلاة المكتوبة) (4) ، وعن حجيرة قالت: (أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا) (5) . فإن كان معها إمرأة واحدة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز، [ص: 265] لأن المرأة يجوز لها أن تقف وحدها بدليل حديث أنس رضي الله عنه: (والعجوز من ورائنا) . والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وسِّطوا الإمام، وسُدُّوا الخلل) (6) ، وأن يتم المأمومون الصف الأول، لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتمُّوا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) (7) . وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها. وشرها أولها) (8) وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: ويلي الإمام الشُيوخ وأهلِ القرآن، ويؤخر الغلمان والصبيان، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى عن الذين يلونهم - ثلاثاً.) (9) . ومن السنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لحديث حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّ الرجل القوم قلا يقم في مكان أرفع من مقامهم) (10) ، ولا بأس بالعلو اليسير لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه في الصلاة. ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام. كما يصح أن يأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغيره إذا اتصلت الصفوف.   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 100/682. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 48/266. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 97/677. (4) و (5) الدارقطني: ج-1 /ص 155. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 99/681. (7) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 94/671. (8) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 28/132. (9) مسلم: ج-1/ الصلاة باب 28/123. (10) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 67/598. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 سادساً: عدم وجود حاجز يفصل بين الإمام والمؤتم: -1ً- إذا كان المأموم في المسجد: يجوز أن يأتم بالإمام مهما تباعد عنه، [ص: 266] لأنَّ المسجد كله موضع للجماعة، أما إن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة وسماع التكبير فلا يصح الائتمام به لتعذر استماعه، أما إن كان الحائلِ يمنع المشاهدة دون السماع ففيه وجهان، أصحهما: أن الصلاة صحيحة، لأنَّ الإمام أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر ولأنهم في موضع الجماعة ويمكنهم الإقتداء به لسماع التكبير، والثاني: أنه لا يصح الائتمام به، لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت لنساء كنَّ يصلين في حجرتها: (لا تصلين بصلاة الإمام فإنكنَّ دونه في حجاب) (1) والحجاب موجود هاهنا.. -2ً- إذا كان المأموم خارج المسجد: وبينه وبين الإمام حائل يمنعه رؤيته أو رؤية من وراءه من المصلين لم تصح صلاته، لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، وعن الإمام أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبوابه مغلقة قال: أرجو ان لا يكون به بأس. ويشترط إتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن ولا طريق عريض بحيث يمنع اتصال الصفوف.   (1) البيهقي: ج-3 /ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 سابعاً: الإسلام: أي يشترط لصحة الجماعة أن يكون الإمام مسلماً، ولا تصح إمامة الكافر لأنه لا صلاة له في نفسه. وإن صلى رجل خلف آخر يدعي الإسلام، ثم تبين أنَّه كافر بطلت صلاته، وتجب عليه إعادتها. ثامناً: أن لا يكون الإمام فاسقاً: فلا تصح إمامة الفاسق بالأفعال أو ببدعة لا تكفره ولو بمثله، لما روى جابر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تؤمن امرأة رجلاً ولا يؤمُّ أعرابي مهاجراً، ولا يؤمُّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه) (1) ، لأن الفاسق لا يُؤمَّن على شرائط صحة الصلاة. وتجوز إمامته للضرورة في صلاتي الجمعة والعيد إذا تعذرت صلاتهما خلف غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهما خلف كل بر وفاجر، ولأنهما تختصان بإمام واحد، فالمنع منهما خلف الفاسق يؤدي إلى تفويتهما.   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 78/1081. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 تاسعاً: العقل: ويشترط أن يكون الإمام عاقلاً، فلا تصح إمامة المجنون، لأنها لا تصح لنفسه، أما إذا كان يفيق أحياناً ويجنُّ أحياناً فإن إمامته تصح حال إفاقته وتبطل حال جنونه باتفاق. عاشراً: البلوغ: فلا تصح إمامة الصبي البالغ، ولا تصح صلاة البالغ بالصبي وحده في الصلاة المفروضة، لأن ذلك روي عن ابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم، ولأن الصبي ليس من أهل الكمال، فلا يؤمُّ الرجال. أما إمامته لهم بالنفل فهناك روايتان، إحداهما: لا تصح، والثانية: تصح لما روي عن عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله عنه قال: (كان يمر علينا الركبان فنتعلم منهم القرآن فأتى أبي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليؤمُّكم أكثركم قرآناً، فجاء أبي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليؤمُّكم أكثركم قرآناً، فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً. فكنت أئمم وأنا ابن ثمان سنين) (1) . وتصح إمامة الصبي بمثله في الفرض والنفل أيضاً.   (1) النسائي: ج-2 /ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 حادي عشر: أن لا يكون الإمام أمياً والمؤتمون قارئين لأنه عجز عن ركن في الصلاة فأشبه العاجز عن السجود. وتصح إمامة الأمي بمثله، وإن صلى الأمي بأميين وقائين صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئين. والأمي هو من لا يحسن قراءة الفاتحة، أو يخل بترتيلها، أو حرف منها، أو يبدِّله بغيره كالألثغ الذي [ص: 268] يجعل الراء غيناً وكذا من يلحن لحناً يحيل المعنى مثل أن يضم تاء أنعمتَ، أو يكسر كاف إياك، أو يخلُّ بتشديدة من تشديدات الفاتحة. ثاني عشر: أن لا يكون الإمام أدنى بالذكورة من المؤتمين، أي لا تصح إمامة المرأة للرجال، ولا للخنثى، ولا تصح إمامة الخنثى للرجال ولا للخنثى، ولكن تصح إمامة الخنثى والمرأة للنساء، وإمامة الرجل لجميعهم. ثالث عشر: طهارة الإمام من الحدث والخبث: فلا تصح صلاة المأموم إن علم قبل الصلاة أو أثناءها بنجاسة الإمام أو حدثه، أما إن انتهت الصلاة ولم يعلم صحت صلاته وليس عليه إعادة، أما الإمام إن كان جاهلاً ذلك قبل الصلاة أو أثناءها ثم علم بعدها فعليه الإعادة، لأن عمر رضي الله عنه (صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا) (1) ، وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً. أما إن علم الإمام والمأموم الحدث أو الخبث أثناء الصلاة لزمهما الاستئناف.   (1) البيهقي: ج-1 /ص 400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 رابع عشر: سلامة الإمام من الأعذار: أي يشترط أن يكون الإمام سليماًمن الأعذار كسلس البول والإسهال المستمر وانفلات الريح، وإن كانت إمرأة يشترط أن تكون سليمة من الاستحاضة، فكل هؤلاء لا تصح إمامتهم لغيرهم (لأنهم أخلُّوا بشرط من شروط صحة الصلاة) وتجوز لأمثالهم. خامس عشر: أن لا يكون الإمام عاجزاً عن القيام (باستثناء الإمام الراتب إن كان يرجى برؤه من عجزه عن القيام) أو الركوع أو السجود أو القعود لأنه يخل بركن من أركان الصلاة. [ص: 269] سادس عشر: لا يشترط لصحة الجماعة صحة صلاة الإمام بمذهب المأموم، لأن العبرة بشروط صحة الصلاة لمذهب الإمام فقط، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي بحنفي أو شافعي لم يمسح جميع الرأس في الوضوء فصلاته صحيحة لصحة الإمام في مذهبه. أما ما كان شرطاً في صحة الاقتداء فالعبرة فيه لمذهب المأموم، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي في صلاة فرض بشافعي يصلي نافلاً فصلاته باطلة، لأن شرط الاقتداء اتحاد صلاة الإمام والمأموم. أولى الناس بالإمامة: أ- أحق الناس بالإمامة من حيث الصفات: -1- أقرؤهم (1) لكتاب الله تعالى: لأن القراءة ركن في الصلاة فكان القادر عليها أولى كالقادر على القيام مع العاجز عنه بدليل الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم. وأحقهم بالإمام أقرؤهم) (2) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما قدم المهاجرون الأولون نلوا العَصَبَة (3) قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً، زاد الهيثم وفيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما) (4) وروى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. فإن كانوا في القرءة سواءً. فأعلمهم بالسنُّة. فإن كانوا في السنة سواء. فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء. فأقدمهم سِلْماً (5) . ولا يُؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه. ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) قال الأشجع في روايته: (مكان سلماً سِنَّاً) (6) . وقيل لأبي عبد [ص: 270] الله عن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) (7) أهو خلاف حديث أبي مسعود؟ قال: لا، إنما قوله لأبي بكر عندي يصلي بالناس للخلافة، يعني أن الخليفة أحق بالإمامة وإن كان غيره أقرأ منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه بالصلاة يدل على أنه أراد استخلافه. قال استوو بالقراءة قدم أكثرهم قرآناً) ، وإن كان أحدهم أكثر حفظاً والآخر أقلَ لحناً وأجودَ قراءة فهو أولى لأنه أعظمً أجراً في قراءته. -2- الأفقه: إن استووا في القراءة قدم أفقههم، لحديث أبي مسعود المتقدم (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) ، ولأن الفقه يحتاج إليه في الصلاة للإِتيان بواجباتها وسننها وجبرها إن عرض ما يحوج إليه فيها. -3- الأسن: فإن استووا في القراءة والفقه قدم الأسن (أكبرهم سناً) ، لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: إذا حضرنا الصلاة فأذَّنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما) (8) . وظاهر قول الإمام أحمد: أنه يقدم أقدمهما هجرة ثم أسنهما، لأنه ذهب إلى حديث أبي مسعود رضي الله عنه المتقدم وهو مرتب. -4- الأشرف: أي أعلاهم نسباً وقدراً، لما روى أبو حثمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعلموا قريشاً وتعلموا منها ولا تقدموا قريشاً ولا تأخروا عنها) (9) . [ص: 271] -5- الأتقى والأورع: إن استووا في الخصال السابقة قدم أتقاهم وأورعهم، لأنه أشرف في الدين وأفضل وأقرب في الإجابة. قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (10) ، ثم أعمرهم للمسجد وأتمهم مراعاة له. -6- وإن استووا في الخصال السابقة أقرع بينهم، لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أقرع بينهم في الآذان فالإمامة أولى. -7- الحر أولى بالإمامة من العبد، أما إمامة العبد فتصح لما روي (أن أبا عمرو ذكوان كان عبداً لعائشة فأعتقته، وكان يقوم لها في شهر رمضان يؤمها وهو عبد) (11) ، وروي أيضاً أن ابن مسعود وحذيفة وأبا ذر وأناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّموا أبا سعيد مملوكاً لأبي أسيد فصلى بهم. والحاضر أولى من المسافر، والبصير أولى من الأعمى في الإِمامة، لأن البصير أقدر على توقي النجاسة واستقبال القبلة، والحضري (من نشأ في المدن أو القرى) أولى من البدوي (من نشأ في البادية) ، والمتوضئ أولى من ضده.   (1) الأجود قراءة. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 53/289. (3) موضع في المدينة عند قباء. (4) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 61/588. (5) سِلماً: أي إسلاماً. (6) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 53/290. (7) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 21/94. (8) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 53/293. (9) البيهقي: ج-3 /ص 121. (10) الحجرات: 13. (11) البيهقي: ج-3 /ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ب- أحق الناس بالإِمامة في البيت: -1- السلطان مع الجماعة: إن كان في البيت ذو سلطان قَدّم على صاحب البيت، لأن ولايته على البيت وصاحبه. -2- صاحب البيت إذا توفرت فيه شروط الإِمام هو أحق من غيره فيها حتى وإن كان فيهم من هو أقرأ منه وأفقه، إلا إذا أذن له صاحب البيت لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه المتقدم عند مسلم: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه. ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) . [ص: 272] جـ- أحق الناس بالإِمامة في المسجد: -1- السلطان إذا كان في المسجد. الإِمام الراتب: ولو كان عبداً، أو كان في الحاضرين من هو أقرأ منه أو أفقه منه، وقد روي عن نافع قال: أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة المدينة.. وإمام ذلك المسجد مولى لإِبن عمر: فلما سمع عبد الله جاء ليشهد معهم الصلاة فقال له المولى: تقدم فصلي فقال عبد الله أنت أحق أن تصلي في مسجدك مني (1) . إلا أن يتأخر الإِمام الراتب لعذر فيصلي غيره، لأن أبا بكر رضي الله عنه صلى بالناس حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ولا يؤم في المسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، لأن الإمام الراتب بمنزلة صاحب البيت وهو أحق من غيره، فإذا تأخر الإمام عن الحضور وكان بيته قريباً فإنه يراسل وإلا صلى غيره إذا ظن عدم مجيئه. وإن كل ما ذكر في أولوية الإمامة هو على سبيل الاستحباب، وليس بواجب أو شرط صحة، أي إذا قدم المفضول على الأفضل في الإمامة كان ذلك جائزاً، لأن الأمر بعد هذا أمر أدب واستحباب. أماحكم إمامة المفضول بدون إذن الفاضل في مكروهة. من تصح إمامته مع الكراهة: -1- تكره وتصح إمامة الأعمى، روى أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤمُّ الناس وهو أعمى) (1) . تصح إمامة الأصم، لأن الأعمى والأصم لا يخلان بشيء من أفعال الصلاة ولا شروطها. -2- تكره وتصح إمامة الأقلف (2) ، ولأنه ذكر مسلم عدل قارئ فتصح [ص: 273] إمامته. أما النجاسة التي تحت القلفة فلا يمكن إزالتها فيعفى عنها، وكل نجاسة معفى عنها لا تؤثر في إبطال الصلاة، هذا إذا كانت القلفة غير مفتوقة. أما المفتوقة أو التي يمكن فتقها وغسل ما تحتها فهذا إن ترك غسل ما تحت القلفة لم تصح صلاته، لأنها نجاسة لا يعفى عنها مع القدرة على إزالتها. -3- تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ وإمامة الغسل بالماسح، على الخف أو الحبيرة والعكس بلا كراهة، لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه صلى بأصحابه متيمماً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكر عليه. -4- تصح إمامة ولد الزنا والجندي والخصي والأعرابي إذا سلموا في دينهم بلا كراهة لدخولهم تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤمُّ القوم أقرؤهم) . -5- تصح إمامة الإِمام الراتب في مسجدٍ العاجز عن القيام بالقادرين عليه إن كان يرجى برؤه (3) . بلا كراهة، ويصلون خلفه جلوساً، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودُونه. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً. فصلوا بصلاته قياماً. فأشار إليهم أن اجلسوا. فجلسوا. فلما انصرف قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به. فإذا ركع فاركعوا. وإذا رفع فارفعوا. وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً) (4) . -6- تكره وتصح خلف الفأفاء (الذي يكرر حرف الفاء) وخلف التمتام (الذي يكرر حرف التاء) وخلف من لا يفصح ببعض الحروف كالقاف والضاد. -7- تكره وتصح صلاة اللحان، أي الذي يلحن لحناً لا يغير المعنى كأن يجر دال الحمد لله، لأنه نقص يذهب ببعض الثواب. [ص: 274] -8- تكره وتصح صلاة من يؤمُّ قوماً وأكثرهم له كارهون. لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً. رجل أمُّ قوماً وهم له كارهون. وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان ... ) (5) . -9- تكره وتصح أن يؤم الرجل نساء أجانب لا رجل معهم.. -10- تكره وتصح إمامة المفضول بمن هو أفضل منه بلا إذنه، لحديث ابن عمر رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمَّ قوماً وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه لم يزل في سفَّال إلى يوم القيامة) (6) . إدراك صلاة الجماعة: يجب على المكلف إذا أقيمت الصلاة أن لا يشتغل بغيرها، لحديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) (7) ، وإذا أقيمت وكان في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوت الجماعة فيقطعها، وعن الإِمام أحمد: أنه يتمها لقوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} (8) . وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون. وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) (9) ، لكن لا بأس أن يسرع قليلاً إذا خاف فوات الركعة. إدراك الركعة مع الإِمام: إن أدرك المأموم الإِمام راكعاً كبَّر للإحرام وهو قائم ثم كبَّر أخرى للركوع، وإن كبر واحدة أجزأته، فإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإِمام فقد أدرك [ص: 275] الركعة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن الركعة فقد أدرك الصلاة) (10) ، أما إن أدركه في سجود أو جلوس كبَّر للإحرام وانحط من غير تكبير، أنه لم يدرك محل التكبير من السجود.   (1) البيهقي: ج-3 /ص 88. (2) الأقلف: غير المختون. (3) وصح ذلك بالعجز عن القيام دون سائر الأركان، لأن القيام أخف من سائر الأركان بدليل سقوطه بالنفل دونهما. (4) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 19/82. (5) ابن ماجة ج-1/ إقامة الصلاة باب 43/971. (6) مجمع الزوائد: ج-2 /ص 64. (7) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 9/63. (8) محمد:. (9) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 55/572. (10) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 156/893. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 إدراك فضيلة الجماعة: من كبَّر قبل سلام الإِمام الأول فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها. صلاة المسبوق: يعتبر ما أدركه المسبوق مع الإِمام آخر صلاته، فإن أدركه فيما بعد الركعة الأولى دخل معه ولم يستفتح ولم يستعذ، وما يقضيه المسبوق بعد سلام الإِمام هو أول صلاته: يستفتح له ويتعوذ ويقرأ السورة بعد الفاتحة. لكن لو أدرك من رباعية أو مغرب ركعة فإنه يتشهد عقب قضاء الأخرى نصاً لئلا يلزم تغيير هيئة الصلاة، لأنه لو تشهد عقب ركعتين لزم عليه قطع الرباعية على وتر والثلاثية شفعاً، ومراعة هيئة الصلاة ممكنة ولا ضرورة لتركها فلزم إِتيان بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الباب السابع (صلاة الجمعة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 حكمها: هي فرض عين على كل من استكملت فيه شروط وجوبها، ولو اتفق أهل بلد على ترك الجمعة وصلوا الظهر لم تصح صلاتهم، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم إعادة الظهر. دليلها: من القرآن قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (1) . ومن السنة حديث عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) (2) ، وروى ابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا، إلى يوم القيامة، من تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره) (3) . وقد انعقد إجماع الأئمة على أن صلاة الجمعة فرض عين. [ص: 277]   (1) الجمعة: 9. (2) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 43/258. (3) ابن ماجة: ج-1/ إقامة الصلاة باب 78/1081. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 شروط وجوب الجمعة: -1ً- أن يكون مكلفاً: أي مسلماً بالغاً عاقلاً، فلا تجب على مجنون ولا على صبي. -2ً- الذكورة: فلا تجب على الأنثى ولا على الخنثى، لأن المرأة ليست من أهل الجماعات، ولا تنعقد بهن لكنها تصح منهن وتجزؤهن عن الظهر. -3ً- الحرية: فلا تجب على العبد ولا على من به رق ولو مبعضاً، ولكن إذا حضرها وأدَّاها فإنها تصح منه. ولكن لا تنعقد به. -4ً- انتفاء الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة (1) : ولا يعتبر من أصحاب الأعذار من لم يتضرر بإتيان الجمعة راكباً أو محمولاً، أو تبرع أحد بالإتيان به كقعود أعمى، فإنها تجب عليه، وكذلك لو تكلف المريض الحضور وجبت عليه وانعقدت به، لأن سقوطها كان لدفع المشقة فإذا حضر زالت المشقة وانعقدت به كالصحيح، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم، في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو إمرأة، أو صبي، أو مريض) (2) . -5ً- الإقامة بمكان الجمعة أو قريب، (أي بينه وبين الجمعة مكان أقل من مسافة القصر) فلا تجب على المسافر إلا إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام. - وتجب الجمعة على المسافر الذي لا يباح له القصر (أي سفره أقل من مسافة القصر أو كان سفره معصية) . كما تجب على أهل مصر قريبهم وبعيدهم عن مكان الجمعة، لأن البلد كالشيء الواحد، بشرط أن لا يكون البعد عن صلاة الجمعة (المسجد التي تقام به الجمعة) أكثر من فرسخ. [ص: 278] فلو سمع أهل القرية النداء من المصر لزمهم حضورها ولم تنعقد بهم، لأنهم غير مستوطنين بها، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة على كل من سمع النداء) (3) ، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب فرسخ) (4) ، إذا كان المؤذن صيتاً والموضع عالياً والرياح ساكنة والأصوات هادئة والعوارض منتفية.   (1) تقدّم ذكرها في صلاة الجماعة. (2) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 215/1067. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 212/1056. (4) الفرسخ يساوي ثلاثة أميال، والميل مسيرة نصف ساعة، فالفرسخ يساوي مسيرة ساعة ونصف، ويعادل تقريباً خمسة كيلو مترات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 شروط صحة الجمعة: -1- أن تقع في الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإِجماع. وأول وقتها: هو أول وقت صلاة العيد، عن جعفر عن أبيه أنه سأل جابر بن عبد لله رضي الله عنهما: متى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟ قال: كان يصلي. ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها. زاد عبد الله في حديثه: حين نزول الشمس) (1) . وآخر وقتها: حين يصبح ظل كل شيء مثله عدا ظل الاستواء. ولها وقتان: -1ً- وقت جواز: ويبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح، ويستمر إلى الزوال. -2ً- وقت وجوب: ويبدأ من الزوال فما بعده ولكن الأفضل فعلها عند الزوال صيفاً وشتاءً، فلا يقدمها عن ذلك خروجاً من الخلاف مع بقية الأئمة ولا يؤخرها فيشق على الناس، لما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (كنا نُجمِّعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء) (2) . [ص: 279] فإن خرج وقتها قبل أن يكبر للإِحرام بالجمعة صلوا ظهراً (قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً) وإن أحرموا بها في الوقت فجمعة كسائر الصلوات تدرك بتكبيرة الإحرام في الوقت. -2- أن تكون في مصر (3) أو قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به حتى ولو من قصب، مجتمعة البناء، ويسكنها أربعون من أهل الجمعة سُكنى إقامة، استيطان أي لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً) . أما أهل الخيم وبيوت الشعر فلا جمعة لهم، وتجوز إقامة الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، فإن خربت القرية وبقوافيها عازمين على إصلاحها وترميمها فحكمها باقٍ، وإن عزموا على الانتقال منها زال الاستيطان. ولا يشترط لإِقامتها إذنُ الإِمام لأنها من فرائض الأعيان كالظهر. -3- حضور أربعين بما فيهم الإِمام ممن تنعقد بهم الجمعة الصلاة والخطبة ولو كان فيهم خرس أو صمم بعضهم لا كلهم، فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً نص عليه. وقال في الكافيء قياس المذهب أنهم إن نقصوا بعد إتمام الركعة أتموها جمعة، أما إن نقصوا قبل إتمام الركعة استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة بشروطها، فلو حضر الأربعون جميع الخطبة وبعض الصلاة ثم انصرفوا بعد مجيء بدلهم صحت الجمعة، أما لو نقص العدد عن الأربعين في أثناء الصلاة قبل حضور من يكمله فإنها تبطل وتجب إعادتها جمعة إن أمكن. -4- أن يتقدمها خطبتان، لما روى عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينها، يقرأ القرآن ويذكر الناس) (4) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (5) ، وقال تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (6) والذكر هو الخطبة. [ص: 280]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 9/29. (2) مسلم: ج-2/ الجمعة باب 9/31. (3) المصر: كل بلد فيها حاكم ومفتي. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 10/34. (5) البخاري: ج-1/ كتاب الأذان باب 18/605. (6) الجمعة: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 شروط صحة الخطبتين: -1ً- حضور العدد المشروط للصلاة، لأن الخطبة ذكر اشترط للصلاة فاشترط له العدد كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا قبل أن يطول الفصل صلوا الجمعة لأنه فصل يسير. -2ً- دخول الوقت قياساً على الصلاة. -3ً- أن يتولاهما من تصح إمامته فيها، فلا تصح خطبة من لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمسافر. -4ً- أن تتقدما على الصلاة فلا يعتد بهما إن تأخرتا عنها. -5ً- نية الخطبة، فلو خطب بغير النية لم يعتد بخطبته. -6ً- وقوعها حضراً. ولا يشترط لهما الطهارة. لأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة (وعن الإِمام: أنها شرط لصحة الخطبة) . أركان كل من الخطبتين: سبعة هي: -1-حمد الله تعالى، لما روى جابر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله) (1) . -2- الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالآذان. ويتعين لفظ الصلاة. -3- الموعظة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ الناس، وهي القصد من الخطبة، وأقلها الوصية بتقوى الله نحو قوله: اتقوا الله وأطيعوا الله ونحوه. قال الشيخ: لا بد له أن [ص: 281] يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير، فلو اقتصر على أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه فالأظهر أنه لا يكفي. -4- قراءة آية كاملة من من كتاب الله تعالى تستقل بمعنى أو حكم، فلو قرأ مثلاً قوله تعالى: {مدهامتان} لم يكفِ، لأن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصداً. وخطبته قصداً يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس) (2) ، ولأن الخطبة فرض في الجمعة فوجبت القراءة فيها كالصلاة. -5- الموالاة، فإن فرق بين الخطبتين، أو بين أجزاء الخطبة الواحدة، أو بينهما وبين الصلاة، وطال الفصل بطلت الخطبة، وإن كان تفريقاً يسيراً بنى عليها. -6- الجهر بهما بحيث يُسمع الخطيب العدد المعتبر في الجمعة، وهم أربعون من أهل وجوبها حيث لا مانع لهم من سماعه كنوم بعضهم أو غفلته أو صممه، فإن لم يسمعوا لإنخفاض صوته أو لبعدهم عنه لم تصح. -7- أن تكونا بالعربية للقادر عليها سواءً كان القوم عرباً أو غيرهم، فإن كان عاجزاً عن العربية صحت إلا الآية فلا تصح إلا بالعربية.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 13/45. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 13/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 سنن الخطبتين: -1- طهارة الإِمام من الحدث والخبث، كما يسن له ستر العورة. -2- أن يخطب على المنبر أو موضع عالٍ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه (سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر) (1) . -3- أن يسلم عقب صعوده، إذا أقبل على الناس، لحديث جابر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلّم عليهم) (2) . [ص: 282] -4- أن يجلس إذا سلم عليهم، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين: كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ، أراه قال المؤذن. ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب) (3) . -5- أن يؤذن لها إذا جلس الإِمام على المنبر، لأن الله تعالى قال: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} يعني الآذان (4) . -6- أن يخطب قائماً، لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً. ثم يجلس. ثم يقوم فيخطب قائماً فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب) (5) . -7- أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه أو أرسلهما عند جنبيه وسكّنهما، روى الحكم بن حزم قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ... شهدنا فيها الجمعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على قوس أو قال على عصا فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات) (6) . -8- أن يرفع صوته، لأنه أبلغ في الإسماع، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه. حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحتكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد، فإن خير [ص: 283] الحديث كتاب الله. وخير الهُدى هُدى محمد. وشر الأمور محدثاتها. وكل بدعة ضلالة ... ) (7) . -9- أن يستقبل بخطبته جهة وجههه فلا يلتفت يميناً أو شمالاً. -10- أن يكون في خطبته مترسلاً مُعرباً مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط، لأنه أبلغ وأحسن. -11- أن يُقصرِّ الخطبة، لما روى عمار رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه. فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ... ) (8) . -12-أن تكون الخطبة الأولى أطول من الثانية. -13- أن يرتب الخطبة، بأن يبدأ بالحمد لله ثم بالصلوات على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم بالوعظ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد ... أقطع) (9) . -14- أن يدعو للمسلمين، لأن الدعاء لهم مسنون في غير الخطبة ففيها أولى، وإن دعا للسلطان فحسن، لأن صلاحه نفع للمسلمين فالدعاء له كالدعاء لهم. -15- أن يجلس بين الخطبتين جلسة استراحة بقدر سورة الإخلاص وليس فيها ذكر. -16- أن يخطب من صحيفة. -17- أن يتولاهما مع الصلاة واحد. [ص: 284]   (1) البخاري: ج-3/ كتاب بدء الخلق باب 14/3123. (2) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 85/1109. (3) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 227/1092. (4) يسن الأذان الأول في أول الوقت، وهو مشروع للإعلام بالوقت، وهو الذي سنه عثمان رضي الله عنه: والثاني: والإمام على المنبر للإعلام بالخطبة، وهو الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، والثالث للإقامة، وهو للإعلام بالقيام إلى الصلاة. (5) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 10/35. (6) مسند الإِمام أحمد: ج-4 /ص 212. (7) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 13/43. (8) مسلم: ج-2/ الجمعة باب 13/47. (9) ابن ماجة: ج-1/ كتاب النكاح باب 19/1894. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مكروهات الخطبتين: ترك أي سنة من السنن المتقدمة. وقد يكون خلاف الأولى أو من المكروه استدبار القوم حال الخطبة ورفع يديه حال الدعاء فيها. كيفية صلاة الجمعة: إذا فرث الإِمام من الخطبتين نزل، فأقيمت الصلاة، فيصلي بالناس ركعتين يقرأ في كل ركعة (الحمد لله) وسورة، ويجهر بالقراءة للإجماع على ذلك، ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالأولى بعد الفاتحة سورة (الجمعة) وفي الثانية (المنافقين) ، أو بالأولى (سبح اسم ربك الأعلى) والثانية (هل أتاك حديث الغاشية) ، لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية) (1) . ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم مُصلياً بعد الجمعة فليصلِّ أربعاً) (2) ، وأقل السنة الراتبة بعدها ركعتان وأكثرها ست ركعات، لأن ابن عمر رضي الله عنهما (كان إذا كان بمكة وصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصلِّ في المسجد فقيل له فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (3) . ويستحب أن يفصل بين الجمعة والركوع بكلام أو رجوع إلى المنزل، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: (إذا صليت الجمعة فلا تَصِلها بصلاة [ص: 285] حتى تكلم أو تخرج. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ذلك أن لا تُصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) (4) . وليس لها سنة راتبة قبلها بل يستحب صلاة أربع ركع.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 16/62. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 18/69. (3) البيهقي: ج-3 /ص 240. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 18/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 إدراك صلاة الجمعة: من أدرك مع الإِمام الركوع في الثانية فإنه يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإِمام فقد أدرك الصلاة) (1) . أما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان قد دخل بنية الظهر وفي وقته، وإلا أتمها نفلاً ووجبت عليه صلاة الظهر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا، ينوي الجمعة عند الدخول فيها لئلا يخالف بنيته نية الإِمام ثم يبني عليها ظهراً، لأنهما فرض في وقت واحد ردت إحداهما من أربع إلى ركعتي فجاز أن يبني عليها الأربع التامة مع المقصورة. - من أحرم مع الإِمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدميه لزمه ذلك، لما روي عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه) (2) فإن لم يمكنه ذلك انتظروا زوال الزحام ثم يسجد ويتبع الإِمام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر والعذر هاهنا قائم.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 30/161. (2) مسند الإِمام أحمد: ج-1 /ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 تعد المساجد التي تقام فيها الجمعة: يحرم إقامة صلاة الجمعة وصلاة العيد في أكثر من موضع واحد من البلد إن [ص: 286] أمكن الاستغناء بجمعة واحدة في المصر، لأن الغرض من صلاة الجمعة هو أن يجتمع الناس في مكان واحد خاشعين لربهم فتتوثق بينهم روابط الألفة وتقوى صلات المحبة والتعاون ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة. ويجوز إقامة أكثر من جمعة إذا كان هناك حاجة كضيق مساجد البلد، أو بعد المسافة بحيث يشق على من منزله بعيد عن مكان إقامة الجمعة مجيئه إليها، أو خوف الفتنة كأن يوجد بين أهل البلد عداوة مثلاً. فإن صليت الجمعة في موضعين أو أكثر من غير حاجة صحت معة الإِمام، لأن في تصحيح غير جمعة الإِمام افتئاتاً عليه وإبطالاً لجمعته، فإن لم يكن الإِمام مصلياً في إحداهما فالسابقة بالإحرام هي الصحيحة، لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، ويَفْسدُ ما بعدها. فإن وقعت جميعها في وقت واحد بطلت جميعها وعليهم إقامة جماعة أخرى، لأنه مِصرٌ لم تصلِّ فيه جمعة صحيحة. وإن عُلم سبق إحداها وجهلت فعلى الجميع صلاة الظهر، لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة. وقت صلاة الظهر لمن لم يصلِّ الجمعة: -1- يجوز لمن لم تجب عليه الجمعة أن يصلي صلاة الظهر قبل فراغ الإِمام من صلاة الجمعة بسلامه منها، إلا إن ظنَّ زوال عذره قبل صلاة الإِمام فالأفضل له أن لا يُصلي الظهر إلا بعد صلاة الإِمام. أما ان كان صلى قبل صلاة الإِمام ومن ثم زال عذره قبل انتهاء الإِمام فلا تلزمه الجمعة، لأنه أدى فرض الوقت. -2- لا تصح صلاة الظهر قبل صلاة الإِمام لمن تجب عليه الجمعة، لأنه غير مخطب بالظهر. -3- من فاتته الجمعة أعادها ظهراً، لأنه يخاطب بها حينئذٍ. [ص: 287] صلاة الظهر جماعة في يوم الجمعة: لا يكره لمن فاتته الجمعة أو لمن لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) (1) ، فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفع التهمة عن نفسه.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 42/249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 حالة اجتماع يوم الجمعة والعيد: -1- إذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلاة العيد تُسقط الجمعة وتُصلى الظهر بلاً عنها، لما رُوي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل زيد بن أرقم قال: (أشهَدتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعَ؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة فقال: من شاء أن يُصلِّي فليصلِّ) (1) .   (1) أبو داود: ج-1/ كتاب الصلاة باب 217/1070. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ما يستحب في ليلة الجمعة ويومها: -1- تلاوة سورة الكهف في ليلة الجمعة ويومها، لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) (1) . -2- أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل الكتاب) و (هل أتى على الإنسان) ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقرأ في الفجر، يوم الجمعة الم تنزيل، وهل أتى) (2) . -3- أن يغتسل يوم الجمعة، وقيل الغسل واجب، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة على كل محتلم. [ص: 288] وسواك. ويمسس الطيب ما قدر عليه) (3) ، ولكن المعتمد الأول عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فَبها ونِعْمَتْ، ومن اغتسل فالغسل أفضل) (4) ، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، والدليل على ذلك أنه ذُكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين. ووقت الغسل من بعد طلوع فجر يوم الجمعة لقوله في الخبر: (يوم الجمعة) ، والأفضل فعله عند الرواح لأنه أبلغ في المقصود، ولا يصح إلا بنية لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه لأن المقصود التنظيف وهو حاصل. -4- يستحب التطيب والتنظيف، أي قطع الشعر وقص الأظافر، وإزالة الرائحة، لما روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهرٍ، ويدهن من دهنه، أو يَمَسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإِمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) (5) . -5- أن يتزين بأحسن ثيابه، والمندوب الأبيض لا غير. -6- الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. -7- التكبير بالسعي لها، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بكرة. ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون [ص: 289] الذكر) (6) ، وفي حديث آخر عن علقمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات) (7) . -8- ويستحب أن يأتيها ماشياً، ويقرب بين خطاه لتكثر حسناته وليكون أعظم للأجر، وعليه السكينة والوقار، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها. وأنتم تسعون. وأتوها وعليكم السكينة ... ) (8) . ولكن يجب السعي بالنداء الثاني، إلا لمن كان منزله بعيداً فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة. ويحرم لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها (بعد الزوال) ، لأنه يكون تاركاً لها بعد وجوبها عليه، أما قبل دخول وقتها فيجوز السفر للجهاد، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه فقال: أتخلف فأصلي يوم الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه، فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، قال: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم) (9) . أما السفر لغير الجهاد قبل دخول وقتها فمكروه إن لم يأت بها في طريقه.   (1) البيهقي: ج-3 /ص 249. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 17/65. (3) مسلم: ج-2/ الجمعة باب 2/7. (4) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 357/497. (5) البخاري: ج-1/ كتاب الجمعة باب 5/843. (6) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 2/10. (7) ابن ماجة: ج-1/ كتاب إقامة الصلاة باب 82/1094. (8) مسلم: ج-1/ كتاب المساجد باب 28/152. (9) الترمذي: ج-2/ الصلاة باب 380/527. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الأحكام المتعلقة بالأذان الثاني (الأذان الذي بين يدي الخطيب) (1) وبحضور الجمعة: -1- يجب السعي لصلاة الجمعة إذا نودي لها بالأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب، ويحرم البيع لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم [ص: 290] الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) ، ولا ينعقد البيع على من تجب عليهم الجمعة، فإن كان أحد المتعاقدين ممن تجب عليه والآخر لا تجب عليه فإنه يحرم عليهما معاً، وذلك لأن من لا تجب عليه أعان من تجب عليه على المعصية. وهذا يدل على عدم التحريم قبل الأذان. -2- يكره تخطي الرقاب إذا دخل المسجد، إلا إن كان إماماً ولم يجد طريقاً غيره، أو لسد فرجة.. وإن ازدحم الناس في المسجد وفي داخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، جلس حتى يقوموا، وإن لم يرجُ ذلك فله تخطيهم. ولا يقيم أحداً غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه) (2) . ولو قدَّم رجل غلامه فجلس في موضع ثم جاء هو فقام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به، وروي أن ابن سيرين كان يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه، ولا يجوز لغيره رفعه إلا إذا حضرت الصلاة، وهناك وجه آخر أنه يجوز، لكن المعتمد هو الأول. وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى وهب بن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل أحق بمجلسه، وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه) (3) . -3- يستحب الدنو من الإِمام، لحديث أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة وغَسَّلّ، وبكرّ وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة، صيامها وقيامها) (4) . [ص: 291] -4- يسن لمن حضر قبل الخطبة الاشتغال بالتنفل أو ذكر الله وقراءة القرآن، وأن يكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، حتى يجلس الإِمام على المنبر. ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (دخل رجل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة. قال: أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصلِّ) (5) ، وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) (6) . -5- يحرم الكلام أثناء الخطبة للحاضر (السامع وغيره) ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت) (7) ، أما البعيد فيذكر الله ويقرأ القرآن سراً. ومن سأله الإِمام عن شيء فعليه إجابته، لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم: (قال: أصليت؟ قال: لا..) . ولا يُشمَّت العاطس ولا يُعطى السائل والإمام يخطب، ولكن لا بأس بشرب الماء لمن لم يسمع الخطبة. ولا يحرم الكلام على الخاطب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم، وسأل عمر عثمانَ: أية ساعة هذه وهو في الخطبة. [ص: 292]   (1) الأذان الأول لدخول الوقت، والثاني بين يدي الخطيب قبل الخطبة، والأذان الثالث لإقامة الصلاة. (2) مسند الإِمام أحمد: ج-2 /ص 22. (3) الترمذي: ج-5 /كتاب الأدب باب 10/2751. (4) الترمذي: ج-2 / الصلاة باب 356/496. (5) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 14/55. (6) مسلم: ج-2/ الجمعة باب 14/59. (7) مسلم: ج-2/ الجمعة باب 3/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الباب الثامن (صلاة المسافر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الفصل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قصْرُ الصلاة تعريفه: قصر الصلاة هو أن يصلي المكلف الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين. حكمه: رخصة للمسافر سفراً طويلاً. والرخصة يجوز تركها لكن القصر أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه داوموا عليه وعابوا من تركه. أما الملاح الذي أهله في السفينة، وحاجة بيته معه، ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام في بلد، فلا يقصر لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله فأشبه المقيم في البلد. دليله: من القرآن قوله تعالى: (وإذا ضربتم (1) في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) (2) . ومن السنة: عن يعلى بن أمية قال: (قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: [ص: 293] صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) (3) . وروى يحيى بن أبي إسحق قال: سمعت أنساً يقول: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة ... ) (4) . وقد أجمعت الأمة على مشروعية القصر.   (1) ضربتم: سافرتم براً أو بحراً. (2) النساء: 101. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 1/686. (4) البخاري: ج-1/ تقصير الصلاة باب 1/1031. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 شروط جواز القصر: -1ً- أن يكون السفر طويلاً أي مسافة أربعة برد (1) ، أي مسير يوم وليلة بسير الإِبل المحملة بالأثقال، سيراً معتاداً سواء كان السفر براً أم بحراً، والعبرة للمسافة لا لمسيرة السفر، فإن شك بمقدار المسافة لم يبح له القصر لأن الأصل للإِتمام فلا يزول بالشك. -2ً- أن ينوي السفر الطويل في بدئه، فلو قصر ثم بدا له الإِقامة، أو رجع كانت صلاته صحيحة، أما من خرج طالباً لآبق أو هائماً على وجهه فلا يباح له القصر ولو سافر شهراً، لأن نية السفر الطويل لم توجد في البدء. وكذا لا تعتبر نية التابع إلا إذا وافقت نية المتبوع، فلو خرج مكرهاً كالأسير يُقصَدُ به بلدٌ بعينه فله القصر لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر. -3ً- أن يكون السفر مباحاً (ومن باب أولى أن يكون السفر واجباً كالحج والجهاد وقضاء الدين، أو مسنوناً كزيارة الرحم) للتجارة أو النزهة. فلو كان السفر حراماً كأن سافر لسرقة مال، أو لقطع طريق، أو تجارة في الخمر أو نحو ذلك، فلا يقصر، وإذا قصر لم تنعقد صلاته ولا يترخص بشيء من رخص السفر، لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالعاصي. أما إن عصى في سفر مباح أو واجب أو مندوب فلا يمنع القصر. [ص: 294] -4ً- شروعه في السفر بخروجه من بيوت قريته أو بلدته، لأن الله تعالى قال: {وإذا ضربتم فيالأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. ويجوز له القصر بين حيطان البساتين لأنها ليست من حيطان البلد ولا تبنى للسكنى. وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء وإن كانت حيطانه قائمة، أما إذا اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة فلا يقصر إلا إذا فارقهما معاً، ولا يقصر إذا اتصل بالخراب بساتين يسكنها أصحاب للرياضة في الصيف مثلاً إلا إذا جاوز تلك البساتين. أما إن كان من سكان الخيام أو القصور أو البساتين فلا يقصر حتى يفارق خيامه أو المكان تنسب إليه البساتين أو القصور عرفاً. أما المسافر بحراً فيعتبر شروعه في السفر بركوبه الباخرة وشروعها في الحركة.   (1) أي 16/ فرسخ وتساوي 48 ميل أو 81 كيلو متر تقريباً.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 شروط صحة القصر: -1ً- أن ينوي القصر مع نية الإِحرام، فإن شك في نية القصر لزمه الإِتمام لأنه الأصل. فلو نوى الإِتمام في ابتداء الصلاة، أو أثنائها، أو ما يلزمه الإِتمام كالإِقامة، أو قلب نيته إلى سفر قصير أو معصية، لزمه إتمام الصلاة ولزم من خلفه متابعته. -2ً- أن يعتقد جواز القصر، فلو قصر وهو معتقد التحريم (تحريم القصر) فصلاته فاسدة، لأنه فعل ما يعتقد تحريمه. -3ً- أن لا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر وقضاها في السفر لم يجز له قصرها. ومن سافر بعد دخول وقت الصلاة ولم يصلِّها وصلاها في السفر ولم يجز له قصرها. وإن نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر أتمها ولم يقصر فيها، أما إن ذكرها في سفر آخر فيقصرها. -4ً- أن لا يأتم المسافر الذي يقصر الصلاة بمقيم ولا بمسافر يتم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإِتمام سواء أئتم به في الصلاة كلها أو جزئها، لأن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن (المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم يعني المقيمين أتجزيه الركعتان [ص: 295] أو يصلي بصلاتهم قال: فضحك وقال: يصلي بصلاتهم) (1) ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعة لائتمامه بمقيم. ومن ائتم بمقيم ففسدت صلاته لم يجز له قصرها بعد ذلك، لأنها تعنيت عليه تامة لائتمامه بمقيم. ومن أحرم مع من يظنه مقيماً أو يشك في إقامته لزمه الإِتمام ولو قصر إمامه اعتباراً بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر فله أن ينوي القصر ويتبع إمامه فيقصر بقصره ويتم بإتمامه. وإن أمّ المسافر مقيماً لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإِمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد، صلَّوا أربعاً فإنا قوم سُفر) (2) . وإن أتم الإِمام (المسافر) صحت الصلاة، أما إن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس ولا يلزمه الإِتمام لأن الموجب للاتمام نيته.   (1) البيهقي: ج-3 /ص 157. (2) أبو داود: ج-2 / كتاب الصلاة باب 279/1229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ما يمنع القصر: -1- نية الإقامة في بلد المقصد أكثر من إحدى وعشرين صلاة، ولو في مكان غير صالح للإِقامة، ولو لحاجة علم أنها لا تنقضي إلا في مدة أكثر من إحدى وعشرين صلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة فصلى بهم إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة (الرابع من ذي الحجة) فأقام إلى يوم التروية فصلى الصبح ثم خرج. فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإِمام أحمد رضي الله عنه. ومن قصد رِستافاً (1) يتنقل فيه لا ينوي الإِقامة في موضع واحد فله القصر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقصر حتى [ص: 296] قدمنا مكة فأقام بها عشرة أيام يقصر حتى رجع وذلك في حجة الوداع) (2) وهذا يعني أنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وبعده من العشرة. ومن كان في مكة مقيماً فخرج إلى عرفة عازماً على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم فيها فله القصر من حين خروجه. -2- مرورو المسافر على بلد فيها زوجة له أو ماشية، لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهما. -3- مرورو المسافر بوطنه ولو لم يرد الإِقامة فيه. -4- رجوع المسافر من الطريق إلى بلده، لحاجة بدت، أو لعدوله عن السفر، إن لم يقطع مسافة القصر بعد، ولا يعيد الصلاة التي صلاها قصراً. أما إن كان قطع مسافة القصر فيقصر في عودته إلى أن يعود إلى بلده. -5- عودة المسافر إلى المكان الذي يباح له القصر عنده حين ابتدأ سفره سواء كان ذلك المكان وطناً له أو لا. [ص: 297]   (1) الرستاق: القرى. (2) الدرامي: ج-1/ص 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الفصل الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 جمع الصلاة تعريف: الجمع هو أن يجمع المصلي بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الظهر أو يجمع بينهما تأخيراً في وقت العصر، وبين المغرب والعشاء تقديماً في وقت المغرب أو تأخيراً في وقت العشاء. حكمه: -1ً- مباح في الأسباب الواردة فيما بعد. وتركه أفضل. -2ً- سنة بين الظهر والعصر تقديماً بعرفة، وبين تامغرب والعشاء وتأخيراً بمزدلفة. أسباب جواز الجمع: -1ً- السفر: روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: كان (إذا عجل عليه السفر، يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر. فيجمع بينهما. ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، حين يغيب الشفق) (1) . وشروط جواز الجمع في السفر هي نفس شروط جواز القصر، أي كل من جاز له القصر في حله وترحاله جازله الجمع. -2ً-المطر الذي يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه ومثله الثلج (2) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر [ص: 298] والعصر، والمغرب والعشاء. فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى) (3) ، ويجوز الجمع في المطر حتى ولو كان المصلي منفرداً أو مقيماً في المسجد أو كان في المسجد أو كان في طريقه ظلال، لأن العذر عام لا يعتبر حقيقة المشقة كالسفر، وقد روي أن النبي. صلى الله عليه وسلم جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء. -3ً- المرض: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر) (4) ، وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز بغير عذر فلم يبق إلا المرض، فهذا دليل جواز الجمع في المرض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة وهي نوع من المرض.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 5/48. (2) أما الجمع في الوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة ففيه وجهان: الجواز وعدمه. (3) البخاري: ج-1/ كتاب مواقيت الصلاة باب 11/518. (4) مسلم: ج-1/ صلاة المسافرين باب 6/54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 شروط صحة الجمع: -1- الترتيب، أي البداءة بالأولى. -2- صحة الأولى، فإن ذكر أنه نسي من الأولى ركناً أعادهما أداءً إن اتسع الوقت وإلا فقضاء مرتباً، وإن بان أنه نسي ركناً من الثانية أعادها فقط. ويشترط لجمع التقديم شروط أخرى هي: -1ً- أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى. -2ً- أن لا يفصل بينهما إلا فصلاً يسيراً بحسب العرف، كوضوء خفيف وإقامة. ولا يضر الكلام اليسير. أما إن فصل بينهما بسنة راتبه فلا يصح. -3ً- وجود العذر المبيح للجمع (مطر وما شابهه، أو مرض وما شابهه) عند افتتاح الأولى وانتهائها وابتداء الثانية، أي إذا انقطع العذر أثناء الأولى ثم عاد، [ص: 299] أو انقطع العذر قبل انتهاء الثانية، فالجمع صحيح. أما الذي يجمع بالسفر بالسفر فيشترط أن يدوم سفره من إحرام الأولى إلى انتهاء الثانية، فلو نوى الإقامة، أو وصل إلى بلد المقصد، أو وصل إلى وطنه قبل الانتهاء من الثانية. انقطع السفر وبطلت الصلاة، وقيل: يكفي استمرار السفر إلى الإِحرام بالثانية قياساً على الجمع بالأعذار. -4ً- إن كان السبب هو المطر أو الثلج أو البرد فلا يصح الجمع إلا بين المغرب والعشاء (العشاءين) ، لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته فلا يقاس عليه غيره. ويشترط لجمع التأخير شروط أخرى هي: -1ً- أن ينوي الجمع في وقت الصلاة الأولى إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها، فإن نوى بعد ذلك حرم تأخير النية، وإن خرج وقت الأولى ولم ينوِ لم يصح الجمع وعليه القضاء. -2ً- أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية. ولا يشترط استمرار العذر في وقت الثانية، لأنهما صارتا واجبتين في ذمته فلا بد من فعلهما، ولا مانع من التطوع بينهما بخلاف جمع التقديم. أفضلية التقدم أو التأخير: المصلي مخير بينهما، أيهما الأسهل عليه فعله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلباً للأسهل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر ثم ركب) (1) . وكذلك يفع المريض. وإن كان الجمع عند المصلي واحداً فالأفضل التأخير، إلا الجمع في المطر فلا تحصل الفائدة إلا بتقديم العشاء إلى المغرب وهو الأولى. [ص: 300]   (1) مسلم: كتاب صلاة المسافرين باب 5/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الباب التاسع (صلاة الخوف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 حكمها: رخصة في كل قتال مباح، كقتال الكفار والبغاة والمحاربين وقطاع الطرق. أسبابها: الخوف. أقسام الخوف: -1- خوف شديد. -2- وخوف غير شديد. -1- الصلاة في الخوف الشديد: مثل التحام الحرب والقتال، ومصير المسلمين إلى المطاردة. فلهم في هذه الحالة أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالاً أو ركباناً، يومؤون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة. ومن هرب هرباً مباحاً من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيراً يخاف الكفار إن صلى، أوكان مختفياً في موضع يخاف أن يظهر عليه، صلى كيفما أمكنه، قائماً أو قاعداً أو مستلقياً، إلى القبلة أو غيرها، بالإيماء، في السفر والحضر. فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمناً فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف، لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة. وإن رأى سواداً فظنه عدواً فصلى صلاة الخوف، ثم بان له أنه غير عدو، أو أن بينه وبين العدو ما يمنع العبور، أعاد الصلاة لأنه لم يوجد المبيح، فأشبه من ظن أنه متطهر فصلى ثم علم بحدثه. وتجوز الصلاة جماعة في شدة الخوف رجالاً وركباناً، ويعفى عن تقدمهم الإِمام لأجل الحاجة كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال. -2- الصلاة في الخوف غير الشديد: قال الإِمام أحمد رضي الله عنه: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف [ص: 301] فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله. أي تجوز الصلاة في الخوف غير الشديد على أية صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الوجه الأول: روى صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - سهل بن أبي خيثمة - يوم ذات الرقاع، صلاة الخوف (أن طائفة صفت معه، وطائفة وُجَاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وُجَاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم) (1) ويشترط في هذا الوجه أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر. ويقرأ الإِمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه، لأن الصلاة ليست محلاً للسكوت وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وإن سهوا سجدوا لأنفسهم لأنهم منفردون، أما الطائفة الثانية فيلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم، لأنهم إن فارقوه فعلاً فهم مؤتمون به حكماً لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن سجد قبل إتمامهم سجدوا معه، لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد، لأنهم لم ينفردوا عن الإِمام فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه بخلاف المسبوق. وهذا الوجه هو الذي اختاره الإِمام أحمد من حديث سهل بن أبي خيثمة رضي الله عنه. الوجه الثاني: أن يقسم الإِمام المصلين طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، لما روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى بهم ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، ولأصحابه ركعتين ركعتين) (2) . [ص: 302] الوجه الثالث: أن يصلي الإِمام بالمصلين كالصلاة التي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع قال: ... فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا. وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان) (3) . الوجه الرابع: روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة. قال وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلِّ راكباً، أو قائماً. تومئ إيماءً) (4) . فهذا الوجه جوز أحمد رضي الله عنه الصلاة به، واختار حديث سهل رضي الله عنه لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة وأنكى للعدو، أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم..} (5) . ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه. وأما الاحتياط للحرب، فإن كان طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة وهي في حكم الصلاة فلا تتمكن من ذلك، لأن الأمر لا يخلوا من أن تمشي أو تركب وذلك عمل كثير يفسدها. الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كميناً، فيصلي الإِمام بالمسلمين على الوجه الذي رواه جابر بن [ص: 303] عبد الله رضي الله عنهما قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين: صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً) (6) . فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها. فإن صلى الإِمام المغرب على حديث سهل رضي الله عنه، صلى بالطائفة الأولى ركعتين وتتم لأنفسها ركعة تقرأ فيها بـ (الحمد لله) ، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بـ (الحمد لله) وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين، لأن الانتظار في القيام أَولى لكثرة ثواب القائم واستحباب تقصير التشهد، وفي الوجه الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالساً لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الأخير نهضت لقضاء ما فاتها ولم تتشهد معه لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد. صلاة الخوف للمقيمين: تجوز صلاة الخوف للمقيمين لعموم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} ، ولأنها حالة خوف فأشبهت حالة السفر. فيقسم الإِمام المصلين [ص: 304] طائفتين، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأخرى صلاتها تقرأ فيها بـ (الحمد لله) في كل ركعة والطائفة الأخرى تقرأ في إتمام صلاتها بـ (الحمد لله) وسورة. وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى وجهان على ما ذكرنا في المغرب. وإن صلى الإِمام بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة جاز، أو صلى المغرب بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين جاز كذلك، لأنه بالحالتين لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما. وإن فرقهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإِمام لزيادته انتظاراً لم يرد الشرع بمثله وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة. وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر فأشبه من يصلي وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه. أما صلاة الخوف من غير الخوف فلا تصح، لأنها لا تنفك من مفارقة الإِمام، أو ترك متابعته، أو القصر مع إتمامه، أو القيام للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة رضي الله عنه.   (1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 57/310. (2) أبو داود: ج-2/ كتاب الصلاة باب 288/1248. (3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 57/311. (4) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 57/306. (5) النساء: 102. (6) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 57/307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 حمل السلاح في صلاة الخوف: لايجب حمل السلاح في صلاة الخوف لأنه لو وجب لكان شرطاً كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره حمل ما يثقله كالجوشن (1) وما يمنع إكمال السجود كالمغفر وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطاً، فإن كان في حاشيته لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها فيجوز للضرورة. ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به في قوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} (2) وقوله تعالى: {لاجناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} (3) فيدل على الجناح عند عدم ذلك. [ص: 305]   (1) الجوشن: الدرع. (2) و (3) النساء: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الباب العاشر (الجنائز) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 معناها: الجنائز بفتح الجيم جمع جنازة، وهي بالفتح والكسر اسم للميت بالنعش. ذكر الموت وعيادة المريض وخدمته: ذكر الموت: لئن كان الموت أعظم المصائب، فإن الغفلة عنه أعظم، من أجل هذا سنت كثرة ذكره، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) (1) ، يعني الموت، كما يسن الاستعداد له بالتوبة، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا) (2) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) (3) . ويكره تمني الموت إلا لخوف الفتنة في الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (وإذا أردت بعبادتك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) (4) ، أو لتمني الشهادة في سبيل الله لا سيما عند حضور أسبابها، لما روى سهل بن حنيف [ص: 306] عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) (5) . ويستحب طلب الموت في بلد شريف، لما روى البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه قال: (اللهم أرزقني الشهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم) (6) .   (1) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الزهد باب 31/4258، وهاذم: قاطع سمي كذلك لأنه يقطع لذات الدنيا قطعاً. (2) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الزهد باب 12/4195. (3) البخاري: ج-5/ كتاب الرقاق باب 3/6053. (4) الترمذي: ج-5/ كتاب تفسير القرآن باب 39/3233. (5) مسلم: ج-3/ كتاب الإمارة باب 46/157. (6) البخاري: ج-2/ فضائل المدينة باب 11/1791. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 عيادة المريض: حكمها: -1ً- سنة لمسلم غير فاسق ولو كان من رمد أو وجع ضرس أو دمل، لما روى البراء رضي الله عنه قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس ... ) (1) ، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني) (2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) (3) . -2ً- مكروه: تكره عيادة المريض الذي يجهر بالمعصية والمبتدع. -3ً- محرم: تحرم عيادة الذمي، إلا إن كان جاراً للمسلم فتسن عيادته ولو كان كافراً على أحد القولين [ص: 307]   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 2/1182. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 9/3102. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 2/1183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 آداب زيارة المريض: -1ً- تخفيف الزيارة. -2ً- السؤال عن حاله. -3ً- الدعاء له بالعافية إن طمع في حياته. ومن الأدعية المأثورة ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوِّذ بعضهم: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقماً) (1) . -4ً- طلب الدعاء منه، لحديث عمر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة) (2) . -5ً- يستحب وعظ المريض بعد عافيته وتذكيره الوفاء بما عاهد الله عليه من التوبة وغيرها من ضروب الخير، وينبغي له هو المحافظة على ذلك، قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) (3) . -6ً- أن يحثه على التوبة، إن رأى غير مرجوة، ويرغبه في الوصية ويذكر له ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) (4) . -7ً- ما يستحب ألا يكره المريض على الدواء وغيره من الطعام.   (1) البخاري: ج-5/كتاب الطب باب 43/157. (2) ابن ماجة: ج-1/كتاب الجنائز باب 1/1441. (3) الإسراء: 34. (4) البخاري: ج-3/كتاب الوصايا باب 1/2587. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ما يسن للمريض: -1ً- التداوي، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) (1) . [ص: 308] -2ً- أن يحسن ظنه بالله تعالى بالمغفرة، وبقرب التوبة، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) (2) . -3ً- أن يحرص على تحسين خلقه. -4ً- أن يجتنب المخاصمة والمنازعة في أمور الدنيا، وأن يستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته في دار الأعمال فيختمها بخير. -5ً- أن يستحل زوجته وأولاده وسائر أهله وغلمانه وجيرانه وأصدقائه وكل من كانت بينه وبينهم معاملة أو مصالحة أو تعلق ويرضيهم. -6ً- أن يتعاهد نفسه بقراءة القرآن والذكر وحكايات الصالحين وأحوالهم عند الموت. -7ً- أن يحافظ على الصلوات وغيرها من وظائف الدين. -8ً- أن يوصي أهله بالصبر عليه، وبترك النوح عليه وكثرة البكاء وما جرت العادة عليه من البدع في الجنائز، وبتعاهده بالدعاء له، لحديث عبد الله رضي الله عنه (أن حفصة بكت على عمر رضي الله عنه فقال: مهلاً يا بُنية، ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟) (3) . ويكره للمريض الشكوى وتمني الموت.   (1) البخاري: ج-5/كتاب الطب باب 1/5354. (2) أبو داود: ج-3/كتاب الجنائز باب 17/3113. (3) مسلم: ج-2/كتاب الجنائز باب 9/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ما يسن عند الاحتضار: -1ً- يستحب أن يلي المريض أرفق أهله به وأعلمهم بسياسته وأتقاهم لربه. -2ً- أن يتعاهد بلّ حلقه، إذا رآه منزولاً به، فيقطر فيه ماءً أو شراباً، ويُنْدي شفتيه بقطنة. -3ً- أن يلقنه قوله: "لا إله إلا الله" مرة، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) (1) ، ويكون [ص: 309] ذلك بلطف فلا يقل له وإنما يذكرُ إمامه "لا إله إلا الله" فإذا قالها لم يعدها، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون آخر كلامه من الدنيا، لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) (2) . -4ً- يستحب كثرة الدعاء له وللحاضرين. -5ً- يندب إباعد كل شيء تكرهه الملائكة كالجنب والصور. -6ً- أن يوضع عنده طيب. -7ً- أن يقرأ عليه سورة (الفاتحة) وسورة (يس) ، لأن قراءتهما تسهل خروج الروح، لما روى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤا يس على موتاكم) (3) . وأنيُوجَّه إلى القبلة على جنبه الأيمن، وإلا فعلى ظهره وأخمص قدميه إلى القبلة ويُرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه مقابلاً لها، لأن حذيفة رضي الله عنه قال: "وجهوني"، ولأن خير المجالس ما استقبل به القبلة.   (1) مسلم: ج-2/ جنائز باب 1/1. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 20/3116. (3) أبو داود: ج-3/ الجنائز باب 24/3121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ما يسن بعد الوفاة: -1ً- إغماض العينين لئلا يقبح منظر الميت، ويقول الذي يغمضه: "بسم الله وعلى ملة رسول الله"، لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر..) (1) . -2ً- شدُّ لحيي الميت بعصابة عريضة لئلا ينفتح فمه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل. -3ً- تليين مفاصله بالتحريك لأنه أسهل للغسل. [ص: 310] -4ً- خلع ثيابه وستره بثوب خفيف، لما روت عائشة أم المؤمنين قالت: (سجّي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة) (2) ، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره. -5ً- أن يوضع على بطنه شيء ثقيل حتى لا ينتفخ، روى البيهقي قال: (مات مولى لأنس بن مالك عند مغيب الشمس، فقال أنس رضي الله عنه: ضعوا على بطنه حديدة) (3) . -6ً- أن يستقبل به القبلة ويُدعى له إن لم يكن استقبل به عند النزاع. -7ً- أن يسارع في قضاء دينه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) (4) . فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه، لما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين. قالوا لا. فصلى عليه، ثم أتى بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين. قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: عليَّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه) (5) . -8ً- يستحب إعلام أهله وأصدقائه بموته للصلاة عليه، ولا يكون ذلك من النعي المكروه. -9ً- أن يسارع في تجهيزه، لما روي علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً) (6) . فإن مات فجأة وجب تركه حتى يتيقن موته [ص: 311] بظهور أمارات الموت عليه من ميل أنفه، وانخفاض صدغ، واسترخاء قدم. -10- أن يسارع إلى إنفاذ وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له. -11- ويستحب لأقربائه وجيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهله، لما روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم) (7) . أما صنع أهل الميت الطعام للناس فمكروه، وإذا كان في الورثة قاصر عن درجة البلوغ حرم إعداد الطعام وتقديمه.   (1) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 4/7. (2) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 14/48. (3) البيهقي: ج-3 /ص 385. (4) الترمذي ج-3/ الجنائز باب 76/1078. (5) البخاري: ج-2/ كتاب الكفالة باب 3/2173. (6) الترمذي: ج-3 / الجنائز باب 73 / 1075. (7) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 21/998. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 حق الميت على المكلفين: يجب على الناس وجوباً كفائياً، تجهيز موتاهم، بحسب أقسام الموتى الأربعة الآتية: -1ً- مسلم غير شهيد: يجب غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، ولو كان سقطاً أربعة أشهر فأكثر، لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) (1) ، ولأنه ميت مسلم فأشبه المستهل، ودليل أنه ميت ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ... ) (2) ، ومن كانت فيه روح ثم خرجت فهو ميت. ويستحب [ص: 312] تسمية السقط، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سموا أسقاطكم فإنها من أفراطكم) (3) ، فإن لم يعلم ذكر أم أنثى سمي اسماً يَصلحُ لهما كسعادة وسلامة. -2ً- السقط دون أربعة أشهر: لا يغسل ولا يصلى عليه. -3ً- مسلم شهيد:   (1) أبو داود: ج-3/ الجنائز باب 49/3180. (2) البخاري: ج-3/ كتاب بدء الخلق باب 6/3036. (3) فيض القدير: ج-4 /ص 112. قال ابن عساكر: حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 هو من مات في المعركة مع الكفار والمشركين لإعلاء كلمة الله وسواء قتله كافر أو مسلم خطأ (1) . حكمه على المسلمين: -1ً- يحرم غسله لإبقاء أثر الشهادة، وهو الدم، روى جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادفنوهم في دمائهم، يعني يوم أحد، ولم يغسلهم) (2) إلا إن خالطه نجاسة فيغسل. وكذا إن قتل وهو يغسل ويصلى عليه، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الملائكة تغسلهما) (3) ، وكذا إن قتلت المرأة وهيي حائض. [ص: 313] -2ً- يجب تكفينه بثيابه التي استشهد فيها بعد نزع آلة الحرب كالدرع والخف والفرو، ودفنه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم) (4) . -3ً- تحرم الصلاة عليه ولا تصح، أما خبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وصلى على قتلى أحد صلاته على الميت ففي تفسيره قولان: أحدهما: أنه من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن المراد بصلاته صلى الله عليه وسلم أنه دعا لهم كدعائه للميت، وقد تقدم أن الصلاة في اللغة دعاء. يعضد هذا التفسير ما ورد عن جابر رضي الله عنه في قتلى أحد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدفنهم في دمائهم ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلوا) (5) . ويلحق بالشهيد المقتول ظلماً كقتيل اللصوص والمقتول دون ماله، فلا يغسل على إحدى الروايتين لأنه أشبه بشهيد المعركة. -4ً- الكافر والذمي والمرتد والحربي والمستأمن: سواء كان قريباً أو أجنبياً لا يجب إلا دفنه إن لم يكن من يواريه، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات قال: (اذهب فوارِ أباك، ثم لا تُحدِثَنَّ شيئاً حتى تأتني) (6) . ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، لأن في تكفينه تولٍ وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) (7) ، وأما الصلاة عليه فهي شفاعة للميت والكافر ليس من أهلها. ولا يتبع جنازته لأن في ذلك تعظيماً له. [ص: 314]   (1) أما من سقط عن دابته، أو تردى من شاهق، أو وُجد ميتاً لا أثر به، أو عاد سلاحه عليه فقتله، أو من حمل فأكل أوشرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس أو طال بقاؤه ثم مات، فليس بشهيد، لذا يُغسّل ويصلى عليه. وكذا من مات في قتال البغاة أو مات في المعركة لا بسببها بل بمرض فليس بشهيد. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 73/1281. (3) فتح الباري: ج-3/ كتاب الجنائز 74، وراه الطبراني، وهو حديث غريب في ذكره حمزة رضي الله عنه. (4) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 28/1515. (5) ابن ماجة: ج-1/ الجنائز باب 28/1514. (6) أبو داود: ج-1/ كتاب الجنائز باب 70/3214. (7) الممتحنة: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 تغسيل الميت: حكم الغسل: فرض كفاية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر) (1) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 14/93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أولى الناس بغسل الميت: -1ً- الوصي العدل (1) ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها فقُدِّمت بذلك، وأوصى أنس رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين ففعل، ولأنه حق الميت فقُدِّم وصيه فيه على غيره. -2ً- إن لم يكن هناك وصي عدل فالأولى بعده أبوه وإن علا، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب من عصاباته، ثم الرجال من بني الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه. وإن مات الرجل بين نساء ليس فيهن زوجة يممته واحدة أجنبية بحائل، ويحرم أن ييمم بغير حائل، إلا إذا كان الميمم محرماً من رجل أو امرأة فيجوز بلا حائل. وأولى الناس بغسل المرأة وصيتها أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها، ثم القربى فالقربى، فالأجنبيات وإذا ماتت المرأة بين رجال ليس فيهم زوج وتعذر إحضار امرأة تغسلها، كأن ماتت في طرق سفر، منقطع يممها واحد من الأجانب بحائل. ويجوز للرجل أن يغسل زوجته إن لم تكن ذمية ولو قبل الدخول، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وا رأساه، فقال: بل أنا يا عائشة وا رأساه. ثم قال: ما ضرك لو متِ قبلي، فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك) (2) ، وغسّل [ص: 315] علي رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنهافلم ينكر منكر فكان إجماعاً. وأم الولد كالزوجة لأنها محل استمتاعه. كما يباح للرجل تغسيل زوجته ولو كانت رجعية (3) . ويباح للرجل أن يغسل بنتاً دون سبع سنين، كما يجوز للمرأة أن تغسل صبياً دون سبع سنوات. ويجوز للمرأة غسل زوجها ولو قبل الدخول بلا خلاف، لحديث أبي بكر رضي الله عنه، ولقول عائشة رضي الله عنها: (لو استقبلت من الأمر ما استدبرت ما غسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) (4) .   (1) يكتفى بالعدالة الظاهرة. (2) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 9/1465. (3) الزوجة الرجعية: هي الزوجة المطلقة طلاقاً غير بائن أثناء عدتها. (4) مسند الإِمام أحمد: ج-6 /ص 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 شروط الغاسل: -1ً- الإسلام: فلا يصح غسل كافر لمسلم، لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة. -2ً- العقل لأن غير العاقل ليس أهلاً للنية. -3ً- التمييز ولا يشترط البلوغ. شروط صحة الغسل: -1- أن يكون الماء طاهراً مطهراً. -2- أن يكون الماء مباحاً. -4- النية لأنها طهارة تعبدية أشبهت غسل الجنابة. واجبات الغسل: -1- ستر عورة الميت ما بين سرته وركبتيه. -2- التسمية. [ص: 316] فرائض الغسل: تعميم البدن بالغسل وتطهيره من النجاسة. سنن الغسل وكيفيته: -1ً- ستر الميت عن أعين الناس بحيث لا يحضره إلا من يعين الغاسل، لأنه ربما كان به عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته فشاهدها، والأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه ويُدخِل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على يده، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من الأمر ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه) (1) ، ولأنه استر للميت. -2ً- وضع الميت على سرير غسله متوجهاً إلى القبلة منحدراً نحو رجليه لينصب ماء الغسل عنه. -3ً- يستحب إطلاق البخور عند غسله ليخفي رائحة ما يخرج منه. -4ً- أن يبدأ الغاسل بحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويمر يده على بطنه ويعصره عصراً رقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلات، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً. -5ً- أن يلف على يده خرقة فينجيه بها، ولا يحل له لمس عورته لأن رؤيتها محرمة أولى. -6ً- أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، لما روى البيهقي (أن علياً رضي الله عنه غسّل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى النبي صلى الله عليه وسلم قميص وبيد علي رضي الله عنه خرقة يتبع بها تحت القميص) (2) . [ص: 317] -7ً- أن يوضأه بعد إنجائه وقبل غسله، لنا روت أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته: (ابدأن بميامِنِها ومواضع الوضوء منها) (3) ، إلا أنه لا يدخل الماء إلى فمه ول أنفه لكن يلف على يده خرقة مبلولة ويدخلها بين شفتيه ويمسح أسنانه وأنفه. -8ً- أن يغسل بسدر مع الماء، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرَّ رجل من بعيره، فَوُقِص، فمات. فقال: اغسلوه بماء وسدرٍ. وكفنوه في ثوبيه. ولا تخمروا رأسه. فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) (4) ، ولحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته. فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك، بماء وسدر. واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور ... ) (5) أما إن كان يُخْرِجُ شيئاً فالوجوب إلى سبع، فإن خرج بعدها حشي محل الخارج بقطن ثم يغسل محل النجاسة ويوضأ الميت وجوباً، كالجنب إذا أحدث بعد غسله، لتكون طهارته كاملة، وإن خرج شيء بعد تكفينه لم يعد الوضوء ولا الغسل لما في ذلك من المشقة فإن فقد السدر جعل مكانه الخطم (الشنان) أو الصابون أو نحوه. -9ً- أن يبدأ بغسل رأسه ولحيته، لحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما توضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض على جلده كله) (6) ، ثم يغسل شقه الأيمن لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابأن بميامنها) فيغسل يده اليمنى [ص: 318] وصفحة عنقه وشقة صدره وجنبه وفخذه وساقه وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك. -10- أن يغسله وتراً ثلاثاً، وإن لم ينق بالثلاث أو الخمس أو السبع لا يزيد عليها لأنها آخر ما انتهى إليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويمرّ في كل مرة يده على جسمه ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء أئناء الغسل أو بعده فيعيد وضوءه. -11- أن يجعل في الغسل قبل الأخير كافوراً، لأنه يشد الجلد ويبرده ويطيبه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ثم يغسله بماء قراح (صافٍ) ويفيضه على جميع بدنه. -12- أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويسدل من ورائها، لما روت أم عطية رضي الله عنها قالت: (وجعلنا رأسها ثلاثة قرون) (7) . -13- أن يكون ماء الغسل بارداً إلا من حاجة لوسخ يقلع به أو شدة برد فيسخن. -14- يستحب تقليم أظافر الميت وقص شاربه (لغير محرم) ويترك معه في أكفانه لأنه من أجزائه، وكل ما سقط من الميت جعل معه في كفنه. وكره الإِمام أحمد تسريح الميت. -15- ويستحب لمن غسّل ميتاً أن يغتسل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسل ميتاً فليغتسل) (8) . -16- أن يكون المغسِّل ثقة أميناً عارفاً بأحكام الغسل، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ليغسّل موتاكم المأمونون) (9) ، ولأن غير الأمين لا يُؤمَن لأنه لا يستوفي الغسل ويذيع ما يرى من قبيح. [ص: 319] ويجب على الغاسل ستر ما يرى من قبيح، لما روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسّل ميتاً وكفنه وحنطه وحمله وصلى عليه، ولم يفش عليه ما رأى خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه) (10) . وإن رأى الغاسل أمارات الخير استحب له إظهارها ليُترحم عليه. وإذا تعذر غسل الميت لعدم الماء، أو خيف تقطعه به كالمجذوم والمحترق، يُمم لأن التيمم طهارة للبدن. وإن تعذر غسل بعضه يُمم أيضاً لما لم يصبه الماء. وإن أمكن صب الماء عليه وخيف من دلكه صب الماء عليه صباً دون دلك. ومن مات في بئر أُخرج منه، فإن لم يكن إخراجه إلا بتقطيعه وكانت البئر يحتاج إليه أُخرج، لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه من المثلة، وإن لم يحتج إليها طمّت عليه فكانت قبره.   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 32/3141. (2) البيهقي: ج-3 /ص 388. (3) مسلم: ج 2/كتاب الجنائز باب 12/43. (4) مسلم: ج 2/كتاب الحج باب 14/93. (5) مسلم: ج 2/كتاب الجنائز باب 12/36. (6) البخاري: ج-1/ كتاب الغسل باب 1/245. (7) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 12/39. (8) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 8/1463. (9) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 8/1461. (10) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 8/1462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 التكفين: حكمه: فرض كفاية على كل من علم به. نفقته تجهيز الميت وتكفينه: -1ً- من تركته إن كان له مال ويقدّم على الدين والوصية، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته: (كفنوه في ثوبه) . -2ً- إن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته في حياته، إلا الزوج فإنه لا يلزمه كفن زوجته ولا مؤنة تجهيزها. -3ً- إن لم يكن من ينق عليه فمن بيت مال المسلمين إن كان مسلماً. -4ً- إن لم يكن بيت مال، أو كان وتعذر، فعلى كل مسلم عالم به. الكفن: -1ً- أقل الكفن: وهو الواجب ثوب واحد يستر جميع الجسم. ولا يصف البشرة ذكراً كان أو غيره، فإن لم يوجد إلا ثوباً لا يستر جميع جسمه، غطي [ص: 320] رأسه وترك على رجليه حشيش، لما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله. نبتغي وجه الله. فوجب أجرنا على الله. فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً. منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلى نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه، خرجت رجلاه. وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه الإِذخر) (1) . وإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته وغطي سائر جسده بحشيش أو ورق، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد، لما روي عن أنس رضي الله عنه قوله يوم أحد في حديث له: (وقلت الأكفان وكثر القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد) (2) . ويستحب تحسين الكفن بأن يكون جديداً أو مغسولاً، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) (3) ، إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خَلقِ فتُمتَثَلُ وصيته، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى ثوب كان يمرض فيه، به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها، قلت: إن هذا خَلَقٌ، قال: إن الحيَّ أحق بالجديد من الميت، إنما هو لِلمُهلة) (4) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 13/44. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 31/3136. (3) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 15/49. (4) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 92/1321، والمهلة دم الميت وصديده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 -2ً- أكمل الكفن وما يسن فيه: آ- للرجل: يسن تكفينه في ثلاث لفائف بيض قطنية ليس فيها قميص ولا عمامة، لأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس [ص: 321] المخيط فيها، فكذلك حال موته، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَمُولية من كَرْسُفٍ (1) ليس فيها قميص ولا عمامة) (2) ، وأما إلباس النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي قميصَ فإنما فعل ذلك تكرمة لبنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، لأنه كان سأله ذلك ليتبرك به أبوه ويندفع عنه العذاب ببركة قميص رسول الله. وقيل إنما فعل ذلك جزاء لعبد الله بن أبيّ عن كسوته العباس رضي الله عنه قميصه يوم بدر.   (1) الكرسف: القطن. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 13/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ويستحب في الكفن: -1ً- أن يكون أبيضاً، لما روى أبو المهلب سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم) (1) . -2ً- أن يكون قطنياً. -3ً- أن يجمر ثلاثاً، لأن جابراً رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أجمرتم الميت فأجمره ثلاثاً) (2) . وإن كفن الرجل في قميص ومئزر ولفافة جاز بلا كراهة، ويجعل المئزر مما يلي جلده ولا يًزَر عليه القميص.   (1) النسائي: ج-4 /ص 34. (2) مسند الإِمام أحمد: ج-3 /ص 331، وتجمير الكفن تبخيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ب- للمرأة: يسن تكفين المرأة في خمسة أثواب: مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم خمار تخمر به، ثم لفافتان تلف فيهما، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية رضي الله عنها قالت: (كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقاء ثم الدِرع ثم الخِمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس [ص: 322] عند الباب معه كفنها يناولناها ثوباً ثوباً) (1) ، ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته فكذلك في موتها، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسها في موتها. جـ- كفن الصبي: يكفن الصبي في ثوب واحد، ويباح تكفينه في ثلاثة أثواب ما لم يرثه غير مكلف. د- كفن الصغير (دون التاسعة، لأنها في هذا السن قد قاربت المحيض) تكفن الصغيرة في قميص ولفافتين لا خمار فيه، لأن ابن سيرين كفن بنتاً له قد أعصرت أي قاربت المحيض في قميص (2) ولفافتين.   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 36/3157. (2) القميص الذي ليس له أكمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 كيفية التكفين: تؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها وتبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة، ويذرُّ الحنوط والكافور فيما بينهن، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً ليكون أمكن لإِدراجه فيها، ويجعل بعض الحنوط والكافور في قطن ويوضع بين إليتيه برفق، ويكثر من ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف كالتُبّان (1) تأخذ إليتيه ومثانته، ويجعل البعض على منافذ وجهه ومغابنه ومواضع سجوده، لما روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الكافور يوضع على مواضع السجود) (2) ، ولأن هذه المواضع شرفت بالسجود فخضت بالطيب، ثم يطيب رأسه ولحيته وجميع بدنه (ولو ماتت المرأة معتدة فيوضع لها الطيب، لأن اجتنابه في الحياة إنما كان لئلا يؤدي إلى [ص: 323] نكاحها) ، ولا يُترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط، لما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لأهلها: (أجمروا ثيابي إذا مت ثم حنطوني ولا تذروا على كفني حنوطاً ولا تتبعوني بنار) (3) ، ثم يثني طرف اللفافة على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسك إذا أقم على شقه الأيمن. ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم تربط الأكفان وتحل عند الدفن. أما إن كان الميت مُحْرِماً فلا يقرب طيباً ولا يخمر رأسه، لأن حكم إحرامه باقٍ فيجنب ما يتجنبه المحرومون، لما روتى ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث المتقدم، (اغسلوه بماء وسدر. وكفنوه في ثوبيه. ولا تخمروا رأسه. فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) . ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً لأنه ممنوع من لبس المخيط، وإن كانت امرأة جاز ذلك وجاز تخمير رأسها سوى وجهها. فإن خرج من الميت شيء بعد تكفينه لم يعد غسله، لإن في إعادته مشقة ولا يؤمن منه ثانياً وثالثاً، أما الكفن فيطهّر لأنه يؤمن مثله في الثاني بالتحفظ بالتلجم والشد. ما يكره في الكفن:   (1) التبان: سراويل قصير صغيرة بلا تكة. (2) البيهقي: ج-3 /ص 405. (3) البيهقي: ج-3 /ص 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 -1- يكره التكفين بشعر وضوف. -2- يكره التكفين بمزعفر ومعصفر ومنقوش ولو لامرأة. ويحرم التكفين بجلد وبحرير ومذهّب في حق الذكر والخنثى، ما لم يوجد غيره فيباح. الصلاة على الميت: حكمها: فرض كفاية، ولو لم يوجد من الميت إلا بعضه، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا على من قال لا إله إلا الله وصلوا وراء [ص: 324] من قال لا إله إلا الله) (1) . ويسقط هذا الفرض بصلاة مكلف واحد ولو أنثى، لأن الصلاة على الميت ليس من شروطها الجماعة بل تسن.   (1) الجامع الصغير: ج-2 /ص 45، رواه الطبراني وهو حديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 شروط صحة الصلاة على الميت: -1ً- النية، فينوي الصلاة على الميت. -2ً- التكليف، لأن المميز تصح منه ولا تسقط الصلاة به فلا بد أن يكون المصلي بالغاً عاقلاً. -3ً- استقبال القبلة. -4ً- ستر العورة. -5ً- اجتناب النجاسة، لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن. -6ً- حضور الميت إن كان بالبلد، فلا تصح على جنازة محمولة أو من وراء جدر، ولا تصح على من وضع في تابوت مغطى بغطاء خشبي بل يجب كشفه قبل الصلاة عليه. أما إذا لم يكن الميت في البلد فتجوز الصلاة عليه غائباً خلال شهر من موته، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه. فخرج هم إلى المُصَلَّى وكبَّر أربع تكبيرات) (1) . -7ً- إسلام المصلي والمصلى عليه، فلا يصلى على كافر لقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره) (2) . -9ً- أن يكون الميت موضوعاً أمام القوم، فلا تصح الصلاة عليه إذا كان خلفهم. [ص: 325]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 22/62. (2) التوبة: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أركانها: -1ً- القيام للقادر عليه. -2ً- أربع تكبيرات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعاً. -3ً- أن يقرأ الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (1) فالحكم عام ويشتمل صلاة الجنازة. -4ً- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، وتجزئ الصلوات الإبراهيمية. غيرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميتْ فأخلصوا له الدعاء) (2) . وأقله بالنسبة للكبير: اللهم اغفر له، وبالنسبة للصغير: اللهم اغفر لوالديه بسببه ونحو ذلك. -6ً- التسليم، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أرى ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة..) (2) . -7ً- ترتيب الأركان، فتتعين القراءة بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، لكن لا يتعين كون الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة. بل يجوز الدعاء للميت بعد التكبيرة الرابعة. ومن سبق ببعض الصلاة فأرك الإِمام بين تكبيرتين دخل معه كما يدخل في سائر الصلاة، فإذا سلّم الإِمام قضى ما فاته لعموم قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا..) ، قال الخرقي: يقضيه متتابعاً، وإن سلم لم يقضِ فلا بأس، لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يقضي، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلا يجب قضاء ما فات منها كتكبيرات العيد. [ص: 326]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الصلاة باب 11/36. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 60/3199. (3) البيهقي: ج-4 /ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 سنن صلاة الجنازة: -1- أن يقوم الإِمام حذاء رأس الرجل أو صدره (1) ، وعند وسط المرأة، لما روي عن أبي غالب قال: (صليت مع أنس بن مالك رضي الله عنه على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاؤوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة (2) صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن مقامك منه؟ قال: نعم فلما فرغ قال: احفظوا) (3) . وإن كان الأموات جماعة يجوز أن يُصلي عليهم صلاة واحدة، فيقدم الإِمام أفضلهم ويسوي بين رؤوسهم، فإن اجتمع رجال ونساء وصبيان وخناثى قدّم الرجال وإن كانوا عبيداً ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء. -2ً- أن تصلى جماعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بأصحابه. -3ً- أن تكون ثلاثة صفوف فأكثر ولا ينقص الصف عن ثلاثة، ولكن إن كان المصلون أربعة جُعلوا صَفَّين، لحديث مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجب) . قال: فكان مالك إذا استقبل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف (4) . وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة أو فردى فلا بأس، لما روي عن عائشة رضي الله عنها (أنها لم توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حُجرهن يصلي عليه) (5) . [ص: 327] -4ً- أن يُسر بالقراءة والدعاء فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسِرُّ بها. -5ً- أن يضع المصلي يمينه على شماله، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى (6) . -6ً- رفع اليدين مع كل تكبيرة كتكبيرة الإحرام، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا صلى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة وإذا انصرف سلم) (7) . -7ً- الاستعاذة قبل القراءة لقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (8) . -8ً- أن يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً. -9ً- أن يسلم تسليمة واحدة ويلتفت عن يمينه، لما روى أبو هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الجنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة) (9) . -10- أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين، قبل دعائه للميت، بما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: (اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) (10) . -11- أن يكون الدعاء للميت بما جاء في الأحاديث الشريفة، ومنها حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة. فحفظت من دعائه وهو يقول: (اللهم اغفر له وارحمه وعافِهِ واعفُ عن. وأكرِم نُزُلَه. [ص: 328] ووسع مُدْخَلَه واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس. وأبدله داراً خير من داره. وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه. وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار - قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) (11) . وإن كان الميت طفلاً فيدعو لوالديه بالدعاء التالي: "اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً (12) وسلفاً (13) وأجراً. اللهم ثقل به موازينهما (14) ، وأعظم به أجورهما. وألحقه بصالح سالف المؤمنين. واجعله في كفالة إبراهيم. وقِهِ برحمتك عذاب النار". ولا يسن الاستفتاح في الصلاة على الميت ولا قراءة شيء بعد الفاتحة، كما لا تسن التسليمة الثانية، ولا الزيادة على أربع تكبيرات لأنها مشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وستاً وخمساً وأربعاً فجمع عمر الناس على أربع كأطول صلاة) (15) . لكن إن كبر الإِمام خمساً جاز ويتبعه المأمومون. تكرار الصلاة على الميت: يجوز تكرار الصلاة على الجنازة لمن لم يصلِّ أولاً ولو بعد الدفن، لما روي عن ابن نمير قال: (انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبّر أربعاً) (16) ، ولا يصلى على قبر بعد أكثر من شهر إلا بقليل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر) (17) ، ولأنه لا يعلم بقائه بعد أكثر من شهر فتقيد به. ومن صلى على الجنازة مرة فلا يستحب إعادتها، لأنها نافلة وصلاة الجنازة لا يتنفل بها، أما من فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره كما تقدم. [ص: 329]   (1) وقوف المصلي عند صدر الرجل هو الأرجح في المذهب من الروايتين. (2) هذه كنية أنس رضي الله عنه. (3) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 45/1034. (4) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 43/3166. (5) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 34/100. (6) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 75/1077. (7) الدارقطني: ج-2 /ص 75. (8) النحل: 98. (9) الدارقطني: ج-2 /ص 72. (10) أبو داود: ج-3/ الجنائز باب 60/3201. (11) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 26/85. (12) فَرَطاً: أي أجراً يتقدمهما، أو سابقاً مهيئاً لمصالحهما في الآخرة. (13) سلفاً: ثمناً للأجر والثواب الذي يجازى على الصبر عليه. (14) وثقل به موازينهما: أي بثواب الصبر على فقده، أو الرضا به. (15) فتح الباري: 3/ص 202، ورواه البيهقي" ج-4 /ص 37. (16) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 23/68. (17) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 47/1037. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 مكان الصلاة على الميت: -1ً- تجوز الصلاة على الميت في المسجد، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد) (1) ، وصُلِّي على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في المسجد. -2ً- تجوز الصلاة عليه في المقبرة، لما روي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبرِ) (2) .   (1) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 34/99. (2) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 23/70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أولى الناس بالصلاة على الميت: -1ً- الوصي بالعدل، لإجماع الصحابة على الوصية بها، فإن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن يصلي عليه عمر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنهأوصى أن يصلي عليه صهيب رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها أوصت أن يصلي عليها أبي هريرة رضي الله عنه، ولأنها حق للميت فيقدم وصيّه بها. -2ً- إن لم يوصِ فالأمير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث متقدم: (لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه) . -3ً- ثم الأب وإن علا. -4ً- ثم الإبن وإن نزل. -5ً- ثم الأقرب من العصبة. -6ً- ثم الرجال من ذوي أرحامه. -7ً- ثم الأجانب. فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإِمامة في المكتوبات، والحر أولى من العبد القريب لعدم ولايته، فإن استووا وتشاحُّوا أُقرع بينهم. [ص: 330] حمل الجنازة والدفن: حمل الجنازة: حكمه: فرض كفاية، لأن في تركها هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، ويسقط التكفين والحمل والدفن للكافر. ويكره أخذ الأجرة على الغسل والتكفين والدفن لأنه يذهب الأجر. ويسن أن يحمل الجنازة أربعة رجال بحيث يحمل كل واحد منهم من كل قائمة من القوائم الأربع مرة، بأن يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه الأيمن من عند رأس الميت ثم من عند رجليه ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من عند رأس الميت ثم من عند رجليه وهو ما يسمى بالتربيع. ولا يكره الحمل بين قائمتي السرير، ولا يكره حمل الطفل على يديه من غير نعش، كما لا يكره حمل الجنازة على دابة إذا كان لحاجة كبعد المقبرة ونحو ذلك. ويسن الإسراع في المشي بها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة. فإن تك صالحة فخير تقدِّمونها عليه. وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (1) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 16/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 اتباع الجنازة: حكمه: -1ً- سنة لحديث البراء رضي الله عنه قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بإتباع الجنائز (1)) . [ص: 331] -2ً- مكروه للنساء،. لما روت أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعْزَم علينا) (2) . -3ً- يحرم للنساء إن خيف منهن الفتنة، ويحرم اتباع الجنازة إن صاحبها منكر وعجز عن إزالته لما فيه من إقرار بالمعصية.   (1) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 2/1182. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 11/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أوجه اتباع الجنازة: -1ً- أن يتبعها ليصلي عليها ثم ينصرف. -2ً- أن يتبعا إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط. ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان قبل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) (1) . -3ً- أن يقف بعد الدفن فيستغفر لصاحبها ويسأل الله له التثبيت ويدعو له بالرحمة، لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، ووقف عليه قال: استغفروا ليتكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) (2) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 17/52. (2) البيهقي: ج-4 /ص 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ما يسن في التشييع: -1ً- أن يكون المشاة أمام الجنازة، لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة) (1) ، ولأنهم شفعاء لها فيتقدمونها. [ص: 332] -2ً- أن يكون الراكب خلفها، لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) (2) . -3ً- يسن التقريب منها. -4ً- أن يكون المشيعون سكوتاً.   (1) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 26/1007. (2) أبو داود: ج-3/ الجنائز باب 49/3180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ما يكره في التشييع: -1ً- الركوب لمشيعيها إلا لحاجة، لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ركب في جنازة ولا عيد، ولا بأس بالركوب في الانصراف، لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم اتبع جنازة أبي الدحداح ماشياً، ورجع على فرس) (1) . -2ً- رفع الصوت للمشيعين ولو بالذكر وقراءة القرآن وقراءة البردة والدلائل، ومن أراد منهم أن يذكر لله تعالى فليذكره في سره. -3ً- أن تتبع الجنازة بنار أو شموع، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: (لا تُتْبع الجنازة بصوت ولا نار) (2) . ويحرم مصاحبة الجنازة بمنكر كالموسيقى والنائحة. -4ً- القيام لمن مرت به جنازة، لحديث علي رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد) (3) . -5ً- يكره لمن تبع الجنازة أن يجلس حتى توضع الجنازة عن الأعناق، لما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع) (4) . [ص: 333]   (1) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 29/1014. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 46/3171. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 25/82. (4) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 24/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 دفن الميت: حكمه: فرض على الكفاية إن أمكن، فإن لم يمكن كأن مات في سفينة بعيدة عن الشاطئ وتعسر أن ترسو على مكان يمكن دفنه فيه قبل تغير رائحته فإنه يربط بمثقل ويلقى في الماء. أولى الناس بالدفن: آ- الرجل: أولى الناس بدفنه أولاهم بغسله والصلاة عليه. ب- المرأة: أولى الناس بإدخالها في القبر محارمها الأقرب فالأقرب ثم الزوج، وفي رواية: الزوج أولى من المحارم، لأن سيدنا أبا بكر دفن زوجته، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين، وعن الإِمام أحمد: النساء بعد المحارم لكن الأول أولى، لما روى علي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس فقال: (ما يجلسكن قلن: ننتظر الجنازة قال: هل تغسلن. قلن: لا. قال: هل تحملن. قلن: لا. قال: هل تدلين فيمن يدلي. قلن: لا. قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات) (1) .   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 50/1578 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 أولى الأمكنة بالدفن وحكم الدفن فيها: -1ً- الصحراء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه في البقيع، ولأنه أقلُّ ضرراً على الأحياء من الورثة، وأشبهُ بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء للميت والترحم عليه. -2ً- المقبرة، ويستحب الدفن في المقبرة التي دفن فيها الصالحون ليتنفع بمجاورتهم، كما يستحب جمع الأقارب في الدفن لتسهيل زيارتهم والترحم عليهم، روى المطلب (أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عند رأس عثمان بن مطعون صخرة وقال: أتعلّم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) (1) . [ص: 334] -3ً- يجوز الدفن في البيت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما دُفنوا في البيت، وإنما دفن صلى الله عليه وسلم في البيت كراهة أن يُتخذ قبره مسجداً، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (2) . وإن تنازع وارثان في مكان الدفن بين مقبرة وبيت دفن في المقبرة. -4ً- ويدفن الشهيد في مصارعه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة. -5ً- يحرم الدفن في المساجد وفي ملك الغير ما لم يأذن رب الملك في دفنه. -6ً- لا يجوز دفن الذمية الحامل من مسلم في مقابر المسلمين لكفرها، ولا في مقابر الكفار لأن ولدها مسلم، بل تدفن مفردة ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها. فإن لم يمكن دفنها وحدها دفنت في مقابر المسلمين.   (1) أبو داود: ج-3/ الجنائز باب 63/3206. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 94/1324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 نقل الميت من بلد إلى آخر: يكره نقل الميت من بلد إلى آخر لغير حاجة، أما إن كانت هناك حاجة ولم يتغير بنقله فلا بأس بذلك. كأن ينقل إلى بقعة شريفة ليدفن فيها أو ليدفن في جوار رجل صالح، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قبل الدفن أو بعده، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة) (1) .   (1) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 28/1516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 دفن أكثر من ميت في قبر واحد: لا يجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبره، ويحرم ذلك إلا لضرورة ككثرة الموتى وخوف تغيرهم أو لحاجة، عن [ص: 335] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن. فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلهم) (1) . فإن دعت الحاجة إلى جمع أكثر من واحد في القبر قدّم أفضلهم إلى القبلة. وقدّم الكبير على الصغير، والذكر على الأنثى ويندب أن يفصل بين كل اثنين بتراب.   (1) البخاري: ج-1 / الجنائز باب 74/1282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 حكم نبش القبر: -1ً- يحرم نبش القبر إن كان يظن بقاء شيء من عظام الميت فيه. -2ً- يجوز نبش القبر ودفن آخر فيه إن تيقن بلاء العظام، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة. بتلك الأرض. أما إن وجد عظاماً بعد نبش القبر دفنها وحُفر للميت مكان آخر. -3ً- يجب نبش القبر إن دفن الميت فيه بغير غسل، أو دفن إلى غير القبلة، لتغسيله وتوجيهه إلا إن خيف عليه الفساد فلا ينبش. أما إن دفن قبلا الصلاة عليه ففيه وجهان: إما أن يخرج ويصلى عليه وهو الأرجح، أو يترك في القبر ويصلى عليه. -4ً- يجوز نبش القبر ونقل الميت من مكانه إن كان هناك شيء يؤذيه. ً- يجوز نبش القبر لأخذ مال ذي قيمة وقع فيه أثناء الدفن (1) . -6ً- يجب نبش القبر لإخراج الميت منه إن دفن في أرض مخصوبة ولم يرض مالكها ببقائه، أو إن كفن بمغصوب وتعذر غرمه من تركته. [ص: 336]   (1) المال اليسير الذي لا ينبش القبر لأجله هو مالا تقطع اليد به، أي ثلاثة دراهم فضة فأقل والدرهم يساوي (3. 5) غرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 حكم شق بطن الميت: -1ً- يجوز شق بطن الحامل إن توفيت وبقي جنينها حياً ويتحرك ويغلب على الظن أنه إن أُخرج يحيا إن لم يخرج من طريقه المعتاد. أما إن لم يغلب الظن أن يحيا فتجتهد القابلة في إخراجه، فإن لم يخرج تركت حتى يموت ثم تدفن. -2ً- إن بلع الميت مالاً لغيره دون إذنه شق بطنه وأخذ، لأن فيه تخليصاً له من الإثم، إذا تعذر غرمه من تركته. فإن لم يكن له تركة تعيَّن شقه. أما إذا كان المال له ففيه وجهان: إما أن يشق بطنه لإِخراجه للوارث، أو لا يشق وهو المعتمد لأنه استهلكه في حياته ولم يتعلق به حق الوارث. وأما إن بلغ مالاً يسيراً فلا يشق بطنه ويغرّم القيمة من التركة. ما يسن في القبر: القبر هو حفرة في الأرض، أقله عمقاً ما يمنع ظهور الرائحة ونبش السباع له. ويسن فيه. -1ً- تعميقه (بغير حد وتوسيعه وتحسينه، لحديث هشام بن عامر رضي الله عنه قال: شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أحد فقال: (احفِروا وأوسِعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآناً ... ) (1) . قال أبو الخطاب: يُعَمَّق قدر قامة وبسطة. -2ً- أن يلحد له، لما روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال في مرضه الذي هلك فيه: (الحدو لي لحداً. وَانْصِبُوا عليَّ اللَّبن نصباً. كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) . [ص: 337] -3ً- يسن الشق إن كانت الأرض رخوة، والشق هو أن يحفر في وسط القبر شقاً يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشيء. -4ً- أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: "لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه". -5ً- أن يرش عليه الماء ليتلبد، لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: (سلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ورش على قبره ماءٌ) (3) . -6ً- وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه، لما روى البخاري عن سفيان التمّار أنه (رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنّماً) (4) ، ولأن المسطح يشبه أبنية أهل الدنيا. ولا بأس بتعليم القبر بصخرة ونحوها لما ذكر من حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ولأنه يُعرف قبره فيكثر الترحم عليه.   (1) الترمذي: ج-4/ الجهاد باب 33/1713. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 29/90. واللحد: بمعنى ألحد، إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكاناً يوضع الميت فيه. (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 38/1551. (4) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 94/1325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ما يكره في القبر: -1ً- البناء عليه وتجصيصه والكتابة عليه، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصص القبر وأن يقعد عليه. وأن يبنى عليه) (1) زاد الترمذي: (وأن يكتب عليها) (2) . ولا يجوز بناء مسجدٍ عليه، لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . -2ً- الجلوس عليه والاتكاء إليه لحديث جابر رضي الله عنه السابق. -3ً- المشي عليه، لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من [ص: 338] أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق) (3) . أما إن لم يوجد طريق إلى قبر يزوره إلا بالوطأ جاز. ويحرم البول والتغوط بين القبور وعليها كما يحرم في السوق لما في الحديث المتقدم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، ويحرم إسراج القبور وكسوتها بحرير.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 32/94. (2) الترمذي: ج-3/ الجنائز باب 58/1052. (3) ابن ماجة: ج-1/ الجنائز 45/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقت الدفن وحكمه: -1ً- تسن المبادرة إلى دفن الميت عقب الصلاة عليه، ولا ينتظر حضور أحد إلا الوالي فإنه ينتظر ما لم يخش علي التغيير، وإذا مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات، فإن استووا قدم أسنهم وأفضلهم. -2ً- يحرم الدفن في ثلاث ساعات: حين طلوع الشمس وحين الاستواء وحين الغروب بدليل حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن. أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع. وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس. وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) (1) . -3ً- ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دُفن ليلاً ودَفن ذا البجادين ليلاً، لكن الدفن في النهار أولى، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً. فَذَكر رجلاً من أصحابه قبض فكُفِّن في كفن غير طائل، وقبر ليلاً. فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه. إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك) (2) . [ص: 339]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 51/293. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 15/293. وكفن غير طائل: أي حقير، غير كامل الستر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كيفية إدخال الميت إلى القبر: يُسلّ الميت من قبل رأسه، بأن يجعل رأسه عند رجلي القبر ثم يُسلّ سلاً، وإن كان الأسهل غير ذلك فُعِل. ويقول الذي يدخله: "بسم الله وعلى ملة رسول الله " صلى الله عليه وسلم، ويوضع في اللحد ى جانبه الأيمن مستقبل القبلة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخله إزاره وليتوسد يمينه ... ) (1) ، ويُوسَّد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام، ويُجعل خلفه تراباً يسنده لئلا يستلقي على قفاه وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تُرك تحته قطيفة كان يفرشها. وينصب عليه اللبن نصباً، لحديث سعد رضي الله عنه المتقدم. ويكره الدفن في التابوت وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار لأن آلة بناء المترفين. ويكره أيضاً شق الكفن وإنما يستحب حل العقد فقط. ويستحب أن يُحثى التراب في القبر ثلاث حثيات (2) ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً) (3) ثم يهال عليه التراب. ولا يغطى قبر الرجل أثناء الدفن، لما روى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أنه أتاهم - قال: ونحن ندفن ميتاً وقد بسط الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر وقال: إنما يصنع هذا بالنساء) (4) ، ويستحب ذلك لهن لئلا ينكشف من المرأة شيء فيراه الحاضرون. [ص: 340]   (1) مسند الإِمام أحمد: 2 /ص 432. (2) عند الشافعية والأحناف يقال ن الأولى: "منها خلقناكم" وعند الثانية: "وفيها نعيدكم" عند الثالثة: "ومنها نخرجكم تارة أخرى". (3) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الجنائز باب 44/1565. (4) البيهقي: ج-4 /ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 تاقين اليت بعد الدفن (1) : يسن تلقين الميت بعد الدفن، لما روى سعيد بن عبد الله الأزدي قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النزع فقال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم، فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً) (2) .   (1) سئل أحمد رضي الله عنه عن تلقين الميت في قبره فقال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام. (2) رواه الطبراني، مجمع الزوائد: ج-3 /ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 البكاء على الميت: حكمه: -1ً- مباح: يباح البكاء على الميت إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشيَّةٍ فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا. يا رسول الله. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولا يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يَرحم) (1) . [ص: 341] -2ً- يحرم لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعاوي الجاهلية) (2) . -3ً- يحرم الندب وعد محاسن الميت كقوله: واجملاه واسنداه. ويحرم النوح، لما روت أم عطية رضي الله عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة ألا تَنُحْنَ) (3) . وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة ويسترجع ولا يقول إلا خيراً، لما روت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها - إلى أَجره الله في مصيبته. وأخلف له خيراً منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخلف الله لي خيراً منه. رسول الله صلى الله عليه وسلم) (4) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 6/12. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 37/1235. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 10/32. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 2/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 التعزية: حكمها: -1ً- سنة لمسلم مصاب بمسلم سواء الصغير والكبير والنساء والرجال، إلا المرأة الشابة فلا يعزيها إلا محارمها دفعاً للفتنة، وكذا الصغير الذي لا يميز، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) (1) . -2ً- لا تجوز التعزية لأهل الذمة (على إحدى الروايتين) ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا [ص: 342] لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) (2) ، وفي الرواية الأخرى جائز قياساً على جواز عيادة مريضهم، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه (أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) (3) وقتها: تجوز التعزية قبل الدفن لكن بعده أولى، ويستمر وقتها إلى ثلاثة أيام بلياليهن بعد الدفن ويكره لأهل المصيبة الجلوس لقبول العزاء سواء في المنزل أم في غيره.   (1) البيهقي: ج-4 /ص 59. (2) الترمذي: ج 1/ كتاب السير باب 41/ 1602. (3) مسند الإِمام أحمد: ج-3 /ص 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 صيغتها: -1- مسلم مصاب بمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك. ويقول المعزَّى: استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك. -2ً- مسلم مصاب بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك. -3ً- غير مسلم مصاب بمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك. بناء على الرواية المرجوحة في جواز تعزيته. -4ً- غير مصاب بغير مسلم: خلف الله عليك ولا نقص عددك. بناء على الرواية المرجوحة. زيادة القبور: حكمها: -1ً- سنة للرجال، لما روى بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ص: 343] (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) (1) ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ... فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) (2) . -2ً- مكروه للنساء على إحدى الروايتين، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) (3) ، فلما زال التحريم بالنسخ بقية الكراهية لأن المرأة قليلة الصبر فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة وهو المذهب. وفي رواية: مباح، لما روى البيهقي عن عبد الله بن أبي مليكة (أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لخا يا أم المؤمنين من أين أقبلت قالت من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر. فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور قالت: نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها) (4) . -3ً- محرمة على النساء إذا علمن أنه يقع منهن محرَّم.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الجنائز باب 36/106. (2) مسلم: ج-2/ الجنائز باب 36/105. (3) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 82/3236. (4) البيهقي: ج-4 /ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 كيفية الزيارة: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر. فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين. وإنا إن شاء الله، للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية) (1) ، وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: (ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين) (2) . وللزائد أن يزيد: "اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". [ص: 344] ويستحب لمن دخل المقبرة خلع نعليه، إلا لحاجة كأن يخاف الشوك. وأن يقف أمام القبر قريباً منه. كما يسن لزائر الميت فعل ما يخفف عن الميت ولو يجعل جريدة رطبة على القبر، وأن يتجنب المنكر لأن الميت يتأذى بذلك وينتفع بالخبر. وأفضل وقت للزيارة يوم الجمعة قبل طلوع الشمس.   (1) مسلم: ج-3/ كتاب الجنائز باب 35/104. (2) مسلم: ج-3/ كتاب الجنائز باب 35/103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ما ينتفع به الميت بعد موته: ينتفع الميت بدعاء إنسان، أو يتصدقٍ عنه، أو بقضاء دين واجب عليه، لأن الله تعالى قال: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} (1) ، ولما روت عائشة رضي الله عنها (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افّتُلَتِت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) (2) . وإن فعل المكلف عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم وجعل ثوابها للميت نفعة أيضاً، لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرؤون القرآن ويهدون ثوابه لموتاهم ولم ينكر منكر فكان إجماعاً. [ص: 345]   (1) الحشر: 10. (2) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 93/1322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 كتاب الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الباب الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 تعريف الزكاة: لغة التطهير والنماء، قال تعالى: {قد أفلح من زكاها} (1) أي طهرّها من الأدناس، ويقال زكا الزرع إذا نما وزاد. شرعاً: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. حكمها: الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمس، وهي فرض عين على كل توفرت فيه شروط وجوبها، وتجب على الفور.   (1) الشمس: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 دليل فرضيتها: من الكتاب: قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1) ، وقوله عز وجل: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (2) . ومن السنة: حديث: (بني الإسلام على خمس ... وإيتاء الزكاة) . وقد أجمعت الأمة على أنها ركن من أركان الإسلام. وفرضت في السنة الثانية من الهجرة.   (1) البقرة: 43. (2) المعارج: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 حكم مانع الزكاة: أ- من أنكر وجوب الزكاة فقد كفر (إلا إن كان جاهلاً معذوراً كأن كان جديد العهد بالإسلام فيعرّف بذلك ولا يحكم بكفره) وحكمه حكم المرتد. [ص: 348] ب- من منعها رغم اعتقاده بوجوبها أخذها الإِمام منه وعزّره، فإن لم يستطع الإِمام أخذها منه استتابه ثلاثاً فإن تاب وأخرج ترك وإلا قتل وأُخذت من تركته. وإن لم يكن أخذها بالقتال قاتله الإِمام، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (والله لو منعوني عناقاً (1) ، كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها) (2) . شروط وجوب الزكاة: -1- الإسلام: فلا تجب على الكافر الأصلي ولا المرتد. -2- الحرية: فلا تجب على العبد ولا المكاتب. أما إن ملك المعتق بعضه بجزئه الحر نصاباً لزمه زكاته. -3- تمام الملك، الملك التام هو أن يكون المال بيده لا يتعلق به حق للغير، ويتصرف فيه على حسب اختياره وفوائده له لا لغيره. وعليه لا تجب الزكاة: -1ً- في الدين على المكاتب لنقصان الملك فيه وعدم استقراره فإن المكاتب بملك تعجيز نفسه -2ً- في المال الموقوف لأنه لا مالك معين له. -3ً- في حصة المضارب من الريح قبل القسمة لأنه لا يملكها بعينها. -4- في المال المتعذر كالدين على مفلس أو على جاحد ولا بينة للدائن به، والمغضوب، والضال الذي لا يرجى وجوده لأن ملكه فيه غير تام لأنه غير مقدور عليه. أما من له دين على مليء، أو مال يمكن استخلاصه كالمجمود الذي له بينه، والمغضوب الذي يتمكن من أخذه فهذا عليه زكاته إذا قبضه لما مضى. وكذا صداق المرأة حكمه حكم الدين ولو قبل الدخول، فإن كان الزوج مليئاً أو غير جاحد وجبت فيه الزكاة، لا يلزمها الإخراج حتى تقبضه فتؤدي [ص: 349] عما مضى من السنوات، أما إن كان الزوج معسراً ويتعسر عليه الدفع، أو جاحداً ولا بينة لها فلا تجب فيه الزكاة. أما ما سقط من الصداق قبل قبضه بطلاق الزوج قبل الدخول مثلاً فليس فيه القسم الساقط زكاة، وكذلك كل دين سقط قبل قبضه من غير إسقاط صاحبه أو تلفه فليس فيه زكاة. فإذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها أو أبرأ الغريم غريمه من دينه، فعليها زكاة الصداق أو الدين عن الأعوام الماضية لأنهما يكونان كمن تملك ماله ثم انصرف فيه. -4- ملك النصاب: فتجب الزكاة على من ملك نصاباً خالياً من دين، أما من ملك نصاباً وعليه دين يستغرقه أو ينقصه فلا زكاة فيه سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وسواء كان من الأموال الباطلة مثل الدراهم والدنانير وعروض التجارة أو من الأموال الظاهرة كالمواشي والزروع والثمار، لما روى البيهقي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال بمحضر من الصحابة: (هذا شهر زكاتكم. فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة) (3) . رواه أبو عبيد في الأموال ولم ينكر فكان إجماعاً. ومن مات وعليه دين وزكاة لا تتسع تركته لها قسمت بينهما بحصصهما، لأنهما تساويا في الوجوب فيتساويا في القضاء. -5- مضي الحول لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استفاد مالاً، فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول عند ربه) (4) . ورفقاً بالمالك ليتكامل النماء فيواسي منه، فإن استفاد مالاً بإرث أو هبة فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، إلا نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً فإن حولهما حولّ أصلهما فيجب ضمها إلى ما عنده إن كان نصاباً، ولا يعتبر الحول في الخارج من [ص: 350] الأرض. وإن لم يكن الأصل نصاباً فحول الجميع من كمال النصاب، فلو ملك خمساً وثلاثين شاة فنتجت شيئاً فشيئاً فحولها من حين بلوغها أربعين. وكذلك لو ملك ثمانية عشر مثقالاً وربحت شيئاً فشيئاً فحولها منذ بلغت العشرين. ولا يبني الوارث على حول الموروث، فإن ورث أربعين شاة في ربيع وكان بدء حولها عند مورثها في محرم فإن حولها عند الوارث يبدأ في ربيع من حين دخولها ملكه. وإن هلك النصاب أو واحد منه أثناء الحول أو باعه انقطع الحول، فإذا ولدت له أخرى مكانها أوردت إليه استأنف الحول سواء ردت إليه ببيع جديد أو إقالة ما لم يكن قاصداً الفرار من الزكاة فلا تسقط. أما إن نتجت واحدة أولاً ثم هلكت واحد لم ينقطع الحول لأن النصاب لم ينقص، وكذلك إن أبدل نصاباً بجنسه لم ينقطع الحول. ولا يشترط لوجوب الزكاة البلوغ والعقل، لأن الزكاة تتعلق بالمال فتجب في مال الصبي والمجنون، ويخاطب بها وليهما ويخرجها عنهما، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (ألا مَن وَلى يتيماً له مالٌ فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) (5) . وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (ابتغوا بأموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة) (6) . ولا يشترط في وجوبها أيضاً إمكان الأداء، لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (7) . فيدل بمفهومه على وجوبها فيه عند تمام الحول، فلو تلف النصاب بعد تمام الحول ضَمِن الزكاة ولم تسقط عنه سواء كان مفرطاً أو لم يفرط في التلف، لأنه مال وجب بالذمة فلا يسقط بتلف النصاب كالدين كما أنه لا تسقط الزكاة بموت من تجب عليه لأنه حق واجب تصح الوصية به فلا يسقط بالموت كدين الآدمي. [ص: 351]   (1) العناق: الأنثى من أولاد المعز. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الزكاة باب 39/1388. (3) البيهقي: ج-4 /ص 148. (4) الترمذي: ج-3 / كتاب الزكاة باب 10/631. (5) الترمذي: ج-3 / كتاب الزكاة باب 15/641. (6) الدارقطني: ج-2 /ص 111. (7) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 4/1573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الباب الثاني (محال الزكاة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 محال الزكاة خمسة: -1- المواشي. -2- الزروع والثمار. -3- الذهب والثمار. -4- المعدن. -5- عروض التجارة. أولاً: زكاة المواشي شروط وجوب الزكاة فيها: يجب أن تتوفر فيها بالإضافة إلى الشروط العامة ثلاثة شروط هي: -1- أن تكون من بهيمة الأنعام سواء أكانت أهلية أو وحشية، لكثرة نمائها ودرها ونفعها. ولا زكاة في غيرها كالخيل والبغال والحمير والرقيق، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) (1) . -2- أن تكون سائمة أي راعية معظم الحول، فلا زكاة في المعلوفة، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب لهم: (في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ) (2) ، فهذا يدل على نفي الزكاة عن غير السائمة. [ص: 352] -3- أن تكون متخذة للدر والنسل لا للعمل، فإن كانت للعمل فلا زكاة فيها.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة باب 1/8. (2) النسائي: ج-5 /ص 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 مقدار نصابها: أ- من الابل خمس وتعتبر النجاتي (الجمل الذي له سنامان) نوع من الابل وتضم إليها. ب- ومن البقر ثلاثون وتعتبر الجواميس نوع من البقر وتضم إليها. حـ- ومن الغنم أربعون ويعتبر الضأن والمعز جنساً واحداً ويضم بعضه إلى بعض. إذا كان لرجل سائمة عجلان فأكثر بينهما مسافة قصر فلكل محل حكم نفسه، فإذا كان له شياه بمحال متباعدة في كل محل أربعون فعليه شياه بعدد المحال، ولا شيء عليه إن لم يجتمع له في كل محل أربعون مالم يكن خلطة. أما إن كان له بمحال ليس بينها مسافة قصر ضم بعضها إلى بعض وكانت زكائها كزكاة المختلطة. مقدار الزكاة: أ- زكاة الابل: -1- من (5 - 24) : في كل خمسة شاة إما جذعة ضأن (1) أو ثنية معز (2) . -2- من (25 - 35) : بنت مخاض (لها سنة ودخلت في الثنانية) سالمة من العيوب، فإن لم تكن فإبن لبون (له سنتان ودخل في الثالثة) ، فإن لم يجده وجب عليه شراء بنت مخاض، فإن لم يجد جاز له اخراج حقَّه لأنها أعلى. -3- من (36 - 45) : بنت لبون أثنى وهي ماله سنتان. -4- من (46 - 60) : حقة (لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة) . -5- من (61 - 75) : جذعة وهي التي ألقت سناً لها أربع سنين ودخلت في الخامسة) . [ص: 353] -6- من (76 - 90) : بنت لبون. -7- من (91 - 120) : حقتان. -8- في الـ (121) ثلاث بنات لبون. -9- من (122 - 199) : في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ففي الـ (130) حقة وبنتا لبون. -10- في الـ (200) أربع حقق أو خمس بنات لبون.   (1) جدعة ضأن: بلغت سنة أشهر. (2) أتمت السنة الأولى ودخلت في الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ب- زكاة البقر: - في الثلاثين: تبيع أو تبيعة (لها سنة ودخلت في الثانية) . - في الأربعين مسنّة (لها سنتان ودخلت في الثالثة) ولا يجزء الذكر. فإذا زادت على ذلك ففي كل تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنّة، ففي الستين تبيعان أو تبيعتان، وفي السبعين مسنة وتبيع أو تبيعة، وفي الثمانين مسنّتان، وفي التسعين ثلاث أتبعة، وفي المائة مسنة وتبيعان أو تبعتان، وفي مائة وعشرة مسنتان وتبيع، وفي مائة وعشرين تجب أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات. وهكذا وما بين الفريضتين معفو عنه ولا زكاة فيه. جـ- زكاة الغنم: من (40-120) : شاة (جذعة ضأن أي لها ستة أشهر، أو ثنية معز لها سنة ودخلت في الثانية) . ومن (121-200) : شاتان. ومن (201-399) : ثلاث شياه. ومن (400 فما فوق) : في كل مائة شاة، وما بين الفريضتين معفو عنهولا زكاة فيه. [ص: 354] ماهية الزكاة المأخوذة: لا يجزئ في الزكاة إخراج هرمة، ولا معيبة، ولا تيس لقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (1) . -2- ولا يجزئ في الزكاة إخراج الربى، وهي التي تربّى في البيت للبنها، ولا الماخض وهي الحامل ولا التي طرقها الفحل لأن الغالب أنها حامل، ولا الأكولة وهي السمينة، ولا فحل الماشية المعد لضرابها، ولا حزرات المال وهي خياره تحزره العين لحسنه لقول النبي لحسنه صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (.. فإياك وكرائم أموالهم) (2)) إلا إن تبرع المالك بدفع شيء من هذا أو أخرج بأعلى من جنسه. -3- ولا يجزئ إخراج القيمة في شيء من الزكاة الواجبة، لما روى معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وقال له: (خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر) (3) .   (1) البقرة: 266. (2) مسلم: ج-1 /كتاب الإيمان باب 7/29. (3) ابن ماجة: ج-1 /كتاب الزكاة باب 16/1814. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الخلطة في الزكاة: الخلطة في السائمة هو أن يخلط شخصان أو أكثر من أهل الزكاة مواشيهما مع بعضهما حولاً كاملاً بشرط أن يكون مجموعهما نصاباً فأكثر. أقسامها اثنان: أ- خلطة أعيان بأن يملكا مالاً مشاعاً يرثانه أو يشتريانه أو غير ذلك. ب- خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد منهما متميزاً فيخلطاه. [ص: 355] حكمها: الخلطة في الزكاة هي أن يجعل المالين كالمال الواحد ضمن شروط معينة، فإذا كان لإنسان شاة ولآخر تسعة وثلاثون فعليهما شاة، أو كان لأربعين رجلاً أربعون شاة لكل واحد شاة واشتركوا حولاً تاماً فعليهم شاة على حسب ملكهم. وإذا كان لثلاثة أشخاص مائة وعشرون لكل واحد أربعون ولم يثبت لأحدهم حكم الانفراد في الحول فعلى الجميع شاة واحدة أثلاثاً في حين يلزمهم مع عدم الخلطة ثلاث شياه. شروط الخلطة: -1- أن تكون في السائمة ولا تؤثر الخلطة في غيرها. -2- أن يكون الخليطان من أهل الزكاة، فإن كان أحدهما مكاتباً أو ذمياً فلا أثر لخلطته أنه لا زكاة في ماله. -3- أن يختلطا في نصاب فإن اختلطا فيما دونه مثل أن يختلطا في ثلاثين لم تؤثر الخلطة سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن. -4- أن تختلط الماشية في ستة أشياء: المسرح (1) ، والمشرب، والمحلب (2) ، والمراح (3) ، والراعي، والفحل، لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) (4) وفي رواية: (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفرق، والخليطان ما اجتمع على الحوض والراعي والفحل) (5) . -5- أن يختلطا في جميع الحول، فإن كان مال كل واحد منهما منفرداً فخلطاه زكيله في الحول الأول زكاة الانفراد وفيما بعده زكاة الخلطة، فإن اتفق حولاهما مثل [ص-355] أن يملك كل واحد منهما أربعين في أول المحرم وخلطاهما في صفر أخرجا إذا تم حولهما الأول شاتين وإذا تم الثاني فعليهما شاة واحدة. فإن اختلف حولهما فمن أحدهما أربعون في محرم ومن الآخر أربعون في صفر وخلطاهما في ربيع أخرجا شاتين للحول الأول كلّ في جحوله: الأول في محرم والآخر في صفر، فإذا تم الحول الثاني فعلى الأول نصف شاة أي في محرم للسنة الثانية زكاة خلطة وعلى الثاني عند تمام حوله الثاني في صفر نصف شاة زكاة خلطة لأن الثمانين الشركة تجب فيه شاة واحدة. وإن باع أحدهما غنمه بغنم صاحبه وأبقياهما على الخلطة لم ينقطع حولهما ولم تزل خلطتهما، وكذا إن باع البعض بالبعض من غير إفراد قل المبيع أو كثر. أما إن أفرداها ثم تبايعا ثم خلطاها وطال زمان الإِفراد بطل حكم الخلطة. وإن أفردا بعض النصاب تبايعا وكان الباقي على الخلطة نصاباً لم تنقطع الخلطة لأنها باقية في نصاب، أما إن بقي أقل من نصاب فحكمها حكم إفراد جميع المال. [ص: 357]   (1) المسرح: المرعى الذي ترعى فيه الماشية. (2) المحلب: المكان الذي تحلب فيه الماشية. (3) المراح: المكان الذي تروح إليه الماشية. (4) الدارقطني: ج-2/ ص 105. (5) الدارقطني: ج-2/ ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ثانياً: زكاة الزروع والثمار دليل فرضيتها: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (1) . شروط وجوبها: بالإضافة إلى الشروط العامة لوجوب الزكاة (ما عدا مرور الحول) خمسة شروط خاصة بها: -1- أن يكون حباً أو تمراً، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، ولا فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة. ولا فيما دون خمس أواقٍ صدقة) (2) . وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والثمر وانتفائهما عن غيرهما. -2- أن يكون قليلاً لتقديره بالأوسق. -3- أن يكون مما يدخر، فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة المقتات منها والقطاني (الفول، الحمص العدس ... ) والبذور وحب القطن ونحوها، وتجب في التمر والزبيب واللوز والفستق والعناب لاجتماع هذه الأوصاف الثلاثة فيها. ولا زكاة في سائر الفواكه كالجوز والتفاح والأجاص والتين لعدم الكيل فيها وعدم الادخار في بعضها، لما روى البيهقي (أن عامل عمر رضي الله عنه كتب إليه أن قبله حيطاناً فيها كروم وفيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافاً. فكتب إليه يستأمره في العشر، فكتب إليه عمر أنه ليس عليها عشر قال هي من العضاه كلها فليس عليها عشر (3)) . [ص: 358] ولا زكاة في الزيتون والرمان والورق والزهر، أما قوله تعالى: (والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (4) قيل لم يرد بهذه الآية زكاة لأنها مكية نزلت قبل وجوب الزكاة. -4- أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة فيه وإن لم يزرعه، فتجب الزكاة فيما نبت بنفسه مما يزرعه الآدمي كمن سقط له حب في أرضه فنبت وفعل الزرع ليس شرطاً. ولا زكاة فيما يكتسبه اللقاط، أو يأخذه أجرة لحصاده ونحوه، ولا فيما يجنيه من المباح كالبطم والزعبل وبزر قطون. ومن استأجر أرضاً أو استعارها فالزكاة عليه فيما زرع لأن الزرع ونفع الأرض له دون المالك كما لو كانت الأرض موقوفة له فعليه زكاة ما ينبت. -5- أن تكون نصاباً من جنس واحد، فلا يُضم جنس إلى آخر كأن يضم القمح إلى الشعير، بخلاف الأنواع فإنها تُّضم بعضها إلى بعض ويخرج من كل نوع بقسطه، فإن شق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها أخذ من الوسط، وإن أخرج رب المال الجيد عن الرديء جاز وله ثواب الفضل.   (1) البقرة: 267. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة /5. (3) البيهقي: ج-4/ ص 125، والعضاه: المقطوع. (4) الأنعام: 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 مقدار النصاب: خمسة أوسق (1) من الحب المصفى من التبن، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) (2) ، وتضم أنوع الجنس بعضها إلى بعض ليكمل النصاب فيضم العَلَس إلى الحنطة والسلت إلى الشعير لأنهما نوعا جنس واحد. ويضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض سواء اتفق وقت اطلاعه وإدراكه أو اختلف، فلو حصدت الذرة ثم نبتت مرة [ص: 359] أخرى يضم أحدهما إلى الآخر لأنه زرع عام واحد. ولا يضم جنس إلى غيره لأنهما جنسان مختلفان.   (1) الوسق يساوي ستين صاعاً، فالنصاب يساوي (300) صاعاً، ووزن الصاع عند الحنابلة (1728) غرام أي النصاب يساوي (300 x 1728) غراماً أي 518. 4 كيلو غراماً. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة /3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 مقدار زكاة الزروع والثمار: ما سقي بماء السماء والعيون والأنهار (أي بدون كلفة) فزكاته العشر وذلك لخفة مؤنته. -2- ما سقي بدولاب، يديره حيوان أو آدمي، أو بنضح، أو بماء اشتراه فزكاته نصف العشر لارتفاع مؤنته، لحديث سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثرياً (1) ، العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر) (2) . -3- فيما سقي نصفه بغير كلفة ونصفه بكلفة ففيه ثلاثة أرباع العشر، لأن النصف الأول فيه العشر والنصف الثاني فيه نصف العشر فالزكاة هي مجموعهما. وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر بالأكثر، وإن اختلف الساعي ورب المال في قدر السقي فالقول قول رب المال من غير يمين لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم.   (1) ما سقي بماء السيل، وسمي عثرياً لأنهم كانوا يضعون في مجرى الماء عاثوراً فيصطدم به الماء فيتراد نحو مجرى الأرض المراد سقيها. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الزكاة باب 54/1412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 متى تجب الزكاة: تجب الزكاة عند بدو صلاح الزروع باشتداد الحب، لأنه حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل، كما تجب عند حلول طعم الحلو أو التلون في التمر والعنب، وهو قبل ذلك بلح وحصرم، وبدو صلاح بعضه كبدو صلاح كله. [ص: 360] فإن تلف الحب أو الثمر قبل بدو الصلاح فلا شيء فيه لأنه تلف قبل الوجوب، وإن تلف بعد وجوب الزكاة وقبل حفظها في بيدرها بغير تفريط، فلا ضمان عليه سواء خرصت أو لم تخرص لأنها في حكم ما لم تثبت اليد عليه، أما إن تلفت بعد جعلها في بيدرها فيضمنها. ويجوز لرب المال بعد وجوب الزكاة عليها البيع، لأن الزكاة ترتبت في ذمته فلا يمنع من التصرف في ماله، ويجب عليه اخراج زكاته دون المشتري كما لو لم يبعه. متى يجب إخراجها: يجب إخراج الزكاة من الحبوب بعد التصفية، ومن الثمار بعد الجفاف، لأنه وقت الكمال وحالة الادّخار، وإن كانت ثمراً يستحب للإمام أن يبعث من يخرص الثمار عند بدو الصلاح، لما روى عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً) (1) . ويخرص الرطب والعنب دون غيرهما، لأن الحاجة داعية إلى أكلهما رطبين، وخرصهما ممكن لظهور ثمرتهما. فيطوف الخارص بكل شجرة، ويقدر ثمرها رطباً ثم يابساً مفرقاً بين الأنواع المختلفة، ثم يُعَرِّف المالكَ قد الزكاة، ويخيره بين حفظها إلى الجذاذ وبين التصرف فيها وضمان حق الفقراء، فإن اختار حفظها فعليه زكاة ما يؤخذ منها قلَّ أو كثر لأن الفقراء شركاؤه فليس له أكثر من حقهم فيها، وإن اختار التصرف ضَمن حصة الفقراء بالخرص، ويتخير الساعي بين مقاسمة رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص ويأخذ نصيبه شجرات منفردة وبين مقاسمة رب المال الثمرة بعد جذها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء وبين بيعها للمالك أو لغيره قبل الجذاذ وبعده ويقسم ثمنها في الفقراء، فإن أتلفها رب المال فعليه قيمتها.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 13/1603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 شروط الخارص: يشترط في الخارص أن يكون ذكراً، مسلماً، أميناً، غير متهم، ذا خبرة، [ص: 361] ويصح أن يكون الخارص هو المالك نفسه إذا توفرت فيه الشروط المذكورة، ويجزئ خارص واحد. والحكمة من الخرص هي معرفة القدر الذي وجبت فيه الزكاة، والتوسيع على المالك إذ يتناول بعد الخرص من زرعه ما يشاء، وحفظ حق الفقراء من الزكاة. وعلى الخارص أن يترك من الخرص الثلث أو الربع توسعة على رب المال، لحاجته إلى الأكل منها والإطعام، ولأنه قد يتساقط منها، وينتابها الطير والمارة، لما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فجذُّوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذُّوا الثلث فدعوا الربع) (1) ، فإن لم يترك الخارص شيئاً فيجوز الأكل بقدر ذلك ولا يُحتسب عليه. فإذا احتيج إلى قطع الثمرة قبل كما لها لخوف العطش أو غيره، أو لتحسين بقية الثمرة، جاز ذلك لأن العشر وجب مواساةً فلا يكلف منه ما يهلك أصل المال.   (1) أبو داود: ج-2/ الزكاة باب 14/1605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حالة اجتماع العشر والخراج: يجتمع العشر والخراج في كل أرض فُتحت عنوة (1) ، الخراج نقد في رقبتها والعشر في غلتها. ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية ولا عشر عليهم في الخارج منها لأنهم من غير أهل الزكاة، ولكن يكره للمسلم أن يبيعها لهم لئلا يفضي إلى اسقاط الزكاة.   (1) الأرض: أرضان صلح وعنوة، فأما المصلح فهو كل أرض صولح أهلها عليها لتكون ملكاً لهم ويؤدون عليها خراجاً، وهذا الخراج كالجزية متى أسلموا سقط عنهم، ولهم بيعها وهبتها ورهنها، ولا شيء إلا الزكاة فهي واجبة على كل مسلم، وأما الأرض التي فتحت عنوة فهي وقف على المسلمين ويضرب عليها خراج معلوم لا يسقط إذا أسلم أهلها وعليهم العشر عن غلتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 زكاة العسل: تجب الزكاة في العسل، لما روى الأثرم قال: "سئل أبو عبد الله: أنت [ص: 362] تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال: نعم، أذهب إلى أن في العسل زكاة العشر، قد أخذ عمر منهم الزكاة. قلت: ذلك على أنهم يطوعون، قال: لا بل أخذ منهم. " وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل (من كل عشر قرب قربة) (1) . نصابه: مائة وستون رطلاً عراقية، وهي عشر أفراق كل فَرَق: ستة عشر رطلاً عراقياً (2) ، لما روى الجوزجاني عن عمر رضي الله عنه (أن أناساً سألوه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لنا وادياً باليمن فيه خلايا من نحل، وإنا نجد ناساً يسرقونها. فقال عمر: إن رأيتم صدقتها من كل عشرة أفراق فَرَقاً حمينها لكم) . والفَرَق: مكيال معروف بالمدينة، فحمل كلام عمر رضي الله عنه على المتعارف ببلده أَولى. [ص: 363]   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 12/1601. (2) الرطل العراقي يساوي 4/7 128 الدرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ثالثاً: زكاة الذهب والفضة دليل فرضيتها: قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (1) . نصابها الورِق (الفضة) مائتا درهم، والذهب عشرون مثقالاً (2) ، وما زاد فبحسبانه، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق صدقة) (3) . وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، [ص: 364] وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار) (4) . ويُضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب وإن كانا جنسين لأن مقصدهما وزكاتهما متفقة فهما كنوعي جنس، ويكمل نوع بنوع آخر من جنس واحد ويؤخذ من كل نوع بالقسط إن سهل وإلا أخذ من الوسط. ولا زكاة في المغشوش من الذهب أو الفضة حتى يبلغ خالصه نصاباً وعنها يخرج الواجب إما خالصاً وإما مغشوشاً خالصه بقدر الواجب. وأما الفلوس فتجب الزكاة في قيمتها كعروض التجارة، وتضم العروض التجارية إلى كل منهما في تكميل النصاب.   (1) التوبة: 34. (2) المثقال يساوي (3. 60) غراماً فالنصاب يساوي (20*3. 60) أي (72) غراماً، وهو يعادل 10/11 10 ليرة رشادية، لأن وزن الذهب الصافي فيها (6. 6) غرام فلنصاب منها يعادل 72/6. 6 = 10/11 10 ليرة. أو يعادل النصاب 9/11 9 ليرة إنكليزية (أو سعودية) ، لأن وزن الذهب الصافي فيها (7. 34) غرام فالنصاب منها يعادل 72/7. 34 أي 9/11 9 ليرة. ويعادل النصاب 1/3 13 ليرة سورية ذهبية، لأن وزن الذهب الصافي فيها (5. 4) غرام فالنصاب منها يساوي 72/5. 4 ويساوي 1/3 13 ليرة. ويعادل النصاب 74/79 10 ليرة حميدية، لأن وزن الذهب الصافي فيها (6. 5) غرام، فالنصاب منها 72/6. 5 = 74/79 10 كما يعادل النصاب 28/31 12 ليرة تونسية أو فرنسية ذهبية، لأن زن الذهب الصافي فيها (5. 58) غرام فالنصاب 72/5. 58=28/31 12. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة /6. (4) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 4/1573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مقدار الزكاة: ربع العشر، لما ورد في الكتاب الذي كتبه أبو بكر رضي الله عنه لأنس رضي الله عنه، وعليه خاتم رسول صلى الله صلى الله عليه وسلم: فإذا فيه: (وفي الرقة ربع العشر) (1) والرقة الدراهم المضروبة، فيجب في المائتين خمس دراهم وفي العشرين مثقالاً نصف مثقال.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 4/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 زكاة الجواهر: لا زكاة في الجواهر واللآلي، لأنها معدة للاستعمال، ما لم تكن عروضاً تجارية. زكاة الحلي: أ- الحلي المباح: لا زكاة في الحلي المباح كحلية النساء وخاتم الرجل من الفضة إن كان معداً للاستعمال لا للتجارة ولا للكري (1) ، لما روي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ليس في الحلي زكاة) (2) ولا فرق بين كثير الحلي وقليله، فإن كسر الحلي كسراً يمنع لبسه وترك وحال عليه الحول ففيه زكاة. [ص: 365] ويباح للرجل من الفضة الخاتم، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق) (3) . والأولى أن جعله في يساره ويكره بسبابة ووسطى، ويكره أن يكتب عليه ذكر الله قرآناً كان أو غيره. ويباح له أيضاً قبيعة السيف وهي ما يجعل على طرف القبضة لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: (كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة) (4) . كما يباح له حلية المنطقة وهي ما يشد به الوسط ونحوها كحلية الجوشن والخوذة والخف وحمائل السيف لأن ذلك يساوي المنطقة معنى فوجب أن يساويها حكماً، وقد اتخذ الصحابة مناطق محلاة بالفضة، ولأنه يسير تابع، ولا يباح غير ذلك كتحلية المراكب ولباس الخيل كاللجم وتحلية الدواة والمقلمة والمشط والمكحلة والميل والمرآة والقنديل. أما من الذهب فيباح للرجل قبيعة السيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه كان له سيف فيه سبائك من ذهب، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب ذكر ذلك أحمد وقيده باليسير. وكذلك يباح له ما دعمت إليه الضرورة كأنف ورباط أسنان، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن (عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ، أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب) (5) . ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر كالطوق والخلخال والسوار والقرط والتاج وما أشبه ذلك، لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) (6) . [ص: 366] ب- الحلي الحرّم: تجب الزكاة في الحلي المحرم، فمن ملك مصنوعاً من الذهب والفضة محرّماً كالأواني وخاتم الرجل من الذهب أو غيره ففيه الزكاة. فإن كان محرم الاستعمال معداً للتجارة وجبت الزكاة في قيمته كالعروض، وإن لم يكن معداً للتجارة فزكاته على حسب وزنه ولو زادت قيمته لأنها حصلت بواسطة صنعه محرمة يجب إتلافها شرعاً فلم تعتبر. أما في الصناعة المباحة كحلي التجارة أو ما أعد للادّخار فعليه أن يزكي باعتبار قيمته لأنه لو أخرج قدر ربع عشره وزناً فاتت قيمة الصنعة المباحة شرعاً على الفقراء وهو ممتنع. [ص: 367]   (1) إن نوى بالحلي المباح للتجارة أو الكري انعقد عليه حول الزكاة من حين نوى. (2) الترمذي: ج-3/ كتاب الزكاة باب 12/636. (3) البيهقي: ج-4/ ص 142. (4) البيهقي: ج-4/ ص 143. (5) البيهقي: ج-4/ ص 140. (6) الترمذي: ج-4/ كتاب الزكاة باب 1/1720. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 رابعاً زكاة المعدن تعريف المعدن: المعدن هو ما استخرج من الأرض مما خلق فيها من غير جنسها سواء كان جامداً كالذهب والفضة والحديد والبلور والعقيق والكبريت وأشباهها أو مائعاً كالزرنيخ والنفط ونحوها. دليلها: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (1) .   (1) البقرة: 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 شروط وجوب زكاة المعدن: يشترط بالإضافة إلى الشرائط العامة ما يلي: -1- كمال النصاب بعد التصفية وهو مائتا درهم من الورق أو عشرون مثقالاً من الذهب أو ما قيمته ذلك من غيرهما، لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم ليس فيما دون خمس أواق من الورِق صدقة) . -2- أن يكون مخرجه ممن تجب عليه الزكاة، فلا تجب على كافر أو ذميّ أو مديون. -3- استخراج النصاب دفعة واحدة أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك إهمال، فإن أخرج ما دون النصاب ثم ترك ترك إهمال ثم أخرج ما دون النصاب فلا زكاة عليه في الإِثنين ولو كان مجموعهما نصاباً لفوات الشرط، أما إن كان أحدهما يبلغ النصاب والآخر لم يبلغه أخرج زكاة الأول ولا شيء عليه في الثاني. أما ترك العمل للنوم، أو لعذر من مرض، أو لإِصلاح الأداة، أو إباق عبد، أو للاستراحة فلا يقطع حكم العمل وحكمه متصل. [ص: 368] ويعتبر النصاب في كل جنس منفرداً، والأولى ضم الأجناس من المعدن الواحد إلى بعضها لتكميل النصاب لأنها تتعلق بالقيمة. ولا يحتسب بما أنفقه على المعدن في إخراجه وتصفيته لأنه كمؤن الحصاد والزراعة. ولا يشترط مرور الحول في وجوب زكاة المعدن. مقدار الزكاة: ربع العشر سواء كان المعدن ذهباً، أو فضة، أو غيره، جامداً، أو مائعاً، وما زاد على النصاب فبحسبانه لأنه مما يتجزأ. فإن كان المعدن مستخرجاً من أرض مملوكة فهو لمالكها لا للمستخرج. وإن كان المعدن في أرض مباحة غير مملوكة فالمُستخرج منها لمن استخرجه وتجب عليه فيه الزكاة ربع العشر. ويجوز بيع تراب معادن الذهب والفضة بغير جنسه، وزكاته تكون على البائع. متى تجب زكاة المعدن: تجب زكاة المعدن بعد ظهوره، ولا يجب إخراجها إلا بعد السبك والتصفية. زكاة ما استخرج من البحر: لا تجب الزكاة فيما استخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والسمك والعنبر ولو بلغ نصاباً. زكاة الركاز: الركاز هو مال الكفار المدفون في الأرض، أو هو دفين الجاهلية، وكان عليه أو على شيء منه علامة كفر كأسمائهم أو صورهم. ويجب فيه الخمس. أما إن كان دفين إسلام بأن كان عليه شيء من القرآن، أو اسم من أسماء ملوك المسلمين فيُرد إلى مالكه إن عُلم، لأنه مال مسلم، ومال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه، وإن لم يعلم مالكه فهو لقطة. وكذلك إن كان على بعضه علائم إسلام وعلى بعضه علائم كفر فهو لقطة أيضاً، وما لا علامة عليه فهو مال مسلم تغليباً لحكم الإسلام. [ص: 369] ويشترط لوجوب زكاة الركاز بلوغ النصاب ولا يشترط مرور الحول. حالات مختلفة في ملكية الركاز: -1- إن وجد الركاز في أرض موات فهو لواجده. -2- إن وجد في ملك آدمي معصوم ففيه روايتان، إحداهما: لواجده إن لم يدعه المالك وهو معتمد، والثانية: للمالك إن اعترف به فإن لم يعترف فهو لمن قبله. -3- إن وجد في أرض حرب فهو لواجده إن قدر عليه بنفسه وإن لم يقدر عليه إلا ببجماعة المسلمين فهو غنيمة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العَجْمَاء (1) جُبَار (2) ، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس) (3) . [ص: 370]   (1) العجماء: هي البهيمة، سميت عجماء لأنها لا تتكلم. (2) جبار: هدر. (3) البخاري: ج-2/ كتاب الزكاة باب 65/1428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 خامساً: زكاة التجارة تعريف عروض التجارة: هي ما يعد للبيع والشراء لأجل الربح، وسمي عرضاً لأنه يعرض ثم يزول ويفنى. دليل فرضيتها: ما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع) (1) .   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 2/1562. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 كيفية حساب الزكاة: تقوّم العروض التجارية بما فيها من نماء وربح إذا حال الحول عليه، وأوله من حين بلوغ القيمة نصاباً بأحد النقدين ذهباً أو فضة (ولا عبرة للنقد المشترى بها) . ويكمل النصاب التجارة بالأثمان لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة لأنها من جنس واحد فعندها يخرج ربع العشر من قيمتها لا من أعيانها. مقدارها: ربع العشر وما زاد على النصاب فبحسبانه، وتُخرج ذهباً أو ورِقاً لأنهما جميعاً قيمة: شروط وجوبها: يشترط بالإضافة للشروط العامة ما يلي: -1- نية التجارة: عند كل تصرف، بدليل الحديث: (من الذي نعد للبيع) وفي جميع الحول. -2- أن يملك العروض بفعله كالشراء ونحوه مقروناً بنية التجارة، بخلاف الإِرث فإنه لم يكن بفعله. ولا يشترط أن تملك العروض بعرض فإن ملكه بهبة أو غنيمة [ص: 371] صح لأنه بفعله. فإذا لم ينو عند التملك ووى بعده لم تجب الزكاة فيه، أما إن نوى بتملكه التجارة ثم نواه للقنية لم يصر لها حتى يبيعه. -3- أن تبلغ قيمة العروض نصاباً من أقل الثمنين قيمة ولا يعتد بما اشتراه به، وإن كانت العروض أثماناً (أي نقود أخرى كأموال الصيارفة) قوّمها كالسلع. وإذا اشترى نصاباً للتجارة بنصاب آخر لم ينقطع الحول لأن القيمة واحدة انتقلت من سلعة إلى سلعة وإن اشتراه بأثمان لم ينقطع الحول، وكذلك لو باع نصاب التجارة بنصاب الأثمان لم ينقطع الحول، أما لو اشترى نصاباً للتجارة بنصاب سائمة أو العكس انقطع الحول لأنهما مختلفان. -4- حولان الحول، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استفاد مالاً، فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول عند ربه) (1) ، ويشترط وجوب النصاب في جميع الحول، فلو اشترى لتجارة عروضاً لا تبلغ نصاباً ثم بلغته انعقد الحول من حين صار نصاباً، وإن ملك نصاباً فنقص أثناء الحول انقطع الحول فإن عاد فنما حتى بلغ النصاب استأنف الحول، وإن ملك في أوقات مختلفة فلكل نصابٍ حول ولا يضم نصاب إلى نصاب، وإن لم يكمل النصاب إلا بالثاني فحولهما منذ ملك الثاني وإن لم يكمل إلا بالثالث فحول الجميع من حين ملك النصاب.   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الزكاة باب 10/631. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 حالة اجتماع زكاة تجارة وزكاة عين: وذلك إذا كان عرض التجارة مما تجب الزكاة في عينه، كالنعم السائمة والزروع وفي ذلك تفصيل: -1- إذا ملك التجارة سائمة فحال الحول، والسوم ونية التجارة موجودان، فبلغ المال نصاب أحدهما دون الآخر كخمس من الإِبل لا تبلغ قيمتها مائتي [ص: 372] درهم، أو أربع إِبل بلغت قيمتها مائتي درهم، وجبت زكاة ما كمل نصابه. -2- إذا وجد نصاباً كخمس إبل قيمتها مائتا درهم وجبت زكاة التجارة وحدها لأنها أحظ للفقراء وسواء تم حولهما جميعاً أو تقدم أحدهما. -3- إذا اجتمعت زكاة تجارة مع زكاة زروع أو ثمار كتجارة أرض مع زروعهما أو تجارة أشجار نخيل مع ثمارها ففيها قولان، الأول: تُقدم زكاة التجارة، والثاني: يزكي الاثنين: زكاة الأرض والزروع أو زكاة عروض النخيل والثمر. زكاة مال المضاربة: إذا حال الحول على مال المضاربة فعلى رب المال زكاة رأس المال وحصته من الربح، لأن حول الربح حول الأصل، وله إخراجها من مال ويحسبها من نصيبه لأنها واجبة عليه وهو المعتمد، ويحتمل أن تحتسب من الربح لأنها مؤنة المال. وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بإخراج الزكاة وأخرجا معاً الزكاة ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه، وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول علم بإخراجه أو لم يعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الباب الثالث (زكاة الفطر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الغرض منها: جبر الخلل الواقع في الصوم، كما يجبر سجود السهو الخلل الواقع في الصلاة، ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (1) .   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 17/1609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 حكمها: هي فرض، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين) (1) ، وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه فرض صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر، على الصغير والكبير والحر والمملوك) (2) . شروط وجوبها: -1- الإسلام: فلا فطرة على الكافر الأصلي. أما المرتد ففطرته موقوتة، إن عاد إلى الإسلام وجبت عليه، وإلا فلا، وكذلك فطرة على المرتد مؤنته. -2- إدراك جزء من رمضان وجزء من شوال أي إدراك غروب شمس ليلة العيد، فمن مات بعد غروب شمس ليلة العيد وجب إخراج زكاة الفطر عنه بخلاف من مات قبل الغروب. ومن ولد له ولد قبل غروب شمس ليلة العيد وجبت عليه فطرته بخلاف من ولد بعد الغروب. (لكن يسن إخراجها عن الجنين) . [ص-374] -3- وجود الفضل عن مؤنته ومؤنة عياله في يوم العيد وليلته، وتشمل المؤنة القوت والمسكن وخادماً يحتاج إليه، وثوباً وقميصاً وسراويل وعمامة تليق به، وما يحتاج إليه من زيادة لبرد أو تجميل. ولا يشترط لزكاة الفطر أن تكون فاصلة عن دينه، إلا إذا كان يطلب به في الحال فيُقدم وفاء الدين عليها، ومن أعسر وقت وجوبها فلا زكاة عليه ولو أيسر بعده.. ولا يشترط لوجوبها العقل ولا البلوغ ولا الغنى (أي أن يكون مالكاً نصاباً) ، لما روى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي صُعْير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صاع من بر أو قمح على كل اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله تعالى عليه أكثر مما أعطى. زاد سليمان في حديثه: غني أو فقير) (3) .   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الزكاة باب 2/1433. (2) أبو داود: ج-2/ الزكاة باب 19/1613. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 20/1619. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 على من تجب زكاة الفطر: تجب الزكاة على الشخص نفسه، وعمن تلزمه نفقته من المسلمين، إذ المعروف في قواعد الفقه أن: كل من تلزمه من المسلمين، تلزمه فطرته، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: المتقدم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين) . فتجب على الرجل فطرة زوجته ولو كانت موسرة (1) ، وعبده، وزوجة عبده، أما من نصفه حر ففطرته عليه وعلى سيده. - ومن تكفل بمؤنة شخص فلا تلزمه فطرته لأنه لا تلزمه نفقته. - ومن وجبت فطرته على غيره فأخرجها عن نفسه بغير إذنه أجزأته، لأنه المخاطب بها ابتداء والغير متحمل. [ص: 375]   (1) إما إن كان الزوج معسراً والزوجة موسرة فعلى قول الإِمام أحمد تجب عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مقدار زكاة الفطر: يجب على كل شخص إخراج صاعاً من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط (1) ، ويجزئ الدقيق إن كان يساوي الحب في الوزن، فإن لم يجد أحد هذه الأنواع أخرج ما يقوم مقامه من كل ما يصلح قوتاً من ذرة أو أرز أو عدس أو نحوه ذلك، ولا يجزئ الخبز لأنه خارج عن الكيل والادّخار، كما لا يجزئ إخراج حب معيب، أو مسوس، أو قديم تغير طعمه، لقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (2) . ولا يجزئ إخراج قيمة الصاع نقداً.   (1) لبن مجفف. (2) البقرة: 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 مصرف زكاة الفطر: مصرفها مصرف زكاة المال لأنها زكاة مثلها، ويجوز أن يُعطي الجماعة فطرتهم لواحد كما يجوز دفع زكاة ما لهم إليه. وقت وجوبها: تجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلة العيد. وقت أدائها: -1ً- وقت الجواز: يجوز إخراجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين، لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يؤديها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تعجيلها لأكثر من ذلك لأن الغرض منها إغناء الفقير يوم العيد، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) (1) . -2ً- وقت مسنون: قبل صلاة العيد لكف المحتاجين عن السؤال يوم العيد. -3ً- وقت مكروه: فيكره تأخيرها إلى آخر يوم العيد. -4ً- وقت محرّم: ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر (2) . وإذا فات يوم العيد لزمه القضاء. [ص: 376]   (1) الدارقطني: ج-2 /ص 153. (2) العذر: هو غياب ماله أو غياب المستحقين في ذلك الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الباب الرابع (أداء الزكاة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 دافع الزكاة: تدفع الزكاة من قبل مالك المال من نفسه، أو يدفعها عنه وكيله، أو يقوم إمام المسلمين أو نائبه بتوزيعها بعد جمعها من دافعي الزكاة، وإن طلبها الإِمام، ولو جائراً، عن مال ظاهر، كالماشية، والزروع والثمار، والمعدن، فيجب أداؤها له وتجزئ عنه. وتجب النية في أدائها من قبل المالك عند دفعها إلى الفقير أو إلى الوكيل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية) ، ولأنها عبادة. ويجب على الإِمام أن يبعث السعاة لقبض الصدقات لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعد كانوا يفعلونه. شروط الساعي: أن يكون بالغاً عاقلاً أميناً، ولا يشترط كونه فقيراً لأن ما يعطاه منها أجرة فأشبه أجرة حملها، ولا حراً ولا فقيهاً. أما كونه مسلماً فهو شرط على إحدى الروايتين، لأن الكفر ينافي الأمانة، ولأن عمر رضي الله عنه قال: (لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى) . ويجب أن يبعث لأخذ العشر في وقت إخراجه، وإن بعث لقبض غيره بعث في أول المحرم لأنه أول السنة. ويستحب للساعي إذا أعطي أن يدعو لصاحب المال لقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) (1) ، [ص: 377] وروى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) (2) . كما يستحب له أن يقول: "آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهوراً". أما المعطي فيستحب له أن يقول: "اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً". - وإن دفع زكاة ماله إلى الإِمام برئ منها بكل ولو أخذها الإِمام قهراً. ولا يجوز إخراج الزكاة من قبل الزوجة أو أحد الأقارب عن الزوج من المال الذي أخذ منه، لأنه لابد من نية صاحب المال أو موكله، وكذا لا يجوز إخراجها من ماله المودع كأمانة ما لم يأذن الزوج بذلك. ويجب أن يقصد بالنية معنى قوله: هذه زكاتي، أو فرض صدقة مالي. فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزئه، لأن الصدقة نفل فلا تنصرف إلى الفرض إلا بتعيين ولو تصدق صدقة بجميع ماله تطوعاً لم يجزئه لأنه لم ينوِ الفرض. ولا يجب تعيين المال المزكى عنه، فإن كان له نصابان فأخرج الفرض عن أحدهما بعينه أجزأه، ولأن التعيين لا يضر، وإن أطلق على أحدهما أجزأه.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة باب 53/176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وقت تأديتها: يجوز تعجيل الزكاة في أثناء الحول، قبل تمامه، بشرط أن يكون النصاب كاملاً، لما روى علي رضي الله عنه (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) (1) ، ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل، لما روى علي رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر - رضي الله عنه - ساعياً - ومنع العباس صدقته وأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع العباس فقال: أما [ص: 378] علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين) (1) ولكن التعجل غير مستحب. - وإذا عجل الزكاة فلم تتغير الحال وقعت موقعها وأجزأته. وإن ملك نصاباً فعجل زكاته وحال الحول وهو ناقص مقدار ما عجلها أجزأته، وإن تغيرت الحال للآخذ فمات أو غني أو ارتد فإن الزكاة تجزئ عن مالكها وليس له ارتجاعها. وإن كان الآخذ غنياً حين الأخذ ثم افتقر في آخر الحول لم تجزئه لأنه لم يعطها لمستحقها. وإن تغير حال رب المال بموته أو ردته أو تلف النصاب أو بعضه أو بيعه أو حالهما معاً تجزئ وليس له ارتجاعها. - وإن مات المالك فحسبها الوارث عن زكاته لم تجزئه، لأنها عجلت قبل ملكه. - ولا يجوز تعجيل زكاة المعدن والركاز قبل إخراجه، أما تعجيل زكاة الزروع والثمار ففيها قولان. - وإن أخذ الإِمام الزكاة وهلكت بيده لم يضمنها لأن يده كيد الفقير وله ولاية عليه.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 21/1624. (2) البيهقي: ج-3 /ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 مكان تأدية الزكاة: لا يجوز نقل الزكاة من محل وجوبها إلى مسافة القصر فأكثر ولو كان ذلك بغية إعطائها لقرابته، ما لم يستغن أهل بلده فيجوز نقلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: (فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم) (1) وهذا يختص بفقراء بلدتهم. فإن خالف ونقلها أجزأته لأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرئ منه ولكنه يأثم. ويستحب تفرقة الزكاة في بلد وجوبها ثم في الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان دون مسافة القصر، وإذ نقلها إلى بلد بعيد لتحري قرابة أو من كان أشد حاجة فلا بأس ما لم يجاوز مسافة القصر. [ص: 379] فإن كان الرجل في بلد وماله في بلد آخر زكّاه في بلد المال، فإن كان متفرقاً زكى كل مال حيث هو. وإن كان غائباً عن بلده وأهله والمال معه فالأسهل أن يزكي بعضه في هذا البلد وبعضه في البلد الآخر، وإن كان ماله تجارة يسافر به يزكيه في الموضع الذي أكثر مقامه فيه كما قال الإِمام أحمد، وإن كان ماله في بادية فرّق زكاته في أقرب البلاد إليها. أما زكاة الفطر فيجب تأديتها في مكان وجوبها عليه. الأصناف الذين تدفع الزكاة لهم: هم ثمانية ذكرهم الله تعالى في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله، وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} (1) وإنما تفيد الحصر فلا تصرف إلى غير من ذكر. ولا يجب تعميمهم بها، وإن تولى الرجل إخراجها بنفسه سقط العامل عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه في الحديث المتقدم: (أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من؟ أغنيائهم فترد على فقرائهم) أمر بردها في صنف واحد، وروى قبيصة بن مُخَارِق الهلالي قال: تحملت حَمَاَلَة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها. فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة. فنأمر لك بها ... ) (2) وهو صنف واحد. -1- العاملين عليها: إذا تولى الإِمام القسمة بدأ بالساعي فيعطيه عمالته لأنه يأخذ عوضاً فكان حقه آكد ممن يأخذه مواساة. وللإمام أن يعين أجرة الساعي قبل بعثه من غير شرط، فإن عين له أجرة دفعها إليه وإلا دفع إليه أجرة مثله. والعامل عليها يشمل جامع الزكاة (الساعي) والكاتب والقاسم والحاشر (الذي يجمع المواشي) - والسائق والراعي والحافظ والحمال والكيال والعداد ونحو ذلك. فيعطون جميعهم من الزكاة ولو كانو أغنياء لأن ذلك على سبيل الأجرة. [ص: 380] -2- الفراء والمساكين: الفقير: هو من لا مال له أصلاً، ولا كسي من حلال. أو له مال أو كسب دون أن يكفيه أي من ذلك، بأن كان أقل من نصف الكفاية. وهو أسوأ حالاً من المسكين لأن الله تعالى بدأ به والله تعالى يبدأ بالأهم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر) (3) ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) (4) . أما المسكين: فهو من له مال أو كسب، أو كلاهما معاً، مما يكفي معظم حاجياته.. وهكذا يكون المسكين أحسن حالاً من الفقير، ولأن الله تعالى وصفهم في القرآن فقال عز من قائل: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} (5) أي لهم سفينة يعملون فيها. ومن ملك من غير الأثمان ما لا يقوم بكفايته مما لا تجب فيه الزكاة كالعقار فليس بغني، وكذلك من ملك عقاراً يستغله أو ضيعة لا تكفيه يأخذ من الزكاة، ومن ملك نصاباً زكوياً لا تتم به الكفاية كمن ملك أربعين شاة أو ضيعة لا تكفيه فيعطى من الزكاة. وإن ملك من الأثمان ولو خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب لا تقوم بكفايته فليس بغني ويجوز دفع الصدقة له. وأما من تحصل له الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو أجر أو عقار أو نحو ذلك فلا يجوز دفع الزكاة له. -3- المؤلفة قلوبهم: هم السادة المطاعون في عشائرهم وهم قسمان: كفار ومسلمون. [ص: 281] -1ً- الكفار ممن يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم: يجوز دفع الزكاة لهم، لما روي عن صفوان بن أمية أنه قال: (أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلَّي: فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي) (6) . -2ً- المسلمون وهم أربعة أقسام: أ- من أسلم وله شرف في قومه ويرجى بإعطائه من الزكاة إسلام غيره من الكفار، فيعطى ولو كان قوي الإيمان. ب- ضعيف الإيمان الذي أسلم حديثاً، فيعطى منها ليقوى إيمانه. جـ- مسلم قوي الإيمان إذا أعطي قاتل ودافع عن المسلمين وكفانا شر من وراءه من الكفار. د- مسلم إذا أعطي جبى الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف أن لا يجيبها، فيعطى من الزكاة. فكل هؤلاء يجوز الدفع لهم من الزكاة لقدر ما يحصل به التأليف عند الحاجة فقط، وترك عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم إعطاءهم لعدم الحاجة إليه في خلافتهم لا لسقوط سهمه. -4- الرقاب: هم المكاتبون (7) ، ولا يصدقون إلا ببينة، فيعطون م يعينهم على العتق إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم (أقساطهم) . ولا يزاد المكاتب على ما يوفي كتابته، ويجوز أن يدفع إليه قبل حلول النجم لئلا يحل وهو معسر فتفسخ كتابته. ويجوز أن يشترى من الزكاة رقبة لا تعتق عليه فيعتقها، ويجوز أن يفك منها أسيراً مسلماً لأنه رقبة من الأسر، ولا يجوز أن يعتق قنه أو مكاتبه عنها، لأن أداء زكاة كل مال تكون من جنسه وهذا ليس من جنس ما تجب الزكاة فيه. [ص: 382] -5- الغارمون: وأقسامهم: -1ً- مدين لتسكين فتنة بين طائفتين، في قتيل لم يظهر قاتله، فيقضى دينه من سهم الغارمين، سواء كان غنياً أو فقيراً. -2ً- من استدان في مصلحة نفسه أو عياله، وصرف ذلك في مباح، أو في معصية ثم تاب، فإنه يعطى من مال الزكاة. - يجوز للرجل دفع زكاته إلى مدينه، فإن رد المدين إلى المدائن دينه جاز أخذه للدائن بشرط أن لا يكون الدائن أعطاه الزكاة بقصد رد الدين له. أما من سقط دينه عن مدينة فَحَسبه الدائن من زكاته فلا تعتبر. -6- في سبيل الله: هم الغزاة الذكور المتطوعون بالجهاد، وليس لهم نصيب من المخصصات للغزاة في الدولة، فيعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء، إعانة لهم على الغزو، ويجب على كل منهم أن يرد ما أخذه إن لم يغز، وكذا ما فضل بعد الغزو. ويجوز أن يعطى الفقير من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة لأن الحج من السبيل. -7- ابن السبيل: هو من ينشئ سفراً من بلد الزكاة، أو يكون مجتازاً لها، فهذا يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده أو ماله بشرط كونه محتاجاً عندئذ، وبشرط ألا يكون عاصياً في سفره، فلو سافر لمعصية لم يعط، وكذا الهائم في سفره دون هدف، فإنه لا يعطى أيضاً. أما من أراد أن ينشئ سفراً من بلده وليس معه ما يكفيه فيعطى لفقره لا لسفره. ولا يجوز أن يدفع إلى واحد من هذه الأصناف أكثر مما تندفع به حاجته، فلا يزاد الفقير والمسكين على ما يغنيهما، ولا العامل على أجرته، ولا المؤلفة قلوبهم على ما يحصل به التأليف، ولا الغارم والمكاتب على ما يقضي دينهما، ولا الغازي على ما يحتاج إليه لغزوه، ولا ابن السبيل على ما يوصله لبلده، لأن الدفع لحاجة [ص: 383] فيجب أن يُتقيد بها. وإن اجتمع في واحد سببان كالغارم والفقير دفع إليه بهما، لأن كل واحد منهما سبب للأخذ، فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد.   (1) التوبة: 60. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الزكاة باب 36/109. (3) مسند الإِمام أحمد: ج-5 /ص 36. (4) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الزهد باب 7/4126. (5) الكهف: 79. (6) الترمذي: ج-3/ كتاب الزكاة باب 30/666. (7) المكاتب: عبد اشترى نفسه من سيدة بأقساط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 من لا يجوز دفع الزكاة إليهم: ستة أصناف هم: -1- الكافر: لا يجوز الدفع إليه لغير التألف لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (زكاة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم) -2- العبد غير المكاتب، لأنه غني بسيده. -3- بنو هاشم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد المطلب بن ربيعة: (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) (1) ، ولما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابني عمه: (لا يحل لكما أهل البيت من الصدقات شيء، ولا غسالة أيدي الناس، إن لكم في خمس الخمس لما يكفيكم) (2) . وكذا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب (على إحدى الروايتين) ، لما رواه جبير بن المطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بنو هاشم والمطلب شيء واحد) (3) ، ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فأشبهوا بني هاشم. ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حلَّ له أخذه، لما روى أنس رضي الله عنه قال: أهدت بريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحماً تُصدق به عليها. فقال: (هو له صدقة. ولنا هدية) (4) . -4- موالي بن هاشم: وهم مُعتَقوهم، لأنهم منهم، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم من أنفسهم) (5) . [ص: 384] -5- الغني بمال أو كسب، فلا تحل له الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ... لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (6) ، ولما روى عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني) (7) . وضابط الغنى في الكسب أو الصناعة أو الأجرة أو نحوها: الكفاية على الدوام، وضابط الغنى في المال: ملك خمسين درهماً فضة أو قيمتها من الذهب لكل فرد من أفراد الأسرة، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه، قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) (8) . ومن ملك عروضاً تكثر قيمتها لا تقوم بكفايته جاز له الأخذ من مال الزكاة. وإذا كان للمرأة زوج غني فهي غنية بزوجها فلا تدفع لها الزكاة، أما إن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز الدفع إليها كمن له عقار يستغني بأجرته ثم تعطلت منفعة العقار. -6- من تلزم المزكي نفقته، فلا يدفع زكاته إليه باسم الفقراء والمساكين، كالزوجة والوالدين وإن علو والأولاد وإن سفلوا (الوارث منهم وغيره أي والدا الأب ووالدا الأم وأولاد الابن وأولاد البنت) . لكن يجوز دفع الزكاة إلى من تلزم الزكي نفقته باسم الغزاة أو الغارمين أو العاملين أو المؤلفة قلوبهم. أما الوارث غير العمودي نسبة (أي لا من الأصول ولا من الفروع) كالأخ والأخت فيجوز دفع الزكاة له على قول أكثر أهل العلم، وكذلك القريب الذي [ص: 385] لا يرث، كأن كان محجوباً كالأخوين المحجوبين بالابن، أو لبعد قرابته، يجوز الدفع إليه كالغريب. وإن كان شخصان يرث أحدهما صاحبه دون الآخر، كالعمة مع ابن أخيها، فللمورث دفع زكاتها إلى الوارث لأنه لا يرثه. أي تعطي العمة ابن أخيها زكاتها، فإذا ملكها ثم مات ابن الأخ فإن عمته لا ترثه ولا ترجع زكاتها إليها. - وفي دفع الوارث زكاته إلى مورثه روايتان. - ولا يجوز للزوجة دفع زكاتها إلى زوجها على المعتمد، لأنها تعود إليها بإنفاقه عليها. - ويجوز لكل واحد من هذه الأصناف الأخذ من صدقة التطوع. - ولا يجوز صرف الزكاة إلى بناء المساجد والقناطر وتكفين الموتى ووقف المصاحف وغيرها من جهات الخير، لأن الله تعالى حصرها في الأصناف الثمانية. [ص: 386]   (1) مسلم: ج-2 /كتاب الزكاة باب 51/168. (2) رواه الطبراني، مجمع الزوائد ج-3 /ص 91. (3) البيهقي: ج-2 /ص 149. (4) مسلم: ج-2 /كتاب الزكاة باب 52/170. (5) البخاري: ج-6/ كتاب الفرائض باب 23/6380. (6) أبو داود: ج-3/ كتاب الزكاة باب 23/1633. (7) أبو داود: ج-3/ الزكاة باب 24/1635. (8) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الزكاة باب 26/1840. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الباب الخامس (صدقة التطوع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 حكمها: مستحبة في جميع أوقات السنة، ولكن يضاعف أجرها في الأماكن الشريفة وفي الأزمنة الشريفة. دليلها: من القرآن: قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (1) . ومن السنة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب. إلا أخذها الله بيمينه. فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ أو قَلُوصَه (2) . حتى يكون مثل الجبل، أو أعظم) (3) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء) (4) .   (1) البقرة: 245. (2) قلوصة: هي الناقة الفتية، ولا يطلق على الذكر. (3) مسلم: ج-2 /كتاب الزكاة باب 19/64. (4) الترمذي: ج-3/ كتاب الزكاة باب 28/664. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ما يستحب لصدقة التطوع: -1ً- أن يكون سراً: بدليل قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير) (1) . [ص: 387] -2ً- أن تكون على ذي رحم، بدليل قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة) (2) ، وحديث سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (الصدقة على المسكين صدقة. وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) (3) ، وعن زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري من صدقة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة) (4) . -3ً- أن يختص بها من اشتدت حاجته، بدليل قوله تعالى: (أو مسكيناً ذا متربة) (5) . -4ً- وأفضل الصدقات ما كان في سبيل الله، لأن ثوابها يضاعف إلى سبعمائة ضعف، لقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبيتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} (6) .   (1) البقرة: 271. (2) البلد: 14 - 15. (3) الترمذي: ج-3/ الزكاة باب 26/ 658. (4) البخاري: ج-2/ كتاب الزكاة باب 47/1397. (5) البلد: 16. (6) البقرة: 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ما لا يجوز من الصدقة: -1ً- أن يتصدق صدقة تمنعه من قضاء دينه، لأن قضاء الدين واجب. -2ً- أن تتقدم على نفقة عياله، لأن نفقتهم واجبة، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (1) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال عندي آخر، قال: تصدق به على [ص: 388] زوجتك - أو قال زوجك - قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك. قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر) (2) . فإن وافقه عياله على الإيثار فهو أفضل، لقوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة) (3) ، ولحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد من مقل أو سر إلى فقير) (4) . ويكره لمن لا صبر له على ضيق العيش أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة. [ص: 389]   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 45/1692. (2) أبو داود: ج-2/ كتاب الزكاة باب 45/1691. (3) الحشر: 9. (4) مسند الإِمام أحمد: ج-5 /ص 178 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 كتاب الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الباب الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 تعريف الصيام: الصيام لغة الإمساك، بدليل قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} (1) أي صمتاً وإمساكاً عن الكلام. وشرعاً: الإمساك عن المفطرات يوماً كاملاً من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بشرط نيته.   (1) مريم: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أقسام الصيام: -1- الصيام المفروض. -2- الصيام المسنون. -3- الصيام المكروه. -4- الصيام المحّرم. -1ً- الصيام المفروض الصوم المفروض هو صوم شهر رمضان أداءً وقضاءً، وصوم الكفارات، والصوم المنذور. صوم رمضان فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة على من توفرت فيه شروط الوجوب، وهو ركن من أركان الإسلام. [ص: 392] دليل فرضيته: من الكتاب قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ... } (1) . ومن السنة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله. وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وحج البيت. وصوم رمضان) (2) . وإجماع أئمة المسلمين. فمن أنكر صيام رمضان فقد كفر.   (1) البقرة: 185. (2) مسلم: ج-1 /كتاب الإيمان باب 5/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 شروط الصيام: أولاً: شروط الوجوب: -1- الإسلام: فلا يجب الصوم على الكافر ولو كان مرتداً كما لا يصح منه، بدليل قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) (1) . -2- العقل: فلا يجب الصوم على المجنون ولا يصح منه، لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (2) . -3- البلوغ: فلا يجب الصوم على صبي لم يبلغ، لكن يجب على وليه أمره به إذا أطاقه ويجب أن يضربه إذا امتنع. فإن أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي في أثناء الشهر، لزمه صيام ما بقي منه، ولا يلزمهم قضاء ما مضى. -4- الإطاقة: ويقصد بذلك القدرة على الصوم بلا مشقة، فلا يجب الصوم على الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا على المريض الذي لا يرجى برؤه، [ص: 393] لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفس إلا وسعها} (3) ، ويجب عليها إطعام مسكين عن كل يوم لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} (4) .   (1) الأنفال: 38. (2) أبو داود: ج-4/ كتاب الحدود باب 16/4403. (3) البقرة: 286. (4) البقرة: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ثانياً- شروط صحة الصوم. -1- الإسلام كما تقدم. -2- العقل: فلا يصح الصوم من غير العاقل، فلو نوى الصوم ليلاً ثم أُغمي عليه أو جن جميع النهار فلا يصح صومه ما لم يفق فيه ولو لحظة من إغمائه أو جنونه. ويجب القضاء في حالة الإغماء، أما في حالة الجنون فلا قضاء عليه. ولا يضر النوم ولو استغرق جميع النهار ويبقى صومه صحيحاً. -3- التمييز. -4- انقطاع دم الحيض والنفاس. -5- النية: تعريفها: القصد وهو اعتقاد القلب فعل الشيء خارج وعزمه عليه من غير تردد. ويكون العزم الجازم في القلب على الصوم طيلة اليوم، فإن نوى الخروج من صوم الفرض أبطله لأن النية شرط في جميعه. شروط النية: -1ً- التبييت في الصوم المفروض من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق لكل يوم على حدة، لما روت حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) (1) . فمن لم يبيت النية فعليه الإمساك والقضاء. أما إن أكل أو شرب بعد النية فلا تبطل نيته، لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على نيته لم تفسد به. [ص: 394] أما في الصيام المسنون فتصبح النية في أي وقت من النهار إذا لم يأت بمنافٍ للصوم، بدليل ما روته عائشة رضي الله عنها قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني أذن صائم. ثم أتانا يوم آخر فقلنا يا رسول الله أهدي لنا حَيْس. فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل) (2) . -2ً- التعيين: أي تعيين نوع الفرض هل هو صوم رمضان أو كفارة أو نذر. وينبغي أن تكون النية جازمة، فإن نوى ليلة الشك صوم غد إن كان من رمضان وإلا هو متنفل أو مفطر، لم يصح صوم ذلك اليوم إن كان من رمضان لأنه لم يجزم به والنية عزم جازم.   (1) النسائي: ج-4 /ص 196. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 32/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ثبوت شهر رمضان: -1- يجب صوم رمضان على الجميع لاستكمال شعبان ثلاثين يوماً. -2- يجب صوم رمضان على كل من رأى الهلال، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيده فقال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا - ثم عقد إبهامه في الثالثة - فصوموا لرؤيته. وأفطروا لرؤيته. فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) (1) . ولا يجب على من رأى الهلال إبلاغ الحاكم أو الإعلان في المسجد أو إخبار الناس. -3- يجب صوم رمضان لإعلان الإِمام دخول رمضان، ويثبت عنده دخول رمضان يشهادة شخص واحد مكلف عدل ظاهراً أو باطناً، حر أو عبد، ذكر أو أنثى. وإن رُدَّت شهادته بقي واجباً عليه الصوم وعلى كل من سمع شهادته، ولو ادعى جماعة رؤية الهلال فعلى الحاكم أن لا يقبل إلا شهادة اثنين. [ص: 395] -4- إذا ثبتت رؤية الهلال بقطر من الأقطار وجب الصوم على سائر الأقطار لا فرق بين القريب من جهة الثبوت والبعيد إذا بلغهم من طريق موجب للصوم، ولا عبرة باختلاف مطلع الهلال مطلقاً. وإذا غم الهلال في غروب اليوم التاسع والعشرين من شعبان فلا يجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً على إحدى الروايتين، ويجب عليه تبييت النية وصوم اليوم التالي لتلك الليلة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن غُمَّ عليه فاقدروا (2) له) (3) . وهذا هو المعتمد في المذهب. أما الأسير في موضع لا يمكنه فيه معرفة الشهور بالخبر فاشتبهت عليه الشهور، فإنه يصوم شهراً بالاجتهاد، فإن استبان أن صومه وقع في شهر رمضان، أو لم يستبن شيئاً، أو أنه استبان أنه وقع بعد رمضان أجزأه صومه. أما عن استبان أن صومه وقع قبل شهر رمضان لم يجزئه لأنه قدم العبادة على وقتها كمن صلى قبل دخول الوقت. ولو صام بغير اجتهاد لم يجزئه وإن وافق رمضان. ولا عبرة لقول المنجمين بدخول شهر رمضان.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 2/4. (2) اقدروا له: ضيقوا العدة، أي يحسب شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 2/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ثبوت شهر شوال: -1- لا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين، ولا تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين، ولا يفطر إذا رأى هلال شوال وحده. -2- إن غم ليلة الواحد والثلاثين ولم يُرَ الهلال هناك حالتان: آ- إن كان بدء الصوم بشهادة عدلين أفطروا ولو لم يروا هلال شوال. ب- إن كان بدء الصوم برؤية عدل واحد أو كان قد غم عليهم في أوله وصاموا لأجل الغيم لم يفطروا، لأن الأصل بقاء رمضان. [ص: 396] أركان الصيام: للصوم ركن واحد وهو الإمساك عن دخول المفطرات إلى الجوف بشرط نيته طيلة اليوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. مفسدات الصيام: أولاً: دخول شيء إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ، من مائع وغيره مغذٍ وغير مغذٍ كالحصاة والنواة، ذاكراً عامداً مختاراً، أما إن كان ناسياً أو مكروهاً أو نائماً فلا يفطر. ومن المفطرات: -1- الأكل والشرب. -2- السعوط في الأنف. -3- إن ابتلع ما بين أسنانه من طعام، أو ابتلع ريقه بعد أن وصل إلى بين شفتيه. -4- إن سال من فمه دم أو خرج إليه قلس أو قيء فابتلعه. -5- ابتلاع النخامة إذا وصلت إلى الفم على إحدى الروايتين (الرواية الأخرى: لا يفطر) والفطر هو المعتمد. -6- إن ذاق طعاماً ووجد الطعم في حلقه. -7- إن مضغ علكاً فوجد طعمه في حلقه. -8- إن احتقن أو داوى جائفة. بما يصل إلى جوفه. -9- إن طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بما يصل إلى جوفه. -10- إن قطر في أذنه فوصل إلى دماغه. -11- إن داوى مأمومة (1) بما يصل إلى دماغه. -12- إن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه كأن يجد مرارة الكحل في حلقه (أما إن شك في وصوله وكان يسيراً فلا يفطر) . -13- الاحتقان في الدبر. [ص: 397] أما سبق ماء المضمضة إلى الحلق بالمبالغة أو بالزيادة على الثلاث فيكره ولا يفطر على الأرجح. ثانياً: الحجامة، وهي تفسد صوم الحاجم والمحجوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحجم والمحجوم) (2) . ثالثاً: الاستقياء عمداً، أما من ذرعه القيء فلا شيء عليه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استسقاء عمداً فليقض) (3) . رابعاً: المباشرة دون الفرج مع نزول المني أو المذي كأن قبّل أو لمس، أما إن لم ينزل فلا يفسد صومه ولكن فعله حرام، لما روى عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبّلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم قلت: لا بأس، قال: فمه.) (4) . شبه القبلة بالمضمضة. خامساً: إنزال المني عمداً: آ- بالاستنماء: إن استنمى بيده فأنزل منياً أو مذياً، لأنه أشبه بالمباشرة. ب- إن أنزل منياً فقط بتكرار النظر. أما إن صرف نظرة وأنزل، أو أنزل بالفكر والاحتلام فلا يفطر. وإن جامع ليلاً فأنزل نهاراً لم يفطر. سادساً الجماع في الفرج في نهار رمضان سواء أنزل أم لم ينزل، ويفسد صوم الفاعل والمفعول به، سواء كان الجماع. في القبل أو الدبر، حياً أو ميتة، عاقلاً أو غيره ولو بهيمة، وسواء كان الفاعل عامداً، أو ناسياً، عالماً، أو جاهلاً، مختاراً أو مكرهاً، أو مخطئاً كمن وطئ وهو معتقد أن الفجر لم يدخل وقته ثم تبين أنه وطئ بعد الفجر. [ص: 398] سابعاً: الردة لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (5) . ثامناً: العزم على الفطر، لقطعه النية المشترطة في جميعه في الفرض. تاسعاً: التردد فيه، لأنه لم يجزم بالنية. عاشراً: خروج دم الحيض والنفاس. أحد عشر: الموت لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية. أو علم ينتفع به. أو ولد صالح يدعو له) (6) .   (1) المأمومة: جراحة في الرأس بحيث تبلغ إلى الدماغ. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 32، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (احتجم النبي وهو صائم) منسوخ، وهو في البخاري: 2/1837. (3) الترمذي: ج-3/ كتاب الصوم باب 25/720. (4) أبو داود: ج-2/ كتاب الصوم باب 33/2385. (5) الزمر: 65. (6) مسلم: ج-3/ كتاب الوصية باب 3/14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أشياء لا تفطر: -1- إذا فعل ناسياً كل ما ذكر من المفطرات عدا الجماع، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه. فإنما أطعمه الله وسقاه) (1) . نص الحديث على الأكل والشرب وقسنا عليه سائر ما ذكرنا: أو إن فعل ذلك مكرها فلا يفطر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء) (2) فيقاس عليه ما عداه. أو إن فعله نائماً لأنه أبلغ في العذر من الناسي، لما روي علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (3) . أما إن فعل ذلك مخطئاً، كأن أكل ظاناً أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو ظن أن الفجر لم يطلع وقد طلع، فيفطر، لما روي عن حنظلة رضي الله عنه وكان [ص: 399] صديقاً لعمر رضي الله عنه قال: (كنت عند عمر في رمضان فأفطر وأفطر الناس، فصعد المؤذن ليؤذن فقال: يا أيها الناس هذه الشمس لم تغرب. فقال عمر رضي الله عنه: كفانا الله شرك إنا لم نبعثك راعياً ثم قال عمر رضي الله عنه: من كان أفطر فليصم يوماً مكانه) (4) . وكذلك إن فعله جاهلاً بالتحريم أفطر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) في حق رجلين رآهما يفعلان ذلك مع جهلهما بالتحريم. -2- كل ما يمكن التحرز منه كابتلاع الريق، وغربلت الدقيق وغبار الطريق، ووصول الذبابة إلى حلقه، وابتلاع ريقه بعد المضمضة، والتسوك بالعود الرطب، وسبق ماء المضمضة إلى الحلق شريطة عدم المبالغة فيه أو الزيادة على الثلاث.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 33/171. (2) الترمذي: ج-3/ كتاب الصوم باب 25/730. (3) أبو داود: ج-4/ كتاب الحدود باب 16/4403. (4) البيهقي: ج-4 /ص 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 حالات الفطر في رمضان: أولاً: الفطر الواجب: يجب الفطر على الحائض والنفساء وعليهما القضاء فقط. ثانياً: الفطر الجائز: -1- يجوز الفطر للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه، لقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (1) ، وعليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً لقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (2) . وفي حالة عدم القدرة على الفدية فإن الكفارة لا تسقط عنه، وتسقط بتكفير غيره عنه. -2- الحامل والمرضع: أ- إن خافتا على الولد فقط فأفطرتا فعليهما الفدية والقضاء. [ص: 400] ب- إن خافتا على أنفسهما فأفطرتا فعليهما القضاء فقط كالمريض. -3- المريض: يجوز الفطر للمريض الذي يخاف من صومه ازدياد مرضه أو إعطاء برئه، أو يخاف على نفسه من شدة عطش أو جوع، وعليه القضاء فقط، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} (3) . ويلحق المغمي عليه بالمريض من حيث القضاء إذا أغمي عليه يوماً كاملاً، أما إن أفاق جزءاً من النهار صح صومه ولا قضاء عليه. أما إن كان المرض لا علاقة للصوم به كوجع الضرس ونحوه فلا يباح للمكلف الفطر، لأنه لا ضرر عليه بالصوم. ويجوز لمن مرض أثناء النهار الفطر. -4- يجوز الفطر للمسافر سفراً طويلاً مباحاً، ولو كان السفر في أثناء النهار. لكن بشرط أن لا يفطر حتى يغادر بنيان المدينة، وعليه القضاء بدليل الآية: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} (3) ، ولما روى جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغميم. فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء فرفعه. حتى نظر الناس إليه. ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة. أولئك العصاة) (4) . ويجوز للمسافر أن يفطر بما شاء ولو بالجماع. -5- يجوز لصاحب العمل الشاق أن يفطر إن خاف بالصوم تلفاً، ويتضرر إن ترك صنعته، وليس لديه ما ينفق منه وعليه القضاء، أما إن كان لا يتضرر بترك صنعته في رمضان وعنده ما ينفق منه فعليه تركها والقيام بفرض الصيام. -6- يجوز الفطر لمن احتاج إلى قتال عدو أو أحاط العدو ببلده ورأى أن الصوم يضعفه ولو بدون سفر نصاً وقد فعله الشيخ تقي الدين وأمر به لما نازل العدو دمشق لدعاء الحاجة. [ص: 401]   (1) البقرة: 286. (2) البقرة: 184. (3) البقرة: 184. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 15/90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ثالثاً الفطر المحرم -1- من أفطر عامداً بإحدى المفطرات (عدا الجماع) بغير عذر فعليه القضاء والإمساك باقي اليوم. -2- من أفطر بالجماع عمداً فعليه القضاء والإمساك باقي اليوم والكفارة. رابعاً: الفطر بسبب الخطأ أو الجهل: -1- من أفطر خطأ أو جهلاً بإحدى المفطرات (عدا الجماع) فعليه القضاء والإمساك باقي اليوم. -2- من أفطر بالجماع خطأ أو جهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فعليه القضاء والإمساك باقي اليوم والكفارة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً قال: لا. قال: ثم جلس. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر. فقال: تصدق بهذا. قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها (1) أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه. ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) (2) . أما من أفطر بالجماع في غير رمضان فلا كفارة عليه لعدم حرمة الزمان، ولأن النص إنما ورد بالجماع في رمضان. الكفارة: تجب الكفارة على الرجل وعلى المرأة أيضاً إن طاوعت وكانت غير ناسية وغير جاهلة للحكم، وهناك قول آخر: لا تجب الكفارة إلا على الواطئ، ولا تجب [ص: 4] على المرأة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بالكفارة، لكن يفسد صومها. والقول الأول هو المعتمد.   (1) هما الحّتان. والمدينة بين حرتين. والحرة الأرض الملبسة حجارة سوداء. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 14/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ماهيتها: هي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطيع فإطعام ستين مسكيناً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، يعطي كل مسكين مدّ برّ أو دقيق أو نصف صاع من تمر أو شعير. سقوطها: تسقط الكفارة في حالة العجز عنها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أخبره بحاجته إلى الطعام بأكله. أما من جامع وهو صحيح مقيم ثم مرض أو جن أو سافر فلا تسقط عنه الكفارة، لأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام. تكرارها: إن وطئ المكلف في يوم واحد أكثر من مرة قبل أن يكفر عن المرة الأولى فعليه كفارة واحد بلا خلاف، أما أن كان الوطء في يومين وكفر عن اليوم الأول فعليه كفارة ثانية عن اليوم الثاني، فإن لم يكفر عن اليوم الأول ففيه روايتان والأرجح تكرارها. الفدية: ما هيتها: إطعام مسكين عن كل يوم يفطره مدّ من بر أو دقيق أو نصف صاع من تمر أو شعير. فإن أفطر عدداً من الأيام فيجزئ أن يجمع عدداً من المساكين بعدد الأيام التي أفطرها ويطعمهم غداء أو عشاء في يوم واحد على إحدى الروايتين، لأنه روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أنه أفطر في رمضان فجمع المساكين ووضع جفاناً فأطعمهم". [ص: 403] قضاء رمضان: وقته: من وجب عليه قضاء رمضان لفطره فيه عمداً ولسبب من الأسباب السابقة فإنه يقضي بدل الأيام التي أفطرها في جميع أيام السنة عدا شهر رمضان الحالي ويومي العيدين الفطر والنحر وأيام التشريق. ولا يجوز تأخير قضاء رمضان لغير عذر حتى يحول حلول رمضان آخر. (أي تمكن من القضاء ولم يقض حتى جاء رمضان آخر فلا تجب عليه الفدية. حالة من مات وعليه دين: آ- إن كان تأخيره الصيام لعذر، أي مات وعذره مستمر لم يقطع فلا شيء عليه. ب- إن كان تأخيره الصيام لغير عذر (أي كان يستطيع أن يقضي ولم يقض) فعليه فدية عن كل يوم سواء كان أتى رمضان آخر أو لم يأت، وتخرج من رأس ماله سواء أوصى به أو لا كسائر الديون. ما يجوز في القضاء: -1- يجوز تفريق قضاء رمضان لقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) ، ولما روي عن محمد بن المنكدر أنه قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء صيام شهر رمضان فقال: ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء فالله أحق أن يعفو أو يغفر) (1) ، لكن التتابع مستحب. -2- يجوز تأخير قضاء رمضان ما لم يأت رمضان آخر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن يقضيه إلا في شعبان..) (2) . -3- يجوز التطوع بالصوم لمن كان عليه قضاء رمضان. [ص: 404]   (1) البيهقي: ج-4 /ص 259. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 26/151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ما يستحب للصائم: -1- ينبغي للصائم أن يكف اللسان عن فضول الكلام والشتم والمعاصي، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم) (1) . وأما كفه عن الحرام كالغيبة والنميمة والكذب فواجب في كل زمان. -2- يستحب للصائم السحور، لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسحروا، فإن في السحور بركة) (2) . -3- يستحب للصائم تأخير السحور وتعجيل الإفطار، لما روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور) (3) . -4- أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى ماء، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رُطبات. فإن لم تكن رُطبات فتميرات. فإذا لم تكن تميرات، حسا حسوات من ماء) (4) . -5- يستحب الدعاء عقب فطره بالمأثور كأن يقول: "اللهم إني لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن الله، يا واسع الفضل اغفر لي، الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت". -6- يستحب الإكثار من الصدقة والإحسان إلى ذوي الأرحام والفقراء والمساكين. [ص: 405] -7- الاشتغال بالعلم وتلاوة القرآن والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما تيسر له ذلك ليلاً أو نهاراً. -8- الاِعتكاف. -9- تحري ليلة القدر لقوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) (5) ، ويكون التحري في العشر الأواخر من رمضان وآكدها ليالي الوتر، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها) (6) . فينبغي أن يجتهد في ليالي الوتر من العشر كله ويكثر من الدعاء لعله يوافقها ويدعو بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني) (7) .   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 9/1805. (2) البخاري: ج-2/ الصوم باب 20/1843. (3) مسند الإِمام أحمد: ج-5 /ص 145. (4) الترمذي: ج-3/ كتاب الصوم باب 10/696. (5) القدر: 3. (6) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 40/207. وأمارات ليلة القدر أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء وليس فيها شعاع. روى الإِمام أحمد في مسنده (5/ص 324) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر ولا يحل لكوكب أن يرمى بها فيها حتى تصبح، وإن أماراتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معا يومئذ) . (7) الترمذي: ج-5/ كتاب الدعوات باب 85/3531. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ما يكره للصائم: -1- ذوق الطعام، فإن فعل فلم يصل شيء إلى حلقه لم يضره. -2- مضغ العلك القوي الذي لا يتحلل منه شيء، فإن كان ما يتحلل وابتلع منه شيء فيفطر فاعله. -3- الغوص في الماء لئلا يدخل الماء في أذنيه، فإن دخل فهو كالداخل من المبالغة في الاستنشاق، أما الغسل فلا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ثم يغتسل. [ص: 406] -4- المباشرة للصائم بلمس أو تكرار نظر أو قبلة لمن تحرك شهوته، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخّص له شيخ، والذي نهاه شاب) (1) . -5- الوصال وهو أن يصوم يومين لا يفطر بينهما، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال. قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم إني أُطعم وأُسقى) (2) . فإن أخر فطره إلى السحر جاز، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يوصل فليواصل حتى السحر. قالوا: فإنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم، إن لي مُطعماً يطعمني وساقياً يسقيني) (3) . -6- السواك بعود رطب، أما بعود جاف فجائز إذا لم يتحلل منه شيء. -7- أن يترك بقية طعام بين أسنانه.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الصوم باب 35/2387. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 11/55. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب الصوم باب 24/2361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 -2ً- الصيام المسنون حكمه: مستحب، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام. فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب. فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) (1) . أفضله: صيام داود عليه السلام للقادر عليه، وهو صوم يوم وإفطار يوم، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب [ص: 407] الصيام إلى الله صيام داود وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود - عليه السلام - كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) (2) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 30/163. (2) مسلم: ج-2/ الصيام باب 35/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 أقسامه: آ- ما يتكرر بتكرار الأسابيع: صيام يومي الاثنين والخميس، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى صوم الاثنين والخميس) (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس. فأحب ان يعرض عملي وأنا صائم) (2) . ب- ما يتكرر بتكرر الأشهر: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أصلي الضحى) (3) ، ويستحب أن يجعلها الأيام البيض، لما روى أبو ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) (4) . جـ - ما يتكرر بتكرر السنين: -1- يستحب الصيام في محرم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان، شهر المحرم. وأفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل) (5) ، وآكدها صوم اليوم التاسع واليوم العاشر (عاشوراء) من المحرم، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في [ص: 408] صيام يوم عاشوراء: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) (6) ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) (7) . -2- صيام عشر ذي الحجة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الجهاد في سبيل الله. إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) (8) ، وآكدها صوم يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة لغير الحاج للتقوي على الدعاء، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صوم يوم عرفة: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) (9) . -3- صيام ست من شوال، لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) (10) ، وتحصل السنة بصيامها ولو غير متصلة ولا متتابعة.   (1) الترمذي: ج-3 / كتاب الصوم باب 44 / 745. (2) الترمذي: ج-3 / الصوم باب 44/747. (3) الترمذي: ج-3 /الصوم باب 54/760. (4) الترمذي: ج-3 /الصوم باب 54/761. (5) مسلم: ج-2 /كتاب الصيام باب 38/202. (6) مسلم: ج-2 /الصيام باب 36/196. (7) مسلم: ج-2 /الصيام باب 20/134. (8) الترمذي: ج-3/ كتاب الصوم باب 52/757. (9) مسلم: ج-2 /كتاب الصيام باب 36/196. (10) مسلم: ج-2 /الصيام باب 39/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 -3ً- الصيام المكروه -1- يكره إفراد يوم الجمعة بالصيام، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَصُم أحدكم يوم الجمعة. إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) (1) . [ص: 409] -2- يكره إفراد يوم السبت بالصوم، لحديث عبد الله بن بُسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم) (2) فإن لم يفرد ذلك وصام الجمعة والسبت معاً فلا يكره. -3- يكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها. -4- يكره صوم الدهر، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه: ( ... فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر ... ) (3) . -5- يكره إفراد رجب بالصوم لما فيه من تشبيه برمضان، إلا إذا أفطر في أثنائه فلا يكره. -6- يكره صوم يوم الشك تطوعاً، وهو اليوم الذي يشك فيه هل هو من شعبان أو من رمضان، إذا كان صحواً. ويحتمل أنه محّرم لقول عمار رضي الله عنه: (من صام اليوم الذي يَشُك فيه الناس، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) (4) والمعصية حرام. -7- يكره استقبال رمضان بصيام يوم أو يومين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فيصومه) (5) . وما وافق من هذا كله عادة فلا بأس بصومه لهذا الحديث.   (1) مسلم: ج-2 /الصيام باب 24/147. (2) الترمذي: ج-3 /الصوم باب 43/744. (3) مسلم: ج-2 /كتاب الصيام باب 36/196. (4) الترمذي: ج-3 /كتاب الصوم باب 3/686. (5) ابن ماجة: ج-1/ كتاب الصيام باب 5/165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 -4ً- الصيام المُحرَّم -1- يحرم صيام يومي العيدين: يوم الفطر ويوم الأضحى، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر) (1) . [ص: 410] -2- يحرم صيام أيام التشريق الثلاثة، لحديث نُبيشة الهُذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب) (2) . -3- يحرم صيام المرأة نفلاً بغير إذن زوجها إن كان حاضراً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) (3) .   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 65/1890. (2) مسلم: ج-2/ الصيام باب 23/144. (3) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 84/4896. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 حكم الإفطار في صيام غير رمضان -1- يجوز الخروج من صوم التطوع وليس عليه قضاء، لما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء. قال: فإني صائم. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية - أو جاءنا زَوْرٌ - قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رضي الله عنه سول الله أهديت لنا هدية - أو جاءنا زور - وقد خبأن لك شيئاً. قال: ما هو؟ قلت: حَيْس. قال: هاتيه. فجئت به فأكل. ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً) (1) . -2- يستحب الخروج من صوم مكروه، لما روت جويرية بنت الحارث رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري) (2) . -3- يحرم الإفطار من صوم واجب كقضاء أو نذراً أو كفارة، فإن أفطر لم يلزمه أكثر مما كان عليه. [ص: 411]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 32/169. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 62/1885. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الباب الثاني (الاِعتكاف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 تعريفه شرعاً: هو لزوم المسجد لطاعة الله. حكمها: -1- سنة في أي وقت كان، في رمضان أو في غيره، وهو في العشر الأواخر من رمضان آكد منه في غيره، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. حتى توفاه الله عز وجل. ثم اعتكف أزواجهمن بعده) (1) . والاعتكاف ليس بواجب لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوه ولم يأمروا به إلا من أراده. -2- واجب لمن نذره، لما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه) (2) . -3- حرام: آ- حرام على امرأة لم يأذن لها زوجها. ب- حرام على عبد لم يأذن له سيده. أقله: اللبث في المسجد لحظة زمانية بدون تحديد.   (1) مسلم: ج-2 /كتاب الاعتكاف باب 1/5. (2) الترمذي: ج-4/ كتاب النذور والأيمان باب 2/1526 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شروط صحة الاعتكاف: -1- النية: لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنية) ، وإن كان فرضاً لزمه تعيين الفرضية، وينقطع بنية الخروج منه إلحاقاً له بالصيام والصلاة. [ص: 412] -2- الإسلام والعقل والتمييز. -3- أن يكون الاعتكاف في المسجد سواء كان المعتكف رجلاً أو امرأة، لقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) (1) ، وإن أراد الرجل أن يعتكف زمناً تتخلله فريضة وجب أن يكون المسجد من المساجد التي تقام فيها الجماعة، والجامع أفضل لكثرة جماعته. ويعتبر من المسجد سطحه وصحنه إن كان مسوراً ومنارته إن كانت فيه أو كان بابها فيه. ومن نذر الاعتكاف في المسجد بعينه جاز في غيره ما لم يكن هذا المسجد أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى) (2) . وإن نذر الاعتكاف بأحد هذه المساجد فلا يجوز إلا به أو بأفضل منه، وتسلسلها بالأفضلية كما يلي: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى، بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة في ما سواه، إلا المسجد الحرام) (3) ، وعن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعث محمد بالحق لو صليت ههنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس) (4) . -4- الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس. -5- الصوم إن نذر الاعتكاف صائماً، لما روى عمر رضي الله عنه (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة فيي المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك) (5) . ولكن الأفضل الاعتكاف صائماً. [ص: 413] إن نذرت الاعتكاف في زمن معين لزمه في ذاك الزمن، وإن نذر شهر مطلقاً لزمه الاعتكاف ثلاثين يوماً أو الاعتكاف ما بين هلالين، وتدخل فيها الليالي، ويجب التتابع إلا إذا نواه ولا تدخل الليالي.   (1) البقرة: 187. (2) مسلم: ج-2 /كتاب الحج باب 95/511. (3) مسلم: ج-2 /كتاب الحج باب 94/505. (4) أبو داود: ج-3/ كتاب الأيمان والنذور باب 24/3305. (5) البخاري: ج-2 / كتاب الاعتكاف باب 5/1927. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 مبطلات الاعتكاف: -1- الخروج من المسجد لغير عذر عمداً (أما ناسياً فلا يبطل) . -2- الوطء في الفرج ولو ناسياً. -3- المباشر بشهوة مع الإنزال تحرم وتفسد اعتكافه (أما بشهوة دون إنزال تحرم ولا تفسد اعتكافه) ، أما لغير شهوة فمباحة، لما روت عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُدخل عليَّ رأسه، وهو في المسجد، فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) (1) . -4- الردة: لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (2) . -5- إن شرب مسكراً وسكر، أما إن لم يسكر فلا يفسد، وكذا ارتكاب الكبيرة لا يفسد اعتكافه لأنه لم يخرج بذلك عن أهليته له.   (1) البخاري: ج-2 / الاعتكاف باب 3/1925. (2) الزمر: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ما يترتب على من أبطل اعتكافه المنذور: -1- يجب على من أبطل اعتكافه المنذور بأحد المبطلات المتقدمة استئناف النذر المتتابع غير المقيد بزمن، وليس عليه كفارة. -2- يجب استئناف النذر المتتابع المقيد بزمن معين وعليه كفارة يمين لفوات المحل. [ص: 414] حالات الخروج من المسجد في الاعتكاف الواجب: آ- الخروج الجائز: -1- لقضاء الحاجة، لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) . -2- الخروج إلى ما يحتاج إليه من مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به. -3- الخروج لحضور الجمعة إن كان في غير موضع إقامتها إن لم تكن واجبة عليه واشترط الخروج، فإن لم يشترطه وخرج إليها بطل اعتكافه لأن له منه بداً. -4- يجوز له الخروج إن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه، أو لصلاة الجنازة تعينت عليه أو حملها، أو دفنها، ويجوز له في طريقه أن يسأل عن المريض أو غيره دون أن يقف، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة) (1) . -5- خروج المرأة لأجل الاعتداد. -6- الخروج لطروء مرض يتعذر معه الاعتكاف. -7- الخروج بسبب وقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله. -8- الخروج لعموم النفير والاحتياج إليه. ولا يبطل الاعتكاف في حالة الخروج الجائز ما لم يطل الزمان المعتاد لقضاء تلك الحاجة التي خرج لها وأمكنه الرجوع ولم يرجع. ب- الخروج غير الجائز: لا يجوز الخروج من المسجد في الاعتكاف لعيادة مريض أو حضور جنازة لم تتعين عليه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (السنة على المعتكف أن لا يعود [ص: 415] مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بدَّ منه) (1) ، إلا أن شرط في نذره ذلك. جـ- الخروج الواجب: يجب الخروج من المسجد لأجل الحيض والنفاس، أما المرأة المستحاضة فلا يجب عليها الخروج بل لها الاعتكاف مع الاحتراز بما يمنع تلويث المسجد، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطِّسْت تحتها وهي تصلي) (2) . فإذا زال سبب الخروج فهو أمام حالات ثلاث: الأولى: إن كان نذر أياماً معدودة على الإطلاق عاد للاعتكاف وأتمها. الثانية: إن كان نذر أياماً متتابعة غير معينة فهو مخير إما باستئنافها فقط أو بإتمامها وقضاء ما فات بالعذر مع كفارة يمين. الثالثة: إن كان نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب الصوم باب 80/2473. (2) البخاري: ج-2/ الاعتكاف باب 10/1932. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ما يحرم على المعتكف: -1- الوطء: لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (1) . -2- المباشرة بشهوة. -3- السكر من شرب مسكر. -4- البيع والشراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه. [ص: 416] -5- التكسب بالصنعة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد) (1) . -6- أن يخيط في المسجد أو أن يعمل صنعة سواء كان محتاجاً إلى ذلك أو لم يكن. -7- أن يبول في أثناء في المسجد. -8- الفصد والحجامة والقيء في المسجد، وإن دعت إلى ذلك ضرورة خرج كما خرج لحاجته.   (1) البقرة: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ما يجوز فعله في المسجد للمعتكف: -1- الأكل وغسل اليدين فيه، ولا يجوز أن يخرج لغسلها خارج المسجد. -2- غسل الشعر وتنظيفه وترجيله. -3- التطيب ولبس ورفيع الثياب. -4- الزواج وأن يشهد النكاح لذلك. -5- الحديث مع الغير والأمر مع بحاجته، لما روت صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني..) (1) .   (1) البخاري: ج-3/ كتاب بدء الخلق باب 11/3107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ما يستحب للمعتكف: - إملاء الوقت بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن. -2- اجتناب ما لا يعينه من الأقوال والأفعال. -3- اجتناب الجدال والمراء والسباب. -4- المبيت ليلة الفطر في معتكفه إن اعتكف العشر الأخير من رمضان، ومن ثم يخرج إلى المصلى في ثياب اعتكافه. [ص: 417] -5- ترك لبس رفيع الثياب. -6- عدم النوم إلا عن غلبة نعاس. ما يكره للمعتكف: -1- يكره للمعتكف الصمت، لأنه ليس من شريعة الإسلام، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل) (1) ، فإن نذر ذلك فهو كنذر العاصي. -2- يكره له إقراء القرآن وتدريس العلم، ومناظرة الفقهاء، ومذاكرتهم، وكتابة العلم، لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد فلم يستحب ذلك فيها كالصلاة والطواف. -3- يكره له التطيب، لأن الاعتكاف عبادة تختص مكاناً فكان ترك التطيب فيها مشروعاً كالحج، قال الإِمام أحمد: لا يعجبني أن يتطيب. [ص: 418]   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الوصايا باب 9/2873. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 كتاب الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الباب الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 تعريف الحج: لغة: القصد إلى معظَّم. شرعاً: أعمال مخصوصة في زمان مخصوص ومكان مخصوص على وجه مخصوص، أو قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص. حكمه: فرض في العمرة مرة على الفور، فكل من توفرت فيه شروط وجوبه ثم أخره عن أول عام استطاع فيه يكون آثماً بالتأخير. دليل فرضيته: ثبتت فرضية الحج بالكتاب والسنة والإجماع. فمن القرآن قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (2) . ومن السنة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال: رجل: أكل عام؟ يا رسول الله فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك م كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) (2) . وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاة. وحج البيت. وصوم رمضان) (3) . [ص: 422]   (1) آل عمران: 97. (2) مسلم: ج-2 /كتاب الحج باب 73/412. (3) مسلم: ج-1 /كتاب الإيمان باب 5/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ودليل فوريته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالرسول الله: (من أراد الحج فليتعجل. فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة) (1) ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك زاداً وراحلة تُبلِّغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. وذلك أن الله يقول في كتابه: والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (2) .   (1) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 1/ 2883. (2) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 3/812. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 شروط الحج: -1ً- شروط وجوب الحج: أولاً: الإسلام: فلا يجب الحج على الكافر كما لا يصح منه، سواء كان كافراً أصلياً أم مرتداً. ثانياً: العقل: فلا يجب على المجنون كما لا يصح منه كالصبي غير المميز. ثالثاً: البلوغ: فلا يجب على الصبي الذي لم يبلغ الحلم، وإن حج فلا يجزئ عن حجته الإسلام، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى) (1) . فإذا بلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة أو بعده، ثم عاد إلى عرفة فوقف في وقته، أجزأه حجه عن حجة الإسلام، ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً وكان سعى بعد طواف القدوم. والدليل على أن حج الصبي صحيح ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (رفعت امرأة صبياً. فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) (2) ، إلا أنه يجب على الصبي أن يحرم بإذن وليه إن كان مميزاً، فإن أحرم بدون أذنه لم يصح حجه. أما الصبي غير المميز فيحرم عنه وليه الذي يلي ماله، سواء كان الوالي محلاً أو محرماً، وسواء حج عن نفسه أم لم يحج، فيقول: (نويت الحج عن [ص: 423] فلان) فيصير الصبي محرماً دون وليه، وإن أحرمت أمه عنه صحّ، أما الصبي فلا يضح إحرامه عن نفسه، ثم ما قدر الصبي على فعله من أفعال الحج كالوقوف بعرفة وبمزدلفة فعليه فعله، وما لا يمكنه فعله فعَله عنه وليّه كالرمي، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبيّنا عن الصبيان ورمينا عنهم) (3) ولكن لا يجوز الرمي عن الصبي إلا من قبل من أسقط فرض الرمي عن نفسه. أما الطواف فإن أمكنه المشي طاف وإلا طيف به محمولاً، فقد روى الأثرم عن أبي إسحاق (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة) . وأما ما يرتكبه الصبي من محظورات الإحرام إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه فلا فدية فيه، لأن عمد الصبي خطأ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه الفدية. وإن وطئ الصبي أفسد حجه، ووجبت الفدية، ويمضي في حجة فاسدة، وعليه القضاء إذا بلغ، ولا تجزئ حجة القضاء هذه عن حجة الإسلام. رابعاً: الحرية: فلا يجب الحج على العبد، وإن حجّ فحجّه صحيح، سواء كان بإذن سيّده أم بدون إذنه، لكن إذا كان أحرم بإذن سيّده فليس له أن يحلله، أما إن أحرم بدون أذنه فله أن يحلله بعد أن أحرم، وفي كلتا الحالتين لا يجزئ حجه عن حجة الإسلام. وإن نذر العبد الحج انعقد نذره، فإن نذر بإذن سيّده لم يملك منعه من الوفاء به، أما إن نذر بدون أذن وليّه فله أن يمنعه وعليه الوفاء بنذره متى أعتق ولكن بعد حجة الإسلام. وإن أتى العبد بفعل مما يوجب الفدية فعليه أن يفدي بالصيام، وإن أفسد حجه فعليه إتمامه وعليه الصوم بدلاً من البدنة. خامساً: الاستطاعة: فلا يجب الحج على غير المستطيع، بدليل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من أستطاع إليه سبيلاً} ، فلو تكلف العاجز [ص: 424] الحج أجرأه، ووقع موقعه أي سقط عنه رفقاً به، لكن إن حج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم كره له ذلك، وإن لم يكن كلاً على أحد لقوته على المشي والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه فهو مستحب، لقوله تعالى: {يأتون رجالاً وعلى كل ضامر} (4) .   (1) البيهقي: ج-5 /ص 179. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 72/410. (3) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 68/ 3038. (4) الحج: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ماهية الاستطاعة: -1ً- للآفاقي: القدرة على الزاد والراحلة الصالحة لمثله بشراء أو كراء وما يحتاج إليه من آلتها، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة) (1) ، والزاد يشمل ما يلي: -1- المأكل. 2- المشرب. 3- الكسوة لذهابه أو رجوعه. -4- القدرة على الماء وعلف البهائم في محطات الطريق، ولا يكلف بحمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة. 5- القدرة على أوعية الزاد والماء. ويشترط في الزاد والراحلة أن يكونا فاضلين عما يحتاج إليه لقضاء دين حالّ أو مؤجل، وعن نفقة عيال، وما يحتاج إليه من مسكن وخادم حتى يعود، ولا يجب عليه بيع دار سكنه، أو دار يحتاج إلى أجرتها لنفقته أو نفقة عياله، أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات صناعية، أو كتب علم محتاج إليها، لأن كل ذلك أشبه بالنفقة. أما من كان من ذلك زائداً عن حاجته كمن له من كتاب نسختان، أو له دار فاضلة، أو مسكن واسع يكفيه بعضه، فعليه صرف ذلك في الحج. أما من كان معه مال وأراد النكاح به لخوف العنت قدَّم النكاح على الحج، وإن لم يخف اعنت وجب عليه تقديم الحج على النكاح. ومن بذل له ولده أو غيره مالاً ليحج به لم يلزمه قبوله، أو بذل له أن يحج عنه لم يلزمه قبوله أيضاً، لما فيه من المنة والمشقة على نفسه. [ص: 425] -2ً- الاستطاعة للمكي أو لمن بينه وبين مكة دون مسافة القصر: هي القدرة على الحج ماشياً من غير مشقة شديدة، مع القدرة على الزاد. سادساً: أمن الطريق: أي أن لا يكون في الطريق مانع من خوف على نفسه أو ماله أو عرضه، سواء كان الطريق براً أم بحراً، فينبغي أن تغلب السلامة فيه، وإلا لم يجب عليه الحج. وإن كان الطريق آمناً لكن هناك خفارة (قطاع طرق، تطلب منه مالاً كي تسمح له بالمرور) فيجب عليه الحج إن كان المبالغ معقولاً، كما قال ابن حامد، وقال القاضي: لا يلزمه الحج، لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه. وهو شرط للزوم الأداء دون الوجوب إذا توفرت شروط الوجوب. سابعاً: أن يكون المكلف مبصراً، فإن كان أعمى فإنه لا يجب عليه أداء الحج، إلا إذا وجد قائداً يقوده، وإلا لا يجب عليه الحج لا بنفسه ولا بغيره. وهو شرط للزوم الأداء أيضاً. يضاف إلى هذه الشروط شروط أخرى تتعلق بالمرأة. أ- وجود المحرم:. لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم) (1) . شروط المحرم: -1ً- أن يكون زوجها، أو من تحرم عليه مؤبداً، إما بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو من تحرم عليه بسبب مباح كابن زوجها أو أبيه. -2ً- أن يكون ذكراً. -3ً- أن يكون مسلماً حراً بالغاً عاقلاً. أما عبدها فليس بمحرم لها، لأنها تحل له إذا أعتق، وليس بمأمون عليها، وكذا من حرمت عليه بسبب محرّم كالزنا أو وطء لشبهة فليس بمحرم. -4ً- أن تكون المرأة قادرة على النفقة عليه. [ص: 426] موت المحرم: إن مات المحرم في الطريق أتمت حجها إن كانت تباعدت، وإن كانت قريبة رجعت. ولا يحق للزوج منع زوجته من حج الفرض، لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان، لكن يستحب لها استئذانه. أم حج النفل فله منعها منه، لأن حقه ثابت في استمتاعه بها فلا تملك إبطاله بما لا يلزمها، فإن أحرمت بحج التطوع من غير إذنه فله أن يحللها كالعبد وسيده. ب- أن لا تكون معتدة عدة وفاة، لأن عدة الوفاة واجبة في المنزل فتفوت بخروجها، لذا تُقدّم على الحج الذي لا يفوت. فإن مات زوجها في الطريق، وكانت قد تباعدت، فلها أن تتم حجها لأنه لا بد من سفرها فالسفر الذي يحصل به الحج أولى، أما إن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في بيتها. فإن حجت المرأة بلا محرم حرم سفرها وأجزأها حجها.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 74/420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 -2ً- شروط صحة الحج: -1- الإسلام فلا يصح من الكافر كما لا يصح عنه. -2- العقل: فلا يصح من المجنون. -3- التمييز بشرط أن يحرم بإذن وليه، فإن لم يأذن له وليه لم يصح إحرامه. أما المجنون والصبي غير المميز فيصح أن يحرم عنهما وليهما ولكن بشرط أن يُحضِرَهما كل المواقف والمشاهد فيطوف ويسعى بهما ويأخذهما إلى عرفة ... الخ. -3ً- شروط الإجزاء عن حجة الإسلام: -1- البلوغ. -2- الحرية. ودليل ذلك ما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى) (1) . [ص: 427] فإذا بلغ الصبي، أو أعتق العبد، قبل الوقوف بعرفة أو بعده، ثم عاد إليه قبل أن ينتهي وقته أجزأهما عن حجة الإسلام ما لم يكونا أحرما على وجه الإفراد أو القران وسعيا بعد طواف القدوم. -4- شروط الأداء بالنفس: السلامة: أي كونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه أو كبر، وكانت توفرت فيه شرائط الوجوب كلها، وجب عليه أن يستنيب من يحج عنه ويعتمر. الاستتابة بالحج (الحج عن الغير) : حكمها: آ- واجبة على الفور في الحالات التالية: -1- عن الحي المعضوب، أو كبير السن الذي لا يستطيع الظعن، أو المريض الذي لا يرجى برؤه، ويمنعه من الحج فإنه يحج عنه بإذنه، بدليل ما روي عن أبي رزين العقيلي (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر) (1) . -2- من وجب عليه الحج في حياته فمات ولم يحج، سواء كانت حجة الإسلام أو حجة أو نذر أو حجة قضاء، ولو لم يُوص بها، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) (2) ، وروي عنه أيضاً: (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، مات ولم يحج. قال: حجي عن أبيك) (3) . [ص: 428] ب- جائزة في حج التطوع عن الحي والميت، في الحالات المذكورة في وجوب الاستنابة على الفور، لأن ما جاز فرضه جاز نفله.   (1) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 10/2906. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب 33/1754. (3) النسائي: ج-5/ ص 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 شروط المستناب: -1- أن لا يكون عليه حجة فرض (حجة الإسلام أو نذر أو قضاء) ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرُمَة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) (1) . -2- أن يكون حراً ولو امرأة بشرط أن يكون معها محرم. -3- أن يخرج المستناب من بلد المستنيب أو من الموضع الذي أوسر فيه المنيب. - وإن مات الحاج في الطريق استنيب عنه من حيث انتهى عليه، لأنه أسقط عنه ما ساره، وإن مات بعد فعل بعض المناسك فعل عنه ما بقي، لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه كزكاة، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره. فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده حج عنه من حيث تبلغ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . وهذا ما ذهب إليه الإِمام أحمد. نفقة المستناب: تؤخذ نفقة المستناب من تركة الميت من رأس ماله، لأن الحج واجب فكان من رأس ماله كالدين، فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي، وضاق ماله عنهما فإنهما يتحاصا، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أتى رجل [ص: 429] النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان عليها دين أكنتَ قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء) (3) . فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة، ويحج به عنه من حيث يكفي هذا المال، للحديث المتقدم: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . [ص: 430]   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 26/1811. (2) البخاري: ج-6 /كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب 2/6858. (3) البخاري: ج-6 /كتاب الإيمان والنذور باب 29/6321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الباب الثاني (أركان الحج) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أولاً: الإحرام: الإحرام هو قصد الدخول في الحج أو العمرة أو كليهما معاً، ويشترط فيه النية، فلا يصير محرماً بمجرد التجرد أو التلبية من غير نية الدخول في النسك، لحديث: (إنما الأعمال بالنية) (1) ، ولأنه عبادة محضة فافتقرت إلى نية كالصلاة. وإن شك هل أحرم أم لا فهو كالناسي لإحرامه (يرجع إلى الميقات ليحرم) ، ومن نسي بما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء. وإن نوى إحراماً بنسك فسبق لسانه إلى غيره انعقد إحرامه بما نواه دون ما نطق به. ولا يفتقر انعقاد الإحرام إلى التلبية، لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم.   (1) مسلم: ج-3/ كتاب الإمارة باب 45/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 سنن الإحرام: -1- يستحب الغسل لكل محرم، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، لما روى خارجة بن زيد عن أبيه (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) (1) . ويسن الغسل للمرأة حتى في حال الحيض والنفاس، لما ورد في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال اغتسلي. واستثفري بثوب وأحرمي) (2) . [ص: 431] ولا يسن التيمم عند العجز عن الغسل، لأن الحكمة من الغسل النظافة، على قول إحدى الروايتين والمعتمد أنه يتيمم لعموم قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (3) . -2- يستحب قبل الغسل التنظيف بقص الشارب، وأخذ شعر العانة والإِبط، وقص الأظافر وتقليمها، وقطع الرائحة. -3- تطيب البدن، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) (4) ، ولا يسن تطيب الثياب. -4- يسن للرجل لبس إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض. فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) (5) . ولبس نعلين أيضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) (6) . -5- أن يحرم عقب صلاة إما مكتوبة أو نافلة. -6- التلفظ بالنية، وتعيين النسك الذي أحرم به، فإن أطلق صرفه حيث شاء، وإن أحرم بإحرام غيره صح، كأن يقول: أحرمت بمثل ما أحرم بمثل ما أحرم به فلان، لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم. فقال: بم أهللت؟ قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أحسنت) (7) . [ص: 432] -7- أن يشترط حين إحرامه بهذا الشرط يقول: "أن محلي حيث يحبسني". فيقول: "اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقلبه مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث يحسبني"، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج. وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني) (8) ويفيد هذا الشرط في شيئين: آ- أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل. ب- أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره. -8- البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته، لما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه صلى الله عليه وسلم أهلّحين استوت به راحلته قائمة) (9) ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيُّ الحج أفضل؟ قال: العجّ والثجّ) (10) ، وروى ابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من محرم يَضْحى لله يومَه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه) (11) . ويرفع الرجل صوته بالتلبية، لما روى خلاّد بن السائب بن خلاّد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمُرَ أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) (12) . أما المرأة فتسمع نفسها فقط ويكره لها الجهر. وصيغة التلبية: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحُليفة، أهلّ، فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك [ص: 433] والملك، لا شريك لك) (13) . ولا بأس بزيادة قوله: "لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل". وزاد أنس رضي الله عنه: "لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً"، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله تعالى الرضا والجنة، بأن يقول: "اللهم إني أسألك رضاك والجنة" ويستعيذ من النار بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من سخطك ومن النار". ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته، لما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجاً) (14) . - ويستحب الإكثار من التلبية، لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم: (ما من محرم يضحى لله يومَه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه) (15) ، ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع في صعود وهبوط، أو تلبس بمحظور ناسياً، وفي أدبار الصلوات، وإقبال الليل والنهار، وبالأسحار، وإذا التقت الرفاق، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلي إذا رأى راكباً أو صعد أكمة، أو هبط وادياً، وفي إدبار المكتوبة، وآخر الليل) . كما تستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساج الحرم وبقاعه لأنها مواضع النسك، ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل وأمصاره. -9- يستحب للمحرم قلة الكلام إلا فيما ينفع، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (16) فهذا في حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى (17) . ولا يبطل الإحرام بجنون أو إغماء أو سكر كالموت ولا ينعقد مع وجود أحدها. [ص: 435]   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 19/81. (2) مسلم: ج 2/ كتاب الحج باب 19/147. (3) المائدة: 6. (4) مسلم: ج 2/ الحج باب 7/33. (5) الترمذي: ج-3/ كتاب الجنائز باب 18/994. (6) مسند الإِمام أحمد: ج-2 / ص-34. (7) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 22/154. (8) مسلم: ج 2/ الحج باب 15/105. (9) البخاري: ج-2 /كتاب الحج باب 28/105. (10) الترمذي: ج-3 /الحج باب 14/827. والعج رفع الصوت، والثج: إسالة الدماء (نحر البدن) . (11) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 17/2925. (12) الترمذي: ج-3 /كتاب الحج باب 15/829. () البخاري: ج-2 /كتاب الحج باب 25/1474. (14) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 34/215. (15) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 17/2925. (16) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الفتن باب 12/3976. (17) من حكم بن عطاء الله: من قال لأخيه من أين وإلى أين فهذا مما لا يعنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ما يكره للمحرم: -1- حك شعره بأظفاره كي لا ينقطع، فإن انقطع به شعره لزمه فدية. -2- الكحل بالإِثمد غير المطيب، لأنه زينة والحاج أشعث أغبر، وهو في حق المرأة أشد كراهة ولا فدية فيه. -3- النظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع من التزيين، أما إذا كان لضرورة كإزالة شعر بعين فيباح للحاجة ولا يكره. ثانياً: والوقوف بعرفة: دليل ركنيته: ما روى عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) (1) . مكان الوقوف: عرفة كلها موقف إلا بطن وادي عُرْنة، لحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وقفت ههنا وعرفة كلها موقف ... ) (2) ، ويقصد بقوله ههنا: عند الصخرات حيث الجبل ههنا يسمى جبل الرحمة. وحدود عرفة: من الجبل المشرف على وادي عرنة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي حوائط بني عامر، ومسجد نمرة ليس من عرفة. والواجب في الوقوف أن يحضر المحرم بأرض عرفة. ويصح وقوفه حتى لو وقف على غصن شجرة فيها، أو على دابة، والمقصود مطلق الحضور لا خصوص الوقوف، لذا يصح وقوفه إن كان نائماً أو ماراً في طلب آبق أو هارباً، وإن لم يعرف كون الموضع عرفة بشرط وجود نية الحج. [ص: 435] زمن الوقوف: يبدأ الوقوف من طلوع فجر يوم يوم عرفة، ويستمر إلى طلوع فجر يوم النحر، لما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله إني جئت من جَبَلَيْ طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه. فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد أتم حجه، وقضى تفثه) (3) . ولو وقف الناس كلهم أو كلهم إلا قليلاً في اليوم الثامن أو العاشر خطأ فيهما لا عمداً أجزأهم الوقوف.   (1) ابن ماجة: ج-2 /كتاب المناسك باب 57/3015. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 20/149. (3) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 57/891. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 واجبات الوقوف: يجب أن يقف الحاج حتى تغرب الشمس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة (ثم أفاض حين غربت الشمس) (1) ، فإن ترك عرفة قبل الغروب فعليه دم إن لم يعد، أما إن أتى عرفة بعد الغروب أجزأه الوقوف وليس عله دم، للحديث المتقدم: (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) .   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 54/885. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 شروطه: -1ً- أن يكون الحضور باختياره، فلا يصح حضور من أكره على الوقوف. -2ً- أن يكون أهلاً للعبادة، فلا يصح من مجنون ولا سكران ولا مغمى عليه. -3ً- أن يكون في الوقت المعتبر له شرعاً. ولا يشترط للوقوف الطهارة من الحدثين، ولا السترة، ولا استقبال القبلة بل تسن، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (1) . [ص: 436]   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 80/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 سنن الوقوف: -1ً- أن يقف طاهراً من الحدثين. -2ً- الوقوف عند الصخرات الكبار في أسفل جبل الرحمة، لما ورد في رواية جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) (1) . أما النساء فحاشية الموقف أُولى لهن. -3ً- الوقوف راكباً، لما روت أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها (أن ناساً اختلفوا عندها، يوم عرفة، في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره فشربه) (2) . -4ً- أن يكون مفطراً، لأن الفطر أعون له على الدعاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطراً. -5ً- يسن جمع صلاة العصر مع الظهر جمع تقديم، ومن لم يصلِّ مع الإِمام جمع في رحله، ويسن أن يخطب الإِمام خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم وفعلهم في الوقوف ودفعهم. -6ً- يسن الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء، لما روى ابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله عز وجل في عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) (3) ؟ ويستحب أن يكون الدعاء من المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما روي عن طلحة بن عبيد الله بن كريز رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل [ص: 437] الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) (4) . وزاد البيهقي في رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم أجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر. اللهم إني أعوذ بك من شر يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح ومن شر بوائق الدهر) (5) . -7ً- أن لا يدفع من عرفات إلى مزدلفة قبل الإِمام، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفعوا قبله. -8ً- أن يخرج إلى منى يوم التروية قبل صلاة الظهر (أي في اليوم الثامن من ذي الحجة) .   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 19/147. (2) البخاري: ج-2/ الحج باب 87/1578. (3) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 56/3014. (4) البيهقي: ج-5 /ص 117. (5) البيهقي: ج-5 /ص 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ثالثاً: طواف الزيارة: ويسمى طواف الزيارة، لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت، ولا يقيم بمكة، وإنما يبيت في منى، ويسمى أيضاً طواف الإفاضة، لأنه يفعله عند إفاضته من منى إلى مكة. دليل ركنيته: قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (1) ، وحديث عائشة رضي الله عنها (أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذاً) (2) . [ص: 438] وقته: يدخل وقته من بعد نصف ليلة النحر، ولا حد لآخره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم فضت فأفاضت) (3) . ولكن الأفضل فعله يوم النحر، ويكره تأخيره عنه.   (1) الحج: 29. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 144/1670. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 66/1942. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 شروط صحة الطواف: -1- الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر، والطهارة من النجاسة في الثوب والبدن والمكان الذي يطؤه. ويعفى عما يشق الاحتراز عنه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير) (1) . أما إذا كان الحاج طفلاً لم يميز فيصح طوافه ولو كان محدثاً متلبساً بنجاسة. ويجوز الكلام في الطواف للحديث المتقدم، كما يجوز الشرب، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء في الطواف) (2) . -2- ستر العورة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمرّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، يوم النحر، في رهط، يؤذن في الناس: ألا، لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) (3) ، ولأن الطواف عبادة تتعلق بالبدن فشرط لها الستر. -3- النية، لأنها عبادة محضة أشبهت الصلاة، وكذلك الإسلام فلا يصح الطواف من كافر، والعقل فلا يصح أيضاً من مجنون. -4- الطواف بجميع البدن خارج البيت، ويعتبر الشاذروان وحجر سيدنا إسماعيل من البيت، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلمعن الجَدْر - هو الحجر أو الحطيم - أمن البيت هو؟ قال: نعم) (4) . [ص: 439] والدليل على اشتراط كون الطائف خارجاً بجميع بدنه عن جميع البيت، قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . فيكون المرء طائفاً به إذا لم يكن جزء منه فيه، وإلا فهو طائف فيه. لذا من دخل جزء من بدنه في هو الشاذروان أو الحجر، أو مس جدار الحجر أو جدار البيت، لم يصح طوافه، فيعيد الشوط الذي حصل فيه شيء من ذلك. -5- الطواف سبعاً، فإن ترك شيئاً من السبع وإن قل فلا يجزئ. -6- أن يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إلى الحجر الأسود. وإذا شك في العدد لزمه الأخذ بالأقل أثناء الطواف، أما إذا شك بعد الانتهاء فلا شيء عليه. -7- جعل البيت على يساره، فإن نكسه لم يصح طوافه. -8- الموالاة، إلا إذا أقيمت الصلاة، أو حضرت الجنازة، فإنه يصلي ثم يبني على ما طاف، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) (5) ، وعن الإِمام: إذا أعيا في الطواف فلا بأس أن يستريح، أما إن قطع الطواف لغير عذر أو لحاجة استأنفه. -9- أن يكون الطواف داخل المسجد وإن وسع، ويجوز في هواء المسجد وعلى سطحه، ولو مرتفعاً عن البيت. فإن طاف خارج المسجد لم يصح طوافه. -10- محاذاة الحجر بجميع بدنه. -11- دخول وقت الطواف، وأوله بعد نصف الليل ليلة النحر. -12- أن يطوف ماشياً مع القدرة، فلا يجزئ طواف الراكب لغير عذر، وعن الإِمام أحمد أنه يجزئ وعليه دم، وعنه رواية أخرى: يجزى ولا دم عليه وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. أما طواف الراكب لعذر فيجوز بغير خلاف.   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 112/960. (2) البيهقي: ج-5 /ص 85. (3) البخاري: ج-1/ كتاب الحج باب 66/1543. (4) البخاري: ج-1/ الحج باب 41/1507. (5) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين باب 9/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 سنن الطواف: أن يستلم الحجر الأسود بيده في ابتداء الطواف، ويقبله، لما روى سالم أن أباه حدثه قال: (قبّل عمر بن الخطاب الحجر. ثم قال: أمَ والله! لقد [ص: 440] علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (1) . فإن لم يمكنه تقبيله أستلمه وقبّل يده، لما روى نافع قال: (رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده. ثم قبّل يده. وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) (2) . ويسن استلامه في بداية كل طوفة، فإن لم يتمكن من استلامه بيده، اقتصر على استلامه بعصا ونحوها، ثم يقبل ما استلمه به، لما روى أبو الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) (3) ، فإن لم يتمكن من استلامه بشيء أشار إليه بيده أو بشيء، عن بعد، ولا يقبله. أما المرأة فلا يستحب لها مزاحمة الرجال لا ستلام الحجر بل تشير بيدها إليه، قال عطاء: (كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم) (4) . ويستحب أن يقول عند استلامه: "بسم الله والله أكبر. اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، وإتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم" (5) . -2- ين استلام الركن اليماني بيده اليمنى دوت تقبله، لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما تركت استلام هذين الركنين، اليماني والحجر، مذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، في شدة ولا رخاء) (6) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وكل بالركن اليماني سبعون ملكاً. فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: آمين) (7) . [ص: 441] ويسن أن يقول بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، لما روى عبد الله بن سائب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بين الركنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (8) . وفي باقي الطواف يقول: "اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً. رب اغفر وارحم. واعف عما تعلم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم". ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوا بما أحب. ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف لأنه صلاة والصلاة محل القرآن. ولا يسن في الطواف استلام الركنين الشامي والعراقي. -3- أن يطوف ماشياً، بناء على الرواية الثانية، إلا لعذر من مرض أو نحوه، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (9) . -4- يسن الاضطباع للرجل والصبي، في طواف يسن فيه الرمل فقط، وذلك بأن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويتركه مكشوفاً ويرد طرفيه على منكبه الأيسر، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجِعرانة فرَمَلوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم قد قذفوها على عواتقهم اليسرى) (10) . ولا يسن الاضطباع في ركعتي الطواف لكراهته في الصلاة. -5- يسن الرمل (11) للرجل فقط في الطوفات الثلاثة الأولى إذا أعقب الطواف سعي مطلوب، وأن يقول أثناء الرمل: اللهم اجعله حجاً مبروراً - أو عمرة مبرورة - وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وتجارة لن تبور، يا عزيز ويا غفور". [ص: 442] أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع، لأن الرمل شرط في الأصل لإظهار الجد والقوة ولا يقصد ذلك من المرأة، ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي ومن جرى مجراه، وقال بعض أهل العلم: "ليس على أهل مكة رمل ولا على من أحرم منها" (12) . -6- الدنو من البيت للرجل فقط، لأنه أيسر في الاستلام والتقبيل، أما إذا أدى الاقتراب إلى تأذيه أو تأذي غيره فالبعد أولى. -7- الإكثار من الدعاء، ورفع الأيدي في جميع الطواف، وخاصة حين رؤية الكعبة، ومأثور الدعاء أفضل، فالقراءة، فغير المأثور، ويسن الإِسرار بذلك. -8- أن يصلي بعد كل سبعة أشواط ركعتين سنة الطواف، سواء كان الطواف فرضاً أم واجباً أم نفلاً. وإن صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عنهما، وإن جمع بين الأسابيع وصلّى لكل أسبوع ركعتين جاز، لأن عائشة والمسوّر بن مخرمة رضي الله عنهما فعلا ذلك، ولا تجب الموالاة بينهما. وتسن صلاة الركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام وتصح في أي موضع آخر، ويسن أن يقرأ فيهما: (قل يا أيها الكافرون) و (الإخلاص) ، لما روي عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، فرمل من الحجر الأسود ثلاثاً ثم صلى ركعتين قرأ فيهما: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) (13) . -9- يستحب أن يدع الحديث كله إلا ذكر الله وقراءة القرآن أو دعاء أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدّم عند الترمذي: (الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 41 / 248. (2) مسلم: ج 2 / الحج باب 40 / 246. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 42 / 257، والمحجن: القضيب. (4) البيهقي: ج-5/ ص 78. (5) البيهقي: ج-5/ ص 79. (6) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 40 / 245. (7) مسند الإِمام أحمد: ج-2 /ص 353 (الهامش أي منتخب كنز العمال) . (8) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 52 / 1892. (9) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 73/1552. (10) أبو داود: ج-2 / كتاب المناسك باب 50/ 1884. (11) وهو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطا، دون الوثوب والعدو. (12) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 34. (13) البيهقي: ج-5/ ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 رابعاً: السعي بين الصفا والمروة: تعريفه: أصل السعي الإسراع، والمراد به مطلق الشيء. دليل فرضيته: قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج [ص: 443] البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (1) ، وما روت أم حبيبة بنت أبي تجرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يسعى: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (2) .   (1) البقرة: 158. (2) الدارقطني: ج-2/ ص 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 شروط صحة السعي: -1- النية: فلو سعى بقصد طلب غريم له لم يصح. -2- الإِسلام. -3- العقل. -4- أن يكون بعد طواف صحيح ولو مسنوناً، فإن طاف وسعى ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة أو غيرها لم يعتد بسعيه لفوات الترتيب. -5- أن يبدأ الساعي بالصفا، لحديث جابر رضي الله عنه قال: (لما دنا صلى الله عليه وسلم من الصفا قرأ: إن الصفا والمرة من شعائر الله، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا) (1) . فلو عكس لم تحسب المرة الأولى، ويشترط في المرة الثانية أن يبدأ بالمروة وهكذا. -6- أن يكون عدد مرات السعي سبعاً، فلو ترك من السبع شيئاً لم يصح، ويحسب ذهابه من الصفا إلى المروة مرة وعودته مرة أخرى. -7- يشترط استعياب جميع المسافة ما بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه بل يجب على الماشي أن يلصق رجله بالجبل في الابتداء والانتهاء. -8- المشي مع القدرة، وفي رواية أنه سنة.   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 19/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 سنن السعي: -1ً- يستحب بعد صلاة ركعتي الطواف أن يستلم الحجر قبل أن يخرج إلى الصفا. [ص: 444] -2ً- أن يخرج الصفا من بابه. -3ً- أن يرقى الرجل على كل من الصفا والمروة دون المرأة، ثم يقف بعد الرقي مستقبلاً القبلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى على كل منهما حتى رأى الميت، فقد روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنى من الصفا قرأ: إن الصفا والمرة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا. فرقي عليها. حتى رأى البيت فاستقبل القبلة. فوحَّد الله وكبَّره. وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده. أنجز وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذه ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة) (1) . وزاد البيهقي: (اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، وجنبنا حدودك، اللهم اجعلنا نحبك، ونحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك، ونحب عبادك الصالحين، اللهم حببنا إليك، وإلى ملائكتك، وإلى نبيائك ورسلك، وإلى عبادك الصالحين، اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، واجعلنا من أئمة المتقين. اللهم إنك قلت "ادعوني أستجب لكم" وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإِسلام ألا تنزعه مني حتى تتوفني وأنا مسلم، اللهم أحيني على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتوفني على ملته وأعذني من مضلات الفتن) (2) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإِقامة ذكر الله) (3) . -4ً- يسن المشي أول السعي وآخره، ويعدو الرجل بين الميلين الأخضرين، دون المرأة، روى جابر رضي الله عنه قال: ( ... ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت [ص: 445] قدماه في بطن الوادي سعى. حتى إذا صعدتا مشى. حتى أتى المروة. ففعل على المروة كما فعل على الصفا) (4) . -5ً- أن يسعى ماشياً بناء على الرواية الثانية، ويجوز راكباً، عن جابر رضي الله عنه قال: (طاف النبي ص في حجة الوداع على راحلته، بالبيت، وبالصفا والمروة. ليراه الناس، وليشرف وليسألوه. فإن الناس غشوه) (5) . -6ً- الموالاة بين مرات السعي وبين السعي والطواف. -7ً- الطهارة وستر العورة، ولكن لو سعى محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو نفساء، أو عليه نجاسة، أو مكشوف العورة صح سعيه، لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، عند البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (6) ، ولأن الفقهاء من أهل المدينة كانوا يقولون: (أيما امرأة طافت بالبيت ثم وجهت لتطوف بالصفا والمروة فحاضت فلتطف بالصفا والمروة وهي حائض) (7) . ولا يسن تكرار السعي بين الصفا والمروة، إنما هو ركن في الحج مرة وفي العمرة مرة، فمن سعى بعد الطواف القدوم لم يعده بعد طواف الزيارة، أما من لم يسع بعد طواف القدوم أتى به بعد طواف الزيارة، أما قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم) (8) فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والمراد به الحج والعمرة الشاملين على السعي لا السعي فقط. [ص: 446]   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 19/147. (2) البيهقي: ج-5/ ص 94. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 51/1888. (4) مسلم: ج-2/كتاب الحج باب 19/147. (5) مسلم: ج-2/ الحج باب 42/255. (6) البخاري: ج-1/ كتاب الحيض باب 80/1567. (7) البيهقي: ج-5/ ص 96. (8) البقرة: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الباب الثالث (واجبات الحج) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 واجبات الحج هي: -1- الإحرام من الميقات. -2- الوقوف بعرفة إلى الليل لمن وقف نهاراً. -3- المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل. -4- الرمي. -5- المبيت بمنى. -6- الحلق. -7- طواف الوداع. -8- اجتناب محظورات الإحرام. أولاً: الإِحرام من الميقات: تعريف الميقات: الميقات لغة: الحد. وشرعاً: زمن العبادة ومكانها. أقسام الميقات: للحج ميقاتان: مكاني وزماني. آ- الميقات الزماني: شوال وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، آخرها طلوع فجر ليلة النحر. والدليل عليه قوله عز وجل: (الحج أشهر معلومات) (1) . والأفضل ألا يحرم بالحج قبل أشهره، لأنه تقديم للعبادة على وقتها، فإن فعل كره ذلك. [ص: 447] ب- الميقات المكاني -1- للآفاقي: خمسة مواضع: -1ً- ذو الحُلَيفة (أي آبار علي) لأهل المدينة. -2ً- الجُحْفَة (أبدلت برابغ) لأهل الشام ومصر والمغرب. -3ً- قَرْن ويقال له قرن المنازل: لأهل نجد (نجد والحجاز ونجد واليمن) . -4ً- يَلَمْلَم: لأهل اليمن. -5ً- ذات عِرْق: لأهل العراق. ودليل تحديد المواقيت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحُلَيْفَة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) (2) . وعن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عِرْق) (3) . فهذه المواقيت لكل من مر عليها من أهلها ومن غيرهم للحديث. -2- لمن كان منزله بين الميقات ومكة: فميقاته منزل للحديث المتقدم. -3- لأهل مكة: ميقاتهم منها، وسواء في ذلك أهلها أو غيرهم. ويجوز لهم الإحرام من أي موضع في مكة داخلها أو خارجها، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في حجة الوداع: (وإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا فأهللنا من البطحاء) (4) وهي خارج مكة. -4- ومن سلك طريقاً لا ينتهي إلى ميقات أحرم من محاذته، براً أو بحراً، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما فتح هذان المصران، أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً، وهو جَوْر عن طريقنا، وإنا [ص: 448] إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حَذْوَها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عِرْق) (5) . فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أبعدهما عن مكة، وإن لم يحاذ ميقاتاً أحرم على بعد مرحلتين من مكة. -5- ومن جاوز الميقات مريداً غير مكة، ثم أراد النسك أحرم من موضعه.   (1) البقرة: 197. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 7/1452. (3) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 9/1739. (4) مسند الإِمام أحمد: ج-3/ ص 318. (5) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 13/1458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 حكم من تجاوز الميقات بغير إحرام: -1ً- من تجاوز الميقات مريداً للنسك وجب عليه العودة ليحرم منه، فإن لم يرجع عمداً أثم وعليه دم، وإن لم يرجع خوفاً من الرجوع أو خشي الفوات فعليه دم ولم يأثم. أما إن أحرم بعد اجتياز الميقات ثم رجع إليه فلا يسقط عنه الدم، لأنه استقر عليه بإحرامه من دونه فأشبه من لم يرجع، حتى ولو أفسد حجه ظلٍ دم تجاوز الميقات في ذمته ولا يسقطه وجوب القضاء. -2ً- من تجاوز الميقات غير مريد للنسك: فعلى قسمين: -1- لا يريد دخول الحرم: فهذا لا يلزمه الإِحرام بلا خلاف. وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدراً مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة، فلا يحرمون فإن بدا له الإِحرام وتجدد له العزم فعليه أن يحرم من موضعه ولا شيء عليه. -2- يريد دخول الحرم: على ثلاثة أوجه: آ- دخول الحرم لقتال مباح أو لحاجة متكررة: فلا إحرام عليه، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام) (1) . [ص: 449] ب- دخول الحرم من غير مكلف بالحج (كالعبد أو الصبي أو الكافر) ثم أصبح مكلفاً بعد اجتياز الميقات كالعبد إذا أعتق أو الصبي إذا بلغ أو الكافر إذا أسلم، فإنه يحرم من موضعه ولا دم عليه لأنه أحرم من الموضع الذي وجب عليه الإِحرام منه. جـ- دخول الحرم وهو مكلف، ولغير قتال ولا لحاجة متكررة، ولا يريد نسكاً: فيُحرم تجاوزه الميقات بغير إحرام، وإن فعل فلا شيء عليه (2) . ثانياً: الوقوف بعرفة إلى الليل لمن وقف نهاراً: كما سبق ذكره في أركان الحج. ثالثاً: المبيت بالمزدلفة: ويتحقق المبيت بالبقاء فيها إلى دخول النصف الثاني من الليل، فإن ارتحل منها قبل دخول نصف الليل الثاني فعليه دم. ودليل وجوبه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بها. وسماها موقفاً، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت ههنا. ومنى كلها منحر. فانحروا في رحالكم. ووقفت ههنا. وعرفة كلها موقف. ووقف ههنا. وجمع كلها موقف) (3) ، وقف من مزدلفة أجزأه بدليل الحديث. وحدّها: ما بين مأزمي جبل عرفة مُحَسِّر.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 84/451. (2) وعن الإمام أحمد: أنه لا تجب الإحرام، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مكة بغير إحرام. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 20/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 سنن المبيت في المزدلفة: -1- أن يدفع إلى المزدلفة بعد الغروب، ويسير عليه السكينة، لحديث جابر رضي الله عنه: (وأردف أسامة خلفه. وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة) (1) . -2- أن يجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة. [ص: 450] -3- يسن لغير النساء والضعفاء أن يمكثوا فيها حتى يصلوا الصبح أو دخول وقته، ثم يسيروا وشعارهم التلبية مع التكبير، فإذا وصلوا المشعر الحرام (2) وقفوا عليه، مشتغلين بالدعاء والاستغفار إلى الإِسفار، ويكون من دعائهم: "اللهم كما وفقتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق". عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبح بينهما شيئاً. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر. وصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة) (3) . -4- أن يدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس متوجهاً إلى منى، فإذا أتى بطن محسّر أسرع حتى يجاوزه، لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى بطن محسِّر. فحرك قليلاً. ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى) (4) . -5- يستحب أن يأخذ من مزدلفة حصى رمي الجمار، وعددها سبعون حصاة، ومن أينما أخذها جاز.   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 19/147. (2) المشعر الحرام: جبل في آخر مزدلفة يقال له قزح. (3) مسلم: ج-2/ الحج باب 19/147. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 19/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 رابعاً: الرمي: آ- رمي جمرة العقبة يوم النحر: جمرة العقبة: هي آخر الجمرات مما يلي منى، وأولها مما يلي مكة، وهي عند العقبة، والعقبة ليست من منى. وقت رمي جمرة العقبة: أوله: من بعد نصف ليلة النحر، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل [ص: 451] الفجر، ثم مضت فأفاضت) (1) وأفضله: بعد طلوع شمس يوم النحر، ويجوز إلى الغروب، لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم: رميت بعد ما أمسيت، فقال: لا حرج) (2) . أما إذا غربت الشمس ولم يرم فيرمي في أي يوم من أيام التشريق بعد الزوال. ومن ترك رمي جمرة العقبة حتى فات وقتها في آخر يوم من أيام التشريق صح حجه ولزمه دم. ب- رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة بسبع حصيات لكل واحدة في كل يوم، إن لم يتعجل في يومين ويسافر، وإلا سقط عنه رمي اليوم الثالث، لقوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه) (3) . ومن ترك الرمي كله حتى مضت أيام التشريق فعليه دم لأنه ترك نسكاً واجباً، أما إن ترك رمي حصاة أو اثنتين من جمرة أخيرة فعليه إخراج مد أو مدين. ولا يسن لمن أخره عن أيام التشريق أن يأتي به لفوات وقته. وقت رمي الجمرات الثلاثة: من بعد الزوال لكل يوم من أيام التشريق، فإن أخر يوم إلى آخر، أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث، ترك السنة ولا شيء عليه، لكنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، وإنما الواجب الترتيب بالنية كقضاء الفوائت. الاستنابة بالرمي: من عجز عن الرمي لمرض، أو حبس، أو عذر، جاز أن يستنيب من يرمي عنه، لأن جابراً رضي الله عنه قال: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) (4) . ويستحب أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبّر النائب (هذا إذا كان حضر معه مشهد [ص: 452] الرمي) . فإذا رمى عنه ثم برئ لم يلزمه إعادته لأن الواجب سقط بفعل المستناب. وإن أغمي على إنسان فرمى عنه آخر، فإن كان أذن له وإلا فلا.   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 66/1942. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 1291648. (3) البقرة: 203. (4) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 68/3038. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 شروط صحة الرمي: -1- أن يكون الرمي بحجر ولا يجزئ غيره، وأن يكون الحجر المرمي به حجمه بين الحمص والبندق، فلا يجزئ صغير جداً ولا كبير. -2- أن لا يرمي بحجر قد رمي به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بلقطه من غير المرمى. -3- أن يرمي الحصى بالفعل، فلا يكفي وضعه في المرمى بدون رمي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى. -4- أن يكون الحصى سبعه حصيات بسبع رميات، واحدة بعد أخرى، فلو رمى حصاتين أو أكثر برمية واحدة لم تعتبر إلا حصاة واحدة. -5- أن يعلم وصول الحصى إلى المرمى فلو رمى حصاة ووقعت خارج المرمى ثم تدحرجت حتى سقطت في أجزأته. -6- يشترط أن يكون الرمي ضمن وقته من يوم النحر وأيام التشريق، وأن يكون الرمي مرتباً بين الجمرات، بحيث يبتدئ بالجمرة الصغرى وهي أبعدها عن مكة وتلي مسجد الخيف، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. سنن الرمي: -1- أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد راكباً لمن دخل منى راكباً، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم. فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) (1) . -2- أن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي. -3- أن يستقبل القبلة في رمي الجمرات، ويجعل رمي جمرة العقبة على حاجبه الأيمن، لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال: (لما أتى عبد الله جمرة العقبة، [ص: 453] استبطن الوادي واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. ثم قال: والله الذي لا إله إلا هو من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) (2) . -4- قطع التلبية عند البداء بالرمي، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل أخبره (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (3) ، ولأن التلبية للإحرام وبالرمي يَشرع في التحلل منه. -5- أن يكبر مع كل حصاة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر. اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً) (4) . -6- أن يكون الحصى المرمي به قدر حصى الخزف، أي أكبر من الحمص ودون البندق (والمعتمد أنه شرط فلا تجزئ الصغيرة جداً ولا الكبيرة) . -7- يسن الوقوف طويلاً عند رمي الجمرتين الصغرى والوسطى ويدعو الله رافعاً يديه، أما عند جمرة العقبة فلا يسن الوقوف إن فرغ من رميها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 51/310. (2) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 64/901. (3) مسلم: ج-2/ الحج باب 45/267. (4) مسند الإمام أحمد: ج-1 /ص 427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 خامساً: المبيت بمنى أيام التشريق الثلاثة: يجب (1) المبيت بمنى أيام التشريق الثلاثة لمن لم ينفر النفر الأول، وإلا سقط عنه مبيت الليلة الثالثة، كما يسقط عنه رمي يومها، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق) (2) ، وقد رخص صلى الله عليه وسلم للعباس في ترك المبيت لأجل السقاية، فدل ذلك على أنه لا يجوز لغيره تركه. فإن ترك المبيت كله لزمه [ص: 454] دم، وإن ترك مبيت ليلة أو ليلتين ما عدا الثالثة لمن تعجل لزمه دم كذلك على القول المعتمد. أما إن كان ذو عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله جاز له ترك المبيت بمنى (كرعاية الإبل وسقاية الحاج) وبإمكانه أن يجمع رمي الأيام الثلاثة في وقت واحد (كما قدمنا في رمي الجمرات) أو يرمي من كل يوم في الليلة المستقبلة. شروط جواز النفر الأول: -1- أن يكون أنهى رمي الأول. -2- أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في منى، لزمه البيتوتة والرمي من بعد الزوال لقوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) (3) . وإن رحل وخرج ثم عاد إليها لحاجة لم يلزمه المبيت ولا الرمي.   (1) يجب المبيت على إحدى الروايتين، وعلى الرواية الأخرى: لا يجب، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت) . (2) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 78/1973. (3) البقرة: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 سادساً: الحلق أو التقصير: تعريف: الحلق هو استئصال الشعر بالموس، والتقصير هو قطع الشعر من غير استئصال. دليله: قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} (1) . ولما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقصر وليحلل) (2) . والحلق للرجل أفضل من التقصير، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين) (3) . ومن لبد رأسه فيحلق، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن [ص: 455] النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لبد رأسه فليحلق) (4) ، ومن كان لا شعر له فلا شيء عليه، إلا أنه يستحب له أن يمرر الموس على رأسه. ويستحب أن يكون التقصير قدر أنملة، ويجزئ بالأقل، فيقصر من جميع رأسه لا من كل شعرة بعينها. أما المرأة فلها التقصير، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير) (5) ، ويكره لها الحلق، لأن الحلق في حقها مثلى فلم يكن مشروعاً.   (1) الفتح: 27. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 103/1606. (3) البخاري: ج-2/ الحج باب 126/1640. (4) البيهقي: ج-5/ ص-135. (5) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 79/1984. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 سنن الحلق: - أن يكون بعد ذبح الهدي. -2- أن يكبر عند حلقه لأن نسك. -3- أن يستقبل القبلة. -4- أن يبدأ بشقه الأيمن، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى. فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى ونحر. ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن. ثم الأيسر. ثم جعل يعطيه للناس) (1) . -5- يستحب لمن حلق أن يأخذ شاربه وأظافره، لما روى عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبيه (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر هو ورجل من الأنصار فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا فلم يصبه ولا صاحبه شيء وحلق رأسه في ثوبه فأعطاه وقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه وقسم منه عللا رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه..) (2) . ولا بأس لمن حلق أن يتطيب، لحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحُرمِهِ حين أحرم. ولِحلِّهِ حين أحلّ. قبل أن يطوف بالبيت) (3) . [ص: 456] وقت الحلق أو التقصير: يبدأ وقته بعد رمي جمرة العقبة، ويجوز تأخيره إلى آخر أيام التشريق، أما إن أخره عن ذلك ففيه روايتان، إحداهما: عليه دم، والأخرى: لا شيء عليه سوى فعله، لأن الله تعالى بيّن أو وقته بقوله عزّ من قائل: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (4) ، ولم يبن آخر وقته وهو المعتمد.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 56/323. (2) مسند الإمام أحمد: ج-4/ ص 42. (3) مسلم: ج-2/ الحج باب 7/32. (4) البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 سابعاً: طواف الوداع: يجب طواف الوداع على كل من أراد مفارقة مكة، ولو لم يكن حاجاً أو معتمراً. أما من أراد المقام بمكة بعد قضاء نسكه فلا توديع عليه لأن الوداع للمفارق. كما يجب طواف الوداع على من أراد الخروج من مكة، ولو كان مكياً، والابتعاد عنها مسافة القصر، أو العودة إلى وطنه، وإن كان وطنه على مسافة من مكة أقل من مسافة القصر. دليله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الناس ينصرفون في كل وجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) (1) . ويجبر تركه بدم. فإن عاد بعد فراقه، وقبل أن يقطع مسافة القصر، أو قبل وصوله إلى بلده إن كان قريباً، وطاف مودعاً، سقط عنه الدم. أما إن رجع بعد اجتيازه مسافة القصر فلا يسقط عنه الدم، لأن طوافه لخروجه الثاني وقد استقر عليه دم الأول. أما الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ولا دم، بدليل ما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفَّف عن الحائض) (2) ، إلا أنه يستحب للحائض والنفساء أن تقفا على باب المسجد فتدعوان بدعاء المودع. لكن إن طهرت الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة لزمهما الطواف. [ص: 457] ومن مكث بعد الطواف أعاده، إلا إذا مكث لصلاة أقيمت، أو شغل سفر، كشراء زاد، ولم يطل زمن ذلك، أو شد حمولة أو شرب ماء زمزم، أو انتظار رفقة، أو إغماء، أو إكراه، وإن طال زمنه.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 67/379. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 143/1668. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 سنن طواف الوداع: يستحب للمودع أن يصلي ركعتين الطواف خلف المقام، ثم يقف عند الملتزم (1) بين الركن والباب فيدعو ويقول: "اللهم هذا بيتك، وأنا عيدك وابنُ عيدك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير". ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) وسمي بذلك لأنهم يلزمونه للدعاء، وهو ما بين الركن والباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ما يجزئ عن طواف الوداع: من ترك طواف الزيارة فطافه عند الخروج من مكة أجزأه عن طواف الوداع، لأنه يحصل به المقصود منه، كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم وصلاة الفرض عن تحية المسجد. أما إن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة، لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى) ، ويكون حكمه حكم من ترك طواف الزيارة. [ص: 458] ثامناً: اجتناب محظورات الإِحرام محظورات الإحرام هي: ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإِحرام. أولاً: ما يتعلق باللباس: آ- ما يحرم على الرجال: -1- لبس المحيط أو المخيط ببدنه، أو بأي عضو منه، مثل القفازين، سواء كان محيطاً كقميص وقباء (1) أو منسوجاً كدرع أو كيس معقوداً كالطربوش، يحرم ذلك كله إذا لبسه لبساً معتاداً، كأن يضع عباءة على منكبيه دون أن يدخل يديه في كميها، لأنها تستمسك ولو لم يدخل يديه فيها، بدليل ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القُمُصَ، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسّه الزعفران أو الورس) (2) . أما إذا لم يكن الللبس على الهيئة المعتادة، كأن ألقى على نفسه عباءة أو ثوباً وهو مضطجع، وكان ذلك بحيث لو قعد لم تستمسك عليه، فلا حرمة فيه، ولا فدية عليه. وخرج بذلك الإِزار والرداء، فلا يحرم لبسهما وإن كان بهما خياطة، لأن مدار الحرمة على الإِحاطة لا على الخياطة، فإذا لم يجد إزاراً فله لبس السراويل، ولا فدية عليه، لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل) (3) . ومن عدم الرداء لم يبح له القميص، لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته، ولا يجوز له عقد ردائه، وهو الذي يوضع على الأكتاف، ولا أن يزره عليه أو يخله بشوكة أو بغيرها، ولا يغرس طرفيه في إزاره لأنه في معنى عقده، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا تعتقد [ص: 459] عليك شيئاً) (4) . أما الإِزار فله عقده لأنه ضروري لستر العورة، وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل ولا يعقده ولكن يدخل بعضه في بعض، وله أن يضع على خصره الحزام الذي وضع فيه نفقته فإن لم يثبت عقده، لقول عائشة رضي الله عنها: "أوثق عليك نفقتك". أما المنطقة وما لا نفقة فيه فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه. -2- لبس المصبوغ بالورس أو الزعفران (5) ، أما المصبوغ بالعصفر فيباح لبسه سواء كان الصبغ قوياً أو ضعيفاً للحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما. -3- لبس الخفين للحديث المتقدم، فإن لم يجد نعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين (6) ، وعن الإِمام أحمد: لا يقطع الخفين. ومن وجد نعلين لا يمكنه لبسهما لبس الخفين وافتدى لأن إسقاط الفدية مشروط بعدم النعلين. -4- تعمد تغطية الرأس أو بعضه بما يسمى ساتراً، سواء كان مخيطاً أو غيره كالقلنسوة أو الخرقة أو الشال، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمامة، ولقوله في الذي مات محرماً: (لا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) (7) . فمتى غطى رأسه بلاصق معتاد كعمامة، أو سترة بغير لاصق، بأن استظل بمحمل (مظلة) أو ثوب، راكباً أو لا، حرم وفدى، لأنه قصده بما يقصد به الترفه، لأنه ستره بما يستدام ويلازمه غالباً أشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه. بخلاف استظلاله بخيمة أو شجرة أو بيت فله ذلك. وفي الاستظلال بالمحمل رواية ثانية أنه يجوز، لما روت أم الحصين رضي الله عنها قالت: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر [ص: 460] رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) (8) . والأول هو المعتمد. وإن وضع يده على رأسه أو حمل عليه طبقاً فلا بأس إن لم يقصد به الستر. ويعد من الرأس البياض الذي وراء الأذن، ولا فرق بين شعر الرأس وبشرته. وخرج بذلك الوجه فلا تحرم تغطيته. وإن ستر رأسه لعذر من حر أو برد أو مداواة جاز، لكن تلزمه الفدية، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (9) ، وقياساً على الحلق بسبب الأذى.   (1) عباءة. (2) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 20/1468. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 1/5. (4) البيهقي: ج-4/ ص 51. (5) المصبوغ بما له رائحة طيبة. (6) هما معقد الشراك بعد أصابع القدم بأصبع تقريباً. (7) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 14/93. (8) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 51/312. (9) الحج: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ب- ما يحرم على النساء: -1- يحرم على المرأة ستر وجهها بما يعد ساتراً، أما ما لا يعد ساتراً، مثل وضع يدها على وجهها، فلا يحرم، ويجب عليها أن تستر من وجهها مالا يتأتى ستر جميع رأسها إلا به. وإن خشيت الفتنة وجب عليها ستر وجهها، لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه) (1) . أما إن غطته لغير حاجة فعليها فدية. -2- يحرم عليها لبس ما مسه الورس والزعفران من الثياب. -3- يحرم عليها لبس القفازين، لأن إِحرام المرأة في وجهها وكفيها، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى النساء في إحرامهن عن القُفَّازين والنِقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معُصفراً أو خزاً أو حلياً أو سراويل أوقميصاً أو [ص: 461] خفاً) (2) ، وروى النجاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) (3) . ثانياً: ما يتعلق بالبدن: -1ً- إزالة الشعر، لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (4) وقيس عليه سائر شعر البدن، لأنه يتنظف ويترفه بإزالته فأشبه حلق الرأس، وقص الشعر ونتفه كحلقه. ولا يحرم عليه حلق شعر الرأس الحلال لأنه لا يترفه بذلك. ولو دخل الشعر إلى عينه، أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه، فله إزالته، ولا فدية عليه. وكذلك يجوز إزالة الشعر للضرورة، كوجود قروح في الرأس أو شدة حر، وعليه فدية، لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية ... ) (5) . -2ً- يحرم تقليم الأظافر من يد أو رجل بلا عذر، فإن كان لعذر كما لو كسر ظفره فأزاله فلا فدية عليه. -3ً- يحرم استعمال الطيب في بدنه وثيابه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي مات محرماً: (ولا تمسوه طيباً) (6) ، ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما في الحديث المتقدم عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسَّه الزعفران أو الورس) والطيب هو كل ما يُتطيب به أو يتخذ منه طيب كالمسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والورد والبنفسج والياسمين. [ص: 462]   (1) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 34/1833. (2) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 32/1827. (3) البخاري: ج-2/ كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب 24/1741. (4) البقرة: 196. (5) البقرة: 196. (6) البخاري: ج-1/ كتاب الجنائز باب 21/1208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ويلحق بحرمة استعمال الطيب ما يلي: آ- لبس المبخّر بالطيب والمصبوغ به. ب- أكل الطيب أو شربه، أو المخلوط به، سواء كان قليلاً أو كثيراً إلا إذا استهلك الطيب بحيث لم يبق له طعم ولا رائحة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما يضاف إليه الطيب مطبوخاً أو مطبوخ. جـ- الاكتحال بالطيب، أما الاكتحال بما ليس فيه طيب فجائز. د- الادهان بالطيب كدهن الورد والبنفسج والزنبق ونحوها، أما الادهان بما ليس فيه طيب كالزيت والسمن فلا يحرم ولو دهن شعر رأسه ووجه. هـ- شم الورد والياسمين والبنفسج، أي شم كل ما يتخذ منه الطيب، أما نبات البرية كالشيح والإذخر والخزامى والفواكه كالأترج والتفاح والسفرجل والحناء فليس بطيب، لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر، وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم عن أبي داود: (ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب مُعصفراً أو خزاً ... ) . فإن مس المحرم طيباً لا يعلق بيده كقطع الكافور والعنبر فلا فدية فيه، لأنه لم يتطيب، أما إن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا. وكذا إن تعمد شم الطيب، مثل أن يدخل الكعبة وهي تجمرّ، أو حمل مسكاً ليشم رائحته فعليه فدية، لأنه شمه قاصداً له فأشبه ما لو باشره، أما إن لم يقصد شمه كالجالس عند العطار لحاجة أخرى، أو دخل الكعبة ليتبرك بها، أو حمل الطيب من غير مس للتجارة فلا يمنع منه، لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه. ثالثاً: ما يتعلق بالأفعال: -1ً- عقد النكاح: يحرم عقد النكاح إيجاباً لنفسه، أو قبولاً لغيره، بدليل الحديث الذي روي عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنْكِحُ [ص: 462] المحرم ولا يَنْكِحُ ولا يخْطُب) (1) . ولا فدية فيه لأنه لا ينعقد أصلاً، فوجوده كعدمه، وسواء كان بوكالة أو ولاية فلا يصح ولو كان الزواج حلالاً. وتجوز له الخطبة ولكن تكره للحديث، ويؤخذ الحديث على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح ولا يُنكَح) للتحريم، (ولا يخطب) للكراهة. ولا مانع من هذا التفسير قياساً على ما ورد في الآية الكريمة: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (2) فالأكل مباح والإيتاء واجب. ويجوز أن يراجع المحرم المحرمة والمحلّة، سواء طلقها قبل الإحرام أو أثناءه، لأن المراجعة استدامة نكاح، فتصبح بلا كراهية. -2ً- الجماع: يحرم الجماع، لقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (3) وتجب فيه الكفارة. ويحرم على الحلال من الزوجين تمكين المحرم من الوطء، لأنه إعانة له على المعصية. فإن كان الجماع قبل التحلل الأول فسد نسكهما ولو بعد الوقوف بعرفة، ولا فرق بين العامد والساهي، ويجب على الواطئ والموطوءة المضي في النسك الفاسد ولا يخرجان منه بالوطء فحكمه كالإِحرام الصحيح لقوله تعالى: {وأتموا الحج العمرة لله} (4) ، ويقضيانه وجوباً العام الثاني، أما إذا كان الوطء بعد التحلل الأول فلا يفسد النسك وعليه شاة، ولا فدية على مكرهة ونفقة حجة قضائها عليه لأنه المفسد لنسكها. -3ً- تحرم المباشرة بشهوة وإن ينزل، كالمعانقة والقبلة واللمس والنظر، وتجب فيها الفدية، أما لو فعل ذلك مع وجود حائل ففعله حرام، فإن أنزل بما سبق [ص: 464] فعليه بدنة وإن لم ينزل فعليه شاة ولا يفسد حجه. وأما المباشرة بلا شهوة فلا تحرم. -4ً- يحرم الاستمناء سواء كان بحائل أم لا، لأنه حرام في غير الإِحرام ففي الإِحرام أولى. -5ً- يحرم الكلام الفاضح في المسائل الجنسية. -6ً- الفسوق والجدل، لقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (5) ، فينبغي أن ينزه الحاج إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء، فالحاج أحوج ما يكون إلى حسن الخلق والتذرع بالصبر، فإنه يتعرض لكثير من المتاعب في السفر، فليشهد الحاج أنه في حضرة مولاه، وليلاحظ ذلك دائماً، وليلتزم الأدب. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه) (6) . وقلة الكلام في ما لا ينفع مستحبة في كل حال، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وفيما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (7) ، وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (8) . فهذا في حال الإِحرام أشد طلباً وآكد، لأنه حال عبادة واستشعار لطاعة الله. فليشتغل المحرم بالتلبية وذكر الله تعالى وقراءة القرآن وتعليم الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [ص: 465]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب النكاح باب 15/41. (2) الأنعام: 141. (3) البقرة: 197، وفسر الرفث بأنه محركة الجماع وغيره مما يكون بين الرجل وامرأته من التقبيل والمغازلة ونحوهما مما يكون في حال الجماع. وهو أيضاً الفحش، وكلام النساء في الجماع، أو ما ووجهن به من فحش. (4) البقرة: 196. (5) البقرة: 197، والفسوق: هو الخوج عن الطاعة. والجدال: هو أن يجادل رفيقه حتى يغضبه، والمنازعة والسباب. (6) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 79/438. (7) مسلم: ج-1/ كتاب الإِيمان باب 19/74. (8) ابن ماجة: ج-2/ كتاب الفتن باب 12/3976. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 رابعاً: ما يتعلق بالصيد: -1ً- يحرم الصيد البري الوحشي المأكول فقط للمحرم، لقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} (1) داخل الحرم أو خارجه، أم صيد الحرم فيحرم على المحرم والحلال طوال العام، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: ( ... إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي. ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعضد شوكه. ولا ينفر صيده. ولا يلتقط إلا من عرَّفها. ولا يختلى خَلاها، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإِذخر. فإنه لِقَيْنِهِم ولبيوتهم. فقال إلا الإِذخر) (2) . وحكمه في الجزاء حكم صيد الإِحرام لأنه مثله في التحريم. ويشترط في الصيد المحرم ثلاثة شروط: أ- أن يكون برياً، فلا يحرم الصيد البحري (3) ، بدليل قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (4) . ب- أن يكون وحشياً، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام والدجاج فليس بمحرم، لأنه ليس بصدد الاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والحمام لم يحل وفيه الجزاء، ولو توحش الأنسي لم يحرم. جـ- أن يكون مما يؤكل لحمه، أما ما لا يؤكل لحمه فلا حرمة في صيده، ولا فدية فيه، إلا أنه إذا كان غير مؤذٍ فيكره قتله، وإن كان مؤذياً فيباح قتله بلا كراهة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ص: 466] (خمس من الدواب، ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والفأرة والعقرب، والكلب العقور) (5) ، والحديث ليس على سبيل الحصر، وإنما ينطبق على كل حيوان مؤذ. فإذا تولد الحيوان من حيوان مأكول وغيره كالسمع، وهو ولد الضبع من الذئب، يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل كما غلبت فيه حرمة الأكل. وكذا المتولد بين أهلي ووحشي. -2ً- يحرم تنفير الحيوان البري الوحشي المأكول، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيده) فإن نفرّه فهلك بتنفيره ضمنه. -3ً- يحرم الإعانة على قتله بدلالة بقول أو إشارة، أو إعانة آلة، لأن ما حرم قتله حرمت الإِعانة على قتله. فإن أعان حلالاً على قتله فالجزاء على المحرم، وإن أعان محرماً على قتله فالجزاء بينهما. -4ً- يحرم التعرض لجزئه مثل بيضه أو فرخه، فإن أتلفه ضمنه، إلا إن كان البيض مذراً (فاسداً) فلا شيء عليه. -5ً- يحرم شراء الصيد وهبته، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن الصعب بن جثامة (أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو بالأبواء - أو بودان -، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما رأى ما في وجهي قال: إنا لم نرده عليك، إلا أنّا حُرُمٌ) (6) . أما إن كان مالكاً له قبل إحرامه فيبقى في ملكه ولا يجب عليه إرساله.   (1) المائدة: 96. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 82/445. (3) وصيد البحر: هو ما يفرخ فيه ويأوي إليه، فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرّم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه. (4) المائدة: 96. (5) البخاري: ج-2/ الإحصار وجزاء الصيد باب 18/1731. (6) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 8/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 حكم أكل المصيد للمحرم: -1- يحرم أكل لحم ما صاده المحرم على المحرم وغيره لأن المحرم مُنع من الذبح لحق الله تعالى. [ص: 467] -2- يجوز أكل لحم ما صاده الحلال للمحرم وغيره. -3- يحرم أكل لحم ما صاده الحلال بإشارة إعانة من المحرم على المحرم فقط، ليس على الحلال. -4- يحرم أكل لحم ما صاده الحلال لأجل المحرم على المحرم فقط وأحل؟؟ الحلال، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم) (1) . -5- يحرم أكل البيض على المحرم إن كسره، ولا يحرم على الحلال لأنه لا يحتاج إلى ذكاة وفيه جزاء.   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 25/846. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 خامساً: ما يتعلق بشجر الحرم وحشيشه: يحرم على المحرم والحلال التعرض لشجر الحرم الرطب الذي لم ينبته الآدمي وحشيشه، بقطع أو قلع أو تلاف، ولا لغصن من أغصانه حتى الشوك والعوسج، ومن قطعه فلا يباح له ولا لغيره الانتفاع به، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إلا وأنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يُعضد شجرها) (1) ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث المتقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاها. فقال العباس: يا رسول إلا الإذخر، فإنه لقينهم لبيوتهم فقال إلا الإِذخر) (2) . ويستثنى ما يلي: -1ً- والإِذخر والكمأة. -2ً- ما زرعه الإنسان من بقل ورياحين وشجر غرس من غير شجر الحرام لأنه كالحيوان الأهلي. [ص: 468] -3ً- الثمر. -4ً- قطع الشجر اليابس لأنه بمنزلة الميت، أما قلعه من جذوره فيحرم. -5ً- يجوز أخذ ما تناثر أو يبس من الورق، أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فل الآدمي، أما ورق الشجر الأخضر فلا يجوز أخذه والانتفاع به. ومن قلع شجرة لزمه ردها إلى موضعها كمن صاد صيداً لزمه إرساله، فإن أعادها فيبست ضمنها لأنه أتلفها. كما يحرم صيد المدينة وشجرها، لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور) (3) ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عِضاهها (4) ولا يصاد صيدها) (4) .   (1) البخاري: ج-1/ كتاب العلم باب 39/11، ويعضد: يقطع. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 82/ 445، ويختلي: يقطع، وخلاها: نباتها الرطب. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 85/467، وعَيْر: جبل خارج المدينة على طريق جدة. وثور: جبل صغير إلى جانب جبل أُحد، وه غير ثور الذي فيه غار حراء خارج مكة المكرم. (4) مسلم: ج-2/ الحج باب 85/458، وعضاهها: لعضاه كل شجر يعظم وله شوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ما يجوز للمحرم فعله: -1- أن يغتسل المحرم بالماء والصابون، لقولا النبي صلى الله عليه وسلم في الذي مات محرماً: (اغسلوه بماء سدر) (1) ، ويكون ذلك بصب الماء على الرأس، ولا بأس ن كان الصابون ذا رائحة إلا أنه مكروه وقيل عليه صدقة. -2- أن يحتجم وأن يفتصد دون أن يقطع شعراً، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) (2) . -3- أن يتقلد بالسيف عند الضرورة، لأن أصحاب رسول الله صلة الله عليه وسلم دخلوا في عمرة القضاء متقلدين سيوفهم. [ص: 496] -4- يجوز للمحرم الحاج التجارة والتكسب والصناعة لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (3) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج) (4) . وأخيراً فإن محظورت الإحرام على وجه الإجمال تسعة: حلق الشعر، تقليم الأظافر، تغطية رأس الذكر، لبسه المخيط، الطيب، قتل صيد البر واصطياده، عقد النكاح، الوطء، المباشرة دون الفرج. [ص: 470]   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 14/93. (2) مسلم: ج-2/ الحج باب 11/87. (3) البقرة: 198. (1) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 149/1681. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الباب الرابع (سنن الحج) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 -1- يستحب الاغتسال لدخول مكة، وأن يدخلها من أعلاها من ثنية كداء، ويخرج من أسفلها، لما روى نافع قال: (كان ابن عمر رضي الله عنهما، إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طِوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) (1) . -2- أن يدخل الحرم من باب بني شيبة، لقول عطاء: "يدخل الحرم من حيث شاء. قال: ودخل النبي الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا) (2) . -3- أن يدعو عند رؤية البيت، ويرفع يديه، لما روى ابن جريج (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً) (3) . وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينتظر إلى البيت يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام حيّنا ربنا بالسلام" وزاد الأثرم: "الحمد لله رب العالمين كيراً كما هو أهل له وكما ينبغي لكريم ووجهه وعز جلاله. الحمد لله الذي بلّغني بيته ورآني لذلك أهلاً. الحمد لله على كل حال. اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك. اللهم تقبل مني واعفُ عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت". [ص: 471] -4- أن يبدأ بالطواف، لما روت عائشة رضي الله عنها (أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة) (4) ، ولأن الطواف تحية المسجد كالركعتين في غيره من المساجد، وينوي به طواف القدوم ن كان محرماً بحج أو قارناً، وينوي به طواف العمرة إن كان متمتعاً. -5- الإكثار من الطواف بالبيت، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طاف بالبيت وصلى ركعتين كان كعتق رقبة) (5) . -6- يستحب الشرب من ماء زمزم لما أحب، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) (6) . ويستحب أن يقول ند شربه: "بسم الله. اللهم اجعل لنا علماً نافعاً ورزقاً واسعاً، واجعله لنا ريّاً وشبعاً وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك". -7- الإكثار من التلبية في حال إحرامه كما مر في سنن الإحرام. -8- يستحب الخروج يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) قبل صلاة الظهر إلى منى، والمبيت بها إلى الضحى، ومن ثم مغادرتها إلى عرفة. فإن لم يكن محرماً أحرم بالحج من الحرم، ثم يطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين، ثم يستلم الركن وينطلق منها مهِلاًّ بالحج، لأن عطاء كان يفعل ذلك. -9- أن يغادر منى قبل الظهر لى عرفة. -10- أن يجمع صلاة الظهر مع العصر جمع تقديم، من له الجمع وهو المسافر سفر قصر، في عرفة بأذان وإقامتين ومن لم يصلِّ مع الإمام جمع في رحله. -11- أن يجمع صلاة المغرب مع العشاء في مزدلفة جمع تأخير. -12- أن يغادر عرفة عقب الغروب مباشرة. -13- أن يخطب الإِمام ثلاث خطب: يوم عرفة في مسجد نمرة، ويوم النحر بمنى، يعلم الناس فيهما مناسكهم وأفعالهم في وقوفهم وفي الإفاضة والرمي [ص: 472] والمبيت بمنى، وخطبة ثالثة يوم النفر، وهو أوسط أيام التشريق، يعلم الناس فيها حكم التعجيل والتأخير والوداع، لما روى أبو نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته) (7) . ويقصر الخطبة يوم عرفة، ثم يأمر بالأذان، ويصلي بهم الظهر والعصر بأذان وإقامتين، لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة وقال: إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم ... إلى آخر خطبته (قال: ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف) (8) . -14- يسن يوم النحر أن يفعل فيه ستة أشياء: الوقوف في المشعر الحرام، ثم الإفاضة إلى منى، ثم الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم طواف الزيارة، والسنة ترتيبها هكذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في حديث جابر رضي الله عنه ويره، فإن فعل شيئاً قبل شيء جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عمن حلق قبل أن يذبح، ونحوه، فقال: لا حرج) (9) ، وروي عنه أيضاً: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم زرت قبل أن أرمي، قال: لا حرج. قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج. قال ذبحت قبل أن أرمي، قال لا حرج" (10) إلا إذا قدّم الحلق على الرمي فعليه دم، لأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (11) ، ولأن الحلق كان محرّماً قبل التحليل الأول ولا يحصل إلا بالرمي. [ص: 473] -15- تسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً) (12) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى) (13) . ويصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام) (14) . [ص: 474]   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 38/ 1573. (2) البيهقي: ج-5/ ص 72. (3) البيهقي: ج-5/ ص 73. (4) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 62/ 1536. (5) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 32/2956. (6) الدارقطني: ج-2/ ص-289. (7) أبو داود: ج-2/ كتاب المناسك باب 71/1952. (8) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 19/147. (9) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 19/ 1634. (10) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 62/ 1635. (11) البقرة: 196. (12) البيهقي: ج-5/ ص 245. (13) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 95/511. (14) مسلم: ج-2/ الحج باب 94/505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الباب الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الفصل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أوجه تأدية الحج أوجه تأدية الحج ثلاثة هي: -1- التمتع. -2- الإفراد. -3- القران. -1- التمتع: وهو أن يحرم بعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه، وعليه دم، لأنه في التمتع يفوت الإِحرام بالحج من ميقات بلده، ولأنه يتمتع بمحظورات الإِحرام ما بين العمرة والحج. قال تعالى: (فمن تمتع بلعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) (1) . -2- الإِفراد: وهو أن يحرم بالحج مفرداً من ميقات بلده ثم يحرم بعمرة بعد فراغه من الحج. -3- القران: وهو أن يحرم بهما معاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإِحرام بالحج قبل الطواف إن لم يكن معه هدي، فإن كان معه هدي فيجوز ولو بعد السعي لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هديٌ فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً) (2) . ويجب على القرن دم، لأن القران نع من التمتع فيدخل في عموم الآية: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) ، ولأن ترفه بترك أحد السفرين، ولفوات أعمال العمرة كلها لأنها تندمج بأفعال الحج. [ص: 475] وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإِسلام. وأفضل هذه الوجوه على الترتيب: -1ً- التمتع: لما روى جابر رضي الله عنه (أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم أحِلّوا من إحرامكم، بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا، ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة. فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلو ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله. ففعلوا) (3) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولَحَلَلْت مع الناس حين حلوا) (4) . فيدل هذا على فضيلة التمتع. ويستحب للقارن ولمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج وينويا عمرة مفردة ليصيرا متمتعين لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم. وقال سلمة ابن شبيب لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: "يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة تقول بفسخ الحج. فقال أحمد: قد كنت أرى لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك: -1ً- أما من ساق الهدي فليس له ذلك للحديث المتقدم ولقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (5) . -2ً- الإفراد بعد التمتع، لأنه يأتي بنسكين كاملي، والقارن يقتصر على عمل الحج فقط. [ص: 476] -3ً- القران. حكم تغيير نية الإِحرام: -1- لا يصح للمفرد أن يدخل على الحج عمرة ولا يصبح قارناً، لأن إحرامه بها لا يزيده عملاً على ما لزمه بإحرام الحج لا يغير ترتيبه. -2- يجوز للمتمتع (6) أن يدخل الحج على العمرة، ويصبح قارناً، ولو لم يكن هناك عذر بشرط أن لا يكون طاف طواف العمرة، إلا إن كان معه هدي فله ذلك ولو كان طاف وسعى لأن من سق هدياً لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه، فلا يتحلل بطواف ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة ويصير قارناً. -3- يجوز للمفرد أن يفسخ حجه، ويتحلل بعمرة، ويصبح متمتعاً، بل إن ذلك مستحب له لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم. -4- ويستحب للقارن أن يفسخ حجه، ويتحلل بعمرة إن لم يكن وقف بعرفة، ويصبح متمتعاً، ولو طاف وسعى إن لم يسق معه هدي، وإلا فليس له أن يحل من إحرامه بالحج ويجعله عمرة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى، فإنه لا يحلُّ من شيء حَرُمَ منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصرِّ ولْيَحْلِلْ ثم لْيُهِلَّ بالحج ولْيُهْدِ. فمن لم يجد هدياً، فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) (7) .   (1) البقرة: 196. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 17/111. (3) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 33/ 1493. (4) البخاري: ج-2/ كتاب التمني باب 3/ 6802. (5) البقرة: 196. (7) مثال عن العذر: إذا حاضت المتمتعة قبل طواف العمرة وخشيت فوت الحج أحرمت بالحج مع العمرة وصارت قارنة. (8) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 14/174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 شروط تحقق الدم على المتمتع والقارن: -1- شروط تحقق وجوب الدم على المتمتع: -1ً- أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، لقوله تعالى: {ذلك لمن لم [ص: 477] يكن أهله حاضري المسجد الحرام} (1) . وحاضرو المسجد الحرام هم أهل الحرم ومَن بينهم وبينه دون مسافة القصر. -2ً- أن يكون معتمراً في أشهر الحج، فلو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وحل منها في أشهره لم يكن متمتعاً. -3ً- أن يحج من عامه الذي اعتمر فيه. -4ً- أن لا يسافر بين العمرة والحج مسافة قصر فأكثر. -5ً- أن لا يحل من عمرته قبل إحرامه بالحج. -6ً- أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو أثنائها، فلا تكفي نية العمرة فقط بل لا بد من ملاحظة الحج. -2- شروط تحقق الدم على القارن: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. ماهية الدم الواجب في المتمتع والقران: شاة، أو سبع بدنة، فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيراً. وقت وجوبه: ذا أحرم بالحج (2) ، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (3) . وقال القاضي: يجب الدم إذا وقف بعرفة. وقت ذبحه: المعتمد في المذهب أنه لا يجزئ ذبح ما وجب على المتمتع والقارن قبل يوم النحر، فإن فعل فعليه دم آخر ويمتد إلى ثاني أيام التشريق، وفي رواية ثانية: يجوز النحر قبل إحرامه بالحج ولكن بعد إحرامه بالعمرة (4) ، ولا يجوز تقديم النحر قبل الإِحرام بالعمرة لأنه تقديم له على سببه (5) (الإِحرام بالحج والعمرة) فأشبه تقديم الزكاة على النصاب. [ص: 478] وأفضل وقت للذبح يوم النحر. ما يقوم مقام الفدي في حال فقده: من لم يجد الهدي لفقده، ولعدم القدرة على شرائه في موضعه، فعليه صم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} (6) . إذن الفدية بالصيام على الترتيب لا التخيير، أي في حال فقد الهدي ينتقل إلى الصوم، فإن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه.   (1) و (3) البقرة: 196. (2) عند الشافعي وأبو حنيفة والإِمام أحمد رضي الله عنهم. (4) أي يجوز تقديم وقت الذبح على وقت وجوبه لأنه وُجد سببه وهو الإِحرام بالعمرة. (5) قال الإمام أحمد: إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته لئلا يضيع أو يموت أو يسرق، فإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى. (6) البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقت الصوم: -1- صوم ثلاثة أيام: له وقتان. آ- وقت استحباب: يستحب أن يكون آخرها قبل يوم عرفة ليحصل صومها أو بعض صومها بعد إحرامه بالحج. ب- وقت جواز: يجوز صومها بعد إحرامه بالعمرة، أم قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) أي في قت الحج أي في أشهره. ولا يجوز الصوم قبل الإحرام بالعمرة. -2- وقت اختيار: إذا رجع إلى أهله، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما في الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) . ب- وقت جواز: يجوز صومها بعد أيام التشريق، أي يجوز صومها في مكة أو في طريقه إلى بلده. ولا يجب التتابع في كليهما لأن الأمر بالصوم مطلق كقضاء رمضان. [ص: 479] فإن لم يصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر صام أيام منى على إحدى الروايتين، لما روي عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) (1) ، وعلى الرواية الثانية لا يصومها، لما روي عن نبيشة الهُذَليِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب) (2) ويصوم بعد ذلك عشرة أيام. [ص: 480]   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الصوم باب 67/ 1894. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الصيام باب 23/144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الفصل الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 التحلل من الإِحرام للحج تحللان: -1- التحلل الأول: يحصل بفعل اثنين من ثلاثة وهي: رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة. إما أن يرمي ويحلق أو يطوف ويحلق. -2- التحلل الثاني: يحصل بفعل الثالث منها. هذا إذا كان سعى سعي الحج بعد طواف القدوم، أما إن لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة ويتوقف تحلله على السعي. فإن تحلل التحلل الأول بالطواف والحلق توقف تحلله الثاني على الرمي، فإن فات وقت الرمي ولم يرم سقط عنه وتحلل التحلل الثاني بسقوطه. ويحل بالتحلل الأول كل محظورات الإحرام، إلا النكاح وعقده، والمباشرة بشهوة، والوطء. ويحل بالتحلل الثاني ما تبقى منها، وهي كل ما يتعلق بالعلاقة بالنساء. والدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حللتم من كل شيء كان عليكم حراماً إلا النساء، حتى تطوفوا بالبيت) (1) . [ص: 481]   (1) البيهقي: ج-5/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الفصل الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 إفساد الحج لا يفسد الحج إلا بالوطء في الفرج قبل التحلل الأول، سواء كان الوطء في القبل أو الدبر من آدمي أو بهيمة، ولو بغير إنزال، وسواء كان الواطئ عامداً أو ناسياً، عالماً أو جاهلاً. (وكذا يفسد حج المرأة ولو كانت مستكرهة أو نائمة) . أما الوطء في غير الفرج (ومثلها المباشرة بشهوة) فلا يفسد الحج، ولكن إن أنزل فعليه بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة. وكذلك النظر لا يفسد الحج، وإن أنزل فعليه شاة، أما إن أنزل لتكرر النظر فعليه بدنة، فإن لم ينزل فليس عليه شيء. أم الفكر فلا يفسد الحج ولا شيء عليه أنزل أو لم ينزل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت بنفسها ما لم تعمل أو تكلِّم به) (1) . ما يترتب على من فسد حجه: -1- المضي بالنسك الفاسد، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} . -2- ذبح بدنة على الواطىء، وكذا على المرأة الموطوءة إن كانت مطاوعة له أو هي المتسببة، أما إن كانت مكرهة أو نائمة فلا بدنة عليها. -3- القضاء على الفور: أي الحج في العام الثاني. ويشترط لهما الإِحرام من نفس الميقات الذي أحرما منه بالنسك الفاسد، أو ما يوازيه إن سلكا طريقاً غيره. ويسن أن يتفرقا في حجة القاء، أي أن لا يركبا معاً على دابة واحدة، وأن لا يجلسا معاً في خيمة واحدة (وإن كانت المرأة مطاوعة في الجماع فعيه نفقة [ص: 482] القضاء) بدليل الحديث الذي رواه البيهقي (أن رجل من جذام جامع امرأته وهما محرمان، فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهما: اقضيا نسككما، وأهديا هدياً، ثم ارجعا، حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا، ولا يرى واحد منكما صاحبه، وعليكما حجة أخرى، فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه فأحرما وأتما نسككما وأهديا) (2) . أما الوطء في الفرج بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، ولو كان الوطء بعد الرمي وقبل الحلق، فلا يفسد الحج، ولكن عليه أن يخرج إلى الحل فيحرم لطواف الزيارة بإحرام صحيح وعليه دم أيضاً. فإن طاف للزيارة ولم يرم ثم وطئ لا يلزمه إحرام من الحل لأن الحج قد تمت أركانه كلها والرمي ليس بركن وعليه دم. [ص: 483]   (1) مسلم: ج-1/ كتاب الإِيمان باب 58/202. (2) البيهقي: ج-5/ ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الفصل الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فوات الحج يفوت الحج بفوات الوقوف بعرفة، سوء كان من فاته معذوراً أم لا. ويكون الفوات بطلوع فجر يوم النحر قبل حضوره عرفة، لم روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن فاته عرفات فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل) (1) . أما إن أخطأ الناس جميعهم فوقفوا في غير يوم عرفة (اليوم الثامن أو العاشر) أجزأهم ذلك. وإن وقع لنفر منهم لم يجزئهم لأنه تفريط منهم، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال لهبار بن الأسود: "ما حسبك؟ " قال: كنت أحسب أن اليوم عرفة، فلم يعذر بذلك. ما يترتب على من فاته الحج: -1ً- أن يتحلل بعمرة (أي يطوف ويسعى بإحرامه ثم يتحلل) . -2ً- القاء على الفور ولو كان الحج نفلاً لأن بالشروع فيه التزمه، بدليل قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} . -3ً- نحر هدي في حجة القضاء، لما روى الأسود قال: (سألت عمر رضي الله عنه عنرجل فاته الحج، قال: يهل بعمرة، وعليه الحج من قابل، ويهريق دماً) (2) . [ص: 484]   (1) الدارقطني: ج-2/ ص-241. (2) البيهقي: ج-5/ ص-175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الفصل الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الإِحصار تعريف الإِحصار: لغة: المنع. وشرعاً: منع المحرم من إتمام ما يوجبه الإِحرام قبل أداء ركن النسك. والإحصار نوعان: أولاً: الإحصار العام: -1- الإحصار عن الدخول إلى الحرم: آ- إذا منع المحرم من دخول الحرم من قبل عدو للمسلمين لا يصل إليه إلا بعد الفوات، لم يجز له التحلل بل يجب عليه المضي والتحلل بعمرة. ب- إن لم يجد طريقاً آخر لا من قريب ولا من بعيد فعليه التحلل بذبح هدي ومن ثم بالحلق، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} (1) ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حصره العدو بالحديبية فتحلل وذبح الهدي حيث أُحصر. ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به ثم الحلق، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه سلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه) (2) . فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثم يحل، فإن نوى التحلل قبله فلا يحل بل يبقى على إحرامه. هذا، ولا قضاء على من أحصر، فإن قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عمرة الحديبية وسميت الثانية عمرة القضية، فإن الذين صُدوا في الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة والذين اعتمروا في القضاء كانوا نفراً يسيراً ولم يأمر الباقين بالقضاء. [ص: 485] فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر فلا يجوز له التحلل، لأنه زال العذر ولو بعد الفوات، وعليه أن يمضي ويتحلل بعمرة وعليه هدي للفوات لا للحصر.   (1) البقرة: 196. (2) البخاري: ج-2/ الإحصار وجزاء الصيد باب 4/1717. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 -2- الإحصار عن عرفة فقط: ومن صد عن عرفة وتمكن من البيت فله أن يتحلل بعمرة، لأن له ذلك من غير حصر فمعه أولى وليس عليه دم. ثانياً: الإحصار الخاص: مثل من أحصر بمرض، أو بفقد نفقة، حبسه سلطان أو غريم ظلماً أو بحق لا يقدر على إيفائه. أو العبد إذا منعه سيده، أو الزوجة منعها زوجها، أو بعدم اهتدائه إلى الطريق، فهو كالإحصار العام في جواز التحلل لعموم الآية، ولأنه روي عن الحجاج بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كُسِرَ وعرِجَ فقد حَلْ، وعليه حجة أخرى) (1) ، ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو على إحدى الروايتين. والرواية الثانية: ليس له التحلل حتى يقدر على البيت الحرام وهو المعتمد، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا حصر إلا من حبسه عدو فيحل بعمرة، وليس عليه حج لا عمرة) (2) ، لأنه لا يستفيد بالتحلل انتقالاً من حال إلى حال أحسن منها. فإن فاته الحج تحلل بعمرة ولا ينحر هدياً كان معه إلا بالحرم. أما من شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك ولا شيء عليه، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج فما تأمرني؟ قال: أهلِّي بالحج، واشترطي أن محلِّي حيث تحسبني) (3) . فالشرط يفيد إباحة التحلل عند المرض فإن لم يشترط لم يجز له التحلل حال المرض. [ص: 486]   (1) الترمذي: ج-3/ كتاب الحج باب 96/940. (2) فتح الباري: ج-4/ ص-3. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 15/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الفصل السادس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فدية محظورات الإِحرام -1- فدية الحلق: وتشمل إزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها، سواء لعذر أو غيره، وسواء كان الفاعل عامداً أم جاهلاً أم ناسياً. ماهيتها: -1ً- ففي حلق جميع الشعرة أو بعضها، أي إما قص أو نتف، مد من طعام. -2ً- وفي الشعرتين مدان. -3ً- وفي الثلاث كحلق الرأس كله إما ذبح شاة أو إطعام ثلاث أصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (1) . أي أن الدم الواجب فيها على التخيير والتقدير فهو مخير بين الصوم أو الصدقة أو الذبح ولا تعديل بينها، لما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية. فقال له: آذاك هوامُّ رأسك؟ قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكاً. أو صم ثلاثة أيام. أو أطعم ثلاثة آصُعٍ من تمر، على ستة مساكين) (2) . ومن أبيح له الحلق لعذر فهو مخير في الفدية قبله أو بعده كما هو مخير في كفارة اليمين قبل الحنث وبعده. ولا تتكرر فدية الحلق بتكرره ما لم يكفر عن الحلق الأول قبل فعل الثاني، فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانياً فعليه فدية ثانية أيضاً. -2- فدية تقليم الأظافر: هي نفس فدية الحلق، ففي الظفر كالشعرة وفي الظفرين كالشعرتين وهكذا ... [ص: 487] -3- فدية اللبس والتطيب: ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب عامداً (أما إن كان ناسياً أو جاهلاً فلا فدية عليه) فعليه فدية مثل فدية حلق رأسه. وإن تعدد اللبس فعليه فدية واحدة، كأن يلبس العمامة والقميص والسراويل. أما إن لبس وتطيب وحلق وقلّم فعليه لكل فعل فدية. وإن تكرر فعل المحظور من جنس واحد قبل أن يكفر عن الأول فعليه فدية واحدة، أما إن كفّر عن الأول ثم فعل المحظور نفسه فعيه فدية ثانية وهكذا. -4- جزاء الصيد: يجب الجزاء في الصيد على المحرم وصيد الحلال في الحرم، لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} (3) . ويستوي فيها العمل والجهل.   (1) البقرة: 196. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 10/84. (3) المائدة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 أقسام الصيد: الصيد على ضربين: -1- صيد له مثله من النعم: آ- قضت به الصحبة فيجب فيه مثله من النعم، في الضبع كبش، وفي الأرنب عناق، وفي الضب جدي، وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبية شاة. ب- ما لم تقض به الصحابة فيرجع في تقديره إلى قول عدلين من أهل الخبرة، لقوله تعالى: {يحكم به ذو عدل منكم} (1) ، يجوز أن يكون أحدهما هو القاتل. ففي كبير الصيد كبير مثله، وفي صغيره صغير مثله، وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله. وإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأنها أفضل، أما العكس ففيه روايتان والمعتمد أن يجزى فداء أنثى بذكر أيضاً. وأن جنى على ما خض فأتلف جنينها ففيه ما نقصها كما لو جرحها. [ص: 488] -2- صيد ليس له مثله من النعم: يقوّم كالطير وشبهه من صغار الصيد ففيه قيمته، إلا الحمام فإن فيه شاة لأن عمر وعثمان وابن عمر رضوان الله عليهم قضوا في حمام الحرم بشاة. ماهية فدية الصيد: من وجب عليه جزاء الصيد فهو مخير بين إخراج المثل أو تقويم المثل ويشتري بقيمته طعاماً ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوماً، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً} (2) . أي أن الدم المتوجب عليه على التخيير والتعديل. [ص: 489]   (1) و (2) المائدة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الباب السادس (العمرة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 تعريف العمرة: لغة: الزيارة. شرعاً: زيارة البيت الحرام للنسك. حكمها: فرض عين على كل من فرض عليه الحج على الفور. دليل فرضيتها: قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ، وما روته عائشة ري الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) (2) . وهي فرض لمرة واحدة، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي. وجعلها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل. وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى. وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين. لا بل لأبدٍ أبد) (3) .   (1) البقرة: 196. (2) ابن ماجة: ج-2/ كتاب المناسك باب 8/2901. (3) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 19/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 حكم تكرار العمرة: لا بأس أن يعتمر المكلف في السنة مراراً، لأن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: عمرة من قرانها وعمرة بعد حجها، ولما روي عن [ص: 490] أبي هريرة رضي الله عنه قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور، ليس له جزاء إلا الجنة) (1) ، قال علي رضي الله عنه: (في كل شهر عمرة) (2) ، وكان أنس رضي الله عنه إذا حم رأسه خرج فاعتمر. وكذا عند بن عباس رضي الله عنهما والشافعي رضي الله عنه. أما الإِمام مالك فكره العمرة في السنة مرتين، كما رأى السلف أن الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما غير مستحب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عن الموالاة بينهما. قال طاووس: "الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أم يعذبن. قيل له فلم تعذبون؟ قال: لأنهم يدعن الطواف في البيت ويخرجون إلى أربعة أميال ويجيؤون وإلى أن يجيؤوا من أربعة أميال يكونوا قد طافوا مائة طواف"، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء.   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 79/437. (2) البيهقي: ج-4/ ص-344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 مواقيت العمرة: للعمرة ميقاتان: مكاني وزماني. آ- الميقات المكاني: -1ً- للآفاقي: هي نفس مواقيت الحج. -2ً- لمن منزله بين الميقات ومكة: فميقاته من منزله. -3ً- للمكي ومن في الحرم: يحرم من الحل، وأفضل بقاع الحل للإِحرام بالعمرة لمن هو في مكة، سواء من أهلها أو من غيرهم التنعيم ثم الجعرّانة، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ... فلما قضينا الحج أرسلني رسل الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت ... ) (1) وكانت بمكة يومئذ رضي الله عنها. ومن أي بقاع الحل أحرم جاز، لأن المقصود بالإِحرام منه الجمع بين الحل والحرم في النسك لأن أفعال العمرة كلها في الحرم إلا الإِحرام، فإن أحرم من الحرم لم يجز ولكنها تنعقد عمرة عليه دم. [ص: 491]   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 17/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ب- الميقات الزماني: لا ميقات للعمرة في الزمان، وإنما يجوز الإِحرام بها في جميع السنة ما لم يكن محرماً بحج، عن بي قتادة رضي الله عنه أن أنساً ري الله عنه أخبره، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر. كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته. عمرة من الحديبية، أو زمن الحديبية، في ذي القعدة. وعمرة من العام المقبل، في ذي القعدة. وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة. وعمرة مع حجته) (1) . أما إن كان محرماً بعمرة فتفسخ إحداهما تعتبر عمرة واحدة. ولا تكره العمرة في أيام التشريق، لا يم النحر، ولا يم عرفة، لعدم ورود نهي خاص بذلك.   (1) مسلم: ج-2/ الحج باب 35/217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 أركان العمرة: -1- الإِحرام. -2- الطواف. -3- السعي. -4- الحلق على إحدى الروايتين. واجبات العمرة: -1- الإِحرام من الميقات. -2- الحلق أو التقصير. سنن العمرة: -1- الغسل. -2- الدعاء. -3- الذكر. بالإِضافة إلى سنن الطواف والسعي والحلق. [ص: 492] فمن ترك ركناً لم تتم عمرته إلا به، ومن ترك واجباً فعليه دم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه. التحلل من العمرة: ليس للعمرة إلا تحلل واحد، يكن بعد انتهاء أفعالها كلها. فوات العمرة: لا تفوت العمرة لأنه ليس فيه وقوف بعرفة وليس لأفعالها وقت معين. إفساد العمرة: تفسد العمرة بالجماع قبل إتمامها، وفي هذه الحالة يجب عليه إتمامها قضاؤها على الفور. الإِحصار: يعتبر المحرم بالعمرة أُحصر إذا منعه العد من دخل مكة، وعندها ينحر يحلق بنية التحلل ليس عليه قضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الباب السابع (الهدي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 أقسام الهدي: -1- هدي التطوع. -2- هدي الواجب. أولاً: هدي التطوع: يستحب لمن أتى مكة أن يهدي، لما روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (أهدى النبي صلى الله عليه سلم مائة بدنة) (1) . ماهيته: يجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان صغيره غير الحيوان استدلالاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) (2) . أفضله: الإِبل ثم البقر ثم الغنم. ما يستحب في هدي التطوع: -1- استحسانه واستسمانه لقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (3) . [ص: 494]   (1) البخاري: ج-2/ كتاب الحج باب 121/1631. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الجمعة باب 2/10. (3) الحج: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 -2- إشعار الإِبل بأن يشق صفحة سنامها اليمنى حتى يسيل الدم، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسل الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسَلَت الدم قلَّدها نعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء، أهل بالحج) (1) . ولا يسن إشعار النم لضعفها. -3- تقليد الإِبل البقر والغنم، أي أن يقلدها نعلاً أو نحوها.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 32/205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 متى يصبح هدي التطوع واجباً؟ -1ً- إن عيّنه بن قال: هذا هدي لله، أما سوقه مع نيته فلا يوجبه. -2ً- إن قلده أأشعره. -3ً- إن نذره. ما يجوز فعله في هدي التطوع إذا انقلب واجباً: -1- يجوز ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به، لما روى أب هريرة رضي الله نه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسق بدنة. فقال: اركبها.. قال يا رسل الله إنها بدنة. فقال اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة) (1) ، في رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سئل عن ركب الهدي فقال: سمعت النبي صلى لله عليه وسلم يقول: (اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها. حتى تجد ظهراً) (2) . -2- له أن يشرب من لبنه ما فضل عن ولده، لقوله تعالى: (ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى) (3) . -3- يجوز جز صوفه إن كان في جزه صلاح له ويتصدق به ندباً، أما إن لم يكن في جزه صلاح له فلا يجوز. [ص: 495] -4- إن تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده، وبالتالي إن تعيب ذبحه وأجزأه لأنه لا يضمن جميعه فبعضه أولى. -5- إن عجز عن المشي أو عطب دون محله نحره في موضعه، وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه، فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء، وخلّى بينهم وبينه، لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته لأنه قد يتم في التفريط فيه ليأكله أو ليطعمه رفقته، بدليل ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ذؤيباً حدثه (أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عَطِب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها. ثم اغمس نعلها في دمها. ثم اضرب بها صفحتها. ولا تَطْعَمْها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) (4) . فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ضمنها لأنه فرط فيها، أي عليه أن يهدي مثلها، فإن كانت قيمتها وفق مثلها أو أقل لزمه مثلها، وإن كانت أكثر اشترى بالفضل هدياً آخر، فإن لم يسع اشترى به لحماً وتصدق به. وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها ويشتري بالقيمة مثلها. وإن اشترى هدياً فوجده معيباً فله الأرش أي أن يتصدق بالفرق للمساكين لأنه بدل من الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى. -6- إذا ذُبح الهدي من غير صاحبه بغير أذنه وقع الموقع ولا ضمان على الذابح لأنه حيوان تعينت إراقة دمه على الفرق حقاً لله تعالى فلم يضمنه. -7- إن أُحصر وجب عليه نحره حيث أحصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية. -8- يستحب الأكل منه إن لم يزل تطوعاً سواء عينه أو لم يعينه، لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} (5) ، وروي عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا لا نأكل من لحوم بُدننا فوق ثلاث منى فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ص: 496] فقال: كلوا وتزودوا) (6) . والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه. -9- ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه أو إطلاقه للفقراء. ثانياً هدي الواجب: أقسامه: -1- واجب: كهدي التمتع والقران، وكالهدي اللازم لتركه واجب من الواجبات.   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 65/371. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 65/375. (3) الحج: 33. (4) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 66/378. (5) الحج: 36. (6) مسلم: ج-3/ كتاب الأضاحي باب 5/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ماهية الهدي الواجب: -1ً- من وجب عليه دم فلا يجزئه إلا شاة مجزئة في الأضحية أو سُبع بدنة أو سبع بقرة، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة) (1) . -2ً- من وجب عليه بدنة كمن أفسد حجه أو قتل نعامة أو نذرَ فلا يجزئه إلا ذبح بدنة أو بقرة أو سَبع شياه وهو الأفضل، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر بها ولا أجدها فأشتريها. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن) (2) . -2- منذور: ماهيته: -1ً- إذا نذر هدياً مطلقاً فأقل فلا يجزئه إلا شاة مجزئة في الأضحية أو سبع بدنة أو سبع بقرة. -2ً- إن عين بنذره ما يهديه أجزأه ما عينه كبيراً أو صغيراً أو حيواناً أو غيره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (فكأنما قرب دجاجة ... فكأنما قرب بيضة) . [ص: 497]   (1) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 62/350. (2) مسند الإمام أحمد: ج-1/ ص-312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 مكان ذبحه: إن أطلق بالنسبة إلى المكان وجب إيصال الهدي إلى مساكين الحرم، لأن ذلك هو المعهود في الهدي. وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك المكان ما لم يكن فيه معصية، لما روى أبو داود عن ثابت بن الضحاك قال: (نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نذر أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ قالوا: لا. قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإن لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) (1) . ولا يجوز الأكل من الهدي الواجب ولو كان بنذر أو تعيين غير دم متعة وقران فيجوز أن يأكل منهما لأن سببهما ليس ارتكاب محظور فأشبه هدي التطوع. [ص: 498]   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الأيمان والنذور باب 27/3313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الأضحية حكمها: -1- سنة مؤكدة، وهي أفضل من التصدق بقيمتها للقادر على ثمنها ولو كان صبياً. -2- واجبة ن عينها، كأن قال هذه أضحيتي أو هذه لله. ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية. حكمها حكم الهدي لواجب المعين في ركوبها وولدها ولبنها وصوفها وتلفها وإتلافها ونقصانها وذبحها. ماهيتها: لا يجزئ في الأضحية إلا بهيمة الأنعام، لقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (1) سواء كانت إبلاً أو بقراً أو غنماً أو معزاً، وتجزئ البقرة عن سبعة أشخاص، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة. نشترك فيها) (2) ، وكذلك الإِبل تجزئ عن سبعة أشخاص أيضاً.   (1) الحج: 34. (2) مسلم: ج-2/ كتاب الحج باب 62/355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 شروطها: -1- يشترط إن كانت من الغنم أن تكون جذعة (ستة أشهر فأكثر) ، وإن كانت من المعز أن يكون عمرها سنة، ومن البقر أن يكون عمرها سنتين، ومن الإِبل أن يكون عمرها خمس سنين، -2- أن تكون سليمة من العيب المنقص للحمها، لما روى البراء رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أربعة لا تجوز في الأضاحي: العوراء [ص: 499] بينٌ عورها (1) ، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ظلعها، الكسير (2) التي لا تُنقى) (3) . فلا تجزئ العوراء، ولا المريضة، ولا العرجاء، ولا الجعفاء، ولا العضباء (4) ، لما روى علي رضي الله عنه قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُضَحَّى بعضباء الأذن والقرن) (5) . وتجزئ الجمّاء (6) ، والصمعاء (7) ، والبتراء (8) ، والشرقاء (9) ، والخرقاء (10) ، كما يجزئ الخصي. -3- أن يتصدق بأقل ما يقع عليه اسم اللحم (قدر أوقية) ، فإن أكلها كلها ضمن ذلك القدر، لقول الله تعالى: {وأطعموا القانع والمعتر} (11) والأمر يقتضي الوجوب. -4- لا يجوز بيع شيء منها ولا إعطاء الجزار منها شيئاً على سبيل الأجرة، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنة. وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأَجِلَّتِها. وأن لا أعطي الجزار منها. قال: نحن نعطيه من عندنا) (12) . لكن لا يجوز أن ينتفع بجلدها، ويصنع منها النعال والخفاف والفراء والأسقية، [ص: 500] وأن يدخر منها، لما روى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ... ) (13) ، ولأن الجلد جزء من الأضحية في الانتفاع به كاللحم.   (1) أي انخسفت عينها وذهبت. (2) الكسير: الهزيل التي لا مخ فيها. (3) أبو داود: ج-3/ كتاب الضحايا باب 6/2802. (4) الغضباء: ما ذهب أكثر أذنها أو قرنها. (5) أبو داود: ج-3/ كتاب الضحايا باب 6/2806. (6) الجمّاء: التي لم يخلق لها قرن. (7) الصمعاء: صغيرة الأذن. (8) البتراء: لا ذنب لها. (9) الشرقاء: التي شُقت أذنها. (10) الخرقاء: التي خرقت أذنها. (11) الحج: 36. (12) مسلم: ج-2 /كتاب الحج باب 61/348. (13) مسلم: ج-2 /كتاب الأضاحي باب 5/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 سننها: -1- استحسانها واستمسانها. -2- أن تكون بيضاء لأنها صفة أضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان أحسن لوناً. -3- أن ينحرها بيده. ويجوز أن يستنيب فيها ولو كتابياً مع الكراهة ولكن يستحب أن يذبحها مسلم. -4- يستحب لمن استناب أن يحضرها، لما روى عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة: قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته) (1) . ويقول عند الذبح: "بسم الله" وجوباً، و"الله أكبر" استحباباً. أو يقول: "اللهم هذا منك ولك. اللهم تقبل مني أو من فلان". -5- يسن استشرف العين والأذن. -6- يستحب أن يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث، ولو كانت منذورة لأن النذر محمول على المعهود قبله، والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها.   (1) البيهقي: ج-5 /ص-239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وقت ذبحها: أول وقتها: بعد صلاة العيد بالبلد، فإن تعددت فيه فبأسبق صلاة، وإن كان المكلف بمكان لا تصلى فيه صلاة العيد فوقت ذبحها بعد أن يمر من الوقت ما [ص: 501] يسع الصلاة وخطبة العيد. فمن ذبح قبل ذلك لم تجزئه وعليه عادتها إن كانت واجبة، لما روى البراء رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: (من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة، فإنه قبل الصلاة ولا نسك له) (1) . آخر وقتها: غروب شمس اليوم الثالث من أيام النحر. فإن فات وقت الذبح ولم يذبح الأضحية الواجبة ذبحها قضاءً بعده، لأنه قد وجب ذبحها فلم يسقط بفوات وقتها. أما إن كانت سنة فقد فات وقتها. [ص: 502]   (1) البخاري: ج-1 /كتاب العيدين باب 5/912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 العقيقة تعريفها: هي الذبيحة عن المولود. حكمها: سنة مؤكدة في حق الأدب ولو كان معسراً والولد غنياً أو فقيراً، لحديث سمرة بن جندب ري الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته: تذبح عنه يوم سابعه ويحلق، ويسمى) (1) . ماهيتها: أن تكون من بهيمة الأنعام، وسالمة من العيوب المشترط سلامة الأضحية منها. ويُسن أن تكون عن الغلام شاتين متكافئتين، وعن الجارية شاة، لحديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة) (2) . ولا يجزئ فيها بدنة ولا بقرة إلا أن تكون كاملة.   (1) أبو داود: ج-3/ كتاب الأضاحي باب 21/2838. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 سبيلها: الأكل والهدية والصدقة. ما يستحب فيها: -1ً- يسن أن تذبح يوم السابع من الولادة (وإن ذبحها قبل ذلك أجزأته) وإلا فيوم الرابع عشر وإلا ففي يوم حاد وعشرين، فإن أخرها عنه ذبحها بعده لأنه قد تحقق سببها. قال أبو عيسى في سننه في باب (مِنَ العقيقة) : "والعمل عند أهل العلم أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عُقَّ عنه يوم حادٍ وعشرين، وقالوا لا يجزئ في العقيقة من الشاة إلا ما يجزئ في الأضحية" (1) -2ً- يستحب أن لا يُكسر لها عظم تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود. -3ً- يستحب أن يأكل منها ويطعم ويتصدق. [ص: 503] ويكره لطخ رأس الصبي بد الأضحية لأنه تنجيس له وهو من عمل الجاهلية.   (1) الترمذي: ج-4/ كتاب الأضاحي باب 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ما يستحب للمولود: -1- يسن الأذان في أذن المولود اليمنى حين يولد، والإِقامة في أذنه اليسرى. -2- تحنيك المولود بتمرة وذلك بأن تمضغ ويدلك بها داخل فمه. -3- حلق رأس الصبي يوم السابع من ولادته، والتصدق بوزن شعره فضة. -4- تسمية المولود في اليوم السابع، ويجوز أن يسميه قبل ذلك، لما روى أنس رضي الله عنه أنا أبا طلحة لما ولد له غلام قال له: (احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم. فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثت معه بتمرات. فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها. ثم أخذها من فيه فجعله في في الصبي. ثم حنَّكه، وسماه عبد الله) (1) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُلِدَ لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم) (2) . -5- يستحب تحسين اسم المولود، لما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم) (3) . وعن ابن مر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن) (4) . والتسمية تكون للأب لا لغيره إن وجد.   (1) مسلم: ج-3/ كتاب الآداب باب 5/23. (2) أبو داود: ج-3/ كتاب الجنائز باب 28/3126. (3) مسند الإمام أحمد: ج-5/ ص-114. (4) ابن ماجة: ج-2 /كتاب الآداب باب 30/3828. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 انتهى الكتاب، ولله الفضل والحمد والمنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503